

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة الثالثة عشرة
في دفع الاعتراضات على قدس القرآن الكريم ،
وفيها فصول
الفصل الاول
في الاعتراضات عليه من حيث العربية
وقد وسوس بها
الضلال لأهواء شرذمة غرها الجهل ، وأغرتها العصبية فشطت عن القصد ، وعكفت على
الشطط ، فكشفت عن مغطئها وفضحها نضحها ، ليعتبر المتبصر ، ويبصر المتدبر ، كيف مني
الحق ، وابتليت الحقائق واستفحل الجهل ، وقل الحياء وجمح الغرور ، فكم من بادرة
يجب التستر بها حتى في المستراح ، قد سامها الجهل في سوق الأدب سوق العلق الثمين ،
فسود بها وجوه الصحف ، وشوه بها صورة العلم.
فهل كان يلوح
للخيال ويتراءى للوهم ، ان واحدا من الناس تستفزه العصبية ، ويمنيه الضلال ،
ويغريه الجهل بأن يتعرض بطبيعته الجعلية ، وقريحته الهمجية إلى الاعتراض على
القرآن الكريم بالعربية ، وقد علم الشرقي والغربي ، والعربي والعجمي ، والفاهم
والغبي بأنه لؤلؤ بحرها ، وقلادة نحرها وعقدها الفريد ، وبكرها الوحيد ، قد اقعت
لباهره البلغاء ، وسجدت لهيبته الفصحاء ، وخضعت لسلطانه الخطباء ، ففقأ عين الحاسد
، وارغم أنف الشانئ ، ولم يبق للعرب معلقة إلا حطها ، ولا شاردة إلا عقرها ، حيث
استقل من العربية بصدر النادي ، ومحتبى الدست ، ومرف اللواء ، وذروة المنبر ، وصار
موردها المستعذب ومنهلها المورود ، وروضها المرتاد وامامها المقدم ، وقاضيها
المحكم ، فراج به سوقها ، وأزهر به روضها ، وأشرق به وجهها ، الى ان أسفر صبح
الاسلام على الامم ، واتحدت في هداه العرب
والعجم ، وتداخلت
اللغات ، وأهجنت الألسن ، فارفض نظام العربية ، واشكلت مناهجها ، والتبست مقاصدها
، وكتمت أسرارها ، وتعاصى عرفانها وانفت دررها من سوم الفحام ، ونفرت أوانسها من
غرائب الطبائع ، وعزفت من هجائن القرائح ، وإذ علم المسلمون وغيرهم بالعلم اليقين
ان القرآن الكريم الذي هو أساس الدين ، ومنار الهدى ، ومناط الحجة ، وانموذج
الاعجاز ، قد استولى من العربية على أفلاذ كبدها ، وفرائد لئالئها ، ومفاتح كنوزها
، فلا يوصل إليه إلا من سبيلها ، ولا تقرع بابه إلا بيدها ، فلأجل ذلك نهض للتدرب
فيها ، وللالتقاط من سقط مائدتها ، والمص من وشلها فئة من الأجانب عنها ،
والمتطفلين في معرفتها ، فلم يدركوا من كلام العرب شيئا إلا بطفيف النقل ، ولم
يقرعوا منه أبواب أسرارها إلا بالتظني ، فأسسوا من بسيطها قواعد يتوكئون عليها في
ترعرعهم فيها ، وقد فاتهم منها يتائم درر لم تنتظمها قواعدهم ، ووقف دونها جدهم ،
فلا يحظى ببعضها إلا الغائص المتعمق ، والقانص المترصد ، إذا أسعد جدهما حسن
الفطنة ، وصفاء القريحة وتوقد الذكاء ، ومجانبة التقليد.
ثم ان الناس إذ
ذاك على اختلافهم في البضاعة والاضاعة توجهوا بقواعدهم المذكورة إلى اكتشاف أسرار
القرآن الكريم ، وفهم نكاته في مقاصده التي جرى فيها على النحو الأرفع من مراقي
البلاغة وفذلكات العربية فاختلف في ذلك وردهم وصدرهم ، وقاموا وقعدوا ، وترددوا
بين صواب وخطأ ، وسداد ووهن ، ووجدوا في القرآن الكريم موارد قد ذيدت عنها قواعدهم
، أو قصرت عنها منقولاتهم ، او عشت عنها افهامهم ، فتفاوضوا فيها تفاوض الحيران ،
ولا جرم فما كل زاد مبلغ ، ولا كل ظهر موصل ولا كل عدة تجدى ، ولا كل من سار وصل ،
ولا كل من استنجع ورد ، ولا كل من طلب أدرك ، ولا كل من سمع وعى.
والمتعرب قد نكصت
به العصبية في قهقرة جعل وصار يطالب جلالة القرآن الكريم بالقواعد التي لأجل فهمه لفقها المولدون بعد اللتيا واللتي
من وشل كلام العرب البسيط ، ونزر شعرهم الساذج ، وبعد تعثر الافهام
واضطراب الأوهام ،
وشذوذ الأفكار ، وتلجج القرائح ، وطويل معترك في الخطأ والتخطئة ، وتردد مقالات في
التقريض والتغليط فقال «ذ ص ٧٢» ثم ان للفصاحة في العربية قواعد وأصولا وضعوها هم
أنفسهم وعدوا في جملتها سلامة الكلام من ضعف التأليف ، ومن الغرابة والتنافر
ومخالفة القياس ، وسترى ان في القرآن ما يخالف قواعدهم ، ونحن لا نذكر لك منه إلا
ما كانت المخالفة فيه بينة لا تحتمل التأول على علم منا ان المفسرين قد تمحلوا لكل
من غلطاته تأولا : وعزب عنهم ان مجرد احتياجه الى ذلك هو حجة عليه ، ولو سلمنا بما
حاولوه من الحذف والتقدير لستر غلطه تارة وكشف معناه اخرى لم يبق ، ثم من داع لوضع
ما وضعوه من القواعد ولأصبح كل لحن وتأويله بل عده من انواع البديع ممكنا على طريقتهم ، هذا كلامه.
ولا تستعجل
التسجيل على مفردات شططه ، ومكورات لغطه ، فإن مباحثنا الآتية إن شاء الله لزعيمة
بذلك توقفك على هفواته ، وتأخذ بيدك في مداحض زلله ، فلنقصر التعرض هاهنا على
تمويهه بمولدات القواعد السطحية ومستطرفات الاصول التابعة ، وقاصر القياس المجعول ،
واعتراضه بالحذف والتقدير ، وانا نسألك يا من يعاف المباهتة ، ويأنف من لغط
الهذبان ، هل مهد هذه القواعد قحطان؟ أم هل عنونها عدنان؟ أو شعراء البادية أو
خطباء الحاضرة؟ وهل تفاوضوا فيها في سوق عكاظ ، أو توامروا عليها في دار الندوة؟ او
عقدوا عليها حلف الفضول؟ وهل انعقدت عليها للعرب المجامع؟ أم اوجبت الآباء ان يجري
القرآن على البساطة السطحية؟ او حجرت عليه ان يتجاوز في فذلكاته ، وبديع الإشارة
في مقاصده عن مبلغ نظر الأخفش ونضيج قريحة المبرد؟.
أفلا يعلم كل من
له ادنى إلمام بتاريخ هذه القواعد والأصول ، وسبب وضعها ومأخذ قياسها انها حادثة
التشكيل ، متعبدة باللغة العربية ، تابعة لها منقادة لنفوذ مأثورها ، خاضعة لسلطان
القرآن الكريم الذي تسالمت العرب العرباء على تقدمه وإمامته في لغتهم حتى خضعوا
وهم العتاة لاعجازه ، واعترفوا
__________________
وهم الخصوم اللد
بعلو مقامه.
وانا لنسألك بذمة
الحقائق وحرمة الصواب ان تحضر المتعرب بين شهود يحتشمهم في شططه. ويتستر عنهم من
تزويره ، ولا يطمع بمخادعتهم وسله متى جاء القرآن الكريم؟ ومن الذي جاء به؟ وما
يكون من العرب؟ وما حال القرآن مع العرب؟ وما حالهم معه؟ ومتى وضعت فنون العربية
ولفقت اصولها ، وخمنت أقيستها ، ومن الذي وضعها؟ وكيف وضعها وعمن أخذها؟ ولما ذا
وضعها؟ وهل كان أبا العرب؟ او واضع لغتهم او قدوتهم فيها ، أو المسيطر على غرائزهم
وقرائحهم فيها.
وسله أيضا من هم
الذين يقول فيهم «هم ، وهم انفسهم» أو ليسوا هم الذين يتكافحون في فهم العربية
بالتخطئة والتغليط ، ويقومون في تفهمهما ويقعون تستهويهم الغفلة ويخذلهم الفهم ولا غرو فإن الغفلة عن عوائد الإنسان ، والعلم كله في
العالم كله ، وكم وكم اكدى السعي ، وضلت الأفهام وزلت الأقدام ، ولا سيما إذا تزبب
الحصرم ، وتمشيخ الصبي ، ولا سيما إذا احكم الجهل والغفلة والتقليد في الذهن مقدمة
تحول بين الفكر وبين الحقيقة وتسد عنه باب الصواب.
__________________
فلك العبرة بجماعة
من النصارى يعدون أنفسهم ويعدهم اصحابهم من أهل العلم والوصول ، فانهم قد وقعوا في
مخالفة اعتقادهم وجماعتهم وجامعتهم من حيث لا يشعرون ، وارتبكوا في الشطط على
كتابهم وذهبت بهم الوساوس أنى شاءت ، ولنقتصر من شواهد ذلك على موارد :
«الأول
والثاني» قال البستاني في
الجزء الخامس من دائرة المعارف «ص ٥٣٦» وبعض مفسري الكتاب المقدس المدققين ذهب الى
ان قصة «بلعام» المدرجة في سفر العدد «ص ٢٢ ـ ٢٤» دخيلة.
وذهب آخرون إلى ان
كلام الأتان عبارة عن رؤيا ظن بلعام انه رأى فيها ملاكا وتوهم انه سمع الأتان ،
فأنكر بعضهم الملاك وكلام الأتانة وجعل ذلك من الظن والوهم ، وخالف صراحة العهدين
أقبح مخالفة وذلك لمقدمات فاسدة استحوذت على أفكارهم ، إذ سولت لهم امتناع كلام
الأتانة وعاقليتها لمثل هذه الامور وإن اقتضت القدرة الالهية ذلك ، وما هذا إلا من
عدوى مجاورة الملحدين.
ولكن هذا الانكار
تفضحه صراحة التوراة بوقوف ملاك الرب في الطريق ليقاوم بلعام ، ورؤية الأتان له ،
ثم وقوفه في الخندق ، ثم اجتيازه ووقوفه في مكان ضيق ، ورؤية الأتان له ، في هذه
الحالات قبل ان يراه بلعام وان الله فتح فم الأتانة وترادت الكلام مع بلعام مرتين.
وكشف الله عن عيني
بلعام فأبصر الملاك واقفا وسيفه مسلول ، وتراجع في الكلام مع بلعام مرتين ، ووقفا
على قرار ، وموعد تعليم «انظر عد ٢٢ : ٢٢ ـ ٣٦».
ولأجل ذلك اقدم
بعض المفسرين المدققين على ان ينكروا كون قصة بلعام من التوراة فحكموا بأن ثلاث
فصول من سفر العدد هي مدسوسة ودخيلة في التوراة ، كل ذلك سترا على اعتقادهم الفاسد
ومكافحة صراحة التوراة له ، ولا ينفعهم ذلك حتى ينكروا صراحة العهد الجديد بتكلم
الأتانة ونطقها بصوت إنسان «٢ بط ٢ : ١٦» وإشارته إلى قصة بلعام المذكورة في
التوراة «٢ بط ٢ : ١٥ ويه ١١».
وهل تراهم بعد هذا
أبقوا حيثية لسند العهدين ، والبستاني مع ذلك يصفهم بالمفسرين المدققين.
«الثالث»
نقل إظهار الحق في
حقيقة الاعتقاد بالأرواح النجسة «مردة الجن» شيئا من كلام «بيلي» وهو من علماء البروتستنت
، وحاصله ان تسلط الأرواح النجسة وحديثها في العهد الجديد ، وإيراد كثير منه في
معجزات المسيح إنما كان رأيا غلطا ، ولكنه لكونه رأيا عاما في ذلك الزمان وقع فيه
مؤلفوا الأناجيل ، وإصلاح رأي الناس في ذلك ليس جزءا من الرسالة ، والمتكلف وإن
خالف إظهار الحق في ترجمة كلام «بيلي» إلا انه اوضح فيه «يه ٣ ج ص ١١٧» ان بيلي
شاك في هذه الحقيقة ، وان الفصل فيها فوق طاقته وان جماعة من النصارى ينكرونها ،
ولهم على انكارها أدلة ، وانك إذا نظرت إلى حديث الأرواح النجسة في الأناجيل تجده
يقارب ما ذكرته من تعاليم المسيح أو يزيد.
ومع ذلك جاء قوم
من متبعي الإنجيل فجعلوه غلطا لا أصل له ، وما ذاك إلا لوسوسة عرضت لهم ، وما
منشؤها ومبدؤها إلا العدوى بداء الطبيعة والإلحاد والتعصب على القرآن الكريم
بإنكار الجن ، فجرهم هذا الضلال إلى ان يقولوا ما يرجع حاصله الى أن مؤلفي
الأناجيل قد لفقوا للمسيح أكاذيب معجزات مأخوذة من أغاليط الآراء العامة ليداهنوا
بذلك أصحاب تلك الآراء فيروجوا بين العامة أمر التثليث الذي يعترفون بأنه وراء
عقولهم ، ويشدد الأساقفة في المنع عن التفكر في تعقله ، ويوجبون على الناس أن
يطووه على غرة ، ويقبلوه على البساطة ، والحاصل ان هؤلاء المنكرين من النصارى
لحقيقة الأرواح النجسة ، والشاكين فيها لم يعدوا أن جعلوا اناجيلهم أخس من كتاب «كليلة
ودمنة».
«الرابع»
: حكى اظهار الحق ان
«لوطر» امام فرقة البروتستنت يقول في حق رسالة يعقوب : انها كلا ، يعني لا اعتداد
بها. ونقلا عن واردكا تلك ان «بومرن» من علماء البروتستنت وتلميذ لوطر يقول : ان
يعقوب يتم رسالته في الواهيات.
وان «وائي تس»
الواعظ في نرم برك قال : انا تركنا قصدا مشاهدات
يوحنا ورسالة
يعقوب ، ثم ندد برسالة يعقوب.
وان «مكدي برجن
سنتيورس» قال : ان رسالة يعقوب تنفرد عن مسائل الحواريين في موضع يقول : ان النجاة
ليست موقوفة على الإيمان فقط ، بل هي موقوفة على الأعمال أيضا ، وفي موضع يقول :
ان التوراة قانون الحرية ، انتهى كلامهم.
والمنشأ لأقوالهم
هذه هو ما علق بأوهامهم ، وأحكمته فيها أهواؤهم من التعليم المنسوب لبولس بكفاية
الإيمان في النجاة ، كما جاهرت وأكدت به رسالة العبرانيين ، فنقموا على رسالة
يعقوب اعتبارها الأعمال في النجاة أيضا ، وحق لأهوائهم ذلك ، فإن الأعمال الصالحة
قيود باهظة للهوى المردى والنفس الأمارة ، وهب انها لازمة لحقيقة الإيمان ومظهر
صدقه ومفتاح بابه ورابطة دوامه ، وثمرات غرسه ، ولكن الهوى المطاع لما اضطرته
العادة الى اسم الإيمان يقول : آمن بالثالوث فقط ، وما عليك من هرج الأعمال
الصالحة ومرجها.
ولما استشعروا من
الكلمات المنسوبة لبولس ان معنى الحرية هو الإباق عن الشريعة والتمرد على أحكامها
بزعم الفداء بذبيحة الفادي الكريم وتعليقه على الخشبة أنكر الأخير في الذكر على
رسالة يعقوب قولها : ان التوراة قانون الحرية ، ولم يتدبر صوابها في ذلك ، لأن
حقيقة الحرية هو التخلص من عبودية الهوى والشيطان ، وإنما يكون ذلك بالتمسك بأدب
الشريعة والتقدس باتباع نواميسها الإلهية.
«الخامس»
قد ذكرنا في مبحث
الختان من النسخ عن رسالة الكندي زعمه ان شريعة الختان لابراهيم والمؤمنين أنما
كان سببها علم الله بتغربهم إلى مصر وميلهم الى الزنى فوسمهم بهذه العلامة المشوهة
لتنفر منهم الزواني المصريات فيكون ذلك عصمة لهم من الزنى.
وليس المنشأ في
هذا الشطط إلا أن هذا الرجل اشرب في قلبه وهواه رفع النصارى لشريعة الختان مصانعة
لأهواء الامم الذين لا يختتنون ، ولم يبال بأن كلامه هذا يرجع الى تغليط موسى.
ويوشع. والأنبياء الإسرائيليين ، والمسيح في ابقائهم لشريعته ، بل وكذا رسل العهد
الجديد ، الى زمان الاجتماع
للمشورة في أمره ،
ورفعه مصانعة الامم ، وقد مر هذا كله فراجعه.
«السادس»
زعم سايل «ق ص ٢٢٦»
وكذا الكندي ان الله تساهل مع اليهود فأعطاهم وصايا غير صالحة وأحكاما لا يحيون
بها.
وما المنشأ لهذا
الشطط إلا موافقة اطلاق النصرانية الرائجة وراحتها لأهوائهما فسول لهما ذلك عيب
الشريعة والخضوع لنواميسها ، فاجترءا على الذم لشريعة موسى عليهالسلام اقتفاء للكلمات المنسوبة الى بولس ، وتوهما من كلام في
حزقيال «٢٠ : ٢٥».
مع ان ظاهر سوقه
ينادي بأن المراد منه ان اليهود لما تمردوا على شريعة الحق وتمادت ارتداداتهم عنها
ابتلاهم الله بالذل بين الامم فخضعوا لشرائعهم الباطلة ، ومما يوضح غلطهما في هذا
الكلام هو أن العهد القديم وخصوص كتاب حزقيال قد كثر فيه بيان منة الله على الامة
اليهودية إذ أعطاهم شريعة حق عادلة وفرائض صالحة وأحكاما ان عمل بها الإنسان يحيا
بها ، وقد ذكرنا ذلك في المثال الرابع والاربعين من النسخ.
«السابع»
زعم سايل» «ق ص
٢٥٧» وليس وحده في قصاص الجراح والأطراف المذكورة في التوراة ، ان المقصود منه
قودما أو عقاب يفي بالجناية لا مقابلة المثل بالمثل فعلا ، وان اسلوب قول التوراة
في ذلك قد جرى مجرى الأمثال ، ولا يعني به سوى ان القاضي يقتص من الجاني بحسب
أهمية الجناية انتهى.
وما المنشأ في
توهمه هذا وتقوله على التوراة بما تكافحه صراحتها ، إلا انهم رأوا ان الإنجيل
الرائج قد ألغى أحكام السياسة والقصاص المذكورة في التوراة ، وجعلها من مقاومة
الشر «مت ٥ : ٣٨ ـ ٤١» ثم رأوا ان إهمال السياسة الى هذا الحد مما يقصم ظهر النظام
ويشوه وجه المدنية والعمران فجعلوا من انفسهم في هذا المقام شريعة المصادرات
والتعزيرات بحسب ما تتقلب فيه آراؤهم وكأنهم تخيلوا أو خيلوا ان ذلك لا يمس
التوراة والإنجيل بمخالفة في العمل ومراغمة لصراحتهما بالتأويل.
فأين «سايل»
وأشباهه عن صراحة التوراة في قولها ، وان حصلت أذية تعطي نفسا بنفس وعينا بعين
وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض «خر ٢١ : ٢٣ ـ ٢٦».
وإذا احدث إنسان
في قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به كسر بكسر وعين بعين وسن بسن ، كما أحدث عيبا
في الإنسان كذلك يحدث فيه «لا ٢٤ : ١٩ و ٢٠» لا تشفق عينك نفس بنفس عين بعين ، سن
بسن ، يد بيد ، رجل برجل.
وهلم الخطب في
المتعرب فمع انه لا يستطيع ان يجر ذيل تمويهه الواهي على مثل هذه التأويلات
المرغمة للصراحة ، والتي تكشف بمخائلها وشمائلها عن عدوى داء الالحاد ، ونفوذ
القول بالطبيعة العمياء ، ومع انه قد شوه وجه بصيرته جذام هذا الداء صار يندد
ويتهكم على مفسري المسلمين في وصولهم الى مقاصد القرآن الكريم في بارع اسلوبه
الجاري على محاسن اللغة العربية وبدائع فذلكاتها في البلاغة من حيث الحذف لما تهدي
إليه نورانية المقام ، وتحكم بحذفه براعة الكلام ، وسيحلو لذوقك إذ يجلو لك البيان
إن شاء الله عنه صدأ الشبهات والمغالطات.
عدم الفهم لما يلزم تفهمه
ولك العبرة أيضا
في عدم التدبر للمسموع والتساهل في التثبت في فهمه كما ينبغي ، ولندرج لك من ذلك
ما وقع فيه خواص النصارى ونذكره في موردين «الأول» ذكر انجيلهم والتاريخ انه قد شاع بين التلاميذ ونصارى عصرهم
ان يوحنا ابن زبدى الانجيلي لا يموت ، وذلك لعدم تثبتهم في فهم ما حكي لهم عن
المسيح «انظر يو ٢١ : ٢٠ ـ ٢٤».
ولعل المنشأ في
ذلك هو ان الضلال قد أشاع في تلك الأيام ما قرف به انجيل يوحنا «١٣ : ٢٣ ـ ٢٦» قدس
المسيح بأنه كان يحب يوحنا بحيث يجلسه في حضنه ويبوح له بأسراره ويتوسل التلاميذ
إليه به ، وإذا خاطب المسيح يتكئ على صدره ، فتوهموا بهذه الوسوسة ان المسيح منحه
الحياة الدائمة كما كان
مشغوفا به.
«الثاني»
ذكر الإنجيل كثيرا
ان التلاميذ لم يفهموا كلام المسيح معهم وذهبت بهم الأوهام مذاهبها ، مع انهم
اتباعه الملازمون له ، ومقتضى القاعدة ان يكونوا يعرفون محاوراته وكناياته
واشاراته وقرائن أحواله ومقارنات مشافهاته ، وإن لم يفهموها فمن عسى ان يفهمها من
اهل عصرهم وغيرهم «انظر مت ١٦ : ٥ ـ ١٠ ومر ٨ : ١٣ ـ ١٩ ويو ٢ : ١٨ ـ ٢٣ و ٢٢٤ ـ ٢٤
و ١١ : ١١ ـ ١٤ و ١٢ : ١٦ و ١٦ : ١٧ و ١٨».
ولك العبرة أيضا
باشتباه كثير من لغويي المسلمين ومفسريهم في امور لغوية التبست عليهم موارد
استعمالها ، أو اختلجت فيها الخيالات ، ولنذكر لك من ذلك ثلاثة موارد :
«الأول»
خلط جماعة منهم في
معني «اللمس ، والمس» ففي القاموس فسر المس باللمس ، ثم فسر اللمس بالمس باليد.
وفي المصباح مسسته
افضيت إليه بيدي من دون حائل هكذا قيدوه وقال لمسه افضى إليه بيده هكذا فسروه.
وفيه أيضا عن
المهذب عن ابن الأعرابي المس مسك الشيء بيدك وقد قال : اللمس يكون مس الشيء.
وعن ابن دريد
اللمس باليد ، وقال : لمست مسست وكل ماس لامس ثم استغرب في المصباح على هذا تفرقة
الفقهاء بين المس واللمس في المغني ومال الى قول الفقهاء لكونهم أدق نظرا وأوصل
فهما.
ولا يخفى وضوح
الفرق بين معنيي المس واللمس قديما وحديثا بحكم التبادر وشهادة موارد الاستعمال ،
ولا أظنه يخفى على العارف فإن المس هو مطلق الإصابة بالبدن ، واللمس هو مطلق
الاصابة بما به الاحساس من البدن بقصد احساس الملموس ، نعم قد يكون الغالب في
موارد استعماله هو اللمس باليد لكونها أقوى الجوارح احساسا في الغالب ، وهذا كله
مما تحكم به بديهة المحاورات على نحو يقطع معه بعدم النقل.
«الثاني»
اشتباه بعض
المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة النجم : (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وان جماعة من محققي المفسرين كصاحب الكشاف وأمثاله فسروا
القاب فيه بالقدر ، وقالوا : ان المعنى قدر قوسين واتفق اللغويون على تفسير القاب
بالقدر كالقيب والقاد والقيد ، واقل ابن ربيعة المخزومي في شأن ناقته.
قصرت لها من
جانب الحوض منشأ
|
|
جديدا كقاب
الشبر او هي أصغر
|
وقال آخر :
ولكن تنحى جنبة
بعد ما دنا
|
|
فكان كقاب القوس
او هو أنفس
|
نعم : زاد بعض
اللغويين في معنى القاب ، وذكر انه يقال لما بين مقبض القوس وسيته فلكل قوس على
هذا المعنى قابان فأوقع ذلك جماعة من المفسرين بالاشتباه فحملوا عليه قوله تعالى
قاب قوسين ، والتجئوا في تكلفهم هذا إلى دعوى القلب وقالوا : ان المراد قابى قوس
فأقلقوا اللفظ وتقلبوا في المعنى ، وشذوا عن النهج من دون حاجة تلجئهم ولا دليل
يساعدهم ، ولو نحروا رشدا لتركوا اللفظ على رسله ، والمعنى على مرماه ، ولو ان لهم
قلوبا لما استهواهم الاشتباه إلى دعوى القلب ، مع ان المعنى المستقيم قد ذكره
اللغويون في غرة ذكرهم لمعنى القاب.
ولكن المتعرب
اغتنم اشتباه هذه الشرذمة فرصة في الاعتراض على القرآن الكريم وأوهم في كلامه انه
قول المفسرين بل المسلمين جميعا كما اوهم في كلامه انه لا معنى للقاب إلا ما يلزم
منه أن يكون للقوس قابان ، وقال في الآية الكريمة : الوجه قابى قوس ، «انظر ذ ٧٣»
، شاهت الوجوه التي ما بلها الحيا.
«الثالث»
اشتباه جماعة من
المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة الكهف ٧٨ (وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) ، فقالوا : ان وراء فيها بمعنى «امام ، وقدام» واستشهدوا
لذلك بقوله تعالى في سورة المؤمنون ١٠٢ (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وقوله تعالى في سورة البروج ٢٠ : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ). والمتعرب اغتنم هذا الاشتباه فرصة الاعتراض على القرآن ،
فأعاب استعمال لفظة وراء بمعنى امام وقدام ، وأنكر كون ذلك من
معانيها «ذ ص ٧٣»
، فأقول : وقد جاء على مثل هذا الاستعمال قول لبيد بن ربيعة :
أليس ورائي ان
تراخت منيتي
|
|
لزوم العصا تحني
عليها الأصابع
|
وقول عبيد :
أليس ورائي ان
تراخت منيتي
|
|
أدب مع الولدان
أزحف كالنسر
|
وقول المرقش :
ليس على طول الحياة
ندم
|
|
ومن وراء المرء
ما لا يعلم
|
وهذه الأبيات
وأمثالها لو طويناها على غرها لكانت على كل حال شاهدة بكثرة استعمال العرب للفظة «وراء»
في المعنى الذي نحاه القرآن الكريم ، فإن وجه الاستعمال فيها وفي القرآن الكريم
واحد ، لأن ما جعل الوراء ظرفا له في الشعر لم يقع في الزمان الماضي ليكون وراء
بالمعنى المعروف ، وإنما هو مترقب في المستقبل فهو امام وقدام.
والتحقيق الذي
توحي به كل فطرة سليمة ، ويشاهده كل فهم مستقيم هو ان «وراء» في الآيات والشعر
مستعملة في معناها المعروف كناية ، عن كون مظروفها طالبا مستوليا كاستيلاء الطالب
، وقدرته على أخذ المطلوب إذا كان من وراثه ، قال تأبط شرا :
ووراء الثار مني
ابن اخت
|
|
مصع عقدته لا
تحل
|
ولا يسلم للآيات
الكريمة والشعر المتقدم هذا البيان البارع لهذا الغرض العالي أو عبر بلفظة «امام»
ولتنازل الكلام الى البساطة.
وقد جاء كثير من
كلام العرب ما قد اخذ بمجامع البلاغة والبراعة ، وأوحى اسلوبه الخاص وصورته البهية
بأسرار بديعة ومقاصد عالية ونكات شريفة لا يحيط بها الكلام البسيط إلا بتطويل ممل
، ولكن أصحاب صناعة النحو اضطروا في تطبيقه على صناعتهم التابعة للسان العرب لا
المتبوعة ، والتجئوا اعتلالا الى التقدير ، وتوصلا الى الالمام بفهمه باسم التوسع
مع انا نجد انه لو أظهرنا ما يقدرونه فيه لفات الغرض وانحل نظام الكلام.
فقد قال امرؤ
القيس :
وقال النابغة
الجعدي :
كأن عذيرهم بجنوب سلى
|
|
نعام قاف في بلد
قفار
|
وقال الحطيئة :
وشر المنايا ميت
وسط اهله
|
|
كهلك الفتى قد
أسلم الحي حاضره
|
وقالت الخنساء :
ترتع ما رتعت
حتى إذا ادكرت
|
|
فإنما هي اقبال
وإدبار
|
وقال متمم بن
نويرة :
لعمري وما دهري
بتأبين هالك
|
|
ولا جزع مما
اصاب فأوجعا
|
وان من اعطى حظا
من فهم محاورات العرب ليجد ان إظهار ما يقدره النحويون في مثل هذه المواضع مما
يهدم على الشاعر غرضه ويمحو نكتته ، فمن هذا النحو ما يخرج الكلام به من صورة
الفرض الذي لا يهم في الغرض إلى صورة الوقوع المقصود ، فيخرج الكلام بحسن بيانه من
نحو الدعوى إلى ناحية العيان ، ومن المصادرة الى صورة البرهان ، وعلى ذلك جاء قول
الحارث بن حلزة اليشكري :
والعيش خير في
ظلا
|
|
ل النوك ممن عاش
كدا
|
ألا ترى انه لو
أظهر ما يقدره أهل الصناعة وقال : خير من عيش من عاش كدا. لم يتحمل كلامه إلا بيان
التفاضل بين العيشين ، وهذا من الواضحات التي لا يهمه بيانها ولا يتعلق بها غرضه ،
وإنما غرضه بيان ابتلائه بالعيش الصعب المتعب على نحو يفضل فيه على عيشه عيش الحمق
المقرون غالبا من تعس الوقت بالرفاهية والسعة.
__________________
فإذا عرفت هذا
عرفت البراعة وعلو الشأن في قوله تعالى في سورة البقرة ١٧٣ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ).
وفهمت ان الغرض من
الآية الكريمة ليس هو بيان الفروض والأمثال وإنما الغرض فيها المقابلة بين الأفعال
الواقعة من الغواة والمهتدين وإيضاح المفاضلة فيما بينها وفيما بين فاعليها ،
والتنويه بمحاسن أفعال المهتدين والتمجيد لهم بها ، والتبكيت للغواة وأفعالهم ،
فتعرض القرآن لعوائدهم القشرية التي ألصقوها بنسب العبادة وموهوها باسم البر ،
وليس فيها إلا الحركات البدنية التي لا تتعب من دون علاقة لها مع القلب ولا ارتباط
لها بالإخلاص والاقبال ولم يتزينوا معها بزينة رغبة الإيمان ولا رهبة العرفان.
وحاصل ما يستنير
به الفهم من معنى الآية الكريمة هو انه ليس البر ملاعبكم المعتادة وإن تولوا
وجوهكم الى مشرق الشمس او مغربها صورة بلا روح وخيالا بلا معنى وعوائد بلا مستند ،
فلا تتبجحوا ولا تتبرروا بها فلستم بفعلها من البر في شيء ، ولكن انظروا واعتبروا
بأولياء الله وخاصة عباده الأبرار الذين آمنوا بالله فانقادت نفوسهم وجوارحهم الى
تقواه ، واقبلت في حبه على طلب رضاه ، وارخصوا لذلك كل عزيز واستسهلوا في سبيله كل
صعب ، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من عظيم الثواب ، فاقلوا على العمل لأجله
راغبين ، وما فيه من أليم العقاب ، فتحذروا عما فيه بأشد الرهبة وآمنوا بالملائكة
وأنزلوهم منازلهم ، وبالكتاب المنزل من الله فاتبعوا هداه وبالنبيين فاذعنوا بأنهم
رسل الله الهداة البررة المعصومون ففازوا بهداهم والاقتداء بهم ولم يستبدلوا عن
اتباع شريعتهم بالغلو فيهم ، ولم يفرطوا بوصمهم بالنقائص التي لا ترتضي لسائر
البشر ، بل عرفوا جليل قدرهم وانشرحت صدورهم لما بلغوه عن الله ، ولم يعيبوه ولم
ينتقصوه ، ولم يحملهم التمرد على الفرار الى اختراع عبادة لا تبهظ الاهواء ولا
تعارض الشح ولا تقرب
من الله ولا تؤازر
جامعة الحق بل طردوا أهواءهم والشح خاسئة مدحورة فآتوا المال راغبين متطوعين لأجل
حبهم لله وواسوا به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وخلصوا
به العبيد العانين من أوزار الرق ومذلة العبودية ، وأقبلوا على الله فأقاموا
الصلاة بحدودها الشرعية ووظائفها العرفانية وآدابها الأخلاقية ، وآتوا الزكاة في
محالها طائعين راغبين لاقامة امر الدين ومهمات الملة ولم تتلاعب أهواؤهم بعهودهم
بل هم الموفون اذا عاهدوا ولم يكونوا من الذين جعلوا الدين ونصره ـ لعقا على
ألسنتهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ـ بل كانوا الصابرين في البأساء والضراء
وحين البأس ، وهناك تبلى السرائر وتختبر الرجال ، ويعرف الصادق من الماذق ، فاولئك
الذين صدقوا واولئك هم المتقون.
هذى المكارم لا
قعبان من لبن
|
|
شيبا بماء فعادا
بعد ابوالا
|
ولو انا ذكرنا في
الآية الشريفة ما يزعم أهل الصناعة التابعة تقديره لخرج الكلام الى محض التفاضل
الفرضي بين الفعل الحسن وغيره وهو امر ساقط الفائدة لأنه من إيضاح الواضحات ،
فيضيع الغرض الحميد والمعنى السامي وهو الاطراء بالهداة والمفاخرة بكمالاتهم
والاحتجاج بهم ، كما يدل عليه حسن الختام بقوله جلت عظمته : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ
هُمُ الْمُتَّقُونَ) ولك العبرة بأن جماعة من اهل الصناعة قد قالوا : ان
التقدير في الآية الكريمة (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ). الآية وهو اشتباه واضح ، فإن المقام ليس مسوقا لبيان ان
البر بر هؤلاء على اجماله ومن حيث هو بر ، بل هو مسوق لبيان ان الذي يستحق ان يسمى
برا إنما هو ما نوهت به الآية الكريمة من صفات هؤلاء الصفوة الذين كانوا بفضيلتها
هم الذين صدقوا والمتقين حقا ، ومرجع الأمر بعد ما توحى به براعة الاسلوب الى ان
البر إنما هو أوصاف هؤلاء المنوه بها.
وبما ذكرنا بعضه
من الفوائد والشواهد تعرف شطط المتعرب إذ سمع من أهل الصناعة شيئا ذكروه لاطراد
قواعدهم التي لفقوها لأجل الوصول الى عربية القرآن الكريم ومقاصده ، فصار يعترض به
على القرآن الكريم «انظر ذ ص ٧٣».
ومن براعة العرب
نصبهم الاسم على المدح ، وذلك لينبهوا الذهن الى ما يريدون امتيازه عند السامع
ليلتفت الى مزيته وخصوصيته بنفسه لتكون احالة الالتفات إليها على معرفته بها من
نفسه ، أو كد في المدح والتنويه من البيان الصريح ، فيتنبه الذهن بتغيير سياق
الاعراب بحركة واحدة الى ما لا يتنبه له بدونه ولا يكفي في التنبيه عليه كثير من
الكلام ، وهذا باب واسع نص عليه النحويون ، وأوردوا فيه الشواهد ، ومن ذلك قول
الخرنق بنت عفان من بني قيس :
لا يبعدن قومي
الذين هم
|
|
سم العداة وآفة
الجزر
|
النازلين بكل
معترك
|
|
والطيبون معاقد
الأزر
|
وعلى ذلك جاء في
الآية الكريمة نصب (الصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) ، وذلك لأجل التنبيه على امتياز المتحلين بهذه الصفة التي
عليها ابتنى الثبات على الدين ، والإخلاص في العبادة ، والدوام على الطاعة
والاقدام في نصرة الحق ، والاقبال على الله ، والبعد عن التمرد ، والسلامة من
الضلال ، والعصمة من الارتداد ، فاولئك هم أعلام الهدى ، وحماة الدين ، ودعاة الحق
، فلله صبرهم ما احلى ثمره ، وما أحسن في التوحيد أثره ، وما أبهى في الاسلام
عاقبته :
وهذا السنا
الوضاح من ذلك السنا
|
|
وهذا الشذا
الفياح من ذلك الوادي
|
وقال المتعرب «ذ ص
٧٣» ولا ادري لما ذا استحق الصابرون هذا المدح ، ولم يستحقه الموفون بعهدهم ، مع
انهم مقدمون في النسق على اولئك ومع ان السورة نفسها متقدمة في النزول على سورة
براءة التي سن فيها نبذ العهد ، وعلى سورة التحريم التي احل فيها الحنث بالايمان.
أقول : قد نبهناك
على علو مقام الصابرين المذكورين في الآية ، ولا يخفى عليك عظيم أثرهم في الدعوة
والدين.
وقد روى في
المجازات النبوية قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «العم خليل المؤمن ، والحلم وزيره ، والعقل دليله ،
والعمل قيمه ، واللين اخوه
والرفق والده ،
والصبر أمير جنوده» أي هو الذي يدبر أمرها ويثبتها عند محاربة الهوى والشيطان.
وروى في ربيع
الأبرار عن مستودع علم الرسول علي عليهالسلام انه قال : «الحياء زينة ، والتقى كرم ، وخير المركب الصبر».
وقال عليهالسلام «الصبر مطية لا
تكبو بصاحبها».
ولكن أتدري لما ذا
يجحد المتعرب فضيلة الصابرين؟ لأنهم هم الذين قاموا بنصرة التوحيد ، ولم يثنهم عن
عزمهم تضايق الشدائد ، وأهوال الملاحم ، ومحك الامتحان ، حتى اشرقوا الشرك بالريق
، وارغموا أنف الضلال ... وأيضا لا يسمح المتعرب بأن تتوجه الأذهان الى فضيلة
الصبر والصابرين ، وذلك ليستر ما ذكره انجيلهم في شأن التلاميذ الذين هم بزعمه
عطية الله للمسيح وخيرة العالم ونوره وملح الارض ، فقد ذكر في شأن الأحد عشر منهم عن قول المسيح بأنهم كلهم
يتفرقون عنه في ساعة الامتحان كل واحد الى خاصته ويتركونه وحده ، ويشكون أو يعثرون
فيه «حينما ينتقدهم الاختبار» ، وطلب منهم المواساة بسهر ليلة فلم يتركهم الوهن
والخور ليسمحوا ، ولما هجم اليهود تركه الجميع وهربوا «مر ١٤ : ٢٧ ـ ٥١» وراجع ج ١
/ صحيفة ٦٢.
ولعل المتعرب مع
ذلك يقول : ليست الفضيلة بالصبر عند الشدائد على امتثال الواجب ونصرة الدين
والثبات على الإيمان ، بل الفضيلة كل الفضيلة ان يجتمعوا ويرتئوا لاستجلاب الناس
للإيمان بالثالوث ولو بطمس رسوم الشريعة ومصانعة المشركين بعوائدهم والتقرب
بالثالوث الى شركهم ومداهنة أهل الشريعة بالرياء «انظر صحيفة ٦٣ و ٦٤ من الجزء
الأول.
وأما اعتراض
المتعرب على تمييز الصابرين المذكورين في الآية على الموفين بعهدهم ، فليس لأنه
يجهله لكن ليتوصل به في المغالطة الى ضلالة التعريض
__________________
بالقرآن والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن كل أحد يعلم ان الوفاء بالعهد ، وإن كان خلقا حسنا
إلا انه يتصف به المؤمن والمشرك والشجاع والجبان.
ولكن الصبر
المذكور في الآية لا يتصف به إلا خاصة الأبرار وعيون الرجال ، وأما تعريضه بنبذ
العهد في سورة براءة ، فإن كل من له أدنى إلمام التاريخ الاسلام لا يجهل انه قد
وقعت الموادعة في عام الحديبية بين رسول الله وبين قريش وأحلافهم ، وتصالحوا على
ترك الحرب مدة بشروط وروابط منها عدم التعرض للاسلام والمسلمين ، ومن دخل في عهد
رسول الله ، ودخلت «خزاعة» في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ودخلت «بكر» في عهد قريش ، ثم غدرت بكر وظاهرتهم قريش ،
فنقضوا الصلح والموادعة وعدوا على خزاعة فقتلوهم ، فقدم مستغيث خزاعة على رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال فيما قال :
لا هم اني ناشد
محمدا
|
|
حلف أبينا وأبيك
الأتلدا
|
ان قريشا أخلفوك
الموعدا
|
|
ونقضوا ذمامك
المؤكدا
|
هم بيتونا
بالحطيم هجدا
|
|
وقتلونا ركعا
وسجدا
|
وقد ترجم المتعرب
هذه الوقائع من نقل «سايل» لها «ق ص ١٠٣ و ١٠٧» فكان هذا النكث من المشركين موجبا
لانحلال عقدة الموادعة مع الناكثين عرفا وشرعا ، فإن كل متعاقدين على شروط وروابط
قد تبانيا في عقدهما على ان نكث أحدهما حال للعقد ومحلل للآخر من ذمته ، ولو لا
ذلك لما كان معنى لجعل الشروط والروابط في المعاهدات ، وإن كنت في شك من ذلك فانظر
الى طريقة الملوك والسوقة في معاهداتهم ، وانظر الى ما يذكره العهد القديم في
معاهدات الله مع بني اسرائيل «خر ٣ : ١٧ و ٩ : ٥ و ٦» ومع داود في مملكته «٢ صم ٧
: ١٦ وخر ٨٩ : ٢٨ ـ ٣٧».
وانظر الى نبذ هذه
العهود «عد ١٤ : ٢١ ـ ٢٤ ومز ٩٩ : ٣٨ ـ ٤٥ وار ٧ : ٢٣ ـ ٣٠ و ١١ : ٢ ـ ٩ و ١٤ : ٢١»
، فإن هذا كله إنما يصح على ما ذكرناه.
ولا نطالب المتعرب
بما ذكره العهد القديم عن ميثاق الله «لفينحاس» «عد ٢٥ : ١٢ و ١٣» ، نعم لنا عليه
المطالبة بما يذكره العهد الجديد عن عهد «بطرس» الذي أيسر مدحه في الإنجيل ان
المسيح فوض إليه بناء الكنيسة وأعطاه مفاتيح ملكوت السموات ، وأناط الحل والربط
فيها بحله وربطه على الارض «مت ١٦ : ١٨ و ١٩» وجعل إليه رعاية الامة «يو ٢١ : ١٥ ـ
١٨» فإنه قد كان عاهد المسيح نبيه ، وبزعم المتعرب ـ واستغفر الله ـ «إلهه» معاهدة
بأكثر تشديد على ان لا ينكره ولو اضطر الى الموت «مت ٢٦ : ٣٥ ومر ١٤ : ٣١» ، وانه
مستعد لأن يمضي معه حتى الى السجن والى الموت «لو ٢٢ : ٣٣» ولم تمض من هذا العهد
سويعات حتى جعل عهده المشدد تحت قدميه. وكثر منه الحلف بأنه لا يعرف المسيح وصار
يحلف ويلعن «مت ٢٦ : ٧٠ ـ ٧٥» ولمن تظن يلعن ، وان المتحلي بأقل قليل من الصبر
الذي نوهت به الآية لا يستهويه الشيطان في مثل هذا الخور ، واني لأحاشي بطرس من
هذه الوصمة ولكن المتعرب لا يحاشيه.
ثم اعلم ان سورة
براءة هي التي تعلم بالوفاء بالعهد والدوام عليه مع غير الفجرة الغادرين الناقضين
للعهد ، فقد قال الله جل اسمه فيها بعد ان برء من اولئك الناقضين للعهد ٤ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ
أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ) الموفين بعهودهم مع من لم يغدر بنقضها.
فإن قلت : أفما
كان من المعروف أن يتم العهد للناقضين وإن غدروا وفجروا ، قلت هذا سؤال من لم يعرف
من المعروف إلا اسمه ، واحاشيك من ذلك إذ لا يخفى عليك انه لو لا ان اقامة الحجة
ومصلحة دين الحق وسياسة ترقيه اقتضت الموادعة معهم مدة من الزمان لما حسن الابقاء
على الشرك وعوائد الضلال ، ومكالبات الجور والعدوان.
أفيقول موحد بأنه
يحسن الإبقاء على الشرك والمشركين الفجرة وضلالهم بعد جرأتهم على الغدر ونكث العهد
الذي فتحوا به باب التكالب على مقاومة التوحيد والموحدين ، وراموا به تجرئة العرب
على نقضهم لعهد رسول الله
والنهوض لنصرة
شركهم وضلالاتهم ، كلا بل ان الاغضاء عن هؤلاء إنما هو من الوهن والفشل ، والتقاعد
عن نصرة الحق ، والقيام بواجب الدين القويم ولو لا ان شوكة الحق تفقأ أعينهم لكثر
الهرج والمرج في مضايقة التوحيد والموحدين.
وأما تحلة الإيمان
الواردة بقوله تعالى في سورة التحريم ٢ (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
فإن تعريض المتعرب
بها في كلامه السابق وتسميتها حنثا ، لمن قبيح التعصب ، كيف لا؟ وان تحلة اليمين
لها معنيان «احدهما» الاستثناء بقول الحالف «إن شاء الله».
وتسمية هذا
الاستثناء بالتحلة تؤخذ تارة من الحل ، كقولهم : حلا أبيت اللعن ، وقول عمر بن معديكرب
: حلا يا أمير المؤمنين فيما تقول ، وقول أبي بكر : حلا أم فلان ، وذلك باعتبار ان
هذا التعليق على مشيئة الله يحل عقدة اليمين الجازمة لو كانت على رسلها ، وتؤخذ
تارة من التحليل كقول امرئ القيس في معلقته :
يوما على ظهر
الكثيب تعذرت
|
|
علي وآلت حلفة
لم تحلل
|
وذلك باعتبار ان
تعليقها على المشيئة سبب للتحلل من تحريمها البتي.
«وثانيهما» هو بر
اليمين والوفاء بها ، قال : قبيصة ابن النصراني الجرمي من طي :
لم ار خيلا
مثلها يوم أدركت
|
|
بني شمجي خلف
اللهيم على ظهر
|
ابر بإيمان
وأجرأ مقدما
|
|
وأنقض منا للذي
كان من وتر
|
عشية قطعنا
قرائن بيننا
|
|
بأسيافنا
والشاهدون بنو بدر
|
فأصبحت قد حلت
يميني وأدركت
|
|
بنو ثعل تبلى
وراجعني شعري
|
فيتحلل الحالف
وتحل اليمين بالوفاء بها ولو بفعل شيء مما حلف على فعله لتكون اليمين به مبرورة
فيتحلل به الحالف منها ويبرأ من ذمتها ، كما إذا حلف
على ضرب ولده مثلا
فإنه يبرأ يمينه بضربة واحدة ويتحلل منها ويتخلص بذلك من إثم الحنث بالترك الكلي
... وقد ضربت العرب بذلك مثلا في القلة قال كعب بن زهير يصف الناقة :
تخدى على يسرات
وهي لاهية
|
|
ذوابل وقعهن
الأرض تحليل
|
وقال ذو الرمة «قليلا
كتحليل الألي» ومنه ما تكرر في الحديث من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تمسه النار الا تحلة القسم» ، ويحتمل ان يكون منه
قول امرئ القيس المتقدم على وجه بعيد في السياق .. فالمولى العليم الحكيم شرع
بلطفه لعباده أن يستثنوا في ايمانهم بمشيئة الله لئلا يورطهم الشيطان في اثم الحنث
إذا عقدوهما على البت ، او انه جل شأنه بين لهم في الشريعة انهم يتحللون من
ايمانهم ويبرونها إذا فعلوا شيئا مما حلفوا على فعله ، كما يقتضيه اللفظ ، ولعل
المتعرب سمع من بعض المفسرين تفسيرهم لتحلة الإيمان بالكفارة ، وهو اشتباه بيّن ،
فإن الكفارة إنما هي عقوبة على الحنث واليمين على حالها لم تحللها الكفارة أصلا ..
نعم غاية ما يقال في الكفارة انها عقوبة معجلة تدرأ شيئا من عقوبة الآخرة ، ولا
أثر لها في تحليل الحرام لا لغة ولا شرعا ، فانظر في حال كفارات الإحرام والصيام.
«تتمة» قال الله
تعالى قبل هذه الآية في السورة المذكورة ١ (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢ قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) الآية.
وقد اضطربت
الرواية في سبب نزول الآية الاولى ، فروي ان النبي خلا بأمته مارية في يوم عائشة
فعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي ، وقد حرمت مارية على نفسي.
وروي انه «ص» خلا
بمارية في يوم حفصة واسترضاها بتحريم مارية على نفسه.
وروي انه شرب
العسل في بيت زينب فقال بعض نسائه شيئا فحرمه على على نفسه ، وروي انه شربه في بيت
حفصة ، وروي في بيت أمّ سلمة ،
وحاصل الأمر ان
النبي «ص» عز على الامتناع عن شيء استصلاحا لعائلته ، فإن التحريم هو المنع ، ولكن
شاء الله ان يخفف عن رسوله ثقل هذا القيد ، ويتولى إصلاح عائلته بتأديب الوحي
فأنكر عليه أن يلقي على نفسه الشريفة ثقل القيود والامتناع عن الحلال.
والمتعرب من خبطه
وتعصبه جعل «ذ ص ٦٢» الآية الثانية من تتمة مضمون الآية الاولى ومرتبطة بحكم
واقعتها ، وان المعني فيها تحليل الحنث بيمين تضمنها بزعمه التحريم ، ولم يشعر ان
تغيير الاسلوب في الآيتين يقطع علاقة الارتباط بينهما.
فإن الآية الاولى
خطاب للنبي ، والثانية خطاب للامة ، مضافا الى ان غالب الروايات الواردة في واقعة
التحريم ليس فيها ذكر لليمين ، ولو كان في الواقعة يمين لما أمكن تعلق الآية
الثانية به وكونها تبيح مخالفته ، لأنه ان قلنا ان التحلة المشروعة هو التعليق على
مشيئة الله ، فإنما ذلك شريعة وتعليم بالنسبة الى الإيمان المستقبلة ولا ربط لها
بيمين قد مضى.
وإن قلنا : ان
التحلة هو التحلل من اليمين بفعل شيء من المحلوف على فعله فلا يمكن ارتباطها
بواقعة التحريم ، لأنها لو كان فيها يمين لكان على النفي لا على الفعل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ، وهذا بعض الوفاء لما وعدناك به «ص ١٤٣».
«عود الى النصب
على المدح والتعظيم» وقد جاء أيضا في قوله تعالى في سورة النساء ١٦٠ (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).
فنصب (الْمُقِيمِينَ) على المدح للغرض الذي أشرنا إليه في نصب «الصابرين» فإن
المراد من المقيمين الصلاة غير الذين يصلونها بسوق الوجوب ، وحث الوعيد ، وتوصلا
الى الدعاء الزخارف الدنيوية ، فإنها حينئذ إذا عوفيت من وباء الرياء وتشويه العجب
لم تعد أن تكون جسما بلا روح وشجرة بلا ثمر بل انهم هم الذين يرتاحون إليها ويعدون
وقتها أسعد أوقاتهم وأفضل أعمارهم
فيغتنمون فيه
الانس بمناجاة مولاهم وفضيلة المثول في حضرته فيقيمونها بالاقبال والعرفان والانس
والهيبة والرغبة والرهبة والنشاط والخشوع على حدود شريعتها وآداب سنتها وشروط
اخلاصها ووظائف التعبد بها ، فهذا هو إقامة الصلاة واولئك قادة المؤمنين وسادة
الموحدين ، وان تشرف من هو دونهم ببعض مراتب الإيمان بالله واليوم الآخر.
فالقرآن الكريم
نبه الذهن بأيسر تغيير في الأسلوب الى حقيقة إقامة الصلاة وامتياز مقيميها عن سائر
المصلين والمؤمنين.
وبهذا تعرف شطط
المتعرب في إنكاره لامتياز هؤلاء على سائر المؤمنين «ذ ص ٧٤».
وأما ضلال المتعرب
في تعريضه بقوله «ذ ص ٧٤» وقصارى ما يقدرون عليه «يعني من يزعم انهم مؤمنون بالله
واليوم الآخر» هو انهم إذا رأوا واحدا منهم يغدر ويخون وينهب ويقتل الأسرى حتى
يثخن في الأرض ساغ لهم ان يرتابوا في صحة إيمانه بالله واليوم الآخر.
فإنه يكفي في
ازهاقه ما ذكرناه من ج ١ ص ١٥٩ الى ص ٢٠٠ فراجعه.
ولكن القلم الغير
ان للحق أبى إلا ان يقف للمتعرب موقف الاستفصال وقول الفصل ، فقال للمتعرب : ان
الايمان الذي عندنا والايمان الذي عندك قد تبينا الى حيث لا ملتقى.
فإن الايمان عندنا
بمقتضى هدى العقل ونور الكتاب وإرشاد الشريعة هو الإيمان بأن إله الحق هو الله
الواحد الأحد القادر القاهر العزيز الجبار القدوس الحي الذي لا يموت لم يلد ولم
يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، جل وتعالى عن المثل والمكان ، لا يتجرأ ولا يتعدد
ولا يتجسد ، قد اصطفى بعلمه وحكمته ولطفه من عباده رسلا اطهارا بررة معصومين من
الذنوب مبرءين من العيوب دائبين على طاعة الله صادعين بأمره ، ليس لقائل فيهم مغمز
، ومن عدادهم المسيح عبد الله المقرب ورسوله المنتجب ، خلقه بقدرته وأودعه في رحم
أمه الطاهرة العذراء من غير نطفة فحل ، ثم ابتعثه رسولا هاديا مهديا وانزل عليه
الإنجيل
نورا وهدى ، وان
الحواريين انصار المسيح الى الله وأما الايمان بحسب عقيدتك واقتضاء كتابك ومجامعك
هو الايمان بأن الله روح ، ومحبة ، واحد هو ثلاثة ، وثلاثة هم واحد ، الأب ،
والابن ، والروح القدس ، فتجسد الابن في الأرض ، وبعد مدة نزل عليه الروح القدس
بشكل حمامة جسمية ، ثم قاده الروح الى البرية وبقي فيها اربعين يوما وابليس يحاول
اغواءه ويتصرف به وينقله من مكان الى مكان ويطمعه بممالك المسكونة ليسجد له ، وبقي
الأب في السماء ، وبقي الابن أي الإله المتجسد على الأرض يعاني الاضطهاد ، الى ان
دنا الوقت فحزن وبكى وألح في السؤال من الأب أن يجيز عنه كأس المنية ، فلم يشأ
الأب بل أسلمه للهوان والصلب فمات ودفن في الأرض ، وبعد ثلاثة ايام اقامه الله من
الموت وجلس عن يمين الأب ، ولما كان هذا الإله على الأرض كان من رأفته قد ميز من
تلاميذه بفرط الحب غلاما يافعا يجلسه في حضنه ، ويفضي إليه بسره ويتركه يتغنج عليه
ويتكئ على صدره ، وان الزانية يكون ايمانها الكامل إذا ثنت عطفها عليه وهو ابن نيف
وثلاثين سنة ، وجعلت تقبل قدميه ، وتبلها بالدموع وتمسحها بشعر رأسها ، وان رسل
هذا الإله المتجسد الذين هم خيرة العالم ونوره وملح الأرض منهم من يجلس في حضن
إلهه المتجسد ويتغنج عليه ، ومنهم من يغتاظ عليه ، ومنهم من ينكره وينقض عهده.
وكلهم قد شكوا فيه
، وتركوه في الشدة وهربوا عنه ، ثم انتجت مشورتهم ان يلاشوا الشريعة بالكلية ،
ويطلقوا الأهواء من قيدها ببشارة الفداء ، وكانت الأنبياء قبل ذلك منهم من يكذب ،
ومنهم من يستلب البركة بالمخادعة والتزوير ، ومنهم من يستعفي من الرسالة بخشن
الكلام وينسب إلى الله الاساءة ويستهزئ بوعده ويفرط بشفتيه ، ومنهم من يصنع وثنا
وينادي لعبادته ، ومنهم من يزني بالمحصنة ويسعى في قتل زوجها ويغضي عن المناكير في
بيته ، ومنهم من يذهب وراء آلهة اخرى ويبني لها المرتفعات مع انه الابن المختار ،
ومنهم من يدعو الله جل شأنه خداعا.
فيا أيها المتعرب
إن كنت تعني بالمؤمنين بالله واليوم الآخر من كان على مثل ايماننا ، فانهم لينادون
كما يعتقدون وهو الحق اليقين بأنه ما هدى الى حقيقة التوحيد وحق الايمان وحقائق
العرفان ، ولا اوضح محجة الحق واقام حجته
وأعلى كلمته إلا
رسول الله الصادع بأمر الله ...
وإن كنت تعني
بالمؤمنين من كان على مثل ايمانك فمن الغلط والشطط أن يشكوا في ايمان رسول الله بل
لا يسعهم إلا القطع بأن رسول الله مستمسك بوثقى عروة الكفر بمثل ما تقول به أنت في
ايمانك.
ومن لغة العرب رفع
المعطوف على المنصوب ومنه رفع المعطوف في الصورة على اسم «ان» ، قال بشر بن أبي
حازم الأسدي يخاطب بني طي :
إذا جزت نواصي
آل بدر
|
|
فأدوها وأسرى في
الوثاق
|
وإلا فاعلموا
أنا وأنتم
|
|
بغاة ما بقينا في
شقاق
|
وقال الحارث بن
ضابئ البرجمي :
ومن يك امسى
بالمدينة رحله
|
|
فأني وقيار بها
لغريب
|
وقال آخر :
خليلي هل طب
فأني وانتما
|
|
وان لم تبوحا
بالهوى دنفان
|
وقال عنتر يرثي
مالكا :
وكان إذا ما كان
يوم كريهة
|
|
فقد علموا اني
وهو فتيان
|
وقال الله تعالى
في سورة المائدة ٧٣ : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) فرفع لفظ «الصابئون» تمييزا لهم من النسق وتنبيها على ان
الصابئين وإن كانوا أبعد من اليهود والنصارى عن صورة التوحيد إلا انهم مثل اليهود
والنصارى في ان من آمن منهم وعمل صالحا فهو آمن ، ولا حاجة الى هذه الفذلكة في
الآية التاسعة والخمسين من سورة البقرة ، وذلك لأجل ان التنازل في الترتيب فيها
كاف في الاشارة الى هذه النكتة ، فالآيتان معا دالتان عليها ولكن كل واحدة بنحو من
الأسلوب. وأما الآية السابعة عشرة من سورة الحج فلا محل لهذه النكتة فيها.
__________________
«ولنستطرد الكلام
في الحذف» ولا يخفى عليك انه قد شاع في كلام العرب في الشعر والنثر اكتفاء بدلالة
المقام ، وتوصلا في بعض الموارد إلى غرض ونكتة لا تحصل بدونه ، فيخرج الكلام به
كالذهب المصفى والجوهر المجلو ، وقد جروا في الحذف على أنحاء :
«أحدها» انهم
التزموا بالحذف فيما إذا كانت دلالة المقام لازمة ، وجعله النحويون من الحذف
الواجب في العربية ، فمن ذلك خبر المبتدأ قبل جواب «لو» نحو «لو لا البعد لزرتك»
وقبل جواب القسم الصريح نحو «لعمري لأفعلن» ولا يحتاج هذا الى ذكر الشواهد ، وكذا
في نحو «اخطب ما يكون الأمير قائما» و «ضربي زيدا قائما» و «كل رجل وضيعته» ومن
هذا النحو ما يلتزم النحويون بتقديره في الظرف والجار والمجرور المستقرين. «وثانيها»
انهم اطرد عندهم الحذف في موارد جعل لها النحويون ضابطا منها حذف الضمير المنصوب
أو المجرور العائد على الموصول ، ومنها حذف الجر قبل «ان» المصدرية.
«وثالثها» ما لا
ينحصر بعنوان عام إلا بدلالة المقام وهو كثير لا يحصى فلنذكر من ذلك شيئا من شعر
مشاهير الشعراء في العرب ممن طرقوا باب البلاغة وشهد لهم بالتقدم.
قال امرؤ القيس في
معلقته :
فيا لك من ليل
كأن نجومه
|
|
بأمراس كتان الى
صم جندل
|
أي كأن نجومه شدت
، وقال طرفة بن العبد في معلقته يصف ذنب ناقته :
فطورا به خلف
الزميل وتارة
|
|
على حشف كالشن
ذا ومجدد
|
أي فطورا تضرب به
.. وقال أيضا :
ألا ايهذا
اللائمي اشهد الوغى
|
|
وان احضر اللذات
هل أنت مخلدي
|
اي على ان اشهد ..
وقال أيضا :
وان يلتقي الحي
الجميع تلاقني
|
|
الى ذروة البيت
الكريم المصمد
|
وقال يزيد بن
الحكم الكلابي :
مسسنا من الآباء
شيئا فكلنا
|
|
الى حسب في قومه
غير واضع
|
اي انتمي ، وننتمي
الى ... وقال اوس بن حجر :
حتى اذا الكلاب
قال لها
|
|
كاليوم مطلوبا
ولا طلبا
|
اي ليس كاليوم ..
وقال النمر بن تولب :
وقولي إذا ما
اطلقوا عن بعيرهم
|
|
تلاقونه حتى
يئوب المنخل
|
اي لا تلاقونه ...
وقال امرؤ القيس :
فقلت يمين الله
ابرح قاعدا
|
|
وان قطعوا رأسي
لديك وأوصالي
|
أي لا ابرح ..
وقال آخر :
تنفك تسمع ما
حيي
|
|
ت بهالك حتى
تكونه
|
أي لا تنفك ... وبهذا
ونحوه تعرف شطط المتعرب «ذ ص ٨٢» في اعتراضه على قوله تعالى (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ).
وقد أفحش المتعرب
في الغلط إذ قال في اعتراضه والوجه لا تفتؤ لأن فتئ وما جرى مجراها لا يستعمل إلا
منفية ، فقل له : أتقول ان «تفتؤ» في الآية مستعملة في الإثبات.
ومن الحذف في
كلامهم وشعرهم ما يعرفك المقام والأسلوب انه كان لأجل نكتة لطيفة وغرض سام لا ينال
بذكر المحذوف ، والقرآن الكريم قد تأنق في هذه البراعة ما شاء اعجازه ، فانتقى
يتائمها ، واستولى على غايتها.
قال امرؤ القيس :
ملوك من بني حجر
بن عمرو
|
|
يساقون العشية
يقتلونا
|
فلو في يوم
معركة اصيبوا
|
|
ولكن في ديار
بني مرينا
|
وقال أيضا :
فلو انها نفس
تموت سوية
|
|
ولكنها نفس
تساقط أنفسا
|
فإن التقدير في
جواب «لو» في البيتين «لهان الخطب ، أو سهل ، وما
يجري مجرى ذلك»
ولكنه لم يسمح في هذا المقام ان يصرح بذكر الهوان ونحوه فأبدع في الاسلوب وطوى ذكر
ما لا يجب ذكره ، فأوحاه الى الفهم بطرف خفي وبيان شجي.
وقال عبد مناف
الهذلي في آخر قصيدته :
حتى إذا أسلكوهم
في قتائدة
|
|
شلاكما تطرد
الجمالة الشردا
|
فطوى ذكر الحال
بعد ذلك ولم يأت بجواب «اذا» ليوكل الأمر إلى رجم الظنون ، وقال الله تعالى في
سورة يوسف ١٥ (فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فطوى القرآن الكريم من حال يوسف واخوته في تلك الساعة ذكر
ما يتوزع السامع بين الشجي المبرح والغيظ المهيج ، فلم يتعرض لما يلزم في تلك
الحال من تذلل يوسف بين يدي إخوته وتوسله بهم ، واستعطافه لهم ، ولواذه بواحد واحد
منهم ، ومناشدته لهم بالله والرحم بطرف خاشع وعين عبري وقلب مروع يسترحم لشبابه ،
ويستبقيهم على مهجته بلين الخطاب وشجي البيان. ومن قسوة اخوته وغلظتهم وما جرى لهم
معه في تلك الحال من الكلام القاسي والأحوال الفظة ..
فما ظنك بالغلام
اليافع ربيب الترف والدلال إذا شاهد تلك الحال المدهشة كيف يفعل؟ وكيف يتوسل بمن
يمت إليه بالاخوة ويرجو فيه الرقة ويستثير منه العواطف؟ أفلا يقرح قلبك شرح حاله ،
أم لا يوري غيظك ما يجري معه إذ ذاك من نكاية القسوة وبوادر الغلظة.
فالقرآن الكريم
راعى في هذا المقام كل جانب تنبغي مراعاته ، فطوى الكلام بأحسن طي وأشار إلى الحال
بأجمل اجمال وألطف تنبيه ، فكأنما أوقفك عليه بفكرك ومثله لوجدانك ، ولكنه قبل أن
يقرع الفكر بالشجي قلبك عجل لك البشارة على النسق بأن الله جل شأنه قد سلى يوسف
بالوحي وبشره بالنجاة والرفعة التي ينبئ فيها اخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون
فالقرآن الكريم لأنه كلام الله لم يدمج القصة كما أدمجتها التوراة الرائجة «تك ٣٧
: ٢٣ و ٢٤».
وجل عن ان يغرق في
حكايات الحالات المستبشعة السمجة ، كما زعمت الاناجيل الرائجة ان اليهود وبيلاطس
وعسكره فعلوه مع المسيح وحاشا ، انظر أقلا «مت ٢٦ : ٦٧ و ٢٧ : ٢٦ ـ ٣٢».
وقال الحارث بن
حلزة اليشكري في معلقته :
لا تخلنا على
غراتك انا
|
|
قبل ما قد وشى
بنا الأعداء
|
فلم يذكر خبر «انا»
ليترقى الذهن في محتملاته إلى أشد الحماسة ، وعدم المبالاة بالملك.
وقال عبيد بن
الأبرص يخاطب امرئ القيس :
نحن الأولى
فاجمع جمو
|
|
عك ثم وجههم
إلينا
|
ولم يذكر صلة
«الاولى» ليترقى الذهن في محتملاتها أيضا إلى أشد الحماسة والتهويل ..
وقال الله تعالى
في سورة الحج ٢٥ : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي
جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) فلم يذكر خبر «ان» تهويلا بما يستحقه هؤلاء الكفرة المردة
من عظيم النكال والعذاب ، أو بما يستحقونه من القذع والذم على كفرهم وعتوهم فيبلغ
الذهن في ذلك ما لا يبلغه البيان اللفظي ، وان المقام لجدير بذلك ، ومقتضى الحال
لا يليق بغيره.
ولعلك لا يخفى
عليك جهل المتعرب في اعتراضه «ذ ص ٧٧» على الآية بعطف «يصدون» المضارع على «كفروا»
الماضي ، فإنه لا ينبغي أن يخفى على غير المتعرب ان الغرض هو التسجيل والتشنيع
عليهم بتماديهم على الغي والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام ، ولا تحصل هذه
الفائدة إلا بالفعل المضارع الدال على الثبوت ، ولم يكن الغرض هو التشنيع عليهم
بما فعلوه من الصد في الماضي فقط.
«تتمة» وتتمة
الآية المتقدمة قوله تعالى في ذكر المسجد الحرام : (وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).
فقال المتعرب «ذ ص
٧٧ و ٧٨» فهذا أيضا كلام ناقص لأنه جاء فيه بفعل متعد وهو «يرد» ولم يأت بمفعوله ،
ثم قال : نذقه من عذاب أليم ، وكان المقام يقتضي العذاب الأليم أو عذابا أليما.
قلت : لا يخفى على
كل من يميز بعد الطفولية كيف يتكلم ، سواء كان يتكلم باللغة العربية أم بغيرها من
لغات الدنيا ، ولا يلتبس عليه ان الفعل المتعدي تارة يقصد بالإتيان به بيان وقوعه
على المفعول فقط ، ولأجل ذلك يعرض المتكلم عن بيان الفاعل ويبني الفعل في اللغة
العربية للمفعول ، وتارة يقصد به محض وقوعه من الفاعل فلا يذكر المفعول ولا يقدر
في الصناعة ولذا قالوا : ان المفعول فضله ، أي يصح الاستغناء عنه في الكلام ومرمى
الاسناد فالآية الكريمة لم يتعلق فيها الغرض بالمفعول ، بل إنما تعلق الغرض فيها
بمحض صدور الفعل القبيح من الفاعل المتمرد على الجهة الخاصة والباعث الخاص ، فإن
قبح الإرادة بالإلحاد والظلم في المسجد الحرام لا ارتباط له بتعلق الإرادة
بالإلحاد والظلم بمفعول خاص ، بل هو مسجد حرام سواء العاكف فيه والبادي ، فهو كقول
الملك من يضرب بشقاوة بظلم نعذبه ، فليس في الآية الكريمة شيء من الحذف.
ومما ذكرناه تعرف
غلط المتعرب في اعتراضه «ذ ص ٩٠» على قوله تعالى في سورة البقرة ٢٨ (وَنُقَدِّسُ لَكَ) وذلك لأن المقام غني عن بيان ان المقدس هو الله ، وإنما
المهم في التقديس بيان كونه لله خالصا مخلصا في قصد القربة الذي هو روح العبادة ..
وأما قوله تعالى :
(نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ) فلأن الظالم بالحاد وإنكار للمعاد والعقاب يكفي في وعيده
بيان خيبته في اغتراره واطمئنانه وتهديده بأنه لا مناص له عن سوء المنقلب الذي
أنكره بإلحاده.
والنكتة التي
اقتضت التعبير بقوله تعالى (نُذِقْهُ) لا بد معها من التعبير بقوله تعالى (مِنْ عَذابٍ) فإن الذوق إنما هو لبعض الشيء ، هذا مضافا إلى انه لم يقل
نذقه بعض ما
يستحقه ، بل بعض العذاب المعد عند الله للأشرار ، فإن كل معذب شخصا كان أو صنفا
إنما يعذب ببعض العذاب ، ويعذب غيره ببعض آخر ، أعاذنا الله من ذلك ببركة الإيمان
والإخلاص في توحيده وتقديسه ، وبهذا تعرف إن شاء الله أن المتعرب يعيب المسك
برياه.
وقال لبيد بن
ربيعة العامري :
قالت غداة
انتجينا عند جارتها
|
|
أنت الذي كنت لو
لا الشيب والكبر
|
فحذف خبر «كنت»
لنكتة آثرها ، وقال آخر :
إذا قيل سيروا
ان ليلى لعلها
|
|
جرى دون ليلى
مائل القرن اعضب
|
فحذف خبر «لعل»
لنكتة آثرها أيضا ، وقال مساور بن هند بن قيس :
زعمتم ان اخوتكم
قريش
|
|
لهم ألف وليس
لكم ألوف
|
اولئك اوهنوا خوفا
وجوعا
|
|
وقد جاعت بنو
أسد وخافوا
|
فاكتفى عن ذكر
تكذيبهم بالحجة عليه.
ومما ذكرناه تعرف
الحسن والبراعة في قوله تعالى في سورة القصص ٤٦ (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما
أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإنه طوى ذكر المستدرك بقوله تعالى (وَلكِنْ) لأجل تلألؤ المقام به واشراقه على ارجائه ، وتركه ليستعذبه
الفهم من المورد نهلا وعلا ، ويقتبسه من مشكاة البرهان ، ويكون هو الزعيم
باستنتاجه والمستأنس ببرهانه ، لا كما يلقى عليه باللفظ ثقلا على وساوسه.
وعلى نحو هذا جاء
قوله تعالى في سورة البقرة ٦٧ : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ٦٨
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ
آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فقد ألقى حياة المقتول إلى الفهم بسبب ضربه ببعض البقرة
السابق ذكرها ، ولقنه بها من سوق المورد وحججه بأحسن مما يلقيها إليه بفضول اللفظ
، كما لا يخفى إلا على تعصب المتعرب فانظر الى شططه «ذ ص ٩١ و ٩٢».
كما تعرف البراعة
وعلو الشأن في قوله تعالى في سورة البقرة ١٦ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فإنه بعد ان فتح عين الفهم بضرب المثل ودله على مغزاه
أوقفه على ربوة التنبه ، وموعد الانتظار ، وكفاه بعد المسافة ، ومعثرة التطويل
وملل التكرار ، وناوله تتمة المثل ونتيجة التمثيل بيد واحدة من مكان قريب قد راعى
في اسلوبه أولوية الكافرين بصفة المثل ، وان يروع الذهن بهول حقيقتها قبل أن يألف
بفرض مثالها ، ولو أجرى الكلام على السذاجة المبتذلة لتباعدت أطرافه وتشتت معانيه
وانحل نظامها ، واضمحلت خواص مقاصده ، ولم ينجح في طوله الممل بطائل ، واستوضح ذلك
من تفكيكه وتطويله حسب ما يقترحه البسطاء ، واتل لمن ينكر نورانية اعجازه بهذا
الأسلوب الخاص (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ..) الآية والتي بعدها.
ومما ذكرنا تعرف
انه لا حاجة الى ان نجعل «الذي» بمعنى «الذين» فإن هذا التقدير زيادة على وهنه
يذهب برونق السياق وفرائد الفوائد.
والمتعرب «ذ ص ٧٧ ـ
٧٩» يعد هذه الآيات من الكلام المبتور الذي يتحير فيه السامع زاعما في تمويهه ان
هذه الأساليب مخلة بالبلاغة لعدم الدلالة فيها على المحذوف.
وقد ذكرنا لك ما
يحتمله الاختصار من شعر العرب الذي يوقفك على أسرار البلاغة وتفنن البلغاء في
كلامهم حسب مقتضى الحال ، على انك لو قسته بالآيات المذكورة لوجدته كالمصباح مع
الشمس والصبابة مع النهر. أم يريد المتعرب أن يكون القرآن الكريم في التطويل
المضجر والتكرار الفارغ ، كالتوراة الرائجة في صنعة المسكن وثياب هارون ، «فانظر
خر ٢٥ ـ ٣١» «وانظر أيضا خر ٣٥ ـ ٤٠».
أو يريد ان تكون
امثال القرآن الكريم كأمثال الإنجيل الرائج التي شوه التطويل صورتها ، وشردت بها
الفضول الفارغة عن مطابقة الممثل حتى كانت النتائج بعدها أجنبية ، مضافا الى انها
قد اشتملت على فقرات ان كانت داخلة في غرض المثل لزم منها الكفر ونسبة الظلم الى
الله جل شأنه ، والمعاملة مع
عباده بالمحاباة
والمجازفة ، وان لم تكن داخلة في ضرب المثل كانت لغوا ومعثرة فانظر الى «مت ٢٠ : ١
ـ ١٧ و ٢١ : ٢٨ ـ ٤٥ و ٢٢ : ١ ـ ٤ و ٢٥ : ١ ـ ٣١» ويا عجبا ان التعاليم المنسوبة
في الإنجيل للمسيح لا تبلغ أن تملأ جريدة اسبوعية أو يومية ومع ذلك كان ما في
الإنجيل الرائج ككتابة صحافي ضايقته وظيفة الوقت فصار يملأ أعمدة الجريدة بسفاسف
التطويل ... أهذه تعاليم المسيح كلمة الله؟ حاشا وكلا.
وان أراد المتعرب
أن يعرف الكلام المبتور الذي لم يقف الفهم فيه على محصل ما ، ولم يستشم منه رائحة
الفائدة.
فلينظر الى ما
تذكرت التوراة الرائجة في شأن العلامة لابراهيم على انه يرث ارض الكنعانيين ، كما
ذكرناه سابقا ، ولينظر الى قول العهد القديم ان نسيتك يا اورشليم تنس يميني ..
ليلصق لساني بحنكي ان لم اذكرك «مز ١٣٧ ، ٥ و ٦».
وقوله : من منكم
من كل شعبه الرب إلهه معه ويصعد ٢ أي ٣٦ ، ٢٣ وقوله : ويكون إذا سمعتم صوت الرب
إلهكم «زك ٦ ، ١٥» ،
وقد جاء في لغة
العرب حروف كثيرة تفيد في الكلام فوائد لا تحصل بدونها ، وهي مثل «من» و «الباء»
الجارتين في مثل قولك «ما فيها من احد وما زيد بقائم» و «ان» في مثل قولك «ما ان
فعلت» و «كان» في مثل قول المتعجب «ما كان أحسنها» و «ما» بعد «إذا ، وأي» ، و «لا»
قبل القسم والشواهد لذلك لا تكاد تحصى في شعر العرب فضلا عن نثرهم .. ولكن لما رأى
أهل الصناعة ان الكلام يمكن أن يتألف بدونها إذا لم تقصد فيه فائدتها جعلوا تلك
الكلمات زائدة ، ولما لم يصلوا إلى حقيقة فوائدها بعنوان من عناوينهم أدمجوا أمرها
وقالوا : انها للتأكيد.
وبعض المفسرين جعل
بعض الحروف في القرآن الكريم من هذا النحو فصار المتعرب يعترض عليه «ذ ص ٧٩» ويقول
: انه زائد فهو إذا لغو ، ولو انها كانت كما زعم هؤلاء البعض لقبح من المتعرب ان
يشط بزعمه انها لغو فمن
ذلك قوله تعالى في
سورة القيامة ١ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ ٢ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ٣ أيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) وليس كما حسب المتعرب وتوهم ، فإن الحقائق النيرة لا
يحجبها غبار القيل والقال ، فإن «لا» في الآية وأمثالها للنفي وجيء بها لأعظام
القسم والمحلوف به ، كما يرشد الى ذلك ويدل عليه قوله تعالى في سورة الواقعة ٧٤ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ٧٥
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ).
ويرشد الى ذلك
أيضا شائع الاستعمال العرفي ، فإن المخبر المؤكد لخبره قد يجمع بين التعريض بالقسم
واعظامه بإنشاء واحد ، فيقول : لا احلف برأس ابيك قد كان الأمر كذا ، وهو اسلوب
لطيف وغرض حميد ، وان صاحب الكشاف قد تنبه في تفسير سورة القيمة لهذا الوجه الواضح
فجزم به في التفسير واحتج لتقريبه بقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) ، وان كان عند تفسيره لسورة الواقعة قد اتبع في هذه الآية
قول بعض المفسرين فقال : ان «لا» صلة ، أي زائدة.
«فإن قال قائل»
إذا كان ذلك جامعا بحسن اسلوبه بين التعريض بالقسم واعظامه ، فأين الخبر الذي عرض
بالقسم لأجل تأكيده ، قلنا : «أفلا يسمع النداء بيوم القيامة» ، وقوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بَلْ يُرِيدُ
الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أم يريد أن لا يجري القرآن على خصائص اللغة العربية
ومحاسنها.
وقال الله تعالى
في سورة الحديد بعد ذكر الذين اتبعوا المسيح ٢٨ : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٩ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
فذهب جماعة الى ان
«لا» في قوله تعالى : (لِئَلَّا) زائدة ، وتشبث المتعرب «ذ ص ٨٠» بكلامهم ليتعرض على القرآن
الكريم بزيادتها ، ولكن الصواب قد اخذ بيد جماعة ففهموا من الآيات ان «لا» غير
زائدة وان الضمير في (يَقْدِرُونَ)
يعود على المؤمنين
المخاطبين في الآية المتقدمة على نحو الالتفات من الخطاب الى الغيبة ، ويكون قوله
تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ) معطوفا على المجرور بلام التعليل في «لئلا» ، أي يتفضل على
المؤمنين حق الايمان بالهدى والثروة والشوكة لكيلا يعلم أهل الكتاب ان لا يقدر
المؤمنون على شيء من ذلك ، ولأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
والسبب المقتضى
للالتفات هو ان التعليل المذكور في الآية الثانية غير داخل في الوعد بالجزء
المذكور في الآية السابقة وإنما هو حكمة في الجزاء ووجهه ، فراعى القرآن بيان ذلك
بتغيير الاسلوب بالالتفات لئلا يوهم النسق انه غاية داخلة في الجزاء والامتنان.
ولكن المتعرب لأنه
يتعذر عليه الالتفات الى الحق صار يعترض على ما جاء من الالتفات في القرآن الكريم «انظر
ذ ص ٨٠» مع ان الالتفات يعد من محاسن اللغة العربية ، ولم يجيء في القرآن إلا
لنكتة شريفة ، وان عشى عنها من عشى :
قال عمر بن كلثوم
في معلقته :
بأي مشيئة عمرو
بن هند
|
|
تطيع بنا الوشاة
فتزدرينا
|
تهددنا وأوعدنا
رويدا
|
|
متى كنا لامك
مقتوينا
|
فالتفت من الخطاب
الى الغيبة ، ومن الغيبة الى الخطاب ، وقال امرؤ القيس في معلقته :
الى مثلها يرنو
الحليم صبابة
|
|
إذا ما اسكرت
بين درع ومحول
|
تسلت عمايات
الرجال عن الصبا
|
|
وليس فؤادي عن
هواك بمنسلي
|
وقال عنتر في
معلقته :
حلت بأرض
الزائرين فأصبحت
|
|
عسر علي طلابك
ابنة محرم
|
ثم التفت الى
الغيبة في البيت الذي بعده ، ثم الى الخطاب فيما بعده ثم الى الغيبة ، ثم الى
الخطاب ، ثم الى الغيبة وقد تنقل بالالتفات في ستة أبيات
على النسق ، وقال
قيس بن جروة الطائي :
أيوعدني والرمل
بيني وبينه
|
|
تبين رويدا ما
إمامة من هند
|
وقد جاء الالتفات
أيضا في التوراة الرائجة العبرانية «انظر لا ٢ ، ٨».
«تتمة» واعترض
المتعرب أيضا «ذ ص ٨٠» على قوله تعالى في الآية المتقدمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ).
فقال : انهم ان
كانوا حقيقة قد آمنوا كما دعاهم فقد اتقوا الله وآمنوا برسوله وإلا فما هم
بمؤمنين.
قلنا : مما لا
يخفى ولا يستر ان عموم النصارى على سعة شريعتهم الفعلية واطلاقها وقلة تكاليفها
غير معصومين عن مخالفة التقوى ، ولا نذكر شيئا مما يشهد به العيان والتاريخ القطعي
، بل نقول : ان ملوكهم وحكامهم قد بذلوا غاية جهدهم في كسر سورة الظلم وطغيان
الفساد ، وقرروا بينهم في ذلك مؤكدات الروابط والمعاهدات ، وانك لترى مع ذلك ما
يحدث في العالم من النكال ببعض المقصرين الذين عرف أمرهم ولم يحابهم الوقت.
وترى ما يحدث من
مخالفة التعاليم النبوية والآداب العقلية والنواميس الروحية التي قد اتفق هتافها
ونجواها في الحث على الوداعة والصفاء والسلام ، وترى من المخالفة المذكورة ما يكاد
أن يأتي على رمق المدنية والإنصاف ، ويدفنهما في رمس العواطف البالي.
ولو تركنا القلم
وجريه لقال : ضع يدك على من شئت مستشهدا بشواهده مدليا بحججه.
أفترى المتكلف
يقول : في أهل نحلته انهم ما هم بمؤمنين أو يغالط وجدانك ويقول : كلهم فائقون في
العصمة والتقوى على أنبياء العهدين الذين نسبا إليهم عظائم الذنوب وقبائح الأحوال ،
كما ذكرناه لاقتضاء المقام وعز علينا ذكره صحيفة ٤٨ ـ ١١٦.
ولعلك تسأل ان
المتعرب لما ذا لم يعرف ان للايمان معارج ومراقي ، أولها :
التحلي بفضيلة
الاقرار بالإله الصانع ، والتطهر من رجاسة الشرك ، فلا يخالس به التوحيد أو يسر
حسوا بارتعاء ، ثم يترقى في معارجه بالعمل الصالح ، والتقوى ، والصبر ، والتوكل
والعرفان ، والتسليم ، والتهيؤ لطاعة الرسول فيما يبلغه عن الله.
فنقول : دع عنك
المتعرب إذ وصلت بسؤالك الى ان الله جل شأنه أمر المؤمنين في الآية بالترقي في
معارج الإيمان ببركة التقوى والإيمان بالرسول ليقوم بذلك نظام الشريعة والمدنية
وتنال به سعادة الدنيا والآخرة.
فأما قوله تعالى
في سورة الأعراف ١٦٠ (وَقَطَّعْناهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) ، فإن المعدود فيه محذوف يهدي إليه المقام ، أي اثنتي عشرة
قبيلة حال كونهم أسباطا وامما.
والمتعرب توهم ان
السبط في اللغة العربية بمعنى القبيلة كما توهمه مترجمو التوراة الى العربية ، ولم
يدر أن السبط هو الشخص الواحد ، وأما القبيلة فهي أسباط متعددون لا سبط واحد.
وأما قوله تعالى
في سورة المنافقين ٩ (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ١٠ وَأَنْفِقُوا مِنْ
ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ) ، فجزم «اكن» لأجل التنبيه على ان الكون من الصالحين اولى
بأن يكون جزاء للطلب «بلو لا» وغاية للتأخير. ليتدارك به الخسران الحاصل بسبب
اللهو بفتنة الأموال والأولاد عن تقوى الله. ونسيانه بفعل المعاصي : ولو لم يجزمه
بل تركه على النسق لضاعت هذه المزية الشريفة والتنبيه البارع. بل وكذا لو قدمه في
النسق. ومن هذا النحو قول خارجة بن الحجاج الأيادي :
فابلوني بليتكم لعلي
|
|
اصالحكم واستدرج
نويا
|
__________________
فجزم «استدرج»
لينبه على انه اولى بكونه جزاء للطلب.
وأما قوله تعالى
في سورة آل عمران ٥٢ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : فقال جل شأنه في مقام الاحتجاج بالتمثيل (فَيَكُونُ) بالفعل المضارع الدال على الثبوت. وذلك لبيان الملازمة
الدائمة بين قوله تعالى (كُنْ) وبين ان الشيء يكون بهذا الأمر لا محالة. وبهذه القدرة
التامة والملازمة الدائمة خلق عيسى من غير فحل اذ قال له (كُنْ) ولا تقوم الحجة بهذا التمثيل ولا يحصل المراد منه في
الاحتجاج الّا بيان الملازمة بخلاف ما لو قيل. كن فكان. لأن هذا الأسلوب لا يفيد
الا ان آدم كان. سواء كان ذلك باتفاق او بملازمة خاصة بذلك الكون او عامة. وهو امر
معلوم لا فائدة في بيانه ولا حجة فيه على خلق عيسى من غير فحل. فلا يكون التفريع
لو قيل : كن فكان. الا لغوا في كلام متهافت ، وبما ذكرناه تعرف غلط المتعرب ذ ص ٧٥
وانه يعيب المسك برياه ـ كما غلط أيضا في اعتراضه ذ ص ٩١ على قوله تعالى في سورة
البقرة ٥١ فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم.
حيث قال ثم ان
قوله (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ظاهره انه جواب لجملة سقطت فيما سقط ولو قال فيتوب مكان
فتاب لكان الكلام اصح.
قلت : تعسا لغرور
العصبية. أفلا يعلم الناظر في خطاب الله لبني اسرائيل في سورة البقرة ٣٨ ـ ٨٨ انه
انما كان خطابا لبني اسرائيل المعاصرين لرسول الله «ص» لا المعاصرين لموسى.
فاستوضح ذلك من الآية ٣٨ ـ ٤٤ ومن انه لا يصح خطاب الاموات الذين صاروا رميما بمثل
هذا الخطاب. بل قد خاطب الله الموجودين وامتن عليهم ووعظهم باحوال آبائهم وشئونهم.
فاسندها إليهم كما هو المتعارف في خطاب القبائل والفرق ، وبذلك تعرف ان التوبة
ماضية بالنسبة للخطاب وعصر المخاطبين. «فإن قال قائل» : كيف يخاطب الموجودون
باحوال الماضين؟ «قلنا» هذا نهج متعارف في خطاب القبائل والفرق. فان ابى الاذعان
بذلك من المحاورات فلينظر الى العهدين. فان التوراة الرائجة صريحة بأن بني اسرائيل
الذين خرجوا من مصر وحضروا طور سيناء لم يبق منهم الى السنة الأربعين لخروجهم من
مصر احد حي بل ماتوا كلهم في القفر قبل ان يقتلوا
«مديان» ويغنموهم.
ولم يبق من ذلك الجيل الا موسى. ويوشع. وكالب. انظر اقلا عد ٢٦ : ٦٤ و ٦٥ وقد جاء
في التوراة أيضا ان موسى في اواخر السنة الأربعين بعد سبي مديان خاطب بني اسرائيل
الموجودين بشئون آبائهم وقال لهم «وكلمتكم في ذلك اليوم» اي في حوريب «فاجبتموني
وقلتم» تث ١ : ٩ و ١٤ «فكلمكم الرب من وسط النار وانتم سامعون صوت كلام ـ واخبركم
بعهده ـ لم تروا صورة ما يوم كلمكم في حوريب» «تث ٤ : ١٢ ـ ١٦» وانظر أيضا «تث ٥ :
٢٣ ـ ٢٨» ، كما جاء نحو ذلك عن خطاب المسيح لمعاصريه من الكتبة والفريسيين «مت ٢٣
: ٣٥».
«تتمة» واعترض
المتعرب في هذا المقام على امتنان الله على بني اسرائيل بشأن امره لهم بذبح البقرة
مع تمردهم في مراجعة السؤال عن المسارعة الى الامتثال بمقتضى اطلاق اللفظ «البقرة
٦٣ ـ ٦٧» وعلى امتنانه جلت آلاؤه على النسق بشأن احياء المقتول بضربه ببعضها «٦٧ و
٦٨» فقال ذ ص ٩١ انه كلام في غاية المعاناة ولا يقدر احد ان يفهم معناه.
وكان يقترح ان
تكون آيات الامتنان الأول حشوا في آيتي الامتنان الثاني توهما منه أو ايهاما بأن القرآن
الكريم في صدد أن يذكر قصة البقرة حكاية تاريخية لقوم بسطاء كحكاية بنتي لوط «تك
١٩ ، ٣١ ـ ٣٨» او صناعة المسكن وثياب هارون «خر ٢٥ ـ ٤٠» او حكايات الأناجيل
الرائجة «مت ٤ ، ١ ـ ١١ ولو ٧ ، ٣٦ ـ ٥٠ ويو ٢ ، ١ ـ ١١ و ١٣ ، ٢١ ـ ٣١» ولم يفهم
ان القرآن الكريم إنما هو في مقام الامتنان على بني اسرائيل بتعداد نعم الله عليهم
وألطافه بهم على ما هم عليه من الغلظة.
فذكر أولا : منته
عليهم في شأن أمره لهم بذبح البقرة ومجاراته بلطفه لهم على جهلهم وتمردهم في تكرير
السؤال.
وذكر ثانيا : منته
عليهم بفصل القضاء المعجز بإحياء الميت وإخماد الفتنة وفضيحة العادي ، ولقد أبهر
القرآن الكريم باعجازه هاهنا ولا بدع ، فقدم الامتنان الأول توطئة لبيان الامتنان
الثاني على وجهه وخصوصيات حاله ، حيث انه بعد ان ملأ السمع والقلب بحال الامتنان
الأول قال في الامتنان الثاني «فقلنا
اضربوه ببعضها» اي
تلك البقرة التي تقدم ذكرها ، فنظم البيان نظم العقد ، واوحى الى الفهم بواسطة
الضمير في قوله «ببعضها» جميع خصوصيات القصة من دون ان ينحل نظام البيان وتتباعد
اطراف الكلام وتبعد مسافته على الفهم ، بل جلاء القصة مع المحافظة على عناوين
الامتنان احسن جلوة ونوع الامتنان أحسن تنويع ، وما ظنك لو اقحم الامتنان الأول في
اثناء الامتنان الثاني ، أفلا يتشتت شمل البيان ، وتندمج بينات الامتنان ، ويعود
الكلام بيداء ماحلة تأتي على الفهم بطول المسافة بعد ان كان روضة زاهرة يرتاح
إليها ويتمتع بشذاها ..
ولئن استهزأ المتعرب
بالقرآن الكريم والراسخين في العلم فانا لا نستهزئ بالمغمورين بالتعصب ، المفضوحين
بالجهل والضلال ، (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
وأما قوله تعالى
في سورة الصافات ١٣٠ : (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ) بعد قوله تعالى ١٢٣ : (وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) فذلك لأن هذا الرسول لاسمه العبراني في اللغة العربية
تعريبان «الياس ، والياسين» كما ان اسمه في العبرانية جاء في العهد القديم على
وضعين : احدهما «الياء» باشباع فتحه الياء وإسكان الهاء بعدها «انظر ٢ مل ١ ، ٣ و
٤ و ٨ و ١٢» ، وثانيهما «الياهو» بضم الهاء وتشديد الواو «انظر ٢ مل ١ ، ١٠ و ١٥ و
١٧».
وأما قوله تعالى
في سورة التين ٢ (وَطُورِ سِينِينَ) فلأن لهذا المسمى في العربية اسمين «سيناء ، وسينين» ، كما
انه يسمى في العبرانية في العهد القديم مرة «سيني» بفتح النون بالفتحة الخالصة ،
وإسكان الياء بعدها «انظر خر ١٩ ، ٢ و ١٨ ومز ٦٨ ، ٩» ونص في حاشية هذا المزمور
على ذلك فضلا عن رسم الاعراب ويسمى مرة اخرى «سيناي» بفتح النون بالفتحة المشالة
الى الألف «انظر خر ١٩ ، ١ ولا ٢٧ ، ٣٤» هذا كله مع قطع النظر عن رموز النغمة
المصطلحة عند اليهود في قراءة العهد القديم ، وبهذا تعرف بعضا من مبلغ عصبية
المتعرب وجهله في كلامه «ذ ص ٧٦» وكأنه إذ ألصق نفسه بالعرب حسب انه صار الحكم
المحكم في العربية ، ولكنه من أين يتورع عن مثل هذه الاقتحامات ، وفي كتاب إلهامه
، لأن هاجر جبل سيناء في العربية «غل ٤ ،
٢٥» ، فيا لهفاه
على العربية.
وأما قوله تعالى
في سورة الحج ٢٠ (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) فثنى فيه في الأولين باعتبار ان الخصومة على طرفين وبين
فريقين ، وهما الذين كفروا والذين آمنوا ، وجمع في الأخيرين باعتبار كثرة المتخاصمين
من الفريقين ، فلو جمع في الأولين لما دل الكلام على ان الخصومة على طرفين وبين
فريقين ، ولو ثنى في الآخرين لما دل على كثرة المتخاصمين ، فلو غير الاسلوب
الموجود في الآية لخرج الكلام الى ضد حقيقته.
وأما قوله تعالى
في سورة الحجرات ٩ : (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) فقد جمع في قوله «اقتتلوا» باعتبار ان القتال يقع بين آحاد
الطائفتين الكثيرين ، وثنى في قوله «بينهما» ، فلبيان ان الواجب هو الصلح بين
الطائفتين ، ولا يحصل امتثال الواجب أصلا إذا اصلحوا بين بعض افراد الطائفتين وإن
كانوا جمعا كثيرا ، وأيضا فإن قرار الصلح وروابطه لا يقع غالبا بين جميع المقتتلين
، وإنما يقع بين عنوان الطائفتين ورابطتي رئاستيهما ، فلو غير الأسلوب الموجود في
الآية أيضا لخرج الكلام إلى غير المراد منه.
وأما قوله تعالى
في سورة الأنبياء ٣ : (وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإن الغرض فيه إسناد الفعل الى اللاعبين اللاهية قلوبهم ،
كما سبق فاسند إلى ضميرهم شرحا لذميم حالهم وتسجيلا عليهم بقبيح تماديهم في الغي ،
ثم جاء بقوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدلا من الضمير ، او منصوبا على الاختصاص والذم اعلاما
بظلمهم في اسرارهم النجوى بجحد الرسالة بالذكر وتسميته سحرا ، واحتجاجهم الفاسد
بكون الرسول بشرا ، ولو اسند الفعل رأسا إلى الذين ظلموا لا نحل ارتباط الكلام ولم
يدل على المراد منه كما ذكرنا.
وبما ذكرناه تعرف
شطط المتعرب في كلامه «ذ ص ٧٦ و ٧٧» وأما اعتراضه على القرآن الكريم «ذ ص ٧٧»
بخرافة جمع القلة والكثرة ، فهل عدا فيه ان اتبع به الأصمعي وأمثاله على غير هدى
ولا كتاب منير ، ولو ان القرآن الكريم كان كلام واحد من سائر العرب لقبح الاعتراض
عليه بعثرات اوهام الأصمعي وأمثاله ، بل كان هو الحاكم عليهم والمقيم لأودهم ، او
لم يصد المتعرب عن
غلطه صاد ، ولا
أقل مما عربه من كلام سايل حيث قال في شأن القرآن العظيم «ق ص ١١٩ س ٤» ومما لا
خلاف فيه أيضا انه «اي القرآن» الحجة التي يرجع إليها في العربية.
وقد توغل المتعرب
في شطط التعصب فصار يدعي ان القرآن الكريم يستعمل الألفاظ العربية في غير ما وضعت
له «اي خطأ واشتباها» وعد من ذلك «ذ ص ٨١» قول القرآن عن دين ابراهيم انه حنيف ،
وزعم ان العرب تسمى عابد الوثن حنيفا ، وان الحنيف عندهم الملتوي الضال والخب
الخداع.
والذي ورط المتعرب
هاهنا بهذا الافتراء هو ما ذكر في اوائل الرسالة المنسوبة لعبد المسيح فنسي ما نص
عليه قبل «ذ ص ٢٥» من ان العرب سئمت الوثنية ، وقد ادرك منها محمدا «ص» رجال
كثيرون يدعون بالحنفاء ، وإنما دعوا بذلك لحنفهم أي ميلهم عن الوثنية ، فكانوا
يحرضون قومهم على اطراح عبادة الأصنام ويدعونهم الى التدين بدين لا شرك فيه.
فاسأل المتعرب لما
ذا تناقض كلامه؟ فهل هو على المثل الفارسي «دروغ گو حافظه ندارد» اي الكذاب لا
حافظة له.
أم يقول : دع هذا
فإن لكل مقام مقال؟ او لم يتعظ بما فضح الله به صاحب الرسالة المذكورة في هذا
الافتراء حيث أظهر عليه كذبه ومخالفته لصراحة العهدين مع انه نصراني يزعم انهما
كتب إلهية.
أو لم يعتبر به إذ
قال في اوّل رسالته : فقد علمنا الآن ان ابراهيم كان منذ ولد إلى ان أتت عليه
تسعون سنة حنيفا عابد صنم ـ يعبد الصنم المعروف بالعزى مع آبائه وأهل بيته وهو
بحران.
مع ان التوراة لم
تذكر ان ابراهيم عبد صنما لا يوما ولا تسعين سنة بل تذكر انه حينما خرج من «حاران»
عن امر الله وبركته له في خطابه كان ابن خمس وسبعين سنة «تك ١٢ ، ١ ـ ٤».
ويقول العهد
الجديد : ان الله ظهر لابراهيم وهو في ما بين النهرين قبل ما سكن «حاران» وأمره
بالخروج فخرج حينئذ بأمر الله ووحيه من ارض
الكلدانيين وسكن
في حاران «١ ع ٧ ، ١ ـ ٥» ، وعلى هذا فلا بد أن يكون عمره الشريف حينما ظهر الله
واوحى إليه بالهجرة اقل من خمس وسبعين سنة بمقدار سكناه في حاران وزيادة ،
وبالإيمان لما دعى اطاع ان يخرج «عب ١١ ، ٨».
ويكفي من صارحة ما
ذكرناه عن العهد الجديد انه يلزم منه ان يكون ابراهيم مؤمنا بالله نبيا موحى إليه
قبل ما يأتي الى حاران ، وانك لتعلم من هذا ان مثل صاحب الرسالة في جرأته على خليل
الله ومخالفته لكتب دينه ليروج أضاليله وأباطيله «كمثل كلب الأكراد يعض الضيف
وصاحب المنزل».
وكيف كان فالحنيف
في العربية هو من كان على حقيقة التوحيد وعبادة الحق. قال الجارود بن بشر من عبد
القيس ، وكان نصرانيا فاسلم طوعا :
فأبلغ رسول الله
مني رسالة
|
|
بأني حنيف حيث
كنت من الأرض
|
وقال حسان بن ثابت
يخاطب أبا سفيان :
هجوت محمدا برا
حنيفا
|
|
أمين الله شيمته
الوفاء
|
وأما استشهاد
المتعرب «ذ ص ٨١ س ١٤» بحكاية قول «بسطام» النصراني لأخيه «ان كررت يا بجاد فانا
حنيف» ، فلا شهادة فيه وإن صحت الحكاية ، فإن مراد بسطام تهديد أخيه بترك
النصرانية وتثليثها ، والقول بتوحيد الحنفاء ، فانهم كانوا يقاومون التثليث
والسجود للأيقونات والصور كما يقاومون الوثنية الصريحة.
وقال الله تعالى :
(هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ٢ إِنَّا
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً
بَصِيراً).
فاعترض عليه
المتعرب «ذ ص ٨٢» حيث قال بعض المفسرين ان «هل» بمعنى «قد» فقال : انا لا نجد لها
هذا المعنى في شيء من كلام العرب ، وقال قبل ذلك ان المتبادر الى الذهن من هذا انه
سؤال منكر.
فنقول أولا : ان
حقيقة الاستفهام هو طلب الفهم ، وإنما يعرف كونه استفهام تقرير او إنكار إذا دل
الحال او المقال على ذلك ، فمن أفحش الغلط
قول المتعرب : ان
المتبادر الى الذهن كونه في الآية سؤال منكر «اي استفهام انكار» مع اعترافه بأن
القرآن لم يرد منه إلا الاثبات ، ومع العلم بأن حال رسول الله ومقاله ومقال القرآن
في هذا المقام وغيره يناضل ويحامي اشد المحاماة عن هذه الحقيقة التي هي العمدة
والأصل من أساسيات دعوته وتعليمه بوجود الصانع الواحد العليم ، «وثانيا» قد جاء
مثل سوق الآية الكريمة في قول زهير في معلقته :
ألا ابلغ
الاحلاف عني رسالة
|
|
وذبيان هل
اقسمتم كل مقسم
|
وقول الحرث بن
حلزة اليشكري في معلقته مفتخرا ومحتجا :
هل علمتم ايام
ينتهب النا
|
|
س غوارا لكل حي
عواء
|
وقول زيد الخيل :
سائل فوارس
يربوع بشدتنا
|
|
أهل رأونا بسفح
القف ذي الأكم
|
ومن الواضح ان
الشعراء المذكورين لا يريدون حقيقة الاستفهام ، لأنهم عالمون بما بعد «هل» ، ولا
ينكرونه لأنه يوافق غرضهم ، بل لا يريدون منه إلا الاثبات والاحتجاج به ..
فإن كانت «هل» في
الشعر بمعنى «قد» فالشعر شاهد لذلك وإن كانت للتقرير والتسجيل عليهم بالاحتجاج ،
فإن «هل» في الآية الكريمة كذلك وهو الأصح الذي ذهب إليه المحققون من المفسرين.
ثم اعترض المتعرب «ذ
ص ٨٢» على قوله تعالى في سورة البقرة ٢٢٩ (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ
فَلا تَعْتَدُوها).
فقال : ان المقام
يأباه وانه يلزم ان يعدى «تعتدوا» بعلى لا بنفسه.
فنقول : ان من له
ادنى تمييز يعرف من اللغة وموارد الاستعمال ان الاعتداء والتعدي إنما هما بمعنى
واحد وكلاهما بمعنى التجاوز ، فقولك اعتدى عليه وتعدى عليه بمعنى واحد ، والمراد
منهما اعتدى الحد ، وتعدى الحد عليه ،
نعم يختص التعدي
المذموم بلفظ الاعتداء ، فالاعتداء هو تعدي الحد حيث لا ينبغي.
ثم اعترض أيضا «ذ
ص ٨٢ و ٨٣» على قوله تعالى في سورة القصص ٧٦ : (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).
فقال الوجه لتنوأ
بها العصبة اي تنهض على تثاقل ، فالعصبة هي التي تنوء بالمفاتح لا المفاتح
بالعصبة.
فأقول : جاء في
النوع السادس والثلاثين من إتقان السيوطي ان سائلا سأل عن قوله تعالى : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) ، فأجاب المجيب بقوله : ا ما سمعت قول امرئ القيس :
تمشي فتثقلها
عجيزتها
|
|
مشي الضعيف ينوء
بالوسق
|
والظاهر ان سؤال
السائل كان عن مجيء ذات اللفظة في العربية لا عن معناها الخاص في الآية الكريمة
فاكتفى المجيب بذكر ما يدل على وجودها وان كان مخالفا لمعناها في الآية.
واحتمل ان المتعرب
رأى ذلك في الاتقان ، فتوهم ان السؤال كان عن مجيء «تنوء» على المعنى الذي في
الآية فاستشعر من مخالفة الجواب ان المجيب لم يجد شاهدا على ما في الآية ، واحتمل
أيضا ان المتعرب جرى على عادته في اقدامه على الاعتراضات الباطلة تمويها بتعصبه
وترويجا لباطله.
ومهما يكن من ذلك
فلا يخفى ان اللغويين اتفقوا على قولهم : «ناء بالحمل نهض به على تثاقل ، وناء
الحمل به أثقله وأجهده».
وان العرب تسند
بعض الألفاظ إلى أمور متقابلة.
قال امرؤ القيس في
معلقته :
كميت يزل السرج
عن حال متنه
|
|
كما زلت الصفواء
بالمتنزل
|
فاسند الزلل في
صدر البيت إلى السرج المتحول ، واسنده في العجز إلى الصفواء المتحول عنها المطر ،
ومن ذلك «ناء ينوء» فانها تسند تارة إلى المثقل
المجهود كقوله : «ينوء
بالوسق» ، وتارة الى الثقيل المجهد كما في الآية الكريمة. وقول عمر بن كلثوم في
معلقته :
ومتني لدنة سمقت
وطالت
|
|
روادفها تنوء
بما ولينا
|
فاسند «تنوء» الى
الروادف الثقيلة التي تجهد ما وليته بثقلها ، وأشد اللغويون في ذلك أيضا :
الا عصا ارزن
طارت برايتها
|
|
تنوء ضربتها
بالكف والعضد
|
وأما المفاتح في
الآية الكريمة فهو جمع «مفتح» وهو ذات الكنز لا المفتاح الذي هو آلة الغلق.
واعترض المتعرب
أيضا على قوله جل شأنه في سورة الكهف ٧٦ : (حَتَّى إِذا أَتَيا
أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا
فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ
عَلَيْهِ أَجْراً).
فقال «ذ ص ٨٥»
والوجه استطعماهم.
وذلك لتوهمه ان
قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) جواب «لإذا» ولم يفهم انه وصف للقرية وجواب «إذا» إنما هو
قوله تعالى في آخر الآية (قالَ لَوْ شِئْتَ) وحينئذ لو قيل «استطعماهم» لخلت جملة الصفة من ضمير
الموصوف وأيضا ان الاتيان في الآية لجميع أهل القرية باعتبار الدخول الى قريتهم ،
والاستطعام لم يكن لجميعهم ، وإنما كان لمن هو لائق للضيافة ، ولو قيل استطعماهم
لأوهم الكلام ، ان الاستطعام كان لجميع اهل القرية ، فلأجل ذلك كرر ذكر الأهل لئلا
يمتنع انصرافه الى المتعارف بخلاف الضمير العائد إلى ما يراد منه العموم.
واعترض أيضا «ذ ص
٨٥» على العدول عن الاضمار إلى تكرار الظاهر في قوله تعالى في سورة البقرة ٣١ : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ...
فما ذا تقول في
اعتراضه هذا هو محض تمويه وتعصب؟ أم انه لا يفهم من المحاورات فوائد تكرار الظاهر
فيها لكي يفهم ان تكرار الظاهر هاهنا لأجل
التسجيل بالصراحة
فيما هو العنوان للحجة والقصة ، فلم يطوه بغمغمة الإضمار ، وان الفوائد التي أشرنا
إليها لمعتنى بها في البلاغة ، فقد قال عنتر في معلقته :
يا دار عبلة
بالجواء تكلمي
|
|
وعمي صباحا دار
عبلة واسلمي
|
وقال سوادة بن عدي
:
لا أرى الموت
يسبق الموت شيء
|
|
نغص الموت ذا
الغني والفقيرا
|
وذكرنا لك قول
امرئ القيس :
فلو انها نفس
تموت سوية
|
|
ولكنها نفس
تساقط أنفسا
|
وقول الآخر :
إذا قيل سيروا
ان ليلى لعلها
|
|
جرى دون ليلى
مائل القرن اعضب
|
ومن هذا الوجه
مجيء التكرار في قوله تعالى : (بِإِذْنِي) في قوله تعالى في سورة المائدة ١١٠ : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي
وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى
بِإِذْنِي) ، والمتعرب ضجر من تكرار هذه الكلمة لأمر لا يحير بيانه.
ولا يخفى عليك أن
القرآن الكريم لما كان متجردا لتثبيت حقيقة التوحيد منابذا لما يجاهرها او يخالسها
بالشرك فلا جرم ان كانت له العناية التامة في تكرار البيان او تأكيده بأن أفعال
المسيح العجيبة لم تكن بقدرته كما شتت به المزاعم ، وإنما هي بإذن الواحد القادر
القاهر وبقدرته ، وأن الحال ليوجب ان يتكرر قوله تعالى «بإذني» في هذه الموارد
وأمثالها وإن بلغ تعدادها ألفا وان غاظ المتعرب تكرارها المرغم لأهوائه في ثالوثه.
ومن الظرائف ان
المتعرب موه تألمه من مباهضتها لهواه. وأبدى ان إنكاره لها ، لأن اولها مثل «إذ»
ولعله ابغض «إذ» لأنها مثل أول «بإذني» وإلا فما ذا يبهظه من تكرار «إذ» إذا اقتضى
الحال به تسجيل الامتنان بعظائم النعم وعوائد مزيدها في ظروفها تسجيلا لازما في
البيان في مقام الامتنان والتذكير لا يحصل لو خلى السوق ونسق العطف بدون التسجيل
بالظرف فاعرف ذلك من
مراجعة الآية التي
قبل هذه.
ومما يستظرف نقله
ان المتعرب قد أخذته الرقة على «حين» فتألم من القرآن إذ لم تذكر فيه إلا سبعة
عشرة مرة ، وأحمشه الحسد «لإذ» حيث ذكرت في القرآن مائتين وأربعا وثلاثين مرة فحقد
ذلك عليه.
وما ذا على
المتكلم البليغ اذا استعمل الألفاظ التي هي ادخل بمقاصده مما اربها في المعنى.
فقد قال الحارث بن
حلزة اليشكري في معلقته :
ما جزعنا تحت
العجاجة إذ و
|
|
لوا شلالا وإذ
تلظى الصلاء
|
وأقدناه رب غسان
بالمن
|
|
ذر كرها إذ لا تكال
الدماء
|
وقالت الخنساء :
كان لم يكونوا
حمى يتقي
|
|
إذ الناس إذ ذاك
من عز بز
|
وقال الأخطل :
كانت منازل آلاف
عهدتهم
|
|
إذ نحن إذ ذاك
دون الناس اخوانا
|
ولعل الزمان
سيرينا من مخبئاته من يعترض على القرآن الكريم بأن ألفاته أكثر من تاءاته وظاءاته.
ولما ذا يتضجر
المتعرب من التكرار فإن التكرار رفيقه في أناجيله فقد تكررت «لما» تسع مرات في
الاصحاح الثاني وربع الاول من متى ، وجاء في اوّل يوحنا في البدء كان الكلمة ،
والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا كان في البدء عند الله كل شيء به كان
وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور يضيء في
الظلمة والظلمة لم تدركه ، لم يكن هو النور بل ليشهد للنور كان النور الحقيقي الذي
يبرر كل الناس آتيا الى العالم كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم.
وكم وكم ترى في
انجيل يوحنا مثل هذا التكرار وأكثر ... وان قيل ان
الإنجيل لم يكن
مبنيا على البلاغة ، والقرآن المبني على البلاغة قد جاء فيه التكرار الكثير ..
قلنا أولا : حاصل
هذا الكلام ان التكرار الفارغ لا يضر في الإنجيل لأنه غير مبني على البلاغة.
وثانيا : انه لم
يتكرر في القرآن الكريم الا ما كان مقتضى الحال موجبا لتكراره ، فكيف ترى التكرار
الذي اعترض عليه المتعرب «ذ ص ٨٥» وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة ٩٤ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا).
فإن نفي الجناح في
المطعوم وعدم لحوق الوبال منه إنما يتم بالنسبة الى هؤلاء الثابتين الدائبين على
الايمان والعمل الصالح والتقوى والاحسان ، فكم من مؤمن عمل صالحا ثم جره الشره
والانهماك في الطعام الى سوء الظن بالله وعدم التوكل عليه ، ومنته نفسه الامارة
وحرصه ان يستزيد رزقه بتدبيره ، وكم من مؤمن عمل صالحا ثم جره الشره الى مخالفة
التقوى والورع بالإغماض والتساهل في مطالب رزقه ، وكم من مؤمن عمل صالحا واتقى مدة
ثم جره الشره والاعتياد على ملاذ المطعم الى الاقدام على كسب الحرام. وكم من مؤمن
عمل صالحا واتقى قد أدى به الشره والانهماك بلذة المطعم الى العجز والتثاقل عن
العبادة والعمل الصالح واكتساب الفضائل الروحانية ، فإن تكلف شيئا من ذلك جاء به
صورة مشوهة وجسما بلا روح.
وكم من هؤلاء من
جره الشره الى الاسراف المحرم والإكثار المضر ببدنه فضلا عن دينه ، وكم وكم جرهم
الشره الى الشح وذمائم الأخلاق والتعطل من زينة الاحسان. ولكن أغلب الناس يقولون :
لسنا من هؤلاء والحمد لله فلا يسلم الطاعم من الجناح والوبال إلا إذا تأدب بأدب
الآية الكريمة (وقليل ما هم» ، ولا يحسن نفي الجناح إلا مع هذا التأكيد في الثبات
والدوام على الايمان والعمل الصالح والتقوى والإحسان.
فإن القرآن الكريم
لم تجر تعاليمه على الفداء والمغالطة بكفاية اسم الايمان
«فان قيل» ان
القرآن قد كرر في سورة القمر قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أربع مرات.
وكذا قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) ، وكرر في سورة الرحمن سورة المرسلات قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) عشر مرات فما الوجه في هذا التكرار في السورة الواحدة؟ «قلت»
ان للتكرار في الخطابة مناهج البلاغة لمقاما يتنافس فيه البلغاء ، وغاية يتسابقون
إليها فيكررون ما يعنيهم أمره ويهمهم تثبيته في القلوب ، ويجلونه بالتكرار ليفتحوا
به المسامع ويملئوا به القلوب تنويها بشأنه ، وحياطة للغرض المهم فيه ، فيتفاوتون
في الاحسان به كما يتفاوت في الجودة والمناسبة واقتضاء الحال. قال الحرث بن عباد
في قصيدة لما قتل مهلهل ابنه بجيرا :
قرّبا مربط
النعامة مني
|
|
لقحت حرب وائل
عن حيال
|
فكرر صدر البيت في
أربعة وأربعين بيتا ، الى قوله :
قربا مربط
النعامة منى
|
|
ليجير فداه عمى
وخالى
|
وقال مهلهل في
قصيدة :
على أن ليس عدلا
من كليب
|
|
إذا خاف المغار
من المغير
|
فكرر صدر البيت
سبعة عشرة مرة ، الى قوله :
على أن ليس عدلا
من كليب
|
|
إذا هتف المثوب
بالعشير
|
وكرر قوله «قربا
مربط المشهر مني» في صدور أبيات كثيرة ، وكرر عمر بن كلثوم في معلقته قوله «بأي
مشيئة عمر بن هند» في صدري بيتين وكررت ليلى الاخيلية في رثاء ، توبة قولها في
قصيدة «فنعم الفتى يا توب كنت إذا التقت» في صدور ستة أبيات ، وقولها منها «لعمري
لأنت المرء أبكي لفقده» في صدور أربعة أبيات ، وقولها منها «فلا يبعدنك الله ياتوب»
في صدور أربعة أبيات.
وهكذا حسان بن
ثابت في شعره قبل الاسلام جوابا لقيس بن الحطيم
فكرر قوله في
قصيدة (ويثرب تعلم) في صدور أربعة أبيات. وما هو من هذا النحو كثير. وغير مختص
باللغة العربية ، بل يوجد في خطابة كثير من اللغات وكلامها الذي يتسامى الى
البراعة ومراعاة مقتضى الحال.
حتى أن المزامير
الرائجة لما كان اسلوبها طامحا الى البلاغة جاء فيها كثير من ذلك ، فقد جاء في
المزمور التسعين (وعمل ايدينا ثبت علينا وعمل ايدينا ثبته) ، وتكرر في المزمور
السابع والخمسين قوله «ثابت قلبي» مرتين وفي أول الرابع والتسعين «يا إله النقمات»
مرتين ، وفي المائة والخامس عشر «اتكلوا على الرب» ثلاث مرات ، وفي المائة والثامن
عشر «احمدوا الرب لأنه صالح الى الابد رحمته» مرتين «ان الى الأبد رحمته» ثلاث
مرات ، وفي المائة والرابع والعشرين «لو لا الرب الذي كان لنا» مرتين ، وفي المائة
والسادس والثلاثين «لأن الى الابد رحمته» ستا وعشرين مرة ، على ان هذا المزمور لا
يبلغ النصف من سورة الرحمن.
وأيضا قد تكرر في
العشرين من القضاة «بين رجليها انطرح سقط» مرتين ، وفي الأربعين من أشعيا «يبس
الشعب ذبل الزهر» مرتين ، وفي العشرين من حزقيال «التي ان عملها انسان يحيا بها»
ثلاث مرات ، وأيضا تكرر في سابع متى عن قول المسيح «من ثمارهم تعرفونهم» مرتين ،
كما في الثالث عشر منه أيضا عن خطاب واحد للمسيح مع تلاميذه قوله «هناك يكون
البكاء وصرير الاسنان». وفي هذا المقدار من العهدين كفاية وإن كان فيه أكثر من
ذلك.
وانك إذا نظرت الى
مكررات القرآن في مواردها وجدتها مما لا يساغ لغرض البليغ في تركها ، كيف لا وهي
في مقام الامتنان بتيسير القرآن للذكر والحث على الادكار للاتعاظ بما جرى على
الكفرة المتمردين من عظيم النكال.
وفي مقام التهديد
والتهويل بذلك البطش الشديد حيث تمت عليهم الحجة بالنذر ، وفي مقام التنويه بآلاء
الله وبيان انه لا مجال في التكذيب بها ، وفي مقام التهديد والوعيد بالويل في يوم
القيامة للمكذبين بالمعاد والجزاء ، وانك لترى ان هذه المقامات هي الرأس والعمدة
في الاصلاح ، والتكميل ، ونظام المدنية ، والهدى الى الايمان والسعادة ، فراجع
مواردها فإنها توردك بتوفيق الله من زلالها
العذب نهلا وعلا.
وأما تكرار القرآن
لقوله تعالى في سورة الشعراء : (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) خمس مرات فذلك لأجل انه حكاية لكلام خمسة من الأنبياء في
خمسة مواقع وهم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب حيث احتج كل واحد منهم على قومه
بأنه لا يريد في إنذاره لهم إلا النصح والهدى ولا يرجو فيه طمعا ولا يسألهم عليه
أجرا.
وأما ما تكرر في
مجموع القرآن ، فما عسى ان يكون إذا اقتضاه الحال او لم يتكرر «متى» عن قول المسيح
«هناك يكون البكاء وصرير الاسنان» ست مرات مع ان الكلمات المنسوبة فيه الى المسيح
لا تقارب واحدة من كبار سور القرآن ، هذا فضلا عن التكرار في كتب العهدين.
وبما ذكرناه تعرف
شطط المتعرب «ذ ص ٧٦ و ٧٤» وتحامله بضلاله على القرآن الكريم.
قال الله تعالى في
سورة البقرة ١٦٥ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ
آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ١٦٦ وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ).
والمراد منه ان
الذين كفروا تجري ألسنتهم في كفرهم بما لا يعقلون غلطة ولا يتدبرون شططه ، فكأنهم
ليس لهم اسماع يسمعون بها ضلال اقوالهم وقبيح فلتاتهم ، فإنها قد بلغت من الغلط
والضلال حدا لا ينبغي ان لا يعقله إلا من لم يسمعها.
أفيقول من لم يوقر
الغي اذنيه لا اتبع ما أنزل الله بل اتبع ما الفيت عليه آبائي أفلا يسمع ما يقوله
من الغلط والضلال فمثل الذين كفروا في ضلال اقوالهم هذه كمثل الأصم الذي ينعق بما
لا يسمعه ولا يميز من مداليل كلماته الا الصوت والدعاء والنداء ، فكلامهم الغلط
الفاسد إنما هو بالنسبة الى غباوتهم عما فيه كنعيق من لا يسمع.
والمتعرب سمع من
بعض المفسرين انهم يقدرون في الآية ، مثل واعظ الذين كفروا ، ويجعلون سوق الآية
لتشبيه وعظ الواعظين بالنعيق ، والذين كفروا بالأنعام التي ينعق بها ، فقال
المتعرب «ذ ص ٩٣» هذا التمثيل لا معنى له ، وكان الوجه ان يقول ، ومثل الذي يعظ
الكفار او يدعوهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع.
ولا ألوم المتعرب
إذ لم يعقل المراد من الآية ، ولم يدر ما يلزم في تقديره من الفساد ، أفلا يتدبر
انه حاشا لله وبلاغة القرآن ان يصف وعظ الواعظ الهادي وإرشاده الشافي بالنعيق
المهمل. ويعيب إرشاده بعيب غيره بل حاشا كل من يعرف مواقع الكلام من ذلك ، هب ذلك
ولكن المثل الشريف حينئذ يخطئ مرماه ويلغو معناه. فإن الناعق بالأنعام طالما ينجح
بنعيقه بها ويندر ان لا تجبيه باقبالها وانزجارها وان كان نعيقه مهملا ، وأين ذلك
من خيبة واعظ الكفار الذين حرنوا على اتباع ما الفوا عليه آباءهم.
وأما اعتراض
المتعرب على قوله تعالى في سورة البقرة ٢٧٦ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا).
حيث قال «ذ ص ٩٣»
، وكان الوجه ان يقول : إنما الربا مثل البيع.
فيكفي في رده ان
القرآن كلام الله الصادق قد حكى ما قاله آكلو الربا على وجهه ، لا كالأناجيل التي
تنقلب في نقلها الواقعة الواحدة حسبما تقتضيه الغفلة وغيرها. كما ذكرنا بعضه في
الجزء الاول في «صحيفة ٢٥٢ ـ ٢٥٧» ، ولا كالعهدين الذي يختلف منهما الحاكي والمحكي
اختلافا فاحشا ، كما سنذكر بعضه إن شاء الله في المستقبل القريب.
ولا علينا ان نقول
: ان اعتراضهم انما هو النقض على الشريعة بحل البيع لتوهمهم ان العلة في تحريم
الربا موجودة فيه فهو مثل الربا ، فلما ذا أحل مع تحريم الربا ، وهذا النحو من
الاعتراض يستلزم هذا التعبير.
وأما اعتراض
المتعرب على عربية القرآن باستعماله بعض الالفاظ التي يدعي انها عجمية في الأصل :
كالسندس ، والاستبرق ، والاباريق ، والنمارق
والقسطاس ،
والفردوس.
فنقول : ان من
المعروف في جميع اللغات انها قد تتداخل وتنقل اللفظة من لغة الى لغة اخرى فتكون
بهذا الأخذ في اللغة الثانية كسائر موضوعاتها الخاصة ، وقد كثر ذلك في الأسماء في
كل لغة ، فالذي ينقل من لغة الى اللغة العربية يسمى معربا ، اي صار عربيا بعد أن
كان غير عربي ، وذلك كغالب اسماء الأنبياء ، فلا يلزم بعد ذلك في فصيح العربية
اجتنابها ، بل ان الالفاظ المعترض بها لا مناص في الفصاحة والبلاغة وحسن البيان عن
استعمالها لأنك تعلم ان مثل السندس ، والاستبرق ، والنمارق ، والقسطاس الذي هو
ميزان خاص مبني على الدقة ، كل هذه لم تكن من صناعة العرب ولا متداولة عندهم
ليضعوا لها الاسماء من لغتهم ابتداء ، بل لم يكن يستعملها الا ملوك الحاضرة
ومترفوهم ، فاكتفوا في تسميتها في لغتهم بتعريب اسمائها ، فلا يمكن البيان عن
حقائق مسمياتها الا بأسمائها ، ولو عدل عن أسمائها المذكورة الى نحو آخر من
التعبير لما تيسر بيان المسميات على ما ينبغي ولو بطول الكلام الفارغ ، فاعتبر بما
اذا جاء في بليغ الكلام الانكليزي «سلدين» اي صلاح الدين و «جبرلتار» أي جبل طارق
، و «ارابيك» اي عربي ، فهل ترى مميزا يعترض على انكليزية ذلك الكلام بوجود هذه
الالفاظ المأخوذة من العربية او يقول ، كان يلزم في بيان معانيها ومسمياتها ان
تستعمل الالفاظ الانكليزية الاصلية ، وان أدى الى التطويل والهذر ، كلا.
وأما دعوى المتعرب
ان الملة ، والسكينة ، والمثانى ، والمائدة مأخوذة من اللغة العبرانية فهي دعوى
ناشئة من فلتات الجهل وبوادر العصبية.
وأما اعتراضه على
القرآن الكريم «ذ ص ٨٥» بأنه يوجد فيه كثير مما تنافرت حروفه نحو فسبحه ، ومن يسمعها
، ومن يكرههن ، وإذ سمعتموه وإذ زاغت.
فقد تلقن دعوى
التنافر فيه من اعاجم يعسر عليهم النطق بالحاء والعين والذال ، وما أشبهها ، بل
تراهم يتلكئون في النطق بالكلمات العربية ، وإن كانت حروفها متداولة بينهم.
وقد تكلفوا الكلام
باللغة العربية ، وترددوا في النطق بحروفها بين افراط وتفريط ، فاما أن يقلبوا
الحاء هاء ، والذال زاء ، والعين أيضا ، واما أن ينطقوا بالحاء على وجه يكاد أن
يجرح الحلقوم ، وبالعين على وجه يكاد ان يخنق ، ووضع لهم ارباب الصناعة وهم منهم
حدودا للحروف لا تنفك أن تخرجهم من التفريط الى الافراط وهو تفريط أيضا ، فان كان
هذا هو الميزان في التنافر ، فكل اللغة العربية متنافرة الحروف بالنسبة الى غير
العرب ، بل كل لغة متنافرة بالنسبة الى غير أهلها.
الفصل الثاني
في أوهام الاعتراضات على القرآن الكريم
من حيث وضع الارض
قال الله جل شأنه
في سورة يوسف في قصة الجدب والخصب ٤٩ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
فقال المتعرب «ذ ص
٥١» ويترتب عليه ان خصب مصر مسبب عن المطر ، وهذا خلاف الواقع ، فالمطر قلما يقع
في ذلك القطر ولا دخل له في خصبه بل ذلك مسبب عن قبض النيل ، وهذا لا يجهله احد من
أهل البلاد النازحة عن مصر فضلا عن العرب المتاخمين لها.
قلت : أترى هذا
النصراني المتصدي للأمور الدينية والمباحث العلمية كيف أدى به العناد والتمرد على
الله ورسوله الى أن فضح نفسه بالجهل بصراحة التوراة التي هي كتاب ديانته وبمبادىء
الجغرافية التي لا يجهلها اطفال المكاتب الابتدائية في هذه القرون.
أما التوراة فانها
تقول بصراحتها ان القحط قد عم مصر وأرض كنعان وكل وجه الارض «انظر تك ٤١. ٥٤ ـ ٥٧ و
٤٢ ، ١ ، ٢ و ، ٤٣ ، ١ و ٢ و ٨ و ٤٥ ، ٤ ـ ٨» ، وانظر أيضا «مز ١٠٥ ، ١٦ ، ١٧ وا ع
٧ ، ١١» هذا وان الوجدان شاهد بان الخصب في ارض كنعان لا يكون الا بالغيث من
المعصرات ، وان الجغرافية الشائعة في المكاتب الابتدائية قد فهمت الاطفال ان خصب
مصر وزيادة نيلها انما هما من نزول الغيث من المعصرات. وقد حددت
ابتداء زيادة
النيل بابتداء المطر في حوضه ، وانتهائها بانتهائه وعينت موقع حوض النيل الذي يمده
بماء المطر الواقع فيه ، وعينت مساحة الحوض أيضا.
وان المتعرب قد
حقق كلامه هذا كون القرآن الكريم من الله علام الغيوب ، فانه لو كان من الناس
لأسند خصب مصر الى فيض النيل جريا على ما هو المعروف في تلك القرون التي لم تكتشف
فيها مواقع البلاد ، وطبيعيات الأرض وحياض الانهار.
وما ظنك بجرأة
المتعرب لو جاء في القرآن الكريم مثل ما جاء في توراته بأنه كان نهر يخرج من عدن
ليسقي الجنة وهناك ينقسم فيصير أربعة رءوس ، واسم النهر الثاني جيحون وهو المحيط
بجميع ارض كوش ، واسم النهر الثالث حد أقل «أي دجلة» وهو الجاري شرقي آشور ،
والنهر الرابع الفرات «تك ٢ ، ١٠٠ ـ ١٥».
أفتراه لا يقول ان
جيحون وأرض كوش في افريقيا ، ومبدأ الفرات من ارمينية ، ومبدأ الدجلة من كردستان
ومنتهاهما خليج فارس ، فأين هذا وأين عدن ، وأين هذا من العلم بتوقيع البلدان؟
ومن نحو هذا الفصل
اعتراض المتكلف والمتعرب على القرآن الكريم إذ سمى صانع العجل لبني اسرائيل «بالسامري»
وقد اوضحنا لك حقيقة الحال ومقدار جهلهما في «صفحتي ٣٤ و ١٣٥ من الجزء الأول
فراجع.
وقال الله تعالى
في أول سورة الاسراء : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ).
فاعترض المتعرب
على ذلك «ذ ص ٥١» بأن المسجد الأقصى الذي هو الهيكل السليماني كان قد خرب وانمحت
آثاره منذ خمسمائة وخمسين سنة.
قلنا : لا يخفى ان
المسجد لا يخرج عن فضيلة المسجدية وشرفها وعنوانها وان صار خربة وانمحت آثاره منذ
آلاف من السنين ، وعلى ذلك عمل اليهود والنصارى فانهم يعظمون بيت المقدس بناء على
مسجديته السابقة على خرابه .. وأما اعتراضه باعتبار الرواية فساقط لما قدمناه في
المقدمة السابعة.
وقال الله تعالى
في سورة النحل ١٥ : (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ، ونحوه في سورة الأنبياء ٣٢ ، وسورة لقمان ٩.
فنقل المتكلف «يه
٢ ج ص ٨٤» أقوال بعض المفسرين الظاهرة في دعواهم : ان الجبال بثقلها تمنع الأرض عن
ان تتحرك كرتها على الاستدارة ونحوها ، فصار بمقتضى هذه الأقوال يغلط بضلاله
القرآن الكريم مدعيا ان الأرض متحركة.
أفتراه لم يشعر
بأن ما نقله إنما هو قول بعض المفسرين الذين لا نصيب لهم بشيء من التحقيق ، ولم
يفوزوا إلا بكثرة الحفظ ، ولم يكن همهم إلا رسم التفسير من المسموعات بدون تحقيق ،
ويكفي في بطلان هذا التفسير ان التضاريس في الكرة والدولاب ادعى لحركتهما على
الاستدارة بواسطة ما يصادم التضاريس من القوى ، ثم إذا كانت الكرة على عظم حجمها
قابلة للحركة الى فوق او الى اليمين ونحو ذلك.
فهل ترى التضاريس
الجزئية التي هي من طبيعتها تمنعها عن الحركة ... ومما يوضح فساد هذا التفسير وانه
تقول على القرآن بدون علم ، هو ان الميدان لغة وعرفا ليس من نحو تحرك الكرة على
الاستدارة أو الاستقامة ، وإنما هو حركات متضادة الى جهات مختلفة على التتابع
بواسطة القاسر العنيف ، كالزلزال والرجيف.
وهب ان القرآن
الكريم كلام واحد من الناس ، فهل يحسن ولا يقبح لك ان تعترض عليه بتفسير غيره ، أو
إنما يحسن لك ان تأخذ تفسيره من ذات المتكلم أو من الحقائق المنطبقة عليه.
ولكن المتكلف رأى
ان الهيئة الجديدة رائجة حتى ان غالب المعاصرين يعدونها زعيمة ببيان الحقائق على
ما هي عليه ، ويعدون مخالفتها من الغلط ، فصار يحاول ان يموه على الناس ان فلسفة
القرآن الكريم مخالفة لها .. ولما كان القرآن الكريم يصادمه ، والحقائق البينة
تجبهه التجأ الى التمويه بقول بعض المفسرين.
وهاك دلالة القرآن
، وبيان الحقائق لكي تعلم ان فلسفة القرآن لا يمكن ان تصدر من مثل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بغير الوحي الالهي فاعلم ان الميدان ليس هو الحركة مطلقا ،
وإنما هو التزلزل والتزعزع بالحركات المتفاوتة الى جهات مختلفة على التتابع بواسطة
القاسر فهو غير الحركة الطبيعية التي تثبتها الهيئة الجديدة للأرض ..
ولكن لما اقتضت
الحكمة الالهية ايداع الحرارة المتحركة وأبخرة البحار في جوف الأرض لكي تتولد
بسببها المعادن والفلزات ، وتتصعد بها مجاري العيون لعمارة المسكونة ، جعل لها
منافذ مرتفعة عن السطح المعمور وفتح فيها بحكمته أفواه البراكين ، ومنافذ الينابيع
، وتعاهد بالمطر ودوام الثلج عليها فتح مسامها ، كل ذلك لكي تتوجه إليها بسبب
ارتفاعها وانفتاح منافذها تلك القوى النارية السيارة في جوف الأرض لتنفذ من خلالها
بدون ان تصدم بعاديتها شيئا من المعمور ، ولو لا ذلك لاستدام الزلزال في السهل
المعمور واستمر الميدان وسلب القرار بسبب ميل القوى النارية الى الخروج من الارض
بحدتها العنيفة فيعم الضرر في المعمور وساكنيه بشيوع الزلزال ، فالجبال من اجل هذه
الحكمة البالغة هي المانع من شيوع الزلزال في الأرض والحافظة لها من ان تكون
مائدة.
ألا ترى القوى
النارية مع هذه المنافذ لها في الجبال كيف تزلزل سطح المعمور وتميده إذا اقتضت
الحكمة خروجها منه ، بل قد يستتبع خروجها منه الخسف والانفجار الناري والمائي.
ولعل الحكمة في
ذلك ارهاب الخلق به لئلا يأمنوا بطش الله فيطغوا ويبغوا ، واشعارهم بالنعمة عليهم
بخلق الجبال وحكمتها البديعة في كونها حافظة للمعمور من هذا البلاء العظيم ، كما
صرح بذلك القرآن الكريم فأظهر الله حكمته ورحمته وامتن على الناس بحفظهم من ميدان
الأرض المزعج المخرب فضلا عن الخسف والانفجار ..
بل قد تساعد
الفلسفة والاعتبار على ان نقول : ان الجبال بطبعها موجبة لميل القوى النارية إليها
والخروج منها ، وإن كانت صخرية ليس فيها براكين ولا ينابيع.
وقد امتن الله
أيضا على عباده بجعل الجبال راسية في مواطنها
لاجراء حكمتها ،
ودوام النعمة بوجودها ، فلا تزعزعها القوى النارية كما تزعزع سطح الأرض ، ولو لا
القوة التي اودعها الله فيها لاقتضى نفوذ القوى النارية منها على الدوام أن يحللها
ويزعزعها ويلاشيها ، جلت حكمة الله وعظمت آلاؤه ، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
وقال الله تعالى
في سورة الحجر ١٩ وسورة ق ٧ (وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها) وفي سورة نوح ١٨ (وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ..) والمراد من ذلك انه جل اسمه وعظمت نعمته جعل الأرض ذات
ارجاء واسعة ممتدة وسهول منبسطة رحيبة ، فلم يضق رحبها ، ولم تستوعر كلها على
ساكنيها بتضاريس الحزون وأسنمة الجبال ، وان مد الأرض وبسطها بهذا المعنى لا ينافي
كرويتها التي لا تدرك إلا بدقة الرصد وكلفة البرهان ..
وقد جاء في العهد
القديم الباسط الأرض على المياه «مز ١٣٦ ، ٦» باسط الارض «اش ٤٢ ، ٥ و ٤٤ ، ٢٤» هل
أدركت عرض الارض اخبرني ان عرفته كله «أي ٣٨ ، ١٨» ، وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة
واقفين على اربع زوايا الارض «روء ٧ ، ١ و ٢٠ ، ٨» ، وهذا يقتضي كون الأرض مسطحة
مربعة ذات زوايا أربع.
وأظن ان هذا
الكلام هو الذي دعا جماعة كثيرين من قدماء المسيحيين الى تكفير من
يقول بكروية
الارض.
ومع هذا كله يقدم
المتكلف «يه ٢ ج ص ٨٤» بقبيح جرأته على القرآن الكريم فيما ذكرنا ، ويعترض عليه
بأن مضمونه مناف لكروية الأرض ، وقد عرفت انه ليس فيه شيء من المنافاة ، وان ما في
العهدين أولى بالمنافاة ، وليت شعري ان الذي لا يفهم الكلام ولا يدري بما في كتب
دينه لما ذا يقتحم مهالك البحث فيقع في فضيحة الجهل فضلا عن ضلال الكفر ولما ذا لم
يكتف بالأكل من أرزاق الجمعيات كسائر المبشرين ..
فإن حاول التقرب
الى الجمعيات بالتمويه والتلبيس ، فانها لا تجبره على ذلك ، وإنما تتوقع منه ما
يرفع ذكرها ، لا ما ينبه الغافلين على جهل المبشرين بكتب دينهم وعدم تماسكهم في
امرهم إلا بالتزوير والتمويه.
قال الله تعالى
شأنه في شأن ذي القرنين في سورة الكهف ٨٤ (حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ).
فاعترض المتكلف
على ذلك «يه ٢ ج ص ٩١» ، وجعله من الجهل بمبادىء علم الفلك.
«قلت» : لا يخفى
ان المغرب أمر مبهم إضافي ، وان لكل ناحية مغربا وهو ما تغيب فيه الشمس عن تلك
الناحية ، والمغرب العمومي للمعمور القديم وهو «آسيا وافريقيا واوربا» إنما هو
البحر المحيط ، فالشمس لا تغرب عن المعمور المعتد به من هذه القطع الثلاث إلا
ويكون تمام غروبها أو بعضه في البحر المحيط.
والآية الكريمة
تعرضت لسر الغيب الذي أظهره الاكتشاف بعد قرون عديدة ، وجرى التعبير في الآية عن
البحر بالعين مجازا ، كما جرى التعبير في بليغ الكلام عن الفرات بالنطفة «وهي
القطرة من الماء ونحوها» وهو من محاسن المجازات في مقامها ، وبوصف هذه العين
بكونها حمئة ذات طين قد اشير الى غيب «امريكا» لأنه لا يكون تخصيص هذا البحر ،
ووصفه بكونه ذا طين إلا باعتبار الإشارة الى امريكا ، فلا تحسب ان وصف البحر بكونه
ذا طين كان باعتبار وجود الطين في قراره أو حافاته وشواطئه ، لأن كل بحر وكل نهر
وكل عين لا بد ان يكون في حافاته وقراره طين ، فلا بد أن يكون المراد هو الطين
الذي في وسطه.
ومقتضى المناسبة
في وصف المحيط العظيم بأن في وسطه طينا لا بد أن يكون المراد منه قطعة امريكا ، ألا
ترى ان اقل الأقطار لهذا المحيط يبلغ مائة وثمانين درجة ، كما في ناحية الدرجة
السادسة والستين وما قاربها من العرض الشمالي ، فما ظنك بالطين المناسب لوصف هذا
البحر به ، أتراه يناسب ان يكون غير امريكا.
«فإن قلت» : إذن
فلما ذا عدل عن إيضاح هذه الحقيقة بالصراحة إلى الإشارة إليها بهذه الإشارة وهذه
العبارة «قلنا» : ان حكمة الوحي في دعوته إلى الهدى ودين الحق لتقتضي أن لا يلقي
على أذهان الناس شيئا يثقل عليها
بمخالفته
لقطعياتهم الوقتية إلا أن يكون في أمر الدين وتعليم الشريعة ، فإن الدين المدعو
إليه أثقل ما يكون على الأهواء والجهالات المألوفة ، فلا يصح في الحكمة أن يلقى
أيضا على أذهان الناس صراحة ينكرونها بجهالاتهم مع انها لا يهم أمرها في الدين
الذي هو الغرض من الدعوة ، فإن ذلك معثرة في سبيل الهدى وناقض للغرض من الدعوة.
ألا ترى انه قد
ذهب قوم في الاعصار القديمة إلى ان الارض كشكل السفينة الطافية على الماء ، وذهب
آخرون الى تكفير من يقول بكرويتها ، أفترى يحسن مع ذلك في حكمة الوحي أن يضاد
أذهانهم بالصراحة بوجود امريكا ، ألم تسمع ان «كولمبيوس» لما عرض على الدول أفكاره
في اكتشاف الطريق البحري من اوربا إلى الصين لم يحتفلوا برأيه إلا بالتسفية ،
وإنما أسعفته ملكة اسبانيا من خالص مالها التزاما بوعدها ، فأسعده الجد بالعثور
على امريكا من حيث لا يحتسب.
هذا مع أن كروية
الأرض المقتضية لتصحيح أفكاره وتصويب مشروعه كانت مقررة مسلمة في ذلك الوقت.
والحاصل ان الحكمة
اقتضت للقرآن الكريم أن يشير إلى حقيقة امريكا في البحر المحيط بنحو لا يصادم
الجهل ، بل بإشارة يسطع نورها ، ويتضح مرادها عند انكشاف الحقائق للحس في الأعصر
التي يترك فيها التقليد للاسلاف في الطبيعيات ، ونسأل الله برحمته ولطفه أن يوفق
عباده لترك التقليد في معارف الدين ، وهو القائل جل شأنه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، ولك العبرة في حسن هذا المجاز في هذه الإشارة ولطف
اسلوبه ومناسباته وجريانه على مقتضى الحكمة في الإشارة الغيبية في ذلك العصر فانه
يظهر ذلك كله عند المقايسة بما يذكره الإنجيل الرائج عن قول المسيح في خطاب اليهود
انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة ايام اقيمه ، فأنكر اليهود ذلك أشد الإنكار ،
والإنجيل يقول : انه قال ذلك عن هيكل جسده ، ولما قام من الأموات تذكر تلاميذه انه
قال : هذا «يو ٢ ، ١٩ ـ ٢٢» ، وبقي هذا الكلام مجهولا حتى جعله اليهود باعتبار
ظاهره من الذنوب التي تشبثوا بها في حادثة الصليب «مت ٢٦ ، ٦١
و ٢٧ ، ٤٠» ، هذا
وزعم الإنجيل أيضا ان المسيح خاطب التلاميذ في مقام التعليم المضيق وقته بقوله :
تحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين ، وهو يريد بذلك تعليم الفريسيين والصدوقيين
بعدوى اخلاقهم برذيلة الرياء والاخلاق الذميمة ، فنسب إلى المسيح انه أتى في مقام
التعليم الديني المضيق بمجاز لا مناسبة له ولا يخطر المراد منه على البال حتى تحير
التلاميذ فيه وصاروا يتفكرون ويتحاورون في اوهامهم «انظر مت ١٦ ، ٦ ـ ١٢ ومر ٨ ،
١٥ ـ ٢١» مع ان التعليم الديني هو اولى المقامات بالصراحة والبيان الشافي.
الفصل الثالث
في السماوات
قال الله تعالى في
سورة المؤمنين ٨٨ : (قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
وفي سورة الطلاق
١٢ : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ).
فتشبث المتكلف
بالهيئة الجديدة لجرأته بالاعتراض على القرآن الكريم في هذا المقام «فانظر يه ٢ ج
ص ٢٦».
وان الهيئة
الجديدة لو طابقت الواقع لما خالفت القرآن الكريم ، فاعلم ان اصحاب فن الهيئة
وجدوا كواكب مرئية بعضها ساكن أو شبيه بالساكن ، وبعضها له حركات على الاستدارة
موزونة متناسبة في تكرارها ، فحاولوا ان يجعلوا لتلك المتحركات اوضاعا تناسب تلك
الحركات وتنطبق عليها ، ولا تخرج عما عندهم من المقدمات ليجعلوا من ذلك ميزانا
لبيان تلك الحركات ومقاديرها وآثارها ، وأحوال تلك الكواكب المتحركة بعضها مع بعض
من حيث المحل والقرب والبعد.
فالمتقدمون
استخرجوا وضعا للمتحركات مناسبا لتلك الحركات وبنوه على الحدس من مقدمات حسابية
وهندسية واستحسانية وملاحظة الكاسف والمنكسف واقتضاء الحركات والتحريك ، وامتناع
الخلاء ، والخرق والالتئام في
الفلك ، وعدم
الفضل في الأفلاك ، ولو أدت بهم المقدمات التي عندهم إلى وضع آخر مناسب لما
امتنعوا عنه إذ لم يشاهدوا تلك الأوضاع التي بنوا عليها ، ولا يستندون في ذات
الوضع إلى الحس.
والمتأخرون منعوا
كثير من مقدمات المتقدمين فتوجهوا بما عندهم من المقدمات والاستعداد إلى استخراج
وضع آخر يناسب الحركات المذكورة ولا تحسب ان نظاراتهم دلتهم على الوضع الذي يقولون
به ، وإنما أدت بهم إلى توسعة دائرة الاحتمال والتخمين في أحوال ذات الكواكب ،
فانظر إلى مقالاتهم ومباحثاتهم في هذا الفن.
نعم استخرجوا بها
كواكب خفية ، ومن جملتها ثلاث سيارات سموها «فلكان» و «اورانوس» و «نيطون» فأثبتوا
لها ثلاثة افلاك ، ثم انهم بتخمينهم جعلوا الكواكب اكر قائمة بنفسها في الخلاء
وإنما الأفلاك عبارة عن دوائر متوهمة من استدارتها في الخلاء ، وجعلوا الشمس هي
المركز لأفلاك الكواكب السيارة ، كما جعلوا الأرض من السيارات حول الشمس ، وجعلوا
القمر او الأقمار ليست بسيارات مستقلة وإنما هي توابع لسيارات اخر تدور عليها كما
تدور بمدارها.
ولا تنفك مقدماتهم
فيما ذهبوا إليه عن الحدس والتخمين كما تعرفه من مباحثهم ومباحثاتهم في ذلك ، مع
ان من مقدماتهم ما هو قابل للمنع ، او غير مستلزم للمدعى.
وانا وان منعنا
على القدماء حكمهم بامتناع الخلاء فان جوازه لا يستلزم كون الأفلاك عبارة عن دوائر
خلائية يفرضها الوهم في مدار السيارات ، بل يجوز ان تكون الأفلاك أجراما شفافة لا
تحجب ما وراءها ولطيفة لا لون لها ، ولا تتلون بغيرها ، ويجوز في طبيعتها الخرق
والالتئام ، بل ان سعادة التوفيق للاعتقاد بوجود الإله القادر الحكيم مما يوضح
فساد القول بامتناع الخرق والالتئام.
والحاصل ان كلا من
وضعي الهيئة القديمة الهيئة الجديدة ممكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه ،
ولكنه يمكن أن يتعداه التحقيق والبحث في
المقدمات إلى وضع
ثالث ورابع وهكذا ، فلا يحسن الجزم بأحد الوضعين المذكورين بجميع تفاصيله المدونة
إلا بالمشاهدة التفصيلية للجزئي والكلي ، او بالتفصيل من صراحة الوحي ، ولكن
الحكمة الالهية لم تقتض أن يتولى الوحي بصراحته تفصيل ذلك بجميع أنحائه جزئيا
وكليا ، بل مقتضى الحكمة الالهية واللطف في حصول الغرض من الدعوة هو ان لا يبين
حقيقة ذلك على الدقة والتفصيل لئلا يتمرد على الدين الذي هو الغرض من سولت له
أوهامه وقطعيات وقته خلاف ما يذكره الوحي ، فيكون بيان غير المهم معثرة في سبيل
المهم.
ولا يسع المقام
للمناقشة في المقدمات التي استندوا إليها في كل من الهيئتين ، ومع هذا كله فالقرآن
الكريم لم يصرح بخلافهما لئلا يجترئ المغرور باحداهما على الاعتراض بجهله وإلحاده
على كلام الله ، فتكون الصراحة معثرة في سبيل الايمان.
وان قوله تعالى : (سَبْعَ سَماواتٍ) و (السَّماواتُ السَّبْعُ) لا يمتنع انطباقه على كل واحدة من الهيئتين أعني القديمة
والجديدة ، فيمكن أن يقال على الهيئة القديمة ان السموات السبع هي افلاك السيارات
السبع ، وان فلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى في سورة البقرة ٢٥٦ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) وان الفلك الأطلس المدير على ما زعموا هو العرش في قوله
تعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
ويمكن ان يقال على
الهيئة الجديدة ان السموات السبع هي افلاك خمس من السيارات مع فلكي الأرض و «فلكان»
والعرش والكرسي هما فلكا نبطون واورانوس ، وأما الشمس فهي مركز الأفلاك ، والقمر
تابع للأرض وفلكه جزء من فلكها ، هذا كله في مقابلة من اشرب في قلبه إحدى الهيئتين
، والله أعلم بحقيقة الحال.
وأما الأرض فلم
تذكر في القرآن الكريم إلا مفردة ، نعم قال جل اسمه (خَلَقَ سَبْعَ
سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ، وهو يحتمل وجوها ثلاثة :
الأول : ان يراد
مثلهن في الطبقات باعتبار اختلاف طبقات الأرض في
بدائع الحكم
والآثار.
الثاني : ان يراد
مثلهن في عدد القطع والمواضع المعتد بها «كآسيا» و «اوربا» و «افريقيا» و «امريكا
الشمالية» و «امريكا الجنوبية» ، و «استراليا» ، ، وارض لم تكتشف بعد ، او لاشتها
الحوادث البحرية بالكلية ، أو بقي منها ما لا يعتد به ، أو هي ما تحت القطب
الجنوبي ، على ما يظن البعض.
الثالث : ان يراد
بالمماثل للسماوات هو غير ارضنا بل ما هو من نوعها فيراد منه ذات السيارات على
الهيئة الجديدة ، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يظهر للاكتشاف ، والله أعلم
بحقيقته.
وبما ذكرناه يظهر
لك غلط المعترض على القرآن الكريم بالهيئة.
ولئن صح الاعتراض
بالهيئة فان العهدين الرائجين هما المخالفان للهيئة القديمة والجديدة.
فقد جاء في
التوراة وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلا بين مياه ومياه فعمل الله
الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد ، وكان كذلك ودعا
الله الجلد سماء «١ تك ١ ، ٦ ـ ٩» ، وبهذا الكلام صرحت بمخالفة الهيئة القديمة حيث
حكمت بأن السموات فوقها مياه ، وانها فاصلة بين المياه التي فوقها والمياه التي
تحتها.
وكذا قول المزامير
يا أيتها المياه التي فوق السموات «مز ١٤٨ ، ٤» وخالفت الهيئة الجديدة حيث قالت في
أصل العبراني بدل الجلد «رقيع» وهو الشيء المبسوط «انظر في الأصل العبراني مز ١٣٦
، ٦ ، واش ٤٢ ، ٥ و ٤٤ ، ٢٤».
وعلى ذلك جاء قوله
الذي ينشر السموات كسرادق أو يبسطها كخيمة للسكن «اش ٤٠ ، ٢٢» وعلى ذلك أيضا جاء
ان السموات تلتف كدرج «اش ٣٤ ، ٤» وكالدخان تضمحل «اش ٥١ ، ٦» وتنحل ملتهبة «٢ بط
٣ ، ١٢» وهي والأرض تبيد وكلها كثوب تبلى كرداء تتغير «مز ١٠٢ ، ٢٥ و ٢٦» ، وانها
انفتحت «مت ٣ ، ١٦» وانشقت «مر ١ ، ١٠» وانفلقت كدرج ملتف «روء
١٦ ، ١٤» وهذه
السموات المذكورة هي التي جعلوها في الهيئة الجديدة عبارة عن المداراة الموهومة
للسيارات في الخلاء ، فلا يصح وصفها بالأوصاف المذكورة في العهدين.
وجاء في المزامير
ان الشمس مثل الختن «اي العريس» الخارج من حجلته ، تبتهج مثل الجبار للسباق في
الطريق من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيها «مز ١٩ ، ٥ و ٦» وهذا مخالف
للهيئة القديمة فان المقرر عند اصحابها ان الشمس ومدارها في السماء الرابعة لا في
اقصى السموات ولا إلى أقاصيها ، ومخالف للهيئة الجديدة أيضا لأن الشمس عند اصحابها
مركز للسماوات لا تدور وليس مدارها إلى أقصى السموات بل السيارات تدور عليها بخلاف
قول العهد القديم الشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق «جا ١ ، ٥».
«فإن قلت» ان
المتكلف يزعم ان الهيئة الجديدة مبنية للحقائق الواقعية وزعيمة بالصواب.
ويزعم ان كتب
العهدين الرائجين كلام الله السميع العليم ، فما ذا يصنع أذن في هذه الاختلافات
الصريحة؟ «قلت» : إنما يتحير في ذلك من يتكلم بميزان ، وأما من لا يبالي فلا يعسر
عليه ان يقول وعلى كل حال فلا مخالفة ، كما لهج في مبحث النسخ بقوله : وعلى كل حال
فلا ناسخ ولا منسوخ.
الفصل الرابع
في دفع اوهام الاعتراض على قصص القرآن
الكريم وتاريخه
«صدر ، وتمهيد»
اعلم أن أكثر
اعتراضات المتكلف في هذا المقام يتشبث فيها بخلو العهدين الرائجين مما يذكره
القرآن الكريم أو بمخالفته لهما ، فاقتضى ذلك أن نذكرك قبل الشروع في رد شططه ،
ونعيد على ذهنك إجمالا ما ذكرناه في المقدمة الخامسة عن كتب العهد القديم من
ارتدادات بني اسرائيل ويهوذا وملوكهم في الشرك حتى ان مملكة بني اسرائيل كادت ان
تتمحض للوثنية ، ومملكة يهوذا يكاد نور التوحيد فيهم أن يتلاشى ، ثم تبدو منه
ذبالة تخفق بها الأهواء. ومن جملة شئونهم في ذلك ان هدموا بيت المقدس وصيروا كل
أقداسه للبعليم «اصنام» ثم عادوا بعد ترميمه فأغلقوا أبوابه وأبواب الرواق وأطفئوا
السرج ولم يوقدوا بخورا ولم يصعدوا محرقة ، وجعلوا الآلهة الغريبة في بيت المقدس
وعكفوا على ضلالات المشركين وعوائدهم القبيحة حتى كان فيهم مأبونون يسميهم العهد
القديم «قديسيم ، قديسين» «وهم ذكور ينذرون انفسهم للأوثان لكي يلاط بهم» واستمرت
هذه العادة القبيحة تتفاحش وتقل من أيام «رحبعام» ابن «سليمان» «١ مل ١٤ ، ٢٤» الى
أيام «يوشيا» حتى جعلوا بيوتهم عند بيت المقدس فهدمها «يوشيا» «٢ مل ٢٣ ، ٧» ،
ومضت لبني اسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق ، ولا كاهن معلم ، ولا توراة ، وبيت
المقدس بينهم عرضة للنهب والتخريب ، والتنجيس ، وجعل الأوثان فيه حتى إذا مضت ثمان
سنين من
ملك «يوشيا» وطهر
بيت المقدس وأراد ترميمه جاء «حلقيا» الكاهن بكتاب يزعم انه سفر التوراة ، وقد
وجده فقرأ فيه «يوشيا» ما لم يكن يعرفه ولا يعهده فطار به فرحا ، واحتفل به هو
وبنو اسرائيل احتفالا عظيما إذ سمعوا منه ما لم يكونوا يعرفونه ولا يعهدونه مع ان
العادة والاعتبار الصحيح يمنعان ان يكون «حلقيا» وجده في المكان الذي زعم انه وجده
فيه ، فمن ذلك الزمان تكون توراة بني اسرائيل هي بنت «حلقيا» المولدة في حجره.
ثم تمادى بنو
اسرائيل بعد ذلك في تقلباتهم في الشرك إلى أن سباهم «بخت نصر» الى بابل ، فقضى ذلك
عليهم ان أثكلهم توراة «حلقيا» أيضا حتى انهم لما رجعوا من السبي بعد دهر طويل
فزعوا في اعادة ذكرها وتجديد اسمها الى «عزرا» فصار يقرأ عليهم جميعا ما لا
يعرفونه ولا عهد لواحد منهم به ، فلبس اسمها ثوب الوجود بعد العدم أيضا.
وقد ذكرنا هذا كله
مفصلا ، وذكرنا مكابرات المتكلف فيه وبينا شططها في الجزء الأول «صحيفة ٥٦ ـ ٦٠».
ونذكرك أيضا بما
ذكرناه في المقدمة السادسة من وجوه الخلل ، وخصوص شهادة «ارميا» النبي على بني
اسرائيل بتحريف كلام الله وتحويلهم توراة الله الى الكذب بكذب قلم الكتبة واستغاثة
«اشعيا» النبي من تحريف اليهود واستعظامه لذلك ، وخصوص ما ذكرناه من تحريف المطابع
والتراجم فراجع الجزء الأول وخصوص الصحيفة ٦٨ ـ ٧٠.
ونذكرك أيضا بما
مر في متفرقات الكتاب ، مما يمتنع من كتب العهد القديم أن يكون من الوحي الإلهي
كما اوضحه البرهان ، ونستلفت نظرك إلى ما يأتي من هذا القبيل.
ونذكرك أيضا بما
حكينا في الجزء الأول «صحيفة ٣٢٥» عن بعض المفسرين المدققين في حكمهم بأن قصة «بلعام»
المذكورة في سفر العدد «ص ٢٢ ـ ٢٤» هي دخيلة في التوراة ، أي ليست منها وإنما
أدخلها عبث الكذب.
ونستلفت نظرك الى
ما نقله إظهار الحق في الباب الثاني عن مفسري
النصارى في حكمهم
بزيادات كثير من فقرات العهدين ، ووجود كثير من السقط والتحريف فراجعه.
نتيجة
ومن هذا كله أو
بعضه تحصل لك شهادة قاطعة من ذات العهد القديم ومعاملة متبعيه معه بأن العهد
القديم أجنبي عن النسبة إلى الوحي ، بعيد العهد به قد استولى عليه التلفيق ،
والخلل ، والتحريف ، والخطأ ، واشتماله على ما لا يعقل ، او يؤول إلى الكفر على
وجه لا يترك لعاقل عليه اعتماد ولا يتداركه مغالطة مكابر.
التنبيه المقصود هاهنا
ونزيدك هاهنا على
ان ننبهك على امور داخلية في العهد القديم تكشف لبصيرتك حق اليقين ، وهو ان اصله
العبراني الرائج إنما هو مأخوذ من نسخة وحيدة لا ثانية لها ، وهي مملوءة بالغلط
والسقط ، ولكنهم لا ملجأ لهم سواها ، بل اغتنموا وجودها بعد العدم الكلي تجديدا
للاثر الدارس وتعبدوا باتباعها في وضعها ورسمها وغلطها الفاحش ، والامور العرضية
الخالية عن الفائدة في وضع الكتابة.
ومع الالتفات الى
هذا كله أو بعضه لا يمكن للذهن الصافي من الشوائب أن لا يتيقن بأن الرائج من
التوراة العبرانية ليس مأخوذا عن النسخة التي كتبها «موسى» وسلمها للكهنة وشيوخ
بني اسرائيل وأمر بوضعها بجانب التابوت «تث ٣١ ، ٩ ، و ٢٤ ، ٢٧».
ولا مما يشابه هذه
النسخة ، إذ لا يعقل ان ما كتبه «موسى» أو كتب بمراقبته يشتمل على هذه الأغلاط
الفاحشة.
وكذا الكلام في
باقي العهد القديم فانه لا يمكن أن تكون كتابات الأنبياء او ما يكتب بمراقبتهم
يشتمل على مثل هذه الأغلاط الفاحشة.
بل يحصل لك اليقين
بأن بني اسرائيل حينما حرصوا على اتباع هذه
النسخة وتعبدوا
بصورتها المشوهة لم يكونوا يجدون غيرها ، بل حينما ظفروا بها اغتنموا بها تجديد
الاسم لما اندرس من آثار سلفهم فأكرموا وحدتها بالتعبد بصورتها لكي يتداركوا
بإفراطهم في الجمود تفريط اسلافهم في التقلب والتلون في الديانة حتى استأثر العدم
بكتب الوحي وعادت نسيا منسيا ، ولم يتعرضوا لتلك الأغلاط إلا بالإشارة إلى صحيحها
في الحواشي ، وتركوا المتن على سقمه ، ولكن المترجمين اعرضوا عن مراعاة المتن
وطابقوا بتراجمهم تصحيح الحواشي ، فطابق أنت بين الأصل العبراني ، والتراجم لكي
يتضح لك الحال ولا تغتر وتحسب ان الأصل على ما هو موجود في التراجم.
ولنذكر لك ذلك في
موارد :
المورد
الأول : ان الحواشي ذكرت
نقصان الحرف في الأصل العبراني من العهد القديم في أكثر من ستة وأربعين موضعا منها
في خصوص التوراة احد عشر موضعا وأشاروا الى ذلك في الحاشية بذكر الحرف ولفظ «حسر».
المورد
الثاني : ذكروا زيادة الحرف
غلطا في مائتين وثلاثة عشر موضعا ، أربعة منها في خصوص التوراة ، وأشاروا إلى ذلك
بذكر الزائد ، ولفظ «يتير».
المورد
الثالث : انهم وجدوا بعض
الكلمات او الحروف منقوطا عليها بغير النقط التي هي علامات الحركات والسكنات
المسماة في العبرانية «طعميم» وذلك اما علامة المحو والضرب على الكلمة او الحرف ،
واما أن تكون لغوا من غلط الكاتب وذلك في احد عشر موضعا في العهد القديم ، سبعة
منها في خصوص التوراة ، وقد أشاروا إلى ذلك في الحاشية بذكر المنقوط عليه ولفظ «نقود».
المورد
الرابع : انهم وجدوا في
المتن حروفا هي اكبر من اخواتها بلا خصوصية ولا إشارة ، فتعبدوا برسمها كبيرة ،
وذلك في ثلاثة وثلاثين موضعا ، خمسة عشر منها في خصوص التوراة ، فأشاروا في
الحاشية برسم الحرف الكبير ولفظ «رباتي».
المورد
الخامس : انهم وجدوا أيضا بعض
الحروف اصغر من اخواتها بلا خصوصية ولا اشارة أيضا فتعبدوا برسمها صغيرة ، وذلك في
سبعة وعشرين
موضعا ستة منها في
خصوص التوراة ، وأشاروا الى ذلك برسم الحرف ولفظ «زعيرا».
المورد
السادس : قد ذكروا في حاشية
الأصل العبراني أكثر من ألف موضع تكون فيه القراءة على خلاف المكتوب في المتن ،
وذلك يرجع الى تصحيح الأغلاط الواقعة في المتن من حيث التذكير والتأنيث ، والافراد
والتثنية ، والجمع ، وابدال بعض الحروف ببعض غلطا ، وسقوط بعض الحروف وتقديم بعضها
على بعض غلطا ، وأشاروا الى ذلك في الحاشية بذكر القراءة الصحيحة ، ولفظ «ق» أو «قرى»
، وقد وقع من ذلك في خصوص التوراة ما يزيد على سبعة وسبعين موضعا.
ولأجل شهادة الحال
وسوق الكلام ومعلومات اللغة على غلط المتن جرت التراجم على طبق الحواشي إلا نادرا
، وهذا من المترجمين أيضا شهادة وتصديق على غلط الأصل العبراني.
انموذج هذا المورد
ولنذكر لك من هذا
المورد انموذجا من التوراة ، وسائر العهد القديم في مواضع :
١ ـ اختلاف حروف الكلمة واسقاط بعضها.
فقد جاء في
التوراة اسم بلدة من البلاد مرة «صبيم» بباء مضمومة وياء واحد «تك ١٠ ، ١٩» وسميت
مرة اخرى «صبييم» بباء مضمومة وياءين «تك ١٤ ، ٢ و ٨» ، والذي عليه التراجم وتصحيح
القراءة في الحاشية هو إثبات الواو بعد الباء.
وأيضا تسمى الامة «جوى»
والامم «جوييم» «انظر تك ١٥ ، ١٤ و ١٤ ، ١ و ٩» ، ثم جاء فيها «جيم» بإسقاط الواو
وضم الياء الاولى «تك ٢٥ ، ٢٣» وصحح في الحاشية بلفظ «جويم» بالواو وياء واحدة ،
وأيضا كتبت «يسجدون» المسند للجماعة مرة «يشتحوو» بواوين مع تشديد الأخيرة ومرة «يشتحو»
بواو واحدة ، «انظر تك ٢٧ ، ٢٩» ، وصححت الأخيرة في الحاشية بواو ثانية.
٢ ـ زيادة لفظ «لو» بحيث لا معنى لوجودها «تك ٢٩ ، ٢٨».
٣ ـ ابدال الواو التي هي ضمير المذكر الغائب بالألف فتكون «لو»
بمعنى «له» «لا» فينعكس المعنى وينقلب المراد انقلابا فاحشا «انظر خر ٢١ ، ٨ ، ولا
١١ ، ٢١ ، و ٢٥ ، ٣٠» ، وصححت في الحواشي وجرت التراجم على مقتضى التصحيح.
ثم لنستدرك على
الحواشي بعض الأغلاط التي اهملت تصحيحها ، ونقتصر في ذلك على الأسماء الأعلام :
وذلك ان التوراة
ذكرت اسم واحد من أبناء «شمعون» ابن «يعقوب» فكتبت اسمه «يموئيل» بالياء في اوله «تك
٤٦ ، ١٠» ثم كتبته «نموئيل» بالنون بدل الياء «عد ٢٦ ، ١٢» ، وكتبت اسم واحد من
أبناء «جاد» ابن «يعقوب» «صفيون» بالياء قبل الواو «تك ٤٦ ، ١٦» ثم كتبته «صفون»
بإسقاط الياء «عد ٢٦ ، ١٥».
وكتبت اسم واحد من
أبناء «بنيامين» ابن «يعقوب» «مفيم» «تك ٤٦ ، ٢١» ، ثم كتبته «شفوفام» بفائين و «شوفام»
بإسقاط الفاء الاولى «انظر عد ٢٦ ، ٣٩».
وكتبت واحدا من
أبناء «بنيامين» أيضا «نعمان» بنونين من أوله وآخره ، ثم كتبته بإسقاط النون من
آخره «انظر عد ٢٦ ، ٤٠» ، وبعكس هذا كتبت واحدا من أبناء «يهوذا» شيلاه» بالهاء في
آخره ، وكتبت واحدا من أبناء «يساكر» «فواه» بالهاء أيضا ، ثم كتبتهما بحذف الهاء
منهما وزيادة النون بدلها «انظر عد ٢٦ ، ٢٠ و ٢٣».
وكتبت واحدا من
أولاد «يعقوب» «شمعون» بالواو قبل النون ، ثم كتبته بإسقاط الواو «انظر عد ٢٦ ، ١٢
و ١٤».
وبعكس هذا كتبت
واحدا من اولاد «روابين» «حصرن» ، ثم كتبته بزيادة الواو قبل النون «انظر عد ٢٦ ،
٥» ، وفي هذا القليل كفاية فان التطويل يؤدي إلى السأم والملل.
ومن انموذج هذا
المورد في العهد القديم كتابة «لو» أي له «لا» فينقلب المعنى من الإثبات الى النفي
«اش ٤٩ ، ٥ و ٦٣ ، ٩» ، ومنه التقلب في كتابة «دمشق» فتارة تكتب هكذا «تك ١٤ ، ١٥
، و ٢ مل ٨ ، ٧» وغير ذلك ، وتارة تكتب «درمشق» بزيادة الراء بعد الدال «١ أي ١٨ ،
٦ و ٢ مل ١٤ ٢٨» ، وتارة تكتب «دومشق» بزيادة الواو المشددة بعد الدال «٢ مل ١٦ ١٠»
، وكتب فيه من اسماء الأعلام «عخان» بالنون في آخره «يش ٧ ، ١٨» ثم كتبه أيضا «عاخار»
بابدال النون بالراء وزيادة المد «١ أي ٢ ، ٧» ، وكتب «داود» بكسر الواو ، و «يورام»
«٢ صم ٨ ، ١٠» ، ثم كتبهما «داويد» بزيادة الياء و «هدورام» «١ أي ١٨ ، ١٠» ،
وربما يقع التعرض لكثير من ذلك إن شاء الله فلنقتصر في الأنموذج على هذا المقدار.
المورد
السابع : قد اشارت الحواشي
إلى ان سبع كلمات في العهد القديم قد زيدت فيه غلطا ، حيث نصت على انها كتبت وهي
لا تقرأ ، وذلك لاختلال المعنى بوجودها ، كما هو ظاهر ، وهي هذه «١ ـ ٤» «أم» «٢
صم ١٣ ، ٣٣ ، و ١٥ ، ٢١ ، وار ٣٩ ، ١٢ ورا ٣ ، ١٢ (٥) «ات» ار ٣٨ ، ١٦ (٦) «يدرك» ار ٥١ ، ٣ (٧) «حمش» حز ٤٨» ، ١٦».
المورد
الثامن : وأشارت أيضا الى
ان عشر كلمات فيه قد سقطت منه غلطا ، حيث نصت على انها تقرأ وهي غير مكتوبة وهي
هذه :
١) «بني» قض ٢٠ ، ٣.
٢) «الفرات» ٢ صم ٨ ، ٣.
٣) «ايش» ٢ صم ١٧ ، ٢٣ ،.
٤) «كن» ٢ صم ١٨ ، ٢٠.
٥) «صيبائوت» ٢ مل ١٩ ، ٣٧.
٦) «بنيو» أي ابنا ٢ مل ١٩ ، ٣٧.
٧) «بائيم» ار ٣١ ، ٣٧.
٨) «له» أي لها ، ار ٥٠ ، ٢٩ ، «٩
و ١٠»
«إليّ» ر ٣١ ، ٥ و ١٧».
المورد التاسع :
قد استدركت الحواشي على الموجود في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر «يشوع» عددين محلهما
بين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من المتن ، ونص معربهما «ومن سبط روابين
باصر ومسرحها ويهصه ومسرحها ، وقد يموت ومسرحها وميفعه ومسرحها اربع مدن» ،
والتراجم الموجودة ادخلت هذا في نفس المتن ، وهذا بعينه موجود في الأصل العبراني
من سفر الأيام الاول «٦ ، ٦٣ و ٦٤».
ففي الحواشي
والتراجم وسفر الأيام الاول شهادة مرغمة بالنقصان في سفر يشوع العبراني.
ويشهد لذلك أيضا
ان هذا الأصل بذاته صرح بأن المدن المعطاة لبني مراري اثنتي عشرة «يش ٢١ ، ٣٩» ،
مع انه لم يعد الاثمان مدن «يش ٢١ ، ٣٤ ـ ٣٩».
وصرح أيضا بأن مدن
اللاويين ثمانية وأربعين «يش ١٢ ، ٣٩» مع انه لم يعد إلا أربعا وأربعين «يش ٢١ ، ٣
ـ ٣٩».
ويشهد لذلك أيضا
ان باصر قد أفرزها «موسى» من سهم بني روابين مدينة للملجإ تكون للاويين كما افرز «راموت»
من سهم الجاديين وجولان من سهم المنسّايين «تث ٤ ، ٤٣».
وذكرت هذه المدن
الثلاث أيضا في «يش ٢٠ ، ٨» فلما ذا لم تذكر «باصر» في الأصل العبراني في عداد
الثمان وأربعين مدينة كما ذكر «راموت» و «جولان» والحاصل ان لزوم السقط في الأصل
العبراني هاهنا من أوضح الواضحات ، وكذا في قول التوراة «تك ٤ ، ٨» وقال قاين
لهابيل وكان بكونهم في الحقل ، وقام قاين الى هابيل أخيه فقتله ، انظر الأصل
العبراني.
وزيادة على وضوح
السقط والنقصان في هذا الكلام قد ذكرنا لك في الجزء الأول صحيفة ٣٧ كيف اضطرب في
هذه العبارة المترجمون ، والنسخة السبعينية والنسخة السامرية ، وان هذه الموارد
لتوضح لك وضوح الشمس في رابعة النهار
ان مأخذ العهد
القديم العبراني وخصوص التوراة لم يكن إلا نسخة وحيدة مغلوطة جدا قد اتبعوا غلطها
فيما تداولوه عنها ، ولم يمدوا إليه يد التصحيح إلا في الحواشي وتركوا المتون على
سقمها حرصا على حفظ الاسم والصورة التي ظفروا بها بعد التلاشي ، وذلك لما هو
المعروف من اضطراب أحوالهم ، كما شرحناه في المقدمة الخامسة عن كتبهم ، وتشهد به
احوالهم المشاهدة من انهم في امور ديانتهم بين تفريط فاحش ، وإفراط هو أفحش منه.
المورد
العاشر : زيادة الفقرات
واعتراضها بين الكلام الذي لا ربط له بها ولا مناسبة فيها لمقامه حتى شوهت وجه
تاريخه المسوق له ، وذلك كالسادسة والسابعة من عاشر التثنية ، فإن عاشر التثنية
بينما يذكر حديث موسى وكلامه في شأن صعوده الى جبل سينا بعد واقعة العجل وما امر
الله به من تجديد اللوحين وافراز بني لاوي لخدمة المسكن ، وحمل التابوت إذ قالت
بلا ربط ولا مناسبة : وبني يسرائل ناسعو مبارت بني ياعقان موساره شم وبني اسرائيل
ارتحلوا من آبار بني ياعقان الى موساره هناك مت هارون ويقابر شم ويكهن العازار بنو
تحتايو ، مشم ناسعو هكد كداه مات هارون وقبر هناك وكهن العازار ابنه بدله من هناك
ارتحلوا الى الجد جداه ، ومن هكد كداه يا طباثاه ارض نحلي مايم.
ومن الجد جداه الى
يا طباثاه ارض انهار ماء.
ومع ان هذه
الفقرات في نفسها غلط صرف بملاحظة منازل بني اسرائيل ومراحلهم بمقتضى الثالث
والثلاثين من العدد المستقصى لذكر مراحل بني اسرائيل ومنازلهم على التوالي
والترتيب من مصر الى عربات مواب ، وسأذكر لك محل الغرض من المنازل على مقتضى
المرسوم في الأصل العبراني ففيه ٣٠ : وارتحلوا من حشمناه ونزلوا بمسروت وارتحلوا
من مسروت ونزلوا بني ياعقان وارتحلوا من بني ياعقان ونزلوا بحر الجدجاد وارتحلوا
من حر الجدجاد ونزلوا بياطباثاه وارتحلوا من ياطباثاه ونزلوا بعبرناة وارتحلوا من
عبرناه ونزلوا بعصين جابر وارتحلوا من عصين جابر ونزلوا ببرية صن هي قادش وارتحلوا
من قادش ونزلوا بجبل الهور بطرف ارض ادوم وصعد هارون الكاهن إلى جبل الهور على قول
الله ومات هناك ، وارتحلوا من جبل الهور ونزلوا بصلمنه الى آخر المنازل
«انظر عد ٣٣ ، ٣ ـ
٤٣».
فقول التثنية ان
بني اسرائيل ارتحلوا من آبار بني ياعقان الى موساره مناقض لقول العدد انهم ارتحلوا
من حشمناه الى مسروت ومنها الى بني ياعقان ومنهم الى هور الجدجاد.
وكذا قول التثنية
ان هارون مات وقبر في موساره ، فانه مناقض لقول التوراة بأنه مات ودفن في جبل
الهور «عد ٢٠ ، ٢٨ ، و ٣٣ ، ٣٨ و ٣٩ وتث ٣٢ ، ٥».
وكذا قول التثنية
انهم ارتحلوا من موساره الى الجدجاد ومنه الى ياطباثاه فانه مناقض لقول العدد انهم
ارتحلوا من بني ياعقان الى حر الجدجاد ومنه الى ياطباثاه ومنها الى عبرناه.
ومن الظرائف ان
مترجم الترجمة المطبوعة سنة ١٨١١ أحسّ بأن ما ذكرناه عن التثنية إنما هو حشو زائد
مخل لا ارتباط له بما قبله وما بعده ، فهان عليه ان يحرّف الكلام ويزيد فيه ما شاء
هواه فلعله يوهم التئام الكلام فعمد الى الفقرتين اللتين ذكرناهما بأصلهما
العبراني وترجمتهما فقال في الترجمة التي هي أشبه بالتشطير والتوشيح ما لفظه ، «ولما»
شفعني في هارون اقام الى ان رحل بنو اسرائيل من بايروت بني ياعقان وموسيرا ، ومات
هارون ثم ودفن وأم العازرا ابنه مكانه لما رحلوا من ثم الى جدجد ومنها الى ياطباثا
أرض ذات اودية ماء.
فأنظر إليه وطابقه
مع ما ذكرناه من الأصل العبراني لكي تعلم ان هذا المترجم كتب توراة جديدة ولم
يتخلص من عدم الارتباط.
ثم نقول : لا يخفى
على من راجع سفر التثنية انه قد اخذ في حديث اللوحين والعجل.
المورد
الحادي عشر : قد ذكرنا في الجزء الأول صحيفة ٣٥ ان الترجمة السبعينية للعهد القديم قد ترجمت
بعناية سبعين أو اثنين وسبعين من علماء اليهود المنتخبين من الملة.
ونقول هاهنا بحسب
القدر المتفق عليه من تاريخها ، والجامع المحصل من منقولاته انه لا بد أن يكون
اجتماع هذا العدد المنتخب من أهل العصر الواحد حجة على أهل الكتاب في نقل كتابهم ،
فانه راجع في الحقيقة إلى انتخاب جامعة الملة وعناية رئاستها الدينية من دون توسط
اضطهاد او الجاء أو أدنى سبب للتغيير ، بل كان الحال يحث على الدقة والمحافظة على
المطابقة كما يشهد لذلك اتفاق التاريخ على ان هذه الترجمة فازت في الملة اليهودية
ورئاستها العلمية الدينية بالاحتفال والقبول والاعتماد.
وتتأكد الحجة بها
على النصارى لأجل ما ذكروه من اعتماد المسيح عليها وانه كان يخاطب اليهود الذين
اجتمعوا يوم الخمسين من الترجمة السبعينية وكذا استفانوس المملوء بزعمهم من الروح
القدس كان يخاطب اليهود منها ، وكذا الذين تشتّتوا في البلاد ليكرزوا بالمسيح.
وكذا المعلمين من
قدماء النصارى «انظر أقلا يه ٣ ج ص ١٧٥ و ٢١٢ و ٤ ج ص ٩٠ ـ ٩٢».
ويشهد لذلك أيضا
اعتماد العهد الجديد عليها في ذكر الفقرات التي اختصت بها دون العبرانية كما سيأتي
ذكره قريبا إن شاء الله.
إذا عرفت ذلك
فنقول : ان النسخة السبعينية هذه تشهد بوجود السقط والزيادة في النسخة العبرانية.
«أما شهادتها
بوجود السقط والنقصان والغلط في العبرانية».
فقد ذكرت فقرات
كثيرة غير موجودة في الأصل العبراني ، ولنذكر لك بعضا منها «وهذه هي» في سفر
التكوين ٤ ، ٨ «تعال نخرج الى الحقل» ١٠ ، ٢٤ «وارفكشاد ولد قينان وقينان ولد شالح».
وفي سفر اللاويين
١ ، ١٠ «يوضع يده على رأسه» ، ٣ ، ١٣ «امام الرب» ٧ ، ٣ «وكل الشحم الذي على
الأحشاء» ١٩ ، ٢٣ «الذي يعطيكم الرب إلهكم» ٢١ ، ٥ «لميت» ٢٤ ، ٧ «وملحا».
وفي سفر العدد ٤ ،
١٤ «ويأخذون ثوبا ارجوانيا ويغطّون به المرحضة
وقاعدتها ويضعون
عليها غطاء من جلد تخس ويجعلونها على العتلة» ، ١٠ ، ٦ «وإذا ضربتم هتافا ثالثة
ترتحل المحلات النازلة الى الغرب ، وإذا ضربتم هتافا رابعة ترتحل المحلات النازلة
الى الشمال» ، ١٤ ، ١٢ «وبيت أبيك» ، و ٤٥ «فرجعوا الى المحلة».
وفي سفر التثنية ٤
، ٢ «اليوم» ٢٠ ، ١٧ «والجرجاشي».
وفي سفر يشوع ٢٤ ،
١٢ «اثني عشر ملكا للاموريين».
وفي سفر القضاة ١٦
، ١٣ «أضعف وأصير كواحد من الناس» ١٩ ، ١٨ «لأنها كانت ميتة» ٢١ ، ١١ «واستبقوا
العذارى ففعلوا هكذا».
وفي صموئيل الأول
١ ، ٥ «لأنه ليس لها ولد» ، و ١٨ «مع رجلها وشربت» ، ١٤ ، ٢٣ «وكل الشعب كان مع
شاول نحو عشرة آلاف رجل وانتشر الحرب في كل مدينة من جبل افرايم» ١٩ ، ٢٢ فاشتعل
غضب شاول. وفي صموئيل الثاني ١٣ ، ٢١ «ولم يحزن روح آمنون ابنه لأنه احبه لأنه
بكره» و ٢٧ «وصنع ابشالوم وليمة كوليمة الملك» ١٤ ، ٢٧ «وصارت امرأة لرحبعام ابن
سليمان فولدت له آبيا» و ٣٠ «وجاء عبيد يواب إليه وثيابهم ممزقة وقالوا قد أحرق
عبيد ابشالوم الحقلة بالنار».
وفي الملوك الاول
١٨ ، ١٢ «وأنبياء السواري أربعمائة» و ٣٠ «كلم ايليا التشتي أنبياء البعل قائلا
حيدوا الآن وأنا اقرب محرقتي فحادوا وذهبوا» ٢٢ ، ٣٥ «من الصباح الى المساء».
وفي الملوك الثاني
١ ، ٢ «وذهبوا لكي يسألوا منه» و ٩ «رئيس الخمسين» ٩ ، ٢٨ «وجاءوا به» ١٠ ، ١٥ «فقال
يا هو إن كان فهات يدك».
وفي سفر «أيوب» ١
، ٢١ كما حسن عند الرب هكذا فليكن ٢ ، ٩ «بعد زمان طويل».
وفي المزامير ١٤ ،
٤ «حناجرهم قبور مفتحة مكروا بألسنتهم سم الأفاعي في شفاههم وهؤلاء افواههم مملوءة
لعنة ومرارة وأرجلهم الى سفك
الدماء سريعة ٦
البؤس والتعبس في سبلهم وطريق السلامة ما عرفوها وليس خروف الله أمام عيونهم».
وصاحب الترجمة
المطبوعة سنة ١٨١١ أدرج هذه الفقرات في الأصل وجعل مزمورها الثالث عشر في العدد ٧٣
، ٢٨ «في أبواب ابنة صهيون» ، ١٤٥ ، ١٣ «الرب أمين في كل أقواله رحيم في كل أفعاله»
و ٢١ «ونحن نبارك الرب من الآن وإلى الأبد».
وفي أمثال سليمان
١٦ ، ١١ «وإن كنت مجتهدا يأتي كينبوع حصادك» وفي اشعيا ٥٣ ، «للموت».
«وأما شهادة
السبعينية بوجود الزيادة في الأصل العبراني».
فانها قد تركت
كثيرا مما فيه فتركت من سفر اللاويين ٢٢ ، ٣١ «انا الرب» ، ومن سفر التثنية ٢٨ ، ٥
«الرض».
ومن كتاب يشوع ١ ،
٢ لبني اسرائيل ، ١٠ «الخامسة عشرة بتمامها» ٢٠ «الرابعة والخامسة والسادسة
بتمامهن» ٢٢ ، ١٢ «لما سمع بنو اسرائيل» ، ومن صموئيل الاول ٢ «الثامنة بتمامها» ٤
، ١٩ «خمسين ألف رجل» ١٣ «الاولى كلها» ١٧ «الحادية والأربعين وكذا الخمسين وكذا
الخامسة والخمسين إلى الثامنة والخمسين» ١٨ «الاولى إلى لفظ الفلسطيني من السادسة
وكذا الثانية عشرة» ٢٣ «الثانية عشرة بتمامها».
ومن صموئيل الثاني
٣ ، ٨ «ليهودا» ٦ «الرابعة بتمامها».
ومن الملوك الاول
٦ «الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة» ، ١٢ «الثانية والثالثة الى لفظ
يربعام» ١٤ ، ٣١ «واسم أمه الى آخرها».
ومن كتاب عزرا ١ ،
٢٩ «عشر».
ومن كتاب نحميا ٤
، ٢٣ «كل واحد ـ إلى آخرها» ، ومن كتاب أيوب ٢٧ ، ١٣ «لو لا» ، ومن كتاب حزقيال ٢٦
، ١٧ «التي كانت قوية في البحر هي وسكانها.
وأما شهادة السبعينية بالغلط في الأصل العبراني
فانها قد خالفته
في امور ، ففي سفر اللاويين العبراني ١٩ ، ٢٦ «لا تأكلوا بالدم» ، وفي السبعينية «لا
تأكلوا على الجبال».
وفي سفر العدد
العبراني ٤ ، ٣ و ٢٣ و ٣٠ و ٣٥ و ٣٩ و ٤٣ و ٤٧ «ابن ثلاثين سنة» ، وفي السبعينية
ابن خمس وعشرين سنة.
وفي المزامير
العبرانية ٤٠ ، ٧ «اذنين حفرت لي» ، وقرء في السبعينية «جسدا هيأت لي».
المورد الثاني عشر
«شهادة العهد
الجديد على الأصل العبراني بالنقصان والتحريف».
«اما شهادته
بالنقصان» : فقد جاء فيه «لكي يتم ما قيل بالأنبياء انه سيدعى ناصريا» مت ٢ ، ٢٣.
وليس لهذا القول
في كتب العهد الجديد عين ولا أثر ، وللمتكلف هاهنا كلام لم يأت لقومه إلا بالإسراف
في الحبر والقرطاس وعمل الطبع ، «فانظر يه ٢ ج ص ٢٠٥ ـ ٢٠٧».
وخالف التوراة
العبرانية فزاد في طبقات النسب «قينان» بين ارفكشاد وشالح «لو» ٣ ، ٣٥ و ٣٦.
وللمتكلف هاهنا كلام سيأتي قريبا إن شاء الله بيان ما فيه.
«وأما شهادته
بالتحريف» : فقد ذكرنا ان الموجود في السابع من المزمور الأربعين «اذنين حفرت لي»
، وفي الخامسة من عاشر العبرانيين «هيأت لي جسدا».
والمتكلف يقول :
ان قول العبرانيين «هيأت لي جسدا» نقل بالمعنى لقول المزامير «اذنين حفرت لي» ،
وتمحل لذلك بكلام طويل وتأويل بارد «فانظر يه ٣ ج ص ٢٢٦ و ٢٢٧» تعرف شططه.
ويكفي في رده ان
النقل بالمعنى يلزم فيه ان يكون المعنى محفوظا بحدوده وإنما يكون التبديل بصورة
الألفاظ ، إذن فأين «اذنين حفرت لي» وأين «هيأت لي جسدا» ، ولو كان هذا التفاوت
والتباين من النقل بالمعنى لما بقي في الكلام اختلاف بل انسد باب اللوم على أكثر
الذين يخطئون أو يكذبون في نقلهم ، فيقال أنه نقل بالمعنى.
واعلم ان الترجمة
المطبوعة سنة ١٨١١ قد جمعت في ترجمة المزامير بين الأمرين فذكرت هكذا «واعددت لي
جسدا فتحت مسامعي» ، وفي ترجمة رسالة العبرانيين اقتصرت على قولها «واقتنيت لي
جسما» فزادت على الأصل العبراني لكي تتجه دعوى النقل بالمعنى.
«تتمة» واعلم ان
المترجمين من النصارى لم يجروا على نهج غير مضطرب فلم يتبعوا الأصل العبراني تماما
على ما فيه ، ولم يتبعوا حواشيه تماما على ما فيها ، ولم يتبعوا النسخة السبعينية
تماما على ما فيها ، ولم يرفضوا النسخة السامرية تماما ، بل استخرجوا بحسب افكارهم
وأغراضهم كتابا ملفقا لا يطابق بتمامه مطابقة تامة لواحد من هذه الاربعة ، ولقد
كنا نحب بيان ذلك بالاستقصاء ، لو لا انه يؤدي إلى الطول الذي تبعد به المسافة عن
المقصود ، بل هو جدير بأن نفرده في رسالة مستقلة ، وفي الإشارة إليه هاهنا كفاية
فانظر أقلا الى ما ذكرناه من الموارد ، وراجع النسخة التي ذكرناها أولا في صدر
الكتاب.
وانظر الجزء الأول
من إظهار الحق ، وإن شئت فطابق بين الأصل العبراني وحواشيه والترجمة السبعينية ،
وبين تراجم النصارى للعهد القديم لكي تعرف ان العهد القديم ليس له عندهم أصل يعتمد
عليه ، وإنما هو كتاب موهون للنظر في تصحيحه وتهذيبه مجال واسع ، لا يصد عن جماحه
عنان التعصب والتستر ..
وبذلك تعرف شطط
المتكلف على قومه وكتبه في قوله «يه ١ ج ص ١٢٧» «لا يعوّل على التراجم بل المعول
عليه والمرجع إليه هو التوراة العبرية التي حافظ عليها اليهود».
وقوله «يه ٣ ج ص
٢١٦» «التوراة العبرية هي المعول عليها» ويه ٣ ج ص ٢٢٨ «ان المعتمد عليه هي التوراة»
، «اي العهد القديم» العبرية وعبارتها هي الحق.
تتمة الصدر والتمهيد
لا يخفى على غير
القاصر ان الحقيقة إذا تداولت عليها قرون القدم ، وتقلّب الأحوال كثر عليها اعتراك
التاريخ ولغطه في الاختلاف والتعارض فلا يكاد المتعمّق في سبر كتب التواريخ أن يرى
حقيقة سلمت من هرج الاختلاف ومرجه.
نعم : قد يفوز
بالشهرة بعض كتب التاريخ لشهرة كاتبه ولو بنحو السلطنة والوزارة ، أو بموافقته
لطباع العوام ، أو الأهواء ، أو العصبية القومية او تعس الوقت ، ولو ان المؤرخ كان
معروفا بالضبط ، والتثبت لما ترجح تاريخه إلا بنحو من رجم الظنون التي تسكن إليها
النفس إذا لم يطلع على ما يعارضه.
فلو ان بعض أقوال
المؤرخين خالفت القرآن الكريم لما كان لذي عقل أن يعترض بها على القرآن ، فان
التاريخ كيفما كان لا يمس الحجة القاطعة على كون القرآن الكريم كلام الله علّام
الغيوب ، بل إذا تمت الحجة عاد التاريخ المعارض من خرافات الضلال ، ولو فرضنا ان
الحجة لم تتم لما عدا الحال أن يكونا تاريخين متعارضين ، لا يحسن التحكم ببطلان
أحدهما لأجل معارضة الآخر.
وبهذا تعرف شطط
المتعرّب في اعتراضه على القرآن الكريم بالتاريخ الآحادي المجهول.
ألا ترى ان العهد
القديم تضمّن التاريخ من خلق العالم إلى سبى بابل ، وان التاريخ من ذلك الحين الى
ميلاد المسيح معلوم ليس فيه خلاف يعتدّ به ومع ذلك فقد حكى عن كتاب «جادلس روجر» انه ذكر اختلاف
__________________
المؤرخين في ذلك
إلى خمسة وعشرين قولا من اليهود والنصارى وغيرهم ، وتزيد الأقوال بخلاف «اهيلز» لهم أيضا ، وكل هذا الخلاف أو جله يرجع الى مخالفة تاريخ
العهد القديم وخصوص التوراة.
وأيضا قد جاء في
العهد القديم ان سليمان شرع ببناء بيت الرب في السنة الأربعمائة وثمانين من خروج
بني اسرائيل من مصر «١ مل ٦ ، ١» وعن آدم كلارك مفسرهم انه نقل في ذلك اثني عشر تاريخا لأهل الكتاب كلها
متخالفة ، وأقلها ٣٣٠ سنة وأكثرها ٦٨٠ سنة وكلها مخالفة لتاريخ العهد القديم في
بناء الهيكل وإتمامه .
ومع ذلك كله لا
يحسن الاعتراض على العهد القديم بمخالفة هؤلاء المؤرخين وإن كانوا من متبعيه ،
لأنه لو قامت الحجة على كونه من الوحي الإلهي لكشف عن ضلالة هذه التواريخ بأجمعها
، وإذا لم تتم الحجة فهو تاريخ كاحد التواريخ يعارضها ، كما تعارضه لو لم ينحط
عنها بمجهولية كاتبه وعصره وكثرة وقوع الغلط في كتابته وعبث التصرف به وتعرض
الأهواء في قلبه إلى حيث تميل.
وكيف كان فان
المصيبة الفادحة على الكتب المنسوبة الى الوحي وعلى من ينسبها إليه ، إذا كان
الكتاب الواحد متناقض التاريخ.
٢) او كانت نسخ الكتاب الواحد المشهود
لها بالاعتبار متناقضة التاريخ.
٣) أو كان بعض الكتب المذكورة مناقضا
لبعضها الآخر في التاريخ.
وقد ابتلى العهدان بالأقسام الثلاثة من
التناقض في التاريخ.
__________________
أما القسم الأول
فقد جاء في
التوراة عن قول الله لإبراهيم : اعلم علما انه غريبا يكون نسلك في ارض ليست لهم
ويستعبدونهم ويذلّونهم أربعمائة سنة ، وأيضا الامة يعبدونها ادينها أنا ، وبعد ذلك
يخرجون بأملاك عظيمة.
وفي الجيل الرابع
يرجعون الى هنا «أي أرض كنعان» ، «تك ١٥ ، ١٣ ـ ١٦» وانظر ١ ع ٧ ، ٥ ـ ٨».
وفي هذا الكلام
دلالة واضحة على ان الاربعمائة سنة هي مدة الاستعباد والذلة في الغربة في الارض
المذكورة التي يخرجون منها كما هو واضح الدلالة على ان الخروج بالأملاك العظيمة
إنما هو من ارض الغربة التي يستعبدون فيها أربعمائة سنة ، ولا ينطبق ذلك إلا على
أرض مصر وخروجهم منها ، ويزيد في وضوح ذلك انه جعل الغاية لتلك الغربة ان بني
اسرائيل يرجعون الى ارض كنعان ، فلا يمكن ان تكون أرض كنعان داخلة في الغربة
والارض المسوق لهما الكلام.
هذا ثم ذكرت
التوراة نفسها ان إقامة بني اسرائيل في مصر كانت أربعمائة وثلاثين سنة «خر ١٢ ، ٤٠
و ٤١» فتناقض تاريخها في المقامين بثلاثين ، ولا تتوهم ان سقوط الثلاثين سنة في
التاريخ الاول كان لأجل اعتزازهم بعزة يوسف مدة حياته ، وذلك لأن عزتهم بحياة يوسف
في مصر كانت فوق الثمانين سنة ، فإن يوسف وقف بين يدي فرعون وهو ابن الثلاثين سنة
، ثم مضت سبع سنين للخصب ، وجاء بنو اسرائيل الى مصر في السنة الاولى او الثانية
من سني الجوع «انظر تك ٤١ ، ٤٦ ـ ٥٥ ، و ٤٧ ، ١ ـ ١٨» ، ومات يوسف وهو ابن مائة
وعشرين سنة «تك ٥٠ ، ٢٦».
«فإن قلت» : ان
المتكلف قد وجه هذا الاختلاف «يه ١ ج ص ١١٦ و ١١٧ و ٤ ج ص ٣ ـ ٨» بما حاصله ان
مبدأ التحديد بالأربعمائة وثلاثين سنة كان من حين الوعد المذكور «تك ١٥ ، ١٣ ـ ١٦»
عند دعوة ابراهيم وأمره بالخروج من أهله وعشيرته ، وان مبدأ الاربعمائة سنة كان من
ولادة إسحاق او فطامه.
«قلت» : ولما ذا
سرى أليك داء المتكلف فلم تلتفت الى ما في كلامه ، أم
انك من أعدائه
فأردت ان تنبه على شططه .. أم تريد ان تدلنا على معرفة المرسلين الأمريكان الذين
طبع كتابه بمعرفتهم.
إذن فاسمع ما فيه
من الأغلاط.
قال المتكلف «يه ٢
ج ص ١١٦ س ٥» نعم ان المولى سبحانه وتعالى قال : ان نسله «أي ابراهيم» يستعبد ٤٣٠
سنة. ولكن كان هذا القول وقت دعوته ، ولا شك انه من وقت دعوته واختياره الى خروج
بني اسرائيل من مصر ٤٣٠ سنة.
ولا ينبغي ان يخفى
عليك ان في كلامه أغلاطا عديدة لا تخفى على صغار الناس (١) ان الكلام الذي فيه هذا العدد أعني ٤٣٠ سنة ليس فيه لفظ «نسله»
ولا لفظ «يستعبد» وإنما لفظه في سفر الخروج ١٢ ، ٤٠ واقامة بني اسرائيل التي
أقاموها في مصر أربعمائة وثلاثين سنة ، ونصها في الاصل العبراني : وموشب بني
اسرائيل آشر يشبو بمصرايم شلشيم شنه وأربع مأوت شنة ، (٢) لم يجيء في التوراة الرائجة في دعوة ابراهيم وأمره بالخروج
تعرض لشيء من هذا النحو أصلا ، وإنما كان وعدا بالعظمة والبركة ، وانه تتبارك به
جميع قبائل الارض «انظر تك ١٢ ، ١ ـ ٤».
٣ ـ ان التحديد بهذه المدة كان في نص التوراة تحديدا لسكنى بني
اسرائيل في مصر ، وبأي محاورة من محاورات العقلاء او غيرهم يؤخذ مبدأ التاريخ
والعدد من دعوة ابراهيم ، فإذا قال شخص : ان فلانا عاش في الدنيا ثمانين سنة ،
فاطلعت على غلطه ، وان فلانا ما عاش في الدنيا إلا أربعين سنة ، أفتقبل عذره لو
قال ، اخذت مبدأ التاريخ من حين عزم جده على التزويج.
٤ ـ ان هذا القول لم يكن في وقت دعوة ابراهيم ، وإن كان له أصل
فهو في عهد موسى بعد خروج بني اسرائيل من مصر.
٥ ـ ان دعوة ابراهيم واختياره كانا في اور الكلدانيين ، كما
صرّح به المتكلف «يه ٤ ج ص ٣» في اوّل جدوله الأيمن ، واعتمد فيه على سابع الأعمال
، وهذه الدعوة لا يعرف تاريخها من العهدين أصلا ورأسا.
وكذا مدة مكث
ابراهيم في حاران ، فمن أين يتيسّر للمتكلف هذا التطبيق الذي يدعيه حتى يقول بملء
فمه «لا شك».
ثم قال المتكلف في
هذا المقام «س ٧ ـ ١٠».
أما قوله : نسله
يستعبد ٤٠٠ سنة ، فكان نزول هذا القول في وقت ولادة إسحاق ، أو في وقت فطامه عند
حصول الخلاف بين سارة وبين هاجر «تك ٢١ ، ٨ ـ ١٢».
ولا شك ان من وقت
فطام إسحاق الى خروج بني اسرائيل من أرض مصر هو ٤٠٠ سنة.
ولا ينبغي أن يخفى
عليك ان في هذا الكلام أيضا أغلاطا عديدة :
١ ـ ان نزول هذا القول على ابراهيم كان بحسب نقل توراتهم حينما
شكا العقم وعدم الولد ، وذلك قبل ولادة اسماعيل التي هي قبل ولادة اسحاق بأربع
عشرة سنة «فانظر تك ١٥ و ١٦».
٢ ـ ان الترديد بين ولادة اسحاق وبين فطامه يوجب اشتباه التاريخ
بمقدار مدة رضاعه ولا يكون ذلك بحسب العادة أقل من سنتين ، وهذا الترديد غلط منه ،
فإن أصحابه يدعون اتقان التاريخ.
٣ ـ ان قوله أخيرا «ولا شك ان من وقت فطام اسحاق الى خروج بني
اسرائيل من مصر هو ٤٠ سنة» هو مناقض لتردده في مبدأ المدة المذكورة بين ولادة
اسحاق وفطامه.
٤ ـ ومناقض لقوله «يه
٤ ج ص ٣ س ١١» ، لا شك انه كان من مولد اسحاق الى خروج بني اسرائيل من مصر ٤٠٠ سنة
، ولعل المتكلف إذا نبّهته على هذا التناقض يقول لك : «لا يوجد في هذا أدنى تناقض
فإن اسحاق فطموه في سنة ولادته أو شهرها» ، فلا تقبل مزاعمه التي يدعي تقدم الدنيا
بها ، ولكن اعذره في عدم درايته بصراحة توراته إذ تقول وكبر الولد «اي اسحاق» وفطم
وصنع ابراهيم وليمة كبيرة يوم فطام اسحاق ، وفي الأصل العبراني «ويكدل هيلد ويغامل»
«تك ٢١ ، ٨».
٥ ـ ان تقويم التوراة يقتضي ان المدة من مولد اسحاق الى دخول
بني
اسرائيل الى مصر
تكون مائة وتسعين سنة ، وذلك لأنها من مولد اسحاق الى مولد يعقوب ستون سنة «تك ٢٥
، ٢٦» ، ومن ولادة يعقوب الى دخول بنيه الى مصر مائة وثلاثون سنة «تك ٤٧ ، ٩» فإذا
كانت إقامة بني اسرائيل مائتين وخمس عشرة سنة كما جزم به المتكلف «يه ٢ ج ص ١١٦ س
١٥ وص ١١٧ س ٤ و ٤ ج ص ٨ س ٣» فيكون المجموع أربعمائة وخمس سنين ، فهل كتب في
العهدين ان مدة رضاع اسحاق كانت خمس سنين ، وإذا كانت كذلك فكيف تتم الأربعمائة
سنة على زعمه «يه ٤ ج ص ٣» في جدوله الذي على اليمين حيث جزم فيه بأن اقامتهم في
مصر كانت مائتين وعشر سنين ، بل وكيف تتم على هذا إذا اخذ مبدأ الأربعمائة من
ولادة اسحاق ، وتركنا لرضاعه حسب العادة سنتين ونحوهما ، فهذا مع ما تقدم عشر
أغلاط.
١١ ـ زعم «يه ٢ ج ص ١١٦ س ١٦ ـ ١٨ و ٤ ج ص ٧ س ١٢ ـ ١٨» ان مبدأ
الأربعمائة وثلاثين سنة كان من وقت الموعد الذي وعد الله به ابراهيم بالبركة عند
خروجه من حاران وكان عمره حينئذ ٧٥ سنة «تك ١٢ ، ٣ و ٤ وهذا مناف لتصحيح «استفانوس»
بأن ظهور الله لإبراهيم ودعوته التي وقع فيها هذا الموعد قد وقع حين كان ابراهيم
فيما بين النهرين قبل ما سكن في حاران «فانظر ١ ع ٧ ، ٢ و ٣» ، ومناقض أيضا لأخذه
مبدأ التاريخ بهذه المدة من دعوة ابراهيم من اور الكلدانيين فيما بين النهرين قبل
خروجه من حاران بخمس سنين حسبما صرح به في جدوليه «يه ٤ ج ص ٣» معتمدا فيه على قول
استفانوس «١ ع ٧ : ٢» ، كما اعتمد فيه أيضا «يه ٤ ج ص ٨ س ٤ و ٥» على تقويم مرشد
الطالبيين.
١٣ ـ جزم المتكلف فيما أشرنا بأن إقامة بني اسرائيل في مصر كانت
مائتين وخمس عشرة سنة ، وهذا مناقض لجزمه في جدوله الأيمن المذكور بأنها كانت
مائتين وعشر سنين.
ولم يكن هذا
التناقض والغلط في الحساب والاضطراب في مبادي التواريخ إلا لأمر يشير إليه المثل
المشهور عند العوام (١٣) قد التجأ المتكلف في تكلفاته المتناقضة الى أن يزيد على
عبارة سفر الخروج العبرانية ١٢ ، ٤٠ مثل
الألفاظ التي
زادتها السامرية واليونانية وهي لفظة «وآبائهم» ولفظة «وأرض كنعان» فتكون العبارة
هكذا «واقامة بني اسرائيل وآبائهم التي أقاموها في مصر وأرض كنعان أربعمائة
وثلاثين سنة» ، وهذا غلط بحسب جدوله المذكور واعتماده على تقويم مرشد الطالبيين ،
حيث جعلا مبدأ المدة من دعوة ابراهيم في اور الكلدانيين.
بل يلزم على هذا
ان يزيد على ذلك أيضا لفظ «وحاران» بل ان هذه الزيادة لازمة لهم على كل حال ، فإن
يعقوب وبنيه قد سكنوا في حاران أكثر من ثلاثين سنة ، لأن يعقوب خدم «لابان» «بليئة
، وراحيل» أربع عشرة سنة قبل أن يرزق منهما الأولاد «انظر تك ٢٩ ، ٢٠ ـ ٣٠» ثم
ولدت له ليئة أربعة أولاد ، ثم توقفت عن الولادة «تك ٢٩ ، ٣١ ـ ٣٥» ثم ولدت ولدين
وبعدهما بنتا «تك ٣٠ ، ١٧ ـ ٢١» ، ثم ولدت راحيل يوسف «تك ٣٠ ، ٢٤» وحينما خرج
يعقوب من حاران كانت بنته قابلة للتزويج «انظر تك ٢٤» وكان يوسف آخر أولاده يعرف
الاستقبال وسجود التحية «تك ٣٠ ، ٧» ، وكان شمعون ولاوي ابناه قابلين للقتل
والقتال «انظر تك ٣٤ ، ٢٥» فلا يمكن أن تنقص هذه المدة عن ثلاثين سنة.
فلما ذا اهمل ذكر
حاران مع انها كانت ليعقوب أرض غربة وخدمة وعبودية وذلة «انظر تك ٢٩ ـ ٣٢» ، (١٤)
لما التجأ المتكلف الى ان يقدر في الأصل العبراني لفظ «وآبائهم» و «أرض كنعان» بل
ولفظ «وحاران» كما هو لازم له لم يكتف بذلك ، بل جعله «يه ٢ ج ص ١١٧ س ٦ و ٤ ج ص ٤»
من باب الاكتفاء الوارد في كلام العرب والقرآن الكريم ، وهذا غلط لأن الشرط في
الاكتفاء أن تكون دلالة اللفظ الموجود وسوقه كافية في بيان المحذوف المكتفى عنه
والدلالة عليه ، كما يقتضيه لفظ الاكتفاء ، بل اعترف المتكلف بنفسه «يه ٤ ج ص ٤ س
٤ و ٥» بأن الاكتفاء هو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفي
بأحدهما عن الآخر كنكته.
أقول : وليت شعري
إذن فأي تلازم وارتباط يشعر به المقام ويقتضيه في عبارة سفر الخروج بين بني
اسرائيل وبين آبائهم وبين أرض مصر وبين أرض
كنعان بل وحاران.
أم تقول : كلما
جاء لفظ بني اسرائيل يكون اكتفاء عن لفظ آبائهم ، وكلما جاء لفظ مصر يكون اكتفاء
عن لفظ كنعان وحاران ، إذن فقرّت أعينهم بتاريخ توراتهم (١٥) ثم زاد المتكلف في
الغلط حيث قاس دعواه في الاكتفاء والحذف بالحذف الذي تجلو مراده نورانية المقام في
القرآن الكريم ، كما نبّهناك عليه في أوائل هذا الجزء ، مع ان ما نسلم فيه الحذف
في القرآن الكريم إنما هو على وجه لو ذكر المحذوف لفاتت من الكلام نكتة شريفة ، أو
أدى إلى تطويل مملّ في الكلام المتوسط فضلا عن الكلام السامي في البلاغة ، فانظر
الأمثلة التي ذكرها في «يه ٤ ج ص ٥ و ٦».
«مثل» يحكى ان
صبيا انحصر على سطح بلا درج فأعيا عليه النزول ، فجاء بعض المغفلين وألقى إليه طرف
الحبل وقال له : شدّه في وسطك ، فلما شده جذبه المغفّل الى صحن الدار ، فلما وقع
مات ، فقال المغفل متعجبا ومعتذرا : ان هذا الصبي قتله حضور أجله ، وإلا فقد اخرجت
بهذا الحبل من البئر عشرين رجلا سالمين.
١٦
ـ ثم أفحش المتكلف
في الغلط المضحك «يه ٤ ج ص ٦» حيث اعترض على الآيات التي ذكرها من القرآن الكريم ،
ثم قال : ان كتاب الله منزّه عن مثل هذه التقديرات الفاحشة.
القسم الثاني في اختلاف نسخ التوراة في التاريخ
مع ان كلا منها
إما مشهود لها بالصحة والاعتبار عند اليهود والنصارى معا وإما مشهود لها بالصحة
والاعتبار عند النصارى.
أما النسخة
العبرانية فلا تحتاج دعواهم لاعتبارها الى بيان.
وأما النسخة
السبعينية فقد ذكرنا في الصحيفة الخامسة من الجزء الأول وجه اعتبارها ، وأشرنا
إليه قريبا في صدر المورد الحادي عشر من التمهيد ، وكله موافق لملخص اعتراف
المتكلف «يه ٣ ج ص ١٧٥ و ١٧٦ و ٤ ج ص ٩٠ ـ ٩٣».
وأما النسخة
السامرية فقد ادعى المتكلف انها ذات خمسة أسفار موسى التي نزلت باللغة العبرانية ،
ولكنها مكتوبة بأحرف سامرية قديمة «انظر يه ٣ ج ص ١٧٥ س ٢٢ و ٢٣ وص ١٧٦ س ٤ و ٥» ،
وهذه الدعوى وإن كانت ساقطة عند غير السامريين ولكنها اعتراف بصحة السامرية
واعتبارها ، دع عنك المتكلف في دعاويه واعترافاته ، ولكنه نقل «يه ٤ ج ص ٦» عن آدم
كلارك قوله «ذهب كثير من العلماء الى أن ترجمة خمسة أسفار موسى السامرية هي من
أضبط التراجم وأقدمها.
ونقل إظهار الحق
في شواهد المقصد الأول من الباب الثاني عن المجلد الثاني من تفسير
محققهم المشهور «هورن»
ما ملخصه : ان المحقق «هيلز» أثبت بالأدلة القوية صحة السامرية ، وان «كني كات»
أورد ملاحظات استنتج منها ان الحق ما عليه السامريون ، وان اليهود حرفوا التوراة
قصدا ، ونقل أيضا عن المفسر المشهور «آدم كلارك» من الصفحة ٨١٧ من المجلد الأول من
تفسيره ان المحقق «كني كات» يدعي صحة السامرية ، وان كثيرا من الناس يفهمون ان
أدلة «كني كات» لا جواب لها ، ويجزمون بأن اليهود حرّفوا لأجل عداوة السامرية.
وعنه أيضا في المجلد
الأول المذكور قوله يصرّ «هيوبي» إصرارا بليغا على صحة السامرية.
ونقل إظهار الحق
أيضا في شواهد المقصد الثالث ان جامعي تفسير «هنري» و «اسكات» قالوا في عبارة في
السامرية تخالف العبرانية «لا شك ان هذه العبارة صادقة».
والمتكلف لم يسعه
إنكار هذه النقول عن محقّقيهم ومفسريهم ، والكثير منهم ، نعم التجأ الى شيء من
أغاليط التاريخ ، ثم قال : فيتضح للمتأمل ان عبارة التوراة العبرية هي صحيحة «انظر
يه ٣ ج ص ٢١٨ ـ ٢٢٤».
إذا عرفت هذا
فاعلم ان النسخة العبرانية وهاتين النسختين قد وقع فيما بينهما الاختلاف التاريخي
، ولنذكر منه ثلاث موارد :
الأول
: قد سمعت المدة
المذكورة في التوراة العبرانية لإقامة بني اسرائيل في مصر وهي ٤٣٠ سنة ، وعرفت
أغلاط المتكلف في حساب التاريخ ، ودعوى الاكتفاء.
فاعلم بأنه قد
خالفتها الترجمة السامرية ، بل واليونانية ، كما اعترف به المتكلف «يه ٤ ج ص ٤ س
١٧» ، أو السبعينية الاسكندرانية ، كما نقله عن آدم كلارك «يه ٤ ج ص ٦ س ٢٢» فقد
جاء فيهما ما تعريبه «وإقامة بني اسرائيل وآبائهم في أرض مصر وكنعان أربعمائة
وثلاثون سنة» فاختلفت النسخة العبرانية مع هاتين النسختين في المدة التي أقامها
بنو إسرائيل في أرض مصر.
وقد ذكرنا لك ان
تقويم هاتين النسختين لا يتجه مع كون المبدأ لتاريخه هو تغرّب ابراهيم من أرض
الكلدانيين مع كون إقامة بني اسرائيل في مصر ٢١٥ سنة ، كما ذكره المتكلف مرارا ،
وعليه تقاويمهم لأن العدد حينئذ يزيد على ٤٣٠ سنة بمقدار إقامة ابراهيم في حاران ،
وقد زعم المتكلف في جدوليه وأصحابه في تقاويمهم انها كانت خمس سنين ، ومع ذلك يلزم
انهما تركتا ذكر حاران باعتبار إقامة ابراهيم فيها واقامة يعقوب وبنيه أكثر من
ثلاثين سنة ، وانهما اهملتا ذلك قصورا وتقصيرا ، فان حديث الاكتفاء في مثل هذا
المقام عند من يعرف الاكتفاء مضحكة ومسخرة.
هذا ولو فرضوا ان
إقامة بني اسرائيل في مصر ٢١٠ سنين كما زعمه المتكلف في جدوليه ، وبعض اليهود في
كتاباتهم لما اتجه التقويم بكون المبدأ له تغرب ابراهيم في كنعان لأن العدد حينئذ
ينقص خمس سنين ، فإن ادعى مدّع ان المبدأ له أول تغرب ابراهيم في حاران ، قلنا :
من أين لهذا المدعي ان تغرب ابراهيم في حاران كان خمس سنين لكي يتم العدد؟ وهل
البناء عليه إلا بالتشبث بالتخمين الوهمي ، وإصلاح الفاسد المضطرب ، وتطبيق الحساب
الضائع ، وإلا فلما ذا تركتا ذكر حاران ، مع ذكرهما كنعان ومصر.
الثاني
: من موارد اختلاف
النسخ الثلاث : قد ذكرت النسخة العبرانية تاريخ الآباء من آدم الى ابراهيم فذكرت
عمر الأب قبل ولادة الابن المذكور في السلسلة ، وذكرت باقي عمره بعد ولادة ذلك
الابن «فانظر تك ٥ ، ٣٢٣ ،
و ١١ ، ١٠ ـ ٢٧».
وقد خالفتها
النسخة السامرية والسبعينية في ذلك اختلافا فاحشا ، كما تخالفتا بينهما كذلك ..
فلنذكر لك الجداول
التي ذكرها المفسرون في تسجيل الاختلاف وذكرها المتكلف أيضا «يه ٣ ج ص ٢١٣ و ٢١٦».
وهذه صورتها بعد
تصحيحنا للغلط المادي في عناوينها ، والغلط الرقومي في طبعها :
أسماء آباء
|
أعمارهم عند
ولادة الابن
|
أعمارهم بعد ولادة
|
السلسلة
|
الواقع في
السلسلة
|
ذلك الابن
|
قبل الطوفان
|
عبرية
|
سامرية
|
سبعينية
|
عبرية
|
سامرية
|
سبعينية
|
ادم
|
١٣٠
|
١٣٠
|
٢٣٠
|
٨٠٠
|
٨٠٠
|
٧٠٠
|
شيث
|
١٠٥
|
١٠٥
|
٢٠٥
|
٨٠٧
|
٨٠٧
|
٧٠٧
|
انوش
|
٩٠
|
٩٠
|
١٩٠
|
٨١٥
|
٨١٥
|
٧١٥
|
قينان
|
٧٠
|
٧٠
|
١٧٠
|
٨٤٠
|
٨٤٠
|
٧٤٠
|
مهلئيل
|
٦٥
|
٦٥
|
١٦٥
|
٨٣٠
|
٨٣٠
|
٧٣٠
|
يارد
|
١٦٢
|
٦٢
|
١٦٢
|
٨٠٠
|
٧٨٥
|
٨٠٠
|
اخنوخ
|
٦٥
|
٦٥
|
١٦٥
|
٣٠٠
|
٣٠٠
|
٢٠٠
|
متوشالح
|
١٨٧
|
٦٧
|
١٨٧
|
٧٨٢
|
٦٥٣
|
٧٨٢
|
لامك
|
١٨٢
|
٥٣
|
١٨٨
|
٥٩٥
|
٦٠٠
|
٥٩٥
|
عند الطوفان
|
بعد الطوفان
|
نوح
|
٦٠٠
|
٦٠٠
|
٦٠٠
|
٣٥٠
|
٣٥٠
|
٣٥٠
|
|
١٦٥٦
|
١٣٠٧
|
٢٢٦٢
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
فانظر إلى هذا
الاختلاف في الأعمار ، وفي تاريخ الطوفان من خلقة آدم.
والمتكلف لم يسعه
في هذا الاختلاف الباهظ إلا تأييد التقويم العبراني
بتأييدات فارغة.
ويكفيك انه جعل من
الأدلة القوية على صحة العبرانية ما توهمه «يه ٣ ج ص ٢١٥» حيث قال : ان السبعينية
تقتضي تأخر ولادة البكر لآدم وشيث الى ان مضى من عمرهما ٢٣٠ سنة و ٢٠٥ سنين ، وهذا
يخل بالنسبة بين وقت النمو وبين مجموع عمريهما.
فهل كان أمر الله
الذي قال اكثروا واملئوا الأرض ليس بضروري في الجيل المتقدم ، وانه صار ضروريا في
الأجيال التي بعده.
قلت : وكم ترى في
هذا الدليل القوي من الغلط والجهل.
أما
«أولا» فإن شيئا لم يكن
بكر آدم ، بل ان توراتهم تصرح بأن آدم ولد قايين وهابيل قبل شيث ، بل مقتضاها ان
قايين ولد أولادا كثيرين ثم صارت ولادة شيث فانظر رابع التكوين.
وأيضا لا يعرف من
التوراة وغيرها من كتب وحيهم ان «انوش» كان بكر شيث ، بل ان جميع آباء السلسلة لا
يعرف من كتب العهدين انهم كانوا ابكار آبائهم.
وقد سمعت ان شيئا
لم يكن بكر آدم.
وأيضا بمقتضى
التوراة ان ساما لم يكن بكر نوح ، فانها تقول : وكان نوح ابن خمسمائة سنة وولد
ساما وحاما ويافث «تك ٥ ، ٣٢» ، ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار الطوفان «تك ٧ ،
٧» فلو كان سام بكر نوح لكان عمره عند الطوفان مائة سنة ، ولكن توراتهم تقول : لما
كان سام ابن مائة سنة ولد ارفكشاد بعد الطوفان بسنتين «تك ١١ ، ١٠» ، وهذا يقتضي
ان ساما تولد بعد ما مضى من عمر نوح خمسمائة وسنتان ، فالبكر إذن غير سام ، وأيضا
يلزم النصارى ان لا يكون ابراهيم بكر أبيه ، فان توراتهم تقول: انّ تارح أباه عاش
مائتين وخمس سنين ، ومات في حاران (تك ١١ ، ٣٢» وان ابراهيم حينما خرج من حاران
كان عمره خمسا وسبعين سنة «تك ١٢ ، ٤» واستفانوسهم يقول: ان ابراهيم خرج من حاران
بعد ما مات أبوه «ا ع ٧ ، ٤» فلا بد على هذا من أن تكون
ولادته بعد ما مضى
من عمر أبيه مائة وثلاثون سنة ، والتوراة تقول : ان تاريخ ولد ينبه لسبعين سنة من
عمره «تك ١١ ، ٢٦».
فان قيل» هب ان
شيثا وساما وابراهيم لم يكونوا ابكار آبائهم في هذه السلسلة ، ولكن باقي رجال
السلسلة كانوا ابكار آبائهم ، ويدل على ذلك ان التوراة بعد أن تذكر ولادة الولد
المذكور في السلسلة تقول في شأن أبيه «وولد بنين وبنات» ، فيدل ذلك على ان الولد
المذكور هو البكر ، وأيضا ان البكورية لها أهمية وفضيلة ، فلا بد أن تكون سلسلة
الآباء والعهد ومواليد الأنبياء فائزة بها.
«قلت» هذا واضح
البطلان إذ لا دلالة فيما تتشبث به ، كيف وقد قيلت هذه العبارة في شأن آدم بعد ذكر
ولادة شيث «تك ٥ ، ٣ ـ ٥» وأيضا قد دلّ العهد القديم على ان جماعة من الأنبياء
وآباء سلسلة النبوات والعهد لم يكونوا ابكار آبائهم كما في شيث ، وسام ، وابراهيم
، وإسحاق ، ويعقوب ، ولاوي ، ويهوذا ، وفارص ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وأكثر
هؤلاء عيون هذه السلسلة.
وأيضا ان الله
العليم الحكيم قد تقتضى حكمته ان لا يربط سلسلة النبوة بالبكورية ، وان اجراء
الحكمة أولى من اتباع عيسو في بيعة بكوريته ليعقوب بأكلة من خبز وطبيخ وعدس «تك ٢٥
، ٢٩ ـ ٣٤».
وأما
ثانيا : فلو تجاهلنا
وسلّمنا ان آباء السلسلة هم ابكار آبائهم لقلنا ان الحكمة التي اقتضت تأخر ولادة
شيث مائة وثلاثين سنة ، وولادة انوش مائة وخمس سنين حسب التقويم العبراني لا يمتنع
أن تقتضي تأخر ولادتهما مائتين وثلاثين سنة ومائتين وخمس سنين حسب تقويم السبعينية
، وكلتا المدّتين لا تتفاوت كثيرا بالنسبة الى الوعد بالاثمار في المنافاة وعدمها
، وبما ذكرناه تعرف غلط المتكلف في قوله في عنوان تقويم الجداول «قبل ولادة البكر»
و «بعد ولادة البكر» ، وغلطه في إهمال ذكر الطوفان لما قبل الستمائة وما بعدها في
عمر نوح.
وهاك بقية الجداول
في تقويم الأعمار بعد الطوفان وقبل ولادة الابن الواقع في السلسلة، وانظر إلى
الاختلاف فيها :
الأعمار : بعد
الطوفان وقبل ولادة
|
|
بعد ولادة الابن
|
الابن الواقع في السلسلة
|
|
الواقع في
السلسلة
|
الأسماء
|
عبرية
|
سامرية
|
سبعينية
|
عبرية
|
سامرية
|
سبعينية
|
سام
|
٢
|
٢
|
٢
|
|
|
|
ارفكشاد
|
٣٥
|
٣٥
|
٣٥
|
٤٠٣
|
٣٠٣
|
٤٠٠
|
قينان
|
|
|
١٣٠
|
|
|
٣٣٠
|
شالح
|
٣٠
|
١٣٠
|
١٣٠
|
٤٠٣
|
٣٠٣
|
٣٣٠
|
عابر
|
٣٤
|
١٣٤
|
١٣٤
|
٤٣٠
|
٢٧٠
|
٢٧٠
|
فالج
|
٣٠
|
١٣٠
|
١٣٠
|
٢٠٩
|
١٠٩
|
٢٠٩
|
رعو
|
٣٢
|
١٣٢
|
١٣٠
|
٢٠٧
|
١٠٧
|
٢٠٧
|
سروج
|
٣٠
|
١٣٠
|
١٣٠
|
٢٠٠
|
١٠٠
|
٢٠٠
|
ناحور
|
٢٩
|
٧٩
|
٧٩
|
١١٩
|
٦٩
|
١٢٩
|
|
٢٢٢
|
٧٧٢
|
٩٠٢
|
|
|
|
ما قبل
|
١٦٥٦
|
١٣٠٧
|
٢٢٦٢
|
|
|
|
الطوفان
|
١٨٧٨
|
٢٠٧٩
|
٣١٦٤
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
فانظر الى هذه
الأعداد والحواصل المختلفة بحسب النسخ من خلقة آدم إلى ولادة ناحور لتارح أبي
ابراهيم.
واعلم انه لا يكاد
يعرف من العهدين تاريخ ولادة ابراهيم من تارح إلا ان يعرف المقدار لمكث ابراهيم في
حاران بعد موت أبيه ، كما يقوله استفانوس «ا ع ٧ ، ٤».
وقد عرفت من هذه
الجداول أيضا ان التوراة السبعينية قد خالفت العبرانية والسامرية ، حيث زادت عليها
في عدد الآباء «قينان» بين ارفكشاد وشالح.
القسم الثالث في اختلاف كتب العهدين في التاريخ
ولنذكر من ذلك
مقامين :
الأول
: قد جاء في
الأناجيل في طرد النسب ما لفظه «شالح ابن قينان ابن ارفكشاد» «لو ٣ ، ٣٥ و ٣٦»
فوافق التوراة السبعينية في زيادة قينان بين ارفكشاد وشالح» ، وخالف بذلك
العبرانية والسامرية.
والمتكلف حاول
التخلص من هذه الورطة فارتبك في التخليط ، وقال «يه ٣ ج ص ٢١٢» ، ذهب البعض الى ان
موسى لم يذكره «أي قينان» لكي تكون الأجيال من آدم الى نوح عشرة ، ومن نوح الى
ابراهيم عشرة لتكون أعلق بالأذهان.
قلت : ان الوحي
وموسى عليهالسلام لم يكونا ليشوّها وجه التاريخ المسلسل ويهملا حقيقة قينان
وتاريخه ويجعلا ذلك عثرة في سبيل التصديق بالوحي ، كل ذلك ليصفّا الآباء صفا
شطرنجيا ، إذن قل كيف أقدم سبعون من علماء اليهود المنتخبين من الملة فزادوا قينان
وخالفوا إرادة الوحي وموسى وكيف احتفل بترجمتهم عامة اليهود والمسيح والتلاميذ
والأجيال القديمة من النصارى ، ولما ذا اقدم هؤلاء على تغيير وضع التوراة ونقض غرض
الوحي وموسى ، ولما ذا رضي لهم قومهم واحتفلوا بترجمتهم ، أفلا تفهم من هذا ان
اليهود لا يتوقفون عن العبث بكتب الوحي إذا حسن في أهوائهم بل يكون هذا العبث
رائجا مقبولا في الملة.
ثم قال المتكلف :
وذهب البعض إلى ان ارفكشاد كان أبا لشالح طبيعيا ، ولقينان شرعيا.
قلت : أظن هذا
التوجيه ممن تقدمت الدنيا بكشفه عن هذا الغيب ، وليت شعري إذا كان قينان ابنا
شرعيا ، فلما ذا أقحمته الترجمة السبعينية في سلسلة النسب والمواليد وجعلته مولودا
من ارفكشاد ووالدا لشالح فتلاعبت بالتوراة وشوّهت التاريخ وشوشت التقويم بذكرها
مقدار عمر قينان عند ما ولد شالح ، وكيف رضيت لهم الملة ذلك وقبلت منهم ذلك ، مع
انه تلاعب بكتاب
الوحي بأمر غلطي.
دع عنك الملة
اليهودية ، ولكن لما ذا أقحمه إلهام لوقا في سلسلة الآباء عبثا محضا ومعثرة في
التاريخ ، والتصديق بصحة التوراة العبرانية ، وتثبيتا لغلط السبعينية وتحريفها.
ثم قال المتكلف :
وذهب البعض الى ان قينان وشالح اسمان يدلان على شخص واحد.
قلت : إذا فلما ذا
قبلت الملة اليهودية من السبعينية جعلهما والدا حتى انها ذكرت عمر قينان عند ما
ولد شالح.
ولما ذا لم يشر
إلهام لوقا الى هذا الغلط ، ولا أقل من أن يجري مجرى التوراة العبرانية ، بل جرى
على غلط السبعينية ، وترك متّبعيه يخبطون في عشواء ، إذ قال في طرد النسب وابن
شالح ابن قينان ابن ارفكشاد.
ثم قال المتكلف :
وذهب كثيرون الى ان قينان لم يكن مذكورا في انجيل لوقا ، غير ان النسّاخ أخذوه من
الترجمة السبعينية محاكاة لها.
قلت : عجبا كيف
سمح المتكلف أن ينطق بشهادة الكثيرين على ان كتب وحيهم كانت ملعبة للنساخ وأوهام
الآراء ، فلما ذا اتفقت النسخ والنساخ على هذه في الإنجيل المتواتر بزعم المتكلف.
ثم مع نقل هؤلاء
الكثيرين كيف يتجه للمتكلف أن يقول «يه ٢ ج ص ٢٥٤» ، قال المفسرون : ان قينان هو
لقب لأرفكشاد ..
أفلست ترى ان هذا
الاضطراب في الشطط إنما هو من الأوهام التي منّاها الغرور بأن تصلح الفاسد بالأفسد
...
وبعد هذا كله فما
معنى قول المتكلف «يه ٢ ج ص ٢٥٤» على انه قرئ في بعض النسخ من التوراة قينان قبل ارفكشاد
، أتراه يعني بذلك قينان ابن انوش وهو الثالث من ولد آدم في السلسلة ، كيف وهو
مذكور في جميع نسخ التوراة في الأجيال التي قبل الطوفان.
أم انه يعني بذلك
أمرا لم يفهمه هو ولا غيره ، أم يريد بذلك ان الغلط في العهدين غير عزيز ، فلا عيب
إذا وقع فيه انجيل لوقا ، ولعله لذلك عقّبه بقوله «وعلى كل حال فالأمر سهل».
أفلا تقول له :
انا يكفينا مثل هذا الاستسهال في عدم الاعتناء بالعهدين بل لا عذر لنا عند الله في
الاعتماد على كتب يستسهل فيها مثل ذلك.
المقام
الثاني : من اختلاف العهدين
في التاريخ : فقد عرفت من تقويم التوراة العبرانية ان المدة من دخول ابراهيم الى
ارض كنعان الى حين دخول بني اسرائيل الى مصر تكون مائتين وخمس عشرة سنة ، وقد عرفت
نصها على أن إقامة بني إسرائيل في مصر كانت أربعمائة وثلاثين سنة.
وتدل أيضا على ان
نزول الشريعة والناموس كان ابتداؤه في مصر في سنة الخروج منها «خر ١٢».
ثم جاء جميع ما في
سفر الخروج في السنة الاولى لخروجهم من مصر قبل أن يشتغلوا بعمل المسكن الذي تم ،
واقيم في اوّل السنة الثانية «خر ٤٠ ، ١٧».
ثم جاءت الشريعة
المذكورة في سفر اللاويين ، وعشر أبواب من سفر العدد في السنة الثانية قبل أن يمضي
منها شهر وعشرون يوما «انظر لا ٢٧ ، ٣٤ ، وعد ١٠ ، ١١».
وقد انتظم في هذا
أكثر شريعة التوراة ونواميسها حسبما هو موجود في التوراة الرائجة ، فيكون من دخول
ابراهيم أرض كنعان الى هذه الغاية ستمائة وسبع وأربعين سنة.
ثم جاء باقي
الشريعة متدرجا الى السنة الأربعين لخروجهم من مصر فكلم بها موسى بني اسرائيل في
سفر التثنية «تث ١ ، ٣» ، وكان غالب سفر التثنية تكرارا لبيان الشريعة المتقدمة ،
ولذا سمّته الترجمة السبعينية بذلك ، وان أحكام الكهنوت وشرائعه وتأبيده كلها قد
جاءت في سفر الخروج وسفر اللاويين قبل أن تمضي لخروجهم من مصر سنة ونصف ، وهاك
جداول الحساب بمقتضى
تقويم التوراة :
سنة ٢٥ من دخول
ابراهيم كنعان الى ولادة اسحاق «تك ١٢ ، ٤ و ٢١ ، ٥».
٦٠ ومن ولادة
اسحاق الى ولادة يعقوب «تك ٢٥ ، ٢٦».
١٣٠ ومن ولادة
يعقوب الى دخوله مع بنيه الى مصر «تك ٤٧ ، ٩».
٤٣٠ وإقامة بني
اسرائيل في ارض مصر «خر ١٢ ، ٤٠».
١ شريعة سفر
الخروج ونواميسه.
١ / ٦٤٧ شريعة سفر
اللاويين ، وعشر أبواب من سفر العدد ونواميسها.
٣٨ / ٦٨٥ باقي
الناموس الى ختامه عند تثنية بيانه.
وبمقتضى التوراة
ان ابراهيم توفاه الله بعد ما خرج من حاران بمائة سنة «انظر تك ١٢ ، ٤ ، و ٢٥ ، ٧».
وعلى هذا فالزمان
الفاصل بين مواعيد الله لإبراهيم حينما تجلى له وبين ابتداء الناموس الذي نزل على
موسى لا يمكن ان يكون أقل من خمسمائة وخمس وأربعين سنة ..
إذا عرفت هذا فقد
جاء عن بولس في ثالث غلاطية ١٦ ، وأما المواعيد فقيلت في ابراهيم وفي نسله ، لا
يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد ، وفي نسلك الذي هو المسيح ١٧ ،
وإنما أقول هذا : ان الناموس الذي صار بعد أربعمائة وثلاثين سنة لا ينسخ عهدا قد
سبق فتمكن من الله ، وأقل اختلاف يفرض بين هذا الكلام وبين التقويم المتقدم عن التوراة
العبرانية هو مائة وخمس عشرة سنة.
قال المتكلف «يه ٤
ج ص ٧ و ٨» ما ملخصه ان الموعد المشار إليه في كلام بولس هو الوعد الذي وعد الله
به ابراهيم «تك ١٢ ، ٣» عند ما أمره بالتغرب عن وطنه وعشيرته ، ومن هذا الموعد الى
نزول الشريعة ٤٣٠ سنة لأن
عمر ابراهيم حينئذ
كان ٧٥ سنة ، ومنه الى دخول بني اسرائيل مصر ٢١٥ وأقاموا في مصر ٢١٥ يكون المجموع
الى نزول الشريعة ٤٣٠ سنة ، انتهى ملخصا.
قلت : قد أوضحنا
لك قريبا في القسم الأول من أقسام الاختلاف الثلاثة كيف قد تقلب المتكلف في
التناقض في هذا المقام وقلق في أغلاطه ، فراجعها الى الغلط الرابع عشر واكفنا
مئونة التكرار ، ولكنا نوضح لك هاهنا انه لو فرضنا ان إقامة بني اسرائيل في مصر
كانت ٢١٥ سنة أو ٢١٠ سنين كما تقلب به المتكلف لما أمكن أيضا انطباق الكلام الذي
ذكرناه عن غلاطية على موعد من مواعيد الله لابراهيم المذكورة في التوراة لا من حيث
المعنى ولا من حيث التقويم أصلا ورأسا.
فلنذكر لك ما جاء
في التوراة من مواعيد الله وعهوده لابراهيم.
فالموعد
الأول : وهو الذي عناه
المتكلف وعيّنه في كلامه جاء في «تك ١٢ ، ٢ و ٣» وليس فيه ذكر للنسل الذي ذكر في
كلام غلاطية أصلا ، وتاريخ هذا الموعد اما عند خروج ابراهيم من حاران حينما كان
عمر ابراهيم ٧٥ سنة كما زعم المتكلف هاهنا.
وإما عند خروجه
مما بين النهرين أي «أور الكلدانيين» على قول استفانوس «ا ع ٧ ، ٣ ـ ٤» ، وعلى زعم
المتكلف أيضا في أول جدوله كما تقدم ، وبمقتضى تقويم المتكلف في جدوليه يوافق السبعين
من عمر ابراهيم.
الموعد
الثاني : بعد اعتزال لوط عن
ابراهيم وبعد رجوعهم من مصر وعند ما أقام ابراهيم في حبرون وهو «تك ١٣ ، ١٥ و ١٦»
، وذلك بعد دخول ابراهيم الى أرض كنعان بسنين ، والنصارى يقولون في تواريخهم :
انها كانت خمس سنين أو أربع.
وصريح هذا الوعد
ان المراد من النسل هم الكثيرون الذين يعسر عدهم كتراب الأرض.
الموعد
الثالث : بعد ذلك وبعد حرب
ابراهيم مع الملوك «تك ١٥ ، ٥ ـ
١٩» ، وصريحه أيضا
ان المراد من النسل الكثيرون الذين يعسر عدهم والذين يستعبدون ويذلون في مصر.
العهد
الرابع : لما كان ابراهيم
ابن تسع وتسعين سنة «تك ١٧ ، ٧ و ٨» وهو صريح أيضا في ان المراد من النسل هم
الكثيرون في أجيالهم.
العهد
الخامس : فإنه بهذا التاريخ
وهذا المعنى «تك ١٧ ، ٩ ـ ١٣».
العهد
السادس : حينما عزم ابراهيم
على ذبح اسحاق قربانا «تك ٢٢ ، ١٦ ـ ١٩» وهو أيضا صريح في ان المراد من النسل هم
الكثيرون ، الذين هم كنجوم السماء وكالرّمل.
وليس في هذه
المواعيد لفظ «في نسلك» الذي يتشبث به كلام غلاطية إلا في الموعد الأخير ، ولكن ما
شئت فابذل جهدك وسعيك في تطبيق كلام غلاطية المنسوب إلى بولس على أحد المواعيد
التي ذكرناها من حيث اللفظ أو المعنى أو التاريخ.
أما الوعد الأول
فليس فيه ذكر للنسل أصلا ، وأما المواعيد الأربعة التي بعده فليس فيها لفظ «في
نسلك» ، بل ذكر النسل بعبارة اخرى صريحة في ان المراد من النسل هم الكثيرون في
أجيالهم.
وأما الوعد السادس
فانه وإن كان فيه لفظ «في نسلك» لكنه صريح في ان المراد من النسل هم الكثيرون
كنجوم السماء وكالرمل ، ولا يمكن تطبيق تقويمه على كلام غلاطية ، فاذن ليس في
التوراة كلام ينطبق عليه الكلام الذي سمعته عن غلاطية لا من حيث المعنى ولا من حيث
التقويم حتى بالتقويم الذي اضطرب في دعاويه المتكلف ، مضافا الى انه جاء أيضا في
الرسائل المنسوبة إلى بولس ما هو صريح في ان المراد من النسل في مواعيد ابراهيم هم
الكثيرون ، وان زعم ان المراد منهم أولاد الموعد لا أولاد الجسد ، «فانظر رو ٩ ، ٧
و ٨» ، وأظن ان كاتب رسالة رومية لم يطلع على رسالة غلاطية أو بالعكس.
والحاصل ان كلام
غلاطية زيادة على غلطه في المعنى فهو مناقض لتقويم التوراة كما ذكرناه أولا.
المقام
الثالث : من اختلاف العهدين
جاء في انجيل متى قوله : «٢٧ ، ٩ و ١٠» حينئذ تم ما قيل بارميا النبي القائل :
وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني اسرائيل وأعطوها عن حقل
الفخاري كما أمرني الرب.
هذا مع ان هذا
المنقول لا يوجد في كتاب ارميا ، نعم يوجد له مشابه في بعض المفردات في كتاب زكريا
وهو قوله «١١ ، ١٢ و ١٣» فوزنوا اجرتي ثلاثين من فضة فقال لي الرب : ألقها إلى
الفخاري الثمن الكريم الذي ثمنت عليهم فأخذت الثلاثين الفضة وأرسلتها الى الفخاري
في بيت الرب ، وأنت ترى انه لا مماثلة من حيث المعنى ولا التركيب بين ما ذكرنا عن
متى وما ذكرناه عن زكريا ، وإنما توجد المماثلة بين بعض المفردات مثل : ثلاثين ،
وفضة وثمن ، والذي ، والرب.
فان أغمضنا عن مسخ
التركيب والمعنى فقد غلط كاتب الإنجيل في نسبته الى ارميا وهو في كتاب زكريا ، أو
غلط كتاب العهد القديم إذ جعلوه في كتاب زكريا وهو من كتاب ارميا ، وإن أغمضنا عن
الغلط في النسبة ، فقد غلط كاتب الإنجيل في مسخ التركيب ، وتبديل الاسم ، أو غلط
العهد القديم في نقل الكلام على وجهه.
نقل إظهار الحق في
الشاهد التاسع والعشرين من المقصد الثاني من الباب الثاني عن كتاب «وارد كاتلك» عن
كتاب «مستر جويل» ان متى غلط فكتب «ارميا» موضع زكريا.
وعن «هورن» في
تفسيره اعترافه بأن في هذا النقل اشكالا جدا من اجل عدم وجوده في ارميا وعدم
مطابقته لما في زكريا. ونقل عن بعض المحققين بناءهم على احد امرين. اما تبديل
الكتاب لزكريا بارميا غلطا. واما ان لفظ ارميا ألحقه الكتاب غلطا ، ثم قوى هورن
هذا الأخير ونقل إظهار الحق عن بعض مفسريهم انه وجهه بالوجه الأول.
وعن ابن ساباط ان
بعض قسيسيهم اعترف بأن متى كتب هذا اعتمادا
على حفظه بدون
مراجعة للكتب فوقع في الغلط ، وقال بعضهم ، لعل زكريا يكون مسمى بأرميا أيضا.
والمتكلف «يه ٣ ج
ص ٢٧١» من شدة عناده للحق ، أو من كثرة علمه نسب إظهار الحق الى الهذيان حيث نقل
الحيص والبيص من علماء النصارى في هذا المقام.
وليت شعري لما ذا
حمل على إظهار الحق قصاص علماء النصارى ومفسريهم إذا انطقوا في اضطرابهم ببعض
الصواب الباهظ لضلال الأهواء ، فهل يقول المتكلف ان عدل الله وقداسته ومقته
للخطيئة والخطأ والخبط والغلط اقتضى ان يكون إظهار الحق فاديا لمتى والمفسرين.
دع هذا فإن
المتكلف «يه ٣ ج ص ٢٧٢» زاد في الخبط والاضطراب في هذا المقام ، فزعم «أولا» ان من
اصطلاحات علماء اليهود القديمة انهم كانوا يقسمون الكتب المقدسة إلى ثلاثة أقسام :
القسم
الأول : شريعة موسى ،
وكانوا يسمونها الشريعة.
القسم
الثاني : المزامير.
القسم
الثالث : قسم الأنبياء
ويسمى ارميا ، من اطلاق الجزء على الكل ، وسبب تسمية قسم الأنبياء بأرميا هو انهم
ذكروا نبواته أول الأنبياء على هذا الترتيب وهو ارميا وحزقيال وأشعيا ، ثم نبوات
الاثني عشر نبيا صغيرا.
قلت : يحكى ان بعض
الكذّابين أوصى ولده وقال له : إذا كذبت فاستشهد بالأموات ، كيف وان الموجود من
العهد القديم العبراني هو انهم ذكروا بعد أسفار التوراة حصتين سموا الاولى «نبيايم
ـ اشونيم» ـ أي الأنبياء الأولين ـ وهي ستة كتب أولها كتاب يوشع وآخرها الملوك
الثاني ، وسموا الحصة الثانية «نبيايم احرونيم» ـ أي الأنبياء الآخرين ـ وهي خمسة
عشر كتابا أولها كتاب اشعيا وآخرها كتاب ملاخي.
ثم ذكروا بعد ذلك
حصة سموها «كتوبيم» وهي ثلاثة عشر كتابا أولها المزامير «تهليم» وآخرها أخبار
الأيام الثاني.
فليس في العهد
القديم العبراني حصة أولها كتاب ارميا ، ولا حصة تسمى ارميا ، واليهود لا يعرفون
ذلك عن سلفهم ، وانجيل متى لم يقل بالأنبياء بل قال «بأرميا النبي القائل» وهذا
كالصراحة بإرادته كتابا واحدا ولو خادعنا نفوسنا وسلمنا دعوى المتكلف في اصطلاحات
اليهود القديمة ، وأعرضنا عن دلالة اللفظ لقلنا ان انجيل متى لم يجر على هذا
الاصطلاح المكذوب ، بدليل انه قال «مت ٢٧ ، ٣٥» «لكي يتم ما قيل بالنبي» وهو يعني
بذلك كتاب المزامير ، فإن قسم المزامير لا يسمى عند اليهود بالنبي ولا الأنبياء لا
في الاصطلاح المكذوب ، ولا في الاصطلاح المعروف بل يسمى «تهليم».
فإن قلت : ان
استشهاد انجيل متى بما ذكرته عن المزامير غير ثابت بل ذهب بعض المفسرين الى ان
الفقرة المشار إليها يجب حذفها لأنها ليست في المتن وإنما هي مأخوذة من انجيل
يوحنا «١٩ ، ٢٤» ولذا جعلوها في انجيل متى بين خطين هلاليين.
قلت ـ أولا : ان
المتكلف يعترف «يه ٣ ج ص ٢٧٤» بأن هذه الفقرة في انجيل متى ثابتة في النسخ
المعتبرة والقراءات الصحيحة.
وثانيا : انك لم
تأت في هذا بشيء إلا انك جلبت على الإنجيل مصيبة اخرى وهي أن تكون مثل هذه الفقرة
الطويلة زائدة فيه من عبث التصرف.
وزعم المتكلف
ثانيا : ان كلمة «ارميا» تكتب باللغة اليونانية «ايريو» وكلمة زكريا «زيريو»
بتغيير الألف إلى زاي فقط فنشأ هذا الاختلاف.
قلت : إذن فيحق أن
يصنع التنوير والاحتفال لإتقان الإنجيل في لغته وكتابته ، وللمتكلف في رؤياه
النبوية.
وزعم ثالثا : بأن
البعض ذهب الى ان ارميا هو الذي تكلم بهذه الكلمات وان زكريا نقل عنه.
قلت : دع عنك ان
سوق الكلام في كتاب زكريا يأبى ذلك ويبطل هذه الدعوى ، ولكن كان على هذا البعض إذ
تنبأ من هواه بهذا الغيب ان يتم
الإصلاح لنقل
انجيله فيتنبأ ويقول : ان العبارة الأصلية لأرميا موافقة لعبارة متى ، وان الخطأ
وقع في نقل زكريا.
المقام
الرابع : وأيضا جاء في
العهد القديم ان «بلعام» هو ابن «بعور» بالعين قبل الواو «عد ٢٢ ، ٥ وتث ٢٣ ، ٤
ويش ١٣ ، ٢٢ ومي ٦ ، ٥».
وجاء في العهد
الجديد «بلعام» ابن «بصور» بالصاد قبل الواو ، «٢ بط ٢ ، ١٥».
ولا تصغ الى
اعتذار المتكلف في مثل هذا بتقارب الحروف فان الفرق في الخط العبراني بين العين
والصاد من أوضح ما يكون في الفرق بين الحروف إلا أن يقول : ان كاتب العهد الجديد
لا يحسن ان يميز ما بين الحروف ، فقل له : إذن فقد وقع كتبة العهد القديم بمثل ذلك
، حيث اعتذرت عن اشتباههم مرارا بتقارب الحروف ، فلما ذا قسم الطالع للعهدين
بالكتبة الذين لا يميزون بين الحروف.
ولا تلتفت الى
نبواته الأهوائية إذا ادعى باطلا ان «بعور» لما تزوج أو لما نبتت لحيته ، أو لما
شاب ، أو لما ارتفع بعد الضعة ، أو لما اتضع بعد الرفعة صار اسمه «بصور» بالصاد ،
كما يلتجأ الى مثل هذا الخبط عند ما يضيق به الخناق كما ادعاه «يه ٢ ج ص ١٢٨» ، لما
سمى العهد القديم أمّ سليمان النبي مرة «بت شبع بنت اليعام» «٢ صم ١١ ، ٣» ، ومرة «بت
شوع بنت عميئيل» «١ أي ٣ ، ٥» ، وادعاه أيضا في كتابه في كثير من اختلاف العهد
القديم.
المقام
الخامس : في اختلاف ذات
الأناجيل فيما بينها في التاريخ ، ولنكتف من ذلك بما ذكرناه في الجزء الأول صحيفة
٢٣٧ ـ ٢٦٤ فراجعه ، فإنه يشتمل أيضا على القسم الاول وهو اختلاف ذات الكتاب الواحد
في تاريخه.
المقام
السادس : في اختلاف كتب
العهد القديم فيما بينها في التاريخ جاء في سفر الملوك الثاني ٨ ، ٢٦ ابن اثنتين
وعشرين سنة اخزيا هو عند ملكه وسنة واحدة ملك بأورشليم واسم أمه عثليا بنت عمري
ملك اسرائيل ، وجاء في سفر الأيام الثاني ٢٢ ، ٢ ابن اثنتين وأربعين سنة اخزيا هو
عند ملكه وسنة
واحدة ملك
بأورشليم واسم أمه عثليا بنت عمري.
فزاد تاريخ سفر
الأيام على تاريخ سفر الملوك عشرين سنة ، مع ان ما في سفر الايام لا يكاد أن يصح
لنص العهد القديم على ان أباه يهورام مات وهو ابن أربعين سنة ، وان اخزيا صار ملكا
سنة موت أبيه «فانظر ٢ مل ٨ ، ١٧ و ٢٥ ، و ٢ مل ، ٢١ ، ٢٠» وعلى هذا يلزم أن يكون
اخزيا أكبر من أبيه بسنتين.
قال المتكلف «يه ١
ج ص ٢٨٢» المراد بقوله «يعني الايام الثاني ٢٢ ، ٢» اثنتين وأربعين سنة ـ أي من
دولته ـ وانه صار للدولة التي هو منها ٤٢ سنة وكان عمره نحو اثنتين وعشرين سنة.
قلنا : سامحنا
المتكلف في دعواه التي لا يرتضيها لنفسه كل مؤرخ يعرف من لحن الكلام والتاريخ موطئ
قدمه ، ودعه يرضى مثل ذلك لأنبيائه وكتب وحيه ، وإن خالفه اسلوب كل التاريخ
المذكور في العهد القديم ، ولكن قبل أي وقت من الدولة يأخذه مبدأ للاثنتين وأربعين
سنة ، فإن كان ابتداء دولة أبيه يهورام فإنه يكون ابن ثمان سنين ، وإن كان ابتداء
دولة جده يهوشافاط فانه يكون ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وإن كان ابتداء دولة جد أبيه
آسا فإنه يكون ابن أربع وسبعين سنة ، أم يقول : ان الوحي اشتهى سنة من السنين
فجعلها مبدأ للتاريخ ، وعلى كل حال فلا غلط ، ولا خبط ولا اختلاف.
ثم قال «ص ١٨٣»
ثانيا قرأ عوضا عن ٤٢ سنة ٢٢ وعليه فلا لزوم إلى التأويل ، وسبب اختلاف القراءة هو
ان العبرانيين كانوا يستعملون الأحرف للدلالة على الأعداد ، وبما انه يوجد تشابه
بين الحرف الدال على العدد ٢ والحرف الدال على العدد ٤ نشأ هذا الاختلاف في
القراءة وهو أمر نادر جدا في كتاب الله وهو يكاد أن يكون كالمعدوم.
قلت : أولا ان اليهود وإن كانوا ربما يشيرون الى العدد بالحروف ولكنه
لا أثر لذلك في متن العهد القديم العبراني ، بل ان جميع أعداده مذكورة باللفظ
الصريح حتى في هذا المقام ، إلا ان يقول المتكلف ان المتن العبراني كالحرباء يبرز
كل زمان بلون.
وثانيا
: ان إشارتهم الى
العدد إنما هي بحروف «ابجد» الكبير الذي تكون فيه مراتب العدد محفوظة في ذات الحرف
لا بموقعه في الصف ، كما هو في الإشارة بالأرقام.
فالمتكلف غلط في
قوله «تشابه الحرف الدال على العدد ٢ والحرف الدال على العدد ٤» بل الاشتباه في
مثل المقام يكون بين الحرف الدال على عشرين وهو الكاف ، والحرف الدال على اربعين
وهو الميم.
وثالثا
: ان الباء والدال
والكاف والميم في الخط العبراني متباعدة في الشكل كتباعدها في الخط العربي أو أكثر
فلا يشتبه بها إلا من لا يميز من الخط إلا السواد على البياض ، فقرّت عين المتكلف
بكتبه وكتبتها وقرّائها وحملتها.
ورابعا
: ان قوله : وهذا
نادر جدا في كتاب الله إنما هو قول من لا خبرة له في كتابه أو قول من لا يبالي
بدعاويه الوقتية وإن قدم وأخر ما ينفضها ، كيف لا وقد تشبث باشتباه الحروف
وتقاربها في الاعتذار عن كثير من أغلاط العهدين «فانظر الجزء الأول صحيفة ٢٤٢» كما
اعتذر بذلك «يه ١ ج ص ١٨٠» عن اختلاف العهد القديم في نحو تاريع وتحريع ، وبنعة
وينعة ، ويهوعده ويعره ، على انا قد ذكرنا لك في التمهيد ان الحواشي قد ذكرت من
أغلاط الحروف في المتن العبري ما يزيد على الألف مع انها قد اهملت من ذلك الكثير ،
ولكن المتكلف لا يبالي ان يقول مع ذلك ، وعلى كل حال فلا اشتباه بالحروف في كتاب
الله.
«وأيضا» جاء في
الملوك الثاني ٢٤ ، ٨ ابن ثماني عشرة سنة يهوياكين عند ملكه وثلاثة أشهر ملك
بأورشليم.
وجاء في الأيام
الثاني «٣٦ ، ٩» ابن ثماني سنين يهوياكين عند ملكه وثلاثة أشهر وعشرة أيام ملك
بأورشليم ، فاختلف التاريخان في عمره عند ملكه بعشر سنين.
وقال المتكلف «يه
١ ج ص ١٨٣» لما كان عمره ثماني سنين أشركه معه والده في الحكم ليمرنه ويدربه على
السياسة والإدارة ، ومع ذلك فلم يملك
رسميا إلا لما كان
عمره ثماني عشرة سنة.
قلت : دع عنك ان
هذه الدعوى تقول بلا أثر يشهد لها وإنما أوردها على اللسان والقلم ذلك الروح
المذكور «١ مل ٢٢ ، ٢٢ ، و ٢ أي ١٨ ، ٢١» ولكن ما يصنع المتكلف والمرسلون
الامريكان بقول الأيام الثاني ٣٦ ، ٥ ابن خمس وعشرين يهوياقيم عند ملكه وإحدى عشر
سنة ملك بأورشليم ، وملك يهوياكين ابنه عوضه ٩ ابن ثماني سنين يهوياكين عند ملكه
وثلاثة أشهر وعشرة أيام ملك بأورشليم.
وطابق أنت هذه
العبارات مع ٢ مل ٢٣ ، ٣٦ ، و ٦٢٤ و ٨ فانه لو كان المراد كما يزعمه المتكلف هاهنا
لكان نبيه ووحيه قد غلطا في قولهما ان يهوياكين ملك عوض أبيه ، بل كان عليهما ان
يقولا «معه» وغلطا في قولهما ان يهوياكين ملك ثلاثة أشهر وعشرة أيام ، بل كان
عليهما ان يقولا عشر سنين وثلاثة أشهر وعشرة أيام ، فلا يصح لسفر الايام إلا أن
يريد في جميع كلامه ملك يهوياكين الرسمي بعد أبيه.
المقام
السابع : في اختلاف كتب
العهدين فيما بينها في التاريخ ، جاء في صموئيل الثاني ٢٣ ، ٨ هذه أسماء الأبطال
الذين لداود ، يوشيب بشبث التحكموني رئيس الثلاثة هو هزّ قناته على ثمان مائة قتيل
دفعة واحدة ٩ وبعده العازرا ابن ددي ابن اخوخي ١١ ، وبعده شمة ابن اجي هاراري ،
فاجتمع الفلسطينيون جيشا وكانت هناك قطعة مملوءة عدسا.
وجاء في الأيام
الاول في هذا الموضوع ١١ ، ١١ وهذا عدد الابطال الذي لداود ياشا بعام ابن حكموني
رئيس الثوالث هو هزّ رمحه على ثلاث مائة قتيل دفعة واحدة ١٢ ، وبعده العازرا ابن
دودو الاخوخي ١٣ والفلسطينيون اجتمعوا هناك للحرب ، وكانت قطعة الحقل مملوءة شعيرا
فاختلف الكتابان في نقل القصة الواحدة في امور.
١ ـ يوشيب بشبث ، وباشبعام.
٢ ـ التحكموني ابن حكموني.
٣ ـ ثمان مائة قتيل دفعة واحدة ، ثلاث مائة قتيل دفعة واحدة.
٤ ـ ددي ابن اخوخي ، دودو الاخوخي.
٥ ـ مملوءة عدسا ، مملوءة شعيرا.
وحاصل ما عند
المتكلف في هذه الورطة ثلاث دعاوى تزيد في الطنبور نغمة.
١ ـ ان العلم قد يكون مركبا من اسم فاعل وجار ومجرور فان بشبث
الرابض في مكانه.
٢ ـ ان احد النبيين ذكر ٣٠٠ عدد المقتولين ، والثاني ذكر ٨٠٠
عدد المقتولين مع الجرحى والهاربين.
٣ ـ ان يكون العددان في حادثتين مختلفتين «انظر يه ١ ج ص ١٨٤ و
٣ ج ص ٢٢٩».
فنقول :
أولا
: هب ان بشبث علم
مركب ، ولكن ما وجه التوفيق بذلك بينه وبين يوشيب وبين باشبعام ، وما وجه التوفيق
بين وصفه بالتحكموني وبين جعله ابن حكموني.
وثانيا
: ان كلا الكتابين
قالا ٣٠٠ و ٨٠٠ قتيل دفعة واحدة ولفظ ذلك في الأصل العبراني في كلا الكتابين «حالال»
وهو القتيل «انظر تث ٢١ ، ١ و ٣ و ٦ ، وا صم ٣١ ، ١ و ٨ ، و ١ أي ١٠ ، ٨» فهل يقول
المتكلف ان أحد النبيين جهل الحقيقة فعد الجرحى والهاربين من قسم القتلى ، ولعله
يقول ذلك لكي يحامي عن كتبه المملوءة غلطا والتي لا تعرف الأنبياء ولا يعرف
الأنبياء صورتها المستحدثة.
وثالثا
: ان كل من يفهم ما
يقول وما يسمع وما يقرأ ليعلم ان المراد من صموئيل الثاني «٢٣ ، ٨ ـ ٣٩» هو المراد
من الأيام الأول «١١ ، ١٠ ـ ٤٧» كما يعلم ان العازار ابن ددي ابن اخوخى هو الذي
قيل فيه العازار ابن دودو
الاخوخي ، وان
العدس هو الذي قيل فيه شعير.
وكما يعلم أيضا من
صموئيل الثاني ٢٣ ، ٢٥ «بان شمة الحروري» هو المذكور في الأيام الاول ١١ ، ٢٧ «شموت
الهروري» و «حالص الفلطي» ٢٦٢ هو «حالص الفلوني» ٢٧ و «خالب ابن بعنة» ٢٩ هو خالد
ابن بعنة ٣٠ و «هدى من أودية جاعش» ٣٠ هو «حوري» ٣٢ و «اخيام ابن شاراد الاراري»
٣٣ هو «اخيام ابن ساكار الهرادي» ٣٥ ، ولو قابلت «٢ صم ٢٣ ، ٢٤ ـ ٣٩ مع ١ أي ١١ ،
٢٦ ـ ٤٧» لوجدت الاختلاف الفاحش في الأسماء ، مع ان المقامين متصديان لذكر أمر
واحد ، ولا يخفى عليك ان هذا كله من الغلط الذي أشرنا إليه آنفا.
المقام
الثامن : في اختلاف الكتاب
الواحد من العهد القديم ، جاء في الملوك الثاني «١ ، ١٧» ان اخزيا ابن اخاب ملك
اسرائيل مات وملك عوضه أخوه يهورام ابن اخاب في السنة الثانية ليهورام ابن
يهوشافاط ملك يهودا ، وجاء فيه أيضا «٨ ، ١٦» وفي السنة الخامسة ليهورام ابن اخاب
ملك اسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا ملك يهورام ابن يهوشافاط ملك يهودا وإذا كان
يهورام ابن يهوشافاط قد ملك في السنة الخامسة لملك يهورام ابن اخاب فكيف يكون
يهورام ابن اخاب ملك في السنة الثانية لملك يهورام ابن يهوشافاط ، ودع باقي
المناقضات في الملوك الثاني ، وبينه وبين الأيام الثاني في تاريخ هذين الملكين
ويهوشافاط ، ودع المترجمين يسقطون ويحرفون ما شاءوا حيث لا يقبل منهم ولا يجديهم.
وقد أدى بنا
التطويل في هذا المقام إلى السأم ، وفي هذا الأنموذج كفاية ، وليس الغرض من هذا
المقام هو الاستقصاء فإنه يحتاج الى كتاب برأسه ، بل وليس الغرض بيان أغلاط
المتكلف في كل ما أجاب به إظهار الحق ، ولعلما نستطرد في المباحث الآتية كثيرا من
ذلك إن شاء الله.
* * *
فلنشرع بعون الله
فيما هو المقصود في الفصل الرابع الذي قدمنا لأجله
هذا التمهيد ، قال
الله جل اسمه في سورة حم فصلت ٨ (قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ٩ وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ١٠ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ١١ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
واعترض المتعرب «ذ»
٤٤ على هذه الآيات باعتراضين «الأول» زعمه انه يتحصّل من الآيات الكريمة المذكورة
ان خلق الأرض والسموات كان في ثمانية أيام «وذلك لمكان يومين وأربعة أيام ويومين
ثم زعم انه منقوض في سبعة مواضع من القرآن بما معناه انه «جل شأنه» خلق السموات
والارض وما بينهما في ستة أيام لا ثمانية.
قلت : لا يخفى ان
الجبال جزء من الارض التي خلقت في يومين وهي مخلوقة بخلق الارض ولكن جرى التنصيص
على ذكرها للامتنان بجعلها على الارض لما فيها من الفوائد ودفع المضار ، كما أشرنا
إليه في هذا الجزء صحيفة ٣٩ ـ ٤١ ، ولم يقل جل اسمه : «وخلق فيها رواسي» بل قال : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) وذلك لئلا يتوهم ان خلق الجبال كان منفصلا عن خلق الارض في
اليومين ، بل لينبه على ان الجبال من المخلوق في اليومين ، وجرى التنصيص عليها
للامتنان بحكمتها الظاهرة فيكون ذكر جعل الجبال بمنزلة الإعادة لذكر الخلق المتقدم
في الآية الاولى ، لأن جعل الجبال كان من جملتها ، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى ،
فيكون قوله تعالى في الآية الثانية : (وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) بمنزلة قوله تعالى خلقها مع جبالها الرّاسية النافعة ،
وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ، فيكون اليومان داخلين في الأربعة
فتتم فائدة التفصيل والبيان والتمجّد بالقدرة والامتنان بقوله تعالى: (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وبيانه جل شأنه بقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ).
الاعتراض الثاني :
هو ان الآيات المذكورة تدل على ان خلق السموات
كان بعد خلق الارض
، فزعم انه منقوض بقوله تعالى في سورة النازعات ٢٧ (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ٢٨ رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ٢٩ وَأَغْطَشَ
لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ٣٠ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ٣١ أَخْرَجَ
مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ٣٢ وَالْجِبالَ أَرْساها ٣٣ مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ).
قلت : منشأ توهّم
المتعرب في زعمه هذا أمران «أحدهما» توهمه ان قول الله جل شأنه : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) معطوف ومرتب على قوله تبارك اسمه : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها
أَقْواتَها) وليس كما توهم ، بل انه معطوف على قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ).
«وثانيهما : توهمه
ان قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) ، بمعنى أنشأ خلقها ، وليس كما توهم ، بل ان معنى قوله
تعالى : (دَحاها) مهّدها وأعدّها للسكنى وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها
وأخرج منها مائها ومرعاها متاعا للناس ولأنعامهم.
ولو اعتمدنا على
الهيئة الجديدة لفهمنا من قوله تعالى : (دَحاها) انه سخرها للحركة الاينية في الدوران على الشمس بعد أن خلق
الشمس في جملة السموات وأودع فيها القوة الجاذبة فيكون قوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) حالا من الضمير البارز في (دَحاها) ، كما انه يكون على المعنى الأول بدلا من قوله تعالى : (دَحاها).
فيكون حاصل الآيات
السابقة هو ان الله جلت قدرته خلق الأرض وأنشأها في يومين ثم استوى الى السماء
فسواهنّ سبع سماوات في يومين ، وخلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها
أقواتها في أربعة تامة في العدد وإن كانت مفصولة بوقوع خلق السموات بين خلق الأرض
وبين البركة فيها وتقدير أقواتها.
ومما يرشد من نفس
الآيات الى أن يومي خلق الارض مفصولان عن يومي البركة فيها وتقدير أقواتها هو قوله
تعالى : (سَواءً
لِلسَّائِلِينَ) أي أربعة تامة العدد فيما يتعلق بالأرض وإن كانت مفصولة
بخلق السموات كقوله تعالى في
سورة البقرة ١٩٢ :
(ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) أي كاملة في العدد وإن كانت مفصولة بمدة الرجوع الى الوطن.
«فإن قلت» : فلما
ذا لم يجر البيان على نسق التكوين والتقدير ، «قلت» ليجري البيان والامتنان في
النظام الأرضي في تكوينها وتقدير أقواتها مطّردا في نسق واحد ، وينتظم فيه التقدير
بأربعة أيام ، فإنه لا يخفى ان اذهان عامة البشر أقرب الى الالتفات الى تأثير
النعم الأرضية في قوام حياتهم وقرار تعيشهم ، وأما النعم السماوية فلا يلتفت الى
حقيقة مداخلتها في ذلك بما لها من التسبيب إلا الخواص.
«فإن قلت» : قد
قدمت ان خلق الجبال كان في جملة خلق الأرض في اليومين قبل خلق السموات.
إذن فما ذا تقول
في قوله تعالى في السادسة من الآيات الأخيرة «والجبال أرساها» ، أفليس ذلك يدل على
ان خلق الجبال كان بعد خلق السماء ، «قلت» ان إرساء الجبال ليس بمعنى خلقها بل
بمعنى تثبيتها وإعطائها قوة الثبات في محالها حينما تحتاج الى ذلك بواسطة الصوادم
أو حركة الارض عند دحو الأرض وتقدير اقواتها إذ كان من ذلك ان اودع بقدرته في
جوفها المواد البخارية والنارية السيّارة لتوليد معادنها ونباتها وتصعيد مياهها ،
فمنح الله الجبال قوة إرسائها فلا يزعزعها ويلاشيها ما قدّر الله خروجه منها من
المواد البخارية والنارية السيارة في جوف الأرض لكي تدوم بذلك حكمة خلقها كما
أشرنا إليه في هذا الجزء. صحيفة ٤٠ ـ ٤١ وجعلها راسية عند ما دحا الأرض بالحركة
الوضعية أو الاينية فدبّت فيها الحرارة السيارة وتوجهت الى الخروج من الجبال ، أو
لهذا ولانها لا تنهال بواسطة الحركة وتتزعزع من مكانها وذلك اما بقوة كافية في ذلك
كله ، أو بأن جعل في طبيعتها الميل الى مركز الارض كما تقوله الفلسفة القديمة أو
بحبسها بإحاطة الهواء الثقيل المطلق كما يقال في الفلسفة الجديدة «إن الله بالغ
أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا» ، ولعل ما الى نحو هذه الحركة يشير قوله تعالى في
سورة النمل ٩٠ (وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ).
واعترض المتكلف
على الآيات السابقة من سورة فصلت أيضا فقال «يه ٢ ج ص ١٠٨» ومن طالع الاصحاح الاول
من سفر التكوين وجد أغلاطا جمّة في عبارة القرآن.
ففي اليوم الأول
خلق الله النور وفي اليوم الثاني خلق الله الجلد وفي اليوم الثالث خلق الله الأرض
وجعلها تنبت العشب وفي اليوم الرابع خلق الشمس وفي اليوم الخامس خلق الله الطيور
والزحافات وفي اليوم السادس خلق الله البهائم والوحوش وغيرها وفي اليوم السابع خلق
الله الإنسان ، كما هو مذكور بالتفصيل في الاصحاح الاول من سفر التكوين.
قلت
: «أولا» ان أردت أن تعرف
حال التورية التي يعترض بها فانظر الى ما ذكرنا في الصدر والتمهيد مع ما أشرنا
إليه في الجزء الأول لكي تعرف ما هي عليه من تعدد مواليدها ومسمّياتها ، ونشوءها ،
وأحوالها ، واسقامها وإنكار المفسرين المدققين لمضامينها وصراحتها ، وشهادة جملة
من المفسرين بزيادتها ونقصانها ، واعراض قارئيها ومترجميها عن صورتها المشوهة
بالغلط والنقصان. ودع عنك ما ذكرنا في متفرقات الكتاب مما تتيقن منه بأن هذه
الصورة الموجودة لا تعرف كليم الله موسى عليهالسلام ولا يعرفها.
«وثانيا»
ان أردت ان تعرف
مقدار معرفة المعترض فانظر الى جهله بتوراته فانها تقول : ان اليوم الثالث قال
الله فيه : لتجتمع المياه تحت السماء الى مكان واحد ولتظهر اليابسة ، وكان كذلك
ودعى الله اليابسة أرضا ، ومجتمع المياه بحارا «تك ١ ، ٩ و ١٠» ، وهذا لا يدل إلا
على ان الارض كانت مخلوقة موجودة ولكنها مغمورة بالمياه ، فأمر الله المياه ان
تنحسر عنها لكي تظهر بعد الانغمار.
وزيادة على ذلك ان
توراته قد ذكرت قبل ذلك ان الارض كانت خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح
الله يرفرف على وجه المياه ، وقال الله ليكن نور ، ودعا الله النور نهارا والظلمة
ليلا ، وهو اليوم الأول «انظر تك ١ ، ٢ ـ ٦» ، وهذا يدل على ان الأرض مخلوقة قبل
خلق النور في اليوم الأول.
وان قوله وفي
اليوم السابع خلق الله الإنسان إنما هو أيضا جهل بصراحة
توراته في هذا
المقام وغيره ، فانها تقول ان الله خلق الإنسان في اليوم السادس «تك ١ ، ٢٦ ـ ٣١»
، وان الله تعالى فرغ في اليوم السابع واستراح من عمله «تك ٢ ، ٢ و ٣» وتقول في
ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحار وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع «خر
٢٠ ، ١١ و ٢٣ ، ١٧».
«وثالثا»
ان أردت أن تعرف
تنافي التوراة واضطرابها في المقام الذي يعترض به فاعرف ذلك أقلا من أربعة موارد :
١ ـ قد تقدم ان توراته تدل على ان الأرض كانت خربة وخالية قبل
خلق النور الذي حدث منه اليوم الاول وانها في اليوم الثالث ظهرت من تحت الماء بسبب
اجتماع المياه الى مكان واحد ، وهذا مناف لقولها فأكملت السموات والأرض وكل جندها
وفرغ الله في اليوم السابع.
وقولها هذه تولدات
السموات والأرض عند خلقها «تك ٢ ، ١ و ٤» فانها لم تؤرخ خلق الارض ، بل مقتضاها ان
خلق الأرض قبل الستة أيام ، وقبل خلق النور الذي تميزت به الأيام.
٢ ـ وإذا كان خلق الأرض هكذا وظهورها من الماء في اليوم الثالث
وذكرت خلق السماء في اليوم الثاني ، فهذا معا مناف لقولها هذه تواليد السماوات
والارض عند خلقها بيوم عمل الرب الاله الارض والسموات ، فكيف تجمع خلقهما بيوم
واحد مع انها تذكره في أيام متفرقة.
٣ ـ ذكرت ان الله جلت قدرته في اليوم الأول خلق النور وفصل بين
النور والظلمة ودعا النور نهارا ، والظلام ليلا وكان مساء وكان صباح ، وهذا مناف
لقولها ان الله في اليوم الرابع خلق الأنوار لتفصل بين الليل والنهار ولتحكم على
الليل والنهار وتفصل بين النور والظلمة «تك ١ ، ٤ ـ ١٩».
٤ ـ ذكرت ان الله أنبت العشب والبقل والشجر المثمر في اليوم
الذي عمل فيه الارض بأن أظهرها من تحت الماء وهو اليوم الثالث «تك ١ ، ٩ ـ ١٣»
وهذا مناف لقولها كل شجر البرية لم يكن بعد في الارض وكل عشب البرية لم ينبت بعد
في الارض ، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض ، ولا كان
إنسان ليعمل
الأرض.
فإن هذا الكلام
يدل على ان نبات الشجر كان موقوفا على وجود الإنسان الذي يعمل الارض ، وهي تذكر ان
الإنسان لم يخلق إلا في اليوم السادس ، فأين قولها ان الشجر نبت في اليوم الثالث.
هذا مضافا الى
كونها تذكر ان السموات تفصل بين مياه ومياه من فوقها وتحتها «تك ١ ، ٦ ـ ٨» مع ان
المتكلف وقومه المعتمدين على الهيئة الجديدة يعدون هذا من الخرافات.
وأيضا صريح هذا
المقام ان الله خلق النور والسموات والشمس والقمر والكواكب والعالم الأرضي من نبات
وشجر وحيوان هذا كله وفيما بين خلقه وبين خلق آدم خمسة أيام ، وقبل ذلك لم يكن ،
وغالب قوم المتكلف يعدّون هذا أيضا من الخرافات.
أفبهذا الكتاب
وهذه المعرفة وهذا المقام المتناقض المرفوض في مضامينه يعترض المتكلف على القرآن
الكريم ، نعم ولعله بسبب هذه المعارف يتوقع من قومه مرتبة الأسقفية الكبرى.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة الحجر ٢٧ : (وَالْجَانَّ
خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) ، وفي سورة الرحمن ١٤ (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ).
فقال المتكلف فيما
قال «يه ٢ ج ص ٨٢» والحق هو ما ورد في كتاب الله من انه لا يوجد سوى الملائكة
الاخيار والملائكة الأشرار او أرواح طاهرة وأرواح شريرة ، ولا وجود لشيء يقال له
جن ، فالاعتقاد بوجود جن هو من الاعتقادات الوثنية.
قلنا : فاستمع لما
في العهدين مما هو من هذا الذي نفى المتكلف وجوده وجعله من الاعتقادات الوثنية.
ففي التوراة : لا
تلتفتوا الى الجان ولا تطلبوا التوابع فتتنجسوا بهم «لا ١٩ ،
٣١» والنفس التي
تلتفت الى الجان والتوابع لتزني ورائهم اجعل وجهي ضد تلك النفس.
وإذا كان في رجل
أو امرأة جان أو تابعة فانه يقتل «لا ٢٠ ، ٦ و ٢٧» لا يوجد فيك ، ولا من يسأل جانا
أو تابعة ، ولا من يستشير الموتى «تث ١٨ ، ١٠ و ١١».
وفي تاريخ منسى
ملك يهوذا انه استخدم جانا وتوابع «٢ مل ٢١ ، ٦ و ٢ اي ٣٣ ، ٦».
وانظر الى حديث
صاحبة الجان مع شاول «١ صم ٢٨ ، ٣ ـ ١٩ و ١ اي ١٠ ، ١٣» ، واسم الجان في الأصل
العبراني «اوب» و «اوبت» واسم التابعة «يدعني» والتوابع «يدعنيم».
وأما العهد الجديد
فقد ذكر ان الأرواح النجسة حينما نظرت المسيح خرّت له وصرخت قائلة : أنت ابن الله «مر
٣ ، ١١» ، وصرخ الروح النجس قائلا : آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا
أنا أعرف انك قدوس الله فانتهره يسوع قائلا : اخرس واخرج «مر ١ ، ٢٣ ـ ٢٥» واخرج
شياطين كثيرة ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه أو لم يدعهم يقولون انهم عرفوه
«مر ١ ، ٣٤ ولو ٤ ، ٤١» وان الروح النجس والشياطين لما رأى المسيح قال : ما لنا
ولك يا يسوع ابن الله أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا ، وطلبوا منه أن لا يأمرهم
بالذهاب الى الهاوية وان يأذن لهم بالذهاب الى قطيع الخنازير فأذن لهم وذهبوا إليه
«انظر مت ٨ ، ٢٨ ـ ٣٣ ومر ٥ ، ٦ ـ ١٤ ولو ٨ ، ٢٨ ، ٣٤».
فانظر الى الصفات
التي أثبتها العهد الجديد للأرواح النجسة ، واعلم انه كلما جاء في العهد الجديد
المعرب في حديث الأرواح النجسة للفظ شيطان وشياطين فقد ترجموه بالعبرانية بلفظ «شد
، وشديم» فظهر لك من العهدين ان الجان المذكور في العهد القديم هو نوع الجان ،
والروح النجس وشيطان وشد وشديم الواردة في العهد الجديد هم أشرار الجان ، وبذلك
تعرف انه قد أخطأ سايل «ق» ص ١٤٤ في قوله لا يختلف مذهب المسلمين في الجن عما يذهب
إليه اليهود في نوع من الأرواح الخبيثة يطلقون عليه اسم «شديم» ، وأما الشيطان
الذي هو ابليس فقد
ترجموه في العهد الجديد بالعبرانية بلفظ «شطن» كما جاء بهذا اللفظ في العهد القديم
العبراني «٢ صم ٢٤ ، ١ واي ١ ، ٦ و ٧ و ٨ و ١٩ و ١٢ ، و ٢ ، ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٦ و ٧
ومز ١٠٩ ، ٦ وز ك ٣ ، ١ و ٢».
وأما خلق الجان من
نار فهو أمر ممكن ولا طريق لاثباته ونفيه إلا من جهة الوحي الالهي وقد اخبر الوحي
بحقيقته فلا مساغ لانكاره خصوصا للنصراني ، فقد جاء في العهدين ما يخرس لسانه عن
الاعتراض في ذلك ففيهما الصانع ملائكته رياحا ، وخدامه نارا ملتهبة او لهيب نار «مز
١٠٤ ، ٤ وعب ١ ، ٧».
فالقرآن الكريم
ميز الجان من الملائكة ، وعين ان الجان هم المخلوقون من نار ، فبين بذلك ما اختلط
في العهدين في اسم الملائكة فجعلا منهم من خلق من نار ، ومنهم أشرار «مز ٧٨ ، ٤٩»
، ومنهم من طرحوا في جهنم (٢ بط ٢ ، ٤» مقيدين الى يوم القضاء «يه ٦».
فالذين سماهم
المتكلف تبعا لعهديه بالملائكة الأشرار والأرواح الشريرة هم قسم من الجان الذي
يذكره القرآن الكريم.
بيلي والمتكلف والأرواح النجسة
ذكر إظهار الحق في
الوجه الرابع عشر من الفصل الرابع من الباب الأول نقلا عن ص ٣٢٣ من الكتاب المطبوع
سنة ١٨٥٠ م تصنيف «بيلي» من محققي البروتستنت ما لفظه ، ولا نقول في الأشياء التي
هي أجنبية من الدين صراحة لكن يقال في الاشياء التي اختلطت بالمقصود اتفاقا قولا
ما ، ومن هذه الأشياء تسلطن الجن ، والذين يفهمون ان هذا الرأي الغلط كان عاما ،
في ذلك الزمان فوقع فيه مؤلفوا الاناجيل واليهود الذين كانوا في ذلك الزمان ، فلا
بد أن يقبل هذا الامر ولا خوف منه في صدق الملة المسيحية لأن هذه المسألة ليست من
المسائل التي جاء بها عيسى بل اختلطت بالأقوال المسيحية اتفاقا بسبب كونها رأيا
عاما في تلك المملكة وذلك الزمان ، وإصلاح رأي الناس في تأثير الأرواح جزءا من
الرسالة ولا علاقة لا بالشهادة بوجه ما انتهى.
والمتكلف لم يرتض
ترجمة إظهار الحق لقول بيلي فترجمه هو يه ٢ ج ص
١١٧ بقوله يلزم
التمييز بينما كان غرض الدعوة الرسولية وبين ما كان أجنبيا خارجا عنها أو ما اتصل
بها عرضا واتفاقا ، أما القضايا الخارجة عن الدين فلا لزوم الى الكلام عليها ، غير
ان القضايا التي اتصلت بها عرضا فيلزم الاشارة إليها فأقول من هذه القضايا تسلطن
الأرواح النجسة ، أما من جهة حقيقتها فلا يمكنني الفصل في هذه القضية فانه فوق
طاقتي وضيق المقام يمنعني عن إيراد أدلة كل فريق في هذه المسألة ، والأمر الذي
اريد التنبيه عليه هو انه لو سلمنا بقول من ذهب الى ان هذا الرأي كان شائعا في تلك
الأزمنة وكان خطأ ، وان كتبة العهد الجديد جاروا مؤلفي اليهود في ذلك العصر
وتكلموا على هذه القضية حسب اصطلاحهم وعاداتهم وطرق مخاطباتهم وأفكارهم فلا يخشى
من ذلك على صدق وصحة الديانة المسيحية ، فإن المسيح لم يأت بهذا التعليم في الدنيا
بل انه ظهر في النصوص المسيحية عرضا واتفاقا بصفة انه كان رأيا موجودا في ذلك
العصر وفي تلك البلاد التي كان يهدي الناس فيها ولم يكن من اختصاصات الوحي تنظيم
وترتيب آراء الناس بخصوص تأثير الجواهر الروحية في الأجسام الحيوانية ، وعلى كل
حال فلا ارتباط بينه وبين الشهادات الإلهية ، فانه إذا اعيد للأخرس الأبكم قوة
النطق والبيان فلا يهمنا معرفة سبب هذا الخرس ، فالمرض كان حقيقيا والشفاء كان
واقعيا ، ولا يهم إذا كان توضيح الناس لهذا السبب حقيقيا أم لا ، وإنما الأمر
الحقيقي الواقعي هو التغير الذي حصل للمريض على كل حال لأنه كان مشاهدا بالعيان لا
يحتاج الى برهان ، انتهى بلفظه.
قلت : ولم يحصل لي
الأصل من كتاب بيلي لأعرف أي الترجمتين أصح ولكن القدر المتيقن منهما ان فريقا من
النصارى ينكرون صحة ما في الاناجيل فيما شحنت به من أحاديث الأرواح النجسة وشئونها
مع المسيح ، ولهم على ذلك أدلة ، وان كتبة العهد الجديد قد جاروا بها مؤلفي اليهود
وتكلموا حسب عاداتهم وأفكارهم ، وان «بيلي» لا يمكنه الفصل في حقيقة ذلك ، فانه
فوق طاقته ...
وليت شعري إذا كان
بيلي نصرانيا يقول : بأن الأناجيل كتبها الرسل بوحي الروح القدس فلما ذا لم يمكنه
الفصل في هذه القضية ، وفي أي شيء
تنفع كتب الوحي
إذا لم تنفع صراحتها التي ملئت أطرافها في هذا الموضوع ، كيف لا وقد ذكرت الاناجيل
بتكرارها ان الأرواح النجسة ترى وتخر للمسيح وتعرفه ، وتصرخ ، وتخاطبه ، وتخاف من
اهلاكه لها ، وتتكلم ، وتسكت بأمره ، ويأمرها بأن لا تظهر انها عرفته ، وتخاف من
الذهاب الى الهاوية ، وتستأذن منه لذهابها الى قطيع الخنازير وتخبره انها لجيون أي
جماعة كثيرة فأذن لها ، وخرجت الى الخنازير كما ذكرنا لك طرفا من ذلك ، وقد جعل
كتبة الاناجيل هذه التفاصيل الضافية حجة وبرهانا لدعوة المسيح ، فقل لبيلي : واولئك
المنكرين إذا كان رسلكم الملهمون قد ملئوا أناجيلهم بهذه الحكايات المفصلة وهي
أكاذيب لا حقيقة لها ، فما ذا تكون العلامة على ما يصدقون فيه؟.
وكيف لنا إذا
بتصديقهم في حكايات شفاء المسيح للأمراض؟ ومن أين نعلم ان المرض كان حقيقيا
والشفاء كان واقعيا؟ وهم قد عنونوا حكايات المرض والشفاء بهذه الحكايات التي
تقولون انها أكاذيب ، وأي شيء يخشى منه على صدق الديانة المسيحية وصحتها أكثر من
ان تكون كتب وحيها وقانونها الأساسي في حجتها وبرهانها وتعليمها قد ملئت بهذه
الاكاذيب ، وإذ كانوا قد جاروا بها أفكار اليهود ، فبالحري ان يكونوا في باقي
الاناجيل وكتب العهد الجديد قد جاروا أهوائهم وأهواء الامم الذين حاولوا الترأس
عليهم بوسيلة الرئاسة الدينية كما يشهد لذلك العاشر والحادي عشر والخامس عشر من
الأعمال ، وكثير من كلمات الرسائل المنسوبة لبولس.
ومن أوهن الوهن
اعتذار «بيلي» عن هذه الحكايات بقوله ، ولم يكن من اختصاصات الوحي تنظيم وترتيب
آراء الناس بخصوص تأثير الجواهر الروحية في الاجسام الحيوانية ، فان هذا الاعتذار إنما
يخرج عن الغش والغلط لو لم تذكر الأناجيل من هذه الحكايات شيئا ، واعترض المعترض
على كونها لم تصلح بتعليمها آراء الناس في وهم القول بتأثير الجواهر الروحية ،
واما على ما أطنبت بتكراره في هذه الحكايات فعلى زعمهم تكون قد أكدت فساد آراء
الناس ولفقت من أوهامهم الفاسدة أكاذيب كثيرة جعلتها البرهان على صحة الديانة
المسيحية وأساس تعليمها.
فيا أيها الأخ
المسلم لا يؤلمنك اعتراض المتكلف وأمثاله بأوهامهم على القرآن الكريم ، فان نكاية
اوهامهم على كتب وحيهم وأساس دينهم أشد وأشد «شنشنة أعرفها من اخزم» ، ولا تنشدني
قول الشاعر :
«لا تقل دارها بشرقي نجد
|
|
كل نجد للعامرية
دار»
|
وإذ قد سمعت ما
ذكرناه أولا عن العهدين فانك تعرف ما في قول المتكلف ، «فالاعتقاد بوجود جن هو من
الاعتقادات الوثنية» ولو لا التحرج من سوء القالة لذكرنا شطرا مما قد اخذ من
الاعتقادات الوثنية ، ولكنا قد كفينا مئونة ذلك بالكتب التي أشار إليها في صدر
كتاب الوثنية والنصرانية.
* * *
وقال الله جل اسمه
في سورة البقرة ٢٨ : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ٢٩ وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٣٠ قالُوا سُبْحانَكَ
لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ٣١ قالَ يا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).
فاعترض المتعرب «ذ»
٨٨ ـ ٩٠ على هذه الآيات باعتراضات متعددة ، وكذا المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠ و ١١» ،
وربما اشتركا في الاعتراض فاكتفى بنسبته الى أحدهما وردّه ، وإن شئت فانظر الى
كلاميهما في كتابيهما.
قال المتعرب انه
عنى بالخليفة آدم لكنه لم يقل لمن أراد أن يجعله خليفة وأنت تعلم انه لم يكن على
الارض مخلوق قبله حتى يخلفه فيها ويلزم من هذا ان الله أراد أن يستخلفه عن نفسه.
قلت : كان المتعرب
افترى عليك بدعوى العلم بأنه لم يكن على الأرض مخلوق قبل آدم لأجل غروره بخرافة
مذهب «داروين» أو بمضمون توراته الذي لا يقبله حتى الكثير من قومه وهي ان السموات
والارض وما فيهن خلقت كلها فيما
بين خمسة أيام قبل
خلق آدم.
ولكن لنا أن
نجادله بكتبه ونقول له : ان توراتك لم تذكر ان خلق الملائكة كان بعد خلق آدم ، بل
اما أن يكون في اليوم الثالث أو الرابع أو قبل ذلك ، فلما ذا لا يكون آدم خليفة في
الأرض بدلا عن الملائكة الأشرار ، والذين لم يحفظوا رياستهم وأخطئوا فلم يشفق الله
عليهم ، بل طرحهم في جهنم بقيود أبدية الى يوم الدينونة ، كما سيأتي عن كتبه ،
وهذا كاف في دحض باطله ، وستسمع إن شاء الله اعلام الحق.
وقال أيضا على النسق
غير انه تعالى لما عزم على خلقه نوى ان يجعله في الجنة يأكل منها رغدا ولو لم
يعصمه لم يحبطه الى الارض ليكون خليفة فيها ، فقوله : انه جاعله في الارض خليفة
وهو ينوي أن يجعله في الجنة فيه نظر ، وحاصل كلامه الاعتراض على جعله خليفة في
الارض مع إسكانه في الجنة ونهيه عما يسبب خروجه منها.
قلنا «أولا» لنا
أن نقول ان الله قال ذلك باعتبار سابق علمه بما يصير إليه أمر آدم في سكناه في
الأرض.
وقد أوضحنا لك في
الجزء الأول «صحيفة ٩٠ ـ ٩١» ان آدم لم تصدر منه المعصية القبيحة المانعة لوظيفة
الخلافة ، ان اريد بالخلافة معنى النبوة والرئاسة الدينية ، وان الله بكل شيء عليم
لا يغيب عن سابق علمه شيء ، و «ثانيا» لنا أيضا أن نقول : ان الجنة المذكورة كانت
من جنان الدنيا ، كما جاء عن أهل بيت النبوة ، وذهب إليه جمع من المفسرين ، ولا
حجة بقول بعض المفسرين على القرآن إذ قالوا انها جنة السماء ولا دلالة في قوله
تعالى : «(اهْبِطُوا) ، و (اهْبِطا مِنْها)» لجريان هذا الاستعمال في الانتقال من مكان الى مكان فقد
قال تعالى في سورة البقرة ٥٨ : (اهْبِطُوا مِصْراً) بل هو استعمال متعارف حتى في التوراة إذ تقول : فانحدر
ابرام الى مصر «تك ١٢ ، ١٠» انزلوا الى هناك «يعنى مصر» فنزل عشرة «يعني الى مصر»
، «تك ٢٤ ، ٢ و ٣».
وقال المتكلف في
الاعتراض على الآية الاولى ، وهذه العبارة ناطقة بأن
المولى سبحانه
وتعالى استشار الملائكة في خلق آدم فاعترضوا عليه وهو خطأ فان كتاب الله يعلمنا ان
المولى سبحانه وتعالى غني عن ذلك ، ثم قال : فأقوال الوحي ناطقة بأنه لم يستشر ولن
يستشير.
قلنا : ليس هذا من
الاستشارة في شيء ، فإن كل من يفهم الكلام يعلم ان الاستشارة لا تكون بمثل الاخبار
المؤكد بهذا التأكيد ، وإنما هو تفضل منه تعالى باعلام ملائكته بآثار حكمته وقدرته.
وقد جاء في العهد
القديم ان السيد الرب لا يصنع أمرا إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء «عا ٣ ، ٧» ،
بل هو أبعد من الاستشارة ونحوها من قول التوراة ، فقال الرب : هل أخفي عن ابراهيم
ما أنا فاعله «تك ١٨ ، ١٧» ، وحاشا للقرآن الكريم كلام الله أن يجيء فيه مثل قول
التوراة ، ان صرخة سدوم وعمورة قد كثرت ، وخطيئتهم قد عظمت جدا ، انزل وارى هل
كصرختهم الآتية إلي عملوا كلها وإلا فاعلم «تك ١٨ و ٢١».
وإن أراد المتكلف
أن يعرف الكلام الدال على نسبة الاستشارة والحيرة والضعف الى الله جل شأنه فلينظر
الى العهد القديم الذي يقول : فاسمع إذن كلام الرب قد رأيت السيد الرب جالسا على
كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه ويساره فقال الرب : من يغوي اخاب فيصعد
ويسقط في راموت جلعاد فقال هذا هكذا وقال ذاك هكذا فخرج الروح ووقف أمام الرب وقال
: أنا اغويه فقال له بما ذا؟ فقال اخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه فقال
: انك تغويه وتقتدر فاخرج وافعل هكذا «١ مل ٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣ ، و ٢ أي ١٨ ، ١٨ ـ ٢٢».
والمتكلف يعظم
العهد القديم المشتمل على أمثال هذه الخرافة الكفرية ويسميه كلام الله السميع
العليم ، ثم يتقول على القرآن ببواعث هواه ، ويعترض عليه بجهله.
ويقول : ان كتاب
الله يعلمنا ان الملائكة هم خدامه المعصومون عن الخطأ والزلل ، أما عبارة القرآن
فتفيد انهم اقترفوا أربعة معاص ، كما قال علماء المسلمين.
قلت : يا عجبا ولا
عجب من مثل المتكلف والمتعرب فان الذي يسميانه كتاب الله وكلام الله السميع العليم
هو الذي يقول : ان الله ينسب الى ملائكته حماقة «اي ١٤ ، ١٨».
ويقول أيضا جيش
ملائكة أشرار «مز ٧٨ ، ٤٩» وان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطئوا بل في سلاسل
الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء «٢ بط ٢ ، ٤» ، والملائكة الذين لم
يحفظوا رئاستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم الى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت
الظلام «يه ٦» فأين تكون من كتابهم عصمة الملائكة ، وان عبارة القرآن لا تفيد ان
الملائكة اقترفوا أربعة معاص ، ولا قال بذلك علماء المسلمين ، فاستمع إلى ذلك:
فانه قال ان فيما
حكاه القرآن من قول الملائكة إنكار على الله فيما يفعله وهو من أعظم المعاصي.
قلت : ليس في هذا
الكلام شيء من الانكار على الله وإنما هو سؤال عن وجه الحكمة في خلقه للإنسان مع
انه قد ينبعث من بعض أفراده الفساد وسفك الدماء ، ولهذا أجابهم الله بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من وجوه الحكمة والصلاح في خلق هذا النوع وما سيظهر منه من
قداسة الأنبياء والأولياء وحسن عبادتهم وإخلاصهم بالرغبة والاختيار المرغم لدواعي
الهوى ووساوس الشيطان وبواعث الطبيعة البشرية ، ولو كان كلامهم اعتراضا على الله
لقال لهم الله عالم الغيب والشهادة : ما أنتم والاعتراض على خالقكم القادر القاهر
، وإن شئت فقابل كلام الملائكة ، هذا مع ما تذكره التوراة عن قول ابراهيم لله جل
شأنه : أفتهلك الصديق مع الأثيم عسى أن يكون خمسون صديقا في المدينة؟ أفتهلك
المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين صديقا الذين فيه حاشا لك ان تفعل مثل هذا
الأمر لتميت الصديق مع الأثيم فيكون الصديق كالأثيم ادّيان كل الارض لا يصنع عدلا
«تك ١٨ ، ٢٣ ـ ٢٦» ، وقس أيضا كلام الملائكة مع ما تذكره التوراة في قولها فرجع
موسى الى الرب وقال : يا سيد لما ذا أسأت الى هذا الشعب؟ لما ذا أرسلتني «خر ٥ ،
٢٢» فقال موسى للرب لما ذا أسأت الى عبدك؟ ولما ذا لم أجد نعمة في عينك حتى انك
وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي ، العليّ
حبلت بجميع هذا
الشعب او لعلي ولدته «عد ١١ ، ١١ و ١٢» ونادى «اي ايليا» الى الرب وقال : أيها
الرب إلهي أيضا الى الأرملة التي أنا نازل معها أسأت باماتتك ابنها «١ مل ١٧ ، ٢٠»
، ودع عنك ما ينسبه سفر أيوب الى أيوب وحاشاه من عظائم الكفر في الاعتراض على الله
ككونه جل شأنه نزع حقه ولفق فوق إثمه حتى طلب المحاكمة معه ، فراجع الأقوال
المنسوبة الى أيوب وحاشاه.
وقال المتكلف : ان
الملائكة في كلامهم هذا قد اقترفوا الغيبة في حق من يجعله الله خليفة بأن ذكروا
مثالبه.
قلت : المراد من
قول الله جل شأنه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) هو اخبار الملائكة بخلق جنس البشر ، اما لأنهم يخلفون من
كان قبلهم في الارض من خلق الله ، أو لأن اصلهم وداعيهم الى الله وهو آدم خليفة
عليهم ومؤدب لهم على الطاعة ، فاقتضى الحال ان الملائكة يسألون عن وجه الحكمة في
خلق هذا النوع مع انه يكون فيه من يفسد ويسفك الدماء. فلم يقصدوا بذلك جميع النوع
البشري ولا خصوص اصلهم وداعيهم الى الله ، فليس في قولهم هذا شيئا من الغيبة
المحرّمة بالعقل او الشرائع ، فانهم لم يعنوا بما قالوه شخصا معينا أو أشخاصا
معينين ، بل قالوا ذلك لما علموه من الله بأن الجنس البشري تقتضي طبيعته أن يكون
فيه من يفسد ويسفك الدماء ، فهم لم يقصدوا بما قالوه الا العنوان الكلي المبهم
المجمل بمقتضى الإبهام في تأثير اقتضاء الطبيعة البشرية الذي يجوز على كل واحد من
البشر مع فرض عدم المانع ويمتنع عن كل واحد مع وجود المانع ، وهذا ليس من الغيبة
في شيء فانه إذا قال شخص ان في جنس البشر من يكون فاسقا لم يقل عاقل أو متشرع بأن
هذا الشخص قد اغتاب ، بل لا يتأثر من كلامه أحد من البشر حتى الفساق في نفس الأمر
وذلك لأنه لم يوجه باللفظ قصده حتى بمعونة القرائن الى ذات معينة ، أو جماعة
معينين أو محصورين.
فكذا قول الملائكة
فانهم قصدوا أمرا طبيعيا ، هذا مضافا الى ان الملائكة لو قصدوا اناسا معيّنين من
المتهتّكين بالفسق والفجور الهاتكين بفسادهم
لأستارهم لم يكن
مثل ذلك من الغيبة المحرمة القبيحة أصلا ، مضافا الى ان شريعة تحريم الغيبة من
العقل والشرع إنما هي شريعة إصلاحية اجتماعية تمد الستر فيما بين البشر وتمنع ما
يضر بالاجتماع البشري ، فلا يجري حكمها مع الملائكة خصوصا إذا ذكروا شيئا من فسق
الفساق تنفّرا منه واستقباحا له ، فهل يقول عاقل أو متشرّع بأنك اغتبت وفعلت حراما
إذا شكوت الى الله ظالمك وذكرت له ظلمه ، وإذا ذكرت لله فسق الفاسق ليغفر له أو
ليهديه أو لينتقم منه.
وليت شعري اذا كان
المتكلف يجعل قول الملائكة من الغيبة المحرّمة ، فما ذا يصنع بكتابه العهد الجديد
، فإنك تقدر أن تؤلف منه من الكلام المنسوب للمسيح والتلاميذ كتابا بقدر الإنجيل
أو أكثر كله في غيبة الكتبة والفريسيين وبني اسرائيل والمسيح والتلاميذ ومريم
المجدلية وجماعة من المؤمنين بالمسيح.
وقال المتكلف في
كلامهم «اي الملائكة» : العجب وتزكية النفس بذكر مناقبها.
قلنا : لم يكن
الغرض من بيان تسبيحهم وتقديسهم هو الافتخار به ، ولكن ضرورة السؤال عن وجه الحكمة
في خلق البشر اقتضت ذكره ، وليس هذا من العجب وتزكية النفس خصوصا حال كونهم أزكياء
معصومين لا يعصون الله ولا يفرطون في وظائفهم من العبادة ، ولئن كان هذا من العجب
وتزكية النفس الممقوتة ، فما ذا يقال في القول المنسوب للمسيح بعد الذم للرعاة أنا
باب الخراف أنا الراعي الصالح ، اما أنا فاني الراعي الصالح «يو ١٠ ، ٧ ـ ١٥» مع
انه أنكر على من سماه صالحا وقال له : لما ذا تدعونني صالحا ليس أحد صالحا إلا
واحد هو الله «انظر مت ٩ ومر ١٠ ولو ١٨» ، وما ذا يقال في القول المنسوب لداود
يكافئني الرب حسب بري حسب طهارة يدي يرد علي لأني حفظت طرق الرب ولم أعص إلهي لأن
جميع أحكامه امامي وفرائضه لا احيد عنها «٢ صم ٢٢ ، ٢١ ـ ٢٤».
والأقوال المنسوبة
الى بولس في الافتخار بالأعمال والمراتب العالية وان
امتزجت في الأثناء
بالتصوف البارد والتواضع السخيف «فانظر الى الاصحاح السادس والحادي عشر والثاني
عشر من كورنتوش الثانية».
وقال المتكلف :
وفيه أيضا «أي في كلام الملائكة» انهم قالوا ما قالوه من نسبة الافساد والسفك رجما
بالظن وإلا شاركوا المولى سبحانه وتعالى في علم الغيب.
قلنا : لا هذا ولا
هذا بل قالوه بعلم موهوب لهم من الله جل شأنه.
وقال المتكلف «يه
٢ ج ص ١٢» ان القرآن نسب الى المولى تعجيز الملائكة بطريق الاحتيال.
قلت : لا يدل سوق
القرآن على إرادة تعجيز الملائكة ، بل انما يدل على ان الله بيّن لهم الحكمة في
خلقه لنوع البشر على لسان آدم ببيان من يخلق من ذريته من الأنبياء والأولياء.
وحاصل ذلك ان الله
جل اسمه تفضّل على ملائكته بإعلامهم بأنه جاعل في الارض خليفة ، فاستفسروا عن وجه
الحكمة في ذلك وان كانوا يعلمون اجمالا ان الله هو العليم الحكيم.
فأبان جل شأنه لهم
وجه الحكمة على لسان آدم وخصّه بذلك تكريما له تنويها بارتفاعه هو وكثير من بنيه
عن النقائص العارضة للطبيعة البشرية من آثار الشهوة والغضب (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) أسماء ذريته من الأنبياء والأصفياء بما يكونون عليه من
القدس والطهارة والطاعة لله والجهاد في سبيله وتحمل الأذى والمتاعب الشديدة في
ارشاد عباده واعلاء دعوة الحق وحسن صبرهم ورضاهم فيما يلقونه من الاضطهاد في
الدعوة الى الحق والصلاح كل ، ذلك بالطوع والرغبة على رغم الشهوة والغضب المودعين
في الطبيعة البشرية (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) اي هؤلاء الصفوة وهم أشباح نورانية (عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) وما هم عليه من صفات القدس والكمال الاختياري (إِنْ) ادعيتم العلم و (كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواه (قالُوا سُبْحانَكَ) تقدست عن الشريك والشبيه ، لك العلم وحدك لا شريك لك و (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بالغائبات (الْحَكِيمُ)
فيما تفعل ، (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ) وما هم عليه من الكمالات القدسية الباهرة الباهظة لشهوات
الطبيعة البشرية الكاسرة لثورات غضبها (فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) واتضح للملائكة وجه الحكمة في خلق النوع الإنساني (قالَ) جل شأنه : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) واعلمكم (إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ) ومن كان له هذا
العلم لا يفوت حكمته شيء من الغائبات عنكم.
هذا ملخص ما جاء
عن أهل بيت النبوة في تفسير الآيات ، وهل تراه ناظرا الى تعجيز الملائكة ، وإذا
احطت خبرا بما قلناه تعرف شطط المتعرب فيما قاله في هذا المقام فانه شريك المتكلف
في اعتراضاته.
وقال الله تعالى :
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ١٢» بأن القرآن نسب الى الله جل اسمه انه أمر الملائكة ان يسجدوا لآدم وحاشا
لله القدوس أن يأمر بالسجود لغير ذاته العليّة ، قال في سفر الخروج «٣٤ ، ١٤» لا
تسجد لإله آخر ، وكتاب الوحي الإلهي يحرّم السجود لغير المولى من المخلوقات مهما
كانت درجتهم.
قلنا : لنا أن
نقول ان المحرم إنما هو سجود العبادة لا سجود التحية والإكرام ، وسجود الملائكة
لآدم كان من القسم الثاني ، وتوراة المتكلف إنما نهت عن القسم الأول لقولها لا
تسجد لإله آخر ومعناه لا تسجد لشيء غير الله بعنوان السجود للإله والعبادة له ،
ولا حجة من كتب المتكلف على تحريم السجود لغير الله إذا كان بعنوان التحية
والإكرام ، بل في كتب المتكلف حجة على جوازه كما يستنتج ذلك منها من مقدمتين : «الاولى»
سجود الأنبياء لغير الله ، و «الثانية» ان عمل الأنبياء حجة على جواز ما يفعلونه.
أما المقدمة الاولى : فقد ذكرت ان ابراهيم خليل الله سجد لشعب الأرض بني حث مرتين
«تك ٢٣ ، ٧ و ١٢» وقد كان هؤلاء غير مؤمنين.
وسجد يعقوب النبي
لعيسو سبع مرات الى الأرض ، وسجد أيضا نسائه وأولاده «تك ٣٣ ، ٣ ـ ٧».
وموسى كليم الله
خرج لاستقبال حميه فسجد وقبل له ، وفي الأصل العبراني «ويشتحوا ويشق ـ لو» «خر ١٨
، ٧».
وسجد داود النبي
ثلاث مرات لما ودع ناثان ابن شاول «١ صم ٢٠ ، ٢١» وسجد لشاول «١ صم ٢٤ ، ٨ وسجد
ناثان النبي لداود النبي «١ مل ١ ، ٢٣» ، وسجد سليمان النبي لامه «١ مل ٢ ، ١٩».
وزيادة على ذلك ان
يوسف سجد أمام وجه يعقوب «تك ٤٨ ، ١٢» وسجدت ابيجايل لداود «١ صم ٥ ، ٢٣» ، وكذا
بثشبع «١ مل ١ ، ١٦» ولم يذكر ان هذين النبيين منعا عن السجود لهما.
وأما المقدمة
الثانية فان الاناجيل تذكر ان اليهود اعترضوا على المسيح بأكل تلاميذه من الزرع في
يوم السبت وهو محرم فاحتج على جواز ذلك بأكل داود من خبز التقدمة الذي لا يحل إلا
للكهنة «مت ١٢ ، ١ ـ ٩ ومر ٢ ولو ٦».
أم تقول : دعنا من
احتجاج المسيح ، فان هؤلاء الأنبياء كلهم قد عصوا وأخطئوا في هذا السجود لغير الله
وإن كان بعنوان التحية والإكرام لا بعنوان العبادة.
إذا فلما ذا لم
تتعرض كتب وحيكم لتوبيخهم على ذلك لا تصريحا ولا تلويحا ولا إشارة؟.
ولنا أن نقول : ان
سجود الملائكة كان شكرا لله وتمجيدا له على خلقه لآدم أبي الأنبياء والأصفياء
والأولياء لأجل ما لهم من عظيم الشأن وشرف المنزلة ، فيعود السجود الذي هو لله
بالتكريم والتبجيل لآدم ، ولأجل ذلك نسب السجود لآدم باعتبار غايته المطلوبة ،
وليس كذلك ما يذكره العهد القديم في سجود ابراهيم ومن ذكرناهم من الأنبياء.
فتدبر ما قلناه ،
وراجع كلام المتكلف ، وقل ما شئت في تمجيده على معرفته وأمانته.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة الاعراف فيما اقتص من حديث آدم وحواء وأكلهما من الشجرة ٢١ (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ
مُبِينٌ ٢٢ قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا
وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ٤٦» على ذلك بمخالفته لما في توراته «تك ٣ ، ٨ ـ ٢٠».
وعلى قوله تعالى :
(أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) وعلى حكايته جل اسمه لقول آدم وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ
لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، ثم ذكر المتكلف كلام توراته في ذلك الشأن ، ولكن شذّ به
وهذّبه ، وأنى له.
فلننقله بنصه وهو
قولها في آدم وحوا فسمعا صوت الإله متمشيا «عب متهلخ» في الجنة عند ريح النهار
فاختبأ آدم من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة فنادى الرب الإله آدم وقال : أين
أنت؟ فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت فقال : من أعلمك انك عريان؟
هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها.
ولعل المتكلف أنكر
على مضمون القرآن دلالته على ان الله العليم علم بأكل آدم وحوا من الشجرة بعلمه
الذي لا يغيب عنه شيء بدون استعلام واستخبار ، والمتكلف لا يرضى بذلك ، لأن توراته
تدل على ان الله جل اسمه «واستغفره» يحتاج الى الاستعلام من آدم بقوله جل شأنه أين
أنت من أعلمك هل أكلت؟ ولا يرضى المتكلف من القرآن إلا أن يقول «متمشيا في الجنة
عند ريح النهار» لكي يفهم القارئ ان ذلك المشي لأجل الاستراحة والتنفس في طيب
الوقت وصفاء الجنة ، وان آدم وحوا «سمعا صوت الإله متمشيا» لكي يفهم القارئ انهما
سمعا وطئ الاقدام أو ترنّم الطرب في التمشّي ، وان آدم اختبأ لكي يتأكد مضمون هذه
التجسيمات بأن آدم كان يعرف ان الاختباء بشجر الجنة يستره عن الله جل شأنه ، ولأجل
هذا سأله أين أنت ، من أعلمك؟ هل أكلت.
ولكن ليعلم
المتكلف فيسخط أو يرضى ان القرآن يعد حقائق هذه الكلمات كفرا وإلحادا وجحودا لله
إله الحق ، ويعد مجازاتها جهلا وضلالا ، ويسعد بذلك التوراة الحقيقة في استغاثتها
من ذلك.
وأما عدم ذكر
التوراة الرائجة لتوبة آدم فذلك لعادة ربّاها عليها آباؤها وكاتبوها في انهم
يذكرون خطايا الأنبياء ولا يذكرون توبتهم ، فهل يراها المتكلف ذكرت توبة نوح كما
يزعم مما ذكرته «تك ٩ ، ٢١» ، أو توبة اسحاق مما ذكرته «تك ٢٦ ، ٧» ، أو توبة
يعقوب مما ذكرته «تك ٢٧ ، ١٨ ـ ٣٥» أو توبة موسى مما ذكرته «خر ٤ ، ١٠ ـ ١٤ ، و ٥
، ٢٢ ، و ٣٢ ، وعد ١١ ، ١١ ـ ١٥» ، أو توبة هارون مما ذكرته «خر ٣٢ ، ١ ـ ٧» ، أم
يقول المتكلف : ان هؤلاء ما تابوا ولكن تساهل الله معهم فأبقاهم على وظيفة النبوة
ولوازم القداسة ، حاشا لله القدوس الحكيم العليم من ذلك سبحانه وتعالى شأنه.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة الاعراف ١٨٩ و ١٩٠ : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) «الآيات» ، وقد
ذكرناهما في الجزء الاول وذكرنا في شأنهما ما يبطل تشبثات المتكلف لأوهامه «يه ١ ج
١١ و ٢ ج ص ٩٣ و ٩٤» فانظر الى الصحيفة ٩٣ ـ ٩٤.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة المائدة ٣٠ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ٣٣ (فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ٣٤ فَبَعَثَ
اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ
قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ
سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٤٣» وقول القرآن : ان الغراب علّم قايين كيفية دفن أخيه مأخوذ من خرافات
اليهود القديمة ، وهل يتصور ان قايين كان يجهل هذا الأمر ، وكان يرى مدة حياته
الذبائح تقدم لله ، وهل يعقل انه لم ير
في مدة حياته
الطويلة ان دفن الطير أو الحيوان ومواراته في التراب يكون واقيا في الارض وقد آتى
الله الانسان عقلا به يعقل.
قلت : لما ذا لا
يتصور ان قابيل كان يجهل دفن الموتى وقد كان لم ير ميتا ولا دفنا ، ومن قال : ان
الذبائح التي كانت تقدم لله كانت تدفن ، ومن يقول ان قابيل رأى في مدة حياته الى
حين قتله لهابيل من يدفن الطير ، وما الغاية في دفن لطير أو الحيوان ، ومن فعل ذلك
وبمقتضى التوراة ان قابيل كان إذ ذاك رابعا لثلاثة من البشر آدم ، وحوا ، وهابيل ،
وان هذه الواقعة حدثت قبل أن يولد شيث ، وقبل أن يمضي من العمر لآدم مائة وثلاثون
سنة فانظر «تك ٤ و ٥ ، ٣» فهل يكون عمر قابيل حينئذ ثلاثمائة او أربعمائة سنة بين
ألوف من البشر المتمدنين ، وقد دربته الدنيا بحوادثها وتربى في المكاتب ليكرس نفسه
مبشرا لأهل نحلته ولو كان كذلك وكان معتضدا بجماعة من المرسلين الامريكان لجوزنا
في عقله عدم الوصول الى ما لم يره ولم يحدث في الدنيا ، فانا نرى من الناس من شذت
عقولهم وأبصارهم عما هو نصب أعينهم في كتبهم التي يدرسونها ويعتمدون عليها ويدعون
إليها ، ولا نزيدك غير ذلك.
وقال المتكلف في
هذا المقام «ص ٤٢» ثم ان مراعاة القرآن السجع مقدمة على الحقائق فقال قابيل لأنه
على وزن هابيل.
قلت : ليس في
القرآن الكريم ذكر للفظ قابيل أو هابيل ، والمتكلف في اغراضه وشئونه معذور في ذلك
، ولا تبخل بالعذر أيضا على المرسلين الاميركان الذين طبع كتابه بمعرفتهم.
* * *
وذكر الله جل
جلاله في سورة هود ٢٧ ـ ٣٩ نحوا من شأن نوح وقومه في دعوته ونصحه لهم وتمردهم
وطغيانهم على دعوة الحق.
فاعترض المتكلف
على ذلك «يه ٢ ج ص ٦٥» بقوله : لم يرد في كتاب الوحي الإلهي خبر عن هذه المجادلة ،
ولم يرد في التوراة ان أراذل الناس اتبعوا نوحا.
قلت : ان من منحه
الله شيئا من الفهم والشعور ليعلم من العادة وفلسفة الحقائق ان النبي الذي يقيم في
دعوة الحق والوعظ والنصيحة مئات من السين بين قوم كفرة متجبرين ، ويجزم يقينا ان
شأن هذا النبي لا ينقضي مع قومه بالصمت والسكوت بل لا بد فيه من المكالمات الكثيرة
، والرد والبدل ، والدعوة والجحود ، والوعظ والهزء ، والنصيحة والسخرية. والاحتجاج
والجدال ، والبرهان والمكابرة ، والحجة والعناد ، وليس هذا المقام مما قال فيه
الشاعر :
حواجبنا تقضي
الحوائج بيننا
|
|
فنحن سكوت
والهوى يتكلم
|
أفلا ترى ان مدير
القرية إذا أراد أن يبدل فيها قانونا واحدا عموميا ، أو يؤسس هذا القانون الواحد
كم يحدث فيها من الانقلاب والمجادلات والمكالمات ، فما ظنك بدعوة النبي الى
التوحيد والصلاح ، وما ذا ينبغي أن يصدر من العتاة في رد الدعوة الدائمة والنصح
المستمر من النبي الأمين في الدعوة ، المجاهد في سبيل الله ، وما يبدر منهم
ليحافظوا على وثنيتهم وعوائد ضلالهم ، فأعرني رشدك لحظة وانظر في التوراة الرائجة
التي سلكت في قصصها مسلك التاريخ الساذج ، فهل تراها ذكرت في شأن نوح وقومه ما
يليق بحوادث يوم واحد في الدعوة والوعظ وجوابهما ، وهل ذكرت في هذا الشأن إلا ان
أبناء الله رأوا بنات الناس حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء ، فقال الرب : لا يدين
روحي في الانسان الى الأبد تكون أيامه مائة وعشرين سنة.
كان في الأرض طغاة
في تلك الأيام وبنات الناس ولدن الجبابرة ، ورأى الرب ان شر الانسان قد كثر ، فحزن
الرب ان عمل الانسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال : امحو عن وجه الارض الانسان
الذي خلقته مع البهائم والدبابات وطيور السماء لأني حزنت اني عملتهم ، وأما نوح
فوجد نعمة في عيني الرب وفسدت الارض وامتلأت ظلما ، فقال الله لنوح اصنع فلكا الى
آخره ، هذا ما في التوراة في شأن نوح وقومه مع حذف التكرار والفضول فانظر «تك ٦ ،
١ ـ ١٤».
ومع هذا فهل يحسن
من أقل العقلاء أن يقول : ان هذه هي تمام
الحوادث في أيام
نوح وشئون دعوته ووعظه ونصحه لقومه ، ولم يصدر كلام لا من نوح ولا من قومه لا في
الدعوة ولا في الجحود ، ولا في الوعظ ولا في الاصرار ، ولا في النصح ولا في العناد
، فلم يوبخهم نوح ولم يضجروا منه ولم يجادلوه ولم يستهزءوا به.
حتى ان من نقل من
ذلك شيئا يقول له المتكلف اسكت فإن التوراة لم تذكر من ذلك شيئا مع انها أطنبت في
بيان حزن الله وتأسفه في قلبه ... أين العقول؟ أين الرشد؟ أين الأدب؟.
فهل ترى ذا أدب
يقدر أن يرد بالتوراة تاريخا من التواريخ إذا ذكر سيرة طويلة في تاريخ نوح من قومه
في دعوته ، نعم له في قانون الأدب أن يطالب المؤرخ بمستند ما يذكره
وأما رده بأن
التوراة الرائجة لم تذكر ذلك فان الأدب والأديب والفهم والفاهم لينكرونه ، أي
انكار ، ويهتفون مع المؤرخ في قوله وما على الحقائق إذا كان توراتكم الرائجة ،
وحاشا الحقيقة خرساء في هذا الشأن إلا عن ذكر حزن الله وتأسفه في قلبه.
والمتكلف يعترض
على القرآن كلام الله بإهمال توراته للحقائق اللازمة إذا ذكر بعضها حسب مقتضى
الحال في مقام الوعظ والتذكير والحجة كما هو شأنه لا سفاسف السيرة وخرافات
الاعتقاد وفضائح الأنبياء والأولياء.
نعم للمتكلف أن
يطالب بالحجة على كون القرآن كلام الله لكي يتيقن بحقيقة ما يذكره ولكنه هوى به
عاصف الهوى عن ذلك في مكان سحيق.
وبما ذكرنا تعرف
شططه أيضا في قوله ولم يرد في التوراة ان اراذل الناس اتبعوا نوحا ، كما تعرف ان
حجته على انكار ذلك بقول التوراة ان الله أغرقهم بالطوفان إنما هي حجة واهية.
فانا لو خطر في
خيالنا الاعتماد على التوراة الرائجة لقلنا : يجوز أن يكون هؤلاء الصفوة الأفاضل
الذين سماهم الطغاة بالأراذل لم يدركوا زمان الطوفان بل ماتوا بآجالهم أو أماتهم
اضطهاد الكفر ، فان الدعوة والإيمان والطوفان لم
تكن حادثة يوم
وليلة ، بل استمرت الدعوة مئات من السنين حتى جاء أمر الله بالطوفان.
غرق ابن نوح في الطوفان
وقال الله تعالى
في سورة هود ٤٤ : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ
وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ٤٥
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ
الْمُغْرَقِينَ) ٤٧ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ
أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ٤٨ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ
أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).
والمتكلف «يه ٢ ج
ص ٦٦» ينكر هذا كله تشبثا بغمغمة توراته الرائجة في تاريخها المدمج وسيرتها
البتراء.
وقد اعترض «ص ٦٥»
على بعض المفسرين في تسميتهم لابن نوح المشار إليه بكنعان وقال هذا غلط مبين ،
وأظن ذلك لكون توراته تذكر ان ابن حام ابن نوح اسمه كنعان ، فكان المتكلف يقول :
ان كنعان ابن حام اخذ امتيازا بهذا الاسم من أول الدنيا ، فلم يقدر نوح أن يتعدى
قانون الأسماء ليسمي ابنه كنعان ، فيا لهفاه على الأدب على ان ذلك لا يمس القرآن
في شيء.
واعترض أيضا على
قول نوح (رَبِّ إِنَّ ابْنِي
مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) وافترى على القرآن بنسبة التأوة لنوح.
ثم صار يتبجح بما
يذكر كتابه عن عالي لما اخبره صموئيل بما يحل بولديه لأجل شرهما
وما يحل ببيته من
البوار حيث قال : هو الرب ما يحسن في عينيه يعمل ، وصار يطالب نوحا بما يزعمه من
تسليم عالي لأمر الله حسب عادة الأتقياء.
قلت : قد قدمنا لك
في الجزء الأول صحيفة ٩٥ ـ ٩٦ انه ليس في قول نوح اعتراض على الله ، ولا منافاة
للتسليم لإرادته وإنما استفهم عن حقيقة
الوعد السابق
بنجاة أهله فقال : ان ابني من أهلي وان وعدك الحق ، وعقب سؤاله بالاذعان بالحكمة
والرضا والتسليم.
ولو ان المتكلف
يشعر بما قرفت به كتبه كبار الأنبياء لما تعرض للافتخار بتسليم «عالي» الذي ليس
بنبي ، ولكنه كأنه لا يدري لكي يتحذر من أن يقول له نقاد الأدب وزعماء البحث إذن
فكيف تقول كتبكم ان موسى كليم الله يقول لله : لما ذا أسأت الى هذا الشعب؟ لما ذا
أسأت الى عبدك؟ وان ايليا يقول أإلى الأرملة التي أنا عندها أسأت أيضا بإماتتك
ابنها ، وان ارميا النبي يقول يا أيها السيد الرب حقا انك خداع خادعت هذا الشعب
واورشليم قائلا يكون سلام وقد بلغ السيف النفس ، وان المسيح يقول وهو على الصليب
إلهي إلهي لما ذا شبقتني «أي تركتني»؟ ولما ذا شحن كتاب أيوب بنسبته لأيوب كلمات
الجزع والاعتراض على قضاء الله الى حد الكفر.
وقال الله جل اسمه
في سورة العنكبوت ١٣ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ).
فاعترض المتكلف
على ذلك «يه ٢ ج ص ١٠٢» بأن التوراة تقول ان عمر نوح هو ٩٥٠ سنة من دون زيادة ما
قبل الرسالة وما بعد الطوفان كما يقتضيه القرآن.
قلت : قد ذكرنا لك
في تتمة الصدر مبلغ اعتبار التوراة السبعينية في الامّة اليهودية وعلو شأنها في
الملة النصرانية ، بل كانت هي الشاهد لها في الدعوة وبشارة الرسالة ، كما ان
النسخة العبرانية عندهم هي الأصل المعتمد والسند والمستند ، وبذلك تكون النسختان
متكافئتين في الاعتبار متزاملتين عندهم في محمل الصحة على اسم التوراة الواحد
ومعناها المتحد ، فنقول : إذن ان التوراة بهاتين النسختين وذاتها بهذين الزيين أو
الزينتين قد اضطربت وتلونت في مقادير العدد وألفاظه في التاريخ والشريعة أفحش
اختلاف ، كما ذكرنا لك في أعمار الآباء وعمر اللاوي في خدمة المسكن ، وزد على ذلك
مخالفة النسخة السامرية التي قال جمع من محققي النصارى ومفسريهم بصحتها واعتبارها
، دع عنك هذا كله ولكن النسخة العبرانية قد ذكرنا لك اضطرابها في التاريخ ومقادير
السنين
على وجه بينا لك
في تتمة الصدر أنه كلما رام المتكلف أن يصلحه بمعونة معرفة المرسلين الاميركان فلم
يستطع إلا مواساة توراته في الاضطراب والاختلاف.
فقل للمتكلف : أبهذه
التوراة ذات النشء المجهول والكاتب المغلاط تريد أن تعارض القرآن الكريم؟ لا ، ولا
واحدا من كتب التاريخ ، أيها المتكلف ألم يسمح أدبك أو انصافك أن تجعل القرآن
بمخالفته للتوراة الرائجة في صف النسخة السبعينية إذ كان يرتّلها المسيح عليهالسلام ، كما تقولون في خطابه ويدرسها الرسل والقدماء كما تقولون
لاحتجاجهم لا ، ولا منّة ولا إحسان فإنما هو هو ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
وذكرى للمؤمنين ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
* * *
شأن ابراهيم والكواكب
وقد كرر المتكلف «يه
٢ ج ص ٤٥» اعتراضه على الآيات التي ذكرت ذلك في سورة الانعام ٧٥ ـ ٧٨ : وقد قدمنا
لك الكلام في ذلك مستوفى في الجزء الأول «صحيفة ١٠٦ ـ ١٠٨».
* * *
وقال الله تعالى
في سورة البقرة ٢٦٠ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ
إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٣٠ و ٣١» ما ملخصه : أجمع علماء الاسلام على ان الذي حاجّ ابراهيم هو نمرود
ابن كنعان الجبار ، ولا شك ان محمدا «ص» اتخذ هذه القصة من الخرافات اليهودية التي
كانت متداولة في عصره ، والتوراة منزّهة عن مثل هذه الخرافات ، على ان نمرود لم
يكن معاصرا لابراهيم بل يعلم من سفر التكوين انه كان بين نمرود وابراهيم نحو
ثلاثمائة سنة ، فأقوال
القرآن هي من
الخرافات الملفّقة.
قلت «أولا» : ان التوراة الرائجة لا يحتمل شأنها أن تذكر مثل هذه الحجة
الباهرة وتمجد الله ورسوله بذكر واقعتها ، وإنما توفقت لأن تقتصر على واقعتين في
تاريخ ما بين الطوفان وهجرة ابراهيم «الواقعة الاولى» ان نوحا شرب الخمر وسكر
وتعرّى في خبائه فأبصر حام عورته وأخبر ساما ويافث فلما استيقظ نوح من خمره لعن
كنعان «تك ٩ ، ٢١ ـ ٢٥» ، «الواقعة الثانية» ان بني آدم عزموا على أن يبنوا مدينة
وبرجا فنزل الرب لينظر المدينة والبرج وقال : هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم
وهذا ابتدائهم بالعمل والآن لا يمتنع عليهم كلما ينوون أن يعملوه ، هلم ننزل
ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض «تك ١١ ، ٥ ـ ٨».
وثانيا
: ان الذي سمّاه
المسلمون هو نمرود ابن كنعان ، وقالوا هم وغيرهم من المؤرخين ان «نمرود» اسم يسمى
به ملوك تلك البلاد كما يسمى كل واحد من ملوك الفرس «كسرى» وكل واحد من ملوك الروم
«قيصر» كما سمى به العهد الجديد اوغسطس «لو ٢ ، ١ وطيباروس لو ٣ ، ١ وكلوديسوس ١ ع
١١ ، ٢٨» ، وكما سمى العهد القديم ملوك مصر «فرعون» فسمى بذلك صاحب ابراهيم «تك ١٢
، ١٥ ـ ٢٠» ، وصاحب يوسف «تك ٤١ ، ١ ـ ٥٥» وصاحب موسى «خر ١ ـ ١٥ ، ٢٠» ، وصهر
سليمان «١ اي ٣ ، ١» ، ومعاصر ارميا «ار ٤٤ ، ٣٠» ، وان نمرود ابن كنعان لا يلزم
أن يكون هو المذكور في توراة المتكلف.
وثالثا
: سلمنا ذلك ولكن
التوراة ذكرت ان الذين نجوا بالفلك من الطوفان هم ثمانية من البشر : نوح وامرأته
وبنوه الثلاثة ونسائهم «تك ٨ ، ١٨».
وذكرت في أولاد
حام «كوشا» وذكرت ان بني كوش سبا ، وحويلة وسبته ، ورعمة ، وسبتكا ، وان بني رعمة
شبا وددان ، وبعدا كله ذكرت ان كوشا ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض ،
وكان ابتداء مملكته بابل ، وارك ،
وأكد ، وكلنه في
أرض شنعار فانظر «تك ١٠ ، ٦ ـ ١١» وتصحيح عبارة التوراة يقتضي أن يكون نمرود من
أولاد كوش بالواسطة ، وهبه كان ولده بلا واسطة ، ولكن كم ينبغي أن يكون من السنين
بين الطوفان وبين موت نمرود بحسب أعمار تلك الأدوار ومواليدها ، أفلم تذكر التوراة
ان أعمار تلك الطبقات كانت خمسمائة وما يقاربها «تك ١١ ، ١٢ ـ ١٨» ، فمن أقرب
الممكنات العادية أن يعيش ولد «كوش» الى ما بعد الطوفان بأربعمائة سنة أو أكثر.
وإذا أخذنا مولد
ابراهيم بحسب التوراة العبرانية «تك ١١ ، ١٠ ـ ٣٢ و ١٢ ، ٤ واع ٧ ، ٤» وجدناه أبعد
ما يكون فيه عن الطوفان نحو ثلاثمائة واثنتين وخمسين سنة او ثلاثمائة وستين سنة.
وحاصل ذلك ان
تقاويم التوراة العبرانية في ذلك الوقت تقتضي أن يكون نمرود المذكور في التوراة قد
أدرك في عمره المعتاد مدة طويلة وسنين عديدة من عمر ابراهيم ، كما اتفق بحسب
تقويمها ان ابراهيم أدركه جميع آبائه الذين هم بعد الطوفان مدة طويلة ما عدا نوحا
وفالج ، إذا عرفت هذا فقل للمتكلف : ان نمرود الذي ذكره المسلمون هو النمرود ابن
كنعان أحد النماردة الكثيرين لا خصوص من ذكرته توراتك.
وهبه هو فإن أبعد
مدة تقولها توراتك العبرانية بين الطوفان ومولد ابراهيم هي ٣٥٢ أو ٣٦٠ سنة فإذا
جعلنا بين ابراهيم وبين نمرود المذكور في التوراة ثلاث مائة سنة كما تزعم ، فقل :
متى كانت ولادة كوش من حام ومتى كانت ولادة نمرود؟ ومتى كان تملكه على بابل وأرك
وأكد وكلنه في أرض شنعار؟ ومتى تمصّرت البلاد بعد الطوفان؟ أفتقول بإلهامك ومعرفة
المرسلين الامريكان أن ولادة كوش كانت بعد الطوفان بسنة ، وولادة نمرود كانت بعد
الطوفان بسبعة عشرة سنة ثم ملك البلاد الممصرة ومات بعد الطوفان بنحو ٥٢ أو ٦٠ سنة
، فكان بينه وبين ابراهيم ٣٠٠ سنة ، ولكن المتكلف لا يبالي من أن يقول مثل ذلك
فيخالف كتبه.
أو ليس هو الذي
قال «يه ٣ ج ص ٢١٧» اقتضت عناية الله الإلهية أن يبقى نوح حتى رأى ابراهيم فأخبره
عن الطوفان وعن أعمال الله معه وغير ذلك
فنقل ابراهيم هذه
القصص الإلهية وأعلمهم إرادة الله.
فلم يبال في ذلك
بمخالفة كتبه التي يعول عليها فإن توراته تقول ان نوحا عاش بعد الطوفان ثلاث مائة
وخمسين سنة «تك ٩ ، ٢٨» ، وتقويم العبرانية يقول بحسابه : ان ولادة تارح أبي
ابراهيم لمائتين واثنتين وعشرين سنة من الطوفان ، وكانت أيام تارح مائتين وخمس
سنين ومات في حاران «تك ١١ ١٠ ـ ٣٢» ، وان ابراهيم لما خرج من حاران كان ابن خمس
وسبعين سنة «تك ١٢ ، ٤».
والعهد الجديد
يقول : ان ابراهيم خرج من حاران بعد ما مات أبوه «١ ع ٧ ، ٤» فان فرضنا انه خرج من
حاران في سنة موت أبيه فلا بد أن يكون مولده لمائة وثلاثين سنة من مولد أبيه تارح
، فيكون مولد ابراهيم لسنة ثلاث مائة واثنتين وخمسين سنة من الطوفان ، فيكون مولده
بعد موت نوح بسنتين ، فأين تكون رؤية نوح لإبراهيم واخباره عن الطوفان وأعمال الله
معه.
وقال الله تعالى
في سورة البقرة ٢٦٢ : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ
بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ
يَأْتِينَكَ سَعْياً).
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ٣٣ و ٣٤» على هذه الآية بأن عبارة القرآن ناطقة بوقوع الشك من ابراهيم في
قدرة الله تعالى ، وتشبث لذلك برواية من الآحاد.
قلنا : وقد ذكرنا
لك في الجزء الأول صحيفة ١٠٩ ـ ١١٠ ان قول ابراهيم (بَلى وَلكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) لصريح على رغم أنف الغباوة والعناد بأن إبراهيم مؤمن بهذه
الحقيقة لا شك له فيها ولكنه طلب تأييد العقل بالحس ليحصل له الاطمئنان باليقين
الكامل ، إذ لا شك ان العقل إذا تأيد بالحس كان المعلوم أوقع في النفس وأثبت في
اليقين من المعقول الصرف.
وذكرنا لك أيضا ان
الرواية يكفي في ردها مخالفتها لصراحة القرآن الكريم وطلبنا منك المقايسة في
الدلالة على الإيمان والشك بين قول ابراهيم :
(بَلى وَلكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، وبين حكاية التوراة لقول ابراهيم أيضا ففيها وقال : أنا
الرب الذي اخرجك من اور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها ، فقال : أيها السيد
الرب بما ذا أعلم اني أرثها «تك ١٥ ، ٧ و ٨» أفترى هذا الكلام يعطي رائحة من
الإيمان والتصديق بوعد الله في أمر جرت عليه سنّة الله في عباده وبلاده من توريثه
أرض قوم لآخرين ، أم يعطي انه لا يحصل العلم بمجرد قول الله ووعده وإنما يحصل
العلم بشيء آخر ، كما قيل: بما ذا أعلم اني أرثها.
هب ان المتكلف لا
يفهم القرآن ولا اللغة العربية ، أو انه يتحامل لتعصبه على القرآن بالافتراء توهما
لرواج ذلك عند بعض الأوباش ، ولكنه ألم يكن يدري بأن في توراته مثل هذا الذي يفضحه
عند المقايسة ، ولعمر الأدب لو أراد أن يدل على ما في توراته من الخلل لما أحسن
التنبيه بمثل هذا التعريض.
وأظرف شيء مع ذلك
انه يقول : ان كتاب الله يعلمنا بأن ابراهيم لم يشك في قدرة الله مطلقا ، إذن
فالتوراة التي ذكرت هذا الكلام كتاب من؟ وهل ترى المتكلف يقول : ان قول ابراهيم «بما
ذا أعلم» ليس شكا في قدرة الله وإنما هو شك في صدقه جل شأنه في وعده ، نعم يقول
ولا يبالي ، ولا تقل ان المتكلف لا يعلم بهذا الكلام من توراته ، فإنه نقل منها
هذا المقام برمّته ، ولكنه ستر بذيل أمانته قولها «بما ذا أعلم اني أرثها».
وحاصل هذا المقام
هو ان الله تبارك اسمه قال لابراهيم أعطيك هذه الأرض لترثها فقال ابراهيم : بما ذا
أعلم اني أرثها؟ فقال له : خذ لي عجلا ثلثية وعنزا ثلثية وكبشا ثلثيا ويمامة وحمامة
فأخذها وشقّها من الوسط وجعل شق كل واحد مقابل صاحبه ، وأما الطير فلم يشقّه ، ثم
غابت الشمس فصارت العتمة وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع ، في ذلك
اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : لنسلك اعطي هذه الأرض «تك ١٥ ، ١ ـ ١٩» ،
فانظر وقل إذا كان وعد الله لا يوجب العلم بصدقه حتى يقول ابراهيم : «بما ذا أعلم
اني أرثها» ، فما وجه الدلالة في قطع الحيوانات وظهور الدخان والنار بين قطعها ،
فإن كان ابراهيم يخاف خلف الوعد والندم والحزن والتأسف في القلب على صدور الوعد ،
فإن هذا العمل لا يوجب له العلم بعدم الندامة ولا فائدة فيه.
أو تقول مثل ما
قال المتكلف في هذا المقام ، فهذه الذبيحة هي لتأييد العهد الذي عقده الله مع
ابراهيم فكانت عادة اليهود بل الامم أيضا عند ابرام عهد يذبحون الذبيحة إشارة الى
ان من ينكث العهد يحل به سيف العدل الإلهي ، فالمولى سبحانه وتعالى تفضل وأعطاه
هذه العلامة لتأييد العهد وتثبيت إيمانه وان الله سينجز ما وعده به.
إذن فهل حصل العلم
بعقد الميثاق وتثبيت العهد بهذه العادة الاممية بسبب اشارتها التى جعلها سيف العدل
الإلهي حوالة على الناكث؟ أم لم يحصل؟ ولما ذا يحصل فإن من لا يصدق بوعده لا يؤتمن
على الوفاء بعهده.
والتوراة لم تذكر
حصول العلم بواسطة هذا العهد ، ولعلها تقول أن قانون الفداء لم يترك وثوقا بمراقبة
سيف العدل الإلهي ، إذ لعل العدل والقداسة وبغض الخطيئة والنكث للعهد تكون سببا
لأن يكون ابراهيم فاديا وإن استعفى فيحمل عليه قصاص الناكث للعهد غفرانك اللهم جل
شأنك وتعاليت عما يقولون.
ثم اعترض المتكلف
على حديث الطيور في الآية الكريمة ودلالتها على حياتها واجتماع أوصالها بعد التفرق
، فقال : هذه الأقوال ليست من الأغلاط الفاحشة بل من الخرافات الخارجة عن حد
المعقول.
قلت : إن كان لك
إلمام بمعرفة أحوال المتكلف فأبن لي عن منشأ هذا الكلام هل هو هذيان مبرسم ، أو
نفثة باح بها كامن الإلحاد وإنكار المعاد وقدرة الله ، وانطواء الاعتقاد على ان
عود الأجسام والتئامها بعد تفرق أجزائها خارج عن حد المعقول ، وكيف يكون ذلك
والمتكلف والمرسلون الامريكان يدّعون انهم أتباع المسيح الذي هو والعهد الجديد
أيضا يحتجان على وقوع القيامة وعود الأجسام بعد تفرقها ، وينوهان بقدرة الله ، وهم
يدعون انهم رسل الدين المسيحي لا رسل «داروين».
وقال الله جل اسمه
في سورة الانعام ٧٤ : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ٤٤» على تسمية القرآن أبا ابراهيم «آزر» مع ان التوراة سمّته «تارح» «تك ١١
، ٢٦» ، وبأن تارح ما كان يعبد الاصنام بدليل انه هاجر مع ابراهيم الى حاران ، فلو
لم يكن تقيا لما ترك وطنه وهو عزيز عنده.
قلنا : ان آزر
معرّب اليعازر ، ومنه قول المتنبي : «أو كان صادف رأس آزر سيفه» حيث أراد منه
اليعازر الذي يذكر انجيل يوحنا ان المسيح أحياه من الموت ، فيجوز أن يكون لفظ
اليعازر لقبا لتارح فإن معناه «الله عون» فسمى القرآن تارح بلقبه.
ودعوى ان تارح لم
يكن يعبد الأصنام إنما هي من المتكلف دعوى لا شاهد عليها إلا التخمين المعارض
بأقوى منه ، فان «لابان» ابن بتوئيل ابن ناحور أخي ابراهيم كان في حاران يعبد
الأصنام انظر «تك ٣١ ، ١٩ و ٣٠» وهذا يعطى أن بيت ابراهيم لم يكونوا في حاران
أبرياء من عبادة الاصنام ، ويؤيد ذلك ان ابراهيم هاجر عن أهله من حاران ولم يتبعه
إلا لوط وسارة ويجوز أن يكون تارح هاجر من وطنه حبّا لإبراهيم وفرارا بولده من كيد
عبدة الاوثان ، وهذا مما يقدم عليه الأب الشفيق وإن لم يكن على دين ولده ولنا أن
نقول ان آزر المذكور في القرآن لم يكن أبا ابراهيم حقيقة ، وانما هو حسب قول
التوراة اليعازر الدمشقي ملك بيت ابراهيم أو ابنه المتأهّل لوراثة ابراهيم «تك ١٥
، ٢ ـ ٤» فسماه القرآن أبا لإبراهيم حسب الاصطلاح الجاري في القديم من تسمية
القيّم بالأمور «أبا» وان كان عبدا أو رعية ، فعن قول يوسف : الله جعلني أبا
لفرعون «تك ٤٥ ، ٨».
وعن قول ميخا
للغلام اللاوي : كن لي أبا : «قض ١٧ ، ١٠» ، وعن قول الدانيين لذلك الغلام أيضا :
كن لنا أبا : «قض ١٨ ، ١٩» ، وربما يشير تصريح القرآن باسم آزر الا انه احتراز عن
الأب الحقيقي.
وقال الله تعالى
في سورة التوبة ١١٥ : (وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ٦٠» بأنه حاشا لابراهيم أن يستغفر له ، فإنه يعرف انه لا تنفع الشفاعة بعد
الموت ، وبأن أبا ابراهيم ما كان مشركا ولا عدوا لله.
قلنا : ان قوله
تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) كاف في بيان بطلان الاعتراض وكاشف عن ان الاستغفار كان
لرجاء الايمان فيكون المراد من الاستغفار هو طلب التوفيق للإيمان الذي هو سبب
المغفرة ، ولكن جل اسمه لا يلجئ المعاند ، ولا يوفق الا من هو أهل ، فلما تبين
لابراهيم عناد أبيه ، ويأس من إيمانه تبرأ منه ، كما هو وظيفة الأنبياء والأولياء
بل وسائر المؤمنين ، فلم يقل لله ولا يقول لإبراهيم ولا غيره من الأنبياء في شأن
من يعبد الوثن ، والآن ان غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت «خر ٣٢ ،
٣٢» ، هذا وقد تقدم الكلام بأن أبا ابراهيم المذكور ما كان مشركا.
وقال الله تعالى
في سورة هود ٧٢ : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا
إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ
بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ٧٣ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ
لُوطٍ ٧٤ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ).
واعترض عليه
المتكلّف «يه ٢ ج ص ٦٦» بمخالفته لما ذكر في توراته التي عرفت حالها «تك ١٨ ، ١ ـ ١٦»
، وأنموذج اعتراضاته في ذلك هو اعتراضه على نقله ان الملائكة لم يأكلوا حيث ان
توراتهم تقول انهم أكلوا.
قلت : ويظهر وجه
اعتراضه بقول توراته ، وظهر له الرب وإذا ثلاثة رجال ، الى أن قالت : فجاء
الملاكان الى سدوم ، فصنع لهما لوط ضيافة وخبزا فطيرا فأكلا «تك ١٨ ، ١ ـ ١٩ ، ٤»
وهي وإن اضطربت في العدد لكنها لا تخفي دلالتها على ان الملاكين الذين جاءا الى
سدوم هما الذين جاءوا الى ابراهيم وأكلوا تحت الشجرة من ضيافته وذهبوا نحو سدوم.
ويتضح وجه اعتراضه
بقول عهده الجديد في الملائكة ، أليس جميعهم أرواحا «عب ١ ، ١٤».
وباحتجاج أنا جيله
على ان أبناء القيامة لا يتزوجون بكونهم مثل الملائكة «مت ٢٢ ، ٣٠ ومر ١٢ ، ٢٥ ولو
٢٠ ، ٣٦».
واعترض المتكلف
أيضا على القرآن وقال «يه ٢ ج ص ٦٧ س ٢٢» عدم تعيين عدد الرجال يدل على الجهل ،
يعني بذلك عدد الرسل الذين أرسلهم الله الى ابراهيم.
قلت : وقد قدمنا
لك ان القرآن الكريم لم يدخل شئونه مدخل التاريخ بل لا يتعرض في نصه وبيانه إلا
لما كان مهما في الغرض المقصود ولا مداخلة هاهنا في الغرض للنص على كون الرسل
ثلاثة أو عشرة ، فاكتفى بالاشارة الى الحقيقة بصيغة الجمع وضميره الدّالين على
انهم لا ينقصون عن ثلاثة.
ولا تعجب من سخافة
كلام المتكلف في اعتراضه هذا ، ولكن تبصر فيما جناه بهذا الاعتراض على نفسه وعلى
كتابه وعلى قومه ، إذ حمل المتتبع على أن ينظر في توراته فيرى خبطها في هذا المقام
، فانها بينما تقول ان هؤلاء الرسل ثلاثة رجال وقاموا وتطّلعوا نحو سدوم ،
وانصرفوا من هناك وذهبوا نحو سدوم «تك ١٨ ، ٢ و ١٦ و ٢٢» أذابها قد قالت وجاء
الملاكان الاثنان الى سدوم «تك ١٩ ، ١» فانقلب الثلاثة اثنين.
ثم قالت أيضا في
مخاطبة لوط لهؤلاء الاثنين وجوابهما له ، فقال لهما لوط : لا يا سيد هو ذا عبدك ،
وجد نعمة في عينك عظمت لطفك ، فقال له : قد رفعت وجهك ، أنا لا اقلب المدينة ، أنا
لا أستطيع ان أفعل شيئا حتى تجيء الى هناك «تك ١٩ ، ١٨ ـ ٢٣» فانقلب الاثنان واحدا
، وحق للمتكلف أن يفتخر بتوراته ويقول ان الناس من هذا المقام أخذوا علم الحساب
ووضعوا اصوله واستخرجوا قواعد الجبر والمقابلة.
ولعل المتكلف يقول
: ان هذا المقام من مجاهرة التوراة بالثالوث ، فنقول له : ان توراتك ثلّثت وثنّت
ووحدت موضوعا واحدا من الملائكة ، وان المعروف منكم وممن تقدمكم بعقيدة الثالوث
كالبراهمة والبوذيين وغيرهم من الامم القديمة إنما هو التثليث في الذات الإلهية تعالى الله عن ذلك ،
فتجعلونه
__________________
واحدا ذا أقانيم
ثلاثة ، وعليه جرت مزاعمك «يه ٤ ج ص ٢٤٥ ـ ٣٠١» ، ولا نسمع عنكم ولا عمن قبلكم
دعوى الجمع بين التثليث والتثنية والتوحيد حتى في الملائكة.
فإن زعم المتكلف
كمزاعم الرسالة المنسوبة لعبد المسيح ان التوراة أرادت بذلك الثالوث الإلهي وذكرت
أقانيمه الثلاثة.
قلنا له : إذن فقل
ان البرهان لك من توراتك على ذلك هو ان ابراهيم عرف انهم اقانيم الإله الثلاثة ،
ولذلك دعاهم لأن يسندوا قلوبهم بكسرة خبز فأكلوا تحت الشجرة ، وبعد ما انقلب هؤلاء
الثلاثة اثنين أكلا عند لوط من ضيافته والخبز الفطير ، وبعد ما انقلب الاثنان الى
واحد صار لا يقدر على أن يفعل شيئا حتى يجيء لوط الى صوغر.
ومن أين يجد أهل
علم اللاهوت في الاحتجاج على الالوهية أحسن من مجد هذه الصفات فانظر «تك ١٨ و ١٩».
وقال الله جل اسمه
في سورة الصافّات في شأن ابراهيم وابنه ١٠٠ «فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني
أرى في المنام أني أذبحك».
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠٦» بأن هذا لم يكن في الرؤيا بل ان الله أمره بذلك كما في التوراة.
قلت : غاية ما في
التوراة على ما فيها ، انها قالت ان الله امتحن ابراهيم فقال له : يا ابراهيم فقال
: ها أنا ، فقال : خذ ابنك وحيدك الى آخره «تك ٢٢ ، ١ و ٢» ولم تصرح بأن هذه كان
في يقظة أو رؤيا ، وان جملة من نبوات ابراهيم وكلام الله وخطابه معه قد كانت في
الرؤيا والمنام انظر «تك ١٥ ، ١ ـ ١٠ و ١٢ ـ ١٧».
فالقرآن أوضح
الحقيقة على خلاف إبهام التوراة لها.
وقال الله تبارك
اسمه في سورة البقرة ١١٩ : (وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ
طَهِّرا
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ١٢١ (وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ).
والمتكلف ينكر ذلك
ويقول «يه ٢ ج ص ٢٣» ، وكتاب الوحي الإلهي يعلمنا ان ابراهيم لم يتوجه مطلقا الى
الكعبة ، ولا الى بلاد العرب ، ثم ذكر ما ذكرته توراته في سيرة ابراهيم المجملة ،
ثم قال : والحقيقة هي ان الكعبة بيت زحل.
قلت : ليس في
التوراة الرائجة ما يدل على ان ابراهيم لم يتوجه مطلقا الى الكعبة ولا الى بلاد
العرب ، وغاية ما فيها انها لم تذكر بصراحتها سفر ابراهيم الى مكة ، وغاية ما
تعرضت له من أحوال ابراهيم إنما هو رحلاته التي هاجر فيها بعائلته وثقله وبيته ،
وإنما كان ذهابه الى مكة من سفرياته الخصوصية ، ولم تتعرض التوراة الرائجة لهذا
النوع من السفريّات ، كما اهملت ذكر شئونه وأحواله ونشوؤه وتربيته فيما بين
النهرين وقد قضى من ذلك شطرا وافيا من عمره وهو مؤمن بل نبي بين وثنيين لا بد أن
تجري لهم معه شئون مهمة ، وكما اهملت ذكر شئونه في حاران أيضا.
أفترى إذا قال بعض
المؤرخين ان ابراهيم سافر وهو فيما بين النهرين الى اليمن أو عمان أو سافر وهو في
حاران الى ناحية الشمال فهل يحسن من ذي أدب ان يرده بخلو التوراة من ذلك؟ كلا.
فان قلت : ان الذي
يدعي من سفر ابراهيم الى مكة وبناء البيت أمر مهم لا ينبغي للتوراة أن تهمله إذا
كان له أصل ، «قلت» :
أما
أولا : فان توراة حلقيا
أو غيره مشغولة بما هو أهم من ذلك عندها وهو التسجيل على رحلة ابراهيم الى «مصر ،
وجرار» لكي تجري وظيفتها في ذكر قصة فرعون وأبي مالك مع ابراهيم ، فتمجد ابراهيم
بذلك انظر «تك ١٢ ، ١١ ـ ٢٠ ، و ٢٠ ، ١ ـ ١٨».
وأما
ثانيا : فإن هذه التوراة
إنما هي كآبائها بني اسرائيل إذ حرصوا على أن يجعلوا نصيبا لغيرهم في توحيد الله
وعبادته وشريعته ونبوته ، فكيف تسمح
ان تذكر بناء
ابراهيم واسماعيل للبيت مع ما فيه من الفضل والرفعة للإسماعيليين ، وان كاتب
الأيام الأول لم يدعه الحنق على الإسماعيليين أن ينسبهم الى أبيهم بل سمّاهم
الهاجريين «١ أي ٥ ، ١٠ و ١٩ و ٢٠» وسرى هذا الوباء حتى الى كاتب رسالة غلاطية
فصار يضرب مثله في الرفعة والضّعة بابن سارة وابن هاجر «غل ٤ ، ٢٢ ـ ٣١».
ويدلّك على ذلك ان
هذه التوراة ذكرت أولاد اسماعيل فقامت ووقعت في الخبط ، فانها لما تعرضت لذكر
الذين اشتروا يوسف من اخوته وباعوه في مصر ذكرت ما ملخصه ، وإذا قافلة اسماعيليين
ذاهب الى مصر فقال يهوذا : تعالوا نبيعه للإسماعيليين واجتاز رجال مديانيون تجار
فسحبوا يوسف من البئر وباعوه للإسماعيليين فأتوا بيوسف الى مصر ، والمديانيون
باعوه في مصر لفوطيفار «تك ٣٧ ، ٢٥ ـ ٣٦».
ثم قالت : ويوسف
انزل الى مصر واشتراه فوطيفار من يد الاسماعيليين فانظر الى هذا الخبط والجهل
بأنساب أولاد ابراهيم ، فإن هؤلاء الجماعة نسبتهم هذه التوراة مرة الى اسماعيل بن
ابراهيم من هاجر ، ونسبتهم مرة الى مديان ، وإن كان المراد به ابن ابراهيم فهو
مديان ابن ابراهيم من قطورة ونسبتهم مرة ثالثة الى مدان ، وإن كان ابن ابراهيم فهو
مدان ابن ابراهيم من قطورة أيضا شقيق مديان.
وأما
ثالثا : فإن أمّة العرب بأسرها
متسالمين في أجيالهم على نقلهم ان الكعبة الشريفة هي بناء ابراهيم واسماعيل ، وقل
ما يتفق الحقيقة أن يتواتر نقلها بمثل هذا التواتر فهو حجة مرغمة للخصم ، ولا يمنع
من ذلك ان العرب اخيرا وضعوا فيه الأصنام لما تلاشت من بينهم حقيقة الحنيفية ملّة
ابراهيم فانقلبوا الى الوثنية والشرك ، كما هو الوباء العام الذي لم تسلم منه امة
إلا امتنا المرحومة ثبتها الله على توحيده وطاعته ، فإن بني اسرائيل شعب الله
وابنه البكر بقول توراتهم قد جعلوا الأصنام في بيت المقدس مرارا عديدة لما تقلبوا
في وثنيتهم بل اخربوا بيت المقدس وانتهبوه.
وأما
رابعا : فإن رسول الله «ص»
طالما هتف بين العرب بأن الكعبة بناء
ابراهيم ، وتلا
عليهم الآيات المصرّحة بذلك ، فلو كان في ذلك خدشة لصالوا على دعوته بذلك وجعلوه
برهانا على تكذيبه في دعوته الثقيلة على أهوائهم ، ولم يلتجئوا الى المكابرة بنسبة
الجنون الى قدسه مع انهم كانوا يعاملونه من حيث الكمالات معاملتهم لأكمل البشر
وأعقلهم «فإن قلت» : انهم عرب خالون من المعارف ، فتروج فيهم مثل هذه الدعوى «قلت»
: ان كل من له إلمام بفلسفة القبائل ومعرفة أحوال العرب يعلم ان لهم المعرفة
التامة في تاريخ قديمهم وآثار آبائهم وأسباب شرفهم ، بل كان ذلك من أهم معارفهم
عندهم الرائجة بينهم.
ولا تقل : ان رواج
ذلك سهل بين الاسماعيليين لأنه يتعلق بمجدهم ، وذلك لأن القحطانيين لو وجدوا أدنى
سبيل لمنعه لمنعوه ولم يتركوا الاسماعيليين يفخرون عليهم بذلك ، فانهم من قديم
الدهر وحديثه لا يزالون يفاخرون الاسماعيليين وينافرونهم.
ومن ذلك تعلم ان
تسليم القحطانيين لهذه الحقيقة برهان كاف على انها لا تختلج فيها الأوهام إلا إذا
اقحمتها العصبية وقلة المبالاة.
ولئن علقت نفسك
بإهمال التوراة الرائجة لهذه الحقيقة ، ولم يزح ما قدمناه شكوك شبهاتك ، فلا تحتفل
بإهمال التوراة ، فإن العهد الجديد يشهد بأنها قد اهملت أهم تاريخ ابراهيم وألزم
شئونه بالذكر فيما هي بصدده ، وهو بدء الدعوة وظهور الله له في أرض الكلدانيين
فيما بين النهرين ، وأمره له بالهجرة من وطنه.
فقد جاء في أعمال
الرسل كتاب إلهام المسيحيين عن استفانوس المذكور انه مملوء من الإيمان والروح
القدس والقوة بحيث يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب «١٠ ع ٦ ، ٥ ـ ٩» انه قال :
ظهر إله المجد لأبينا ابراهيم وهو فيما بين النهرين قبل ما سكن في حاران وقال له :
اخرج من ارضك ومن عشيرتك وهلم الى الأرض التي أريك ، فحينئذ خرج من ارض الكلدانيين
وسكن في حاران «١ ع ٧ ، ٢ ـ ٥».
ومع ذلك فإن
التوراة لم تذكر ان الله دعى ابراهيم فيما بين النهرين للمهاجرة ، وإنما ذكرت ان
تارح اخذ ابرام ابنه ولوطا وساراى كنّته فخرجوا من اور الكلدانيين ليذهبوا الى أرض
كنعان فأتوا الى حاران وأقاموا هناك ومات فيها تارح «تك ١١ ، ٣١ و ٣٢».
ثم قالت بعد ذلك :
وقال الرب لإبراهيم : اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك الى الارض التي أريك ،
فذهب ابرام كما قال له الرب وذهب معه لوط ، وكان ابرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج
من حاران فأخذ ابرام ساراى امرأته ولوطا ابن أخيه وكلّ مقتنياتهما التي اقتنيا
والنفوس التي امتلكا في حاران «تك ١٢ ، ١ ـ ٦» ، وهي صريحة في ان ما تذكره من دعوة
الله لابراهيم كان في حاران.
وحينئذ فمقتضى
العهد الجديد ان التوراة الرائجة لا تخلو من أحد أمرين أما انها حرفت الواقعة
الواحدة. والدعوة التي كانت في أرض الكلدانيين فجعلتها واقعة في حاران وأمّا انّها
أهملت ذكر الدعوة التي وقعت أوّلا في ارض الكلدانيين مع انها ألزم بالذكر ، وزادت
على ذلك بأن مسخت الحقيقة ونسبت الهجرة الى تصرف تارح ، ومع هذا لا يصح للنصراني
ان يتشبث بهذه التوراة على إنكار حقيقة اذا لم تفز بذكرها حتى لو فرضنا سلامتها من
الخلل من غير هذه الجهة.
والمتعرّب أيضا
لجّ في انكار مجيء اسماعيل الى مكة وأنكر على سائل قوله في أول مقالته في بلاد
العرب وتهامة ان اسماعيل بن ابراهيم توطّنها فقال «قذ» ص ٧ ليس هذا بثبت لأن في
فلسطين موضعا يسمى عربة أيضا ، وبعد ، فإن التوراة قد عينت موضع سكنى اسماعيل وهو
في غير بلاد العرب «تك ٢١ ، ١٤ ، و ٢٥ ، ١٢ ـ ١٨».
ثم قال أيضا «ذ» ص
١٠ و ١١ ما حاصله ان قول العرب ان اسماعيل سكن مكة مردود بأن التوراة التي لا نعلم
بوجود هذا الشخص إلا منها تقول : انه لما طرد من بيت أبيه سكن في برية فاران وهي
ببرية سينا بين مصر وبلاد ثمود ، وتقول في موضع آخر : انه نزل امام اخوته ، وهؤلاء
كانوا بأرض كنعان من الشام ، ولم يكن امامهم مما يلي جزيرة العرب سوى بلاد ثمود ،
وتقول في
موضع ثالث : انه
لما مات أبوه أتى ودفنه في مغارة المكفلية بقرية أربع من كنعان ، وبينها وبين مكة
مسافة لا يقطعها الراكب المجد في أقل من عشرة أيام.
قلت : إذا كانت
توراته قد عينت موضع سكنى اسماعيل فيما أشار إليه حيث ذكرت انه بريّة فاران ، وهو
يقول : انها ببرية سينا بين مصر وبلاد ثمود.
إذا فما وجه قوله
: ان في فلسطين موضعا يسمى عربه ، ومن المعلوم ان برية سينا أجنبية عن فلسطين ،
وهل تشبّثه باسم هذه العربة إلا غلط في غلط.
وأما قوله : «لا
نعلم بوجود اسماعيل إلا من التوراة» فهو من أفحش الأغلاط ، فلو ان حلقيا لم يأت
شافان بكتاب وحيد سماه التوراة لما انحط اسماعيل عن شهرته أقل قليل ، كيف وها بنوه
الذين يفخرون به في أجيالهم قد ملئوا جزيرة العرب وأذعن لهم بذلك صاحبهم وخصمهم في
المفاخرات ولم يك اسماعيل كملكي صاروق بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداية أيام له ولا
نهاية حياة حتى لا يعرف إلا من إلهام رسالة العبرانيين ٧ ، ٣.
وأما قوله : ان
التوراة تصرح بأن اسماعيل سكن في برية فاران فهو مردود بأن اختلاف التوراة في
التاريخ واغلاطها فيه ، وعلى الخصوص فيما يتعلق بابراهيم ودعوته وبنية لا يدع لها
اعتبارا تساوي فيه واحدا من كتب التاريخ ، ولو سلمنا ذلك فقد ذكر اللغويون ان
فاران من جبال مكة ، وأما قوله : ان فاران هي ببرية سينا بين مصر وبلاد ثمود فهو
خبط بلا حجة ، فان أصحابه قد اضطربوا في ذلك فجعلوا فاران تارة اسما لجبل فيران
وهو الرأس الواقع بين خليجي العقبة والسويس جنوبي سينا وكاترينا ، بل هو آخر
الجبال الواقعة في الزاوية بين الخليجين.
وجعلوه تارة اخرى
اسما لجبل «فوريا» وهو الجبل المقوس الذي يقارب وسط محدّبه للدرجة التاسعة
والعشرين من العرض الشمالي والرابعة والثلاثين من شرقي لندن فجعلوا برية فاران ما
كان في شمال هذا الجبل ، وسموا به
أيضا واديا ذا
أربع شعب متقاطعة على زوايا مختلفة ، وهو في قرب ما سمي أيضا وادي فيران ، فلا
سبيل لهم إذا في تعيين ما ذكرته توراتهم منزلا لإسماعيل بمجرد الاسم فإنهم قد
سمّوا بذلك أماكن متباينة في الوضع والبعد.
وان سامحنا
المتعرب ورجعنا الى اكتشاف برية فاران من علامات التوراة ومضامينها ، فلا بد أن
نقول : ان برية فاران واقعة في شرقي جبل الشرات وهو السلسلة الممتدة في شرقي
الاردن فبحيرة لوط فوادي العربة فخليج العقبة فالبحر الأحمر الى الحجاز ومن رءوسها
جبال مكة.
والبرية التي في
شرقي جبل الشرات لا ربط لها ببرية سينا ولا فلسطين فإنها مفصولة عنهما بسلسلة جبل
الشرات ثم الاردن وبحيرة لوط ووادي العربة وخليج العقبة ثم السلسلة الغربية
المتوجهة من حدود لبنان الى جبل سينا ، وان مقتضى التوراة ان برية فاران تسمى بها
برية صين وقادش برنيع كما يعرف من «عد ١٣ ، ٣ و ٢١ و ٢٦ ، و ٣٢ ، ٨ وتث ١ ، ١٩ ـ ٢٦».
وانك لتعرف منها
أيضا ان برية فاران واقعة في شرقي جبل الشرات ، فقد ذكرت مراحل بني اسرائيل
ومنازلهم على التفصيل والترتيب والتتابع من مصر الى عربات مواب حيث توفى موسى عليهالسلام ، فذكرت لهم من برية سينا الى عصيون جابر عشرين مرحلة
ومنزلا «عد ٣٣ ، ١٦ ـ ٣٦» ، وان عصيون جابر واقع اما في وادي العربة شرقي سلسلة
جبال سينا ، واما في شرقي سلسلة جبل الشرات.
ثم قالت :
وارتحلوا من عصيون جابر ونزلوا في برية صين وهي قادش وارتحلوا من قادش ونزلوا في
جبل هور في طرف أرض ادوم «عد ٣٣ ، ٢٦ و ٢٧» وقد عرفت من التوراة ان برية صين وقادش
هي برية فاران وعرفت موقع عصيون جابر ، وأما جبل هور فهو جزء من جبل الشرات مائلا
الى الشرق منه.
وتقول التوراة
أيضا : وعبرنا عن اخوتنا بني عيسو الساكنين في سعير من طريق العربة من ايلة ومن
عصيون جابر «تث ٢ ، ٨» والعبور عنهم بهذا النحو
إنما يكون بالتوجه
الى شرقي جبل الشرات ، فإذا عرفت ذلك عرفت انه لا منافاة بين قول التوراة ان
اسماعيل سكن في برية فاران ، وبين القول بأنه سكن مكة.
فإن التوراة كثيرا
ما تحدد الأماكن بحدود واسعة خصوصا إذا لم تكن مدينة معروفة ، فإن مكة لم تكن عند
سكنى اسماعيل فيها مدينة ممصرة وإنما كانت برية بيداء.
وقد جرت عادة
التوراة بتحديد مثلها بالحدود الواسعة كأرض الجنوب «تك ٢٤ ، ٦٢ وعد ١٣ ، ٢٩» ،
وأرض المشرق «تك ٢٥ ، ٦» ، وأرض بني المشرق «تك ٢٩ ، ١» ، وعند الجبل وعند البحر «عد
١٣ ، ٣٩» ، فالمراد من برية فاران هي البرية الواقعة في شرقي سلسلة جبل الشرات ،
فانه لا برية له في غربه ، لأن غربه مضايق بالاردن وبحيرة لوط ووادي العربة والبحر
الأحمر ، وهذه البرية هي الشاملة للحجاز ومكة.
فالتوراة ذكرت
منزل اسماعيل في مكة والحجاز لا بالتعيين ، بل بالجهة الشاملة.
قال في الجلد
السابع من دائرة المعارف ص ٦٩١ : الحجاز قيل وأحسن ما قيل في تحديده ما قاله ابن
الكلبي «وهو العلامة النسابة في أواخر القرن الأول من الهجرة» : ان الحجاز عبارة
عن جبل الشرات وما اتصل به.
«فإن قال المتعرب»
: ان اسلوب الاصحاح الأول والثاني من التثنية يقتضي ان عبور بني اسرائيل من ايلة
ومن عصيون جابر الى شرقي جبل الشرات إنما كان بعد ارتحالهم من قادش التي هي برية
فاران ، وذلك يقتضي أن تكون قادش وبرية فاران في وادي العربة أو في غربيه ، فهي
إذا اما من فلسطين واما من برية سينا.
«قلت» : لعل
المتعرب قد غرته التراجم حيث جعلت أدوات العطف بلفظ «ثم» و «الفاء» اللتين هما
للترتيب ، وإنما هو محض تشهّي وتحكم من المترجمين ، فإن الأصل العبراني لم يقع فيه
العطف إلا بالواو ، وهي لمطلق
الجمع لا تدل على
الترتيب ، فإن التوراة طالما عطفت بالواو ما هو متقدم على ما هو متأخر ، فلا تشبث
بمحض العطف بالواو.
وكيف نعدل بوهمه
عن صراحة الترتيب والتفصيل المذكور في الثالث والثلاثين من العدد حيث استقصى
منازلهم ومراحلهم من رعمسيس في مصر الى عربات مواب حيث توفى موسى عليهالسلام ، حيث ذكر ان بني اسرائيل ارتحلوا من رعمسيس ونزلوا في
سكوت ، وارتحلوا من سكوت ونزلوا في ايثام وجرت على هذا النسق والترتيب الى أن قالت
: وارتحلوا من ياطباثاه ونزلوا في عبرونه ، وارتحلوا من عبرونه ونزلوا في عصيون
جابر ، وارتحلوا من عصيون جابر ونزلوا في برية صين وهي قادش ، وارتحلوا من قادش
ونزلوا في جبل هور في طرف ادوم.
ثم ذكر لهم على
هذا النسق والترتيب سبع مراحل ومنازل الى عربات مواب.
وإذ حاول المتعرب
أن يتشبث في وهمه بسفر التثنية ، فإن لنا من صراحته حجة واضحة على ان قادش وبرية
فاران إنما هي في شرقي جبل الشرات وذلك لصراحته بأن بني اسرائيل وهم في قادش صعدوا
الى الجبل فخرج الاموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائهم ، وكسروهم في سعير الى
حرمة «انظر تث ١ ، ١٩ ـ ٤٠ ثم من ٤٠ ـ ٤٦».
وان جبل سعير قطعة
من جبل الشرات في شرقي وادي العربة وجبل الاموريين قطعة منها أيضا في شمال سعير.
فإن ذات التوراة
تقول : ان ملك الاموريين كان ساكنا في حشبون «تث ٢ ، ٢٦ و ٣٠ ، و ٢٣» ، وحشبون
وأرض الاموريين في شمال مواب شرقي الطرف الشمالي من بحيرة لوط وانظر «يش ١٣ ، ٢٧».
«فان قال المتعرب»
: ان سفر التثنية العبراني قد غلط في هذه الواقعة وارتباطها مع الاموريين والصحيح
هو ما في النسخة السامرية وهو قولها بدل الاموريين «العمالقي والكنعاني» بدليل ما
في سفر العدد في قوله في هذه
الواقعة ، لكن
تجبروا وصعدوا الى رأس الجبل ، فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل
وضربوهم وكسروهم الى حرمة «عد ١٤ ، ٤٤ و ٤٥» «قلت» له : إذا فإن الحياء زينة الرجل
، افتريد أن تعارض الحقائق المعروفة في الأجيال المتعددة عند ملايين لا تحصى من
أهل المعارف والدقة ، وتغالط فيها بكلمة لا تفهم معناها من كتاب يلجئك سقمه
واضطرابه إلى الاعتراف بغلطه.
وأما قول المتعرب
: ان التوراة تقول : ان اسماعيل نزل أمام اخوته وهؤلاء كانوا بأرض كنعان من الشام
، ولم يكن أمامهم مما يلي جزيرة العرب سوى بلاد ثمود.
قلت : ان كان مراد
التوراة اسماعيل نفسه وانه نزل أمام اخوته أولاد ابراهيم ، فقد كذب المتعرب أو وهم
بقول ، «وهؤلاء كانوا بأرض كنعان» لأن اسماعيل لم يكن له في أرض كنعان إلا أخ واحد
وهو اسحاق ، واما اخوته الستة بنو قطورة ، فإنما كانت منازلهم في أرض المشرق «تك
٢٥ ، ١ ـ ٧» ، وهي في شرقي جبل الشرات ، ومنهم مدان ومديان ، وهكذا ان كان المراد
من اخوته هم عشيرته وبنو نسبه فإن أكثرهم لم يكونوا في كنعان لأن اخوته الستة
أولاد قطورة والموآبيّين والعمونيين بني لوط كانوا كلهم في شرقي جبل الشرات وعلى
كل حال لا يتعين من نزول اسماعيل مقابل هؤلاء كونه سكن في برية سينا بل يجوز أن
يراد بذلك سكناه في مكة ، فإن التوراة كثيرا ما تذكر الجهات بالسمت البعيد جدا ،
فقد سمت حاران بأرض بني المشرق «تك ٢٩ ، ١» مع ان سمتها يميل الى الشمال عن مشرق
مساكن اسحاق في كنعان بما يزيد على أربعمائة ميل جغرافي.
وسمت «سفار» بجبل
المشرق «تك ١٠ ، ٣٠» مع ان سمته يميل إلى الجنوب عن مشرق الأماكن التي نزلت فيها
التوراة بما يزيد على الثمانمائة ميل ووصفت عبر الاردن الذي نزل فيه سفر التثنية
بأنه قبالة «سوف» مع انه ليس له مسامته ومقابلة حقيقية أو عرفية مع سوف إلا مع
البعد الشاسع ، ووصفته أيضا بأنه بين فاران وحضيروت «تث ١ ، ١» مع ، ان بينه وبين
حضيروت مسيرة سبعة أيام تقريبا انظر «تث ١ ، ٢ وعد ٣٣ ، ١٦ و ١٧».
هذا وإن كان مراد
التوراة من الساكن أمام جميع اخوته هم بنو اسماعيل وذريته كما يدل عليه كلام
التوراة الذي سنذكره.
فمن الواضح ان
مساكنهم لا ربط لها ببرية سينا ولا فلسطين ، بل هي في شرقي جبل الشرات على بعد
متفاوت.
فقد قالت التوراة
: وهذه أسماء بني اسماعيل حسب مواليدهم : نيابت بكر اسماعيل ، وقيدار ، وادبيئل ،
ومبسام ، ومشماع ، ودومة ، ومسّا ، وحدد ، وتيما ، ويطور ، ونافيش ، وقدمه. هؤلاء
هم بنو اسماعيل وهذه أسمائهم بديارهم وحصونهم اثني عشر رئيسا حسب قبائلهم ، وهذه
سنو حياة اسماعيل مائة وسبع وثلاثون سنة ، وأسلم روحه ومات وانضم الى قومه ،
وسكنوا من حويلة الى شور التي أمام مصر لمجيئك نحو آشور امام جميع اخوته نزل «تك
٢٥ ، ١٣ ـ ١٩».
وهذا الكلام
بمقتضى المحاورة العقلائية ظاهر كالصريح في ان المراد من الذي نزل أمام جميع اخوته
إنما هم أولاد اسماعيل ، وصريح في ان الأسماء الاثني عشر المذكورة هي أسماء لأولاد
اسماعيل وأسماء لقبائلهم وأسماء لديارهم وحصونهم على النهج المألوف في القديم ،
كما في أولاد يقطان ، حضرموت ، وأوزال ، واوفير ، وحويلة ، إذ سمّيت قبائلهم
وأراضيهم وبلدانهم بأسمائهم ، وكما في أولاد ابراهيم : مديان ، وادوم «عيسو» ابن
يعقوب ، وعلى هذا فلا يخفى على من له ادنى معرفة بتوقيع البلدان ان «تيما» و «دومة»
لا ربط لهما ببرية سينا ، ولا بأرض كنعان ، ولا بأرض اسرائيل في شرقي الاردن ، بل
هما مائلتان عن ذلك وعن الحجر بلاد ثمود الى المشرق في بلاد العرب بمسافة بعيدة
ومحلهما معروف ، وهذا كاف في إبطال مزاعم المتكلف.
وزد على ذلك ان
التوراة في تحديدها لمنازل بني يقطان ذكرت «مسا» حيث قالت : وكان مسكنهم من «مسا»
لمجيئك سفار جبل المشرق «تك ١٠ ، ٣٠».
وقال المتعرب «قذ»
ص ١١ ان لفظها في النسخة المطبوعة في رومية
«ماسا» ، قلت :
وفي الترجمة الفارسية المطبوعة في لندن سنة ١٨٣٩ «مسا» ومشا ، أو مسا عند العرب من
أسماء مكة ، وعلى ذلك جرى ظن كثير من النصارى حتى رسموا «مشا» في الخارتة في موقع
مكة ، وهو ما فوق الدرجة الحادية والعشرين من العرض الشمالي وفوق الدرجة الأربعين
من الطول الشرقي ، قال سايل «ق ص ١١ س ٢» : «ويظن انه ـ أي مشا أو مسا أو ماسا ـ مأخوذ
من اسم واحد من أولاد اسماعيل» وهو مسا المذكور قريبا ، وقد سمعت ان التوراة جعلت
أسماء بني اسماعيل أسماء لقبائلهم وحصونهم وديارهم فيكون لفظ مسا اسما لابن
اسماعيل وموطنه وحصنه ، قلت : ويجوز أن يكون اسم ابن اسماعيل مأخوذا من اسم مكة ،
أو كما ظن باعتبار ان مسا هو الذي مصرها وبنى فيها الحصون.
«تنبيه» اعلم ان
ما يقرأ ميشا ومشا ومشاء ومسا وماسا ومسا إنما هو بصورة واحدة بلا فرق أصلا في نسخ
التوراة التي يكتبها اليهود على الرق ، ويقدسونها للتلاوة في معابدهم من القديم
الى الآن حيث التزموا فيها باتباع أصلها المكتوب بالوضع القديم حتى على الغلط
البيّن ، فلم يرسموا في هذه الألفاظ «تك ١٠ ، ٣٠ ، و ٢٥ ، ١٤» إلا ميما وألفا
بينهما حرف مردد بين السين والشين ، وإنما جاء الفرق والاضطراب حسب التشهّي من بعض
النسخ المرسومة على الوضع الحادث للخط العبراني في طبرية فيما بين القرن الثاني
والثالث للمسيح ، وإنما كتبنا في المتن على مقتضاها لئلا يقرفنا الغافل بالخيانة
في النقل ، وإلا فاللفظان في صورة واحدة.
وزد على ذلك أيضا
ان التوراة ذكرت ان أولاد اسماعيل سكنوا من حويلة الى شور التي أمام مصر لمجيئك
الى آشور ، وحويلة من بلاد اليمن مسماة باسم واحد من أولاد يقطان فهي في جنوب مكة
، انظر «تك ٢ ، ١١ ، و ١٠ ، ٢٩».
«فإن قلت» : قد
جاء في صموئيل الأول ١٥ ، ٧ ان شاول ضرب عماليق من حويلة لمجيئك شور التي مقابل
مصر ، وليس لعماليق محل في أرض اليمن ، ولم تصل حروب شاول الى أرض اليمن بل ان هذا
التحديد لا بد أن يكون واقعا في أرض اسرائيل في شرقي الاردن أو غربيّه.
«قلت» : ان منازل
أولاد اسماعيل الواقعة من حويلة الى شور لا يمكن أن تكون واقعة في أرض بني اسرائيل
لا في شرق الاردن ولا في غربيه ، وذلك لوجهين :
أحدهما
: ان من منازل أولاد
اسماعيل تيما ودومة وهما بعيدتان الى الشرق عن أراضي اسرائيل بعدا شاسعا.
وثانيهما
: ان التوراة تقول :
ان الله وعد ابراهيم وهاجر بأن يبارك اسماعيل ويثمره ويكثره كثيرا جدا ويلد اثني
عشر رئيسا ، ويجعله أمّة عظيمة «تك ١٧ ، ٢٠ ، و ٢١ ، ١٨» فلا بد أن يكونوا في زمان
موسى أكثر من المديانيين أولاد مديان بن ابراهيم.
ومن الموآبيّين
والعمونيين اولاد لوط ، ومن الادوميين أولاد عيسو فإن هؤلاء لم يسبق لهم الوعد
بالبركة والكثرة كأولاد اسماعيل مع انهم كانوا في زمان موسى ألوفا عديدة ، بل لا
بد بمقتضى وعد الله في اسماعيل ان يكون أولاده في زمان موسى بقدر بني اسرائيل أو
أكثر.
وعلى هذا لو كانت
منازلهم في الأرض التي استطرقها أو افتتحها بنو اسرائيل مع موسى أو يوشع لجرى لهم
حال وشأن كبير مع بني اسرائيل في حرب أو معارضة أو مصالحة أو مساعدة أو مهادنة أو
معاهدة كما جرى لبني اسرائيل مع غيرهم ، مع ان التوراة ، وسفر يوشع لم يذكرا من
ذلك شيئا لا تصريحا ولا تلويحا ، وهذا السكوت في مثل تاريخ التوراة ، وسفر يشوع
يعد من نحو صراحتهما بأن بني اسماعيل لم يكن لهم منزل فيما استطرقه أو تملكه بنو
اسرائيل.
وحينئذ لو سلمنا
ان حويلة في سفر صموئيل هي في بلاد بني اسرائيل أو ما يتاخمها لقلنا : انها لا بد
أن تكون غير حويلة المذكورة في التوراة ، فإن البلدان قد تتشابه في الأسماء نحو
قادش «عد ٢٠ ، ١ و ٢٢ وقادش ، يش ٢٠ ، ٧ ، و ٢١ ، ٣٢».
وهذا التطويل كله
مماشاة وجدل لمن يتشبث بالتوراة لأوهامه بأن مسكن
اسماعيل وأولاده
كان في برية سينا أو أرض كنعان أو ما يقاربها وإلا فإن أوضح الحجج التاريخية دالة
على ان مسكن اسماعيل هي مكة ، وهو تسالم الأجيال المتسلسلة المتصلة المشتمل كل جيل
منها على ألوف عديدة من الناس المختلفين في النسب المتشاجرين في المفاخرات.
ولعل ما تأتي إن
شاء الله تتمة لهذا المقام عند ذكرنا لنسب رسول الله «ص».
وأما قول المتعرب
ان التوراة تقول في موضع ثالث انه ـ أي اسماعيل ـ لما مات أبوه أتى فدفنه في مغارة
المكفلية.
فيكفي في قمع
أباطيله بيان ما فيه من التحريف القبيح ، الذي هو العمدة في زبرج الباطل ، وذلك ان
لفظ «اتى» التي يموه بها أمره إنما هي زيادة على التوراة ، فانّ لفظها في شأن
ابراهيم. وانضم الى قومه ، ودفنه اسحاق واسماعيل ابناه في مغارة المكفلية «تك ٢٥ ،
٨ و ٩».
رسالة هود الى عاد ، وصالح الى ثمود ، وشعيب
«الى مدين. وشئون هؤلاء»
وقد اقتص الله جل
شأنه في القرآن الكريم شيئا من أنباء هؤلاء حسبما تقتضيه الموعظة والتذكير .
ولكن المتكلف
والمتعرب لأجل ان توراتهما التي عرفت حالهما لم تذكر من ذلك شيئا تحاملا ببواعثهما
على قدس القرآن الكريم فيما ذكره في شأن هؤلاء.
وحاصل ما عند
المتكلف في معرفته «يه ٢ ج ص ٤٨ و ٤٩» هو انه لم يرد في كتبه ان هودا كان نبيا ،
وانه ارسل الى قومه وكذلك لم يرد ان قومه هم عاد ، وان الحق الذي لا مرية فيه انه
لم يرسل الله بين عصر نوح وبين عصر ابراهيم ، ولم يرد في التوراة ولا في الإنجيل
ان الله أرسل نبيا اسمه صالح إلى ثمود من قبائل العرب ، فإن جميع الأنبياء والمرسلين
كانوا من الامة الإسرائيلية في أرض اليهود.
__________________
وغاية ما عند
المتعرب «ذ» ص ١ ـ ١٠ هو محض الهوسات في التكذيب للمؤرخين ، واستغراب بعض التفاصيل
المنقولة عن بعض الناس مما لا يعود شيء منه على جلالة القرآن الكريم.
ومرجع كلام
المتكلف وأعوذ بالله من وبال بيانه ، هو ان خزانة رحمة الله ولطفه وعدله وهداه
وإرادة الصلاح بعباده ، ودعوتهم الى التوحيد والهدى والكمال ، قد كانت محجورا
عليها ، ممنوعة بالقهر من أن يرشح من نداها شيء على العباد ، أو ان الحرص ضرب
عليها اقفالا ختمها بخواتيم المحاباة لبني اسرائيل ورصدها بحراسة الشح ، فبقيت
عباد الله هملا فوضى بلا معارف نبوّة ، ولا دعوة توحيد ، ولا نور هدى ، ولا تكميل
تعليم ولا لطف تهذيب ، ولا فيض رحمة ، ولا بركة نعمة ، ولا مدنية أحكام إلهية ،
ولا سياسة شريعة ، يعاقبون بلا حجة ، ويوبّخون بلا بيان ويوصفون بالظلم بلا شريعة
تميّز الحقوق وتحفظها بالسياسة ، إلى أن ارتفع ذلك الحجر من نحو خاص وتفصّمت تلك
الأقفال ، وانصرفت الحراس من جهة واحدة فانهطل وابل النبوة على اسرائيل وبنيه سحا
بلا ميزان ، ولا رعاية أثر ، ولا مراعاة حكمة ، ولا دعوة عامة ، ولا بركة شاملة ،
ولا هدى فائض ، فلذلك اتفق لها بمقتضى نقل التوراة الرائجة أمر عجيب قد فاتته
الموفقية وجانبته الحكمة ، فلم تذكر التوراة في نبوة ابراهيم إلا الوعد بالبركة
وكثرة النسل ، وإعطاء قطعة من الأرض لهم ، وعهد الختان الذي أبطله العهد الجديد ،
وتنفيذ أوامر سارة ، ولم تذكر في نبوة اسحاق إلا الوعد بتكثير نسله وإعطائه قطعة
من الأرض ، ولكنها لم تذكر ان أمره لولده عيسو أن يصنع له طعاما كما يحب ليأكل
ويبارك عيسو قبل ان يموت.
وان اشتباهه
بمخادعة يعقوب إذ باركه بعد ما أكل وشرب خمرا ، هل كان هذا كله بوحي ونبوة أم لا؟
نعم ذكرت ان يعقوب اختلس بركة النبوّة وعهدها بالمخادعة والتزوير ، واحكم أمرها
بالمضارعة والجهاد مع الله تعالى شأنه.
والحاصل لم تذكر
التوراة في نبوة هؤلاء الأنبياء ولا الذين من قبلهم كتاب هدى ورحمة ، أو نبوة
بالدعوة الى التوحيد والكمال ، أو بتمهيد شريعة أدبية ، أو تأسيس قوانين مدنية
وإصلاح للاجتماع.
نعم ذكرت ان في
أيام شيث ابتدأ ان يدعى باسم الرب ، ولكنها لم تذكر من الداعي؟ ولمن ادعى؟ وبما ذا
دعى؟ وكيف دعى؟.
ثم بعد ذلك اندفقت
النبوة بأبّهة رسالتها ورئاستها الكبرى على موسى فلم تعد التوراة ان ذكرت انه رد
هذه الرسالة بلسان غير لين ولا مؤدب ولم يلتفت الى حجة الله ووعده بالتأييد ، بل
كرر الرد بلسان خشن حتى حمي عليه غضب الله.
ثم تحكم على الله
بالغفران لعبدة العجل ، أو يمحوه من كتابه ، ووصف الله بالإساءة الى الشعب وإلى
عبده ، وشك في قدرة الله على إشباع بني اسرائيل من اللحم كالمستهزئ بوعد الله ،
وذكرت المزامير انه فرط بشفتيه.
هذا كله ولم تسمح
هذه الرسالة أن ترشح من بركتها قطرة واحدة على فرعون وقومه بالدعوة الى الإيمان
بالله وتوحيده ، فلم تذكر التوراة ان موسى دعاهم الى الإيمان والتوحيد ولا بكلمة
واحدة ، حتى كأن سكوته عن ذلك كان إمضاء لما عليه فرعون وقومه.
وغاية فائدة تلك
الرسالة وبركة عاقبتها هو أن يطلق فرعون بني اسرائيل الذين كانت عاقبتهم بعد ما
رأوا الآيات ان عبدوا العجل وزنوا ببنات مواب الى آخر ما ذكرناه في المقدمة
الخامسة من ارتداداتهم.
ومن أجل هذا قال
المتكلف «يه ٢ ج ص ٦١» ما حاصله ان الله لم يرسل موسى ليدعو فرعون وقومه الى
ديانته ولا ليلفتهم عن شركهم.
ولسان الحال من
عقيدة البروتستنت المذكورة في كتاب صلاتهم يقول : ما الحاجة الى إزعاج فرعون وقومه
عن شركهم وظلمهم وفسادهم ، وعما قليل «واستغفر الله» سينزل المسيح الى الجحيم
وينجي أرواحهم منها.
ومقتضى التوراة
الرائجة ان موسى جاء بكتاب اشتمل على سيرة لم تعنون بالموعظة ولم تتزين بسياق
التذكير ، بل اشتملت في تاريخها على الفضائح لعائلات الأنبياء والأولياء.
ولم يعلن ذلك
الكتاب بعموم الدعوة ، وسعة الرحمة ، وفيض الهدى
وشمول الشريعة
والإصلاح ، بل خص بني اسرائيل بدعوة التوحيد والشريعة وأحكام أراضيهم ، وسلطهم على
قتل الامم حتى النساء والأطفال بلا علة سوى استلاب أراضيهم وإزعاجهم عن أوطانهم من
دون أن يربط ذلك بالدعوة الى الهدى والتوحيد وعدل الشريعة وآدابها ، فلم يذكر وقوع
شيء من ذلك لا وحيا ولا عملا ، ولم يتعرض له ولم يتوعد على مخالفة الشريعة
والتوحيد إلا بنحو المرض والفقر ، ولم يجعل الثواب إلا بنحو كثرة الحنطة والخمر ،
وغادر أمر الثواب والعقاب في الآخرة نسيا منسيا ، بل لم يتعرض لذكر المعاد
والقيامة أصلا ورأسا لا تصريحا ولا تلويحا ، وجعل سيطرة الشريعة وإمامتها الى
هارون ، وذكر ان الله كلمه مع موسى ومنفردا.
ثم ذكر ان هارون
صنع العجل إلها يعبده بنو اسرائيل ، وبنى مذبحا أمامه ونادى لعبادته.
ثم سالت النبوة
على النساء والرجال ، وإلى آخرها لم تذكر كتب العهد القديم عن الأنبياء والنبيات
دعوة عامة ، أو إشارة الى هدى لعموم الناس بل ذكر في النبوة انها تقوم بضرب الدف
والعود والناي والرباب ، وبالتعرّي والاضطجاع ، ويكون تبليغها بأنواع الخلاعات
والتجانن ، والفحش في الانذار والوعيد بألفاظ الزنا ، وكشف العورة والهتك مما لا
نسمعه إلا من تهديد المتهتكين.
هذا كله وسلعة
النبوة المبذولة بائرة في سوق بني اسرائيل ، وإن زاد عدد الأنبياء في الزمان
الواحد على المائة ، بل كان النفوذ والاثر الرائج لضلال الوثنية وطغيان الفساد
الذين يتقلب بهما ابن لله البكر بنو اسرائيل حتى جرى ذلك النفوذ بنقل كتبهم على
اعيان الأنبياء ، كما قرفت به قدس هارون وداود وسليمان عليهمالسلام.
ثم أفضت نوبة
النبوة الى المسيح فقرفت الاناجيل قدسه بما نحتشم تكراره ، وذكرت انه لم يسعده
الامهال إلا ثلاث سنين على تستر وخوف في تعليمه اليسير.
ولكن بعد ذلك انحل
وكاء النبوة والرسالة فهطلت على التلاميذ الذين
عرفت حالهم في
أواخر المقدمة الخامسة ، وعلى اتباعهم بحيث يتنبأ بنوهم وبناتهم ، وذكر كتابهم ان
أربع عذارى في بيت واحد كن نبيات ، «١٠ ع ٢١ ، ٩».
هذا وقد فوض
للتلاميذ أن يمحوا رسوم الشريعة ، ونادت كتبهم بالفداء والخلاص ، ولم تنفتح باب
الرسالة العامة ، ولم يرتفع عنها الحجر حتى للمسيح إلا للتلاميذ ، ولكنها تقول :
انها كانت بالدعوة الى التثليث لا إلى التوحيد ، ثم عادت النبوة والرسالة الى
حجرها الأول ، وسد بابها واحكام رتاجها.
فلسان حال المتكلف
والمتعرب وفحوى مقالهما يقولان : إذا فكيف يسوّغ الله أن يرسل رسولا الى غير بني
اسرائيل من غير بني اسرائيل بغير الشريعة المعروفة في العهد القديم ، وغير الوعد
والوعيد المذكورين فيه ، أو بغير الفداء المذكور في العهد الجديد ، وكلما يذكر في
خلاف ذلك فهو من الخرافات ، فكيف يبعث الله رسلا الى عاد وثمود وأهل مدين ليأمروهم
بعبادة الله وتوحيده وتقواه وطاعة أمر الرسول ، واطراح عبادة الأوثان والفساد في
الأرض؟ أم كيف تصدر من موسى دعوة فرعون وقومه الى الإيمان والهدى والصلاح؟ أم كيف
يكون من آل فرعون مؤمن ينصح قومه وينذرهم بيوم القيامة ويعظهم بهلاك من قبلهم
ويقول : (يا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) .
وكيف يكون ذلك
والتوراة لم تذكر يوم القيامة ولم تتوعد به ، وإن ذكرت القيامة في العهد الجديد ،
فباحتجاج واهن فاسد أو وعد مكذوب فكل ما يذكر من النبوات في غير الكذب على فرعون ومخادعته
بإطلاق بني اسرائيل ليذهبوا سفر ثلاثة ايام ، مع ان الغرض والوعد هو التوجه الى
أرض كنعان ، وغير استلاب الأرض من الكنعانيين وقتلهم وقتل أطفالهم ونسائهم
وبهائمهم ، وغير الشريعة لخصوص بني اسرائيل ، وغير وعيدهم بالمرض والفقر وتسلط
__________________
الأجنبي على وطئ
زوجة الرجل ، وغير وعدهم بالحنطة والخمر ، وغير محو الشريعة بالفداء فهو من
الخرافات العجائزية ، بل ان تاريخ العالم كله محصور في العهدين ، وإن استولى على
كتبهما التطويل الممل بالفضول الفارغة ، وتسجيل الفضائح ... وما عدا ذلك فتاريخ
أهل الهند والصين خرافة ، وتاريخ العرب خرافة ، وتاريخ اليهود خرافة ، وتاريخ
قدماء المسيحيين خرافة.
وخلاصة الأمر ان
كل ما وافق القرآن فهو خرافة.
نعم رؤيا يوحنا
حقيقة نورانية الثالث والرابع من رسالة يوحنا الاولى حقيقة وتعليم هدى ومعرفة
وتوحيد ، الرسائل المنسوبة الى بولس لا يوجد فيها غير الصدق والتوحيد والتكميل
بالشريعة ، خامس عشر الأعمال وحي وتقوى وورع وحفظ للشريعة وتمجيد لشريعة موسى وشدة
في حفظ أوامر الله ونواهيه ، عاشر الأعمال وحي صادق لا يكذب الشريعة السابعة «يو
١٣ ، ٢٢ ـ ٢٦» عفة ووقار وبيان لمراتب المحبة ورأفة بالتلميذ الشاب «يو ١٠ ، ٣٣ ـ ٣٧»
توحيد وإيمان وفهم للكتب «لو ٧ ، ٣٦ ـ ٥٠» هو روح للعفة ورفع لحشمة التائبات
وتثبيت لعلاقة التوبة بينهن وبين القديسين بطهارة القلب وعفة الضمير.
الاحتجاج بالقيامة
وعدم الزواج فيها «لو ٢٠ ، ٣٤ ـ ٣٨» والاحتجاج للمنع من الطلاق «مت ١٩ ، ٣ ـ ١٠»
من حجج الوحي القاطعة الباهرة هو «١ ـ ٣ وخر ١٦ و ٢٣ واش ٣ ، ١٦ ـ ٢٥ وار ١٣ ، ٢٢ ـ ٢٧
ونا ٣ ، ٤ ـ ٦» كله وحي لائق بجلال الله وشرف الأنبياء والتعليم بالوقار والحشمة
وصون اللسان عن الخنا والفحش «٢ صم ١١» تمجيد للنبي وتنويه بعفته وأمانته وحكمة
الله وعلمه في إعطائه النبوة وحكمة الله وعدله في كيفية عقابه ، أقوال أيوب تقوى
وتسليم لأمر الله وتمجيد له بعدله ومعرفة للإنسان بقدر نفسه «١ مل ٢٢ ، ١٩ ـ ٢٤ و
٢ أي ١٨ ، ١٦ ـ ٢٣ وار ٤ ، ١٠» كله معرفة الله بجلال الله وعظمته وتقديس وتسبيح له
جل شأنه «قض ١١ ـ ١٧» نور وهدى وحكم واحكام «لا ١٣ و ١٤» حكمة بالغة وآيات باهرة
وشفاء ناجح تشهد به التجربة
__________________
وتتأكد به الحجة «خر
٤ ، ٢٤ ـ ٢٧ وتك ٦ ، ٦ و ١١ ، ٥ ـ ٨» كله علم من الله وقدرة وحكمة ووفاء بالعهد «٢
صم ١٣ وتك ١٩ و ٣٨» تمجيد للمؤمنين بعفتهم وطهارة نفوسهم ونجابة عوائلهم ومواليدهم
«تك ٢٧» من الحقائق الموضحة لحكمة الله وعلمه في اختياره والمبينة لمقدار علم
الأنبياء وأهليتهم للايتمان على أعمال الله.
وقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٤٨» لم يصرح القرآن بالرجس الذي انزل على قوم هود ولو كان شيئا حقيقيا له
وجود لصرح به.
قلت : لا ألوم
المتكلف على جهله بالقرآن بعد ما وجدناه من جهله الفاحش بكتبه ، فلا غرو إذا لم
يعلم من القرآن الكريم بيانه المكرر في ان ذلك الرجس هو الريح المهلكة ، ويكفي منه
قول الله تعالى شأنه في سورة الحاقة المكية ٦ : (وَأَمَّا عادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ٧ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ
أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).
ثم اعلم ان
المتعرب حاول ان يكذب ما ذكره المؤرخون في شأن شداد ابن عاد بتمويه لا يمس بتزويره
قدس القرآن الكريم ، وانا وإن كنا لا يعنينا ما يقوله في التاريخ واخبار الآحاد ،
ولكن لا بأس ببيان جهالات المتعرب في اعتراضه ، فقد اعترض على المؤرخين إذ قالوا :
ان عادا من ذرية ارم بن سام ، وانه متقدم على اسماعيل.
وان ابنه شدادا
عزم على بناء إرم وهو ابن تسعمائة سنة وأقام في بنائها ثلاثمائة سنة ، فيكون شداد
عمّر ألفا ومائتي سنة.
وحاصل اعتراضه على
ذلك بأنه يلزم أن يكون شداد مات بعد الطوفان بنحو ألف وثلاثمائة سنة.
والتوراة
العبرانية يعلم منها ان اسماعيل مات بعد الطوفان بخمسمائة وعشرين سنة ، وبحسب
النسخة السبعينية يكون بين الطوفان وموت اسماعيل ألف ومائتان وخمسون سنة ، فلا بد
أن يكون موت شداد بعد موت اسماعيل.
قلت : اما «أولا»
فإن المؤرخين لا يلتزمون بأن موت شداد وهلاك قومه
متقدمان على موت
اسماعيل ، بل مقتضى ذكرهم ان «قيل» ابن عثر و «مرثد» ابن سعد توجها الى البيت
الحرام في مكة ليطلبوا من الله الفرج ، هو ان هلاك شداد وعاد كان بعد ما بنى
ابراهيم واسماعيل البيت بمدة ، فإن من مسلمات معلوماتهم هو ان البيت الحرام إنما
بناه اسماعيل وأبوه ابراهيم فيكون هلاك عاد في المدة التي بين بناء البيت في أيام
اسماعيل وبين دعوة موسى لفرعون ، ولا مانع من أن يكون هلاك شداد وقومه بعد موت
اسماعيل ، ولئن قال المؤرخون : ان شداد متقدم على اسماعيل في الولادة فلا مانع منه
، بل ان طبقات المواليد تقتضيه.
وأما «ثانيا» فإن
الاعتراض على تقويم المؤرخين بتقويم التوراة الرائجة إنما هو من ورطات الغرور ،
فإن المؤرخين أتقن من أن يعتمدوا على كتاب تلاعبت به الأيام ما شاءت ، وهتكت
الحواشي من ستر أغلاطه ما هتكت ، وسجل عليه بالافتضاح تنازع نسخه المتعادلة في
الاعتبار الادعائي وعدمه الحقيقي ، ويا حبّذا لو سلم من ذلك من زمان حلقيا فما بعد
، فكيف إذا لا يقبح الاعتراض به ، سيما إذا كان الاعتراض بنسخة من نسخه.
وأما «ثالثا» فإن
المتعرب لم يكتف بسخافة كتبه حتى صار يتقوّل عليها ولا يفهم ما فيها ولا يدري به ،
فلم يشعر ان تقويم التوراة العبرانية وتاريخ العهد الجديد يقتضيان ان يكون بين
الطوفان وبين موت اسماعيل خمسمائة وخمس وسبعون سنة لا خمسمائة وعشر سنين ، وذلك
لأن من الطوفان الى مولد تارح أبي ابراهيم بحسب النسخة العبرانية مائتان واثنتان
وعشرون سنة ، وعاش تارح مائتين وخمس سنين ، ومات في حاران «تك ١١ ، ١٠ ـ ٣٢» ،
وباعتبار ان ابراهيم خرج من حاران وهو ابن خمس وسبعين سنة «تك ١٢ ، ٤» وانه خرج
بعد ما مات أبوه «١٠ ع ٧ ، ٤» فلا تكون ولادة ابراهيم قبل أن يمضي من عمر أبيه
تارح مائة وثلاثون سنة ، فيكون من الطوفان إلى مولد ابراهيم على الأقل ثلاثمائة
واثنتان وخمسون سنة ، فإذا اضيف إليها من مولد ابراهيم الى مولد اسماعيل ست
وثمانون سنة ، وعمر اسماعيل وهو مائة وسبع وثلاثون سنة «تك ١٦ ، ٦ و ٢٥ ، ١٧» كان
المجموع خمسمائة وخمسا وسبعين سنة ، هذا مع ان
المتعرب لا يساعده
على دعواه تاريخ من التواريخ حتى تاريخ يوسيفوس المتعبد بتقويم التوراة.
وأيضا مقتضى
النسخة السبعينية ان المدة من الطوفان الى مولد تارح تسعمائة وسنتان ، فبمقتضى
التقويم الذي ذكرناه من مولد تارح الى وفاة اسماعيل تكون المدة من الطوفان الى وفاة
اسماعيل ألفا ومائتين وخمسا وخمسين ، فالمتعرب غلط في التقويم الأول بخمس وستين
سنة ، وفي التقويم الثاني بخمس سنين ، فزاد على نسخ كتبه في الغلط نسختين أيضا ،
وهو بكتبه المتقلبة وجهله بها وغلطه في الحساب يحاول أن يعترض على المؤرخين ،
فتعسا للغرور.
وقال الله تعالى
في سورة الفجر ٥ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ٦ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ٧ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها
فِي الْبِلادِ).
ولا يمكن لعاقل أن
يستبعد ذلك ، فانه لا بد في كل زمان من أن تكون فيه بلدة هي خير بلاده ، فلا بد أن
تكون من جميع البلاد بلدة هي خير بلاد الدنيا في جميع الأزمان.
فما ظنك ببلدة
تصدى للتأنق ببنائها ملك عات مقتدر ساعده على ذلك طول العمر وكثرة المعادن
وبكارتها ، فلا غرو إذا جاءت خير بلاد الدنيا الى وقتها أو مطلقا.
وأما ما جاء عن
بعض الناس في وصفها فليس على عهدة القرآن منه شيء ، ولا يقول المسلمون : ان شدادا
نفسه تنبأ في وصف الجنة كما تنبأ «قيافا» في أمره بقتل المسيح «يو ١١ ، ٤٩ ـ ٥٢»
بل يقولون : ان شدادا سمع من أنبياء عصره الذين يدعون الى التوحيد والخير والصلاح
بوعد الله بنعيم الجنة وكبير شأنها لا بالحنطة والخمر ، ويحذرون بوعيد الله بعذاب
الدنيا والآخرة لا بمحض الفقر والمرض ووطأ الأجانب لزوجة العاصي.
وان المسلمين لا
يشطون على الله ويحصرون النبوة بقبيلة بني اسرائيل ومريم ، ودبورة ، وخلدة ، وحنة
، وأربع بنات فيلبس ، وبنيهم وبناتهم.
وبهذا تعرف غلط
المتعرب «ذ» ص ٤ ـ ٦ ، وزاد المتعرب في الغلط حيث أنكر قصة ثمود وهلاكهم متشبثا
بأن «بترا» هي منازل ثمود وقد كانت عامرة في القرن الثاني بعد الميلاد.
فقبحا لغرور الجهل
، أفلا يعلم كل عاقل انا ان سلمنا ان منازل ثمود الذين ذكرهم القرآن هي بترا لقلنا
: ان القرآن يبين انهم هلكوا قبل دعوة موسى لفرعون فأقل ما يكون بينهم وبين الميلاد ما يزيد على ألف وخمسمائة
سنة ، وكل ذي شعور يعلم انه يمكن للبلاد أن تخرب ويهلك جل أهليها ، ثم تعمر بعد
ألف وخمسمائة سنة.
ولو سلمنا ان
الذين كانوا في بترا بعد الميلاد يدعون ثمود لجوزنا أن يكونوا بقية ثمود الاولى من
نسل الذين نجوا مع صالح ، أو ان الناس نحلوهم اسم ثمود كما جاء في التوراة الايميون يحسبون رفائيين لكن الموآبيّين يدعونهم ايميين.
وأما انكار
المتكلف والمتعرب على وصف اخبار المسلمين الاحادية لناقة صالح فهو من الشطط ، لأن
الله قادر على أن يخلق ناقة هي أعظم من النوق المعتادة لكي تكون آية لاقتراح العرب
الذين ألفوا حقيقة الإبل وأحوالها ، ولذا خصّوها بالاقتراح لكون أمرها في نظرهم
أبعد عن السحر ، فخلقها الله بقدرته ، كما هو قادر على أن يخلق عنقود عنب يحمل
بالدقرانة بين رجلين «عد ١٣ ، ٢٣» ، وعلى ان يعطي شمشون قوة يقتل بها ألف رجل بلحى
حمار ، ويقلع بيتا على سطحه ثلاثة آلاف رجل بجذب العمودين من تحته «قض ١٥ ، ١٥ و ١٦
، ٢٧ ـ ٣١» وعلى أن يفتح القبور عند حادثة الصليب ويقيم كثيرا من أجساد القديسين
الراقدين فخرجوا من القبور ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين «مت ٢٧ ، ٥١ ـ ٥٤»
، وعلى أن يعطي بطرس قوة الشفاء للمرضى
__________________
والمعذبين من
الأرواح النجسة ، ولو بأن يخيم ولو ظله على واحد منهم «١ ع ٥ ، ١٥ و ١٦» ، وعلى أن
يصنع على يدي بولس قوات غير المعتادة حتى كان يؤتي عن جسده بمناديل أو مآزر فتزول
بها الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة «١٠ ع ١٩ ، ١١ و ١٢».
* * *
«وأما سورة يوسف
في القرآن الكريم وقصته فيها من الآية ٤ ـ ١٠٣».
فقد اعترض المتكلف
«يه ٢ ج ٦٨ ـ ٨١» على مضامينها «تارة» بعدم وجود بعضها في توراته ، «وتارة»
بمخالفة بعضها لتوراته ، «وتارة» بمخالفة بعضها للاعتبار أو المعقول بزعمه ، «وتارة»
يفتري على بعضها فيعترض عليه بأحد الوجوه الثلاثة ، فانظر كتابه في هذا المقام.
فنقول : «اما أولا»
فانا لو كابرنا الوجدان والشواهد القطعية وفرضنا صحة التوراة الرائجة لقلنا ان
ممارستها والنظر في شئون الحقائق يشهدان بأنها تعرض في تاريخها عن ذكر كثير من
الحقائق اللازمة الوقوع ، وتطوي في قصصها أشياء كثيرة لا ينبغي أن تطويها بمقتضى
وضعها ، كما يظهر ذلك من سيرة ما بين الطوفان وزمان ابراهيم وإهمالها كثيرا من
شئون ذلك وتاريخ انقلاب التوحيد الذي صفاه الطوفان الى الوثنية ، وعناء الموحدين
في الردع عنها ، واعتبر حالها أيضا في تكرارها في سفر العدد «١٢ ـ ٣٤» وسفر
التثنية «١ ـ ١٢» لذكر مراحل بني اسرائيل ومنازلهم وشئونهم فيها ، فإنها في كل
مقام يظهر عليها انها طوت في المقام الآخر ذكر شيء أو أشياء ، وانتظر ما سنذكره
مما طوت ذكره في شأن موسى مع فرعون.
واعتبر أيضا بأنها
قد طوت في خصوص المقام مكالمات يوسف مع اخوته واسترحامهم لما عزموا على قتله
وإلقائه في البئر وهو أمر لا بد من وقوعه ، كما أشرنا إليه في هذا الجزء صحيفة ١٢
وأهملت أيضا تعيين
الزمان الذي بقي فيه يوسف في السجن ، بل اهملت الإشارة إليه ، مع انها نصت في هذه
القصة على تعيين كثير من الأزمنة.
فلا غرو إذا ذكر
القرآن الكريم شيئا قد أهملت التوراة ذكره لكي تكمل الفائدة من كلا الوحيين مثلا.
ولكن أين وأين غرض
المتكلف ومعرفته وأمانته من التدبر في هذه الامور ، أفتأمل منه لأجل هذا أن يتورع
ويقف عن مثل قوله «غلط» متشبثا بأن التوراة لم تذكر ذلك «كلا».
«وأما ثانيا» :
فإن مخالفة القرآن الكريم للتوراة الرائجة إن لم تكن من أمارات الحق فلا تورد على
الحقيقة شكا ، وذلك لأن العقل إذا نظر بعين الاعتبار والاستقصاء الى ما أشرنا إليه
في التصدير وغيره من قلق التوراة في أدوارها وتقلبها في شئونها ، ومكافحة متبعيها
لها بالتغليط والرد ، فانه يقرب الى الظن فضلا عن العلم ان كل مضمون من مضامينها
لا بد من أن يكون قد طرأ عليه المسخ والتبديل الكلي أو الجزئي مرارا عديدة خصوصا
إذا كان المضمون قصة طويلة الذيل ، فلا يعتبرها العقل كتاب تاريخ يساوي سائر
التواريخ حتى بالنسبة الى «حلقيا» أو غيره ، فانظر أقلا الى الجزء الأول صحيفة ٥٢ ـ
٦٠ ، و ٣٥ ـ ٣٩ ، و ٣٤٦! ٣٤٧» ، وانظر الى التصدير في هذا الجزء ، فلا يسمح لها
العقل بأن تقف في صف كتب التواريخ التي لم يعلم بوقوع التقلب والمسخ في مكتوبها
وجهالة نسبتها.
ودع عنك أمر
الاعتماد على الكاتب ، وانه هل هو من أهل الخبرة بالتاريخ والأمانة في النقل
والضبط في الحفظ ، هذا إذا اغضى العقل عما فيها من الخرافات التي تؤول الى الكفر ،
وما قرفت به يعقوب وموسى وهارون كما تقدم مرارا ، وإلا فانه يقول ويقول.
وليس في قوله
تعالى في هذه السورة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) دلالة على ان القرآن الكريم في هذه القصة ترجمة لما في
التوراة الرائجة ، كيف وهو جل شأنه يقول : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، فإن هذا صريح في ان قصة يوسف إنما هي بوحي ابتدائي.
دع هذا وإن كان لا
يمكن أن تدعه ، ولكن لو كان القرآن الكريم ترجمة
لما ذكرته التوراة
الرائجة لكانت مخالفته لها استدراكا عليها فيما غلط به كتّابها وآبائها المتعددون
أو سقط منهم ، كما استدركت الترجمة السبعينية والعهد الجديد والحواشي والتراجم
عليها أشياء كثيرة من نحو الغلط والسقط ، أو ليست التوراة الرائجة وصلت بالطريق
الذي وصل به العهد القديم ، ومع انه أقرب منها عهدا وأقل منها إباء وابتلاء
بالحوادث والكوارث ، فانه قد استدركت عليه الحواشي كثيرا من الكلمات المكتوبة
فقالت : انها لا تقرأ واوجبت قراءة كثير من الكلمات التي لم تكتب ، فراجع التصدير
، هذا مضافا الى خلل التوراة الرائجة فيما يتعلق بقصة يوسف في الذين اشتروه وباعوه
في مصر لفوطيفار ، فتارة جعلتهم اسماعيليين ، وتارة جعلتهم مديانيين وتارة جعلتهم
مدانيين.
«وأما ثالثا» فقد
اعترض على مضمون القرآن الكريم في ان زوج المرأة التي راودت يوسف اطمأن ببراءته
وأمر المرأة بالاستغفار وأبقاها في بيته وأبقى يوسف الى ان بدا لهم أن يسجنوه.
فقال ص ٧١ من
الغرائب تبرئة فوطيفار ليوسف وتوبيخ امرأته فانه لا يتصور ان الرجل يثبت على
امرأته الفسق والخيانة ومع ذلك يقتنيها في بيته أو يستمر على اقتناء العبد ليكون
احبولة لامرأته الشريرة ، ولا يتصور انه يسجنه بعد ظهور براءته.
أقول : أما إبقاء
المرأة في بيته مع ظنه أو علمه بخيانتها ، فلا غرابة فيه ، فإن أحوال الوقت
والمكان والعوائد والاشخاص وبعض العوارض قد تقتضي ذلك ...
ولا أقول أكثر من
هذا ، وأما إبقاء يوسف في بيته فهو أقرب الى الاعتبار حيث اطمأن بصيانته وعفته
وأمانته لقيام الآيات والشهادة على ذلك فإن مثل هذه المرأة لا ينبغي أن يكون في
بيتها غير هذا الصديق الأمين.
وأما سجن يوسف
فإنما كان من استبداد من لم يطمئن ببراءة يوسف ، أو اطمئن ، ولكنه أراد أن يحابي
المرأة المصرية الشريفة فيموّه الأمر ، ويزوّر الخيانة على يوسف الغريب ، ويسجلها
بالسجن لكي تشيع بين الناس براءة المرأة.
وهذا قريب من كيد
الحكومات الوثنية الجورية القديمة في معاملتها مع أعيان الوطن وضعفاء الغرباء ،
ولم يقل القرآن ان الذي سجنه هو زوج المرأة ، بل قال : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما
رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) ، ولو نسبه الى زوج المرأة لكان من الجائز أن يقصد به
محاباة المرأة بالستر عليها ، كما قدمنا.
واعترض أيضا على
مضمون القرآن الكريم في انها دعت لائماتها من نسوة في المدينة وآتت كل واحدة منهن
سكينا فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن فقالت : هذا الذي لمتنني فيه ، واعترفت بأنها
راودته فاستعصم.
فقال «ص ٧٢» : هذا
لا يتصور عقلا ، فلا يتصور أن تفضح نفسها ، ولا يتصور عاقل ، ولا جاهل ان النساء
يقطعن أيديهن ولا يشعرون لدهشتهن من جمال يوسف.
وأقول : ان سورة
العشق وخلاعة الغرام تبعث على أكثر من هذا ولم يقل القرآن ان تلك النسوة من أشراف
المدينة ، بل قال نسوة في المدينة ولعلهن صويحباتها في طاعة الصبابة والشهوة ،
وكان لومهن لها إنما هو لأنها لم تكشف سترها وتفشي سرها لأبناء جنسها من الأعيان
الذين يغازلونها إذا تغازلهم ، بل تعرضت لغلام وضيع لا يؤاتيها على مرامها ، وأصرت
على ذلك حتى فضحها بقوله : هي التي راودتني عن نفسي ، فإن الناس لا يمتنع عليهم ان
يصدقوا يوسف فضلا عن شهادة الآيات ، ولعل ما يشير الى ذلك قوله تعالى «فلما سمعت
بمكرهن» إذ سمى لومهن على الفحشاء مكرا ، أي ليس يلوم على الفحشاء في الحقيقة
وأنّما هو لوم على عدم سلوكها في الفحشاء بالنحو المألوف ، فأبدت لأرباب الهوى
عذرها المقبول عندهم في الغرام ويشهد لذلك ما داخلهن عند رؤية يوسف إذ تنبهت
صبابتهن المألوفة ، وحركتهن ممارسة المغازلة ، وان عملها معهن ليدل على معرفتها
بحالهن ، وانهن ممن يلبي دعوة العشق ويستخفه الغرام.
ومن ذلك يظهر انهن
لا يمتنع عليهن في دين الغرام وناموس الشغف أن يقطعن أيديهن ، وسيما إذا كانت
سقتهن من نتاج الكرمة ، ولا سيما إذا حسبن اعراضه دلالا ، وعفته تغنجا ، وخيل لهن
ان اغضاءه من فتنة ألحاظه واسراعه
من ترنيح الشباب
لاعطافه ، فشبت بجوانحهن نيران الوجد ، إذ لم يقبل توبتهن على يده فيقبلن قدميه ،
ويبللنهما بمدامعهن ، ويمسحنهما بشعور رءوسهن ...
وأما اعترافها
ببراءة يوسف بعد ذلك فقد تقتضيه التوبة وتبرئة البريء وتخليصه من الظلم ، بل قد
تقتضيه رأفة العاشق بالمعشوق بعد ان خمدت نار الغضب فشبت نار الغرام وأقلق الشوق
الوساد ونبضت أعلاق المحبة «ان الغرام لأهله فضاح».
فلا يتوجه استبعاد
المتكلف لذلك ص ٩٦ ، فانا نرى كثيرا من الناس قد جعلوا عرضهم وشرفهم فداء لغرضهم
الصحيح أو الفاسد ، ومن ذلك اعتراف الخاطئات أمام القديسين ، ومن هذا النحو اعتراض
المتكلف على قوله تعالى في اخوة يوسف : (إِذْ قالُوا
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
فجعل ص ٦٩ هذا
النقل عنهم افتراء عليهم.
مع ان التوراة
تصرح بأنهم لما رأوا أباه يحبه أكثر من جميع اخوته أبغضوه ، ولم يستطيعوا أن
يكلموه بسلام «تك ٣٧ ، ٤» ، أفتقول انهم مع ذلك لا ينقدح في أنفسهم شيء على أبيهم
ولا يتفوهون به ، أم يقول المتكلف انهم أورع من ذلك؟.
إذا فلما ذا أقدم
أكثرهم على قتل أخيهم وحبيب أبيهم ، وباعوه بيع العبيد وأقرحوا قلب أبيه وكذبوا
عليه «تك ٣٧ ، ٢٧ ، ٣٦» ، أم يقول ان روابين ويهوذا قد تورعا عن قتل أخيهم ، فهما
أورع من أن يتكلما على أبيهم لكي تشهد له التوراة على ورعهما «تك ٣٥ ، ٢٢ ، و ٣٨ ،
١٣ ـ ١٩».
ومن هذا النحو
اعتراضه على مضمون القرآن بأن يعقوب انفتحت عيناه إذ ألقوا على وجهه قميص يوسف.
حيث قال ص ٨١
فمسألة القميص المذكورة في القرآن هي خرافية.
قلت : وكيف إذا
يعد المتكلف من كلام الله السميع العليم قول كتابه ان بولس كان يؤتى عن بدنه
بمناديل ومآزر الى المرضى فتزول عنهم الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة «١ ع ١٩ ، ١٢».
فلما ذا يكون هذا
ممكنا معقولا وتكون كرامة الله ليعقوب ويوسف في أمر القميص خرافية ، وهل التفرقة
بينهما إلا من الظلم الفاحش ، فهل كان الاقنوم المتجسد فاديا ومتحملا حتى لقصاص
هذه الخطيئة ، أم يقول المتكلف ان كرامة القميص وأمثالها لم تكن ممكنة قبل التجسد.
وأما بعد فضيلة
التجسد ومجد الاضطهاد والصلب ، فقد انبثقت القدرة على إعطاء بولس ما تقدم ذكره ،
وإعطاء بطرس شفاء المرضى ، ولو بأن يخيم ظله على أحد منهم «اع ٥ ، ١٥» ، وشفاء
المفلوج ، واحياء الميت «ا ع ٩ ، ٣٢ ـ ٤٢».
«وأما رابعا» فان
المتكلف من رسوخ إيمانه وامتلاءه من روح القدس صار يفتري على القرآن ثم يعترض
عليه.
فقال ص ٦٩ ان
القرآن يقول : ان الذي اشترى يوسف من مصر اتخذه ولدا ، والحقيقة هي انه كان عبدا
غريب الجنس.
قلت يعني بذلك قول
الله تعالى ٢١ : (وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، فهل ترى في ذلك اخبارا بأنه اتخذه ولدا وتبناه ، أم بأنه
يترجى في المستقبل أحد أمرين اما أن ينفعه نفع العبيد في العمل أو يصافيهم صفاء
الأولاد فيتخذونه ولدا.
وقال الله تعالى :
(وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
فقال المتكلف ص ٧٠
وهم بها أي قصد مخالطتها ، لو لا ان رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لو لا أن
رأى برهان ربه لخالطها ، ثم اعترض على القرآن في آخر الصفحة.
قلت : قدمنا لك في
الجزء الأول صحيفة ١١٧ ان قوله تعالى هم بها معلق على ما بعده أي ولو لا أن رأى
برهان ربه لهم بها.
وأما قول المتكلف «لو
لا رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لو لا أن برهان ربه لخالطها» فهو قول باطل
مردود بلفظ الآية الشريفة ومعناها اما باللفظ فلأنه لو كان المراد كما يدعيه لجيء
بالواو ، وقيل ولو لا ان رأى برهان ربه ، وأما بالمعنى فلأن العزم على الزنا بذات
الزوج المحصن من أسوأ السوء وقد قال الله تعالى في الآية : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشاءَ).
وقال الله تعالى :
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) ـ أي اكثرن جروحها
ـ فصارت بالجروح قطعا.
فقال المتكلف ص ٧٢
ولكن دعواه ـ أي القرآن ـ ان البعض قتلن أنفسهن ولم يشعرن ، وهو من الأقوال
الوهمية والخرافات المستحيلة.
قلت : ولا أدري ان
هذه الأمانة من المتكلف في النقل عن القرآن هل هي من طهارة ذاته وغسله بدم المسيح
، وامتلاءه بالنعمة ، أو من شربه دم المسيح ، وإلا فمتى قال القرآن ان بعض النسوة
قتلن أنفسهن.
وقال الله تعالى
في طرد القصة ٥٢ و ٥٣ : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ
رَبِّي) ، قيل : ان هاتين الآيتين حكاية عن امرأة العزيز وهما
مرتبطتان بقوله تعالى ٥١ في الحكاية عنها : (وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ) ـ أي ليعلم يوسف
انها وان اتهمته في حضرته ولكنها لا تخونه بالغيب فتبهته وتبرأ نفسها ، وقيل :
انهما حكاية لقول يوسف وهما مرتبطان بقوله تعالى ٥٠ : (بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ذلك أي طلبه سؤال النسوة لكي يتضح الحق ، ويعلم العزيز اني
لم اخنه بالغيب في امرأته.
ثم تواضع لله على
سنة الأولياء العارفين بالله ومواقع نعمه عليهم ، فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ـ أي لا ازكيها ـ ،
وأقول ، اني تجنبت الخيانة وتعففت عن السوء والفحشاء لذات نفسي وطبيعتي البشرية ،
بل إنما كان ذلك برحمة الله
وعصمته (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ) باعثة بشهوتها على الفحشاء (إِلَّا ما رَحِمَ
رَبِّي) وأيدها بالعناية والعصمة.
وقال المتكلف ص ٧٧
: وكتاب الله يعلمنا انه ـ أي يوسف ـ منزه عما عزاه إليه القرآن من انه «هم بها» ،
وكيف يساعده الله على الارتقاء ، وقلبه فاسد.
قلت : وقد قدمنا لك
ان القرآن الكريم لم ينسب إليه انه همّ بها جزما بل تعليقا ، بل التوراة جزمت بأنه
جاء الى أبيه بنميمة اخوته القبيحة ـ أي نم عليهم بنميمة قبيحة ـ «تك ٣٧ ، ٢» ،
وقرفهم بأنهم جاءوا الى مصر جواسيس ليروا عورة الارض ، مع انه عرفهم وعرف انهم
جاءوا ليشتروا طعاما ، انظر «تك ٤٢ ، ٦ ـ ١٨».
والقرآن لم يقل ان
قلبه فاسد بل قال : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
وحكى عنه التحدث
بنعمة الله بملكة التقوى ، والتواضع لله في نفسه وان عصمته وتقواه إنما هي برحمة
الله ونعمته.
ويا ليت المتكلف
وتوراته وانجيله الرائجين وكتبه يعرفون بأن الله لا يساعد فاسد القلب على الارتقاء
في معارج السعادة والتوفيق ومراتب الرفعة الروحانية ، كيف وان توراته تذكر ان الله
كلم موسى في جبل سيناء بكلام طويل وعناية تامة ، كل ذلك في تفصيل ثياب هارون والتأنق
في صنعتها وترصيعها ليمجده ويقدسه ويرفعه الى مراقي الإمامة الكبرى والكهانة في
الشريعة فانظر الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من سفر الخروج ، مع انها تذكر ان
هارون في ذلك الوقت عمل عجل الذهب ليتخذه بنو اسرائيل إلها يعبدونه وبنى أمامه
مذبحا لرسم العبادة ونادى لعبادته «خر ٣٢ ، ١ ـ ٧».
ولم يثن ذلك عزم
الوحي وموسى عن تقديس هارون بأبهة الرفعة الى الرئاسة الدينية الكبرى.
وان الإنجيل ليقول
: ان بطرس صار ينتهر المسيح حتى قال له المسيح :
اذهب عني يا شيطان
، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم لله بل بما للناس «مت ١٦ ، ٢٢ و ٢٣» مع انه يذكر قبل
ذلك ان المسيح قال لبطرس أنت بطرس ، واعطيك مفاتيح ملكوت السموات ، فكل ما تربطه
على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات «مت
١٦ ، ١٨ و ١٩» ، فهل تجد ارتقاء ورفعة أكثر من هذا إلا ان يكون اقنوما رابعا ، وهل
تجد فساد قلب أكثر من أن يكون شيطانا لا يهتم بما لله ، بل بما للناس.
ودع عنك مشاركته
للتلاميذ فيما وصمهم به الإنجيل ، وإنكاره للمسيح حتى صار يحلف ويلعن.
وأيضا ان الاناجيل
قد وصفت التلاميذ بقلة الإيمان وغلظ القلوب وقساوتها والمشاحنة على الرئاسة بعد المسيح
والغيظ عليه من اجل ابني زبدى وعدم مواساته بالحزن والصلاة وسهر بعض الليل حتى
تفرقوا عنه وهربوا وتركوه وحده بيد الأعداء ، كما أشرنا إليه في الجزء الأول صحيفة
«٦٠ و ٦١» ومع ذلك يذكر العهد الجديد انهم ارتقوا بروح القدس والمعجزات الى درجات
الرسالة التي صانعوا بها الامم واستحسنوا فيها بمشورتهم أن يبطلوا شريعة موسى لأنه
له من يكرز به في كل سبت «١ ع ١٥».
ودع عنك ما يذكره
العهد الجديد من رياء أكابرهم «غل ٢ ، ٣ ـ ١٥ ، و ١ ع ١٦ ، ١ ـ ٤ و ٢١ ، ٢ ـ ٢٧».
ومع هذا وما هو
أكثر منه في كتبهم ، والمتكلف يقول ص ٧٧ وكأن القرآن مستخف بخطيئة الفسق.
فكأن القرآن
الكريم يقول : ما سمعته من كتبهم في شأن هارون وبطرس والتلاميذ.
أو كأن القرآن
يقول : ان سليمان وحاشاه مال قلبه وراء آلهة اخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه
كقلب داود أبيه ، فذهب وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين وعمل
الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما فبنى مرتفعة لكموش رجس الموآبيّين ، ولمولك
رجس بني عمون «١ مل
١١ ، ٤ ـ ٨».
ومع ذلك يقول عن
كلام الله علام الغيوب في شأن سليمان هو يبني بيتا لاسمي وهو يكون لي ابنا وأنا له
أبا انظر «١ أي ٢٢ ، ٩ ـ ١١ ، و ١٧ ، ١١ ـ ١٤ و ٢ صم ٧ ، ١٢ ـ ١٥» فكان آخر الأمر
بنقل العهد القديم ان هذا الابن الباني البيت بنى المرتفعات للأوثان ، أو كأن
القرآن ذكر ما ذكره العهد القديم في شأن داود وحاشاه مع اوريا وامرأته وحملها مما
تقشعر منه الجلود ، كما هو مشروح في الحادي عشر من صموئيل الثاني ، ومع ذلك يذكر
عن إلهام الروح القدس في كلامه ، لأني حفظت طرق الرب ولم اعص إلهي «٢ صم ٢٢ ، ٢ ،
ومز ١٨ ، ٢١».
واقتص الله جل
شأنه في هذه السورة ٧٠ ـ ٧٨ قصة جعل الصواع في رحل بنيامين واستخراجها منه ليستخلص
يوسف أخاه بنيامين من اخوته ويبقيه عنده ، ولم يكن في ذلك بهتان وإيذاء لبنيامين ،
بل لا بد أن يكون هذا العمل عن تواطؤ مع بنيامين ، لأن مقتضى القرآن الكريم ان ذلك
وقع بعد ما عرف يوسف نفسه لأخيه بنيامين ، فلما تم القرار في مسألة الصواع وأعيت
الحيل على اخوته حنقوا على بنيامين لتوهمهم انه سرق وأوجب ريب المصريين منهم ،
وجعلهم عرضة للوم أبيهم وتنكيده لعيشهم بالجزع عليه فنبض عرق البغضاء له وليوسف ،
فقالوا في محاورتهم فيما بينهما باللسان العبراني : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل
زعما منهم ان يوسف والحاضرين اناس مصريون لا يفهمون اللسان العبراني إذ تكلموا به
على جاري العادة في القوم إذا صاروا في البلاد الأجنبية فانهم يتكلمون في مقاصدهم
ومحاوراتهم بلسانهم الخاص ، فلم يقولوا ذلك ليشهدوا على سرقة بنيامين ، ولا
ليوقعوه في التهلكة ، ولذا قال الله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) أي الكلمة التي قالوها عليه (فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِها لَهُمْ) فكأنه لم يفهم ما قالوه بلغتهم ، وما قرفوه به من السرقة ،
وقال : (أَنْتُمْ شَرٌّ
مَكاناً) في أفعالكم التي اعرفها ، ولا بد من أن يكون قال ذلك في
نفسه أو بكلام لا يفهمونه (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما تَصِفُونَ) به بنيامين وإياي من السرقة.
فقد جاء في أوثق
الروايات ان السرقة المنسوبة ليوسف كانت أيضا تدبيرا
من بعض أرحامه
كالتدبير في السرقة المنسوبة لبنيامين ، وقد كان ينبغي لأخوة يوسف أن يظنوا أو
يحتملوا براءة بنيامين ، وان الذي جعل بضاعتهم في رحالهم في المرة الاولى هو الذي
وضع الصواع في رحل بنيامين.
وقد جاء في
التوراة ان يوسف كان يكلم اخوته بواسطة الترجمان وهم يزعمون انه لا يفهم ما
يقولونه باللسان العبراني ، ولذا لما طلب منهم أن يجيئوا بأخيهم الصغير جعلوا
يتلاومون فيما بينهم بلسانهم الخاص فيما فرطوا بيوسف «تك ٤٢ ، ٢١ ـ ٢٥».
وإذا عرفت ما
ذكرناه فاعلم ان المتكلف جرى على عادته في الفهم والأمانة ، فقال «ص ٨٠ س ١» يؤخذ
من عبارة القرآن ان بنيامين سرق الصاع مثل أخيه يوسف.
قلت : لا يخفى على
من تشرف بالنظر الى القرآن الكريم وهذه السورة انه صريح في واقعة الصواع بأن
بنيامين لم يسرقه وإنما جعل في رحله تدبيرا من يوسف لكي يستخلص أخاه من اخوته
بطريق لا يعد من الظلم وجور القدرة فانظر الآية ٦٩ ـ ٧٨.
ولعل الذي اقتضى
هذا التدبير هو ان يوسف حنّ الى شقيقه وآواه وأكرمه فخاف عليه من اخوته أن يحسدوه
على ذلك فيفعلون مع بنيامين مثل ما فعلوه مع يوسف أو أشد ، والتوراة أيضا تذكر ان
يوسف أكرم بنيامين أكثر من اخوته كلهم بخمسة أضعاف «تك ٤٣ ، ٣٤» ، وبما ذكرنا تعرف
شطط المتكلف في باقي كلامه في هذا المقام.
* * *
وقال الله جل شأنه
في سورة «طه» في الحكاية لخطابه سبحانه وتعالى مع موسى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).
فأنكر المتكلف ذلك
وادعى ان موسى عليهالسلام كان في جبل حوريب حينما أمره الله بخلع حذائه ، ثم ادعى ان
طوى اسم وهمي ، انظر «يه ٢ ج ص ٩٥».
وهذا أيضا من
بوادر الغرور ، اما «أولا» فان العهد الجديد كتاب إلهام المتكلف يقول بصراحته :
ظهر له ـ أي لموسى ـ ملاك الرب في برية جبل سينا في لهيب نار عليقة «ا ع ٧ ، ٣٠ ـ ٣٥»
، وطابقه مع «خر ٣ ، ٢ ـ ٨».
«وأما ثانيا» فإن
التوراة على ما بها لم تقل ان موسى كان حينئذ في الجبل ، بل إنما قالت : وموسى كان
يرعى غنم «يثرو» ، فساق الغنم وراء البرية وجاء الى جبل الله حوريب وظهر له ملاك
الرب بلهبة نار الى آخره ، ومن المعلوم ان السائر من مكان بعيد يقال له : انه جاء
الى الجبل إذا صار قريبا منه وعند سفحه وأودية سيله.
والقرآن يصرح في
سورة القصص ٢٩ و ٣٠ بأن الواقعة كانت بجانب الطور من شاطئ الوادي الأيمن.
ولو ان توراة
المتكلف تقول ان موسى إذ ذاك كان في الجبل لما صحت بلفظها المعارضة ، وذلك لأجل ما
هو المعهود من توسعها الفاحش ، فقد ذكرت ان بني اسرائيل نزلوا في جبل هور «عد ٣٣ ،
٣٧» مع انها تقول في هذا المنزل ان الله أمر موسى ان يصعد بهارون والعازرا الى جبل
هور فصعدوا الى جبل هور أمام عين كل الجماعة ، ثم انحدر موسى والعازرا من الجبل ،
انظر «عد ٢٠ ، ٢٢ ـ ٢٩».
وهذا كالصريح في
ان نزول بني اسرائيل هناك لم يكن في الجبل ، وتقول أيضا الرب إلهنا كلمنا في حوريب
قائلا : كفاكم قعود في هذا الجبل «تث ١ ، ٦» مع انها تذكر ان نزول بني اسرائيل كان
في برية سينا مقابل الجبل ، وكان ارتحالهم من تلك البرية أيضا ، انظر «خر ١٩ ، ٢
وعد ١٠ ، ١٢ ، و ٣٣ ، ١٥ و ١٦» ، وتقول أيضا : عن حكاية خطاب موسى لبني اسرائيل في
اليوم الذي وقفت فيه أمام الرب إلهك في حوريب ، مع انها تقول : فتقدمتم ووقفتم في
أسفل الجبل «تث ٤ ، ١٠ ـ ١٢» ، وفيها من هذا النحو من التوسع شيء كثير.
ولو ان توراة
المتكلف أيضا تصرح وتقول : ان موسى عليهالسلام كان حينئذ على قنة الجبل لما كان ذلك ضائرا بأي تاريخ
يعارضها فضلا عن القرآن
الكريم كلام الله
، وذلك لما بيناه في الجزء الأول في المقدمة الخامسة والسادسة ، وفي هذا الجزء في
التصدير ، بل كل مورد تعرضنا فيه لحال التوراة من متفرقات هذا الكتاب.
وأما قول المتكلف
: ان طوى اسم وهمي ، فهي دعوى تشوه وجه الأدب ، أفيقول : انه ليس في تلك الناحية
واد أصلا ورأسا ، أم يقول انه قد بلغ من العمر آلافا من السنين التي قضاها في تلك
النواحي فعلم بالعلم اليقين انه لم يسم بعض أراضيها «طوى» لا باللغة العبرانية ولا
العربية ولا غيرهما ، فننقل ذلك بأمانته وتقواه ، أم يقول : ان هذه الدعوى من
إلهام الروح الذي اخبر عنه ميخا «١ مل ٢٢ ، ٢٢».
استطراد ومناسبة في الذكر
وقال الله تعالى
في سورة المؤمنين ٢٠ : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٩٨» الصواب ان شجرة الزيتون هي في فلسطين ولم يكن في طور سيناء شجر ولا غيره
وإلا لما أرسل الله المن والسلوى الى بني اسرائيل.
قلنا : لم يحصر
القرآن وجود الشجرة بطور سيناء ، بل يجوز ان الله جل شأنه خصها بالذكر امتنانا
بقدرته على أن يخلق مثل هذه الشجرة النافعة بنوعها من الجبل الصخري.
ولا يسوغ انكار
ذلك إلا بإقامة البرهان على امتناعه في العادة بحسب تلك الأرض ، وهو باطل فإن
الوجدان شاهد على ان تلك الجبال يكثر فيها الشجر كالطرفاء والعوسج وغيرهما.
وقد كانت تلك
الجبال قريبة من عمران الحاضرة مثل ايليم ، ومدين ، وعصيون جابر ، وايلة ، بل تكاد
أن تعد من ضواحي ذلك العمران ، فلا يبعد انها كانت تستنبت فيها تلك الشجرة وإن
كانت لا توجد فيها الآن ، فان الأحوال تتبدل والعمران يتنقل.
ولعلك تؤيد أوهام
المتكلف بدعوى بعض الجغرافيين ان منابت الزيتون منحصرة فيما بين الدرجة الرابعة
والثلاثين والرابعة والأربعين من العرض الشمالي ، فتقول إذا ان جبل سيناء لا يبلغ
الدرجة التاسعة والعشرين ، ولكنا ننبهك الى أن «الجيزة» من أعمال مصر هي من منابت
الزيتون الكثير وهي لا تبلغ الدرجة الثلاثين ، وكذا «الفيوم» من أعمال مصر أيضا
وهو دون الجيزة بنحو ثلاثين دقيقة تقريبا ، وهو لا يزيد بالعرض على جبل سينا بأكثر
من نيف وخمسين دقيقة ، مع انه ينجبر ذلك في طور سيناء بانكسار الحرارة فيه بسبب
ارتفاعه عن انعكاس الأشعة الأرضية ، وبسبب قربه من البحر الملطف لهوائه.
وأما قول المتكلف
انه لم يكن في طور سيناء شجر ولا غيره فهي دعوى باطلة مردودة عليه ، ولو كان كملكي
صادوق بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداية أيام له ولا نهاية حياة «عب ٧ ، ٣».
وأما احتجاجه
بقوله : وإلا لما أرسل الله المن والسلوى الى بني اسرائيل ، فهو من الشطط ، لأن
القرآن لم يقل ان في طور سينا أشجارا وبساتين من الزيتون والفواكه ومزارع من
الحنطة والشعير ومليونات من الغنم والبقر وكل قسم يقوم بحاجة بني اسرائيل فلا حاجة
لهم الى المن والسلوى ، بل لو قال ان في طور سيناء ألف شجرة مما ذكره لما كان
منافيا للحاجة لنزول المن والسلوى ، كيف لا وان التوراة تقول : ان الله اعطى المن
والسلوى لبني اسرائيل في برية سين في الشهر الثاني لخروجهم من مصر «خر ١٦ ، ١ ـ ١٧»
مع انهم خرجوا من مصر ومعهم لفيف كثير من غنم وبقر مواش وافرة جدا.
وفي أوائل مجيئهم
الى برية سينا اصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب من الثيران ، وكذا بعد ذلك
انظر «خر ١٢ ، ٣٨ ، و ٢٤ ، ٥ ولا ٨ و ٩ وعد ٧».
ولو انا نرضى لمجد
معارفنا بالحجة المخدوشة بالاحتمال لقلنا : ان وجود زيت الزيتون الذي جاء به بنو
اسرائيل في برية سينا للضوء ودهن المسحة هو دليل على وجود شجر الزيتون هناك فانظر «خر
٢٧ ، ٢٠ ، و ٢٩ ، ٤٠ ، و ٣٠ ، و ٢٤» ، ثم انظر أيضا «خر ٣٥ ، ٨ و ٢٨ ، و ٣٩ ، ٣٧»
، ولكن احتمال
استجلابه من
الأماكن البعيدة ، ووهن توراة حلقيا أو غيره مانعان لنا عن التشبث بمثل ذلك.
ولنا أن نقول : ان
رءوس الجبال التي في شبه جزيرة سينا إنما هي أجزاء من سلسلة ذات تعاريج منبثة في
أرض فلسطين وشبه جزيرة سينا ، ولنا أن نعتبر مبدأ السلسلة من موازاة جبل لبنان ،
والأحرى أن نعده جزءا منها وان تخلل بينهما ما هو بمنزلة العقبات في أثناء سلاسل
الجبال ، فتمتد هذه السلسلة الى الجنوب على غربي الاردن وبحيرة لوط ووادي العربة
وخليج العقبة ، ثم تنعطف عند ملتقى الخليجين الى الشمال الغربي ممتدة مع شرقي خليج
السويس حتى تتعدى منتهاه بنحو ثلاثين ميلا ، ثم تنعطف الى الشمال الشرقي ممتدة الى
نحو العريش وحدود فلسطين.
فيتفق لهذه
السلسلة في امتدادها وتعاريجها وانعطافاتها عدة رءوس يسمى كل منها باسم ، نحو
فوريا ، والصفصافي ، والصمغي ، وحوريب ، وكاترينا ، وفيران ، وغيرها ، وقد تتداخل
الأسماء كما تداخل أسماء حوريب وسيناء في التوراة انظر «١٩ و ٢٠ و ٢٤ و ٣٤ و ١ ع ٧
، ٣٠» ، ثم انظر «خر ٣ ، وتث ١ ، ٦ و ١٩ ، و ٤ ، ١٠ ، و ٥ ، ٢ ـ ٦ ، و ١٨ ، ١٦ و ١
مل ٨ ، ٩ ومل ٤ ، ٤ ـ».
فمن الممكن الشائع
في اللغة والاستعمال أن يكون القرآن الكريم قد أراد بطور سيناء الجبل الذي هو
مجموع السلسلة ، وسماه طور سينا باعتبار ان سينا هو الحد الجنوبي لمنابت الزيتون
فيه ، أو لأنه أشرف رءوسه وأشهرها ، ولبعض هذه الوجوه جعل الجغرافيون «برية سينا»
اسما لجميع القسم الواقع غربا من خط مفروض من طرف بحيرة لوط الجنوبي الى رأس خليج
العقبة مع انه يشتمل على شطر من أرض يهوذا في فلسطين ، كما انهم يسمون سلسلة
الجبال العربية «جبل الشرات» باعتبار قطعة منها ، مع ان لها قطعا ورءوسا ذوات
أسماء وشهرة.
وقال الله تعالى
في سورة يونس ٧٦ : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا
فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) ٧٩ (قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ
فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ).
فاعترض المتكلف
على ذلك وقال «يه ٢ ج ص ٦١» ان الله لم يرسل موسى ليدعو فرعون وقومه الى ديانته ،
بل ان المولى سبحانه وتعالى أرسله لإنقاذ الامة الإسرائيلية من الرق والعبودية
وإخراجهم من مصر.
قلت : ان اللازم
على أمانة المتكلف ان يذكر ما ذكرته توراته في عنوان ارسال الله موسى الى فرعون ،
وما ذا أمره أن يقوله له ، وما ذا قاله له ، ثم إذا ذكر ذلك فليتّكئ على سرير
تبشيره بمحضر العقلاء العارفين بالله ويقول : ان هذا هو الحقيقة المعقولة اللائقة
بجلال الله في إرساله موسى الى فرعون ، دون ما يذكره القرآن.
ولئن طوى ذكر ما
في توراته فانا نذكره ونقول ، يقول مضمون توراته ان الله جل شأنه قال لموسى في أول
كلامه في حوريب ، أني رأيت مذلة شعبي الذي في مصر فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين
وأصعدهم من تلك الارض الى أرض جيدة وواسعة ، الى أرض تفيض لبنا وعسلا الى مقام
الكنعاني والحثي والاموري والفرزي والحوي واليبوسي «خر ٣ ، ٧ و ٨» ، وأمره أن يبشر
قومه بذلك «١٦ و ١٧» «فاعرف المقصود من الرسالة واحفظه» ، ثم قالت عن قول الله
لموسى فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ اسرائيل الى ملك مصر وتقولون الرب إله
العبرانيين التقانا ، فالآن نمضي طريق ثلاثة أيام في البرية ونذبح لله إلهنا «خر ٣
، ١٨» فتكون فائدة هذا الوحي وحاشا لله أمرين «أحدهما» ان الله أمر موسى بأن يأمر
شيوخ بني اسرائيل أن يكذبوا على فرعون بقولهم إله العبرانيين التقانا ، مع انه جل
شأنه إنما تجلّى لموسى في حوريب ولم يتجل لهم ولا التقاهم.
«وثانيهما» ان الله جل شأنه أمر موسى
وشيوخ اسرائيل أن يكذبوا أيضا على فرعون بقولهم نذهب طريق ثلاثة أيام في البرية
ونذبح لله إلهنا مع ان المقصود هو الذهاب الى بلاد ذات مدن ومزارع وبساتين وهي أرض
الكنعانيين ومن جرى ذكرهم من القبائل ، لا الى البرية ، ولا الى طريق ثلاثة أيام ،
بل ان أقرب حدود هذه الارض الى محل بني اسرائيل في مصر يزيد بعده عنهم على مائة
وسبعين ميلا بالخط المستقيم فضلا عن تعاريج الطريق وانحرافاته ، فلا يمكن
لثقل بني اسرائيل
أن يبلغ أقرب حدودها إليهم بأقل من ستة أيام ، ولا يمكن أن يتوسطوها بأقل من
ثمانية أيام أو تسعة ، ولا تقل ان المقصود من طريق الثلاثة أيام هو الطريق الى
برية سينا ، وذلك لأن بعده عنهم يزيد على مائتي ميل بالخط المستقيم ، وقد قطعه بنو
اسرائيل بمسير ثلاثة عشر يوما في أكثر من شهرين.
وزادت التوراة
أيضا في الطنبور نغمة إذ ذكرت ان الله جل شأنه أمر موسى بأن يأمر نساء بني اسرائيل
أن يطلبن من جاراتهن المصريات أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا بعنوان الأمانة
والاستعارة فيسلبونها من المصريين بعنوان الخيانة في الأمانة «خر ٣ ، ٢١ و ٢٢».
ويقول : مضمون
التوراة انه لما جاءت النوبة الى تبليغ الرسالة لفرعون لم يفعل شيوخ اسرائيل ما
امر به الله ، بل دخل موسى وهارون وقالا لفرعون : هكذا يقول الله إله اسرائيل اطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية
«خر ٥ ، ١» مع انه لم يسبق هذا الكلام فيما ذكرته سابقا عن كلام الله لموسى ، ثم
قالا لفرعون إله العبرانيين التقانا فنذهب طريق ثلاثة أيام في البرية ، ونذبح لله
إلهنا لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف «خر ٥ ، ٣» ، مع انه لم يتقدم في الوحي
السابق وعيد بالوباء أو بالسيف.
فحاصل مضمون
التوراة الرائجة التي اغتر بها المتكلف يظهر منه في إرسال الله لموسى وتبليغه
للرسالة عدة امور :
١ ـ أمر شيوخ اسرائيل أن يكذبوا بدعوى
ان الله التقاهم.
٢ ـ أمر موسى وشيوخ اسرائيل ان يكذبوا
بدعوى الذهاب طريق ثلاثة أيام في البرية ليذبحوا لله ، مع ان المقصود هو الذهاب
الى مدن فلسطين للسكنى والتملك.
٣ ـ أمر نساء بني اسرائيل أن يخدعن
المصريات ويخنّ أمانتهن.
٤ ـ كذب موسى وهارون وحاشا قدسهما في
مسألة العيد.
٥ ـ كذبهما وحاشاهما في دعوى الذهاب
طريق ثلاثة أيام في البرية ليذبحوا
لله وقد عرفت
المقصود.
٦ ـ كذبهما وحاشاهما في قولهما لئلا يصيبنا بالوباء أو السيف.
فكأن المتكلف يقول
واستغفر الله هذا هو الذي يليق بجلال الله ولطفه وقدسه في إرسال موسى الى فرعون ،
وهو الذي يليق من الرسول في التبليغ ، فالتوراة التي تنقل هذه المضامين هي أحق
بالإذعان من القرآن الذي يقول : ان الله القدوس اللطيف إله العدل والصلاح أرسل
موسى ليدعو فرعون الى طهارة الإيمان ، والصلاح ، والإقلاع عن رجاسة الشرك والظلم
والفساد.
أترى هل يصح من
موسى ان يبلغ فرعون عن الله أمره بأن يطلق بني اسرائيل بدون ان يعلمه الإيمان
بالله ويدعوه إليه لكي يسمع أمره ، ويعرض عن ضلالة الأوثان.
فهل ترى انه يمكن
لرسول الملك ان يبلغ بعض الناس أوامر الملك ، ويأمرهم بالطاعة بدون ان يعرفهم
بالملك وسطوته وقدرته ، ويدعوهم الى الإذعان بذلك ليطيعوه.
دع هذا وقل : ما
معنى قول التوراة «وكلم الله موسى وهارون قائلا إذا كلمكما فرعون قائلا هاتيا
عجيبة» ، فلما ذا يطلب العجيبة إذا لم تكن الدعوة الى الإيمان بالله ورسوله لكي
تكون العجيبة برهانا لهذه الدعوة.
ومن الظرائف ان توراة
المتكلف كأن لها عداوة مع الدعوة الى الإيمان بالله وتوحيده وشريعته والإقلاع عن
الشرك وعوائد الضلال ، فلم تذكر ان موسى ومن بعده يوشع دعوا المصريين أو
الكنعانيين أو غيرهم من امم الأرض الى التوحيد والهدى والصلاح ، ولم تذكر ان الله
أمر موسى بهذه الدعوة أصلا ، بل ذكرت ان الله جل شأنه أمرهم بقتل الرجال والنساء
والأطفال والبهائم ، وإحراق البلاد وما فيها.
نعم ذكرت ان الله
أمر موسى إذا حارب مدينة ان يدعوها الى الصلح فإن أجابت كان شعبها للتسخير والجزية
، هذا إذا كانت من غير الشعوب السبعة وأما إذا كانت منها فلا يبقى نسمة منهم حتى
البهائم ، وأما الدعوة الى الإيمان
بالله فهي نسي
منسي ، وأنت ترى وكل عاقل يرى انه لا يأمر بذلك ولا يفعله واحد من البرابرة
المتوحشين «تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا».
ولئن رضي المتكلف
بهذا كله من توراته ، فان العقل والدين ليأبيان لنا ان نرضى ذلك لجلال الله وقدس
رسله وهدى كتبه.
ولإيلام المتكلف
مع ما ألفه من توراته من مثل هذه الطامات إذا اعترض على القرآن الكريم.
فكيف ترى ليلى
بعين ترى بها
|
|
سواها وما
طهرتها بالمدامع
|
وقد حداني الكلام
ان ابصرك بالهدى ودين الحق ، وأشمك من أرج تاريخ الإسلام نفحة ، واشيمك من سنا
أحكامه وأساسياته لمحة ، فنقول ان الله تقدست اسماؤه امر رسوله الصادق الأمين ان
يصدع بما يؤمر ، ويشمر للدعوة الى التوحيد وشريعة العدل والصلاح وترك الأوثان
وعوائد الجور والفساد ، ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة بشيرا ونذيرا
، فتجرد وشمر «ص» للدعوة مدرعا بالصبر معتدا باليقين ونصح العباد وحسن الخلق
والمواظبة على الدعوة للشفيع والوضيع والكبير والصغير والحر والعبد والرجل والمرأة
والحاضر والبادي والقرابة والبعيد لا يستصغر فيها حقيرا ولا يكبر فيها جبارا ولا
يثنيه عنها اضطهاد ولا يتربص فيها فرصة ولا ييأسه من تأثيرها إصرار الغي.
وقد لباه في دعوته
جماعة قد اقتضت حكمة الدعوة ان يأمرهم بالصبر على تحمل الأذى والفرار بدينهم.
واستمر على هذا
الدأب سنين عديدة ، وقد بث دعوته ودعاته في البلاد ولما لبّاه أهل المدينة آثر
بأمر الله ان يهاجر إليها ليحكم أمر الدعوة وينشر لوائها بدون ثورة شغب ، ولتكون
مأوى المؤمنين فلا تنقدح بينهم وبين المشركين نار الفتنة ، ولكي تشيع منعته فلا
يصد من يريد الإسلام خوف الاضطهاد وضعف الجانب ، ولا يستنكف من الانضمام الى حوزته
، ولما تمادى مشركوا مكة على الغي واضطهاد من عندهم من المسلمين والتعرض لإطفاء
نور الإيمان ويأبى الله
إلا أن يتم نوره ،
أمره الله جل شأنه أن يتعرض لإرهابهم ليخافوا جانبه فيكفّوا عن غيّهم وغرورهم
فتعرّض لأموالهم وطريق تجارتهم لكي يضطروا في حفظ اقتصادهم وثروتهم الى الإقلاع عن
عدوانهم على المسلمين ، فخرج المشركون لإنقاذ أموالهم بعدة تامة وقوة بزعمهم كافية
، فلما علموا بنجاتها حملهم طغيانهم وغرورهم بعدتهم وعديدهم فقصدوا حرب رسول الله «ص»
اغترارا بقلة أصحابه ووهن استعدادهم ، وأصروا على حربه ولم ينجع بهم نصح شيوخهم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ، إذ كان جلت آلائه قد وعد رسوله والمسلمين بإحدى
الطائفتين من العير أو النفير. فقضى الله بالفتح على رسوله على نحو لم يكن متصورا
في العادة.
ثم تتابعت بعد ذلك
حروب رسول الله وتجريداته ، وكلها كانت من نحو الدفاع والانتصار للمسلمين ، وكسر
عادية المشركين.
وكان «ص» في حروبه
وتجريداته كلها يبتدأ بالدعوة الى الايمان والصلاح ويرغّب فيهما ، ويحث على السلم
، ويجيب الى الهندة ويقيل العثرة ويركن الى الصلح مع كونه المظفّر المنصور ، كل
ذلك لحبه الصلاح ، وليكون الامهال وحسن السيرة ولين الجانب والوفاء بالعهد داعية للناس
الى الايمان من دون تحريش بالحروب القاسية.
فإذا اعترف المشرك
بالتوحيد وأناب الى الايمان ولو ظاهرا عصم ماله ودمه ، وصار أخا حبيبا للمسلمين ،
وإن كان قد قتل في الشرك آبائهم وأبنائهم وجنى ما جنى عليهم.
وكان «ص» اهم
وصاياه في تجريداته وحروبه هو النهي عن المثلة بالقتلى ، وسوء الولاية ، وقتل
النساء والأطفال والمشايخ العاجزين والرهبان المعتزلين وإزعاجهم عن معابدهم.
وكان يحث على
الرأفة بالأسرى والمماليك وحسن معاملتهم ويسلّي قلوبهم ويعدهم بنعمة الله عليهم ،
ويشدد في الترغيب في عتقهم.
وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقبل من أهل الكتاب الجزية على شروط
يؤول اجرائها بهم
الى الاسلام ، وشريعة العدل ان ساعدهم التوفيق من دون نكاية بهم أو تساهل
بأهوائهم.
فلم يسمع ولن يسمع
بمثل رسول الله «ص» في دعوته وسيرته في حروبه حيث اعطى كل مقام صالح حقه من حيث
سياسة الايمان وشريعة العدل ، وكسر شوكة الشرك والجور وعوائد الضلال بصدق النهضة
والتشمير والصبر في الدعوة ، وحسن الدفاع عنها ، والشدة في ذات الله من غير قسوة ،
واللين والرحمة من غير ضعف وخور ، قد بلغ في جميع ذلك أعلى مراتب حسن الخلق وكرم
النقيبة وحسن الولاية.
وقد ساس العرب
العتاة الأشداء الألداء أحلاس الخيل واخوان السيف وأبناء الحرب ، فقلبهم من
الوثنية الى التوحيد ، ومن عوائد الضلال الى شريعة العدل ، ومن تفرق الأهواء
والتوحش وتكالب العداوة الى حسن الاجتماع والاخوة والخضوع لنظام المدنية ، وهم
الذين تمادوا على حرب البسوس عمرا من السنين فقطعوا بها علائق الأرحام ونياط
القرابة من أجل ضرع ناقة ، واستمروا في حرب الغبراء وداحس فقتلوا الرجال والأطفال
من أجل سباق فرس.
ولجّوا في حرب
كسرى حتى أذاقوه الوبال مع سطوته ، وذلك من أجل حماية امرأة.
ويكفيك شاهدا ان
هذا العنصر وهؤلاء القوم كلهم قد غلبهم على معبوداتهم وأهوائهم وعوائدهم وجبروتهم
وعدوان وحشيتهم وطغيان رئاساتهم واستقلال قبائلهم ، فثنى اعناقهم وجمعهم على
التوحيد ونواميس الحق ، ومدنية العدل وأدب الشريعة.
وان الكثير منهم
قد انقادوا الى ذلك برغم انوفهم مع احتدام قلوبهم بنار الغيظ وضغائن الأوتار ،
ولكنهم لما تشرفوا بنعمة الاسلام صار رسول الله أحب إليهم من اسماعهم وابصارهم
وذلك لما وجدوه من صلاح دعوته وحسن سيرته في اجرائها فيما عاملهم به من التحمل
والملاينة وجميل الدفاع وعاطفة الرحمة
وكرم المروءة وحسن
الخلق وحسن الأثر وحسن الولاية ووجدوا ان حربه معهم وإن كانت لأجل أحسن الغايات
وأشرفها ، وأنفعها للبشر في دينهم ودنياهم ، ولكنه «ص» لم يسلك فيها إلا سبيل
الدفاع لعدوانهم وحماية حوزة التوحيد والحق بالتي هي أحسن ليرد عادية المعتدين ،
فجلب قلوبهم ما وجدوه في أثناء ذلك من حسن المعاملة وجميل الصفح وعظيم المن وكرم
الأخلاق وأيادي الرحمة مما لا يتصورونه هم ولا غيرهم في محارب مظفّر معتز بنصيحة
أصحابه وطاعتهم له.
هذا كله ولم تنشب
الحرب بمقدار حرب البسوس ولم تزد القتلى على قتلى ربيعة فيها بكثير يذكر ، بل يمكن
لنا أن نقول : ان كل من قتل في سبيل الاسلام من العرب لا يبلغ ما يقتل في ضلالات
العرب وعدوانهم بحروب سنة ، وسيأتي إن شاء الله بيان ما ذكرنا على وجهه.
وقال الله تعالى
في سورة يونس ٨٨ : (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
فاعترض المتكلف
على ذلك بعد أن ذكر شيئا من أقوال المفسرين ، وقال «يه ٢ ج ص ٦١» وعلى كل حال لم
يأمر الله موسى وأخاه أن يتبوءا بيوتا في مصر ، بل أمر موسى بإخراج بني اسرائيل من
أرض العبودية ليرثوا أرض الموعد.
قلنا : أما أقوال
المفسرين فهم أعرف بمأخذها ، ولا مانع منها إلا إصرار المتكلف في إنكار كل ما لا
يوافق هواه ، أو اغفلت ذكره توراته التي عرفت حالها.
وأما قول المتكلف
: ان الله لم يأمر موسى وأخاه ان يتبوءا بيوتا في مصر الى آخره فإنما هو من الشطط
والتغافل عما يقتضيه الحال من لزوم ذلك وان توراته قد أغفلته مع انها دخلت في ذلك
مدخل الاستيفاء في السيرة البسيطة والتاريخ الساذج ، بل جعلت دعوة موسى لبني
اسرائيل وترويضهم على الإيمان به وعلى أن يطاوعوه على الخروج من مصر ، وعلى أن
يدخلوا الى فرعون ليخلي
سبيلهم ودخولهم
الى فرعون ، ودعوته وعمل الآيات جعلت هذا كله كأنه حادثة يوم وليلة بين عشرة أشخاص
في بيت واحد ، ولكن المتدبر في عادات الامور يجزم بأنه لا بد لموسى وهارون من أن
يقيما مدة مديدة بين بني اسرائيل يدعوانهم فيها الى حقيقة الإيمان بالله وحق
عبادته والانقطاع إليه ويمرنانهم على الصلاة له والطاعة لرسله والانقياد إليهما
والائتمار بأمرهما ، ويملآ آذانهم وقلوبهم بالبشارة بخلاصهم من عبودية فرعون
والتنعم بأرض الموعد ويثبتانهم على الاطمئنان بذلك ويروّضانهم على الانقياد
والمتابعة في الخروج معهما ، فإذا اطمأنا منهم بالانقياد أعلنا دعوتهما لفرعون ،
ولو كان ذلك من أهل قرية لا يبلغون الألف وهم ثابتون في طباعهم لاحتاج الى تربص
كثير ورياضة في السياسة.
فكيف ببني اسرائيل
المتلونين المتقلبين وهم مئات من الالوف وقد عرفت حالهم من المقدمة الخامسة.
وان ذات التوراة
الرائجة قد ذكرت عنهم انهم قالوا لموسى وهارون في مصر ينظر الرب إليكما ويقضي
لأنكما قد أنتنتما رائحتنا في عيني فرعون وعيون عبيده حتى تعطيا سيفا في أيديهم
ليقتلونا «خر ٥ ، ٢١» ، وانهم لم يسمعوا لموسى بشارته بوعد الله لهم بالخلاص
وتوريثهم ارض الموعد «خر ٦ ، ١ ـ ٩» ، وقالوا : كف عنا فنخدم المصريين لأنه خير
لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية «خر ١٤ ، ١٢».
وان حكمة التعليم
التمرين وتجديد التأسيس وإجراء الأحكام الالهية في مثل رسالة موسى لتقتضي أن يكون
الله جل شأنه قد أمر موسى وهارون أن يتبوءا في مصر بيوتا يجعلونها مختلفا لبني
اسرائيل ومقصدا لهم يقبلون إليه ليروضهم التمرين على الانقياد فيما يراد منهم.
ولعل هذا هو
المراد من قوله تعالى : (وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) ، أي بيوت موسى وهارون ومن يعضدهم من المؤمنين في نشر
الدعوة والنهضة الى التعليم ، أو ان المراد واجعلوا بيوت بني اسرائيل قبلة يقبلون
فيها على عبادة الله وطاعته ، ويقيمون الصلاة ، ولو ان بعض المؤرخين ذكر ذلك لحكم
بصدقه الاعتبار بالعادة في بيان هذه الحقيقة اللازمة ، وان التوراة الرائجة قد
قصّر بيانها عن
ذلك ، فكيف وقد
بيّنها القرآن الكريم بوحي الله إلى رسوله الصادق الأمين.
أم يقول المتكلف
ليس الأمر كذلك ، بل كانت دعوة موسى وهارون لقومهما ولفرعون كقبسة العجلان
واستعجال الخائن المتكلف.
وقال الله تعالى
شأنه في سورة الاسراء ١٠٣ : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ
لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما
أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي
لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً).
والمثبور : هو
المعذب الهالك ، والمراد من ذلك إنذار فرعون بالنكال ووبال العاقبة إذا تمادى على
طغيانه وغيه ، فقد كان يظن من أمارات عتوه وطغيانه انه لا يقلع عن غيه.
ولكن المتكلف يقول
ببواعثه «يه ٢ ج ص ٨٧» ، وقد افترى القرآن على موسى وعلى فرعون بأنهما تشاتما
وموسى لم يشتم فرعون ، كما ان فرعون لم يلعن موسى ، فإن هذه المسألة ليست مسألة
مطاولة وقباحة ، ولا يعقل ان موسى المشهور بالحلم والوداعة يتطاول على ملك مستبد.
قلت : ما غرّ
المتكلف ومعرفة المرسلين الامريكان بهذا الكلام ، إلا أن ألفاظ القرآن لا توجد في
توراتهم ، ولم يشعروا من توراتهم بأنها قد اهملت الكثير من مخاطبات موسى وهارون مع
فرعون ، كما اهملت أجوبته لهما ، بدليل قولها عن قول الله لموسى ، أنت تتكلم كما
أمرك ، وهارون أخوك يكلم فرعون ليطلق بني اسرائيل من أرضه ، فلم تبين بعد هذا كلام
موسى وهارون ولا جواب فرعون لهما ، بل طوت الحال ولم تبين ما ذا أمرهما الله أن
يتكلما به مع فرعون وما ذا قالاه له؟ وبما ذا أجابهما؟ بل قالت ففعل موسى وهارون
كما أمرهما الرب ، انظر «خر ٧ ، ٢ ـ ٧».
وقولها أيضا : إذا
كلمكما فرعون قائلا : هاتيا عجيبة تقول لهارون : خذ عصاك واطرحها أمام فرعون فتصير
ثعبانا ، فدخل موسى وهارون وفعلا هكذا ، كما أمر الرب وطرح هارون عصاه أمام فرعون
وعبيده فصارت ثعبانا
«خر ٧ ، ٩ و ١٠» ،
فلم تذكر كلامهما في دعوتهما له بما ذا أجابها حتى انجر الكلام الى المطالبة
بالعجيبة وكيف طالبهما بها.
ثم انظر في هذا
الإصحاح تجد توراتهم قد اهملت فيما بين العدد ١٨ والعدد ١٩ واسقطت ما هو لازم الوقوع
من جواب فرعون لموسى.
وكذا في الإصحاح
الثامن فيما بين العدد ٤ والعدد ٥ والعدد ٦ وكذا فيما بين العدد ١٩ والعدد ٢٠.
وكذا في الاصحاح
العاشر في أثناء العدد السادس بين قولها «اليوم» و «ثم» وانك لتعلم ان المقام بين
موسى وفرعون مقتضى بالضرورة والعادة لوقوع المطارحات ومراجعات الكلام بينهما من
تفنيد فرعون لموسى وتوهينه لرأيه إذ طلب منه أن يخرج بني اسرائيل عن سلطانه وطاعته
، ومن تكذيبه لموسى في دعوى الرسالة بذلك من الله ، فقد أرسل فرعون الى بني
اسرائيل يردعهم من الاعتماد على كلام موسى قائلا : ولا يلتفتوا الى كلام الكذب «خر
٥ ، ٩» ومن موعظة موسى لفرعون وتوبيخه له على عتوه على الله وإصراره على الظلم
والجور ، وتحذيره من عاقبة ظلمه ووبال بطش الله به.
هذا لو كانت دعوة
موسى لفرعون كما يظهر من توراتهم هي محض طلبه ان يطلق بني اسرائيل.
وأما إذا كانت كما
هو الحق ووظيفة الرسل وآثار رحمة الله ولطفه بعباده هي الدعوة الى الإيمان بالله
وتوحيده وطاعة رسله واتباع هداهم والانقياد الى شريعتهم والاقلاع عن الظلم
والعدوان.
فالحال والعادة
يقتضيان أن يغلظ موسى عليهالسلام في الانذار والموعظة والتوبيخ لفرعون على إصراره على كفره
، وغلظ قلبه ، وقبيح ظلمه ، وان يغلظ فرعون في تكذيب موسى وتوبيخه ، حيث تكررت
المراجعة بينهما ..
والحال يقتضي ان
فرعون بضلاله وطغيانه يرى ان موسى عليهالسلام كافر بنعمتهم وبرهم عاق لحق تربيتهم له.
فقول فرعون لموسى
انك مسحورا هو من أيسر ما يقتضي الحال أن يقوله
فرعون الطاغية
لموسى في رد دعوته ، بل هو رد جميل من مثل فرعون قد نزه به موسى عن تعمد الافتراء
على الله بدعوى الرسالة وليس لعنا ، وقول موسى لفرعون أظنك مثبورا هو أيضا من أيسر
الانذار وليس شتما ، كما لا يخفى ذلك على أقل الناس فهما وأكثرهم غباوة ، ولا يقول
بأنّه شتم ولعن إلا من داس شرف أدبه بنعل تعصبه.
وإذ قد نزه
المتكلف فرعون عن أن يقول لموسى أظنك مسحورا ، فقد اعترف بأن فرعون على عتوّه وغلظ
قلبه أطيب منه نفسا وأحسن أدبا وأعف لسانا وأقل تمردا على الله.
فان المتكلف قد
نزه فرعون عن الجرأة على موسى بما هو واحد من ألوف الألوف من قبيح جرأته على قدس
رسول الله الصادع بالحق ، مع ان رسول الله لم يبهظ المتكلف في دعوته بمثل ما بهظ
به موسى فرعون ، فان دعوة موسى تبهظ فرعون بالتوحيد النافي لأوثان كثيرة من آلهة
المصريين ، ودعوة رسول الله بتوحيده لا تبهظ المتكلف إلا بنفي اثنين من ثالوثه ،
وان موسى عليهالسلام في دعوته قد سمى آلهة المصريين رجسا ، ورسول الله قد مجد
المسيح بعد أن نفى عنه الإلهية وسماه رسول الله وكلمته ، ونزّهه بالتمجيد عما قرفت
قدسه به الأناجيل ، ومجد الروح القدس إذ جعله رسول التنزيل على الأنبياء.
وان دعوة موسى تستلب
من فرعون سلطانه وتحطه عن سلطته وتشتت رعيته وتقهره في إجرائه.
وان دعوة رسول
الله لا تمنع المتكلف إلا من خسيس عيش تباع به الأمانة وشرف الأدب والدين ، بل
يبيح له التعيش والتنعم بما لا يضاد ذلك ، وان ما ذكرناه من اعتراف المتكلف ليكون
شهادة أيضا على ان المرسلين الامريكان الذين طبع كتابه بمعرفتهم هم أيضا شركائه في
المقايسة ، ويا عجباه ولا عجب من قوم ينزهون فرعون من أن يقول لموسى (لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) ويرضون من كتاب إلهامهم أن يقول عن خطاب ارميا النبي مع
الله جل شأنه : يا سيد الرب حقا انك خداعا خادعت هذا الشعب واورشليم قائلا يكون
سلام وقد بلغ السيف النفس «ار ٤ ، ١٠» ويقول ان هذا الكفر من وحي الله.
وأما ان موسى عليهالسلام مشهور بالحلم والوداعة ، فهو لعمر الله رسول الله وكليمه
وصفيه ، معلم الكمال ومهذب البشر ومؤدبهم ، العارف بمواقع الحلم ومواقع الحزم
والشدة في ذات الله ووظيفة الرسالة وحكمة التبليغ والإنذار ، وهو أجل شأنا وأعلى
قدرا من أن يعتمد في كماله على مجرد الشهرة.
ولكن لا يتيسر
الإذعان بذلك مع الإذعان بصحة ما في العهد القديم ، فانه قد قرف قدس موسى عليهالسلام بما لا يصدر إلا من فظ غليظ القلب سيئ الخلق سيئ الأدب سيئ
المعرفة بالله ، فنسب الى موسى وحاشاه انه لما أرسله الله الى فرعون رد الرسالة
بلسان خشن وكرر الرد مع احتجاج الله عليه ووعده له بالتأييد حتى حمي غضب الله عليه
«خر ٤ ، ١٠ ـ ١٥» وانه قال الله : لما ذا أسأت الى هذا الشعب «خر ٥٥ ، ٢٢» لما ذا
أسأت الى عبدك «عد ١١ ، ١١» وتحكم على الله بالغفران لعابدي العجل ، وقال لله :
الآن ان غفرت لهم وإلا فامحني من كتابك «خر ٣٢ ، ٣٢».
ولما وعده الله
بإشباع بني اسرائيل من اللحم رد على الله كالمستهزئ بوعده المنكر لقدرته ، فقال :
ستمائة ألف ماش هو الشعب الذي أنا في وسطه ، وأنت قد قلت أعطيهم لحما ليأكلوا شهرا
من الزمان ، أيذبح لهم بقر وغنم ليكفيهم؟ أم يجمع لهم سمك البحر ليكفيهم؟ فقال
الرب : هل تقصر يد الرب «عد ١١ ، ٢١ ـ ٢٣».
وقالت المزامير :
ان موسى وحاشاه فرط بشفتيه «مز ١٠٦ ، ٣٣» ، وانظر الجزء الأول صحيفة «١٢٥ ـ ١٣٢» ،
أفيقول المتكلف : ان الحلم والوداعة والأدب لا تليق من موسى مع الله ، كما تليق
منه مع فرعون في مقام الدعوة والانذار.
ولعلك تسأل وتقول
: لما ذا لم تذكر التوراة شيئا من مكالمات موسى لفرعون في الوعظ والانذار الذي لا
بد منه في هذا المقام ، ولما ذا اهملت ذكر المكالمات فيما أشرت إليه في أول الجواب؟
فنقول لك : ان التوراة الرائجة قد أبدلتها صروف الأيام عن مثل هذا بأشياء قد
حكّمنا فيها وجدانك فإن شئت جعلتها من حقائق العرفان وإن شئت جعلتها من خرافات
الهذيان ، وذلك انها ذكرت كلام الله مع موسى في حوريب ومدين وإرساله الى فرعون
ووعده بالتأييد
ليخلص بني اسرائيل
من العبودية ، وان موسى رجع الى مصر حسب أمر الله ووعده له.
ثم قالت : وحدث في
الطريق في المنزل ان الله التقاه ـ أي التقى موسى ـ وطلب أن يقتله ، فأخذت صفورة
صوانة ، وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه وقالت : لأنك عريس دم أنت لي فانفك عنه حينئذ
«خر ٤ ، ٢٤ ـ ٢٦».
وقد اقتص الله في
سورة الاعراف من الآية «١١٠ ـ ١٢٧» قصة موسى مع فرعون ومع السحرة وحسن عاقبتهم
ووعيد فرعون لهم ، ووعيده أيضا لبني اسرائيل ، وتسلية موسى لهم وأمرهم بالصبر
وبشارتهم بالفرج ، وذكر في سورة طه ٧٠ ـ ان موسى لما جاء السحرة بسحرهم أوجس في
نفسه خيفة ، فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٥٢ و ٥٣» على مضامين القرآن الكريم في ذلك
باعتراضات منشأها ان توراته الرائجة لم تذكر ما ذكره القرآن الكريم في قصتها
البتراء.
وقد عرّفناك حال
توراته في قصصها ، وسنزيدك إن شاء الله معرفة في انها تهمل المهم في الذكر وتطيل
في الفضول الفارغة ، ونسبة المثالب الشنيعة الى الأولياء وعائلاتهم ، وفي الخرافات
الكفرية ..
فاعترض على قوله
تعالى حكاية عن قول السحرة لفرعون ١١٠ : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ).
فقال المتكلف : ان
هذا لا يتصور حصوله لأن فرعون كان ملكا مستبدا يفعل بقومه ما يشاء ، والذوق والأدب
يقضيان بعدم إبرام شرط مع الملك.
قلت : لم يقل
القرآن ان السحرة اشترطوا على الملك وقالوا : ان لم تعطنا أجرا فانا لا نفعل ولا
كرامة لك ، بل طلبوا منه الجائزة وأرادوا بذلك ان يثبتوا قلوب فرعون ورعيته على
الاطمئنان بغلبتهم لموسى ، ولعل هذا من بعض مقدماتهم في سحرهم وشعبذتهم.
والتوراة الرائجة
ادمجت هذه القصة ادماجا سمجا لا يليق بالكتاب المتصدي لبسيط التاريخ حيث اقتصرت
على قولها : فدعا أيضا فرعون
الحكماء والسحرة
ففعل أيضا عرفوا مصر بسحرهم كذلك «خر ٧ ، ١١» فلم تذكر ما يلزم في العادة أن يجري
من الكلام بين فرعون وبينهم ولا أقل من أمر فرعون لهم بمقابلة موسى بسحرهم ، وحثهم
على اتقان السحر لكي تتم له المقابلة ، فإن مثل الساحر في هذا المقام يحتاج الى
الحث والترغيب في اتقان عمله ، لكي ينصح فيه ، فانه من الأعمال الخفية التي يجوز
أن يقصر فيها ، ويقول هذا حد مقدوري ..
واعترض المتكلف
أيضا على قوله تعالى في سورة طه ٧ : (فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) ..
فقال : لم يرد في
كتاب الله ان موسى جزع وخاف من شعوذة السحر وهو يعرف كذبها ، هذا فضلا عن بسالته.
قلنا : «أولا» ان
توراته لم تذكر في قصصها البتراء ان موسى ارتعد أو ارتعب عند ما كلمه الله في
حوريب في عليقة النار «خر ٣ ، ١ ـ ٦» وفي جبل سينا «خر ١٩» ، مع ان العهد الجديد
يذكر ان موسى ارتعد في الكلام الأول «ا ع ٧ ، ٣٢».
وقال في الكلام
الثاني : أنا مرتعب ومرتعد «عب ١٢ ، ٢١» ، وان ارتعاد موسى وارتعابه في هذين
المقامين أهم الامور بالذكر في مثل التوراة ، فما ذا تقول بكتاب يهمل مثل هذا
ويشتغل بالسفاسف؟.
«وثانيا» ان
القرآن لم يقل ان موسى جزع وخاف واضطرب وإنما قال : (فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً) بتنكير خيفة ـ أي أحس بشيء من الخيفة ـ وهو كناية عن قلة
الخيفة وزوالها.
ولم يقل القرآن ان
موسى ارتاع وخاف من هول السحر ، بل ان موسى الرسول الأمين الحريص على هدى الناس ،
وإجراء أحكام الله اختلج في نفسه شيء من خوف أن يفتتن الناس بتمويه السحر فيستحكم
الضلال وتقف معجزته عن تأثيرها المطلوب.
ويدل على ذلك ان
الله جل شأنه آمنه بقوله جل اسمه ٧١ : (لا تَخَفْ
إِنَّكَ
أَنْتَ الْأَعْلى) في برهانك ومعجزتك الحقيقية ، فلا تخف الفتنة على الناس
فإن الله مسدد أمرك.
ولم تقتض الحكمة
امتحان الناس ٧٢ (وَأَلْقِ ما فِي
يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) مما لا حقيقة له فينجلي الريب ويحق الله الحق ويمحق الباطل
وتزول ظلمة الشك ويسفر صبح اليقين ويعلى الله برهانك (إِنَّما صَنَعُوا
كَيْدُ ساحِرٍ) ، يعرف الناس انه زبرج وتمويه إذا أزال الله معثرته وأبطل
صورته وأيد اعجاز آيته جل اسمه : (وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ، بل يرد الله كيده ويخذله في باطله.
واعترض المتكلف
أيضا على نقل القرآن لإيمان السحرة لما تحققوا معجزة موسى.
فقال : لا يتصوران
عبيد فرعون يؤمنون برب موسى ، ويخالفون فرعون الملك المطاع صاحب الدولة والشوكة
الآمر الناهي ، وموسى كان بلا جاه ولا قوة.
قلت «أولا» : ان
توراة المتكلف مع تفريطها في بيان الحقائق قد أشارت الى إيمان السحرة ، إذ ذكرت
انهم قالوا لفرعون في معجزة البعوض : «هذا اصبع الله» «خر ٨ ، ١٩» ، وهذا إيمان
منهم بالله وتصديق بمعجز رسوله.
«وثانيا» ان
الايمان المنبعث عن هدى وبصيرة لينهض بالمؤمن الى نصرة الحق بإظهاره فلا يصده خوف
من ظالم ولا محاذرة من الشدائد والعطب ولا طمع في أكل أموال الناس بالباطل .. فإن
الذين أسلموا مع رسول الله عليهالسلام وآمنوا بدعوته لم يصدهم عن المجاهرة بإيمانهم خوف بلاء أو
شدة أو عطب أو حب مال أو ولد أو وطن أو عزة عشيرة ، بل استقبلوا البلاء والشدائد
وجبال الحديد ونيران الحروب بمهجهم وأرخصوا في سبيل الله كل عزيز ، كما هو معلوم
بشهادة الاثر المتواتر.
فلا تقس أيها
المتكلف كل الناس على تلاميذ المسيح فيما تذكره عنهم أناجيلكم من انهم لم يواسوا
المسيح في الشدة ولم يدافعوا عنه ، بل هربوا وتركوه
وحده ، وأنكره
بطرس وصار يحلف ويلعن ، مع ان المسيح حذرهم من ذلك إذ أخبرهم به وبأنهم كلهم يشكون
أو يعثرون به ، انظر الجزء الأول صحيفة ٦٢ و ٦٣.
إذا انبجست دموع
من عيون
|
|
تبين من بكى ممن
تباكى
|
والناس ألف منهم
كواحد
|
|
وواحد كالالف ان
خطب عرى
|
واعترض المتكلف
على حكاية القرآن الكريم ١٢١ لتهديد فرعون للسحرة الذين آمنوا.
وهذا الاعتراض من
الظرائف ، فان المتكلف يعترف بأن فرعون ملك مستبد يفعل بقومه ما يشاء وهو صاحب
السطوة والشوكة ، إذا فما يمنعه من تهديد الذين فتوا بايمانهم في عضده وابطلوا
تدبيره وضعفوا سلطانه ، أيقول المتكلف ان فرعون أقوى ايمانا وأرأف قلبا أو أقل
قدرة من «قيافا» رئيس الكهنة النبي يقول انجيلهم «يو ١١ ، ٤٩ ـ ٥٢» ، فلا يفعل
فرعون بالسحرة مع نكايتهم في سياسته ومملكته ، كما فعله قيافا والكهنة بالمسيح على
ما تزعمه الاناجيل ، أم يقول المتكلف : ان فرعون أبر من ذلك حتى انه لا يصح على
بره ان يتوعد السحرة المؤمنين ولا يروعهم بالتهديد.
واعترض المتكلف
على حكاية الله لقول فرعون بعد دعوة موسى وظهور معجزاته وايمان السحرة في تهديده
لبني اسرائيل الذين قاسى من أجلهم هذا الاغتشاش في مملكته ، ولامه الملأ من قومه
على الإبقاء عليهم وخوّفوه عاقبة أمرهم ، فقال في سورة الاعراف ١٢٤ : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ).
فقال المتكلف : ان
قتل الذكور واستحياء النساء كان قبل ولادة موسى.
قلت : لم يقل
القرآن ان فرعون في هذه الواقعة قتل أبناءهم واستحيى نسائهم ، وإنما ذكر ان فرعون
توعّدهم بأنه سيفعل ذلك في المستقبل اغترارا بقوته وسطوته ، ولكن موسى هون على
قومه وعيد فرعون ووعدهم بالنجاة والعافية والرفاهية والفوز بعاقبة الصبر.
فقد ذكر القرآن
الكريم انه ١٢٥ (قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ) على فرعون وغيره ممن يبغيكم بالسوء (وَاصْبِرُوا) ولا يستخفكم الهلع أو يهولكم الوعيد أو تحسبوا انكم لا
مأوى لكم من الأرض تستريحون به من ذلة العبودية وتأمنون به من سلطان الجور (إِنَّ الْأَرْضَ) كلها (بِاللهِ) وبيده أمرها (يُورِثُها مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهو قادر على أن يجعل لكم منها ميراثا تتبوءونه بالأمن
والعزة ، وان ذلك بلغة الحياة الدنيا ونعيم زائل من ورائه الحساب ويوم الدين (وَالْعاقِبَةُ) المرضية إنما هي (لِلْمُتَّقِينَ) لا لكل من ورث الارض ١٢٦ (قالُوا أُوذِينا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) قال موسى ما معناه : لا تيأسوا من رحمة الله وفرجه ونصره (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ) أي كل من ينصب لهم العداوة ويبتغي بهم السوء.
فلم يسمّ القرآن
خصوص فرعون وقومه ، بل العموم أنسب بالامتنان وأحسن في البشارة خصوصا إذا كانوا
موعودين بالخروج من مصر ، (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ
فِي الْأَرْضِ) بعد معاديكم ، ولم يسمّ القرآن أرض مصر ولا غيرها ، ولكن
ينبغي أن يكون مراد موسى غير أرض مصر ، فان ذلك هو المناسب لأمر الله ، وهارون أن
يرسل معهما بني اسرائيل ، كما في سورة طه ٤٩.
وأمر موسى لفرعون
بذلك كما في سورة الأعراف ١٠٣ ، وقد حقق الله رجاءهم وأنجز وعده وقال جل شأنه ١٣٣
: (وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ) وهي التي في شرقي الاردن (وَمَغارِبَهَا
الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا).
وبما ذكرناه تعرف
شطط المتكلف في اعتراضه ، «يه ٢ ج ص ٥٣ س ١١ ـ ١٦».
وقال الله تعالى
في ذكر البلايا التي عذب بها المصريين ١٠٠ : (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) ، والمراد به زيادة النيل وطغيانه فوق عادته بحيث أضر
بزرعهم وغرسهم ومساكنهم وعمارتهم.
ولم يقل القرآن
انه ارسل عليهم مثل طوفان نوح الذي أهلك جميع الناس
بالغرق إلا من نجي
بالسفينة ، ولكن المتكلف كأنه توهم هذا وحاول أن يموه به اعتراضه حيث قال جازما.
ان الله لم يرسل
على المصريين طوفانا فأغرقهم.
حتى كأنه لم يدر
بما هو معلوم ان النيل إذا زاد ارتفاع مائه عن المعتاد بكثير تسبب عنه الغرق.
وان المقاييس التي
في بلاد السودان تأتي منها الأنباء البرقية عند طغيان النيل لكي تؤخذ الاحتياطات
اللازمة في وقاية البلاد من غوائله ، وأنه لم يسمع من مشاهير المهندسين ان المخزن
الذي أوجده الفراعنة في وادي الريان من اقليم الفيوم إنما كان ليأخذ من ماء النيل
عند الطغيان ، ليخفف عاديته عن البلاد.
وقال الله تعالى
في سورة القصص ٥ : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) أي من بني اسرائيل (ما كانُوا
يَحْذَرُونَ) ٧ (إِنَّ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ).
فاعترض المتكلف
على ذلك «يه ٢ ج ص ١٠٢» وقال والحقيقة هي ان هامان كان وزيرا للملك احشويروش.
قلت : وينبغي له
في تكملة شططه في اعتراضه أن يقول : وان وزير احشويروش هذا وإن كان في الزمان الذي
بعد سبي بابل ، ولكنه قد اخذ امتيازا من الله بهذا الاسم فلا يمكن أن يسمى غيره «هامان»
من أول الدنيا الى آخرها.
وبمثل هذا الشطط اعترض
على القرآن الكريم في تسميته «مريم» أم المسيح بابنة عمران واخت هارون ، فزعم
بتوقد فهمه أو بحرية ضميره ان القرآن الكريم أراد بذلك هارون أخا موسى وعمران
أباهما ، وكان ذلك لأجل اخذهما الامتياز الذي ذكرناه ، فوا اسفاه على التقوى
والأدب ... نعم من لا يتحاشى من الاحتجاج بالانجيل على ان أبا مريم اسمه «هالى»
فانه لا يرى عليه حرجا فيما يقوله «انظر يه ٢ ج ص ٣٥».
وقال الله تعالى
في سورة يونس ٩٠ (وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ
فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ
آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، ٩١ (آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، ٩٢ (فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).
وقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٦٣» ما حاصله ان التوراة تعلمه ان فرعون لم يؤمن برب موسى حتى في الساعة
الأخيرة ، ولا يتصور ايمان فرعون الذي صرف حياته في الاستبداد والظلم ، وان الله
لا يقبل مثل هذه التوبة الوقتية الناشئة من الخوف.
ولم يرد خبر في
التوراة عن غرق فرعون ، وأيدت التواريخ ان فرعون موسى لم يغرق لأنه لم يخرج مع
جيشه.
قلنا : ان توراة
المتكلف لما جاءت الى سعي فرعون وراء بني اسرائيل غمغمت أمر غرقه وادمجت الحال
ادماجا يخل بالمقام ، فلم تحسن الموعظة ولا بيان القصة ، كما اهملت ذكر مكالماته
مع موسى ، كما قدمناه ، وغاية ما صرحت به من فعل فرعون انه سعى وراء بني اسرائيل
واقترب منهم بحيث يرونه وهم عند فم الحيروث في المنزل الثالث من منازلهم ، ومنه
ارتحلوا وعبروا البحر.
وغاية الأمر انها
لم تتعرض لذكر توبة فرعون عند ما أدركه الغرق ، كما لم تذكر عدمها ، انظر رابع عشر
الخروج فانك ترى ان دعوى المتكلف في كلامه للعلم إنما هي شهادة على العناد أو
الجهل.
وهب ان توراته
صرحت بعدم ايمان فرعون ساعة الغرق فقد عرّفناك وستزداد معرفة إن شاء الله ان
التوراة الرائجة لم تبق لها الأيام بتلاعبها مجدا تعارض به واحدا من التواريخ.
«وأما قول المتكلف
لا يتصور ايمان فرعون ، الى آخره» ، فانا نعذر فيه المتكلف في تصوره ان جد في
انكاره ، ولكنا نسأل عن ذلك من لم تمنعه الموانع عن تصور الممكن والممتنع ، وما
المانع العقلي أو العادي من ايمان فرعون وقد
تكررت عليه الحجج
وصرحت له الآيات ، وان انشقاق البحر ليكشف الغطاء ويبصر المرتاب ، حتى لو قال له
بعض الموسوسين الذين تقدمت الدنيا أو بأفكارهم وقال له : ان شق البحر من حادثة
المد والجزر ، وان التوراة الرائجة لتقول : ان فرعون كان عند ما يمسه العذاب يطلب
من موسى وهارون أن يصليا الى الرب إلههما ليرفع عنه العذاب ويطلب منهما البركة
حينما يعبدا إلههما ، ويعترف بأنه أخطأ الى الله إلههما ، وان الله هو البار وهو «أي
فرعون» وشعبه هم الأشرار ، انظر «خر ٨ ، ٨ و ٢٨ ، و ٩ ، ٢٧ و ٢٨ ، و ١٠ ، ١٦ ، و ١٢
، ٣١ و ٣٢».
وهذا كله يعطي ان
فرعون كان في الباطن مؤمنا بالله عارفا به ، ولكن الذي يمنعه عن إظهار ذلك بين
العموم والانقياد لرسالة موسى إنما هو حب الملك وكبرياء السلطنة وسلطة الاستبداد.
ويقول التوراة
أيضا : ان الله جل اسمه شدد قلب فرعون وغلّظه فلم يطلق بني اسرائيل لكي يتمجد الله
به.
والقرآن الكريم لا
يعارض هذه المضامين فانه لم يصرح بأن فرعون كان كافرا مشركا في الظاهر والباطن في
جميع أيامه الى ساعة الغرق ، بل يمكن أن يكون نقل القرآن الكريم لقول فرعون : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ
بَنُوا إِسْرائِيلَ) إنما هو نقل لمجاهرة فرعون بما كان يكتمه من الإيمان
والتوحيد بعد أن كان يحافظ على سطوته ومملكته بالمكابرة والمجاهرة بالشرك ، ولكنه
لما رأى العذاب والغرق أعلن وجاهر بالإيمان والتوحيد ، اما ندما وتوبة ، واما رجاء
للنجاة من العذاب ، والعود ولو إلى بعض ثروته ، بل ولو إلى مجرد الحياة ...
وهب انه كان كافرا
في الظاهر والباطن ولكنه لا يبعد إيمانه بعد ما رأى الآيات وحاق به العذاب فبصّرته
الشدة ورفعت عن بصيرته غشاوة غرور الملك وابهة السطوة وترف العيش ، وإن كان
المتكلف يستبعد أو لا يتصور من نحو ذلك شيئا فليستبعد أو لا يتصور ايمان «بولس»
رسوله فانه يعترف بأنه كان مضطهدا للمؤمنين بالمسيح ومجدفا ـ أي متكلما بكلام
الكفر ـ ومفتريا «١ تي ١ ، ١٣» ، ويعاقب القديسين ويضطرهم الى التجديف ـ أي كلام
الكفر ـ «١ ع ٢٦ ، ١١».
ويقول كتابهم :
انه لم يزل ينفث تهددا وقتلا على تلاميذ المسيح والمؤمنين به ، ويأخذ الرسائل
ليسوق الرجال والنساء من المؤمنين من الطريق موثقين «١ ع ٩ ، ١ و ٢».
فكيف إذا يتصور
المتكلف ان بولس آمن وبعث رسولا واعطى سلطانا على ملاشاة الشريعة والعيب لها؟.
«وأما قول المتكلف
: ان الله لا يقبل هذه التوبة الوقتية الناشئة من الخوف» فهو غفلة فاحشة.
فإن القرآن لم يقل
ان الله تاب على فرعون وجعله رسولا وأعطاه سلطانا على عمل الآيات ومحو الشريعة ،
بل قال الله تقريعا له وتوبيخا وتسفيها لرأيه (آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
أفيرى ذو الرشد ان
هذا قبول للتوبة ، ولعل مفاد الآيات والله أعلم ، فان كنت آمنت طمعا في النجاة فلا
نجاة بل (فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ) لا بنفسك ، بل (بِبَدَنِكَ) المشوه بالموت المرعب ولا كرامة لك ولكن (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) وعبرة وموعظة تقوم بها الحجة.
وأما قول المتكلف
لم يرد خبر في التوراة عن غرق فرعون ، فهو من الجهل بتوراته فانها تقول عن قول
الله جل اسمه واشدد قلب فرعون حتى يسعى ورائهم فأتمجد بفرعون وبكل جيشه ، فشد
مركبته ـ أي فرعون ـ وأخذ قومه معه ، وشدد الله قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء
بني اسرائيل ، فلما اقترب فرعون رفع بنو اسرائيل عيونهم وإذا المصريون راحلون
ورائهم ، وها أنا اشدد قلوب المصريين حتى يدخلوا ورائهم ـ أي وراء بني اسرائيل في
البحر ـ فأتمجد بفرعون وكل جيشه بمركباته وفرسانه فيعرف المصريون اني أنا الرب حين
أتمجد بفرعون ومركباته وفرسانه ، انظر «خر ١٤ ، ٤ ، ١٩» ، فإذا كانت التوراة تخبر
ان فرعون شد مركبته ، واخذ قومه وسعى وراء بني اسرائيل واقترب منهم بعد ثلاث مراحل
، وتخبر ان الله اخبر بأن فرعون يسعى ورائهم.
ووعد جل شأنه
بالوعد المكرر المؤكد بأنه يتمجد بفرعون ، وكل جيشه
بمركباته وفرسانه.
وكتابهم يقول ان
نصيح اسرائيل لا يكذب ولا يندم لأنه ليس إنسانا ليندم «١ صم ١٥ ، ٢٩» ، فلا بد أن
يكون الله جل جلاله تمجد بفرعون كما وعد وأكد.
ولم تقل التوراة
هاهنا ان الله تعالى شأنه حزن وندم على فعل الشر بفرعون كما قالته «تك ٦ ، ٦ و ٧»
ولم تقل ان فرعون رجع الى مصر.
«وأما قول المتكلف
: وأيدت التواريخ ان فرعون موسى لم يغرق لأنه لم يخرج مع جيشه» ، فما عسى أن أقول
فيه؟ أقول انه لم يطلع مدة عمره على صراحة ما ذكرناه من نقل التوراة ان فرعون شد
مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراء بني اسرائيل واقترب منهم حتى أبصروه وهم في فم
الحيروث في المنزل الذي عبروا منه في البحر ، أم أقول اطّلع عليه ولكنه يتخيل ان
المسلمين لا يدرون بما ذكرناه عن توراته ، وان قومه يعذرونه في ذلك. أم أقول : انه
يشير بغمز خفي الى ان التاريخ هو المعتبر دون صراحة توراته ، وان عهدة الجزم بأحد
هذه الوجوه الثلاثة عائدة على معرفة المرسلين الامريكان الذين طبع الكتاب بمعرفتهم.
ثم ان المتكلف «يه
٢ ج ص ٦٣» والمتعرب «ذ» ٤١ و ٤٢ قد اعترضا على قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ).
وقالا ما حاصله ان
هذا الكلام يقتضي ان الله نجى فرعون من الغرق وهو مناقض لقوله في سورة الاسراء ١٠٥
(فَأَغْرَقْناهُ
وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) ، وهنا قول المفسرين بأن معنى ننجيك ببدنك ننقذك من قعر
البحر.
قلنا : لا مساغ
لمن يعرف مفردات الكلام ويفهم تراكيبه أن يفسر الآية الكريمة بغير ما قاله
المفسرون ، فانه مع تعليق النجاة بالبدن لا يحسن في الكلام ان يراد منها نجاة
النفس ، ولو أراد ذلك واحد من الناس لعده أهل اللسان من الغالطين.
ألا ترى انه لو
قال شخص أنجيت بدن فلان من البحر أو انحيته ببدنه
من البحر لما فهمت
منه ان كنت أهل اللسان انه أنجاه حيا وأنجى نفسه من الهلكة ، بل إنما تفهم بواسطة
التقييد بالبدن انه أنجى ذات بدنه المجرد عن النفس من صدمات البحر وحيواناته.
وكذا قولك : أنجيت
بدن زيد أو جثته من المعركة ، أو أنجيته ببدنه أو بجثته من المعركة.
وقال الله تعالى
في سورة الاعراف في شأن بني اسرائيل ١٧٠ : (وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وقال جل شأنه في
سورة النساء ١٥٣ (وَرَفَعْنا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) ، فنقل المتكلف عن تفسير الخازن ان اصحاب الأخبار قالوا :
ان بني اسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة أمر
الله عزوجل جبرائيل فرفع جبلا عظيما حتى صار على رءوسهم كالظلة ، فلما
نظروا الى الجبل فوق رءوسهم خرّوا ساجدين ، فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه
الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى الى الجبل خوفا ان يسقط عليه ولذلك لا تسجد اليهود
إلا على شق وجوههم الأيسر ، فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٦» فهذه الأقوال ليست فقط من
الأغلاط ، بل هي من الخرافات القديمة اليهودية ، أما كتاب الله فيعلمنا انه لما
أنزل الله الشريعة على موسى بمرأى من بني اسرائيل رأوا الرعود والبروق وصوت البوق
والجبل يدخن ففزعوا وارتعدوا ووقعت هيبة الله وموسى في قلوبهم «خر ٢٠ ، ١٨» فانظر
بين الكلام المعقول المقبول وبين الخرافات اليهودية.
قلت : ان كان
اعتراض المتكلف لأجل ان ما ذكره الخازن غير موجود في توراته فهو شطط ، لأن توراة
حلقيا أو غيره كما عرفت حالها وتزداد فيه معرفة إن شاء الله لا تنهض بثقل خرافاتها
في الإلهيات ، والنبوات حتى تكون ميزانا للحقائق.
وقد قدمنا لك انها
اهملت ذكر ارتعاد موسى وارتعابه ، كما نص عليه
العهد الجديد «١ ع
٧ ، ٣٢ وعب ١٢ ، ٢١».
واهملت كثيرا من
مكالمات موسى وفرعون ، واهملت ذكر يوم القيامة وثوابه وعقابه فلا تجد فيها من ذلك
اثرا مما يذكره العهد الجديد والقرآن الكريم ، وأبدلته بالوعد بكثرة الحنطة والخمر
والوعيد بالمرض والفقر وتسلط الأجانب على الزوجة ، لئن اهملت التوراة ما ذكره
الخازن ، فلقد أشارت المزامير إليه وزيادة بإشارة واضحة حيث قالت : في تمجيد الله
ما لفظه عند خروج بني اسرائيل من مصر وبيت يعقوب من شعب أعجم كان يهوذا مقدسه
واسرائيل محل سلطانه ، البحر رآه فهرب ، الاردن رجع الى خلف ، الجبال قفزت مثل
الكباش والاكام مثل حملان الغنم ، ما لك أيها البحر قد هربت وما لك أيها الاردن قد
رجعت الى خلف ، وما لكنّ أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش وأيتها التلال مثل
حملان الغنم «مز ١١٤ ، ١ ـ ٧».
وإن كان المتكلف
يزعم ان هذا غير معقول وغير ممكن فهو كفر منه بما في العهدين من بيان قدرة الله جل
جلاله ، وما أظهره بقدرته من العجائب الخارقة لعادة الطبيعة.
وذلك كتوقّد
العليقة بالنار وهي لا تحترق ، وكمعجزة عصا موسى ويده والضربات على ارض مصر وشق
البحر الأحمر والاردن وظهور الماء من الصخرة ونزول النار على جبل سينا وصعود دخانه
وارتجافه بأجمعه جدا «خر ١٩ ، ١٨ ومز ٦٨ ، ٨».
ومثل ان عصا هارون
في يوم واحد اخضرّت وأفرخت فروخا وأزهرت زهرا وأنضجت لوزا «عد ١٧ ، ٧ و ٨».
ومثل ما ذكرته
الاناجيل من معجزات المسيح كشفائه المرضى والعمى والمقعدين والمجانين وأحياء
الموتى والمشي على الماء وإشباع الألوف من قليل الخبز ، وقد بقي اضعافه ، وما
ذكرته من تفتح القبور ، وخروج كثير من الموتى فيها ، ودخولهم المدينة المقدسة ،
وظهورهم لكثيرين ، «مت ٢٧ ، ٥٢ و ٥٣» ، ومثل ما نسبه العهد الجديد من المعجزات الى
التلاميذ وبولس.
وانه ليقبح على
الرجل أن يكون مثله كمثل النعامة إذا قيل لها طيري قالت أنا بعير ، وإذا قيل لها
احملي قالت أنا طير.
فليس للرجل ان
يظهر نفسه لبعض الأمور نصرانيا ، ويكون في طواياه بالنسبة الى الإلهيات طبيعيا
دارونيا ، فيسر حسوا بارتعاء ، بل اما أن يذعن بقدرة الإله وحقيقة المعجزات ، كما
جاهرت به كتب العهدين ، وأما أن يقف في صف شبلي شميل تحت راية دارون.
ومن هذا الوباء ان
جملة من أهل الكتاب ذهبوا الى ان معجزة شق البحر الأحمر لبني اسرائيل إنما هي من
حادثة المد والجزر ، وذلك لئلا تكون خارقة لعادة الطبيعة ، حتى انهم رسموا في
الخارطة خط عبور بني اسرائيل من البحر على طرف خليج السويس بحيث يكون على طرف
شواطئه التي ينحسر عنها الماء عند الجزر عادة ، حتى كأنهم لم يسمعوا من العهد
القديم انه انشق الماء ودخل بنو اسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم
عن يمينهم وعن يسارهم «خر ١٤ ، ٢١ و ٢٢» ، وتراكمت المياه وانتصبت المجاري كرابية
وتجمدت اللجج في قلب البحر «خر ١٥ ، ٨» ، وفلق اليم أمامهم ، وعبروا في وسط البحر «نح
٩ ، ١١» والله شق البحر بقوته «مز ٧٤ ، ١٣» وشق المياه قدامهم ليصنع لنفسه اسما
أبديا «اش ٦٣ ، ١٢» ، ولو كانت واقعة البحر من حادثة الجزر لكانت هذه الكلمات غلطا
وافتراء.
وقال الله تعالى
في سورة البقرة ٥٧ : (وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) وفي سورة الأعراف ١٦٠ (وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ
مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) ، وقد ذكرت التوراة الرائجة لذلك واقعتين ضرب فيهما موسى
الحجر عن أمر الله فانفجرت منه المياه.
«الواقعة الاولى»
في رفيديم «خر ١٧ ، ٥ و ٦».
«والواقعة الثانية»
في برية صين «عد ٢٠ ، ٧ ـ ١٢».
والقرآن الكريم لا
يتعارض في أمثال هذا إلا لما كان له دخل في الامتنان والموعظة أو الحجة ، فلأجل
ذلك لم يتعرض لمحل هذه الواقعة ، إذ لا دخل له إلا في بسيط التاريخ وهو بمعزل عن
شريف اسلوب القرآن الكريم.
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ١٦ س ١٧ و ١٨» على نقل القرآن ان موسى «ضرب الحجر فانفجرت منه المياه» ،
وقال : والصواب ان الصخرة انفجرت ماء.
قلت في توراة
المتكلف : ان الله أمر موسى أن يأخذ عصاه التي ضرب بها النهر فيضرب الصخرة فيخرج
منها ماء ليشرب الشعب ففعل موسى هكذا «خر ١٧ ، ٥ و ٦» وأيضا ، ورفع موسى يده وضرب
الصخرة بعصاه مرارا فخرجت مياه كثيرة «عد ٢٠ ، ٦ ـ ١٢».
قل فما ذا ترى في
اعتراض المتكلف؟ أتقول انه لم ير توراته مدة عمره؟ أم تقول ان معنى اعتراضه وإن
خبط باللفظ هو ان القرآن الكريم ذكر الحجر والتوراة العربية قد سمته صخرة فهذا
مبلغ اعتراض المتكلف ، فنقول : ان اسم الحجر المذكور في القرآن الكريم يشمل الصخر
كما هو المعروف في اللغة العربية وهو في الأصل العبراني «صور وسلع» وقد أعاد على «صور»
ضمير المذكر حيث قال «ممنو» ـ أي منه ـ ، وأشار الى «سلع» باسم الإشارة الذكر فقال
«هزه» ـ أي هذا ـ ، ثم نقول : ما ذا على القرآن الكريم إذا خالف توراة حلقيا ، أو
غيره ، أم تقول : ان المتكلف يغمز في اعتراضه الى إنكار معجزة موسى بإخراجه الماء
من الحجر بواسطة ضربه له عن أمر الله ، بل يقول : ان الصخرة انفجرت ماء لمقتض
طبيعي ، فكلما ينقل من المعجزات المخالفة لاقتضاء الطبيعة فهو خرافة ، ولكنه تحاشا
من قومه ان يوجه انكاره الى صراحة التوراة فكنى عن ذلك بإنكاره على القرآن الكريم
، أم تقول انه كثيرا ما تكلم بمثل هذا وهو لا يدري ما يقول.
واعترض المتكلف
أيضا على قول القرآن الكريم «ان الحجر انفجرت منه اثنتي عشرة عينا» ، ومنشأ
اعتراضه هو ان توراته التي عرفت حالها لم تذكر هذا العدد.
قلت : لئن أساءت
التراجم للعهد القديم ترجمتها في هذا المقام ، فان الأصل العبراني يشير الى ما
يذكره القرآن الكريم من تعدد الينابيع ، وإن لم ينص العهد القديم على عددها كعادته
في إهمال ذكر المهمات واطنابه بالفضول وهاك نص كلماته :
ويصاو ممنو ميم ،
فتخرج «بضمير الجمع» منه مياه «خر ١٧ ، ٦» ، ودبريتم ال هسلع لعينيهم وناتن ميما
يو وهو صائيتا لهم ميم ، وكلما الحجر لعيونهم ويعطي مياهه فتخرج لهم مياها ،
ويصّأو ميم ربيّم ، فخرجت «بضمير الجمع» مياه كثيرة «عد ٢٠ ، ٨ و ١١».
وفي المزامير في
ذكر النعم والمعجزات التي صنعها الله مع بني اسرائيل بعد خروجهم من مصر يبقع صوريم
بمدء بار ويشقى كتهموت ربّاه ، يشق أحجارا في البرية ويسقى كلجج كثيرة ، ويوصانو
زليم مسلع ويورد كنهروت ميم ، اخرج مجار من حجر واجرى كأنهار مياها ، هن هكاه صور
وياز وبو ميم ونحليم ، هو ذا ضرب الحجر ، وفاضت المياه والأودية «مز ٧٨ ، ١٥ ـ ٢١».
وهذه الكلمات
متعاضدة على الصراحة بتعدد المنابع والعيون من الحجر ، ولكن التوراة والعهد القديم
يهملان النص على العدد حيث يلزم في الامتنان وبيان القدرة وعظيم النعمة ، وينصان
على العدد حيث لا يلزم النص بل يقعان فيه بعثرات الغلط التي لا تقال ، كما ذكرناه
قريبا في عدد الملائكة الذين جاءوا الى ابراهيم ثم توجهوا الى سدوم وجاءوا الى لوط
، وكما ذكره اظهار الحق في شواهد المقصد الأول والثاني من الباب الثاني فوقع
المتكلف به في حيص وبيص ولعل ما يجري له ذكر إن شاء الله.
ومن أوهام المتكلف
أو تنبيهاته على مواقع الاعتراض على التوراة الرائجة هو انه افتخر هاهنا بضبطها
وإتقانها لمنازل بني اسرائيل في خروجهم من مصر ، فلا أدري انه هل يجهل خبطها في
هذا الشأن ، أو يدري ويريد أن ينبه عليه ، وهل ذلك لأجل تعلق قلبه بغير النصرانية
، أو لكي يجعل لها اسوة بإنجيله في الخبط بالأمكنة ، كما ذكرناه في الجزء الأول
صحيفة «٢٥٣ ـ ٢٥٧».
واسمع إذا خبط
التوراة الرائجة في مراحل بني اسرائيل ومنازلهم فانها تقول : ان بني اسرائيل
ارتحلوا من ابت ونزلوا في عي العباريم ، من هناك ارتحلوا ونزلوا في وادي زارد من
هناك ارتحلوا ونزلوا في عبرارنون ، ومن هناك الى بارة ـ أو بئر ـ ، ومن البرية الى
متاناه ، ومن متاناه الى نحليئل ومن نحليئل الى باموت ومن باموت الى الجواء.
وأرسل اسرائيل
رسلا الى سيحون ملك الاموريين «عد ٢١ ، ١١ ـ ٢٢» ، ثم قالت : انهم ارتحلوا من ابت
ونزلوا في عي العباريم «أي خربات العباريم» وارتحلوا من الخربات ونزلوا في ديبن
جاد ومنها في علمون دبلاتايمه ومنها في جبال عباريم ومنها في عربات مواب على اردن
اريحا «عد ٣٣ ، ٤٤ ـ ٥٠» ، فانظر هذا الاختلاف وضمه الى ما ذكرناه في الصدر
والتمهيد عن عاشر التثنية «٦ و ٧» وليفتخر المتكلف باتقان توراته.
وقال الله تعالى
في سورة الاعراف ١٤٦ (وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) ، وفي سورة طه ٩٠ (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ
مُوسى فَنَسِيَ ٩١ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ٩٦ (قالَ فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُّ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ
أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها).
فاعترض المتكلف
على ذلك «يه ٢ ج ص ٥٥» بأن كون العجل له خوار هو من خرافات اليهود القديمة ، وان
الله جل اسمه لا يساعد على الاشراك به وانه لم يكن في عصر موسى شيء يقال له سامره
ولا سامري فهو من التخيلات البعيدة المستحيلة ، كما يدل عليه تاريخ بني اسرائيل بل
تواريخ العالم قاطبة ، وانه ليس لجبرائيل فرس حتى يقول : ان السامري ألقى في فم
العجل من تراب اثر فرس جبرائيل.
قلت أولا : لم يقل القرآن الكريم ان العجل كان يخور هو بخوار حيواني
غير منبعث عن وضع صناعي أو روح كهربائي ، بل قال «له خوار» ـ أي يسمع منه صوت كصوت
البقر ـ ، والفرق بين العبارتين لا يخفى على من له
معرفة باللسان ،
وهذا من الممكنات الواقعة في الصناعة كثيرا حيث يقدر نفوذ الهواء وضغطه وتقطيعه
على وضع خاص فينشأ منه صوت ذو كيفية خاصة مع ترجيع أو اشتمال على ما يشبه الحروف.
ومن المشاهد
الشائع ان صنفا من الساعات المجلسية يحدث منها عند تحرك آلاتها صوت كصوت الفاختة
أو العصفور أو الديك أو ما يشبه لفظة «يا كريم» ، فيجوز أن تكون صنعة العجل الذهبي
كانت على وضع يقتضي نفوذ الريح في منافذه أن يحدث منه صوت كالخوار ، بل يجوز أن
يكون ذلك من روح كهربائي يؤثر بالهواء النافذ الى جوف عجل الذهب هذا الأثر فيجوز
أن تكون القبضة التي قبضها السامري من أثر الرسول هو شيء بصر به دون بني اسرائيل
في قعر البحر إذ عبروا فيه فوجده يؤثر بكهربائيته أثرا غريبا فاعمله في واقعة
العجل.
وان من المعروف ان
في البحر سمكة إذا مس الانسان ولو خيط الشبكة التي تقع فيها حدثت فيه بكهربائيتها
رعدة مزعجة جدا ، فهذا أمر لا بعد فيه أصلا ، وعلى كل حال لم يكن الخوار في العجل
الذهبي إنشاء خلق من الله فيه بنحو خرق العادة لا من أمر طبيعي صناعي أو كيماوي أو
كهربائي ، فليس هو كأحوال عصا موسى حتى يتشبث به المتكلف لقوله «ان الله لا يساعد
على الاشراك به» ، نعم ان ابتلاء الله لبني اسرائيل في واقعة العجل والخوار إنما
كان من نحو الخذلان لهم لأجل عتوهم بأن لم يصرف بقدرته المضل عن كيده ، ولا
الطبيعيات الصناعية والكهربائية عن اقتضائها الذي أودعه بقدرته في نوعها كما لم
يصرف عملة الأوثان عن صنعهم لها وتركيب صورتها بالصناعة وحصول صورتها بالتركيب.
وليت شعري إذا كان
المتكلف يعترض في مثل هذا فما يقول في خلق الله لابليس رأس الضلال والمشمر في
الدعوة الى الاشراك.
وانجيلهم يقول :
انه اعطى من القوة ما يقدر به على ان يتصرف بالمسيح ، الذي يزعمون انه الاله
المتجسد ، واقنوم الابن الذي حل عليه اقنوم الروح القدس حتى صار ينقله من مكان الى
مكان ويدعوه الى السجود له.
وان كان للمتكلف
اعتراض فليعترض على توراته في قولها ان عصى السحرة والعرافين لمّا ألقوها في
مقابلة موسى صارت ثعابين «خر ٧ ، ١٢» وهذا لا يكون من السحر الذي هو تمويه باطل ،
فلا تكون ثعابين إلا بقدرة الله تعالى ومشيئته وخلقه ..
وفي قولها أيضا عن
كلام الله جل شأنه في فرعون ، ولكني اشدد قلبه حتى لا يطاق الشعب «خر ٤ ، ٢١» ،
فاني أغلظت قلبه وقلوب عبيده لكي اصنع آياتي بينهم «خر ١٠ ، ٢».
وأيضا فان مقتضى
التوراة الرائجة انه حينما كان هارون يصنع العجل ليكون إلها يعبده بنو اسرائيل ،
وبنى مذبحا أمامه ونادى لعبادته ، في ذلك الوقت كان الله جل جلاله يكلم موسى في
تقديس هارون للكهنوت وتمجيده بامتيازات الرئاسة الكبرى ، واستعداد تتويجه لتنفذ
طاعته بكلام طويل «خر ٢٨ و ٢٩» ، فهل ترى مساعدة على الاشراك أكثر من هذا.
وفي رابع عشر
حزقيال عن قول الله جل جلاله ٧ لأن كل إنسان من بيت اسرائيل أو من الغرباء
المتغربين في اسرائيل إذا ارتد عني واصعد اصنامه الى قلبه ووضع معثرة اثمه تلقاء
وجهه ، ثم جاء الى النبي ليسأله عني فأنا الرب اجيبه بنفسي ٨ واجعل وجهي ضد ذلك
الانسان ٩ ، وإذا ضل النبي وتكلم بكلام فأنا الرب قد اضللت ذلك النبي وأمد يدي
عليه وأبيده من وسط شعبي اسرائيل ١٠ ويحملون اثمهم كإثم السائل يكون إثم النبي ١١
لكي لا يعود يضل عني بيت اسرائيل.
أفلا ترى صراحة
هذا الكلام بأن الله جل شأنه هو الذي أضل ذلك النبي الذي ضل وواتى بكلامه في عبادة
الأصنام والارتداد عن الله ، إذا فكيف تكون المساعدة على الاشراك ، تعالى الله عما
يقولون.
وثانيا
: انا قد قدمنا في
الجزء الأول صحيفة ١٣٥ ـ ١٣٦ ان التسمية بالسامري في العربية والشموني في
العبرانية غير منحصرة في النسبة الى سمرون أو شمرون ، وهي البلدة التي بناها عمري
ملك اسرائيل فتسمّت بها تلك
المملكة ، بل يسمى
بذلك أيضا من ينسب الى سمرون أو شمرون بن يساكر بن يعقوب فراجع تعرف مبلغ جهل
المتكلف والمتعرب.
وثالثا
: إنما قال القرآن
الكريم (مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ) ان الذي قال من أثر حافر فرس الرسول إنما هي الروايات.
فينبغي للمتكلف في
ناموس الأمانة أن يوجه اعتراضه إليها أو يقيم الحجة على انها تفيد العلم بأن
مضمونها هو مراد القرآن الكريم ، على انا نقول ان من المعلوم من قوانين الملة
اليهودية والملة النصرانية هو ان الملائكة وإن كانوا أرواحا إلا انهم يتشكلون
بأشكال الجسمانيات ، ولا يضر في اتفاقهم خروج الصدوقين من اليهود ومن علق به وباء
القول بالطبيعة من الفريقين.
وان هذا الاعتراض
سواء كان على الروايات أو على القرآن الكريم ليقبح كل القبح من النصراني الذي
يدّعي ان كتب العهدين كتب سماوية ، فان توراته وانجيله ناطقان بوقوع أمثال ذلك من
الملائكة بل والروح القدس الذي هو بزعمهم أحد أقانيم الاله ، تعالى الله عن ذلك ،
وان كتبه لتقول في نقلها عن المشاهدة في اليقظة والعيان لا عن الرؤيا في المنام ان
موسى وهارون وناداب وابيهو وسبعين من شيوخ اسرائيل صعدوا الى الجبل ورأوا إله بني
اسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف ، وكذات السماء في النقاوة
وأكلوا وشربوا «خر ٢٤ ، ١٠ و ١١».
وان الروح القدس
أحد الأقانيم الثلاثة بزعمهم نزل على المسيح بهيئة جسمية مثل حمامة «لو ٣ ، ٢٢».
وان الملائكة
جاءوا الى ابراهيم ولوط بشكل رجال وأكلوا من ضيافتهما فانظر «تك ١٨ ، ١ ـ ٩ ، و ١٩
، ١ ـ ١١».
وان ملاك الرب قد
مد طرف العكازة التي بيده «قض ٦ ، ٢١» ، وان للجند السماوي خيلا من نار ومركبات من
نار «٢ مل ٢ ، ١١ و ٦ ، ١١» ،.
فإذا كان هذا كله
فإذ يمنع من أن تكون لجبرائيل فرس تناسب عالمه ،
وانها تحدث في
الارضيات من أثرها روحا كهربائيا.
فلا مساغ في الأدب
والدين للمتكلف ان يسمى نفسه نصرانيا يسلم بكتب العهدين وهو يعترض على القرآن
الكريم بنحو هذا الاعتراض.
نعم إذا جاهر
بمكنونه وقال : ان نواميس الطبيعة ، وقوانين دارون تأبى هذا كله ، وتعده من خرافات
اليهود والنصارى والمسلمين ، فإن لنا معه موقفا آخر.
وقال الله تعالى
في سورة الاعراف في شأن موسى لما عبد قومه العجل ١٤٩ : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ
بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) ـ ١٥٣ (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).
فاعترض المتكلف
على ذلك «يه ٢ ج ص ٥٦ و ٥٧ بثلاثة اعتراضات :
١
ـ ان القرآن الكريم
ذكر الألواح بصيغة الجمع الدالة على انهما أكثر من اثنين ، وان توراته تذكر انهما
لوحان.
٢
ـ ان القرآن يدل على
ان موسى لم يكسر الألواح ، بل انه لمّا سكت عنه الغضب أخذها بعينها وهي صحيحة ،
وتوراته تقول ان موسى كسر اللوحين ثم بعد مدة أعطاه الله لوحين آخرين.
٣
ـ ان موسى لم يجرّ
أخاه من رأسه كما يفعل السفهاء.
قلت : أما عدد
الألواح فقد اختلفت فيه التوراة الرائجة ، ففي بعض المقامات صرحت بأنهما لوحان
اثنان حيث صرح الأصل العبراني بقوله : «شنى لوحت» ، وفي بعض المقامات قال : «لوحت»
«خر ٢٤ ، ١٢» ، وهذه في اللغة العبرانية كلمة جمع لا تخرج الى التثنية إلا
بالتقييد بلفظة «شنى» ـ أي اثنين ـ.
فالقرآن الكريم
بوحيه الإلهي الصادق أبان لنا ان التوراة الرائجة أصابت في قولها «لوحت» ، ولكنها
بعد ذلك حوّلها قلم كذب الكتبة ، كما قال أرميا
الى «شنى لوحت» ،
كما شوّه صورتها بالتناقض والتقلب والغلط في عدد الملائكة الذين جاءوا الى ابراهيم
، ثم توجّهوا الى سدوم ، وجاءوا الى لوط حيث ذكرت انهم ثلاثة ، ثم قالت : انهم
اثنان ثم جعلتهما واحدا «انظر تك ١٨ ـ ١٩ ، ٢٣».
ثم اعلم ان القرآن
الكريم بوحيه الالهي الصادق ومعارفه الحقة لينزّه أنبياء الله ورسله الكرام عن
السفاهة والهتك لحرمات الله والاستخفاف بأماناته وعهوده والنكول بالغضب والتهور عن
وظائف النبوة ، فلا يصح في التعاليم الحقة أن يكون موسى رسول الله وكليمه يفعل مثل
ذلك ، أتقول ان موسى رسول الله يعطيه الله لوحي العهد المكتوبين باصبع الله ويأمره
بأن يصنع لهما صندوقا مصفحا بالذهب ليضعهما فيه ويضعه في أشرف الأماكن المقدسة
وبهذه العناية يكونان كواسطة العقد لنبوة موسى ولواء الديانة لبني اسرائيل وأعز
ودائع النبوة وأشد شعائر الله حرمة ، ومع ذلك كله يلقيهما موسى من يده ويكسرهما
عند الغضب ، مع انه لا يجدي كسرهما شيئا لا في العقوبة ولا في العتاب ولا في الحث
على التوبة إلا العبث والحماقة والاستخفاف بعهد الله وأمره والخيانة لأمانته
والهتك لحرمته ، قل إذا فما ذا يتوقّى النبي عند غضبه؟ وأي حرمة لله يحتشم هتكها؟
حاشا لله ورسوله موسى ، الله أعلم حيث يجعل رسالته.
ومن العجب ان
المتكلف يستر هذا بذيل أمانته ويعترض على قول القرآن الكريم ان موسى أخذ برأس أخيه
يجره ويقول : ان هذا من فعل السفهاء ، وقد بينا لك في الجزء الأول صحيفة ١٢٨ ما
يمكن أن يكون وجها له ، ولكنا نقول هاهنا ان وجهه ما هو المعروف من ملاومة الأرحام
وتشاكيهم عند النوائب العظيمة ، فيكون جر موسى لرأس أخيه المعاضد له في مهماته
ونوائبه من باب الشكاية والتلهف كما يجر رأس نفسه ويضرب وجهه ، وإذا كان هذا من فعل
السفهاء فكسر الألواح من فعل من يكون؟.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة البقرة ٢٤٧ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا
نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ٢٤٨ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ
إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
والمتكلف «يه ٢ ج
ص ٢٦» قد اعترض على قوله تعالى من بعد موسى فقال الصواب من بعد القضاة.
قلت : ان القرآن
الكريم لم يكن من مقصوده بيان التاريخ السنوي وتشخيص الزمان ، بل ان الذي يدخل في
مقصوده هو الظرف الذي بيّنه ، لأن المقصود هو الموعظة والتوبيخ لبني اسرائيل على
ملازمتهم في أجيالهم للتلون والتقلب ببيان انهم كانوا مع موسى رسول الله المظفّر
المنصور بالمعجزات والسيف ، وقد شاهدوا منه آيات النصر وخرجوا ببركته من الذل الى
العزة ، ومن الضعف الى الشوكة ومع ذلك كانوا يتمردون على أوامره وينكصون عن دعوته
حتى بدلوا دينه وتقلبوا في طغيانهم فأبدلهم الله بالعز ذلا وبالأمن خوفا ، فجاء
هؤلاء وهم أبناء أولئك القوم وعلى وتيرتهم يطلبون ملكا يقاتلون معه في سبيل الله
مع ان القول أبناء القوم في التقلب والتمرد ، ولذا حذرهم نبيهم من ان يكونوا
كآبائهم إذ كتب عليهم القتال فلم يقاتلوا .. ولكن المتكلف لا يدعه فهمه وسجيته إلا
أن يقول :
فقول القرآن ان
بني اسرائيل طلبوا من نبيهم بعد موسى ـ أي بعد وفاته ـ هو غلط والصواب انه من بعد
صموئيل آخر قضاة بني اسرائيل.
لكي يقال له :
أولا
: ان القرآن قال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ولم يقل قالوا من بعد موسى ، فإن أردت أن تتلاعب بالتراكيب
حسب فهمك وأغراضك فاقصد بذلك كتابك لتكون كواحد من قومك ، وأما
القرآن الكريم
فانه مرصود بالعناية الإلهية ، وينتهرك في تبديلك ألوف عديدة من حفاظ أطفال
المسلمين.
ثانيا
: ان كتابك يقول :
ان الذي طلب منه بنو اسرائيل ان يجعل لهم ملكا هو نفس صموئيل ، وان طالوت «شاول»
ملك في حياة صموئيل انظر «١ صم ١٠ ـ ٢٥ ، ١» ، وتواريخكم تقول : ان مدة ملكه في
حياة صموئيل كانت خمسا وثلاثين سنة ولم يلبث بعد موت صموئيل إلا نحو أربع سنين مع
ملك متضعضع ، وافتراق داود وجملة من بني اسرائيل عنه.
فكيف تقول «والصواب
انه من بعد صموئيل آخر قضاة بني اسرائيل» فأفق ثم تكلم في مثل هذه المقامات بعد أن
تعرف ما في كتابك أقلا.
واعترض أيضا على
حكاية القرآن الكريم لقول بني اسرائيل : (أُخْرِجْنا مِنْ
دِيارِنا وَأَبْنائِنا) فقال انه لم يكن أحد سبى بني اسرائيل ، ولا اخرجهم من
ديارهم ، بل انهم طلبوا الملك ليقضي لهم ويحارب حروبهم ويخرج أمامهم.
قلت : ان العهد
القديم مع تفريطه في الحقائق التاريخية ، ليكذب المتكلف في دعواه.
أفلم ينظر مدة
عمره في سفر القضاة ليرى تسلط الامم على بني اسرائيل من بعد يوشع ، وان الله غضب
عليهم فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم «قض ٢ ، ١٤» ، وباعهم
بيد كوشان ملك آرام النهرين وضرب ملك عمون بني اسرائيل وملك مدينة النخل «٣ ، ٨ و
١٣» ، وباعهم الرب بيد يابين ملك كنعان «٤ ، ٢» ، ودفعهم ليد مديان حتى انهم عملوا
لأنفسهم الكهوف والمغاير بسبب تسلط المديانيين ، وإذا زرعوا تنهبه الامم ولا
يتركون لهم قوتا ولا بقرا ولا غنما ولا حميرا «٦ ، ٢ ـ ٦» وان الله دفعهم ليد
الفلسطينيين أربعين سنة «١٣ ، ١» فلم يزل بنو اسرائيل عرضة لاضطهاد الملوك تعمهم
النوائب أو تتناوب على قبائلهم.
أفلا يكفي المتكلف
هذه الأحوال في صدق قولهم أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، وهل قال القرآن الكريم انهم
قالوا سبينا بأجمعنا الى آشور أو الى بابل.
واعترض أيضا على
تسمية القرآن الكريم لهذا الملك «طالوت» فقال وصوابه شاول.
قلت : سماه القرآن
الكريم بوصفه الذي امتاز به عن جميع بني اسرائيل وهو طول القامة وبسطة الجسم.
والعهد القديم
يقول : انه وقف بين الشعب ، فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق ، وانه ليس
مثله في جميع الشعب «١ صم ١٠ ، ٢٣ و ٢٤» ، فسماه القرآن طالوت تنويها بامتيازه ،
كما يقال كهنوت وجبروت وملكوت.
واعترض أيضا على
قول القرآن الكريم (قالُوا أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ).
قلت : ان الذي جاء
الى صموئيل لينصب لهم ملكا لا بد أن يكونوا رؤساء بني اسرائيل وشيوخهم ، كما ذكر ١
«صم ٨ ، ٤ ـ ٦».
وبحكم العادة
والاعتبار بأحوال البشر وخصوص بني اسرائيل في مثل هذه الواقعة أن يكون كل واحد من
هؤلاء الرؤساء يرجو أن يكون هو الملك ويجد في نفسه انه هو الأولى بذلك لرئاسته
وكبر سنه ، والعادة المطردة تقتضي ان الشيوخ والزعماء وأهل الثروة لا يذعنون إذا
وقع الاختيار على من هو دونهم في السن والشرف والرئاسة والثروة ، بل لا بد أن
يقولوا ان الاختيار الذي هو لصلاح المملكة ينبغي ان يقع على ذي شرف ورئاسة تنقاد
له النفوس ، وذي ثروة تعينه على مهمات الملك ، وذي سن قد بصّرته التجارب وممارسة
حوادث الأيام ، وذي قبيلة عظيمة تفي بمنعته.
فلا بد بحكم
العادة للشيوخ الذين طلبوا الملك أن ينكروا تملك شاول دونهم مع انه شاب من أصغر
العشائر في اسباط بنيامين ، وكتاب المتكلف يقول : ان قبيلة بنيامين قد قاربت ان
تنقرض في أيام القضاة «فض ٢٠ و ٢١» ويقول : ان بني بلعيال قالوا في حق شاول كيف يخلصنا هذا
__________________
واحتقروه فلم
يقدموا له هدية «١ صم ١٠ ، ٢٧» ، ومعنى قولهم هذا هو معنى ما حكاه القرآن من
قولهم.
ومن المعلوم ان
الذي يقدم هدية للملك إنما هم الأشراف والرؤساء الذين يدبرون أمر العامة في طلب
الملك وتبريكه.
وأما هتاف الشعب
بقولهم ليحيي الملك «١ صم ١٠ ، ٢٤» فيجوز أن يكون بعد اعتراض الملأ والرؤساء على
تمليك طالوت ، وبعد أن غلبتهم آراء الجمهور انقيادا لصموئيل فتم القرار على تمليكه
، ويجوز أن يكون من عامة الشعب ما عدا الرؤساء ..
فالعهد القديم على
ما به من الخلل لا يعارض القرآن الكريم في هذا المقام ، كما توهمه المتكلف ، بل هو
مع انحلال نظامه يحاول المعنى الذي ذكره القرآن الكريم ولكنه لم يحسن بيانه.
وقال تعالى في
سورة البقرة في تتمة المقام المتقدم ٢٤٩ : (وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ٢٨» على قول القرآن : ان التابوت تحمله الملائكة ، فقال : لم يرد في كتاب
الله ان الملائكة حملت التابوت وأدخلته الى بيت شاول علامة على الملك.
قلت : وقد ذكرنا
لك في التصدير حال العهد القديم على وجه لا يبقى لذي اللب أدنى ركون إليه ، فكيف
بالاعتراض به على القرآن الكريم ، ولما ذا لا يقال ان كلمة (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قد سقطت منه كالكلمات التي تذكر الحواشي انها تقرأ وهي غير
مكتوبة في المتن وجرت التراجم على تنبيه الحواشي .. وأيضا ان العهد القديم يذكر ان
الفلسطينيين لما ردوا التابوت من عندهم الى بني اسرائيل «فعلوا فعلا لا يمضي معه
التابوت الى بني اسرائيل إلا بنحو خارق العادة يذعنون بأنه من آيات الله ، كما
أشار عليهم بذلك كهنتهم وعرافوهم «١ صم ٦ ، ٦ ـ ١٠» ، وذلك انهم وضعوه على عجلة
ربطوا بها بقرتين مرضعتين
لم يعلهما نير
وارجعوا عنهما ولديهما ، فاستقامت البقرتان في الطريق الى طريق بيتشمس ، وكانتا
تسيران في سكة واحدة وتجأران ولم تميلا يمينا ولا شمالا وأقطاب الفلسطينيين يسيرون
ورائهما الى تخم بيتشمس حتى أتت العجلة تسير بها البقرتان على هذا الحال الى حقل
يهوشع البيتشمسي ووقفت هناك فأنزل اللاويون تابوت الرب «١ صم ٦ ، ٧ ـ ١٦» ومن
المعلوم في العادة ان مثل هاتين البقرتين لا ينبغي أن يتحركا خطوة واحدة ولو كان
لهما عدة من السائقين والقائدين لأجل انهما لم تعلما على وضع نير على أعناقهما
وعلى جر الثقيل خلفهما ، بل يلزمهما في العادة في كل آن ان تشمصا وترجعا الى
ولديهما الذين ارجعا عنهما.
فكيف تسيران عدة
أميال على الاستقامة في الطريق الى حقل يهوشع بلا قائد ولا دليل.
وهل هذا التسخير
إلا من الآيات وخوارق العادة وتصرف الملائكة ، فهو راجع في الحقيقة الى قول القرآن
الكريم تحمله الملائكة ، ولم يقل القرآن ان الملائكة حملت التابوت وأدخلته بيت
شاول ، بل إنما قال ذلك المتكلف من تحريك ذلك الروح الذي اخبر عنه ميخا «١ مل ٢٢ ،
٢٢» ، وإنما قال القرآن لبني اسرائيل (يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ) فيكون صدق النبي بمجيء التابوت من حيث لا يحتسبون على نحو
معجز هواية ودليلا على صدقه بقوله ان الله جعل طالوت ملكا ، والعهد القديم يخبر
بمجيء التابوت على هذا الوجه بنحو لا يكون إلا من تصرف الأرواح السماوية وهم
الملائكة.
واعترض المتكلف
أيضا على قوله تعالى في وصف (التَّابُوتُ فِيهِ
سَكِينَةٌ) فقال : وصوابه شخينا وهي كلمة عبرية معناها الروح ، أو
مأخوذ من شاخونة ومعنى سكن ، وقد سبقه المتعرب الى هذا الاعتراض «ذ» ص ٨٦.
قلت : السكينة
مأخوذة من السكون بمعنى الطمأنينة ـ أي روح تقتضي سكون بني اسرائيل وطمأنينتهم بها
ـ ، وكنى عنها في الأحاديث بالريح باعتبار سريان روحها وبركتها الى بني اسرائيل ،
كما تروح الريح الطيبة ، وتنعش بسريانها ، ووصفت مجازا بأن لها وجها كوجه إنسان
باعتبار ان روحانيتها
وبركتها لها وجهة
واحدة تراعى بها بني اسرائيل دون غيرهم من محاربيهم الذين يقذفهم ادبارها عنهم
بالرعب والوبال.
وأما دعوى المتكلف
والمتعرب بأن السكينة في القرآن مأخوذة من شخينا وشاخونة فمنشؤها أمور :
١ ـ تحاملهما على القرآن كلام الله.
٢ ـ جهلهما أو تغافلهما عن وجود مادة
سكن ويسكن وسكون في اللغة العربية.
٣ ـ بخلهما على اللفظة العربية ان توافق
العبرية بالنون التي في سكينة وشيخنا.
٤ ـ بخلهما بأن يعرب القرآن لفظ شخينا
بلفظ سكينة.
٥ ـ بخلهما بأن يذكر القرآن أمور بني
اسرائيل بألفاظ عربية أو معربة.
٦ ـ عدم مبالاتهما بما يقولون فوا أسفاه
على الأدب وحرية الضمير.
واعترض المتكلف
أيضا على القرآن الكريم في قوله في التابوت انه : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) ، فقال : والحقيقة انه لم يكن فيه سوى لوحي العهد.
قلت : ان توراة
حلقيا أو غيره ، والتي عرفت حالها من التصدير وغيره وإن لم تنص على ما وضع في
التابوت الاعلى لوحي العهد ، ولكن العهد الجديد كتاب المتكلف مما ينبه على خللها
في هذا المقام ، وانها أهملت ما هو لازم الذكر ، فانه يقول وتابوت العهد مصفحا من
كل جهة بالذهب الذي فيه قسط «أي كوز ، أو حقة» من ذهب فيه المن وعصا هارون التي
افرخت ولوحا العهد «عب ٩ ، ٤».
فالعهد الجديد
يقول أيضا : ان التابوت فيه بقية مما ترك ال موسى وآل هارون ، بل ان التوراة
الرائجة ربما يظهر منها هذا وإن لم تنص على وضع المن والعصا في التابوت ، بل ذكرت
ان موسى أمر هارون بأن يجعلهما أمام الشهادة
للحفظ في أجيال
بني اسرائيل «خر ١٦ ، ٣٢ ـ ٣٥ وعد ١٧ ، ١٠» ، ولكن المتكلف تبعثه بواعثه على
الاعتراض على القرآن كلام الله وهو لا يدري بما في كتبه أو يستره بذيل أمانته.
واعترض المتكلف
أيضا على قول القرآن الكريم (إِذْ قالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ..) ، فقال : ان هذا لعدم معرفته باسم النبي الذي مسح شاول ولا
يخفى انه صموئيل.
قلت : لم يكن
المقام لبيان دعوة ذلك النبي واجتهاده في إعلان الحق ليمجده القرآن بذكر اسمه ، بل
ان وصفه بالنبوة أحسن دخلا في توبيخ بني اسرائيل على فارطهم إذ طلبوا مع وجوده
ملكا وردوا عليه في تعيين الملك عن أمر الله ..
ولكن العهدين
الذين ينصان على الأسماء بلا داع خصوصا في الفضائح فانهما قد اهملا ذكر كثير من
أسماء الأنبياء وغيرهم مع اقتضاء وضع الكتاب أو المقام لذكرها ففيه : وكان لما صرخ
بنو اسرائيل الى الرب بسبب المديانيين ان الرب أرسل رجلا نبيا الى بني اسرائيل
وقال لهم الى آخر موعظته وتوبيخه لهم ودعوتهم الى الإيمان «قض ٦ ، ٧ ـ ١١» ، وجاء
رجل الله الى عالي «١ صم ٢ ، ٢٧» وإذا بنبي تقدم الى اخاب ، فتقدم النبي ، فتقدم
رجل الله ، وان رجلا من بني الأنبياء قال لصاحبه عن أمر الرب ، فذهب النبي فعرفه
ملك اسرائيل انه من الأنبياء «١ مل ٢٠ ، ١٣ ـ ٤٢».
ودعا اليشع النبي
واحدا من بني الأنبياء فانطلق الغلام الغلام النبي «٢ مل ٩ ، ١ و ٤» وإذا واحد من
الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع اذنه «مت ٧٦ ، ٥١ ومر
١٤ ، ٤٧ ولو ٢٢ ، ٥٠» ، وانجيل يوحنا يذكر ان الضارب هو سمعان بطرس ، واسم العبد
المضروب ملحس «يو ١٨ ، ١٠» وهذا قليل من كثير.
وقال الله تعالى
في سورة البقرة في تتمة قصة طالوت ٢٥٠ : (فَلَمَّا فَصَلَ
طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ
مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ
فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ
إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).
والعهد القديم لم
يذكر هذه القصة في تاريخ طالوت «شاول» وذكر ما هو قريب منها في تاريخ جدعون «قض ٧
، ٤ ـ ٧» ، فخيل للمتكلف وهمه ان يعترض على القرآن الكريم «يه ٢ ج ص ٢٩» بأنه نسب
قصة جدعون الى شاول ولم يجر على ما هو المذكور في قصة جدعون ، وجرى المتكلف على
هذا الوهم أيضا «يه ١ ج ص ١١٠ و ١١١».
قلت أولا : ما
المانع من أن يكون لطالوت قصة تشابه قصة جدعون ولم يذكرها العهد القديم في أحوال
طالوت ـ أي شاول ـ كما ان التوراة الرائجة ذكرت حنوك ـ أي اخنوخ ـ وهو السابع من
ولد آدم ، واهملت اولى أحواله بالذكر وهي نبوته التي ذكرها العهد الجديد «يه ١٤ ـ ١٧»
وذكرت ابراهيم واهملت اولى أحواله بالذكر وهو بدء دعوته وظهور الله له وهو فيما
بين النهرين من أرض الكلدانيين حينما أمره بالهجرة منها ، كما ذكره العهد الجديد «١٠
ع ٧ ، ٢ و ٣».
واهملت كتب
العهدين أمرا مهما في البيان والموعظة ، وهو مخاصمة ميخائيل رئيس الملائكة مع
ابليس محاجا عن جسد موسى وما دار بينهما من القول والاحتجاج ، كما أشار إليه العهد
الجديد بالإيجاز المخل «يه ٩» ، وأغفل الحادي والعشرون من سفر يشوع ذكر أربع مدن
مما يرجع الى اللاويين وهي باصر ، ويهصه ، وميفعه ، وقد يموت ، ومسارحها ، فذكرتها
الحواشي والتراجم بين العدد ٣٥ والعدد ٣٦ من الأصل العبراني اخذا من سفر الأيام
الاول ص ٦ ، ٦٣ و ٦٤ من الأصل العبراني.
وأهملت ثلاثة من
الأناجيل ما ذكره لوقا «٧ ، ١١ ـ ١٦» من احياء المسيح لابن الأرملة في نايين ، كما
أهملت ثلاثة منها أيضا ما ذكره حادي عشر يوحنا من احياء لعازر.
ودع عنك أمثال ذلك
مما هو كثير ...
وثانيا : يجوز أن
يكون كاتب سفر القضاة في أحد أدواره قد خبط فحرف
قصة طالوت ونسبها
الى جدعون ، كما خبط انجيل متى فحرف كلاما في كتاب زكريا «١١ ، ١٢ و ١٣» ونسبه الى
كتاب أرميا مع انه لا يوجد لذلك فيه عين ولا أثر ، وقد ذكرنا ذلك في التصدير ،
وذكرنا أوهام المتكلف فيه.
سفر القضاة
وثالثا
: ان سفر القضاة
الذي نسب الواقعة الى جدعون قد اختلفوا فيمن ينسبونه له ، كما نقله إظهار الحق في
الفصل الثاني من الباب الأول ، ونقله المتكلف «يه ١ ج ص ١٠٩» عن هورن حيث قال :
ذهب البعض الى ان هذا السفر نزل على فينحاس ، وذهب البعض الآخر الى انه نزل على
حزقيا أو أرميا أو حزقيال أو عزرا ، انتهى.
ومثل هذا الكتاب
لو لم تعبث به صروف الأيام لما كان له اعتبار واحد من كتب التواريخ مع هذا
الاختلاف في مصنفه.
وقولهم نزل على
فينحاس ونزل على حزقيا إنما هو غلط وخيانة في الكلام فان فينحاس وحزقيا لم يقل أحد
يعرف قدره بأنهما كانا نبيين ، وان بين فينحاس وعزرا نحو ثمانمائة سنة.
فما ظنك بكتاب
يتردد أمره بين كونه تصنيف نبي أو غير نبي وبين اناس تكون المدة بين طرفيهم نحو
ثمانمائة سنة.
ودع عنك الكلام في
ان هذا الموجود هو المولود بهذه الولادة المبحوث عنها ، أو انه تعددت فيه المواليد
وتعاقبت على اسم الأول ، وهل يجديه نفعا دعوى هورن بأنه أجمع علماء اليهود
والمسيحيين بعد التحقيق على انه نزل على صموئيل وهو آخر قضاة بني اسرائيل.
أفلا تدري ان أمر
الكتب ومعلومية نسبتها الى مصنفها هو شيء لا ربط له بدعوى إجماع العلماء بعد التحقيق
، وإنما يؤخذ العلم به من النقل المتواتر بين العلماء والعوام من الملة بدون شبهة
تحتاج الى التحقيق ، بل متى احوج الوقت الى القيل والقال عاد أمر الكتاب الى الوهن
الدائم .. وأيضا فانك تعلم قد مضت عليهم دهور في ديانتهم وجلائهم كانوا فيها بحكم
العدم ، ثم
انتعشت جمعيتهم
بعد سبي بابل كالطفل المولود جديدا ، وليس لهم من يذكر لهم شيئا من كتب أسلافهم
إلا عزرا ، فصارت جمعيتهم بعد ذلك تتطلب آثار أسلافها فتحتفل بما يخادعها به الوقت
احتفالها بالحقائق حيث تموّه عليها الأماني والحرص على آثار السلف انه هو ضالتها
المطلوبة ، «وانى وقد عصفت عليها عواصف البلا» فتداركوا التفريط بالإفراط ، فلا
عذر لأحد عند الله في الاعتماد على اتفاقهم مع ما لله علينا من الحجج وأيسرها ما
نشاهده من تعبد اليهود في جميع نسخ العالم لكتاب العهد القديم العبراني بالوضع
المملوء بالغلط الفاحش بجميع أنواع الغلط ، كما يعرف ذلك من متنه والتراجم
والحواشي والقرائن القطعية فتعلم من ذلك بالعلم اليقين انهم أخذوا جميع ما عندهم
من نسخة واحدة مشوهة بما يملأها من الغلط فاحتفلوا بها بالتعبد بصورتها ، كما
ذكرنا ، «فان قلت» ان تعبدهم بأجمعهم بصورة النسخة المغلوطة التي تذكرها لا ينافي
وجود نسخ صحيحة كثيرة في وقتها ، «قلت» إذا جوزت عليهم هذا الفرض كان البلاء أعظم
، فان كل سبب تفرضه لصرفهم عن النسخ الصحيحة الى التعبد بهذه النسخة المغلوطة بهذا
الغلط الفاحش هو كاف في سخافة الاعتماد على نقلهم واتفاقهم ، فتحر رشدك وافتكر في
هذا الشأن.
وأما المسيحيون
فلا تغتر بحرية أفكارهم وانتشار كتبهم في هذه الأدوار ولا تتوهم ان قديمهم كحديثهم
في حرية الفكر وانتشار الكتب وتتداول البحث بين عموم جامعتهم لكي تتوهم من اتفاقهم
شيئا ، بل ان أفكارهم في أمر الديانة والكتب في القديم كانت مستعبدة لأحكام
المجامع المؤلفة من بعض الأساقفة بحكم الامراء والسلاطين لقطع النزاع ، وسد باب
البحث في مبادي الديانة واعتبار الكتب.
ولا يلزم أن نقول
ان هؤلاء كانت تلجؤهم الدواعي الى التواطؤ على تسليم أمر مشكوك أو ممنوع ، بل يكفي
ان نقول ان الشواهد وكلمات كتابهم تكشف لنا عن ان مبادئ آرائهم المتفقة في أمر
الكتب هي أمور اعتبارية ، أقواها اتفاق اليهود على الكتاب الفلاني من العهد القديم
، «وقد عرفت حال كتبهم وحال اتفاقهم فيها» ، أو مشابهة بعض ألفاظ الكتاب لكلمات
الاسقف
الكبير الفلاني
والعالم الكبير الفلاني في القرن الثاني أو الثالث أو الرابع ، أو استشهاد الاسقف
الفلاني ببعض فقرات الكتاب ، أو اشتمال التاريخ على مضامين الكتاب.
كما ان هذه الامور
غاية ما أمكن المتكلف أن يأتي به لتصحيح كتبه ، كما تعرفه من كتابه في الجزء الأول
ص ٧٩ ـ ١٥٧ والجزء الثالث والجزء الرابع ص ٢ ـ ١٥٥.
وهب انا وثقنا
وعلمنا بصحة نقل الاستشهاد عن الأساقفة القدماء ، واعتمدنا على استشهادهم ولكن ذلك
بعد اللتيا واللتي لا يفيد إلا الظن التقليدي بصحة خصوص ما استشهدوا به من الفقرات
، وأما سائر الكتاب فهو في رهن الشك والريب إن لم يمنع من صدقه مانع داخلي أو خارجي
، بل وكذا لو أشار ذلك الاسقف الى اسم الكتاب فمن أين يحصل الاطمئنان بأنه هو هو
وقد مضت قرون كثيرة وأمر الكتب والنظر فيها ممنوع على عموم الملة مختص بأناس
مخصوصين.
وقد وجدنا التحريف
البديهي في التراجم والمطابع حينما تحررت الأفكار وانتشرت الكتب بيد العامة وصارت
منظورة للعموم تتراصد عليها فرق الروم والكاثوليك والبروتستنت ، فوا غوثاه لها إذ
كان أمرها مختصا بأناس معدودين ممنوعا عن نظر العموم ...
وقد توفق المتكلف
والمتعرب لأن يكون من فعليهما في كتابيهما شاهد صدق على وباء التحريف.
وكذا الكلام في
التاريخ فانا لو فرضنا ان التاريخ القطعي قد وافق السفر الفلاني في طرف من
منقولاته فكيف تتم الشهادة على ان ذلك السفر كله صحيح لا ريب فيه.
ومن ذا يرضى لنا
أن نقول بأن عيد الثعالب في شهر ابريل عند سكان روما هو مأخوذ من قصة شمشون في سفر
القضاة «١٥ ، ٣ ـ ٦».
فكل سفر القضاة إذا
حق لا ريب فيه ، كلا لا يرضى أحد منا بذلك ،
بل يقال لنا : ان
هذا التقدم في المعرفة قد اخذ امتيازه المتكلف «يه ١ ج ص ١١١».
وأيضا لو كان سفر
القضاة تصنيف صموئيل لكان ينبغي أن يتم فيه تاريخ بني اسرائيل الى زمان التصنيف ،
ولا يقطعه في أثناء المدة الفاصلة بينه وبين تاريخ سفر يوشع فيقطعه على حرب بني
اسرائيل لقبيلة بنيامين مع ان بين هذا الحرب وبين موت صموئيل بمقتضى تقويم أهل
الكتاب نحو ثلاثمائة وست وأربعين سنة ، ولا أقل من أن يكمل التاريخ الى حين تمليك
شاول ، ولا يقطعه قبل ذلك بنحو ثلاثمائة وعشرين سنة ، وهذا كاف في نفي نسبته الى
صموئيل فضلا عما ذكرناه.
سفرا صموئيل
«ورابعا» لو
أعرضنا عن جميع ما ذكرناه في أسفار العهد القديم لقلنا يكفي كون المصنف لكتاب
صموئيل الأول مجهولا ، فيجوز أن يكون ممن يجوز عليه أن يكون جاهلا بقصة طالوت
وجيشه في ابتلائهم بالنهر ، ولا تغتر بتسمية الكتاب باسم صموئيل فتقول انه تصنيف
صموئيل النبي كما زعم المتكلف جازما به «يه ٤ ج ص ١١٧» قائلا ان سفري صموئيل النبي
نزلا عليه وهما معنونان باسمه ، فان هذا من الغلط الفاحش وذلك لأن اوّل الاصحاح
الخامس والعشرين من صموئيل الأول يذكر موت صموئيل النبي ، واستمر بعد ذلك في سبعة
اصحاحات يذكر الحوادث التي وقعت بعد موته الى حين موت شاول فكيف يكون الكتاب تصنيف
صموئيل النبي.
وزد على ذلك ان
سفر صموئيل الثاني كله في تاريخ ما وقع بعد وفاة صموئيل النبي بعدة سنين.
فاعتبر بهذا وتفطن
الى ان بعض الناس لا يتحاشون عن الجزم بنسبة الكتاب الى النبي وإن خالف المعقول ،
ولله عليك بهذا حجة.
وقال الله جل اسمه
في سورة الأنبياء ٧٨ (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ٧٩ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ
وَكُلًّا
آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ
وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ).
فذكر المتكلف
رواية بأن داود قضى بقضاء وخالفه سليمان فعدل داود الى قضاء سليمان ، فاعترض
المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ٩١» ، وقال لا يعقل ولا يتصور ان سليمان كان يتعقب
أحكام والده ، وكيف يرضى داود بتغيير الحكم أمام رعيته.
قلت : جاء في
تفسير علي بن ابراهيم بسند صحيح معتمد عن أبي عبد الله الصادق وهو الإمام السادس
من أهل البيت أحد الثقلين اللذين لن يفترقا : ان المتحاكمين في هذه الواقعة جاءا
الى داود فقال : اذهبا الى سليمان ليحكم بينكما ، وأراد بذلك أن يعرف بنو اسرائيل
ان سليمان وصيه من بعده فذهبا الى سليمان فحكم بينهما ، فكان حكم داود كذلك ، ولم
يختلفا ولو اختلفا لقال الله تعالى وكنا لحكميهما شاهدين بتثنية الحكمين ، فدل
توحيد الحكم على ان ذلك الحكم الواحد هو حكمهما معا.
وأما قوله تعالى :
(فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ) ، فليس المراد منه تخصيص فهم الحكومة بسليمان دون داود ،
بل المراد بيان النعمة على سليمان بتفهيمه تلك الحكومة حين لم يكن قد جاءته كأبيه
داود نوبة النبوة والسفارة الإلهية وتسديد الإلهام في لوازم الرئاسة الدينية ،
وفصل القضاء ، بل كانت هذه النوبة لداود ، وكل منهما قد حباه الله بهذه النوبة في
وقته ، وآتاه حكما وعلما مؤيدا له في نوبته.
ثم نقول للمتكلف
الذي يقول ان كتب العهدين كلام الله السميع العليم كيف يقول لا يعقل ولا يتصور ان
سليمان كان يتعقب أحكام والده ، أيقول ذلك لأجل ورع سليمان وديانته ، نعم وهو
الورع الذي علم الله أهليته للنبوة ولكن كتاب وحي المتكلف يقول : ان سليمان كان له
سبعمائة زوجة وثلاثمائة سرية «١ مل ١١ : ٣» وهذا محرم في التوراة على الملك في
اسرائيل «تث ١٧ ، ١٤ ـ ١٨».
ويقول : انه «وحاشاه»
ذهب وراء الأصنام وبنى لها المرتفعات وآثار العبادة «١ مل ١١ ، ٤ ـ ١١».
فمن كان يصدر منه
هذا فكيف لا يعقل ولا يتصور ان يتعقب أحكام والده ، أم يقول المتكلف ان هيبة داود
وسطوته كانت تمنع من ذلك بحيث يكون مما لا يعقل ولا يتصور.
قلنا : فإن كتاب إلهامك
يقول : ان ابشالوم بن داود أيضا فعل ما هو من هذا النحو وأعظم وأشنع ، «انظر ٢ صم
١٥ ـ ١٨» ، وانظر من ذلك «١٦ ، ٢٠ ـ ٢٣».
وأما قول المتكلف «وكيف
يرضى داود بتغيير الحكم أمام رعيته» ، فليس له ان يفصل القضية فيه بالإنكار ويقول «كيف
يرضى» ، بل عليه ان يردد في كلامه ويقول : يبعد من داود عليهالسلام ان يخطأ نفسه ويعدل الى حكم العدل ان صح ما يذكره العهد
القديم من فعله مع اوريا وامرأته «٢ صم ١١» واغضائه عن ابنه آمنون وما فعله بأخته «٢
صم ١٣» واغضائه عن ابشالوم ابنه وبكائه وجزعه عليه «٢ صم ٨ ، ٢٩ ـ ٣٣» ، مع ما
أشرنا إليه من فعل ابشالوم.
وينبغي لداود أن
يعدل الى حكم العدل ، ولا يبالي بتخطئة نفسه ، إذا صح عنه ما ذكره العهد القديم عن
قوله الإلهامي ، لأني حفظت طرق الرب ولم اعص إلهي «٢ صم ٢٢ ، ٢٢ ومز ١٨ ، ٢١».
تسبيح الجبال والطير مع داود
واعترض المتكلف
أيضا على قوله تعالى في الآية المتقدمة (وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ).
فقال : ان الذي خص
بالعقل والبيان ، والإعراب عما في الجنان هو الانسان فقط لا الجماد ولا الحيوان ،
وقال أيضا «يه ٢ ج ص ١٠٥» ان الجبال والطير لم تسبح ولن تسبح ، وإنما لسان حالها
ناطق بحكمة الله وقدرته وجودته.
قلت : قد جاء في
الزبور الرائج : تسبحه السموات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها «مز ٦٩ : ٣٤»
يمجدني حيوان الصحراء الذائب وبنات النعام «١ ش ٤٣ ، ٢٠».
وفي المزمور
المائة والثامن والأربعين (١٤١) ما ملخصه : سبحيه أيتها الشمس ، والقمر ، والكواكب ، وسماء
السموات ، والمياه التي فوق السموات والتنانين ، وكل اللجج ، والنار ، والبرد ،
والثلج والضباب ، والجبال والآكام والوحوش ، وكل البهائم والطيور ، وملوك الأرض ،
وكل الشعوب والاحداث والعذارى والفتيان.
وفي تاسع عشر لوقا
٣٨ ـ ٤١ لما كان التلاميذ يسبحون الله قائلين : مبارك الملك الآتي باسم الرب ،
فقال بعض الفريسيين للمسيح انتهر تلاميذك ، فقال لهم : أقول لكم إن سكت هؤلاء
فالحجارة تصرخ.
وان مثل هذه
الامور ليست بجميع أنحائها مما كانت المقدمات البديهية تستلزم الحكم بامتناعها ،
ولا سبيل في ذلك حتى للطبيعي فانها يمكن أن تكون لها حقائق غيبية لا يمس الجحود
الأعمى شرف امكانها وحقيقتها ، فإن من أودع في الأشياء قوة ينشأ منها مثل التلغراف
والفونغراف وسائر الآثار العجيبة. وأودع في الحيوان والانسان ما نجده من القوى لا
يمتنع عليه «سواء كان إله حق قادرا أو طبيعة عمياء» ان يودع في الأشياء قوة ينشأ
عنها التسبيح وشبهه على نحو ممكن ، ولكنه لا يمكن اكتشاف غيبه بقوى البشر العادية
إلا برصد النبوة وإعلان الوحي ، كما لا تنكشف القوى الكهربائية والكيماوية إلا
بالخوض في حكمتها بالبحث ومزاولة التجربة.
وقد اخبرت كتب
الوحي بهذه الحقيقة الغيبية ، فليس لمن يقبل تلك الكتب أن يجحدها ، بل ان الطبيعي
الجاحد لكتب الوحي لا يصح في أصوله فيما يشبه هذه الامور إلا أن يقول لم تثبت ولم
يدل عليها دليل ، أو لا سبيل الى إثباتها وإن أمكن ثبوتها.
وقال الله تعالى
في سورة سبأ ١٠ : (وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً
إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠٥» لم يسمع ان داود كان حدادا وان الله الآن له الحديد.
قلت : لم يكن داود
بهذه الكرامة حدادا ، بل كان ملكا نبيا حباه الله بهذه الكرامة ، وان بعض السلاطين
العظام في هذا القرن من جملة كمالاته انه ممتاز في عمل النجارة ، وربما يشرف
امرأته من عناياته بصناديق صغار بديعة الصنعة للمحابر ونحوها حيث تشرفت بعنايته ،
فلا يقال لهذا الشخص الكبير انه نجار ، فكذا لا يقول أحد ان داود كان حدادا ...
واما «ان الله الآن له الحديد» ، فلا يسمع به سماعا شافيا من أوقر التعصب على
القرآن اذنيه.
فمن أين يسمع
المتكلف ويذعن بذلك ، والحال ان القرآن كلام الله عدوه في تثليثه وطريقة تبشيره ،
وان منقولات اليهود طالما يقول انها خرافة ، وأما منقولات العرب فهو يتصامم عنها ،
فلم يبق إلا العهد القديم ، وتاريخ الوثنيين القدماء من الغربيين.
أما العهد القديم
فقد ذكرنا لك قريبا ان سفري صموئيل الأول والثاني لا يمكن أن يكونا من كتابة
صموئيل النبي ، لأن اكثر ما ذكر في تاريخ شاول وداود في السفر الأول وجميع تاريخ
داود في السفر الثاني إنما كان بعد موت صموئيل النبي ، فهما إذا كتابان نكرتان من
أصلهما فضلا عن تلاعب الأيام بهما وتعدد مواليدهما ، فمن هو كاتبهما حتى يقال كتب
أو لم يكتب ، ومع ذلك فهو مشغول بحكاية آمنون مع اخته ثار ، وداود مع اوريا
وامرأته وابشالوم مع سراري أبيه ، فالأنسب بحال هذين أن لا يذكرا مثل هذه الكرامة
لداود .. وأما الغربيون فزيادة على وحشيتهم العامة في ذلك الزمان لم تكن لهم علاقة
مع الشرق ولا تردد يذكر.
وإنما حدث التردد
والارتباط بعد ذلك لليونان والرومانيين بعد قرون متطاولة تزيد على الستمائة سنة.
وزيادة على ذلك ان
هذه الكرامة مما تنفر منه اصول الوثنية ، فلا يمكن أن تدخل في تاريخ الوثنيين ،
ولا تناسبه ، بل لو وقفوا عليها لتصامموا عنها ...
فهل تجد ذكرا في
تاريخ الوثنيين من المصريين والغربيين لمعجزات موسى الظاهرة بين ألوف من الناس.
فهل تجد ذكرا لشق
البحر وعبور بني اسرائيل من وسطه والماء عن يمينهم ويسارهم ، كما ذكرته التوراة ،
أم هل تجد ذكر الحديث تعيشهم من المن أربعين سنة في البر ، ولم تبل في هذه المدة
ثيابهم ونعالهم «تث ٢٩ ، ٥» وهل تجد ذكر الحديث انفجار الماء من الصخرة معجزة
لموسى بسبب ضربة لها بالعصا عن أمر الله حتى شرب بنو اسرائيل وسقوا إبلهم وأنعامهم
، وهم مئات من الألوف.
أم هل تجد في
تاريخ الوثنيين ذكرا لأعمال المسيح كما تذكره الاناجيل من احياء الموتى وشفاء
العمى والخرس والمرضى؟ كلا لا تجد شيئا من ذلك ، فان الناس لا يكتبون شيئا يناقض
اصولهم ، بل ان كثيرا ممن يقول بنبوة موسى ووحي التوراة قد خالف التوراة وأخرج
حادثة شق البحر عن موضوعها الأصلي ، وكونها آية لموسى ، بل جعلها من حادثة المد
والجزر ، والمتكلف أيضا اعترض على القرآن في قوله : ان موسى ضرب الحجر فانفجرت منه
المياه ، وقال «يه ٢ ج ص ١٦» : والصواب ان الصخرة انفجرت ماء.
* * *
وقال الله جل اسمه
في سورة سبأ ١١ : (وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ
وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ١٢ يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠٥» لم يسمع أحد أن سليمان كان يطير على الرياح ، وانه كان ينتقل من مكان
الى آخر في طرفة عين ، ولم يسمع تليين النحاس له أو انه كان بأرض اليمن ، فان
سليمان كان في اورشليم وان الذين بنوا الهيكل هم العملة لا الجن ، فان الجن اسم
بلا مسمى.
قلت : ان غرض
القرآن الكريم هو بيان النعمة على سليمان والتكريم له بتسخير الريح لأمره بحيث
يكون غدوها شهر ورواحها شهر ، ومع عظيم هذه النعمة والكرامة فلا مداخلة في هذا
الغرض لبيان كيفية تسخير الريح ، وكيف يتصرف بها ومن أين تغدو وإلى أين تروح ،
وبأي شيء تجيء وبأي شيء
تذهب ، فانه لا
مداخلة لذكر هذه الخصوصيات إلا في التاريخ المحض الذي ليس من وظيفة القرآن الكريم.
وأما الأحاديث
الآحادية المختلفة فلا تكون حجة قاطعة في تعيين مراد القرآن حتى يقال فيه كيف ،
ولما ذا.
ولا يلزم أن يكون
تسخير الريح لسليمان من الحوادث التي يلزم أن يعلم بها كل أحد وتسطر في كل تاريخ ،
بل يجوز أن تكون تجري في مقاصد سليمان حسب أمره على نحو يحسب عامة الناس انها تجري
بهبوبها الطبيعي.
«فإن قلت» لو كان
لذلك أصل أو أثر لذكرته كتب الوحي المتعرضة لأحوال سليمان وتاريخه من كتب العهد
القديم كسفر الملوك الاول وسفر الأيام الثاني ، فان مثل ذلك بجميع أنحائه لا يخفى
على الأنبياء ، ولا ينبغي أن يهملوا ذكره.
«قلت» : انا
نجاريك في أول الكلام على غرتك فنقول لك : ان سفر الملوك الاول صريح في انه لم
يستوف تاريخ سليمان ، لأنه يقول في آخر تاريخه ما نصه : «وبقية أمور سليمان وكل
الذي صنعه وحكمته أما هي مكتوبة في سفر أمور سليمان «١ مل ١١ ، ٤١» ، ولا تقل ان
سفر امور سليمان المشار إليه هو سفر الأيام الثاني ، وذلك لأن سفر الأيام الثاني
غير مختص بأمور سليمان حتى يسمى بها ، بل يذكر ملوك يهوذا من سليمان الى سبي بابل.
وأيضا فانه لم
يستوف ما ذكره سفر الملوك الاول في أمور سليمان ، ولم يزد عليه بشيء ، فانظر «١ مل
٢ ، ١٢ ـ ١١ ، ٤١ ، و ٢ ، اي ١ ـ ٩».
نعم قد يختلفان في
شيء غلطا على أحدهما أو كليهما في النقل ، كما تخالفا في نقلهما لصلاة سليمان ، «انظر
١ مل ٨ : ٥٠ ـ ٥٤ ، و ٢ اي ٦ ، ٣٩ ـ ٤٢».
والذي يزعم ان سفر
الملوك الاول من كتب الوحي فانه يتجه عليه الاحتجاج من نفس السفر المذكور على أمور
، وهي ان النبي وكتاب الوحي قد لا يستوفي التاريخ ، وان سفر الملوك الاول لم يستوف
تاريخ سليمان وان هناك
كتابا اسمه سفر
أمور سليمان فيه بقية أمور سليمان وكل الذي صنعه ، ولا شك ان هذا الكتاب غير موجود
في كتب العهد القديم لا باسمه ولا بوصفه ، فإذا ان بقية أمور سليمان ، وكل الذي
صنعه غير مذكورة في كتب العهد القديم ...
وأيضا كيف يدّعي
ان سفر الملوك الاول هو كتابة نبي عن الوحي ، إذا فليقل مدعي ذلك انه كتابة ـ أي
نبي من الأنبياء ـ وإلى أي الأنبياء يوصله النقل المتواتر ، أفلا ترى انه لم يجسر
على تعيين كاتبه حتى خبط العشواء ، وغاية ما في مكابرات المتكلف دعواه بأن سفري
الملوك وسفري أخبار الأيام كتابات جملة من الأنبياء ، فانظر «يه ٤ ج ص ١١٧» ،
ولعله يقول والبرهان الشافي الكافي على ذلك هو اتفاق الملوك الاول «٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣»
، والأيام الثاني «١٨ ، ١٨ ـ ٢٢» على نسبة الحيرة الى الله جل شأنه فيمن يغوي
«اخاب» حتى اهتدى روح الكذب للرأي فاستعان بقدرته وصواب رأيه تعالى الله عما
يقولون ...
فلهفي على كتاب
التاريخ إذا كان كذلك فضلا عن الكتاب الذي ينسب الى الوحي ، وقد ذكرنا لك في
التصدير حال العهد القديم ، ولأجل ذلك قد اشتغل سفر الملوك عن ذكر تسخير الريح
لسليمان وأمثال ذلك من الكرامات بذكر شركه «وحاشاه» في آخر عمره ، وذهابه وراء
آلهة اخرى ، وبنائه السواري والمرتفعات وشعائر العبادة للأوثان ، فانظر «١ مل ١١ ،
٤ ـ ٩».
فمن أين يسمع
المتكلف بتسخير الريح لسليمان ، ومن أين يعلم بإسالة عين القطر ، وكيف يهتدي لمراد
القرآن الكريم من ذلك.
وأما تسخير الجن
في عملهم لسليمان فقد ذكرنا لك فيما تقدم صراحة العهدين كثيرا بوجود ما يسميه
القرآن جنا وجانا على وجه تعرف ان الكتابي إذا أنكر ذلك فقد جحد كتابه واقتفى أثر «دارون»
، وإذا عرفت ذلك عرفت شطط المتكلف في قوله : «ان الذين بنوا الهيكل هم العملة لا
الجن».
فان القرآن الكريم
لم يقل ان الجن الذين بنوا الهيكل لم يكونوا عملة بل قال : ان الجن كانوا عملة ،
ولم يقل كان لكل واحد منهم سبعة رءوس وعشرة
قرون وعلى قرونه
عشرة تيجان لكي يعرف الناس انه من الجن لا من الإنس بل كانوا على صور بني آدم ،
كما يقول العهد القديم ان الملائكة جاءوا الى ابراهيم على صورة ثلاثة رجال ،
فدعاهم لأن يستريحوا ويغسلوا أرجلهم ويسندوا قلوبهم بكسرة خبز وعمل لهم ضيافة
وجلسوا تحت الشجرة وأكلوا «تك ١٨ ، ١ ـ ٩».
وجاءوا الى لوط
على صورة رجلين فدعاهما الى ضيافته وأكلا عنده ولم يكن يعرف في أول الأمر انهما
ملكان ولم يعرفهما قومه ، بل استداروا بالبيت ليفعلوا معهما الفاحشة حسب عادتهم مع
الناس فساء ذلك لوطا وصار يعمل التدابير في صرفهم عن ضيفه ، «انظر تك ١٩ ، ١ ـ ١٠»
، وان الملك جاء الى منوح وامرأته بصورة رجل «قض ١٣ ، ١ ـ ١٧» فلا يعرف ان عملة
سليمان كانوا من الجن إلا من ناحية النبوة والوحي.
وقال الله تعالى
في سورة النمل ١٦ (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ١٧ وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ
جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٩٩ و ١٠٠» ، فالقرآن ناطق صراحة بأن الطيور تعقل وتدرك وتتكلم وتنطق بحكم
يعجز عن الإتيان بمثلها العلماء من بني آدم وهو غلط جسيم ، فإن الله سبحانه وتعالى
خص الإنسان فقط بالنطق والعقل والبيان ، وعليه فيكون سليمان كذب على الناس والطيور
أو يكون ما نسب إليه هو الكذب وهو الصواب ، وثانيا : هل كانت الطيور والحشرات في
عصره تعقل وتدرك ثم جردها الله من العقل الآن قلنا : انها لا تزال واحدة كما كانت
، فمن نسب إليها الإدراك هو الذي غلط ، وثالثا لم يكن لسليمان جنود من الجن ، بل
كانت جنوده من الأمة الاسرائيلية فقط وتقدم انه لا يوجد شيء يقال له جن وما نسب
الى سليمان من معرفة لغة الطير هو من خرافات اليهود ، فتوسع فيها القرآن وخالها
حقائق واقعية وهي خرافات وهمية لا أصل لها.
قلنا : انا نشاهد
ان الحيوانات تصوت عند مقاصدها وأحوالها بأنحاء مختلفة تتفنن فيها كما وكيفا ووضعا
، وإن كنا في أغلبها لا نميز لها حروفا من
حروفنا المألوفة ،
ولكن الوجدان والتتبع شاهدان بأن كل من لا يعرف لغة فانه لا يميز حروفها إذا سمع
من يتكلم بها ، بل يشذ عن سمعه كثير من حروفها فيحسبها صوتا مشتملا على حرفين أو
ثلاثة وإن كانت في الحقيقة مشتملة على جميع أنواع الحروف ، فإن العربي إذا سمع
الزنجي أو الهندي أو التركي أو الانكليزي مثلا يتكلم لم يميز من حروفه إلا قليلا ،
ويخفى بل يشتبه على سمعه أغلب منطوقها مع انها الحروف الموجودة في اللغة العربية
ولكن اللهجة وغرابة اللغة وجهل المعنى تحول بين السمع وبين تمييز جميع الحروف
بحدودها.
ولأجل ما ذكرناه
اختلج في أذهان بعض الحكماء أن يرصدوا أصوات بعض الحيوانات في مختلفات أحوالها
ومقاصدها لكي يعرفوا وضع لغاتها وحروفها ، وأظن الذي صدهم عن ذلك انهم لم يتصوروا
لهذا العناء العظيم في المدة الطويلة نتيجة تخرجه عن حدود العبث وتضييع الوقت.
والحاصل ان الجزم
بأن الحيوانات ليس لها في تفننها بأصواتها أوضاع تنطبق على مقاصدها كما ينطبق كلام
البشر على مقاصدهم إنما هو جزم لا يساعد عليه دليل ولا برهان ، ولا مشاحة بأن يدعى
ان لغات الحيوانات أبسط من لغات البشر كبساطة لغة الطفل في مبادي نطقه مثلا ، وقد
شاهدنا من الأطيار الببغاء الأخضر والأسود وهو يتكلم بكلام البشر في موارد كثيرة
تمرن عليها ووجدناه يستعملها معهم في بيان مقاصده.
هذا ، وأما كون
الحيوانات تدرك فهو مما لا ينبغي أن يرتاب فيه ذو إدراك وإنما الكلام في ان
إدراكها هل هو محض شعور بالموارد الجزئية وإن صدرت منها الأفعال العجيبة والأحوال
الباهرة من حيث الصناعات والحيل والذاكرة أو ان هذه الإدراكات الجزئية ناشئة عن
تعقل للكليات وتطبيقها على الموارد الجزئية ، ولا سبيل الى البرهان القاطع على
انها لا تعقل الكليات ، نعم لا مشاحة في دعوى كونها مهما بلغت أبسط من نوع البشر
في أنحاء المعقول ، وإن كان من البشر من لو حاكمته بعض الحيوانات وقالت له : بأي
حق وبأي إنصاف انك تدعي انك تعقل وان الحيوانات لا تعقل لضاق على العدل مجال
الحكومة ، أو حكم لها إذا شرحت له من أحواله وأقواله ما يزيد في السخافة على
عبثيات
الجحش ، وانك لترى
في البرابرة المتوحشين كثيرا من ذلك ، وإذا نظرت الى حيل ابن آوى في كيفيات صيده
وتخلصه من أذى الناس وسائر الأذى ، وإلى الهرة في صيدها وتعليم أولادها ، وإلى
النحل في صناعة بيته وانتظام أمره ، وإلى الأطيار في صناعة أعشاشها العجيبة ومعرفتها
بأوكارها القديمة وإلى القرد في أفعاله وحيله في مقاصده ، وتتبّعت في أحوال
الحيوانات فانك تقف قهرا عن الحكم بأنها لا تعقل.
وكيف تحكم وان من
منحك العاقلية لا يمتنع عليه ان يمنحها إياها أيضا كما منحها الشعور ، فإن كان لك
عقل فلا بد أن تقول ان عاقليتها في حيّز الإمكان ولو لم يدل عليها دليل.
دع هذا فانا لو
اقتصرنا فيها على الإدراك شعوري لجاز أن تكون متكلمة بشعورها ، وكاشفة عن مقاصدها
وأحوالها بأصواتها على أنحاء متمايزة مبنيّة على اصطلاحات خاصة ودلالات كاشفة ،
وإذا أوضح الوحي ذلك فلا مساغ لإنكاره.
وإن من حرمه سوء
الحظ بالإيمان بذلك الوحي فليس له أن يطعن عليه في اخباره بهذا الأمر الممكن.
ولم يقل القرآن
الكريم ان الطيور كانت تكلم سليمان باللغة العربية أو الجيناوية فعلّمه الله لغتها
لكي يعترض المتكلف ويقول : «انها الآن ليست كذلك ولا تزال واحدة كما كانت» ، وإن
كان المعترض على قول القرآن كتابيا فقد نزع نفسه من الايمان بكتبه ، فان توراته
تقول : ان الحية كانت أحيل جميع الحيوانات البرية ، وكلّمت حواء بخداع المغالطة
حتى أغوتها وحملتها على الأكل من الشجرة ، فقال الله للحية : لأنك فعلت هذا ملعونة
أنت ، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك ، وان نسل حواء يسحق رأسها وهي
تسحق عقبه انظر «تك ٣ ، ١ ـ ١٦».
وفي عاشر متى ١٦
فكونوا حكماء كالحيات ، وفي الخامس والثلاثين من أيوب ١١ الذي يعلمنا أكثر من وحوش
الأرض ويجعلنا أحكم من طيور السماء ، وفي السابع عشر من الملوك الاول ٦ وكانت
الغربان تأتي ايليا بخبز
ولحم صباحا وبخبز
ولحم مساء ، فالعهدان يقولان : ان في الحيوان ما هو ذو حيل ومخادعة وتعقل وكلام
وكذب وحكمة ، فأين المتكلف عن هذا عند اعتراضه.
وقد ذكر الله
تعالى في القرآن الكريم واقعة الهدهد وملكة سبأ وعرشها ومجيئها الى سليمان ، فانظر
الى سورة النمل من الآية ٢٠ ـ ٤٥.
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠٠ و ١٠١» وهذه الخرافة من الخرافات اليهودية ذكرت في كتبهم ، ومن اوتي ذرة
من التمييز لا يقبلها ، ولم يرسل سليمان عفريتا من الجن وسرق عرشها ولم يأت
بأخبارها هدهد ولا غير ذلك من الخرافات الفاحشة الدالة على ان الهدهد أعلم من
سليمان.
قلت : ليس لمن
يعرف قدره ان يحكم على الشيء بأنه خرافة حتى يقيّم البرهان على امتناعه عقلا
كامتناع اجتماع النقيضين ، وليس له أن يتشبث بامتناعه العادي إذا كانت واقعته
مرتبطة بقدرة الله وكرامته الخاصة لأنبيائه وأوليائه ، كما لا ينبغي أن يعترض
بمجرد الاستبعاد والامتناع العادي على ما يذكره العهدان في كرامات موسى وهارون ،
ويوشع ، وايليا ، واليشع ، والمسيح ، وبطرس ، وبولس.
وإنما للمعترض في
المقام أن يطالب بمستنده فإن كان كتاب الوحي فليطالب بسنده وحجته إن لم يسعده
التوفيق على الطلب لذلك بنفسه ليفوز بنعمة الايمان وينجو من هلكة الجحود الأعمى.
وليس له في قانون
الادب وشرف الانسانية ان يجعل جهله الأعمى حجة على الانكار على كتاب الوحي ، وليس
مما ذكره القرآن في هذا المقام شيء ممتنع عقلا ، ولا يلزم منه أن يكون الهدهد أعلم
من سليمان مطلقا ، بل ان سليمان إنسان يجوز أن لا يعلم من البلاد مثل من شاهدها ،
وان أراد المتكلف الخرافة التي تبطل بها دعوى كون الكتاب إلهاميا فلينظر أقلا الى
ما تذكره التوراة الرائجة إذ تقول ان الله جل شأنه وتعالى صارع يعقوب الى طلوع
السحر ، ولما رأى انه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته
فقال له :
اطلقني لأنه قد
طلع السحر فقال يعقوب : لا اطلقك إن لم تباركني ، فقال له : ما اسمك؟ فقال يعقوب
فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب ، بل يسرائيل «أي يجاهد الله» لأنك جاهدت مع
الله ومع الناس وقدرت ، وسأل يعقوب وقال : اخبرني باسمك فقال لما ذا تسأل عن اسمي؟
وباركه هناك فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل «أي وجه الله» لأني نظرت الله وجها لوجه
ونجيت نفسي وأشرقت له الشمس وهو يخمع على فخذه «تك ٣٢ ، ٢٤ ـ ٣٢» وبقوته جاهد الله
«هو ١٢ ، ٤».
فلسان حال التوراة
الرائجة في منقولاتها يقول : لا تليق البركة ولا تهنأ إلا ليعقوب ، إذ لم يتحمل
فيها منة وذلة ، فمرة أخذها من أبيه بغلبة المخادعة والكذب «تك ٢٧ ، ١ ـ ٣٧» ،
ومرة أخذها من الله «تعالى شأنه» بغلبة القوة .. ولعله لذا لا يسمح الكتابيون بمثل
هذه البركة لغير ذرية يعقوب.
ولينظر المتكلف
الى ما يذكره الملوك الاول «٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣» والايام الثاني «١٨ ، ١٨ ـ ٢٢» من ان
الله «ع يهوه» جل اسمه جلس على كرسيه وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره ، فقال
من يغوي «اخاب»؟ فقال جند السماء : هذا هكذا وذاك هكذا ، «ولكن المقدسون من جند
السماء لم يهتدوا الى الرأي» ، وخرج الروح ووقف أمام الله وقال : أنا أغويه ، فقال
بما ذا؟ فقال : اخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه فقال : انك تغويه وتقدر
فاخرج وافعل هكذا.
فما ذا يقول
المتكلف في هذا؟ ولما ذا لا يقول أقلا انه يلزم من ذلك ان يكون روح الكذب أعرف
بصواب الرأي وأقدر على رفع الحيرة ، ولينظر المتكلف الى ما تذكره أناجيله «مت ٤ ،
١ ـ ١٠ ولو ٤ ، ١ ـ ١٠» من ان المسيح بعد نزول الروح القدس عليه وامتلائه منه
وصومه أربعين يوما جاءه ابليس ليغويه فأخذه من البرية الى اورشليم وأوقفه على جناح
الهيكل ثم أخذه أيضا الى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك المسكونة ومجدها في لحظة من
الزمان وقال له : أعطيك هذه جميعا ان خررت وسجدت لي ، ولما ذا لا يقول المتكلف
يلزم من ذلك أن يكون ابليس قادرا على التصرف والتنقل بأقنوم الاله والاله
الذي توشح الطبيعة
البشرية وهو أقدر منه على ارائته ممالك المسكونة بلحظة من الزمان .. فانا نقول ان
ابليس يقل ويقصر عن أن يفعل مثل ذلك مع النبي الرسول.
وقد عرفت من جميع
ما قدمناه ان المتكلف طالما تغريه طواياه باللجاج في الاعتراض على القرآن كلام
الله وهو لا يدري بما في كتبه ، فمن ذلك اعتراضه على نقل القرآن الكريم لتسخير
الشياطين لسليمان ، فقال «يه ٢ ج ص ٩٧» ان الشياطين أرواح شريرة لا شغل لها سوى
الافساد ، ولا يتصور ان من كان دأبه هكذا يخترع الاختراعات التي تنفع ، «قلت» انها
وإن كانت من حيث طبعها كما ذكر ، ولكنها كانت في عملها لسليمان مسخرة من الله له
مقهورة على طاعته ، كما تذكره الأناجيل انها كانت تطيع المسيح وتخاف منه كما ذكرنا
بعضه فيما تقدم في خلق الجن.
ويذكر العهد
الجديد انها كانت تطيع التلاميذ وبولس «لو ١٠ ، ١٧ و ١ ع ٥ ، ١٦ ، و ٨ ، ٧ ، و ١٩
، ١٢».
ومن ذلك اعتراضه
على ذكر القرآن الكريم تسخير الريح لسليمان حيث قال ما حاصله : لا يليق هذا بحكمة
الله وقدرته ، كأن الله أشرك سليمان في ملكه ، «قلت» وهذا كلام من لا يعرف للشرك
والتوحيد معنى حيث جعل تأليه المسيح وتثليث الاقانيم توحيدا ، وجعل نعمة الله على
أوليائه بالكرامة شركا مع الله في ملكه.
وليت شعري ألم
يسمع أقلا من أناجيله ان المسيح قال لتلاميذه : لو كان لكم من الإيمان مثل حبة
خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن
لديكم «مت ١٧ ، ٢٠ ومر ١١ ، ٢٣ ولو ١٧ ، ٦» ، وكل شيء مستطاع للمؤمن «مر ٩ ، ٢٣» ،
فلما ذا يكون تسخير الريح لسليمان مشاركة لله في ملكه ولا يكون هذا كذلك.
وقال الله تعالى
في سورة البقرة ٩٦ (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا إِنَّما
نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) «الآية».
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ٢٠ ـ ٢٣» على ذلك بوجوه.
أحدها
: انه لم يكن في عهد
سليمان شياطين يعلمون الناس السحر.
قلت : لا ينبغي
للكتابي المتتبع لكتبه أن ينكر وجود الشياطين ، ولا ينبغي أن ينكر تصدّيهم لاضلال
الناس وتعليمهم الضلال بكل نحو ، أفلا ينظر المتكلف أقلا الى ما في العهد الجديد
وقوله في الدجال الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة «٢ تس ٢ ، ٩»
على انه يجوز أن يراد من الشياطين شياطين الانس ، كما حكي عن المسيح انه قال لبطرس
: اذهب عني يا شيطان «مت ١٦ ، ٢٣» وسمي يهوذا الاسطحريوطي شيطانا «يو ٦ ، ٧٠ و ٧١».
ثانيهما
: ادعى ان مراد
القرآن ان الله أنزل السحر على الملكين ، فأخذ يقول : حاشا المولى أن يصنع عثرة
لبني آدم بأن يقيم معلمين خصوصيين لتعليم الناس الضلال.
قلت : لا يدل
القرآن الكريم على ان المنزل على هاروت وماروت هو السحر الممحض للضلال ، بل ان سوق
القرآن وخصوص عطفه على السحر ظاهر في انه شيء مقابل للسحر فيكون من الأسماء
الفعّالة في الخير والشر ولذا كان الملكان يحذّران من يعلمانه ويقولان له : إنما
نحن بما عندنا فتنة وامتحان فلا تكفر باستعمال ما نعلمك في الشر كما تفعل بالسكين
المعمولة لمنافع البيت فتستعملها في قتل النفوس المحترمة ، وكالسموم المخلوقة
للمنافع تستعملها في إهلاك النفوس فيتعلمون منهما ما يستعملونه بضلالهم في التفرقة
بين المرء وزوجه ، ولا يستعملونه في منافعهم ، بل يتعلمون ما يعقبهم الضرر
بغوايتهم ولا ينفعهم حيث رغبوا عن منافعه الى اقتراح أهوائهم وضلالاتهم ، هذا هو
مقتضى دلالة القرآن الكريم ومقتضاه ان هاروت وماروت لم يكونا ضالين ولا مضلين ، بل
لا يعلمان أحدا حتى ينبّهانه على وجه الامتحان ويحذرانه عن الضلال والكفر ، كما
يحذر بائع السموم
لاستعمالها في الأعمال الطبية والكيماوية ونحوها عن استعمالها في إهلاك النفوس.
وهذا ليس كصراحة
كتب وحي المتكلف بأن الله يمكّن النبي الكاذب والدجال الداعين الى الشرك من
المعجزات والأعاجيب والآيات ليمتحن عباده «تث ١٣ ، ١ ومت ٢٤ ، ٢٤ ومر ١٣ ، ٢٢ و ٢
تس ٢ ، ٨ ـ ١٢».
وثالثها
: زعمه ان عبارة
القرآن تفيد ان الملائكة غير معصومين ، وقال : ان الملائكة هم معصومون عن الخطيئة
لأنهم خدام الله القائمون بطاعته وإنفاذ أمره.
قلت : قد قدمنا
انه لا دلالة في القرآن الكريم على الطعن في هاروت وماروت ، بل ذكر انهما يؤدبان
الناس وينبهانهم على مواقع الامتحان ، ويحذرانهم من الضلال والكفر ، ولو عوّلنا
على اخبار الآحاد لما كان فيما ذكرته في شأنهما منافاة لعصمة الملائكة فانها تذكر انهما
خرجا عن عنوان الملائكة المعصومين حيث ركبت فيهما الشهوة الحيوانية.
ورابعها
: انه لم يرد بأن
اليهود نسبوا الى سليمان الكفر.
قلت : إن لم
ينسبوا له الكفر فقد نسبته إليه الكتب التي يزعمون انها كتب الوحي ، فانظر «١ مل
١١ ، ٤ ـ ١١ و ٢ مل ٢٣ ، ١٣» ، والقرآن الكريم تعرض لهذا الافتراء الباطل.
وخامسها
: ان الملكين ظهرا
ببابل وسليمان في اورشليم فكأنه ظن ان بابل هي اورشليم.
قلنا : إذا قلت
أنت ان المتكلف يعلم في مصر بالتعاليم التي قررها المجمع النيقاوي ، فهل تريد ان
زمان المجمع وزمان المتكلف واحد ، وان نيقية هي مصر ، وهل لأحد أن يعترض عليك
ويقول لك : لما ذا تظن ان نيقية هي مصر وما ذا تقول لمن يعترض عليك بهذا الاعتراض؟.
والمتكلف لم يأت
ببدع في إنكاره لما ذكره وحي القرآن الكريم في أحوال داود وسليمان ، بل لو ان
العهدين ذكراها مفصلة ، وان سفر الملوك الاول لم
يحل في بقية أمور
سليمان وكل الذي صنعه على سفر أمور سليمان ، وان سفر سليمان كان موجودا وهو يشرح
هذه الأحوال لكان للمتكلف اسوة واقتداء في إنكار ذلك بكثير من قومه الذين أنكروا
كثيرا مما صرح به العهدان كتب وحيهم.
وقد ذكرنا لك جملة
من ذلك في الجزء الأول صحيفة ١٦٣ ـ ١٦٥ ، وأشرنا الى الطوايا الباعثة على إنكار
ذلك ، وتزيد على ذلك في هذا المورد الأسباب المقتضية للمجاهرة بالتحامل والتعصب
على القرآن الكريم ، فلا حاجة الى تكرار حال العهدين في سندهما وكتبتهما
وابتلائهما بالتقلب وما شحنتهما به الاهواء لكي تعلم ان عدم ذكرهما للحقائق لا يمس
شرفها بمقدار ما يقذى العين ، ولو فرضناهما كتب تواريخ معتبرة ، كيف وهذه الحقائق
مما لا يصل إليه ولا ينبئ عنه إلا الوحي الذي لم يضعه الضلال ولم تبلغه الحوادث
ولم يشوّه كتابه التحريف والتبديل.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة الاعراف ١٦٣ : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ١٦٦ (فَلَمَّا عَتَوْا
عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ١٧ و ٥٩» ما ملخصه انه حاشا لله أن يجرب عباده على اقتراف المنكر ويجعل
الحيتان تأتي يوم السبت ولا تظهر في باقي الأيام ، قال يعقوب الرسول ان الله : لا
يجرب أحدا بالشرور ولكن كل واحد إذا يجرب انجذب وانخدع من شهوته.
وان عقاب المولى
لهم بمسخهم قردة وخنازير من الخرافات ولا يوجد لذلك أثر في التوراة ، والقرآن جرى
في ذلك حسب مذهب الوثنيين القائلين بالتناسخ.
قلت : جاء في
التوراة الرائجة اذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما وأعطاك
آية أو أعجوبة ولو
حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء آلهة اخرى لم تعرفها
وتعبدها فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي
يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم وكل أنفسكم «تث ١٣ ، ١ ـ ٤».
وهذا الكلام يعطي
ان امتحان الله وتجربته لعباده قد يقطع بإظهار الآية والاعجوبة على يد الكاذب
الداعي الى الشرك ويعطيه حجة على ضلاله كما يعطيها للنبي الصادق الداعي الى الحق.
وفي العهد الجديد
في حديث الدجال الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة ، وبآيات وعجائب كاذبة ، وبكل
خديعة الإثم في الهالكين لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ، ولأجل ذلك سيرسل
إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل
سرّوا بالإثم «٢ تس ٢ ، ٩ ـ ١٣».
ولا يخفى عليك ان
مثل هذا لا يجوز على جلال الله ولطفه وعدله ، فإنه إذا جاز ان يمكن الله الدجال أن
يعمل بكل قوة ويأتي بآيات وعجائب فما ذا تكون إذا حجة النبي الصادق المرسل من الله
بدعوة الحق ، وكيف يعذب الله من يصدق الدجال؟ وبما ذا يعلم ان هذا الذي أرسله الله
هو عمل الضلال أفلا يصح حينئذ ممن صدقه أن يقول ان الدجال قد جاء بمثل ما يجيء به
الرسل من الحجة الباهرة أو أكبر فان كان اولئك صادقين فالدجال مثلهم أو أولى منهم
بالصدق لأن قواته وآياته وعجائبه إن لم تكن أكبر فهي مثل حججهم ، وإن لم يكن هذا
النحو حجة فبما ذا اعرف الصدق لكي يصح عقابي على عدم الإيمان به ، وهكذا الكلام في
الأنبياء الكذبة الذين ذكرت الأناجيل انهم يعطون آيات عظيمة وعجائب «مت ٢٤ ، ٢٤
ومر ١٣ ، ٢٢».
وهذا بخلاف تكثير
السمك يوم السبت فانه ليس فيه تمويه الضلال ببرهان الحق وحجته ولا فيه إغراء
بالضلال.
ألا ترى ان تكثير
الزانيات في البلد وتكثير الخمر ليسا إغراء بالزنا وشرب
الخمر ، وإنما هو
امتحان لصاحب الإيمان المستودع والتقوى الادعائية لكي يظهر غشه ويبرز كامن فسقه
وضلال ريائه ، كما انه امتحان أيضا لثابت الايمان وصادق التقوى ليظهر كماله في
طاعته وتقواه فيضاعف أجره ويرتفع مقامه ، كما امتحن الله ابراهيم بذبح ولده ، انظر
«تك ٢٢ ، ١ ـ ١٩» ، ولا شك ان كثرة الحيتان يوم السبت لا تميل بالنفس عن التقوى
والطاعة كالأمر بذبح الولد.
وأما تشبث المتكلف
بما حكاه عن رسالة يعقوب فهو واه من وجوه «أحدها» انه كتابه فليحتج به على نفسه
وليفرح بذلك ، «ثانيها» انه لو كان معناه كما يحاول لكان مناقضا لما ذكرنا من كتبه
، فانه ان كان تكثير السمك في السبت تجربة بالشر فالأمر بذبح الولد تجربة بشر منه
واعطاء القوات والآيات والعجائب للمتنبي والحالم والدجال يكون تجربة بشر الشرور ، «ثالثها»
ان الذي في رسالة يعقوب لا يؤاتيه على مزاعمه ، فان معناه ان الذي صار غلويا لا
ينسب الاغواء الى الله لأن الله لا يغوي أحدا بل الخاطئ يغوي إذا انجذب وانخدع من
جهة شهوته ونفسه الامارة ، فان الشهوة إذا حبلت ولدت خطيئة انظر «يع ١ ، ١٣ ـ ١٦»
فان المتكلف قد بتر منقوله وشوشه.
وأما صيرورتهم
قردة فهو عبارة عن تحول صور أجسامهم الى صور أجسام القردة ، ومادة الصورتين واحدة
، وهو المسمى في الاصطلاح بالمسخ وهو مباين للتناسخ ، فان التناسخ عبارة عن تحول
النفس وحدها من جسم الى جسم آخر مباين له في المادة والصورة.
وان المسخ ممكن في
قدرة الله ، وقد ذكر العهدان وقوعه ، فقد ذكرت التوراة ان امرأة لوط صارت في آن
واحد عمود ملح «تك ١٩ ، ٢٦» وجاء في انجيل لوقا عن قول المسيح في علامات القيامة
ووقوع الهلاك ، كما في أيام نوح ولوط ، في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في
البيت فلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع الى الوراء اذكروا امرأة لوط «لو
١٧ ، ٢٦ ـ ٣٦» ، إذا عرفت ذلك فقد اخبر الوحي بوقوع هذا الأمر الممكن فليس إنكاره
إلا الجحود.
ولم يذكر القرآن
الكريم ان هذه الحادثة وقعت في أيام موسى حتى يعترض لمتكلف بكون التوراة الرائجة
لم تذكرها ، فان أراد من التوراة مجموع العهد القديم فقد عرفت وتزداد يقينا إن شاء
الله بأنه لا بأس على الحقائق إذا خلا منها العهد القديم ، فان عذره في ذلك مقبول
، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة البقرة ٢٦١ : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ
بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ
قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
والمتكلف «يه ٢ ج
ص ٣١ و ٣٢» في مقام الاعتراض هاهنا عدة أوهام.
الأول
: روي عن مجاهد ان
الرجل المذكور في الآية كان كافرا شك في البعث ، فاعترض عليه بأن الله خاطب هذا
الرجل بقوله تعالى : (كَمْ لَبِثْتَ) والله تعالى لا يخاطب الكافر.
قلت : لما ذا لا
يخاطب الله الكافر في مقام الحجة والموعظة والتوبيخ ، وان كتب المتكلف تذكر ان
الله تعالى خاطب الحية التي أغوت حواء «تك ١٤٣ و ١٥» ، وخاطب «أبي مالك» ملك جرار «تك
٢٠ ، ٣ ـ ٨» وخاطب الشيطان «اي ١ ، ٧ ـ ٢ ، ٧».
الثاني
: اعترض أيضا بقوله
تعالى (آيَةً لِلنَّاسِ) فقال وهذا اللفظ لا يستعمل في حق الكافر وإنما يستعمل في
حق الأنبياء.
قلت : ان الله لم
يقل له قد أرسلتك رسولا للناس وجعلت لك هذه الآية حجة مصدقة لك على دعوى الرسالة ،
بل قال الله جل اسمه (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً
لِلنَّاسِ) وحجة عليهم في أمر المعاد في القيامة ، وإنما سبيله في ذلك
كسبيل ما
يحكيه الإنجيل
الرائج في قصة انقلاب الماء خمرا إذ قال فيه وهذه بدأت الآيات فعلها يسوع «يو ٢ ،
١ ـ ١٢» ، أفيقول المتكلف ان الخمر المنقلب عن الماء كان نبيا لأنه قيل فيه «آية»
وإنما يستعمل ذلك في حق الأنبياء ، نعم لا يبعد فيه أن يقول.
الثالث
: قوله : لو كان
لهذه القصة أصل في كتب الوحي الإلهي لذكر اسم هذا الشخص.
قلت : وهذا الوهم
ينحل الى أوهام.
أحدها
: يعرفه كل من مارس
القرآن الكريم وعرف منه انه لم يكن متبعا في مواعظ قصصه وحججها أحاديث العهدين (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) كما اختلفت كتب العهد القديم في قصصها والاناجيل في منقولاتها.
وثانيها
: ان من عرف من
القرآن انه كتاب هدى وموعظة وحجة وتمجيد للأنبياء والصالحين ليعرف انه لم يتعلق
غرضه في قصصه إلا بهذه الفوائد فيقتصر في قصصه على ما يؤدي هذه الأغراض الحميدة من
دون فضول وكل من له رشد يعلم انه ليس لذكر اسم الشخص هاهنا مداخلة في التذكير
بالحجة على المعاد ، ولم يكن القرآن مجلة تاريخية تنص على الأسماء حتى على أسماء
النساء وحتى في مقام الوقيعة والهتك لأعراض الأنبياء والاولياء ، ومع ذلك فان
العهدين مع طريقتهما قد أهملا ذكر كثير من الأسماء في مقام التاريخ الذي يكون
بإهمالها مشوها أبتر ، فقد قالت في تاريخ ولادة موسى وجاء رجل من بيت لاوي وأخذ
بنت لاوي فحبلت المرأة وولدت ابنا ، ووضعت الولد ووقفت اخته «خر ٢ ، ١ ـ ٥» ، مع
ان التاريخ والامتنان وبيان العناية والالطاف بموسى ، ونفوذ المشيئة الإلهية يوجب
كل واحد منها النص على الأسماء ، ولكن لو كان وقيعة وهتكا للأعراض لنص على الأسماء
على العادة الجارية في العهدين.
وفي العهدين أيضا
في تاريخ يربعام وجاء رجل الله ، وقال رجل الله «وهكذا ١٥ مرة» ، وكان نبي شيخ ،
النبي الذي أرجعه النبي الشيخ انظر «١ مل ١٢».
وفي سيرة ايليا
أمرت هناك امرأة أرملة تعولك ، وإذا بامرأة أرملة ، مرض ابن الأرملة ، فرجعت نفس
الولد «١ مل ١٧».
وفي العهد الجديد
: أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه وقال له : أنت
هو الآتي أم ننتظر آخر «مت ١١ ، ٢ و ٣ ولو ٧ ، ١٨ ، ١٩» ، وإذا ميت محمول ابن وحيد
لأمه وهي أرملة ، فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه الى أمه «لو ٧ ، ١٢ ـ ١٧».
وقد ذكرنا عن
العهدين في قصة «طالوت» شطرا من هذا النحو ومثله في العهدين كثير يطول بذكره
الكلام.
وثالثها
: ان كل فاهم وغبي
يعلم انه لا بأس على كتاب الوحي إذا ذكر أمرا لم يذكر فيما قبله من الكتب المنسوبة
الى الوحي وإن كانت معافاة من الابتلاء ، ولو تنبه المتكلف من نوم غفلته أو تعصبه
لوافق على ذلك ولم يعترض ، كيف لا وقد ذكر في رسالة يهوذا ٩ مخاصمة ميخائيل رئيس
الملائكة مع ابليس في جسد موسى عليهالسلام مع انها لا يوجد لها أثر فيما تقدم من كتب العهدين على
رسالة يهوذا مع ان هذه المخاصمة أولى بالموعظة والارشاد في الذكر وأنسب بكتاب
الوحي من ذكر ملاعب شمشون «قض ١٤ ـ ١٧» وحالات راعوث وفضائح الأنبياء وعائلاتهم.
وأيضا ذكر في
رسالة يهوذا «١٤ و ١٥» تنبي اخنوخ «أي ادريس» وهو السابع من ولد آدم ، مع انه لا
يوجد له في الكتب قبل يهوذا عين ولا أثر ، وهو أولى بالذكر من أكثر ما ذكر فيها.
والحاصل لا يخفى
انه لا بأس على كتاب الوحي إذا ذكر شيئا قد أهملته كتب الوحي الصحيحة فضلا عما كان
دعيا في النسبة الى الوحي ، بل البأس كل البأس على الكتاب المنسوب الى الوحي إذا
ابتلي بما ذكرناه أو أشرنا إليه في الصدر والتمهيد ، فراجع ذلك وما ذكره إظهار
الحق من بعض ابتلاءات كتب العهدين.
ثم قال المتكلف :
ومن تأمل كتب الوحي الالهي ـ أي التوراة والإنجيل
والزبور ـ لا يجد
فيها شيئا من ذلك ، وهي حكاية ابيمنيدس وهو كاهن يوناني.
قلت : سنبدي لك إن
شاء الله عذر العهدين في تركهما لمثل هذا ، ونعرفك مشغوليتهما بما هو أهم من ذلك
في اغراض كتبتهما المتأخرين ، ولكن المتكلف اشتهى أن يزيد في حجم كتابه بشيء من
تاريخ اليونان وابيمنيدس فادعى على القرآن الكريم بأن قصته تتعلق بحكاية ابيمنيدس «يه
٢ ج ص ٣٢ و ٣٣» ثم لج في الانقياد الى بواعثه فادعى ان رسول الله «ص» جعل ابيمنيدس
من الأنبياء ، انظر «يه ٢ ج ص ١٠٢ و ١١٠» ، فيا لهفاه على الصدق والأمانة والأدب.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة البقرة ٢٤٤ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ
لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).
وان طوايا المتكلف
وعوائده لتقتضي أن يقول في هذا المقام ان هذا من الخرافات التي لا تعقل ولا تتصور
، ولكنه اسكته عن ذلك امتلاء كتبه بكثرة احياء الموتى في دار الدنيا.
ولا تحسب انه
يتضايق بما ذكر في العهد القديم ولكنه يراعي أغراضه فيما ذكره العهد الجديد.
أما ما في العهد
القديم فهو ما حصل على يد ايليا في احياء ابن الأرملة «١ مل ١٧ ، ١٧ ـ ٢٤» ، ومع اليسع
«٢ مل ٤ ، ١٩ ـ ٣٧» ومع حزقيال حيث تنبأ على العظام المالئة للبقعة فتقاربت وكسيت
العصب واللحم والجلد ودخلت فيهم الأرواح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا
جدا «حز ٣٧ ، ١ ـ ١١».
والأمر في ذلك عند
المتكلف سهل ، وأما ما ذكره العهد الجديد فهو ما ذكرت الاناجيل حصوله على يد
المسيح ومن جملته حياة لعازر بعد دفنه بأربعة
أيام «يو ١١ ، ٣٩ ـ
٤٥». وانه عند حادثة الصليب تفتحت القبور وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين
وخرجوا من القبور بعد قيامة المسيح ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين «مت ٢٧
، ٥٢ و ٥٣» ، وانه حصلت الحياة للميتة على يد بطرس «١ ع ٩ ، ٣٦ ـ ٤٢» وحياة الميت
على يد بولس «١٠ ع ٢٠ ، ٩ و ١٠».
فالمتكلف لم يعترض
على ما ذكره القرآن الكريم بما اعتاده من قوله «خرافة» ، ولم يذكره أحد ، ولا يعقل
، ولا يتصور ، فلم يقل ذلك لا ورعا بل محافظة على ما ذكره العهد الجديد في
الأناجيل وأعمال الرسل كما أشرنا إليه.
ومع ذلك فقد أبت
سجيته إلا أن يعترض «يه ٢ ج ص ٢٤ و ٢٥» ، فذكر قول المفسرين بأن هؤلاء هربوا من
الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم على يد حزقيل بن بوذي ، فكان أدب المتكلف أن يقول
في اعتراضه ، ففي زمان حزقيال النبي لم يهرب عشرة آلاف من بني اسرائيل من الطاعون
كما قال القرآن وان الله أماتهم وان النبي حزقيال بعثهم من الموت.
قلت : ولم يقل
القرآن الكريم بأنهم هربوا من الطاعون ولكنه قال : «حذر الموت» ، ولم يقل القرآن
والمفسرون انهم من بني اسرائيل ، ولم يقل القرآن والمفسرون ان حزقيال بعثهم من
الموت ، بل قاله المتكلف بإلهام ذاك الروح المذكور «١ مل ٢٢ ، ٢٢ و ٢ أي ١٨ ، ٢١».
وهب ان القرآن
أشار الى قصة حزقيال فان كتاب حزقيال على ما في العهد القديم من أسباب الخلل لم
يقل ان العظام المالئة للبقعة كانت عظام أموات مات كل واحد في وقت منفرد ، بل لو
كانوا كذلك لتدافنوا ، وفي كتاب حزقيال عن قول الله «٣٧ ، ٩» هلم يا روح من الرياح
الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا ، والمتكلف حذف تسميتهم بالقتلى من منقوله ،
وذلك لأجل دلالة وصفهم بالقتلى على انهم ماتوا دفعة واحدة بسبب واحد وان الموت
بالوباء والطاعون ونحوهما من البلايا والعياذ بالله يسمى قتلا ، انظر «خر ٤ ، ٢٣
مع ١٢ ، ٢٩» فينطبق ما في حزقيال على قول المفسرين أحسن انطباق ، ولكن
المتكلف لما أراد
أن يعترض على المفسرين حذف لفظ «القتلى» ولعله قال في نفسه ومن ذا يلتفت إليها.
ثم ان المتكلف «يه
٢ ج ص ٢٥» بدل ما ذكره حزقيال من احياء العظام وقيام القتلى جيشا عظيما جدا جدا ،
وجعله «رؤيا» والغاية منها انعاش قلوب بني اسرائيل وإحياء آمالهم ، وان الإحياء
الذي ذكره القرآن الكريم لا فائدة فيه ولا مصلحة.
قلت : لعل تعصب
المتكلف على القرآن الكريم حمله على أن يتأول ما ذكر في حزقيال ويجعله رؤيا منامية
لكي يقول ان القرآن ذكره على سبيل الحقيقة وهي غير ممكنة ولا معقولة ولا بأس بها
إذا كانت رؤيا خيالية ، فان كان كذلك فما عساه يقول بما ذكرناه عن متى من تفتح
القبور ، وقيام كثير من أجساد القديسين وخروجهم من القبور ودخولهم المدينة المقدسة
وظهورهم لكثيرين ، وكذا ما ذكرناه عن يوحنا من حياة لعازر بعد أربعة أيام من دفنه.
ولعل المتكلف
تبعثه بعض الطوايا على إنكار حقيقة الجميع ودعوى ان المعقول منه ما كان رؤيا
خيالية فيقتفي بذلك أثر بعض المفسرين المدققين حيث أنكروا حقيقة تكليم الاتان
لبلعام وجعلوها رؤيا خيالية توهم منها بلعام ان الاتان قد كلمته فراغموا بذلك
صراحة التوراة ورسالة بطرس كما ذكرناه في الجزء الأول صحيفة ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ، أم تقول
ان المتكلف سمى واقعة حزقيال رؤيا ولم يدر ما قال.
وأما زعم المتكلف
ان الإحياء الذي ذكره حزقيال فائدته إنعاش افئدة بني اسرائيل ، والاحياء الذي ذكره
القرآن لا فائدة منه ولا مصلحة فيه.
فهو زعم من استولت
الغفلة على مشاعره ، فإنه إذا جاز أن يحي الله جيشا عظيما جدا جدا لأجل أن يسمع
بنو اسرائيل بذلك من حزقيال فتنتعش أفئدتهم ، فلما ذا لا يجوز ان يحي الله ، اولئك
الجيش لأجل التفضل عليهم بالحياة وانعاشهم من البلاء ، أفليسوا عباد الله أفلا
يدعوهم ذلك الى الاطمئنان واليقين في الإيمان بالمعاد ولا يحتاجون في أمر المعاد
الى مثل الاحتجاج الذي
تذكره الاناجيل «انظر
الى الجزء الأول صحيفة ٢٣٥ ـ ٢٣٦».
أفلا يؤدي بهم ذلك
إلى الاعتبار والارتداع والتوبة ، أفلا يؤدي بهم ذلك الى شكر النعمة ، أفلا تحسن
نعمة الله على عباده إلا لإنعاش افئدة بني اسرائيل ، وان انعاش أفئدة بني اسرائيل
يحصل باحياء رجل واحد نصب أعينهم فيذكر لهم حزقيال البشارة عن الله.
وأما في غيبتهم
فلا يفيدهم احياء أهل الدنيا خصوصا إذا كان المشاهد له حزقيال وحده ، فان بني
اسرائيل من عرفت أحوالهم من العهد القديم والمخبر لهم بالأمرين واحد وهو حزقيال ،
فإن لم يصدقوه بالبشارة لم يصدقوه بالاحياء ولا يكون انفراده بهذا الخبر إلا كقول
القائل «أنا الشاهد لنفسي».
ولكن المتكلف كأنه
سمع من كتبه شواهد التبليغ في أحوال اشعيا وأرميا ، وحزقيال ، وهوشع ، «كما ذكرناه
في الجزء الاول صحيفة ٥٠ ، و ٥١» ، فجعل المتكلف هذا من ذاك ، ولم يدر أن ذاك على
ما به أهون من هذا.
* * *
وقال الله جل اسمه
في سورة لقمان ١١ : (وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ١٢ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ) ، ثم وعظه بإقامة الصلاة ومكارم الأخلاق كما ذكره الله جل
شأنه من الآية ١٥ ـ ١٩.
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠٢» من تتبع القرآن رأى محمدا «ص» لم يقتصر على جعل بعض فلاسفة اليونان
الذين لم يعرفوا الاله الحقيقي من الأنبياء كما في ابيمنيدس ، وتقدم الكلام عليه
بل سمى بعض السور باسم بعض الفلاسفة كما في سورة لقمان ، ففي هذه السور ادعى ان
الله آتى لقمان الحكمة ، وان لقمان حض ابنه على أن لا يشرك بالله وهو من الغرائب
فانه لم يرد في كتب الوحي ان الله أوحى الى لقمان ولا الى غيره من فلاسفة اليونان
بل الكتاب المقدس قال : انهم لا يعرفون الاله الحقيقي ، وانهم كانوا يستبيحون
المنكرات ، وكانت
أذهانهم مظلمة والقرآن جعله نبيا ورجلا تقيا وواعظا لابنه.
وقد قدمنا لك ان
دعوى المتكلف في ابيمنيدس إنما هي مما غلب به الهوى على شرف الأمانة والأدب.
وأما تسمية السورة
باسم لقمان فلا دلالة لها على نبوته ولا ربط لها بذلك ، بل سميت باسمه للتسجيل على
عنوان شأنه في توحيده وحكمته وأخلاقه وموعظته ، كما سميت بعض السور لأجل تسجيل
العنوان والتذكير به بسورة الكهف والفيل ونحو ذلك ..
واما ان الله آتى
لقمان الحكمة وان لقمان حض ابنه على أن لا يشرك بالله فلا ألوم المتكلف إذا ثقل
ذلك على هواه.
فان من أوليات
الحكمة الحقيقية وبديهياتها هتافها بأن الواحد الحقيقي لا يكون ثلاثة مختلفة في
الآثار والمشخصات ، وهذه الثلاثة لا تكون واحدا حقيقيا ، ومن أساسيات الحكمة انها
لا تقبل ما تحكم بداهة العقل بامتناعه واستحالته ، ومن أساسياتها أيضا ان الإله
الغني العادل القدوس الرحيم الحكيم العليم اللطيف الخبير لا يترك عباده هملا فوضى
من دون أن يجعل لهم من عنده قوانين تنتظم بها مدنيتهم وسياسات يستوسق بها اجتماعهم
، ونواميس عملية ترقى بهم الى معارج النواميس الروحية ، وتحكم الرابطة بينهم وبين
إلههم فتكون لهم قيادا الى الطاعة ورادعا عن التمرد وطريقا الى الانقياد الروحي. ومن
أساسيات الحكمة أيضا ان الله تبارك اسمه لا يترك عباده هملا بدون أن يقيدهم بزاجر
الوعيد ويقين القصاص ولا يدعهم يترددون في غيهم آمنين .. وأشد شيء تضاده الحكمة
وتقاومه بأولياتها وأساسياتها هو أماني الهوى ومغالطة الشيطان بأن الله الواحد هو
ثلاثة تجسد أحدهم على الأرض وبعد ثلاثين سنة نزل عليه الآخر بشكل حمامة جسمية وبقي
الثالث في السماء ليمهد عمله في الفداء الذي بمغالطته يطلق سراح المتمردين ويخرب
الشريعة المدنية السياسية المكملة المهذبة ويلاشيها من مملكته ، وذلك بأن يفدي
الناس من لعنة الناموس وقصاص خطاياهم بالموت في جهنم النار «ومرجع ذلك الى إغراء
الغواة
بغرورهم وتأمينهم
من وبال غيهم» فجعل الإله المتجسد عرضة للإهانة وللاضطهاد بحيث كان يتقي الضالين
في اليسير من تعليمه.
ثم نبأ «قيافا»
رئيس الكهنة بأن يسعى في قتل ذلك الإله المتجسد واضطهاده الشنيع ملقنا لقيافا في
النبوة بأنه خير لهم ان يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الامة كلها «يو ١ ، ٤٧ ـ
٥٢» ، فجرى التصميم على قتل الاله المتجسد وان استعفى واستقال من معاملة الفداء
وحزن واكتئب وصلى وطلب ان تعبر عنه كأسه ولكن لم يفده ذلك ، بل قتل ومات يومين
وبعض يوما ، فتم العمل في قرار الفداء من قصاص الخطايا ولعنة الناموس وبعد ذلك
ارسلت الرسل ليعلنوا بتمام قرار الفداء فهتف واحد منهم بالهامه المسيح افتدانا من
لعنة الناموس إذ صار «وحاشاه» لعنة من أجلنا ، «غل ٣ ، ١٣» ، ولسنا بعد تحت مؤدب «عل
٣ ، ٢٥» ، وقد تقدم هذا متفرقا في الجزء الأول.
وإذا كانت الحكمة
تقاوم هذا كله وتضاده ، قالت الكتب المنسوبة الى الوحي ـ لا بشر لا بحكمة كلام
لئلا يتعطل صلب المسيح ـ لأنه إذا كان العالم في حكمة لم يعرف الله بالحكمة استحسن
الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة لأن جهالة الله أحكم من حكمة الناس وضعف
الله أقوى من الناس ، «١ كو ١ ، ١٧ ـ ٢٦».
وزاد المتكلف في
تلمذه على هذا التعليم فبشر بالتناقض ، وقال : «يه ٤ ج ص ١٥٩».
نعم لا ننكر ان
تجسد الكلمة الأزلية هو فوق عقولنا ولكنه موافق للعقل ، ثم عقد فصلا لعجز العقلي
عن إدراك صفات الله وأسرار حكمته وحقيقة الروح (١) فتوهم ان هذا يروج عند الناس عزل العقل عن بديهيات أحكامه
وأساسيات قوانينه في الممكن والممتنع لكي يتم للمتكلف الأمر في كل وساوس أهوائه ، وسوف
نتعرض لذلك إن شاء الله تفصيلا ، وان كل من منحه الله شيئا من العقل ليعرف ان
العقل هو الدليل على الله ورسله وكتبه ، وهو النور الذي يستضاء به في معرفة الممكن
والممتنع ، وانه وان حجب عن أشياء قد استأثر الله بعلمها ولكنه لا يعشو عن مشارق
نورانيته إلا من ران
الهوى على بصيرته.
وليت شعري ان
انجيله يقول : ان من يزعمه اقنوم الابن والإله المتجسد والكلمة التي هي الله لا
يعلم من أمر الساعة ما يعلمه اقنوم الأب ، «مر ١٣ ، ٣٢» ، ، فلما ذا لا يقول
المتكلف : لا أعتني بأحكام اقنوم الابن وعلومه لأنه لا يعلم ما يعلمه اقنوم الأب
كما لم يعتن ببديهيات العقل وأساسيات أحكامه ، متشبثا بأن الله حجبه عن بعض
المعلومات مثل الوصول الى حقيقة الروح .. وليت شعري لما ذا يستغرب المتكلف وينكر
أن يكون في اليونانيين من يوحد الله وينهى عن الشرك به ، ويعلم بمكارم الأخلاق ، أفيدعي
ان كل اليونانيين في أجيالهم يقولون في بعض البشر انهم آلهة وأولاد الإله قد
تجسدوا واتحد لاهوتهم بناسوتهم ، فالواحد منهم إله وانسان حقيقيان وربما ولد بعضهم
من عذراء.
أفلم يكن توحيد
الإله وتنزيهه عن مثل هذه الخرافات الباطلة موجودا في العالم ، كيف وتوراته تقول :
انه من زمان «شيث» ابتدأ ان يدعى باسم الرب «تك ٤ ، ٢٦».
وتقويم توراته
العبرانية يحتمل أن يكون ابراهيم قد أدرك سنين عديدة من حياة نوح كما زعمه المتكلف
«يه ٢ ج ص ٢١٧» ، وعليه فتكون دعوة التوحيد من الأنبياء مستمرة أو قريبة من
الاستمرار ، أفلا يمكن أن تسري روحها في أرجاء الأرض ويشرق نورها على من له عقل
يعرف به سخافة القول بتجسد الإله.
إذا فمن أين كان
ملكي صادوق «وهو في فلسطين دار الشرك» كاهنا لله العلي «تك ١٤ ، ١٩».
فهل يقول المتكلف
ان العقل لا يمكن له أن يغلب الهوى فيهدي الى توحيد الله ويرشد الى الصلاح ومكارم
الأخلاق ، وان الأنبياء الكرام لم ينشروا الدعوة الى ذلك ..
وحقيقة الأمر ان
العقل الحاكم بعدل الله وغناه وحكمته وقدسه ورحمته ولطفه ليحكم بأن الله تبارك
اسمه لا يخلي الأرض من داع الى توحيده وتقديسه
وهاد الى وسائل
القرب من حضرته ومرشد الى نواميس الصلاح وقوانين الشريعة المتكفّلة بصلاح البشر
واصلاح أمرهم لآخرتهم ودنياهم ، ولكن المتكلف لا بد أن يجعل هذا من الخرافات ،
ويقول : ان الله جل اسمه لم يلطف ويرحم بالشريعة إلا بني اسرائيل ولم يبين حقيقة
التثليث إلا للنصارى ولكن حينما اطلقهم من قيود الشريعة وفداهم من لعنة الناموس ،
وكيف قال فانا نجد في هذا القرن كثيرا من عرفاء النصارى من أشرق نور التوحيد
الحقيقي على عقولهم ، فتجنبوا أغاليط التثليث ومخادعات الفداء.
ومنهم من بقي في
الظاهر على النصرانية كالكونت «تولستوي» وأتباعه المحتفلين بتعليمه في أشتات
البلاد ، ومنهم من حظى بهدى الإسلام وعبد الله به ، ومنهم من يعترف بحقيقة التوحيد
وحق الإسلام ولكنه تمرد على نواميسه بألفة الراحة واعتياد الهوى على الاستراحة من
النواميس الإلهية.
ولئن استغرب
المتكلف من القرآن الكريم ذكره لما لم تذكره كتب العهدين كذكره لما أكرم الله به
داود وسليمان ، وذكره لموت رجل مائة عام ثم أحياه الله ، وكذكره للقمان وحكمته
وتوحيده ووعظه ، فان ذلك لا يعود بالسؤال على القرآن الكريم ولا على الحقائق
الثابتة ، بل يعود بالسؤال على كتب العهدين ، إلا أن تعتذر بلسان حالها وتقول انها
صنفان صنف لا تعرف النبوة اسمه ولا مسماه ، وصنف لم تبق له دواهي الايام إلا بقايا
أسماء تستعار للمسميات التي اختلفت عليها الموارد والمصادر وتقلبت بها الأحوال
والنشآت وهي بصنفيها قد صرفت وجهها عواصف الأهواء ووجهت عنايتها الى ما شحنت به
ارجائها من عظائم المصائب ، فتارة تنادي بتعدد الآلهة والأرباب وتارة تألّه البشر
، وتارة تصف الله جل شأنه بالعجز والحيرة والمشاورة مع جند السماء في بعض التدابير
حتى كان روح الكذب هو الموفق لإصابة الرأي وتارة تصف الأنبياء بالشك في قدرة الله
وسوء الادب في خطابه والاستعفاء من رسالته ، ونسبته الى الظلم والجور ، وكونه جل
شأنه خداعا ، تعالى الله عن ذلك ، وتارة تصف الأنبياء بالفسق والفجور والشرك وشرب
الخمر ، وتارة تبسط قولها وتطيل شرحها في نسبتها الى الأنبياء وعائلاتهم أقبح
الفواحش والدنس في العرض ، وتارة تنسب
الى الأنبياء
المخادعة بالكذب وخلاعة الجنون في التبليغ وتنسب تلك السخافات الى أمر الله جل
شأنه ، وتارة تصف المسيح بكونه وحاشاه شرّيب خمر وترميه بالقول بتعدد الآلهة
والأرباب ، وبالكذب وبالعقوق لوالدته والقدح بايمانها ، وترميه أيضا بمنافيات
العفة والقداسة ، وتنسب له الاحتجاجات الواهية والتناقض بين الاقوال ، وبين الاقوال
والافعال ، وترمي تلاميذه بالشيطنة وغلظ القلوب وعدم الإيمان والشك في المسيح
وخذلانهم له وهربهم عنه ، وتارة تقضي شطرا منها في ملاشاة الشريعة والذم لها
وعيبها ، وتارة تقضي شطرا كبيرا في صنعة خيمة الاجتماع ، وثياب هارون ، وصيدلة
البرص ، وملاعب شمشون وشئونه مع الكنعانيات ، وان أردت أن تدقق اعملت تدقيقها في
نسب فاص وابن يهوذا المنتهي الى داود ثم الى المسيح وفي نسب يفتاح ، ونصت في نسب
المسيح على ذكر بعض الامهات اشارة الى أحوالها المذكورة فيما سلف مع انها اهملت
ذكر جملة من الآباء.
ثم جاء بعض
المتبعين لهذه الكتب من المفسرين المدققين فأنكروا قصة بلعام المذكورة بثلاث فصول
طويلة من التوراة وجعلوها دخيلة لا أصل لها وجعلوا تكلم اتان بلعام وهما من طائف
الاحلام.
وعمد جملة أيضا
الى شطر كبير من الاناجيل وباقي العهد الجديد مما فيها من معجزات المسيح وتلاميذه
في شئون الارواح النجسة فجعلوها من الكذب مداهنة ومجاراة لغلط الاوهام.
ويسري هذا أيضا
الى شطر كبير من العهد القديم ، ومع ذلك فقد جعلها التلاعب تتكافح في مكررات قصصها
بالتناقض والاختلاف بل صارت نسخها العبرانية والسامرية والسبعينية تتكافح
بالاختلاف في الأسماء والاجيال والتاريخ وبالزيادة والنقصان ، وجاء كتبتها
فانتقدوا عليها بزيادة الكلمات والحروف ونقصهما غلطا ، وتبديل الحروف والخبط فيها
، وجاءت المجامع فتحكمت فيها بالرد والقبول.
وجاء مفسروها
فوصموها بالنقصان والإلحاق ، وجاء الطابعون لها
فاضطربوا فيها
بالتبديل والنفي والإلصاق ، أفلا تجد من ذلك كله عذرا لها فيما أغفلته من الحقائق.
* * *
وقال الله جل اسمه
في سورة الكهف في قصة ذي القرنين ٨٥ : (قُلْنا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ) ...
فاعترض المتكلف
على ذلك «يه ٢ ج ص ٩١» بما حاصله ان القرآن قد جعل الاسكندر نبيا لأن الله لا
يخاطب إلا نبيا مع انه كان ملكا سفاكا للدماء.
قلنا أولا : ليس
في القرآن الكريم ما يدل على ان ذا القرنين هو الإسكندر الرومي المكدوني.
ومن أين للمتكلف
هذا التحكم فان أخذه من أقوال بعض الناس ، فان كثيرا من الناس من قال بخلافه ، فان
أبا الفداء والبيروني وغيرهما قالوا انه الصعب ابن الرائش ، وقال بعض ان اسمه
عيّاش ، وقال بعض : عبد الله بن الضحاك ، وهب ان الجميع لا حجة فيه ولكنه يكشف عن
سوء تحكم المتكلف وتقوله على القرآن الكريم.
وثانيا : يمكن أن
يراد من القول الإلقاء في الفكر والتأمل في النظر ، أو القول له بواسطة نبي يبلغه.
وقد جاء في العهد
القديم وكلم الله منسى وشعبه فلم يصغوا «٢ اي ٢٣ ، ١٠».
وثالثا : قد ذكرنا
عن كتب وحي المتكلف صراحتها بأن الله خاطب الحية التي أغوت حوا.
وخاطب قايين وأبي
مالك والشيطان ، وتذكر أيضا انه جل اسمه خاطب حوا «تك ٣ ، ١٣ و ١٦» فإن كان
المتكلف يسمح لهؤلاء بالنبوة فلما ذا يبخل بها على الإسكندر المكدوني ، وحتى متى
يعترض وهو لا يدري بما في كتبه أو يدري ويتغافل ، فهل هو عدو نفسه.
ورابعا : ان سفك
الدماء لا يمنع من النبوة إذا كان لأجل احقاق الحق وقطع فساد الشرك والجور ، بل
وكتب وحي المتكلف تفصح انه لا يمنع من النبوة حتى إذا كان لأجل امتلاك الارض
واستلابها وسلطة الملك ، فان مقتضاها ان من أعظم السفاكين للدماء حتى دماء النساء
والاطفال والبهائم جماعة من الأنبياء المقدسين وهم موسى ويشوع وداود عليهمالسلام ، فانظر أقلا «عد ٣١ ، ٧ ـ ١٩ ويش ٦ ـ ١٢ و ١ اي ٢٢ ، ٨».
وقل للمتكلف :
فإن كنت لا تدري
فتلك مصيبة
|
|
وإن كنت تدري
فالمصيبة أعظم
|
ثم اعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ٩٢» على ذكر السد في سورة الكهف في الآية ٩٢ ـ ٩٧ وجعله من خرافات الوثنيين
الوهمية.
وقال المتعرب «ذ»
ص ٥١ ان الإسكندر لم يبلغ تلك البلاد قط وان سور الصين متأخر عن زمان الاسكندر
بزهاء مائة سنة ، فإن قالوا ان القرآن أراد بذي القرنين الصعب ابن الرائش كما ذكره
أبو الفداء والبيروني ، قلنا : ان الصعب المذكور متأخر عن بناء السور بأكثر من
مائة وعشرين سنة وذلك بحسب أصح تقاويمهم.
قلنا : هب ان بعض
التواريخ المختلفة قد خالف نص القرآن الكريم ولكن لا يصح لمن يعرف قدره ان يعترض
على القرآن الكريم بما يخالفه من التواريخ المختلفة المضطربة ولو لم يوافقه بعضها
، فقد بينا ذلك وأوضحناه في تتمة الصدر والتمهيد من هذا الجزء ، وبيّنا فيه وجه
العيب التاريخي في الكتاب المنسوب الى الوحي ، وأشرنا الى الكتب التي ابتليت بذلك
، «فانظر صحيفة ٥٧».
* * *
وقال الله تعالى
في سورة مريم حكاية عن زكريا ٥ (وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا ٦ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).
فاعترض المتكلف
وقال «يه ج ص ٩٢» وكتاب الله يعلمنا ان زكريا وامرأته كانا بارين وسلما الأمر لله
ولم يخشيا من وارث ولا غيره.
قلت : ان انجيل
لوقا المتعرض لذكر زكريا يدل بأوضح دلالة على ان زكريا طلب من الله الولد ، حيث
يذكر ان الملاك قال لزكريا لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات
ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا «لو ١ ، ١٣».
وقول الملاك «لا
تخف لأن طلبتك قد سمعت الى آخره» صريح أو كالصريح في ان زكريا كان خائفا من أمر
يرتفع الخوف منه بإجابة طلبته وإعطائه الولد ، وإلا فلا معنى للتعليل .. وهذا من
نحو المعنى الذي ذكره القرآن الكريم ان لم يكن هو بعينه ، ولكن المتكلف ان كان
ينظر في كتبه اتفاقا فان تحامله على القرآن الكريم يحول بينه وبين واضحاتها ، ولا
يضر بذلك إلا نفسه وان القرآن الكريم لم يقل ان زكريا وامرأته لم يكونا بارّين ،
بل وصف زكريا بصفات الأبرار ولم يذكر في حقه انه قال لله : لما ذا أسأت ، أرسل بيد
من ترسل وإلا فامحني من كتابك ، أو أنه صنع العجل إلها يعبده بنو اسرائيل وبنى
مذبحا أمامه ، أو انه زنى بالمحصنة من نساء أصحابه وحاول أن يلصق حملها منه بزوجها
المسكين ثم سعى في قتل زوجها وتزويجها ، أو انه ذهب وراء آلهة اخرى وبنى المرتفعات
والسواري للأوثان ، أو أنه قال لله حقا انك خداعا «أو ...» بل حكى القرآن عن
زكريّا قوله (إِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) ولعله كانت له مداخلات مالية يخاف من مواليه أن لا ينجزوها
على حقها إذا اغتنموا ميراثه ، فطلب الولد ليكون هو وليه الذي ينجزها على حقها ،
فان الاعتبار والتجربة شاهدان على ان الولد أقرب لتنجيز مهمات والده في وجوه
أمواله.
وقد طلب زكريا من
الله أن يجعل ولده رضيا ، أو لأن مواليه كانوا من الكهنة الذين طالما ذمهم العهد
الجديد ، وكان زكريا يأمرهم بالمعروف واداء حق الكهنوت وحفظ الشريعة واحترام بيت
الله فخافهم أن ينقلبوا من ورائه ويعودوا الى سجاياهم فطلب من الله وليا وولدا
رضيا يرثه في هداه ووعظه لقومه واداء وظيفة الهدى.
وهب ان القرآن
الكريم قال : ان زكريا طلب الولد لمجرد المحافظة على أن لا يرث مواليه أمواله فليس
للكتابي أن يتفوه بالاعتراض على ذلك ويجعله خطيئة ينزه منها زكريا ، فإن زكريا
مهما كان لا يكون أكمل ولا أبر ولا أعرف من ابراهيم خليل الله ، وهذه توراتهم تفصح
عن انه جرى من ابراهيم في الحرص على الارث ما هو أشد من هذا ، حيث ذكرت ان الله جل
اسمه قال لابراهيم : لا تخف يا ابرام انا ترس لك اجرك كثير جدا ، فقال ابرام :
أيها السيد الرب ما ذا تعطيني وابن ملك بيتي هو اليعازر الدمشقي وقال ابرام : انك
لم تعطني نسلا وهو ذا ابن بيتي وارث لي «تك ١٥ ، ١ ـ ٤».
ودع عنك ما في هذا
الكلام من الرد على الله واحتقار عطاياه وأجره الكثير الموعود به مما عدا الولد
الوارث للمال حتى العطاء والأجر الكثير جدا في الآخرة.
وقال الله تعالى
في سورة آل عمران في شأن مريم أم المسيح عليهالسلام ٣٢ (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها
رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).
فأنكر المتكلف «يه
٢ ج ص ٣٦» ان زكريا كان يكفل مريم متشبثا لإنكاره ذلك بأنها كانت بنت هالي أو عالي
من نسل داود ، وأنكر على القرآن الكريم لأجل قول المفسرين بأن الله تبارك شأنه كان
يأتيها بفاكهة الجنة متشبثا بدعوى ان الجنة ليست محل أكل وشرب بل هي محل التسبيح
والتقديس وكل تنعماتها روحية ، واستند في ذلك الى دعوى قول المسيح اجمالا ولم
يذكره ولم يشر الى محله ، ثم قال ان هذه الاقوال مأخوذة من خرافات المسيحيين.
قلت : ان انجيل
المتكلف يصرح بأن امرأة زكريا كانت من بنات هارون ، وانها نسيبة مريم ـ أي شريكتها
في النسب ـ «لو ١ ، ٥ و ٣٦» ، ومقتضاه ان مريم هي من بنات هارون أيضا لأن أنساب
بني اسرائيل كانت على ما يقال محفوظة متمايزة بحسب أسباطهم ، ولم يذكر الإنجيل ان
مريم كانت بنت عالي أو هالي ، وإنما ذكر لوقا في نسب يوسف انه ابن هالي ، «لو ٣ ،
٢٣» ، ولكن بعضهم حاول أن يرفع التناقض الكثير بين متى ولوقا في نسب
المسيح من جهة نسب
يوسف ، فقالوا : ان لوقا نسب يوسف الى هالي أبي مريم.
وقد قدمنا في
الجزء الاول صحيفة ٢٣٧ ـ ٢٤١ ما تعرف منه ان هذه الدعوى من تلفيقات الأوهام
وتسويلات الخيال عند ضيق الخناق ..
دع هذا ولكن الباب
الأول من لوقا يؤكد انه كانت بين مريم واليصابات قرابة وعلاقة اتصال وعواطف ، فلما
ذا لا يكفي هذا في كفالة زكريا لمريم ، دع هذا وقل ما المانع لزكريا المؤمن البار
أن يتقرب الى الله بكفالة امرأة عذراء مؤمنة برة من بني اسرائيل ، ولا يلزم في
الكفالة أن تكون مضطرة يتصدق عليها بالقوت ، بل يكفي في ذلك قيامه بأمرها ورعايتها
وحمايتها ، فهل تمتنع هذه الكفالة بوجوهها في الدين والمروات عند من تقدمت الدنيا
بمعارفهم.
وأما الرزق الذي
قالت فيه مريم لزكريا (هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) فلما ذا لا يحمل المتكلف قول القرآن الكريم فيه على انه
رزق يبعثه الله الى مريم الصديقة البرة برحمته وقدرته ، كما يقول العهد القديم ان
الله سخر الغربان لإيليا فكانت تأتيه بخبز ولحم صباحا ومساء «١ مل ١٧ ، ٤ و ٦» ،
وكما هيأ له الكعكة «نوع من الخبز» وكوز الماء فنبهه الملاك للأكل والشرب حتى سار
بقوة تلك الأكلة أربعين يوما «١ مل ٩ ، ٥ ـ ٩».
وما ذا ينكر
المتكلف على المفسرين في قولهم ان ذلك الرزق لمريم كان من فاكهة الجنة ..
فلما ذا لا تكون
من جنة آدم المذكورة في التوراة «تك ٢ ، ٨ و ٩» ، فهل يقول المتكلف : ان تلك الجنة
قد يبست أشجارها ونابها الخراب فلم يساعد الوقت على غرسها وعمارتها ..؟ ولما ذا لا
تكون من الكرمة التي يشرب المسيح جديدا من نتاجها مع تلاميذه في ملكوت الله «مت ٢٦
، ٢٩ ومر ١٤ ، ٢٥ ولو ٢٢ ، ١٨» ، أو مما يأكل منه التلاميذ على مائدة المسيح في
ملكوته «لو ٢٢ ، ٣٠».
وأما قول المتكلف
ان الجنة ليست محل أكل وشرب بل كل تنعماتها روحية
كما قال السيد
المسيح ، فليس فيما تنقله الاناجيل عن أقوال المسيح ما يمكن التشبث به لهذه الدعوى
الا نقلها عن قوله ان أبناء القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله
في السماء «مت ٢٢ ، ٣٠ ومر ١٢ ، ٢٥» إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل
الملائكة ، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة «لو ٢٠ ، ٣٥ و ٣٦» فإن كان المستند
هو هذا فقد بينا لك في الجزء الاول صحيفة ٢٣٤ سقوط هذه الحجة ووهنها من جميع
أطرافها على حد ينبغي أن ينزه عن مثله آحاد أهل الأدب والمعرفة فضلا عن المسيح
رسول الله على انها لو تمت لما أمكن ان يراد انهم لا يأكلون ولا يشربون من حيث
انهم كالملائكة ، وذلك لأن التوراة تنافي هذه الدعوى حيث ذكرت مكررا ان الملائكة
أكلوا من ضيافة ابراهيم ومن ضيافة لوط «تك ١٨ ، ٨ و ١٩ ، ٣» وصدقت على ذلك رسالة
العبرانيين «١٣ ، ٢» ، وسيأتي التعرض إن شاء الله لذكر الجنة في الأجزاء الآتية
بحول الله وقوته.
وقال الله تعالى
في سورة آل عمران في شأن زكريا وبشارته ٣٦ : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا
رَمْزاً).
فاعترض المتكلف (يه
٢ ـ ج ص ٣٧) بأنه لم يفهم من الإنجيل ان زكريا طلب آية وبأن مدة صمته كانت تسعة
اشهر وثلاثة ايّام.
قلنا أولا : ان انجيل لوقا يذكر ان زكريا قال للملك الذي بشره : كيف
اعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها ، فقال له الملاك وها أنت تكون
صامتا ولا تقدر أن تتكلم لأنك لم تصدق كلامي «لو ١ ، ١٨ و ٢٠» ، فقوله : كيف أعلم
هو طلب لما يحصل به العلم ، ولكن القرآن الكريم كلام الله ذكر الواقعة على الحقيقة
المناسبة لبر زكريا وايمانه حيث انه طلب من الله الآية ليزداد ايمانا ويطمئن قلبه
باستجابة دعائه ، فان زكريا أجلّ من يقول لله أو بالملك «كيف أعلم هذا» ولا يصدق
الملك في بشارته.
وثانيا
: ان القرآن الكريم
كلام الله لم يكن متبعا في وحيه مضطربات العهدين في منقولها ولا معتنيا بإنجيل
لوقا ، كيف ولو كان كذلك لمجد المسيح بما يذكره لوقا من وقوف الخاطئة عند قدميه
وهي باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما
بالطيب فشكر لها صنيعها
وكثرة حبها حتى
باهى به الفريسي «لو ٧ ، ٣٦ ـ ٤٨».
وثالثا
: ان كتب العهدين قد
اضطربت واختلفت كثيرا فيما يرجع الى العدد فلم يقدح ذلك عند المتكلف في زعمه انها
كتب وحي صادقة ، فمن الظلم الفاحش اعتراضه على القرآن الكريم إذا خالف أحدها ، فانا
نذكرك بما ذكرناه في هذا الكتاب من اختلاف العهدين واضطرابهما في العدد ، فمن ذلك
حكاية الملائكة الذين جاءوا الى ابراهيم وذهبوا الى سدوم فجاءوا الى لوط حيث
جعلتهم التوراة ثلاثة ثم اثنين ثم واحدا فانظر «تك ١٨ و ١٩» ومن ذلك إقامة بني
اسرائيل وتغربهم في مصر حيث جعلته التوراة أربعمائة سنة «تك ١٥ ، ١٣» ، وكذا العهد
الجديد «١ ع ٧ ، ٦» ، ثم جعلته أربعمائة وثلاثين سنة «خر ١٢ ، ٤٠» ، وجعلها العهد
الجديد أقل من ذلك بكثير «غل ٣ ، ١٧».
ومن ذلك اختلاف
النسخة العبرانية والنسخة السبعينية في اعمار آباء السلسلة من آدم الى ابراهيم ،
كما ذكرنا في تتمة الصدر من هذا الجزء ، ومن ذلك حكاية الاعمى والاعميين ،
والمجنون والمجنونين.
ومكث المسيح في
بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ويوم وليلتين ، انظر الجزء الأول صحيفة ٢٥٢ ـ ٢٥٧
، ودع عنك سائر ما ذكره إظهار الحق.
* * *
وقال الله تبارك
اسمه في سورة مريم في شأن حملها الطاهر بالمسيح وولادتها المقدسة ٢٢ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ
مَكاناً قَصِيًّا ٢٣ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا
لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ٢٤ فَناداها مِنْ تَحْتِها
أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ٢٥ وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ٢٦ فَكُلِي وَاشْرَبِي
وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً ٢٧ فَقُولِي إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ٢٨ فَأَتَتْ
بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ٢٩
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
٣٠ فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
٣١ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).
فأنكر المتكلف ذلك
«يه ٢ ج ص ٩٢ و ٩٣» وزعم ان القرآن نسب الى مريم قصة هاجر أم اسماعيل ، وان مريم
ولدت المسيح في بيت لحم اليهودية ، ولم تكن في البرية ، ولم تهز جذع النخلة ، ولم
يضرب ملاك ولا غيره الأرض برجله ، ولم تنذر لله السكوت ، وان هذه الأمور من خرافات
المسيحيين ، وان كلام المسيح وهو طفل مأخوذ من خرافات المسيحيين.
قلنا : لا يلزم أن
نقول ان جزم المتكلف في انكاره هاهنا لا يليق إلا من نبي مؤيد مصدق أو ممن يعتمد
فيه على برهان قاطع ، بل نقول : ينبغي أقلا أن يكون من معروف بالأمانة وصدق اللهجة
والمعرفة بمواقع الكلام وكتب ديانته ، سالم من داء التعصب والبواعث الردية
والتحريف والتغافل أو الغفلة عما في كتب ديانته ، غير معروف باضداد ذلك ، ولا نقول
أكثر من ذلك بل نجعل الحكم لمن ينظر في مباحثات كتابنا هذا.
ولا تقل ان
المتكلف اغتر واعتمد في إنكاره على أناجيله لأنا نخبرك بأنه لم يتعرض من أناجيله
لهذا الحال إلا انجيل لوقا وهو لا ينفي شيئا مما ذكره القرآن الكريم ، فانظر «لو ٢
، ١ ـ ٨».
ولا تقل أيضا ان
المتكلف اعتمد في ذلك على أحكام المجامع وإصلاحه الديني من ناشئة البروتستنت ،
فإنه لا يخفى عليك انه ليس من ولاية المجامع والإصلاح إنكار وقوع الحوادث الممكنة
في قدرة الله كرامة لأوليائه ، بل غاية ما يسع المجامع ان تنكر كون الكتاب المشتمل
عليها كتابا قانونيا فيكون بذلك كتاب تاريخ أو مجموع تقاليد ، نعم ان سياسة
البروتستنت اقتضت أن يطرحوا التقاليد المسيحية ويطووا غثها على سمينها ، ولكن ذلك
كله لو استقام لما كان فيه جزم بنفي ما أنكروه ، بل غايته الاعراض عنه لشكهم فيه
خصوصا أو في ضمن العموم ، فإن الجزم بنفي وقوع الشيء لا يسوغه الأدب والعقل إلا
بإقامة البرهان على عدمه أو امتناعه ..
ولا اظنني اخطىء
إذا قلت ان هذا الإنكار الجزمي من المتكلف وقوله : ان هذه الأمور من خرافات
المسيحيين إنما جاءه من عدوى داء الطبيعة فاستحكم فيه وسخر افكاره بتعليمه ، وإلا
فلما ذا تكون منقولات المسيحيين في شأن
كرامات مريم
والمسيح من الخرافات ، أو ليس المسيحيون أسلاف المتكلف وحملة ديانته.
ثم نقول : ان قصص
الاناجيل في شأن ولادة المسيح تجد فيها في هذا الخصوص خللا من وجوه.
الأول
: ان متى ولوقا
المتعرضين لذلك قد اهمل كل واحد منهما شطرا مما ذكره الآخر ، فمتى اهمل ما ذكره
لوقا في شأن مجيء الملاك جبرئيل في الناصرة الى مريم وبشارته لها بالمسيح ومكالمته
معها ، وجوابها له وذهابها الى جبال يهوذا الى اليصابات ومكالماتهما «لو ١ ، ٢٦ ـ ٥٧»
وكذا ذهاب يوسف ومريم من الجليل الى بيت لحم لأجل الاكتتاب ، وبشارة الملاك للرعاة
وشأن مجيئهم الى المسيح ، ورجوع يوسف ومريم بالمسيح الى الجليل الى الناصرة بعد ما
أكملوا أحكام الولادة في أورشليم فرجعوا منها الى الناصرة «لو ٢ ، ١ ـ ٤١».
ولوقا اهمل ما
ذكره متى في شأن المجوس مع هيرودس ومع المسيح ، والوحي ليوسف بعد انصراف المجوس
بأن يهرب بالمسيح الى مصر فهرب به ليلا سرا ، وقتل هيردوس للأطفال في بيت لحم ،
ورجوع يوسف بالمسيح من مصر بعد ما مات هيردوس الى أرض اسرائيل ، وخوفه من ارخيلاوس
أن يذهب به الى اليهودية فانصرف الى الجليل الى الناصرة «مت ٢ ، ١ ـ ٢٣».
الثاني
: تناقض متى ولوقا
في شأن المسيح بعد ولادته ، فمتى يذكر ان يوسف بعد انصراف المجوس من زيارة المسيح
في بيت لحم هرب به الى مصر وبقي هناك الى أن مات هيرودس فرجع به الى أرض اسرائيل «مت
٢ ، ٧ ـ ٢٢».
ولوقا يذكر ان
يوسف ومريم والمسيح بقوا في بيت لحم الى أن تمت أيام تطهير مريم «وهي ثلاثون يوما
، لا ١٢ ، ٢ ـ ٢٤» ، فصعدوا به الى اورشليم ليقدموا ذبيحة ، كما قيل في التوراة ،
ولما أكملوا شريعة ولادة البكر بمقتضى التوراة رجعوا الى الجليل الى مدينتهم
الناصرة ، «لو ٢ ، ٢٢ ـ ٤٠».
فمقتضى متى انه
بعد انصراف المجوس من بيت لحم كان لا يمكن أن
يؤتى بالمسيح الى
اورشليم لأن هيرودس بسبب أخبار المجوس كان يطلبه ليهلكه ، بل هربوا به بمقتضى
الوحي من هناك سرا الى مصر الى أن مات هيرودس ، وعلى ذلك كيف يمكن أن يؤتى به الى
اورشليم ، ويتنبأ عنه سمعان وحنه كما ذكره لوقا ، ولوقا يذكر انهم جاءوا بالمسيح
من بيت لحم الى اورشليم لكي يجروا شريعة ولادة البكر ثم رجعوا من اورشليم الى
مدينتهم الناصرة.
الثالث
: يذكر متى ان يوسف
لما رجع من مصر أراد الرجوع بالمسيح الى بلاد اليهودية ولكنه خاف من ارخيلاوس أن
يذهب الى هناك فأوحى إليه أن يذهب الى نواحي الجليل ، وأتى وسكن في مدينة يقال لها
ناصرة لكي يتم ما قيل بالأنبياء انه سيدعى ناصريا.
ومقتضاه ان
الناصرة لم تكن وطن يوسف ومريم ومسكنا لهما قبل ذلك ، بل بعد الرجوع من مصر صارت
لهم دار هجرة وفرار بالمسيح لكي يتم ما في الأنبياء.
ولوقا يذكر ان
الناصرة كانت قبل ذلك وطن مريم ويوسف وفيها حبلت مريم ، ومنها صعدا الى بيت لحم
لأجل الاكتتاب وإليها لكونها مدينتهم رجعوا من اورشليم.
ثم نقول للمتكلف :
أبمثل هذه الكتب تعترض على القرآن الكريم كلام الله ، أفلم يكن عليك في ناموس
الأدب والإنصاف أن تقول أو تظن أو تحتمل ان مخالفة كتبك للقرآن الكريم كمخالفة
بعضها لبعض ، وان غفلتها عما فيه كغفلة بعضها عما في البعض الآخر.
أفتقول ان المسيح
افتداك حتى من لعنة هذا الناموس ، فبأي نبوة وبأي إلهام تنكر ما يذكره القرآن
الكريم ..
ثم نقول مجاراة لك
في إعجابك بأناجيلك المضطربة المختلفة ان القرآن الكريم قال : (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) ، وهذا لا يأبى الانطباق على هجرتها الى بيت لحم كما يذكره
لوقا.
ولم يقل القرآن
انها تاهت في البرية ، وقال : (فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ
النَّخْلَةِ) ، وهذا يقربه ما يذكره لوقا من ان مريم لم يكن لها موضع في
المنزل حتى انهم التجئوا الى وضع المسيح في المذود ـ أي الآخور ـ ، ومن كانت هكذا
وهي من ذوات العفة والحياء فلا تسعها الولادة في هذا المنزل الضيق بكثرة أهله لا
بد لها من أن تفر بولادتها الى موضع خال من الأجانب ، فإن زعم المتكلف انه لا يوجد
في تلك النواحي نخل قلنا : ان انجيل يوحنا يقول ان الكثيرين في اورشليم أخذوا سعوف
النخل وخرجوا للقاء المسيح «يو ١٢ ، ١٢ و ١٣» ، وان بيت لحم يعد من ضواحي اورشليم
... وأما كرامة الله لمريم بإحياء النخلة واثمارها لتأكل منها وتقر عينها ،
فالمتكلف جدير بإنكاره فإنه لا نفع له فيه.
نعم لو ذكر القرآن
الكريم «ان مريم جاعت فانفتحت السماء ونزل عليها اناء فيه كل دواب الأرض والزحافات
والطيور ، وقيل لها اذبحي وكلي فقالت كلا يا رب اني لم آكل قط شيئا دنسا أو نجسا
فقيل لها ما طهره الله فلا تدنسيه أنت «ا ع ١٠ ، ١٠ ـ ١٦».
وراغم بذلك شريعة
التوراة وأشار به الى بطلانها لقال المتكلف : نعم هذا هو الحق لكي ينتفع بها في
التمسك بعوائد الوثنية وإبطال شريعة التوراة وعيبها والرد عليها في نهيها عن لحوم
كثير من الحيوانات وتنجيسها ، فإن قال المتكلف : ان اخضرار الجذع واثماره ونضج
ثمرته في زمان قليل هو من الخرافات الخارجة عن حد المعقول «قلنا» لا نبهظه بذكر
العقل والمعقول ، ولكن توراتكم تقول : ان عصا هارون وضعها موسى في خيمة الشهادة
وفي الغد وجدها قد أفرخت فروخا ـ أي أغصانا ـ ، وأزهرت زهرا وأنضجت لوزا «عد ١٧ ،
٧ ـ ١١».
وصدق على ذلك
العهد الجديد «عب ٩ ، ٤» ، فإن قال المتكلف ان حديث العصا في العهدين أيضا خرافة
خارجة عن حد المعقول «قلنا» إذا قرة عيناه بالعهدين وقرة عيون العهدين به
وببشارته.
وقس على ذلك
إنكاره لتكلم المسيح في المهد وكيف لا يصر على ذلك والقرآن يذكر ان المسيح (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ).
وأما نذر مريم
للصوم وانها لا تكلم أحدا ، فأي برهان قائم على عدم
وقوعه ، وهل هناك
إلا أن انجيل متى ولوقا لم يذكراه ، فلما ذا لا يقال انهما غفلا عنه كما اهمل كل
منهما كثيرا مما ذكره الآخر.
واعترض المتعرب
أيضا وقال «ذ» ص ٥٧ : جاء في القرآن ان الله أمر مريم ان تقول كذبا انها نذرت
للرحمن صوما فلن تكلم اليوم إنسيا ، وهي لم تكن صائمة بدليل أمره إياها في العبارة
نفسها ان تهز إليها بجذع النخلة تساقط عليها رطبا جنيا فتأكل وتشرب وتقر عينا ،
وبعد فإن أمره إياها أن تقول انها صائمة لا تتكلم كلام متناقض لأن الصائم لا يتكلم
، فإن قالت ما أمرها بقوله فقد تكلمت.
قلنا : ان للكلام
مجاريا ودلالات عرفية التزامية لا يجحدها غير المعاند أو الغبي .. فلا يخفى ان
المولى إذا قال لعبده إذا جاءك فلان وأراد منك شيئا فقل له : إني ملتزم لمولاي بأن
لا أعطيك ، فان كل من يفهم الكلام يفهم من هذا ان المولى قد أمره في مضمون كلامه
بأن يلتزم.
فكلام الله دال
بمضمونه على أمر مريم بأن تنذر السكوت ، وأيضا إذا قال المولى لعبده : إذا جاءك
أحد فقل له بالقول اللفظي : اني ملتزم بأن لا اكلمك فمعناه الأمر بأن يلتزم أن لا
يكلم أحدا بغير هذا القول المتكفل بالبيان ، فيكون هذا القول غير داخل من أول
الأمر في الكلام المأمور بتركه بل المأمور بتركه هو ما بعد هذا القول وما عداه من
الكلام.
فقول مريم (إِنِّي نَذَرْتُ ...) الخ» غير داخل من أول الأمر في الكلام المأمور بنذر تركه ،
هذا إذا كان المراد من القول في الآية الكريمة هو القول اللفظي ، وأما إذا اريد
منه الإشارة الى معاني هذه الألفاظ وعبر عنها بالقول مجازا لأجل افادة الإشارة
فائدته فلا حاجة إذا الى الاستثناء ، فدعوى التناقض في هذا المقام إنما هي من
تناقض السجية ، والبواعث مع دعوى الأدب وحرية الضمير ..
وأيضا ان وقت
الصوم المنذور لم يكن هو وقت اكلها من الرطب ، بل كان وقته حينما ترى الناس وترجع
إليهم ويسألونها عن شأنها ، فهو غير الوقت
الذي اكلت فيه
الرطب ، بل حينما وضعت المسيح في المهد وسألها الناس عن شأنه فأشارت إليه.
«مائدة المسيح»
وقد ذكر القرآن الكريم قصة انزالها من السماء بطلب التلاميذ كما في سورة المائدة
١١٢ ـ ١١٥.
فاعترض المتكلف
على ذلك ، وأنكر حقيقة هذه المائدة ، انظر «يه ٢ ج ص ٤٤».
وما السبب في ذلك
إلا خلو أناجيله من ذكرها على الوجه الذي بيّنه القرآن الكريم ، ولو تحرى المتكلف
رشدا لما اغتر بخلو أناجيله ، فانا لو أغمضنا النظر عن أحوالها وتغافلنا عن
مشغوليتها عن الاستقصاء في تمجيد المسيح بذكرها لما ينافي قدسه كما مر في أشتات
الكتاب لقلنا : ان اختلافها في منقولاتها يشهد على ان كل واحد منها قد فاته ذكر
كثير من المهمات من أحوال المسيح وآياته وتعاليمه ودلالاته.
فإن متى ومرقس
ولوقا قد فاتها ما ذكر يوحنا من حكاية قلب الماء خمرا في قانا الجليل ، وقد ذكر
انها بدء الآيات «يو ٢ ، ١ ـ ١٢» ، فهي إذا بشارة الدعوة وطليعة المعجزات وهلال
الحجة.
وفاتها أيضا ما
ذكره من احياء لعازر من الموت «يو ١١ ، ١ ـ ٤٥» ، وهي واقعة ينبغي ان يكون لها دوي
في جميع الاناجيل ، لامتيازها عن سائر ما ذكرته ...
وفاتها أيضا ما
ذكره من البشارة بمجيء المعزى «يو ١٤ ، ١٥ ـ ١٦ ، ١٦» مع انها ناموس البشائر وأساس
التعليم.
وان متى ومرقس
ويوحنا قد فاتها ما ذكره لوقا من احياء المسيح لابن الأرملة في نايين «لو ٧ ، ١١ ـ
١٧».
وحكاية لعازر
والغني وابراهيم في عالم الأموات الذي يسميه المسلمون بالبرزخ «لو ١٦ ، ١٩ ـ ٣١»
مع ان مثل هذا أهم ما يكون في البيان لأجل
الموعظة والترهيب
وكشف الحقائق والتثبيت على الإيمان والترغيب في الصبر والزهد والورع.
وان مرقس ولوقا
ويوحنا قد فاتها ما ذكره متى من حديث المجوس ومجيئهم في طلب المسيح والنجم الذي
كان يتقدمهم في السير حتى وقف حيث كان المسيح «مت ٢ ، ١ ـ ١٢» ، ، مع ان ذلك من
أكبر البشارات والدلالات والإرهاصات ..
وفاتها أيضا ما
ذكره من حديث تفتح القبور عند حادثة الصليب ، وقيام كثير من أجساد القديسين الموتى
ودخولهم المدينة المقدسة وظهورهم لكثيرين «مت ٢٧ ، ٥٢ و ٥٣».
وان متى ولوقا
ويوحنا قد فاتها ما ذكره مرقس عن المسيح من بيان الآيات التي تتبع المؤمنين وهي
انهم يخرجون الشياطين ويتكلمون بألسنة جديدة يحملون حيّات ، وإن شربوا شيئا مميتا
لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون «مر ١٦ ، ١٧ و ١٨».
وهذه علامات بآيات
تبصر المرتاب ، وتقيم الحجة وتقطع المعاذير ، لو صحت الأحلام.
فنقول : ان القرآن
الكريم ذكر بوحيه من حقيقة المائدة ما فات الأناجيل الأربعة ، لو ان مضامينها كانت
وحيا .. فما بال القلوب التي في الصدور.
ومن الظرائف ان
المتكلف «يه ٢ ج ص ٤٤» لج في إنكار مائدة المسيح وقال : بل المائدة التي نزلت من
السماء نزلت على بطرس أحد الحواريين فانه كان جائعا ، ونزلت مائدة فيها من كل دواب
الأرض والزحافات وطيور السماء وكانت الغاية منها أن يعلمه الله ان دعوة الإنجيل
عامة ، كما في سفر الأعمال ص ١٠ ، ولكن المتكلف لم يذكر تتمة الحديث في المائدة
التي ينسبها كتابه لبطرس ، فكأنه شعر بما فيها من البشاعة والسخافة من حيث العيب
لشريعة موسى والاعتراض عليها في تنجيسها للحوم بعض الحيوانات ، فإن تتمة ما ذكره
في مائدتهم المنسوبة لبطرس هكذا.
وصار إليه صوت :
قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : كلا يا رب لأني لم آكل قط شيئا دنسا أو نجسا فصار
إليه أيضا صوت ثانية ما طهره الله لا تدنسه أنت ، وكان هذا على ثلاث مرات «١ ع ١٠
، ١٠ ـ ١٧ ، و ١١ ، ٥ ـ ١١».
أفلا تعلم من هذا
الكلام ان هذا الوحي الكذائي الذي ذكره فلان الاممي لا بطرس الاسرائيلي يقول : ان
هذه الحيوانات قد طهرها الله فتدنيسها إنما هو بشري على خلاف ما عند الله.
وعلى ذلك جرى قول
العهد الجديد : لا يصغون الى خرافات يهودية ووصايا اناس مرتدين عن الحق كل شيء
طاهر للطاهرين ، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا بل قد تنجس ذهنهم أيضا
وضميرهم «تي ١ ، ١٤ و ١٥» ليس شيء نجسا بذاته الا من يحسب شيئا نجسا فله هو نجس «رو
١٤ ، ١٤» تفرض عليكم فرائض لا تمس ولا تذق ولا تجس التي هي جميعها للفناء في
الاستعمال حسب وصايا وتعليم الناس «كو ٢ ، ٢٠ ـ ٢٣».
* * *
«أصحاب الكهف» وقد
ذكر الله جل شأنه قصتهم في سورة الكهف الآية ٨ ـ ٢٣.
والمتكلف «يه ٢ ج
ص ٨٩» جعل قصتهم من خرافات المسيحيين المذكورة في كتب اليونان ، وادعى ان حقيقة
هذه الحادثة التاريخية هي قصة «انبابولا» من أهل الاسكندرية.
ومرجع كلام المتكلف
هذا الى ان الله جل اسمه محجور على أعمال قدرته وألطافه مع أوليائه حتى تخرج له
الاذن ممن تأخر من مؤرخي ناشئة البروتستنت وإلا فما يكتبه القدماء هو من خرافات
المسيحيين خصوصا إذا كتبوه في تاريخ الكنيسة وخصوصا إذا كتبه الكاتبون من كبار
المسيحيين وخصوصا إذا ذكره القرآن الكريم.
وليت شعري لما ذا
صار نقل المسيحيين لواقعة أصحاب الكهف خرافة أو
ليس المسيحيون هم
أسلاف المتكلف الذين عنهم أخذ وعليهم اعتمد حتى انه صار يتشبث لصحة كتاب برمته
باستشهاد واحد منهم بفقرة من ذلك الكتاب ، أو تجيء في كلام واحد منهم فقرة مشابهة
لفقرة من ذلك الكتاب فانظر «يه ١ ج ص ١٤٣ ـ ١٥٧».
«والحاصل» ان
كثيرا من الناس لم يجروا في المنقول على طريقة مستقيمة ، فتارة تراهم يقبلون
الخرافات الكفرية ويقطعون بنسبتها الى الوحي ويغضون الطرف عما في سند كتابها من
التمزيق والهرج والمرج خصوصا في تلك الخرافة بل تراهم يتشبثون لها بقول فلان
واستشهاد فلان ، وإن كانت كتبهم قد قاءتها مرارا عديدة ثم يوجرها العناد في حلقها
، ورفضها مصلحوهم فراغمهم اتباعهم بالاحتفال بها ، فانظر «يه ٣ ج ص ٢٧٤ ـ ٢٧٧».
وتارة يقطعون
بنسبة الكتاب الى الوحي ويحامون عنه ومع ذلك يقطعون بأن جملة وافرة منه ليست من
الوحي وما هو صريح بالعيان والوقوع يجعلونه من الرؤيا والتوهم فانظر الجزء الاول
٣٤٣ ـ ٣٤٤.
أو يقطعون بأن
الشطر الكثير من كتبهم في الآيات والدلائل إنما كان كذبا ومداهنة للرأي العام
الغلط ، كما امتلأ العهد الجديد بهذا النحو في آيات المسيح والرسل بحديث الأرواح
النجسة ، فانظر في هذا الجزء الى الكلام على خلق الجان صحيفة ٩٠ ـ ٩٥.
«وخلاصة الكلام»
لو ان أحدا كتب تصوير أصحاب الكهف وخيال كهفهم على حجر ورسم الى جنبه صليبا أو بعض
صور القديسين وأودع ذلك الحجر في بعض الآثار العتيقة فوجده بعض الأوربيين لكانت
قصة أصحاب الكهف من الحقائق التي لا ريب فيها وخصوصا إذا اعطيت الاجرة الوافرة
فكتب ذلك في صدر الجرائد والمجلات الشهيرة ، نعم وتحتمل مع ذلك ان داء المضادة
والمحادة للقرآن يقتضي عدم التجاهر بتصديقها ، وهذا هو الداء الذي الجأ المتكلف
وأمثاله الى تكذيب أسلافه المسيحيين لهذه الواقعة حتى سماها خرافة.
* * *
وقال الله تعالى
شأنه في أول سورة الاسراء (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ).
والمتكلف يريد أن
يعترض على معراج رسول الله «ص» الى السماء فاعترض على هذه الآية الكريمة «يه ٢ ج ص
٨٥» وقال وقصة المعراج هذه اخذت من كتب الفرس ومن خرافات اليهود القديمة فانها
مذكورة في كتبهم ٤٠٠ سنة قبل الهجرة.
قلنا : ان هاهنا
حقيقتين «إحداهما» الاسراء برسول الله «ص» من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى
الذي بارك الله حوله ، «وثانيتهما» عروجه صلوات الله عليه الى السماء ، والآية
المذكورة إنما تعرض لفظها للحقيقة الاولى ، فالاعتراض عليها من حيث الحقيقة
الثانية إنما هو من سوء الفهم.
أما الاسراء الى
بيت المقدس فلا ينبغي أن يختلج الشك في إمكانه في قدرة الله إلا أن تأتينا دواهي
الأيام بمن يطرح عقله ودينه وأدبه ويقول : «واستغفر الله» ان هذه القدرة مختصة
بإبليس حيث تنقل بالمسيح من البرية مرة الى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في
طرفة عين ، ومرة اخرى الى جناح الهيكل «مت ٤ ، ٥ ـ ٩ ولو ٤ ، ٥ ـ ١٠».
وقد أعطى رسول
الله لقريش علائم شاهدها حال الاسراء به كنفار بعض إبلهم في طريق الشام وأسمائها
وأوصافها وكلام أصحابها ، فلما وردت القافلة بعد أيام تحقق المشركون من ذلك ما
ارغم آنافهم وألقمهم حجرا. وأما الحقيقة الثانية فإنه وإن شك فيها بعض بواسطة
سفاسف قد قيلت في الطبيعيات والهيئة القديمة مما لا يختص شططه بالجحود لحقيقة
المعراج ، بل أول ما يعود الى الالحاد والجحود لقدرة الله وإرادته واختياره.
والكلام على هذه
إنما يلزم في مقابلة الطبيعي الملحد ، وسيجيء إن شاء الله في المقاصد.
وأما من يتظاهر باليهودية
والنصرانية فيكفينا أن نحتج عليه في إمكان الصعود الى السماء ووقوعه بكتبه التي
ينسبها الى الوحي حيث تذكر صعود البشر
الى السماء مكررا
، فلا يبقى في أمر المعراج إلا المطالبة بالحجة على وقوعه ، ومرجع ذلك الى الحجة
على صدق النبي «ص» الذي اخبر به في دعوى النبوة ...
أما ما جاء في
العهدين من أمر الصعود الى السماء فقد جاء في صراحة الملوك الثاني «٢ ، ١ و ١١» ان
ايليا صعد الى السماء.
وجاء في الاناجيل
ان المسيح صعد بجسمه الى السماء «مر ١٦ ، ١٩ ولو ٢٤ ، ٥١».
وعن كورنتوش
الثانية عن بولس في مقام افتخاره «١٢ ، ٢ ـ ٥» اعرف إنسانا في المسيح قبل أربع
عشرة سنة أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم ، الله يعلم اختطف هذا الى
السماء الثالثة واعرف هذا الإنسان أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم الله يعلم انه
اختطف الى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ للإنسان أن يتكلم بها.
وهذا الشك منه لا
يصح إلا مع تجويزه لصعوده بجسده الى السماء الثالثة وإلى الفردوس.
وأيضا في شأن «حنوك»
ـ أي ادريس المسمى في العهد الجديد اخنوخ ، جاء في التوراة ان الله أخذه «تك ٥ ،
٢٤» ، وفي العهد الجديد ان الله نقله لكي لا يرى الموت «عب ١١ ، ٥» ، والمعروف ان
المراد من هذا الكلام اصعاده الى السماء ..
هذا وان المعلوم
من دين الإسلام ان رسول الله «ص» أخبر بعروجه بجسده الشريف الى السماء ، فالحجة
على نبوته حجة على وقوع ما اخبر به ، كما ان صعود حنوك وايليا والمسيح يتوقف
التصديق به على العلم باخبار النبوة به ، وكذا الصعود الجسماني أو الروحاني الذي
نسبت دعواه الى بولس.
«فإن قلت» : إذا
كان الصعود الى السماء مذكورا في العهدين بهذا التكرار فلما ذا يقول المتكلف ان
المعراج مأخوذ من خرافات اليهود القديمة ، «قلت» ان شئت أن تقول انه لا يدري بما في
كتبه ، وإن شئت أن تقول انه يريد أن يموه
على البسطاء ، ومن
لم يطلع على العهدين ويغشهم بأن دعوى الصعود الى السماء دعوى ابتدائية لم يتفق لها
حقيقة ، فيتيسر له بزعمه أن يقول لهم : انها خارجة عن حد المعقول ..
«فإن قلت» : لعل
المتكلف يدعي انحصار الصعود الى السماء بصعود المسيح ويحتج لدعواه بقول انجيله
نقلا عن قول المسيح : ليس أحد صعد الى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الانسان
الذي هو في السماء «يو ٣ ، ١٣» ، «قلت» : لا نحتاج الى ان ننبهك على حال الاناجيل
، ونذكرك بما ذكرناه من تناقضها واختلافها ونسبتها الى المسيح ما لا يرضاه له من
يحبه ويعتقد بإيمانه وكماله وصلاحه ، على ان هذا بل بعضه يكفي في بطلان هذا التشبث
الواهي ، بل نقول ان هذا المنقول كذب على المسيح لأن هذا الكلام يكذبه العهدان ،
فانه ان اريد منه الزمان الماضي بالنسبة الى حال التكلم كما يقتضيه لفظ «صعد» فانه
يكذبه العهد القديم بما يذكره من صعود ايليا ، وهو كاذب أيضا بنسبة الصعود الى
المسيح لأنه حينئذ لم يكن قد صعد الى السماء ، وهو مع كذبه من هاتين الجهتين لا
يمس معراج رسول الله بشيء من أوهام النفي ، وإن اريد منه ما يعم الماضي والمستقبل
رغما على اللفظ فانه يكذبه أيضا صعود ايليا وكلام بولس في صعوده الى السماء
الثالثة ، فانه لو كان هذا الكلام صادقا لما صح لبولس أن يتردد في صعوده بين كونه
في الجسد أو خارج الجسد.
وأيضا ما معنى
قوله ابن الإنسان الذي هو في السماء ، فهل في السماء إنسان يكون المسيح ابنه.
* * *
وقد اقسم الله جل
شأنه في جملة من فواتح السور بأشياء من بدائع صنعه إذ كانت مظاهر قدرته وآثار
رحمته ووسائل نعمه ، فاقسم بها تنويها بآثار القدرة في خلقها وتنبيها الى أسرار
النعمة فيها وإعلاما بتشرفها بشرف الآثار وجلالة أسرار الآلاء.
فقال جل اسمه
مخاطبا لرسوله «ص» : (يس وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) ، وقال جل اسمه : (وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ، وقال جل شأنه : (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ) ـ وهما أظهر ثمار
الارض المقدسة ـ (وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا
الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) .. ونحو ذلك من الاقسام.
فاعترض المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠٨» بقوله : والمسيح يعلمنا ما نصه لا تحلفوا البتة لا بالسماء لأنها كرسي
الله ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم ، ولا
تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء ، بل ليكن كلامكم نعم
نعم لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير «مت ٥ ، ٣٤ ـ ٣٧» يعني ان الحلف هو من
عمل الشيطان والقرآن يحلف بكل شيء.
قلنا : ان الذي
أقسم بهذه الأقسام في القرآن هو الله جل جلاله ، فهل يقول المتكلف ان الله جل شأنه
محكوم لإنجيل متى ، مع ان العهدين يذكران ان الله جل اسمه اقسم بذاته لإبراهيم «تك
٢٢ ، ١٦» وبقدسه لداود «مز ٨٩ ، ٣٥» ، وباسمه العظيم ليهوذا «ار ٤٤ ، ٢٦» وبيمينه
وذراع عزته لصهيون «ا ش ٦٢ ، ٨» وبغضبه لبني اسرائيل «مز ٩٥ ، ١١» وبفخر يعقوب «عا
٨ ، ٧» ، وذكر أيضا لله أقساما كثيرة فانظر «لو ١ ، ٧٣ و ١ ع ٢ ، ٣٠ وعب ٧ ، ٢١»
وغير ذلك ..
وان القسم هو
توسيط العظيم في تثبيت الكلام وتأكيد مضمونه ، وقد يقصد به مع ذلك معنى آخر وهو
التنبيه على عظمة المحلوف به والتنويه بشأنه ، كما تقول المزامير ان الله اقسم
بغضبه ، فإن المراد من غضبه جل شأنه هو انتقامه وتنكيله بمن يعصيه لأنه جل جلاله
منزه عن عروض صفة الغضب كما تعرض للبشر ، فأراد الله بقسمه بغضبه أن ينبه الى عظمة
نقمته وشرف شأنها في التأديب والتوبيخ وقطع دابر المفسدين.
ونحو ذلك ما
ذكرناه عن اشعيا من ان الله اقسم بيمينه وذراع عزته ، فان المراد من ذلك آثار
قدرته في نعمته ونقمته جلت عظمته ، وبهذا الاعتبار اقسم الله في القرآن الكريم
بالقرآن الحكيم والأماكن المقدسة مظاهر البركة والرحمة كما
نبهنا عليه في أول
العنوان.
ولا بأس أن نتعرض
لنهي انجيل متى عن حلف البشر ، فنقول : ان العهد القديم جعل الحلف بالله نحوا من
العبادة والاعتراف بإله الحق وتوحيده فقد جاء فيه الرب إياه تعبد وباسمه تحلف «تث
٦ ، ١٣ ، و ١٠ ، ٢٠» يفتخر كل من يحلف به «مز ٦٣ ، ١١» والذي يحلف في الارض يحلف
بإله الحق «ا ش ٦٥ ، ١٦» كيف اصفح لك عن هذه ، بنوك تركوني وحلفوا بما ليست آلهة «ا
ر ٥ ، ٧» ويكون إذا تعلموا علما طرق شعبي ان يحلفوا باسمي حي هو الرب «ا ر ١٢ ، ١٦»
وكثير من نحو ذلك.
وجاء أيضا : إذا
نذر رجل نذرا للرب أو اقسم قسما أن يلزم نفسه بلازم ، فلا ينقض كلامه بكل ما خرج
من فمه يعمل «عد ٣٠ ، ٢».
وجاء في متى (٥ ،
٣٣» أيضا قد سمعتم انه قيل للقدماء : لا تحنث بل أوف للرب اقسامك ٣٤ وأما أنا
فأقول لكم لا تحلفوا البتة بالسماء لأنها كرسي الله ٣٥ ولا بالأرض لأنها موطئ
قدميه ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم ٣٦ ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن
تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء ٣٧ ، بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا وما زاد عن ذلك
فهو من الشرير ..
وهذا الكلام ان
كان المراد منه تحريم القسم مطلقا صادقا كان أم كاذبا ، فهذا الاحتجاج فيه لا
يستقيم وذلك لوجهين «أحدهما» أنّ القسم إنما يكون بما له شأن وجهة عظيمة ، وان كون
السماء كرسي الله هي المصححة للقسم بها لا مانعة منه.
وكذا كون الارض
موطئ قدميه ـ أي محل نفوذ مشيئته ، وكذا كون اورشليم مدينة الملك العظيم.
فإن هذه الثلاثة
قد اكتسبت بنسبتها الى الله جل جلاله شرفا وكرامة فيحق القسم بها وإلا فبما ذا يحق
القسم ، أتراه يحق بالأوثان وهياكلها ومرتفعاتها وسواريها.
وأيضا ان صورة هذا
الاحتجاج تعطي ان المانع من القسم بالامور
العظيمة هو أمر
عقلي لا يختلف بحسب الأزمان والشرائع ، وفي ذلك اعتراض على التوراة بتسويغها القسم
وتغليط لشريعتها في ذلك.
أجل فأين يكون
القول المنسوب في هذا الإصحاح للمسيح ، لا تظنوا اني جئت لأنقض الناموس والأنبياء ـ
بل لأكمل ـ الى تزول السموات والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس ،
فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السموات «مت
٥ ، ١٣ ـ ٢٠».
فإن هذا الكلام
يناقض مخالفة التوراة ولو بنحو النسخ فضلا عما يعود عليها بالاعتراض والتغليط
لشريعتها ، نعم الذي يناسب هذا الاحتجاج هو قول القائل : لو كان الأول بلا عيب لما
طلب موضعا لثان «عب ٨ ، ٧» ولو لا تشويش الكلام المتقدم لأمكن حمله على التعليم
بالاجتناب من إكثار القسم حذرا من الوقوع في الحنث الكثير وأن لا يستهان بالحلف
بالسماء والارض وأورشليم والرأس الذي هو من عجائب صنع الله ، وذلك لكرامة هذه
المذكورات بانتسابها الى الله بالوجوه المذكورة ، فتكون الاستهانة بها جرأة على الله.
فطريق الاحتياط هو
اجتناب القسم لئلا يعتاد اللسان على إكثاره فيقع في الحنث كثيرا ، فإن إكثاره هو
استسهال أمره من الشرير.
ويؤيد هذا الحمل
ما جاء في الرسالة المنسوبة الى يعقوب «٥ ، ١٢» لا تحلفوا بالسماء ولا بالأرض ولا
بقسم آخر ، بل لتكن نعمكم نعم ، ولاكم لا لئلا تقعوا في دينونة أي لئلا توقعكم
كثرة الحلف في دينونة الحنث وعقابه.
وقال الله جل شأنه
في سورة البقرة ٢٢٤ : (وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) ، وفي سورة القلم ١٠ (وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلَّافٍ مَهِينٍ).
«تنبيه» : لا يوجد
في التوراة ما ذكر في متى من قوله قيل : للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك ، بل
الموجود فيها من هذا النحو ما ذكرناه عن
عد «٣٠ ، ٢».
* * *
وقال الله تعالى
في سورة النحل ١٠٨ : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٨٥» نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك فإن المشركين أخذوه وأباه وأمه وغيرهم
فعذبوهم وقتلوا أباه وأمه ، وأما عمار فوافقهم وكفر بمحمد وقلبه كاره فأتى عمار
محمدا «ص» وهو يبكي فقال له محمد «ص» ما وراك؟ قال : شر يا رسول الله نلت منك
وذكرت فقال : كيف وجدت قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان فجعل محمد «ص» يمسح عينيه وقال :
ان عادوا فعد لهم بما قلت ، يعني يجوز الكفر باللسان ، إذا كان في القلب الإيمان
وهو تعليم فاسد ، وهل يرضى الله بالشرك به باللسان انظر قول المسيح من ينكرني قدام
الناس أنكره قدام ملائكة أبي في السموات ، وقوله لا تخافوا ممن يقتل الجسد بل
خافوا ممن يقتل الجسد ويعذب النفس معا فالمبدأ الذي وضعه محمد «ص» يساعد المنافق
على نفاقه.
قلنا : أما الآية
الكريمة فلا تعرض فيها لتسويغ الكفر باللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان ، وغاية ما
تعرضته هو استثناء هذا المكره المطمئن القلب بالايمان ، وأخرجته من الوعيد بغضب
الله والعذاب العظيم الذين يستحقهما الكافر الذي شرح بالكفر صدرا ، وهذا الاستثناء
حقيقة لازمة لا يمكن لذي شعور إنكارها ولا يسوغ لذى عقل ومعرفة ان يدعي ان المكره
على كلمة يقولها والمرتد الحقيقي يكون عذابهما واحدا.
وأما تشبث المتكلف
فإنما هو ببعض وجوه الرواية الآحادية المختلفة الألفاظ المضطربة
النقل المقطوعة
السند.
وزاد المتكلف على
ذلك فخبط ولفق ما ذكره من روايات مختلفة ويكفي في اضطراب الرواية ان المذكور من
طريق أبي عبيدة «فإن عادوا فعد» وعن محمد
بن سيرين «فإن
عادوا فقل ذلك لهم» ، وفي مرسلة الكشاف «ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».
وفيما أخرجه ابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس لم يذكر من ذلك شيء بل مقتضى
الرواية المذكورة انه لا محل لشيء من هذا القول ، فانها تذكر ان عمارا أخبر رسول
الله «ص» بما جرى له حينما لحقه في هجرته الى المدينة دار المنعة والأمن من عود
المشركين الى تعذيب عمار وإكراهه ..
وأما النقل لما
قاله عمار للمشركين فهو مضطرب أيضا ، ففي رواية ابن عباس ان عمارا قال للمشركين
كلمة أعجبتهم تقية.
وفيما روي من طريق
أبي عبيدة سب النبي «ص» وذكر آلهة قريش بخير ، وفيما عن السدي ان عمارا وخبابا
أخذهما قريش وعذبوهما حتى كفرا ، وفيما عن قتادة ان بني المغيرة غطوا عمارا في بئر
وقالوا : أكفر بمحمد «ص» فاتبعهم على ذلك وقلبه كاره ، وفي مرسلة الكشاف ان عمارا
أعطى قريشا ما أرادوا بلسانه ، وغاية ما يتفق عليه هذا النقل المضطرب هو ان عمارا
نال من رسول الله «ص» بلسانه وهو مكره ملجأ ، وعلى فرض صحة ذلك ، لنا أن نقول ان
فلسفة الايمان ونشر كلمة الحق وإعلاء كلمة الدين تقتضي أحوالا مختلفة بحسب اختلاف
الوقت ومصلحته ومناسباته ، فرب وقت لا يسع فيه إلا الملاينة والابقاء على أنفس
المؤمنين الداعين الى الحق ليتلطفوا في نشر الدعوة بالرفق والمطايبة الى أن تسنح
له الفرصة الى نشرها بالحزم والجد ، وذلك حيث يأمنون بحسب العادة من استئصالهم
الموجب لانعدام أنصار الدعوة ، فان الغرض في مثل هذه الامور ليس مجرد تسليم النفوس
للهلاك وإنما هو النهضة لاعلاء دين الحق ببث الدعوة وكسر شوكة الضلال بتعاضد
الأنصار ، فربما لا يمنع العقل ولا الشرع من بعض أنحاء الملاينة والمداراة من بعض
الأشخاص في بعض الأحوال إذا كان الحزم والشدة فيها هادمين لبنيان الدعوة مضعضعين
لأساسها ، نعم لا يجوز للنبي معلم الدعوة أن ينكل عنها وينكرها أو يبدل في تعليمها
بحال من الأحوال ، وإنما له في فلسفتها ان يتمهل في الجد في تكرارها ويتلطف في
أمرها الى أن تسنح له الفرصة في اجرائها بالحزم والشوكة ، فنقول بناء على
الرواية والسيرة
المعلومة ان عمارا قد اخذ في أمر الايمان ونصرة الحق بمجامع الحكمة واعطى كل مقام
حقه بحسب حاله ، فانه رجح الملاينة مع المشركين بكلمة يوري بها في شأن رسول الله «ص»
وذلك حيث كان محتقرا بين المشركين يعلم ان قتله لا يجدي في قوة الدعوة ولا يهيأ
لها ثأرا تعتز بطلبه ، بل إنما ينقص قتله من عديدها ، ومع ذلك فقد رهقه الوجل مما
قال وجاء الى رسول الله «ص» باكيا.
ولعل هذا الحال
أحسن أثرا في نصرة الدعوة من قتله في تلك الحال ، ولكن لما قويت شوكة الحق وكثرت
دعاته وعلم ان قتله ان لم يشيد كلمة الحق لا يضعضعها اخذ حينئذ بالحزم والشدة بحدي
سيفه ولسانه .. هذا ولو صح من الرواية ان رسول الله «ص» قال لعمار : ان عادوا فعد
لهم بما قلت لكان ناظرا الى مثل الحال في اكراه عمار وان يقول مثل ما قال مما تصلح
التوراة فاسدة.
وقد بيّنا ان حكمة
الدين قد تقتضيه ويرضاه الله لأجل إعلاء دينه ولم يكن ذلك تجويزا للكفر باللسان
مطلقا ولا تعليما به ، ولكن جاء في انجيل المتكلف عن قول المسيح كل خطيئة وتجديف
يغفر للناس ، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس ، ومن قال كلمة علي ابن
الانسان يغفر له ، واما من قال على الروح القدس فلن يغفر له «مت ١٢ ، ٣١ و ٣٢».
ولا تلتفت الى
تشبث المتكلف للمنع من ذلك مطلقا بما نقله عن قول المسيح : من ينكرني قدام الناس
أنكره قدام ملائكة ابي في السموات ، فانه لا بد ان يحمل الانكار على إنكار المسيح
حقيقة كمن شرح بالكفر صدرا ، ولا يمكن عمومه للكفر بالمسيح وإنكاره باللسان ، وإلا
كان هذا الكلام المنقول عن المسيح كاذبا بمقتضى العهد الجديد.
فإن الأناجيل
اتفقت على ان بطرس أنكر المسيح وصار يحلف ويلعن مع ان المسيح أنذره بذلك وهو قد
عاهد المسيح على أن لا ينكره ، ومع ذلك فالعهد الجديد يقول : ان المسيح بعد ذلك
بأيام قلائل سلم إليه رعاية الكنيسة «يو ٢١ ، ١٥ ـ ١٨».
ومن الظرائف ان
المتكلف لم يكتف باختلاف متى ولوقا في نقلهما
لكلام المسيح حتى
ثلثهما بالاختلاف والتحريف ليكمل له التثليث ، ففي متى «١٠ ، ٣٣» من ينكرني قدام
الناس أنكره أنا أيضا قدام أبي الذي في السموات ، وفي لوقا «١٢ ، ٩» ومن أنكرني
قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله ، والمتكلف ينقله بتحريفه هكذا : من ينكرني قدام
الناس أنكره قدام ملائكة أبي في السموات ، وكذا ثلث بالاختلاف والتحريف في نقله عن
قول المسيح : لا تخافوا ممن يقتل الجسد بل خافوا ممن يقتل الجسد ويعذب النفس معا ،
فطابقه مع «مت ١٠ ، ٢٨ ولو ١٢ ، ٤ و ٥».
ويكفي في بطلان
التشبث بهذا الكلام انه يفتح باب الاعتراض على المسيح حيث تذكر الاناجيل انه سئل
عن اعطاء الجزية لقيصر فصار يعمى في الجواب ويوري به على وجه يوهم ما يخالف حكم
الله ، فانظر «مت ٢٢ ومر ١٢ ولو ٢٠» ولم يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا
يطلبون ان يقتلوه «يو ٧ ، ١» ولأجل ذلك لم يكن يمشي بينهم علانية «يو ١١ ، ٥٣ و ٥٤»
وهذا يقتضي ان الخوف من الناس قد صده عن دعوته وتعليمه ، هذا كله ولم يكن في دعوة
التلاميذ إلا الوعظ بأنه قد اقترب ملكوت السموات وملكوت الله «مت ١٠ ، ٧ ولو ١٠ ،
٩».
وليس في هذا مظنة
خوف لأنه ليس فيه مصادمة لنحلة المدعوين لا في عبادتهم ولا في شريعتهم ، بل هي
بشارة مجملة تمتد إليها الأعناق وتنشرح لها الصدور فان اليهود كانوا ينتظرونها.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة النحل ٧١ : (يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٨٤» : ادعى القرآن ان عسل النحل شفاء من كل داء.
قلنا : لا يخفى
على من اطلع على الطب ان العسل فيه شفاء من أدواء كثيرة ، وأيسر ذلك انه الجزء
المقوم في المعاجين والترياقات الكبار الفعالة وقد
قال القرآن الكريم
فيه شفاء ورحمة ولم يقل فيه شفاء من كل داء ، وإنما قال ذلك روح الكذب والتعصب.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة الأحزاب ٧٢ : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً
جَهُولاً).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠٤» ولم يكتف القرآن بأن جعل البهائم والدبابات من العقلاء بل جعل الجمادات
أيضا ، ثم قال : ان الإنسان وحده المختص بالعقل.
قلنا : مما جاء في
كتاب العهدين من هذا النحو قوله : ابصرتك ففزعت الجبال حب ٣ ، ١٠» رأت الارض
وارتعدت مز «٩٧ ، ٣» لما ذا أيتها الجبال المسنمة ترصدن جبل الله «مز ٦٨ ، ١٦»
ترنمي أيتها السماوات اهتفي يا أسافل الارض أشيدي يا جبال ترنما الوعر وكل شجرة
فيه «ا ش ٤٤ ، ٢٣» إن سكت هؤلاء فان الحجارة تصرخ «لو ١٩ ، ٤٠».
فإن قال المتكلف
ان هذه حقائق غيبية قد كشف عنها الوحي وأعلمنا منها بما قصرنا عن إدراكه فلما ذا
لا يقول بمثل ذلك في القرآن الكريم.
وإن قال انها
استعارات وكنايات فلما ذا لا يقول بمثل ذلك في القرآن الكريم ، أم انه لا يدري بما
ذكرناه من كتابه ، أو يدري ولكن روحه لا تدعه حتى ينفث بما عنده.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة النمل ٨٤ : (وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ).
فزعم المتكلف «يه
٢ ج ص ١٠١» نقلا عن بعض المفسرين ان الدابة المذكورة هي الجساسة الواردة في أخبار
الآحاد المضطربة والأقوال المشوشة المختلفة فجعلها من الخرافات ..
وذكرها «سايل» «ق
١٥٧» ، وذكر اضطراب الأقوال فيها ، ثم قال «ص ١٥٨» وكل هذا الهذيان إنما هو نتيجة
خواطر مختبلة أصلها الوحش المذكور في سفر الجليان.
قلنا : لم يدل
دليل قاطع على ان المراد بدابة الأرض غير الإنسان ، بل دلت بعض الأدلة المعتبرة ان
المراد بها إنسان خاص ، وان الإنسان مما يدب على الأرض ، وقد قال الله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها) وانظر التوراة الرائجة «تك ٧ ، ٢١ و ٢٢» ، وشتان ما بين
حسن هذا الإبهام المناسب لمقتضى الحال وبين سماجة الكناية عن المسيح بالخروف الذي
له سبعة قرون «روء ، ٥ ، ٦ و ٨» وعن جسده بالهيكل ـ أي بيت المقدس ، «يو ٢ ، ٢٠ و
٢١».
ولئن قبلنا أخبار
الآحاد في هذا الشأن فليكن ما روى فيها من تأثير الدابة على الجباه مثل ما جاء من
السمة والكتابة على الجباه «خر ٩ ، ٤ وروء ٧ ، ٣ ، و ١٣ ، ١٦ ، و ١٤ ، ١».
وان مقتضى أخبار
الآحاد ان الدابة المذكورة أشبه شيء بالخروف المذكور «روء ٥ ، ٦» أو أحد الحيوانات
الأربعة المذكورة «روء ٤ ، ٦» ، ولئن كانت أقوال بعض المسلمين وروايات آحادهم في
الجساسة من الهذيان الناشئ عن خواطر مختبلة ، فمما ظنك بسفر الجليان ـ أي رؤيا
يوحنا ـ الذي يمثل لك سورة البرسام وهذيانه ، وان أخبار الجساسة والأقوال فيها
ليست من أصول الإسلام ولا كتب وحيه ، ولا يقطع المسلمون على صدورها من مأخذ الدين
الإسلامي ، ولكن النصارى في قرون كثيرة قد اتفقوا على أن سفر الرؤيا ليوحنا الرسول
ولا يشكون في انه كتاب وحي وإلهام.
* * *
وقال الله تعالى
في سورة الحجر في شأن الناوين اتباع ابليس ٤٣ (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ٤٤ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ
جُزْءٌ مَقْسُومٌ).
فقال المتكلف «يه
٢ ج ص ٨٣» وكتاب الله يعلمنا انه لا يوجد سوى
محلين وهما الجنة
والنار ، فمحل المؤمنين الحقيقيين هو النعيم ومحل غير المؤمنين هو الجحيم ،
فالاعتقاد بوجود سبع دركات وسبع أبواب لجهنم من الاعتقادات الوثنية ومن خرافات
اليهود.
قلنا : لا يخفي
اختلاف الغاوين في غوايتهم والمجرمين في عظائم جرمهم ، فلا بد لمن يؤمن بالآخرة
والعقاب وجهنم ان يذعن باختلاف العقاب فيها بحسب أنحاه الالحاد والكفر والفساد
والظلم واضطهاد الداعين الى الله ، ولا بد أن تختلف دار العقاب في معاقل سجونها في
شديد العقاب وأشده ، وهذه حقيقة لا ينكرها غير الملحد ولا طريق لتفصيل مجملها إلا
الوحي الالهي ، وقد بين الله العظيم في كتابه الكريم نحوا من ذلك حسبما يقتضيه حال
الموعظة ، وأما الكتب الرائجة التي اغتر المتكلف بها فلم تصرح بخلاف هذه الحقيقة
ولم تقل ان جهنم لها باب واحد أو طبقة واحدة ، وان اقتصارها على ذكر جهنم لا يقتضي
دلالتها على انها عرصة بسيطة فيها نار واحدة بكيفية واحدة وعقاب واحد ، وانها
لينبغي التشكر لبعضها إذ سمح بذكر جهنم ، فان التوراة الرائجة ـ وحاشا الحقيقية ـ لم
تطر لجهنم ذكرا ، وإنما شددت وعيدها بالقحط والأمراض ، وأن يتزوج الخاطئ امرأة
ورجل آخر يواقعها «تث ٢٨ ، ٣٠».
وقد عرفت من أشتات
كتابنا حال كتب المتكلف الرائجة في نسبتها الى الوحي ، واشتغالها بالتناقض
والفضاول الفارغة ، والحجج الواهية ، والتفصيل القبيح في مثالب الأنبياء والأولياء
، ونسبة الكفر والفضائح الى قدسهم وإلى عائلاتهم.
ولعل المتكلف يغتر
ويقول ان الكتب التي لا يفوتها مثل الاكثار من ذلك لا يفوتها تفصيل الحقيقة لجهنم
لو كان لها أصل ، فقل له : مهلا ولا تبشر أوهامك فان الكتاب الذي تستودعه تقلب
الأحوال والنشآت وتلاعب الأيام والأهواء مثل ما ذكرناه لا بد من أن تستلب منه
كثيرا من الحقائق وكفى بحال التوراة الرائجة حجة عليك ، فإنها أكثرت في سفاسفها في
شأن الأنبياء والأولياء وتفصيل ثياب هارون وصيدلة البرص ولم تسنح لها الفرصة بذكر
جهنم أصلا ورأسا ، وانك في اعتراضك على القرآن بغفلة كتبك قد فتحت للطبيعي باب
الاعتراض على
العهد الجديد إذا قال لك ان جهنم المذكورة في العهد الجديد هي من الخرافات ، فإن
التوراة التي هي أساس تعليم العهدين لم تذكر جهنم أصلا ، على ان اعتراضك على
القرآن الكريم بغفلة كتبك المعروف حالها انما هو شطط واه ، واعتراض الطبيعي على
كتبك بتوراتك جدل لازم فحتى متى.
* * *
المقدمة الرابعة عشرة
فيما تضمنه العهدان الرائجان من حيث اللاهوت والنبوات
والشريعة والآداب ، وفيها فصول
* * *
الفصل الأول
في الإلهيات
لا يخفى ان عنوان
العهدين هو التعليم بوجود الإله الصانع القادر العليم الحكيم الحي الأزلي الدائم ،
وبجلال قدسه وكمال ذاته وبتوحيده ، وانه جل جلاله لا إله غيره ولا شبيه له ولا مثل
، غير منظور ولا يرى ، والتعليم بالتنزه من ضلالة الشرك وعبادة الأوثان.
ولكن دواهي الأيام
ودواعي الأهواء قلما تدع حقيقة لا تكدر صفوها ولا تدخل عليها أضدادها في ديوان
بيانها وكتاب تعليمها حتى تتركها وأضدادها في معترك التناقض ومثابرة التنافر ، وإن
أوهمت كثيرين بتلبيس المختلس على الغافل وخدعة الماذق للغر انها قد نظمت فرائدها في
سمط البيان وجمعت فوائدها في ديوان الوحي ، «وهيهات فقد سبق السيف العذل واتسع
الخرق على الراقع ، ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر».
ولذا جاء في
العهدين في الأمور الإلهية والشئون النبوية ما لا يقف في صف الحقيقة ، ولا يستقيم
على قاعدة الايمان ولا يدور على محور العرفان.
فقد ذكرت التوراة
الرائجة عن وحي الله لموسى باللغة العبرانية ان اسمه المقدس جل اسمه «يهوه» «خر ٣
، ١٥ و ٦ ، ٣».
وكذا جاء في
المزمور «٨٣ ، ١٨ وعا ٤ ، ١٣ ، و ٥ ، ٨ ، و ٩ ،
٦» ، ويهوه هو
الاله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت ليس سواه ، «تث ٤ ، ٣٩».
وهو إله ابراهيم
واسحاق ويعقوب «خر ٣ ، ١٥ و ١٦» ، وهو الاله الذي خلق السموات والأرض وجبل آدم
ترابا من الارض «تك ٢ ، ٤ و ٧» ومقتضى هذا ان «يهوه» اسم علم لله جلت أسماؤه.
ولكن التوراة
الرائجة تقول : وأخذ يهوه الاله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ، وأوصى
يهوه الإله آدم قائلا من كل شجر الجنة أكلا تأكل ومن شجرة معرفة الخير والشر «أو
معرفة الحسن والقبيح» فلا تأكل منها لأنك بيوم أكلك منها موتا تموت «تك ٢ ، ١٥ ـ ١٨».
وقالت «الحية»
للمرأة «حوا» : أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية من
ثمر شجر الجنة نأكل ومن ثمر الشجرة التي في وسط الجنة ، قال الله تعالى : لا تأكلا
منه ولا تمساه لئلا تموتا ، وقالت الحية للمرأة لا تموتا موتا بل يعلم الله انه
بيوم أكلكما منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارف في الخير والشر ، «فلما أكل آدم
وحوا» انفتحت أعينهما وعلما انهما عريانان.
فالتوراة الرائجة
تقول بسخافة مضمونها واستغفر الله انه قد كذب القول لآدم بأنه بيوم أكله من شجرة
الخير والشر يموت موتا بل كانت الحية هي الصادقة في قولها ، فانهما لما أكلا من
الشجرة انفتحت أعينهما وعلما انهما عريانان وصارا عارفين في الخير والشر كما
سيأتي.
والمتكلف «يه ٢ ج
ص ١٣١» جمع في الاعتذار عن ذلك بين امرين متباينين تتكفل ذات التوراة ببيان غلطهما
«أحدهما» ان المراد من الموت هو الموت الروحي لأن آدم لما تعدى الوصية استوجب سخط
خالقه ، وتوراة المتكلف تغلطه في هذا الاعتذار فانها تقول ان آدم قبل أكله من
الشجرة لم يكن عارف الخير والشر حتى انه لا يميز انه عريان ولا يخجل من ذلك وهذا
الحال هو الهمجية والموت الروحي ، وإن من كان على مثل هذا الحال لا يدرك قبح
المخالفة ولا يصح
السخط عليه ، وكيف يصح السخط على من لا يعرف الخير والحسن لكي يعرف حسن الطاعة ولا
يعرف الشر والقبيح لكي يعرف قبح المخالفة وتعدي الوصية.
بل مقتضى التوراة
ان أكله من الشجرة أوجب له الحياة الروحية ، إذ صار عارف الخير والشر كالإله وصار
قابلا بمعرفته أن يشرق في قلبه نور العرفان والايمان والرغبة في الطاعة.
وثانيهما : انه
يوم أكله من الشجرة دبت فيه أسباب الموت وغرست في جسمه بذور الفناء ..
والتوراة توضح ان
هذا وهم فاحش لأن مقتضاها ان آدم لم يخلق للبقاء بل قد وقعت المحاذرة والتدابير
لئلا يأكل من شجرة الحياة فيعيش الى الأبد كما ستسمعه فهو من يوم خلق قد غرس التقدير
في جسمه بذر الفناء فهذا الموت التقديري لازم له قبل أكله من الشجرة.
ثم اعلم ان كاتب
التوراة الرائجة وحاشا الحقيقية قد اودع مضمونها السخيف أكثر مما قالته الحية في
المنشأ لنهي آدم عن الأكل من الشجرة ، غفرانك اللهم وأنت المستعان على عبث
الاهواء.
وتقول التوراة
الرائجة أيضا ان يهوه تبارك اسمه وجل شأنه سمع آدم وحوا صوته وهو متمش في الجنة
عند ريح النهار فاختبأ آدم من وجهه في وسط شجر الجنة فنادى يهوه الاله آدم وقال له
أين أنت؟ فقال : سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت فقال : من أعلمك انك
عريان هل أكلت من الشجرة «تك ٣ ، ٨ ـ ١٢».
أفلا ترى ان هذا
الكلام يقول بسخيف مضمونه ان الله جل شأنه جسم يتمشى في الجنة وله في تمشيه صوت ،
وان آدم بعد ما صار عارفا للخير والشر عرف ان الاختباء في شجر الجنة يخفيه على
الله تعالى شأنه ، وكأنه لأجل ذلك سأله أين أنت.
وتقول لما أكل آدم
من الشجرة وصار عارفا للخير والشر ، قال يهوه : هو
ذا الانسان صار
كواحد منا عارفا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل
ويحي الى الأبد فأخرجه يهوه الاله من جنة عدن وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب
سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة «تك ٣ ، ٢٢ ـ ٢٤».
أفلا ترى ان هذا
الكلام يقول مضمونه ان الله جلت عظمته وعظمت قدرته قد خاف من عاقبة آدم وصار يحاذر
منه على استقلال مملكته واستبداده في أمره حتى أعمل التدابير والاحتياطات اللازمة.
وتقول أيضا «لما
عزم بنو آدم بعد الطوفان أن يبنوا في بابل مدينة وبرجا حصينا لئلا يتبددوا على وجه
كل الارض» نزل يهوه لينظر المدينة والبرج للذين كان بنو آدم يبنونهما ، وقال يهوه
: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل ، والآن لا يمتنع عليهم
كلما ينوون أن يعملوه ، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض ،
«تك ١١ ، ٥ ـ ٨».
أفلا تقول : ما
حاجة علم الله جل جلاله الى النزول لأجل الاطلاع وما حاجة قدرته العظيمة الى
الاستعانة والنزول ، وما أقبح هذه التعبيرات حتى لو سمح أسلوب التوراة الرائجة
بحملها على المجاز ولكنه لا يسمح ، أو لا ترى ان مضمون هذا الكلام يقول بسخافته ان
الله جل شأنه خاف على مملكته من تمرد الرعية وخروجهم عن نفوذ سلطانه فاستغاث بمن
يعينه على النزول معه لإعمال التدابير والاحتياطات في حفظ المملكة عن الانحلال.
وتقول أيضا : وقال
يهوه صرخة سدوم وعمورة قد كثرت وخطيئتهم قد عظمت جدا انزل وأرى كصرختها الآتية إلي
عملوا كلها وإلا أعلمها ، «تك ١٨ ، ٢٠ و ٢١».
وقل ما حاجة علم
الله جل اسمه الى النزول لأجل الاطلاع وتحقيق الحال والكشف على مطابقة الصرخة
والشكاية لحقيقة العمل ، أم لا لكي يحصل له العلم بحقيقة الحال في هذا النزول للاكتشاف.
وتقول أيضا : ما
حاصله ان يهوه جل اسمه وعد موسى بأن يصعد بنو
اسرائيل من مصر
الى أرض الكنعاني والآموري والحوي واليبوسي ، ولكنه جل شأنه قال لموسى : تدخل أنت
وشيوخ بني اسرائيل الى ملك مصر وتقولون : يهوه إله العبرانيين استقبلنا فالآن نمضي
طريق ثلاثة أيام في البرية ونذبح ليهوه إلهنا.
مع انها تصرح بأن
الله لم يستقبل بني اسرائيل ، بل أرسل إليهم موسى ولم يكن المقصود هو الذهاب طريق
ثلاثة أيام الذبح ، بل المضي الى أرض الموعد المذكورة ، وحاشا لله أن يعلم بالكذب
ويفتح رسالته بهذا العمل الفاسد.
وتقول أيضا : لما
رجع موسى برسالة الله من مديان الى مصر حسب الأمر والموعد صار في الطريق في المنزل
والتقاه يهوه وطلب أن يقتله فأخذت صفورة امرأة موسى صوانة فقطعت غرلة ابنها ومست
رجليه وقالت : انك عريس دم لي فانفك عنه «تك ٤ ، ٢٤ ـ ٢٦».
أفلا ترى ان هذا
الكلام يقول بسخافة مضمونه ان الله جل شأنه أخلف وعده لبني اسرائيل وموسى ، وطلب
أن يقتله ولكنه انفك عنه بمخادعة صفورة.
وتقول أيضا : ان
يهوه كلم موسى وهارون أن يأمرا بني اسرائيل في مصر بذبح الفصح ، وأن يجعلوا من دمه
على أبوابهم ويعبر يهوه ويضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم ويكون الدم
الذي على الأبواب علامة على بيوت اسرائيل فيرى يهوه الدم ويعبر عنهم فلا تكون
عليهم ضربة للهلاك حينما يضرب مصر «تك ١٢ ، ٦ ـ ١٤ و ٢١ ـ ٢٤».
ويا للعجب العجيب
ما حاجة الله الى العلامة ، أفلم يكن من الممكن في علمه جل شأنه أن يعرف بيوت
اسرائيل بدون العلامة.
وتقول أيضا : ان
موسى وهارون وناداب وابيهو وسبعين من شيوخ اسرائيل رأوا إله اسرائيل وتحت رجليه
شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف ، وكذات السماء في النقاوة ، فرأوا الله وأكلوا
وشربوا «خر ٢٤ ، ٩ ـ ١٢».
وكيف يكون التجسيم
إذا ، بل لو قيل ان الله جل شأنه جسم متحيز في
مكان لاحتمل من
المجاز ما لا يحتمله هذا الكلام.
وتقول أيضا : فنزل
يهوه في السحاب ووقف ـ أي موسى ـ عنده هناك ونادى باسم الرب وعبر يهوه قدامه «خر
٣٤ ، ٥ و ٦» فنزل يهوه في عمود سحاب ووقف بباب الخيمة «عد ١٢ ، ٥».
ويقول العهد
القديم : ان يهوه كان جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن
يساره ، فقال يهوه : من يغوي اخاب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد؟ فقال هذا هكذا ،
وقال ذاك هكذا ، ثم خرج الروح ووقف أمام يهوه فقال : أنا أغويه فقال له يهوه بما
ذا؟ فقال أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه فقال انك تغويه وتقدر فاخرج
وافعل هكذا «١ مل ٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣ ، و ٢ اي ١٨ ، ١٨ ـ ٢٢».
ولا تخفى سخافة
هذا الكلام في تضمنه للتجسيم والعجز والحيرة وعدم الاهتداء الى الرأي حتى اهتدى
إليه روح الكذب ، وان القدرة تقصر عن نفوذها حتى تتوصل بالكذب.
ويقول العهد
القديم عن وحي أرميا ، فقلت : آه يا سيدي يهوه حقا خداعا خادعت الشعب هذا وأورشليم
قائلا : سلام يكون لكم وقد بلغ السيف. الى النفس.
وسخافة هذا الكلام
لا تحتاج الى البيان.
وجاء في العهد
الجديد ان المسيح لما صعد الى السماء جلس عن يمين الله «مر ١٦ ، ١٩ وعب ١٠ ، ١٢
وانظر ا ع ٧ ، ٥٦».
وهذا يقتضي
التجسيم وان الله جل جلاله يحويه المكان ويكون له جهة يمين ، كما جاء في التوراة
ان الله جل شأنه له جهة وراء «خر ٣٣ ، ٢٣».
ويقول العهد
الجديد أيضا ان الله جل شأنه محبة «١ يو ٤ ، ٨ و ١٦».
ولا يخفى ان
المحبة ميل شيء الى شيء فهي عرض لا تأصل له في الوجود.
ويقول العهد
الجديد أيضا : والكلمة كان عند الله والكلمة كان الله ، (يو ١ ، ١».
فكيف يكون الكلمة
الله والذي هو الله كيف يكون عند الله.
وجاء في العهد
الجديد أيضا : لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه ، «١٠ ع ٢٠ ، ٢٨».
وهذه من الدواهي
التي توقف العقل والعرفان موقف الحسرة والعجب.
هذا ودع عنك ما
تضمنه العهدان مما يمكن حمله على المجازات الواهية المستهجنة كوصفه جل شأنه بطويل
الروح «عد ١٤ ، ١٨» وانه حزن وتأسف في قلبه لأنه عمل الإنسان والحيوانات «تك ٦ ، ٦
و ٧» ، وانه ندم على جعله شاول ملكا «١ صم ١٥ ، ١١» وانه رجل الحرب «خر ١٥ ، ٣»
وكنسبة الرأس له جل شأنه «ا ش ١٩ ، ١٧» ، وحدقة العين «تث ٣٢ ، ١٠» والأجفان «مز
١١ ، ٤» والأنف «خر ١٥ ، ١٠» والفم «تث ٨ ، ٣» ، والجناحين والأجنحة والخوافي وهي
الريش الصغار من الأجنحة «مز ١٦ ، ٨ ، و ٩١ ، ٤» والحضن «يو ١ ، ١٨» وباطن القدمين
«خر ٤٣ ، ٧» وموطئ القدمين «١ اي ٢٨ ، ٢» وكنسبة المشي له جل شأنه «مز ١٠٤ ، ٣»
والجلوس «مز ٩ ، ٤» وانه جل شأنه ركب على كروب وطار «مز ١٨ ، ١٠» وجالس على
الكروبيم «مز ٨٠ ، ١» والركوب على سحابة سريعة والقدوم الى مصر «ا ش ١٩ ، ١»
والابتلاع «مر ا ٢ ، ٢» والالتحاف بالسحاب «مر ا ٣ ، ٤٤» ، والتحير «اش ٥٩ ، ١٦» ،
والفرح «مز ١٠٤ ، ٣١» ، والضحك «مز ٣٧ ، ١٣».
* * *
ولا يخفى ان
الملائكة مخلوقون لله يسبحونه ويقدسونه ويعملون بأمره كما جاء في العهد القديم «مز
١٠٤ ، ٤ و ١٠٣ ، ٢٠ ، و ١٤٨ ، ٢» وجاء أيضا ان الله ينسب إليهم حماقة «اي ٤ ، ١٨»
وفيهم ملائكة أشرار «مز ٧٨ ، ٤٩» وانظر الى العهد الجديد «٢ بط ٢ ، ٤ ويه ٦» ، هذا
والتوراة الرائجة
كثيرا ما تنسب الى
الملاك ما تختص نسبته بالله جل شأنه وتسمى الملاك «يهوه» أو «الإله» وهما اسمان
مختصان بذات الجلالة ، فمن ذلك قولها ان ملاك يهوه وجد «هاجر» وذكرت مكالمته معها
ثم قالت : وقال لها ملاك يهوه تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة.
ثم قالت التوراة
فدعت «أي هاجر» اسم يهوه الذي تكلم معها أنت ايل رئى «اي إله رؤية» «تك ١٦ ، ٧ ـ ١٤».
فالتوراة الرائجة
سمت الذي كلم هاجر أولا ملاك يهوه ثم نسبت له ان يكثر نسلها حتى لا يعد من الكثرة
، وهذه النسبة لا تصح إلا لله تبارك اسمه ثم سمت الملاك الذي كلم هاجر «يهوه».
وقالت التوراة
أيضا ونادى ملاك الرب هاجر من السماء قومي احملي الغلام لأني سأجعله امة عظيمة «تك
٢١ ، ١٧ و ١٨».
وقد كثر خبط
التوراة الرائجة بين الله جل اسمه وبين الملاك الذي هو الملك ، فقد جاء فيها ما
ملخصه ان يهوه وهو الله جل اسمه كما قدمنا ظهر لإبراهيم فرفع عينيه وإذا ثلاثة
رجال واقفون فنظر وركض لاستقبالهم وسجد الى الأرض وقال : يا سيد ان كنت وجدت نعمة
في عينك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة وأخذ
كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون فعمل لهم طعاما وأكلوا فقالوا أين سارة وقال :
رجوعا ارجع كوقت
الحياة وهو ذا لسارة امرأتك ابن ، وكانت سارة سامعة فضحكت فقال يهوه : لم ضحكت
سارة؟ هل يستحيل على يهوه شيء للميعاد ارجع أليك ولسارة ابن ثم قام الرجال وتطلعوا
نحو سدوم «تك ١٨ ، ١ ـ ١٧».
ويا للعجب كيف
يكون الله جل شأنه ثلاثة رجال يمشون ويأكلون؟ وكيف يخاطبهم ابراهيم تارة بخطاب
الواحد فيقول «يا سيد» «عينك» «عبدك» وتارة بخطاب الجمع فيقول «اغسلوا أرجلكم» «واتكئوا»
«فتسندون قلوبكم» وكيف تعبر عنهم التوراة مرة بضمير الجمع فتقول «أكلوا»
«وقالوا» ، ومرة
بضمير الواحد فتقول «وقال» «وقال يهوه ارجع».
وليت شعري هل تقول
التوراة ان الله يهوه جلت أسماؤه هو جمع الرجال الثلاثة الذين أكلوا أم هو واحد
منهم ..
نعم ان الرسالة
المنسوبة لعبد المسيح تقول : ان الرجال الثلاثة هم أقانيم الإله الواحد.
ولعله يحتج
لخرافتها هذه بأنهم أكلوا تحت الشجرة فترغم بحجتها أنوف الوثنيين ، وتمثل مجد
الإله وقدسه للملحدين سبحانك اللهم.
ولعل المتكلف يحتج
على ان الرجال الثلاثة هم الله جل شأنه بقول التوراة ان ابراهيم ركض لاستقبالهم
وسجد الى الأرض ، فإن المتكلف يدعي في مثل هذا المقام «يه ٤ ج ص ٢٠٥ و ٢٠٦» ان
سجود ابراهيم دليل على ان الذي سجد له هو الله.
ولم يشعر المتكلف
ان التوراة تبين من سخافة هذه الحجة ان ابراهيم سجد مرتين لبني حث «تك ٢٣ ، ٧ وط
١٢».
واعلم ان النصارى
يتشبثون لدعوى الثالوث وألوهية المسيح بأوهام كلمات في كتبهم الرائجة ، فحاول
إظهار الحق أن يجادلهم بما في كتبهم لكي يوضح انها لم يدعها قلم كذب الكتبة لأن
تقف على حد المعقول وصواب المحاورة ، بل ان أمرها دائر بين المقالات الكفرية ، أو
التأدي على سخافة الجاز وممقوت التعبير وان أبى الكثير منها إلا مناقضة الحقائق
المعقولة في اسم الله والإله ويهوه ، وما تختص نسبته بالله جل اسمه كما سمعت بعضه
، ولكن المتكلف نكص الى تلفيقات لم يتدبر بها ما في كتبه ، فكأنه لم يفهم مراد
إظهار الحق ، أو لم يجد ما يتعب به القلم ويسود به وجه الصحف إلا هذه التلفيقات
حتى حاول أن يلوث إظهار الحق بما جادلهم به من كتبهم بل عابه به انظر «يه ٤ ج ص
٢٠٢ ـ ٢١٠».
ثم قالت التوراة
في هذا الموضوع على الأثر ما ملخصه : وجاء الملا كان الى سدوم فاستقبلهما لوط وسجد
بوجهه الى الارض ودعاهما الى ضيافته فأكلا فقال
الرجلان للوط :
اخرج من لك في هذا المكان لأن يهوه أرسلنا لنهلكه وكان الملا كان يعجّلان لوطا
وكان لما أخرجاهم قال اهرب لحياتك فقال لهما لا يا سيد هو ذا عبدك وجد نعمة في
عينيك وعظمت لطفك هو ذا المدينة قريبة اهرب إليها فقال : رفعت وجهك في هذا الأمر
لأني لا أقدر أن أفعل شيئا حتى تجيء الى هناك «تك ١٩ ، ١ ـ ٢٣».
وليت شعري ان
الرجال الثلاثة الذين جاءوا الى ابراهيم وذهبوا الى سدوم كيف صاروا ملاكين اثنين.
أيقول المتكلف ان
ثالثهم هو يهوه الإله الذي كلم ابراهيم وذهب وانه رجع عن صحبة الملاكين بعد ما أكل
من ضيافة ابراهيم؟ ولما ذا صار الملا كان واحدا يقول لهما لوط «لا يا سيد» «هو ذا
عبدك»؟ ومن هو الذي يقول أنا لا أقدر أن أفعل شيئا حتى تجيء الى هناك.
وان الرسالة
المنسوبة لعبد المسيح وأمثالها تقول : ان العهد القديم يرمز الى الثالوث ، أتراهم
يريدون بذلك هذا الخبط في العدد.
وان يعقوب صارعه
إنسان حتى طلوع الفجر ولما رأى ـ أي ذلك الإنسان ـ انه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه
فخذ يعقوب في مصارعته معه وقال ـ أي ذلك الانسان ـ اطلقني لأنه قد طلع الفجر فقال
: ـ أي يعقوب ـ لا اطلقك إن لم تباركني ، فقال له : ما اسمك؟ فقال : يعقوب فقال :
لا يدعى اسمك بعد يعقوب بل يسرائيل ـ أي يجاهد الله ـ لأنك جاهدت مع الله ومع
الناس وقدرت ، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل ـ أي وجه الله ـ لأنه رأيت الإله وجها
لوجه ونجيت نفسي «تك ٣٢ ، ٢٤ ـ ٣١».
والعهد القديم
يقول أيضا : ان يعقوب بقوته جاهد الله جاهد الملاك وغلب «هو ١٢ ، ٣ و ٤».
فانظر الى سخافة
هذا الكلام كيف جعل الموضوع الواحد إنسانا وملاكا وسماه الإله ووصفه بالجسمية
والمصارعة ليعقوب والمغلوبية.
وتقول التوراة
الرائجة في بدء خطاب الله لموسى ان ملاك يهوه ظهر لموسى
بلهيب نار من وسط
عليقة وناداه الله (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) وقال له أنا إله أبيك ابراهيم الى آخر كلام الله معه.
وهذا وإن أمكن
حمله على ان الذي ظهر في لهيب النار لموسى هو الملك ، والذي كلم موسى هو الله.
ولكن التوراة
الرائجة تأبى هذا التأويل حيث تقول : وغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر الى الله «خر
٣ ، ٦» وهذا يعطى انها تقول : ان الله هو الملاك الذي ظهر في لهيب النار ، ويؤكده
قول العهد الجديد ان الذي كلم موسى هو الملاك «ا ع ٧ ، ٣٨».
ثم ان التوراة
الرائجة تارة يصرح مضمونها بأن الله جل اسمه وهو يهوه سار أمام بني اسرائيل بعمود
سحاب نهارا وعمود نار ليلا ، وذلك من سكوت وهو المنزل الثاني لهم من مصر الى عربات
مواب حيث توفي موسى عليهالسلام وذلك في مدة أربعين سنة.
كقولها عند ذكر
ارتحالهم من سكوت ، ويهوه يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلا في
عمود نار ليضيء لهم ليمشوا نهارا وليلا «خر ١٣ ، ٢١».
وقولها عن خطاب
موسى لله يهوه في برية فاران ، وبعمود سحاب أنت سائر أمامهم نهارا ، وبعمود نار
ليلا ، «عد ١٤ ، ١٤» ، وقولها عن قول موسى في خطاب بني اسرائيل في عربات مواب ،
يهوه إلهكم السائر أمامكم في الطريق في نار ليلا وفي سحاب نهارا «تث ١ ، ٣٢ و ٣٣».
وتارة تنقض ذلك
وتذكر ان السائر أمام بني اسرائيل هو ملاك الاله يهوه الذي يرسله يهوه.
فقد قالت في شأنهم
في فم الحيروث وهو المنزل الثالث لهم من مصر عند ما أدركهم فرعون وجنوده ، فانتقل
ملاك الله السائر أمام عسكر اسرائيل وسار ورائهم ، وانتقل عمود السحاب من أمامهم
ووقف وراءهم «خر ١٤ ، ١٩»
وذكرت عن قول الله
لموسى في طور سيناء في خطاب بني اسرائيل ، ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك ليحفظك في
الطريق ويجيء بك الى المكان الذي أعددته ، فان ملاكي يسير أمامك «خر ٢٣ ، ٢٠ و ٢٣».
وذكرت عن قول موسى
في ذكر مراحم الله : أرسل ملاكا وأخرجنا من مصر «عد ٢٠ ، ١٦» وجاهرت بالصراحة في
ذلك أذكرت عن قول الله لموسى في طور سيناء في خطاب الشعب ارسل «أو ارسلت» أمامك ملاكا
، فإني لا أصعد في قربك لأنك شعب صلب الرقبة ، وقال يهوه لموسى : قل لبني اسرائيل
أنتم شعب صلب الرقبة لحظة واحدة ان صعدت في قربك أفنيتك «خر ٣٣ ، ٣ و ٥».
وهذا صريح في ان
الله جل اسمه لم يسر أمام بني اسرائيل ولم يصعد بقربهم بأي نحو أولت صعود الله
معهم وسيره امامهم ، بل ان السائر امامهم والذي أخرجهم من مصر هو الملاك الذي
أرسله الله ويؤكد ذلك قول العهد الجديد في شأن موسى ، هذا هو الذي كان في الكنيسة
في البرية مع الملاك الذي كان يكلمه في جبل سيناء «ا ع ٧ ، ٣٨».
وهذا كله مناقض
لقول التوراة ان السائر أمام بني اسرائيل في عمود السحاب هو الله بأي نحو أولته.
وقد كثر في
التوراة والعهد القديم قولها : «فنزل الله» «فصعد الله» «فتراءى الله» وهو في مقام
يمتنع من أسلوبها التأويل ، فهو لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة : أما القول بالتجسيم
وان الله «تعالى شأنه» يحويه المكان فيصح عليه الصعود والنزول وتقع عليه الرؤية
تعالى الله عن ذلك ، وأما الخبط في تسمية الملك بالأسماء الخاصة بذات الجلالة ،
وأما الضلال بالبناء على ان الملك هو الله جل شأنه.
وإذا نظرت الى
التوراة الرائجة وجدتها كأنها كتابة اناس متعددين مختلفين في المعرفة وصحة
الاعتقاد لا يدري كل واحد بما كتبه الآخر ، أو لأنه كتاب جدد اسمه في بقايا ديانة
توحيدية سرت فيها روح الوثنية فتقاسمت مخائله مشابهة هذين الأبوين.
ولذا جاء في
العهدين وخصوص التوراة صراحة التعليم بوحدة الاله وان الله يهوه هو الاله وليس آخر
سواه ، وهو الاله في السماء وعلى الأرض وليس سواه ، ولا إله معه ولا إله غيره ،
وذكرت عن قول الله جل اسمه لا تذكروا اسم آلهة اخرى ولا يسمع من فمك ، ولا يكن لك
آلهة اخرى أمامي.
وجاء في العهدين
أيضا عن قول الله ان موسى إله لهارون ولفرعون ، وان الذين صارت إليهم كلمة الله
آلهة انظر الجزء الأول صحيفة ١٥٣ ـ ١٥٤ وجاء في العهد القديم أيضا لأنه يولد لنا
ولد ونعطي ابنا وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبديا
رئيس السلام «ا ش ٩ ، ٦».
ولا يخفى ان هذه
المقالة لا تناسب الديانة المؤسسة على توحيد الإله وتقديسه وتنزيهه عن النقائص
البشرية.
بل إنما تناسب أن
تدرج في كتب الهنود والصينيين والآشوريين واليونان والمكسيكيين من الوثنيين الذين
يقال انهم يعتقدون بتولد الإله بالولادة البشرية ...
ومن هذه التعاليم
جاء قول العهد الجديد ، ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا الى
الأبد «رو ٩ ، ٥».
ومن أجل هذا الداء
صدر ما تضمنه العهدان من نسبة صفات النقص البشري الى الله جل جلاله وعلا شأنه ،
كما نسبت له الدم وصفات الجسم في أساليب لا تحتمل المجاز كما نسبت له لوازم الضعف
والمغلوبية والحاجة والحيرة والكذب وعدم العلم كما تعرفه مما سبق ، تعالى الله عما
يقولون.
وكما نسبت إليه جل
شأنه انه يمكن الكاذب في دعوى النبوة والداعي الى الشرك والدجال المضل الأثيم
ويتركهم تجري على أيديهم الآيات والقوات والعجائب ، وان الله جل شأنه يرسل الى
الناس عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب ، فانظر «تث ١٣ ، ١ ـ ٤ ، ومت ٢٤ ، ٢٤ و ٢ تس ٢
، ٩ ـ ١٢».
وفي هذا نسبة جملة
من القبائح الى الله جل شأنه بحد لا يرضاه لنفسه آحاد البشر.
أحدها
: إغراء الناس
بالضلال ، فإن الركون في التصديق الى ظهور الآيات والقوات والعجائب العظيمة إنما
هو من مرتكزات الفطرة وأوليات البديهة بحيث لا يتطرقه الشك كما يتطرق سائر
البديهيات من المعارف ، ولذا ترى كثيرا من الناس قد كابروا البداهة وجانبوا عقولهم
في المعارف لشبهة المعجزة ومنقولها الموهون.
وقل من يكون له
العقل ونور الحقيقة هما الهاديان إليها والشاهدان عليها كما هو روح العرفان وثابت
الايمان وقليل ما هم.
وثانيهما
: سد باب الحجة على
النبوة الصادقة وتضييع فائدتها لأجل التباس الأمر على غالب الناس فانه إذ جاز ظهور
الآيات والقوات والعجائب العظيمة من الكاذب والداعي الى الشرك كما تزعمه الكتب
التي تغر بصورة نسبتها الى الوحي فحينئذ لا حجة عند عامة الناس بظهور هذه الامور
من النبي الصادق حيث يكون أمرها مشترك بين الصادق والكاذب.
وثالثها
: لزوم العبث
بإظهارها على يد الصادق سواء كان للحجة على رسالته أو لبيان كرامته حيث انها لا
تفيد شيئا من ذلك مع اشتراكها بين الصادق والكاذب.
ورابعا
: ان إظهارها على يد
الكاذب نقض للغرض من إظهارها على يد الصادق وهو كونها حجة على صدقه.
وخامسها
: إذا كان إظهارها
على يد الصادق لأجل الحجة على صدقه مع إظهارها على يد الكاذب لزم من ذلك أمران :
أحدهما
: قبح العقاب
والملامة والتوبيخ لمن صدق الكاذب وآمن به لأنه قد جاء بما هو حجة على صدق الصادق.
وثانيهما
: قبح العقاب
والملامة والتوبيخ لمن لم يؤمن بالصادق ولم يصدقه وذلك لأنه لم يجيء إلا بما يجيء
به الكاذب.
ولا يخفى ان كل
واحد من البشر لا يرضى بأن ينسب إليه واحد من هذه الأمور.
* * *
خلق السموات والأرض وما فيها
وقد قدمنا في هذا
الجزء في آيات خلقها من القرآن الكريم ما تعرف به شيئا من تنافي كلمات التوراة
واضطرابها في هذا الشأن ، «فراجعه صحيفة ٨٨ و ٨٩».
النبوة والأنبياء
أما النبوة
فللعهدين مقالات غريبة وإن شئت قلت ظريفة «منها» انها تذكر ان المتنبّئ يقوم بخلع
الثياب والتعري والانطراح عريانا انظر «١ صم ١٩ ، ٢٣ و ٢٤» ويقوم بالرباب والدف
والناي والعود «١ صم ١٠ ، ٥ و ٦» وان ضرب العود يوجب حلول يد الله على النبي
وإعلان الوحي له فيطلب النبي عودا وعوادا عند ما يسأل عن الوحي «٢ مل ٣ ، ١٥» ، بل
ان العهد القديم سمى الجنون تنبيا حيث قال الأصل العبراني في أحوال شاول مع داود
ويهيئ مما حارات وتصلح روح إليهم راعاه آل شاول ، ويتنبأ بتوك هبيت «١ صم ١٨ ، ١٠».
وتعريبه وكان من
الغد ، واقتحم روح الإله الردي على شاول فتنبأ في وسط البيت ، والتراجم أصابت حيث
ترجمت قوله «ويتنبأ» بقولها «وجنّ» ..
وقد ذكر العهدان
أحوال الأنبياء عند الوحي إليهم وأحوالا ظريفة في تبليغهم ذكرناها في الجزء الاول
صحيفة ٤٦ ـ ٥٢.
ولم يذكر العهد
القديم ان الله أرسل نبيا الى عامة البشر ليدعوهم الى هدى التوحيد وحقيقة الايمان
وأدب الشريعة وإصلاحها.
وغاية ما ذكر في
أحوال الأنبياء قبل موسى بعض الأحوال الخصوصية ولكن كثيرا منها يرجع الى القدح
بقدسهم أو التسجيل بالفضائح على عائلاتهم أو الجرأة على جلال الله وعظمته وقد
ذكرناها أو أشرنا إليها متفرقة في هذا الكتاب فلا نؤثر إعادتها هنا مجموعة.
نعم تذكر التوراة
الرائجة ان نوحا لمّا نجا من الطوفان بنى مذبحا لله
وقرب فيه محرقات
من كل الحيوانات والطيور الطاهرة ... وهذا يقتضي انه قد أعطى شريعة القرابين ،
وطهارة بعض البهائم والطيور ، ونجاسة بعضها الآخر «تك ٨ ، ٢٠».
بل ومقتضى التوراة
ان شريعة القرابين من الابكار وغيرها ثابتة من عهد آدم وهابيل وقابيل إذ عملا بها «تك
٤ ، و ٤» ، ، وان ابراهيم حينما بلغ عمره تسعا وتسعين سنة ، وعمر اسماعيل ثلاث
عشرة سنة اعطى شريعة الختان له ولنسله ، وعبده الغريب المبتاع بالفضة علامة للعهد
بينهم وبين الله فيختن المولود وهو ابن ثمانية أيام «تك ١٧ ، ١٠ ـ ١٤».
ولم تذكر لنوح ولا
لإبراهيم ولا لغيرهما دعوة الى التوحيد والصلاح ولا نهيا عن عبادة الأوثان.
نعم تذكر ان موسى
علم بني اسرائيل بالتوحيد ولم تذكر انه دعا إليه غيرهم حتى فرعون وقومه ، بل يكاد
مضمونها أن يصرح بأنه لم يعلم بالتوحيد ولم يدع إليه إلا بني اسرائيل.
وذكرت ان موسى جاء
من الله بالشريعة ولكن كثيرا من كلماتها يصرح باختصاص الشريعة ببني اسرائيل والجار
الذي في وسطهم.
وأما العهد الجديد
فانه يذكر عن قول المسيح انه لم يرسل إلا الى خراف اسرائيل الضالة «مت ١٥ ، ٢٤» :
وانه ارسل دعاته وتلاميذه للدعوة وأوصاهم أن لا يذهبوا في طريق امم ولا يدخلوا
مدينة للسامريين بل يذهبوا الى خراف بيت اسرائيل الضالة «مت ١٠ ، ٥ و ٦».
ولكن العهد الجديد
يذكر عن المسيح بعد حادثة الصليب انه قال لتلاميذه : اذهبوا وتلمذوا جميع الامم «مت
٢٨ ، ١٩».
وأما ما ذكره
العهدان في أحوال الأنبياء ونسبة المعاصي والكفر والكذب الى قدسهم فانك تعرفه من
متفرقات الكتاب ، وخصوص الفصول المتقدمة من الباب الثاني من المقدمة الثامنة في
الجزء الأول صحيفة «٩٠ ـ ١٥٠».
وان العهد الجديد
يعتبر التلاميذ وبولس أنبياء ورسلا ، وقد ذكر في
أحوالهم ما تجل
عنه مرتبة سائر الصالحين فضلا عن الأنبياء ، فانظر الى الجزء الأول «صحيفة ٦٢ ـ ٦٥»
، ، وقد أحلناك على متفرقاته استقباحا لجمعه في مقام واحد.
وذكرت التوراة
الرائجة في أمر النبوة أشياء لا تناسب الوحي وكتبه بل تناسب خرافات الأهواء «منها»
ان الله كلم موسى بأن الكاهن الذي يعمل ذبيحة الخطيئة يأكلها في مكان مقدس «لا ٦ ،
٢٤ ـ ٢٧» ، ثم ذكرت ان موسى طلب تيس الخطيئة فإذا هو قد احترق فسخط على العازرا
وايثامار بني هارون وقال : ما لكما لم تأكلا ذبيحة الخطيئة في المكان المقدس فإن
الله أعطاكما إياها لتحملا إثم الجماعة تكفيرا عنهم ، أكلا تأكلانها كما أمرت فقال
هارون انهما اليوم قد قدما ذبيحة خطيئتهما ومحرقتهما أمام الرب وقد أصابني اليوم
مثل هذه ـ يعني احتراق «ناداب» و «ابيهو» ابنيه ـ ، فلو أكلت ذبيحة الخطيئة اليوم
هل كان يحسن في عيني الرب ، فلما سمع موسى حسن في عينيه «لا ١٠ ، ١٦ ـ ٢٠».
فيا عجبا ان الله
يأمرهم بأكل ذبيحة الخطيئة وموسى يبلغ ذلك عن الله ، وهارون يعترض على هذه الشريعة
وشريعة المحرقة ويتشاءم بهما ويقول : ان ذلك هل يحسن في عيني الرب؟ فما ذا ترى في
هذا الكلام؟ أيقال ان هارون كان مكذبا لموسى في تبليغه عن الله؟ أم يرى ان له أن
يعارض الوحي بالرأي والأعجب من ذلك قول التوراة ان موسى استحسن رأي هارون مع
معارضته لما أوحاه الله من الشريعة المذكورة.
أيقال ان موسى كان
شاكا في أمره فيستحسن الرأي المعارض للوحي ، حاشا لله (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسالَتَهُ).
«ومنها» ان الإله
أتى «بلعام» ليلا وقال له : ان أتى الرجال أليك فانطلق معهم وتعمل الكلام الذي
اكلمك به فقط ، فقام بلعام صباحا وانطلق معهم فحمى غضب الإله لكونه منطلقا ووقف
ملاك الرب في الطريق ليقاومه «عد ٢٢ ، ٢٠ ـ ٢٣».
ويا عجبا كيف يأمر
الله بلعام بالانطلاق معهم ثم يحمي غضبه عليه لأنه
انطلق ويرسل ملاكه
ليقاومه ، مع ان بلعام حسب نقل التوراة لم يتكلم في ذهابه معهم إلا بما كلمه الله
به ، «عد ٢٣ و ٢٤» ثم بعد هذا أيضا أمر بالذهاب معهم «عد ٢٢ ، ٣٥» أم تقول التوراة
الرائجة «كلام الليل يمحوه النهار».
واعلم ان العهدين
لم ينصا على نبوة آدم ، وغاية ما ذكرت التوراة خطاب الله معه في شأن الشجرة في
النهي عن الأكل منها وبعد الأكل ولكن ذلك بمقتضى التوراة لا يدل على النبوة ، حيث
تذكر ان الله خاطب الحية وحواء بنحو هذا الخطاب.
ثم ذكرت انه عند
ما ولد «انوش» ابتدأ ان يدعى باسم الرب ، وهذا يشعر بوجود نبوة ودعوة الى الله في
ذلك الوقت ، ولكنها لم تبين ان تلك الدعوة باسم الرب كانت من آدم أو من شيث ، فان
ذلك الوقت كان بمقتضى التوراة قبل موت آدم بنحو ستمائة وخمس وتسعين سنة ، وبعد
ولادة شيث بنحو مائة وخمس سنين ..
ثم ذكرت نوحا
وذكرت خطاب الله معه بنحو يشعر بنبوته ، وصرح العهد الجديد بالوحي إليه «عب ١١ ، ٧»
، وذكرت «حنوك» ـ أي ادريس ـ ولم تذكر إلا انه سار مع الله والله أخذه ، وصرح
العهد الجديد بنبوته «يه ١٤» ، وذكرت ابراهيم ونصت على خطاب الله معه وعلى نبوته ،
وذكرت إسحاق ويعقوب وخطاب الله معهما ولم تنص عليهما بعنوان النبوة ، ولم تذكر
لهؤلاء دعوة الى التوحيد ولا موعظة ولا إرشادا الى الهدى ، كما لم تذكر لهم شريعة
ولا كتابا ولكنها لا تنفي ذلك.
وذكرت مع نبوة
موسى نبوة هارون أخاه ومريم اختهما وسبعين من شيوخ اسرائيل ورجلين آخرين معهما ،
ولم تصرح بنبوة يشوع ـ أي يوشع ـ بل ذكرت انه امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه
يديه ، لكن سفر يشوع قد تكرر فيه قوله ان الله كلم يوشع ...
ثم لم ينص سفر
القضاة فيما بين يوشع وصموئيل على نبوة أحد إلا على
نبوة «دبوره»
امرأة لفيدوت ، ورجل آخر لم يذكر اسمه بل ان الله أرسله فوبخ بني اسرائيل ، نعم
ذكر ان «جدعون» ظهر له ملاك يهوه وكلمه يهوه مرارا ثم من صموئيل صار العهد القديم
يتعرض لكثرة الأنبياء فذكر انه كان مع صموئيل في الرامة جماعة من الأنبياء ،
ولكنهم يتعاطون الرباب والناي والدف والعود حتى ان رسل «شاول» في دفعات ثلاث لما
ذهبوا الى الرامة ووجدوا الأنبياء يتنبئون كان عليهم روح الله فتنبئوا ، وكذا شاول
لما ذهب أيضا خلع ثيابه هو أيضا وتنبأ أمام صموئيل ، وانطرح عريانا ذلك النهار كله
وكل الليل.
ولم تتضح حقيقة
هذه النبوة والتنبي الذي يقوم بالدف والرباب والناي والعود والتعري والانطراح كل
النهار وكل الليل.
وكان النبي في
زمان صموئيل ونحوه يسمى «الرائي» «١ صم ٩ ، ٩» ، ويسمى أيضا في العهد القديم «رجل
الله» ، والعهد القديم ذكر ان الله كلم داود وخاطبه ، وكذا سليمان ، ونص العهد
الجديد على نبوة داود ، وذكر العهد القديم في زمان داود «ناثان» النبي و «جاد»
النبي و «يدوثون» يرائي داود ، وذكر من بعد ذلك اخيّا الشيلوني ، ورجل الله من
يهوذا ، والنبي الساكن في بيت ايل ، وحنّاني ، وشمعيا ، وعدوّ ، وعوديد ، ويعدو ،
وعزرياهو ، وياهو بن حنّاني ، وايليا ، وجماعة في زمانه من الأنبياء الذين قتلت
منهم «ابزابل» من قتلت وأخفى عوبديا منهم مائة ، واليشع ، ونبيا لم يسمه ، وآخر من
الأنبياء لم يسمه أيضا ، وغلام نبي لم يسمه أيضا وميخا ابن يملة ، وعدة من
الأنبياء في زمان «منسى» ، والنبية خلدة ، وحننيا ، والأنبياء الذين تنسب إليهم
كتب من العهد القديم وهم أشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال ، وهوشع ، ويوئيل ، وعاموس
، وعوبديا ، ويونان ابن امتاي ـ أي يونس بن متى ـ وميخا المورشتى ، وناحوم ،
وحبقوق ، وصفينا ، وحجى ، وزكريا ، وملاخي ، ويقال ان ملاخي آخر أنبياء العهد
القديم.
وأما الأنبياء
الذين يذكرهم العهد الجديد فهم زكريا «لو ١ ، ٦٧» ، والنبية حنة «لو ٢ ، ٣٦» ،
ويوحنا المعمدان ـ أي يحيى بن زكريا ـ ، والمسيح عليهالسلام رسول الله ، وقد ذكره العهد الجديد بسمات وصفات «منها»
تسميته بالمسيح.
وهذه تسمية سبقت
في العهد القديم «لشاول» سماه داود مرارا مسيح الرب ، وسبقت أيضا عن وحي الله
لأشعيا ، هكذا يقول الرب لمسيحه «كورش» وهو من ملوك فارس «ا ش ٤٥ ، ١».
«ومنها» انه عليهالسلام كان إذا أراد أن يعبر عن نفسه المقدسة يسمى نفسه ابن
الإنسان.
أفلا تقول ان
الالتزام بهذا التعبير إنما هو للمحافظة والاحتياط من وقوع الشبهة التي علقت بها
الأوهام وسرى دائها من المجاورة.
«ومنها» انه نبي «ا
ع ٣ ، ٢٠ ـ ٢٥» وانه هو النبي الذي قال عنه موسى لبني اسرائيل ان الله يقيم لهم
نبيا مثل موسى «تث ١٨ ، ١٥».
«ومنها» انه رسول
الله كما كثر ذلك في الأناجيل وخصوص يوحنا ، «ومنها» تسميته ابن الله ، والابن ،
والابن الوحيد.
وهذا اصطلاح جرى
عليه العهدان في ان المؤمنين أو الصالحين يسمون ابن الله البكر ، وأبناء الله ،
أولاد الله ، ومولودين من الله ، والله ولدهم ، والله أبوهم ، ولا يسهل أن يحصى
ذلك من العهدين لكثرته ، فانظر أقلا «تك ٦ ، ٢ و ٤ وخر ٤ ، ٢٢ و ٢٣ وتث ١٤ ، ١ و ١
أي ٢٢ ، ١٠ وهو ١ ، ١٠ ومت ٦ ، ٦ ـ ٣٢ ويو ١٢ و ١٣ و ١ يو ٣ ، ١ و ٢ و ٩ و ١٠ ، و
٥ ، ١ و ٢ و ٤».
وجاء في الاناجيل
المترجمة بالعربية ان المسيح عبر عن نفسه بالرب ، «مت ٢١ ، ٣ ومز ١١ ، ٣ ولو ١٩ ،
٣١» ، وكثر التعبير بذلك في التراجم العربية لرسائل العهد الجديد ، ونص عبارة
الاناجيل «الرب محتاج إليه» ، وفي الترجمة العبرانية «هادون» ـ أي السيد أو المولى
ـ ، وفي التراجم الفارسية «خداوند».
ولكن لا يخفى عليك
ان نفس الإنجيل يقول : ان لفظ الرب تفسيره
«المعلم» «يو ١ ،
٣٨ ، و ٢٠ ، ١٦».
وذكرت حواشي العهد
الجديد ان المذكور في انجيل متى «٢٣ ، ٧» في العربية «سيدي سيدي» وفي الفارسية «آقا
آقا» إنما هو في العبرانية «ربي ربي» والمراد بالعبرانية هي نسخة انجيل متى
الأصلية.
ويشهد لذلك قوله
لأن معلمكم أو مدبركم أو مرشدكم واحد ، وهذه شهادة كافية من ذات الإنجيل على ان
اللغة العبرانية التي هي لغة المسيح وخصوصا في خطابه للتلاميذ واليهود يدعى فيها
الرئيس والمعلم والمرشد «الرب» و «ربي» ، والمذكور في انجيل يوحنا «٣ ، ٣» في
العربية «يا معلم» هو في اليونانية «ربي».
وان نفس قول
الاناجيل «الرب محتاج إليه» يكفي في إبطال أوهام الغلو ويبين ان المراد منه وصف
مخلوق محتاج ويكفي في ذلك ان الاناجيل تشهد ان المسيح لم يكن يمكنه أن يبين لبني
اسرائيل مراتبه من النبوة والكمال البشري فكيف يدعى الألوهية.
وجاء في المزمور
العاشر بعد المائة ما نصه : نأوم يهوه لادناي ـ أي أوحى الله لسيدي ـ فترجموه في
المزامير العربية «قال الرب لربي» ، والفارسية «يهوه به خداوند من كفت» و «خداوند
به خداوند من فرمود».
وذكرت الاناجيل ان
المسيح استشهد بهذا الكلام من المزامير فترجمته بالعربية «قال الرب ربي» ،
وبالفارسية «خداوند به خداوند كفت» ، واعلم ان الاناجيل تذكر عن قول المسيح أنه
أنكر على الكتبة والفريسيين قولهم ان المسيح يكون ابن داود ، واحتج لإنكاره بأن
داود قال بالروح القدس في المزامير «قال الرب لربي» ، فإذا كان داود يدعوه ربا
فكيف يكون ابنه؟ ومن أين هو ابنه؟ «مت ٢٢ ، ٤١ ـ ٤٦ ومر ١٢ ، ٣٥ ـ ٣٨ ولو ٢٠ ، ٤١ ـ
٤٥».
فاتفقت تراجم
العهد الجديد وتراجم أصحابه للمزامير على تغيير معنى «سيدي» الذي هو في الأصل
العبراني الى معنى «ربي» وذلك لئلا تبطل صورة المغالط في الاحتجاج المذكور حيث ان
كل أحد يعلم أن لا منافاة بين أن يكون
المسيح ابن داود
وبين أن يدعوه داود «سيدي» فان كثيرا من الأبناء يكونون بشأنهم الجليل ورتبهم
العظيمة سادات لآبائهم كما يكون الأنبياء بالنسبة الى آبائهم الذي ليسوا بأنبياء.
وان مقام المسيح
في النبوة والرسالة العامة ليقتضي لداود وإن كان نبيا أن يدعوه سيدا.
فلذلك بدل
المترجمون معنى «سيدي» بمعنى «ربي» لأن كل موحد يعلم ان ابن البشر لا يكون ربا ولا
إلها .. لكن ما ذا يصنعون وعهدهم الجديد يصرح بأن المسيح هو ابن داود ، وقد قدمنا
في الجزء الاول شيئا من هذا فراجعه صحيفة ٢٣٠ ـ ٢٣١.
وجاء في العهد
الجديد انه هو صورة الله «٢ كو ٤ ، ٤».
ومن تتبع العهدين
لم يجد من أمثال هذا الكلام دلالة الا على تقحمهما في سماجة التعبير حتى انهما لم
يقفا فيه على حد ولا مجاز مناسب ، فقد جاء في التوراة الرائجة ان الله جل شأنه خلق
آدم على صورته ، ولم ترض بهذا المقدار ، بل كررت وقالت على صورة الله خلقه «تك ١ ،
٢٧» ، وذكر العهد الجديد ان الرجل صورة الله «١ كو ١١ ، ٧» ، فلما ذا يكون الرجل
والمسيح صورة الله؟ وكيف يكون ذلك؟
وجاء في العهد
الجديد ان المسيح بكر كل خليقة «كو ١ ، ١٥» وبداية خليقة الله «روء ٣ ، ١٤».
ولا يمتنع أن يكون
المسيح باعتبار نورانيته بكر خليقة الله وبداية خليقته إذ لا يمتنع أن يكون
الأنبياء والمرسلون قد خلقوا بنورانيتهم قبل خلق أجسامهم ، وأما خلق أجسامهم فلا
يشك عاقل في ان وجودها إنما هو بأزمانها وأوقاتها المحدودة المترتبة.
وكيف كان فهذا
الكلام من العهد الجديد جرى على ما ينبغي في بيان الحقيقة والتصريح بأن المسيح
مخلوق لله ..
ولكن ما ذا ترى في
قول العهد الجديد : المسيح يسوع الذي إذا كان في
صورة الله لم يحسب
خلسة أن يكون معادلا لله ، «أو لم يحسب المساواة بالله غنيمة» لكنه اخلى نفسه آخذا
صورة عبد صائرا في شبه الناس ، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت
موت الصليب لذلك رفعه الله أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم «في ٢ ، ٥ ـ ١٠» أترى ان
هذا القائل يريد في كلامه هذا ان هناك إلهين متعادلين في مجد الألوهية وصفاتها ،
وان المسيح هو أحدهما فهو يستحق بمقامه الإلهي أن يكون معادلا لله ، ولكنه ترك
الشقاق والنزاع وتنازل عن حقه من مجد الألوهية وصفاتها مراعاة ومحاباة أو صلحا
بجعالة ، فأخلى نفسه من معادلة الله وأخذ بنفسه صورة عبد وصار من ذاته في شبه
الناس.
وعلى هذا فلا يكون
من خليقة الله ولا يكون هو الله لأن الله على هذا الكلام هو معادلة الآخر تعالى
الله عما يقولون.
ولما ذا لم يتمم
هذا الكلام بيانه فيبين ان هذا التنازل كان بمعاملة يصح فيها الفسخ أو لا يصح ،
وان المسيح لو أراد فسخ هذه المعاملة هل يقدر على فسخها أو لا يقدر.
نعم يمكن أن يفهم
من الاناجيل مع كلام المتكلف وأمثاله في مسألة الفداء ويعرف ان المسيح على أي حال
كان لا يقدر على فسخ معاملاته مع الله ، وان أراد وطلب وبكى واكتئب وحزن وصلى بأشد
لجاجة ، فانظر الجزء الأول صحيفة ٣١٦ ـ ٣٢٣.
ثم ان كان بهذا
التنازل خرج عن حقيقة الألوهية الى حقيقة العبودية وشبه الناس فحينئذ لا يبقى له
شيء من مجد الحقيقة الاولى وصفاتها العظيمة بل هو إنسان كسائر البشر ان فاز بشيء
من المجد فبمجد النبوة والرسالة الذي يمكن ثبوته لآحاد البشر ، وإن كان لم يخرج عن
حقيقته الاولى في الألوهية ومعادلة الله ، ولم تنقلب حقيقته الى الإنسانية ،
فحينئذ لا بد أن تبقى له المعادلة لله ، وصفات الألوهية كالعلم والقدرة وسائر
الكمالات الإلهية على وجه لا يمكن أن يتصف بضدها لأنها لا يمكن أن تنفك من حقيقة
الالوهية.
قل : إذا فما حاجة
هذا المعادل لله الى أن يرفعه الله ويعطيه اسما فوق كل اسم ، أم تقول : ان الكلام
المتقدم المنقول عن ثاني «فيلبي» إنما هو من محض الغلو في التعبير ، وتعدي الحد
المقبول في المبالغة ، فان الذي ينسب له هذا الكلام هو الذي ينسب إليه قوله ان
المسيح بكر كل خليقة ، ولذا قال هاهنا ان الله رفعه وأعطاه اسما فوق كل اسم.
وزد على ذلك ان
الإنجيل ينقل عن قول المسيح أبي أعظم مني «يو ١٤ ، ٢٨» ، وقوله وأما ذلك اليوم
وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب «مر
١٣ ، ٣٢».
ومن المعلوم من
العهد الجديد ان المراد بالابن هو المسيح فهو لا يعلم بذلك اليوم وتلك الساعة.
وقوله : أنا لا
أقدر أن أفعل من نفسي شيئا «يو ٥ : ٣٠ و ١٩» وانه لم يقدر أن يصنع في وطنه ولا قوة
واحدة «مر ٦ ، ٥» ، وليس له ان يعطي شيئا إلا للذين أعده الله لهم «مت ٢٠ ، ٢٣»
وانه يتضرع الى الله ، ويعبده بالصلاة والصوم ويطلب منه ويفزع إليه في حوائجه
وضيقه ، ويطلب منه النجاة ويجرب من ابليس ، ويطمع فيه ابليس بغوايته بالشرك وينقله
من مكان ومن كان بهذه الصفات لا يقال فيه أنّه معادل لله ، وكيف والاناجيل تنسب له
أنه قال على الصليب إلهي إلهي لما ذا شبقتني؟ ـ أي لما ذا تركتني ـ؟ وهذا كاف في
الصراحة بأنه ليس معادلا لله وأنّه ليس إلها ، لأن الإله لا يكون له إله ، ولا هو
الله ، وإلا كان هذا الكلام كله غلط وكذب.
وكذا حكاية
الإنجيل اصعد الى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ، «يو ٢٠ ، ١٧» ، أفليس في هذا صراحة
في كونه مساويا للبشر في انه له إله هو إله البشر.
ولكن المتكلف يقول
«يه ٤ ج ص ٢٨٧» لو سوى بينه ـ أي المسيح ـ وبينهم ـ أي البشر ـ لقال الى أبينا
وإلهنا ، ولكنه لم يقل ذلك إشارة الى كونه الكلمة الأزلية الخالق للعالمين ، وانه
والأب واحد ، فأبوة الأب للمسيح هي
أزلية لانه كلمته
وروحه ، أما ابوته لنا نحن فهي ابوة الخالق للمخلوقين.
فنقول أولا : ان
المسيح قال إلهي وإلهكم ، ويكفينا من ذلك قوله ان له إلها هو إله البشر ، ولا يجدي
في ذلك اختلاف الجهات لو كان معقولا فان الإله لا يكون له إله ، وهذا من أوضح
البديهيات على رغم فلتات الاوهام ، والمتكلف يقول «يه ٤ ج ص ٢٨٥» المسيح هو الله.
فليت شعري إذا من
هو الإله للمسيح الذي يكون على ذلك إلها لله الذي هو المسيح.
وثانيا : ان
العهدين ذكرا عن خطاب الله لموسى : أنا إله أبيك إله ابراهيم إله اسحاق وإله يعقوب
«خر ٣ ، ٦ ومت ٢٢ ، ٣٢».
أفيقول المتكلف
انه قال ذلك لكي يدل على ان ألوهيته لإبراهيم وإسحاق ويعقوب متخالفة في الجهات؟
ولو سوى بينهم لقال : إله ابراهيم واسحاق ويعقوب.
وثالثا : ان العهد
الجديد يقول : ان المسيح بكر كل خليقة ، وبداية خليقة الله ، فلا بد حينئذ من أن
تكون ابوة الله له ابوة الخالق للمخلوقين ، وكيف يكون الخالق والمخلوق واحدا.
ومن هذا كله يتضح
لك الوهن والغلو في العبارة ، أو المراد في قول العهد الجديد في شأن المسيح الكائن
على الكل إلها.
والمتكلف يقول «يه
٤ ج ص ٢٨٨ و ٢٨٩» فلا عجب إذا تألم وتوجع وحزن وطلب عبور الحزن واحتمل كل هذه
الأحزان لأجلنا ، فقد مات البار من أجل الآثمة ليبررنا ، فاللاهوت لم يبتلع
الناسوت ، بل كان إلها تاما وإنسانا تاما يجول ويمشي ويجوع ويحزن ويتوجع ، ولكنه
كإله كان قديرا خالقا حفيظا.
أفلا تقول للمتكلف
إذا كان المسيح إلها احتمل هذه الاحزان لأجل الآثمة ، فلما ذا يطلب عبور الحزن
وكأس المنية ، وممن يطلب إذا كان هو الإله وهو الله ، وإن كان اللاهوت لم يبتلع
الناسوت فلما ذا كان الناسوت قد ابتلع اللاهوت وشرب عليه الماء.
وليت شعري ما معنى
قول المتكلف ان المسيح كان إلها تاما ولكنه كان كإله ، فهل كان المسيح يتقلب حسب
هوى المتكلف مرة يكون إلها تاما ، ومرة يكون كإله.
وكيف يقول المتكلف
كان قديرا حفيظا ، مع ان الاناجيل تقول : ان المسيح اعترف بعدم القدرة وعدم العلم
، وان بعض الامور ليس له أن يعطيها ، وتقول الاناجيل انه حزن واكتئب وسأل من الله
بأشد لجاجة أن يعبر عنه كأس المنية فلم تعبر كما ذكرناه في الجزء الاول صحيفة ٣٢٠
، بل يقول الإنجيل انه قال : على الصليب إلهي إلهي لما ذا شبقتني ـ أي لما ذا
تركتني ـ وهذا قول عبد عاجز ضعيف مستغيث بإله يقدر على تخليصه.
وقد جاء في العهد
الجديد في شأن المسيح كلمات لو كانت وحدها لأوهمت شيئا من الغلو ولكنها قد جاء
مثلها في شأن غيره من البشر ، وذلك مما يكفي في ردّه لتوهم الغلو منها خاسئا ،
فضلا عن سائر القرائن من ذات العهد الجديد.
فمنها ما يحكيه عن
قول المسيح أنا والأب واحد «يو ١٠ ، ٣٠» وقد جاء مثله في شأن التلاميذ عن قول
المسيح في الدعاء الى الله ليكونوا واحدا كما نحن «يو ١٧ ، ١١ و ٢٢».
وقوله في شأن التلاميذ
وغيرهم ليكون الجميع واحدا كما أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ، ليكونوا هم أيضا
واحدا فينا ليؤمن العالم انك أرسلتني «يو ١٧ ، ٢١» ، ، وهذا بنفسه وحده يشهد بأن
المراد بالوحدة والاتحاد هو الاتفاق على الحق ، وان المراد من قوله «أنت أيها الأب
في» هو عناية الله به في تأييده بالمعجزات وإجابة الدعاء ونحو ذلك.
والمراد من قوله :
«أنا فيك» إيمانه بالله ، والدعوة الى توحيده وطاعته ونحو ذلك ...
وكذا قوله : «ليكونوا
هم أيضا واحدا فينا» ، فهو كما يحكى من قوله للتلاميذ : في ذلك اليوم تعلمون اني
أنا في أبي ، وأنتم في وأنا فيكم «يو ١٤ : ٢٠».
وكقول العهد
الجديد في المؤمنين بصلاح المسيح ورسالته ، فالله يثبت فيه وهو في الله ، يثبت في
الله والله فيه «١ يو ٤ ، ١٥ و ١٦».
وكقوله أيضا : نحن
الكثيرين جسد واحد في المسيح ، «رو ١٢ ، ٥» ، وقوله : لأن أعضائنا جسمه ـ أي المسيح
ـ من لحمه ومن عظامه «ا ف ٥ ، ٣٠» ، ، والكنيسة جسده «اف ١ ، ٢٣» وان المؤمنين به
جسده «١ كو ١٢ ، ٢٧».
«ومنها» ما يحكى
عن قول المسيح الكلام الذي اكلمكم به لست أتكلم به من نفسي ، لكن الأب الحالّ في
هو يعمل الأعمال «يو ١٤ : ١٠» ، وهو كما يحكى عنه من قوله للتلاميذ : لستم أنتم
المتكلمين ، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم «مت ١٠ ، ١٠».
والمراد من ذلك
تأييد الله فنسب إليه الفعل والحلول فيه وفيهم ، وعن قول بولس لأهل كورنتوش : أما
تعلمون انكم هيكل الله؟ وروح الله يسكن فيكم «١ كو ٣ ، ١٦» ، ولأهل فيلبي إله وأب
واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم «أو وفي كلنا ، أو وفي الكل».
فاستعمال لفظ «الحال
في» و «فيكم» و «في كلكم» مجاز جرى عليه العهد الجديد ، وليس على عهدتي أن يكون
مقبولا.
«ومنها» ما يحكى
عن قول المسيح أنتم من أسفل ، أما أنا فمن فوق أنتم من هذا العالم ، أما أنا فلست
من هذا العالم «يو ٨ ، ٢٣».
وقد جاء مثله في
العهد الجديد في شأن المؤمنين فوصفهم بالولادة من الله ومن فوق.
ففيه الذين ولدوا
ليس من دم ولا مشيئة جسد ولا مشيئة رجل ، بل من الله «يو ١ ، ١٣».
وعن قول المسيح إن
كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله ، لا تتعجب اني قلت لك ينبغي أن
تولدوا من فوق «يو ٣ ، ٣ و ٧» ،
وعن قوله في شأن
التلاميذ لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم «يو
١٥ : ١٩» وانهم ليسوا من العالم ، كما اني لست من العالم «يو ١٧ ، ١٤ و ١٦».
«ومنها» عن قول
المسيح الذي رآني فقد رأى الأب «يو ٤ ، ٩» ، وذات العهد الجديد يوجب تأويل هذا
الكلام فضلا عن سائر القرائن لقوله فيما هو بمقتضى فرض الترتيب بعد زمان المسيح ،
وبعد الكلام المذكور ما نصه : الله لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه «اتي ٦ ،
١٦» ، وان الله لم ينظره أحد قط «١ يو ٤ ، ١٢» ، والله غير منظور «كو ١ ، ١٥» ،
ولو كان الكلام الأول له حقيقة لكان الله جل شأنه مرئيا ومنظورا ، ويقدر كل احد
على أن يراه.
هذا هو العمدة مما
يوهم الغلو وقد عرفت من نفس محاورة العهد الجديد سخافة توهم الغلو منه ..
وإن حكّمت عقلك في
ذلك فقد فزت بالسعادة وأضاء لك صبح اليقين ، وقد جاء في الإنجيل عن قول المسيح في
خطاب الله ، وهذه هي الحياة الأبدية ان يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع
المسيح الذي أرسلته «يو ١٧ ، ٣».
وذكرت الاناجيل في
عبادة المسيح لله انه اعتمد من يوحنا بمعمودية التوبة «وهو غسل التوبة» لكي يكمل
كل بر «مت ٣ ، ١٥» وصار مع الوحوش في البرية أربعين يوما صائما ليجرب من ابليس «مت
٤ ومر ١ ولو ٤» ، «ومعنى ذلك انه يروض نفسه الكريمة على الطاعة لله ومجانبة الهوى»
وكان يصعد الجبل ليصلي منفردا يقضي بذلك أكثر النهار وأكثر الليل «مت ١٤ ، ٢٣ ـ ٢٦
ومر ٦ ، ٤٦ ـ ٤٨» ، ويقصد لصلاته المواضع الخالية «مر ١ ، ٣٥» والانفراد «لو ٩ ،
١٨» ، ويبين ان بعض شفائه للمرضى لا ينال إلا بالصوم والصلاة «مت ١٧ ، ٢١ ومر ٩ ،
٢٩».
ويصرح بأنه لم
يجيء لينقض الناموس ، ويذم على نقض وصاياه حتى
الصغرى «مت ٥ ، ١٧
ـ ٢٠» ، ويحث على اتباع قول الكتبة والفريسيين لأنهم جلسوا على كرسي موسى «مت ٢٣ ،
١ ـ ٤».
* * *
وأما القيامة
والآخرة والثواب والعقاب فيهما ، فلم تذكر التوراة الرائجة فيها شيئا أصلا حتى ان
اهمال ذلك بالكلية في مقامات الوعد والوعيد ، فلم تذكر في الوعد والترغيب إلا
التنعم الدنيوي الفاني كالاستعلاء على القبائل والبركة في المزارع ونتاج البهائم
والسلة والمعجنة وثمرة البطن وما أشبه ذلك ، ولم تذكر في الوعد والتخويف إلا نحو
اللعنة فيما تقدم ذكره ، والابتلاء بالأمراض الرديئة ، والقحط والذلة ، وانه يخطب
امرأة ، ورجل آخر يضطجع معها ، ونحو ذلك ، انظر «تث ٢٨».
وعلى ذلك جرى سائر
العهد القديم فلم تذكر فيه القيامة والآخرة إلا في دانيال «١٢ ، ١ و ٢» ، ، ولكنه
نسب القيامة لكثير من الموتى الراقدين وهذا خلاف حقيقتها.
وجاء في اشعيا «٢٦
، ١٩» كلام يشبه الكلام على القيامة ولكن سوقه يأباه ، وجاء في أيوب «١٩ ، ٢٦»
كلام لا يدل الا على بقاء الروح في الجملة بعد الموت.
ويحتمل أن يكون
لأجل ما ذكرناه من تفريط العهد القديم في ذكر القيامة والآخرة نبغت فرقة من اليهود
يسمون الصدوقيين فأنكروا القيامة ، كما جاء ذكرهم في الاناجيل.
نعم ان العهد
الجديد قد جاء فيه التعرض لذكر ما بعد الموت ، فقد جاء في انجيل لوقا في حال
العالم الذي يسميه المسلمون عالم البرزخ وهو عالم الأموات فيما بين الموت والقيامة
، ففيه عن موعظة المسيح للفريسيين انه مات إنسان فقير مبتلي فحملته الملائكة الى
حضن ابراهيم ومات غني فدفن فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ، ورأى ابراهيم من
بعيد ولعازر في حضنه ، فنادى يا أبي يا إبراهيم ارحمني وارسل لعازر ليبل طرف اصبعه
بماء ويبرد لساني لأني
معذب في هذا
اللهيب ، فقال ابراهيم : يا ابني اذكر انك استوفيت خيراتك في حياتك ، وكذا لعازر
البلايا والآن هو يتعزى وأنت الغني تتعذب وفوق هذا كله ان بيننا وبينكم هوة عظيمة
لا يقدر من يريد العبور أن يجوزها ، فقال أسألك إذا يا أبت ان ترسله الى بيت أبي
لأن لي خمسة اخوة حتى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضا الى موضع العذاب هذا ، فقال له
ابراهيم : عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم فقال : إذا مضى إليهم واحد من
الأموات يتوبون فقال : ان كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء فلا يصدقون وإن قام
واحد من الأموات «لو ١٦ ، ١٩ ـ ٣١».
ويوجد في أثناء
هذا البيان خلل ظاهر يجل عنه تعليم المسيح حيث علل نعيم لعازر بابتلائه وعذاب
الغني بثروته في الدنيا وهو تعليم فاسد ، فان الله العادل الكريم لا يعذب على نعمه
التي وهبها برحمته وانما يعذب على المعاصي ، وقد يجتمع للصالح سعادة الدنيا
والآخرة ، ولا يكون ثواب الآخرة مربوطا بمجرد الابتلاء في الدنيا ، بل إنما هو
مربوط بالطاعة والصبر على البلاء ، والتسليم للقضاء ، فرب مبتلي يكون بمعصيته
واعتراضه على الله من الكافرين فيخسر الدنيا والآخرة.
وجاء في رسالة
بطرس الأول «٣ ، ١٨ و ١٩» في ذكر المسيح وانه تألم مماتا في الجسد ، ولكنه محيي في
الروح الذي به أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن إذ عصت قديما.
وكان هذا الكلام
يشير الى سجن الأرواح الشقية في عالم البرزخ .. ولعل هذا هو المأخذ لما كتبه
البروتستنت في كتاب صلاتهم من وجوب الاعتقاد بأن المسيح نزل الى الجحيم.
ولكن المتكلف مع
ما سمعته عن انجيل لوقا يقول في أمر البرزخ «يه ٢ ج ص ٢٠٥ س ٦» ، ، ان الديانة
المسيحية منزهة عن هذه الخرافات ، فليس عندهم برزخ ..
ولعل المتكلف يقول
فيما جاء في لوقا عن المسيح في شأن ابراهيم ولعازر
والغني كما قاله
كثير من أصحابه فيما جاء كثيرا في الاناجيل من حديث الأرواح النجسة بأنه كلام لا
حقيقة له ولكنه كان مداهنة لأفكار الناس في غلطهم واصلاح رأي الناس في غلط
الاعتقادات ليس من وظائف الرسالة ، بل من وظيفتها مداهنتهم بالغلط واغرائهم
بالجهل.
وقد كثر في العهد
الجديد التعرض لذكر القيامة محتجا لها ، ولكن باحتجاج واه لا يرضاه لأنفسهم عوام
الناس وأوباشهم ، انظر الجزء الاول صحيفة ٢٣٥ ـ ٢٣٦.
وفي كورنتوش
الاولى يذكر ان بولس يحتج للقيامة بقيام المسيح من الأموات .. وبأن بولس تحمل
المتاعب في افسس ولو لا القيامة لما فعل ذلك «١ كو ١٥ ، ١٢ ـ ٣٣.
ولا يخفى عليك انه
احتجاج ساقط لا يثبت شيئا على من لم يثبت عنده قيام المسيح من الموت ، ولا يثبت
القيامة بالنحو المطلوب وان فرض التصديق بموت المسيح وقيامه ، اذ لا ملازمة بين
الأمرين خصوصا اذا كانت الشبهة في أمر القيامة من حيث بلاء الأجسام وانعدام صورتها
وتفرق أوصالها ، وأما متاعب بولس فالاحتجاج بها واه ولو فرضنا ان كل من أجهد نفسه
لم يقصد بمتاعبه الا وجه الله ، كيف والموجود المعروف ان سلطان الهوى وحب الجاه
والرئاسة بعد الخمول يسخر لأكثر من ذلك ، فكم من مضرم لنار الثورة القاسية قاذف
بنفسه في مهالكها معذب لنفسه في متاعبها وهو يعلم بإنكار القيامة.
وفي العهد الجديد
عن بولس قوله : لا نرقد ـ أي لا نموت كلنا ـ ولكنا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين
عند البوق الأخير فانه سيبوق فيقام الاموات عديمي فساد ونحن نتغير «١ كوه ١ ، ٥١ و
٥٢» وان الاموات في المسيح سيقومون ونحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في
السحب لملاقاة الرب وهكذا نكون مع الرب في كل حين «١ تس ٤ ، ١٦ و ١٧».
وقد ذكرنا في
الجزء الاول صحيفة ٨٧ ـ ٨٨ ما في هذا الكلام من لزوم الكذب وبيّنا لك وهن ما تشبث
به المتكلف لإصلاح هذا الكلام فراجع.
وعن قول المسيح
انه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته ـ أي صوت المسيح ـ فيخرج الذين
فعلوا الصالحات الى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات الى قيامة الدينونة «يو ٥ ،
٢٨ و ٢٩».
وهكذا يكون في
انقضاء العالم يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون
النار «مت ١٣ ، ٤٩ و ٥٠» وان الصالحين أصحاب اليمين يرثون الملكوت المعد لهم منذ
تأسيس العالم ، وأصحاب الشمال الملاعين يذهبون الى النار الأبدية المعدّة لإبليس
وملائكته ، «مت ٢٥ ، ٣٤ و ٤١».
وهذا ناطق بأن
الصالحين لهم ملكوت يرثونه لنعيمهم وهو معد لهم.
وعن قوله لتلاميذه
: وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي «لو
٢٢ ، ٢٩ و ٣٠».
وقوله من الآن لا
أشرب من نتاج الكرمة هذا الى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت الله «مت
٢٦ ، ٢٩ ومر ١٤ ، ٢٥».
وقوله لهم أيضا لا
تضطرب قلوبكم أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي ، في بيت أبي منازل كثيرة والا كنت قلت
لكم أنا ماض لأعد لكم مكانا ، يو ١٤ ، ١ و ٢».
وهذا صريح في
التعليم بأن ملكوت الله الذي يرثه الأبرار في القيامة لنعيمهم فيه مساكن ومأكل
ومشرب وشرب من نتاج الكرمة.
وجاء أيضا عن قول
المسيح ان العصاة يمضون ويطرحون في جهنم النار التي لا تطفى حيث دودهم لا يموت
والنار لا تطفى «مر ٩ ، ٤٣ ـ ٤٩» ، وإن جسدهم يلقى في جهنم أتون النار الأبدية «مت
٥ ، ٢٩ و ٣٠ ، و ١٨ ، ٨».
نعم جاء عن قول
المسيح ان أبناء هذا الدهر يزوجون ويزوجون ، ولكن الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك
الدهر والقيامة من الاموات لا يزوجون
ولا يزوجون اذ لا
يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله اذ هم أبناء القيامة «لو
٢٠ ، ٢٤ ، و ٢٧».
ومقتضى هذا الكلام
ان القيامة مختصة بالأبرار الذين حسبوا أهلا للقيامة وهم أبناء الله ، وهذا مناقض
لما تقدم في بيان قيام الاشرار أيضا للعذاب ودخول جهنم ، وقد أشرنا الى ما في هذا
الكلام في الجزء الاول صحيفة ٢٣٤.
وعن بولس هكذا
أيضا قيامة الاموات يزرع في فساد ويقام في عدم فساد يزرع في هوان ويقام في مجد
يزرع في ضعف ويقام في قوة يزرع جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا «١ كوه ١ ، ٤٢ ـ ٤٥».
ومقتضى هذا الكلام
أيضا اختصاص القيامة بالأبرار الذين يقومون في مجد وقوة.
وفي العهد الجديد
ان يوم الرب تزول فيه السموات وتنحل ملتهبة وتنحل العناصر وتذوب محترقة وتحترق
الارض والمصنوعات فيها ولكنه وعد بسماوات جديدة وأرض جديدة يسكن فيها البر.
وينبغي أن يكون
هذا اليوم هو يوم القيامة.
وفيه أيضا المسيح
باكورة الراقدين ثم الذين للمسيح في مجيئه وبعد ذلك النهاية متى سلم الملك لله
الأب متى ابطل كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء
تحت قدميه ، آخر عدو يبطل هو الموت لأنه أخضع كل شيء تحت قدميه ، ولكن حينما يقول
ان كل شيء قد اخضع فواضح انه غير الذي اخضع له الكل ومتى اخضع له الكل ، فحينئذ
الابن نفسه سيخضع للذي اخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل «١ كو ١٥ ، ٢٣ ـ ٢٩».
ولم يتيسر لي فهم
المراد والمحصل من هذا الكلام ، ولكنه يتألف منه برهان على ان المسيح المسمى
بالابن هو غير الله لأنه يخضع لله والخاضع غير الذي يخضع له الكل.
وفيه أيضا ان
التلاميذ سألوا المسيح عن علامة مجيئه وانقضاء الدهر فأعطاهم علامات بضيق وفتن
وأضاليل وحذّرهم وذكر لهم ان مجيئه يكون بغتة ، وقال : وللوقت بعد ضيق تلك الأيام
تظلم الشمس ، والقمر لا يعطي ضوئه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماء تتزعزع
ويبصرون ابن الإنسان ـ أي المسيح ـ آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير فيرسل
ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الاربع الرياح من اقصاء السماء الى
اقصاها ، الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله ، السماء والارض
تزولان ولكن كلامي لا يزول ، وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا
ملائكة السماء الى أبي وحده ، «مت ٢٤ ، ٣ ـ ٣٧ ـ وانظر مر ١٣ ، ٣ ـ ٣٣ ، ولو ٢١ ،
٧ ـ ٣٤».
وقد اضطرب المتكلف
وأمثاله في المراد من هذا الكلام ، فمرة قالوا : ان المراد من ذلك مجيء المسيح
ورجوعه في آخر الزمان وقالوا ان المراد بالجيل الذي لا ينقضي حتى يكون هذا كله هو
الامة اليهودية والقبيلة الإسرائيلية وانها لا تزال موجودة الى مجيء المسيح ، ولذا
ترى الترجمة الكلدانية المطبوعة في نيويورك ذكرت بدل لفظ الجيل لفظ «هوجاج» ـ أي
القبيلة ـ ومرة قالوا ان المراد من مجيء المسيح هو انتشار النصرانية ، والمراد من
الجيل هو الطبقة من الناس ، ولذا ذكر في التراجم العبرانية بلفظ «دور» وفي
الفارسية بلفظ «طبقه» ، وفي الإنكليزية والفرنساوية بلفظ «جنراشن» وان هذه الحوادث
علامة لخراب بيت المقدس ولفظها كناية عن حادثة «انطوخيوس ابيغانس» ووقيعته ونكايته
في اليهود.
وما وقعوا بهذا
الاضطراب والتمحلات الواهية إلا من اضطراب الأناجيل ، فان متى ذكر هذه الامور
جوابا لسؤال التلاميذ من المسيح عن مجيئه وانقضاء الدهر.
ولوقا ذكرها جوابا
لسؤالهم عن وقت خراب الهيكل بيت المقدس ، ومرقس شوش الأمر وقرن الإشارة بأسباب
الابهام والانحلال فلم يربط أطراف كلامه ، فانظر «يه ٢ ج ص ٢٣٠ ـ ٢٣٣».
ومن الظرائف ان
المتكلف صار يتشبث لتمحلاته باستعمالات لفظ الجيل في اللغة العربية بمعنى الصنف من
الناس ، ولم يشعر ان لفظ الجيل ليس من اللغة الأصلية للأناجيل وإنما هو من لغات
التراجم ، واشتراكه في اللغة العربية لا يؤاتيه على تأويله لاصلاح ظهور الكذب على
أناجيله.
ولو تحرى رشدا
ووجد مناصا أو كانت له سعة من الاطلاع لذكر اللفظ الأصلي من أناجيله باللغة
اليونانية القديمة ، ثم بيّن انه هل يحتمل التأويل بمعنى الصنف من الناس كلفظ
الجيل لكي يأول بالامة اليهودية أم لا يحتمل ذلك.
وفي العهد الجديد
أيضا فان ابن الانسان ـ أي المسيح ـ سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي
كل واحد حسب عمله ، الحق أقول لكم ان من القيام هاهنا قوما لا يذوقون الموت حتى
يروا ابن الانسان آتيا في ملوكته.
والمتكلف لم يجد
هاهنا لفظ الجيل لكي يذكر معانيه في اللغة العربية ، وان جميع القائمين هناك قد
ذاقوا الموت منذ قرون عديدة فالتجأ الى تأويل مجيء المسيح ومجازاته للناس حسب
أعمالهم ، ورؤية بعض القائمين هناك له آتيا في ملكوته ، فانظر «يه ٢ ج ص ٢١٩ ـ ٢٢٣».
أترى المتكلف لا
يشعر ان هذه التأويلات السخيفة لمثل هذا الكلام المنسوب الى مثل المسيح عليهالسلام في مقام البيان والتعليم والاعلام بما يأتي ليفتح للكذابين
بابا واسعا تتركهم يتكلمون بما يجري على لسانهم ثم يطبقونه بمثل هذا التأويل على
أي حادثة تقع ، فيقول أتباعهم قد تمت نبواتهم والحمد لله فتأيدوا بالآيات الباهرة
..
فلا يبقى محل
للعلامة التي أعطتها التوراة للدلالة على كذب الكاذب بدعوى النبوة وهي عدم الوقوع
لما اخبر به ، انظر «تث ١٨ ، ٢١ و ٢٢» ولا يبقى لها وظيفة إلا أن تقف موقف الحيرة
والتعطيل ، ولعلها إن قالت كلمة قيل لها ان أضاليلك كأضاليل إظهار الحق.
وليت اضطراب
الأناجيل الرائجة وخللها قد اعطى قدس المسيح كفافا لا له ولا عليه.
وقد تركنا في هذا
المقام ذكر الهوسات التي جاءت في أمر القيامة في الكتاب المسمى رؤيا يوحنا تكريما
لهذا المقام عن مثلها.
* * *
وأما شريعة موسى
فقد ذكرت التوراة الرائجة في ابتدائها شريعة ذبح الفصح في ليلة الرابع عشر من شهر
ابيب وهو نيسان بين العشاءين يذبحون لكل بيت شاة ، والفقراء يكتفي الجماعة من
الجيران حسب أكلهم بشاة ويأكلون الفطير من ليلة الرابع عشر الى ليلة الحادي
والعشرين من نيسان ومن شريعة الفصح أن لا يأكل منه إلا المختون ، ولا يخرج من لحمه
خارج البيت ولا يكسر عظمه «خر ١٢».
وذكرت فيما بين
المنزل الأول لهم من مصر وبين المنزل الثاني ان الله أمر موسى أن يقدس كل بكر فاتح
رحم من الناس والبهائم فانه لله ، ومتى قدموا الى أرض الموعد يقدمون كل بكر ذكر من
نتاج البهائم لله ولكن بكر الحمار يفديه بشاة وإن يفده يكسر عنقه ، وكل بكر من
الأولاد يفديه ، ولم يعين حينئذ فدائه «خر ١٣».
وفي برية سين في
نحو الخامس عشر من أيار أنزل الله عليهم المن وأرسل إليهم السلوى وشرع لهم في المن
أن يأخذوا لكل واحد عمرا وهو عشر الأيفة يأخذوه يوما فيوما لا يوم الجمعة فانهم
يأخذون فيه ليوم السبت ، والمن كبزر الكزبرة وطعمه كرقاق بعسل «خر ١٦».
وفي «رفيديم» أشار
على موسى حموه «يثرو» وهو شعيب أن يعلم بني اسرائيل الشرائع ويقيم عليهم رؤساء
ألوف ومئات وخماسين وعشرات فيقضون للشعب في الدعاوي الصغيرة ويرجعون الى موسى في
الدعاوي الكبيرة لكي تخف عن موسى المشقة التي كان يتحملها بتصديه للقضاء بنفسه في
كل الدعاوي ففعل موسى كل ما قال حموه «خر ١٨».
وهذا يقتضي أن
يكون حمو موسى نبيا قد بلغ موسى بهذا الأمر عن الله وإلا فحاشا لموسى أن يسلط
الناس على وظيفة القضاء وفصل الخصومات بدون
أمر من الله بل
بمجرد مشورة من رجل من سائر الناس ، والتوراة الرائجة تذكر ان موسى كان يؤخر ما
يصدر عليه الى أن يبين الله له حكمه فذكرت انه لم يحكم على ابن الإسرائيلية الذي
سب الاسم بل حبسه الى أن أمره الله بقتله رجما ، انظر «لا ٢٠ ، ١٠ ـ ١٧» ، وكذا
فيمن وجدوه يحتطب في يوم السبت «عد ١٥ ، ٣٢ ـ ٣٧».
وذكرت عن أول كلام
الله لموسى في طور سيناء في خطاب بني اسرائيل : لا تكن لك آلهة اخرى امامي ، لا
تصنع لك تمثالا منحوتا ، «وعبارته في العبرانية فسل» ، ولا صورة مما في السماء
والأرض والماء لا تسجد لهن ولا تعبدهن.
وكثيرا ما كررت
وأكدت هذا النهي وتوعدت على مخالفته ونهت عن مخالطة شعوب الارض بل أمرت بملاشاتهم
احتياطا لهذه الحقيقة وحماية لحوزة التوحيد من مهاجمة الأهواء بعادية أضاليلها
وحفظا لصحة الاعتقاد من عدوى داء الوثنية وسريان وباء الشرك بالتجاوز عن التوحيد
وتأليه البشر وعبادة جند السماء والحيوان والجماد.
ثم لنذكر باقي
الشريعة في فصول ملخصة ، وربما نشير في مكرراتها الى مورد واحد.
الفصل
الأول : في الأوامر
والنواهي الواردة في الآداب وتهذيب الأخلاق ، وقد امرت بني اسرائيل بعبادة الله
والحلف باسمه وإكرام الأبوين ، والمساعدة حتى للعدو والمبغض ، والحكم بالعدل
لقريبهم.
ولكنها وحاشا
التوراة الحقيقية قد باهضت التعليم الالهي وشوّهت صورته ، إذ خصت أمرها بالحكم
بالعدل بالقريب ـ أي من كان اسرائيليا ـ ، فان التعليم الصحيح ووجدان كل البشر
يشمئزان من حقيقة هذا التخصيص وصورته.
ونهت بني اسرائيل
عن القتل والزنا والسرقة والالتفات الى الجان وطلب التوابع والتفؤل والعيافة
وتدنيس البنت بتعريضها للزنا وعن أخذ الرشوة ومتابعة المنافق واتباع الكثيرين لفعل
الشر والتحريف وعن الحلف باسم الله كذبا
واضطهاد الغريب
وظلم الأجير والمسكين والاساءة الى الأرملة واليتيم وشتم الاصم وجعل المعثرة قدام
الأعمى وعن الجور في القضاء.
ويا حبذا هذا
التعليم الجاري على حقه من الاطلاق ، ولكنها لم تتم الاحسان به بل خصصت جملة من
التعاليم ويا أسفاه.
فنهتهم عن
الانتقام والحقد على أبناء شعبهم ، والسعي بالوشاة بين شعبهم وشهادة الزور على
قريبهم وأن يغدر أحدهم بصاحبه.
ويا ليتها لم تقيد
هذه التعاليم بالشعب والقريب ، فان الحقد والغدر والوشاية وشهادة الزور رذائل
ينبغي أن تجتنب من أصلها وذاتها مع كل أحد ولا يحسن بالتعاليم الصحيحة ان تقيدها
وتخصها ولو في الصورة ، ولكن في المثل «حنّ قدح ليس منها».
نعم لا يوجد هذا
البأس في منعها عن أخذ الربا من الاسرائيلي وجواز أخذه من الأجنبي.
الفصل
الثاني : في الشعائر
والمواسم والعبادات «ومنها» محرقة كل يوم وهي خروف في الصباح وخروف بين العشاءين
مع التقدمة والسكيب من الخمر ، «ومنها» محرقة السبت أيضا وهي خروفان مع التقدمة
والسكيب من الخمر ، «ومنها» محرقة رءوس الشهور وهي ثوران وكبش وسبعة خراف حولية
وتيس مع تقدمتها وسكيبها من الخمر ، «ومثلها» محرقة الفصح في كل يوم من خامس عشر
نيسان الى الحادي والعشرين ، «ونحوها» محرقة عيد الأسابيع بعد خمسين يوما من أوائل
الحصاد ومحرقة عيد المظال مع التقدمات والسكائب من الخمر مع تفاوت في المقادير
والأيام.
هذا ما عدا محرقات
القرابين ، وكيفية إحراقها أن توضع الليلة على الموقدة كل الليل ، والنهارية كل
النهار والنار تتقد دائما ، ويحرق أيضا على هذه النار الالية والشحم من ذبائح
الخطيئة وذبائح السلامة على تفصيل طويل في الذبح والاحراق وإلقاء الرماد والأكل من
ذبائح الخطيئة والسلامة ، انظر «عد ٢٨ ولا ١ ـ ٩».
ولا يمتنع فرض
الحكمة في شريعة المحرقات باعتبار حال الوقت والعوائد وبني اسرائيل ، فلا تقل لا
يوجد فيها أثر إلا اتلاف المال وتضييعه من دون نفع للفقير أو غيره ..
ولكن قل متأسفا ما
أسوأ التعبير عن المحرقات بأنها رائجة سرور لله ، ومع ذلك تنسب العبارة الى قول
الله جل وعلا ، وكذا رائجة سروري ، وقل أيضا ما معنى سكب المسكر ، وما أسوأ
التعبير بأنه سكيب مسكر للرب وهذا يقتضي أن يعمل مصنع للمسكر ويدخر لأجل هذا
الشعار ، أفلا يدعو هذا الى الرغبة في المسكر ودوام وجوده ، وهو رأس الخبائث ،
ومنبع الشرور ، إذا وأين ذم الخمر والمسكر في العهدين كما ذكرناه في الجزء الأول
صحيفة ٢١٠ ـ ٢١١.
«ومنها» السبت
ولزوم ترك الاعمال فيه ، «ومنها» عيد الفصح وعيد الاسابيع وعيد المظال وأن يحضر في
هذه الاعياد جميع الذكور من بني اسرائيل في المحل الذي يختاره الله كبيت المقدس في
أورشليم.
ولعلك تشك في ان
هذا من شريعة الله المعطاة لموسى وتقول ان الله الحكيم الذي شرع في القرآن الكريم
صلاة الخوف والتحذر من العدو لا يناسب حكمته أن يأمر بني اسرائيل بأن يجتمع جميع
ذكورهم في الاعياد في بيت المقدس ونحوه ويتركوا حرمهم ونسائهم بلا ذكر يحميهن من
سوء الاعداء والفسقة ، وهم بين كفار وثنيين يطلبون بني اسرائيل بالاحقاد والثارات
والذحول ، وان الله تبارك اسمه ليعلم انهم مئات من الألوف سينتشرون في أرض الموعد
بحيث تبلغ مسافة كثير منهم عن بيت المقدس ونحوه مسيرة يوم أو يومين ، ويعلم ما
تذكره التوراة الرائجة وكتاب يشوع «يوشع» ان صح نقلهما فيما صنعه بنو اسرائيل
بسكان الارض من سوء الولاية وقتل النساء والاطفال واحراقهم مع البلاد والبهائم ،
وقولهما ان ذلك عن أمر الله ، إذا فكيف يأمرهم بشريعة تترك نسائهم وبناتهم مطمعا
للثائرين والفسقة.
«ومن الشعائر»
صنعة خيمة الاجتماع والتابوت وثياب هارون وبنيه والذبائح لتقديسهم وللتكفير وسائر
أحكام الكهنة ، «خر ٢٥ ـ ٣١ ولا ١٦ ـ و ٢١».
ولا تستغرب ما ذكر
في وضع ثياب هارون وزينته للكهنوت فان الازمان تختلف والزي والوقار يتفاوت بحسب
الزمان والمكان وبذلك يمكن أن يكون لذاك المنقول حظ من الحقيقة.
«ومنها» شريعة
المنذور لله وفيها اجتنابه عن الخمر وما يؤخذ منه كالخل والعنب ونحوهما .. وعند ما
يحل من انتذاره يسوغ له شرب الخمر «عد ٦».
فأين حماسة
المتكلف في قوله «يه ١ ج ص ١٣» في قوله فأنت ترى انها كانت جائزة والتوراة
والإنجيل ناطقان بأنها حرام قطعا.
«ومنها» شريعة
إخراج العشر لله من الحبوب والثمار ، وكذا البقر والغنم مما يعبر تحت العصا سنة
بسنة ، «لا ٢٧ ، ٣٠ و ٣٢ وتث ١٤ ، ٢٢ و ٢٣».
ولكن التوراة
الرائجة قد اختلفت في هذه الشريعة ، «فمرة» ذكرت ان هذه العشور لله واطلقت كما
تقدم.
«ومرة» ذكرت ان
الله أعطاها للاويين ميراثا ونصيبا واجرة عوض خدمتهم لخيمة الاجتماع إذ لم يجعل
لهم قسمة في أرض الموعد حتى ان اللاويين يرفعون عشر العشر ويعطونه رفيعة لهارون
كما يعشر الناس أملاكهم ، انظر «عد ١٨ ، ٢١ ـ ٣٢».
«ومرة» ذكرت ان
العشر يأكله صاحبه ولكنها منعته عن أكله في محله بل يحمله الى المكان الذي يختاره
الله ويأكله هناك ، وإذا طال عليه الطريق فلم يقدر أن يحمله فانه يبيعه بفضة
ويحملها الى المكان الذي يختاره الله وينفقها في كل ما تشتهيه نفسه من البقر
والغنم والخمر والمسكر وكل ما تطلب منه نفسه فيأكله هناك أمام الرب إلهه ، ولا يترك
اللاوي بل يعطيه شيئا لأنه ليس له نصيب في الأرض «تث ١٢ ، ١٧ و ١٨ ، و ١٤ ، ٢٣ ـ ٢٧».
ثم ذكرت ان
الإسرائيلي في آخر ثلاث سنين يخرج كل عشر محصوله في تلك السنة سنة العشور ويضعه في
أبوابه فيأتي الغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابه ويأكلون ويشبعون ، وكذا اللاوي
لأنه ليس له قسم ولا نصيب في
الأرض «تث ١٤ ، ٢٨
و ٢٩ ، و ٢٦ ، ١٢ و ١٣».
وظاهر الكلام
يقتضي ان هذا العشر غير العشور السنوية ولذا خالفها في الاحكام ويحتمل أن يكون
منها ولكن الاحكام اختلفت من حيث النسخ أو تعدد مواليد التوراة.
«ومنها» ما جاء في
التوراة الرائجة في خطاب الشعب الإسرائيلي ست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها ، وأما
في السنة السابعة فتريحها وتتركها ـ أي لا تزرعها ـ ليأكل فقراء شعبك وفضلتهم
تأكلها وحوش البرية كذلك تفعل بكرمك وزيتونك «خر ٢٣ ، ١٠ و ١١».
وهذا كلام غير
مستقيم يشهد بأنه لا يعرف موسى عليهالسلام فان الارض إذا اريحت ولم تزرع لم يمكن أكل الفقراء منها
ولا وحوش البرية ، وهل يأكلون ترابها ، ولو قيل هذا في الكرم والزيتون لكان مناسبا
كما جاء في «لا ٢٥ ، ٥ ـ ٧».
«ومنها» سنة
الابراء وهي في آخر سبع سنين يبرأ فيها كل ذي دين من بني اسرائيل صاحبه وأخاه مما
عليه من الدين إلا أن يكون غنيا أو يكون المديون أجنبيا عن بني اسرائيل «تث ١٥ ، ١
ـ ٥».
ومما يناسب ذلك ان
العبد العبراني يخدم ست سنين وفي السنة السابعة يخرج حرا ويزوّده سيده من غنمه
وبيدره ومعصرته وإن دخلت زوجته معه خرجت معه ، وان تزوج عند سيده وصار له أولاد
خرج وحده وان أحب البقاء عند سيده مع أولاده يقدمه سيده الى الله ويثقب اذنه
بالمثقب فيخدمه الى الأبد ويكون عبدا مؤبدا «خر ٢١ وتث ١٥».
ويا حبذا هذه
الشريعة في إطلاق العبد العبراني لو لا قساوة ثقب اذنه ووسمه بسمة الذلة والندامة
باستخدامه الى الأبد ، ويا حبذا لو وسعه كرم الاخلاق بغير هذه العادة القاسية ،
وحاشا الوحي من ذلك.
«ومنها» سنة
اليوبيل وهي السنة الخمسين لا يزرعون الأرض فيها ولا يقطفون كرمها وينادون في يوم
الكفارة بالعتق في الأرض لجميع سكانها ، وتفك
الأراضي المبيعة
وترجع الى أصحابها على ميزان مخصوص ويخرج العبد العبراني حرا هو وبنوه «لا ٢٥».
ولم يتضح من ذلك
ان العبد العبراني الذي حكم قبلا بثقب اذنه وخدمته وعبوديته الى الأبد هل يخرج في
سنة اليوبيل حرا فيكون الحكم بالتأبيد منسوخا أم لا يخرج.
«ومنها» تقديس
الابكار الذكور لله ، فعن كلام الله لموسى : قدس لي كل بكر فاتح رحم من بني
اسرائيل من الناس والبهائم انه لي وذكر فداء الولد البكر مجملا «خر ١٣ ، ٢ و ١٢ و
١٣ و ١٥ ، و ٣٤ ، ٢٠».
وعن خطاب الله
لبني اسرائيل وابكار بنيك تعطيني «خر ٢٢ ، ٢٩».
ثم ذكر فداء البكر
من الإنسان والبهائم النجسة وهو خمسة شواقل فضة تكون لهارون لأن الله جعل الابكار
لهارون ، وأما بكر البقر والضأن والمعز فلا يفدي بل يذبح ويرش دمه على المذبح
ويوقد شحمه وقودا رائحة سرور ، ولحمه يكون لهارون «عد ١٨ ، ١٥ ـ ١٩».
ثم ذكر عن قول
الله وها أنا أخذت اللاويين من بني اسرائيل بدل كل بكر فاتح رحم من بني اسرائيل
فيكون اللاويون لي «عد ٣ ، ١٢» ، وعن قوله جل اسمه لموسى : عد كل بكر ذكر من بني
اسرائيل من ابن شهر فصاعدا فتأخذ اللاويين لي أنا الله بدل كل بكر في بني اسرائيل
وبهائم اللاويين بدل كل بكر في بهائم بني اسرائيل «عد ٣ ، ٤٠ و ٤١».
وهذا الاختلاف في
حكم الابكار من الناس والبهائم من حيث التقديس والفداء وعدمه والاستبدال عنها
باللاويين وبهائمهم لا يخلو عن أن يكون من ناحية النسخ أو من ناحية تشويش التوراة
الرائجة لتعدد مواليدها.
«ومنها» انتخاب
القهاتيين من اللاويين لخدمة خيمة الاجتماع عن أمر الله لموسى ، وان عمر الموظف
للخدمة يكون من ابن ثلاثين سنة الى خمسين «عد ٤» فنصت التوراة العبرانية على هذا
العدد في سبعة مواضع ، وخالفتها السبعينية في هذا المقام فأبدلت الثلاثين سنة بخمس
وعشرين .. والعبرانية
نفسها أيضا ذكرت
ان المنتخب يكون من ابن خمس وعشرين سنة الى خمسين «عد ٨ ، ٢٤ و ٢٥».
وقد ذكرنا هذا
الاختلاف وما قيل فيه في الجزء الأول صحيفة ٢٧٦ و ٣٠٠ ـ ٣٠٣ فراجعه.
الفصل الثاني
في الملابس والمطاعم
وقد نهت التوراة
بني اسرائيل عن لبس ثوب مصنف من صنفين أو مختلطا صوفا وكتانا ، ولا يكون متاع رجل
على امرأة ولا يلبس رجل ثوب امرأة وأمرتهم بأن يصنعوا لهم أهدابا في أذيال ثيابهم
ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من اسمانجوني وأن يصنعوا جدائل على أربعة أطراف الثوب
الذي يتغطون به.
ونهتهم عن أكل
الدم والفريسة والميتة ، ومن البهائم ما لم يجمع صفتين وهما أن يكون يجتر وله ظلف
ينشق الى ظلفين ، ونصت من ذلك على تحريم لحم الجمل والوبر والأرنب والخنزير.
ومن حيوانات الماء
ما لم يكن له زعانف وحرشف.
ومن الطير : النسر
والانوق والعقاب والحداة والباشق والشاهين وكل غراب والنعامة والظليم والساف
والباز والبوم والغواص والكركي والبجع والقوق والرخم واللقلق والببغاء والهدهد
والخفاش وكل دبيب الطير الماشي على أربع إلا ما كان له كراعان فوق رجليه يثب بهما
على الأرض كالجراد والدبا والحرجوان والجندب «لا ١١» ، وهناك محرمات اخر لا يهمنا
استقصائها.
الفصل الثالث
في الطهارة والنجاسة
وقد حكمت التوراة
بنجاسة هذه الحيوانات المحرمة وان من مس ميتتها يكون نجسا الى المساء ، وبنجاسة
أشياء اخر تعرف هي ووجه التطهير منها من «لا ١١ و ١٢ و ١٥ و ٢٢ وعد ١٩».
وإن شئت ان تتعجب
فتعجب من العهد الجديد المبني على ان التوراة الرائجة هي التوراة الحقيقية التي هي
وحي الله وتكليمه لرسوله موسى عليهالسلام ، أفلا تراه حيث أراد أن يلاشي شريعة التوراة في أحكامها
وخصوص تحريمها لأكل كثير من الحيوانات وتنجيسها وأحكام النجاسات والتنجيس ، كيف لم
يقدر أن يحبس بواعثه عن الظهور فلم يملك لسانه عن التنديد بالشريعة والتلويح أو
التصريح بتكذيب كونها من الله ، ولم يتستر من مصانعة الامم بموافقتهم على عوائدهم
استجلابا لأهوائهم ، فنسب الى بطرس انه امر في الوحي بأن يذبح ويأكل من الحيوانات
التي حرمتها التوراة ونجستها ، فقال جريا على شريعة التوراة : كلا يا رب ، لأنه لم
يدخل فمي قط دنس أو نجس فأجابه صوت من السماء ثانية ما طهره الله لا تنجسه أنت «١٠
ع ١٠ ، ١١ ـ ١٧ ، و ١١ ، ١٢ ـ ١١».
أفلا ترى ان هذا
الكلام يقول مجاهرة لا مخالسة ان تنجيس الحيوانات وتحريم أكلها إنما هو بشري ،
وأما عند الله فهي على خلاف ذلك بل هي
طاهرة ، وما طهره
الله فلا تدنسه أنت.
ونسب أيضا الى
مشورة الرسل في عزمهم على ملاشاة الشريعة ان يعقوب قال أنا أرى أن لا يثقل على
الراجعين الى الله من الامم بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنا
والمخنوق والدم لأن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به إذ يقرأ في
المجامع في كل سبت ، ثم زعم ان الرسل بعد امضائهم لهذا الرأي كتبوا الى الامم ما
ملخصه إذ قد سمعنا ان اناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين
ان تختتنوا وتحفظوا الناموس الذي لم نأمرهم لأنه قد رأى الروح القدس ونحن ان لا
نضع عليكم ثقلا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة ان تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم
والمخنوق والزنا «١ ع ١٥ ، ٦ ـ ٣٠».
أفلا تقول ـ أي
مداخلة للرأي في شريعة الله ، وإذا شاء الله أن يثقل بشريعته على أهواء الناس لكي
ينعم عليهم بأسباب الطهارة والكمال وشرف الطاعة ، فمن ذا الذي يعارض الله في شريعته
ورحمته ويشاركه في أحكامه ، وما هو معنى قول القائل لأن موسى منذ أجيال قديمة له
من يكرز به.
أفتفهم من هذا
القول مرادا غير التلويح بأن العمل بقيود التوراة إنما كان محاباة لموسى وتنفيذا
لرئاسته.
وكفاه من ذلك هذه
المدة ، فان الايام دول ، والأشياء العتيقة قد مضت ، «٢ كو ٥ ، ١٧» ، وما عتق وشاخ
فهو قريب من الاضمحلال «عب ٨ ، ١٣».
إذا فأين نقل
الإنجيل عن قول المسيح في الحث على العمل بوصايا الناموس حتى الصغرى ، وانه لم
يجيء لينقضه بل ليكمله «مت ٥ ، ١٧ ـ ٢٠» ، وأين حثه على حفظ ما يقول الكتبة والعمل
به لأنهم على كرسي موسى جلسوا ، «مت ٢٠ ، ١ و ٢».
وأيضا ما ذا ترى
من المعنى في قوله فيما تقدم قد سمعنا ان اناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال
مقلبين أنفسكم الى آخره.
أفلا ترى منه
التقبيح لدعوة الداعين الى حفظ الختان والشريعة والتنفير منهم ومن دعوتهم وما
يدعون إليه ، والعمل بالمناقصة للاستئثار بالرئاسة ، واستجلاب الأهواء بالمداهنة
بإبقاء العوائد المألوفة والراحة المحبوبة ، ولكن الرسائل المنسوبة لبولس زادت في
التنقيص والمناقصة فقالت : ولا يصغون الى خرافات يهودية ووصايا اناس مرتدين عن
الحق كل شيء طاهر للطاهرين «تي ١ ، ١٤ و ١٥» تفرض عليكم فرائض لا تمس لا تذق ولا
تحبس التي هي جميعها للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعليم الناس «كو ٢ ، ٢٠ ـ ٢٣»
لما ذا يحكم في حريتي «١ كو ١٠ ، ٢٩ و ٣٠».
نعم وقف هذا
التنقيص عند قول القائل : ومن يغرس كرما ومن ثمره لا يأكل ، أو من يرعى رعية ومن
لبن الرعية لا يأكل ، ان كنا نحن زرعنا لكم الروحيات أفعظيم ان حصدنا منكم
الجسديات ، هكذا أيضا أمر الرب ان الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون «١ كو
٩ ، ٧ ـ ١٥» ويشارك الذي يتعلم الكلمة المعلم في جميع الخيرات «غل ٦ ، ٦ ، وانظر
رو ١٥ ، ٢٥ ـ ٢٩».
* * *
الفصل الرابع
في النكاح
وقد حرّمت التوراة
نكاح عدة من النساء فحرمت نكاح الأم ، وامرأة الأب ، والأخت من الأب ، أو من الأم
أو منهما ، وابنة الابن ، وابنة البنت ، والعمة ، والخالة ، وامرأة العم ، وامرأة
الابن وأم المرأة ، وبنتها ، وبنت بنتها ، وبنت ابنها ، والجمع بين الاختين ،
ونكاح امرأة الأخ «لا ١٨».
ولكن التوراة
الرائجة ذكرت لامرأة الأخ حكما آخر وهو انه إذا سكن اخوة معا ومات أحدهم وليس له
ابن فإن أخاه يتزوج بامرأته ، والبكر الذي تلده يقوم باسم الميت لئلا يمحى اسمه ،
وان لم يرض الرجل أن يتزوج امرأة أخيه الميت فان المرأة تأخذه الى شيوخ اسرائيل
وتشتكي عليه بذلك ، فان أصر على أن لا يتزوجها تتقدم إليه أمام أعين الشيوخ وتخلع
نعله من رجله وتبصق في وجهه وتصرخ ، هكذا يفعل بالذي لا يبني بيت أخيه فيدعى اسمه
في اسرائيل بيت مخلوع النعل «تث ٢٥ ، ٥ ـ ١١».
وحاشا للوحي
الإلهي وقدس موسى من هذه العادة الوحشية الفظة الهاتكة لناموس الأدب والحياء
والشرف ، الواسمة بالعار مع انها لا فائدة فيها إلا زور لا حقيقة له ، وكيف يكون
البكر من هذه المرأة يقوم باسم الميت وان مثل هذا الإبقاء لاسم الميت ليقوم بزور
آخر مثل هذا ، فلا ضرورة الى جعل الرجل بين خطرين ، أما الشناعة ، وانهدام شرفه
بالجرأة القبيحة من امرأة بذية ، وإما
التقيد بامرأة لا
يريدها ، بل ربما كان يتمنى خلاص بيتهم منها ولو بموت أخيه.
وذكرت من أحكام
النكاح أيضا ان الرجل إذا تزوج فتاتا وأشاع عنها انه لم يجد لها عذرة فان أباها
وأمها يأخذانها ويخرجان علامة عذرتها على الثوب الى شيوخ المدينة ويقول أبوها : ان
هذا الرجل افترى على ابنتي ، ويخرج علامة عذرتها ويبسط الثوب ، فيؤدّب شيوخ
المدينة الزوج ويغرمونه مائة من الفضة لأبي الفتاة وتكون امرأة لزوجها لا يقدر أن
يطلقها كل أيامه.
وحاشا لله أن يكون
هذا من شريعته وإنما هو تلفيق من وساوس المغفلين ، فان أبا الفتاة إنما يأتي
الشيوخ بثوب عليه شيء من الدم الذي يمكن أن يؤخذ من كل دم وكل حيوان ، فكيف يكون
علامة للعذرة؟ وكيف يكون ذلك حجة يفصل بها القضاء وتجب به الصادرة والنكال على
الزوج المحتمل صدقه ، بل ان الأب في هذه الحال أولى بأن يتهم بالكذب لمظنة كونه
يريد بهذه الحيلة رفع العار عنه وعن ابنته وتخليصها من القتل بحكم الشريعة القاسية
الآتية ، بل ان هذا التشريع الفاسد يدعوه أيضا الى أن يجعل على خرقة دما كذبا
فيحتج به ليكتسب مائة من الفضة ، ويلقى ابنته كلا على زوجها حتى لا يطلقها كل
أيامه.
ثم قالت التوراة
الرائجة في هذا المقام : ولكن إن كان الأمر صحيحا لم توجد عذرة للفتاة يخرجونها
ويرجمها رجال المدينة حتى تموت لأنها عملت قباحة في اسرائيل.
وهذه أيضا شريعة
قاسية مكذوبة على شريعة الله ممن لا معرفة له ولا حكمة ، فان العذرة غشاء رقيق فيه
ثقب يخرج منه الحيض وربما تخرقه الطفرة والضواغط والتفحج العنيف والحيض الخارج
بحدته عن مقتضى الطبيعة ، فلا ينبغي أن يحكم على المرأة بمجرد ذهاب عذرتها انها
زنت وفعلت قباحة فترجم ، فإن هذا ظلم فاحش.
وأيضا كيف يعرف ان
المرأة لم يجد لها زوجها عذرة وما ذا الذي يشهد له بأنه لم يكن هو الذي افتض
عذرتها؟ فان اقتضاضها لا يستلزم قطع اذنها أو أنفها حتى يعرف الأمر بحصول هذا
الأثر وعدمه ، نعم يثبت زنا المرأة
بإقرارها ، أو
شهادة الشهود عليها بأنها زنت قبل ذلك ، ولكن سوق التوراة الرائجة أجنبي عن ذلك.
* * *
الفصل الخامس
في الطلاق
وهو ثابت في شريعة
التوراة ، والأناجيل تذكر عن المسيح انه صدق على مشروعيته في التوراة ، وجعل السبب
لشريعته فيها هي قساوة قلوب بني اسرائيل ثم منع منه إلا ما كان لعلة الزنا.
وقد ذكرنا لك في
الجزء الاول صحيفة ٢٣١ ـ ٢٣٤ ما تذكره الاناجيل في الاحتجاج على المنع المذكور
وبينا ما في الاحتجاج من الوهن الذي يجب ان ينزه عنه المسيحعليهالسلام ، وان صورة الاحتجاج تعود بالتوهين والتغليط لشريعة موسى عليهالسلام.
وذكرت التوراة ان
الزوج لا يقدر على الطلاق في موردين «أحدهما» إذا ادعى انه لم يجد لامرأته عذرة
وأظهر أبوها علامة عذرتها كما تقدم ، «وثانيها» إذا زنى بعذراء غير مخطوبة فانه
يتزوجها ولا يقدر أن يطلقها كل أيامه «تث ٢٢ ، ٢٩».
ومن أحكام الطلاق
ان الرجل إذا لم تعجبه امرأته لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق وأخرجها
من بيته فلها أن تتزوج بآخر ، فان طلقها الثاني أو مات فالأول لا يقدر أن يتزوجها
ثانيا ، بعد أن تنجست لأن ذلك رجس عند الله يجلب خطيئة على الأرض التي لبني
اسرائيل «تث ٢٤».
وليت شعري ما معنى
كونها تنجست وبما ذا تنجست؟ هذا ولم تذكر
التوراة الرائجة عدة
تقعد فيها المطلقة قبل أن تتزوج بالثاني لكي يطمئن بعدم حملها من الاول فلا يختلط
النسل ، وهذه حكمة لازمة المراعاة.
* * *
الفصل السادس
في الحرب والجهاد
ذكرت التوراة
الرائجة ان من بنى بيتا ولم يدشنه أو غرس كرما ولم يبتكره ، أو خطب امرأة ولم
يأخذها فانه يرجع من الحرب الى بيته لئلا يموت فيدشن بيته أو يبتكر كرمه أو يأخذ
مخطوبته رجل آخر ، والرجل الخائف والضعيف القلب أيضا يرجع.
وهذه شريعة تهون
أمر الجهاد في سبيل الله ودعوة الحق ، وتذم شرف الشهادة في نصرة التوحيد وتمهيد
العدل والصلاح ، وتصرف أنظار الناس وقلوبهم عن الجهاد الى زخارف الدنيا الفانية ،
وتعطف قلوبهم الى الرغبة فيها فتوجب لهم التقاعد والتخاذل عن النهضة الحميدة خصوصا
إذا نودي بذلك في الجيش ، وهذا مضاد للحكمة في نهضة الحق وجهاد المشركين.
نعم ما أحسن هذه
الشريعة للنجاة مما تذكره التوراة الرائجة في شريعة الحرب القاسية من قتل الاطفال
والنساء والبهائم كما ستسمعه.
فقد ذكرت التوراة
الرائجة ان مدن الحثيين والآموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين
يحرمها بنو اسرائيل تحريما لا يستبقون منها نسمة ولا يقطع معهم عهدا ولا يشفق
عليهم.
وأما مدن غير
هؤلاء من الامم فتستدعي الى الصلح ، فان أجابت فكل الشعب الذي فيها يستعبد وإن
حاربت وفتحت فجميع ذكورها يقتلون
وتكون النساء
والأطفال والبهائم وكل ما فيها غنيمة «تث ٢٠».
وان ما في هذه
الشرائع من الوحشية والقساوة ليدلك على انها ليست من شريعة الله ولا تعرف موسى ،
ثم أي وجه وحكمة للتفرقة في سوء الولاية بين الشعوب الستة المذكورين وبين سائر
الامم ، فان كان هو الخوف من الاغواء بشركهم والعدوى بضلالهم فهو موجود بالنسبة
الى سائر الامم ، بل ان الخوف من الكبار الذين يبقون في الصلح والحرب ومن سائر
الامم أشد وأشد من الخوف من الطفل الذي لا يعرف ما كان عليه آبائه ، فلما ذا حكم
بقتل الاطفال من الشعوب الستة.
ومع ذلك فالتوراة
الرائجة تذكر ان موسى عليهالسلام لم يعمل بهذه الشرائع في سبي مديان ، بل أمر بقتل جميع
الذكور من الأطفال وجميع النساء اللاتي قاربهن رجل ، استبقى البنات اللاتي لم
يقربهن رجل وهن اثنان وثلاثون ألفا.
فقل : كم قتل من
الأطفال الذكور والنساء الثيبات؟ ولما ذا ابقى البنات العذارى إن كن من الشعوب
الستة؟ ولما ذا قتل الاطفال الذكور والنساء الثيبات إن كانوا من غيرهم ، حاشا لله
ولرسوله موسى من تشريع هذه العوائد الجائرة القاسية ، أفترى ان الله يرسل رسله
ليصبغوا الأرض من دماء الاطفال ، مع ان التوراة الرائجة لم تذكر من غايات هذه
الحروب القاسية دعوة الامم الى التوحيد والعدل والصلاح وإنما ذكرت ان الغاية هو
استلاب بني اسرائيل للأرض ، مع ان مقتضى العهد القديم ان بني اسرائيل لم يخلو في جيل
من أجيالهم من عبادة وثنية ، كما ذكرنا في الجزء الأول صحيفة ٥١ ـ ٦٦.
ويا لهفاه على
الحضارة والمدنية مما جنته عليها هذه العوائد الفظة القاسية ويا لهفاه للشريعة
الإلهية إذ تلصق بها هذه القساوة والفظاظة الفاسدة ، وكيف تعجب إذا من حوادث الوقت
إذا انبعثت من ثوراتها أمثال هذه المصائب ناتجة فيها من مجاهرة التوثب ودعوى
الحياد.
سهم أصاب وراميه
بذي سلم
|
|
من بالعراق لقد
أبعدت مرماك
|
الفصل السابع
في السياسة الشرعية
وقد ذكرت أحكاما
كثيرة في القصاص والتغريمات والحدود والتعزيرات يعرف أغلبها من الحادي والعشرين والثاني
والعشرين من الخروج والخامس والثلاثين من العدد وغير ذلك من متفرقات التوراة.
ولا يخفى على كل
عاقل انه لا تستقيم المدنية ولا يطمئن الاجتماع ولا تسكن الثورات ولا يقل الظلم
ولا تعرف الحقوق قرارها إلا بسيادة السياسة وسلطة التأديب وتدارك التغريم فان ذلك
روح المدنية وحياة النفوس والحقوق ولم تنتظم بدون ذلك ملة ولا دولة ، بل لا تنتظم
بدونها عائلة بيت ، وإن اختلفت مصادرها وتفاوتت مبانيها.
ولكن العهد الجديد
يقول : قد سمعتم انه قيل ـ أي في التوراة ـ عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لا
تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فحوّل له الآخر أيضا ، ومن أراد أن يخاصمك
ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا «مت ٥ ، ٣٨ ـ ٤١».
وان من يحمل
الكلام على أحسن وجوهه وأصحها ينبغي أن لا يحمل هذا الكلام على المعارضة والمقاومة
لسيادة السياسة الشرعية الإلهية ليترك العباد هملا ، ويكون شريكا للفاسقين
والظالمين والكافرين ، بل ينبغي أن يحمل على التعليم لصاحب الحق بالملاينة وفضيلة
العفو والتصدق بالمسامحة كما ندب القرآن الكريم الى التصدق بالقصاص وفضيلة العفو
الذي هو أقرب للتقوى.
الفصل الثامن
في المواريث
جعلت التوراة
الرائجة من ميراث الرجل للابن البكر مع اخوته نصيب اثنين «تث ١ ، ١٧» وليس للبنات
مع وجود الابن أو الأبناء شيء ، نعم جعلت الإرث للبنت إذا لم يكن للرجل الميت ابن
، وإن لم يكن بنت فميراثه لأخوته ، وإن لم يكن له اخوة فلإخوة أبيه ، وإن لم يكن
لأبيه اخوة فلنسيبه الأقرب «عد ٢٧ ، ٨ ـ ١٢».
هذا ما تعرضت له
من المواريث ولم تتعرض للميراث من المرأة إذا ماتت ولم تجعل للأبوين شيئا من إرث
ولدهما.
ولا يخفى ان حرمان
البنات مع وجود الابن لا يخلو من القساوة والوحشية التي وبّخ عليها القرآن الكريم
جاهلية العرب ، وحاشا للشريعة الإلهية أن تتركهن صفرات اليد متعوسات الحظ بعد ما
مات أبوهن وكافلهن بالشفقة والرحمة وهنّ الضعيفات ..
هذا ما اقتضى
الحال والاختصار ذكره من شريعة التوراة الرائجة.
* * *
وأما شريعة العهد الجديد
فقد ذكرنا لك منها
ما تذكره الاناجيل عن قول المسيح من انه لم يجيء
لينقض الناموس
وانه يحث على العمل بوصاياه حتى الصغرى.
وذكرنا أيضا
معارضة الاناجيل لحكم الطلاق ، والحلف ، والسياسة ومعارضة باقي العهد الجديد
بإباحة ما حرمته التوراة وتطهير ما نجسته ونسخ حكم الختان وسائر القيود.
ثم لنذكر لك شيئا
مما اختص به عن التوراة الرائجة ، فاعلم انه قد أكثر في الحث على التقوى ومكارم
الأخلاق والزجر عن رذائلها بنحو يفوق على التوراة في حسن بيانه وروحانية تعليمه ،
ولكنه متى تعدى عن مأخذه شذّت به الشواذ وتقلبت به الأحوال.
واعلم ان المسيح
ويوحنا المعمدان ـ أي يحيى بن زكريا ـ عليهمالسلام قد أشرقا على العالم بنور الموعظة والتعليم الروحي ، ونشرا
لواء الدعوة الى الكمال الحقيقي ، ووقفا نفسيهما الكريمتين في سبيل تهذيب النفوس
والأخلاق ونبها على ظاهر أدواء النفوس وباطنها ، ومثار أوبئة الأخلاق وفساد
الأهواء فحذرا من عدواها ، وعلّما علاجها ، ودلا على دوائها ، ففتحا بيمارستان التعليم
وطافا لعموم العلاج ، ولطفا للناس الدواء ، وروقاه بعذب البيان ولطف الدعوة ومزاج
الحكمة ، واستشعرا الزهد والتقشف والوعظ والإرشاد والعبادة والاجتهاد رغبة فيما
عند الله ، وليقتدي الناس بهما ويهتدون بهداهما فمهدا سبيل الوعظ والتعليم وسهلا
للناس تعاطيه والتفنن في بيانه ، فسلكه بعدهما تابعوهما والملتصقون بتابعيتهما ،
واختلفوا فيه بالقول والعمل بين صادق وماذق وعارف وقاصر وناصح ومخادع.
خليلي قطاع
الطريق الى الحمى
|
|
كثير وان
الواصلين قليل
|
فلا عجب إذا اذا
تحرى العهد الجديد منهج الوعظ والتعليم تمثلا بشبه الانتساب ، ولكنه ويا للأسف كم
وكم شذت به الشواذ فجمع بين الأضداد وألقى مضامينه في معترك التناقض «فضح التطبع
شيمة المطبوع».
وجاء في الإنجيل
الرائج عن قول المسيح لا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في
السماوات.
ويا أسفاه فأنا
نرى كل من يتصدر من النصارى للرئاسة الدينية والسيطرة في تعليم الإنجيل لا يرضى من
الناس إلا أن يدعوه «الأب فلان» فيدعوه الناس بذلك بلا نكير بل هو أيضا يسمى نفسه «الأب
فلان» وليس هذا في عصر واحد وقرن واحد.
وما أكثر ما تسمع
وترى في الصحف قول النصارى في رؤساء ديانتهم «الآباء اليسوعيين».
عجبا فأين نقل
الإنجيل عن تعليم المسيح ، أتراهم يرون الإنجيل مكذوبا على المسيح؟ أم ألهمهم روح
القدس أن يجعلوا هذا التعليم وهذا النهي تحت أقدامهم؟
ومما كرره العهد
الجديد وأكده في تعليمه حث العبيد على طاعة ساداتهم وان يحسبوهم مستحقين كل الاكرام
وإن كانوا غير مؤمنين «١ تي ٦ ، ١ و ٢» ويرضوهم في كل شيء «تي ٢ ، ٥٩».
ولم يتعرض في هذين
المقامين لشيء من تعليم السادة بالرأفة بعبيدهم ، ولكنه أكد وشدد على العبيد بأن
يخدموهم بخوف ورعد في بساطة قلب ، «اف ٦ ، ٥» ، ، ويطيعوهم في كل شيء من القلب ،
كما للرب «كو ٣ ، ٢٢ و ٢٣» ، نعم في هذين المقامين أوصى السادة بمعاملة العبيد
بالعدل والمساواة وان يتركوا التهديد.
وهذان التعليمان
لم يجريا على ناموس الحكمة ، بل جريا على المحاباة ومصانعة الوجوه ، فان العبيد
المساكين تكفيهم عصا السادات في التعليم وعنف التسخير خصوصا إذا كان ساداتهم غير
مؤمنين ، وان الذي تقتضيه الحكمة هو التأكيد على السادات بمعاملة العبيد بالرأفة
والرحمة والتخفيف ، وترغيبهم الى فك عبيدهم من أسر الرق وعنائه وذلته ، كما احتاط
القرآن الكريم على هذه المكارم من جميع وجوهها حتى جعل العتق بابا من العبادات
والقربات ، ونحوا من خصال الكفارات ، وجعل سهما من الزكاة لفك العبيد من عناء الرق
، وسيأتي بيان ذلك مفصلا مشروحا في محله إن شاء الله.
وشدد أيضا
بالتعليم بالخضوع للسلاطين القائمة معللا بأنها من الله ومرتبة منه ، وان من يقاوم
السلطان يقاوم ترتيب الله لأنه خادم الله للصلاح يلزم أن يخضع له بالضمير ويوفي
الجزية لأنه خادم الله ، وان تعطى الجزية لمن له الجزية ، والجباية لمن له الجباية
، والخوف لمن له الخوف يعطى الجميع حقوقهم هذه «رو ١٣ ، ١ ـ ٨».
وهذا التعليم لأهل
رومية الذين هم تحت سلطان قيصر ، وان القياصرة في الوقت المجعول له هذا التعليم قد
كانوا وثنيين ، وأعداء للملة النصرانية مضطهدين لمن ينتسب للمسيحية ، وكل من يعتبر
تلك الحال يعلم ان هذا التعليم قد تعدى الى الافراط الفاسد ، نعم لو كان بغير هذا
الاسلوب لأمكن أن يجري على وجه صحيح.
ومضمون نقل
الاناجيل عن المسيح هو أن الجزية ليست حقا للقياصرة ولا يجوز اعطائها لهم ، وذلك
ان اليهود نصبوا له شبكة في سؤالهم عن اعطاء الجزية لقيصر لعلمهم بأنه لا يجوز ذلك
فأرادوا أن يجاهر بذلك فيجعلونه ذنبا عليه عند قيصر والوالي ، فعلم بمكرهم وخبثهم
فلجأ الى التقية والحياد عن الجواب بالمنع ولكنه مع ذلك سلك مسلك التعمية والايهام
في الجواب فأخذ دينارا فقال : لمن هذه الصورة؟ فقالوا لقيصر فقال اعطوا ما لقيصر
وما لله لله «مت ٢٢ ومر ١٢ ولو ٣٠» ، فجمع بين التقية والتخلص من مكرهم وبين عدم
المجاهرة بمخالفة حكم الله ، فتلطف وعمى في الجواب ، ولكنه لما أمر بطرس بإعطاء
الجزية عنهما بيّن له ان اعطائها لهم لئلا يكدرهم ويحملهم على العثرة به «مت ٣٧ ،
٢٧».
وأين هذا من
التعليم المتقدم الذي يجعل الجزية حقا لقيصر ، أفلا ترى محاباة السلطان وخدمة
أفكاره لائحة أو ظاهرة على تطرفه ومغالاته ، أم تقول انه تعليم سلطاني؟
وقد حث العهدان
على السلام ، ففيهما أحبوا الحق والسلام «ز ك ٨ ، ١٩» ، طوبى لصانعي السلام لأنهم
ابناء الله يدعون «مت ٥ ، ٩» وان ملكوت الله بر وسلام «رو ١٤ ، ١٧» وهو من ثمار
الروح «غل ٥ ، ٢٢» ومن
اهتمامها «رو ٨ ،
٦» ، وثمر البر يزرع بالسلام من الذين يفعلون السلام «يع ٣ ، ١٨» ، اتبعوا السلام
مع الجميع «عب ١٣ ، ١٤» وإن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس «رو ١٢ ، ١٨».
حتى ان الإنجيل
يذكر عن قول المسيح نهى المظلوم عن الانتصار والانتصاف بل والدفاع ، كما في قوله :
لا تقاوموا الشر ، من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر ، ومن أراد أن يخاصمك
ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا «مت ٥ ، ٣٩ و ٤٠».
وان أولى من يتبع
هذه التعاليم ويعلم بها هم الذين يدعون الروحانية والرئاسة الدينية ، ولكنك لو
استنطقت التاريخ المتعجب عما جنته دوائر الكاثوليك على البروتستنت ودوائر
البروتستنت على الكاثوليك؟ لأنبأك بغرائب المصائب ، ومنكرات الأحوال ، وان باح لك
ببعض سرّه لا بكله أو جله ..
أفترى ذلك كان
لأجل سياسة ملكية ، كلا ، ولكنها قساوة مزاعم الروحانية وعواصف تلك الأهواء
الوبيئة.
ولو سألت الزمان
المتحسر والتاريخ المتأسف وقلت : من هو الذي قاوم الدين والصلاح والإنسانية
والسلام وأضرم نار الحروب الصليبية وقاد ظلها وساق قسوتها وأثكل الإنسانية وألبسها
ثوب الحزن والعار والشنار لقالا لك بعين عبرى وقلب شجى : لا نعلم مثيرا لغبارها
وناشرا للوائها وموريا لنارها وملقحا لها ومستنتجا منها ذاك النتاج المشئوم إلا
الأسقفية والمطرنة ومزاعم الروحانية والرهبنة ، لما ذا؟ أهي لأجل الدعوة الى
التوحيد ، لا بل للدعوة الى التثليث وتأليه البشر؟ أم هي لأجل ترك الأوثان ، لا ، بل لأجل تمثيل
الصور والأيقونات.
أم لأجل العمل
بالشريعة ، لا بل لأجل الاستراحة من نواميسها المكملة ورياضاتها المؤدبة.
أم لأجل تقديس
المسيح وتنزيهه عن قول الباطل فيه ، لا بل لأجل أن يتلى في شأنه «قدسسره» «مت ١١
، ١٨ و ١٩ ، و ١٢ ، ٤٦ ـ ٥٠ ولو
٧ ، ٣٦ ـ ٥٠ ويو ٧
، ٨ و ١٠ ، و ١٣ ، ٢٣ ـ ٢٦».
وسائر ما ذكرناه
في الجزء الاول صحيفة ٢٢٧ ـ ٢٣٥ ـ و ٢٥٧ ـ ٢٦٦ «ودع عنك نهبا صيح في حجراته».
أفلا ترى وتسمع في
يومك وأمسك ضوضاء الهمجية الفاحشة وتفاحش القول البذيء في الجرأة القبيحة على قدس
رسول الله المصطفى «ص» مما يوقر صدى ضلاله اذنيك وتقذى به صحف السوء عينيك ، وهل
تحد تلك النفثات الشيطانية والضلالات الدجالية إلا من مزاعم الروحانية التي اعتمدت
بالماء ثم وارتكبت بالضلال والخطايا.
فيا للتوحيد
والإيمان ويا للدين والتقوى ويا للعدل والصلاح ويا للآداب والشرف ، أليس رسول الله
«ص» هو الذي نهض بنفسه الكريمة في معترك الضلال ومحتشد الشرك وغمرات الظلم وظلمات
الوحشية فأقام منار التوحيد وأعلام الايمان ومحى ضلال الشرك واستأصل الوثنية ، ولا
شيء العوائد الوحشية وأحيى نظام العدل وأوضح نهج الصلاح ومهد سبيل التقوى وسهل
معارج السعادة ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، كل ذلك بأصدق دعوة وأحسن موعظة
وأجمل دفاع أعد عدته بعواطف الرحمة وكريم الصفح وحسن الولاية وجميل الأثر.
وهل تراهم نقموا
منه إلا تبليغه عن الله تقدست أسماؤه قوله جلت آلاؤه في كتابه الكريم (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا
خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).
فهل وجدوا في ذلك
دعوة الى شرك أو اختلاسا في التوحيد أو غشا في النصيحة أو شدة في التوبيخ أو عنفا
في الزجر أو فحشا في القول أو غلطة في الموعظة ، أو بذاءة في الكلام ، ولئن ساءهم
هدى هذه الدعوة ، وحسن هذه الموعظة ، والنصيحة ، فانه يسوء أولا سابقيهم في دعوة
التثليث والأقانيم.
وها هم البراهمة ،
والبوذيون لا تنفلت منهم هذه البوادر ، ولا تبدر منهم هذه الفحشاء.
وقد اقتضى لي
الاستعجال في نشر هذا المكتوب ان اختم الجزء الثاني من كتاب الهدى حامدا لله شاكرا
لفضله مصليا على أنبيائه ورسله وأوليائه سائلا منه بحرمتهم أن يسددني بالتوفيق
ويفتح لي باب الهدى والصواب ، انه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين.
الفهرس
المقدمة
الثالثة العشرة : في دفع الاعتراضات على قدس القرآن الكريم ،
وفيها
فصول..................................................................... ٥
الفصل الاول : في
الاعتراضات عليه من حيث العربية................................. ٥
عدم الفهم لما
يلزم تفهمه........................................................ ١٣
اشتباهات اللغويين.............................................................. ١٥
براعة الاسلوب
واعتلال النحويين................................................. ١٦
آية (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ).................................................. ١٨
فضل الصبر
والصابرين.......................................................... ٢٠
البراءة من عهد
الناكثين الناقضين................................................. ٢٣
معنى تحلة اليمين
في العربية....................................................... ٢٤
آية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ).................................................... ٢٥
نصب المقيمين الصلاة
على المدح................................................. ٢٦
الحذف في اللغة
العربية.......................................................... ٣٠
آية (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ)............................................................. ٣١
آية (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ .. وَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ)............................................. ٣٢
آية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ).................... ٣٣
الكلام المبتور في
العهد القديم..................................................... ٣٧
آية (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ،
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)............................ ٣٧
آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ)............................................ ٣٨
فضيحة الشطط على
ابراهيم خليل الله............................................ ٤٥
آية : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ).................................................. ٤٧
آية : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ
مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)............................ ٤٩
آية : (قالَ يا آدَمُ : أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمائِهِمْ).......................................... ٥٠
آية : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)..................................................... ٥٦
الفصل الثاني : في
اوهام الاعتراضات على القرآن الكريم
آية : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ
اسْتَطْعَما أَهْلَها).................................... ٦٠
خصب مصر والمتعرب........................................................... ٦٢
آية : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ).................................. ٦٤
آية : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها)...................................................... ٦٤
آية (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ
وَجَدَها تَغْرُبُ)................................. ٦٥
الاشارة الى
امريكا............................................................... ٦٦
الفصل الثالث : في
السموات.................................................... ٦٨
آية السماوات
السبع والهيئة القديمة والجديدة........................................ ٧٠
الفصل الرابع : في
دفع أوهام الاعتراض على قصص القرآن.......................... ٧٣
نتيجة......................................................................... ٧٥
التنبيه المقصود
هاهنا............................................................ ٧٥
انموذج هذا المورد................................................................ ٧٧
في شهارة
السبعينية على العبرانية.................................................. ٨٣
شهادة بوجود
الزيادة في الاصل العبراني............................................ ٨٦
شهادة العهد
الجديد بالنقصان والتحريف.......................................... ٨٦
تتمة الصدر
والتمهيد........................................................... ٨٨
المعايب التاريخية
على الكتاب.................................................... ٩٠
في اختلاف نسخ
التوراة في التاريخ................................................ ٩٥
الاختلاف في
الاعمار........................................................... ٩٨
خطأ المتكلف في
دعوى البكورية................................................ ١٠٠
اختلاف العبرية
والسبعينية والسامرية في الآباء والاعمار............................ ١٠٢
اختلاف العهدين في
إقامة بني اسرائيل في مصر................................... ١١١
آيات خلق السموات
والارض ، والمتعرب......................................... ١١٧
آيات خلق الجان.............................................................. ١٢٢
بيلي والمتكلف
والارواح النجسة................................................. ١٢٤
خلقة آدم وشأن
الملائكة....................................................... ١٢٧
آية سجود الملائكة
لآدم....................................................... ١٣٤
آيات أكل آدم من
الشجرة وتوبته والتوراة........................................ ١٣٦
آية : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ
آدَمَ بِالْحَقِ)....................................... ١٣٧
غرق ابن نوح في
الطوفان....................................................... ١٤١
شأن ابراهيم
والكواكب........................................................ ١٤٣
آيات محاجة
ابراهيم مع النمرود................................................. ١٤٣
دعوى المتكلف
ملاقاة نوح لابراهيم............................................. ١٤٥
نسبة الشك الى
ابراهيم والتوراة.................................................. ١٤٦
عود الاجسام................................................................ ١٤٨
آية : استغفار
ابراهيم لأبيه آزر................................................. ١٤٩
آية بشرى الملائكة
لابراهيم..................................................... ١٥٠
عدد الملائكة
الذين جاءوا الى ابراهيم............................................ ١٥١
آية امتحان
ابراهيم بذبح ابنه................................................... ١٥٢
ابراهيم واسماعيل
والكعبة....................................................... ١٥٣
الكعبة وبرية
فاران والتوراة...................................................... ١٥٨
منازل بني اسماعيل
والتوراة....................................................... ١٦١
رسالة هود الى عاد
، وصالح الى ثمود وشعيب الى مدين............................ ١٦٥
النبوة والتوراة.................................................................. ١٦٨
القرآن والمتكلف.............................................................. ١٧١
عاد وثمود والناقة.............................................................. ١٧٣
سورة يوسف في
القرآن الكريم وقصته فيها........................................ ١٧٥
آية الوادي طوى ،
وشجرة تخرج من طور سيناء................................... ١٨٥
استطراد ومناسبة
في الذكر...................................................... ١٨٧
آية دعوة موسى
لفرعون الى الهدى والصلاح...................................... ١٨٩
دعوة رسول الله
المباركة وسيرته الصالحة........................................... ١٩٣
آية تبوء بمصر
بيوتا............................................................ ١٩٦
القرآن في شئون
موسى وفرعون والسحرة......................................... ١٩٨
إيمان السحرة................................................................. ٢٠٤
موسى وفرعون وبني
اسرائيل.................................................... ٢٠٥
الطوفان على
المصريين ، هامان وزير فرعون....................................... ٢٠٦
القرآن وحال فرعون
عند الغرق.................................................. ٢٠٨
آية نتقنا الجبل
فوقهم.......................................................... ٢١٢
انفجار العيون
لموسى.......................................................... ٢١٤
الآيات في عجل بني
اسرائيل.................................................... ٢١٧
ألواح موسى
والتوراة........................................................... ٢٢١
آيات طلب بني
اسرائيل من نبيهم ملكا.......................................... ٢٢٢
آية ، قالوا انى
يكون له الملك علينا.............................................. ٢٢٥
آية التابوت تحمله
الملائكة..................................................... ٢٢٦
التابوت فيه بقية
مما ترك آل موسى.............................................. ٢٢٨
آية طالوت وجنوده
والابتلاء بالنهر.............................................. ٢٢٩
سفر القضاة.................................................................. ٢٣١
سفر اصموئيل................................................................ ٢٣٤
آية تسبيح الجبال
والطير مع داود................................................ ٢٣٥
آية ألنا له
الحديد............................................................. ٢٣٧
آية تسخير الريح
والجن لسليمان................................................ ٢٣٩
آية علمنا منطق
الطير......................................................... ٢٤٢
إدراك الحيوانات............................................................... ٤٤٤
آيات الهدهد وملكة
سبأ....................................................... ٢٤٥
آية السحر وما
انزل على هاروت وماروت........................................ ٢٤٧
آيات السبت
والقردة.......................................................... ٢٥٠
آية أماته الله
مائة عام.......................................................... ٢٥٣
آية إحياء الألوف
من الاحداث................................................. ٢٥٦
آيات لقمان وحكمته
ووعظه................................................... ٢٥٩
كتب العهدين ، آية
يا ذا القرنين............................................... ٢٦٥
آيات طلب زكريا
للولد........................................................ ٢٦٦
آية كفالة زكريا
لمريم ورزقها من الله............................................... ٢٦٨
آية طلب زكريا
للآية وصمته.................................................... ٢٧٠
آيات حمل البتول
مريم وولادتها.................................................. ٢٧١
حمل مريم بالمسيح
وولادتها المقدسة والعهدين...................................... ٢٧٣
نذر مريم في
القرآن والمتعرب.................................................... ٢٧٥
آيات مائدة المسيح............................................................ ٢٧٧
قصة أصحاب الكهف
في القرآن الكريم.......................................... ٢٧٩
الاسراء من المسجد
الحرام الى المسجد الاقصى.................................... ٢٨١
المعراج الى
السماء............................................................. ٢٨٢
الحلف بالعهدين.............................................................. ٢٨٣
آية الكفر بعد
الايمان.......................................................... ٢٨٧
آية العسل فيه
شفاء........................................................... ٢٩٠
آية عرض الامانة ،
ودابة الارض................................................ ٢٩١
آية وان جهنم لها
سبعة ابواب................................................... ٢٩٢
المقدمة الرابعة
عشرة : الفصل الاول : في الإلهيات................................. ٢٩٥
خلق السموات
والارض وما فيها................................................ ٣٠٩
النبوة والأنبياء................................................................ ٣٠٩
المسيح والعهد
الجديد والمتكلف................................................. ٣١٩
الأب الحال في ،
لست من هذا العالم............................................ ٣٢١
القيامة والآخرة
في العهدين..................................................... ٣٢٣
البرزخ ومجيء
المسيح وعلاماته.................................................. ٣٢٨
الفصل الثاني :
الاوامر والنواهي الواردة في الآداب................................. ٣٣١
التوحيد ، الأدب
والمواسم والعبادات............................................. ٣٣٢
تحريم بعض
الحيوانات وفي الملابس والمطاعم....................................... ٣٣٨
الفصل الثالث : في
الطهارة والنجاسة............................................ ٣٣٩
الفصل الرابع : في
النكاح...................................................... ٢٤٢
الفصل الخامس : في
الطلاق................................................... ٣٤٥
الفصل السادس : في
الحرب والجهاد............................................. ٣٤٧
الفصل السابع : في
السياسة الشرعية............................................ ٣٤٩
الفصل الثامن : في
المواريث..................................................... ٣٥٠
في شريعة العهد
الجديد......................................................... ٣٥٠
المأخذ لتعليم
العهد الجديد..................................................... ٣٥١
حثه العبيد على
الطاعة........................................................ ٣٥٢
حثه على السلم
والسلام....................................................... ٣٥٣
خاتمة الكتاب................................................................ ٣٥٤
|