سورة الزّمر

مكّيّة كلّها ، وقيل : سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة وهي

قوله : قل يا عبادي (الى آخرهنّ) وهي خمس وسبعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) تنزيل الكتاب مبتدء خبره من الله ، أو خبره محذوف ، أو خبر مبتدءه محذوف اى هذا تنزيل الكتاب ووصف الله بالعزيز الحكيم تفخيما لشأن الكتاب وتحذيرا عن مخالفته وترغيبا في اتّباعه والمراد بالكتاب القرآن أو الرّسالة والنّبوّة وأحكامهما ، أو الولاية وآثارها ، أو كتاب ولاية علىّ (ع) وخلافته ، وقد سبق في اوّل البقرة بيان للكتاب (إِنَّا أَنْزَلْنا) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : من انزل الكتاب؟ وعلى من انزل؟ فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الّذى هو المشيّة وهو ولاية علىّ (ع) وعلويّته اى بسبب الحقّ أو متلبّسا بالحقّ أو مع الحقّ (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) اى الطّريق ، أو اعمال الملّة وإخلاص الطّريق الى الله بان لا يكون مبدء السّلوك عليه ولا غايته مشوبا بشيء من أغراض النّفس واشراك الشّيطان وهو امر صعب لا يتأتّى الّا من كامل حكيم مراقب لأحواله في كلّ أفعاله (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) تقديم لله لشرافته وقصد الحصر ، ويفيد نفى رجوع غير الخالص اليه بمفهوم مخالفة القيد وذلك لانّه اغنى الشّركاء كلّما كان له فيه شريك يتركه للشّريك (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ) حال أو خبر أو مستأنف معترض بين المبتدأ والخبر والكلّ بتقدير القول (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) جملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر عن حالهم أو الجملة خبر عن الّذين اتّخذوا أو خبر بعد خبر عنه (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من امر الدّين أو من الرّسالة أو من ولاية علىّ (ع) روى عن النّبىّ (ص) في خبر انّه أقبل على مشركي العرب وقال : وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله؟ ـ فقالوا : نتقرّب بذلك الى الله تعالى فقال : أو هي سامعة مطيعة لربّها عابدة له حتّى تتقرّبوا بتعظيمها الى الله؟ ـ قالوا : لا ، قال : فأنتم الّذين نحتّموها بأيديكم؟ ـ قالوا : نعم ، قال : فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة اخرى من ان تعبدوها إذا لم يكن أمّركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلّفكم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) في مقام التّعليل أو خبر بعد خبر والرّابط تكرار المبتدء بالمعنى (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) لعدم استعداده وعدم استحقاقه (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً)


كما نسبوا اليه الملائكة والمسيح وعزيرا (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ) من أصناف الملائكة وأنواع البشر والجنّ (ما يَشاءُ) من البنين لا ما نسبوا اليه من البنات (سُبْحانَهُ) عن الشّريك والولد والصّاحبة (هُوَ اللهُ الْواحِدُ) الّذى لا مثل له حتّى يكون له ولد القهار الّذي لا يجوز في قهّاريّته ان يكون له شريك ومثل ، والولد يكون مثلا له ، والشّريك يكون مثلا له ومقابلا لا مقهورا (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) بمعنى يولج اللّيل في النّهار ، أو هو من تكرير العمامة ولفّ طاقاته كلّ على الاخرى ، أو بمعنى يغشى اللّيل النّهار ، أو بمعنى يكرّر تتابع اللّيل للنّهار والنّهار للّيل (وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وللاشارة الى تتابع اللّيل والنّهار وتكرار تكويرهما أتى بالمضارع في جانبهما وبالماضي هاهنا (كُلٌّ يَجْرِي) على الاستمرار (لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) الّذى لا يمنع من مراده حيث لا يمنعه مانع من هذا التّكوير وذلك التّسخير الغفار الّذي لا يؤاخذ عباده على ما هم فيه من الإشراك ونسبة الولد اليه وسائر المعاصي لعلّهم يتوبون فيغفر لهم (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) قد سبق في سورة النّساء بيان الآية (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أتى بثمّ للاشارة الى التّعقيب في الاخبار فانّ خلق الجماعة الكثيرة من نفس واحدة لا غرابة فيه ، وخلق الزّوج الّتى تكون شريكة لها في خلق الجماعة الكثيرة منها امر غريب بالنّسبة اليه (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) قد سبق بيان الثّمانية الأزواج في سورة الانعام وانزل بمعنى خلق كما نسب الى أمير المؤمنين (ع) ، واستعمال انزل للاشعار بانّ شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة والفعليّة الاخيرة لكلّ ذي نفس هي نفسه والتّحقيق انّ النّفوس وان كانت جسمانيّة الحدوث لكنّها منزلة من سماء الأرواح وأرباب الأنواع الى افراد الأنواع فاستعمال انزل في معنى خلق لم يكن على سبيل المجاز (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) حيوانا سويّا بعد خلق اللّحم والعظام بعد المضغة والعلقة والنّطفة (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن والرّحم والمشيمة كما في الخبر (ذلِكُمُ اللهُ) الّذى هذه المذكورات أوصافه وافعاله ربكم فلا تطلبوا ربّا سواه (لَهُ الْمُلْكُ) جملة ما يملك ممّا سواه اوّله عالم الملك مقابل الملكوت (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) لمّا بالغ في وعظهم وصرفهم عن المعبودات الباطلة توهّم انّ الله تعالى للاحتياج إليهم يستصرفهم عن المعبودات ، فرفع ذلك التّوهّم بانّ اهتمامه لصرفكم اليه ليس الّا محض الرّحمة والتّفضل عليكم لا لاحتياجه إليكم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ).

تحقيق كون الكفر بإرادة الله وعدم رضاه به ورضاه بالايمان

قد سبق في مطاوى ما سلف انّ الرّحمة الرّحمانيّة الّتى بها وجود الأشياء وبقاؤها بمنزلة المادّة للرّحمة الرّحيميّة والغضب ، وللرّضا والسّخط ، وللهداية والإضلال ، وانّ المكوّنات كلّها كمالاتها الاوّليّة الذّاتيّة تحصل بالرّحمة الرّحمانيّة ، والكمالات الثّانية الّتى تصل إليها تكوينا ان لم يعقها عائق تحصل بالرّحمة الرّحيميّة ويقال لها : الولاية التّكوينيّة والرّضا التّكوينىّ ، وانّ ذوي العقول وصولها الى كمالاتها الثّانية التّكليفيّة بالرّحمة الرّحيميّة ، ويقال لها : الولاية التّكليفيّة والرّضا والهداية والتّوفيق وغير ذلك ، وانّ انحراف المكوّنات تكوينا عن طريقها المستقيمة الّتى تكون بالفطرة سالكة عليها الى كمالاتها الثّانية وانحراف المكلّفين عن طريقهم المستقيمة التّكليفيّة لا تكون الّا بإرادة الله ومشيّته لكن ذلك الانحراف لا يكون الّا من نقص مادّته وحدود وجوده فيكون نسبته الى نفسه اولى من نسبته الى خالقه ويكون غير مرضىّ لله وان كان مرادا له فانّ الارادة بحسب الرّحمة الرّحمانيّة ، والرّضا بحسب الرّحمة


الرّحيميّة ويكون مبغوضا ومسخوطا وصاحبه مخذولا وضالّا وغير قابل للولاية التّكوينيّة أو التّكليفيّة (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لانّ الشّكر من الكمالات الثّانية التّكليفيّة وقد فسّر الكفر بالخلاف اى خلاف الولاية وخلاف الامام والشّكر بالولاية والمعرفة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ردّ لمن قال للّذين آمنوا بلسان القال كما حكى الله تعالى أو بلسان الحال كما هو شأن المنافقين من الامّة وكما هو شأن المترأسين في الدّين من غير اذن واجازة : اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعريض بمجازاتهم على عملهم فانّ الاخبار بالعمل في الآخرة ليس الّا للمجازاة عليه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قد تكرّر سابقا انّ ما في الصّدور امّا من قبيل الإرادات والعزمات والنّيّات والخيالات والخطرات ويصدق عليها انّها ذات الصّدور ، وامّا من قبيل القوى والاستعدادات المكمونة في النّفوس الّتى لا شعور لصاحبي الصّدور بها وهي اولى بكونها ذات الصّدور لزوال المذكورات السّابقة عنها بسرعة بخلافها فهي اولى بصدق المصاحبة والجملة تعليل لقوله تعالى: ينبّئكم وتهديد لمن يخفى اعماله (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) عطف على قوله ان تكفروا يعنى كيف تكفرون وإذا مسّكم ضرّ تلتجؤن اليه لا الى غيره يعنى انّكم مفطورون على الإقرار به والالتجاء اليه فليس كفركم ولا كفرانكم لنعمه الّا لستر ما أنتم مفطورون عليه (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) لما سبق انّ الخيال بتصرّف المتخيّلة يمنع العاقلة عن التّدبير والتّصرّف ويستر نصحه وردعه وحين مسيس الضّرّ يسكن الخيال عن التّصرّف فيظهر الفطرة وحكم العقل (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أعطاه تفضّلا فانّه لا يستعمل الّا في هذا المعنى (نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يعنى نسي الضّرّ الّذى يدعو الله الى دفعه ، أو نسي اللّطيفة الغيبيّة الّتى كان يدعو قواه وأهل مملكته حين الضّرّ إليها فانّ التجاءه اليه دعوة لجميع أهل مملكته اليه ، وان كان نزوله في ابى الفضيل كما ورد ، فانّه روى عن الصّادق (ع) انّها نزلت في ابى الفضيل انّه كان رسول الله (ص) عنده ساحرا فكان إذا مسّه الضّرّ يعنى السّقم دعا ربّه منيبا اليه يعنى تائبا اليه من قوله في رسول الله (ص) ما يقول ثمّ إذا خوّله نعمة منه يعنى العافية نسي ما كان يدعو اليه من قبل يعنى نسي التّوبة الى الله تعالى ممّا كان يقول في رسول الله (ص) : انّه ساحر ، ولذلك قال الله عزوجل : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) يعنى امرتك على النّاس بغير حقّ من الله عزوجل ومن رسوله (ص) قال ثمّ عطف من الله عزوجل في علىّ (ع) يخبر بحاله وفضله عند الله تبارك وتعالى فقال: أمّن هو قانت (الآية) (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أمثالا وشركاء مثل الأصنام والكواكب أو جعل لله أندادا في وجوده من اهوية نفسه ومشتهياتها (لِيُضِلَ) النّاس أو أهل مملكته (عَنْ سَبِيلِهِ) وقرئ ليضلّ بفتح الياء (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) يا أبا الفضيل أو يا أبا فلان أو يا ايّها المنصرف من باب القلب الى باب النّفس ومشتهياتها (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) فانّ الانصراف من الله ومن الولاية ومن علىّ (ع) ، أو من باب القلب ليس الّا للمبتلى بدواعى النّفس ، ودواعي النّفس ليست الّا الشّواظ من النّار (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) كمن ليس كذلك؟! حذف الخبر لدلالة الحال ودلالة قوله قل هل يستوي الّذين يعلمون (الآية) عليه ، أو المعنى أمّن كفر خير أمّن هو قانت ، فحذف المعادل الاوّل لدلالة القرينتين عليه ، وقرئ امن هو قانت بتخفيف الميم ، وعليه يكون الخبر محذوفا اى امن هو قانت كمن ليس كذلك؟! أو الخبر والمعادل جميعا والتّقدير أمّن هو قانت خير أم من كفر ، وقد فسّر القانت بعلىّ (ع) ومن ليس كذلك ليس الّا أعداءه ، والتّخصيص في الذّكر بعلىّ (ع) لكونه أصلا في الخصال الحميدة والأعمال الرّضيّة لا ينافي تعميمها كما


تكرّر سابقا (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) الّذين يقومون آناء اللّيل ساجدا وقائما فانّ العلم يلزمه ذلك لتلازم العلم والعمل كما سبق في فصول اوّل الكتاب (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيكفرون بالله ، أو بنعمه ، أو بالرّسول (ص) ، أو بعلىّ (ع) (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) عدم التّسوية بينهما (أُولُوا الْأَلْبابِ) لا غيرهم كأنّه قال : لكن لا فائدة في تذكرتك ذلك لخلوّهم من اللّبّ ومن كان خاليا عن اللّبّ لا يتذكّر ولو ذكر له كلّ آية وأتى له بكلّ آية ، وقد تكرّر انّ الإنسان بدون تأبير الولاية وبدون الاتّصال بولىّ الأمر كالجوز الخالي من اللّبّ اللّائق للنّار ، وبعد الاتّصال والدّخول في امر ـ الائمّة (ع) ودخول الايمان في القلب الّذى هو بمنزلة لبّ القلب يصير ذا لبّ ولذلك فسّروا عليهم‌السلام اولى الألباب في الآيات بشيعتهم بطريق الحصر ، عن الباقر (ع) : انّما نحن الّذين يعلمون ، وعدوّنا الّذين لا يعلمون ، وشيعتنا أولوا الألباب ، وعن الصّادق (ع) : لقد ذكرنا الله وشيعتنا وعدوّنا في آية واحدة من كتابه فقال : (هَلْ يَسْتَوِي) (الآية) ، وبتلك المضامين اخبار كثيرة (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) امره (ص) ان يخاطب عبيده بنسبة عبديّتهم الى نفسه اشعارا بانّه (ص) خليفة له في أرضه بل في أرضه وسمائه ومظهر لجميع أوصافه ونسبه فكلّ من كان عبدا له تعالى يكون عبدا لخليفته (ص) عبد طاعة لا عبد عبادة (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) اى سخطه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلّق بأحسنوا أو حال عن قوله تعالى حسنة فانّ المحسن كما يكون له الحسنى في الآخرة يكون له الحسنة الّتى هي سهولة الطّريق والسّلوك عليه والالتذاذ به في الدّنيا ، ونعم ما قال المولوىّ في تفسير الحسنة في الدّنيا والآخرة بقوله :

آتنا في دار دنيانا حسن

آتنا في دار عقبانا حسن

راه را بر ما چو بستان كن لطيف

مقصد ما باش هم تو اى شريف

والجملة في موضع تعليل بملفوظها ومحذوفها لمنطوق قوله تعالى اتّقوا ربّكم ومفهومه كأنّه قال : اتّقوا سخطه فانّ العاصي معذّب والمطيع مثاب ، لانّه للّذين أحسنوا (حَسَنَةٌ) وللّذين أساؤا عقوبة (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فان لم تتمكّنوا من الإحسان في ارض فهاجروا الى ارض يمكنكم الإحسان فيها (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ان لم يمكن الهجرة فما لمن صبر على مشاقّ الإحسان في محلّ يشقّ عليه الإحسان؟ أو كأنّه قيل : فما لمن هاجر وصبر على مشاقّ الهجرة؟ أو كأنّه قيل : ما لمن صبر على الإحسان في الأوطان؟ أو على الهجرة؟ فقال : انّما يوفّى الصّابرون على ذلك (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) كناية عن عظمة الأجر وكثرته ، وفي الاخبار اشارة الى انّ المراد إعطاء الأجر بدون محاسبة الأعمال (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) اى طريق السّلوك أو اعمال الملّة عن اشراك الشّيطان واشراك النّفس ومداخلة الهوى فاعبدوا ما شئتم وأشركوا في الدّين والأعمال ما شئتم فهو تعريض بهم وبانّ اشراكهم غير مرضىّ لله وغير مأمور به منه تعالى (وَأُمِرْتُ) بذلك (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) فمن شاء ان يكون اقدام المسلمين فليعبد مخلصا له الدّين ، أو المعنى : أمرت بان أكون اوّل المسلمين ، فيكون اللّام زائدة للتّقوية (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) في ترك ما أمرني به من إخلاص الدّين (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فافعلوا ما شئتم من الإشراك والإخلاص (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) تقديم الله للحصر يعنى قل امتثل امره واعبده (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وأشركوا في دينه ما شئتم (قُلْ) أنتم خاسرون لاضراركم بأنفسكم وقواها وجنودها ، وهذا الخسران هو الخسران العظيم (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ)


الدّاخلة والخارجة (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) لا خسران المال الّذى هو مغاير معكم ولا نسبة بينه وبينكم الّا بمحض الاعتبار الّذى اعتبره الشّرع أو العرف (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) استعمال الظّلل الّتى هي ما تظلّك فيما كان تحت الاقدام امّا من باب المشاكلة أو من جهة انّها ظلل لمن تحتها (ذلِكَ) المذكور من الخسران أو من التّظليل بالظّلل من النّار (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) قوله تعالى الا ذلك هو الخسران ممّا امر الرّسول (ص) ان يقوله ، أو ابتداء كلام من الله ، أو قوله لهم من فوقهم ابتداء كلام منه أو قوله ذلك يخوّف الله ابتداء كلام منه ، أو قوله يا عباد فاتّقون ابتداء كلام منه (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) مقابل قوله الّذين خسروا وفي موقع انّ الرّابحين كذا لكنّه عدل الى هذا لبيان ما فيه الرّابح (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل من الطّاغوت (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) ولمّا كان الطّاغوت مفسّرة ببعض أعداء علىّ (ع) فليكن المراد بالانابة الى الله التّوبة على يد علىّ (ع) والبيعة معه وهو كذلك لانّ الرّجوع الى الله ليس الّا بالسّير الى طريق القلب ، ولا يعلم طريق القلب ولا يفتح الّا بالولاية الّتى هي البيعة على يد ولىّ الأمر ، والأصل في ذلك هو علىّ (ع) (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وضع الظّاهر موضع المضمر تشريفا لهم بإضافتهم اليه وترغيبا وتوصيفا لهم بوصف مدح تشويقا لهم الى ذلك الوصف والاهتمام بالعبوديّة.

بيان اتّباع أحسن القول وتحقيقه

واعلم ، انّ القول يطلق على الأقوال اللّفظيّة والأقوال النّفسيّة والكلمات الوجوديّة الّتى هي بالنّسبة الى الله تعالى كالاقوال النّفسيّة بالنّسبة إلينا واللّام في القول امّا للجنس ولمّا لم يكن استماع الجنس الّا في ضمن الإفراد فالمراد به امّا استغراق الإفراد بنحو العموم الجمعىّ أو بنحو العموم البدلىّ لكن مع التّقييد بما يخرجه عن المحاليّة ويكون المعنى والتّقدير : الّذين يستمعون جميع الأقوال الّتى يتّفق سماعها لهم ، أو الّذين يستمعون كلّ قول يتّفق سماعه لهم بقرينة الحال وتقدّم الاستماع ، أو المراد به فرد منكّر من القول ويكون المعنى والتّقدير : الّذين يستمعون قولا منكّرا لا يمكن تعريفه وهو قول الولاية وهذا الوجه بحسب اللّفظ بعيد ، أو اللّام فيه للعهد والمنظور من القول المعهود هو علىّ (ع) وولايته ، ولمّا كان الأقوال دوالّ المعاني لم يكن المنظور منها ومن حسنها الّا حسنها بحسب المدلولات لانّ الدّالّ على الشّيء لا يحكم عليه ولا به من حيث انّه دالّ كما انّ الاسم من حيث انّه اسم لا يحكم عليه ولا به فعلى هذا لم يكن المقصود من حسن الأقوال حسنها بحسب ألفاظها بل حسنها بحسب مدلولاتها ، والمقصود من اتّباع الأحسن ان كان المراد من القول الاستغراق اتّباع أوامره ونواهيه بالامتثال والانتهاء ، والاتّعاظ بمواعظه ونصائحه ، والاعتبار بحكاياته وأمثاله ، ولمّا لم يمكن لكلّ أحد اتّباع الأحسن المطلق فالمراد بالأحسن الأحسن بالاضافة فانّه ورد في الكتاب والسّنّة الأمر بالاقتصاص من المسيء والأمر بكظم الغيظ والصّفح اى عدم الحقد على المسيء والإحسان اليه وهذه أو امر اربعة مترتّبة في الفضيلة ويأمر النّفس بالاقتصاص والزّيادة على إساءته ، ومن النّاس من لا يمكنه كظم الغيظ فان امر بكظم الغيظ كان امرا بالمحال فالأحسن في حقّه الاقتصاص وعدم التّجاوز منه الى الزّيادة ، فلو استمع سامع تلك الأقوال الخمسة وميّز بين حقّها وباطلها وحسنها وأحسنها بالاضافة اليه واتّبع ما هو أحسن بالنّسبة اليه كان ممّن استمع القول واتّبع أحسنها سواء كان ممّن كان الأحسن بالنّسبة اليه القصاص أو كظم الغيظ أو الصّفح والإحسان الى المسيء ، أو المراد اتّباع أحسنه بحسب حكايته فانّ الحكاية بلفظه أحسن من الحكاية بمعناه ، والحكاية بالمعنى بالإتيان بتمام المعاني أحسن من الحكاية ببعض معانيه كما عن الصّادق (ع) هو الّذى يسمع الحديث فيحدّث به كما سمعه ، لا يزيد فيه ولا ينقص منه، وهذا أحد وجوه الآية ، أو المقصود


من اتّباع أحسن الأقوال اتّباع أحسن جهاتها فانّ لكلّ قول يسمعه السّامع جهة لتقوية نفسه وجهة لتقوية عقله ، وبعبارة اخرى كلّ قول يسمعه السّامع امّا يسمعه بسمع نفسه أو بسمع عقله ، فان سمعه بسمع عقله واتّبع حكم العقل فيه كان ممّن اتّبع أحسن جهاته ، وان كان المراد به الولاية وصاحبها فالمقصود من اتّباع أحسنها أحسن جهاتها فانّ للولاية جهة الى الكثرات واحكام الرّسالات وجهة الى الوحدة وآثارها ، وإذا دار الأمر بين اتّباع جهة الوحدة وجهة الكثرة فليرجّح جهة الوحدة وهي أحسن جهاتها ، وهكذا الأمر إذا دار الأمر بين اتّباع خليفة الرّسالة وخليفة الولاية وهما الشّيخان في الرّواية والطّريقة فليرجّح شيخ الطّريق إذا كان الإنسان فارغا من احكام قالبه ، وإذا لم يكن عالما بأحكام قالبه فليرجّح شيخ الرّواية ، وإذا كان محتاجا إليهما في أحكامهما فليرجّح كلّ من كان حاجته اليه اشدّ ، فانّه أحسن الأقوال بالنّسبة اليه ، وهكذا في اتّباع جهات الولاية والرّسالة (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) الى الولاية فتمسّكوا بها فانّ الهداية ليست الّا بالتّوسّل بالولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) بتلقيح الولاية كما مرّ مرارا (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) كهؤلاء المبشّرين أو التّقدير خير أم هؤلاء المبشّرون؟ أو التّقدير يتخلّص منه أو الخبر فأنت تنقذ من في النّار بتقدير القول (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) يعنى انّ من حقّ عليه كلمة العذاب واقع في النّار ليس لوقوعه في النّار انتظار القيامة وليست بقادر ان تنقذه منها فهذه الجملة كناية عن وقوعهم في النّار ولذلك أتى في جانب مقابليهم بأداة الاستدراك كأنّه قال : ليس من حقّ عليه كلمة العذاب حالهم مثل من كان مبشّرا من الله فانّهم واقعون في النّار في هذه الحيوة الدّانيّة فكيف بالحيوة الآخرة (لكِنِ) المبشّرون (الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) وأتى بالاسم الظّاهر للاشعار بوصف آخر لهم ، وبانّ التّقوى محصورة فيهم وانّهم محشورون بذلك (لَهُمْ غُرَفٌ) جمع الغرفة بمعنى القصر الرّفيع (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) في الجنّة بناها الله بأيدى عمّاله لهم وهذا تشريف لهم ببناء القصر لهم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى في آخر سورة النّساء بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات (وَعْدَ اللهِ) وعد الله وعدا (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) عن الباقر (ع) انّه قال : سأل علىّ (ع) رسول الله (ص) عن تفسير هذه الآية بما ذا بنيت هذه الغرف يا رسول الله (ص)؟ ـ فقال : يا علىّ (ع) تلك غرف بناها الله لأوليائه بالدّرّ والياقوت والزّبرجد ، سقوفها الذّهب محبوكة بالفضّة لكلّ غرفة منها الف باب من ذهب على كلّ باب منها ملك موكّل به ، وفيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الحرير والدّيباج بألوان مختلفة وحشوها المسك والعنبر والكافور وذلك قول الله وفرش مرفوعة (أَلَمْ تَرَ) الخطاب عامّ والاستفهام للتّقريع أو خاصّ بمحمّد (ص) والاستفهام للتّقرير لانّه (ص) يرى ذلك وان كان غيره لا يراه (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) اصنافه وأنواعه ، أو المقصود اختلاف الألوان حقيقة (ثُمَّ يَهِيجُ) يثور عن منبته بالجفاف (فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) متفتّتا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) تذكيرا بالصّانع وكمال حكمته وقدرته وعنايته بخلقه لا سيّما ببني آدم لانتفاعهم بما سواهم وكون ما سواهم لانتفاعهم دون ما سواهم وتذكيرا بانّ الأحياء بالحيوة الدّنيا مثل إنبات النّبات واخضراره وانحطاطه ويبسه واصفراره وتفتّته فلا يغترّ بها ويعلم انّها أيضا ليست مقصودة بالذّات بل هي كسائر الموجودات مقدّمة لغيرها وليطلب ذلك وليعمل له (لِأُولِي الْأَلْبابِ) الّذين قبلوا ولاية علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة كما تكرّر انّه لا يحصل اللّبّ للإنسان الّا بتأبير الولاية (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يعنى اولى الألباب هم الّذين شرح الله صدورهم للإسلام أفمن شرح الله صدره للإسلام خير أم


من شرح الله صدره للكفر؟ أو مثل من جعل الله صدره ضيّقا حرجا وقد مضى بيان شرح الصّدر في سورة الانعام عند قوله تعالى : يشرح صدره للإسلام (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) والنّور هو الولاية الّتى هي الحافظة له عن اتّباع الشّيطان والأصل في ذلك النّور علىّ (ع) وبعد شيعته الّذين قبلوا ولايته بالبيعة الخاصّة ، ثمّ شيعته الّذين قد تنعّش فيهم الولاية التّكوينيّة وتنعّش تلك الولاية هو النّور الّذى يقذف في قلب العبد فيعبّر عنه بالعلم كما ورد ، انّ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) في مقام كمن قسى قلبه لكنّه ادّاه هكذا لافادة هذا المعنى مع شيء آخر (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) لأجل ذكر الله أو معرضين من ذكر الله (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) اى ولاية علىّ (ع) فانّها النّبأ العظيم وأحسن من كلّ حديث والقرآن صورتها فانّ أصل الولاية هي المشيّة وقد نزّلها الله عن مقامها العالي ومقام جمع الجمع على مراتب العقول والنّفوس وعالم المثال وعالم الطّبع ، وبعد نزولها على مراتب الإنسان صارت حروفا وأصواتا وكلمات وأقوالا فصارت كتبا سماويّة وأصل الكلّ هو القرآن وهو صورة الولاية فصحّ تفسيره بالقرآن (كِتاباً) بدل من أحسن الحديث أو حال أو تميز (مُتَشابِهاً) فانّ مراتب العالم كلّ مرتبة منها مشابه لعاليتها وسافلتها فانّ السّافلة صورة مفصّلة نازلة من العالية والعالية صورة مجملة بسيطة من السّافلة ، وصورة القرآن أيضا متشابهة من حيث دلالة كلّ اجزائه على مبدء قدير وصانع حكيم عليم ذي عناية بخلقه ومن حيث دلالته على صدق الآتي به ومن حيث ظهور تنزيله وبطون تأويله ومن حيث اشتماله على البطون ومن حيث اشتماله على الوجوه العديدة الصّحيحة بحسب مراتب الخلق ، ومن حيث فصاحته وبلاغته بحسب قد فاق كلّ خطاب وكلام ، أو المراد المتشابه في مقابل المحكم فانّ القرآن وكتاب الولاية بعد نزوله الى عالم الطّبع مخفىّ المقصود غير ظاهر المراد (مَثانِيَ) قد مضى بيان كون القرآن وكون فاتحة الكتاب مثاني في اوّل الفاتحة وفي سورة الحجر (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وهم الّذين قبلوا ولاية علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة أو ظهر فيهم ولايته التّكوينيّة الّتى هي ظهور العلم التّكوينىّ فيهم فانّ العلم التّكليفىّ محصور فيمن قبل الولاية التّكليفيّة ، والتّكوينىّ محصور فيمن ظهر فيه الولاية التّكوينيّة وخرج من حجب الاهوية وإليهما أشار النّبىّ (ص) حين سئل عنه : ما العلم؟ ـ فقال : الإنصات ، ثمّ سئل عنه ، فقال : الاستماع فانّ الإنصات اشارة الى ظهور العلم التّكوينىّ المعبّر عنه بالولاية التّكوينيّة ، والاستماع اشارة الى الولاية التّكليفيّة فانّ الاستماع ليس الّا بعد الانقياد والانقياد لا يحصل الّا بالبيعة الخاصّة الّتى هي الولاية بوجه وهي سبب حصول الولاية بوجه ، والخشية لا تكون الّا بعد العلم والخشية محصورة فيمن له العلم بنصّ الآية الشّريفة فلا تكون الخشية الّا لشيعة علىّ (ع) تكوينا أو تكليفا ، ومن قبل الولاية ودخل في الطّريقة يدرك اقشعرار الجلد من تذكّر الولاية ومشاهدة ولىّ امره وقراءة القرآن (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) عطف على جلودهم (إِلى ذِكْرِ اللهِ) متعلّق بتلين بتضمين تسكن أو قلوبهم مبتدء وخبره الى ذكر الله والجملة حال يعنى تسكن جلودهم عن الاقشعرار والحال انّ قلوبهم مائلة أو ساكنة الى ذكر الله ، وذكر الله هو الولاية أو ولىّ الأمر أو الذّكر المأخوذ من ولىّ الأمر أو ملكوت ولىّ الأمر أو القرآن أو المراد تذكّرهم لله أو ذكر الله لهم الجنّة والنّار والثّواب والعقاب (ذلِكَ) الكتاب المفسّر بالولاية وولىّ الأمر والقرآن أو ذلك الاقشعرار ولين الجلود أو ذلك التّنزيل (هُدَى اللهِ) حمل الهدى من قبيل حمل المصدر على الذّات على بعض الوجوه (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) اى من يخذله أو من لم يجده الله ، من اضلّ الدّابّة بمعنى لم يجدها كما قيل (فَما لَهُ مِنْ هادٍ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) الّذى هو أشرف أعضائه ويجعل سائر أعضائه جنّة له في كلّ حال (سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لشدّة العذاب بحيث لا يقدر على تحريك أعضائه ، أو لكون أعضائه مغلولة ، أو لدهشته


وحيرته بحيث لا يميّز بين الأشرف وغير الأشرف ، والخبر محذوف أو الخبر والمعادل كلاهما محذوفان (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشارة الى ظلمهم وذمّهم بذلك وتلويحا الى علّة الحكم وهو عطف على يتّقى والاختلاف بالمضىّ والمضارعة للاشارة الى استمرار العذاب والاتّقاء بخلاف هذا القول كأنّه قال : أفمن يتّقى بوجهه سوء العذاب ويتّهكم به بهذا القول خير أم من هو آمن؟ (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) اى نفس ما كنتم تعملون أو جزاءه على ما مضى من تجسّم الأعمال وجزائها أيضا بالجزاء المناسب لها (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل لهم نظير في تكذيبهم؟ ـ فقال تعالى : كذّب الّذين من قبلهم (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) تفصيل لعذابهم الآتي يعنى أتاهم العذاب فأذاقهم الله ذلك العذاب بالمسخ أو الخسف أو القتل أو الاجلاء أو السّبى أو النّهب أو البلايا الواردة الإلهيّة فانّها ان كانت نعمة بالنّسبة الى المؤمنين كانت نقمة بالنّسبة الى المنافقين والكافرين (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) فانّ عذاب الدّنيا وان كان اشدّ ما يكون يكون جزء من سبعين جزء من عذاب الآخرة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لاجتنبوا أو لفظة لو للتّمنّى (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) اى بعضا من كلّ مثل يحتاج اليه النّاس في معاشهم ومعادهم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أحوالهم وأحوال دنياهم وآخرتهم (قُرْآناً) حال موطّئة (عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) غير ذي انحراف عن الطّريق المستقيم الانسانىّ (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الانحراف عن طريق الإنسان (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للكافر والمؤمن والمنافق والموافق حتّى يتذكّر المؤمن المخلص حاله ويشكر ربّه والكافر والمنافق فينزجر عنها ويتوب (رَجُلاً) بدل من مثلا بتقدير مثل رجل (فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) اى مختلفون متعاسرون (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) بدل من مثلا بتقدير مثل رجل (فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) اى مختلفون متعاسرون (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) فانّ المتّبع للأهواء الّذى يتّبع غير ولىّ الأمر ينبغي ان يرى في نفسه تجاذب اهويته له الى إرادات عديدة ومشتهيات كثيرة بحيث قد يتحيّر ويقف عن الكلّ ويبغض نفسه في ذلك ، وما لم يتّبع هواه لم يتّبع رئيسا باطلا والمتّبع لولىّ الأمر الغير المتّبع لهواه يرى في نفسه انّه مستريح الى ربّه لا يجذبه ارادة وهوى الى غير ربّه ، وهذا النّاظر إذا نظر الى حال المتّبع للأهواء يشكر ربّه لا محالة والمتّبع للأهواء ان تنبّه بحاله انزجر لا محالة وتاب منه لكن قلّ من يتنبّه لانغمارهم في اهويتهم وسكرهم وغفلتهم وقد فسّر السّلم في اخبار عديدة بعلىّ (ع) وشيعته والرّجل الّذى فيه شركاء بأعداء علىّ (ع) (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) حالا أو حكاية (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إظهار للشّكر على نعمة عدم الاستواء تعليما للعباد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم مقام علم ، أو لا يعلمون عدم الاستواء لطموح نظرهم على المتاع الفاني ، أو لا يعلمون أحوالهم حتّى ينزّلوا هذا المثل على أحوالهم فيتنبّهوا وينزجروا (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) بشارة وتسلية له ولموافقى أمّته وتهديد لمخالفيه ومنافقي أمّته (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) تسلية تامّة لعلىّ (ع) وشيعته ، وتهديد تامّ لمخالفيهم وقد فسّر المتخاصمون بعلىّ (ع) وأعدائه.

الجزء الرّابع والعشرون

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) يعنى فلم يكن حينئذ أظلم منهم وهذا تهديد آخر لهم وتسلية اخرى لعلىّ (ع)


وموافقيه ، ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بوصف ذمّ لهم والاشارة الى الحكم وعلّته فانّ كلّ من ترأّس في الدّين باىّ نحو من التّرأّس من القضاء والفتيا وإمامة الجماعة والجمعة والوعظ والتّصرّف في الأوقاف واموال الأيتام والغيّاب وأخذ البيعة من العباد وتلقين الذّكر وتعليم الأوراد من دون اذن واجازة من الله بتوسّط خلفائه فهو ممّن كذب على الله ، وهكذا من اتّبع هذا المترأس فانّه بحاله كذب على الله حيث اعتقد انّ هذا المترأس رئيس من الله في الدّين واتّبعه ولم يكن رئيسا من الله (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) الّذى هو ولايته التّكوينيّة حيث انّها تزجره عن هذا التّرأّس وذلك الاتّباع وولايته التّكليفيّة ان كان قد حصّل الولاية التّكليفيّة وولىّ امره ، فانّ هذا المتّبع مكذّب بالكلّ والكلّ صدق وصادق (إِذْ جاءَهُ) تكوينا أو تكليفا في الباطن أو في الظّاهر بنفسه أو على لسان نبيّه أو على لسان قرينه (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حالهم في الآخرة؟ فقال : انّهم في جهنّم (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) وهو كلّ من قبل الولاية التّكليفيّة فانّه جاء بالولاية التّكوينيّة والولاية التّكليفيّة وصدّق بها فانّه ان لم يتّبع هواه يصدّق الولايتين في أحكامهما ويصدّق ولىّ امره في كلّ امر ونهى وقول وفعل وخلق صدر منه (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يعنى من الظّلم وهو في مقابل من أظلم ممّن كذب كما انّ قوله والّذى جاء بالصّدق في مقابل كذّب على الله (الى آخره) (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مقابل أليس في جهنّم مثوى للكافرين (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) بسط ذكر الجزاء بالنّسبة الى المصدّقين دون المكذّبين تشريف لهم وتحقير لمقابليهم (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) علّة لحصر التّقوى فيهم وكون ما يشاؤن لهم عند ربّهم يعنى لمّا كفّر الله وجزاهم بأحسن أعمالهم صار لهم ذلك ، أو غاية لما ذكر يعنى انّ التّقوى وإعطاء ما شاؤا صار سببا لتكفير سيّئاتهم (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) فكيف بغيره (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) قد سبق انّ المقصود جزاءهم لجميع أعمالهم بجزاء أحسن الأعمال وقد سبق وجهه وانّ كلّ عمل سيّئة كانت أو حسنة يحصل منه فعليّة ما للنّفس فان كانت الأعمال حسنات يحصل منها فعليّة في جهتها العقلانيّة وان كانت سيّئات يحصل منها فعليّات في جهتها الشّيطانيّة وكلّ فعليّة تحصل في جهتها الشّيطانيّة إذا تسلّط العقل وأخذ الملك من الشّيطان صارت من سنخ الحسنات لصيرورة الفعليّات حينئذ كلّها سيّئاتها وحسناتها من جنود العقول فصارت السّيّئات حسنات إذ لا معنى للحسنة الّا كون الفعليّة الحاصلة منها من جنود العقل وهذا معنى تبديل السّيّئات حسنات وبهذا الاعتبار يجزى تمام السّيّئات جزاء أحسن الأعمال فضلا عن الحسنات (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) تسلية للرّسول (ص) عن تخويف قومه ايّاه أو تخويفهم عليّا (ع) أو عن تخويفهم ايّاه بان لا يدعوا الأمر في علىّ (ع) والمراد بالعبد محمّد (ص) أو علىّ (ع) (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) قيل : قالت قريش : انّا نخاف ان تخبلك آلهتنا لعيبك ايّاها ، وقيل : يقولون لك : يا محمّد (ص) اعفنا من علىّ (ع) ويخوّفونك بانّهم يلحقون بالكفّار (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) جملة حاليّة (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يعنى انّهم اضلّهم الله ولست أنت تهديهم أو لا يهتدون الى ما يتخيّلون من اللّحوق بالكفّار ، أو من منع علىّ (ع) من الخلافة (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) فلا تخف من آلهتهم ولا ممّا قالوا في علىّ (ع) فانّ الله هداك وعليّا (ع) (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) غالب لا يغلب في مراده حتّى تخاف منهم وممّا قالوا في علىّ (ع) (ذِي انْتِقامٍ) فلا تحزن على تقلّبهم في البلاد وتمتّعهم في الايّام فانّا ننتقم منهم بل تقلّبهم وتمتّعهم باسر النّفس والخيال انتقامنا منهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) عطف على من يضلل الله وهو حال في مقام التّعليل (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فكيف


يخوّفونك بالّذين من دون (قُلْ) ردّا عليهم في تخويفهم (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) والحال ان لا ضرّ الّا منه ولا رحمة الّا باذنه فكيف تخوفوننى بها والخوف لا يكون الّا بالإضرار أو منع النّفع وفي إيراد الضّمائر مؤنّثات توهين لآلهتهم سواء أريد بها الأصنام والكواكب وأمثالها أو المترأسين في الدّين مقابل الرّؤساء الحقّة (قُلْ) لهم بنحو التّجرى ولا تخف (حَسْبِيَ اللهُ) ولا حاجة لي الى غيره فلتفعل الهتكم بى ما قدروا (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يعنى ينبغي ان يتوكّل عليه المتوكّلون لانّه لا فاعل في الوجود بإقرار الكلّ الّا هو (قُلْ) لهم تهديدا لهم مقابل تهديدهم لك (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) اى على منزلتكم أو على مقدرتكم سواء جعل من كان أو من مكن (إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) قد مضى الآية بعينها في أوائل سورة هود (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) جملة مستأنفة في مقام التّعليل للأمر بالقول يعنى انّا أنزلنا عليك الكتاب (لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) لأجل تهديدهم وترغيبهم فما لك لا تقول لهم فقل لهم ما أنزلنا إليك ولا تبال سمعوا أو لم يسمعوا (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) حتّى تراقب عدم ضلالهم وتحزن لضلالهم (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) كلام منقطع عن سابقه وقد مضى في سورة النّساء وجه الجمع بين توفّى الله وتوفّى ملائكته ورسله وتوفّى ملك الموت (حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) عطف على الأنفس من قبيل عطف العامّ على الخاصّ وقوله (فِي مَنامِها) متعلّق بلم تمت يعنى انّ للإنسان نفسا حيوانيّة ونفسا عقلانيّة والله يتوفّى جميع الأنفس حين الموت ويتوفّى أيضا حين الموت الأنفس الحيوانيّة الّتى لم تكن تخرج من الأبدان حين النّوم فانّ الّتى تخرج حين النّوم هي الأنفس العقلانيّة ويشبه ان لا يكون الله يقبضها حين الموت لتسفّلها وعدم الاعتناء بها بل تكون تفنى أو تقبضها الملائكة ، أو في منامها متعلّق بيتوفّى الأنفس والمعنى انّ الله يتوفّى الأنفس ، ويتوفّى بان يقبضها حين نومها ومعنى قوله تعالى (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) على الوجه الاوّل انّه يمسك الأنفس الّتى قضى عليها الموت من الأنفس المتوفّاة ويرسل الاخرى الّتى لم يتوفّاها بالموت يعنى يبقيها في أبدانها الى أجلها ، أو يمسك الأنفس العقلانيّة الّتى يتوفّاها بالنّوم ويرسل الأنفس الحيوانيّة الّتى لم يتوفّاها يعنى يبقيها في أبدانها والمعنى على المعنى الثّانى انّه يمسك الأنفس الّتى يتوفّاها بالموت ويرسل الاخرى الّتى توفّيها بالنّوم بان يرسلها بعد توفّيها الى أبدانها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) موقّت معلوم (إِنَّ فِي ذلِكَ) التّوفّى والإرسال حين الموت والنّوم (لَآياتٍ) عديدة على مبدئيّته وعلمه وقدرته وكمال حكمته ، وبقاء عالم آخر غير هذا العالم وعود الأنفس الى ذلك العالم ، وكون الإنسان ذا مراتب وانّ بعض مراتبه حكمها حكم الطّبع ، وبعض مراتبه حكمها حكم العقل المجرّد وانّه يمكن ان يشاهد ما في العالم الباقي كما انّه يشاهد ما في هذا العالم وغير ذلك (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) باستعمال المفكّرة باستخدام العقل في استنباط المعاني الدّقيقة والنّتائج الخفيّة من المقدّمات الجليّة وغيرهم وان كانوا ذوي شعور وعلم وذوي عقول والباب وذوي تذكّر وتنبّه لا ينتقلون الى آياته من مشهوداته (أَمِ اتَّخَذُوا) أم منقطعة متضمّنة للاستفهام أو مجرّدة عنه ، أو متّصلة محذوف معادلها والتّقدير اتّخذوا من دون الله آلهة يعبدونها أم اتّخذوا (مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ) لهم أتتّخذونهم آلهة أو شفعاء (أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) ممّا يملك


(وَلا يَعْقِلُونَ) بمنزلة بل لا يعقلون (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) فما لكم تجعلون غيره شفيعا عنده ، أو المعنى بل اتّخذوا من دون علىّ (ع) الّذى هو مظهر تامّ لله وبهذه المظهريّة يطلق اسم الله عليه شفعاء قل لهم أتتّخذونهم شفعاء وائمّة لكم ولو كانوا لا يملكون شيئا ممّا يملك حتّى نفوسهم وقوى نفوسهم الّتى تكون مملوكة لكلّ ذي نفس ولا يعقلون خير أنفسهم وشرّها الانسانيّين فكيف بغيرهم قل لهم ايّتها العصابة الّذين تطلبون شفعاء عند الله لعلىّ (ع) الشّفاعة جميعا يعنى بجميع مراتب الشّفاعة وجزئيّاتها ليس لأحد شيء منها فما لكم تنصرفون عن علىّ (ع) الى غيره (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في مقام التّعليل (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعنى انّ الشّفاعة في الدّنيا مختصّة به لانّ له ملك السّماوات والأرض ، والشّفاعة في الآخرة مختصّة به لانّ الكلّ يرجعون اليه لا الى غيره (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) بمنزلة الاستدراك كأنّ متوهّما توهّم انّه لا ينبغي ان يتوجّه أحد مع ذلك الى غير الله فقال ولكن إذا ذكّر الله وحده (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) لانّهم أدبروا عن الله وأقبلوا على اهويتهم والمدبر عن الشّيء مشمئزّ عنه وعن ذكره ، والمقبل على الشّيء مستبشر به وبذكره (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) كالأصنام والطّواغيت ومعاندي علىّ (ع) ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل عنها فقال : إذا ذكر الله وحده بطاعة من امر الله بطاعته من آل محمّد (ص) اشمأزّت قلوب الّذين لا يؤمنون بالآخرة ، وإذا ذكر الّذين لم يأمر الله بطاعتهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ) معرضا عنهم مقبلا على ربّك (اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يعنى توجّه الى ربّك واذكره بما فيه تسليتك عن عدم اجابة قومك وعن خلافهم من كونه خالق كلّ ما سواه وعالم كلّ المعلومات ومنها عناد قومك معك وخلافهم لك وحصر الحكم بين العباد فيه (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على اللهم ومن جملة ما أمره الله تعالى ان يقول تسلية لنفسه ، أو عطف على جملة إذا ذكر الله ، أو حال من أحد اجزائها ، أو حال من أجزاء قل اللهمّ (الى آخر الآية) ولفظة لو للشّرط في الاستقبال أو للشّرط في الماضي لانتفاء الثّانى لانتفاء الاوّل بادّعاء مضىّ يوم القيامة لتحقّق وقوعه ، والمراد بالظّلم ظلم آل محمّد (ص) لعدم ارادة مطلق الظّلم لانّ أكثر اصنافه مغفور فليخصّص بما هو المعهود من ظلم آل محمّد (ص) (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا تهديد بليغ لهم (وَبَدا لَهُمْ) عطف على افتدوا أو حال (مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) اى العمل الّذى كانوا به يستهزؤن ، أو العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) اى إذا مسّهم ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بانّ هذا في فطرة الإنسان ، والفاء لسببيّة ما بعدها لما قبلها ، أو عاطفة على جملة إذا ذكر الله (الى آخرها) ، أو على جملة لو انّ للّذين ظلموا (الى آخرها) ودالّة على التّرتيب في الاخبار (ضُرٌّ دَعانا) لظهور فطرته حينئذ وعدم احتجابها بحجب الوهم والخيال واقتضائها التّعلّق بالله والتّضرّع اليه (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) وظهر الخيال بانانيّته ونسي حال تضرّعه ودعائه (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) منّى بطرق كسبه أو على علم بإتيانه لانّى علمت انّ الله يعطيني ذلك لمكانى عنده (بَلْ) ليس إتيانه بكسبه ولا بشعور منه بإتيانه انّما (هِيَ فِتْنَةٌ) من الله وفساد له أو امتحان له لئلّا يبقى عليه شوب من العلّيّين حتّى يدخل النّار من غير شوب من العلّيّين (وَلكِنَ


أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم مقام علم حتّى يعلموا انّ ذلك ينافي مقام علمهم أو لا يعلمون انّ ذلك فتنة لهم واستدراج (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقارون حيث قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ فَما أَغْنى) عذاب الله (عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الأموال والقوى والأولاد والخدم والحشم (فَأَصابَهُمْ) عطف عطف التّفصيل على الإجمال (سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) بأنفسها على تجسّم الأعمال أو جزاء تلك السّيّئات (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) اى ظلموا آل محمّد (ص) أو ظلموا ولايتهم التّكوينيّة الّتى هي ولاية آل محمّد (ص) بعدم ضمّها الى الولاية التّكليفيّة فانّ الظّلم ليس مرادا مطلقا فيكون المراد هو الفرد المعهود منه (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا) استفهام توبيخيّ يعنى لو لا يعلمون ذلك مع وضوح برهانه وظهور آثاره (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ) اى في بسط الرّزق لبعض من دون مداخلة كسبه وتدبيره في ذلك وقدره لبعض مع كمال سعيه وتدبيره (لَآياتٍ) عديدة دالّة على علمه تعالى وقدرته وحكمته ومراقبته لعباده (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يذعنون بالله وصفاته ، أو يسلمون بالبيعة العامّة ، أو يؤمنون بالبيعة الخاصّة الولويّة (قُلْ يا عِبادِيَ) قد مضى انّ الخطاب للعباد من محمّد (ص) بيا عبادي في محلّه فانّ عباد الله كما انّهم عباد لله عبد عبوديّة عباد لمظاهره عبد طاعة ، على انّ حكم الظّاهر قد ينسب الى المظهر إذا انسلخ المظهر من انانيّته وظهر فيه انانيّة الظّاهر كما انّ حكم المظهر قد ينسب الى الظّاهر ويشهد لذلك قوله تعالى : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى وقوله قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم وقوله انّ الله اشترى من المؤمنين وقوله انّ الّذين يبايعونك انّما يبايعون الله وقوله الم يعلموا انّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات فانّ الاشتراء والبيعة وقبول ـ التّوبة وأخذ الصّدقات ليست الّا بتوسّط المظاهر والخلفاء (الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بالإفراط في حقوقها الدّنيويّة والتّفريط في حقوقها الاخرويّة (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وهذا لمن كان له سمة العبوديّة بالنّسبة الى مظاهره وخلفائه ولا يكون سمة العبوديّة الّا لمن باع معهم البيعة العامّة أو البيعة الخاصّة ، بل نقول : لا يكون سمة العبوديّة الّا لمن باع البيعة الخاصّة فانّ الايمان الّذى هو سمة العبوديّة لا يدخل في القلب الّا بالبيعة الخاصّة ، وامّا المسلمون فدخولهم في الإسلام ليس الّا كدخول من دخل تحت حكم السّلاطين الصّوريّة ولذلك لا يكون الأجر والثّواب الّا على الايمان دون الإسلام ، أو نقول هو عامّ لكلّ من لم ينسلخ من عبودية الله تكوينا سواء صار عبدا له تكليفا أو لم يصر ، وانسلاخه من عبوديّته التّكوينيّة لا يكون الّا بالتّمكّن في اتّباع الهوى والشّيطان فانّ المتمكّن في اتّباعهما لا يغفر له لانّه الشّرك الّذى قال الله انّ الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك فالمراد بالذّنوب هاهنا غير الشّرك الّذى لا يغفره الله ، وغير المتمكّن في اتّباع الشّيطان هو الباقي على ولاية آل محمّد (ص) تكوينا وان لم يبايع بالولاية معهم تكليفا فلا منافاة بين هذا التّعميم ، وما ورد في الاخبار من اختصاص الآية بشيعة آل ـ محمّد (ص) فانّه قال القمىّ : نزلت في شيعة علىّ بن ابى طالب (ع) خاصّة ، وعن الصّادق (ع) لقد ذكركم الله في كتابه إذ يقول : يا عبادي (الآية) قال (ع) : والله ما أراد بهذا غي ركم ، وعن الباقر (ع) : وفي شيعة ولد فاطمة (ع) انزل الله عزوجل هذه الآية خاصّة ، وعن الصّادق (ع) : ما على ملّة إبراهيم (ع) غيركم ، وما يقبل الّا منكم ، ولا يغفر الذّنوب الّا لكم ، وعن أمير المؤمنين (ع) : ما في القرآن آية أوسع من (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) (الآية) ، وعن النّبىّ (ص) : ما احبّ انّ لي الدّنيا وما فيها بهذه الآية ، وإذا جمع ما ورد في شيعة علىّ (ع) مع هذه الآية علم ان ليس المراد بعبادي الّا شيعته ، مثل :


حبّ علىّ (ع) حسنة لا يضرّ معها سيّئة ومثل : دينكم دينكم فانّ السّيّئة فيه مغفورة ، والحسنة في غيره غير مقبولة ، ومثل : إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره ، ومثل : ولىّ علىّ (ع) لا يأكل الّا الحلال ، ومثل : انّ الله عزوجل فرض على خلقه خمسا فرخّص في اربع ولم يرخّص في واحدة ، وغير ذلك ممّا يدلّ على انّ الرّجل ان وصل الى الاحتضار بالولاية غفر الله له جميع ذنوبه (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) المضاف الّذى هو علىّ بن ابى طالب (ع) وولىّ أمركم ، والانابة اليه بعد البيعة ليست الّا بالحضور لديه بمعرفته بالنّورانيّة الّذى هو الحضور عند الله والمعرفة بالله (وَأَسْلِمُوا لَهُ) اى انقادوا له بالخروج من جميع نيّاتكم وقصودكم وليس الّا بالحضور عنده (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) اى عذاب الاحتضار أو عذاب القيامة (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) إذا لم تكونوا تسلمون له (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) قد سبق بيان اتّباع أحسن القول في أوائل هذه السّورة ، وقد مضى انّ أحسن القول هو الولاية (مِنْ رَبِّكُمْ) ولا شكّ انّ أحسن ما انزل الى العباد من ربّ العباد من جملة أركان الإسلام واحكامه الولاية فانّها أسناها وأزكاها وأنماها وأشرفها والدّليل عليها ، وأحسن ما انزل إليهم من جملة قواهم وفعليّاتهم هو الولاية التّكوينيّة الّتى هي حبل الله ، والولاية التّكليفيّة الّتى هي حبل النّاس ، وهي الايمان الدّاخل في القلب ، وهي الفعليّة الاخيرة الّتى بها شيئيّته وهي ما يصحّح نسبة البنوّة والابوّة بينه وبين ولىّ امره ، ونسبة الأخوّة بينه وبين سائر المؤمنين (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) عذاب حال الاحتضار أو القيامة (بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بمجيئه حتّى تتهيّؤا لدفعه أو لوروده ليكون أيسر ايلاما (أَنْ تَقُولَ) أمرنا أو قلنا ذلك كراهة ان تقول ، أو لئلّا تقول ، أو هو بدل من ان يأتيكم العذاب نحو بدل الاشتمال اى اتّبعوا أحسن ما انزل إليكم من قبل ان تقول (نَفْسٌ) ارادة العموم البدلىّ أو الاجتماعى من النّفس هاهنا بعيدة لفظا ومعنى ، وارادة فرد ما لا على التّعيين مفيد معنى وقريب لفظا لكن ملاحظة التّحقير من التّنكير وهي المنظور منه (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) اى في علىّ (ع) أو في ولايته كما ورد اخبار كثيرة في انّ المراد بجنب الله علىّ (ع) ، أو هو والائمّة من بعده ، أو ولايته ، فعن الباقر (ع) اشدّ النّاس حسرة يوم القيامة الّذين وصفوا عدلا ثمّ خالفوه وهو قوله عزوجل : ان تقول نفس (الآية) ، وعن الكاظم (ع) جنب الله أمير المؤمنين (ع) ، وعن الباقر (ع) : نحن جنب الله ، وعنه (ع) وعن السّجّاد (ع) والصّادق (ع) ، جنب الله علىّ (ع) وهو حجّة الله على الخلق يوم القيامة ، وعن الرّضا (ع) في هذه الآية انّه قال : في ولاية علىّ (ع) ، وعن علىّ (ع) : انا جنب الله ، والاخبار في هذا المعنى كثيرة (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) لجنب الله (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ولفظة أو للدّلالة على انّها قد تقول هذا وقد تقول ذلك لغاية تحيّره ووحشته (بَلى) جواب للنّفى المستفاد من قولها : لو انّ الله هداني وإثبات لما نفت وردّ عليها كأنّه قيل : ما يقال لها حين تقول ذلك؟ فقال تعالى : يقول الله بلى ردّا على قولها ما هداني الله (قَدْ جاءَتْكَ) قرئ بتذكير ضمير الخطاب اعتبارا للمعنى وقرئ بتأنيثه (آياتِي) نقل انّ المراد بالآيات الائمّة وعلى ما ذكرنا من إشارات الاخبار جاز ان تفسّر الآيات بعلىّ (ع) والائمّة (ع) من بعده (فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ) عن الانقياد لها (وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بالله بكفرك بالآيات من حيث انّها آيات لانّها مظاهر لله وبكفرك بالولاية فانّ الايمان بالله لا يحصل الّا بالايمان بالولاية ، وبكفرك بنعم الله فانّ الولاية من أعظم نعم الله على خلقه ، والكافر بها كافر بأعظم النّعم بل بجميع النّعم لانّ النّعمة ليست نعمة الّا بالولاية (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ)


بادّعاء منصب دينىّ ليس بإذن من الله وخلفائه كادّعاء الامامة والخلافة من الرّسول ، وادّعاء القضاء والفتيا ، وادّعاء الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ، وادّعاء الوعظ والامامة للجمعة والجماعة ، والتّصرّف في الأوقاف واموال الأيتام والغيّاب ، واجراء الحدود والتّعزيرات ، وأخذ الفيء والأنفال والصّدقات ، وغير ذلك من المناصب الدّينيّة المحتاجة الى الاذن والاجازة من الله عموما أو خصوصا ، وروى بطرق عديدة انّ المراد : من ادّعى انّه امام وليس بإمام ، قيل : وان كان علويّا فاطميّا؟ ـ قال : وان كان علويّا فاطميّا (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حالهم ومقامهم؟ فقال : حالهم انّهم في جهنّم لكنّه ادّاه بصورة الاستفهام تأكيدا لهذا المعنى (وَيُنَجِّي اللهُ) عطف على قوله تعالى (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ) فانّه في معنى يكون في جهنّم مثوى للكافرين وينجّى الله (الَّذِينَ اتَّقَوْا) قد مضى في اوّل البقرة بيان التّقوى وتفاصيلها (بِمَفازَتِهِمْ) بنجاتهم يعنى باستعدادهم للنّجاة أو في محلّ نجاتهم والمفازة المنجاة والمهلكة ضدّ والفلاة الّتى لا ماء بها (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) جواب سؤال مقدّر في مقام التّعليل أو منقطع عن سابقه لفظا ومعنى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) بالحفظ والإبقاء على ما هو خير له (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى مفاتيحها ومقاليدها عبارة عن الوجود الّذى به قوامها وبقاؤها ، وإذا كان ذلك الوجود مملوكا له لم يكن لها شيء لا يكون مملوكا له فهو مالك لها بتمام اجزائها لا انانيّة لها في أنفسها ، والجملة في مقام التّعليل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) اى بعلىّ (ع) وولايته (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لا خسران سوى الكفر به لانّ من كفر بالله إذا لم يبطل استعداده الفطرىّ يمكن له التّوبة والرّجوع وكذا حال من كفر بالرّسول واليوم الآخر ، وامّا من كفر بالولاية بان قطع الولاية التّكليفيّة والولاية التّكوينيّة لا يبق له استعداد التّوبة وهو المرتدّ الفطرىّ الّذى لا توبة له وليس له الّا القتل بخلاف غيره من الكفّار ولذلك ادّعى حصر الخسران فيه (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) غير الله مفعول اعبد وتأمرونّى معترض بينهما ، ومفعوله محذوف اى تأمرونّى بعبادته ، أو غير الله مفعول تأمرونّى واعبد بدل منه بتقدير ان بدل الاشتمال ، وقرئ تأمرونّى بالاوجه الثّلاثة (الحذف والإدغام والفكّ) الجائزة في نون الوقاية مع نون الجمع (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) ابتداء كلام من الله ردّا عليهم في قولهم لمحمّد (ص) استسلم بعض آلهتنا نؤمن بالهتك كما انّ قوله : قل أغير الله تأمرونّى كان ردّا عليهم في قولهم ذلك (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) يعنى هذا الوحي كان مستمرّا من اوّل زمن النّبوّة ولم يكن له اختصاص بنبىّ دون نبىّ ووقت دون وقت لانّ البعثة لم تكن الّا لنفى الشّرك خصوصا إذا كان المراد بالشّرك الشّرك في الولاية لانّها كانت مبدء للبعثة وغاية لها (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) بالله في العبادة أو لئن أشركت بعلىّ (ع) والولاية (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) تعريض بالامّة وباشراكهم بالولاية لكنّه خاطب النّبىّ (ص) بهذا الخطاب مبالغة في تهديد الامّة ودلالة على انّه (ص) مع كمال عظمته ومقام نبوّته لو أشرك حبط عمله فكيف بغيره ممّن لا مقام له (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) تقديم الله للاشارة الى الحصر (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمة العبادة وحصرها فيه: عن القمىّ في تفسير الآية : هذه مخاطبة للنّبىّ (ص) والمعنى لامّته والدّليل على ذلك قوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وقد علم انّ نبيّه (ص) يعبده ويشكره لكن استعبد نبيّه بالدّعاء اليه تأديبا لامّته ، وسئل الباقر (ع) عن هذه الآية فقال : تفسيرها لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علىّ (ع) من بعدك (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، وعن الصّادق (ع) : ان أشركت في الولاية غيره قال


بل الله فاعبد بالطّاعة وكن من الشّاكرين ان عضدّتك بأخيك وابن عمك ، والغرض من نقل امثال هذه الاخبار ان تعلم انّه كلّما ذكر اشراك وتوحيد كان المراد الإشراك بالولاية والتّوحيد لها سواء أريد من ظاهره غيره أو أريد بظاهره أيضا ذلك فقوله تعالى بل الله فاعبد كان معناه بل عليّا (ع) فتولّ ، لانّه مظهر الله ولانّ عبادة الله لا تتيسّر الّا بالولاية وكن من الشّاكرين على نعمة الولاية وكان معنى قوله تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما قدروا عليّا (ع) أو ما قدروا الولاية حقّ قدره ، ولمّا كان المقصود التّعريض بالامّة عطف بيان حالهم على اشراكه كأنّه قال : لكن ما قدروا الله حقّ قدره لانّه كما لا يمكن قدر الذّات الاحديّة لأحد من مخلوقه لا يمكن قدر الولاية حقّ قدرها لأحد سوى صاحب الولاية المطلقة ، وقال القمّى : نزلت في الخوارج ، والسّرّ في انّهم لا يقدرون الله قدره انّهم محدودون بحدود لا فرق في ذلك بين الأنبياء (ص) والأوصياء (ع) الجزئيّين وبين سائر الخلق غاية الأمر انّ الأنبياء (ع) قد خرجوا من بعض الحدود البشريّة والانسانيّة وغيرهم ما خرجوا والذّات الاحديّة وكذلك المشيّة الّتى يعبّر عنها بالولاية الّتى هي علويّة علىّ (ع) مطلقة من الحدود ، والمحدود لا يقدر على ادراك المطلق فلا يقدر قدره لانّ قدر القدر مسبوق بإدراكه ، وامّا النّبىّ الخاتم (ص) والولىّ الخاتم (ع) فيقدران قدر الولاية ولا يقدران قدر الله ، والله تعالى شأنه هو الّذى يقدر قدر الكلّ (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) القبضة المرّة من القبض وفيه تفخيم لعظمته من حيث انّ الأرض بعظمتها كانت قبضة واحدة له والمراد بالأرض كما مرّ مرارا اعمّ من عالم المثال السّفلىّ وعالم المثال العلوىّ وعالم الطّبع بجميع سماواته وأرضيه (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) اطلاق القبضة في الأرض عن اليمين وعن الطّىّ واستعمال الطّىّ في السّماوات وتقييده باليمين للاشارة الى حقارة الأرض بالنّسبة الى السّماوات ورفعة السّماوات وعظمتها وشرافتها بالنّسبة الى الأرض يعنى انّ له تعالى تلك العظمة ومع ذلك يشركون به جمادا منحوتا لهم أو مخلوقا ضعيفا له (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأصنام والكواكب وأنواع المخلوقات من العناصر ومواليدها وعمّا يشركون به في الولاية وعمّا يشركون به في العبادة من الأغراض والاهوية (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) الإتيان بالماضي للاشارة الى تحقّقه ، أو لأنّ القضيّة قد مضت بالنّسبة الى النّبىّ المخاطب له أو صارت القضيّة واقعة حين الخطاب بالنّسبة اليه (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) تقديم من في السّماوات لشرافتهم والّا فمن في الأرض يصعق اوّلا فانّ المراد النّفخة الاولى وبها يصعق من في الأرض اوّلا ثمّ من في السّماء (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) في خبر من شاء الله ان لا يصعق جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وفي خبر : هم الشّهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) نفخة (أُخْرى) وهي نفخة الأحياء (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) قد مضى في سورة النّمل بيان الآمنين يوم القيامة وحين النّفخة الاولى أو الثّانية ، وبيّنا في سورة النّور معاني الصّور ووجوه قراءتها وكيفيّة النّفخ فيها وكيفيّة الاماتة والأحياء بها (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها).

تحقيق تبديل الأرض وإشراقها بنور ربّها

اعلم ، انّ نسبة الامام الى الأرض والارضيّين مثل نسبة الرّوح الى البدن وقواه ، وكما انّ نور الرّوح لا يظهر الّا في القوى المدركة دون سائر آلات البدن لكونها منغمرة في ظلمة المادّة كذلك نور الامام في الدّنيا لا يظهر الّا في الكمّل من شيعتهم ، وامّا غيرهم من العناصر ومواليدها إنسانا كانت أو حيوانا أو نباتا وجمادا فلا يظهر نور الامام فيها لانغمارها في ظلمات المادّة وعوارضها فاذا انقضى الدّنيا وانقضى البرازخ الّتى هي معدودة من الدّنيا بوجه وانتهى الإنسان الى الأعراف أو الى عالم المثال النّورىّ العلوىّ صارت الأرض مبدّلة والمادّة ولوازمها مطروحة وصارت تلك الأرض مستشرقة بنور الامام (ع)


كما انّ هذه الأرض مستشرقة بنور الشّمس ، وإذا تبدّل ارض العالم الصّغير وصارت ارض الملكوت غالبة على ارض الملك استشرقت ارض البدن بنور ملكوت الامام بل ارض العالم الكبير تصير مشرقة بنور ملكوته ويصير الإنسان مستغنيا بنور الامام عن نور الشّمس كما قال المولوىّ قدس‌سره عن الشّيخ المغربىّ :

گفت عبد الله شيخ مغربي

شصت سال از شب نديدم من شبى

من نديدم ظلمتى در شصت سال

نى بروز ونى بشب از اعتدال

ولمّا كان الإنسان أنموذجا من العالم كان إذا تولّد بالولادة الثّانية وظهر عليه ملكوت امامه ظهر عليه كيفيّة اشراق الأرض بنور ربّها ، قال الصّادق (ع) : ربّ الأرض امام الأرض ، قيل : فاذا خرج يكون ماذا؟ ـ قال: إذا يستغنى النّاس عن ضوء الشّمس ونور القمر ويجتزءون بنور الامام ، وعنه (ع) : إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشّمس وذهبت الظّلمة ، وكلّ ذلك في العالم الصّغير اشارة الى التّولّد الثّانى وظهور ملكوت الامام (وَوُضِعَ الْكِتابُ) قد مضى في سورة الكهف بيان وضع الكتاب (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) الّذين هم رسل الله الى الخلق ليسئلوا عن اجابة الخلق لهم وطاعتهم وانقيادهم لله (وَالشُّهَداءِ) اى خلفاء الرّسل (ع) في دعوة الخلق الّذين يشهدون بأفعالهم وأحوالهم وأخلاقهم وأقوالهم على النّاس بعد الأنبياء (ع) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين العباد أو بين النّبيّين والشّهداء وبين الخلق (بِالْحَقِ) بحيث لا يشوب القضاء باطل أصلا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) قد سبق معنى توفية كلّ نفس ما عملت في سورة آل عمران (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) حال يعنى انّ الإتيان بالنّبيّين والشّهداء ليس لجهل الله بهم وبأفعالهم (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية بقطعها تكليفا وتكوينا حتّى يموتوا وهم كافرون (إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) جمع الزّمرة الفوج والجماعة في تفرقة ، ولمّا كان أهل الجحيم بحسب اختلاف أحوالهم متفرّقين بالسّبق وعدمه وشدّة العذاب وخفّته استعمل الزّمر فيهم (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) جعل فتحت هاهنا جوابا لاذا اشارة الى انّ أبواب الجحيم مغلقة قبل الوصول إليها فاذا وصلوا إليها تفتح لهم بخلاف أبواب الجنان فانّها مفتوحة على الخلق قبل إتيانهم إليها ، ووجهه انّ الإنسان بعد خلق آدم من التّراب المجموع من السّماوات والأرضين والسّجّين والعلّيّين في ارض بدنه يؤوى آدمه في الجنّة الدّنيا فيكون آدمه في الجنّة من اوّل خلقته فأبواب الجنّة من اوّل خلقته مفتوحة عليه وهو داخل فيها وليس يخرج منها الّا بعصيانه ، وامّا أبواب الجحيم فهي مغلقة لانّ الجحيم وأبوابها ضدّ لفطرة آدم فهي مغلقة عليه الّا إذا خرج من الجنان وسيق الى النّيران فاذا سيق الى النّيران تفتح أبوابها عليه ولذلك لم ينسب الله تعالى في شيء من الآيات الدّخول الى أبواب الجنان ونسب الدّخول في كثير من الآيات الى أبواب الجحيم (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) كأنّهم قالوا : لكنّا كنّا كافرين وحقّت كلمة العذاب علينا لكفرنا فلم نتنبّه بتنبيههم (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) في جهنّم (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) قد مضى بيان التّقوى ومعانيها ومراتبها في اوّل البقرة وفي أواسطها وفي غيرها (إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) جماعات مختلفين بحسب الحال والمراكب والمراتب والمنازل (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) جواب إذا محذوف اى دخلوها ، أو كان لهم من الكرامة ما لا يمكن وصفها وقد ذكرنا في قرينه وجه إسقاط الواو هناك والإتيان بها هاهنا ، وقيل : الإتيان بالواو هاهنا لكون أبواب الجنان ثمانية


وأبواب الجحيم سبعة ، والعرب يأتى بالواو في الثّمانية وتسمّيها وأو الثّمانية (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) تهنئة لهم مقابل التّهكّم بالكفّار (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) عن الصّادق (ع) عن أبيه (ع) عن جدّه (ع) عن علىّ (ع) قال : انّ للجنّة ثمانية أبواب ، باب يدخل منه النّبيّون (ع) والصّدّيقون ، وباب يدخل منه الشّهداء والصّالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا ، فلا أزال واقفا على الصّراط ادعو وأقول : ربّ سلّم شيعتي ومحبّى وأنصاري وأوليائي ومن تولّاني في دار الدّنيا ، فاذا النّداء من بطنان العرش ، قد أجبت دعوتك وشفّعت في شيعتك ، ويشفع كلّ رجل من شيعتي ومن تولّاني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد ان لا اله الّا الله ولم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت (وَقالُوا) بعد مشاهدة الجنّة ونعيمها وسعتها ومنازلهم فيها وانعام الله عليهم بأنواع نعمه (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) اى ارض الجنّة أو ارض الدّنيا أو ارض الآخرة لانّ الكامل في الجنّة يكون له التّصرّف في جميع أجزاء الدّنيا (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ) الخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ والمعنى يقال حينئذ لكلّ راء : ترى الملائكة ، وان كان الخطاب لمحمّد (ص) فالعدول الى المضارع للاشعار بانّ حاله في الحال انّه يرى الملائكة (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قد مضى في اوّل سورة الفاتحة وجه تقييد التّسبيح بالحمد وانّ تسبيحه تعالى ليس الّا بحمده كما انّ حمده ليس الّا بتسبيحه وقد مضى في سورة البقرة في اوّلها وجه الفرق بين التّسبيح والتّقديس وبيان معنى التّسبيح والتّقديس عند قوله تعالى : و (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الملائكة بان جعل كلّ في مقامه اللّائق به وحكم على كلّ بالعبادة اللّائقة به ، أو بين الخلائق ويكون تأكيدا لسابقه ، واشعارا برؤية محمّد (ص) ذلك (بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أتى بالفعل مبنيّا للمفعول تلويحا الى انّ هذا القول يجرى على كلّ لسان من غير اختصاص بقائل خاصّ (رَبِّ الْعالَمِينَ) فانّه يظهر حينئذ لكلّ أحد انّه تعالى ربّ جميع أجزاء كلّ العوالم ، عن الصّادق (ع) : من قرأ سورة الزّمر استخفاها من لسانه أعطاه الله من شرف الدّنيا والآخرة واعزّه بلا مال ولا عشيرة حتّى يهابه من يراه وحرم جسده على النّار وبنى له في الجنّة الف مدينة في كلّ مدينة الف قصر وفي كلّ قصر ، مائة حوراء ، وله مع هذا عينان تجريان ، وعينان نضّاختان ، وجنّتان مدهامّتان ، وحور مقصورات في الخيام ، وذواتا أفنان ، ومن كلّ فاكهة زوجان.

سورة المؤمن

مكّيّة كلّها ، وقيل : سوى آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما : انّ الّذين يجادلون في آيات الله (الى قوله) لا يعلمون ، وقيل : سوى قوله : وسبّح بحمد ربّك بالعشىّ والأبكار يعنى بذلك صلوة الفجر وصلوة المغرب وقد ثبت انّ فرض الصّلوة نزل بالمدينة ، خمس وثمانون آية.


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم) قد مضى في اوّل البقرة وفي غيرها بيان واف للفواتح (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) جمع تعالى في أوصافه بين الجلال والجمال ، والقهر واللّطف (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لمّا كان الجمع بين الأوصاف الجلاليّة والجماليّة والقهريّة واللّطفية والحقيقيّة والاضافيّة يوهم تعدّدا وكثرة في الموجودات نفى الكثرة واثبت التّوحيد بعدها (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) اشارة الى توحيد المبدء والمنتهى (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) في اخفائها وابطالها والاستهزاء بها (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية التّكوينيّة والولاية التّكليفيّة فانّ الكفر بالله وبملائكته وكتبه ورسله ونعمه واليوم الآخر لا يكون الّا بعد الكفر بالولايتين فانّ الإنسان ما لم يستر وجهة القلب الّتى هي الولاية التّكوينيّة وليست الولاية التّكليفيّة الّا معينة لكشف الحجاب عن تلك الوجهة لا يكفر بالله ولا بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ونعمه (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) بالتّجارات الرّابحة والاعتبارات الّتى هي راجعة الى الدّنيا لانّهم مأخوذون عن قريب كما أخذ الّذين من قبلهم (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ) اى الفرق المختلفة والأمم المتفرّقة كذّبوا كلّهم رسلهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد قوم نوح (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من تلك الأمم المذكورة أو كلّ أمّة من الأمم الماضية الّذين أرسل إليهم رسول (بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) فيمنعوه من رسالته أو يعذّبوه أو يقتلوه كما همّ قومك بك ليأخذوك فيحبسوك أو يقتلوك (وَجادَلُوا) اى رسولهم (بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا) اى يزيلوا (بِهِ الْحَقَ) كما يجادل قومك لان يزلقوك ويزيلوا الحقّ (فَأَخَذْتُهُمْ) بسبب الهمّ والجدال فلا تحزن فانّا نأخذ قومك ونعاقبهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) يعنى انّكم ان لم تشاهدوا عقوبتي لهم فقد سمعتم اخبارها وتشاهدون في مروركم بديارهم آثارها فلم لا تعتبرون بهم؟! وممّ تغتمّ يا محمّد (ص) بهمّة قومك وجدالهم؟ (وَكَذلِكَ) اى مثل ذلك العقاب المسموع للكلّ (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) بالعذاب (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ولا سيّما الكافرين الّذين كفروا برسالتك والمنظور الكافرون بولاية علىّ (ع) (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) عن الباقر (ع) يعنى بنى أميّة (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) جواب لسؤال مقدّر ومقابل لقوله : ما يجادل في آيات الله كأنّه قيل : هذا حال الكافرين والمجادلين في آيات الله فما حال المؤمنين؟ ـ فقال : حالهم انّ الّذين يحملون العرش (وَمَنْ حَوْلَهُ) عطف على الّذين يحملون العرش أو عطف على العرش (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قد مضى في اوّل الفاتحة وفي غيرها وجه تقييد التّسبيح بالحمد (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ذكرهم بوصف الايمان تفخيما لشأن الايمان وتعظيما لأهله وبشارة لهم (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) واستغفارهم مستجاب لخلوّهم عن الهوى وأغراض النّفس ، والمراد بالّذين آمنوا الّذين يستغفر لهم الملائكة من آمن بالايمان الخاصّ والبيعة الخاصّة الولويّة دون من أسلم بالبيعة العامّة النّبويّة فقط ، فانّهم وان كانوا مغفورين إذا لم يتنبّهوا بالبيعة الاخرى ولم يتذكّروا بالولاية ، وانّ الايمان ليس الّا


بالبيعة الخاصّة الولويّة وكانوا في متابعتهم للرّسل (ص) ثابتين غير متلوّنين لكن ما به استغفار الملائكة ليس الّا انفحّة الولاية كما ورد في أخبارنا تفسيرهم بشيعتهم ، فعن الرّضا (ع) للّذين آمنوا بولايتنا ، وعن الصّادق (ع) انّ لله ملائكة يسقطون الذّنوب عن ظهور شيعتنا كما تسقط الرّيح الورق في أوان سقوطه وذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) (الآية) قال استغفارهم والله لكم دون هذا الخلق (رَبَّنا) استيناف جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول ، أو حال بتقدير القول (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) يعنى بالتّوبة الخاصّة الولويّة الجارية على يد ولىّ الأمر في ضمن البيعة الخاصّة (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) في مقام عملوا الصّالحات المذكور في سائر الآيات مع الايمان (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) هي جنّات الاقامة الّتى لا يخرج منها الى غيرها لكونها آخرة الجنّات (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) عطف على مفعول وعدتهم أو على مفعول أدخلهم والمراد بالصّلاح استعداد الصّلاح فانّه نحو صلاح لا الصّلاح بالفعل الحاصل بالولاية والبيعة الخاصّة فانّه لو أريد ذلك الصّلاح لم يكن دخولهم بتبعيّة الغير ولم يثبت بذلك للمتبوع شرافة فانّ شرافة المؤمن بان يكون يدخل الجنّة بواسطته آباءه واتباعه الّذين لم يستحقّوا دخولها بأنفسهم ، فانّ من لم يبطل استعداده من آباء المؤمنين وأولادهم وأزواجهم يدخل الجنّة ان شاء الله بواسطتهم ، ويجوز ان يراد بالصّلاح الصّلاح بالفعل فيكون للآباء والاتباع استحقاق الدّخول بسبب الايمان وبسبب نسبتهم الى المؤمن فانّهم ينتفعون بتلك النّسبة أيضا (وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) تقديم الأزواج لمراعاة التّرتيب في الوجود لا في الشّرف ولا في النّسبة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) اى الغالب الّذى لا يمنع من مراده (الْحَكِيمُ) الّذى يعلم دقائق الاستعداد والاستحقاق وتفعل على حسبها بحيث لا يمكن ابطال فعلك والسّؤال عنك فيه (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) اى الشّرور الّتى تصيب النّاس يوم القيامة ويوم دخول أهل الجنان في الجنان وأهل النّيران في النّيران لانّ سيّئات الدّنيا ان كانت شرورا بالنّسبة الى المراتب الحيوانيّة ومداركها تكون رحمات من الله بالنّسبة الى المراتب الانسانيّة ومداركها بخلاف سيّئات الآخرة فانّها شرور بالنّسبة الى المقامات الاخرويّة ، وليس للإنسان مرتبة حينئذ سوى المراتب الاخرويّة حتّى تكون هي خيرات بالنّسبة إليها (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) يوم دخول أهل الجنان في الجنان (فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لانّ الرّحم الدّنيوىّ فوز مشوب بالآلام بخلاف الرّحم الاخروىّ فانّه فوز غير مشوب فكأنّ الرّحم الدّنيوىّ ليس برحم ، ولكون المراد الرّحم الاخروىّ حصر الفوز العظيم فيه ، وفسّر القمّىّ الآية هكذا : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) يعنى رسول الله (ص) والأوصياء (ع) من بعده يحملون علم الله ومن حوله يعنى الملائكة الّذين آمنوا يعنى شيعة آل محمّد (ص) الّذين تابوا من ولاية بنى أميّة واتّبعوا سبيلك اى ولاية ولىّ الله ومن صلح يعنى من تولّى عليّا وذلك صلاحهم فقد رحمته يعنى يوم القيامة وذلك هو الفوز العظيم لمن نجّاه الله من هؤلاء (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب سؤال مقدّر كأنّه سئل : هذا حال المؤمنين فما حال هؤلاء الكافرين الّذين يجادلون بالباطل ويهمّون برسولهم؟ أو ما حال هؤلاء الّذين كفروا بولاية علىّ (ع)؟ وهذا هو المراد ولتأكيد عقوبتهم والتّغليظ عليهم أتى بانّ هاهنا (يُنادَوْنَ) يعنى يناديهم الملائكة تهكّما بهم (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الامّارة أو ذواتكم ، أو المراد بأنفسهم ائمّتهم الحقّة فانّهم أنفسهم حقيقة لا نفسيّة لهم الّا بأئمّتهم (ع) ويؤيّده قوله تعالى (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) بالله أو بالرّسول (ص)


أو بولاية علىّ (ع) وهو المراد (فَتَكْفُرُونَ) فانّه بظاهره متعلّق بالمقت الثّانى ومقتهم في الدّنيا ليس الّا مقت من كانوا يدعون اليه يعنى مقت الله في الدّنيا لكم أكبر من مقتكم في الدّنيا إمامكم ، أو مقت الله في القيامة لكم أكبر من مقتكم في الدّنيا إمامكم ، ويجوز ان يكون المراد انّ مقت الله في القيامة أكبر من مقتكم أنفسكم الامّارة أو ذواتكم في القيامة ، ويكون إذ تدعون متعلّقا بمحذوف أو تعليلا لمقت الله ، وعن القمىّ الّذين كفروا بنو أميّة والى الايمان يعنى الى ولاية علىّ (ع) (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثمّ يميتكم بيان الإماتتين والاحيائين ، والغرض من مثل هذا النّداء والتّضرّع والمناجاة استرحامه تعالى ولذلك قالوا بعده (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) سؤال للخروج بصورة الاستفهام ويأتون بالخروج منكّرا اشعارا بفرط قنوطهم كأنّهم يسألون شيئا يسيرا من الخروج (ذلِكُمْ) العذاب وعدم الاجابة الى الخروج (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) ضمير بانّه للشّأن وكان مع اسمه مقدّر بعده حتّى يصحّ الإتيان بإذا يعنى ذلك بانّه كنتم إذا دعا الله وحده والمقصود من دعوة الله وحده دعوة ولىّ ـ الأمر لانّه بدعوته يدعى الله وحده يعنى يحصل التّوحيد للسّالك الى الله بسبب الولاية والسّلوك على طريقها ، وبالإقبال على ولىّ الأمر يقبل على الله ، وبمعرفته يعرف الله بل معرفته بالنّورانيّة هي معرفة الله فالمعنى إذا دعا مظهر الله الّذى هو خليفته كفرتم به (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) تذعنوا وتسلّموا ، عن الصّادق أنّه قال : إذا ذكر الله وحده بولاية من امر الله بولايته كفرتم ، وان يشرك به من ليست له ولاية تؤمنوا بانّ له ولاية ، وعنه (ع) أيضا : إذا دعا الله وحده وأهل ـ الولاية كفرتم (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) تعليل للمعنى المستفاد من المقام كأنّه قال : فذوقوا فانّ الحكم لله (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) لا حكم لغيره (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) ابتداء كلام منقطع عن سابقه ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان الحكم له وحده فما له لا يحكم على العباد بالايمان؟! واراءة الآيات امّا بإراءة معجزات الأنبياء (ع) أو بإراءة آيات صدقهم ، أو بإراءة آيات قدرته وحكمته وعلمه ، أو بإراءة آيات تدبيره على وفق حكمته ، أو بإراءة الآيات الانفسيّة الّتى لا يخلو أحد منها (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) اى رزقا عظيما هو الرّزق الانسانىّ من العلم والحكمة (هُوَ) لكن (ما يَتَذَكَّرُ) بالآيات ولا بنزول رزق الإنسان من السّماء (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) الى الله بالتّوبة على يد وليّ ـ أمره (فَادْعُوا اللهَ) يعنى إذا كان الأمر كذلك فادعوا الله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) دعاءكم لله أو إخلاصكم له الدّين (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) خبر بعد خبر لقوله هو في هو الّذى يريكم ، أو صفة لله مقطوعة عن الوصفيّة بناء على اكتسابه التّعريف من المضاف اليه على قراءة الرّفع ، أو باقية على الوصفيّة على قراءة النّصب ، أو حال عنه بناء على عدم اكتسابه التّعريف عن المضاف اليه ، والرّفع بمعنى المرفوع بمعنى انّ درجات وجوده مرفوعة بحيث لا يناله ادراك مدرك سواه ، أو بمعنى الرّافع بمعنى انّه رافع درجات عباده ، أو درجات خلقه ، أو درجات فعله وصفاته (ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ) قد فسّر الرّوح هاهنا بالقرآن وبالوحي وبالنّبوّة وبجبرئيل وورد في اخبار عديدة انّ الرّوح ملك أعظم من جبرائيل ولم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع محمّد (ص) وهو كان مع الائمّة (ع) ، وفسّر الرّوح في الاخبار بمعان أخر مثل روح الايمان وروح القوّة وروح الشّهوة وغير ذلك ، ويجوز ان يفسّر بالولاية الّتى هي مصدر النّبوّة والرّسالة وروحهما فانّها حقيقة المشيّة الّتى هي متّحدة مع ربّ النّوع الانسانىّ الّذى هو ربّ جميع الأرباب وعنه يعبّر بروح القدس الّذى لم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع محمّد (ص) (مِنْ أَمْرِهِ)


اى من عالم امره ، أو من امره الّذى هو كلمة كن الوجوديّة ، وهي المشيّة الّتى هي فعله وكلمته وأمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) اى يوم تلاقى أهل الأرض وأهل السّماء ، أو تلاقى المحسن والمسيء ، أو تلاقى ـ الاحبّاء ، أو تلاقى المظلوم والظّالم ، أو تلاقى المسرع والبطيء وتلاحق الكلّ ، أو تلاقى الاتباع والمتبوعين وهو يوم القيامة (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) عند الله من قبورهم أو من استارهم الّتى هي عبارة عن حدودهم وتعيّناتهم لانّهم يخرجون يومئذ من جميع التّعيّنات والحدود ولذلك قال : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم ومراتب وجودهم ودقائقها يعنى يظهر على الخلق انّهم كانوا على الدّوام بارزين عند الله وكانوا لا يخفى على الله منهم شيء (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) بتقدير القول وحكاية لما يقوله تعالى في ذلك اليوم لهم ، أو ابتداء كلام منه واخبار بانّه لم يكن في ذلك اليوم أحد مالكا لشيء (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) جواب منه لسؤاله (الْيَوْمَ تُجْزى) تكرار اليوم لتمكين ذلك اليوم في القلوب تهديدا منه وترغيبا اليه (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : النّفوس البشريّة غير متناهية فكيف يمكن محاسبة الكلّ في يوم واحد؟ ـ فقال : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب الكلّ في وقت واحد لانّه لا يشغله شأن عن شأن ولا ـ حساب عن حساب ، عن أمير المؤمنين (ع): الميم ملك الله يوم لا مالك غيره ويقول الله لمن الملك اليوم؟ ـ ثمّ تنطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، فيقول الله جلّ جلاله : اليوم تجزى (الآية) وعنه (ع): انّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السّنون والسّاعات ، فلا شيء الّا الواحد القهّار الّذى اليه مصير جميع الأمور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) الآزفة اسم يوم القيامة لقربها فيكون اضافة اليوم اليه مثل اضافة العامّ الى الخاصّ (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) من شدّة الخوف والوحشة فانّه وقت الخوف والاضطراب يتحرّك القلوب من مواضعها كأنّها تبلغ الحناجر (كاظِمِينَ) حال من القلوب أو المستتر في الظّرف ، ونسبة الكظم الى القلوب امّا مجاز عقلىّ أو لتشبيه ـ القلوب بالعقلاء (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) قريب ينفعهم ويدفع عنهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) توصيف الشّفيع للاشعار بانّ الشّفيع إذا لم يكن مطاعا لا ينفع شفاعته فكأنّه لم يكن شفيعا ، وليس المقصود انّه قد يكون لهم شفيع غير ـ مطاع (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) الخائنة مصدر مثل الكاذبة أو وصف والمعنى يعلم العين الخائنة من الأعين ، وخيانة العين عبارة عن النّظر الى ما لا يحلّ لها النّظر اليه ، أو كناية عن نظرها الى شيء بحيث لا يظهر نظرها على أحد أو كناية عن الاشارة بالعين ، وقيل : كناية عن قول الرّجل : ما رأيت وقد رأى ، أو رأيت وما رأى ، أو عبارة عن النّظرة الثّانية الّتى هي عليك كما في الخبر : النّظرة الاولى لك والثّانية عليك (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من العزمات والنّيّات والخطرات الّتى لم تظهرها لأحد ، أو من القوى والاستعدادات الّتى لم يطّلع صاحبوا القلوب عليها فكيف بغيرهم (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) عطف بمنزلة النّتيجة كأنّه قال : إذا كان الله ذا العرش يعنى كان مالك جملة الخلق وكان واحدا قهّارا ليس يعجز عن شيء ولا يخفى منهم عليه شيء ولم يكن منه ظلم على أحد وكان عالما بجميع الخلائق بتمام اوصافهم وأحوالهم وقواهم واستعداداتهم فهو يقضى بالحقّ بينهم لا غيره وعلى التّفاسير السّابقة للآيات السّابقة فالمعنى انّ عليّا (ع) الّذى هو مظهر الهة الله يقضى بالحقّ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) اى يدعونهم (مِنْ دُونِهِ) وهم


بنو أميّة ومن وافقهم ، ويجوز ان يكون عائد الموصول ضمير الفاعل (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) فضلا عن القضاء بالحقّ (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في موضع تعليل لحصر القضاء بالحقّ فيه (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) فيشاهدوا آثار الماضين وآثار قضائه تعالى بالحقّ (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كما أتيتهم بها (فَكَفَرُوا) كما كفر هؤلاء (فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) فليحذر هؤلاء ممّا نزل بهم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) اشارة الى حال بعض الّذين من قبلهم (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) اى استبقوا بناتهم ، أو امنعوا نساءهم من مضاجعة ـ أزواجهم ، أو تجسّسوا حياء نساءهم لتجسّس العيب أو الحمل (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) وضياع (وَقالَ فِرْعَوْنُ) مثل من يخاف من خصمه ومعذلك يهدّده (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) فانّه لم يكن له مانع من قتله لكنّه كان يخاف منه ومن ثعبانه ويخوفّه بالقتل ، وقيل : كانوا يكفّونه عن قتله ويقولون : انّه ليس الّذى تخافه بل هو ساحر ولو قتلته ظنّ انّك عجزت عن معارضته بالحجّة (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) بان يفرّق النّاس عن الاجتماع أو خرج عن الطّاعة وادّعى السّلطنة (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) من أقاربه ، في خبر : انّه كان ابن خاله ، وخبر آخر : كان ابن عمّه (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) قال القمىّ كان يكتم ايمانه ستّمائة سنة (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) عظيما أو ذكرا من الاناسىّ أو رجلا حاله (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) صفة لرجلا كما ذكر أو بتقدير اللّام علّة لتقتلون (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) على صدق دعواه (مِنْ رَبِّكُمْ) فاحذروا من مخالفته ومؤاخذة ربّكم (وَإِنْ يَكُ كاذِباً) لا يضرّكم كذبه شيئا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ان لم يصبكم كلّه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) متجاوز عن حدّه في امره (كَذَّابٌ) ظاهره انّه تعليل لقوله ان يك كاذبا يعنى انّه ان يك كاذبا لم ينل ما أراد منكم من كذبه لانّ الله لا يهدى الى مراده من هو مسرف كذّاب ولكنّه في الحقيقة تعريض بفرعون وقومه بحيث لا يصير سببا لشغبهم لانّه اثبت صدق موسى (ع) بقوله : وقد جاءكم بالبيّنات (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) غالبين (فِي الْأَرْضِ) ارض مصر وشكر هذه النّعمة ان تجيبوا رسول الله الّذى آتاكم هذا الملك لا انكار رسوله (فَمَنْ يَنْصُرُنا) ادخل نفسه فيهم ليظنّوا انّه منهم (مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) فلا تتعرّضوا لبأس الله بإنكار رسوله وإيذائه وقد أجاد في الجدال حيث أنكر قتله عليهم وأسند إنكاره بما لا يمكن ردّه والشّغب معه فانّه قال اوّلا : انّه يقول : ربّى الله فان لم تعترفوا ولم تذعنوا بالله فليكن ذلك محتملا لكم ودفع الضّرر المحتمل واجب عقلا فترك التّعرّض واجب عقلا ، وقال ثانيا : انّه جاء بالبيّنات على صدق دعواه فكيف تجترؤن عليه وتقتلونه؟! وثالثا انّه غير خارج من الكذب أو الصّدق وكذبه لا يضرّكم وصدقه يضرّكم لا محالة ، والضّرر


المحتمل واجب التّحرّز ، وقال رابعا : انّه ان كان كاذبا لا يهتدى الى مراده وان كنتم أنتم كاذبين لم تهتدوا الى قتله فلا تتعرّضوا لقتله لكنّه لمّا اثبت صدقه كان كأنّه قال : أنتم كاذبون ولا تهتدون الى قتله (قالَ فِرْعَوْنُ) تليينا لقومه (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) وأعتقد (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) الّذين تحزّبوا على رسلهم ولم يقل مثل ايّام الأحزاب لارادة الجنس من اليوم وتفسيره بايّام نوح (ع) وعاد وثمود (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) مثل سنّة الله وعادته فيهم (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم إبراهيم (ع) ولوط وشعيب (ع) (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا يعاقبكم ان كنتم صالحين (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) اى شدائده ، ويوم التّناد يوم القيامة لتنادى النّاس فيه واستغاثة كلّ بالآخر لغاية وحشتهم مثل الغرقى يتشبّثون بكلّ حشيش ، أو لتنادى أهل الجنّة وأهل النّار بقولهم : أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله وقولهم : انّ الله حرّمهما على الكافرين ، فعن الصّادق (ع) : يوم التّناد يوم ينادى أهل النّار أهل الجنّة : أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله ، وقيل : لانّ بعض الظّالمين ينادى بعضا بالويل والثّبور ، وقيل : لانّه ينادى فيه كلّ أناس بإمامهم (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) حال مؤكّدة اى تدبرون عن الموقف أو عن الله ليأسكم من رحمته ، أو عن النّار فارّين منها (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ) من بأس الله أو من قبل الله (مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) عطف فيه معنى التّعليل لسابقه ، أو معنى الاستدراك كأنّه قال : لكن لا ينفعكم نصحى لانّ الله اضلّكم ومن يضلل الله فما له من هاد (وَلَقَدْ جاءَكُمْ) عطف أو حال فيه معنى التّعليل (يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ) أقررتم به لارتضائكم بالغائب عن انظاركم دون الحاضر عندكم وجعلتموه خاتم الرّسالة و (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أو المعنى حتّى إذا هلك بقيتم على كفركم وقلتم : لن يبعث الله من بعده رسولا (كَذلِكَ) الضّلال الّذى كنتم أنتم واسلافكم عليه (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) متجاوز عن حدّه (مُرْتابٌ) اى شأنه الارتياب وليس له حالة يقين بما ينبغي ان يتيقّن (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) بالابطال والإخفاء والازدراء والتّنقيص (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بغير حجّة بل محض التّقليد والشّكّ وهوى النّفس أو بغير ذي سلطنة أتاهم واجبرهم على ذلك (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) اعراب الآية انّ من من قوله من هو مسرف موصولة مفعول ليضلّ والّذين يجادلون بدل منه أو صفة له ، أو خبر لمحذوف أو مفعول لفعل محذوف ، أو مبتدء خبره قوله تعالى : بغير سلطان ، أو كبر مقتا بتقدير جدال الّذين يجادلون كبر مقتا ، أو قوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) بتقدير العائد أو من هو مسرف موصولة مبتدء والّذين يجادلون خبره ، أو بغير سلطان أو كبر مقتا ، أو كذلك يطبع الله ، أو من استفهاميّة ، والّذين يجادلون بتقدير مبتدء ، أو بتقدير خبر جواب للاستفهام من الله ، أو الّذين يجادلون مبتدء ، وبغير سلطان خبره ، أو كبر مقتا ، أو كذلك يطبع الله وكذلك يطبع الله استيناف كلام أو خبر كما ذكر ، أو كذلك فاعل كبر بجعل الكاف اسما ويطبع الله استيناف كلام ، أو خبر للّذين يجادلون أو لمن (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) قرئ بإضافة القلب وحينئذ يكون اشارة الى تفرّق قلب


المتكبّر وتوزيعه على مهامّ عديدة كرجل فيه شركاء متشاكسون ، وقرئ بتنوين القلب ، وحينئذ يكون نسبة التّكبّر الى القلب مجازا ، وقد مضى في اوّل البقرة بيان ختم القلوب وطبعها (وَقالَ فِرْعَوْنُ) تمويها على العوامّ (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) قصرا مرتفعا ظاهرا على الانظار من صرح الشّيء إذا ظهر (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) كلّما يتوصّل به الى شيء آخر يسمّى سببا ، والاضافة الى السّماوات بيانيّة ، لانّ السّماوات أسباب إيجاد المواليد وابقائها ، أو بتقدير اللّام والمراد بها الطّرق الّتى بها يوصل الى السّماوات (فَأَطَّلِعَ) قرئ بالرّفع عطفا على أبلغ ، وبالنّصب جوابا للتّرجّى (إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) كان تأمّله في قتل موسى (ع) وتصريحه بظنّه كذب موسى لرشدته (اى ولد الحلال) كما في الخبر (وَكَذلِكَ) التّزيين الّذى زيّن له في بناء الصّرح والصّعود الى السّماء (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) في سائر اعماله (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) قرئ مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) في نقصان أو خسار (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) تمتّع يسير بحسب المدارك النّازلة الحيوانيّة فانّه إذا نسب الى المدارك الانسانيّة لم يكن يعدّ تمتّعا على انّ تمتّعها مشوب بالآلام والأسقام والبلايا والمخاوف ومع ذلك لم يكن مدّة بقائه الّا قليلا من الايّام وإذا لوحظ مع الايّام الآخرة الغير المتناهية لم يكن يعدّ في شيء (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) فلا أمد لمداه ولا نقص ولا شوب لتمتّعه (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) وهذا جواب لسؤال مقدّر من حز قيل أو من الله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) بسط في جانب الثّواب واقتصر في جانب العقاب على ذكر الجزاء المقيّد بكونه مثل السّيّئة ترجيحا لجانب الوعد (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) لم يقل ما لكم نصفا من نفسه في مقام النّصح (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي) بدل من الاوّل (لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ) اى بربوبيّته واستحقاق آلهته (عِلْمٌ) تعريض بهم وانّ عبادة ما ليس على جواز عبادته برهان ليست الّا سفاهة وأنتم تعبدون ما ليس لكم بالهته علم (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ) المنيع الّذى لا يمنعه عن مراده مانع وعزّته دليل آلهته (الْغَفَّارِ) الّذى ينبغي ان يطلب بعبادته غفرانه (لا جَرَمَ) يقال : لا جرم ، ولا ذا جرم ، ولا ان ذا جرم ، بزيادة ذا ، أو ان المفتوحة مع ذا ، ولا عن ذا جرم ، كلّ ذلك مثل ضرب ولا جرم ككرم ولا جر بإسقاط الميم ولا جرم بضمّ الجيم وسكون الرّاء كأنّه كان فعلا ماضيا ثمّ كثر استعماله فدخل عليه ذا ، أو ان وذا ، أو عن وذا ، ولم يغيّر عن صورته وهو من مادّة الجرم بمعنى الذّنب بقرينة استعماله لا جرم بضمّ الجيم وسكون الرّاء في مقام الباقي ، أو من الجرم بمعنى القطع بقرينة ـ استعماله في مقام لا بدّ ولا محالة ، وفي مقام حقّا ، وهذا كان أصله ثمّ كثر استعماله في مقام تأكيد الكلام حتّى تحوّل الى معنى القسم فانّه يقال : لا جرم لآتينّك بإتيان الجواب له مثل جواب القسم وقد سبق في سورة النّحل بيان اجمالىّ للاجرم (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من الأصنام أو فرعون (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) اى دعوة مقبولة حقّة (فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا) اى مردّى ومردّكم جميعا (إِلَى اللهِ) فينبغي الاعراض عن الهتكم والإقبال الى الله الّذى ينتهى أمرنا اليه والى محاكمته (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين عن حدّهم الانسانىّ بالادبار عن الله والإقبال على ما ليس له


دعوة في الدّارين (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ) عند معاينة الموت وتهيّؤ أسباب العذاب لكم (ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) لانّه العزيز العليم القدير ذو العناية بأمر العباد ولا أخاف ما تخوّفوننى به لعدم قدرته على شيء (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيحفظ من توسّل به (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) قد ورد في الاخبار انّهم قطعوه اربا اربا ولكن وقاه الله ان يفتنوه في دينه ، وعن الصّادق (ع) في حديث : كان حزقيل يدعوهم الى توحيد الله ونبوّة موسى (ع) وتفضيل محمّد (ص) على جميع رسل الله وخلقه وتفضيل علىّ بن ـ ابى طالب (ع) والخيار من الائمّة على سائر أوصياء النّبيّين والى البراءة من ربوبيّة فرعون ، فوشى به الواشون الى فرعون وقالوا : انّ حزقيل يدعوهم الى مخالفتك ويعين أعداءك الى مضادّتك فقال لهم فرعون : ابن عمّى وخليفتي على ملكي وولىّ عهدي ان فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره بنعمتي ، وان كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم اشدّ العذاب ، لإيثاركم الدّخول في مساءته فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه ، وقالوا : أأنت تجحد ربوبيّة فرعون الملك وتكفر بنعمائه؟ ـ فقال حزقيل : ايّها الملك هل جرّبت علىّ كذبا قطّ؟ ـ قال : لا ، قال فسلهم من ربّهم؟ ـ قالوا : فرعون هذا ، قال : ومن خالقكم؟ ـ قالوا : فرعون هذا ، قال : ومن رازقكم الكافل لمعايشكم والدّافع عنكم مكارهكم؟ ـ قالوا : فرعون هذا ، قال حزقيل : ايّها الملك فأشهدك وكلّ من حضرك انّ ربّهم هو ربّى ، وخالقهم هو خالقي ، ورازقهم هو رازقي ، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي ، لا ربّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم ، وأشهدك ومن حضرك انّ كلّ ربّ ورازق وخالق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فانا بريء منه ومن ربوبيّته وكافر بالهيّته ، يقول حزقيل : هذا وهو يعنى انّ ربّهم وهو الله ربّى ، ولم يقل : انّ الّذى قالوا : انّه ربّهم هو ربّى ، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّم انّه يقول : فرعون ربّى وخالقي ورازقي ، فقال لهم فرعون : يا رجال السّوء ويا طلّاب الفساد في ملكي ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّى وهو عضدي أنتم المستحقّون لعذابي لارادتكم فساد أمري وإهلاك ابن عمّى والفتّ في عضدي ، ثمّ أمر بأوتاد فجعل في ساق كلّ واحد منهم وتدا وفي صدره وتدا ، وامر أصحاب أمشاط ـ الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم فذلك ما قال الله تعالى : فوقيه الله سيّئات ما مكروا به لمّا وشوا به الى فرعون ليهلكوه ، وحاق بآل فرعون سوء العذاب وهم الّذين وشوا بحزقيل اليه لما أوتد فيهم الأوتاد ومشط عن أبدانهم لحومها بالامشاط (النَّارُ) ان كان المراد بسوء العذاب عذاب البرزخ والآخرة جاز ان يكون النّار بدلا منه بدل ـ الاشتمال ، وجاز ان يكون مبتدء وقوله تعالى (يُعْرَضُونَ) خبره والجملة تفسيرا لسوء العذاب ، وان كان المراد به عذاب فرعون في الدّنيا فالنّار مبتدء ويعرضون خبره والجملة مستأنفة منقطعة أو حاليّة حالا مقدّرة اى حالكونهم بعد سوء العذاب النّار يعرضون (عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) في اخبار كثيرة انّ هذا في نار الدّنيا يعنى نار البرزخ لانّ في نار القيامة لا يكون غدوّ وعشىّ وامّا نار الخلد فهو قوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) بتقدير القول ، وقرئ ادخلوا من الثّلاثىّ المجرّد (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) الاتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) المتبوعين (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) قد مضى الآية في سورة إبراهيم (ع) وقد مضى مكرّرا انّ أمثال هذه تعريض بمنافقى الامّة (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا


يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات أو براهين صدقهم أو احكام الرّسالة (قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا) تهكّموا بهم وسخروا منهم ولذلك قالوا (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) اى في ضياع ، ويحتمل ان يكون هذا من الله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) المراد بالحيوة الدّنيا ان كان الحيوة المصاحبة للحيوة الحيوانيّة الطّبيعيّة فالمراد بالنّصرة نصرتهم في دينهم لا في دنياهم لانّ أكثر الأنبياء لم ينصروا بحسب دنياهم ، وان كان المراد الحيوة البرزخيّة فلا إشكال ، والمراد بالاشهاد الأنبياء (ع) وأوصيائهم (ع) (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) يعنى جهنّم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) اى أعطيناه وصف الهداية للخلق بان جعلناه رسولا إليهم ، أو كونه مهديّا بان هديناه الى ما ينبغي ان يهتدى اليه ، أو آتيناه ما يهتدى به من الآيات أو من الأحكام أو من التّوراة (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة وأحكامها ، أو كتاب التّوراة (هُدىً وَذِكْرى) اى ذا هدى ، أو هاديا ، أو ما يهتدى به (لِأُولِي الْأَلْبابِ) قد تكرّر انّ الإنسان بدون الاتّصال بالولاية كالجوز الخالي من اللّبّ ويكون اعماله خالية من اللّبّ وان كانت مطابقة لما ورد في الشّريعة كما أفتى به الفقهاء موافقا لما ورد في الاخبار وكان هو واعماله لائقة للنّار ، وإذا اتّصل بالولاية صار ذا لبّ وصار اعماله ذوات الباب (فَاصْبِرْ) لمّا كان ذكر الأمم الماضية ورسلهم (ع) وهلاكهم بسبب تكذيب الرّسل (ع) وذكر موسى (ع) وفرعون كلّها لتسلية الرّسول (ص) في تكذيب قومه وتركهم للولاية قال بعد ما ذكر حكايتهم بطريق التّفريع فاصبر (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك (حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) كرّر الآية لتعليل امره بالصّبر (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) اى الانصراف عن الحقّ والاستكبار على أهل الحقّ (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) اى بالغي ذلك الكبر ومقتضاه (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) منه أو منهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك فيعيذك ولما يقولون فيك ويدبّرونه فلا يدعهم ينفذ مكرهم فيك (الْبَصِيرُ) بك وبهم ، وبما تفعل ويفعلون ، وبكبرك ان استكبرت وبكبرهم (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فلا ينبغي للنّاس الضّعيف الخلق الكبر في مقابل ما هو أكبر منه وانّما قال لخلق السّماوات ولم يقل السّماوات والأرض للاشعار بانّ الصّورة الخلقيّة منهما أكبر من الصّورة الخلقيّة الانسانيّة ، وامّا النّشأة الرّوحيّة الانسانيّة فهو أكبر بمراتب من صورة السّماوات والأرض ومن نشأتهما الرّوحيّة الامريّة ، والمجادل تنزّل من مقام روحيّته الامريّة الى الصّورة الخلقيّة كأنّه ليس له نشأة روحيّة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم مقام علم حتّى يعلموا ضعفهم ، أو لا يعلمون ضعفهم وحقارتهم بالنّسبة الى السّماوات (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) رفع لتوهّم انّ عدم العلم يكون عذرا لهم في كبرهم وجدالهم ولذلك قدّم الأعمى والمراد بالعمى عمى القلب الّذى يكون من أوصاف القوّة العلّامة بمعنى الجهل كما انّ المراد بالبصر بصيرة القلب الّتى هي عبارة عن العلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لم يقدّم المسيء هاهنا لحصول الغرض من تقديم الأعمى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) والمراد بالايمان الانقياد والتّسليم الحاصل بالبيعة العامّة ، أو الخاصّة ، أو نفس البيعة العامّة أو الخاصّة ، والمراد بالعمل الصّالح البيعة الخاصّة ، أو العمل بالشّروط الّتى تؤخذ في البيعتين ، وايّا ما كان فالمقصود بيان عدم التّسوية بين من كمّل قوّته العمّالة ومن لم يكمّلها ، وزيادة


لا في المسيء لاشارة خفيّة الى انّ المسيء منفىّ معدوم بخلاف المحسن كأنّه لا يجوز ان يدخل عليه النّفى والّا فسوق العبارة ان يدخل لا الّتى هي لتأكيد النّفى على الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فلم لا يظهر الفرق بين المحسن والمسيء؟ ـ فقال : يظهر الفرق عند قيام السّاعة (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) قد مضى في اوّل البقرة وجه عدم الرّيب في الكتاب مع كثرة المرتابين فيه فقس عليه وجه عدم الرّيب في القيامة والسّاعة وظهور القائم (ع) والرّجعة مع كثرة المرتابين فيها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يذعنون بها أو لا يؤمنون بالله حتّى يعلموا مجيء السّاعة ، أو لا يؤمنون بك حتّى يصدّقوك في مجيء السّاعة (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قد مضى في سورة البقرة وفي سورة النّمل بيان تعليق الاستجابة على الدّعاء وكيفيّة الدّعاء وكيفيّة اجابة الله للدّاعين ، من أراد فليرجع اليه ، وهل الظّفر بالمراد بعد الدّعوات والتّصدّقات والبركة في الأموال والأولاد عقيب الصلات من الاتّفاقيّات؟ أو هي من الأسباب للوصول الى المراد؟ ـ قال بعض الفلاسفة : انّ ذلك من الاتّفاقيّات ، وبرهان إنكارهم لسببيّة ذلك انّ العالي لا التفات له الى الدّانى وانّه لا تأثير للدّانى في العالي فلا يكون الظّفر بالمقصود عقيب ذلك الّا محض الاتّفاق ، وصريح الآيات والاخبار يثبت التّسبيب بين الدّعوات والإجابات وبين الصّدقات ودفع البلايا وجذب البركات ، وبين الصّلات وزيادة الأموال والاعمار والأولاد.

تحقيق البداء ونسبة التّردّد والمحو والإثبات الى الله تعالى

وتحقيق ذلك ، انّ العوالم بعد مقام الغيب المعبّر عنه بالعمى الّذى لا خبر عنه ولا اسم له ولا رسم ، وبعد مقام الواحديّة المعبّر عنه بمقام الأسماء والصّفات ، وبعد مقام الفعل المعبّر عنه بالمشيّة بوجه ستّة وبوجه سبعة ، وبوجه سبعون ، وبوجه سبع مائة ، وبوجه سبعة آلاف ، وبوجه سبعون ألفا ، وبوجه غير متناهية ، وانّ كلّ عالم عال بالنّسبة الى الدّانى حاله حال النّفس بالنّسبة الى قواها ومداركها ، وانّ عالم المثال مرتبته من عالم الطّبع مرتبة الخيال الانسانىّ من بدنه وقواه فكما انّ قوى النّفس الخياليّة تتأثّر من بدنها ومن غير بدنها وبذلك التّأثّر يتأثّر الخيال وتأثر الخيال هو بعينه تأثّر النّفس كذلك عالم المثال يتأثّر من عالم الطّبع ، وتأثّره بعينه تأثّر النّفوس الكلّيّة ، وتأثّرها تأثّر العقول الكلّيّة ، وتأثّرها تأثّر المشيّة ، وهو تأثّر الا له ، وكما انّ النّفوس البشريّة بعد التّأثّر من الأبدان وقواها تحرّك قوّتها الشّوقيّة والاراديّة لدفع الموذي أو جذب النّافع كذلك النّفوس الكلّيّة بعد تأثّر قواها المثاليّة الخياليّة تهيّج أسباب دفع الموذي وجذب النّافع لما تأثّرت منه ، وانّ الحوادث كما تكون بأسباب طبيعيّة ارضيّة تكون بأسباب إلهيّة سماويّة وانّ الأسباب السّماويّة قد تؤثّر بتسبيب الأسباب الطّبيعيّة وقد تؤثّر بمحض التّصوّر والارادة لانّها مظاهر ارادة الله ، وافعالها مظاهر افعال الله ، إذا أرادت شيئا تقول له : كن ، فيكون ، من غير تسبيب أسباب طبيعيّة ، وعالم المثال كعالم الخيال يضيق عن الاحاطة بجملة المدركات دفعة بل يرد عليه الصّور بالتّعاقب ويتجدّد عليه الإدراكات متبادلة ولذلك قد يثبت ضرّ شخص أو خيره فيه ثمّ يقع من ذلك الشّخص أو من غيره دعاء لدفع ذلك الضّرّ أو عمل يدفع ذلك الخير فيقع صورة ذلك الدّعاء أو العمل فيه ويقع صورة لازمه من دفع الضّرّ أو دفع الخير فيه ، وكلّما تصوّره النّفوس العالية الجزئيّة أو الكلّيّة يقع صورته في هذا العالم امّا على مجرى العادة وبالأسباب الطّبيعيّة أو خارجا عن مجرى العادة ومن هذه الألواح المثاليّة ينسب البداء الى الله تعالى ، وينسب التّردّد الّذى هو عبارة عن ترجيح أحد المتصوّرين تارة والآخر اخرى ، فانّه إذا تعارض دعاء مؤمن لشخص بالخير ودعاء آخر عليه بالشّرّ فيثبت صورة دعاء هذا تارة مع لازمها وصورة دعاء ذاك اخرى مع لازمها ، فيظهر في نظر النّاظر صورة التّردّد


في الصّورتين المتقابلتين وينسب هذا التّردّد الى الله تعالى كما ينسب افعال القوى الانسانيّة الى النّفوس ، وهكذا حال نسبة البداء الى الله تعالى وقد يتّصل المكاشف من النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) بتلك الألواح فيشاهد فيها بعض الأسباب والمسبّبات ولا يشاهد منافيات تلك الأسباب والمسبّبات ان كان منافياتها ثابتة فيها الضيق النّفوس البشريّة الخياليّة عن الاحاطة بجميع ما ثبت فيها فيخبر بذلك ولا يقع ما يخبر به فينسب البداء الى تلك الألواح لقصور نظره لا لعدم ثبت ما وقع ، وما كذب في ذلك لانّه أخبر عن عيانه (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) لمّا كان اقتضاء العبوديّة الخروج من الانانيّة والتّعلّق بالحقّ الاوّل تعالى شأنه وكان اقتضاء ذلك التّعلّق استدعاء استقلال الحقّ بالانانيّة في وجود العبد قال تعالى في مقام يستكبرون عن دعائي يستكبرون عن عبادتي اشارة الى هذا التّلازم (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) صاغرين (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) الجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر وتعداد لنعمه تعالى على العباد في مقام التّعليل (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) قد سبق الآية مع بيانها في سورة يونس (ع) (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بحسب مقاماتهم النّباتيّة والحيوانيّة والانسانيّة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعمه وفضله عليهم لانكار بعضهم مبدء عليما قديرا ذا عناية بالخلق ، وعدم تفطّن بعضهم بكون النّعم منه ، وعدم تفطن بعضهم بنفس النّعمة ، وغفلة بعضهم عن المنعم والنّعمة (ذلِكُمُ اللهُ) الموصوف بأنعام تلك النّعم (رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اثبت اوّلا ربوبيّته لهم حتّى يتنبّهوا بانّه المستحقّ للعبادة دون غيره الّذى لم يكن له سمة الرّبوبيّة ثمّ ذكر خالقيّته لكلّ الأشياء ، ومنها معبوداتهم ، ثمّ حصر الآلهة فيه نفيا لالهة معبوداتهم بعد ما أشار الى عنايته بخلقه وافضاله عليهم ليظهر بطلان انصرافهم الى غيره قبل انكار الانصراف (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذلِكَ) الصّرف مع وضوح بطلانه (يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ) في مقام أبدانكم ومقام أرواحكم (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) في كلا المقامين (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الأرزاق الطّيّبة النّباتيّة الارضيّة فانّ رزق مقام نبات الإنسان أطيب أرزاق سائر الحيوان بحسب الشّرف واللّطف واللّذّة والنّصح ، ومن الأرزاق الطّيّبة الحيوانيّة الارضيّة والسّماويّة فانّ رزق الحيوان هو الالتذاذ بغذاء النّبات والالتذاذ بإدراك مدارك الحيوان ومن الأرزاق الطّيّبة الانسانيّة السّماويّة من العلوم والمكاشفات والمعاينات والتّحقّق بالحقائق (ذلِكُمُ) الموصوف بتلك الأوصاف (اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) مدح نفسه على خلق الإنسان وتهيّة رزقه بحسب جملة مقاماته من ألطف المأكول والمشروب والمدرك والمتخيّل والمعلوم والمكشوف لانّ في خلقه دقائق عظيمة عديدة وصنائع متقنة وحكما بالغة يعجز عن إدراكها العقول ، وكذا في تهيّة أسباب رزقه بحسب مقاماته الثّلاثة (هُوَ الْحَيُ) بعد ما أشار الى بعض إضافاته بالنّسبة الى خلقه أشار الى بعض صفاته الحقيقيّة تعريضا بمعبوداتهم وفنائها وتعريضا بهم وبموتهم وانتهائهم اليه ليكون حجّة على عبوديّتهم لله وبطلان معبوديّة غيره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرّره للاهتمام بتوحيده في مقام ردّ آلهتهم (فَادْعُوهُ) يعنى إذا كان هو الباقي والباقون هم الفانين فادعوه ولا تتركوا دعاءه ولا تدعوا غيره لفنائكم وانتهائكم اليه لبقائه ولفناء غيره (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اى الطّريق أو الأعمال الشّرعيّة الملّيّة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إنشاء حمد منه تعالى على تفرّده بالآلهة كما ورد عن السّجّاد (ع): إذا قال أحدكم : لا اله الّا الله فليقل : الحمد لله ربّ العالمين فانّ الله يقول : هو الحىّ (الآية) فانّ ظاهره الأمر بإنشاء الحمد عند توحيده ، أو اخبار منه بحصر الحمد فيه تعالى بعد حصر


الآلهة فيه فيكون بمنزلة النّتيجة لسابقه ، ولمّا كان الآيات في مقام تعداد النّعم لم يأت بأداة الوصل في رؤس الآي (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) يعنى بعد ما ذكّرتهم بنعم الله وحصر الآلهة فيه تعالى أظهر براءتك عن عبادة معبوداتهم (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ذكر نعمة اخرى بطريق تعداد النّعم أو في مقام التّعليل لقوله نهيت (مِنْ تُرابٍ) فانّ تولّد مادّة النّطفة ليس الّا من حبوب النّبات وبقولها ولحوم الحيوان وألبانها والكلّ يحصل من التّراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أتى بالثّلاثة منكّرة للاشارة الى انّ التّراب الحاصل منه مادّة النّطفة لا بدّ وان يكون ترابا مخصوصا متكيّفا بكيفيّة مخصوصة ممتزجا مع سائر العناصر ، وانّ النّطفة الّتى تصير مادّة الإنسان تكون نطفة مخصوصة ممتازة عن سائر النّطف وكذا العلقة (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا) عطف على لتكونوا أو على محذوف اى لتستكملوا في نفوسكم ولتبلغوا (أَجَلاً مُسَمًّى) ويكون قوله ومنكم من يتوفّى بين المعطوف والمعطوف عليه ، أو بين العلّة ومعلولها ، أو متعلّق بمحذوف اى ومنكم من يبقى لتبلغوا أجلا مسمّى (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تدركون بعقولكم ، أو تصيرون عقلاء ، أو تعقلون امر الآخرة من امر الدّنيا ، فانّ الانتقالات في الحالات إماتات وإحياءات ، وليدرك الإنسان من تلك الانتقالات النّقلة العظمى وانّها ليست افناء واستيصالا بل هي افناء لصورة واحياء بصورة أتمّ وأكمل ، وقد سبق في سورة الحجّ الآية بأكثر اجزائها مع بيان لها (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) من قبيل تعداد النّعم أو تعليل لسابقه واشارة الى نعمه تعالى (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قد مضى الآية مع بيانها في سورة البقرة عند قوله تعالى : بديع السّماوات والأرض وإذا قضى امرا (الآية) وفي غيرها (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) من الله (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) بدل أو صفة للّذين يجادلون ، أو خبر أو مفعول لمحذوف أو مبتدء خبره (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) إذ مفعول يعلمون أو ظرف له ، والفعل منسىّ المفعول ، أو مقدّر المفعول (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يحمون أو يوقدون (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ما زائدة أو موصولة أو موصوفة والعائد محذوف (مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أخبروا اوّلا بانّهم أفلتوا من أيديهم ، ثمّ التفتوا الى انّهم كانوا مدعوّين بحسب حدودهم وتعيّناتهم ، والحدود كانت عدميّة ولكن كانت على القاصرين كالسّراب تظهر بصورة الموجود وفي القيامة يرتفع الحدود ويعلم كلّ أحد أنّها كانت سرابا لا حقيقة لها فأضربوا عن أخبارهم بضلال الشّركاء عنهم وقالوا (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) وقد ورد الاخبار بانّ الآية في المعرضين عن الولاية وعن علىّ (ع) ، والمراد بما يشركون رؤساء الضّلالة وعلى هذا فالمراد ب (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) الّذين يجادلون في خلافة علىّ (ع) ، والمراد ب (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) الّذين كذّبوا الآيات الواردة في الولاية ، وبما أرسلنا به رسلنا هو الولاية لانّها غاية الرّسالة بدليل ان لم تفعل فما بلّغت رسالتك ، والمراد بما يشركون ما جعلوه شريكا لعلىّ (ع) في الخلافة ، ومن دون الله من دون اذن الله ، أو حالكون الشّركاء غير علىّ (ع) الّذى هو مظهر الله (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) في الدّنيا أو في الآخرة ، عن الباقر (ع) فامّا النّصّاب من أهل


القبلة فانّهم يخدّ لهم خدّا الى النّار الّتى خلقها في المشرق فيدخل عليهم منها اللهب والشّرر والدّخان وفورة الحميم الى يوم القيامة ثمّ مصيرهم الى الحميم ، ثمّ في النّار يسجرون ، ثمّ قيل لهم : أينما كنتم تشركون من دون الله اى اين إمامكم الّذى اتّخذتموه دون الامام الّذى جعله الله للنّاس إماما (ذلِكُمْ) العذاب (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) يعنى بالباطل فانّه يستعمل في هذا المعنى (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) المرح شدّة الفرح وهو مذموم لانّه إسراف في الفرح سواء كان بالحقّ أو بغير الحقّ (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) قد سبق في سورة الزّمر وجه تقييد الدّخول بأبواب جهنّم (خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بانّ المتكبّر من خرج من طاعة الامام ، وسرّه انّ الخروج من طاعة الامام ليس الّا من الانانيّة ، والانانيّة ورؤية النّفس هو التّكبّر (فَاصْبِرْ) يعنى إذا علمت حال المنافقين الّذين ينافقون بالنّسبة إليك والى علىّ (ع) فاصبر ولا تجزع ولا تحزن (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) لا خلف فيه (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) وقد سبق الآية في سورة يونس وسورة الرّعد (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) فانظر الى حالهم ومآلهم من الله وما ورد عليهم من أممهم ، ولينظر قومك الى ما كان منهم حتّى تتسلّى وتصبر على أذى قومك ، ويعلم قومك انّ الرّسول لا يكون الّا بشرا ، ولا يكون حاله سوى حال سائر النّاس (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فانّ الآيات تنزل من الله على وفق الحكم والمصالح فليس لأحد ان يقترح وليس لك ان تسأل ما اقترحوا (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب في الدّنيا أو الآخرة أو بانقضاء الأجل أو بالحساب في القيامة أو بظهور القائم عجّل الله فرجه (قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ) الزّمان والمكان (الْمُبْطِلُونَ اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) في مقام التّعليل أو مقام تعداد النّعم (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أخر كالالبان والجلود والأوبار وغير ذلك (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بحمل الأحمال على ظهورها ونقلها الى ما تريدون (وَعَلَيْها) في البرّ (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) قد سبق الآية ببعض اجزائها في سورة المؤمنون (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ) الدّالة على علمه وقدرته وحكمته وعنايته ورأفته بخلقه (تُنْكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض العالم الكبير حتّى يشاهدوا آثار الأمم الهالكة الماضية ويسمعوا أخبارهم ، أو ارض العالم الصّغير فيعلموا ويجدوا آثار الأمم التّابعة لشهوتهم وغضبهم وشيطنتهم ، أو ارض الاخبار وسير الأمم الماضية ، أو ارض القرآن (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ) اى عن عذابهم (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ما الاولى نافية أو استفهاميّة ، والثّانية موصولة أو موصوفة أو مصدريّة أو استفهاميّة (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) عطف من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) من دقائق ـ العلوم الحكميّة من الطّبيعيّة والرّياضيّة والإلهيّة ولم يعلموا انّ هذه العلوم ان لم تكن بإذن من الله وخلفائه ولم يكن صاحبها في الطّريق تكون حجابا عظيما وسدّا سديدا عن السّلوك الى الله بل السّلوك الى الله لا يكون الّا بطرح جملة علوم النّفس والخروج من العلوم النّفسانيّة الى الجهل كما قيل : الخروج من الجهل جهل ، والخروج الى الجهل علم ، لانّ النّفس إذا كانت متصوّرة بصور تلك العلوم ظهرت بالانانيّة ، والانانيّة كبرياء النّفس الّتى من اتّصف بها بادر الله


بالمحاربة ونازع الله ، أعاذنا الله منها ، ولذلك ترى انّ أكثر المعاندين لأهل الحقّ هم المتشبّهون بالعلماء المتصوّر نفوسهم بصور العلوم الحكميّة أو غيرها (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) اى العذاب أو الفعل والقول الّذى كانوا به يستهزؤن (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) عذابنا عند معاينة الموت (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) والمراد بما أشركوا به الأصنام والكواكب ورؤساء الضّلالة الّذين اشركوهم بالأنبياء والأولياء (ع) خصوصا من اشركوه بعلىّ (ع) في الولاية فانّهم حينئذ يرون بطلان الشّركاء (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) لانّ الايمان حين رؤية البأس ليس الّا لخوف الخيال لا لشوق العقل ولذلك كانوا لو زال الخوف لعادوا كما قال تعالى : ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه فلم يك ينفعهم ايمانهم لمّا رأوا بأسنا يعنى انّهم تمكّنوا في الكفر والنّفاق بحيث لا يعقلون منه وكلّما أرادوا ان يخرجوا منه من غمّ أعيدوا فيه لتمكّنهم فيه بحيث لا يزال عنهم (سُنَّتَ اللهِ) سنّ الله عدم قبول التّوبة حين رؤية البأس يعنى عدم قبول التّوبة إذا كان من غمّ وخوف السّنة (الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ) المقام أو الزّمان (الْكافِرُونَ) لانّ المقام مقام ظهور الحقّ وبطلان الباطل.

سورة حم السّجدة

اربع وخمسون آية ، مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) بعد ان كان في المقام العالي مجملا ومجموعا (قُرْآناً) حالكونه قرآنا ومجموعا في المقامات العالية ومجموعا ومضموما فيه الأحكام مع المواعظ والعبر والقصص والعقائد والعلوم (عَرَبِيًّا) يعنى بلغة العرب أو منسوبا الى العرب دون الاعراب من حيث اشتماله على الآداب والأحكام والعلوم (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعنى هذه الأوصاف للكتاب لقوم يعلمون لا لغيرهم ، أو كونه منسوبا الى العرب لقوم يعلمون اى لقوم خرجوا من جهالاتهم السّاذجة وجهالاتهم المركّبة الّتى هي صور العلوم العاديّة ونقوش الفنون الاصطلاحيّة الى دار العلم الّتى اوّل حريم حرمها مقام الإنصات للإنسان والتّحيّر في طريقه ، وآخر مقاماته نشر العلم في العباد ، أو لقوم يعلمون انّ ذلك الكتاب منزل من الله (بَشِيراً) لمن بقي فيه الفطرة الانسانيّة وتوجّه الى تلك الفطرة (وَنَذِيراً) لمن أدبر عن تلك الفطرة سواء كان بايع كلّ منهما البيعة التّكليفيّة العامّة أو الخاصّة أو لم يبايع (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن هذا الكتاب (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لا يقبلون فانّ السّماع كناية عن القبول والانقياد كما انّه كناية عن ثانى مقامات العلم (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) اى ثقل وهو كناية عن الصّمم (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) بيننا وبينك من حيث ادّعائك للرّسالة حجاب يمنعنا عن ابصار


ما تدّعيه يعنى انّ ما تدّعيه ان كان من المعقولات فلا تكن منتظرا لتعقّلنا ، وان كان من المسموعات فلا تنتظر لسماعنا ، وان كان من المبصرات بالبصر أو بالبصيرة فلا تنتظر لأبصارنا للحجاب المانع من الأبصار بيننا وبينك (فَاعْمَلْ) ما شئت في دينك المبتدع (إِنَّنا عامِلُونَ) في ديننا القديم ، أو كان مقصودهم من ذلك تهديده يعنى فاعمل ما شئت بنا فانّنا نعمل ما قدرنا عليه بك (قُلْ) في جواب تهديدهم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ) لا اقدر (مِثْلُكُمْ) على ما لا يقدر عليه البشر حتّى افعل بكم ما أريد لكن بيني وبينكم فرق وهو انّه (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أو المعنى قل لهم : انّما انا بشر من جنسكم ولست خارجا من جنسكم حتّى لا تكونوا مناسبين لي فيستوحش قلوبكم أو لا تفهموا لساني فينصرف قلوبكم عنّى ، وأدعوكم الى التّوحيد الّذى لا يضرّكم شيئا ان كان لا ينفعكم (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) واخرجوا من اعوجاجكم (وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) اقتصر على نفى إتيان الزّكاة اشعارا بانّ المشرك ليس اشراكه الّا من انانيّته الّتى ينبغي ان تطرح فانّ أصل إتيان الزّكاة هو طرح الانانيّة والإعطاء منه في طاعة الله ، ومن بخل بطرح الانانيّة بخل بإعطاء المال والقوى والجاه ، ولو اعطى لم يكن إعطاؤه إعطاء للزّكوة بل كان ممّن قال الله : كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وإبل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وقد فسّر الإشراك بالاشراك بالولاية ، عن الصّادق (ع) أترى انّ الله عزوجل طلب من المشركين زكوة أموالهم وهم يشركون به حيث يقول : وويل للمشركين الّذين لا يؤتون الزّكاة وهم بالآخرة هم كافرون؟ قيل : جعلت فداك فسّره لي ، فقال : ويل للمشركين الّذين أشركوا بالإمام الاوّل وهم بالأئمّة الآخرين كافرون ، انّما دعا الله العباد الى الايمان به فاذا آمنوا بالله وبرسوله (ص) افترض عليهم الفرائض (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع أو غير ما يمنّ به عليهم (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) الّتى هي مقرّ قراركم ومحلّ معاشكم (فِي يَوْمَيْنِ) قد يعبّر عن مراتب العالم باعتبار بالإمام ، وباعتبار بالأشهر ، وباعتبار بالاعوام ، والأرض اسم لكلّ ما كان فيه جهة القبول أظهر وجهة الفاعليّة أخفى ، وجملة عالم الطّبع وعالم المثال هكذا كان حالهما ، والتّعبير عن هذين العالمين بالأرض كثير ، فالمراد بالأرض الأجسام الظّلمانيّة والأجسام النّورانيّة وخلقهما ليس الّا في المرتبة الاخيرة النّازلة الّتى هي عالم الطّبع وفي المرتبة السّابقة عليها اعنى عالم المثال وقد عبّر عنهما باعتبار أمد بقائهما باليومين ، وقد مضى في سورة الأعراف بيان لخلق السّماوات والأرض في ستّة ايّام وقد كان الأرض باعتبار وجودها العينىّ مخلوقة في ذينك اليومين ولكنّها باعتبار وجودها المطلق مخلوقة في ستّة ايّام كالسّماوات ، والسّماوات يعنى سماوات الأرواح باعتبار وجودها العينىّ مخلوقة في اربعة ايّام ، يوم النّفوس الجزئيّة ، ويوم النّفوس الكلّيّة ، ويوم ـ العقول ويوم الأرواح المعبّر عنها بيومين ، يوم المدبّرات ويوم المجرّدات الصّرفة اى النّفوس والعقول بالمعنى الاعمّ وتقدير أقوات الأرض والأرضين ليس الّا في تلك الايّام الّتى هي ايّام السّماوات فانّه ينزّل من السّماء رزقا لكم (وَتَجْعَلُونَ) مع ذلك (لَهُ أَنْداداً) لا يقدرون على شيء ولا يخلقون ولا يرزقون (ذلِكَ) الموصوف (رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) لئلّا تميد بكم ولتوليد الماء من تحتها ولسهولة جريان الماء من تحتها في سفحها (وَبارَكَ فِيها) في الرّواسى أو في الأرض فانّ الرّواسى بحسب التّنزيل منبع بركات الأرض ومحلّ المعادن النّافعة والنّباتات النّافعة الغذائيّة والدّوائيّة ، وبحسب التّأويل لا بركة الّا منها ، والأرض محلّ البركات


الكثيرة الّتى منها الإنسان والنّفوس الكاملة الّتى لا بركة الّا منها (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) حالكون الأقوات مساوية لجملة السّائلين بسؤال الحال والاستعداد لا تفاضل فيهم في الأقوات المسؤلة بسؤال الحال وان كان سؤال القال قد يتخلّف المسؤل عنه ويتخلّف السّائلون فيه بحسب الاجابة وعدمها ، أو حالكون الاربعة الايّام سواء للسّائلين فانّ ايّام الآخرة نسبتها الى ما دونها نسبة الحقّ الى الخلق بالنّسبة الرّحمانيّة الّتى لا تفاوت فيها بالنّسبة الى شيء من الأشياء ، وقرئ سواء بالجرّ وبالنّصب وبالرّفع (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) اى قصد الى خلقها وثمّ للتّرتيب في الاخبار لا في الوجود أو في الوجود لكن في العالم الصّغير ، فانّ حدوث سماء الأرواح في العالم الصّغير بعد وجود ارض البدن وقواها وتقدير رزقها (وَهِيَ دُخانٌ) اى حالكون السّماء قبل تماميّة خلقتها كانت بخارا فانّ النّفوس المعبّر عنها بالأرواح مركبها ومادّتها البخار المتولّد من القلب المختلط مع الدّخان المتصاعد الى الدّماغ لتعديله وبعد تعديله ببرودة الدّماغ يتعلّق بل يتّحد معه النّفس الحيوانيّة ثمّ الانسانيّة (فَقالَ) بعد خلق الأرض وتسوية السّماء (لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) الإتيان الى الله وطاعته طوعا حقّ السّماوات ، والإتيان كرها حقّ الأرض ، واعتبر ذلك بأرض وجودك وسماواته فانّ القوى والمدارك الّتى هي سماويّة مطيعة للنّفس بالطّوع والفطرة بحيث لا يتخلّف طاعتها عن امر النّفس والبدن الّذى هو ارض وجودك وأعضائه طاعتها للنّفس ليست الّا بخلاف فطرتها ، لكن إذا تبدّل الأرض غير الأرض وصار ارض البدن الطّبيعىّ مغلوبة لارض البدن المثالىّ بحيث لا يبقى حكم الطّبيعىّ وكان الحكم للمثالىّ كان إتيانه الى الله وطاعته للنّفس طوعا كالمثالىّ (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) بعد ما صارت الأرض مغلوبة للسّماوات ، وانّما أتى بجمع العقلاء الذّكور لانّ هذا الخطاب ليس الّا للعقلاء فلمّا خوطبن بخطاب العقلاء أتى لهنّ بجمع العقلاء الذّكور (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) كناية عن المراتب السّبع السّماويّة الانسانيّة أو عن اللّطائف السّبع القلبيّة (فِي يَوْمَيْنِ) يوم الإنشاء ويوم الإبداع أو يوم المدبّرات ويوم المجرّدات وقد ذكر في الاخبار ، وذكر الكبار من العلماء بعض وجوه أخر للايّام السّتة والايّام الاربعة واليومين المخلوق فيهما الأرض والمخلوق فيهما السّماء من أراد فليرجع الى المفصّلات (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الوحي غلب على إلقاء العلوم بواسطة الملك أو بلا واسطة ، ولمّا كانت العلوم في المجرّدات عين ذواتها غير منفكّة ولا متأخّرة عن ذواتها كان وحيها عبارة عن خلقتها على ذلك والمراد بالأمر الحال والشّغل يعنى اوحى الله في كلّ سماء امر تلك السّماء الى أهلها ولم يقل الى كلّ سماء للاشارة الى انّ المراد بالسّماوات المراتب واوحى في كلّ مرتبة امر تلك المرتبة وما تحتاج اليه من تدبير أهلها وتدبير ـ ما دونها الى أهل تلك المرتبة من الملائكة (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) اى السّماء الطّبيعيّة الّتى هي عبارة عن الفلك المكوكب والأفلاك السّبعة الاخر والسّماء الدّنيا الّتى هي الصّدر المنشرح بالإسلام (بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) من الشّياطين المسترقين للسّمع وقد سبق في سورة الحجر وكذا في سورة الصّافّات بيان للآية (ذلِكَ) القدر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الّذى لا يمنع من مراده (الْعَلِيمِ) الّذى لا يقع قصور في فعله لجهله بعاقبته (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عنك أو عن الايمان بالله بعد ما بيّنت لهم حجّة صدقك وحجّة آلهة الله وتدبيره لكلّ الأمور (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) بالكنايات السّابقة أو أنذرتكم بالتّهديدات الّتى هدّدتكم بها أو أنذركم بهذا الكلام (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) يعنى في زمانهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يعنى قبل زمانهم أو جاءتهم الرّسل بالمواعظ من جهة دنياهم وآخرتهم ، أو حفّوا بهم من جميع جوانبهم ، أو من بين أيديهم يعنى الرّسل الظّاهرة ومن خلفهم


اى الرّسل الباطنة ، أو بالعكس (أَلَّا تَعْبُدُوا) ان تفسيريّة ولا ناهية أو مصدريّة ولا ناهية أو نافية (إِلَّا اللهَ قالُوا) في جواب الرّسل (لَوْ شاءَ رَبُّنا) إرسال رسول إلينا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) مناسبة له تعالى خارجة من جنسنا (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم (كافِرُونَ) لانّكم بشر مثلنا لا مزيّة لكم علينا حتّى نطيعكم بذلك ونقبل منكم (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) اغترّوا بقوّتهم لانّ الرّجل منهم يقلع الصّخرة بيده (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) اى يعرفونها ثمّ ينكرونها (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردا (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) ميشومات (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) حين ابتلائهم بالعذاب وخروج أرواحهم بتلك الرّيح (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) لانّ عذاب الدّنيا وان كان اشدّ ما يكون لا يكون الّا عشرا من أعشار عذاب الآخرة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) اى أريناهم طريق النّجاة والهلاك بإرسال الرّسل وإنزال الكتب وخلقهم على فطرة الاهتداء وصورة ـ الإنسان الّتى هي طريق الى الرّحمن (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) بان تنزّلوا عن مقام الانسانيّة وتركوا الفطرة وأخذوا البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة وتركوا ما في الكتب ونبذوها وراء ظهورهم واستهزؤا بالرّسل وأخذوهم أعداء (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) عطف على صاعقة في أنذرتكم صاعقة أو على إذ جاءتهم الرّسل على ان يكون إذ بدلا من صاعقة عاد أو عطف على قل أنذرتكم بتقدير اذكر ، أو عطف على محذوف والتّقدير نجّينا الّذين آمنوا في الدّنيا ويوم يحشر أعداء الله (إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) وزعه كفّه والمعنى يحبسون ليتلاحقوا (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عن القمّىّ ، انّ الآية نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون : ما عملنا شيئا منها ، فيشهد عليهم الملائكة الّذين كتبوا أعمالهم ، قال الصّادق (ع) فيقولون لله : يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ثمّ يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله عزوجل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وهم الّذين غصبوا أمير المؤمنين فعند ذلك يختم الله تعالى على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السّمع بما سمع ممّا حرّم الله ، ويشهد البصر بما نظر الى ما حرّم الله عزوجل ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرّجلان بما سعتا فيما حرّم الله عزوجل ، ويشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم الله ، ثمّ ينطلق الله عزوجل ألسنتهم فيقولون هم لجلودهم : لم شهدتم علينا (الآية) (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ) من ان يشهد (عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) والمراد بالجلود كما في اخبار كثيرة الفروج (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ) يعنى انّكم كنتم لا تخفون عن حضور جوارحكم ولكن تجرّأتم على المعاصي لظنّكم (أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) من غير حقيقة (أَرْداكُمْ) ظنّكم خبر ذلكم أو بدله وأرديكم خبره أو خبره أو خبر بعد خبر أو مستأنف أو حال بتقدير قد (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) لضياع بضاعتكم الّتى هي أمد أعماركم وشهادة ما كان لكم عليكم ، عن الصّادق (ع) انّه قال ، قال رسول الله (ص): انّ آخر عبد يؤمر به الى النّار فاذا امر به التفت فيقول الجبّار جلّ جلاله : ردّوه ، فيردّونه فيقول له : لم التفتّ الىّ؟ فيقول : يا ربّ لم يكن ظنّى بك هذا! فيقول : ما كان ظنّك بى؟ فيقول :


يا ربّ كان ظنّى بك ان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنّتك ، قال : فيقول الجبّار : يا ملائكتى لا وعزّتى وجلالي وآلائي وعلوّى وارتفاع مكاني ما ظنّ بى عبدي هذا ساعة من خير قطّ ولو ظنّ بى ساعة من خير ما روّعته بالنّار ، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة ، ثمّ قال رسول الله (ص) : ليس من عبد يظنّ بالله عزوجل خيرا الّا كان عند ظنّه به وذلك قوله عزوجل (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) يعنى سواء عليهم صبروا أو جزعوا أو سألوا الرّاحة والرّضا (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) يسترضوا (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) من المعطون للرّضا (وَقَيَّضْنا) عطف على نجّينا والمعنى انّا قدّرنا وسبّبنا (لَهُمْ) في الدّنيا (قُرَناءَ) يعنى شياطين الانس والجنّ (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قد مضى مكرّرا انّ ما بين أيديهم فسّر بالدّنيا وبالآخرة وكذا قوله تعالى (وَما خَلْفَهُمْ) يعنى انّ القرناء زيّنوا لهم الشّهوات ومقتضى السّبعيّة والشّيطانيّة وزيّنوا لهم ما ظنّوه وقالوا في امر الآخرة من الرّدّ والإنكار ، أو بان قالوا ان رددنا الى ربّنا لكان لنا خيرا منها منقلبا (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بسوء أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) من الأمم الفاجرة (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) اى مطلق القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) (وَالْغَوْا فِيهِ) لغي في قوله كسعى ودعا ورضى اخطأ والمقصود اقرأوه مغلوطا مخلوطا بغيره أو ادخلوا على قرّائه ما ليس منه أو عارضوه بالباطل واللّغو (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) قرّاءه أو تغلبون محمّدا (ص) (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) بإزاء جميع أعمالهم حسناتها وسيّئاتها كبائرها وصغائرها (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) نفس أسوء أعمالهم أو جزاء أسوء أعمالهم على تجسّم الأعمال وجزائها بالجزاء الاخروىّ ، وقد مرّ بيان جزاء الأعمال للمؤمن بأحسن اعماله وبيان معاني هذه العبارة في سورة التّوبة (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) كثرة وجوه اعراب الآية لا تخفى على العارف بقوانين الاعراب (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أتى بالماضي لتحقّق وقوعه ، أو لكونه ماضيا بالنّسبة الى من خوطب به (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قد فسّر المضلّان من الجنّ والانس بإبليس الّذى عصى الله اوّل ما عصى وبقابيل من آدم (ع) وبإبليس الّذى دخل في شوريهم في دار النّدوة وفي غيرها فأضلّهم عن الحقّ (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) انتقاما منهما (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) من حيث المذلّة والمكان (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال ـ الكافرين والمنافقين ، فما حال المؤمنين بالولاية والمقرّين بالخلافة؟ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) انّما قال : قالوا ربّنا ، دون علموا وأيقنوا وشاهدوا لانّه اشارة الى الإسلام والبيعة العامّة النّبويّة وبالإسلام ، وبتلك البيعة لا يحصل الّا الإقرار بانّ الله ربّ ولو حصل اعتقاد بذلك كان ذلك الاعتقاد من علوم النّفس المنفكّة عن معلوماتها المعبّر عنها بالظّنون كما أشرنا اليه في مطاوى ما سلف ، وقد ورد في الاخبار انّ الإسلام إقرار باللّسان دون الايمان (ثُمَّ اسْتَقامُوا) اى اعتدلوا ، والاعتدال الاضافىّ لا يحصل الّا بالبيعة الايمانيّة الولويّة الخاصّة كما انّ الاعتدال الحقيقىّ الّذى هو عبارة عن الخروج من الاعوجاج في جميع المراتب لا يحصل الّا بتلك البيعة والعمل بشروطها فان أريد بالاعتدال الاعتدال الاضافىّ كان المراد بالمعتدلين مطلق من بايع البيعتين ودخل في امر الائمّة ، ودخل الايمان في قلبه كما ورد في الاخبار تفسيرهم بشيعتهم ان أريد الاعتدال الحقيقىّ كان المراد الأنبياء والأولياء (ع) كما فسّروا بالأئمّة وإذا أريد الشّيعة من المستقيمين كان نزول الملائكة على بعضهم في مطلق الحيوة الدّنيا وعلى بعضهم خاصّا بوقت الاحتضار وكان معنى قوله : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ


الدُّنْيا) بالنّسبة الى من كان نزول الملائكة عليه خاصّا بوقت الاحتضار انّا كنّا في الحيوة الدّنيا اولياؤكم كنّا نحرسكم ونحفظكم ونثبّتكم على الخير ، وبالنّسبة الى من تنزّل الملائكة عليه مطلقا فالمعنى ظاهر ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : استقاموا على الائمّة (ع) واحدا بعد واحد ، وعن الرّضا (ع) انّه سئل : ما الاستقامة؟ ـ قال : هي والله ما أنتم عليه (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) في الدّنيا بالنّسبة الى الأنبياء والأولياء (ع) وبعض الاتباع ، وفي آخر الحيوة الدّنيا بالنّسبة الى بعض الاتباع (أَلَّا تَخافُوا) ان تفسيريّة ولا ناهية أو مصدريّة ولا ناهية أو نافية اى مخاطبين بان لا تخافوا (وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بواسطة الأنبياء (ع) (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قد مضى بيانه آنفا (وَفِي الْآخِرَةِ) يعنى من اوّل مقامات البرزخ الى الأعراف ومن الأعراف الى الجنّة وبعد الدّخول في الجنّة الى الأبد (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) اى ذواتكم أو ما تشتهي أنفسكم الّتى هي مقابل عقولكم لانّ العقول تشتاق الى الرّبّ ، والاشتهاء خاصّ بالنّفوس يعنى انّكم منعتم نفوسكم عن مشتهياتها في الدّنيا فتفضّل الله عليكم في الآخرة بتهيّؤ ما تشتهي أنفسكم لها (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) تطلبون سواء كان باقتضاء نفوسكم أو باشتياق عقولكم (نُزُلاً) حالكون ما تشتهي نفوسكم وما تدّعون مهيّأ لكم لتشريف نزولكم (مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) عن الصّادق (ع) قال : ما يموت موال لنا مبغض لأعدائنا الّا ويحضره رسول الله (ص) وأمير المؤمنين والحسن (ع) والحسين (ع) فيرونه ويبشّرونه ، وان كان غير موال يراهم بحيث يسوءه ، والدّليل على ذلك قول أمير المؤمنين (ع) لحارث الهمدانىّ :

يا حار همدان من يمت يرنى

من مؤمن أو منافق قبلا

وفي تفسير الامام (ع) عند قوله تعالى : (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) من سورة البقرة ، قال رسول الله (ص) : لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ولا يتيقّن الوصول الى رضوان الله حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له ، وذلك انّ ملك الموت يرد على المؤمن وهو في شدّة علّته وعظيم ضيق صدره بما يخلّفه من أمواله وبما هو عليه من اضطراب أحواله من معامليه وعياله قد بقيت في نفسه حسراتها واقتطع دون امانيّه فلم ينلها ، فيقول له ملك الموت : مالك تجرّع غصصك؟ (١) قال لاضطراب أحوالي واقتطاعك لي دون آمالى! ـ فيقول له ملك الموت : وهل يحزن عاقل من فقد درهم زائف واعتياض الف الف ضعف الدّنيا؟ فيقول : لا ، فيقول ملك الموت ، فانظر فوقك ، فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها الّتى يقصر دونها الامانىّ ، فيقول ملك الموت : تلك منازلك ونعمك وأموالك وأهلك وعيالك ومن كان من أهلك هاهنا وذرّيّتك صالحا فهم هنالك معك ، أفترضى بهم بدلا ممّا هاهنا؟ فيقول : بلى والله ، ثمّ يقول : انظر ، فينظر فيرى محمّدا (ص) وعليّا (ع) والطّيّبين من آلهما في أعلى عليّين ، فيقول : أو تريهم؟! هؤلاء ساداتك وائمّتك هم هناك جلّاسك وانّاسك ، أفما ترضى بهم بدلا ممّا تفارق هنا؟ ـ فيقول : بلى وربّى ، فذلك ما قال الله عزوجل : انّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة الّا تخافوا ولا تحزنوا فما أمامكم من الأحوال فقد كفيتموها ولا تحزنوا على ما تخلّفونه من الذّرارى والعيال فهذا الّذى شاهدتموه في الجنان بدل منهم وأبشروا بالجنّة الّتى كنتم توعدون وهذه منازلكم وهؤلاء ساداتكم أنّاسكم وجلّاسكم (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) يعنى ممّن دعا الى الله في مملكة وجوده أعوانه وجنوده إذا لم يكن من أهل دعوة غيره الى الله أو ممّن دعا أهل العالم الكبير إذا كان نبيّا أو خليفته (ع) والجملة معطوفة على جملة انّ الّذين قالوا باعتبار المعنى فانّه في معنى لا أحسن قولا أو حاليّة بهذا الاعتبار أو بتقدير القول وعلى اىّ تقدير فهي في معنى التّعليل (وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ

__________________

(١) ـ غصص بالطعام والماء اعترض في حلقه فمنعه التنفس.


إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)يعنى لا أحسن قولا ممّن دعا بأفعاله وأقواله وأحواله وأخلاقه الى الله وعمل صالحا بأركانه اى صالحا عظيما هو الولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة أو نفس البيعة الخاصّة فانّه لا يراد به فرد من الصّالح لدلالته حينئذ على انّ من دعا الى الله وعمل صالحا ما ، وان كان ترك جملة الصّالحات يكون أحسن قولا من جميع الخلق ، فانّ هذه العبارة قد مرّ مرارا انّها تستعمل في هذا المعنى وان كان مفهومها اعمّ ، أو المراد فرد ما من الصّالح والمقصود انّ من بايع البيعة الخاصّة ودخل الايمان في قلبه وأظهر اثر تلك البيعة على أعضائه من دعائه الى الله بحاله وقاله ومن عمله بأركانه صالحا ما من الصّالحات وأظهر اثر تسليمه على لسانه بان يقول : انّنى من المسلمين فانّه قد يؤتى بهذه العبارة عند المبالغة في امر الولاية كما ورد انّ الله فرض على خلقه خمسا ، فرخّص في اربع ولم يرخّص في واحدة أشار الى الولاية ، وهذا من باب المبالغة في امر الولاية ، وأمثال هذا الخبر للمبالغة في الولاية عنهم كثيرة ، وللاشارة الى انّه يلزم ظهور اثر التّسليم على اللّسان قال تعالى : وقال انّنى من المسلمين ولم يقل وكان من المسلمين وكما انّ الآية السّابقة كانت في علىّ (ع) وشيعته من غير اختصاص لها بعلىّ (ع) أو بالأئمّة (ع) كذلك هذه الآية لا اختصاص لها بعلىّ (ع) والائمّة (ع) بل تجري في شيعتهم كما ذكرنا (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) تمهيد لما يأتى وتعليل لما مضى والاعتقاد بعدم استواء الحسنة والسّيّئة من الفطريّات فمن اختار عليه غيره ممّن اطّلع عليهما كان خارجا من الفطرة (ادْفَعْ) سيّئة من أساء إليك «ب» الفعلة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقد مضى بيان هذه الآية في سورة المؤمنون (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) اى محبّ قريبّ في النّسب وقد فسّر في الخبر الحسنة بالتّقيّة والسّيّئة بالإذاعة وهو وجه من وجوه الآية ، ويجوز ان يفسّر الّتى هي أحسن بالولاية اى ادفع سيّئات نفسك وسيّئات غيرك بتذكّر جهة الولاية أو قبول الولاية أو بتذكيرهم بالولاية ولعلّ التّعبير عن الاساءة بالسّيّئة كان لهذا الوجه (وَما يُلَقَّاها) اى هذه السّجيّة والخصلة الّتى هي دفع الاساءة بالحسنة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) لانّ النّفس في جبلّتها هيجان الغضب عند ورود ما لا يلائم ، والغضب اقتضاؤه الدّفع بأشدّ ما يمكن فمن لا يمكن له حبس النّفس عن هيجان غضبها لا يدرك من هذه الخصلة شيئا (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من كمالات الإنسان وقد قيل بالفارسيّة : «نيكى را نيكى خر خارى ، بدى را بدى سگ سارى ، بدى را نيكى كار عبد الله أنصاري» والخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) مع التّعريض بامّته (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) نزغه كمنعه طعن فيه واغتابه ووسوس وبينهم أفسدوا غرى (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) مصدر بمعنى الفاعل أو من قبيل جدّ جدّه يعنى ان يوسوسك من قبل الشّيطان موسوس أو يطعن فيك طاعن أو يدفعك دافع حال أرادتك الإحسان الى المسيء (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من نزغه فانّه يعيذك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك (الْعَلِيمُ) باستجارتك ، أو فاستعذ بالله من طاعته فانّه السّميع لاقتصاصك القولىّ ، العليم لاقتصاصك الفعلىّ فيؤاخذ عليه.

سجدة واجبة

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) عطف باعتبار المعنى كأنّه توهّم متوهّم انّه قال : من آياته من دعا الى الله ومن آياته عدم استواء الحسنة والسّيّئة فقال تعالى : ومن آياته اللّيل والنّهار (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قد مضى مكرّرا انّ في انتضاد اللّيل والنّهار الطّبيعيّين واتّساق حركة الشّمس والقمر وتخالف اللّيل والنّهار بالظّلمة والنّور والبرودة والرّطوبة والحرارة واليبوسة والاتّساق في الزّيادة والنّقيصة وغير ذلك من لوازم ذلك الّذى نيط بها توليد المواليد وبقاؤها وتعيّشها آيات عديدة دالّة على علمه وقدرته وربوبيّته ورأفته بخلقه وغير ذلك من إضافاته (لا تَسْجُدُوا) تفريع على سابقه لكنّه ادّاه بطريق الجواب لسؤال مقدّر ليتمكّن حال الشّمس والقمر في ذهن السّامع (لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لكونهما من آياته تعالى ولا يخفى


على المستبصر تعميم اللّيل والنّهار والشّمس والقمر (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) أتى بالجمع امّا لكون المراد بالشّمس والقمر الجنس وتعدّد افرادهما وعمومهما كما عليه حكماء الافرنج ، ويستفاد من تلويحات الاخبار ، أو للاشارة الى التّأويل وكثرة الشّمس والقمر بحسب التّأويل فانّ النّبىّ (ص) وخليفته يعبّر عنهما بالشّمس والقمر وكذلك خلفاؤهما ومشايخهما والعقل والنّفس يطلق عليهما الشّمس والقمر ، والعقل الكلّىّ والنّفس الكلّيّة شمس وقمر ، وكلّ معلّم ومتعلّم شمس وقمر ، وفي عالم البرزخ وعالم المثال شموس وأقمار (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يعنى ان كنتم تحصرون العبادة فيه ، فانّ النّظر على الواسطة وجعله مسمّى مع انّه كان اسما امّا كفر أو شرك ، والنّظر على ذي الواسطة من مرآة الواسطة عبادة للمسمّى بإيقاع الأسماء عليه وتوحيد لذاته ولعبادته ، وهاهنا أحد مواضع السّجود الفرض الاربعة (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) صرف الخطاب عنهم الى نبيّه (ص) لانّ النّهى والأمر كانا للمشركين بالاشراك الصّورىّ الّذين كانوا يعبدون الشّمس والقمر ، أو للمشركين بالاشراك المعنوىّ الّذين كانوا يعبدون النّفس واهويتها ، أو الّذين كانوا يرون النّبىّ (ص) أو خليفته (ع) منفكّا عن الله تعالى ، أو الّذين كانوا يعبدون الملائكة وكانوا يرونهم غير الله ، وكان المناسب ان يكون الخطاب لهم حتّى يكون سببا لنشاطهم في الاستماع ، وهذا تسلية له (ص) عن حزنه على استكبارهم (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة المقرّبين الّذين لهم مقام العنديّة بالنّسبة اليه تعالى ومن الاناسىّ الكاملين الّذين حصل لهم مقام العنديّة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الإتيان باللّيل والنّهار قيدا لتسبيحهم دليل على ارادة الكمّلين من الاناسىّ (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) كناية عن يبسه وقراره (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) اهتزاز الأرض بهيجان حبوبها وعروقها لنبت النّبات وورق الأشجار (وَرَبَتْ) بالنّبات (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) بالنّبات بعد موتها عن النّبات (لَمُحْيِ الْمَوْتى) بالحيوة الشّريفة الانسانيّة بعد موتهم عن الحيوة الحيوانيّة بل عن الحيوة البشريّة عند النّفخة الاولى (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الاماتة والأحياء وغير ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما لمن يرى تلك الآيات وينصرف عنها بل يصرفها عن وجهها بالتّحريف والتّأويل واللّغو فيها والطّعن والرّدّ والاستهزاء بها؟ ـ فقال : انّ الّذين يميلون عن الاستقامة في الآيات (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) في مقام فيلقون في النّار لكنّه أتى بتلك العبارة اشارة الى هذا المعنى مع شيء آخر (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعيد شديد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) جملة لا يخفون خبر أو حال أو مستأنفة وجملة أفمن يلقى خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو مستأنفة والكلّ بتقدير القول وجملة اعملوا خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو مستأنفة والكلّ بتقدير القول وانّ الّذين كفروا تأكيد لقوله انّ الّذين يلحدون وخبر انّ محذوف بقرينة خبر انّ الاولى أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر والخبر محذوف بقرينة السّابق اى لا يخفون أو هم الّذين يلحدون أو الخبر قوله تعالى أولئك ينادون من مكان بعيد (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) مكرّم (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) اى من بعده بإتيان رسول وكتاب ينسخه أو من قبله بان يبطله الكتب الماضية مثل التّوراة والإنجيل (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) بالوجهين (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) في مقام التّعليل لعدم البطلان سواء كان خبر مبتدء محذوف والجملة مستأنفة أو حالا أو كان خبرا بعد خبر (ما يُقالُ لَكَ) جواب سؤال مقدّر كأنّ محمّدا (ص) قال : ما افعل بهم وبما يقولون


في حقّى أو في حقّ علىّ (ع)؟ ـ فقال تعالى تسلية له : ما يقال لك (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) فيغفر لهم كثير أقوالهم ولا يؤاخذهم بما يقولون فتأسّ بهم واغفر لهم (وَذُو عِقابٍ) فيؤاخذهم بمعاصيهم فلا تعجل لمؤاخذتهم (أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) كأنّهم قالوا بينهم أو لمحمّد (ص) : لو كان من عند الله لكان بلسان مغاير للسان البشر ، وقد قيل : انّه جواب لقولهم هلّا نزل هذا القرآن بلغة العجم؟ (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) يعنى لو لا نزلت بلغتنا حتّى نفهمه؟ (ءَ أَعْجَمِيٌ) يعنى لقالواءاعجمىّ؟ (وَ) المخاطب ، أو المنزل عليه (عَرَبِيٌ) والاعجمىّ هو الّذى لا يفهم كلامه ، ويقال لكلامه أيضا أعجميّ وقرئ أعجميّ بفتح العين وهمزة واحدة (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ) من حيث سماع المعنى والاعراض منه (وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) غير مفهوم لهم يقول للكلام الّذى لا يفهم معناه عمى ومعمّى (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعنى هذه الفرقة ينادون بهذا الكتاب من مكان بعيد لا يصل النّداء إليهم لانّ الكتاب نزل من مقام عال الى صدر منشرح بالإسلام وهؤلاء في غاية البعد من مقام الصدر المنشرح بالإسلام لو غولهم في البهيميّة والسّبعيّة والشّيطنة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بالرّدّ والقبول والعمل فيه وترك العمل والعمل ببعضه وترك بعضه كما اختلف قومك في كتابك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بالامهال الى مدّة معيّنة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) اى بين المختلفين من قوم موسى (ع) أو بين قومك (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من القرآن أو من كتاب موسى (ع) (مُرِيبٍ مَنْ عَمِلَ صالِحاً) اىّ صالح كان ، أو صالحا عظيما هو الولاية والبيعة الخاصّة (فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ) اى عمل سيّئة (فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) اى بذي ظلم يعنى لا يفعل بهم ما لا يستحقّونه.

الجزء الخامس والعشرون

بقية السورة حم السجدة (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) قد فسّر السّاعة بحين الموت وبالقيامة وبظهور القائم (ع) والكلّ واحد على التّحقيق وعلم ذلك مختصّ به تعالى وامّا قولهم (ع): عندنا علم البلايا والمنايا ، فهم في ذلك إلهيّون لا بشريّون (وَما تَخْرُجُ) ما موصولة معطوفة على علم السّاعة أو نافية والجملة معطوفة على جملة اليه يردّ علم السّاعة (مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) جمع الكمّ بالكسر وهو أو الكمامة وعاء الطّلع وغطاء النّور (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) وعلم من يعلم ذلك من افراد البشر من علمه تعالى (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) متعلّق بمحذوف اى اذكر أو ذكّرهم أو متعلّق بقالوا (أَيْنَ شُرَكائِي) الّذين جعلتموهم شركائى في الوجوب أو في العبادة أو في الطّاعة أو أين شركائى بحسب مظاهري وخلفائي من مقابلي علىّ (ع) (قالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك بضلالهم عنّا أو ببراءتنا منهم أو قوله تعالى (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) مفعولاه معلّق عنهما العامل والمعنى ما منّا شاهد يشهد لهم بالشّراكة ، أو ما منّا أحد يشاهدهم لضلالهم عنّا ، أو أنكروا اشراكهم وقالوا : ما كان أحد منّا يشهد بشركهم في الدّنيا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) من الأصنام والكواكب وائمّة الضّلال ومطلق الرّؤساء (وَظَنُّوا) اى أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) الجملة منقطعة عن سابقها لفظا ومعنى ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم ظنّوا ذلك؟


فقال : لانّ الإنسان لا يسأم (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) فلذلك ظنّوا انّهم لا محيص لهم (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وذلك لما تكرّر منّا انّ الخيال حين الاستيحاش وغلبة الهمّ يفرّ كالشّيطان ويظهر سلطان العقل فاذا رفع الخوف لا يدّعى الحكم للعقل ويظهر بانانيّته وينكر المبدء والمعاد كما هو شأنه وشأن الشّيطان ، ويظنّ انّه ان كان ما يقولون صادقا فالله لا يختار عليه غيره لكرامته عليه (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) كناية عن جزائهم بأعمالهم السّيّئة خلاف ما ظنّوه (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عنّا وعن شكر نعمنا (وَنَأى بِجانِبِهِ) اى نأى عنّا ومال الى جانبه بمعنى انّه ظهر بانانيّته ورؤية نفسه والاعجاب بها وظنّ انّ النّعمة باستحقاقها ونسي أنعامنا وانّ النّعمة عارية عليها لا مدخليّة لها فيها (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) لحفظ انانيّته ووجوده (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) قد مضى بيان هذه الكلمة في سورة الانعام عند قوله تعالى : قل أرأيتكم ان أتاكم عذاب الله (إِنْ كانَ) هذا الانعام أو الرّسول أو القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو نصب علىّ (ع) (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) في طرف من الله أو من الرّسول (ص) (بَعِيدٍ) الجملة جزاء الشّرط بتقدير القول أو بتقدير الفاء فقط أو الجزاء محذوف ومن اضلّ مستأنف (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) جواب لسؤال مقدّر ولمّا كان القرآن خوان إطعام الله وكان فيه وفي آياته طعام الا داني والا عالى والكافر والمؤمن والضّال والمهتدى كما يرى من تمسّك كلّ فرقة في مذهبهم به ، ونعم ما قيل :

منعم كامل چو خوانباشى بود

بر سر خوانش ز هر آشى بود

كان الآية بالنّسبة الى كلّ فرقة جوابا لسؤال غير ما للفرقة الاخرى فكأنّه قيل : بالنّسبة الى الجاحدين والمنكرين : متى يعترف هذه الفرقة؟ ـ فقال تعالى : سنريهم آياتنا (فِي الْآفاقِ) بالنّقص في أموالهم وأنفسهم بأنواع البلايا الّتى كانت خارجة من عاداتهم (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) بأنواع الأمراض والأوجاع (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) اى لمن لم يكن له استعداد التّوبة والسّعادة عند معاينة الموت ، ولمن كان له استعداد التّوبة قبل ذلك (أَنَّهُ الْحَقُ) فيتوب من يتوب ويشقى من يشقى ، وكأنّه قيل بالنّسبة الى الضّالين المتحيّرين في الله أو في الرّسالة أو في الولاية : متى يهتدون ويخرجون من التّحيّر والضّلال؟ ـ فقال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) الدّالّة على مبدء عليم قدير حكيم رؤف رحيم ، أو على صدق رسولنا (ص) ورسالته ، أو على الولىّ (ع) وولايته في الآفاق من الآيات السّابقة وجبران ما فات منهم ، وترتّب الفوائد الكثيرة على البلايا الواردة في الآفاق وفي أنفسهم ممّا ذكر سابقا وممّا يشاهدونها في المنام أو في اليقظة من تبدّلات أحوالهم ومن بسطاتهم وقبضاتهم وممّا القى في قلوبهم من العلوم والخوف والاستبشار حتّى يتبيّن لهم انّ الله حقّ أو الرّسول (ص) حقّ أو عليّا (ع) حقّ ، وكأنّه قيل بالنّسبة الى المسلم الّذى كان واقفا عن الولاية : متى يظهر عليهم حقيّة الولاية؟ ـ فقال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم انّ الله هو الحقّ المضاف الّذى هو علىّ (ع) ، وبالنّسبة الى المؤمن الّذى بايع البيعة الخاصّة الواقف عن مقام الحضور سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن بظهور ولىّ الأمر في صدورهم انّه الحقّ ، وبالنّسبة الى من كان له مقام الحضور عند ربّه قوله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) ولكون هذا لمن كان له مقام الحضور أتى بالخطاب عامّا أو خاصّا بمحمّد (ص) (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر أتى بعلى للاشارة الى


احاطته بكلّ شيء ولذلك قال (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) لمّا كان الله تعالى بحسب وجود ذاته بلا نهاية وليس له حدّ يحدّ وجوده ولا نهاية ينتهى إليها فلا بدّ ان لا يخرج من حيطة وجوده شيء من الأشياء فانّه لو خرج من وجوده ذرّة تحدّ به ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّاه ، ومن جزّاه فقد جهله ، ونعم ما قيل برهانا عليه :

اى خداى بى نهايت جز تو كيست

چون توئى بيحدّ وغايت جز تو كيست

هيچ چيز از بى نهايت بيشكى

چون برون نامد كجا ماند يكى

واحاطته بالأشياء ليست كاحاطة الظّرف بالمظروف أو المكان بالمتمكّن بل كاحاطة المقوّم بالمتقوّم ، فانّه مع كلّ شيء بالقيّوميّة وغير كلّ شيء بحسب حدوده.

سورة الشّورى

ثلاث وخمسون آية ، وقيل : خمسون آية مكّيّة ، وقيل : الّا قوله : والذين استجابوا

(الى قوله) لا يحبّ الظّالمين ، وقيل : الّا اربع آيات نزلن بالمدينة : قل لا اسألكم

عليه اجرا الّا المودّة في القربى (الى قوله) والكافرون لهم عذاب شديد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم عسق كَذلِكَ) الوحي الّذى أوحينا إليك قبل ذلك من اخبار المغيبات ومن الأحكام والمواعظ (يُوحِي إِلَيْكَ) بعد هذا الزّمان ، أو كذلك الوحي بالرّمز والحروف المقطّعة الّذى أوحينا إليك قبل ذلك يوحى إليك بعد ذلك ، أو كذلك الوحي المحفوف بأذى القوم وإنكارهم الّذى أوحينا إليك يوحى بعد ذلك ، أو كذلك الوحي باهلاك القوم وإسكان الأرض يوحى إليك (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) اى واوحى الى الّذين من قبلك وأتاه بطريق عطف المفرد للاغتفار في الثّوانى أو لتقدير المعطوف بقرينة المعطوف عليه ، وقرئ : يوحى بالبناء للفاعل ، وبالبناء للمفعول ، وإذا كان مبنيّا للمفعول فقوله تعالى (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يكون فاعل فعل محذوف أو مبتدء والجملة مستأنفة في موضع التّعليل وخبره العزيز أو الحكيم أو قوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والمعنى له السّماوات والأرض وما فيهما (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) من جهة فوقهنّ أو من فوق الأراضي (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ) عطف على السّماوات عطف المفرد ، ويسبّحون مستأنف أو عطف مع يسبّحون على اسم تكاد وخبره ، أو الجملة معطوفة على جملة (تَكادُ السَّماواتُ) (الى آخره) (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) يعنى لمؤمنى الأرض فانّهم عقلاء حقيقة وغيرهم ملحقون بالبهائم كما سبق


في سورة المؤمن عند قوله تعالى ويستغفرون للّذين آمنوا قال القمىّ ، للمؤمنين من الشّيعة التّوابين خاصّة ، ولفظ الآية عامّ والمعنى خاصّ ومراده بالتّوّابين التّوّابون في ضمن البيعة الخاصّة ، وعن الصّادق (ع) يستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين لانّ المؤمن الّذى بايع البيعة الخاصّة الولويّة يحصل في قلبه كيفيّة الهيّة هي بمنزلة الانفحة وبتلك الجوهرة الالهيّة يتوجّه اليه الملائكة السّماويّة ويحفّ به الملائكة الارضيّة ويطلبون ستر مساويه من الله ويسترون مساويه ويحفظونه من ظهور المساوى عنه ، وامّا غيره فلا التفات للملائكة السّماويّة اليه ويتنفّر عنه الملائكة الارضيّة فلا يحفّون به ولا يسترون مساويه (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جواب لسؤال مقدّر (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) اى أولياء حالكونهم غيره ، أو اتّخذوا من دون اذنه أولياء وعلى اىّ تقدير فالمقصود منهم مقابلوا المؤمنين الّذين اتّخذوا عليّا (ع) وليّا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) مقابل استغفار الملائكة للّذين بايعوا مع علىّ (ع) أو معنى حفيظ عليهم حافظ جميع أعمالهم على ضررهم ومن كان الله حافظا عليه لا يدع صغيرا ولا كبيرا من اعماله (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ) برسالتك (بِوَكِيلٍ) حتّى تحزن بخلافهم لك أو بعنادهم لعلىّ (ع) ، أو تحفظ عليهم أعمالهم ، أو تحفظهم عن المخالفة لعلىّ (ع) (وَكَذلِكَ) الوحي الّذى نوحى إليك في علىّ (ع) أو مطلقا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قبل (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلسان العرب لا بلسان العجم أو ذا حكمة وعلم ومواعظ واحكام ، لا اعرابيّا لم يكن فيه حكمة ومواعظ واحكام (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أهل امّ القرى (وَمَنْ حَوْلَها) من أهل الأرض جميعا ، فانّ تمام الأرض بالنّسبة الى عالم المثال تكون حول مكّة (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) لتنذر جميع الخلق من كلّ ما ينذر منه من أمور الدّنيا وأمور الآخرة وتنذر من يوم الجمع مخصوصا وهو يوم القيامة لاجتماع الخلائق فيه (لا رَيْبَ فِيهِ) قد مضى بيان عدم الرّيب في أمثاله في اوّل البقرة عند قوله تعالى لا ريب فيه (فَرِيقٌ) من المجتمعين (فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ) منهم (فِي السَّعِيرِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على دين واحد ومذهب واحد وارادة واحدة هي ارادة الطّاعة ولمّا كان مشيّته بحسب استعداداتهم ما شاء ذلك (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) بحسب استعداده (فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموره ويجذب خيراته (وَلا نَصِيرٍ) يدفع الضّرّ عنه وينصره في شدائده وقد مضى مكرّرا انّ النّبىّ (ص) بولايته ولىّ وبرسالته نصير ، وغيّر الأسلوب اشعارا بانّ الإدخال في الرّحمة من أوصافه تعالى الذّاتيّة وعقوبة الظّالم من عرضيّات رحمته الرّحمانيّة دون أوصافه الذّاتيّة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أم هاهنا بمعنى بل مع الهمزة أو مجرّدة عن الهمزة فلا يربحوا (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) لا ولىّ سواه (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) عن الحيوة الحيوانيّة أو الموتى عن الحيوة الانسانيّة الّتى هي الولاية التّكليفيّة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) اى ممّا يصدق عليه اسم الشّيء من امر الدّين أو من امر الدّنيا من المعاملات أو المعاشرات أو المناكحات أو التّوارث (فَحُكْمُهُ) راجع (إِلَى اللهِ) يعنى الحكم في ذلك الشّيء بكونه حقّا أو باطلا صحيحا أو فاسدا ينبغي ان يرجع فيه الى الله في الدّنيا بحسب مظاهره الّذين هم مظاهر الولاية وأصل الكلّ علىّ (ع) فانّه ليس عند أحدكم حقّ الّا ما خرج من ذلك البيت ولا يصل البشر الى مقام الغيب حتّى يكون الله يحكم بنفسه بينهم ، وينتهى حكم ذلك في الآخرة الى علىّ (ع) لانّ إياب الخلق اليه وهو قسيم الجنّة والنّار ، وامّا رجوعه الى كتاب الله بمعنى استنباط حكمه منه فممّا لا حاصل له لانّ الكتاب مجمل متشابه والرّجوع اليه من دون الرّجوع الى الامام المبيّن له غير مجد (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) حكاية لقول الرّسول (ع) اى قال الرّسول


لهم ، أو امر له (ص) بهذا القول بتقدير الأمر من القول اى قل لهم ، ذلكم الموصوف بهذه الأوصاف ربّى (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فيما تخوّفوننى به (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) في جميع أموري ، أو أنيب بذاتى في آخر أمري (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) هو من قول الرّسول (ص) أو ابتداء كلام من الله (وَمِنَ الْأَنْعامِ) الثّمانيّة كما مضى في سورة الانعام (أَزْواجاً) اى وخلق من الانعام أزواجا ذكرا وأنثى ، أو أزواجا اهلية ووحشيّة ، أو خلق لكم من الانعام أزواجا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) اى يكثّركم ويبثّكم في جعل الأزواج من أنفسكم والأزواج من الانعام وهذه الجملة أيضا من قول الرّسول (ص) أو من الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الكاف زائدة أو اسميّة وهي خبر ليس وحينئذ يكون الكلام مبالغة في نفى المماثلة لا انّه يكون اثباتا للمثل له وقد مضى في اوّل البقرة انّ الله تعالى وجود بحت وبسيط الحقيقة ، واقتضاء بساطته ان لا يكون له ثان والّا كان مركّبا وإذا لم يكن له ثان لم يكن له مثل ولا ضدّ (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بمنزلة النّتيجة لنفى المثل عنه لانّه إذا لم يكن له مثل فلم يكن سمع الّا كان سمعه ، ولا بصر الّا كان بصره ، والّا كان غيره سميعا وبصيرا مثله فيكون السّمع والبصر محصورا فيه (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المقلاد كالمفتاح والقلّيد كالسّكّيت الخزانة (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) على قدر استعداده (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم قدر استعداد كلّ واستحقاقه (شَرَعَ لَكُمْ) اى جعل لكم مشرعا وجادّة (مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الجمل السّابقة يحتمل كلّ منها كونه من قول الرّسول (ص) وكونه ابتداء كلام من الله كما أشرنا اليه وكان قوله تعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عطفا على (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) عطف المفرد ويجوز ان يكون مستأنفا من الله سواء جعلت الجمل السّابقة من الله أو من الرّسول (ص) ويكون حينئذ مبتدء وخبره ان أقيموا الدّين أو كبر على المشركين ويكون العائد مستترا في كبر وما تدعوهم اليه بدلا منه (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) ان تفسيريّة أو مصدريّة والدّين يطلق على الطّريق الى الله ، والطّريق الى الله تكوينا هي الولاية التّكوينيّة وتكليفا الولاية التّكليفيّة وقد فسّر بعلىّ (ع) وعلى الأعمال الّتى تعين السّالك على الطّريق في سيره ولذلك يسمّى الملّة دينا ، واقامة الدّين بوصل كلّ مرتبة من الطّريق الى المرتبة الاخرى وبوصل اعمال كلّ مرتبة منها الى اعمال المرتبة الاخرى نظير اقامة الصّلوة وقد مضى تفصيل اقامة الصّلوة في اوّل البقرة (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) في الدّين اى الأعمال اللّازمة للطّريق أو نفس الطّريق أو في علىّ (ع) وولايته بان اختار كلّ عملا وطريقا مغايرا لعمل الآخر وطريقه ، أو بان يكون كلّ له طرق عديدة واعمال مختلفة ، أو يكون في عمله اهوية عديدة وأغراض كثيرة (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) بالله أو بالولاية (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التّوحيد وحصر العبادة في الله أو من الولاية (اللهُ يَجْتَبِي) اى يولّى بالاجتباء (إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) فلا تحزن أنت على ادبارهم عن الله أو عن علىّ (ع) (وَيَهْدِي) اى يوصل أو يسلك (إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) من يرجع اليه ، عن الصّادق (ع) ان أقيموا قال الامام (ع) ولا تتفرّقوا فيه كناية عن أمير المؤمنين (ع) ما تدعوهم اليه من ولاية علىّ (ع) من يشاء كناية عن علىّ (ع) وبهذا المضمون وبالقرب منه اخبار كثيرة ، ولمّا كان القرآن ذا وجوه كثيرة كان هذا أحسن وجوهه (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بصحّة دين نبيّهم أو بصدق خلافة علىّ (ع) فقبل بعضهم عن علم ، وأنكر بعضهم حسدا (بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بإمهالهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بالإهلاك للمنكر والخلاص للمقرّ من بين المنكر


(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد الأنبياء (ع) وأممهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) وقد فسّر بغيا بينهم ببغى بعضهم على بعض لمّا رأوا من تفاضل أمير المؤمنين (ع) وقوله تعالى لفي شكّ منه مريب بانّه كناية عن الّذين نقضوا امر رسول الله (ص) (فَلِذلِكَ فَادْعُ) اى للدّين وإقامته ، أو لعلىّ (ع) وولايته واللّام بمعنى الى أو للتّعليل ، ويكون المعنى ادع جميع النّاس الى الشّريعة الّتى شرعتها لك لأجل الولاية فانّ الإسلام اى الشّريعة هداية الى الولاية ، ولو لم يكن الولاية لم يكن للإسلام فائدة ، وعن الصّادق (ع) يعنى الى ولاية أمير المؤمنين (ع) (وَاسْتَقِمْ) واعتدل وتمكّن في الدّين (كَما أُمِرْتَ) كاستقامة أمرت بها وهي الاستقامة في جميع المقامات وفيما فوق الإمكان وهو حقيقة الولاية ولعدم انضمام الامّة معه (ص) هاهنا لم يرد منه ما ورد في سورة هود من قوله : شيّبتنى سورة هود (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) في الدّين أو في ولاية أمير المؤمنين (ع) (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) في الأمم الماضية وفي هذا الزّمان حتّى يكون تعريضا بالايمان بكتاب ولاية علىّ (ع) وتعريضا بهم في عدم الايمان بولاية علىّ (ع) (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) ومن العدالة بينكم اقامة رجل منكم إماما لكم لرفع الخلاف بينكم بعد وفاتي واقامة عوجكم (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فما أقول لكم من الأمر والنّهى نفعه لكم وضرّه عليكم لا نفع ولا ضرّ منه علىّ حتّى تتّهمونى في ذلك (لا حُجَّةَ) لا محاجّة (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لظهور الحقّ وبرهانه وعدم الحاجة الى المحاجّة فهو بمنزلة المتاركة معهم (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) تهديد لهم بمحاكمة الله بينهم (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيحكم للمحقّ على المبطل (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) اى يحاجّون الله في علىّ (ع) بعد الموت أو في القيامة أو في عبادة الله ومعصيته بعد الموت أو في القيامة ، أو يحاجّون خلفاء الله والمؤمنين في حقّ الله اى في دينه أو في حقّيّته وثبوته أو في عبادته أو في الإشراك به أو في السّلوك اليه أو في توحيده أو في مظاهره يعنى في نبوّتهم وخلافتهم خصوصا في خلافة علىّ (ع) أو في إعادته ، وفي الجملة في جملة صفاته الحقيقيّة أو الاضافيّة وفي جملة أفعاله وفي مظاهره (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) في ندائه ونداء ملائكته للموت أو في ندائه في القيامة للحساب ، أو من بعد ما استجيب له في نداء خلفائه ودعوتهم وظهور حجّتهم وعدم بقاء الاشتباه في حقّيّتهم ، أو من بعد ما استجيب للنّبىّ (ص) دعاءه على الكافرين والمشركين بقتلهم يوم بدر وبقحط أهل مكّة وبنى مضر ، أو من بعد ما استجيب للنّبىّ (ص) في إعطاء المعجزات أو من بعد ما استجيب لأجل النّبىّ (ص) فانّ اليهود كانوا يستفتحون بمحمّد (ص) ويجابون في استفتاحهم (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اى باطلة (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لكونهم ظالمين في محاجّتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة والرّسالة أو كتاب الولاية والقرآن صورة الكلّ (بِالْحَقِ) بسبب الحقّ المخلوق به أو متلبّسا بالحقّ والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر وتسلية للرّسول في محاجّتهم كأنّه قيل : هل لهم ان يبطلوا الكتاب أو يمنعوا عليّا (ع) عن مقامه أو يبطلوا الدّين؟ ـ فقال تعالى : الله لا غيره هو الّذى انزل الكتاب بالحقّ فلا يأتيه البطلان (وَالْمِيزانَ) قد سبق في اوّل سورة الأعراف وفي سورة الأنبياء بيان اجمالىّ للوزن والميزان ، ولمّا كان المراد بالكتاب النّبوّة أو الرّسالة أو الولاية أو الكتاب التّدوينىّ الّذى هو صورة الكلّ أو الأحكام الملّيّة الّتى هي أيضا صورة الكلّ وكان كلّ منها ميزانا لوجود العباد وأعمالهم وأحوالهم وأخلاقهم وأقوالهم عطف على الكتاب الميزان (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فلا تحزن على عدم مؤاخذتهم ، والخطاب عامّ أو خاصّ بالنّبىّ (ص) وتعريض بالامّة وتهديد للكفّار ومنافقي الامّة ، ولجعل قريب شبيها بالفعيل بمعنى المفعول قد يسوّى فيه بين المذكّر والمؤنّث (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) اى لا يذعنون


فيسخرون منها ويستعجلون بها (وَالَّذِينَ آمَنُوا) اى أذعنوا بها والّذين أسلموا بالبيعة العامّة أو آمنوا بالبيعة الخاصّة (مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون منها لعلمهم بالحساب على الجليل والقليل فيها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) الثّابت (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) سواء أريد بالسّاعة ساعة ظهور القائم أو ساعة القيامة أو ساعة الرّجعة أو ساعة الموت (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) قيل : كانوا يقولون لرسول الله (ص) : أقم لنا السّاعة وائتنا بما تعدنا ان كنت من الصّادقين فردّ الله عليهم (اللهُ لَطِيفٌ) اى برّ (بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) العلم والفهم والايمان ويؤخّر عنهم السّاعة لعلّهم يتوبون ويتذكّرون فيعترفون (وَهُوَ الْقَوِيُ) الّذى بقدر على ما يشاء (الْعَزِيزُ) الّذى لا يمنعه مانع من فعله فتأخير مؤاخذتهم ليس لعجز ولا لمانع منه عن ذلك بل للطفه بهم (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فليس لمن سعى للآخرة أو للدّنيا شيء من سعيه؟ ـ فقال تعالى : من كان يريد بسعيه حرث الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أعطيناه بقدر سعيه وزدناه على سعيه (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) بقدر حرثه أو اقلّ منه فانّه لا يفيد في مقابل نزد له في حرثه أزيد من ذلك (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لانّه ما زرع للآخرة ، عن الصّادق (ع): المال والبنون حرث الدّنيا ، والعمل الصّالح حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لا قوام ، وعنه (ع): من أراد الحديث لمنفعة الدّنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ، ومن أراد خير الآخرة أعطاه الله خير الدّنيا والآخرة ، والاخبار في انّ من كان همّته الدّنيا بأعماله وأقواله فرّق الله عليه امره ، وشتّت باله وجعل الفقر بين عينيه ، ولم يأته من الدّنيا الّا ما كتب له ، ومن كانت همّته الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدّنيا وهي راغمة كثيرة ، وقيل للصّادق (ع): الله لطيف بعباده يرزق من يشاء؟ ـ قال : ولاية أمير المؤمنين (ع) ، قيل (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ؟) ـ قال : معرفة أمير المؤمنين (ع) والائمّة (ع) ، قيل نزد له في حرثه؟ ـ قال : نزيد ه منها يستوفي نصيبه من دولتهم و (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ، قال ليس له في دولة الحقّ مع الامام (ع) نصيب (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) لله يأمرونهم بخلاف ما يأمرهم الله (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) ممّا جعلوه ملّة من البحيرة والسّائبة وغير ذلك (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) كلمة الفصل هي اللّطيفة الانسانيّة الفاصلة للإنسان من سائر الحيوان وهي الولاية التّكوينيّة وهي ما به عناية الحقّ للإنسان وتكريمه له ويمهل الله الإنسان حتّى تظهر تلك اللّطيفة وتستكمل أو تذهب من الإنسان ويلتحق الإنسان بالانعام بل يصير اضلّ منها وإذا خرجت من الإنسان وانقطعت منه يصير الإنسان مرتدّا فطريّا غير مقبول التّوبة وواجب القتل بحسب احكام الشّرع ، وما ورد عن الباقر (ع) في تفسير الآية من قوله : لو لا ما تقدّم فيهم من الله عزّ ذكره ما أبقى القائم منهم أحدا ، ولعلّ المراد بالقائم هو خليفة الله القائم بأمره للعباد ، يؤيّد ما ذكرنا في تفسيره كلمة الفصل (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جملة حاليّة والمعنى انّ الظّالمين لآل محمّد (ص) في وجودهم وهم اللّطيفة المذكورة وكلّ من تولّد منها سواء كانوا ظالمين لآل محمّد (ص) في الخارج أو لم يكونوا لهم عذاب اليم في الدّنيا والحال الحاضر لكن لخدارة أعضائهم لا يشعرون به ، أو في الآخرة لكن لعدم تيقّنهم بالعذاب في الآخرة ظلموهم (تَرَى) في الحال أو سوف ترى في الآخرة والخطاب خاصّ بمحمّد (ص) أو عامّ (الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) من جزاء ما كسبوا من الأعمال أو من نفس ما كسبوا بناء على تجسّم الأعمال في الدّنيا كما هو حال بعض المذنبين أو في الآخرة كما هو حال الجميع (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) في الدّنيا


ولكن لا يشعرون به أو في الآخرة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) عطف على مفعولي ترى اى وترى الّذين آمنوا (الى آخرها) ، أو عطف على اسم انّ وخبرها ، أو على جملة انّ الظّالمين (الى آخرها) أو على جملة ترى الظّالمين أو على جملة هو واقع بهم (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الظّرف مستقرّ وحال عن فاعل يشاؤن أو عن الموصول أو عن مجرور لهم أو عن المستتر فيه أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدء محذوف ، أو متعلّق بيشاؤن أو بل هم (ذلِكَ) المذكور (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ) المذكور العظيم القدر البعيد المنزلة (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قد مضى مكرّرا انّ المراد في أمثال هذه العبارة بالايمان الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة ، أو نفس البيعة العامّة وبالعمل الصّالح الايمان الحاصل بالبيعة الخاصّة ، أو نفس البيعة الخاصّة ، أو المراد بالايمان الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة أو نفس تلك البيعة ، وبالعمل الصّالح العمل بشروط تلك البيعة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) اى على هذا الأمر الّذى انا فيه من تبليغ رسالة الله ودعائكم الى الايمان بالله (أَجْراً) منكم حتّى تتّهمونى بطلب الدّنيا في ادّعائى (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) الاستثناء متّصل والمودّة في القربى وان كانت نافعة لهم وتكميلا لنفوسهم ولكن باستكمالهم ينتفع النّبىّ لكونهم (ص) أجزاء له وسعة لوجوده فقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) اشارة الى كلا الانتفاعين حيث جعله اجرا له من حيث انتفاعه بمودّتهم لاستكمالهم بها وسعته (ص) باستكمالهم ، فما قيل : انّه استثناء منقطع ، ليس في محلّه ، والقربى مصدر قرب والمقصود المودّة في التّقرّب الى الله أو في حال قربكم من الله فيكون بمعنى الحبّ في الله أو المعنى التّحابّ في ما تقرّب الى الله من الأعمال ، أو المعنى لا أسألكم اجرا الّا ان تودّوني لأجل قرابتي منكم ، هكذا قيل ، ولكن ما وصل إلينا من ائمّتنا (ع) في اخبار كثيرة انّ المعنى لا أسألكم اجرا الّا ان تودّوا أقربائى ، فيكون القربى مصدرا بمعنى اسم الفاعل ، ويكون التّعبير بالمصدر للاشعار بانّ مودّة أقربائى نافع لكم من حيث قرابتهم لي جسمانيّة كانت القرابة أو روحانيّة ، وروى انّ رسول الله (ص) حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها : نأتى رسول الله (ص) فنقول له : انّه يعروك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك ، فأتوه في ذلك ، فنزلت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، فقرأها عليهم وقال : تودّون قرابتي من بعدي ، فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله فقال المنافقون : انّ هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك ان يذلّلنا لقرابته من بعده فنزلت : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتدّ عليهم فأنزل الله وهو الّذى يقبل التّوبة عن عباده (الآية) فأرسل في أثرهم فبشّرهم ، وبهذا المضمون وبالقرب منه اخبار كثيرة (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) قد مضى منّا مكرّرا انّ الحسن الحقيقىّ والحسنة الحقيقيّة هي الولاية لا غير ، وكلّما كان متعلّقا بالولاية من قول وفعل وحال وخلق وعلم وشهود وعيان فهو حسن بحسنها ، وكلّما لم يكن متعلّقا بالولاية كان قبيحا ولذلك فسّروا في اخبار كثيرة اقتراف الحسنة بولايتهم ومودّتهم سواء جعل التّنكير للتّفخيم أو للتّحقير (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) اى نزد له في تلك الحسنة حسنا لانّ الحسنة إذا حصل منها فعليّة حسنة للنّفس وبقي الفاعل على تلك الفعليّة ولم يبطلها ولم يحرقها زادها الله تعالى لانّ الكون باقتضاء ذاته في التّرقّى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ما كسب من سيّئة قبل تلك الحسنة (شَكُورٌ) واقتضاء شكوريّته الزّيادة في تلك الحسنة الى عشر الى ما شاء الله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) قد مضى وجه نزول هذه الآية (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) حتّى تفترى على الله فاشكر نعمة عدم الختم والإيحاء إليك فيكون إظهارا لمنّته عليه بشرح صدره وعدم ختمه ، أو المعنى


ان يشأ الله عدم إظهار فضل عترتك يختم على قبلك حتّى لا يوحى إليك فضل أهل بيتك فأظهر فضل أهل بيتك ولا تبال بردّهم وقبولهم فانّ الله حافظ لهم ومظهر لفضلهم ويكون تسلية له (ص) عن انكار قومه (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) فلو كان قول محمّد (ص) افتراء وباطلا لمحاه الله عن الايّام والحال انّه في ازدياد الثّبات في الايّام (وَيُحِقُّ الْحَقَ) فلو لم يكن قوله حقّا لما حقّ بكلماته التّكوينيّة الّتى هي افراد البشر ، أو المعنى انّه يمح الله الباطل فلا تحزن يا محمّد (ص) على ما قالوا من قولهم : لو أمات الله محمّدا (ص) لا ندع الأمر في أهل بيته ، أو المعنى انّه (يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) عن القلوب من الشّكّ والرّيب في أهل بيتك ويحقّ الحقّ الّذى هو ولاية أهل بيتك في القلوب في أمد الزّمان ، أو المعنى انّه يمح الله الباطل عن الزمان ويحقّ الحقّ الّذى هو علىّ (ع) والائمّة (ع) وولايتهم (بِكَلِماتِهِ) الّذين هم خلفاؤك بعدك (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما يلج في قلوب المنافقين من عداوتك وعداوة أهل بيتك (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) قد مضى وجه نزول الآية. اعلم انّ أكثر ما ورد من ذكر التّوبة في الكتاب كان المراد منها التّوبة الّتى تكون على أيدي خلفائه تعالى في ضمن الميثاق والبيعة ، والقابل لتلك التّوبة في الظّاهر هو خليفة الله الّذى يكون البيعة على يده لكنّه لمّا كان مظهرا لصفاته تعالى خصوصا حين أخذ البيعة من العباد نسب قبول التّوبة الى نفسه بطريق الحصر كما في قوله تعالى : فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) قرئ بالخطاب وبالغيبة (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اى يستجيبهم في دعائهم مطلقا ، أو في دعائهم لله ولقائه ، أو في دعائهم لإخوانهم بظهر الغيب كما في الخبر والمراد بالايمان الإسلام ، أو الايمان الخاصّ ، وعلى الاوّل فالمراد بالعمل الصّالح البيعة الخاصّة والايمان الخاصّ ، أو المعنى يستجيب الّذين آمنوا لله أو للنّبىّ (ص) في مودّة أقربائه (ص) (وَيَزِيدُهُمْ) على مسئولهم (مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ) بولاية علىّ (ع) (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) وللاشارة الى انّ عذاب الكافرين من لواحق أعمالهم ومن توابع مشيّته بالعرض غيّر الأسلوب (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) اعلم ، انّ النّفس الانسانيّة ليس اختيالها وظلمها وعداوتها مع خلق الله وعدولها عن الحقّ الّا لانانيّتها واعجابها بنفسها ، وكلّما قلّل حاجتها وزاد غناءها زاد في انانيّتها ، وكلّما زيد في انانيّتها زاد اعجابها بنفسها ولوازم اعجابها من تحقير العباد والعداوة مع من يظنّ انّه يريد الاستعلاء عليه والظّلم على من يقابله ولا يكون ملائما لحاله والعدول عن الحقّ ، وإذا بسط الله الرّزق النّباتىّ من المأكول والمشروب أو الرّزق الحيوانىّ من الشّهوات البهيميّة والبسطات السّبعيّة والاعتبارات الشّيطانيّة أو الرّزق الانسانىّ من الإلهامات والعلوم والحكم والمكاشفات الصّوريّة والمعنويّة على العباد عدوا على العباد وظلموهم وحقّروهم وعدلوا عن الحقّ فانّ الإنسان ما كان باقيا عليه شوب من نفسه كانت العلوم الصّوريّة مورثة لازدياد انانيّته وكذلك المشاهدات الصّوريّة والمكاشفات المعنويّة فانّ المذاهب الباطلة أكثرها تولّدت من المشاهدات الّتى كانت للنّاقصين كما سبق منّا تفصيل ذلك (وَلكِنْ يُنَزِّلُ) الأرزاق الثّلاثة على العباد (بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) يعنى ينزّل ما يشاء ان ينزّل بقدر استحقاق المنزّل عليه لانّه لا يشاء ما يشاء الّا بحسب حال من يشاء له وقوله لو بسط الله الرّزق (الى قوله) بصير لرفع توهّم نشأ من قوله تعالى يستجيب الّذين آمنوا فانّه يورث توهّم انّه لو كان هذا حقّا لكان ينبغي ان لا يكون من المؤمنين فقير محتاج مع انّ أكثر المؤمنين محتاجون في امر معيشتهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) تعليل لسابقه يعنى انّه يعلم قدر استحقاقهم وقدر ما يصلحهم وما يفسدهم فيعطى المؤمنين قدر ما يصلحهم ، والكافرين قدر ما يصلح العالم والنّظام الكلّىّ ، وقدر


ما يصلح المؤمنين فانّ من العباد من لا يصلحه الّا الفقر ومنهم من لا يصلحه الّا الغنى ولو أصبح المؤمن يملك ما بين المشرق والمغرب لكان خيرا له ، ولو أصبح يقطع اربا اربا لكان خيرا له (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) المطر النّافع الّذى يغيثهم من الجذب ولذلك سمّى غيثا والجملة في معنى التّعليل لقوله ينزّل بقدر (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) بيان لانزال الغيث وتسميته للمطر باسم آخر فانّه يسمّى المطر في العرف بالرّحمة لانّه رحمة من الله على العباد والحيوان والنّبات ، أو المراد مطلق الرّحمة سواء كانت مطرا أو غيره فيكون تعميما بعد التّخصيص (وَهُوَ الْوَلِيُ) الّذى يتولّى أمور عباده وسائر مخلوقاته فيربّيهم أحسن التّربية (الْحَمِيدُ) الّذى لا محمود سواه وكان محمودا في نفسه (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) فانّ في خلق السّماوات بهيئة خاصّة وحركة مخصوصة وكوكب ومدار خاصّ ، وفي خلق الأرض بسيطة قابلة لانحاء التّصرّف فيها من بناء الابنيّة وزرع الزّراعات وغرس الأشجار واجراء المياه على وجهها ، وقبولها تأثيرات السّماوات والسّماويّات ، وفي خلق المواليد على وجهها كلّ بنحو خاصّ لائق بنوعه وببقائه آيات عديدة دالّة على علمه بالجزئىّ والكلّىّ واحاطته وقدرته ورأفته بخلقه وغير ذلك (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) بمنزلة النّتيجة فانّ الّذى نشر هذه المواليد بعد ما لم تكن إذا شاء ان يجمعهم جمعهم وهو أسهل عليه من نشرهم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) عطف فيه أيضا رفع توهّم انّه لو كان ينشر رحمته وكان وليّا لعباده حميدا في صفاته فلم يصاب العباد بالمصائب (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا) برحمته وتربيته (عَنْ كَثِيرٍ) ممّا كسبت أيديكم وهل ذلك عامّ لكلّ من يصاب أو خاصّ ببعض والبعض الآخر مصيبته لرفع درجته لا لذنب وقع منه كما في الاخبار ، ويمكن التّعميم بتعميم الذّنب للذّنوب الّتى عدوّها في الشّريعة ذنوبا ولما يعدّ في الطّريق ذنوبا ولما يعدّ من المقرّبين ذنوبا ، فانّ خطرات القلوب ذنوب الأولياء (ع) ، والالتفات الى غير الله ذنوب الأنبياء (ع) ، مع انّهم كانوا مأمورين بالتّوجّه الى الكثرات ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل : أرأيت ما أصاب عليّا (ع) وأهل بيته (ع) من بعده؟ اهو بما كسبت أيديهم؟ وهم أهل بيت طهارة معصومون؟! فقال : انّ رسول الله (ص) كان يتوب الى الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مائة مرّة من غير ذنب ، انّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب ، وعن علىّ (ع) انّه قال : قال رسول الله (ص): خير آية في كتاب الله هذه الآية ، يا علىّ ما من خدش عود ولا نكبة قدم الّا بذنب ، وما عفا الله عنه في الدّنيا فهو أكرم من ان يعود فيه ، وما عاقب عليه في الدّنيا فهو اعدل من ان يثنّى على عبده (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قانتين عن الله (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قد مضى مكرّرا بيان الولىّ والنّصير (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ) قرئ بحذف الياء في الوصل والوقف اجراء للوصل بنيّة الوقف ، وقرئ بإثباتها فيهما ، وقرئ بحذفها في الوصل دون الوقف (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) العلم محرّكة الجبل الطّويل أو عامّ (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ) ثوابت (عَلى ظَهْرِهِ) اى ظهر البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لكلّ مؤمن كامل الايمان فانّ الايمان نصفان ، نصف صبر ونصف شكر ، ولاختفاء دلالة السّفن على علمه وقدرته وحكمته واعتنائه بخلقه واحتياجها في الدّلالة المذكورة الى تأمّل تام وتوجّه كامل الى الحقّ الاوّل بحيث يرى كلّ النّعم منه ويراه في انعامه قال لكلّ صبّار شكور (أَوْ يُوبِقْهُنَ) يهلكن بالاغراق وإهلاك اهلهنّ (بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) قرئ يعف بالجزم عطفا على يوبقهنّ اى ان شاء يوبقهنّ بإرسال الرّيح العاصف وان شاء يعف عن كثير ، وقرئ يعفو بالرّفع على الاستيناف ومعنى


ومعنى الاستدراك والمعنى لكنّه يعفو عن كثير (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) قرئ بالجزم وبالرّفع وهو واضح ، وقرئ بالنّصب بجعل الواو بمعنى مع ونصب الفعل بعده (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مخلص من العذاب (فَما أُوتِيتُمْ) عطف وتعقيب باعتبار الاخبار يعنى إذا علمتم ذلك فاعلموا انّ ما أوتيتم (مِنْ شَيْءٍ) من حيث انّكم من أبناء الدّنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ولا بقاء له ولا خلوص من شوب الآلام وخوف الزّوال (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ) لعدم شوبه بالآلام وخوف الزّوال (وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا) متعلّق بخير وأبقى ، أو خبر مبتدء محذوف اى ذلك للّذين آمنوا (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والمراد بالايمان الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة فيكون قوله وعلى ربّهم يتوكّلون اشارة الى الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) جمع الفاحشة الزّنا مخصوصا ، أو ما يشتدّ قبحه من الذّنوب ، أو كلّ ما نهى الله عزوجل عنه ، وعلى الاوّلين يكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به ، ويجوز ان يكون عطفا على الإثم وعلى كبائر الإثم ، وعلى الثّالث يكون مرادفا للاثم وعطفا عليه تأكيدا وقد سبق في سورة النّساء بيان الكبيرة والصّغيرة عند قوله : ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) هم مبتدء ويغفرون خبره والجملة جواب بحذف الفاء ، أو بجعل إذا خالية من معنى الشّرط ، أو لعدم حاجتها الى الفاء لضعف معنى الشّرطيّة فيها ، أو هم تأكيد للضّمير المتّصل أو فاعل غضبوا راجع الى النّاس وهم مفعول غضبوا بحذف الخافض اى إذا غضب النّاس عليهم يغفرون ، أو هم فاعل فعل محذوف والمذكور يفسّره (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) في دعوة خلفائه (ع) دعوة عامّة اسلاميّة أو دعوة خاصّة ايمانيّة ، أو الّذين استجابوا لربّهم المضاف وهو ربّهم في الولاية في دعوته الباطنة الى الولاية (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بعد قبول الولاية فانّ اقامة الصّلوة لا يتيسّر لأحد بدون قبول الولاية (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) اى أمرهم ذو شورى يعنى يستشيرون في أمورهم ولا يستبدّون بآرائهم لخروجهم من انانيّاتهم واعتماد كلّ على الآخر في طلب الخير وبيانه له (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قد مضى في اوّل البقرة بيان اقامة الصّلوة وكيفيّة الإنفاق وفي سورة النّساء عند قوله : لا تقربوا الصّلوة وأنتم سكارى بيان معاني الصّلوة (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) هم تأكيد للضّمير المنصوب ، أو مبتدء مثل هم يغفرون ، ولمّا كان الانظلام مذموما ومعدودا من الرّذائل ذكرهم بوصف الانتصار يعنى انّ شأنهم الانتصار ، وامّا العفو عن المسيء وترك الانتقام مع وجود قوّة المدافعة في المظلوم فليس انظلاما مذموما بل هو عفو ممدوح ، والانظلام ان لا يكون في المظلوم قوّة ثوران الغضب عند الظّلم ، ولمّا كان النّفس المنتصرة لا تقنع في الانتصار بقدر الظّلم بل تطلب الزّيادة على الجناية قال تعالى : تأديبا لعباده (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وسمّى الثّانية سيّئة للمشاكلة ، أو لانّها إساءة بالنّسبة الى الجاني يعنى لا تزيدوا في الانتصار عن المماثلة (فَمَنْ عَفا) عن المسيء بترك الانتقام بعد الاقتدار عليه ، والجملة معطوفة على جملة جزاء سيّئة سيّئة والفاء للتّرتيب في الاخبار يعنى إذا علمت انّ التّجاوز في الانتصار عن المماثلة ليس جزاء للسّيّئة بل كان ظلما فاعلم انّ من عفى (وَأَصْلَحَ) إساءة المسيء بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) غاية تفخيم للعفو حيث لا يوكّل اجره الى غيره (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) جواب سؤال مقدر كأنّه قيل : أيحبّ الله الظّالم فيأمر بالعفو عنه؟ ـ فقال : انّه لا يحبّ الظّالمين فلا يرغّب في العفو


حبّا لهم بل حبّا للمؤمنين بتعرّضهم للثّواب الجزيل ، أو تعليل لقوله ينتصرون أو لقوله جزاء سيّئة سيّئة أو لقوله فمن عفى وأصلح فأجره على الله اى لما يستفاد منه من التّرغيب على العفو كأنّه قال : انّ الانتقام نحو ظلم بالنّسبة الى القوّة العاقلة الّتى شأنها العفو فانّ شأنه شأن الله العفوّ الغفور ، وانّه لا يحبّ الظّالمين فاتركوا الانتقام واعفوا عن المسيء (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) عطف فيه رفع توهّم انّ المنتصر ظالم وغير محبوب فكان له مؤاخذة دنيويّة وعقوبة اخرويّة (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) لا في الدّنيا ولا في الآخرة (إِنَّمَا السَّبِيلُ) في الدّنيا بالمؤاخذة وفي الآخرة بالعقوبة (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) في العالم الصّغير أو الكبير (بِغَيْرِ الْحَقِ) والمنتصر وان كان ظالما بوجه على المسيء وعلى قوّته العاقلة لكنّه ظلم بالحقّ (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ) اى لكن من صبر عن الانتقام (وَغَفَرَ) بتطهير القلب عن الحقد على المسيء (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) اى الأمور الّتى ينبغي ان يعزم عليها لكونها من اجلّ الخصال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) استدراك اى ولكن من يضلل الله عن هاتين الخصلتين بالاقدام على الاقتصاص (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) سمّى عدم الوصول والاهتداء الى تينك الخصلتين ضلالا لانّه انحراف عن الكمال الانسانىّ الّذى هو الجادّة الى الله ، أو المعنى ومن يضلله الله بالجناية والظّلم على العباد بغير الحقّ (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) الخطاب خاصّ بمحمّد (ص) وحينئذ جاز ان يكون ترى للاستقبال وجاز ان يكون للحال فانّه يرى حالهم في الحال ، أو الخطاب عامّ وحينئذ يكون للاستقبال أو للحال بمعنى ينبغي ان ترى (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) اى على النّار قبل دخولهم النّار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) والخشوع من الذّلّ لا ينفع بخلاف الخشوع من الحبّ فانّه متى وجد نفع (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) الطّرف العين أو حركة جفنيها ، فان كان بمعنى العين فالمعنى من طرف خفىّ النّظر ، وان كان بمعنى حركة الجفنين فالمعنى ينظرون نظرا ناشئا من حركة خفيّة لاجفانهم والمقصود انّهم لغاية خوفهم ووحشتهم لا يقدرون على النّظر التّامّ الى النّار (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) التّأدية بالماضي لتحقّق وقوعه ان كان المراد انّهم يقولون يوم القيامة ذلك بعد ما رأوا الظّالمين في العذاب أو لكونه بالنّسبة الى محمّد (ص) ماضيا ، أو المعنى قال الّذين آمنوا في حال الحيوة الدّنيا بعد ما علموا بحال الظّالمين وسوء عاقبتهم (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا) يعنى انّ الخاسرين هؤلاء الظّالمون الّذين خسروا (أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) هذا من قول المؤمنين أو من الله (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) هذا أيضا من المؤمنين أو من الله (يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) الى الخير والنّجاة (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) هذا بمنزلة النّتيجة وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما نفعل حتّى لا نكون ظالمين؟ ـ فقال : استجيبوا لربّكم المطلق في دعوة مظاهره وخلفائه أو لربّكم المضاف الّذى هو ربّكم في الولاية (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) المراد باليوم البليّة والعذاب فانّه كثيرا ما يستعمل فيها ، أو المراد يوم الموت أو يوم القيامة ، والضّمير المجرور راجع الى صاحبه أو عذابه اى لا مردّ لصاحبه الى الدّنيا ، أو لعذابه عن اهله ، أو المعنى لا مردّ بتأخيره (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) يعنى لا تقدرون على إنكاره أو ما لكم من منكر ينكر ما حلّ بكم ويدفعه عنكم وينصركم


فيه (فَإِنْ أَعْرَضُوا) صرف الخطاب عنهم الى محمّد (ص) (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) يعنى لا تغتمّ باعراضهم لانّا ما أرسلناك عليهم حفيظا (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد بلّغت (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) نعمة دنيويّة أو نعمة اخرويّة من العلوم والإلهامات والمكاشفات (فَرِحَ بِها) اى بالرّحمة من حيث صورتها لا من حيث أنعامنا لانّ نفس الإنسان ما دامت حاكمة في وجوده لا تنظر الى المنعم وانعامه في النّعمة بل تنظر الى صورة النّعمة ونسبتها الى نفسها لا نسبتها الى المنعم والّا لم يفرح بصورة النّعمة بل بالمنعم أو يغتمّ بصورة النّعمة لاحتمال استدراجه تعالى بالنّعمة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) للنّعمة السّابقة ولا يتذكّرها ولا يشكرها ، وتكرار الإنسان للاشارة الى انّ ذلك من مقتضى خلقته ، ولا يخفى وجه تخالف الفقرتين فانّ الرّحمة لمّا كانت ذاتيّة لمشيّته تعالى أتى في جانبها بالتّأكيدات وبأداة التّحقيق ونسب اذاقتها الى نفسه ونسب الرّحمة أيضا الى نفسه ، وأتى في جانب المصيبة بأداة الشّكّ ولم يأت بالتّأكيد ولم ينسب المصيبة الى نفسه وجعل سبب وصولها إليهم ما كسبت أيديهم (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما لله في المصائب من صنع (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من خير وشرّ ورحمة ومصيبة (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) نكّر الإناث وعرّف الذّكور للاشارة الى انّ الإناث لتنفّر الاناسىّ منهنّ كأنّهنّ منكورات عند نفوسهم ، وانّ الذّكور لحبّهم لهم معهودون عندهم حاضرون في أذهانهم (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) يعنى يعطى لبعض الإناث فقط ، ولبعض الذّكور فقط ، ويجمع بينهما لبعض (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) فكلّ ذلك بإعطاء الله ومنعه لا بأسباب طبيعيّة كما يقوله الطّبيعىّ والّذين ينظرون الى الأسباب الطّبيعيّة (إِنَّهُ عَلِيمٌ) بصلاح كلّ وما يصلحه وما يفسده فيعطى ما يصلحه ويمنع ما يفسده (قَدِيرٌ) على ذلك سواء وافقه الأسباب الطّبيعيّة أم لم توافقه (وَما كانَ لِبَشَرٍ) ما ينبغي له وما كان في سجّيّته (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) لانّ البشريّة لتحدّدها بحدود كثيرة سفليّة لو سمعت كلام الله من دون تنزّله الى مقام البشريّة المحدودة لفنت وهلكت لانّه كالشّمس وحدود البشريّة كالفيء (إِلَّا وَحْياً) الوحي في اللّغة الاشارة والكتابة والمكتوب والرّسالة والإلهام والكلام الخفىّ وكلّما ألقيته الى غيرك لكنّ المراد معه هنا معنى اعمّ من الإلهام والكتابة اى الكتابة في الألواح الغيبيّة والرّسالة لكن رسالة الملك مثل جبرئيل (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) مثل تكلّمه مع موسى (ع) من الشّجرة ومثل تكلّمه مع محمّد (ص) ليلة ـ المعراج من وراء السّتر (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) اى الّا ان يرسل رسولا بشريّا (فَيُوحِيَ) ذلك الرّسول البشرىّ (بِإِذْنِهِ) اى يتكلّم مع سائر البشر بكلام خفىّ البطون جلّى الظّهور فانّ كلام ذلك الرّسول البشرىّ لكونه نائبا عن الله تعالى شأنه ومظهرا له كلام الله ، ولكلامه بمضمون ما ورد في الاخبار الكثيرة انّ حديثهم صعب مستصعب وسرّ مستسرّ ومقنّع بالسّرّ بطون خفيّة غاية الخفاء وظهر جلّى غاية الجلاء ، وقرئ يرسل ويوحى بالنّصب عطفا على وحيا بجعله تميزا أو مفعولا مطلقا من غير لفظ الفعل ، وقرءا بالرّفع عطفا على وحيا بجعله حالا بمعنى الفاعل (ما يَشاءُ) الرّسول أو الله تعالى أو ما يشاء ذلك البشر الّذى أرسل الله اليه بلسان استعداده (إِنَّهُ عَلِيٌ) فلا يقدر على سماع كلامه بشر دان (حَكِيمٌ) لا يدعهم من غير تكلّم معهم لاقتضاء حكمته إلقاء الحكم والمصالح إليهم واقتضائها جعل الوسائط في ذلك الإلقاء حتّى لا يهلكوا حين الإلقاء (وَكَذلِكَ) التّكلّم بالانحاء الثّلاثة (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) اى أرسلنا


(رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) اى روحا عظيما ناشئا من محض أمرنا من غير مداخلة مادّة فيه ، أو بعضا من عالم أمرنا والمراد به جبرئيل أو روح القدس الّذى هو أعظم من جبرائيل وميكائيل (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) المراد بالكتاب النّبوّة والرّسالة وأحكامهما وبالايمان الولاية وآثارها والقرآن صورة الثّلاثة (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) اى الكتاب أو الايمان أو المذكور منهما أو الرّوح الموحى إليك وقد فسّر بعلىّ (ع) ، فعن الباقر (ع) ولكن جعلناه نورا يعنى عليّا وعلىّ (ع) هو النّور هدى به من هدى من خلقه (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) سئل الصّادق (ع) عن العلم ، أهو شيء يتعلّمه العالم من أفواه الرّجال؟ أم في الكتاب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟ ـ قال : الأمر أعظم من ذلك وأوجب! اما سمعت قول الله عزوجل (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) ثمّ قال : بلى ، قد كان في حال لا يدرى ما الكتاب ولا الايمان حتّى بعث الله عزوجل الرّوح الّتى ذكر في الكتاب فلمّا أوحاها علم بها العلم والفهم وهي الرّوح الّتى يعطيها الله عزوجل من شاء فاذا أعطاها عبدا علّمه الفهم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعنى انّك برسالتك تهدى الى الولاية فانّ الرّسالة وقبولها هداية الى الايمان والولاية كما قال تعالى : قل لا تمنّوا علىّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم ان هداكم للايمان ان كنتم صادقين ؛ عن الباقر (ع) يعنى انّك تأمر بولاية علىّ (ع) وتدعو إليها وعلىّ (ع) هو الصّراط المستقيم (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وعنه (ع) يعنى عليّا انّه جعله خازنه على ما في السّموات وما في الأرض من شيء وائتمنه عليه ، ولعلّه (ع) ارجع الضّمير المجرور الى الصّراط ، أو فسّر الصّراط بعلىّ (ع) (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) اى تنتهي جميع الأمور اليه في الواقع ، أو تنتهي بلحاظ اللّاحظ اليه بمعنى انّه إذا نظر الى جزئىّ من جزئيّات الوجود ولو حظ مصدره ومصدر مصدره تنتهي المصادر كلّها الى الله فيكون مصدر الكلّ.

سورة الزّخرف

مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا آية واسئل من أرسلنا من رسلنا ، ثمان وثمانون آية ،

وقيل : تسع وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ) اى جعلنا ذلك الكتاب المبين الّذى لا رطب ولا يابس الّا فيه بحيث لا يعتريه ريب وشكّ ولا خفاء وإجمال وتشابه (قُرْآناً) مجموعا فيه جميع المطالب (عَرَبِيًّا) بلغة العرب أو ذا حكم وآداب واحكام ومواعظ ونصائح (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تصيرون باستماعه وتدبّره عقلاء ، أو تدركون ما فيه من المواعظ والحكم (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) وهو الكتاب المبين الّذى هو اللّوح المحفوظ المعبّر عنه في لسان الحكماء بالنّفس الكلّيّة ، أو هو القلم الا على فانّه بوجه قلم وبوجه كتاب وهو المسمّى في لسان الحكماء بالعقل الكلّىّ ، أو هو مقام المشيّة المعبّر عنها بنفس الرّحمان والاضافة الاشراقيّة فانّها بوجه اضافة الحقّ ، وبوجه فعله ، وبوجه


كلمته ، وبوجه كتابه وهي امّ جميع الكتب (لَدَيْنا لَعَلِيٌ) على الكلّ لا أعلى منه (حَكِيمٌ) ذو حكم أو محكم لا يتطرّق الخلل والشّكّ والرّيب والفساد اليه ، وعن الصّادق (ع): هو أمير المؤمنين (ع) في امّ الكتاب يعنى الفاتحة فانّه مكتوب فيها في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال : الصّراط المستقيم هو أمير المؤمنين (ع) ومعرفته ، ولا منافاة بين هذا الخبر وبين ما ذكرنا في تفسير الآية فانّ عليّا (ع) والقرآن في هذا العالم منفكّان والّا ففي العوالم العالية علىّ (ع) هو القرآن والقرآن هو علىّ (ع) ، كما انّ فاتحة الكتاب في العوالم العالية هي النّفوس الكلّيّة والعقول الكلّيّة وهي المشيّة الّتى بها تحقّق كلّ ذي حقيقة (أَفَنَضْرِبُ) الهمزة على التّقديم والتّأخير والمعنى جعلناه قرآنا عربيّا لتعقّلكم واستكمالكم فهل نضرب (عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) اى اعراضا ونصرفه الى غيركم ، أو المستفهم عنه مقدّر بعد الهمزة والمعنى أنهملكم ولا ندعوكم فنصرف عنكم القرآن (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) قرئ بفتح الهمزة بتقدير اللّام وبكسر الهمزة (وَكَمْ أَرْسَلْنا) يعنى لا تطمعوا في صرف الذّكر عنكم وعدم دعوتكم فانّا ما اهملنا الأمم الماضية مع انّهم كانوا اشدّ منكم إسرافا وعصيانا وأرسلنا فيهم رسلا ولمّا تجاوزوا الحدّ في العصيان أهلكناهم فاحذروا عن عذابنا وإهلاكنا ولا تتجاوزوا الحدّ في العصيان (مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما تستهزؤن أنتم ان كان الخطاب للمشركين ، ويجوز ان يكون الخطاب مصروفا الى محمّد (ص) ويكون المقصود تسليته والمعنى كما يستهزئ قومك بك (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) يجوز ان يكون الضّمير المجرور للاوّلين ، ويكون من تبعيضيّة أو تفضيليّة يعنى أهلكنا اشدّاءهم فليحذر الّذين يستهزؤن برسولنا ، أو أهلكنا الّذين كانوا اشدّ منهم فكيف بهم وبكم؟! ويجوز ان يكون لقوم محمّد (ص) وكان المقصود أهلكنا الاوّلين الّذين كانوا اشدّ من قومك فكيف بهم ان فعلوا مثل فعلهم؟! لكنّه ادّاه بهذه الصّورة لافادة هذا المعنى مع الاختصار (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) يعنى مضى صفة الاوّلين وقد بلغ النّوبة الى قومك أو مضى حكاية حال الاوّلين فيما أنزلنا إليك سابقا فليرجعوا اليه وليتدبّروا فيه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) فما لهم يقرّون بانّ الله خالق السّماوات والأرض ويشركون به ما خلقوهم ونحتوهم بأيديهم ، أو يشركون ما خلقه بيده (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) هذه الكلمة ضمّه الله الى ما حكاه منهم سواء جعل صفة للعزيز العليم أو خبرا لمحذوف فانّه قد يضمّ الحاكي شيئا من نفسه الى الحكاية ، أو هو أيضا جزء الحكاية ويكون الخطاب من بعضهم لبعض آخر (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها الى مقاصدكم ولا تتحيّرون في بيدائها (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى حاجاتكم ومقاصدكم ، أو لعلّكم تهتدون الى مبدئكم وصفاته من العلم والقدرة والرّأفة والتّدبير ، أو تهتدون الى إمامكم الّذى هو سبيل الى المقصد الكلّىّ الّذى هو الفوز بنعيم الآخرة فانّه لم يدع مقاصدكم الدّنيويّة الدّانية الّتى لا اعتناء بها بدون السّبيل الّذى يسلك إليها فكيف يدع المقصد الكلّىّ من غير سبيل (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو أو من السّحاب (ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ) التفات الى التّكلّم تجديدا لنشاط السّامع واشعارا بانّ إنبات النّبات بكيفيّات مخصوصة وتصويرات عديدة عجيبة وتوليدات غريبة ليس الّا من مبدء عليم قدير مباشر له فكأنّه صار في حكاية إنبات النّبات حاضرا عند السّامع مشهودا له بعد ما كان غائبا عنه (بَلْدَةً مَيْتاً) عن النّبات (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) من الأرض بعد موتكم فلم تستغربون الاعادة؟! (وَالَّذِي خَلَقَ


الْأَزْواجَ كُلَّها) اى أصناف المخلوقات (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) اى ظهور ما تركبون ، جمع الظّهور وافراد الضّمير المضاف اليه باعتبار اللّفظ والمعنى (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) يعنى انّ غاية جميع المخلوقات تذكّركم وشكركم له على انعام ما رأيتموه نعمة لكم (وَتَقُولُوا) يعنى تذكروا بقلوبكم وتقولوا بألسنتكم فانّ ألسنتكم مكلّفة بجريان كلمة الشّكر عليها (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) يعنى ان تنزّهوا الله من وسمة الحاجة الى المركوب والانتقال من مكان الى مكان وتذكّروه بنعمة تسخير المركوب ليكون شكرا (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) اقرن للأمر اطاقه وقوى ، واقرنه جعله في الحبل (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) يعنى انّ الغرض تذكّر النّعمة وشكر المنعم في النّعمة وتذكّر النّقلة العظيمة الّتى هي النّقلة من الدّنيا الى الآخرة (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) اى ولدا فانّه جزء من الوالد بحسب مادّته يعنى بعد ما اقرّوا بخالقيّته للسّماوات والأرضين جعلوا له من مخلوقاته ولدا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) بنعمة الحقّ وصفاته فيجري على لسانه ما لا يليق بمنعمه غفلة عن المنعم وصفاته (مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) يعنى ينبغي التّعجّب من حالهم حيث لم يقنعوا بان جعلوا له من عباده جزء وجعلوا اخسّ الأولاد له (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) اى بما ضرب الأسماع به حالكونه مثلا وشبيها ، أو من حيث كونه صفة وحكاية لحاله فانّ الولد مجانس للوالد وشبيه له وكأنّ التّأدية بهذه العبارة للاشارة الى انّهم لا يقولون انّ الله ولد حقيقة بل شبّهوا النّسبة بينه وبين الملائكة أو بين الجنّ بنسبة الوالد والولد (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) رجل كظيم ومكظوم مكروب ، أو هو كاظم لغيظه غير مظهر له أو ساكت (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) الم يتفكّروا وجعلوا من ينشّأو ويربّى في الزّينة ولدا له؟ أو من مبتدء خبر محذوف ، أو خبر مبتدء محذوف والمعنى اهو ادنى منكم ومن ينشّأو في الزّينة ولد له ومن يبارز في المحاربة ولد لكم؟ أو المعنى اهو ادنى منكم وولده من ينشّأو في الزّينة؟ (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) لدعواه وحجّته بل في الأغلب يتكلّم حين المخاصمة بما هو حجّة عليه ، وقرئ ينشّأو من الثّلاثىّ المجرّد مبنيّا للفاعل ، ومن التّفعيل ومن المفاعلة ومن الأفعال مبنيّا للمفعول (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) قرئ عباد الرّحمن وعبيد الرّحمن وعند الرّحمن بالنّون يعنى انّ قولهم الملائكة بنات الله متضمّن لقبائح عديدة ، الاوّل جعله مركّبا متجزّئا وليس الّا وصف ادنى الممكنات ، والثّانى نسبة التّوالد اليه وهو يستلزم الاحتياج ووجود المثل له وهو غنىّ على الإطلاق ، ولو كان له مثل لكان ممكنا مركّبا ، والثّالث نسبة امر اليه إذا نسب الى أنفسهم تغيّروا واسودّت وجوههم وهو يستلزم جعله ادنى وأهون من أنفسهم ، والرّابع جعل أضعف الأولاد ولدا له ، والخامس جعل الملائكة الّذين هم مكرمون على الله بوصف أرذل النّاس (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) فانّ الانوثة والذّكورة لا تعلمان الّا بالمشاهدة (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) الّتى شهدوا بها على الملائكة انّهم إناث (وَيُسْئَلُونَ) عن هذه الشّهادة يوم القيامة وهو تهديد لهم (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعنى انّهم قالوا هذه الكلمة من غير تصوّر لمعناها ومن غير علم بنسبتها ولذلك كانوا كاذبين وانّما أرادوا


بذلك الفرار من قبح عبادة غير الله ولم يعلموا انّ فاعليّة المشيّة أو سببيّتها للأشياء ليست بحيث يسلب الاختيار عنهم ويرفع القبح عن فعلهم (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل القرآن أو من هذا القول (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) يعنى ليس لهم علم تحقيقىّ بمعنى هذا القول ولا علم تقليدىّ وليس لهم سوى الخرص والخرص والتّخمين في باب العقائد مطرود عن باب الله وقد سبق في سورة الانعام بيان لهذه الآية عند قوله تعالى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (الآية) (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) اى على طريقة وملّة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) يعنى انّهم ما علموا تحقيقا ولا علموا تقليدا ممّن يصحّ تقليده بل قلّدوا آباءهم الّذين لا يجوز لهم تقليدهم ولذلك قال في موضع آخر : أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) تسلية له (ص) بانّ هذا كان ديدن النّاس قديما وجديدا وقد كان الأنبياء السّابقون (ع) مبتلين بأمثال هؤلاء ، وتخصيص المترفين بالذّكر لانّهم هم الّذين كانوا يعارضون الأنبياء والأولياء (ع) ، وامّا غيرهم فليس نظرهم الّا إليهم (قالَ) النّذير لهم (أَ) تقلّدون آباءكم (وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما قالوا؟ فقال تعالى : قالوا (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ولو كان أهدى ممّا وجدنا عليه آباءنا (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بأنواع النّقم الّتى ذكرنا بعضها لك (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : اذكر أو ذكّر إذ جعلوا لله من عباده جزء وجعلوا له بنات حتّى يتنبّهوا بقبحه واذكر إذ قالوا لو شاء الرّحمن ما عبدناهم ، وأظهر قبح هذا القول لهم حتّى يتنبّهوا ، واذكر إذ أرسلنا في كلّ قرية نذيرا فكذّبوه فأهلكناهم حتّى تتسلّى عن تكذيبهم ، واذكر إذ قالوا انّا وجدنا آباءنا على أمّة وأظهر قبح هذا القول لهم واذكر إذ قال إبراهيم (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) حتّى يكون أسوة لقومك في التّبرّى عن التّقليد لمن لا يجوز تقليده ، ويكون أسوة لهم في التّقليد ان أرادوا التّقليد فانّه جعل التّبرّى عن تقليد من لا يجوز تقليده كلمة باقية في عقبه ، ويكون أسوة لك في عدم الاعتناء بالقوم وشدّة إنكارهم ، وفي إظهار دعوتك وعدم الاعتداد بردّهم وقبولهم (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) الى ما هو بغية الإنسان (وَجَعَلَها) اى كلمة التّبرّى عن تقليد من لا يجوز تقليده أو جعل كلمة التّوحيد (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) اى ذرّيّته أو أمّته أو من يأتى في عقبه من ذرّيّته وذرّيّة أمّته (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من جهلهم الّذى كانوا مفطورين عليه وهؤلاء ممّن أتوا على عقبه فليأخذوا بتلك الكلمة وليرجعوا من جهلهم وتقليدهم لمن لا يجوز تقليده ، وقد فسّر تلك الكلمة الباقية في أخبارنا بالامامة وانّها باقية في عقب الحسين (ع) ، وفسّر قوله تعالى لعلّهم يرجعون برجوع الائمّة الى الدّنيا (بَلْ) ليس بقاؤهم على طريقتهم الباطلة لاعتمادهم على تقليد آباءهم وتمسّكهم به ولكن (مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) قريشا (وَآباءَهُمْ) بالتّمتّعات الحيوانيّة من غير منذر لهم من البلايا والمصائب ومن الأنبياء (ع) فسكنوا الى تلك التّمتّعات واطمأنّوا بها (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) اى الولاية (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر رسالته وصدقه فيها ، أو مظهر رسالته (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) المنذر عمّا اطمأنّوا به ورأوه مخالفا لما تمرّنوا عليه أنكروه وطلبوا ما اسندوا إنكارهم اليه و (قالُوا هذا) الّذى يدّعى انّه كتاب سماوىّ إلهىّ ، أو هذا الّذى يدّعيه من الرّسالة من الله ، أو هذا الّذى يظهر من خوارق العادات (سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ


وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) مكّة والطّائف (عَظِيمٍ) لمّا لم يروا عظمة وشرفا الّا ما هو بحسب الانظار الحسّيّة من الشّرافات الدّنيويّة من الحسب والنّسب والخدم والحشم وكثرة المال والأولاد ولم يكن لمحمّد (ص) شيء من ذلك أنكروا نزول الكتاب من الله عليه وقالوا : لو كان الله ينزل كتابا ويرسل رسولا فليرسل الى رجل شريف عظيم القدر كالوليد بن المغيرة بمكّة وعروة بن مسعود بالطّائف ولينزل الكتاب الى أحدهما ، لكنّهم لم يعلموا انّ الرّسالة منصب روحانىّ والشّرافة الصّوريّة لا تبلغ الرّجل الى ذلك المنصب ان لم تكن تمنعه منه (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) في الاستفهام واضافة الرّبّ الى محمّد (ص) دونهم انكار وتحقير لهم واستهزاء بهم (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يعنى انّ معيشتهم الّتى هي من مكسوباتهم ومحسوساتهم ولهم بحسب الظّاهر اختيار في تحصيلها لا صنع لهم فيها بل نحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون النّبوّة الّتى هي رحمة من الله غير محسوسة لهم ولا صنع ولا اختيار لهم فيها (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في المراتب الدّنيويّة والمناصب الظّاهرة (دَرَجاتٍ) فكيف نكل هذا المنصب العظيم الى آرائهم (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) السّخرىّ اسم مصدر من سخر به ومنه ، وهكذا السّخريّة والسّخرىّ بكسر السّين ، ولعلّه هاهنا من مادّة التّسخير واسم له بمعنى التّذليل (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من الأموال والأولاد والاعراض ، وفي خبر : الا ترى يا عبد الله كيف اغنى واحدا وقبّح صورته وكيف حسّن صورة واحد وأفقره ، وكيف شرّف واحدا وأفقره ، وكيف اغنى واحدا ووضعه؟! ثمّ ليس لهذا الغنىّ ان يقول : هلّا أضيف الى يساري جمال فلان ، ولا للجميل ان يقول : هلّا أضيف الى جمالي مال فلان ، ولا للشّريف ان يقول : هلّا أضيف الى شرفى مال فلان ، ولا للوضيع ان يقول : هلّا أضيف الى ضعتى شرف فلان ، ولكنّ الحكم لله يقسم كيف يشاء وهو حكيم في أفعاله كما هو محمود في اعماله ، وذلك قوله تعالى : وقالوا : لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، قال الله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يا محمّد (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فأحوجنا بعضهم الى بعض ، أحوج هذا الى مال ذلك ، وأحوج ذلك الى سلعة هذا والى خدمته فترى اجلّ الملوك واغنى الأغنياء محتاجا الى أفقر الفقراء في ضرب من الضّروب امّا سلعة معه ليست معه وامّا خدمة تصلح لما لا يتهيّأ لذلك الملك ان يستغنى الّا به ، وامّا باب من العلوم والحكم هو فقير الى ان يستفيدها من ذلك الفقير وهذا الفقير محتاج الى مال ذلك الملك الغنىّ ، وذلك الملك يحتاج الى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته ، ثمّ ليس للملك ان يقول : هلّا اجتمع الى مالي علم هذا الفقير ، ولا للفقير ان يقول : هلّا اجتمع الى رأيى وعلمي وما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنىّ (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) اى لو لا كراهة ذلك (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) بالتّوسعة في أموالهم حتّى يجعلوا سقف بيوتهم فضّة (وَمَعارِجَ) من فضّة (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) السّطوح (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً) من فضّة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً) زينة من غير ذلك يعنى لو لا ان يكونوا كلّهم كفّارا لجعلنا ذلك لانّ الكافر مخذول منّا ومكروه لنا ولم نرد منه توجّهه إلينا ، ولو لا مراعاة حال من في وجوده استعداد الايمان لوسّعنا عليه في دنياه بحيث لا يغتمّ آنا بشيء من دنياه حتّى لا يتوجّه إلينا ولكن لمراعاة حال المستعدّين للايمان جعلنا في الكفّار غنى وفقرا كما انّ في المؤمنين غنى وفقرا ، وعن الصّادق (ع) قال الله عزوجل : لو لا ان يجد عبدي المؤمن في نفسه (١) لعصّبت الكافر بعصابة من ذهب ، وعن النّبىّ (ص): يا معشر المساكين طيبوا وأعطوا الله الرّضا من قلوبكم يثبّتكم الله عزوجل على فقركم فان

__________________

(١) اى كراهة منّى.


لم تفعلوا فلا ثواب لكم ، وعنه (ع) قال : ما كان من ولد آدم (ع) مؤمن الّا فقيرا ولا كافرا الّا غنيّا حتّى جاء إبراهيم (ع) فقال : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) فصيّر الله في هؤلاء أموالا وحاجة ، وفي هؤلاء أموالا وحاجة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ) المذكور من سقف الفضّة ومعارجها وأبوابها وسررها وزخرف البيوت (لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) قرئ لمّا بالتّشديد فيكون ان نافية ولمّا استثنائيّة ، وقرئت بالتّخفيف فان مخفّفة واللّام فارقة وما زائدة أو موصولة أو موصوفة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) من متاع الحيوة الدّنيا كأنّ غيرهم لا آخرة لهم ، وبأمثال هذه الآية توسّل من قال غير المؤمنين أو غير من له عقل مجرّد إذا مات فات ولا بقاء له في الآخرة ، وليس كذلك ، لانّ التّحقيق انّ مطلق الحيوان له بقاء في الآخرة لتجرّد خياله وعدم انطباعه وهذا القدر من التّجرّد يكفى في البقاء بعد خراب البدن (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) اعلم ، انّ الولاية السّارية في جميع الموجودات تكوينا حقيقة ذكر الله ، وكذلك الولاية الجارية على الإنسان وبنى الجانّ تكليفا ، ولذلك أضاف الذّكر الى الرّحمن وصاحب الولاية المتحقّق بها أيضا ذكر ولذلك كان رؤيته مذكّرا كما عن عيسى (ع) في جواب الحواريّين حين قالوا : من نجالس يا روح الله؟ ـ قال : من يذكّركم الله رؤيته ، ثمّ الذّكر المأخوذ من صاحب الولاية ذكر الله ثمّ الفكر الحاصل من الذّكر المأخوذ من صاحب الولاية وان كان الفكر أكمل في الذّكريّة من الذّكر المأخوذ ثمّ تذكّر الله في الخاطر ثمّ تذكّر امره ونهيه عند الفعال ، ثمّ الذّكر اللّسانىّ من التّلهيل والتّسبيح والتّحميد وغيرها ثمّ كلّ ما يذكّرك الله اىّ شيء كان ، والمقصود انّ من يعمى عن الولاية وعن ولىّ الأمر فانّ العمى عن الولاية يورث العمى عن جميع أقسام الذّكر (نُقَيِّضْ) نسبّب ونقدّر (لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يمنعه عن الانسانيّة والسّلوك على طريقها ويجرّه الى البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة ويسلكه على طريقها الى النّار ، وممّا روى من الأكابر : من لم يكن له شيخ اى ولىّ يتولّاه بالبيعة الخاصّة تمكّن الشّيطان من عنقه ، ومن تمكّن الشّيطان من عنقه لا يرجى له خير ، ولا نجاة له من السّعير ، وعن أمير المؤمنين (ع): من تصدّى بالإثم اعشى (١) عن ذكر الله تعالى ، ومن ترك الأخذ عمّن امر الله بطاعته قيّض له شيطان فهو له قرين (وَإِنَّهُمْ) اى الشّياطين القرناء للعاشين (لَيَصُدُّونَهُمْ) اى العاشين (عَنِ السَّبِيلِ) الّذى ينبغي ان يسلكه الإنسان وهو الولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة ، ولمّا كان أغلب خطابات القرآن غير خالية من الاشارة الى الولاية وقبولها وردّها فمعنى الآية انّ من يعش عن علىّ (ع) وولايته نقيّض له شيطانا وانّهم يعنى الشّيطان واتباعه ليصدّون العاشين عن علىّ (ع) وولايته (وَيَحْسَبُونَ) اى الشّياطين أو العاشون أو المجموع (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) والحال انّهم ضالّون مصدودون عن الطّريق (حَتَّى إِذا جاءَنا) اى العاشى وقرئ جاءانا على التّثنية (قالَ) العاشى للشّيطان (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) اى المشرق والمغرب (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) لمّا رأى انّه صدّه عن الولاية وبواسطة صدوده عن الولاية هلك ودخل النّار تمنّى ان لم يكن هو قرينا له (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) فاعل ينفعكم التّمنّى المستفاد من قوله : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين أو إذ ظلمتم على ان يكون إذ اسما خالصا ، أو انّكم في العذاب ولفظة إذ اسم خالص فاعل ، أو للتّعليل على ان تكون حرفا إذا أفادت التّعليل وانّكم للتّعليل أو فاعل لن ينفعكم ، وقرئ انّكم بكسر الهمزة جوابا لسؤال مقدّر في مقام التّعليل ، روى عن الباقر (ع) انّه نزلت هاتان الآيتان هكذا حتّى إذا جاءانا يعنى فلانا وفلانا يقول أحدهما لصاحبه حين يراه : يا ليتني بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين فقال الله لنبيّه (ص) : قل لفلان وفلان واتباعهما : لن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم آل محمّد حقّهم انّكم

__________________

(١) عشى يعشى عشا ساء بصره باللّيل والنّهار واعشى عن شيء أعرض وصدر عنه الى غيره.


في العذاب مشتركون فقوله لن ينفعكم بتقدير القول سواء جعل التّقدير قل يا محمّد (ص) لن ينفعكم ، أو يقول الملائكة ، أو يقول الله (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) يعنى إذا كان الله يمدّ العمى ويقيّض له شيطانا فهل أنت تقدر ان تسمع الصّمّ (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف عطف السّبب على المسبّب والمجمل على المفصّل (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) روى انّه (ص) ارى ما يلقى عترته من أمّته بعده فما زال منقبضا ولم ينبسط ضاحكا حتّى لقى الله تعالى ، وروى جابر بن عبد الله الانصارىّ قال : انّى لأدناهم من رسول الله (ص) في حجّة الوداع بمنى قال لألقينّكم ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، وايم الله لئن فعلتموها لتعرّفني في الكتيبة الّتى تضاربكم ثمّ التفت الى خلفه فقال : أو علىّ ، ثلاث مرّات فرأينا انّ جبرئيل غمزه ، فانزل الله على اثر ذلك فامّا نذهبنّ بك فانّا منهم منتقمون بعلىّ بن ابى طالب (ع) ، وعن الصّادق (ع) فامّا نذهبنّ بك يا محمّد (ص) من مكّة الى المدينة فانّا رادّوك إليها ومنتقمون منهم بعلىّ بن ابى طالب (ع) (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) يعنى لا تحزن على ما قالوا في حقّ أهل بيتك وعلى ما سيفعلونه بعدك واستمسك بالّذى اوحى إليك في علىّ (ع) أو في أهل بيتك (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو صراط الولاية ، ومن كان على صراط مستقيم لا يبال بما قيل أو يقال ، أو فعل أو يفعل به ، وعن الباقر (ع) انّك على ولاية عليّ (ع) ، وعليّ (ع) هو الصّراط المستقيم ، أو المعنى فاستمسك بالّذى القى إليك من ولاية عليّ (ع) انّك بهذا الإلقاء على صراط مستقيم (وَإِنَّهُ) اى ما اوحى إليك أو الصّراط المستقيم أو علىّ (ع) (لَذِكْرٌ لَكَ) أو لشرف لك أو لذكرك الله فانّه ذكر الله حقيقة وسبب تذكّر الله ، أو ذكر الله لك ولا شرف أشرف من ان يذكّرك الله (وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عنه فانّه النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون ، والنّعيم الّذى تسألون عنه (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) المفعول الاوّل محذوف ومن أرسلنا مفعول ثان اى اسئل النّاس وأهل الخبرة والعلماء باخبار الماضين وسيرهم عن حال من أرسلنا قبلك ، أو من مفعول اوّل وقوله اجعلنا في مقام المفعول الثّانى يعنى اسئل الرّسل الماضين (ع) فانّهم ان كانوا غائبين عن الانظار البشريّة فهم غير غائبين عن نظرك ، وورد في اخبار كثيرة انّه (ص) أرى ليلة المعراج جميع الأنبياء (ع) وهم قد صلّوا خلفه في بيت المقدّس أو في السّماء فانزل الله تعالى هذه الآية عليه ، فعن الباقر (ع) انّه سئل عن هذه الآية من ذا الّذى سأله محمّد (ص) وكان بينه وبين عيسى (ع) خمس مائة سنة فتلا هذه الآية : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) ، قال : فكان من الآيات الّتى أراها الله محمّدا (ص) حين اسرى به الى البيت المقدّس ان حشر الله له الاوّلين والآخرين من النّبيّين والمرسلين (ع) ثمّ امر جبرئيل فاذّن شفعا واقام شفعا ثمّ قال في إقامته : حىّ على خير العمل ، ثمّ تقدّم محمّد (ص) فصلّى بالقوم فانزل الله عليه واسئل من أرسلنا (الآية) فقال لهم رسول الله (ص) : على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ ـ فقالوا : نشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له ، وانّك لرسول الله (ص) أخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) عطف فيه تسلية لرسول الله (ص) وحمل له على الصّبر على أذى القوم (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزؤا بها مقام ان ينقادوا لها ويخافوا من الله ويصدّقوا رسوله (ع) بها (وَما نُرِيهِمْ


مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) بالقحط والرّجز والطّوفان والجراد والقمّل (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من غيّهم ويصدّقون رسولنا (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) نادوه بهذا الاسم تعظيما له لانّ السّحر كان له قدر عظيم عندهم ، أو لانّ السّاحر كان اسما لكلّ عالم ماهر ، وقيل : انّما قالوا ذلك استهزاء بموسى (ع) فانّهم لغاية حمقهم وشدّة عنادهم ما تركوا الاستهزاء به في حال الشّدّة والابتلاء ، وقيل : انّ السّاحر من سحر بمعنى غلب في السّحر والمعنى يا ايّها الّذى ساحرنا فغلبنا بسحره (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) يعنى ان كشفت عنّا فانّا آمنون بك كما مضى الآية في سورة الأعراف وقد مضى بيانها أيضا (فَلَمَّا كَشَفْنا) اى فدعا موسى (ع) فكشفنا فلمّا كشفنا (عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ينقضون يعنى كلّما عذّبناهم بعذاب قالوا ذلك وكلّما كشفنا عنهم نقضوا عهدهم (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) يعنى بعد ما كشفنا عنهم العذاب خاف فرعون على ملكه وخاف ان يقرّ بموسى بعض أهل مملكته فجمع النّاس وخطبهم وموّه عليهم بإظهار حسن حاله في الدّنيا ورثاثة حال موسى (ع) فيها (قالَ يا قَوْمِ) لا تبالوا بموسى وما رأيتموه منه من كشف العذاب فانّى ابسط منه يدا وأكثر مالا وأقوى تصرّفا (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) اشارة الى بسط يده في البلاد (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) اى أنهار النّيل ، قيل : كان معظمها اربعة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) اى من تحت قصرى أو من تحت أمري فانّهم كانوا معتقدين انّ النّيل يجرى بأمره (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) بهذه الأموال والجمال وحسن الحال وحسن الصّورة وحسن السّيرة وكثرة البسطة والسّعة (مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) حقير ليس له شيء من هذا الّذى ترونه علىّ (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الكلام ويقرّر المرام يعنى انّه مهين بحسب البسطة والسّعة والزّينة ، ومهين بحسب حاله في نفسه فانّه لا يقدر على أداء الكلام ، وأم منقطعة مجرّدة عن الهمزة ، أو متضمّنة لها ، أو متّصلة والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) قيل : كانوا إذا سوّروا رجلا سوّروه وطوّقوه بسوار وطوق من ذهب ، موّه عليهم وقاس السّيادة من الله بالسّيادة من الخلق وقال : إذا كان رسولا ونائبا من الله فلم لا يلقى عليه من الله اسورة من ذهب حتّى يكون علامة لسيادته ، وقرئ : القى مبنيّا للمفعول ، واسورة مرفوعا ومبنيّا للفاعل ، واسورة منصوبا ، وقرئ : اسورة واساورة واساوير وأساور (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) اى مصطفّين فانّه يقول : انّ لله الّذى يدّعى الرّسالة منه ملائكة كثيرة فان كان صادقا في رسالته من الله الموصوف بما وصف فليكن صفوف من الملائكة معه ليكونوا جنوده ، ومعينين له في أموره ، وحافظين له عن الواردات والأعداء (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) اى طلب منهم الخفّة والسّرعة في خدماته بهذه التّمويهات أو فاستخفّ أحلامهم (فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونا) أحزنونا ، أسف كفرح حزن اشدّ الحزن ، وأسف عليه غضب ، وباىّ معنى كان لا يكون لائقا بشأن الله ، ولذلك ورد عن الصّادق (ع): انّ الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا ولكنّه خلق أولياءه لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه وذلك لانّه جعلهم الدّعاة اليه والادلّاء عليه فلذلك صاروا كذلك وليس ان ذلك يصل الى الله كما يصل الى خلقه ولكن هذا معنى ما قال من ذلك وقال أيضا : من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها ، وقال أيضا : من يطع الرّسول فقد أطاع الله وقال أيضا (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) وكلّ هذه وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرّضا والغضب وغيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك ، ولو كان يصل الى المكوّن الأسف والضّجر وهو الّذى أحدثهما وانشأهما لجاز لقائل ان يقول : انّ المكوّن يبيد يوما ، لانّه إذا دخله الضّجر والغضب


دخله التّغيّر ، وإذا دخله التّغيّر لم يؤمن عليه بالابادة ، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف المكوّن من المكوّن ، ولا القادر من المقدور ولا الخالق من المخلوق ، تعالى الله عن هذا القول علوّا كبيرا ، هو الخالق للأشياء لا لحاجة فاذا كان لا لحاجة استحال الحدّ والكيف فيه ، فافهم ذلك ان شاء الله (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) متقدّمين ليتّعظوا بهم ويعتبروا بأفعالهم وما لهم وما عليهم وهو مصدر وصف به ، أو جمع للسّالف كالخدم للخادم وقرئ سلفا بضمّ السّين واللّام جمعا للسّليف كالرّغيف ، أو للسّالف أو للسّلف كالخشب ، وقرئ بضمّ السّين وفتح اللّام على انّه مخفّف سلف بالضّمّتين ، أو جمع سلفة بمعنى السّالفين ، (وَمَثَلاً) المثل في الأصل بمعنى الشّبيه لكنّه جعل بالغلبة اسما لأمر غريب سلف يشبّه به كلّ امر حادث فيه غرابة يعنى جعلناهم بحيث يضرب بهم الأمثال لكلّ من فعل فعلا قبيحا يقع بسببه في بليّة (لِلْآخِرِينَ) اى الآتين على عقبهم (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) لعلىّ بن ابى طالب (ع) اى لمّا اجرى ابن مريم حالكونه مشبّها به لعلىّ بن ابى طالب (ع) كما ذكر في اخبار كثيرة (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ) اى من علىّ (ع) أو من هذا التّشبيه (يَصِدُّونَ) يضجّون أو يعرضون أو يمنعون وقرئ يصدّون بضمّ الصّاد وبكسرها ، وعن النّبىّ (ص) انّه قال : الصّدود في العربيّة الضّحك هذا ما وصل إلينا في اخبار كثيرة نشير الى شطر منها ، وقيل : معناه ولمّا ضرب ابن مريم مثلا وشبيها بالآلهة في العذاب فانّه لمّا نزل انّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم ، قال المشركون : قد رضينا بان تكون آلهتنا حيث يكون عيسى (ع) ومعنى إذا قومك منه يصدّون يضجّون نحو ضجيج المجادلين حيث خاصموك في تمثيلهم لعيسى (ع) بآلهتهم ، وقيل : لمّا ضرب الله المسيح مثلا بآدم (ع) في قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) خاصم بعض قريش النّبىّ (ص) فنزلت ، وقيل : لمّا مدح النّبىّ (ص) المسيح (ع) قالوا : انّ محمّدا (ص) يريد ان نعبده كما عبدت النّصارى عيسى (ع) ، وروى بينا رسول الله (ص) ذات يوم جالس إذ اقبل أمير المؤمنين (ع) فقال له رسول الله (ص) : انّ فيك شبها من عيسى بن مريم (ع) ، لو لا ان تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى بن مريم (ع) لقلت فيك قولا لا تمرّ بملاء من النّاس الّا أخذوا التّراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة ، قال : فغضب الاعرابيّان والمغيرة بن شعبة وعدّة من قريش معهم فقالوا : ما رضى ان يضرب لابن عمّه مثلا الّا عيسى بن مريم ..! فأنزل الله على نبيّه ولمّا ضرب ابن مريم مثلا (الى قوله) لجعلنا منكم يعنى من بنى هاشم ملائكة في الأرض يخلفون ، وبهذا المضمون باختلاف يسير في اللّفظ اخبار كثيرة (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) اى عيسى يعنى انّ عيسى (ع) خير من آلهتنا فاذا كان هو في النّار فرضينا ان يكون آلهتنا في النّار ، أو هو كناية عن محمّد (ص) فانّهم قالوا : يريد ان نعبده كما عبد النّصارى المسيح ، وآلهتنا خير منه وهو ينهانا من عبادتها ، أو المعنىءآلهتنا خير أم المسيح وكان مرادهم الزام محمّد (ص) فانّه لمّا مدح المسيح أرادوا ان يقولوا : ان كان عبادة غير الله جائزا ظنّا منهم انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مدحه لعيسى يجوّز عبادة النّصارى له فليجز عبادة آلهتنا ، أو المراد آلهتنا خير أم علىّ (ع)؟! وهو يمثّل عليّا بعيسى (ع) (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) اى لأجل المجادلة معك (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) كثير المخاصمة ولذلك يخاصمونك (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ) اى ان علىّ (ع) أو محمّد (ص) أو عيسى (ع) ولكن في أخبارنا ان علىّ (ع) الّا عبد (أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) متمثّلا ومتصوّرا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) بصورة عيسى بن مريم ، أو جعلناه شبيها بعيسى (ع) لانتفاع بنى إسرائيل الّذين هم أولاد الأنبياء (ع) بحسب الجسم أو الرّوح


أو جعلناه حجّة لبني إسرائيل ، وعن الصّادق (ع) في دعاء يوم الغدير : فقد أجبنا داعيك النّذير المنذر محمّدا (ص) عبدك ورسولك الى علىّ بن ابى طالب (ع) الّذى أنعمت عليه وجعلته مثلا لبني إسرائيل انّه أمير المؤمنين (ع) ومولاهم ووليّهم الى يوم القيامة يوم الدّين فانّك قلت : ان هو الّا عبد أنعمنا وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (وَلَوْ نَشاءُ) يعنى انّهم يضجّون بان شبّهت عليّا بعيسى (ع) فلو نشاء (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) يعنى لو نشاء لجعلناكم اعزّ من ان تشبّهوا بعيسى فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون لله في الأرض ، أو يخلفونكم في الأرض ، أو لولّدنا منكم ملائكة ، أو لجعلنا بدلا منكم ملائكة ، أو لجعلنا ظاهرين وخارجين من وجودكم الى خارج وجودكم ملائكة كما كان يظهر من محمّد (ص) جبرئيل (ع) بحيث كان قد يراه من كان قرينا له (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ) اى انّ عليّا (ع) لعلم وامارة علم (لِلسَّاعَةِ) وقرئ علم بالتّحريك اى امارة فانّ عليّا (ع) بولايته من أمارات السّاعة أو من أسباب العلم بالسّاعة لانّ من تولّاه بالبيعة الخاصّة الايمانيّة ودخل الايمان في قلبه أيقن بالسّاعة بشهود أماراته من وجوده ، أو انّ عيسى (ع) من أمارات السّاعة فانّ نزوله من علامات السّاعة ، وقيل : انّ القرآن من أسباب العلم بالسّاعة أو محمّد (ص) من أمارات السّاعة فانّه بعث هو والسّاعة كالسّبّابة والوسطى ، أو جعل الملائكة منكم من أسباب علم السّاعة (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ) امّا من كلام الله أو من كلام محمّد (ص) بتقدير القول والتّقدير قل لهم : اتّبعون فيما أقول لكم من ولاية علىّ (ع) (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) جواب سؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى هذا المذكور صراط مستقيم ، وفسّر الصّراط هاهنا بعلىّ (ع) (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة أو مظهر لعداوته لانّه يصدّكم عمّن امر الله تعالى ورسوله مرارا بولايته وأطاعته بحيث لم يخف على أحد امره (ص) بإطاعته (ع) (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ذكر حكاية عيسى (ع) وقوله لقومه وبيان حال قومه وقالهم له تسلية للرّسول (ص) ولأمير المؤمنين (ع) وتهديد لقومهما (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) الحزب بالكسر الطّائفة وجماعة النّاس ، وجمعه الأحزاب (مِنْ بَيْنِهِمْ) اى فاختلف جماعات من بينهم وعرّفه باللّام للاشارة الى انّ الجماعات المختلفة كأنّهم كانوا معهودين (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) منهم (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظرون لظهور إتيان السّاعة وعدم جواز إنكارها جعلهم مثل من انتظر امرا (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من السّاعة بدل الاشتمال (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمجيئه حتّى يتهيّئوا لها ، وقد مضى مكرّرا انّ السّاعة قد فسّر بساعة الموت وبالقيامة وبظهور القائم (ع) (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر في بيان حال اليوم والمراد بالخلّة هاهنا هي الخلّة في الدّنيا لا الخلّة في الله وللآخرة بقرينة الاستثناء وسبب صيرورة الخلّة الدّنيويّة عداوة اخرويّة انّ الخلّة الدّنيويّة صارفة للإنسان عن بغيته الاخرويّة وشاغلة له عن الاشغال الإلهيّة فتصير سببا للحسرة والنّدامة ، ويظهر انّها كانت عداوة فالخليل الدّنيوىّ يعادى خليله لذلك (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) في أفعالهم وأحوالهم وأخلاقهم عن الجهة الدّنيويّة فخلّتهم لا تكون الّا لجهات اخرويّة ويوم القيامة يظهر اثر تلك الخلّة فيتيقّن ويشاهد انّ الخلّة كانت خلّة لا عداوة ، وقرأ الصّادق (ع) هذه الآية فقال : والله ما أراد بهذا غيركم ، وعنه (ع): واطلب مواخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض وان أفنيت عمرك في طلبهم فانّ الله عزوجل لم يخلق أفضل منهم على وجه الأرض من بعد النّبيّين ، وما أنعم الله تعالى على عبد بمثل ما أنعم به من التّوفيق لصحبتهم


قال الله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ، واظنّ انّ من طلب في زماننا هذا صديقا بلا عيب بقي بلا صديق ، ولمّا ذكر حال ذلك اليوم وشدّته بالنّسبة الى المخالفين والمنافقين نادى عباده المخصوصين تلطّفا بهم وتسكينا لخوفهم منه فقال (يا عِبادِ) الّذين آمنوا بالولاية فانّه لا يصير الإنسان عبدا لله تكليفا الّا بعد قبول الولاية ولذلك بيّنهم بقوله الّذين آمنوا بآياتنا (الى آخر الآية) (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فانّ شدّته لمن كان معرضا عن صاحب ذلك اليوم وهو علىّ (ع) (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وقد مضى في اوّل البقرة وفي غيرها بيان لاختلاف الفقرتين من هذه العبارة (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) صفة بيانيّة أو خبر لمحذوف اى أنتم الّذين آمنوا ، أو مبتدء خبره ادخلوا الجنّة بتقدير القول ، أو خبره يطاف عليهم والمراد بالايمان بالآيات الايمان بصاحبي الولاية من حيث ولايتهم من الأنبياء والأولياء (ع) لا من حيث رسالتهم أو خلافتهم للرّسالة (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) اى منقادين أو مسلمين بالبيعة العامّة النّبويّة والمقصود من الإتيان بالإسلام مع الايمان الاشعار بانّ كلّا منهما غير صاحبه فمن سمّى بالمسلم بمحض البيعة العامّة فلا يسمّى بالمؤمن بمحض ذلك وليطلب حقيقة الايمان وما به يصدق عليه المؤمن (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) الموافقات لكم سواء كنّ مؤمنات أو لم تكنّ فانّ كرامة المؤمن تقتضي دخول آبائه وأزواجه وذرّيّاته الجنّة بسببه (تُحْبَرُونَ) الحبر بالفتح السّرور والنّعمة ، والحبير كأمير البرد الموشّى والثّوب الجديد ، والحبرة السّماع في الجنّة ، وكلّ نعمة حسنة ، والمبالغة فيما وصف بجميل ، ويجوز ان يكون من كلّ من تلك الموادّ (يُطافُ عَلَيْهِمْ) التفات فيه تجديد نشاط (بِصِحافٍ) جمع الصّحفة بمعنى القصعة (مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) جمع الكوب بالضّمّ كوز لا عروة له ، أو لا خرطوم له (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) فانّ النّعيم الزّائل مستعقب لا لم زواله ومشوب لذّته بالم خوف زواله وزحمة حفظه من الزّوال (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قد مضى الآية في سورة الأعراف مع بيان كيفيّة الايراث (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) عدّ اللّذايذ الاخرويّة بصورة ما يلتذّ به المدارك الحيوانيّة لكون أغلب النّاس غير متجاوز عن مرتبة الحيوان والّا فالملتذّ بلذّة الحضور لا يلتفت الى المأكول والمشروب وسائر ملاذّ الحيوان ، وإذا عممت الأكل والشّرب وسائر مقتضيات مدارك الحيوان عممت ملاذّ الملتذّ بلذّة الحضور أيضا (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) كأنّه قيل : هذا للمطيعين فما للمجرمين؟ ـ فقال : انّ المجرمين (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) وقد فسّروا بأعداء آل محمّد (ص) (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) لا يخفّف عنهم (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) متحيّرون ساكتون عمّا في أنفسهم لغاية خوفهم وحيرتهم (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) قد مضى في سورة هود هذه الآية وانّه يظنّ انّ الأليق بسياق العبارة ان يقال : وما نحن ظلمناهم ولكنّهم ظلموا أنفسهم ومضى هناك وجه كونه أليق والجواب عنه (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) سألوا المالك ان يسأل الله موتهم لغيبتهم عن الله وعدم وصولهم اليه حتّى يسألوا بأنفسهم خلاصهم بالموت عن العذاب (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) في العذاب لا خلاص لكم من العذاب (لَقَدْ جِئْناكُمْ) جواب سؤال مقدّر من المالك أو من الله في مقام التّعليل (بِالْحَقِ) المخلوق به وهو المشيّة الّتى هي الولاية المطلقة الّتى هي علىّ (ع) بعلويّته ، والقمّىّ : هو قول الله عزوجل : وقال يعنى بولاية أمير المؤمنين (ع) (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) وقال القمّىّ : يعنى لولاية أمير المؤمنين (ع) (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) بعد حكاية


مخاطبات المنافقين في يوم القيامة خاطب نبيّه (ص) وقال : بل أبرم هؤلاء المنافقون من أمّتك امرا في تكذيب الحقّ فلا تحزن على تعاهدهم في مكّة وغيرها ان لا يدعوا هذا الأمر في علىّ (ع) (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) امره أو مبرمون مجازاتهم (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) أحاديثهم الّتى يسرّونها عن غيرهم (وَنَجْواهُمْ بَلى) نسمعها (وَرُسُلُنا) اى الملائكة الموكّلة عليهم (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قُلْ) للّذين يجعلون لله البنات أو للّذين يقولون : المسيح ابن الله أو عزير ابن الله ، أو يقولون : نحن أبناء الله (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) يعنى ان كان له ولد فانا اولى بإظهاره ومعرفته لانّى أسبق العابدين لله بحسب المرتبة ، والاسبق اولى بمعرفة أولاد المعبود وذوي نسبه من غير الاسبق ، أو انا اوّل العابدين لذلك الولد يعنى ينبغي ان أكون اوّل العابدين له لتقدّمى عليكم في عبادة الله وينبغي ان يكون المقدّم في عبادة الله مقدّما في عبادة أولاده ، أو المعنى ان كان له ولد فأنا اوّل العابدين؟ على الاستفهام الانكارىّ يعنى ان كان له ولد كنت اوّل الجاحدين له لا اوّل العابدين ، أو استعمل العابدين من عبدت عن الأمر بمعنى انفت منه فالمعنى انا اوّل الآنفين ان يكون له ولد ، وعن أمير المؤمنين (ع) اى الجاحدين قال : والتّأويل في هذا القول باطنه مضادّ لظاهره وقد ذكرت وجه صحّته (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ) الّذى هو جملة ما سوى الله (عَمَّا يَصِفُونَ) تنزيه له عن الولد بما فيه برهانه فانّ ربوبيّة العرش الّذى هو جملة المخلوقات تستلزم ربوبيّة كلّ جزء فرض من أجزاء العرش وان كان له ولد كان مثله وثانيا له لا مربوبا له (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم (وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) في السّماء آله صلة من غير عائد فالعائد محذوف وهو امّا صدر الصّلة اى هو في السّماء آله اى معبود ومستحقّ للعبادة ، أو سلطان ومدبّر لأمور السّماء ، أو سائر أجزاء الصّلة اى (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) منه أو بصنعه أو من صنعه ، وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) انّه قال: وقوله (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) وقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) وقوله (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) فانّما أراد بذلك استيلاء امنائه بالقدرة الّتى ركّبها فيهم على جميع خلقه وانّ فعلهم فعله ، وهو يؤيّد الوجه الثّانى والمعنى الثّانى للآية (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الّذى اتقن صنعه بحيث انّه ظهر بصورة امنائه ولم يعلم به أحد بل أنكروه وأنكروا أمناءه (الْعَلِيمُ) الّذى يعلم كيفيّة إخفاء ألهته بحيث لا يشعرون بها بل ينكرونها (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فكيف لا يكون آلها فيهما أو لا يكون منه اله فيهما (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الّتى هي بخرابهما لا عند غيره ولذلك تراهم غافلين عن السّاعة لاهين عنها شاغلين بما لا ينفعهم فيها وما لهم يسألونك عن السّاعة وليس علمها عندك؟! وقد مضى في سورة الأعراف وفي غيرها وجه انحصار علم السّاعة به تعالى وانّ من يعلم من الخلفاء ذلك فهم في ذلك الهيّون لا بشريّون (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعنى انّكم تكونون في الحال في الرّجوع اليه على سبيل الاستمرار وان كنتم غافلين عن ذلك الرّجوع فاحذروا من مخالفته (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) من الأصنام والكواكب ومن الجنّ والشّياطين أو من ائمّة الضّلالة (مِنْ دُونِهِ) اى من دون اذن الله ، أو حالكونهم غير الله ، أو من دون علىّ (ع) فانّ الكلّ لا يملكون (الشَّفاعَةَ) فكيف بمالكيّته شيء من السّماوات والأرض (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) استثناء متّصل ان أريد بالّذين يدعون مطلق المعبودات من المسيح والعزير والملائكة والأصنام والكواكب والائمّة الباطلة ، وان أريد الأصنام فالاستثناء منقطع ، هذا إذا كان المستثنى منه فاعل يدعون


وكان المراد بالّذين يدعون الّذين يدعون الخلق بلسانهم أو بحالهم وخلقتهم الى أنفسهم ، وان كان المراد بالّذين يدعون التّابعين الّذين يعبدون الأصنام وغيرها فالاستثناء من المفعول المحذوف ومفرّغ ، وقيل : ان النّضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا : ان كان ما يقوله محمّد (ص) حقّا فنحن نتولّى الملائكة وهم احقّ بالشّفاعة لنا منه ، فنزلت ، والمعنى الّا لمن شهد بالحقّ اى الولاية فيكون الاستثناء مفرّغا (وَهُمْ) اى الّذين يدعون (يَعْلَمُونَ) انّهم لا يملكون الشّفاعة ، أو الّذين يشهدون بالحقّ يعلمون الحقّ لا ان يكون شهادتهم مخالفة لما في قلوبهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لاعترافهم بانّ آلهتهم ما خلقوا شيئا من ذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) مع هذا الإقرار (وَقِيلِهِ) اى قول الرّسول ، وقرئ قال الرّسول ، وقرئ قيله بالجرّ عطفا على السّاعة ، وبالنّصب عطفا على سرّهم ، أو على محلّ السّاعة ، أو بتقدير فعل من لفظه اى قال الرّسول (ص) قيله ، وبالرّفع مبتدء خبره (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أو الخبر محذوف اى قيله يا ربّ مسموع لنا (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) اى اعرض أو طهّر القلب عنهم (وَقُلْ سَلامٌ) مداراة أو متاركة لا تحيّة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تهديد لهم بسوء العاقبة وسوء المجازاة.

سورة الدّخان

مكّيّة كلّها ، وهي تسع وخمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الظّاهر أو المظهر فضل من نزّل عليه ، أو صدقه ، أو ظاهر المعنى ، أو ظاهر الآثار (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) من مقامه العالي الّذى هو مقام المشيّة ، أو مقام الأقلام العالية ، أو مقام اللّوح المحفوظ (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي ليلة القدر وقد مرّ في سورة البقرة كيفيّة نزول القرآن في ليلة القدر ونزوله في مدّة ثلاث وعشرين سنة عند قوله : شهر رمضان الّذى انزل فيه القرآن (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ).

اعلم ، انّ مراتب العالم بوجه غير متناهية ، وبوجه سبعون ألفا ، وبوجه سبع ، وبوجه ستّ ، وكلّ مرتبة دانية بالنّسبة الى المرتبة العالية تسمّى ليلا لاختلاطها بظلمة الإمكان وظلمة الكثرة والفرق أكثر من المرتبة العالية ، كما انّ المرتبة العالية بالنّسبة الى المرتبة الدّانية تسمّى يوما ، ولذلك ترى التّعبير عن المراتب في الآيات والاخبار في النّزول باللّيالى وفي الصّعود بالايّام لاعتبار المنزل اليه بالنّسبة الى المنزل منه الّذى هو المرتبة العالية والعليا واعتبار المصعود اليه بالنّسبة الى المصعود منه الّذى هو المرتبة الدّانية والدّنيا ، وانّ عالم المثال من العالم الكبير مثل الخيال من العالم الصّغير فكما انّ الإنسان كلّما أراد ان يفعله يتصوّره اوّلا بنحو كلّىّ في مقام العقل ثمّ ينزّله عن مقام العقل الى مقام الخيال فيقدّر قدره ويتصوّر خصوصيّاته ومشخّصاته ثمّ ينزّله بتوسّط القوى المحرّكة وتحريك الأعضاء الى الخارج كذلك كان فعل الله وحال الخيال الكلّىّ فانّ الله إذا أراد ان يفعل فعلا ينزّله من عرش المشيّة الى العقول الكلّيّة والنّفوس الكلّيّة اللّتين يعبّر عنهما بالأقلام العالية والألواح الكلّيّة ثمّ منهما الى عالم المثال وما لم يصل الأمر الى عالم المثال كان بسيطا مجملا غير ممتاز بحسب الوجود العلمىّ بعضه من بعض وكان موجودا بوجود واحد بسيط ،


وفي عالم المثال يصير متفرّقا ممتازا بعضه من بعض كما يكون الأمر في خيال الإنسان كذلك ، فانّ المريد للدّار يتصوّر اوّلا دارا كلّيّا فاذا تنزّلت الى مقام الخيال يتصوّرها بصورة جزئيّة مربّعة متساوية الأضلاع أو مربّعة طولانيّة أو غير ذلك مشتملة على بيوت ممتازة بعضها عن بعض ، ومشتملة على مشخّصاتها من مكانها وزمانها وغير ذلك من مشخّصاتها ، وقد ينفسخ عزيمته لتلك الدّار الموصوفة بالمشخّصات فيمحوها عن خياله ويتصوّر غيرها ، وقد يتردّد في تعمير هذه الدّار ودار اخرى بنحو آخر ، كما انّ البداء والتّردّد والمحو والإثبات المنسوب الى الله يكون من هذا القبيل وفي هذا العالم كما مضى الاشارة اليه في سورة المؤمن ، فالأمر المحكم الّذى لا يتطرّق البطلان والمحو والإثبات والنّسخ والتّشابه اليه يتنزّل من عالم الأمر الّذى لا يكون فيه وجود ممتاز عن وجود ولا يكون فيه نقص وشرّ وبطلان ومحو الى عالم المثال الّذى يفرق فيه كلّ امر من آخر ويتطرّق المحو والإثبات والبطلان اليه ، ويتطرّق التّشابه الّذى هو عدم ثبات المعنى وتطرّق النّسخ والمحو اليه وهو ليلة القدر الّتى ليست لملك بنى أميّة ، وكلّما يوجد في هذا العالم لا بدّ وان ينزّل من عالم العقول والنّفوس الى ذلك العالم ويقدّر قدره فيه ثمّ يظهر في هذا العالم ، كما انّ كلّما يظهر على الأعضاء لا بدّ وان ينزّل من العقل الى الخيال فيقدّر قدره ، ثمّن يظهر على الأعضاء ، ولمّا كانت النّفوس كلّيّة كانت أو جزئيّة متّحدة مع فاطمة (ع) في مقامها النّازل ومظهرا لها (ع) جاز تفسير ليلة القدر بها ، كما عن الكاظم (ع) حين سأله نصرانىّ عن تفسير هذه الآية في الباطن ، فقال : امّا حم فهو محمّد (ص) وهو في كتاب هود الّذى انزل اليه وهو منقوص الحروف ، وامّا الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين علىّ (ع) ، وامّا اللّيلة ففاطمة (ع) ، وامّا قوله فيها يفرق كلّ امر حكيم يقول يخرج منها خير كثير فرجل حكيم ، ورجل حكيم ، ورجل حكيم (الى آخر الحديث) ، وعن الباقر (ع) والصّادق (ع) والكاظم (ع) اى أنزلنا القرآن واللّيلة المباركة هي ليلة القدر انزل الله سبحانه القرآن فيها الى البيت المعمور جملة واحدة ، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول الله (ص) في طول عشرين سنة ، وعن الباقر (ع) قال : قال الله عزوجل في ليلة القدر فيها يفرق كلّ امر حكيم قال ينزل فيها كلّ امر حكيم والمحكم ليس بشيئين انّما هو شيء واحد فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم الله ، ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى انّه مصيب فقد حكم بحكم الطّاغوت ، انّه لينزل في ليلة القدر الى ولىّ الأمر تفسير الأمور سنة سنة يؤمر فيها في امر نفسه بكذا وكذا ، وفي امر النّاس بكذا وكذا ، وانّه ليحدث لولىّ الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم الله الخاصّ والمكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك اللّيلة من الأمر ثمّ قرأ : ولو انّ ما في الأرض من شجرة أقلام (الآية) ؛ والغرض من نقل هذا الخبر بيان قوله (ع) فمن حكم بما ليس فيه اختلاف (الى قوله) فقد حكم بحكم الطّاغوت لانّه يظنّ في بادي الأمر انّ في حكم الائمّة أيضا اختلافا ، لانّه ما من مسألة الّا وفيها اخبار متخالفة أو متضادّة أو متناقضة صادرة عنهم ، وقد ذكر صاحب التّهذيب رحمه‌الله في اوّل التّهذيب : «ذاكرني بعض الأصدقاء ايّده الله ممّن أوجب حقّه بأحاديث أصحابنا ايّدهم الله ورحم السّلف منهم وما وقع فيها من الاختلاف والتّباين والمنافاة والتّضادّ حتّى لا يكاد يتّفق خبر الّا وبإزائه ما يضادّه ولا يسلم حديث الّا وفي مقابلته ما ينافيه حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطّعون على مذهبنا ، وتطرّقوا بذلك الى ابطال معتقدنا ، وذكروا انّه لم يزل شيوخكم السّلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الّذى يدينون الله به ويشنّعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع ويذكرون انّ هذا ممّا لا يجوز ان يتعبّد به الحكيم ولا ان يبيح العمل به العليم وقد وجدناكم اشدّ اختلافا من مخالفيكم وأكثر تباينا من مباينيكم ، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل حتّى حصل على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجود النّظر ومعاني الألفاظ الشّبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ لما اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز


عن حلّ الشّبهة فيه ، سمعت شيخنا أبا عبد الله ايّده الله يذكر انّ أبا الحسين الهادونىّ العلوىّ كان يعتقد الحقّ ويدين بالامامة فرجع عنها لمّا التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبيّن له وجوه المعاني فيها ، وهذا يدلّ على انّه دخل فيه على غير بصيرة واعتقد المذهب من جهة التّقليد.»

وتحقيق ذلك انّ مراتب الرّجال متفاوتة في الدّين فانّ للايمان عشر درجات ولكلّ درجة عشرة أجزاء ، فمنهم من يكون على جزء من أجزاء الدّرجة الاولى ، ومنهم من يكون على جزئين ومنهم من يكون على الدّرجة الثّانية بأجزائها وهكذا ولو ذهب تحمل صاحب الدّرجة الاولى على الدّرجة الثّانية أهلكته كما أشير اليه في الاخبار ، وصاحب كلّ درجة له حكم غير حكم صاحبه كما حقّقنا ذلك في سورة البقرة عند تحقيق النّسخ في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (الآية) فمن لم يكن له بصيرة بمراتب الرّجال وباختلاف أحوالهم لا يحكم بحكم الّا ويتطرّق اليه الاختلاف بحسب اعتقاده ، فانّه كما يظنّ انّ هذا حكم هذا الرّجل يجوّز ان يكون حكمه غير هذا ، وهذا معنى قوله (ع) من حكم بأمر فيه اختلاف يعنى بحسب اعتقاده فرأى انّه مصيب فقد حكم بحكم الطّاغوت لانّ حكم هذا الحاكم ليس الّا من رأيه المنسوب الى انانيّته لا من حكم الله ، ومن كان بصيرا بمراتب الرّجال وبصيرا بالاحكام وبكيفيّة تعلّقها بالرّجال بحسب مراتب ايمانهم لا يحكم الّا عن اراءة الله كيفيّة تعلّق الأحكام بالرّجال ولا يحكم عن قياس ورأى ولا يكون في حكمه هذا اختلاف بمعنى انّه لا يجوّز ان يكون حكم مخالف لهذا الحكم يخلفه لانّه حكم عن رؤية لا عن رأى وقياس ، ولمّا كان مراتب الرّجال ودرجاتها في الايمان غير متناهية فالاحكام أيضا تكون غير متناهية ، وربّما يكون لشخص واحد بحسب توارد أحوال مختلفة عليه احكام متخالفة متواردة عليه ، ووجه اختلاف الاخبار في الأحكام ليس محض التّقيّة ولا محض اختلاط الأكاذيب والاغلاط بها بل كان عمدة وجه اختلاف الاخبار اختلاف أحوال الرّجال ، ولو لا اختلاف الاخبار في المسألة الواحدة بالنّسبة الى اشخاص عديدة كان ينبغي ان يترك المذهب لا انّ اختلافها كذلك ينبغي ان يصير سببا للخروج من المذهب كما قاله الشّيخ رحمه‌الله في التّهذيب (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) تفخيم لذلك الأمر الحكيم وهو تميز عن نسبة الحكيم الى ضمير الأمر ، أو حال ممّا يجوز ان يكون حالا منه ، أو منصوب بفعل محذوف تقديره اعنى امرا من عندنا ، أو مفعول له ليفرق اى لكونه مأمورا من عندنا ، أو مفعول مطلق لفعله المحذوف (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) بدل من (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أو تعليل لقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) يعنى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) لانّ من عادتنا إرسال الرّحمة ، أو من عادتنا إرسال الرّسل ولازم إرسال الرّسل تفريق الأمر الحكيم في ليلة القدر ورحمة مفعول به أو مفعول له ، ووضع من ربّك في موضع الضّمير للاشعار بانّ ربوبيّته تقتضي ذلك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لا سميع سواه فيسمع أقوال العباد بألسنتهم القاليّة والحاليّة والاستعداديّة (الْعَلِيمُ) لا عليم سواه فيعلم ما يسألونه بألسنتهم القاليّة والحاليّة ومقتضى ربوبيّته وسماعه وعلمه بما يصلح السّائل وما يفسده ان يرسل رسولا وينزّل احكاما بحسب مسئول العباد (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قرئ بالرّفع خبرا بعد خبر أو خبرا لمحذوف ، أو مبتدء خبره لا اله الّا هو أو يحيى ويميت أو ربّكم وربّ آبائكم الاوّلين (وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) علمتم ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ولكن ليس لهم يقين (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) بالدّين ويجعلونه آلة اشتغال خيالهم واطمينانه (فَارْتَقِبْ) اى فانتظر مراقبا لهم (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ) يحيط الدّخان أو اليوم بسبب الدّخان بالنّاس (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما هذا الدّخان؟ ـ فقال : هذا عذاب


اليم أو حال بتقدير القول من الله ، أو من الملائكة ، أو من النّاس.

اعلم ، انّ وقت الاحتضار يرى دخان من الباطن بين السّماء والأرض ولذلك ورد انّ الدّخان من أشراط السّاعة فانّه روى انّ اوّل آيات السّاعة الدّخان ونزول عيسى (ع) ونار تخرج من قعر عدن أبين (١) تسوق النّاس الى المحشر ، قيل : وما الدّخان؟ فتلا رسول الله (ص) هذه الآية وقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، امّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزّكام وامّا الكافر فهو كالسّكر ان يخرج من منخريه وأذنيه ، وقيل : انّ رسول الله (ص) دعا على قومه لمّا كذّبوه فأجدبت الأرض والمراد بيوم تأتى السّماء بدخان مبين ذلك القحط فانّ الجائع يرى بينه وبين السّماء كهيئة الدّخان من ضعف بصره ، أو لانّ الهواء يظلم عام القحط لقلّة الأمطار وكثرة الغبار ، أو لانّ العرب يسمّى الشّرّ الغالب دخانا وكان قحطهم بحيث أكلوا جيف الكلاب وعظامها (رَبَّنَا اكْشِفْ) حال أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول (عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) بك أو برسولك أو بخليفته أو باليوم الآخر (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) جواب سؤال مقدّر ، أو حال بتقدير القول (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر الصّدق أو مظهر لصدقه (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ) يعلّمه ما يقول غلام أعجميّ لبعض ثقيف (مَجْنُونٌ) يعنى لم يكن براهين صدق الرّسول (ص) باقلّ من معاينتهم فكما تولّوا عنه مع براهينه يتولّون بعد ذلك أيضا مع معاينتهم يعنى انّ بعضهم قالوا : هو معلّم ، وبعضهم قالوا : هو مجنون بعد ما رأوا منه شبه الغشي حين نزول الوحي (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) جواب لسؤالهم (قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) الى الإنكار ان كان المراد عذاب القحط وقد رفع القحط وعادوا الى الإنكار كما قيل ، أو المعنى انّا كاشفوا عذاب الموت وعذاب الدّخان قليلا لانّكم عائدون إلينا ان كان المراد عذاب الاحتضار (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) اى يوم القيامة أو يوم بدر (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا) وابتلينا (قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بأنواع العذاب التّسعة (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) اى كريم الأخلاق والأفعال ، أو كريم الأصل والآباء ، لانّه كان من أولاد الأنبياء (ع) ، أو كريم عند الله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) اى جاءهم بهذه الرّسالة الّتى هي قوله : أدّوا الىّ بنى إسرائيل على ان يكون عباد الله مفعولا به ، أو أدّوا الىّ أماناتكم الّتى هي وديعة من الله عندكم من الاستعدادات المودعة فيكم للتّرقّى الى الله ويكون عباد الله حينئذ منادى (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) بالاستعلاء على خليفته (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) لصدقى وهو يده وعصاه ، فلمّا قال ذلك توعّدوه بالقتل والرّجم كما قيل ، فقال (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) بالحجارة ، وقيل : بالشّتم (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) ولم تصدّقونى فلا تؤذوني فانّ إيذائي موجب لعذاب اليم لكم لا مدفع عنه قال ذلك رحمة عليهم (فَاعْتَزِلُونِ فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما بالغ غاية جهده في نصحهم ومضى على ذلك سنون وابتلوا مرارا وكانوا كلّما ابتلوا وعدوه بإرسال بنى إسرائيل وترك استعبادهم وبالايمان به ، وكلّما نجوا من العذاب نقضوا عهدهم ، فلمّا رأى انّه لا ينفع فيهم النّصح ولا الابتلاء دعا ربّه (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) تعريض بعذابهم وهلاكهم ولذلك قال : دعا ربّه (فَأَسْرِ) يعنى فأجبناه الى مسئوله وأردنا إهلاكهم فقلنا له أسر (بِعِبادِي) يعنى بنى إسرائيل (لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتّبعكم القبطيّون (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) اى ساكنا على هيئته الّتى عبرته ولا تضر به بعصاك حتّى ينطبق

__________________

(١) ـ الابين بسكون الموحدة وفتح الياء المثناة من تحت رجل ينسب اليه عدن.


على الطّرق الّتى عبرتها أو اتركه منفتحا وسيعا حتّى يطمع فرعون وقومه للدّخول ، وقيل : لمّا قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف ان يتّبعه فرعون وجنوده فقيل له : واترك البحر رهوا اى كما هو طريقا يابسا ، والرّهو السّير السّهل والمكان المرتفع والمنخفض (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) جواب لسؤال مقدّر عن علّة الحكم أو عن حالهم (كَمْ تَرَكُوا) جواب لسؤال آخر كأنّه قيل : فما فعل بهم؟ ـ وما صار حالهم؟ ـ فقال: كم تركوا (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) اى متمازحين آتين بظرافة الكلام أو متلذّذين (كَذلِكَ) كانوا أو الأمر كذلك أو حالكونهم ثابتين كذلك (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) هم بنو إسرائيل (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) تمثيل لعدم الاعتناء بهلاكهم فانّه مثل في العرب والعجم لابتلاء قوم ببليّة ولم يكن اعتناء بهم وببلائهم ، عن أمير المؤمنين (ع) انّه مرّ عليه رجل عدوّ لله ولرسوله فقال : فما بكت عليهم السّماء والأرض وما كانوا منظرين ثمّ مرّ عليه الحسين (ع) ابنه فقال : لكن هذا لتبكينّ عليه السّماء والأرض ، قال : وما بكت السّماء والأرض الّا على يحيى بن زكريّا (ع) وعلى الحسين (ع) بن علىّ ، وفي خبر فما بكاؤها؟ ـ قال : كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء ، وفي خبر : بكت السّماء على الحسين (ع) أربعين يوما بالدّم (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) هو استعبادهم وامر القبطىّ لهم بحمل الطّين على السّلاليم مع انّهم كانوا في القيود وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل نحو بدل الاشتمال (إِنَّهُ كانَ عالِياً) مسلّطا على ارض مصر (مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) حال عن الفاعل أو المفعول (عَلَى الْعالَمِينَ) على عالمي زمانهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) كفلق البحر وتظليل الغمام وإيتاء المنّ والسّلوى (ما فِيهِ بَلؤُا) اى نعمة أو اختبار (مُبِينٌ) أو المعنى آتينا فرعون وقومه من الآيات الدّالّة على صدق موسى (ع) في رسالته وصدقه في إيتاء العذاب أو آتينا القبطيّين والسّبطيّين من الآيات ما فيه اختبار ونعمة ظاهرة (إِنَّ هؤُلاءِ) قريش بعد ذكر قصّة قوم فرعون لتهديد قريش ذكر حال قريش بنحو كونها جوابا لسؤال مقدّر (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) اى ان الموتة ، أو ان الفتنة ، أو ان العاقبة ونهاية الأمر الّا موتتنا الاولى إنكارا للمعاد (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) معادين مبعوثين (فَأْتُوا بِآبائِنا) الميّتين بالموتة الاولى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في وعد الاعادة والثّواب والعقاب ، جعلوا الاعادة والبعث في الآخرة والانتهاء عن الدّنيا في الدّنيا ، فقاسوا قياسا سقيما ولم يدروا انّ من صار بالفعل لا يمكن ان يصير بالقوّة ، والاعادة في الدّنيا لا تكون الّا بجعل ما بالفعل بالقوّة ، وامّا الرّجعة الى الدّنيا الّتى ذكرت في الاخبار بنحو الإجمال وقال بها الفقهاء رضوان الله عليهم واحياء الأموات الّذى نسب الى الأكابر فهي ليست بجعل ما بالفعل بالقوّة وانّما هي توسعة من الكامل في وجود الميّت (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) تبّع اسم لملك اليمن ولا يسمّى بهذا الاسم الّا من كان حميريّا والتّبابعة جمعه وسمّى تبّعا لكثرة اتباعه أو لاتّباعه سائر ملوك اليمن ، وتبّع هذا هو الّذى سار بالجيوش وأتى سمرقند فهدمها ثمّ بناها ، وقيل : بناها اوّلا وكان إذا كتب كتب باسم الّذى ملك برّا وبحرا وضحا وريحا ، وعن النّبىّ (ص): لا تسبّوا تبّعا فانّه كان قد أسلم ولذلك ذمّ قومه ولم يذمّه ، وقيل : قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتّى يخرج هذا النّبىّ (ص) امّا أنا لو أدركته لخدمته وخرجت معه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كقوم نوح وعاد وثمود يعنى انّهم كانوا أحسن أحوالا بحسب الدّنيا منهم ، كانوا


أقوى قوّة وأكثر أموالا وأولادا وأطول أعمارا ومعذلك (أَهْلَكْناهُمْ) بكفرهم وهؤلاء اخسّ أحوالا منهم واشدّ كفرا فكيف نفعل بهم؟! (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) حتّى نكون نلعب بخلقهم ولا نتعرّض بهم وثوابهم وعقابهم (ما خَلَقْناهُما) وما بينهما (إِلَّا بِالْحَقِ) الّذى هو الولاية المطلقة الّتى بها حقّيّة كلّ ذي حقّ فاذا كان خلقهما وخلق نتائجهما بالحقّ فلا تكون تؤل الى باطل أو تصير باطلة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم علم أصلا بل كان ما لهم من صورة العلم جهلا مشابها للعلم ولذلك تراهم أعداء لأهل العلم أو لا يعلمون انّ ذلك كذلك (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) اى يوم القيامة (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) فنفصل هناك بين المحقّ والمبطل والعالم والجاهل المشابه للعالم (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) اى شيئا من الإغناء أو شيئا من عذاب الله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) اى لا ينصرهم بعد ابتلائهم مواليهم ولا غير الموالي (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) استثناء من مولى الاوّل أو الثّانى أو من مرفوع ينصرون ، ومن رحمه‌الله منحصر بمن قبل الولاية بالبيعة الخاصّة ، أو من قبل الولاية حال حضور علىّ (ع) وقت الاحتضار (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) تعليل لعدم إغناء الموالي وعدم النّصرة (الرَّحِيمُ) تعليل لشفاعة من رحمه‌الله ، عن الصّادق (ع): والله ما استثنى الله عزّ ذكره بأحد من أوصياء الأنبياء (ع) ولا اتباعهم ما خلا أمير المؤمنين (ع) وشيعته فقال في كتابه وقوله الحقّ : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون الّا من رحم الله يعنى بذلك عليّا (ع) وشيعته (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) قد مرّ بيان شجرة الزّقّوم في سورة الصّافّات (كَالْمُهْلِ) المهل اسم لجميع معدنيّات الجواهر كالفضّة والحديد ونحوهما ، والقطران الرّقيق وما ذاب من صفر أو حديد ، والزّيت أو درديّه أو رقيقه ، والسّمّ والقيح وصديد الميّت ، (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) الماء الحارّ المنتهى في الحرارة (خُذُوهُ) جواب لسؤال مقدّر ، أو حال بتقدير القول اى يقال للزّبانية خذوه (فَاعْتِلُوهُ) عتله جرّه عنيفا (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) اى وسطها (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) اى من الماء الحارّ غاية الحرارة واضافة العذاب للاشارة الى انّ المنظور من صبّ ذلك الماء عذابه به قائلين (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يعنى يقال ذلك له استهزاء ، روى انّ أبا جهل قال لرسول الله (ص) : ما بين جبليها اعزّ ولا أكرم منّى ، فيعيّر بذلك في النّار (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) تشكّون أو تجادلون (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) صاحبه من الشّرور والآفات (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) السّندس الرّقيق من الحرير ، والإستبرق الغليظ منه (مُتَقابِلِينَ) فانّ التّقابل أشرف أنواع المجالسة (كَذلِكَ) قد مضى هذا اللّفظ قبيل هذا (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) الحوراء مؤنّث أحور الأبيض ، والعيناء مؤنّث أعين عظيم العينين (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) يدعون كلّ أنواع الفاكهة في كلّ زمان لا اختصاص بشيء منها بزمان دون زمان ولا مكان دون مكان (آمِنِينَ) من الآفات والشّرور (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) للخلاص من المكاره والفوز بما ليس فيه شوب تعب ولا خوف زوال (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) اى القرآن أو ما ذكر من الجنان ونعيمها أو فضل


ولاية علىّ (ع) وقرأناها (بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ) فانتظر ما وعدناهم من العذاب (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) لحلول النّقمة بك أو انّهم مثل من يرتقب امرا يرتقبون ما تذكر لهم من العذاب.

سورة الجاثية

مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا آية : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) ، سبع وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) قد مضى مكرّرا انّ في خلقة كلّ من السّماوات والأرض آيات عديدة من كواكب السّماء وكيفيّة حركاتها المتناسقة ومزاجها وتأثيراتها الغريبة ، ومن كون الأرض بسيطة ساكنة لا يغمر فيها الرّجل ، وليست بصلبة حتّى لا يمكن التّصرّف فيها بالزّراعات والعمارات واجراء القنوات وغير ذلك ، وفي ازدواج السّماوات والأرض وتأثير السّماوات وما فيها في الأرض وتأثّر الأرض وما فيها منها أيضا آيات ، وفي خلقة كلّ من مواليد الأرض بحيث يطلب كمال نوعه ويفرّ ممّا يضرّ بذاته وكماله وبحيث يتهيّئوا له ويجتمع فيه أسباب تحصيل كماله المفقود وحفظ كماله الموجود آيات عديدة لكن كلّ ذلك آيات للمؤمنين البائعين البيعة العامّة أو الخاصّة ، أو للمذعنين المنقادين الّذين القوا السّمع لا للغافلين المعرضين (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) اى من ذي روح يكون له حركة (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) غيّر الأسلوب اشعارا بانّ من حصل له اليقين لا يكون يقينه الّا في ازدياد وحصول على التّدريج فانّ صاحب اليقين هو الّذى يكون له قلب وليس الّا من بايع البيعة الخاصّة واشتغل بنفسه ووجد بوجدانه آثار عمله ، ومن صار كذلك يزداد يقينه العلمىّ والوجدانىّ الى ان حصل له اليقين الشّهودىّ واليقين التّحقّقىّ ، ولمّا كان آيات خلق الإنسان وخلق سائر الدّوابّ بالنّسبة الى آيات السّماوات والأرض أخفى منها لا بدّ وان يكون للمؤمن يقين بآثار ايمانه حتّى يدرك آيات خلقة الإنسان خصوصا آيات الأنفس ، فانّ إدراكها لا يكون الّا بعد الاشتغال بالنّفس ووجدان صفات النّفس رذائلها وخصائلها واليقين بآثار الأعمال وضرر الرّذائل ونفع الخصائل ، والّا بعد اليقين بآثار صفات الله تعالى ووجدانها في وجوده (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) اى اختلاف اللّيل والنّهار الطّبيعيّين بتعاقبهما ، وبالبرودة والحرارة وبالزّيادة والنّقيصة وبالظّلمة والاضاءة ، وكذلك اختلاف عالم الطّبع وعالم المثال والسّقم والصّحّة والغمّ والسّرور وغير ذلك من مصاديق اللّيل والنّهار (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) من أسباب رزق من الأمطار واشعّة الكواكب وبرودة الهواء وبرودة اللّيل وحرارة النّهار أو من رزق انسانىّ من الكمالات النّفسانيّة الّتى تنزل من سماء العقول والنّفوس ، وأتى بالرّزق منكّرا تحقيرا بالنّسبة الى الرّزق الجسمانىّ وتفخيما بالنّسبة الى الرّزق الانسانىّ (فَأَحْيا بِهِ) اى بأسباب الرّزق الجسمانىّ أو بنفس الرّزق الانسانىّ (الْأَرْضَ) الطّبيعيّة بتهييج القوى والعروق المكمونة فيها والأرض الانسانيّة بحيوة العلم والدّين والايمان (بَعْدَ مَوْتِها) بعد كونها ميتة (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) وفي تصريفها بقاء المواليد وحركات السّحاب وتوسعة الأمطار في البلاد ورفع العفونات عن الهواء (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)


يدركون بعقولهم بعد اليقين أو يصيرون عقلاء وصاحبي مقام العقل بعد ان كانوا موقنين وصاحبي مقام القلب ، ولخفاء دلالتها على مبدء مدبّر حكيم عليم رؤف رحيم خصّصها بالعقلاء (تِلْكَ) المذكورات (آياتُ اللهِ) الدالّة عليه أو النّاشئة منه (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) متلبّسين أو متلبّسات بالحقّ الّذى هو الولاية المطلقة (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) بعد إنكاره (وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) كذّاب (أَثِيمٍ) بالغ في الإثم (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) على كفره أو على جحوده لولاية علىّ (ع) (مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) اى إذا رأى من آياتنا العظمى الّذين هم مظاهر الولاية (اتَّخَذَها هُزُواً) اى الآيات أو الشّيء المرئىّ ، والتّأنيث باعتبار المعنى (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) اى من وراء عذابهم المهين جهنّم ، أو هو بيان للعذاب المهين (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا) من الأموال والأولاد ، أو من الأعمال الّتى فعلوها في الإسلام ، فانّ شرط قبولها واغنائها عن عذاب الله عدم ردّ الولاية ان كان موتهم في زمن الرّسول (ص) ، وقبول الولاية ان كان بعد زمن الرّسول (ص) (شَيْئاً) من عذاب الله (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) نفسه أو من دون مظاهر الله وخلفائه (أَوْلِياءَ) في العبادة كالأصنام والكواكب ، وأولياء في الطّاعة مثل رؤساء الضّلالة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) تأكيد على التّأكيد (هذا) اى المذكور من الآيات أو القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) ، أو هذا الأمر من ولاية علىّ (ع) أو الإسلام وقبوله واحكامه (هُدىً) الى الايمان (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) التّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة وخصوصا الآيات العظمى الّذين هم خلفاء الله في الأرض والتّدوينيّة (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) الرّجز اشدّ العذاب (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) كلام منقطع عن سابقه وتعداد لنعمه على خلقه مشيرا الى كونها آيات قدرته كما انّ ما سبق كان تعدادا الآيات قدرته مشيرا الى كونها من نعمه (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بجريان الفلك والتّجارات الرّابحة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة تسخير البحر وجريان الفلك والأرباح (وَسَخَّرَ لَكُمْ) اى لانتفاعكم أو جعل مسخّرا لكم (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فانّ السّماوات والسّماويّات مسخّرات لله لانتفاع جميع الكائنات ومسخّرات لبعض النّفوس الانسانيّة ، والأرض والارضيّات مسخّرات لله لانتفاع الإنسان ، وبعض الارضيّات مسخّرات للإنسان أيضا (مِنْهُ) قرئ منه بلفظ من الجارّة والضّمير والمعنى سخّر من قبله لا من قبلكم ومن قبل أسبابكم الطّبيعيّة أو المعنى ذلك رحمة منه ، وقرئ منّة بتشديد النّون والتّاء بالرّفع والنّصب (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) باستعمال المبادئ المشهودة والمعقولة وأخذ النّتائج منها سواء كان المستعمل مؤمنا أو موقنا أو عاقلا (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) قد سبق مكرّرا انّه تعالى للاشارة الى انّ توجّه محمّد (ص) مؤثّر فيهم بحيث يجعلهم على أوصاف الرّوحانيّين لم يأت بمقول قوله ويقتصر على لفظ قل في جزم المضارع الآتي بعده كأنّه قال : قل ما شئت وتوجّه إليهم ان تقل لهم قولا يغفروا بدون أمرك لهم بالمغفرة (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) قد مرّ بيان ايّام الله في سورة إبراهيم عند قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) والمراد من الّذين لا يرجون ايّام الله الّذين اشتغلوا عن دينهم بدنياهم ولا يترقّبون من دينهم الّا إصلاح دنياهم ، والّذين لم يعتقدوا مبدء أو لم يعتقدوا معادا فانّ ايّام الله عبارة عن مقامات الآخرة ودرجاتها ،


ومن رجا درجات الآخرة ومقاماتها يكون ناظرا إليها متوجّها في اعماله وأحواله الى جهتها ، ومن لم يعتقدها أو لم يكن عمله لها لم يكن راجيا لها ، والمقصود تأديب المؤمنين الّذين بايعوا البيعة الخاصّة بان لا ينظروا الى ظاهر أفعالهم وأحوالهم فيتركوا معاشرتهم ونصحهم ودلالتهم على خيرهم فانّهم كانوا كذلك فمنّ الله عليهم بالايمان ورجاء ايّام الله ، وشكر هذه النّعمة ان يرحموا عباد الله ويظهروا ما أنعم الله به عليهم ويدلّوا غيرهم عليها فانّ الله إذا أنعم على عبد احبّ ان يراها عليه ، ومن لم يظهرها كان كافرا لتلك النّعمة ، عن الصّادق (ع) انّه قال : قل للّذين منّنا عليهم بمعرفتنا ان يعرفوا الّذين لا يعلمون فاذا عرفوهم فقد غفروا لهم (لِيَجْزِيَ قَوْماً) قرئ بالغيبة والبناء للفاعل ، والفاعل هو الله وبالبناء للمفعول وضمير المصدر يكون نائبا عن الفاعل ، وقرئ بالنّون (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) قيل : يقول الله تعالى لائمّة الحقّ : لا تدعوا على ائمّة الجور حتّى يكون الله هو الّذى يعاقبهم (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل لغفرانهم (فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) فلا حاجة للمسيء الى عقوبة اخرى منكم.

اعلم ، انّ انسانيّة الإنسان تقتضي الإحسان والعمل الصّالح ، فاذا أحسن الإنسان كان الإحسان ملائما له من حيث انسانيّته والواصل الى ملائمته ملتذّ بها ومنتقم بها ، فلو لم يكن له أجر آخر كان الوصول الى ملائماته كافيا له اجرا وثوابا والحال انّ الإحسان يتجسّم له في الآخرة بأحسن صورة ويستتبع صورة اخرى مناسبة له فالمحسن يتنعّم بإحسانه ثلاث مرّات ، وإذا أساء الإنسان كان الاساءة منافية لانسانيّته وغير الملائم موذ للإنسان وان كان تلك الاساءة ملائمة لقوّة اخرى بهيميّة أو سبعيّة أو شيطانيّة فلو لم يكن للمسيء عقوبة اخرى كان الاساءة كافية له عقوبة ، والحال انّ الاساءة تتجسّم في الآخرة بصورة قبيحة موذية وتستتبع صورة اخرى قبيحة موذية في الآخرة ، فالمسيء يعاقب بإساءته ثلاث مرّات ، وللاشارة الى النّفع والضّرّ الحاصلين حين الإحسان والاساءة قال : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها يعنى حين العمل يكون نفعه وضرّه حاصلين له ، وللاشارة الى الأجر والعقوبة الاخرويّين قال تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَقَدْ آتَيْنا) عطف على قوله تنزيل الكتاب من الله أو عطف على قوله الله الّذى سخّر لكم البحر ووجه المناسبة غير مخفىّ (بَنِي إِسْرائِيلَ) يعنى بنى يعقوب (الْكِتابَ) قد مضى مكرّرا انّ الكتاب يطلق على الولاية وآثارها ، والنّبوّة وأحكامها ، والرّسالة وأحكامها ، والكتاب التّدوينىّ صورة الكلّ فيجوز ان يراد بالكتاب هاهنا التّوراة والرّسالة والولاية والاولى ان يراد به التّوراة أو الرّسالة (وَالْحُكْمَ) ان أريد بالكتاب التّوراة فالمراد بالحكم الحكومة بين النّاس الّتى هي لازم الرّسالة فيكون كناية عن الرّسالة ، وان أريد به الرّسالة فالمراد بالحكم الحكمة الّتى هي عبارة عن اللّطف في العلم والعمل الّذى هو من آثار الولاية (وَالنُّبُوَّةَ) بحيث قيل : انّه كان فيهم الف نبىّ (ع) (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بحسب مقامهم الحيوانىّ من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمركوب ، وبحسب مقامهم الانسانىّ ممّا كان يرد عليهم من الغيب من العلوم والوجدانات والمشاهدات (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) بواسطة إيتاء ذلك لهم والمراد بالعالمين أهل زمانهم والّا فامّة محمّد (ص) كانوا أفضل منهم (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) المراد بالبيّنات المعجزات أو احكام الرّسالة أو احكام النّبوّة أو دلائل امر الرّسالة أو النّبوّة أو الولاية ، والمراد بالأمر المذكورات ، أو عالم الأمر ، أوامر الله ، ومن للابتداء ، أو للتّبعيض ، أو للتّعليل وهذا تعريض بامّة محمّد (ص) كأنّه تعالى قال : فتنبّهوا يا أمّة محمّد (ص) فانّا آتيناكم الكتاب والحكم والنّبوّة ورزقناكم من الطّيّبات وفضّلناكم على العالمين وآتيناكم بيّنات من الأمر فلا تختلفوا حين حياة محمّد (ص) ولا بعد مماته مثل بنى إسرائيل فتستحقّوا عقوبتي مثلهم (فَمَا اخْتَلَفُوا) بالرّدّ والقبول (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ


الْعِلْمُ بَغْياً) ظلما أو استكبارا (بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من امر الولاية والخلافة ، أو من مطلق امر الدّين (ثُمَّ جَعَلْناكَ) يعنى بعد بنى إسرائيل جعلناك (عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) اى امر الرّسالة والنّبوّة والولاية يعنى انّا آتينا بنى إسرائيل الرّسالة والنّبوّة والولاية وجعلناك بعدهم على جادّة الطّرق وسوائها تفضيلا لك عليهم بجعلك على الشّريعة الّتى هي مشرع كلّ الأمم وكلّ الطّرق (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في خصوص الولاية ، أو في مطلق ما آتيناك من امر الدّين (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) اى من عذابه شيئا (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فلا تتّخذ منهم وليّا حتّى تصير ظالما ، وهذه كلّها تعريض بامّته (ص) واشارة الى اختلافهم في امر الولاية (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) عن الرّأى أو اتّباع النّفس ، وقد سبق مكرّرا انّ المتّقى ليس الّا شيعة علىّ بن ابى طالب (ع) (هذا) المذكور من اوّل السّورة أو هذا القرآن أو قرآن ولاية علىّ أو علىّ (ع) (بَصائِرُ) ما يتبصّر به لكن لمّا لم يكن بدون الولاية يحصل بصيرة لأحد كان المراد به الولاية (لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ) في المنزلة والمقام (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) المراد بالايمان هاهنا البيعة الخاصّة ، أو الحال الحاصلة بالبيعة الخاصّة أو البيعة العامّة أو الحال الحاصلة بالبيعة العامّة ، وعلى هذا يكون المراد بالعمل الصّالح البيعة الخاصّة (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) الضّمير ان لمجترحى السّيّئات يعنى حالكونهم لا ننظر إليهم والى أعمالهم ومجازاتها أو للفريقين والمعنى واضح (ساءَ ما يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللهُ) جملة حاليّة يعنى والحال انّ الله خلق (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ولازم خلقتهما بالحقّ ان لا يكون شيء فيهما لغوا (وَلِتُجْزى) اى خلق لتجزى (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) بنفس ما كسبت أو بجزاء ما كسبت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في ذلك لانّ الجزاء نتيجة أعمالهم فاذا كان الأمر في هذا المنوال فكيف يهملهم ولا يحييهم في الآخرة (أَفَرَأَيْتَ) استفهام في معنى الأمر ويستفاد منه التّعجيب أيضا والمعنى فانظر (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) قد مرّ في سورة الفرقان بيان هذه الآية عند قوله أرأيت من اتّخذ إلهه هواه والخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) ، قيل : نزلت في قريش كلّما هووا شيئا عبدوه والحقّ انّ الآية جارية في من غصبوا حقّ علىّ (ع) بعد محمّد (ص) واتّخذوا إماما بأهوائهم (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) اى حالكون الله على علم باستعداده واستحقاقه للضّلال ، أو حالكون الضّالّ على علم برشده وهداه ، أو حالكونه كان على نور العلم فأضلّه الله بعد كونه على نور العلم كمن آتاه آياته فانسلخ منها فصار من الغاوين (وَخَتَمَ) الله (عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) قد مرّ في اوّل البقرة بيان الختم على السّمع والقلب وغشاوة البصر (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) اى من بعد إضلاله وعدم هدايته (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ان ليس الجاهل كالعالم ولا الفاسق كالمؤمن وان لا هادي بعد الله وإضلاله (وَقالُوا ما هِيَ) اى ما الحيوة (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) اى يموت بعضنا ويحيى بعض آخر ، أو المعنى على التّقديم والتّأخير اى نحي ونموت (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) الدّهريّون والطّبيعيّون يقولون : انّ مرور الزّمان يفنينا ويفنى كلّ كائن بتفاوت الأنواع والأشخاص ان لم يقطعه عن بقائه الطّبيعىّ قاطع (وَما لَهُمْ بِذلِكَ


مِنْ عِلْمٍ) يعنى انّ قولهم هذا باطل أصلا وهم ملومون عليه لبطلانه ، وهم ملومون أيضا على التّفوّه بما ليس لهم به علم (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) والقول بالظّنّ والشّكّ قبيح وصاحبه ملوم ، فالويل ثمّ الويل لمن قال بالظّنّ والقياس من غير اذن واجازة من الله!. ثمّ قال : هذا من عند الله وهو حكم الله في حقّى وحقّ مقلّدى! وقد سبق منّا مكرّرا انّ الاذن والاجازة الصّحيحة يجعل الظّنّ قائما مقام العلم بل يجعله أشرف من العلم كما شوهد من إجازات القلندريّة وتأثير المنطريّات مغلوطة بعد الاجازة ، وعدم تأثيرها صحيحة بدون الاجازة ، قيل : انّ هذا ظنّ شكّ ونزلت هذه الآية في الدّهريّة وجرت في الّذين فعلوا ما فعلوا بعد رسول الله (ص) بأمير المؤمنين (ع) وأهل بيته وانّما كان ايمانهم إقرارا بلا تصديق خوفا من السّيف ورغبة في المال ، وعن النّبىّ (ص) انّه قال : لا تسبّوا الدّهر فانّ الله هو الدّهر ، يعنى انّ الله هو الدّهر الّذى ينسبون الحوادث اليه ويسبّونه لاحداث الحوادث الغير الملائمة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) واضحات الدّلالات أو موضحات لصدق الآتي بها وموضحات لحالهم الّتى هم عليها (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) في المعارضة مع الرّسول وفي انكار تلك الآيات (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنى علّقوا علامة صدقهم على الإتيان بالمحال بحسب العادة (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعنى قل الإتيان بآبائكم فعل الله كما انّ إماتتهم كان فعله ، ويفعل هذا الفعل ويأتى بآبائكم في يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) قد مضى في اوّل البقرة معنى عدم الرّيب في الكتاب وفي القيامة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تفكّرهم في المغيبات وقصور نظرهم على المحسوسات والّا فهم يشاهدون عالم الآخرة في المنام ، والنّوم أنموذج الموت فليعلموا ان ليس خروج النّفس عن البدن بالموت الّا مثل خروجها عنه بالنّوم فكما كان يبقى بعد النّوم في عالم آخر فكذا بعد الموت (وَلِلَّهِ) لا لغيره (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما فلا يقدر أحد غيره على إيتاء الأموات (وَيَوْمَ تَقُومُ) عطف على محذوف اى في الدّنيا ويوم تقوم (السَّاعَةُ) أو ظرف ليخسر ويكون قوله (يَوْمَئِذٍ) تأكيدا له (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) وإذا كان عامّا فالرّؤية مقيّدة بيوم القيامة وان كان خاصّا فالمعنى ترى في الحال الحاضرة فانّه يرى في الدّنيا ما يراه غيره في القيامة (جاثِيَةً) جثى كدعا ورمى جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) صحيفة أعمالها (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) نفس ما كنتم تعملون أو جزاءه (هذا كِتابُنا) بتقدير القول حالا أو مستأنفا (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) فانّ الكتاب الاخروىّ حىّ ناطق كما انّ الأعضاء في الآخرة تنطق ، أو المراد يشهد عليكم بما فيه من ثبت أعمالكم (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وسئل الصّادق (ع) عن هذه الآية فقال : انّ الكتاب لم ينطق ولن ينطق ولكن رسول الله (ص) هو النّاطق بالكتاب قال الله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ فقيل : انّا لا نقرؤها هكذا ، فقال : هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمّد (ص) ولكنّه ممّا حرّف من كتاب الله ولعلّه (ع) قرئ ينطق مبنيّا للمفعول ، وسئل أيضا عن : ن والقلم ، قال انّ الله خلق القلم من شجرة في الجنّة يقال لها الخلد ، ثمّ قال لنهر في الجنّة : كن مدادا فجمد النّهر وكان اشدّ بياضا من الثّلج وأحلى من الشّهد ، ثمّ قال للقلم : اكتب ، قال : يا ربّ ما اكتب؟ ـ قال : اكتب ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة ، فكتب القلم في رقّ اشدّ بياضا من الفضّة وأصفى من الياقوت ، ثمّ طواه فجعله في ركن العرش ثمّ ختم على فمّ القلم فلم ينطق ولا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الّذى منه النّسخ ، أو لستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟! وأحدكم يقول لصاحبه : انسخ ذلك الكتاب ، أو ليس انّما


ينسخ من كتاب آخر من الأصل وهو قوله : انّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وأصلها البيعة الخاصّة الولويّة (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) الّتى هي الولاية (ذلِكَ) الدّخول في الولاية (هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ) اى يقال لهم احملتم فلم تكن (آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الانقياد لها واتّباعها حتّى استكبرتم عن الآيات العظمى والولاية الكبرى (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) بسبب مخالفتكم لولىّ أمركم (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالعذاب والثّواب (حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدا لَهُمْ) التفات من الخطاب الى الغيبة (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) حيث رأوا مقام ولىّ أمرهم وخساسة أوليائهم الظّلمة (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) اى القول أو العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن.

الجزء السّادس والعشرون

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) اى نترككم كما نسيتم هذا اليوم أو تركتم العدّة له (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ) التّدوينيّة من الكتب السّماويّة والأحكام النّبويّة والآيات الآفاقيّة الجزئيّة والانفسيّة والآيات العظمى الّذين هم الأنبياء والأولياء (ع) (هُزُواً) ما يستهزئ به ، قيل : هم الائمّة كذّبوهم واستهزؤا بهم (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فحسبتم انّكم خالدون فيها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) بسبب الاستهزاء بالآيات (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لا يسترضون ، وقيل : لا يجاوبون ولا يقبلهم الله (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) بدل من ربّ السّماوات وربّ الأرض بعد ما أشار الى ربوبيّته للسّماوات والأرضين بالالتزام وكانت تلك الرّبوبيّة مستلزمة لمحموديّته على الإطلاق صرّح بهما بطريق الاستنتاج (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إذا الرّبوبيّة لهما مستلزمة للكبرياء فيهما (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يغلب (الْحَكِيمُ) في علمه وعمله.

سورة الأحقاف

مكّيّة كلّها ؛ وقيل : الّا آية : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ؛ فانّها نزلت بالمدينة في عبد الله بن سلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ) اى سماوات عالم الطّبع وسماوات عالم الأرواح في الكبير والصّغير (وَالْأَرْضَ) بالتّعميم المذكور (وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) المخلوق به (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) لسماوات العالم الصّغير وأرضه وكذا سماوات العالم الكبير وأرضه فانّ لها أيضا أجلا وأمدا الى اوّل عالم البرزخ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) لحسبانهم انّا خلقناهم عبثا ولغوا ، وما انذروا عبارة عمّا يلحقهم من العقوبة على ترك المتابعة وترك الولاية ، واعراضهم عنه عبارة عن عدم التفاتهم اليه وعدم تدبّرهم


لدفعه (قُلْ) للمشركين بالله وللمشركين بالولاية (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والكواكب والأهواء والشّياطين والملائكة أو ما تدعون من دون خلفاء الله أو من دون اذن الله من رؤساء الضّلالة (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) اى في خلق السّماوات يعنى لا شركة لهم في خلق شيء من أجزاء الأرض ولا في شيء من أجزاء السّماوات حتّى يستحقّوا به العبادة (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) بدل من أرونى نحو بدل الاشتمال اى أرونى ماذا خلقوا أرونى كتابا فيه ثبت شركتهم في خلق الأرض هو على سبيل التّنزّل ان لم يكن لكم دليل عقلىّ فأتونى بدليل نقلىّ من كتاب سماوىّ أو غير سماوىّ يمكن تقليده (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) الأثارة نقل الحديث وروايته يعنى ائتوني بكتاب يمكن الاعتماد عليه فيه جواز اشراك الشّركاء ، أو ائتوني بحديث منقول ناش من علم وفسّر ببقيّة من علم من السّابقين يجوز الاعتماد عليه والتّقليد له (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنى انّ مثل هذا لا يجوز القول به ولا الاعتقاد به الّا إذا كان دليل عقلىّ يدلّ على صحّته وصحّة القول به ، وان لم يكن لكم دليل عقلىّ فلا اقلّ من ان يكون لكم دليل نقلىّ يجوز التّعويل عليه والتّقليد له من كتاب أو نقل ، وسئل الباقر (ع) عن هذه الآية فقال : عنى بالكتاب التّوراة والإنجيل ، وامّا أثارة من العلم فانّما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء (ع) وبعد ما أظهر عجزهم عن الإتيان بدليل عقلىّ أو نقلىّ أتى بالدّليل العقلىّ والنّقلىّ على بطلان قولهم فقال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) لو سمع دعاءهم فضلا عن مراعاة مصالحهم والاطّلاع على سرائرهم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعنى انّهم ما داموا في الدّنيا لا يسمعون دعاءهم ولو سمعو ما استجابوا ، ولو أجابوا ما قدروا على إصلاحهم ولكنّهم في يوم القيامة يسمعون نداءهم ويجيبون لهم بإنكار عبادتهم (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) فضلا عن سماعه واجابتهم ، وهذا دليل عقلىّ يدلّ على عدم جواز دعوتهم (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) وهذا دليل نقلىّ منقول من الأنبياء والأوصياء (ع) مثبت في الكتب السّماويّة وفي غيرها (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) واضحات الدّلالات أو موضحات (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) اى قالوا للآيات بعد ما ظهر حقّيّتها ولذلك وضع الظّاهر موضع المضمر (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر السّحريّة والبطلان (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ولمّا كان السّحر له شأن ووقع في القلوب اضرب عن هذا القول وقال : بل يقولون افتراه (قُلْ) في جوابهم (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) يعنى ان افتريته فلا تدفعوا عنّى شيئا من عذاب الله ولا تتحمّلوا شيئا من أوزاري لانّكم لا تملكون لي من الله شيئا من عذابه حتّى تدفعوه عنّى ، أو ان افتريته لم أكن بعاقل وأكن سفيها ، لانّ الافتراء لا يكون الّا تعرّضا لسخط الله ، وان أتعرّض لسخط الله لان أكون مقبولا عندكم كنت سفيها ، لانّ المقبوليّة عندكم لا تنفعني لانّكم لا تملكون لي من الله شيئا من رفع عذابه ، وبعد ابطال الافتراء هدّدهم بهذا الافتراء وقال (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ) اى تندفعون (فِيهِ) من القول بانّ القرآن سحر أو افتراء (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) تهديد آخر لهم (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جمع بين التّهديد والارجاء كما هو شأن النّاصح الكامل (قُلْ) لهم لم تستغربون رسالتي وقد كنت مثل سائر الرّسل و (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) اى من بينهم أو حالكوني بعضا منهم وقد كان الرّسل بشرا مثلي وكانوا يأكلون ويشربون


وينكحون ويمشون في الأسواق وقد كانوا يأتون بالاحكام من الله ويدعون الى التّوحيد (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) بحسب اقتضاء بشريّتى فما لكم تطالبونى بعلم الغيب (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) لا أتجاوزه الى ما تشتهون أو اشتهى (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) بحسب رسالتي لا شأن لي سوى الإنذار وان كنت بحسب ولايتي هاديا لكم وقادرا على ما لا تقتدرون عليه وعالما بما لا تعلمون (مُبِينٌ) ظاهر الإنذار ، وظاهر الصّدق أو موضح (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كانَ) القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو الوحي الىّ أو هذا الّذى ادّعيه من الرّسالة أو ولاية علىّ (ع) (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) قيل : هو عبد الله بن سلام كان من علمائهم وأسلم ، وقيل : المراد بالشّاهد موسى (ع) بما اثبته في التّوراة (عَلى مِثْلِهِ) لم يقل عليه لانّ شاهد بنى إسرائيل ما شهد انّ محمّدا (ص) رسول وانّ هذا القرآن كتابه وانّ عليّا (ع) وصيّه بل شهد انّ النّبىّ (ص) الموعود يكون شمائله كذا ، ودعوته الى كذا ، وكتابه كذا ، ووصيّه يكون ختنه وابن عمّه (فَآمَنَ) الشّاهد (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أنتم من الايمان به ، وجواب الشّرط محذوف اى أفلم تكونوا ظالمين أو أفلم تؤاخذوا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تعليل للجواب المحذوف ودليل عليه ، أو هو جواب بتقدير الفاء (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وبرسوله أو بالولاية (لِلَّذِينَ آمَنُوا) في حقّهم (لَوْ كانَ) الرّسول أو القرآن أو هذا الأمر من الرّسالة أو الولاية (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) لانّ نظرهم كان الى الدّنيا ولم يكونوا يعلمون خيرا الّا ما يعدّ في الانظار الحسّيّة من الخير ، وكان المؤمنون أراذل النّاس وأسوءهم حالا في نظرهم فقاسوا امر الآخرة على امر الدّنيا وقالوا هؤلاء أسوء حالا منّا فلو كان قبول الرّسالة أو الولاية خيرا لكنّا اولى منهم (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) جملة حاليّة في مقام الرّدّ عليهم يعنى يقولون هذا كذب سبق أمثاله والحال انّ من قبله كتاب موسى وهم يعترفون به وهو شاهد على صدقه حالكون كتاب موسى (ع) (إِماماً) يؤمّه كلّهم بل كلّ النّاس (وَرَحْمَةً) سبب رحمة (وَهذا كِتابٌ) ليس منافيا مخالفا له حتّى يقرّوا بكتاب موسى وينكروه (مُصَدِّقٌ) لكتاب موسى (ع) (لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) وهذا الإنذار وتلك البشرى دليل صدقه (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قد مضى الآية وبيانها في سورة السّجدة وهذه ردّ على ما قالوا لو كان خيرا ما سبقونا اليه وابطال لقياسهم الفاسد (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى في سورة البقرة بيان اختلاف هاتين الفقرتين (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) جملة منقطعة عمّا سبق بيان لحال اشخاص أو شخص مخصوص لكنّه أتى بأداة العطف إيهاما لاتّصالها بسابقها كأنّه قال : انّ الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا على ما وصّيناهم وامرناهم ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانا (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) لمّا أراد المبالغة في التّوصية في حقّ الامّ ذكر ما تتحمّله الامّ من المشاقّ على الولد (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قد سبق ذكر الاشدّ في سورة الانعام وسورة يوسف وغيرهما ، وذكر بيان له هناك (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ) يعنى ينبغي ان يقول على ان تكون الآية عامّة أو يقول لا محالة على ان يكون الآية خاصّة بالحسين (ع) كما في أخبارنا (رَبِّ أَوْزِعْنِي) ألهمنى أو أولعنى (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ


وَعَلى والِدَيَ) هذه الكلمة تدلّ على انّ الآية خاصّة بالحسين (ع) (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) ورد في خبر انّه لو لم يقل في ذرّيّتى لكانت ذرّيّته كلّهم ائمّة (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) عمّا يشغلني عنك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المخلصين أو المنقادين (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أتى بالجمع إيهاما لتعميم الآية (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ) وعدنا وعد الصّدق (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) قال الصّادق (ع): لمّا حملت فاطمة (ع) بالحسين (ع) جاء جبرئيل الى رسول الله (ص) فقال : انّ فاطمة ستلد غلاما تقتله أمّتك من بعدك فلمّا حملت فاطمة (ع) بالحسين (ع) كرهت حمله ، وحين وضعته كرهت وضعه ثمّ قال : لم تر في الدّنيا امّ تلد غلاما تكرهه ولكنّها كرهته لما علمت انّه سيقتل ، قال: وفيه نزلت هذه الآية ، وفي رواية اخرى : ثمّ هبط جبرئيل (ع) فقال : يا محمّد (ص) انّ ربّك يقرؤك السّلام ويبشّرك بانّه جاعل في ذرّيّته الامامة والولاية والوصيّة فقال : انّى رضيت ثمّ بشّر فاطمة (ع) فرضيت قال: فلو لا انّه قال : أصلح لي في ذرّيّتى لكانت ذرّيّته كلّهم ائمّة ، قال : ولم يرضع الحسين (ع) من فاطمة (ع) ولا من أنثى ، كان يؤتى به النّبىّ (ص) فيضع إبهامه في فيه فيمصّ منها ما يكفيه اليومين والثّلاث فنبت لحم الحسين (ع) من لحم رسول الله (ص) ودمه من دمه ، ولم يولد لستّة أشهر الّا عيسى بن مريم (ع) والحسين ، وفي نزول الآية في الحسين (ع) قريبا بهذا المضمون اخبار أخر (وَالَّذِي قالَ) عطف على الإنسان أو بتقدير اذكر ، وعطف باعتبار المعنى كأنّه قال : اذكر الّذى قال بعد بلوغ الأربعين ربّ أوزعني واذكر الّذى قال (لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) هذه اسم صوت وكلمة تضجّر يعنى اذكر حتّى يظهر بمقابلة هذا لذلك حسن الاوّل وقبح الثّانى ، أو مبتدء وخبره أولئك والجملة معطوفة (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من قبري حيّا (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ) الأمم الماضية (مِنْ قَبْلِي) ولم يرجع أحد منهم ولم يخرج من قبره حيّا (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ) هي وى ولك ووى كلمة تعجّب كأنّه قال : تعجّب لك ، أو هي الويل المضاف الى الكاف والمعنى الزم ويلك ، أو هي مخفّفة ويل ولك والمعنى ويل لك (آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قد مضى هذه الكلمة في الانعام والأنفال والنّحل وغيرها مع بيانها ، قال القمّىّ : نزلت في عبد الرّحمن بن ابى بكر (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بانّهم أهل النّار (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَلِكُلٍ) من الفريقين أو لكلّ فرد من افراد الفريقين (دَرَجاتٌ) ناشئة (مِمَّا عَمِلُوا) ، أو لأجل ما عملوا ، أو هي عبارة من جزاء ما عملوا ، أو من نفس ما عملوا على تجسّم الأعمال ، والمراد بالدّرجات اعمّ من الدّركات (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) قرئ بالغيبة والتّكلّم وهو عطف على محذوف اى ليجزيهم بأعمالهم وليوفّيهم (أَعْمالَهُمْ) بأنفسها أو بجزائها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على محذوف اى ليوفّيهم في الدّنيا أو يوم البرزخ أو لا يظلمون في الدّنيا أو يوم البرزخ ويوم يعرضون أو متعلّق بيقال محذوفا ، والتّقدير : يوم يعرض الّذين كفروا (عَلَى النَّارِ) يقال لهم (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) اى جهاتكم الالهيّة الّتى هي أطيب من كلّ طيّب (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) بالاشتغال بالدّنيا واتّباع الأهواء حتّى تمكّن منكم الشّيطان ، ومن تمكّن منه الشّيطان فرّ منه جهاته الإلهيّة (وَاسْتَمْتَعْتُمْ


بِها) اى فيها أو بسببها (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) عذابا يكون سببا للهوان فيكون مضاعفا لانّه يكون عذاب الجسم والنّفس (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) والمراد بالاستكبار الظّهور بالانانيّة وتحقير الخلق ، وبالفسق الخروج من طاعة من ينبغي ان يطاع (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) اى أخا قبيلة عاد وهو هود (ع) والجملة معطوفة باعتبار المعنى كأنّه قال : اذكر الّذى حملته أمّه كرها ، واذكر الّذى قال لوالديه : افّ واذكر أخا عاد (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) جمع الحقف بالكسر وهو الرّمل المستطيل المرتفع المشرف ، أو الرّمل العظيم المستدير أو المعوّج ، والأحقاف اسم لبلاد قوم هود وقد اختلف في تعيينها ، قال القمّىّ : هي من الشّقوق الى الأجفر وهي اربعة منازل ، وفي المجمع : هو واد بين عمان ومهرة ، وقيل : رمال فيما بين عمان الى حضرموت ، وقيل : رمال مشرفة على البحر بالشّجر من اليمن ، وقيل : ارض خلالها رمال (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) اى الرّسل (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) اى قبله وبعده (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) مقداره أو بلاؤه (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) لتصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب من الله (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في ادّعاء الرّسالة والوحي إليك وتوعيد العذاب (قالَ) النّذير أو هود (إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقت العذاب (عِنْدَ اللهِ) لا علم لي بوقته حتّى أخبركم به أو اعاجلكم به ، وهو كناية عن كون العذاب بقدرة الله لا بقدرته بحسب رسالته (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) وهذه وأمثالها خروج عن الانانيّة وإظهار للعجز عن التّصرّف في ملك الله وعباده وهو شيمة الأنبياء والأولياء (ع) (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) تغمرون في الجهل أو تتّصفون بالجهل أو تجهلون انّ الرّسل بعثوا بالرّحمة لا بالعذاب ولذلك يتوعّدون ويتأتّون فيما يتوعّدون (فَلَمَّا رَأَوْهُ) رأوا الموعود (عارِضاً) سحابا عارضا في الأفق (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) قال الملائكة أو هود أو الله (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب (رِيحٌ) بدل من ما (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ) التّدمير المبالغة في الإهلاك (كُلَّ شَيْءٍ) من الأنفس والأموال (بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) قرئ بالتّاء الفوقانيّة مبنيّا للفاعل ، أو المفعول ، وبالياء التّحتانيّة مبنيّا للمفعول ، ومساكنهم على حسبه والمعنى لا ترى الّا سكونهم أو محلّ سكناهم (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) قد مضى قصّتهم في سورة الأعراف وسورة هود (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) ان نافية أو شرطيّة محذوفة الجواب (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) كما جعلنا لكم ذلك (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من عذاب الله أو من شيء من الإغناء فلا تغترّوا أنتم بسمعكم وأبصاركم وافئدتكم ودقّة تدبيركم بها (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) كما كنتم تجحدون بها (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) اى وزر القول والعمل الّذى كانوا به يستهزؤن أو العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) كقرى ثمود وقوم لوط وشعيب (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) القوليّة والكتبيّة في ألفاظ ونقوش مختلفة والآيات التّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة في أزمان مختلفة وامكنة متعدّدة وصور مختلفة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) اى آلهتهم الّتى متقرّبون بها الى الله ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله يعنى ان كان هؤلاء الآلهة شفعاءكم وينصرونكم


عن عذاب الله فلو لا نصر السّابقين الّذين حلّ بهم العذاب آلهتهم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) ولم يثبتوا معهم (وَذلِكَ) الاتّخاذ (إِفْكُهُمْ) وصرفهم عن طريق الحقّ (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) ما موصولة وعطف على إفكهم أو استفهاميّة أو نافية بتقدير الاستفهام (وَإِذْ صَرَفْنا) واذكر أو ذكّر قومك إذ صرفنا (إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) والمعنى صرّفناهم إليك من محالّهم بالتّوفيق ، وقيل : صرّفناهم إليك عن استراق السّمع من السّماء برجوم الشّهب ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا منه فقالوا : ما هذا الّذى حدث في السّماء الّا من أجل شيء قد حدث في الأرض فضربوا في الأرض حتّى وقفوا على النّبىّ (ص) وهو يصلّى الفجر فاستمعوا القرآن (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ) اى النّبىّ (ص) أو القرآن (قالُوا) بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) نستمع قراءته بلا مانع (فَلَمَّا قُضِيَ) فرغ منه (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا) بدل من منذرين أو حال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) المراد بالحقّ احكام الملّة وبالطّريق المستقيم الولاية أو بالعكس ، أو المراد بهما هي الولاية من قبيل عطف أو صاف متعدّدة لشيء واحد.

نقل انّه لمّا توفّى ابو طالب اشتدّ البلاء على رسول الله (ص) فعمد ليقف بالطّائف رجاء ان يؤووه فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة وهم اخوة فعرض عليهم نفسه ، فقال أحدهم : انا أسرق ثياب الكعبة ان كان الله بعثك بشيء قطّ ، وقال الآخر : أعجز على الله ان يرسل غيرك؟ ـ وقال الآخر : والله لا اكلّمك بعد مجلسك هذا أبدا ، فلئن كنت رسولا كما تقول فأنت أعظم خطرا من ان يردّ عليك الكلام وان تكذب على الله فما ينبغي لي ان اكلّمك ، وتهزؤا به وأفشوا في قومه ما راجعوه به ، فقعدوا له صفّين على طريقه ، فلمّا مرّ رسول الله (ص) بين صفّيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما الّا رضخوهما بالحجارة حتّى أدموا رجليه ، فخلص منهم وهما يسيلان دما الى حائط من حوائطهم واستظلّ في ظلّ منه وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دما ، فاذا في الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلمّا رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله ، فلمّا رأياه أرسلا اليه غلاما لهما يدعى عداس معه عنب وهو نصرانىّ من أهل نينوى فلمّا جاءه قال له رسول الله (ص): من اىّ ارض أنت؟ ـ قال : من أهل نينوى ، قال : من مدينة العبد الصّالح يونس بن متّى؟ ـ فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متّى؟ ـ فقال : انا رسول الله (ص) ، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى ، فلمّا أخبره بما أوحى الله اليه من شأن يونس خرّ عداس ساجدا لرسول الله (ص) وجعل يقبّل قدميه وهما يسيلان الدّماء ، فلمّا بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلمّا أتاهما قالا : ما شأنك سجدت لمحمّد (ص) وقبّلت قدميه؟ ـ ولم ترك فعلت ذلك بأحد منّا؟ ـ قال : هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متّى فضحكا وقالا : لا يفتننّك عن نصرانيّتك فانّه رجل خدّاع ، فرجع رسول الله (ص) الى مكّة حتّى إذا كان بنحلة قام في جوف اللّيل يصلّى فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين من اليمن ، فوجدوه يصلّى صلوة الغداء ويتلو القرآن فاستمعوا له ، وروى غير ذلك في قصّة صرف الجنّ اليه ، من أراد فليرجع الى المفصّلات (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ) الله أو الدّاعى (لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) ابتداء كلام من الله تعالى أو جزء كلام النّفر من الجنّ (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَوَلَمْ يَرَوْا) هذا أيضا امّا ابتداء كلام من الله أو جزء كلام الجنّ (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ


السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) عطف على إذ صرفنا عطف المفرد ، أو مقدّر با ذكر ، أو متعلّق بيقال المقدّر ، أو بقالوا ، وعطف نحو عطف الجملة (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) مقدّر بالقول (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بالله أو بالرّسول أو بالآخرة أو بالولاية فاذا كان أمر هؤلاء على ما ذكر (فَاصْبِرْ) ولا تجزع على أذاهم ولا تستعجل عذابهم (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) المشهور من أخبارنا انّ اولى العزم من الرّسل خمسة ، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (ع) ومحمّد (ص) وسمّوا اولى العزم لانّ شريعتهم كانت ناسخة لما سبق من الشّرائع وكانت حتما على كلّ الخلائق بخلاف سائر الأنبياء (ع) فانّ شريعتهم كانت شريعة من سبقهم ، وكانت في قوم دون قوم ، وعلى هذا يكون من في قوله تعالى من الرّسل للتّبعيض ، وقيل : جميع الرّسل كانوا اولى العزم فانّهم لم يكونوا على تردّد من أمرهم فيكون من للتّبيين ، وقيل : اولو العزم كانوا ستّة ، نوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم صبر على النّار ، وإسحاق صبر على الذّبح ، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر ، ويوسف صبر في البئر والسّجن ، وايّوب صبر على الضّرّ والبلوى ، وقيل : هم الّذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدّين ، وقيل : هم إبراهيم وهود ونوح (ع) ورابعهم محمّد (ص) (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) العذاب فانّه كائن لا محالة عن قريب (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا) في التّنعّم والدّنيا (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) يعنى انّ المكث في الدّنيا وان كان أطول زمان ليس الّا كساعة فمالك تستعجل العذاب الوارد عليهم عن قريب (بَلاغٌ) خبر مبتدء محذوف والجملة صفة ساعة ، أو جواب لسؤال مقدّر اى هذه السّاعة ليست لتمتّعهم بل هي بلاغ لهم الى يوم يرونه فهو تسلية اخرى له (ص) وعلّة اخرى لنهيه عن الاستعجال ، أو هذا اللّبث بلاغ لهم الى هذا اليوم ، أو مبتدء خبر محذوف اى لهم بلاغ سيبلغون الى هذا اليوم فلا تستعجل ، أو لهم بلاغ الى هذا اليوم الآن فانظر حتّى ترى فانّ الكلّ بوجه في نظر البصير في القيامة والحساب ، أو المعنى هذا القرآن ، أو هذه المواعظ والتّهديدات ، أو ولاية علىّ (ع) تبليغ منك لرسالتك فلا تكترث بهم قبلوا أو ردّوا (فَهَلْ يُهْلَكُ) عن الحيوة الانسانيّة (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة ولاة الأمر فلا تحزن على الهالكين ، قيل : ما جاء في الرّجاء شيء أقوى من هذه الآية.

سورة محمّد

وتسمّى أيضا سورة القتال ، مدنيّة ، وقيل : غير آية منها نزلت على النّبىّ (ص) وهو يريد

المدينة وجعل ينظر الى البيت وهو يبكى حزنا فنزلت وهي قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ

قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) (الاية) وهي أربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اعلم ، انّ هذه السّورة ذكر فيها حال المؤمنين بعلىّ (ع)


والجاحدين لولايته وان كانت الآيات بظواهرها عامّة لكنّ المنظور منها ذلك كما نشير اليه في مواقعه ، فقوله الّذين كفروا ظاهره اعمّ من الكفر بالله أو بالرّسول (ص) أو بالآخرة أو بعلىّ (ع) وولايته ، لكنّ المقصود الكفر بالولاية بقرينة قوله صدّوا عن سبيل الله فانّ سبيل الله ليس الّا الولاية سواء جعل صدّوا بمعنى اعرضوا أو منعوا (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الّتى عملوها في الإسلام ، القمّىّ قال : نزلت في أصحاب رسول الله (ص) الّذين ارتدّوا بعد رسول الله (ص) وغصبوا أهل بيته حقّهم ، وصدّوا عن أمير المؤمنين (ع) وعن ولاية الائمّة (ع) (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة اى أسلموا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اللّازمة لبيعتهم العامّة (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) في علىّ (ع) بقبول ولايته والبيعة معه (وَهُوَ الْحَقُ) اى الولاية الّتى نزلت على محمّد (ص) هي الحقّ (مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ) أزال عنهم (سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) حالهم أو قلبهم ، قال القمّىّ : نزلت في ابى ذرّ وسلمان وعمّار ومقداد لم ينقضوا العهد وآمنوا بما نزل على محمّد (ص) اى ثبتوا على الولاية الّتى أنزلها الله وهو الحقّ يعنى أمير المؤمنين (ع) (ذلِكَ) الإضلال وتكفير السّيّئات وإصلاح الحال (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (اتَّبَعُوا الْباطِلَ) اى أهواءهم وأعداء أمير المؤمنين (ع) (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) الولاية وأمير المؤمنين (مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ) الضّرب لمثل علىّ (ع) وعدوّه بنحو العموم الّذى لا يلتفت اليه أعداء آل محمّد (ص) حتّى يسقطوه (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) اى اوصافهم أو حكاياتهم أو الأمثال الّتى تشبه أحوالهم (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) فاضربوهم ضرب الرّقاب (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) يعنى فاسروهم واحفظوهم بالوثاق ، والوثاق بالكسر والفتح ما يوثق به (فَإِمَّا مَنًّا) اى تمنّون منّا (بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) تخيير بين المنّ والفداء ، أو بيان لفائدة الحكم السّابق من دون تعرّض لحكم المنّ والفداء (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) بيان لغاية ضرب الرّقاب وشدّ الوثاق يعنى انّ ضرب الرّقاب وأسر الرّجال ليس الّا ما دام الحرب قائمة فاذا انقضت الحرب فلا تتعرّضوا لهم ، أو المعنى حتّى لا يبقى محارب وحرب في بلادكم فيكون رفع المحاربة من البين علّة غائيّة للمحاربة ، عن الصّادق (ع) انّه قال : كان ابى يقول : انّ للحرب حكمين ؛ إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أو زارها ولم يثخن أهلها فكلّ أسير أخذ في تلك الحال فانّ الامام فيه بالخيار ، ان شاء ضرب عنقه وان شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم (١) وتركه يتشحّط في دمه حتّى يموت وهو قول الله عزوجل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) (الآية) قال والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها فكلّ أسير أخذ على تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار ان شاء منّ عليهم فأرسلهم ، وان شاء فاداهم أنفسهم ، وان شاء استعبدهم فصاروا عبيدا (ذلِكَ) اى الأمر والسّنّة بحسب الأسباب ذلك ، أو ذلك حكم الله بحسب الأسباب ، أو خذوا ذلك والزموه بحسب الأسباب (وَ) لكن (لَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) من دون أمركم بقتالهم (وَلكِنْ) يأمركم بقتالهم (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فانّ في الجهاد تحصيل خصال عظيمة لا يمكن تحصيلها الّا به ، وتهديدا عظيما للكفّار حتّى يرغبوا في التّوبة قبل الاستيصال (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قرئ قتلوا مجرّدا مبنيّا للمفعول ، وقرئ قاتلوا (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ) اى ما ينبغي ان يهدوا اليه من

__________________

(١) اى بغير قطع الدّم ففي الصّحاح حسمته ، قطعته فانحسم ، ومنه حسم العرق.


الكمالات الانسانيّة ودرجات الجنان (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) حتّى لا يكون حين تلذّ ذاتهم الانسانيّة ما يغيّر حالهم (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) جواب لسؤال مقدّر أو حال والمعنى انّ الجنّة عرّفها الله لهم بانّ فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وفيه الّذى ما خطر على قلب بشر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) قد مضى في سورة الحجّ بيان لهذه الآية (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) في دينكم الّذى هو ولاية علىّ (ع) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (فَتَعْساً لَهُمْ) تعسوا تعسا لهم والتّعس الهلاك والعثار والسّقوط والشّرّ والبعد والانحطاط ، والفعل كمنع وسمع ، ويستعمل متعدّيا فيقال : تعسه الله مثل أتعسه الله (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) في علىّ (ع) ، كذا روى عن الباقر (ع) الّا انّه كشط الاسم (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض الطّبع أو ارض القرآن أو الاخبار أو السّير أو ارض العالم الصّغير (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ممّن كذّب بآيات الله ولم يصدّق خلفاء الله حتّى يتنبّهوا لقبح فعلهم وتكذيبهم وعقوبته (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) دمر كنصر ودمّر من التّفعيل أهلك ، ودمر دمورا هجم هجوم الشّرّ ودخل بغير اذن (وَلِلْكافِرِينَ) بالولاية (أَمْثالُها ذلِكَ) التّدمير (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالولاية لا الّذين كفروا بها (وَأَنَّ الْكافِرِينَ) بالولاية (لا مَوْلى لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يفعل الله بهم في كونه مولى لهم؟ ـ وما يفعل بالكافرين في كونهم لا مولى لهم؟ ـ والمراد بالايمان البيعة الخاصّة الولويّة أو الحالة الحاصلة بها ، أو البيعة العامّة النّبويّة ، والمراد بالعمل الصّالح البيعة الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بولاية ولىّ أمرهم (يَتَمَتَّعُونَ) يتلذّذون (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) يعنى يتمتّعون كالأنعام من غير نظر الى عاقبتهم وعاقبة تمتّعهم (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) وهي مكّة (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ أَفَمَنْ كانَ) يعنى الم يكن عندنا تميز فمن كان (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو علىّ (ع) كما مضى في سورة هود (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) عن الباقر (ع) هم المنافقون (مَثَلُ الْجَنَّةِ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما وصف الجنّة الموعودة للمؤمنين وحكايتها؟ ـ فقال : وصف الجنّة (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) غير متغيّر بحسب الطّعم والرّيح واللّون والجملة خبر المثل ، واكتفى عن الرّابط بكونها عين المبتدأ (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) مصدر بمعنى الوصف أو وصف ، وخمر الجنّة لا حرمة فيها ولا نجاسة ولا غائلة خمار ولأنتن ريح ولا مرارة طعم ولذلك وصفها باللّذّة (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) ممّا يخالط العسل الدّنيوىّ (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الدّنيويّة والاخرويّة من ثمرات العلوم والمشاهدات والتّسبيح والتّحميد (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فوق الكلّ (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر مبتدء محذوف اى امن كان في الجنّة في تلك النّعم كمن هو خالد في النّار (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) مسخّنا وقد يكون الحميم بمعنى الماء البارد ولكنّ المراد هاهنا الاوّل (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) من فرط حرارته ، وهذا مقابل الأنهار الّتى وعد المتّقون (وَمِنْهُمْ) من المنافقين


(مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) يعنى انّ مقصودهم من الاستماع الاستهزاء بك أو المعنى منهم من هو مطبوع على قلبه فيستمعون إليك ولا يفهمون كلامك حتّى إذا خرجوا من عندك (قالُوا) لعدم تفطّنهم بكلامك (لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) الى ولاية علىّ (ع) (زادَهُمْ) الله ، أو محمّد (ص) ، أو ما قال محمّد (ص) ، أو استهزاء المنافقين (هُدىً وَآتاهُمْ) الضّمير الفاعل لواحد من المذكورات (تَقْواهُمْ) يعنى صار سببا لاتّصافهم بالتّقوى اللّائقة بهم أو آتاهم ثواب تقويهم من العلم والذّكاوة (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من السّاعة بدل الاشتمال ، أو بتقدير اللّام وتعليل لانتظارهم (بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) جمع الشّرط بالتّحريك بمعنى العلامة فانّ من علاماتها في العالم الكبير بعثة محمّد (ص) وانشقاق القمر ونزول آخر الكتب ، وفي العالم الصّغير اوّل الأشراط نزول العقل من عالمه العلوىّ فيه ثمّ التّغييرات الّتى تكون فيه ثمّ الأمراض الّتى ترد عليه وغير ذلك ممّا يدلّ على زواله ودثوره ، وقرئ ان تأتهم بكسران وجزم تأتهم وجوابه فقد جاء أشراطها يعنى ان تأتهم بغتة فلا غرو فيه فقد جاء أشراطها ، أو جوابه قوله تعالى (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ) السّاعة (ذِكْراهُمْ) يعنى لا ينفع ذكريهم إذا جاءتهم السّاعة ، ويجوز ان يكون فاعل جاءتهم ذكريهم ، عن النّبىّ (ص) انّ من أشراط السّاعة ان يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويفشو الزّنا ، ويقلّ الرّجال ، وتكثر النّساء ، حتّى انّ الخمسين امرأة فيهنّ واحد من الرّجال،

حديث في أحوال النّاس في آخر الزّمان

وقال القمّىّ : انّ ابن عبّاس قال : حججنا مع رسول الله (ص) حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ اقبل علينا بوجهه فقال : الا أخبركم بأشراط السّاعة؟ ـ فكان ادنى النّاس منه يومئذ سلمان رحمه‌الله فقال : بلى يا رسول الله (ص) ، فقال : انّ من أشراط القيامة اضاعة الصّلوات ، واتّباع الشّهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدّين بالدّنيا ، فعندها يذاب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع ان يغيّره ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال ، اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها يليهم أمراء جورة ، ووزراء فسقة ، وعرفاء ظلمة ، وأمناء خونة ، فقال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا ، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ، ويصدّق الكاذب ويكذّب الصّادق ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان فعندها تكون إمارة النّساء ومشاورة الإماء وقعود الصّبيان على المنابر ويكون الكذب ظرفا (١) والزّكاة مغرما والفيء مغنما ، ويجفو الرّجل والديه ويبرّ صديقه ويطلع الكوكب المذنب ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التّجارة ، ويكون المطر قيظا ويغيظ الكرام غيظا ، ويحتقر الرّجل المعسر فعندها تقارب الأسواق إذ قال هذا : لم أبع شيئا ، وقال هذا ، لم اربح شيئا فلا ترى الّا ذامّا لله ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان فعندها يليهم أقوام ان تكلّموا قتلوهم وان سكتوا استباحوهم ، ليستأثرون بفيئهم ، وليطؤنّ حرمتهم ، وليسفكنّ دماءهم ، وليملأنّ قلوبهم دغلا ورعبا فلا تراهم الّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب يلون أمّتي ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم والويل لهم من الله لا يرحمون صغيرا ولا يوقّرون كبيرا ولا يتخافون عن مسيء جثّتهم جثّة الآدميّين وقلوبهم قلوب الشّياطين ، قال

__________________

(١) الظّرف كالضّرب والظّرافة وهو حسن القول أو حسن الوجه والهيئة أو حسن اللّسان والبراعة وذكاء القلب أو من لا يوصف الّا الفتيان.


سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يكتفى الرّجال بالرّجال والنّساء بالنّساء ويغار (١) على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها ، وتشبّه الرّجال بالنّساء والنّساء بالرّجال وتركبن ذوات الفروج السّروج فعليهنّ من أمّتي لعنة الله ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان انّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس وتحلّى المصاحف وتطوّل المنارات وتكثر الصّفوف بقلوب متباغضة والسن مختلفة ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها تحلّى ذكور أمّتي بالذّهب ويلبسون الحرير والدّيباج ويتّخذون جلود النّمور صفافا (٢) ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يظهر الرّبا ويتعاملون بالعينة (٣) والرّشى ، ويوضع الدّين وترفع الدّنيا ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يكثر الطّلاق فلا يقام لله حدّ ولن يضرّوا الله شيئا ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها تظهر المغنيّات والمعازف (٤) وتليهم أشرار أمّتي ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان وعندها يحجّ أغنياء أمّتي للنّزهة ، ويحجّ أوساطهم للتّجارة ، ويحجّ فقراؤهم للرّيا والسّمعة فعندها تكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير الله ويتّخذونه مزامير ، ويكون أقوام يتفقّهون لغير الله ، ويكثر أولاد الزّنا ويتغنّون بالقرآن ويتهافتون (٥) بالدّنيا ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان ذلك إذا انتهكت المحارم واكتسبت المآثم ، وسلّط الأشرار على الأخيار ، ويفشوا لكذب ، وتظهر اللّجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللّباس ، ويمطّرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة (٦) والمعازف ، وينكرون الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزّمان اذلّ من الأمة ويظهر قرّاءهم وعبّادهم فيما بينهم التّلاوم فأولئك يدعون في ملكوت السّماوات الارجاس الأنجاس ، قال سلمان : وانّ هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان فعندها لا يخشى الغنىّ الّا الفقر حتّى انّ السّائل يسئل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في كفّه شيئا ، قال سلمان : وانّ هذا الكائن يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : اى والّذى نفسي بيده ، يا سلمان عندها يتكلّم الرّويبضة ، فقال سلمان : وما الرّويبضة يا رسول الله (ص)؟! فداك ابى وأمّي ، قال : يتكلّم في امر العامّة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلبثوا الّا قليلا حتّى تخور الأرض خورة فلا يظنّ كلّ قوم الّا انّها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء الله ثمّ ينكثون في مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ (٧) كبدها ذهبا وفضّة ، ثمّ أومى بيده الى الأساطين فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضّة فهذا معنى قوله : فقد جاء أشراطها (فَاعْلَمْ) يعنى إذا علمت ذلك فاعلم (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) تقلّبكم وانتقالاتكم فانّ لكم انتقالات من اوّل استقرار نطفكم وموادّكم في الأرحام الى آخر الدّنيا وهكذا في البرازخ الى الأعراف ، أو محالّ تقلّبكم من مراتب الدّنيا والبرازخ (وَمَثْواكُمْ) في مراتب الآخرة الّتى هي كثيرة بحسب مراتب النّاس (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) في امر الجهاد أو مطلقة والمراد بالمؤمنين مطلق المسلمين أو المنافقون منهم أو المؤمنون بالبيعة الخاصّة الولويّة (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ)

__________________

(١) أغار اهله تزوّج عليها.

(٢) الصّفف ما يلبس تحت الدرع.

(٣) بيع العينة بيع الشّيء الى أجل بزيادة على ثمنه.

(٤) المعازف آلات الطّرب كالطّنبور والعود.

(٥) اى يتفاخرون ويتسابقون ، تهافت على الشّيء بمعنى تساقط وتتابع وأكثر استعماله في الشّر.

(٦) الكوبة النّرد والشّطرنج والطّبل الصّغير والبربط.

(٧) الفلذ كبد البعير وأ فلا ذا الأرض كنوزها.


مبيّنة المعنى والمقصود ، أو غير ما يتطرّق فيه النّسخ ، أو عزيمة أحكامها لارخص (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) يعنى ذكر فيها الحكم بالقتال على سبيل العزيمة (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الّذين هم بعض السّائلين أو رأيت السّائلين لكنّه وضع الظّاهر موضع المضمر لذمّهم وبيان علّة الحكم ، أو رأيت الّذين في قلوبهم مرض وهم غير السّائلين (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) لشدّة خوفهم ودهشتهم (فَأَوْلى لَهُمْ) كلمة تهديد وزجر كأنّه نقل من أصله وصار من قبيل أسماء الأصوات ، أو من قبيل الأمثال لا يغيّر وكان في الأصل فعلا من الولي بمعنى القرب ، أو من آل بمعنى رجع مقلوبا أو وصفا منهما ، أو من الويل ، أو بمعنى أحرى ، وسيجيء تفصيله في سورة القيامة وعلى هذا فهو خبر وقوله تعالى (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مبتدءه ، أو طاعة مبتدء خبره محذوف اى خير ، وقرئ يقولون طاعة ، وحينئذ يكون المعنى يقولون لنا طاعة وقول معروف (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) عزموا على الأمر جدّوا فيه وقطعوا على فعله وعزم الأمر بمعنى عزم عليه (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) فيما قالوا لو لا انزل سورة اى فيما يستفاد منه من الحرص على الجهاد أو في مطلق ما قالوا وأقرّوا بلسانهم من الايمان والتّصديق بالله والرّسول (ص) وقبول الأحكام ، أو فيما اقرّوا به من إمارة علىّ (ع) والتّسليم عليه بإمرة المؤمنين (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ممّا يزعمونه خيرا من ايّام الدّنيا وتمتّعاتها (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن علىّ (ع) أو ان تولّيتم أمور النّاس ، وقرئ ان تولّيتم بالبناء للمفعول اى ان تولّاكم النّاس (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يعنى ان تولّيتم لم يكن لكم شأن سوى الإفساد فينبغي لكم ان لا ترجوا غيره حين التّولّى (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) الصّوريّة والمعنويّة (أُولئِكَ) التفات من الخطاب الى الغيبة (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) يعنى اصمّم عن ادراك الجهة الاخرويّة من المسموعات وأعمى أبصارهم كذلك (أَ) يقدرون على التّأمّل في الآيات والقرآن (فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فلا يقدرون على التّدبّر ، ونكّر القلوب مع انّ المناسب ان يقول أم على قلوبهم للاشعار بانّ القلوب الّتى عليها أقفالها كأنّها ليست قلوب الإنسان فلا يضاف إليهم ، أو انّها لغاية حقارتها كأنّها لا يمكن ان تعرّف ، واضافة الأقفال الى القلوب للاشارة الى انّ أقفال القلوب من سنخ القلوب لا من جنس الأقفال الصّوريّة وقد مضى في اوّل البقرة انّ لكلّ من القلوب روزنة الى الملكوت العليا وروزنة الى الملكوت السّفلى ، وباعتبار لكلّ باب الى الملكوت العليا ، وباب الى الملكوت السّفلى ، وإذا انفتح كلّ من البابين أغلق الآخر (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) شبّه السّالك على طريق الدّين بمن سلك طريقا ، والرّاجع عن الدّين بمن ارتدّ عن الطّريق على دبره وهذا حال المسلمين الّذين أسلموا بمحمّد (ص) ثمّ خالفوه في أوامره (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) بقول الله وقول رسوله والمراد بالهدى الولاية وطريقها وقد بيّنها الله تعالى في عدّة آيات وبيّنها رسول الله (ص) في عدّة مواضع ، وقد ورد في خبر انّه (ص) أخذ البيعة منهم في عشرة مواطن وفي خبر آخر : أخذ البيعة عنهم يوم الغدير ثلاث مرّات (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أمليت له في غيّه أطلت ، والبعير وسعت له في قيده ، واملى الله له أمهله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) في علىّ (ع) وخلافته (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) قرئ مصدرا وجمعا ، قال الصّادق (ع): فلان وفلان ارتدّوا عن الايمان في ترك ولاية أمير المؤمنين (ع) قال : نزلت والله فيهما وفي اتباعهما وهو قول الله عزوجل الّذى نزّل به جبرئيل على محمّد (ص) ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرهوا ما نزّل الله في علىّ (ع) سنطيعكم في بعض الأمر قال : دعوا بنى أميّة الى ميثاقهم الّا يصيروا الأمر فينا بعد النّبىّ (ص) ولا يعطونا من الخمس شيئا


وقالوا : ان أعطيناهم ايّاه لم يحتاجوا الى شيء ولم يبالوا ان لا يكون الأمر فيهم فقالوا : سنطيعكم في بعض الأمر الّذى دعوتمونا اليه وهو الخمس ان لا نعطيهم منه شيئا والّذى نزّل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين (ع) وكان معهم ابو عبيدة وكان كاتبهم فانزل الله (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) (الآية) وعنهما (ع) انّهم بنو أميّة كرهوا ما نزّل الله في ولاية علىّ (ع) (فَكَيْفَ) يكون حالهم أو كيف يحتاجون (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ذلِكَ) الضّرب (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) من ولاية علىّ (ع) فانّ الرّحمة والرّضا والرّضوان والنّعمة كلّها ولاية علىّ (ع) (فَأَحْبَطَ) الله أو ذلك الاتّباع والكراهة (أَعْمالَهُمْ) عن الباقر (ع) قال : كرهوا عليّا (ع) امر الله بولايته يوم بدر ويوم حنين وببطن نخلة ويوم التّروية ويوم عرفة نزلت فيه خمس عشرة آية في الحجّة الّتى صدّ فيها رسول الله (ص) عن المسجد الحرام وبالجحفة وبخمّ والمراد بحبط الأعمال حبط ما عملوها في الإسلام (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ) ان لن يظهر الله (أَضْغانَهُمْ) لرسوله وللمؤمنين يعنى انّ هذا ظنّ فاسد ونحن نخرج أضغانهم (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) يعنى لو نشاء تعريفهم لك لأريناكهم حتّى تعرفهم بسيماهم ونفاقهم الباطنىّ (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ان لم تكن تعرفهم بسيماهم ، ويجوز ان يكون الخطاب لمحمّد (ص) وان يكون لغير معيّن والمراد بلحن القول فحواه ومقصوده من الكناية والتّورية والتّعريض ، أو إمالته الى جهة التّعريض والتّورية ، وعن ابى سعيد الخدرىّ قال : لحن القول بغضهم علىّ بن ابى طالب (ع) قال : وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (ص) ببغضهم علىّ بن ابى طالب (ع) ، وعن انس : انّه ما خفي منافق على عهد رسول الله (ص) بعد هذه الآية (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) اسررتموها أو اعلنتموها (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالأمر بالجهاد أو بمطلق التّكليف أو بالبلايا وحوادث الدّهر ، أو بالخطرات ووسوسة الشّيطان والقائه الشّبه في قلوبكم (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) يعنى حتّى يظهر علمنا أو نعلم في مظاهرنا (وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) الّتى تخبرونها عن أنفسكم من انّكم آمنتم بالله ورسوله وصدّقتم رسوله فيما جاء به ، أو نبلو أخباركم الّتى يخبرون عنكم من انّكم دبّرتم خلاف ما قاله الرّسول (ص) في علىّ (ع) ، أو نبلو أخباركم الّتى تخبرونها عن غيركم ، وقرئ الأفعال الثّلاثة بالغيبة أيضا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (وَصَدُّوا) اعرضوا أو منعوا غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الّذى هو علىّ (ع) وولايته (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) خالفوه أو اتعبوه في أهل بيته بعد اخذه الميثاق عليهم بولايته (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أو لن يضرّوك أو لن يضرّوا عليّا (ع) (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) الّتى عملوها في الإسلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما أظهر انّ الّذين لم يطيعوا رسوله في خلافة علىّ (ع) سيحبط أعمالهم نادى المؤمنين تلطّفا بهم فقال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما امراكم به من ولاية علىّ (ع) حتّى لا يبطل أعمالكم (وَلا تُبْطِلُوا) بترك طاعتهما (أَعْمالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الّذى هو الولاية كرّره لكونه المقصود من السّورة المباركة (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أبدا (فَلا تَهِنُوا) لا تضعفوا ايّها المؤمنون عن المجاهدة والقتال مع الكفّار ، أو عن المجاهدة والمحاجّة مع المنافقين المخاصمين لعلىّ (ع) (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) اى ولا تدعوا الى الصّلح لضعفكم عن مخاصمتهم ، أو لفظ الواو بمعنى مع وبعده


ان مقدّره (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) يعنى لا تهنوا ولا تدعوا الى الصّلح في حال علوّكم عليهم أو ليس المقصود تقييد النّهى بحال العلوّ بل هو حال في معنى التّعليل لا التّقييد (وَاللهُ مَعَكُمْ) هذه الجملة يؤيّد المعنى الثّانى (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) لن يضرّوكم من أعمالكم يعنى لن يضيع أعمالكم (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) قد تكرّر في ما سلف بيان اللّعب واللهو فاذا كان الدّنيا لعب الأطفال فما لكم تتعلّقون بها وتضعفون لذلك عن مقاتلتهم أو محاجّتهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بعلىّ (ع) (وَتَتَّقُوا) عن مخالفته (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) يعنى ان لم تؤمنوا بعلىّ (ع) ولم تتّقوا عن مخالفته يسألكم أموالكم اعتبارا لمفهوم المخالفة ، أو المعنى ان تؤمنوا يؤتكم اعواض أعمالكم ولا يسألكم جميع أموالكم حتّى تثقل عليكم الايمان به ، والضّمير في يؤتكم ويسئلكم لله أو لمحمّد (ص) أو لعلىّ (ع) (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) اى يجهدكم بمسئلته (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) اى يظهر احقادكم الّتى هي مكمونة في قلوبكم (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) قد مضى الكلمتان في سورة آل عمران مع بيان لهما (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لا ان تعطوا رسولنا ، وتدعون لتنفقوا شيئا يسيرا من أموالكم في سبيل الله لا ان تعطوا كثيرا من أموالكم (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بالإنفاق بما فرض الله وبغيره (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) اى يبخل متجاوزا عن خير نفسه فانّ الإنفاق كما مضى في اوّل البقرة مورث لاخذ الأشرف والاولى وقد مضى هناك أيضا انّ الإنفاق اعمّ من إنفاق المال والقوى والجاه والقوّة والانانيّة (وَاللهُ الْغَنِيُ) فلا يأمركم بالإنفاق لحاجة له اليه (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) فيأمركم بالإنفاق لحاجتكم في استكمالكم الى الإنفاق (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن الايمان بعلىّ (ع) أو عن طاعة الرّسول (ص) فيما أمركم به من الإنفاق وغيره (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) القمّىّ قال : يدخلهم في هذا الأمر (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في ان يقولوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم وقد فسّر القوم الآخر بأبناء الموالي في عدّة اخبار ، وفي المجمع روى ابو هريرة انّ ناسا من أصحاب رسول الله (ص) قالوا : يا رسول الله (ص) من هؤلاء الّذين ذكر الله في كتابه؟ (وكان سلمان الى جنب رسول الله (ص)) فضرب يده على فخذ سلمان فقال : هذا وقومه ، والّذى نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثّريّا تتناوله رجال من فارس ، وعن الصّادق (ع): من أراد ان يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد (ص) فانّه يراها آية فينا وآية فيهم.

سورة الفتح

مدنيّة كلّها ، تسع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فتح كمنع ضدّ أغلق كفتّح من التّفعيل وافتح ، والفتح النّصر كالفتاحة بفتح الحاء ، ومنه الاستفتاح وافتتاح دار الحرب والحكم بين الخصمين كالفتاحة بالكسر والضّمّ وكالفتح بالضّمّتين ، ويستعمل في معنى العلم وفي انبساط القلب واتّصاله بعالم الملكوت ومشاهداته ، وفيما يصل الى الإنسان من جهة الباطن


أو من جهة الظّاهر من أنواع فضل الله والكلّ مناسب هاهنا ، وقد قيل بكلّ منها ببعضها صريحا وببعضها تلويحا ، فقيل : معناه قضينا لك ، وقيل : يسّرنا لك ، وقيل : أعلمناك ، وقيل : أرشدناك ، وقيل : فتحنا البلاد لك ، وقيل : اظفرناك على الأعداء بالحجّة والمعجزة حتّى لم يبق معاند للإسلام ، وقيل : المراد به فتح مكّة له (ص) ، وقيل : المراد به صلح

شرح في صلح الحديبيّة

الحديبيّة ، وقيل : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبيّة ، وذلك انّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وقيل : بويع محمّد (ص) بالحديبيّة بيعة الرّضوان واطعم نخيل خيبر ، وظهرت الرّوم على فارس ، وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب وهم الرّوم على المجوس إذ صدق به قوله تعالى (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) ، وعن الصّادق (ع) قال : سبب نزول هذه السّورة وهذا الفتح العظيم انّ الله عزوجل امر رسوله في النّوم ان يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا ، فلمّا نزل ذا الحليفة (١) أحرموا بالعمرة وساقوا البدن وساق رسول الله (ص) ستّة وستّين بدنة وأشعرها عند إحرامه وأحرموا من ذي الحليفة ملبّين بالعمرة وقد ساق من ساق منهم الهدى معرّات مجلّلات ، فلمّا بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مأتى فارس كمينا ليستقبل رسول الله (ص) وكان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطّريق حضرت صلوة الظّهر فأذنّ بلال فصلّى رسول الله (ص) بالنّاس فقال خالد بن الوليد : لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصّلوة لأصبناهم فانّهم لا يقطعون صلوتهم ولكن تجيء الآن لهم صلوة اخرى احبّ إليهم من ضياء أبصارهم فاذا دخلوا في الصّلوة أغرنا إليهم ، فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) بصلوة الخوف فلمّا كان في اليوم الثّانى نزل رسول الله (ص) الحديبيّة وهي على طرف الحرم وكان رسول الله (ص) يستنفر الاعراب في طريقه معه فلم يتّبعه أحد ويقولون : أيطمع محمّد (ص) وأصحابه ان يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم ، انّه لا يرجع محمّد (ص) وأصحابه الى المدينة أبدا ، فلمّا نزل رسول الله (ص) الحديبيّة خرجت قريش يحلفون باللّات والعزّى لا يدعون رسول الله (ص) يدخل مكّة وفيهم عين تطرف فبعث إليهم رسول الله (ص) انّى لم آت لحرب وانّما جئت لأقضي نسكي وانحر بدني وأخلّي بينكم وبين لحمانها ، فبعثوا عروة بن مسعود الثّقفىّ وكان عاقلا لبيبا وهو الّذى انزل الله فيه : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فلمّا أقبل الى رسول الله (ص) عظّم ذلك وقال : يا محمّد (ص) تركت قومك وقد ضرب الابنية واخرجوا العوذ (٢) المطافيل (٣) يحلفون باللّات والعزّى لا يدعوك تدخل مكّة حرمهم وفيهم عين تطرف ، أفتريد ان تبير أهلك وقومك يا محمّد (ص)؟ ـ فقال رسول الله (ص) : ما جئت لحرب وانّما جئت لأقضي مناسكي وانحر بدني وأخلّي بينكم وبين لحمانها ، فقال عروة : والله ما رأيت كاليوم أحدا صدّ كما صددت ، فرجع الى قريش فأخبرهم ، فقالت قريش : والله لئن دخل محمّد (ص) مكّة وتسامعت به العرب لتذلّلنّ ولتجرئنّ علينا العرب فبعثوا حفص بن الأحنف وسهيل بن عمر وفلمّا نظر إليهما رسول الله (ص) قال : ويح قريش قد نهكتكم الحرب الّا خلّوا بيني وبين العرب فان أك صادقا فانّى اجّر الملك إليهم مع النّبوّة ، وان أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب لا يسألنّي اليوم امرء من قريش خطّة ليس لله فيها سخط الّا أجبتهم اليه فلمّا وافوا رسول الله (ص) ، قالوا يا محمّد (ص) الا ترجع عنّا عامك هذا الى ان ننظر الى ما يصير أمرك وامر العرب؟ ـ فانّ العرب قد تسامعت بمسيرك فاذا دخلت بلادنا وحرمنا استذلّتنا العرب واجترأت علينا ونخلّى لك البيت في العام القابل في هذا الشّهر ثلاثة ايّام حتّى تقضى نسكك وتنصرف عنّا ، فأجابهم رسول الله (ص) الى ذلك ، وقالوا له تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا ، ونردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك ، فقال رسول الله (ص) : من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ولكن على انّ المسلمين بمكّة لا يؤذون في اظهارهم الإسلام

__________________

(١) ذو الحليفة هو بالتّصغير موضع على ستة أميال من المدينة وميقات المدينة.

(٢) العوذ جمع العائذه الحديثات النتاج من كلّ أنثى.

(٣) المطافل والمطافيل جمع المطفل ذات الطّفل من الانس والوحش.


ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإسلام ، فقبلوا ذلك ، فلمّا أجابهم رسول الله (ص) الى الصّلح أنكر عامّة أصحابه واشدّ ما كان إنكارا عمر ، فقال : يا رسول الله (ص) السنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ ـ فقال : نعم ، فقال : فنعطى الذّلّة في ديننا ، فقال : انّ الله عزوجل قد وعدني ولن يخلفني ، قال : ولو انّ معى أربعين رجلا لخالفته ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف الى قريش فأخبراهم بالصّلح ، فقال عمر : يا رسول الله (ص) ، الم تقل لنا ان ندخل المسجد الحرام ونحلّق مع المحلّقين؟! فقال : أمن عامنا هذا وعدتك؟! قلت لك : انّ الله عزوجل قد وعدني ان افتح مكّة وأطوف وأسعى واحلّق مع المحلّقين ، فلمّا أكثروا عليه قال لهم : ان لم تقبلوا الصّلح فحاربوهم ، فمرّوا نحو قريش وهم مستعدّون للحرب وحملوا عليهم فانهزم أصحاب رسول الله (ص) هزيمة قبيحة ومرّوا برسول الله (ص) ، فتبسّم رسول الله (ص) ثمّ قال : يا علىّ (ع) ، خذ السّيف واستقبل قريشا فأخذ أمير المؤمنين (ع) سيفه وحمل على قريش فلمّا نظروا الى أمير المؤمنين (ع) تراجعوا ثمّ قالوا : يا علىّ (ع) بدا لمحمّد (ص) فيما أعطانا؟ ـ فقال : لا ، وتراجع أصحاب رسول الله (ص) مستحيين وأقبلوا يعتذرون الى رسول الله (ص) ، فقال لهم رسول الله (ص) : ألستم أصحابي يوم بدر إذ انزل الله عزوجل فيكم ، (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)؟ ـ ألستم أصحابي يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون عنى أحد والرّسول يدعوكم في أخريكم ، ألستم أصحابي يوم كذا؟ ـ ألستم أصحابي يوم كذا؟ ـ فاعتذروا الى رسول الله (ص) وندموا على ما كان منهم وقالوا : الله اعلم ورسوله ، فاصنع ما بدا لك ورجع حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو الى رسول الله (ص) ، فقالا : يا محمّد (ص) قد أجابت قريش الى ما اشترطت من إظهار الإسلام وان لا يكره أحد على دينه ، فدعا رسول الله (ص) بالمكتب ودعا أمير المؤمنين (ع) وقال له : اكتب ، فكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فقال : سهيل بن عمرو : لا نعرف الرّحمن ، اكتب كما كان يكتب آباؤك باسمك اللهمّ ، فقال رسول الله (ص) : اكتب باسمك اللهمّ فانّه اسم من أسماء الله ، ثمّ كتب : هذا ما تقاضى عليه محمّد رسول الله (ص) والملأ من قريش ، فقال سهيل بن عمرو : لو علمنا انّك رسول الله (ص) ما حار بناك ، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمّد بن عبد الله ، أتأنف من نسبك يا محمّد (ص)؟ ـ فقال رسول الله (ص) : انا رسول الله (ص) وان لم تقرّوا ، ثمّ قال : امح يا علىّ (ع) واكتب محمّد بن عبد الله ، فقال أمير المؤمنين (ع) : ما أمحو اسمك من النّبوّة أبدا ، فمحاه رسول الله (ص) بيده ، ثمّ كتب : هذا ما اصطلح محمّد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين على ان يكفّ بعضنا عن بعض ، وعلى انّه لا اسلال ولا أغلال وانّ بيننا وبينهم غيبة مكفوفة ، وانّ من احبّ ان يدخل في عهد محمّد (ص) وعقده فعل ، ومن احبّ ان يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وانّه من أتى محمّدا (ص) بغير اذن وليّه ردّه اليه ، وانّه من أتى قريشا من أصحاب محمّد (ص) لم تردّه اليه ، وان يكون الإسلام ظاهرا بمكّة ولا يكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يعيّر ، وانّ محمّدا (ص) يرجع منهم عامه هذا وأصحابه ثمّ يدخل علينا في العام المقبل مكّة فيقيم فيها ثلاثة ايّام ولا يدخل عليها بسلاح الّا سلاح المسافر ، السّيوف في القراب ، وكتب علىّ بن ابى طالب (ع) وشهد الكتاب المهاجرون والأنصار ، ثمّ قال رسول الله (ص) : يا علىّ (ع) انّك أبيت ان تمحو اسمى من النّبوّة فو الّذى بعثني بالحقّ نبيّا لتجيبنّ أبناءهم الى مثلها وأنت مضيض (١) مضطهد (٢) ؛ فلمّا كان يوم صفّين ورضوا بالحكمين كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علىّ بن ابى طالب (ع) ومعاوية بن ابى سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا انّك أمير المؤمنين (ع) ما حاربناك ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه علىّ بن ابى طالب (ع) معاوية بن ابى سفيان ، فقال أمير المؤمنين (ع) : صدق الله وصدق رسوله أخبرني رسول الله (ص) بذلك ، فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة

__________________

(١) مض مضيضا آلمه وأوجعه ـ أحرقه وشقّ عليه.

(٢) اضطهده قهره ، أذاه بسبب المذهب.


فقالت : نحن في عهد محمّد (ص) وعقده ، وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها ، وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله (ص) ونسخة عند سهيل بن عمرو ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف الى قريش فأخبراهم وقال رسول الله (ص) لأصحابه : انحروا بدنكم واحلقوا رؤسكم فامتنعوا وقالوا : كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت؟ ـ ولم نسع بين الصّفا والمروة؟! فاغتمّ لذلك رسول الله (ص) وشكا ذلك الى امّ سلمة ، فقالت : يا رسول الله (ص) انحر أنت واحلق فنحر رسول الله (ص) وحلق فنحر القوم على حيث يقين وشكّ وارتياب ، فقال رسول الله (ص) تعظيما للبدن : رحم الله المحلّقين ، وقال قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله والمقصّرين لانّ من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق ، فقال رسول الله (ص) ثانيا : رحم الله المحلّقين الّذين لم يسوقوا الهدى ، فقالوا : يا رسول الله (ص) والمقصّرين ، فقال : رحم الله المقصّرين ، ثمّ رحل رسول الله (ص) نحو المدينة فرجع الى التّنعيم ونزل تحت الشّجرة فجاء أصحابه الّذين أنكروا عليه الصّلح واعتذروا وأظهروا النّدامة على ما كان منهم وسألوا رسول الله (ص) ان يستغفر لهم ، فنزلت آية الرّضوان.

اعلم ، انّ اختلاف الأقوال والاخبار في بيان هذا الفتح وتعليله بمغفرة الله ذنوبه المتقدّمة وذنوبه المتأخّرة وقول النّبىّ (ص) بعد نزول هذه الآية وهذه السّورة : لقد نزلت علىّ آية هي احبّ الىّ من الدّنيا وما فيها ، وتعقيب غفرانه بإتمام النّعمة والهداية والنّصر وإنزال السّكينة كلّها يدلّ على انّ المراد بهذا الفتح ليس فتح مكّة ولا فتح خيبر ولا فتح سائر البلاد فقط بل المراد فتح هو أصل سائر الفتوح وهو فتح باب الأرواح الى الجبروت بل الى اللّاهوت ، وفي هذا الفتح يكون جميع الفتوحات من فتح البلاد ومن إيصال النّعم الصّوريّة والمعنويّة والنّصر على الأعداء والحكم بينه وبين أعداءه وكيفيّة الحكومة بين الخلق والعلم بالأشياء ، وبالجملة هذا الفتح هو الّذى يصير سببا لغفران ذنوب من اتّصل به ودخل تحت لوائه كائنا من كان وان كان ذنوبه بعدد قطرات البحار وأجزاء الرّمال ولذلك قال علىّ (ع): دينكم دينكم فانّ السّيّئة فيه مغفورة والحسنة في غيره غير مقبولة ، وهذا الفتح هو الّذى لا يبقى معه نقص وقصور لصاحبه ، وبهذا الفتح يصير صاحبه خاتما للكلّ في الكلّ ، وهذا الفتح هو الّذى يكون احبّ الأشياء الى صاحبه (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

اعلم ، انّ ذنب كلّ إنسان بحسب مقامه ومنزلته ، فانّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين وتوبة الأنبياء من الالتفات الى غير الله كما انّ توبة الأولياء من خطرات القلوب وقد قال فيما نسب اليه : انّه ليران على قلبي وانّى لاستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة ، وانّ الرّسول لمّا كان أبا لجميع أمّته والابوّة الرّوحانيّة كما مرّ في سورة البقرة عبارة عن تنزّل الأب الى مقام الابن والبنت وصيرورته فعليّة اخيرة لهما من غير تجاف عن مقامه العالي وكان شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة كان الرّسول شيئيّة كلّ أمّته وفعليّتهم الاخيرة ، فما ينسب الى أمّته من الذّنوب صحّ ان ينسب اليه بوجه ، وما غفر الله لامّته من ذنوبهم صحّ ان يقال : غفر الله تعالى له ذنوبه بمغفرة ذنوب أمّته ، ولمّا كان رسالته خاتم الرّسالات وكلّ الأنبياء كانوا تحت لوائه وتحت رسالته وكلّ الشّرائع تحت شريعته صحّ ان يقال : انّ من كان على دين من آدم (ع) وأمّته الى انقراض العالم كلّهم كانوا أمّته فصحّ ان يقول الله تعالى : انّا فتحنا لك هذا الفتح العظيم ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنوبك اللّائق بشأنك على هذا الفتح وما تأخّر وصحّ ان يقول : ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنوب أمّتك المتقدّمين من لدن آدم (ع) وما تأخّر من ذنوب أمّتك المتأخّرين الى انقراض العالم ، وصحّ ان يقول : انّا فتحنا لك مكّة ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك بزعم مشركي مكّة على زمان الفتح وما تأخّر فانّه كان أعظم ذنبا عندهم من كلّ مذنب أو ما تقدّم على الهجرة وما تأخّر عنها كما ورد عن الرّضا (ع) ، وصحّ ان يقال المعنى : انّا اظفرناك على


الأمم أو أعلمناك أو تفضّلنا عليك بالنّعم الصّوريّة والمعنويّة ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، ومن هاهنا يظهر وجه الالتفات من التّكلّم الى الغيبة فانّ ذنوب الامّة ليست الّا في غيبته تعالى وكذلك مغفرتهم وذنبه الّذى هو الالتفات الى غير الله ليس الّا بالغفلة من الله غفلة لائقة بشأنه وفي غيبته ، ومغفرته الّتى لا تكون الّا للمذنب في اىّ حال كان كانت في غيبته فان اللّطيفة الحاضرة عند الله ليس لها ذنب ، واللّطيفة المذنبة لا تصير حاضرة عند الله ، وأيضا غفران الذّنوب وإتمام النّعم وسائر ما ذكر في الآية ليست الّا باسمه الجامع الّذى يعبّر عنه بالله (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) إتمام النّعمة ليس الّا لمن فتح له باب اللّاهوت وعرج عن الملكوت والجبروت اللّتين هما من عالم الإمكان الى اللّاهوت الّتى هي فوق الإمكان ، ولا يمكن ذلك الّا بهذا الفتح المذكور (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو الخروج من الإفراط والتّفريط الّذى هو احدّ من السّيف وادقّ من الشّعر ، وتنكير الصّراط للتّفخيم (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) لا يوجد مثله ، أو نصرا يصير سببا للغلبة والمناعة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) قد مضى بيان السّكينة في أواخر سورة البقرة عند قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (الآية) وفي سورة التّوبة وسورة يوسف (ع) ، وانّ المراد بالسّكينة ظهور ملكوت ولىّ الأمر على صدر المؤمن وبهذا الظّهور يحصل له جميع ما ورد في الاخبار من معاني السّكينة ، وهذا هو الّذى ينبغي ان يظهره الله في مقام الامتنان (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً) شهوديّا (مَعَ إِيمانِهِمْ) العلمىّ والحالىّ فانّه إذا ظهر ملكوت ولىّ الأمر على المؤمن يصير ايمانه العلمىّ قرينا لإيمانه الشّهودىّ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كأنّه بعد ما سبق في سورة التّوبة من قوله تعالى بعد ذكر إنزال السّكينة وانزل جنودا لم تروها وايّده بجنود لم تروها كان التّأييد بالجنود الغيبيّة مسلّما بعد إنزال السّكينة فقال : وانّ الجنود الغيبيّة الّتى لا تنفكّ عن تلك السّكينة لله فهو الّذى انزل الجنود الغيبيّة للمؤمنين كما انزل السّكينة عليهم فقوله : ولله جنود السّموات مفيد معنى ايّدهم بجنود لم تروها مع شيء زائد ، أو المقصود من قوله ولله جنود السّموات والأرض تعميم الامتنان بسائر القوى والمدارك بعد الامتنان بانزال السّكينة عليهم كأنّه قال : لا اختصاص لامتناننا على المؤمنين بانزال السّكينة بل جميع المدارك والقوى الّتى هي من جنود السّماوات وجميع الأعضاء الآليّة والاعصاب والأوتار المحرّكة الّتى هي من جملة جنود الأرض من عطيّته ، أو المقصود ترغيب المؤمنين وتطميعهم بعد ذكر الامتنان بانزال السّكينة في إنزال الجنود الّتى لم يروها كأنّه قال : فاطلبوا جنود السّماوات والأرض منه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالحكم فيعلم وقت استعدادكم لانزال السّكينة ووقت إصلاحكم بها وافسادكم بها ، ويعلم وقت صلاحكم بتأييدكم بالجنود وعدم تأييدكم (حَكِيماً) لا يفعل ما يفعل الّا بعد المراقبة لجميع دقائق أحوالكم واستحقاقكم ولا يفعل ما يفعل الّا بالإتقان في فعله بحيث لا يتطرّق الخلل فيه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) تعليل لقوله تعالى ليغفر لك الله وهذا هو المناسب لتفسير المغفرة بمغفرة ذنوب أمّته ، أو لقوله يتمّ نعمته ، أو ليهديك ، أو لينصرك الله ، أو لأنزل السّكينة ، أو ليزدادوا ايمانا ، أو لمفهوم قوله لله جنود السّماوات والأرض ، أو للجميع على سبيل التّنازع ، أو تعليل لمحذوف ، أو فعل ما فعل ليدخل المؤمنين والمؤمنات (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى في آخر سورة آل عمران بيان لكيفيّة جريان الأنهار من تحت الجنّات عند قوله فالّذين هاجروا واخرجوا من ديارهم (خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) يزيلها


عنهم (وَكانَ ذلِكَ) الإدخال والتّكفير (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) الّذين نافقوا مع محمّد (ص) أو في حقّ علىّ (ع) (وَالْمُشْرِكِينَ) بالله أو بالرّسول أو بالولاية وهو المنظور اليه (وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو ظنّ انّه لا ينصر رسوله في سفره الى مكّة (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) الّتى تظنّونها للمؤمنين من هلاكهم بأيدى قريش ، قال القمّىّ : وهم الّذين أنكروا الصّلح واتّهموا رسول الله (ص) (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كرّره تقوية لقلوب المؤمنين وتخييبا لظنّ المنافقين (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب على ما يريد (حَكِيماً) لا يفعل الّا ما فيه صلاح المؤمنين ولا ينظر الى اهوية المؤمنين أو المنافقين (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) جواب سؤال عن علّة إدخال المؤمنين الجنّات ، وتعذيب المنافقين غاية لمغفرة ذنوب المؤمنين الّتى هي غاية للفتح المبين كانّه قيل : لم يدخل الله المؤمنين الجنّات ويعذّب المنافقين بسبب الفتح المبين للنّبىّ (ص)؟ ـ فقال : لانّا أرسلناك ايّها النّبىّ (ص) (شاهِداً) عليهم بحالك وقالك ، فمن اتّصل بك تشهد له فيدخل الجنّة ، ومن لم يتّصل بك تشهد عليه فيعذّب (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) للمؤمنين والكافرين (لِتُؤْمِنُوا) صرف الخطاب عنه (ع) الى أمّته للاشارة الى انّ غاية الإرسال ايمان المؤمنين (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) قرئ من باب الأفعال والتّفعيل والثّلاثىّ المجرّد من باب ضرب ونصر ، وقرئ تعزّزوه بالزّائين المعجمتين (وَتُوَقِّرُوهُ) قرئ من باب التّفعيل والأفعال (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) جواب سؤال مقدّر في مقام التّعليل ، أو في مقام بيان الحال ، كأنّه قيل : ما حال البائعين مع الرّسول (ص)؟ ـ فقال تعالى : انّ الّذين يبايعونك (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) لانّك مظهر لله ولا حكم للمظهر حين ظهور الظّاهر فيه وانّما الحكم للظّاهر فقط (يَدُ اللهِ) لا يدك (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقد مضى تفصيل لاخذ البيعة عند قوله الم يعلموا انّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده ، وعند قوله انّ الله اشترى من المؤمنين (الآية) من سورة التّوبة وقد ذكر بيان للبيعة في غير هذه السّورة أيضا (فَمَنْ نَكَثَ) نقض البيعة بنقض شروطها وعدم الإتيان بها ، أو بالاعراض عنها وفسخها (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) لانّ ضرره عائد إليها (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) قرئ بضمّ الهاء في عليه حفظا لتفخيم لفظ الله (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) لا يمكن ان يوصف ، قال القمّىّ : نزلت الآية في بيعة الرّضوان لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة واشترط عليهم ان لا ينكروا بعد ذلك على رسول الله (ص) شيئا يفعله ولا يخالفوه في شيء يأمرهم به فقال عزوجل بعد نزول آية الرّضوان : انّ الّذين يبايعونك انّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم (الآية) وانّما رضى الله عنهم بهذا الشّرط ان يفوا بعد ذلك بعهد الله وميثاقه ولا ينقضوا عهده وعقده فبهذا العقد رضى الله عنهم فقدّموا في التّأليف آية الشّرط على آية الرّضوان : وانّما نزلت اوّلا بيعة الرّضوان ثمّ آية الشّرط فيها (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) الّذين استنفرهم رسول الله (ص) عام الحديبيّة فاعتلّوا واعتذروا بالشّغل بأموالهم وأهاليهم وانّما خلّفهم خوفهم من قريش فانّهم قالوا انّ قريشا غزت محمّدا (ص) في عقر داره وهو يريد ان يدخل عليهم ديارهم لا يفلت منهم أحد أبدا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) لتخلّفنا وهذا من الاخبار بالمغيبات (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ


قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) على التّخلّف أو مطلقا (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فاحذروا ممّا تعملون (بَلْ ظَنَنْتُمْ) يعنى ليس شغلتكم أموالكم واهلوكم بل خفتم عن قريش لانّكم ظننتم انّهم يغلبون ويقتلون محمّدا (ص) وأصحابه و (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ) اى استحكم ذلك (فِي قُلُوبِكُمْ) بحيث لا تحتملون غيره (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) بالله ورسوله (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) هالكين عن الحيوة الانسانيّة (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وظنّ لهما ظنّ السّوء (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر لذمّ آخر لهم وللاشعار بعلّة الحكم (سَعِيراً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) بحسب استعداد كلّ فانّ مشيّته ليست جزافيّة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ترجيح لجانب الرّجاء واشعار بانّ المغفرة والرّحمة ذاتيّة له ، والتّعذيب داخل في قضائه بالقصد الثّانى (سَيَقُولُ) لكم (الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) كمغانم خيبر (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) يعنى قوله انّ الخارجين الى مكّة المصدودين عن طواف البيت مخصوصون بمغانم خيبر بدلا من دخول مكّة أو قوله انّ المتخلّفين لا يتّبعوكم في مغانم خيبر (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أتى بنفي التّأبيد مكان النّهى اشارة الى تحقّقه وتأكيدا له (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) انّكم لا تكونون معنا في مغانم خيبر (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) يعنى لا يدركون من امر الآخرة في المخاطبات الّا قليلا فلذلك يحملون قولكم ومنعكم على الحسد الّذى هي من أوصاف الدّنيا (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر تصريحا بذمّهم (مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قيل : هم هوازن وثقيف (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) الغنيمة والجنّة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يعنى عن الحديبيّة (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) لمّا أوعد المتخلّفين وذمّهم استثنى منهم في الذّمّ والإيعاد هؤلاء لئلّا يتوهّم انّهم موعدون (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) من غير المعذّرين أو من مطلق المسلمين (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات في آخر سورة النّساء (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) تأكيد لمفهوم قوله (إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) وتعليل له (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ).

اعلم ، انّ رضا الله عن العبد ليس الّا حين رضا العبد عن الله ، وهل رضا العبد مقدّم أو رضا الله؟ ـ الاخبار وكلمات الأبرار في ذلك مختلفة ، ولعلّ أهل الشّهود منهم ما حقّقوا ذلك ولذلك أظهر بعضهم التّحيّر فيه وفي أمثاله. والتّحقيق انّ هذه المسألة دوريّة بمعنى انّ ذكر الله أو توبته أو رضاه مقدّم بحسب مرتبة منه على ما للعبد بحسب مرتبة منه وما للعبد مقدّم على ما لله بحسب مرتبة اخرى بل التّحقيق انّ ما للعبد عين ما لله لكن نسبته الى الله مقدّمة في نفس الأمر على نسبته الى العبد لكن اعتبار تلك النّسبة يختلف بحسب حال النّاظر ، فمن كان نظره الى الله مقدّما على نظره الى نفسه


كما ورد عن علىّ (ع): ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله قبله ، كان نسبته الى الله مقدّمة على نسبته الى العبد ، ومن كان نظره الى نفسه مقدّما على نظره الى الله كان نسبته الى العبد مقدّمة ، ومن كان نظره إليهما على السّواء كان متحيّرا في التّقديم والتّأخير والى هذين النّظرين أشير في الخبر بقوله (ص): ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله بعده وبقوله (ص): ما رأيت شيئا الّا ورأيت الله فيه ، وامّا من لم ير مثل المعتزلىّ الّا نسبة الأفعال والصّفات الى العباد فليس الكلام معه ولعلّ قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) خطاب مع هؤلاء وهم أغلب العباد ، وقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) خطاب مع الفرقة الاولى أو تنبيه للكلّ على انّ نسبة الأوصاف الى الله مقدّمة على نسبتها الى العباد (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أتى بإذ الّتى هي للماضي لانّ نزول الآية كان بعد وقوع الواقعة ، وأتى بالمضارع بعدها للاشارة الى تكرّر الفعل فانّ البائعين في ذلك اليوم كانوا كثيرين ، وسبب رضا الله تعالى عنهم في تلك البيعة انّهم لمّا خالفوا رسول الله (ص) وقاتلوا مع قريش وانهزموا هزيمة منكرة ندموا على مخالفتهم لرسول الله (ص) وتابوا الى الله واستغفروا رسوله وبايعوا معه عن صميم القلب ولم يكن لهم حين تلك البيعة انانيّة أصلا ولذلك صاروا مستحقّين لنزول السّكينة ، وشرط عليهم الرّسول في تلك البيعة ان لا يخالفوه ولا يخالفوا قوله وأمره ، ولا ينكروا بعد ذلك عليه شيئا فعله فانّهم بعد ما انهزموا ورحل رسول الله (ص) نحو المدينة ورجع الى التّنعيم فنزل تحت الشّجرة جاؤا اليه وأظهروا النّدامة فأخذ منهم العهد والميثاق بذلك وكان اوّل من بايع رسول الله (ص) حينئذ عليّا (ع) ولقد آخى رسول الله (ص) بين كلّ اثنين اثنين منهم وآخى بين نفسه وبين علىّ (ع) (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصّدق والتّوبة والانابة فرضي بذلك عنهم (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) لانّهم خرجوا من انانيّاتهم والسّكينة الّتى هي صورة ملكوتيّة تدخل بيت قلب العبد إذا خرج من انانيّته كما قيل : «چو تو بيرون شوى أو اندر آيد» وقد مضى في آخر سورة البقرة وفي التّوبة بيان للسّكينة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) هي مغانم خيبر (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب على مراده (حَكِيماً) لا يفعل ما يفعل ولا يعد ما يعد الّا لحكمة وغاية متقنة (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) هي ما يفيء الله على المؤمنين (ع) الى يوم القيامة أو هي مغانم مكّة وهوازن (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ) اى أيدي قريش أو أيدي الاعراب وغيرهم بقوّة الإسلام ، أو أيدي أهل خيبر وحلفائهم (عَنْكُمْ) ذكر في المجمع عن العامّة انّه لمّا قدم رسول الله (ص) المدينة من الحديبيّة مكث بها عشرين ليلة ثمّ خرج منها غازيا الى خيبر فحاصرهم حتّى أصابتهم مخمصة شديدة ثمّ انّ الله فتحها ؛ وذلك انّ النّبىّ (ص) اعطى اللّواء عمر بن الخطّاب ونهض من نهض معه من النّاس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا الى رسول الله (ص) يجبّنّه أصحابه ويجبّنّهم ، فقال رسول الله (ص) بعد ما اخبروه بما فعل عمر وأصحابه ، لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرّارا غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه ، فلمّا أصبح النّاس غدوا على رسول الله (ص) كلّهم يرجون ان يعطيها ، فقال (ص) : اين علىّ بن ابى طالب (ع)؟ ـ فقالوا : هو تشتكي عينه ، فأرسل اليه فأتى به فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الرّاية ، فقال (ص) : أنفذ على رسلك (١) حتّى تنزل بساحتهم ثمّ أدعهم الى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فو الله لان يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من ان يكون لك حمر النّعم ، فذهب الى خيبر فبرز اليه مرحب فضربه ففلق رأسه فقتله وكان الفتح على يده ، هكذا أورده مسلم في الصّحيح ، ونقل عن العامّة : انّ عليّا (ع) لمّا دنا من الحصن خرج اليه اهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علىّ (ع) باب الحصن فتترّس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه ثمّ ألقاه من يده ، فلقد رأيتنى في نفر معى

__________________

(١) اى ، امش مستقيما ولا تتوقّف في مكان ولا ترجع وراك.


سبعة نجهد على ان نقلب ذلك الباب فما استطعنا ، ونقل عنهم انّ عليّا (ع) حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وانّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا ، وروى من وجه آخر انّه اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم ان أعادوا الباب ، ورووا عن ابى ليلى قال : كان علىّ (ع) يلبس في الحرّ والشّتاء القباء المحشوّ (١) الثّخين وما يبالي الحرّ فأتاني أصحابي فحكوا ذلك لي فقالوا : هل سمعت في ذلك شيئا؟ ـ فقلت : لا ، فقالوا : فسل لنا أباك عن ذلك ، فانّه يسمر معه فسألته فقال : ما سمعت في ذلك شيئا فدخل على علىّ (ع) فسمر معه ، ثمّ سأله عن ذلك ، فقال : أو ما ـ شهدت خيبر؟ ـ قلت : بلى ، قال: فما رأيت رسول الله (ص) حين دعا أبا بكر فعقد له ثمّ بعثه الى القوم فانطلق فلقي القوم ثمّ جاء بالنّاس وقد هزم؟ ـ فقال : بلى ، قال : ثمّ بعث الى عمر فعقد له ثمّ بعثه الى القوم فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ثمّ رجع وقد هزم ، فقال رسول الله (ص) : لاعطينّ الرّاية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يفتح الله على يده كرّارا غير فرّار ، فدعاني فأعطانى الرّاية ثمّ قال : اللهمّ اكفه الحرّ والبرد ، فما وجدت بعد ذلك حرّا ولا بردا ، وقال صاحب المجمع : هذا كلّه من كتاب دلائل النّبوّة للإمام ابى بكر البيهقىّ ، ثمّ لم يزل رسول الله (ص) يفتح الحصون حصنا حصنا حتّى انتهوا الى حصن الوطيخ والسّلالم وكان آخر حصون خيبر وحاصرهم رسول الله (ص) بضع عشرة ليلة ، قال ابن إسحاق : ولمّا افتتح القموص حصن ابن ابى الحقيق أتى رسول الله (ص) بصفيّة بنت حىّ بن اخطب وبأخرى معها فمرّ بهما بلال وهو الّذى جاء بهما على قتلى من قتلى يهود ، فلمّا رأتهم الّتى معها صفيّة صاحت وصكّت وجهها وحثت التّراب على رأسها فلمّا رآها رسول الله (ص) قال اعزبوا عنّى هذه الشّيطانة وامر بصفيّة فحيّزت (٢) خلفه وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون انّه قد اصطفاها لنفسه ، وقال لبلال : لمّا رأى من تلك اليهوديّة ما رأى انزعت منك الرّحمة يا بلال؟ ـ حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟ ـ وكانت صفيّة قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الرّبيع بن ابى الحقيق انّ قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال : ما هذا الّا انّك تتمنّين ملك الحجاز محمّدا (ص) ولطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها ، فأتى بها رسول الله (ص) وبها اثر منها فسألها رسول الله (ص) منها فأخبرته وأرسل ابن ابى الحقيق الى رسول الله (ص) انزل فاكلّمك قال : نعم ، وصالح رسول الله (ص) على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذّريّة لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلّون بين رسول الله (ص) وبين ما كان لهم من مال وارض على الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة وعلى البزّ (٣) الّا ثوب على ظهر إنسان ، وقال رسول الله (ص) تبرّأت منكم ذمّة الله وذمّة رسوله ان كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك ، فلمّا سمع أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا الى رسول الله (ص) ان يسيرهم ويحقن دماؤهم ويخلّون بينه وبين الأموال ، ففعل وكان ممّن مشى بين رسول الله (ص) وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله (ص) ان يعاملهم الأموال على النّصف وقالوا : نحن اعلم بها منكم وأعمر لها ، فصالحهم رسول الله (ص) على النّصف على انّا إذا شئنا ان نخرجكم أخرجناكم ، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكان اموال خيبر فيئا بين المسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله (ص) لانّهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، ولمّا اطمأنّ رسول الله (ص) أهدت له زينب بنت الحارث بن سلام وهي ابنة أخي مرحب شاة مصليّة (٤) وقد سألت اىّ عضو من الشّاة احبّ الى رسول الله (ص) فقيل لها : الذّراع فأكثرت فيها السّمّ وسمّت سائر الشّاة ثمّ جاءت بها ، فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذّراع فأخذها فلاك منها مضغة وانتهش (٥) منها ومعها بشر بن البراء بن معرور فتناول عظما فانتهش منه ، فقال رسول الله (ص) : ارفعوا أيديكم فانّ كتف هذه الشّاة تخبرني انّها مسمومة ثمّ دعاها فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك؟ ـ فقالت : بلغت من

__________________

(١) ممتلئ بالقطن.

(٢) تحيّز انحصر في مكان.

(٣) البزّ ثياب الكتان أو القطن.

(٤) اللّحم المشوىّ.

(٥) اى ، صار مسموعا ، من نهشه الحيّة.


قومي ما لم يخف عليك فقلت : ان كان نبيّا فسيخبر وان كان ملكا استرحت منه ، فتجاوز عنها رسول الله (ص) ومات بشر بن البراء من أكلته الّتى أكل ، ودخل امّ بشر على رسول الله (ص) تعوده في مرضه الّذى توفّى فيه ، فقال : يا امّ بشر ما زالت اكلة خيبر الّتى أكلت بخيبر مع ابنك تعازّنى (١) فهذا أو ان قطعت (٢) أبهري وكان المسلمون يرون انّ رسول الله (ص) مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النّبوّة (وَلِتَكُونَ) يا محمّد (ص) أو لتكون الغنيمة الّتى عجّلها لكم وهو عطف على محذوف اى لتقوّى وترفع ولتكون أو متعلّق بمحذوف معطوف على عجّل اى فعل ذلك لتكون (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) يعنى الولاية أو صراطا مستقيما واقعا بين الإفراط والتّفريط في كلّ امر (وَأُخْرى) اى ووعدكم مغانم اخرى أو قرى اخرى ، أو اخرى مفعول فعل محذوف معطوف على عجّل اى واعدّ الله لكم قرى اخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) وقيل : هي المغانم الّتى يزيدها الله للمسلمين الى يوم القيامة ، أو القرى الّتى يفتحها الله للمسلمين الى يوم القيامة ، وقيل : هي غنائم مكّة وهوازن ، أو قرية مكّة ، وقيل : المراد غنائم فارس والرّوم أو ملكهما (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) فلا يخرج من يده حتّى يكون مستعجلا مثلكم فكأنّه قال حفظها عليكم ومنعها من غيركم حتّى تفتحوها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لا اختصاص لقدرته بفيء الغنائم وفتح البلاد ونصرة الأنبياء وخذلان الكفّار (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يوم الحديبيّة (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) يعنى سنّ الله نصرة الأنبياء وهزيمة الكفّار لو قاتلوا الأنبياء من قبل هذا الزّمان (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) بالرّعب في قلوبهم والنّهى لكم عن مقاتلتهم والأمر بالصّلح (بِبَطْنِ مَكَّةَ) يعنى الحديبيّة (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) اى من بعد ان جعلكم مشرفين على الظّفر عليهم أو من بعد ان أظفركم عليهم ببدر ويوم الخندق وفي أحد (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب سؤال في مقام التّعليل (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ) من ان يبلغ (مَحِلَّهُ) وهو محلّ النّحر يعنى مكّة فانّها محلّ نحر هدى العمرة (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) بيان لعلّة منعهم عن دخول مكّة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل من رجال أو من مفعول لم تعلموهم أو بتقدير في ظرف لتعلموهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) عيب يعيبكم به المشركون بان يقولوا : قتلوا أهل دينهم ، أو اثم وجناية أو دية وكفّارة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وجواب لو لا محذوف اى لاغريناكم بهم اولا دخلناكم مكّة (لِيُدْخِلَ اللهُ) متعلّق بمحذوف اى فمنعناكم عن الدّخول ليدخل الله (فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من المؤمنين بسلامته من القتل والأذى ولحوق الكفّارة والدّية ومن الكافرين بدخوله في الإسلام (لَوْ تَزَيَّلُوا) اى لو تميّز المؤمنون والكافرون (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من أهل مكّة (عَذاباً أَلِيماً) فلحرمة اختلاط المؤمنين بالكافرين ، ولحفظ نفوس المؤمنين الّذين كانوا بمكّة عن القتل والأذى ، ولحفظ نفوس الّذين كانوا مع محمّد (ص) عن لحوق المعرّة ، ولحفظ نفوس المؤمنين الّذين كانوا في أصلاب الكافرين لم يعذّبهم الله ، وقيل : انّ صلح الحديبيّة كان أعظم فتح للإسلام حيث اختلط المؤمنون بالكافرين وأظهروا دينهم من غير خوف وتقيّة فرغب في دينهم كثير من الكافرين

__________________

(١) اى غلبني.

(٢) الأبهر عرق إذا انقطع مات صاحبه.


ودخلوا فيه من غير سيف ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل : الم يكن علىّ (ع) قويّا في بدنه قويّا في امر الله؟ ـ فقال : بلى ، قيل : فما منعه ان يدفع أو يمتنع لها؟ ـ قال : فافهم الجواب ، منع عليّا (ع) من ذلك آية من كتاب الله تعالى ، فقيل : واىّ آية؟ ـ فقرأ : لو تزيّلوا (الآية) كان لله تعالى ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن علىّ (ع) ليقتل الآباء حتّى تخرج الودائع ، فلمّا خرجت ظهر على من ظهر وقتله ، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتّى يخرج ودائع الله فاذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله ، وفي هذا المعنى اخبار عديدة ، وقال (ع): لو اخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذّبنا الّذين كفروا (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذ ظرف أو تعليل لقوله : عذّبنا أو لقوله : انزل الله ولفظة الفاء مثلها في قوله تعالى بل الله فاعبد (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) الحميّة مصدر حماه بمعنى منع منه أو منعه عن شيء أو مصدر حمى من الشّيء كرضى أنف منه والمقصود من الحميّة السّجيّة الّتى تحمل الإنسان على حفظ عرضه وحسبه ونسبه وأقاربه وما ينسب اليه عن الوقع فيها والازدراء لها بحقّ أو بباطل وهي ناشئة من انانيّة النّفس والاعجاب بها ، وهي أصل جملة الشّرور والمعاصي ، أو السّجيّة الّتى تحمل الإنسان على الانفة وعدم الانقياد لشيء حقّا كان أو باطلا وهي أيضا ناشئة من انانيّة النّفس واستكبارها على الغير وتحقيره (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بيان للحميّة أو تقييد لها بأكمل افرادها (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قد مضى قبيل هذا ذكر السّكينة (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) المراد بكلمة التّقوى هي السّكينة أو الولاية الّتى هي مورثة السّكينة ، أو سجيّة التّقوى عن الانحراف الى الطّرق المنحرفة يعنى مكّن منهم السّكينة أو الولاية أو التّقوى (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) اى احقّ بتلك الكلمة أو بالسّكينة أو بمكّة (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعنى انّ الله يعلم قدر استحقاق كلّ واحقّيّة كلّ بكلّ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) جواب لما قالوا بعد صدّهم عن مكّة انّ محمّدا (ص) وعدنا دخول مكّة وما دخلنا وما حلّقنا وما قصّرنا (بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) قيل : الاستثناء تعليم للعباد كيف يتكلّمون إذا أخبروا عن الآتي ، وقيل : الاستثناء باعتبار حال الدّاخلين فانّ منهم من مات قبل الدّخول ولم يدخل كأنّه قال : لتدخلنّ كلّكم ان شاء الله ، وقيل : الاستثناء باعتبار الأمن من العدوّ ، وقيل : ان هاهنا بمعنى إذ ، اى إذ شاء الله ، والحقّ انّه هاهنا للتّبريك ومحض التّعليم (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ) من الصّلاح في إجمال الوعد وعدم التّصريح بوقته (ما لَمْ تَعْلَمُوا) فانّه كان في صدّكم عن المسجد الحرام وصلحكم مع قريش بذلك الصّدّ منافع كثيرة للإسلام واهله وقوّة عظيمة ونشر للإسلام (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الدّخول (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر أو صلح الحديبية فانّه اختلط المسلمون بالمشركين بذلك الصّلح وتمكّنوا من إظهار الإسلام وسمع المشركون بأحكام الإسلام ورغبوا فيه وتقوّى الإسلام به ودخل محمّد (ص) وأصحابه في العام المقبل وهو سنة السّبع من الهجرة مكّة في كمال الشّوكة والعزّة (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) بأحكام الإسلام الّتى هي ما به الاهتداء الى الايمان (وَدِينِ الْحَقِ) اى الولاية فانّها الدّين والطّريق الحقّ الى الله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) اى جنس الدّين (كُلِّهِ) بان يجعل جميع الأديان تحته ويجعل دينه محيطا بالكلّ بحيث لم يبق دين من لدن آدم (ع) الى انقراض العالم الّا وهو شعبة من دينه وليظهره بحسب الظّاهر على كلّ الأديان بحيث لم يبق في بقعة من بقاع الأرض دين سوى دينه ، وإتمام هذا في ظهور القائم (ع) وقد مضى هذه الآية في سورة التّوبة (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) لرسوله أقررتم أم لم تقرّوا (مُحَمَّدٌ


رَسُولُ اللهِ) هذه الجملة كسابقتها جواب لسؤال مقدّر ومحمّد مبتدء ورسول الله خبره أو رسول الله صفته وقوله (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف على محمّد (ص) عطف المفرد والمعنى على الوجه الاوّل محمّد رسول الله (ص) والّذين معه في المرتبة رسل الله ، وعلى الوجه الثّانى محمّد رسول الله (ص) مع الّذين معه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أو عطف على رسول الله (ص) على الوجه الاوّل والمعنى محمّد رسول الله (ص) وهو الّذين معه في الدّرجة فانّه لا فرق بينه وبين من كان معه في الدّرجة ، أو هو الّذين معه بالبيعة والتّوبة فانّه وان كان غيرهم بوجه لكنّه فعليّتهم الاخيرة وقد مرّ مرارا انّ شيئيّة الشّيء بفعليّته الاخيرة فشيئيّتهم الّتى هي فعليّتهم الاخيرة محمّد (ص) باعتبار تنزّله بصورته الى مراتبهم فانّه قد مضى مكرّرا انّ البيعة تورث تكيّف البائع بحسب نفسه وفعليّته الاخيرة بصورة نازلة من الّذى بويع معه ، وقوله تعالى اشدّاء على الكفّار (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) قرئ بالرّفع خبرا لمحمّد (ص) والّذين معه على وجه أو خبرا للّذين معه على وجه ، أو خبرا لمبتدء محذوف على وجه ، وقرئ بالنّصب حالا ، ولم يأت بأداة الوصل للاشعار بانّهم جامعون بين الوصفين في جميع الأحوال لا انّ بعضهم اشدّاء وبعضهم رحماء ، ولا انّهم في حال اشدّاء وفي حال رحماء كأنّهم مرجوا الشّدّة بالرّحمة نظير حلو حامض ، لكنّ الاشدّاء بمادّته والرّحماء بهيئته يدلّان على انّهم جامعون بين الوصفين وكاملون فيهما (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) كأنّهم من كثرة صلوتهم مزجوا بين الوصفين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الفضل عبارة عمّا يفيض الله على العباد بحسب مقام كثرتهم ، والرّضوان عبارة عمّا يفيضه عليهم بحسب مقام وحدتهم وبعبارة اخرى الفضل جزاء الأعمال المأخوذة بحسب قبول الرّسالة وهي احكام القالب ، والرّضوان جزاء الأعمال المأخوذة بحسب قبول الولاية وهي احكام القلب والرّوح (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) المراد به الأثر الّذى يحدث في جباههم من كثرة السّجود في الصّلوة ، أو المراد الأثر الّذى يحدث في وجوههم من السّهر بسبب صلوة اللّيل ، أو الأثر الّذى يحدث في وجوههم من كثرة خشوعهم لله تعالى (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ).

اعلم ، انّ السّالك له شأنان ؛ شأن السّلوك وشأن الجذب وهو بشأن السّلوك يؤدّى الحقوق ويقيم كثرات وجوده من قواه وجنوده ويقيم من كان تحت يده من اهله وعياله وخدمه وحشمه ويصلحهم ويسدّ فاقتهم ، وبشأن الجذب ينصرف عن الكثرات الى الوحدة ويجذب قواه وجنوده وعياله الى جهة الوحدة ، ويجعل مرمّة معاشه ومعاش من تحت يده بحيث يؤدّى الى حسن معاده ، وبعبارة اخرى له توجّه الى الكثرات وتوجّه الى الوحدة ، وبتوجّهه الى الكثرة يصلح معاشه بحيث يؤدّى الى حسن معاده ، وبتوجّهه الى الوحدة يصرف قواه وجنوده عن الكثرة الى الوحدة ، وبعبارة اخرى له قربان ؛ قرب النّوافل وقرب الفرائض ، وبعبارة اخرى ما يصل اليه من الله امّا يصل اليه بكسبه واعماله وسبق استعداده واستحقاقه واختياره وانانيّته ، أو من دون ذلك ، والكامل أيضا له نظران ؛ نظر الى الكثرة ونظر الى الوحدة ، ووجه الى الكثرة ووجه الى الوحدة ، وبالوجه الى الوحدة يأخذ من الله وبالوجه الى الكثرة يفيض ما يأخذه على غيره ، وبتفاوت هذين النّظرين يختلف الكاملون في مراتب الكمال ، والكامل المطلق من كان نظره الى الطّرفين متساويا من غير ترجّح لأحد الطّرفين على الآخر وهو شأن محمّد (ص) والّذين معه ، وامّا سائر الأنبياء (ع) فلا يخلو أحد منهم من رجحان أحد الطّرفين وانّ موسى (ع) كان نظره الى الكثرات غالبا على نظره الى الوحدة ، وعيسى (ع) كان نظره الى الوحدة غالبا ولذا نقل فيما نقل انّ محمّدا (ص) قال : انّ أخي موسى (ع) كان عينه اليمنى عمياء ، وأخي عيسى (ع) كان عينه اليسرى عمياء ، وانا ذو العينين ، وللاشارة الى انّ محمّدا (ص) والمحمّديّين جامعون للطّرفين وكاملون في النّظرين وتامّون في القربين قال : ذلك الّذى ذكرنا من اتّصافهم بالأوصاف الاختياريّة والأحكام القالبيّة ، وإصلاح الكثرة مثلهم


في التّوراة الّذى هو نشأة موسى (ع) (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) الّذى هو حال نشأة عيسى (ع) (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) قرئ بسكون التّاء وفتحها وقرئ بالمدّ وبالقصر ، والشّطأ فرخ الحيوان والنّبات وورق النّبات (فَآزَرَهُ) قرئ من الثّلاثىّ المجرّد وبالمدّ من باب الأفعال أو المفاعلة والمعنى أعانه وقوّاه حتّى لحقت هذه الافراخ الامّهات أو حتّى استكمل الأوراق (فَاسْتَغْلَظَ) الزّرع أو الشّطأ (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) فاستوى الزّرع أو الفرخ (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) بحسنه واستغلاظه ، قيل : هذا مثل ضربه الله تعالى لمحمّد (ص) وأصحابه فالزّرع محمّد (ص) والشّطأ أصحابه والمؤمنون حوله وكانوا في ضعف وقلّة كما يكون اوّل الزّرع دقيقا ثمّ غلظ وقوى وتلاحق فكذلك المؤمنون قوّى بعضهم بعضا حتّى استغلظ واستووا على أمرهم (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالبيعة الخاصّة فانّها أصل جميع الصّالحات ، ومن باع البيعة الخاصّة كان كأنّه عمل جميع الصّالحات أو آمنوا بالبيعة الخاصّة وعملوا الصّالحات على طبق ما أخذ منهم في بيعتهم (مِنْهُمْ) من النّاس أو من الّذين آمنوا أو من الّذين مع محمّد (ص) (مَغْفِرَةً) سترا لمساويهم (وَأَجْراً عَظِيماً) لا يمكن ان يوصف.

سورة الحجرات

مدنيّة ، وقيل الّا آية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) (الاية) ، ثماني عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة فانّ هذا حكم قالبىّ لجملة المسلمين (لا تُقَدِّمُوا) قدم كنصر وقدّم من التّفعيل واستقدم وتقدّم بمعنى والمعنى لا تمشوا (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) والمقصود لا تقدّموا بين يدي رسوله لكنّه أضاف الله للاشعار بانّ التّقدّم بين يدي رسول الله (ص) هو التّقدّم بين يدي الله لانّ رسوله مظهره ، وقرئ لا تقدّموا من التّفعّل اى لا نتقدّموا ، ويجوز ان يكون لا تقدّموا بضمّ التّاء وكسر الدّال من قدّمه إذا جعله مقدّما في الأمر ، ويكون المعنى لا تقدّموا أحدا على الله ورسوله (ص) ، أو لا تقدّموا امرا على امر الله ورسوله (ص) أو لا تختاروا امرا بين يدي رسوله (ص) من دون اذنه ، أو لا تجعلوا امر أنفسكم مقدّما على امر الله بان تجعلوا في الأعمال المعاديّة امر النّفس والغايات النّفسيّة نصب أعينكم غافلين عن امر الله ، وبان يكون نظركم في الأعمال المعاشيّة الى ما يزيّنه لكم أنفسكم من دون نظر فيها الى امر الله ونهيه ، والمقصود من الكلّ هو المقصود من كلّ القرآن وهو لا تقدّموا أحدا في الخلافة ولا تقدموا على الخلافة من دون امر الله ورسوله (ص) (وَاتَّقُوا اللهَ) اى سخطه في الاقدام على الأمور الشّرعيّة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما تقولون في امر الخلافة ، أو لما تأمركم أنفسكم عند أعمالكم المعاديّة والمعاشيّة (عَلِيمٌ) بنيّاتكم ودقائق أعمالكم وأحوالكم ومكنوناتكم الّتى لا اطّلاع لكم عليها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمّا كانت السّورة المباركة لتأديب الامّة صدّر كلّ حكم منها بالنّداء تلطّفا بهم وتنشيطا لهم للاستماع وجبرا لكلفة التّأديب بلذّة الخطاب (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) سواء كان فوق صوته (ص)


أو لم يكن (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ) كراهة ان تحبط (أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) فانّ رفع الصّوت عنده ترك لتعظيمه أو إظهار لتحقيره وكلاهما مورث لحبط العمل ، وورد انّ رسول الله (ص) كان إذا رفع أحد عنده صوته رفع صوته فوق صوته (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) امتحنه اختبره ، وامتحن الله قلبه وسّعه وشرحه ، وللتّقوى علّة لامتحن حصوليّة أو تحصيليّة يعنى لكونهم متّقين وسّع الله قلوبهم وشرحها ، أو لأجل تحصيل التّقوى شرح الله قلوبهم ، أو اختبر الله قلوبهم ، والمؤمن الممتحن هو الّذى شرح الله صدره بنزول السّكينة فيه وظهور ملكوت الامام عليه ولذلك قال علىّ (ع) في حديث المعرفة بالنّورانيّة : انّ من عرفني بالنّورانيّة هو المؤمن الممتحن قلبه للايمان ، ومن امتحن الله قلبه للتّقوى يستشعر مداما بعظمة الله وعظمة رسوله فلا يمكنه رفع الصّوت عند الرّسول (ص) (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ويجوز ان يكون الوقف على قوله قلوبهم ويكون للتّقوى تعليلا لما بعده (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ولذلك لا يعظّمونك ويجعلونك مثل واحد منهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تقوية لجهة الرّجاء ، في المجمع : نزل قوله : يا ايّها الّذين آمنوا (الى قوله) غفور رحيم في وفد تميم وهم أشراف بنى تميم في وفد عظيم ، فلمّا دخلوا المسجد نادوا رسول الله (ص) من وراء الحجرات ، ان اخرج إلينا يا محمّد ، .. فأذي ذلك رسول الله (ص) فخرج إليهم فقالوا : جئناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا ، فاذن رسول الله (ص) فقام خطيبهم اوّلا وخطب ، فقال رسول الله (ص) لثابت بن قيس : قم فأجبه ، فقام وخطب أحسن من خطيبهم ، ثمّ قام شاعرهم وأجابه حسّان بن ثابت ، فلمّا فرغوا قال الأقرع بن حابس الّذى كان من اشرافهم : هذا الرّجل خطيبه اخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا ، وأصواتهم أعلى من أصواتنا ، فلمّا فرغوا أجازهم رسول الله (ص) فأحسن جوائزهم وأسلموا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) نزلت الآية في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله (ص) في صدقات بنى المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحا به وكانت بينهم عداوة في الجاهليّة فظنّ انّهم همّوا بقتله فرجع الى رسول الله (ص) وقال : انّهم منعوا صدقاتهم فغضب النّبىّ (ص) فنزلت الآية ، وقيل : نزلت في عائشة حين رمت مارية القبطية بجريح القبطىّ ، فدعا رسول الله (ص) عليّا (ع) وقال : يا أخي خذ هذا السّيف ان وجدته عندها فاقتله ، فقال : يا رسول الله (ص) أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسّكّة المحماة امضى لما أمرتني أم الشّاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فقال : بل الشّاهد يرى ما لا يرى الغائب ، قال علىّ (ع) فأقبلت متوشّحا بالسّيف فوجدته عندها فاخترطت (١) السّيف فلمّا عرف انّى أريده أتى نخلة فرقى إليها ثمّ رمى بنفسه على قفاه وشغر (٢) برجليه فاذا انّه أجبّ امسح ، ماله ما للرّجال ، فرجعت فأخبرت النّبىّ (ص) فقال : الحمد لله الّذى يصرف عنّا السّوء أهل البيت ، والمعنى ان جاءكم جنس الفاسق الخارج عن طاعة الله ورسوله أو جاءكم فاسق واحد فتبيّنوا الخبر وتجسّسوا صدقه وكذبه ، وقد مضى مكرّرا انّ مفهوم المخالفة غير معتبر في المخاطبات خصوصا في الأحكام فليس المقصود ان جاءكم عادل فاعملوا ولا تبيّنوا ، ولا ان جاءكم فاسقان فلا تبيّنوا واعملوا ، فمن اعتبر المفهوم وقال : خبر العدل الواحد حجّة باعتبار مفهوم مخالفة هذه الآية لا يصغي اليه (أَنْ تُصِيبُوا) كراهة ان تصيبوا (قَوْماً بِجَهالَةٍ) بحالهم (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فتبيّنوا الاخبار بالعرض عليه واستأذنوه في العمل بها حتّى لا تصيروا نادمين على فعلكم ، أو هو تمهيد لما بعده كأنّه قال : انّ هذا الّذى هو فيكم هو رسول الله (ص) اعتبارا للوصف العنوانىّ (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) ويطرح امر الله وحكمه (لَعَنِتُّمْ)

__________________

(١) اخترط السّيف استله.

(٢) اى دفع ..


لتعبتم أو هلكتم وهو ردّ لما أشار اليه بعضهم من الإيقاع ببني المصطلق (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ) استدراك لما توهّم من انّهم أرادوا ان يحملوا رسول الله (ص) على طاعتهم كأنّه قال لكنّ الله حبّب (إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) فلا تريدون حمل الرّسول (ص) على اتّباعكم والمراد بالايمان علىّ (ع) ، أو قبول ولايته ، أو محمّد (ص) ، أو قبول رسالته الّذى هو الإسلام (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) جواب لسؤال مقدّر وصرف للخطاب عن المؤمنين والجملة معترضة أو غير معترضة (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) مفعول له لحبّب وكرّه أو تعليل للرّاشدون بتقدير اللّام لعدم صحّة جعله مفعولا له للرّاشدون لعدم اتّحاد المرفوع وقد تكرّر تفسير الفضل بمحمّد (ص) ورسالته واحكام رسالته وقبول رسالته ، وتفسير النّعمة بعلىّ (ع) وولايته وآثار ولايته وقبول ولايته (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم ودقائق ما يصلحكم ولذلك زيّن الايمان في قلوبكم وكرّه الكفر (حَكِيمٌ) لا يفعل ما يفعل الّا لغاية محكمة متقنة (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) اى المسلمين (اقْتَتَلُوا) بيان لادب المعاشرة (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) بالرّجوع الى الرّسول وما حكم به (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) لمّا كان الإصلاح بعد الأمر بالمقاتلة مع الباغين مظنّة للحيف قيّده بالعدل ، أو المراد انّ الإصلاح كما يكون باستيفاء جميع الحقوق من الطّرفين يكون بإسقاط بعض الحقوق والإغماض عن بعض فقيّده بالعدل للاشعار بانّ الإصلاح ينبغي ان يكون باستيفاء الحقوق (وَأَقْسِطُوا) في جميع الأمور حتّى في العبادات فلا تضيّقوا على أنفسكم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) قيل : نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج في عهد الرّسول (ص) بالسّعف والنّعال ، وعن الصّادق (ع) لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله (ص) : انّ منكم من يقاتل بعدي على التّأويل كما قاتلت على التّنزيل ، فسئل من هو؟ ـ قال : خاصف النّعل يعنى أمير المؤمنين (ع) فقال عمّار بن ياسر : قاتلت بهذه الآية مع رسول الله (ص) ثلاثا وهذه الرّابعة والله لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا السّعفات من هجر لعلمنا انّا على الحقّ وانّهم على الباطل ، وكانت السّيرة فيهم من أمير المؤمنين (ع) ما كان من رسول الله (ص) في أهل مكّة يوم فتح مكّة فانّه لم يسب لهم ذرّيّة وقال : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن القى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل دار ابى سفيان فهو آمن ، وكذلك قال أمير المؤمنين (ع) يوم البصرة نادى فيهم لا تسبوا لهم ذرّيّة ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تتبعوا مدبرا ، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) قد مضى في سورة البقرة وفي سورة النّساء وجه كون المؤمنين اخوة عند قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وذكر (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ليكون تمهيدا وتعليلا ورفعا لكلفة التّكليف بالإصلاح لقوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وهذا اعمّ من سابقه فانّ المراد هاهنا انّه إذا وقع اختلاف بين المؤمنين سواء بلغ الى حدّ المقاتلة أو لم يبلغ فأصلحوا بينهما (وَاتَّقُوا اللهَ) وسخطه في الحيف والميل الى أحد الطّرفين (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) على إصلاحكم وعدم ميلكم ، أو لعلّكم ايّها المتخالفون والمصلحون جميعا ترحمون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أدب آخر ولمّا كانت السّخريّة من الخلق سجّيّة لاكثر النّاس وتركها كان صعبا صدّره بالنّداء جبرانا لكلفته (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا) اى القوم المسخور منهم (خَيْراً مِنْهُمْ) اى من السّاخرين (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) قال القمّىّ : نزلت في صفيّة بنت حىّ بن اخطب وكانت زوجة رسول الله (ص)


وكانت عائشة وحفصة توذيانها وتشتمانها وتقولان لها : يا بنت اليهوديّة ، فشكت الى رسول الله (ص) فقال لها : الا تجيبينهما؟ ـ فقالت : بماذا يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : قولي لهما : انّ ابى هارون (ص) نبىّ الله ، وعمّى موسى كليم الله ، وزوجي محمّد (ص) رسول الله (ص) فما تنكران منّى؟! فقالت لهما : فقالتا هذا علّمك رسول الله (ص) (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أتى بهذه الكلمة اشعارا بعلّة الحكم حيث انّ المؤمنين كلّ منهم بمنزلة نفس الآخر (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) السّيّئة بان يلقّب بعضكم بعضا بلقب سوء (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) الخروج عن عهد محمّد (ص) وعقده وشروط عقده بذلك وانّما أتى بالفسوق مقام الضّمير أو اسم الاشارة للاشعار بانّ ذلك فسوق وخروج عن عهدة عهد الله (بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عن السّخريّة واللّمز والنّبذ بالألقاب ، وأتى بذكر التّوبة اشعارا بانّه معصية (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لا ظالم أظلم منهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمّا كان الحكم الآتي أيضا ممّا يصعب امتثاله لكون الظّنّ في جبلّة أكثر النّاس أتى بالنّداء (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) إبهام الكثير ليحتاط في كلّ ظنّ ويتبيّن انّه من اىّ القبيل.

أقسام الظّنّ وهي خمسة بحسب الأحكام الخمسة

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) اجتناب أصل الظّنّ غير مقدور للمكلّفين الّا ان يكون الأمر باجتناب الظّنّ امرا باجتناب مباديه ، وامّا اجتناب اتّباعه فانّه مقدور لكلّ أحد والظنّون مختلفة فظنّ يجب اتّباعه لو حصل ، ويجب تحصيله لو لم يكن حاصلا وهو الظّنّ حين الشّكّ في الصّلوة ، والظّنّ حين الاحتياط في العمل ، وكالظّنّ الحسن بالله وبالمؤمنين ، وظنّ يستحبّ اتّباعه لو حصل ويستحبّ تحصيله لو لم يكن حاصلا كالظّنّ بحاجة المؤمن ، وتحصيل الظّنّ بحاله من حاجة وغيرها ، وظنّ يكره اتّباعه وتحصيله كالظّنّ بنجاسة شيء لا يحصل من تطهيره ضرر معتدّ به ، وظنّ يحرم اتّباعه وتحصيله كالظّنّ بسوآت المؤمنين وعوراتهم وفحشائهم ، وظنّ مباح ، فبعض الظّنّ اثم يجب اجتنابه وترك اتّباعه ، وعن علىّ (ع) قال : ضع امر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلّبك منه ، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير محملا ، وعنه (ع): إذا استولى الصّلاح على الزّمان واهله ثمّ أساء رجل الظّنّ برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزّمان واهله ثمّ أحسن الرّجل الظّنّ برجل فقد غرر.

معنى الغيبة

(وَلا تَجَسَّسُوا) عن عورات المؤمنين حتّى يحصل لكم ظنّ سوء ، وقرئ لا تحسّسوا بالحاء المهملة وهو بمعناه ، عن الصّادق (ع) قال رسول الله (ص): لا تطلبوا عثرات المؤمنين فانّه من تتبّع عثرات أخيه تتّبع الله عثرته ، ومن تتبّع الله عثرته يفضحه ولو في جوف بيته (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) اى لا يذكر بعضكم بعضا بالسّوء في غيبته ، والغيبة ان تظهر بلسانك أو بسائر جوارحك بالتّصريح أو بالكناية والتّلويح عيبا للمؤمن قد ستره الله عليه في غيابه ، وحيث لم يكن يعلم بإظهارك ، وامّا العيوب الّتى لم تكن في المؤمن فنسبتها اليه في حضوره وغيابه تكون بهتانا وتكون اشدّ من الغيبة ، ويظهر ممّا ذكرنا في سورة البقرة في بيان قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وجه حرمة السّخريّة بالمؤمن ولمزه ونبزه باللّقب السّوء والظّنّ به وتجسّس عورته والغيبة له والبهتان له ، ويظهر أيضا سرّ كونها اشدّ من الزّنية ، وقد ذكر في الفقه الموارد الّتى يجوز الغيبة فيها ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل عن الغيبة فقال : هو ان تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبثّ عليه امرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ ، وفي رواية : وامّا الأمر الظّاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا ، وعن


الكاظم (ع) من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه النّاس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه النّاس اغتابه ، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته ، وفي حديث : قولوا في الفاسق ما فيه كى يحذره النّاس ، وفي اخبار عديدة مضمون قول النّبىّ (ص): ايّاكم والغيبة فانّ الغيبة اشدّ من الزّنا ، ثمّ قال : انّ الرّجل يزني ويتوب فيتوب الله عليه ، وانّ صاحب الغيبة لا يغفر له الّا ان يغفر له صاحبه ، والغيبة المحرّمة تكون للمؤمن أو للمسلم مطلقا أو لمن قبل صورة الإسلام منتحلا كان أو مسلما أو مؤمنا ، قال بعض أهل المعرفة : غير المؤمن حكمه حكم الانعام فكما لا غيبة للانعام لا غيبة لغير المؤمن ، ولغير المتّصف بالإسلام حقيقة فانّ منتحل الإسلام كمنتحلى التّهوّد والتّنصّر لا حرمة له انّما الحرمة لمن اتّصل بمظاهر الله بالبيعة العامّة أو الخاصّة ، والتّحقيق انّ رؤية العيب من العباد بل من مطلق خلق الله ليست الّا من نظر ردىّ خسيس وهو النّظر الى الأشياء مباينة للحقّ المقوّم الصّانع لها مع الغفلة عن الحقّ تعالى وصنعه ، ومع النّظر الى النّفس والاعجاب بها ، أو مع الغفلة عنها وعن عيوبها ، وإذا أراد الله بعبد شرّا بصرّه عيوب غيره وأعماه عن عيوب نفسه ، وذكر الأشياء وتعييبها في الحقيقة راجع الى تعييب الصّنع ، والغفلة عن الصّانع وصنعه حين النّظر الى المصنوع كفر للصّانع ، والغفلة من النّفس وعيوبها مذموم ، ورؤية النّفس والاعجاب بها أصل جميع الشّرور ، فرؤية السّوء من غير الإنسان قبيحة ، ورؤيته من الإنسان أقبح ، ومن المنتحل للإسلام اشدّ قبحا ، ومن المسلم اشدّ قبحا ، ومن المؤمن اشدّ قبحا ، وذكره في غيابه أو حضوره بسوء لا قبيح أقبح منه حتّى نسب الى الخبر انّه اشدّ من سبعين زنية مع الامّ تحت الكعبة ، ولذلك نسب الى عيسى (ع) انّه مرّ مع الحواريّين على جيفة كلب منتنة فقال الحواريّون : ما أنتنه ..! فقال عيسى (ع) : ما ابيض أسنانه ..! وروى انّ نوحا مرّ على كلب كريه المنظر فقال نوح : ما أقبح هذا الكلب فجثا الكلب وقال بلسان طلق ذلق : ان كنت لا ترضى بخلق الله فحوّلنى يا نبىّ الله ، فتحيّر نوح واقبل يلوم نفسه بذلك وناح على نفسه أربعين سنة حتّى ناداه الله تعالى الى متى تنوح يا نوح؟ فقد تبت عليك ، وعن النّبىّ (ص): المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون الف ملك وخرج من قلبه نتن حتّى يبلغ العرش ، ويلعنه حملة العرش وكتب الله عليه بتلك سبعين زنية أهونها كمن يزني مع أمّه ، والكذب قبيح من كلّ أحد خصوصا من المؤمن لكن غيبة المؤمن أقبح منه بمراتب ، وعنه (ص): من آذى مؤمنا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فهو ملعون في التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان ، وهو ما ذكرنا في سورة البقرة من انّ غيبة المؤمن وذكره بسوء في غيابه وحضوره وايذاءه كلّها راجع الى صاحبه ، فمن اغتاب مؤمنا وذكره بسوء كان كمن اغتاب صاحبه وذكره بسوء ، واغتياب صاحبه الّذى هو أعظم آيات الله وذكره بسوء فوق جميع المعاصي وغايتها كما قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) واستهزؤا بها ، وقال (ص): من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنّة أبدا ، ومن اغتاب مؤمنا بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما ، وكان المغتاب في النّار خالدا فيها وبئس المصير ، فالغيبة بما ليس في المؤمن تجمع خواصّ الغيبة والكذب جميعا ، وقال (ص): انّه يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع اليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول : إلهي ليس هذا كتابي! لانّى : لا ارى فيها طاعتي! فيقول له : انّ ربّك لا يضلّ ولا ينسى ، ذهب عملك باغتياب النّاس ، ثمّ يؤتى بآخر ويدفع اليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة فيقول : ما هذا كتابي! فانّى ما عملت هذه الطّاعات! فيقول : لانّ فلانا اغتابك فدفعت حسناته إليك ، وقال (ص): كذب من زعم انّه ولد من حلال وهو يأكل لحوم النّاس بالغيبة واجتنبوا الغيبة فانّها ادام كلاب النّار ، ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

عيب بر خود نه نه بر آيات دين

كى رسد بر چرخ دين مرغ گلين

پس تو حيران باش بى لا وبلى

تا ز رحمت پيشت آيد محملي

عيب باشد كو نبيند جز كه عيب

عيب كى بيند روان پاك غيب

اى خنك جانى كه عيب خويش ديد

هر چه عيبى ديد آن بر خود خريد


(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) ولقد أتى بالاستفهام الانكارىّ وبالأحد للعموم وبأكل لحم الميّت من الأخ وبتأكيد مفهوم نفى الحبّ بعطف كرهتموه للمبالغة البالغة في النّهى عن الغيبة وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميتة لانّ الأسماء قوالب المسميّات ولا حكم لها على حيالها ، ومن ذكر مؤمنا بسوء لا يكون ذلك منه الّا بتخلية المؤمن عن لطيفة ايمانه فذكره على لسانه وسماعه بسمعه بمنزلة لحمه الخالي عن الرّوح الممضوغ بفمه والدّاخل في جوفه فانّ دخوله في جوفه من طريق سمعه كدخوله في جوفه من طريق حلقه ، ولذلك ورد انّ السّامع للغيبة شريك المغتاب (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تغتابوا وتوبوا ان اغتبتم ، ولمّا كان في جبلّة الإنسان رؤية العيب من الغير وذكر ما رآه على لسانه وقد بالغ تعالى في ذمّ الغيبة والنّهى عنه وكان ذلك مورثا ليأس أغلب النّاس عن رحمته تعالى قال : (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) بعد ذلك ترجيحا لجانب الرّجاء (يا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا الّذى يأتى تأكيد للنّواهى السّابقة وتعليل لها (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) يعنى من هذين الجنسين أو من آدم وحوّاء (ع) (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشّعوب للعجم كالقبائل للعرب ، وقيل : الشّعب بفتح الشّين الجمع العظيم المنتسبون الى أصل واحد وهو يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل ، والأقل من الكلّ الفصيلة ، فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصىّ بطن ، وهاشم فخذ ، وعبّاس فصيلة (لِتَعارَفُوا) لا ان تفاخروا وتنابزوا وتلمزوا وتسخروا وتغتابوا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فليست الكرامة والشّرف بالنّسب والحسب والمال والجمال وكثرة الأولاد والخلوّ من العيوب (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالمتّقى منكم والأتقى وبالشّقىّ والأشقى (خَبِيرٌ) بما لا يتعلّق علمكم به من بواطن أموركم وقدر استعدادكم واستحقاقكم (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا).

اعلم ، انّ الإسلام وهو الدّخول تحت احكام القالب يحصل بمحض الإقرار اللّسانىّ والبيعة العامّة النّبويّة ، ولذلك كانوا يدخلون النّاس في الإسلام بالبيعة العامّة بالتّخويف والسّيف والقتل والاجلاء والأسر والنّهب وهو في الحقيقة انقياد للسّلطنة الخلقيّة لا للحكومة الالهيّة ، فان كان مع ذلك اعتقاد بالحكومة الإلهيّة وانقياد في القلب كان الإسلام حقيقة وسمّوا مسلمين حقيقة والّا كانوا مسلمين ظاهرا لا حقيقة ، والايمان وهو الدّخول تحت احكام القلب يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وليس الّا انقياد القلب لمن آمن على يده ، وبعبارة اخرى الإسلام الحقيقىّ قبول الرّسالة كما انّ الإسلام الظّاهرىّ قبول احكام الرّسالة ، والايمان قبول احكام النّبوّة والولاية ، وبعبارة اخرى ، الإسلام قبول الدّعوة الظّاهرة ، والايمان قبول الدّعوة الباطنة ، وبعبارة اخرى الإسلام تحلّى الظّاهر بحلية الشّريعة ، والايمان تكيّف الباطن بكيفيّة الامام الّتى هي صورة نازلة منه ملكوتيّة تدخل قلب المؤمن وبها يكون فعليّته الاخيرة ، وبها تحصل الابوّة والبنوّة بين الامام والمؤمن ، وبها تحصل الأخوّة بين المؤمنين وهي الّتى إذا ظهرت على صدر المؤمن صارت سكينة وفكرا وحضورا وهي ظهور القائم (ع) في العالم الصّغير ، وبها تحصل المعرفة بالنّورانيّة وبها تشرق الأرض بنور ربّها ، ولمّا كانت الاعراب بمحض البيعة العامّة والدّخول تحت احكام القالب قالوا : آمنّا ، ولم يكونوا يؤمنون بالبيعة الخاصّة ولم يتكيّف قلوبهم بكيفيّة الامام ولم يتنزّل صورة الامام في قلوبهم فانّها لا تتنزّل الّا بالبيعة الخاصّة والاتّصال المعنوىّ بالإمام (ع) قال الله تعالى لنبيّه : قل لهم الايمان غير الإسلام والإسلام الظّاهرىّ الّذى هو الدّخول تحت السّلطنة بمحض البيعة العامّة غير الإسلام الحقيقىّ الّذى هو الانقياد تحت الحكومة الالهيّة بالبيعة العامّة فانف الايمان عنهم رأسا و (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ) اقتصروا في القول على ما هو المتيقّن من الدّخول تحت


السّلطنة بالبيعة العامّة و (قُولُوا أَسْلَمْنا) ولم يقل أسلمتم لإيهام إثبات الإسلام الحقيقىّ والحال انّه ليس بمتيقّن (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) الّذى هو كيفيّة نازلة من الامام في قلب المؤمن بالبيعة (فِي قُلُوبِكُمْ) لعدم وقوع تلك البيعة منكم وقد مرّ في اوّل البقرة بيان معاني الإسلام والايمان (وَ) لكن (إِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) حتّى يتحقّق بالطّاعة فيكم حقيقة الإسلام (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم (مِنْ أَعْمالِكُمْ) بأنفسها على تجسّم الأعمال ومن أجورها (شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر منكم زلّاتكم ولا ينظر الى عدم ايمانكم والى انّ الإسلام الظّاهر لا ينفع سوى المنافع الدّنيويّة (رَحِيمٌ) يتفضّل عليكم بأنواع فضله ولا ينظر الى عدم استحقاقكم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) بعد ما نفى ايمانهم بمحض البيعة العامّة بيّن انّ الايمان ليس محض البيعة العامّة وقال : انّما المؤمنون (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) اى باعوا البيعة الخاصّة الّتى بها يحصل الايمان والدّخول تحت احكام القلب وقبول احكام الولاية فبقوا عليه حتّى يظهر لهم آثار الولاية ويصلوا الى حدود القلب ولذلك أتى بثمّ وقال (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) فانّ البائع البيعة الخاصّة قلّما ينفكّ عن الارتياب والاضطراب في اوّل الأمر ، وإذا ظهر عليهم آثار الولاية وظهر لهم رذائل الصّفات وخصائلها حصل لهم الاطمينان وجاهدوا لا محالة مع جنود الشّيطان ولدفع الرّذائل وجلب الخصائل ولذلك قال (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) من الاعراض الدّنيويّة والاعراض النّفسانيّة والقوى البدنيّة والوجاهة الانسانيّة ، ونسب الأفعال والأوصاف الى أنفسهم (وَأَنْفُسِهِمْ) من انانيّاتهم الّتى هي أصل سيّئاتهم وشرورهم (فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الخارجون من الاعوجاج.

اعلم ، انّ الايمان الحاصل بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة امّا يكون صاحبه في مقام الصّدر غير خارج منه الى نواحي القلب وهذا لا يخلو من اضطراب في بعض الأحيان ولا يخلو من صرف الأعمال عن جهتها الإلهيّة الى الجهات النّفسانيّة فلا يخلو أيضا من اعوجاج ، وإذا خرج من حدود الصّدر الّذى هو محلّ الإسلام الى حدود القلب الّذى هو محلّ الايمان صار خارجا من الارتياب ومن الاعوجاج الّذى هو مداخلة أغراض النّفس في الأعمال الإلهيّة ، وكأنّ القسم الاوّل غير خارج عن حقيقة الإسلام وغير داخل في حقيقة الايمان وان كان يحصل بالبيعة الخاصّة صورة الايمان ولهذا قال الصّادق (ع) فيما ورد عنه : انّما تمسّكتم بأدنى الإسلام فايّاكم ان يفلت من أيديكم ، وللاشارة الى حقيقة الايمان الّتى بها يحصل الصّدق في الأعمال ويرتفع الارتياب قال : ثمّ لم يرتابوا (الى آخر الآية) وللاشارة الى حصول صورة الايمان بمحض البيعة الخاصّة قال : الّذين آمنوا بالله ورسوله يعنى بالبيعة الخاصّة لانّ المخاطبين كانوا بائعين بالبيعة العامّة فلم يكن المراد البائعين البيعة العامّة وانّما اقتصر على ذكر الأوصاف والآثار للمؤمنين لانّه ان قال : انّما المؤمنون الّذين باعوا البيعتين أو باعوا البيعة الخاصّة أو البيعة الولويّة لكان المنافقون طلبوا ذلك وزاحموا النّبىّ (ص) بذلك وآذوه طلبا لذلك (قُلْ) لهؤلاء الّذين يظهرون الايمان على ألسنتهم (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) يعنى ان كنتم مؤمنين فلا حاجة الى إظهاره فانّ الايمان هو وصف الهىّ وغايته الهيّة فان كان اظهاركم لاعلام النّاس بذلك لا ينبغ ذلك لانّه وصف الهىّ لا خلقىّ ، وان كان لاعلام الله لا ينبغي ذلك أيضا لانّكم بأعمالكم واوصافكم وأحوالكم غير خارجين من السّماوات والأرض (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعميم بعد تخصيص أو تأكيد ، روى انّه لمّا نزلت الآية المتقدّمة جاؤا وحلفوا انّهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) منّ عليه منّا ومنّينى كحلّيفى أنعم عليه ، ومنّ عليه منّة عدّ نعمته


عليه واعتدّ بها وعظّمها ، وهذا هو المراد هاهنا فانّهم اعتدّوا بإسلامهم نعمة عليه (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) لانّ الإسلام ليس نعمة لكم ولا لي بل هو مقدّمة للايمان الّذى هو نعمة لكم ولى فقل لهم : لا تعتدّوا بإسلامكم ولا تعدّوه نعمة علىّ (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) ينعم عليكم أو يعدّه نعمة عليكم (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) ان أدخلكم في الإسلام الّذى هو ما به الهداية الى الايمان الّذى هو نعمة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادّعاء الإسلام ، قال القمّىّ : نزلت الآية في عثمان يوم الخندق (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيعلم خفيّات أموركم وصدق نيّاتكم ومكموناتكم الّتى لا خبرة لكم بها من القوى والاستعدادات المكمونة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيعلم اغراضكم فيها.

سورة ق

مكّيّة ، وقيل الّا قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (الى قوله) قبل الغروب ،

خمسة وأربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق) اسم لله أو للنّبىّ (ص) ، أو للقرآن ، أو للجبل المحيط بالدّنيا ، وهو من جبال عالم البرزخ أو المثال أو نفس عالم البرزخ لانّ خلفه عالم المثال (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) العظيم في نفسه المنيع من التّسلّط عليه ، وجواب القسم محذوف اى انّك لرسول الله (ص) أو انّهم ليبعثون بقرينة ما بعده (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) يعنى ما كذّبوك لانّهم وجدوك كاذبا بل كذّبوك لتعجّبهم من رسالة البشر (فَقالَ الْكافِرُونَ) برسالتك (هذا) الّذى يدّعيه من الرّسالة من الله (شَيْءٌ عَجِيبٌ) يعجب منه ، أو هذا الّذى يقوله من البعث بعد الموت وتفتّت العظام شيء يتعجّب منه (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) نبعث ونرجع (ذلِكَ) الأحياء بعد الموت (رَجْعٌ بَعِيدٌ) لعدم إمكانه فانّ البعث على ما يتصوّره العوامّ ، يقول الفلسفىّ الّذى يعدّ نفسه من الحكماء انّه محال عقلا لاستلزامه ردّ الفعليّة الى القوّة والاستعداد ، والموجود الى المعدوم كما بيّن في محلّه (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : كيف يبعثون؟ ـ والحال انّهم مختلطون بالأرض! (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) حافظ الجميع ما لهم من القوى والأعضاء وحافظ لاسمائهم واعدادهم وأعمالهم من الخير والشّرّ ، أو محفوظ من التّغيير والتّبديل (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) يعنى ليس تكذيبهم للبعث لوجود البرهان عليه بل لانّهم صاروا باطلين ، والباطل لا يصدّق الحقّ ومنه رسالتك وخلافة علىّ (ع) والقرآن والبعث (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) مختلط من الاهوية البهيميّة والاستعلاء السّبعيّة والحيل الشّيطانيّة ، أو هم في امر مختلط من حال محمّد (ص) فيقولون : انّه مجنون أو شاعر أو ساحر أو كاهن (أَ) لم يخرجوا من حدود أنفسهم فلم يقوموا من نكسهم (فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) بحيث لا يمكن بقاء مواليد الأرض بدون هذا البناء (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب بحيث يتّصل أثرها


الى الأرض ومواليدها ولو لا آثار تلك الكواكب لما أمكن بقاؤها (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) بحسب الصّورة يعنى ليس بناؤها مثل بناء البانين من البشر لا يمكن لهم ان يبنوا بلا فروج وما لها خلل ونقص في خلقتها حتّى يمكن لأحد ان يقول : لو كان كذا لكان اولى (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) اى كيف مددنا الأرض بحيث يمكن التّعيّش عليها والانتقاع بها بالزّراعات والتّجارات والعمارات (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) اى صنف (بَهِيجٍ) من النّبات وبذلك الإنبات يسهل تعيّشكم وتعيّش انعامكم وليس هذا من محض الطّبيعة كما يقوله أراذل النّاس من الطّبيعيّة والدّهريّة بل من مبدء عليم قدير رحيم حكيم مدبّر ، وخلق الكلّ لبني آدم كما هو المشهود ، وليس ذلك لتعيّشهم في الدّنيا كما يقوله منكروا البعث بل لتعيّشهم في الدّنيا واستكمالهم فيها ليكونوا في الآخرة على أحسن وجه (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) الى ربّه فانّ غيره لابتلائه بالحرص وطول الأمل يمرّ على الآيات غافلا عنها (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) كثير البركة فانّ بركات الأرض كلّها من الماء وليس من ماء في الأرض الّا وقد خالطه ماء السّماء كما روى عن النّبىّ (ص): ليس من ماء في الأرض الّا وقد خالطه ماء السّماء ، أو المراد بالسّماء جهة العلو (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) نسبة الإنبات الى الجنّات باعتبار إنبات أشجارها مجاز عقلىّ (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) يعنى أنبتنا به حبّ النّبات الّذى من شأنه ان يحصد (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) طوالا (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) منضود بعضها فوق بعض (رِزْقاً لِلْعِبادِ) اى نرزق بذلك الطّلع بعد بلوغه ونضجه رزقا للعباد ، أو حالكون الطّلع رزقا للعباد (وَأَحْيَيْنا بِهِ) بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) بعد الممات فما لكم تشاهدون إماتة الأشجار والأراضي عن الأوراق والنّبات وإحياءها بعد ذلك وتنكرون احياء البشر بعد الممات ، وهذا تمثيل لسهولة تصوير البعث أو تنبيه على البيّنة الوجدانيّة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) الّذين رسّوا نبيّهم في الأرض وقد مضى قصّتهم وبيان الرّسّ في سورة الفرقان (وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) المراد من فرعون هو وقومه كما أراد من ثمود وعاد الطّائفتين اللّتين سمّيتا بهما (وَإِخْوانُ لُوطٍ) اى اخوان معاشرته (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) اى قوم شعيب كما سبق مكرّرا (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) قد سبق في سورة الدّخان (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وفيه تسلية للرّسول (ص) وقومه وتهديد للكفّار بوعيده (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) فنعجز عن الاعادة بذلك؟ (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) اى في اشتباه ولذلك أنكروا الخلق الجديد لا انّ لهم برهانا على عدم الاعادة كما يدّعيه الفلاسفة ، أو في اختلاط من خلق جديد يعنى انّ خلقتهم القديمة مختلطة بخلقتهم الجديدة لكنّهم غافلون عنه ، أو في لبس لباس على ان يكون اللّبس بفتح اللّام بمعنى اللّبس بضمّ اللّام وقد سبق في اوّل البقرة عند قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وعند قوله و (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (الآية) ما به غنية عن بيان كونهم في خلق جديد ، ونكّر الخلق الجديد لانّ الخلق الجديد لهم من قبيل الحركة فهم في كلّ آن في خلق غير الخلق الاوّل فلا بقاء لفرد من افراده حتّى يمكن ان يعرف ، وعن

حديث في تجدّد العوالم غير هذا العالم

الباقر (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال : تأويل ذلك انّ الله تعالى إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وسكن أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار جدّد الله عالما غير هذا العالم ، وجدّد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحّدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذا السّماء تظلّهم ، لعلّك ترى انّ الله انّما خلق هذا العالم الواحد ، أو ترى انّ الله لم يخلق بشرا غيركم ، بلى والله لقد خلق الف الف عالم ، والف الف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم


وأولئك الآدميّين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) تمهيد لعلمه تعالى بخفيّات أمور الإنسان وتعليل لقوله : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ، والمراد بالإنسان جنس الإنسان (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) من خطرات قلوبه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) تعليل لعلمه بخفيّات أموره ، والاوردة العروق النّابتة من الكبد وبها يجرى الدّم الّذى هو غذاء البدن الى الأعضاء كما انّ الشّرائين العروق النّابتة من القلب وبها يجرى الرّوح الحيوانىّ والرّوح الدّماغىّ الى الأعضاء وصار حبل الوريد مثلا في القرب (إِذْ يَتَلَقَّى) ظرف لا قرب أو لنعلم أو لهما يعنى نحن أقرب اليه إذ يتلقّى (الْمُتَلَقِّيانِ) اى إذ يتلقّى الحفيظان ما يتلفّظ وما يفعله والمعنى نحن أقرب اليه وقت تلقّى الكاتبين ألفاظه واعماله فلا حاجة لنا الى كاتب يكتب اعماله (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) مراقب كثيرا لأعماله (عَتِيدٌ) معدّ لكتابة الأعمال ، عن الصّادق (ع): ما من قلب الّا وله أذنان على إحديهما ملك مرشد وعلى الاخرى شيطان مفتّن هذا يأمره وهذا يزجره ، الشّيطان يأمره بالمعاصي ، والملك يزجره عنها ، وهو قول الله تعالى عن اليمين وعن الشّمال قعيد ، وفي بعض الاخبار تلويح بانّ صاحب اليمين وصاحب الشّمال كليهما ملكان ، صاحب اليمين أمير على صاحب الشّمال ويكتب الحسنات ، وصاحب الشّمال يكتب السّيّئات وهذا من سعة وجوه القرآن (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) سكرة الموت كناية عن الغشية الحاصلة عنده ، وأتى بالماضي لتحقّق وقوعه (بِالْحَقِ) لا يغيّر الحقّ حتّى تكون امارة كاذبة وقرئ : وجاءت سكرة الحقّ بالموت ، والباء على القرائتين للتّعديّة ، أو بمعنى مع ، أو للسّببيّة (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وتفرّ ، والجملة حاليّة ، أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول ، والخطاب لمطلق الإنسان أو لمنكر البعث (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) وهذه أيضا حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى يقال له ذلك اليوم العظيم يوم الوعيد الّذى كنت تنكره ، والمراد بالنّفخة النّفخة الثّانية كما انّ المراد بمجيء سكرة الموت النّفخة الاولى (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) السّائق ملك موكّل على الإنسان يسوقه الى المحشر والى الآخرة ، ويزجره عن الوقوف في المواقف ، والشّهيد ملك موكّل عليه يحضر معه في كلّ موطن ويحفظ ويشهد عليه بجميع اعماله ، فانّه كما انّ الإنسان في الدّنيا له نوائب تمنعه عن الوقوف والاطمينان بالدّنيا وله حالة يلتذّ بها في المناجاة والطّاعات كذلك في الآخرة عليه ملك يزجره عن الوقوف ويسوقه ، وملك حاضر معه في جميع مواطنه ، وهذان الملكان يكونان معه في الدّنيا لكن لا يعلم بهما ، وقيل المراد بالسّائق الملك الّذى هو صاحب الشّمال ، وبالشّهيد صاحب اليمين (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) مستأنفة أو حاليّة بتقدير القول والمعنى كنت في غفلة من هذا في الدّنيا (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) فتبصر في هذا اليوم ما كنت لا تبصره في الدّنيا (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) فتبصر في هذا اليوم دقائق ما كنت لا تقدر على ابصاره في الدّنيا (وَقالَ قَرِينُهُ) اى الملك الموكّل عليه (هذا) المكتوب الّذى كتبته عليه (ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) ومهيّأ للحضور والإظهار وقال الشّيطان الّذى قيّض له هذا الضّال ما لدىّ عتيد ومهيّأ لجهنّم (أَلْقِيا) من مقول قول القرين ، أو استيناف كلام من الله بتقدير القول سواء جعل حالا أو مستأنفا جوابا لسؤال مقدّر والخطاب للسّائق والشّهيد ، أو لمحمّد (ص) وعلىّ (ع) كما ورد في اخبار عديدة من طريق الخاصّة والعامّة وزيد في بعض الاخبار : وادخلا الجنّة من احبّكما (فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ) يتعدّى حدود الله أو


معتد على العباد (مُرِيبٍ) شاكّ في الله ، أو في رسوله ، أو في خلافة خليفته (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) من الأصنام والكواكب والاهوية ، أو جعل مع مظاهر الله خليفة اخرى في الأرض مثل نمرود وفرعون (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ قالَ قَرِينُهُ) اى الشّيطان المقيّض له (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) كأنّه قال : هو اطغانى (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) من الحقّ يعنى انّه كان في الفطرة ضالّا فأعنته على ذلك لا انّى أحدثت له الضّلالة (قالَ) اى الله (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) فما سمعتموه وما ارتدعتم فلا حجّة لكم عندي (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) بالعذاب على من سجّلت العذاب عليه ، وامّا العفو فهو ليس من تبديل القول فانّه أيضا من الوعد الّذى لا خلف فيه وليس العفو جزافا حتّى يقول كلّ مذنب ليعف عنّى (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا اعذّب من دون سبب ولا أعفو من غير داع (يَوْمَ نَقُولُ) ظرف لظلّام ، أو ليبدّل اى يوم يقول الله ، وقرئ بالتّكلّم (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) يسئل عنها سؤال تقرير حتّى لا ببدّل قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ،) أو سؤال استفهام لكنّ المنظور تنبيه العصاة وتهديدهم (فَتَقُولُ) في الجواب (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) استفهاما لطلب الزّيادة أو تعجّبا من الزّيادة على ما فيها وإنكارا للمزيد ، ولمّا كان جميع أجزاء عالم الآخرة ذات علم وارادة ونطق فلا حاجة لنا الى تأويل السّؤال والجواب هاهنا (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) في قوله القيا في جهنّم وفي قوله أزلفت الجنّة (لِلْمُتَّقِينَ) توهين للعصاة وتشريف للمتّقين وليس المتّقون الّا من قبل الولاية وهم شيعة آل محمّد (ص) (غَيْرَ بَعِيدٍ) مكانا غير بعيد أو ازلافا غير بعيد ، أو حالكونها غير بعيدة ، وإسقاط التّاء حينئذ يكون من قبيل إسقاط التّاء من قوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وهو تأكيد لقربها (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) بدل من قوله للمتّقين ، أو خبر مبتدء محذوف ، والاوّاب الكثير الرّجوع الى الله (حَفِيظٍ) حافظ نفسه من التّدنّس بادناس المعاصي ، أو محفوظ عن المعاصي (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) بدل من اوّاب ، أو خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبره ادخلوها (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) راجع الى الله (ادْخُلُوها) خبر لمن خشي ، أو حال ، أو مستأنف والكلّ بتقدير القول (بِسَلامٍ) من كلّ آفة (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) متعلّق بيشاؤن أو بلهم (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) فانّ لدينا ما لا يخطر ببالهم حتّى يشاؤها ثمّ عطف على عقوبة الكفّار تهديدا لهم وقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) قبل قريش أو أهل مكّة (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) نقب في الأرض من المجرّد ، ونقّب من التّفعيل ، وانقب من الأفعال ذهب فيها ، ونقّب عن الاخبار بحث عنها وأخبر بها ، والمراد فتحوا البلاد أو ساروا فيها بالمنافع الكثيرة والأعمال الدّقيقة ، أو ساروا فيها لتجسّس الاخبار (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) ومخلص من الهلاك ، والجملة حاليّة أو مستأنفة بتقدير القول اى يقول تلك القرون أو نقول لهم هل من محيص (إِنَّ فِي ذلِكَ) الاخبار أو في ذلك الإهلاك (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ).

اعلم ، انّ العلم الّذى هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، اوّل ظهوره يورث التّحيّر والإنصات فيطلب به من يخرجه من تحيّره فاذا وجد وانقاد له لم يكن له شأن الّا الاستماع الى ما قال المنقاد له والامام ، فثاني مراتبه يورث الاستماع لمن انقاد له وهو مقام التّقليد فانّه يأخذ في هذا المقام من الامام مصدّقا له من غير تحقيق لمأخوذاته ،


أو من غير اعتبار لتحقيق مأخوذاته ، وهذا صاحب الصّدر المنشرح بالإسلام فاذا وجد هذا المقلّد أنموذج مأخوذاته بوجدانه أو بشهوده كان خارجا من حدود صدره الى حدود قلبه وهذا هو الّذى مزج التّقليد بالتّحقيق ، أو خرج من التّقليد الى التّحقيق ، وهذا صاحب القلب سواء دخل في بيت القلب أو لم يدخل بعد لكن كان مشرفا على الدّخول ، وهذان هما اللّذان يتذكّران ويعتبر ان بكلّ ما سمعاه ، وامّا غيرهما من أرباب النّفوس فيمرّون على الآيات وهم عنها معرضون (وَهُوَ شَهِيدٌ) حاضر الذّهن عند القائل تقييد لالقاء السّمع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قد مضى في سورة الأعراف بيان خلق السّماوات والأرض في ستّة ايّام (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) حتّى احتجنا الى الاستراحة كما قالته اليهود وهو ردّ لليهود حيث قالوا : انّ الله بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة ، واستراح يوم السّبت ، واستلقى على العرش ، روى انّ اليهود أتت النّبىّ (ص) فسألته عن خلق السّماوات والأرض ، فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال وما فيهنّ يوم الثّلثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشّجر والمدائن والعمران والخراب ، وخلق يوم الخمس السّماء ، وخلق يوم الجمعة النّجوم والشّمس والقمر والملائكة ، قالت اليهود : ثمّ ماذا؟ ـ يا محمّد (ص) ، قال : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، قالوا : قد أصبت لو أتممت ، قالوا : ثمّ استراح ، فغضب النّبىّ (ص) غضبا شديدا ، فنزلت الآية (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) في حقّ الله بما لا يليق بجنابه وفي حقّك وفي حقّ علىّ (ع) (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قد مضى في اوّل الحمد بيان انّ تسبيحه تعالى ليس الّا بحمده ولذلك قيّد التّسبيح في الأغلب بالحمد ، أو قرنه به ، أو بما يفيده (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) يعنى في جميع الأوقات فانّه كثيرا ما يقيّد الأمر بطرفي النّهار ويراد استغراق الأوقات ، أو المراد هذان الوقتان بخصوصهما لشرافتهما ، وما ورد في فضيلة ما بين الطّلوعين أكثر من ان يحصى ، وقد ورد في فضيلة العصر اخبار عديدة ، أو المقصود الاشارة الى صلوة الصّبح وصلوة العصر ، أو صلوة الظّهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) اى بعضا من اللّيل سبّحه لانّ اللّيل وخصوصا آخره وقت شريف تتوجّه النّفوس فيه الى الله والى أصلها لخلوصها من العوائق الخياليّة ، أو هو اشارة الى المغرب والعشاء ، أو الى صلوة اللّيل (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قرئ مصدرا وجمعا والمراد بالسّجود كمال الخضوع لعظمة الرّبّ يعنى بعد ما حصل لك كمال التّوجّه الى الله والخضوع له أو أشير بادبار السّجود الى ركعة الوتر أو الرّكعتين أو الأربع الرّكعات بعد المغرب أو الى الوتيرة (وَاسْتَمِعْ) أنت في الحال الحاضر نداء المنادي يوم القيامة ، أو يوم ظهور القائم (ع) ، فانّك تسمع بالفعل نداء ذلك المنادي لخروجك من مرقدك وشهودك القيامة أو خروج القائم (ع) (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) للبعث والحساب أو ينادى المنادي باسم القائم (ع) واسم أبيه كما في الخبر ، وإسقاط الياء من المنادي لإجراء الوصل مجرى الوقف وهو عربيّ جيّد (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من كلّ النّاس فانّ نسبة المنادي في القيامة أو في ظهور القائم متساوية الى الكلّ (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) يعنى الصّيحة للحساب والقيام عند الله ، أو صيحة القائم أو الصّيحة بخروج القائم (ع) (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من المراقد ، عن الصّادق (ع) هي الرّجعة (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) في الدّنيا جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : من يفعل ذلك؟ ـ ومن يخرج الأموات من المراقد؟ ـ فقال : انّا نحن نحيى ونميت (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) في الآخرة (يَوْمَ تَشَقَّقُ) ظرف للمصير أو بدل من يوم يسمعون الصّيحة (الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) وذلك في الرّجعة أو في القيامة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) في حقّنا ، أو في حقّك ، أو في حقّ علىّ (ع) تسلية له (ص) وتهديد لقومه


المنافقين أو المشركين (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمسلّط عليهم بالإجبار لهم انّما أنت منذر مذكّر (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ) اى بمطلق القرآن ، أو بقرآن ولاية علىّ (ع) (مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

سورة الذّاريات

مكّيّة ، ستّون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) ذرت الرّياح التّراب والهشيم وأذرت وذرّت بالتّشديد اطارته ، والمراد الرّياح أو النّساء الّتى تذرو الأولاد ، أو الأسباب الّتى تذرو الخلائق من الملائكة وغيرهم (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) اى السّحب الحاملات للامطار ، أو الرّياح الحاملات للسّحاب ، أو النّساء الحوامل ، وقرئ وقرا بفتح الواو مصدرا ، والوقر بالكسر الحمل الثّقيل (فَالْجارِياتِ يُسْراً) السّفن الجاريات في البحار بسهولة ، أو الرّياح الجاريات في مهابّها ، أو الكواكب الجاريات في مناطقها (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) اى الملائكة الّذين يقسّمون الأرزاق والأمطار وغيرها ، أو الرّياح الّتى تقسّم الأمطار والسّحب ، أو جميع ما يقسّم شيئا من الملائكة والرّياح والأنبياء والأولياء (ع) وهذا قسم من الله فان كان هذه أوصافا لذوات متعدّدة فلفظ الفاء فيها لتفاوت المقسم به في الشّرف والخسّة وفي الدّلالة على قدرة الرّبّ وعنايته بخلقه ، وان كانت أوصافا لذات واحدة فالفاء للتّرتيب بين الأفعال فانّ الرّيح تفرّق وتحرّك الا بخرة في الجوّ فتنعقد في الجوّ سحابا فتحمله الى حيث يأمرها الله فتجرى به بسهولة فتقسّمه على البلاد والبراري والبحار (إِنَّما تُوعَدُونَ) من الثّواب والعقاب والحشر والحساب (لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ) اى الجزاء (لَواقِعٌ) أو اللّام لتعريف العهد الذّهنىّ والمعنى انّ هذا الدّين الّذى يدّعيه لواقع يعنى حقّ وصدق (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) اى ذات الطّرائق من مسير الكواكب أو ذات الحسن والزّينة كما ورد عن أمير المؤمنين (ع) فانّ الكواكب وطرائقها تزيّن السّماء كما يزيّن الموشىّ الثّوب الوشىّ بالطّرايق ، أو المراد بالطّرائق الادلّة الّتى يأخذها النّظّار منها الّتى يستدلّون بها على صانعها وعلمه وقدرته وإرادته وحكمته.

حديث في كيفيّة وضع الأرض وطبقات السّماوات

وعن الحسين بن خالد عن ابى الحسن الرّضا (ع) قال قلت له : أخبرني عن قول الله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ،) فقال : محبوكة الى الأرض وشبّك بين أصابعه ، فقلت : كيف تكون محبوكة الى الأرض؟ ـ والله تعالى يقول رفع السماء بغير عمد ، فقال : سبحان الله! أليس يقول (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)؟ ـ قلت : بلى ، قال : فثمّ عمد ولكن لا ترى ، فقلت : فكيف ذلك؟ ـ جعلني الله فداك ، قال : فبسط كفّه اليسرى ثمّ وضع اليمنى عليها ، فقال : هذه ارض الدّنيا والسّماء الدّنيا فوقها قبّة ، والأرض الثّانية فوق السّماء الدّنيا ، والسّماء الثّانية فوقها قبّة ، والأرض الثّالثة فوق السّماء الثّانية والسّماء الثّالثة فوقها قبّة ، ثمّ هكذا الى الأرض السّابعة فوق السّماء السّادسة والسّماء السّابعة فوقها قبّة ، وعرش الرّحمن فوق السّماء السّابعة وهو قوله : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) ، وصاحب الأمر هو النّبىّ (ص) والوصىّ علىّ (ع) بعده ، وهو على وجه الأرض


وانّما يتنزّل الأمر اليه من فوق السّماء بين السّماوات والأرضين ، قلت : فما تحتنا الّا ارض واحدة ، قال : وما تحتنا الّا ارض واحدة وانّ السّتّ لفوقنا (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في هذا الدّين الواقع الحقّ بانّ بعضكم يصدّق ، وبعضكم يكذّب ، أو في محمّد (ص) بالتّصديق والتّكذيب وبأنّه مجنون أو شاعر أو معلّم من غيره أو كاهن ، أو في القرآن بانّه سحر وكهانة ورجز وأساطير الاوّلين ، أو في علىّ (ع) خليفته (يُؤْفَكُ عَنْهُ) اى عن الدّين أو محمّد (ص) أو القرآن أو علىّ (ع) وولايته (مَنْ أُفِكَ) حذف المصروف عنه عن الثّانى للمبالغة والتّأكيد في ذمّ من إفك عنه كأنّه قيل : كلّ من إفك من خير يؤفك عنه والمناسب لهذا التّعميم والتّأكيد ان يكون المراد بالضّمير المجرور عليّا (ع) وولايته كما في الخبر فانّه أصل جميع الخيرات والآفك من كلّ خير أفك عنه ، أو المعنى يؤفك عنه من إفك في الذّرّ ، أو المعنى يؤفك عن هذا القول المختلف ، وبسببه من إفك عن الخير ، أو عن هذا الدّين ، أو عن محمّد (ص) أو علىّ (ع) (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) الخرص بالفتح الحرز والاسم منه بالكسر يقال كم خرص أرضك بالكسر والقول بالظّنّ والكذب والكلّ مناسب هاهنا والمعنى لعن القائلون في الدّين وخلافة أمير المؤمنين (ع) بالظّنّ والتّخمين ، واستعمال القتل في اللّعن لانّ من لعنه الله يقتله عن الحيوة الانسانيّة (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) الغمرة شدّة الشّيء ومزدحمه ، وتنكيره للتّفخيم وعدم نسبته الى شيء مخصوص لإيهام التّعميم والمعنى الّذين هم في غمرة من كلّ شيء من الجهل والشّهوات والغضبات والشّيطنة والكبر والعجب والفخر (ساهُونَ) عمّا ذكّرناهم به بحسب فطرتهم من طريق الآخرة ونعيمها ، أو عمّا ذكّرناهم في عالم الذّرّ ، أو ساهون عن الله وعن المنعم وانعامه (يَسْئَلُونَ) حال أو خبر بعد خبر أو مستأنف (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) اى يوم الجزاء وكان سؤالهم هذا استهزاء وإنكارا ولذلك أتى به بعد قوله : الّذين هم في غمرة ساهون وأجابهم بقوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) يقال لهم (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) اى عذابكم وحريقكم أو فسادكم في الدّنيا (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) بدل من فتنتكم أو مبتدء وخبر (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر عن حال المتّقى عن القول المختلف أو عن الافك عن الولاية (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) كناية عن رضاهم به وهو كناية عن كون ما آتاهم مرضيّا حسنا (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) مستأنف في مقام التّعليل والمعنى انّهم كانوا محسنين في أعمالهم ، أو كانوا ذوي حسن وهو الولاية ، أو كانوا محسنين الى من تحت أيديهم والى غيرهم (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ) بدل من قوله كانوا قبل ذلك محسنين نحو بدل التّفصيل عن الإجمال (ما يَهْجَعُونَ) عن الصّادق (ع): كانوا اقلّ اللّيالى يفوتهم لا يقومون فيها ، وعن الباقر (ع): كان القوم ينامون ولكن كلّما انقلب أحدهم قال : الحمد لله ولا اله الّا الله والله أكبر (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

اعلم ، انّ الإنسان الصّغير كالإنسان الكبير في وجوده ليل ويوم وشمس وقمر ، وليله مراتب طبعه ونفسه الحيوانيّة ، ويومه مراتب ملكوته ، وشمسه عقله ، وقمره نفسه المستضيئة بنور العقل ، وما لم يخرج الإنسان من بيت طبعه ونفسه لا يمكن غفران مساويه ولو استغفر كلّ يوم الف مرّة ، وإذا خرج من حدود نفسه الحيوانيّة وقرب من حدود قلبه وعقله الّتى هي في الصّغير بمنزلة الأسحار في الكبير سأل بلسان حاله غفران مساويه من ربّه ويجيبه الله ويغفره سواء سأل بلسان قاله أو لم يسأل ، ومن هاهنا يظهر سرّ تقييد الاستغفار بالأسحار ، وسرّ تقديم الأسحار المفيد للحصر (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) من منفعة كسبه ، ولا يخفى تعميم الأموال للاعراض الدّنيويّة والقوى


والأعضاء ، والوجاهة والخدم والحشم والانانيّات ولا تعميم السّائل للسّائلين من الاناسىّ بالكفّ واللّسان ، أو بلسان الحال والسّائلين من الملائكة والعقول والائمّة والله تعالى فانّه يسأل القرض من عباده ، والسّائلين بلسان حالهم أو قالهم افاضة الخيرات من النّبىّ (ص) والامام واتباعهما ، والمحروم كما عن الصّادق (ع) المحارف (١) الّذى قد حرم كدّيده في الشّراء والبيع ، ولا يخفى تعميم بين كاسب الأموال الدّنيويّة المعاشيّة وكاسب الأموال الاخرويّة المعاديّة (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) دالّات على المبدء وعلمه وقدرته وعنايته بخلقه ورأفته (لِلْمُوقِنِينَ) بأمر الآخرة لا غيرهم فانّهم يمرّون عليها وهم عنها معرضون (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) عطف على في الأرض أو متعلّق بمحذوف بقرينة قوله تعالى (أَفَلا تُبْصِرُونَ) وقد تكرّر ذكر آيات الأرض الّتى هي آيات الآفاق وذكر آيات الأنفس ، عن الصّادق (ع) انّ رجلا قام الى أمير المؤمنين (ع) فقال : يا أمير المؤمنين بما عرفت ربّك؟ ـ قال : بفسخ العزم ونقض الهمم لمّا ان هممت فحال بيني وبين همّى ، وعزمت فخالف القضاء عزمي ، علمت انّ المدبّر غيري ، وعن الصّادق (ع) مثل هذا السّؤال والجواب (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) الخاصّ بكم من حيث انسانيّتكم أو أسباب رزقكم النّباتيّة وأرزاقكم الانسانيّة (وَما تُوعَدُونَ) من نعيم الجنّة فانّ الجنّة ونعيمها في السّماء الصّوريّة بمعنى انّها مظهر لها وفي سماوات عالم الأرواح فانّ محلّ الجنّة ونعيم الآخرة عالم الملكوت والجبروت وقال القمّىّ : المطر ينزل من السّماء فيخرج به أقوات العالم من الأرض ، وما توعدون من اخبار الرّجعة والقيامة والاخبار الّتى في السّماء ، وقيل : في السّماء تقدير أرزاقكم اى ما قسّمه لكم مكتوب في امّ الكتاب وجميع ما توعدون في السّماء أيضا لانّ الملائكة تنزل من السّماء لقبض الأرواح ولاستنساخ الأعمال ولانزال العذاب ويوم القيامة للجزاء والحساب (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) اى ما توعدون أو كون الرّزق وكون ما توعدون في السّماء ، أو انّ المعهود المقصود من كلّ قصّة وحكاية وهو الولاية ولاية علىّ (ع) لحقّ (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) مثل نطقكم الّذى لا تشكّون فيه ، أو المعنى في السّماء رزقكم مثل ما انّكم تنطقون اى تدركون المعاني الغيبيّة فانّه من السّماء ينزل إليكم ، أو الولاية حقّ حالكونها مثل نطقكم فانّه من آثار الولاية التّكوينيّة ونازلة منها (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) استيناف كلام لتهديد المعرضين عن المبدء أو الرّسول أو الولاية (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) قد مضى في سورة هود هاتان الكلمتان (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) اى قال في نفسه هؤلاء قوم منكرون غير معروفين لي ، أو قال لهم : أنتم قوم منكرون اى لا أعرفكم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) اى فذهب إليهم في خفية من ضيفه تعجيلا للقرى (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) لانّه كان عامّة ماله البقر (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ) لانّا رسل ربّك (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) بعد البشارة وهي سارة (فِي صَرَّةٍ) اى في صيحة أو في جماعة كما روى عن الصّادق (ع) (فَصَكَّتْ وَجْهَها) قيل : جمعت أصابعها وضربت بها جبهتها ، وقيل : لطمت وجهها للتّعجّب ، وقيل : غطّت وجهها (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) يعنى كيف ألد وكنت عاقرا وقت اقتضاء السّنّ الحمل وصرت عجوزا ليس من شأنى الحمل (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) وانّما نخبرك عنه (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ) يعلم دقائق الأمور ويصنع الأمور المتقنة الّتى يعجز عن إدراكها وصنعها غيره (الْعَلِيمُ) فيعلم انّك

__________________

(١) المحارف المحروم المنقوص الحظّ.


كنت عقيما وصرت عجوزا ويقدر على جعل العقيم ولودا وجعل العجوز ذات حيض وولد.

الجزء السابع والعشرون

(قالَ) إبراهيم (ع) بعد ما عرفهم وانس بهم (فَما خَطْبُكُمْ) أمركم وشغلكم لمّا لم يكن نزول الاربعة الاملاك دفعة معهودا له علم انّهم لم ينزلوا الّا لأمر عظيم فسأل ما خطبكم؟ (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قد مضى قصّتهم في سورة هود وغيرها (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) الرّكن الجنب الأقوى والباء للتّعدية ، أو بمعنى مع والمراد انّه ولّى جنوده أو جانبه ، أو تولّى هو وجنوده (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) يعنى ما يفعله من سحره وباختياره أو هو مجنون وما يظهر عليه من خوارق العادات انّما يظهر من الجنّ على يديه من دون اختياره (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) سمّيت عقيما لعدم تضمّنها لمنفعة أو لانّها أهلكتهم واستأصلتهم (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) كالرّماد المتفتّت الاجزاء (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) اى ثلاثة ايّام ان كان المراد به قول النّبىّ (ص) بعد الإيعاد بالعذاب ، أو قيل تكوينا : تمتّعوا حتّى حين الآجال الّتى لكم وهذا هو المناسب لما بعده (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) ممتنعين (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) وقد مضى تلك القصص مكرّرا (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) بقوّة (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) اى قادرون أو لموسعون الرّزق على العباد أو لذو وسعة للعباد وأرزاقهم (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) بسطناها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) الباسطون أو الممهّدون للقرار (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) برّيّا وبحريّا ، أو انسيّا ووحشيّا ، ويكون لفظ كلّ من حمل حكم الأكثر على الكلّ أو من كلّ حيوان ذكر وأنثى ، أو من كلّ شيء من الكيفيّات والكمّيّات والمذوقات والمشمومات ضدّين متنافيين كالحرّ والبرد ، والسّواد والبياض ، والمرّ والحلو ، والقصير والطّويل ، والحسن والقبيح ، الى غير ذلك ، وفي الاخبار اشارة الى هذا المعنى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) علمه وحكمته وقدرته وعنايته بخلقه ورأفته ولعلّكم تذكّرون بمضادّته بين الأشياء ان لا ضدّ له وبتفريقه بين المتفارقات انّ لها مفرّقا ، وبتأليفه بين المتئالفات انّ لها مؤلّفا (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) المنعم عليكم بهذه النّعم من نفوسكم الامّارة ومن الشّيطان وجنوده بالاستعاذة به ، ومن الأشرار وشرورهم بالاستعانة به ، ومن اهويتكم الّتى هي آلهتكم بالطّاعة لأمره ونهيه ، أو فرّوا من أوطانكم الى الحجّ ، أو فرّوا من أوطانكم الى الرّسول والامام (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) وقوله تعالى ففرّوا حكاية لقول الرّسول (ص) أو قوله انّى لكم منه نذير من الله (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تكرير للتّأكيد (كَذلِكَ) القول لك من انّك مجنون أو ساحر أو كاهن أو شاعر (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ


مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ) يعنى انّ الاوّلين والآخرين تواصوا بهذا القول في حقّ الرّسول (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) ومقتضى طغيانهم عدم الانقياد للحقّ تعالى (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) عن المحاجّة والمجادلة معهم بعد إتمامك الحجّة وإصرارهم على الإنكار (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) بعد ذلك (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وان لم يتذكّر بها الكافرون والمنافقون في اخبار عديدة انّ النّاس لمّا كذّبوا رسول الله (ص) همّ الله تعالى باهلاك أهل الأرض الّا عليّا (ع) فما سواه بقوله : فتولّ عنهم فما أنت بملوم ثمّ بدا له فرحم المؤمنين ثمّ قال لنبيّه : وذكّر فانّ الذّكرى تنفع المؤمنين ، وعن علىّ (ع) لمّا نزلت : فتولّ عنهم لم يبق أحد منّا الّا أيقن بالهلكة فلمّا نزل وذكّر طابت أنفسنا (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

اعلم ، انّ الله تعالى كان غيبا مطلقا لم يكن منه خبر ولا اسم ولا رسم فأحبّ ان يتجلّى فيعرف كما في القدسىّ : كنت كنزا مخفيّا فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف ، فخلق الخلق لان يتجلّى عليهم فيألفوه ، ولا يتجلّى عليهم الّا إذا صاروا خارجين من انانيّاتهم ، ولا يخرجون من انانيّاتهم الّا بارتياض النّفوس بما قرّره الله تعالى لذلك وليس الّا العبادات الشّرعيّة ، وأيضا لا يخرجون من انانيّاتهم الّا إذا صاروا عبيدا له تعالى خارجين من عبوديّة أنفسهم وليس المقصود من العبادات ولا من العبديّة الّا ان يصيروا عارفين له متّصلين به منتهين اليه ، فالمقصود من قوله الّا ليعبدون الّا ليعرفون لكنّه ادّاه بهذه العبارة للاشعار بانّ المعرفة لا تحصل الّا بالعبادة أو بالعبديّة ، عن الصّادق (ع) قال : خرج علىّ بن الحسين (ع) على أصحابه فقال : ايّها النّاس انّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد الّا ليعرفوه ، فاذا عرفوه عبدوه ، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ، فقال له رجل : يا ابن رسول الله (ص) بابى أنت وأمّي ، فما معرفة الله؟ ـ قال : معرفة أهل كلّ زمان امامهم الّذى يجب عليهم طاعته ، وقوله تعالى (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ولذلك خلقهم ، المستفاد منه انّ خلقهم للاختلاف ، وعبادة بعضهم وتمرّد بعضهم لا ينافي ذلك ، فانّ الغاية المقصودة والمنظور إليها والمترتّب عليها فعل الفاعل عبادتهم ومعرفتهم ولكن لمّا لم يكن خلق البشر في عالم الكون من الاضداد الّا بان يكونوا مختلفين وكان غاية تلك الخلقة المنتهى إليها خلقتهم اختلافهم قال : ولذلك خلقهم فلا منافاة بينهما ، فانّ العبادة علّة غائيّة لخلقهم والاختلاف غاية مترتّبة عليه (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) لي ولا لغيري (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما أراد من خلقهم رزقا واعانة (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) لكلّ مرزوق تعليل يعنى انّ الرّزّاقيّة لا تتأتّى من غيره فكيف يريد رزّاقيّة الغير (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الّذى لا حاجة له الى معين في رزّاقيّة (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بإنكار المبدء أو المعاد ، أو ظلموا الرّسول بعدم انقياده وعدم إعطاء حقّه من تسليم أنفسهم له ، أو ظلموا آل محمّد (ص) حقّهم من عدم تسليم أنفسهم لهم ومن غصب حقوقهم وهذا هو المنظور اليه ، والفاء للسّببيّة لقوله فذكّر (ذَنُوباً) قسطا ونصيبا فانّ الذّنوب الدّلو ، أو الّتى فيها ماء ، أو الملأى ، أو دون الملأى ، أو المراد بالذّنوب اليوم الطّويل الشّرّ (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) الّذين اتّبعوهم في ظلم آل محمّد (ص) (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) بالعذاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بولاية علىّ (ع) (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم آخر الدّنيا أو يوم القيامة.


سورة الطّور

مكّيّة ، تسع وأربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ) اقسم بالجبل الّذى كلّم الله عليه موسى (ع) ، أو اقسم بمطلق الجبل لما فيه من أنواع البركات والخيرات ولما ينبع من تحته الماء الّذى هو أصل جميع البركات وباطنه الامام الّذى به وجود العالم وبقاؤه وبركاته ، أو المراد جهة النّفس العليا الّتى إذا بلغ الإنسان هناك قرب من الله إذا كان على الجانب الأيمن منها (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) اى مكتوب مسطور (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرّقّ الجلد الرّقيق الّذى يكتب فيه والصّحيفة البيضاء والمراد به هيولى العالم الّتى كتب فيها صور الأنواع ونفوسها ، أو طبع الإنسان الّذى كتب فيه نفسه وقواها ومداركها ، وقيل : هو الكتاب الّذى كتبه الله لملائكته في السّماء يقرؤن فيه ما كان وما يكون فيعملون بما فيه ، وقيل : هو القرآن المكتوب عند الله في اللّوح المحفوظ ، وقيل : هو صحائف الأعمال الّتى تخرج الى بنى آدم يوم القيامة ، وقيل : هو التّوراة (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الّذى في السّماء الرّابعة يدخله كلّ يوم سبعون الف ملك ثمّ لا يعودون اليه أبدا ، وعن الباقر (ع) انّه قال : انّ الله وضع تحت العرش اربع أساطين وسمّاهنّ الضّراح وهو البيت المعمور وقال للملائكة : طوفوا به ، ثمّ بعث ملائكة فقال : ابنوا في الأرض بيتا بمثاله وقدره ، وامر من في الأرض ان يطوفوا بالبيت ، وعن النّبىّ (ص): البيت المعمور في السّماء الدّنيا ، وفي حديث عنه : انّه في السّماء السّابعة ، واختلاف الاخبار في ذلك يشعر بوجه التّأويل ، ولمّا كان الإنسان الصّغير مطابقا للإنسان الكبير فالبيت المعمور هو قلبه الّذى هو في السّماء الرّابعة بوجه ، وتحت العرش بوجه ، وفي السّماء الدّنيا بوجه ، وبحذائه القلب الصّنوبرىّ الّذى هو في ارض الطّبع وبناه الملائكة بحذاء القلب المعنوىّ الّذى هو في سماء الأرواح (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السّماء ، أو العقل الّذى هو بمنزلة السّقف للقلب والطّبع (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) اى الموقد أو المملوّ فانّ البحار تسجّر وتوقّد نارا يوم القيامة والمراد بحر الهيولى الّذى يوقد من نار الغضبات والشّهوات والحيل الشّيطانيّة (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) اى تضطرب أو تموج أو تدور (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) حتّى تستوي مع الأرض ، أو يظهر سير الجبال فانّها تمرّ مرّ السّحاب وتحسبها جامدة (فَوَيْلٌ) اى إذا كان ذلك اليوم فويل (يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لله ورسوله (ص) مطلقا ، أو في ولاية علىّ (ع) وهو المنظور (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) في الملاهي ، أو في انكار المبدء والمعاد ، أو في انكار الرّسول (ص) ، أو في انكار ولاية علىّ (ع) (يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ) اى يدفعون بعنف فانّ الدّعّ الدّفع العنيف (إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) وقيل : هو ان تغلّ أيديهم الى أعناقهم وتجمع نواصيهم الى اقدامهم ، ثمّ يدفعوا الى جهنّم دفعا على وجوههم (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الجملة حاليّة أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى يقول الله أو الملائكة أو خزنة جهنّم (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) لمّا كانوا ينسبون محمّدا (ص)


الى السّحر تارة والى انّه يتصرّف في الأبصار اخرى ردّ الله تعالى عليهم قولهم في حقّه فقال : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون بالتّصرّف في أبصاركم؟ (اصْلَوْها) يعنى يقال لهم : اصلوها (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) لفظة أو للتّسوية ولذلك اكّد المفهوم بالتّصريح فقال : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جواب لسؤال كأنّه قيل : لم نعذّب هذا العذاب؟ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) عن تكذيب الله ورسوله (ص) في ولاية علىّ (ع) بالإقرار له والبيعة معه بيعة خاصّة ولوية (فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) تنكير الجنّات والنّعيم للتّفخيم (فاكِهِينَ) متنعّمين أو معجبين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا) حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول (هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ) حال (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) متّصل بعضها ببعض (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أتى بالماضي للاشعار بانّ التّزويج حاصل لهم في دار الدّنيا وان كان لا يظهر عليهم ، أو للاشارة الى تحقّق وقوعه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الذّرّيّة تقع على الواحد والكثير وهي الصّغار من أولاد الرّجل أو مطلق الأولاد ، والباء بمعنى مع ، أو بمعنى في ، أو للسّببيّة وتنكير الايمان للاشعار بكفاية ايمان ما للإلحاق ولو كان ايمانا حكميّا فانّ صغار أولاد المسلمين في حكم الإسلام وان لم يحكم عليهم بالإسلام الحقيقىّ لعدم تعلّق التّكليف بهم بعد (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) والمراد انّه تعالى يلحق أولاد المؤمنين المكلّفين منهم القاصرين عن درجة آبائهم بآبائهم تشريفا لايمان آبائهم ، وغير المكلّفين منهم بمحض ايمان الآباء يلحقون بالآباء تشريفا لهم كما في الاخبار انّ الصّغار من الأولاد تهدى في الجنّة للآباء (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بواسطة الحاق الأولاد (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) حاليّة أو معترضة جواب لسؤال مقدّر (وَأَمْدَدْناهُمْ) يعنى أعطيناهم على التّدريج والاستمرار (بِفاكِهَةٍ) شريفة لا يمكن تعريفها (وَلَحْمٍ) غير معروف ليس من جنس لحوم الدّنيا حتّى يمكن تعريفها (مِمَّا يَشْتَهُونَ) اى من لحم أو من ذي لحم يشتهونه من لحم الطّيور وغير الطّيور (يَتَنازَعُونَ) اى يتجاذبون من وجد (فِيها كَأْساً) الكأس مهموزة اسم لما يشرب منه ، أو اسم له ما دام الشّراب فيه ، وتطلق على الخمر أيضا وهي مؤنّثة سواء أريد بها ما يشرب به أو الخمر (لا لَغْوٌ فِيها) يعنى لا يجرى بينهم لغو حين تعاطيها مثل الكؤوس الدّنيويّة (وَلا تَأْثِيمٌ) اى لا جعل الشّارب آثما بخلاف كؤوس الدّنيا (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) في الحسن والصّباحة والصّفاء والبياض ، وتوصيف اللّؤلؤ بكونه مكنونا لكون المكنون محفوظا من الاغبرة وما يكدّره (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) اى كلّ بعض منهم (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عن سبب تنعّمهم في الجنّة بقرينة ما يأتى (قالُوا) في الجواب (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) اى قبل الآخرة (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) على أهلنا ، أو مشفقين من عذاب الله (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بهذه النّعم (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) السّموم من أسماء جهنّم ، أو السّموم الحرّ الّذى يدخل في مسامّ البدن (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) الّذى لا يدع من يدعوه من غير نصرة (الرَّحِيمُ) الّذى يتفضّل على عباده من غير استحقاق منهم (فَذَكِّرْ) يعنى إذا كان الأمر هكذا فذكّر ولا تبال بردّهم وقبولهم فانّه ينفع بعضهم


ان لم ينفع كلّهم ، أو ينفع آخرا ان لم ينفع اوّل الأمر (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) الباء المقسم أو للسّببيّة ، والنّعمة هي الولاية والنّبوّة والرّسالة صورتها (بِكاهِنٍ) الكهانة الاخبار بالغيب بطريق خدمة الجنّ ، والفعل كمنع ونصر وكرم (وَلا مَجْنُونٍ) كما يقولون ويصفونك بهما (أَمْ يَقُولُونَ) هو (شاعِرٌ) يتكلّم بما لا حقيقة له ويتموّه فيقرّب البعيد ويبعّد القريب ، ولمّا كان الشّاعر في أكثر الأمر يأتى في شعره بما لا حقيقة له ويموّه سمّى كلّ من يأتى بكلام مموّه لا حقيقة له بالشّاعر (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) الرّيب صرف الدّهر ، والمنون الدّهر والموت والمقصود منه انّا نتربّص هلاكته (قُلْ تَرَبَّصُوا) الهلكة لي (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) حوادث الدّهر لكم (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) اى عقولهم (بِهذا) القول والإنكار (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) وطغيانهم يحملهم على ذلك لا عقولهم (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) قال القرآن بتعمّل من عند نفسه وليس من الله (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) بالله أو بك أو بالقرآن أو بالولاية (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) اى مثل القرآن (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في انّك تقوّلته وقد مضى في اوّل البقرة عند قوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) بيان التّحدّى بالقرآن والاشارة الى وجه اعجازه (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) بل أخلقوا من غير غاية لخلقتهم؟ كما يقول المعطّلون للعالم وخلقه عن الغاية ، أو من غير مبدء؟ كما يقول الدّهريّة والطّبيعيّة والقائلون بالبخت والاتّفاق ، أو من غير امر ونهى ووعظ ونصح لهم؟ حتّى يكونوا مهملين ، أو من غير سبق مادّة واستعداد؟ حتّى يقولوا بالجبر للعباد من دون اختيار لهم ، أو من غير سبق صورة مثاليّة لهم في مراتب علمنا؟ فيكون خلقنا لهم من غير علم لنا بهم سابقا (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لأنفسهم فلم يكن لهم مبدء آخر فلم يكن لغيرهم حقّ عليهم (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) حتّى لا يكون لهما خالق فلم يقرّوا بمبدإ لهما اضطرارا (بَلْ لا يُوقِنُونَ) فلا يتكلّمون في شيء الّا عن ظنّ وتخمين (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) فيعطوا من شاؤا ما شاؤا ويمنعوا من شاؤا ما شاؤا فيمنعوا الرّسالة منك ويعطوها غيرك أو يعطوا أنفسهم ما يشاؤن فلم يضطرّوا الى الالتجاء الى الله والسّؤال منه ، أو الى الالتجاء الى رسوله (ص) والسّؤال منه ، أو الى العبادات وأخذها من أهلها (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) المسيطر الرّقيب الحافظ والمتسلّط حتّى لا يحتاجوا الى غيرهم (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) اى في السّلّم اخبار الغيب فيخبروا انّ محمّدا (ص) ليس بنبىّ ، أو يخبروا بما يحتاجون اليه من امر دينهم ودنياهم فلا يكون لهم حاجة الى رسول (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجّة واضحة أو موضحة صدّقه (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) أتى بعد ذكر الاستماع من السّماء حجّة على انّهم غير مستمعين بل غير عاقلين فانّ العاقل لا يقول مثل ما قالوا فانّهم جوّزوا عليه التّوالد الّذى مفاسده غير خفيّة ثمّ اثبتوا له البنات ، (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ورجّحوا أنفسهم عليه فاثبتوا لأنفسهم البنين ولذلك قال (وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) بذلك الأجر فمنعهم ذلك عن الإقرار بك (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) من دون الصّعود الى السّماء (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) فيعلمون بذلك انّك لست برسول أو لا يحتاجون بذلك الى رسول (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) يعنى انّهم يريدون كيدا عظيما بك وبوصيّك فالّذين كفروا برسالتك أو بولاية علىّ (ع) هم المكيدون فانّ كيدهم لك هو كيد الله لهم في الخذلان والمنع من حضرته (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ


سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأصنام والكواكب والاهوية (وَإِنْ يَرَوْا) والحال انّهم ليسوا في شيء على حالة اليقين فانّهم ان يروا (كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) مع انّه من المشهودات الّتى هي ثواني البديهيّات ينكروا و (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) فاذا كان الأمر هكذا (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) يهلكون بالصّاعقة أو يغشون (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) من الإغناء أو شيئا من العذاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بإنكار المبدء أو المعاد أو الرّسالة أو الولاية أو ظلموا آل محمّد (ص) حقّهم (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) اليوم وهو عذاب يوم الاحتضار ، أو عذاب البرزخ ، أو عذاب الدّنيا بالقتل والأسر والنّهب ، أو دون هذا العذاب (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فلذلك يجترءون على إنكارك (وَاصْبِرْ) عطف على قل تربّصوا أو على ذكّر (لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم أو لحكم ربّك بايذائك على أيديهم ، أو لحكم ربّك بانكارهم لك ، أو لله ، أو لحكم ربّك ببقائك فيهم ، أو واصبر منتظرا لحكم ربّك باهلاكهم ولا تبال بانكارهم وتهديدهم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) نشاهدك ونشاهد جميع أمورك فلا ندعهم حتّى يضرّوك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) الى الصّلوة أو حين تقوم عند الله فانّ القيام عند الله يقتضي التّنزيه المطلق من غير التفات الى جهة الكثرات وحمده تعالى بها ، لكنّ الكامل ينبغي ان يكون حافظا للطّرفين في كلّ حال وأنت أكمل النّاس فسبّح بحمد ربّك حين تقوم عنده ولا تغفل عن الكثرات (وَمِنَ اللَّيْلِ) الّذى يغشاك فيه ظلمات الكثرات وتستر وجهة ربّك (فَسَبِّحْهُ) وبالغ في تنزيهه عن الكثرات فانّ المنغمر في ظلمات الكثرات عليه ان يبالغ في تنزيه الحقّ ولا يلتفت الى تشبيهه ولذلك لم يضف الحمد هناك وان كان تسبيحه لا ينفكّ عن حمده (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وحين ادبار النّجوم وقد فسّرت الآية بحسب التّنزيل بوجوه فقيل حين تقوم من النّوم ، أو الى الصّلوة المفروضة فقل : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، وقيل : صلّ بأمر ربّك حين تقوم من مقامك ، وقيل : المراد الرّكعتان قبل صلوة الفجر ، وقيل : حين تقوم من نومة القائلة وهي صلوة الظّهر ، وقيل : اذكر الله بلسانك حين تقوم الى الصّلوة ، وقيل : قوله من اللّيل فسبّحه يعنى به صلوة اللّيل ، وقيل : معناه صلّ المغرب والعشاء الآخرة ، وادبار النّجوم معناه الرّكعتان قبل الفجر ، وقيل : صلوة الفجر المفروضة ، وقيل : لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء ونزّهه في جميع أحوالك ليلا ونهارا قائما وقاعدا.

سورة والنّجم

مكّيّة ، وقيل غير آية : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) ، الآية ، وقيل : هي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ) اقسم بالنّجم المراد به القرآن فانّه نزّل نجوما اى متفرّقا في طول ثلاث وعشرين سنة ، أو اقسم بالثّريّا فانّ النّجم علم بالغلبة لها ، أو اقسم بمطلق النّجوم ، أو اقسم بالنّجم الّذى يرجم به الشّيطان عن استراق السّمع ، أو اقسم بالنّبات إذا سقط على الأرض أو ارتفع منها ونما ، وقيل : اقسم بمحمّد (ص) فانّه النّجم


الّذى نزل من السّماء السّابعة ليلة المعراج ، وعن ابن عبّاس انّه قال : صلّينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول الله (ص) فلمّا سلّم اقبل علينا بوجهه ثمّ قال : انّه سينقضّ كوكب من السّماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم ، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيّي وخليفتي والامام بعدي ، فلمّا كان قرب الفجر جلس كلّ واحد منّا في داره ينتظر سقوط الكوكب في داره وكان أطمع القوم في ذلك ابى العبّاس ، فلمّا طلع الفجر انقضّ الكوكب من الهواء فسقط في دار علىّ بن ابى طالب (ع) فقال رسول الله (ص) لعلىّ (ع) : يا علىّ والّذى بعثني بالنّبوّة لقد وجب لك الوصيّة والخلافة والامامة بعدي ، فقال المنافقون عبد الله بن ابىّ وأصحابه : لقد ضلّ محمّد في محبّة ابن عمّه وغوى ، وما ينطق في ساعته الّا بالهوى ، فأنزل الله هذه الآية (الى آخر الحديث) (إِذا هَوى) سقط وغرب ، أو إذا صعد وارتفع ، فانّه يستعمل فيهما (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) يا قريش (وَما غَوى) يعنى ما ضلّ عن طريق الحقّ في الأعمال والأقوال الظّاهرة وما ضلّ في العلوم والعقائد الباطنة (وَما يَنْطِقُ) بالقرآن أو بالولاية أو بمطلق ما ينطق به أو بالاحكام الشّرعيّة (عَنِ الْهَوى) اى هوى نفسه من دون امر ربّه (إِنْ هُوَ) اى نطقه أو القرآن أو امر الولاية (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) يعنى انّه خرج من انانيّته وصار انانيّته انانيّة الله فلم يكن منه فعل أو قول أو خلق الّا بوحي من الله وانانيّته (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) جمع القوّة مقابلة الضّعف ، ولمّا كان قوّة جبرئيل في جميع ماله من أنواع الإدراكات والتّصرّفات جمع القوى (ذُو مِرَّةٍ) ذو متانة في عقله وثبات من امره ، فانّ صاحب المرّة يكون صاحب ثبات في الأمر ولذلك ورد انّه : ما بعث نبىّ قطّ الّا كان ذا مرّة سوداء (فَاسْتَوى) اى فاستقام على صورته الحقيقيّة الّتى خلقه الله عليها ، قيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير محمّد (ص) نبيّنا فانّه رآه على صورته مرّتين ، مرّة في السّماء ومرّة في الأرض ، وقيل : فاستوى على جميع ما في الأرض أو على ما امره الله به ، وقيل : فاستوى محمّد (ص) اى استقام في امره وتمكّن ، وعلى اىّ تفسير فالإتيان بالفاء كان في محلّه ، وقيل : كان جبرئيل يأتى النّبىّ (ص) في صورة الآدميّين فسأله رسول الله (ص) ان يريه نفسه على صورته الّتى خلق عليها ، فأراه نفسه مرّتين ، مرّة في الأرض ومرّة في السّماء ، امّا في الأرض فانّ محمّدا (ص) كان بحراء فطلع له جبرئيل من المشرق فسدّ الأفق الى المغرب فخرّ النّبىّ (ص) مغشيّا عليه ، فنزل جبرئيل في صورة الآدميّين فضمّه الى نفسه (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) اى جبرئيل بالأفق الأعلى وهو أفق عالم العقول الّذى هو عالم الجبروت من جهة اللّاهوت ، وكان جبرئيل حين النّزول ينزل من أفق المشرق وهو أعلى من أفق المغرب ، أو المراد انّ محمّدا (ص) كان حين نزول الوحي والتّعليم بالأفق الأعلى يعنى أفق عالم العقول الى اللّاهوت ، أو عالم النّفوس الى العقول ، أو عالم المثال الى النّفوس ، أو أفق عالم الطّبع الى عالم المثال ، فانّه (ص) كان يوحى اليه في جميع تلك الآفاق (ثُمَّ دَنا) جبرئيل من الأفق الأعلى من محمّد (ص) (فَتَدَلَّى) في الهواء ، أو ثمّ دنى محمّد (ص) من الأفق الأعلى من الله ، فتدلّى من أنانيّته وتدلّى تحت العرش ، فلم يبق له مقام ومكان ولا انانيّة يعتمد عليها بل صار تدليّا من غير ذات متدلّية ، وقرئ فتدانى ، وسئل الكاظم (ع) عن قوله دنى فتدلّى ، فقال : انّ هذه لغة في قريش إذا أراد الرّجل منهم ان يقول : قد سمعت يقول قد تدلّيت وانّما التّدلّى الفهم (فَكانَ) الامتداد والمسافة بينهما (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) اى بل ادنى وقاب القوس ما بين مقبضها الى رأسها ، ولكلّ قوس قابان ، ولذلك قيل : انّه على القلب والأصل قابى قوس لكن ليس هذا على القلب وليس المقصود انّه كان بينهما مقدار قابى القوس بل المقصود انّه كان بينهما مقدار قاب واحد من القوس إذا انعطفت لا إذا كانت مستقيمة ، فانّ القوس قطعة من الدّائرة ولكلّ


قوس إذا انعطفت قوسان ما بين مقبضها ورأس كلّ طرف منها ، وعن الصّادق (ع): انّه سئل كم عرج برسول الله (ص)؟ ـ فقال : مرّتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال : مكانك يا محمّد (ص) فقد وقفت موقفا ما وقفه ملك ولا نبىّ قطّ ، انّ ربّك يصلّى ، فقال : يا جبرئيل ، وكيف يصلّى؟ ـ قال : يقول سبّوح قدّوس انا ربّ الملائكة والرّوح ، سبقت رحمتي غضبى ، فقال : اللهمّ عفوك عفوك ، قال : وكان كما قال الله : قاب قوسين أو ادنى ، قيل : ما قاب قوسين أو ادنى؟ ـ قال : ما بين سيتها (١) الى رأسها ، قال : فكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق ولا أعلمه الّا وقد قال : زبرجد ، فنظر في مثل سمّ الإبرة الى ما شاء الله من نور العظمة ، فقال الله تبارك وتعالى : يا محمّد (ص) ، قال : لبّيك ربّى ، قال : من لامّتك من بعدك؟ ـ قال : الله اعلم ، قال : علىّ بن ابى طالب (ع) أمير المؤمنين وسيّد المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين ، ثمّ قال الصّادق (ع): والله ما جاءت ولاية علىّ (ع) من الأرض ولكن جاءت من السّماء مشافهة ، وقال في الصّافى ، وفي التّعبير عن هذا المعنى بمثل هذه العبارة اشارة لطيفة الى انّ السّائر بهذا السّير منه سبحانه نزل واليه صعد ، وانّ الحركة الصّعوديّة كانت انعطافيّة وانّها لم تقع على نفس المسافة النّزوليّة بل على مسافة اخرى كما حقّق في محلّه فسيره كان من الله والى الله وفي الله وبالله ومع الله تبارك وتعالى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أبهم الموحى للتّفخيم وقد مضى في آخر البقرة انّه كان فيما اوحى اليه قوله تعالى (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (الآية) وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم (ع) الى ان بعث الله محمّدا (ص) وعرضت على الأمم فأبوا ان يقبلوها من ثقلها ، وقبلها رسول الله (ص) ، وعرضها على أمّته فقبلوها ، وقد مضى في آخر البقرة بيان هذه الآية وعدم منافاتها لما ورد انّه تعالى : لا يؤاخذ العباد على الخطرات والوساوس وعزم المعاصي (ما كَذَبَ) قرئ بتخفيف الذّال وتشديدها (الْفُؤادُ) اى فؤاد محمّد (ص) ولم يضفه اليه لإيهام ان ليس فؤاد غير فؤاده ، وانّ المطلق ينصرف اليه (ما رَأى) في بعض الاخبار انّ محمّدا (ص) رأى ربّه بفؤاده لا بالبصر ، وفي بعض : لقد رأى من آيات ربّه الكبرى وآيات الله غير الله ، أو رأى خلافة علىّ (ع) وعلىّ أكبر الآيات ، أو رأى جبرئيل على صورته الّتى خلق عليها ، ولم يره أحد كذلك (أَفَتُمارُونَهُ) أفتجادلونه ، وقرئ أفتمرونه من مرى بمعنى أتغلبونه في المحاجّة وتنكرونه؟! فانّهم كانوا يجادلونه في خلافة علىّ (ع) (عَلى ما يَرى) كان الأوفق ان يقول على ما رأى لكنّه ادّاه بالمضارع للاشعار باستمرار الرّؤية منه فانّه كان كلّما نظر بفؤاده رأى خلافة علىّ (ع) وولايته بعده ، وسئل رسول الله (ص) عن ذلك الوحي ، فقال: اوحى الىّ انّ عليّا (ع) سيّد المؤمنين ، وامام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، واوّل خليفة يستخلفه خاتم النّبيّين (ص) ، فدخل القوم في الكلام فقالوا : امن الله أو من رسوله؟ ـ فقال الله جلّ ذكره لرسوله قل لهم : ما كذّب الفؤاد ما رأى ثمّ ردّ عليهم فقال : أفتمارونه على ما يرى فقال لهم رسول الله (ص): قد أمرت فيه بغير هذا ، أمرت ان أنصبه للنّاس ، فأقول : هذا وليّكم من بعدي ، وانّه بمنزلة السّفينة يوم الغرق ، من دخل فيها نجا ، ومن خرج عنها غرق (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) في نزول أخر من عرش الرّبّ أو مرّة اخرى من غير اعتبار النّزول فيها فانّها تستعمل في معنى المرّة من غير اعتبار معنى مادّته (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) اى عند سدرة الواقعة في منتهى مقامات الإمكان ، وتسمية الشّجرة النّوريّة الواقعة في منتهى المقامات بالسّدرة لانّها ليس عندها الّا الحيرة والدّهشة ، والسّادر هو المتحيّر وهي شجرة عن يمين العرش فوق السّماء السّابعة ينتهى إليها علم كلّ ملك ، وينتهى إليها اعمال الخلائق من الاوّلين والآخرين ، وإليها ينتهى الأرواح الصّاعدة ، ولا يتجاوز عنها من كان مقيّدا بقيود الحدود ، ولذلك قال جبرئيل في هذا المقام : لو دنوت أنملة لاحترقت ، وهي شجرة طوبى ، وهي شجرة النّبوّة

__________________

(١) السّية كالعدة من الوعد القوس ما عطف من طرفيها.


كما انّ فوقها شجرة الولاية (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) الّتى لا يتجاوز عنها الممكن بخلاف سائر الجنّات فانّها معبر غير مأوى لبعض النّفوس وان كانت مأوى لبعض آخر (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) لفظ ما في أمثال هذه الكلمة يفيد التّفخيم ، قيل : يغشاها الملائكة أمثال الغربان ، وقيل : يغشاها من النّور والبهاء ، وقيل : فراش من الذّهب ، وقيل : لمّا رفع الحجاب بينه وبين رسول الله (ص) غشي نوره السّدرة (ما زاغَ الْبَصَرُ) حتّى لم يكن يبصر ما هو الواقع ويكون مخطئا في ابصاره يعنى ما زاغ بصر محمّد (ص) حين رأى عند السّدرة (وَما طَغى) وما جاوز عن حدّ القصد في الأبصار حتّى يكون مخطئا في الأبصار (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) مثل سدرة المنتهى وجبرئيل على صورته الّتى خلق عليها ، وقيل : سمع كلاما لو لا انّه قوّى ما قوى ، وقيل : رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنّة قد سدّ الأفق ، وقيل : رأى ربّه بقلبه ، وقيل : رأى عليّا (ع) فانّه الآية الكبرى الّتى لا أكبر منها ، وروى عن النّبىّ (ص) انّه قال لعلىّ (ع): يا علىّ انّ الله أشهدك معى في سبع مواطن وعدّ من ذلك ليلة الإسراء (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) اى أخبرونا عن هذه الآلهة الّتى تعبدونها يضرّونكم أو ينفعون؟! أو هي بنات الله؟! وقيل : انّهم زعموا انّ الملائكة بنات الله وصوّروا أصنامهم على صورهم وعبدوها من دون الله واشتقّوا لها أسماء من أسماء الله فقالوا : اللّات من الله ، والعزّى من العزيز ، وقيل : انّ التّاء في اللّات اصليّة ، وقرئ اللّاتّ بتشديد التّاء ، قيل : كان صنما نحتوه على صورة رجل يلتّ السّويق ويطعم الحاجّ ، وقيل : انّ اللّات كان صنما لثقيف ، والعزّى صنم ، وقيل : انّها كانت شجرة يعبدها الغطفان فبعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها ، ومناة كانت صنما بقديد بين مكّة والمدينة ، وقيل : ثلاثتها كانت أصناما في الكعبة يعيدونها ، والثّالثة نعت لمناة وكذلك الاخرى وكانتا نعتين بيانيّين (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) ذات جور ، وضيزى قيل : انّه فعلا مضموم الفاء سواء جعل واويّا أو يائيّا لعدم وجود الوصف على فعلى مكسور الفاء ، وقرئ بالهمزة من ضازه إذا ظلمه (إِنْ هِيَ) اى الأصنام (إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) قد سبق الآية في سورة الأعراف مع تفاوت يسير في اللّفظ وقد سبق تحقيق لها هناك وفي سورة البقرة أيضا عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (إِنْ يَتَّبِعُونَ) في جعل هذه الأسماء الّتى ليست لها حكم فضلا عن ان تكون معبودات مسمّيات وفي النّظر إليها والسّجدة لها ، وقرئ تتّبعون بالخطاب وبالغيبة (إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) عطف على الظّنّ ويجوز ان يكون ما نافية أو استفهاميّة (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) ما به الهدى واليقين فأعرضوا عنه واتّبعوا الظّنّ وما به الضّلالة والمراد بالهدى الرّسول وكتابه وشريعته (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) فيكون لهم ما يتمنّونه من حسن الحال في الدّنيا وحسن المآل في الآخرة ، أو من شفاعة الأصنام في الآخرة فانّه لا دليل لهم على ذلك سوى تمنّيهم وليس كذلك (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) الفاء للسّببيّة يعنى إذا كان الآخرة والاولى لله فلم يكن للإنسان ما تمنّى بل كان له ما أراد الله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) من الإغناء ، أو شيئا من عذاب الله (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم في الشّفاعة (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ومن يشاء ويرضى ليس الّا من تولّى عليّا (ع) فانّ ما به الرّضا هو انفحّة الولاية فما لهم يعبدون الملائكة من دون الله ويسمّون الملائكة بما لا يرضاه الله


(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فيقولون : انّ الملائكة بنات الله (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) ذمّهم اوّلا على تسمية الأشرف باسم الاخسّ ثمّ على القول بعدم العلم ثمّ على اتّباع الظّنّ (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) قد فسّر الحقّ هاهنا بالعلم ، أو المراد به نفس الأمر ، أو المشيّة ، أو الحقّ الاوّل تعالى ، وشيئا مفعول مطلق ، أو هو مفعول به ومن الحقّ حال منه (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) لمّا ذكر حال المشركين وانّهم اعرضوا عن اليقين وتمسّكوا بالظّنّ والتّخمين قال : إذا كان حالهم على هذا ولم يتوجّهوا إليك والى ما به اليقين ، أو لم يتوجّهوا الى علىّ (ع) الّذى بالتّوجّه اليه يحصل اليقين ، فأعرض عن مجادلتهم وعن النّصح والتّذكير لهم ، أو اعرض عن مكافأتهم على سوء فعالهم ، والمراد بالذّكر هو ما به ذكر الله للعباد وهو العقل والقلب الّذى هو طريق العقل والقرآن والرّسول وصاحب الولاية وجملة الآيات الآفاقيّة والانفسيّة ، أو المراد ما به ذكر العباد لله وهو المذكورات مع الاذكار اللّسانيّة والقلبيّة لكنّ المنظور الاعراض عمّن أنكر الولاية فانّه المستحقّ للاعراض سواء كان قابلا للرّسالة أو لم يكن (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) فانّ من اعرض عن القلب وصاحبه لا يكون له ارادة من جملة أفعاله وأقواله وعلومه الّا الانتفاع في جهة الحيوة الدّنيا فانّه ان صلّى صلّى لئلّا يحدث له حادثة تضرّه في حيوته ، وان صام فكذلك ، وان حصل له علم لا يكون وجه علمه الّا الى الدّنيا فيكون علمه جهلا مشابها للعلم (ذلِكَ) المبلغ اى الحيوة الدّنيا ، أو طلب الحيوة الدّنيا (مَبْلَغُهُمْ) محلّ بلوغهم أو بلوغهم (مِنَ الْعِلْمِ) لا يتجاوز علمهم عنها الى الآخرة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) جواب سؤال في مقام التّعليل لقوله اعرض (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) اى لله السّماوات والأرض وما فيهما كما مرّ مرارا (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا) علّة غائيّة لأعرض يعنى انّك ما دمت مقبلا عليهم لم يعذّب الله أحدا منهم فاعرض عنهم حتّى يجزى الّذين أساؤا (بِما عَمِلُوا) أو غاية لقوله : هو اعلم بمن ضلّ عن سبيله أو علّة لاثبات قوله هو اعلم بمن ضلّ عن سبيله يعنى قلنا انّه اعلم لما ترى انّه يجزى الّذين أساؤا أو غاية لقوله لله ما في السّماوات وما في الأرض ، أو علّة لإثباته (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) بالخصلة أو العاقبة أو النّعمة الحسنى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) صفة أو بدل من الّذين أحسنوا أو خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبره جملة انّ ربّك واسع المغفرة بتقدير العائد ، أو الخبر محذوف بقرينة انّ ربّك واسع المغفرة اى مغفور لهم ، ويكون قوله : انّ ربّك واسع المغفرة تعليلا له وقد مضى بيان الكبيرة والصّغيرة في سورة النّساء عند قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (وَالْفَواحِشَ) عطف على كبائر الإثم أو على الإثم ، والفاحشة أقبح الإثم أو هو الزّنا (إِلَّا اللَّمَمَ) اللّمم محرّكة صغار الذّنوب الّتى يتنزّل الإنسان عن مقامه عليها ولم يكن مقامه مقام تلك الصّغار من الذّنوب ، فانّه قد مضى في بيان الكبائر انّه إذا لم يكن الإنسان متمكّنا في طريق النّفس فكلّما صدر منه من الآثام كان صغيرة ، ولم يكن مقام ذلك الإنسان مقام تلك الصّغيرة (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) جواب سؤال مقدّر في مقام التّعليل لقوله تعالى ليجزي الّذين أساؤا (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) تعليل لقوله اعلم بكم أو ظرف له يعنى ان كان اعلم بكم في وقت انشائكم من الأرض


فكيف لا يعلم حالكم حين حيوتكم الدّنيويّة أو حين بعثكم (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) يعنى لا تظهروا طهارة أنفسكم ولا تمدحوها عند الله وعند رسوله فانّه اعلم بحالكم منكم بل اتّقوا سخط الله ، أو اتّقوا الشّرك ، أو اتّقوا الشّرك بالولاية عند أنفسكم فلا تظهروا تقويكم فانّه اعلم بتقويكم (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً) قال في المجمع ، نزلت الآيات السّبع من قوله : أفرأيت الّذى (الى سبع آيات) في عثمان بن عفّان كان يتصدّق وينفق ماله فقال اخوه من الرّضاعة عبد الله بن سعد بن ابى سرح : ما هذا الّذى تصنع؟ يوشك ان لا يبقى لك شيء : فقال عثمان : انّ لي ذنوبا وانّى اطلب بما اصنع رضا الله وأرجو عفوه ، فقال له عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وانا أتحمّل عنك ذنوبك كلّها ، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الصّدقة ، فنزلت : أفرأيت الّذى تولّى اى يوم أحد حين ترك المركز ، وأعطى قليلا ثمّ قطع نفقته الى قوله : وانّ سعيه سوف يرى فعاد عثمان الى ما كان عليه ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، ونقل نظير ما نقل لعثمان ، وقيل : نزلت في العاص بن وائل السّهمىّ ، وقيل : في رجل قال لأهله : جهّزونى حتّى انطلق الى هذا الرّجل ، يريد النّبىّ (ص) ، فتجهّز وخرج فلقيه رجل من الكفّار فقال له مثل ما قيل لعثمان ، وقيل : نزلت في ابى جهل وذلك انّه قال والله ما يأمرنا محمّد (ص) الّا بمكارم الأخلاق فذلك قوله اعطى قليلا (وَأَكْدى) اكدى بمعنى بخل ، أو قلّ خيره ، أو قلّل عطاءه (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) ببصيرته انّ غيره يتحمّل عنه ذنوبه ، أو يرى انّه صار مطهّرا من الذّنوب ، أو يرى انّه لا عقوبة عليه (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) مبالغة في الوفاء والإيفاء والمعنى بالغ في الوفاء بعهد الله الّذى أخذ منه ، وتقديم موسى (ع) لكونه أقرب الى المخاطبين المعاتبين ولكون صحفه أشهر وأظهر (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وجدّ ، لفظة ما مصدريّة ، أو موصولة ، أو موصوفة ، وما ورد من انتفاع الأموات بالتّصدّقات والخيرات من الأحياء ليس من قبيل الانتفاع بسعى الغير بل الانتفاع بالمحبّة الّتى دخل منهم في قلوب الأحياء من سعيهم في الدّنيا (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ) اى يجزى السّاعى بسعيه (الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) انتهاء الكلّ وانتهاء أعمالهم فيجزيهم بنفسه الجزاء الأوفى فما لهم يعبدون غيره (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) اسرّوا حزن أو انّه أضحك السّماء برفع الغيم وابكى السّماء بالمطر (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) إذا تتحوّل من الدّم منيّا ، أو إذا تنزّل الى الرّحم (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) اى اغنى بالأموال وجعلهم مدّخرين بأصول الأموال وبضاعاتهم ، وقيل : اقنى بمعنى اخدم ، وقيل : اقنى بمعنى ارضى ، وقيل : اغنى بالكفاية واقنى بالزّيادة ، وقيل : اقنى بمعنى حرم (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) كوكب في السّماء كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى) منهم أحدا (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) اى من قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) اى أسقطها ، والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها اى انقلبت (فَغَشَّاها ما غَشَّى) بالعذاب فما لهم ينظرون الى غيره ويستمدّون من غيره ويعبدون أو يتّبعون غيره (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) على : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، يعنى كلّ هذه المذكورات من النّعم والنّقم من آلاء ربّك ، لانّ هذه النّقم أيضا نعم لمن كان بعد الماضين


من الأمم لاتّعاظهم بالماضين ونقمهم ، ففي اىّ نعم ربّك تشكّ؟! أو بسبب اىّ من الآلاء تجادل؟! والآلاء جمع الالى بفتح الهمزة وكسرها وسكون اللّام ، أو جمع الإلو بكسر الهمزة وسكون اللّام (هذا) اى محمّد (ص) (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) سئل الصّادق (ع) عنها فقال : انّ الله تبارك وتعالى لمّا ذرأ الخلق في الذّرّ الاوّل أقامهم صفوفا قدّامه وبعث الله محمّدا (ص) حيث دعاهم فآمن به قوم وأنكره قوم فقال الله عزوجل : هذا نذير من النّذر الاولى يعنى محمّدا (ص) حيث دعاهم الى الله عزوجل في الذّرّ الاوّل (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) الآزفة من أسماء القيامة غلبت عليها ، والتّاء لتأنيث القيامة ، أو للنّقل ، أو الآزفة مصدر كالكاشفة والعافية ، وقرب القيامة لانّها ليست في عرض الزّمان حتّى يكون قربها قربا زمانيّا بل هي في الطّول وبمنزلة الرّوح للازمان ، وكما انّ روح كلّ شيء أقرب اليه من نفسه فروح الزّمان أقرب كلّ شيء من الزّمانيّات (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) نفس مظهرة ، أو الكاشفة مصدر (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) حديث الآزفة أو أزف الآزفة ، أو القرآن ، أو ما تقدّم من الاخبار كما ورد عن الصّادق (ع) (تَعْجَبُونَ) إنكارا (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) سمد سمودا رفع رأسه تكبّرا ، وسمد الإبل جدّ في السّير ، وسمد دأب في العمل وقام متحيّرا.

سجدة واجبة

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) يعنى إذا أزفت الآزفة ، فاسجدوا لله (وَاعْبُدُوا) حتّى تكونوا حين الورود عليه مستأنسين لا مستوحشين.

سورة القمر

مكّيّة ؛ وهي خمس وخمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قد فسّرت السّاعة بساعة ظهور القائم (ع) وبساعة القيامة وبحالة الاحتضار والكلّ يرجع الى امر واحد هو وقت القيام عند الله ، ولمّا كان رسول الله (ص) خاتم الرّسل فلا يكون بعده رسول ورسالة لانتهاء مراتب الرّسالة اليه فلا يكون مرتبة من الرّسالة الّا وهي مجتمعة في وجوده ، كان أمّته أيضا آخر الأمم فلا يكون بعد أمّته أمّة ، وقد علمت انّ القيامة ليست في عرض الزّمان وانّما هي في طوله فاذا كان أمّة محمّد (ص) آخر الأمم لم يكن مرتبة زمانيّة بعد مرتبتهم ويكون بعد مرتبتهم الخروج من الزّمان ، والخروج من الزّمان هو القيام عند الله فيكون القيامة قريبة من أمّة محمّد (ص) ولذلك ورد عن النّبىّ (ص): بعثت انا والسّاعة كهاتين ، وكان (ص) آخر الزّمان وصار بوجوده قيامة ومحشرا كما قال المولوىّ قدس‌سره :

پس محمد صد قيامت بود نقد

زانكه حلّ شد در فنايش حلّ وعقد

زاده ثانيست احمد در جهان

صد قيامت بود أو اندر عيان

زو قيامت را همى پرسيده اند

كاى قيامت تا قيامت راه چند

با زبان حال مى گفتى بسى

كه ز محشر حشر را پرسد كسي!

پس قيامت شو قيامت را ببين

ديدن هر چيز را شرط است اين

(وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) القمر اسم للكوكب الّذى يأخذ النّور من غيره ولا يكون منيرا بنفسه ، وهل في السّماء أقمار


عديدة؟ أو القمر منحصر في هذا الكوكب الّذى يدرك انّه مستنير من الشّمس؟ قيل : وجدوا غير هذا القمر اقمارا أخر ، وفي العالم الصّغير القلب مظهر للقمر ، أو القمر مظهر للقلب فانّ القلب أيضا يأخذ النّور من الرّوح ويستنير بنوره ، ولمّا كان النّاس قلوبهم ذوات وجهين ، وجه الى الرّوح وعالم الوحدة ، ووجه الى النّفس وعالم الكثرة ، وكان المراعى منهم للطّرفين قليلا والجامع لكمال الطّرفين اقلّ حتّى انّ الأنبياء لم يكونوا كاملين في الطّرفين بل كانوا ناقصين في طرف الكثرة أو طرف الوحدة ، وكان نبيّنا (ص) كاملا في الطّرفين حافظا للجانبين ولذلك نسب اليه انّه قال : كان أخي موسى (ع) عينه اليمنى عمياء ، وأخي عيسى (ع) عينه اليسرى عمياء ، وانا ذو العينين ، كان قلب نبيّنا (ص) من بينهم ذا شقّين كاملين ، ولمّا كان القمر الصّورىّ مظهرا لقلبه كان لا غرو في انشقاق القمر الصّورىّ كما نسب الى معجزاته ، ولمّا كان انشقاق القمر المعنوىّ الّذى هو قلب النّبىّ (ص) بشقّين متساويين دليلا على انتهاء مراتب التّجدّد في وجوده وابتداء الدّهر في وجوده كان دليلا على شدّة قرب السّاعة الواقعة في الدّهر ، ولمّا كان انشقاق القمر الصّورىّ دليلا على انشقاق قلب فاعله بشقّين متساويين كان ذلك أيضا من أشراط السّاعة ، روى انّه اجتمع المشركون الى رسول الله (ص) فقالوا : ان كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين ، فقال لهم : ان فعلت تؤمنوا؟ ـ قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل ربّه ان يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فرقتين ورسول الله (ص) ينادى : يا فلان يا فلان اشهدوا (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) الجملة حاليّة والمعنى اقتربت السّاعة وظهر أمارتها وينبغي ان يتذكّروا ويتوبوا وينيبوا ويتنبّهوا بكلّ شيء والحال انّهم مع ذلك ان يروا آية من آيات السّاعة مثل بياض شعر الرّأس واللّحية وسقوط الأسنان وضعف نور البصر وقلّة شهوة الطّعام والسّفاد ورخاوة الاعصاب والأمراض الواردة وفوت الجيران والإقران ، أو آية من آيات قدرة الله وعلمه وحكمته ، أو آية من آياته العظمى ، أو آية معجزة لهم عن الإتيان بمثلها (يُعْرِضُوا) عنها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قوىّ يعلو كلّ سحر ، وقيل : سحر ذاهب باطل ، أو سحر مستمرّ من الأزمان السّابقة (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) قال القمّىّ : كانوا يعملون برأيهم ويكذّبون أنبياءهم (وَكُلُّ أَمْرٍ) من التّكذيب والتّصديق والخير والشّرّ والطّاعة والمعصية (مُسْتَقِرٌّ) في الألواح العالية ، وفي الصّحف الّتى بأيدي الكرام البررة ، وفي ألواح النّفوس العاملة فلا يفوت شيء منّا ، فيكون هذا تهديدا لهم (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) اى أنباء الأنبياء (ع) وأممهم الماضية والوقائع الواقعة بهم ، أو من أنباء الآخرة والثّواب والعقاب فانّه وصل انموذجها إليهم في وجودهم وخبرها إليهم باخبار أنبيائهم (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) انزجار من المعاصي والتّكذيب (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) الى الغاية اى كاملة وهو بدل من مزدجر أو خبر مبتدء محذوف اى هذه المواعظ ، أو هذا القرآن أو ما جاءهم من الأنباء حكمة بالغة (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يعنى إذا كان لا يغني من عذاب الله تلك الحكمة البالغة الّتى فيها مزدجر فاىّ شيء تغن النّذر ، أو فلا ـ تغني جميع النّذر عن عذاب الله ، أو ما تغني جميع النّذر عنهم ، أو إذا لم تغن النّذر في الدّنيا فما تغن النّذر يوم الاحتضار أو يوم القيامة ، والنّذر جمع النّذير ، أو مصدر بمعنى الإنذار (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يعنى إذا كانوا لا ينفعهم النّذر فلا تجشّم في الدّعوة وتولّ عنهم يوم الاحتضار حتّى لا تساء بمشاهدة سوء أحوالهم ، أو تولّ عنهم إذا تعرّضوا لشفاعتك يوم القيامة أو تولّ عنهم يوم القيامة لانّهم يرون العذاب في ذلك اليوم (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) قرئ بإسقاط الياء اجراء للوصل مجرى الوقف ، وقرئ بإثبات الياء ، والدّاعى هو ملك الموت في النّفخة الاولى أو في النّفخة الثّانية ، وقيل : هو إسرافيل يدعوهم الى المحشر ، أو الملك الّذى يدعوهم الى النّار (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) منكر غير مأنوس فانّ جميع


أمور الآخرة منكر لغير أهلها غير معروف ، ويوم يدع الدّاعى ظرف لقوله : تولّ عنهم أو ما تغن النّذر أو مستقرّ ، أو يخرجون (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) حال مقدّم (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) الطّبيعيّة الدّنيويّة ، أو المثاليّة الاخرويّة (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في وجه الأرض والمقصود انّهم من غاية الفزع كالجراد المنتشر لا انضباط لحركاتهم ولا جهة بل يدخل بعضهم في بعض من غير انضباط ، وقيل : التّشبيه بالجراد في الكثرة (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) اى مقبلين أو مسرعين أو ناظرين (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا فلا تكن في ضيق من تكذيبهم فانّه ديدن لأمثالهم (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) انزجر شديدا من شيمتهم ورميهم ، أو انزجر بوعيدهم بالقتل (فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما انزجر شديدا (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) منهم بالإهلاك (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) وقرئ فتّحنا بالتّشديد (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) منصبّ مستمرّ غير منقطع (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) تميز محوّل عن المفعول (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السّماء وماء الأرض مشتملا (عَلى أَمْرٍ) هي إهلاك القوم (قَدْ قُدِرَ) في عالم القدر أو على ميزان قدّره الله من التّساوى أو التّفاضل في المائين أو على ميزان قدّره الله من مقدار ارتفاع الماء على وجه الأرض (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) وهي المسامير من الحديد أو كلّ ما يشدّ به الشّيء أو خيوط من ليف يشدّ بها السّفن ، وقيل : هي صدر السّفينة تدفع بها الماء ، وقيل : هي أضلاع السّفينة وأصلها (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بحافظيّتنا (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) وهو نوح فانّ نعمة السّفينة وجريها بحفظه تعالى ، ونقمة القوم وإهلاكهم كان جزاء لنوح وكفر قومه به (وَلَقَدْ تَرَكْناها) اى هذه الغفلة بقوم نوح أو السّفينة بعينها أو بخبرها في النّاس (آيَةً) يعتبر بها ، أو آية على قدرتنا وانتقامنا أو على صدق انبيائنا (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) معتبر بتلك الآية (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وإنذاري أو هو جمع النّذير (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) اى للتّذكّر والاتّعاظ بان ذكرنا فيه الحكايات المبشّره والمنذرة والأمثال العديدة بألفاظ واضحة الدّلالة ، أو يسّرنا القرآن بان نزّلناه من مقامه العالي وأدخلناه في قوالب الألفاظ والحروف ليسهل إدراكه لكم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عادٌ) قوم عاد بعد قوم نوح (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا) جواب لسؤال مقدّر عن العذاب (عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردة (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) نحو ستّة الى مثله ، عن الصّادق (ع) : يوم الأربعاء يوم نحس لانّه اوّل يوم وآخر يوم من الايّام الّتى قال الله عزوجل (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً تَنْزِعُ النَّاسَ) روى انّهم كانوا يدخلون في الشّعاب ويتمسّك بعضهم ببعض فكانت الرّيح تنزعهم وتصرعهم موتى (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) منقطع من أصولها ، شبّههم باعجاز النّخل لانّهم بعد خروج أرواحهم تصير أبدانهم كأعجاز النّخل لانّ أرواحهم مثل أصول النّخل وغصونها (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) كرّر هذه الكلمة وسابقتها لانّ السّورة لتهديد الكفّار وترغيب المؤمنين ، والتّكرار في مقام التّهديد والتّرغيب مطلوب (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) من بعد عاد (بِالنُّذُرِ فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) على سبيل الإنكار والاستغراب (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) جمع السّعير ، أو بمعنى الجنون ، أو جمع


السّعر ككتف بمعنى المجنون ، وعطف على في ضلال (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) أو الكتاب أو الوحي أو المواعظ أو احكام الرّسالة (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) وفينا من هو احقّ منه بذلك (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) يعنى ليس ينزل عليه الوحي من بيننا بل هو كذّاب اشر حمله بطره على طلب الرّياسة والتّرفع (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) وقرئ ستعلمون بالخطاب التفاتا منه تعالى من الغيبة الى الخطاب أو حكاية لقول صالح لهم (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) جواب سؤال مقدّر (فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ) ناظرا لحالهم الى م ترجع (وَاصْطَبِرْ) وبالغ في الصّبر (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ) اى كلّ نوبة (مُحْتَضَرٌ) لصاحبه لا يزاحمهم النّاقة في نوبتهم ولا يزاحمونها في نوبتها (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى) السّيف لقتلها ، أو تعاطى النّاقة لقتلها ، أو تعاطى القوس ، أو قام على أطراف أصابع الرّجلين ومدّ يديه لقتلها (فَعَقَرَ) قيل : كمن لها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقيها ، ثمّ شدّ عليها بالسّيف وكان يقال له : أحمر ثمود وأحيمر ثمود على التّصغير ويضرب به المثل في الشّؤم (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبرئيل ، أو صيحة الصّاعقة وقد سبق في سورة الأعراف وغيرها قصّتهم ورفع الاختلاف بين ما ورد في إهلاكهم من الصّيحة والزّلزلة (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) المحتظر الّذى يعمل الحظيرة لإبله وغنمه ، وهشيمه ما يجعله المحتظر حول حظيرته من خشب وحطب وغيره (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) بالرّسل أو بالإنذار (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) راميا للحصباء عليهم وكان الحاصب جبرئيل بعد ما رفع قراهم ، وقيل : المراد بالحاصب الرّيح الّتى كانت تحصبهم بالحجارة ، أو المراد الحاصب الّذى حصبهم بحجارة من سجّيل مسوّمة عند ربّك للمسرفين وهم الملائكة (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) في وقت سحر متعلّق بنجّيناهم أو بحاصبا (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) نجاة نعمة أو لنعمة ، أو أنعمنا عليهم نعمة من عندنا (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمنا بصرفها فيما خلقت لأجلها ، أو بتعظيمنا في أنعامنا (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) لوط (بَطْشَتَنا) سطوتنا بالعذاب (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) تجادلوا في النّذر ، أو شكّوا فيه ، أو تجادلوا ، أو شكّوا بسبب النّذر (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) مسخناها وسوّيناها بسائر الوجه ، أو طمسنا نورها ، ورد انّه أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم ، وورد أيضا انّه أخذ كفّا من تراب فضرب بها وجوههم فعمي أهل المدينة كلّهم ، وقد سبق قصّتهم في سورة الأعراف وهود والحجر (فَذُوقُوا) اى فقلنا لهم ذوقوا (عَذابِي وَنُذُرِ) اى ما أنذرتم به (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) فيهم غير زائل عنهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) اى فرعون وآله لكن اكتفى بذكرهم لانّ استحقاق قوم لعذاب أو ثواب بإضافتهم الى شخص يدلّ على استحقاق ذلك الشّخص بالطّريق الاولى (كَذَّبُوا بِآياتِنا) التّسع (كُلِّها) أو بآياتنا الآفاقيّة والانفسيّة كلّها ، أو بآياتنا العظمى كلّها وهم الرّسل (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ) يا قريش أو يا أهل مكّه أو يا ايّها العرب أو يا ايّها النّاس (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) الهالكين الماضين حتّى لا نعذّبهم ولا نهلكهم مثلهم وليس كذلك (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) بل اثبت لهم في الزّبر الاوّلين أو في الألواح العالية والكتب الّتى بأيدي الملائكة براءة من العذاب أو من الهلكة أو من النّار


(أَمْ يَقُولُونَ) التفات من الخطاب (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) بل أيعتمدون على جماعتهم وعصابتهم ويقولون : نحن متّفقون ومنتصرون ممّن أراد بنا سوء ولو كان المريد الله أو الملائكة ، ووحّد منتصرا لملاحظة لفظ جميع فانّه مفرد في اللّفظ كالكلّ وان كان معناه جمعا ، وللاشارة الى انّ الجماعة المتّفقة تكون كالرّجل الواحد ، أو الضّمير لكلّ واحد اى نحن جميع ومنتصر كلّ واحد منّا ممّن يخالفنا فكيف بجماعتنا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) ان كانوا متّكلين على جماعتهم والمراد انّهم سيهزمون في القيامة أو في الدّنيا يوم بدر (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ) المناسب لهذا الاضراب ان يكون المراد بهزيمتهم هزيمتهم في الدّنيا يعنى انّهم يهزمون في الدّنيا بل السّاعة اى القيامة أو ساعة الموت (مَوْعِدُهُمْ) والّذى لهم في الدّنيا من العذاب أنموذج من عذاب السّاعة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) اشدّ (وَأَمَرُّ) بل شدّة السّاعة ومرارته لا تقاس بعذاب الدّنيا (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ) في الدّنيا (وَسُعُرٍ) في الآخرة أو كلاهما في الآخرة أو كلاهما في الدّنيا ، ويكون المراد بالسّعر الجنون (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) حال أو مستأنف بتقدير القول ، وسقر علم لجهنّم ، وعن الصّادق (ع) انّ في جهنّم لواديا للمتكبّرين يقال له سقر شكا الى الله شدّة حرّه وسأله ان يأذن له ان يتنفّس ، فتنفّس فأحرق جهنّم (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) بقدر مخصوص من أمد بقائه واجله وكيفيّة بقائه ، أو بسبب عالم القدر ، أو بتقديرنا له في عالم القدر ، عن الصّادق (ع) انّ القدريّة مجوس هذه الامّة وهم الّذين أرادوا ان يصفوا الله بعد له فأخرجوه من سلطانه ، وفيهم نزلت هذه الآيات يوم يسحبون (الى قوله) بقدر (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) رفع توهّم نشأ من قوله كلّ شيء خلقناه بقدر فانّه يتوهّم متوهّم انّه إذا كان كلّ شيء خلقه بقدر لم يتيسّر ذلك الّا بعمّال عديدة يكون تحت كلّ عامل عدّة عامل ، فقال : ما أمرنا في خلق العالم وجميع ما فيه الّا واحدة اى فعلة واحدة ، أو كلمة واحدة ، أو نشأ من قوله بل السّاعة موعدهم فانّه يتوهّم انّه إذا كان السّاعة موعدهم فليكن أمد السّاعة بقدر أمد الدّنيا بل أطول منه فقال : وما أمرنا في الإتيان بالسّاعة وجمع الخلائق فيها ومحاسبتهم الّا واحدة (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) في اليسر والسّرعة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أمثالكم من منكري الرّسالة وتوحيد الله (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) متّعظ بتذكّر أحوالهم (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) اى الألواح العالية أو صحف الأعمال فلا يفوت شيء منها ومنّا (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الذّوات والأعمال والاعراض (مُسْتَطَرٌ) قبل خلقته في الأقلام العالية واللّوح المحفوظ والألواح القدريّة ، أو بعد خلقته في صحائف نفوسهم وفي صحف الكرام الكاتبين (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) النّهر بالسّكون والنّهر بالتّحريك مجرى الماء (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) الصّدق على الإطلاق هو استقامة الإنسان في جميع ما يقتضيه انسانيّته وتمكّنه فيه من الخروج عن جميع الحدود والدّخول في مقام الإطلاق والاتّصاف بجميع الصّفات الالهيّة ، والتّمكّن في كلّ ذلك ، واضافة المقعد الى الصّدق امّا من قبيل اضافة السّبب الى المسبّب ، أو المسبّب الى السّبب ، أو من قبيل لجين الماء ، أو بيانيّة ، فانّ الصّدق هو محلّ السّكون والاطمينان للإنسان ، وتنكير الصّدق للتّفخيم وفي مقعد صدق امّا خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء وفي جنّات حال أو متعلّق بقوله في جنّات (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).


سورة الرّحمن

مكّيّة وقيل : غير آية يسأله من في السّموات والأرض ، وقيل : مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ) اقتضاء جعله آية برأسه ان يكون خبرا لمبتدء محذوف وقد مضى في اوّل الفاتحة انّ الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة ، وانّ الرّحمة الرّحمانيّة تقتضي وجود الأشياء بكمالاته الاوّليّة وبقاءها ، وانّ الرّحمة الرّحيميّة تقتضي الكمالات الثّانية اللّاحقة للأشياء الصّاعدة ، ولمّا كان تعليم القرآن الّذى هو افاضة الوجود الّذى هو إضافته الاشراقيّة على جميع الموجودات ، وخلق الإنسان وتعليمه البيان الّذى هو تمام ذاته بالنّطق الّذى هو فصله الأخير من اقتضاء صفته الرّحمانيّة أتى في اوّل هذه السّورة بالرّحمن (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) خبر للرّحمن ، أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) تعداد لأصول النّعم الّتى هي إيجاد كلّ موجود وإيجاد كمالاته الاوّليّة وذكر خلق الإنسان بعد تعليم القرآن من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام به ، وذكر تعليم البيان الّذى هو الكمال الاوّل للإنسان المندرج في خلق الإنسان للامتنان والاهتمام بهذا البيان فانّ الإنسان غاية اخيرة لخلق العالم ، والبيان وان كان كمالا اوّليّا للإنسان لكنّه باعتبار إطلاقه غاية اخيرة للإنسان (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) اقتضاء جواز حمل السّابقة والآتية على الرّحمن ان يكون هذه الجملة أيضا جائزة الحمل عليه فليقدّر بحسبان عنده يعنى انّ خلقهما وجريانهما ليس الّا بمقدار خاصّ وميزان مخصوص لا يتجاوز انه لانّ نظام العالم وانتظام معاش بنى آدم منوط بانتظامهما فكونهما بحسبان من النّعم كما انّ وجودهما من نعم الإنسان ، وإذا أريد بالشّمس والقمر روح الإنسان ونفسه فكونهما من نعمه بل اجلّ نعمائه واضح (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) النّجم النّبات الّذى لا ساق له ، والشّجر ما له ساق ، أو المراد بالنّجم كواكب السّماء ، وسجودهما عبارة عن انقيادهما للنّفس المربيّة المنمية لهما ، أو عبارة عن سجود جهتهما الملكوتيّة لله وتسبيحهما بألسنتهما الملكوتيّة الفصيحة ، أو المراد بالنّجم والشّجر قوى النّفس الانسانيّة من الحسّاسة والمحرّكة فانّها ساجدة للنّفس ، وسجدتها للنّفس سجدتها لله تعالى ـ شأنه والتّقدير هاهنا يسجدان لله (وَالسَّماءَ) اى سماء عالم الطّبع وسماء الأرواح وسماء روح الإنسان وسماء الولاية (رَفَعَها) بحيث لا يبلغ أبصاركم الى ما هي عليه (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) قد سبق انّه لا اختصاص للميزان بذي الكفّتين بل كلّما يوزن ويقاس به شيء آخر هو ميزان لذلك الشّيء فالميزان ذو الكفّتين والقبان والكيل والزّرع وخيوط البنّائين وغيرها من المحسوسات الّتى يقاس بها أشياء أخر موازين ، وشريعة كلّ نبىّ ميزان لامّته كما انّ ولاية كلّ ولىّ وخلافته لنبيّه ميزان لاتباعه في أعمالهم ، والنّفوس الانسانيّة والعقول المعاشيّة والعقول المعاديّة موازين للأعضاء والقوى والأعمال وتمييز الأشياء بأوصافها ، وميزان الكلّ هو الولاية بوجهها الى عالم الكثرات (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) ان تفسيريّة ولا ناهية أو مصدريّة ، ولا ناهية أو نافية وان كانت نافية فالخبر يكون في معنى النّهى ليصحّ عطف الإنشاء عليه ، والمراد بالطّغيان في الميزان التّجاوز عن حدّ الاعتدال الى الإفراط كما انّ قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ)


امر بالاعتدال ، وقوله تعالى (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) نهى عن التّفريط فيه ، نهى تعالى عن الزّيادة على الوزن سواء كان للوزّان أو عليه ، كما نهى عن البخس سواء كان له أو عليه ، وامر بإقامة الوزن ، وإقامته عبارة عن تسوية طرفي الميزان ، وبالقسط تأكيد لهذا المعنى ، أو المراد بإقامة الوزن تسوية طرفي الميزان باليد ، وتقييدها بالقسط للاشارة الى تسوية القلب في ذلك (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) بسطها أو هو مقابل رفع السّماء ذكر بسط الأرض لانّ إتمام نعمة رفع السّماء ببسط الأرض (فِيها فاكِهَةٌ) الجملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) الأكمام هي غلف ثمر النّخل ، وقيل : المراد بها طلع النّخل ، وقيل : ليف النّخل (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) اى الورق أو التّبن (وَالرَّيْحانُ) قرئ بالرّفع عطفا على الحبّ ، وبالجرّ عطفا على العصف ، والرّيحان نبت معروف طيّب ـ الرّائحة ، أو مطلق النّبت الطّيّب الرّائحة ، أو مطلق الرّزق ، إذا عرفتما ايّها الثّقلان هذه الآلاء الّتى لا يقدر على إيتاء مثلها أحد سوى الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) روى عن الرّضا (ع) انّه قال : الرّحمن علّم القرآن ، الله علّم القرآن قبل خلق الإنسان وذلك أمير المؤمنين (ع) قيل علّمه البيان؟ ـ قال : علّمه بيان كلّ شيء يحتاج اليه النّاس ، قيل : الشّمس والقمر بحسبان؟ ـ قال : هما بعذاب ، قيل : الشّمس والقمر يعذّبان؟ ـ قال : سألت عن شيء فأتقنه ، انّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له ضوؤهما من نور عرشه وحرّهما من جهنّم فاذا كانت القيامة عاد الى العرش نورهما وعاد الى النّار حرّهما فلا يكون شمس ولا قمر وانّما عناهما لعنهما الله ، أو ليس قد روى النّاس انّ رسول الله (ص) قال: انّ الشّمس والقمر نوران في النّار؟ ـ قال : بلى ، قال : اما سمعت قول النّاس : فلان وفلان شمس هذه الامّة ونورها؟ فهما في النّار ، والله ما عنى غيرهما ، قيل : النّجم والشّجر يسجدان؟ ـ قال : النّجم رسول الله (ص) وقد سمّاه الله في غير موضع فقال : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، وقال وعلامات وبالنّجم هم يهتدون فالعلامات الأوصياء (ع) ، والنّجم رسول الله (ص) ، قيل : يسجدان؟ ـ قال : يعبدان ، وقوله والسّماء رفعها ووضع الميزان؟ ـ قال : السّماء رسول الله (ص) رفعه الله اليه ، والميزان أمير المؤمنين (ع) نصبه لخلقه ، قيل : الّا تطغوا في الميزان؟ ـ قال : لا تعصوا الامام ، قيل : وأقيموا الوزن بالقسط؟ ـ قال : أقيموا الامام بالعدل ، قيل : ولا تخسروا الميزان؟ ـ قال : لا تبخسوا الامام حقّه ولا تظلموه ، وقوله : والأرض وضعها للأنام؟ ـ قال : للنّاس فيها فاكهة ، والنّخل ذات الأكمام؟ ـ قال : يكبر ثمر النّخل في القمع ثمّ يطلع منه ، قوله والحبّ ذو العصف والرّيحان؟ ـ قال : الحبّ الحنطة والشّعير والحبوب ، والعصف التّبن والرّيحان ما يؤكل منه. وعن الصّادق (ع) في تفسير قوله تعالى : فباىّ آلاء ربّكما تكذّبان؟ ـ فباىّ النّعمتين تكفران؟ ـ بمحمّد (ص) أم بعلىّ (ع)؟ وفي خبر ، أبا لنّبىّ (ص) أم بالوصىّ (ع)؟! ولمّا كان التّكرار في مقام الامتنان بتعدّد النّعم مطلوبا كرّر قوله : فباىّ آلاء ربّكما تكذّبان تقريرا لها عند المقرّين بها ، وتوبيخا للمكذّبين بها ، ولذلك ورد عن النّبىّ (ص): انّه لمّا قرئ هذه السّورة على النّاس وسكتوا ولم يقولوا شيئا ، قال : الجنّ أحسن جوابا منكم لمّا قرأت عليهم فباىّ آلاء ربّكما تكذّبان؟ ـ قالوا : لا بشيء من آلاء ربّنا نكذّب (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) الصّلصال الطّين الطّيّب خلط بالرّمل ، أو الطّين ما لم يجعل خزفا (كَالْفَخَّارِ) الفخّارة الجرّة جمعها الفخّار ، أو هو الخزف (وَخَلَقَ الْجَانَ) اسم جمع للجنّ أو هو ابو الجنّ (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) اى نار خالصة من الدّخان وقد سبق في سورة البقرة كيفيّة خلق الجنّ من النّار (فَبِأَيِّ آلاءِ


رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) المراد بالمشرقين مشرق الشّمس في الشّتاء ومشرقها في الصّيف ، وهكذا مغرباها ، سئل أمير المؤمنين (ع) عن هذه الآية ، فقال : انّ مشرق الشّتاء على حدّة ومشرق الصّيف على حدّة ، اما تعرف ذلك من قرب الشّمس وبعدها؟! قال : وامّا قوله ربّ المشارق والمغارب فانّ لها ثلاث مائة وستّين برجا تطلع كلّ يوم من برج وتغيب في آخر فلا تعود اليه الّا من قابل في ذلك اليوم ، وعن الصّادق (ع): انّ المشرقين رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) ، والمغربين الحسن والحسين (ع) قال : وفي أمثالهما يجرى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسل البحر العذب الفرات والبحر الملح الأجاج ، أو البحر الفاعلىّ والبحر القابلىّ ومظهرهما ، ومظهرهما علىّ (ع) وفاطمة (ع) (يَلْتَقِيانِ) يتلاقيان من غير امتزاج (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) من قدرة الله ، أو من عالم المثال ، أو من محمّد (ص) (لا يَبْغِيانِ) لا يغلب أحدهما الاخر ولا يبطل خاصيّته وقد مرّ في سورة الفرقان بيان اجمالىّ للبحرين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) روى عن الصّادق (ع) انّه قال : علىّ (ع) وفاطمة (ع) بحران عميقان لا يبغى أحدهما على صاحبه ، يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان ، قال : الحسن والحسين (ع) وفي خبر والبرزخ محمّد (ص) ، وعن الصّادق (ع) عن علىّ (ع) يخرج منهما قال ، من ماء السّماء ومن ماء البحر فاذا أمطرت فتحت الاصداف أفواهها في البحر فيقع فيها من ماء المطر فتخلق اللّؤلؤة الصّغيرة من القطرة الصّغيرة ، واللّؤلؤة الكسيرة من القطرة الكبيرة (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) قرئ بفتح الشّين بمعنى المرفوعات الشّرع ، وقرئ بكسر الشّين بمعنى الرّافعات الشّرع (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) كالجبال الطّوال (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها) على الأرض (فانٍ) فانّ الكلّ بحسب الحدود والمهيّات فانيات الذّوات ، وبحسب الوجود الّذى هو وجه الله الباقي باقيات (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فانّ الوجود لا يقبل الفناء والعدم أصلا ، والّا لزم اتّصاف الشّيء بضدّه وانّما يقبل الموجودات العدم والفناء بحسب حدودها لا بحسب وجوداتها ، ومن هاهنا يستنبط انّ الوجودات كلّها ظهور الحقّ الاوّل ، وبحسب حقيقتها غير قابلة للفناء ، ويستنبط انّ كلّها متقوّم بوجود الحقّ الواجب تعالى شأنه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فانّه الغنىّ على الإطلاق والكلّ محتاجون اليه سائلون عنه بألسنة فقرهم واستعدادهم وحالهم كما انّ الأكثر سائلون عنه بالسنة أقوالهم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى ليس الكامل في كماله مستغنيا عنه وعن سؤاله كما انّه ليس النّاقص مستغنيا عنه لانّه كلّ يوم في شأن فالكامل ان كان كماله بشأن أو شؤن منه لم يكن كاملا بجميع شؤنه فليكن سائلا منه شؤنه الاخر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لمّا دلّ قوله : كلّ يوم هو في شأن على انّ له بحسب مراتب العالم طولا وعرضا شؤنا ، وانّ له بحسب مراتب الإنسان طولا وعرضا شؤنا ، وله بحسب كلّ من القوى الدّرّاكة والمحرّكة شأنا بل شؤنا جاز ان يتوهّم متوهّم انّه إذا كان له شؤن لم يكن له فراغ بحساب الخلائق وجزائهم بالثّواب والعقاب فردّ ذلك التّوهّم بانّ تلك الشّؤن انّما هي بحسب مراتب الكثرات وسنفرغ اى سنظهر بشأن التّوحيد في القيامة فلم يكن لنا شأن سوى حساب الخلائق وانتهائهم الى جزائهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) حال من فاعل سنفرغ أو من مفعوله بتقدير القول


اى قائلين أو مقولا فيكم أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول مثل الوجه السّابق كأنّه قيل : ما يقال لهم وقت الفراغ لهم؟ ـ أو نداء من الله للثّقلين من غير تقدير القول وخطاب لهم في الدّنيا (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى ان استطعتم ان تخرجوا بالنّفوذ في اقطارهما من اقطارهما وتحتهما فارّين من الله أو فارّين من ملائكته أو خارجين من ملكه (فَانْفُذُوا) امر للتّعجيز (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) من الله وهو وليّه الّذى كان واسطة بينه وبين خلقه ، أو الّا بسلطان وهو السّكينة الّتى ينزلها الله على من يشاء من عباده فانّه إذا نزل تلك السّكينة وتمكّن سهل على الإنسان النّفوذ والخروج من أقطار السّماوات والأرض الى عالم الملكوت والجبروت كما نفذ محمّد (ص) وخرج من الملكوت والجبروت ، أو المعنى ان استطعتم ان تنفذوا بقوّتكم العلّامة وعقولكم الفكريّة من أقطار السّماوات والأرض لتعلموا ما وراءهما فانفذوا لا تنفذون الّا بسلطان هو ولىّ أمركم وهو سكينتكم النّازلة عليكم أو برهانكم الّذى تستنبطون ما غاب عنكم منه ، وروى انّه يحاط يوم القيامة على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثمّ ينادون : يا معشر الجنّ والانس (الى قوله) شواظ من نار ، وعن الصّادق (ع): إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد وذلك انّه يوحى الى السّماء الدّنيا ، ان اهبطى بمن فيك ، فيهبط أهل السّماء الدّنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والانس والملائكة ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والانس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادى مناد : يا معشر الجنّ والانس ان استطعتم (الآية) فينظرون فاذا قد أحاط بهم سبع اطواق من الملائكة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) الشّواظ كغراب وكتاب وقرئ بهما لهب لا دخان فيه ، أو دخان النّار وحرّها ، وحرّ الشّمس ، والصّياح وشدّة الغلّة (١) (وَنُحاسٌ) النّحاس مثلّثة ، الصّفر المذاب أو المطلق ، وما سقط من شرار الصّفر أو الحديد إذا طرق وقيل : المراد به الدّخان ، وقيل : المراد به المهل ، وقرئ بالرّفع وبالجرّ (فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) في العالم الصّغير فانّه في حال الاحتضار تنشقّ سماء الرّوح الحيوانيّة فتنفلق الرّوح الانسانيّة منها ، وإذا انشقّت السّماء الدّنيا في العالم الصّغير انشقّت السّماء الدّنيا في العالم الكبير في نظر من انشقّت سماؤه في عالمه (فَكانَتْ وَرْدَةً) اى كنور النّبات في انشقاقه وانفلاق الثّمر منه وعدم الاحتياج اليه أو صارت أحمر واصفر وابيض يعنى بألوان مختلفة كلون النّور ، أو كلون الفرس بين الكميت والأشقر فانّ الوردة واحدة الورد وهو من كلّ شجرة نورها ، وغلّب على الحوجم (٢) وفرس بين الكميت والأشقر والزّعفران (كَالدِّهانِ) الدّهان جمع الدّهن أو هو الأديم الأحمر أو هو عكر الزّيت فانّ الدّهن إذا صبّ بعضها فوق بعض اختلف ألوانها ودردىّ الزّيت أيضا تختلف ألوانه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وجواب إذا امّا قوله : فكانت وردة ، أو قوله فباىّ آلاء ربّكما ، أو قوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ) أو قوله يعرف المجرمون (عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) لما دهمه من الدّهشة والغشية والحيرة الّتى لا يبقى معها موقع سؤال عنه وانّما السّؤال في القيامة الكبرى أو لا يسئل عن ذنب المذنب انس ولا جانّ غيره بإرجاع الضّمير الى المذنب المستفاد بالملازمة لا الى الانس والجانّ ، أو يوم القيامة لا يسئل عن ذنبه انس ولا جانّ إذا كان من شيعة علىّ (ع) كما في الخبر عن الرّضا (ع) وامّا غيرهم فيسئلون ، أو لا يسئل عن ذنبه سؤال استفهام لانّ المجرم يعرف بسيماه بقرينة قوله يعرف المجرمون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ)

__________________

(١) الغلّة العطش.

(٢) الحوجمة الوردة الحمراء والجمع الحوجم.


تعليل لقوله تعالى لا يسئل عن ذنبه على الوجه الأخير واستيناف كلام على سائر الوجوه ، والمراد بالسّيما العلامة الّتى عليهم من سواد الوجه وزرقة العيون ، أو ما يغشيهم من القتر والذّلّة (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) يعنى فتأخذهم الزّبانية فتجمع بين نواصيهم واقدامهم بالغلّ ثمّ يسحبون في النّار ، أو يأخذهم الزّبانية بنواصيهم واقدامهم فتسوقهم الى النّار ، عن الصّادق (ع) انّه سأل بعض أصحابه ما يقولون في هذا؟ ـ قال : يزعمون انّ الله تعالى يعرف المجرمين بسيماهم في القيامة فيأمر بهم فيؤخذون بنواصيهم واقدامهم فيلقون في النّار ، فقال : وكيف يحتاج تبارك وتعالى الى معرفة خلق انشأهم وهو خلقهم؟ ـ قال : وما ذاك؟ ـ قال : ذاك لو قام قائمنا أعطاه الله السّيما فيأمر بالكافرين فيؤخذ بنواصيهم واقدامهم ثمّ يخبط بالسّيف خبطا (١) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ) حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر اى يقال لهم : هذه جهنّم (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يعنى يطوفون بين ماء حارّ واقع بين جهنّم ، أو قد يطوفون بين جهنّم في النّار ، وقد يطوفون بين ماء حارّ غاية الحرارة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) اى مقام ربّه بالنّسبة الى نفسه وانّه في مقام يراه ويسمع قوله ، أو مقامه عند ربّه للحساب ، وعن الصّادق (ع) قال : من علم انّ الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير وشرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الّذى خاف مقام ربّه ونهى النّفس عن الهوى (جَنَّتانِ) بحسب صفحتي النّفس العمّالة والعلّامة إحديهما وهي الّتى تكون بحسب صفحتها العمّالة جنّة النّعيم والاخرى جنّة الرّضوان وذلك انّه منع قوّته العمّالة عن القبيح وقوّته العلّامة عن الشّيطنة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ) جمع الفنّ بمعنى الأنواع من الأشجار والاثمار والنّعم ، أو جمع الفنن بمعنى الاغصان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) في كلّ من الجنّتين عينان أو في كلّ منهما عين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) من فواكه الجنّات (زَوْجانِ) اى الرّطب واليابس ، أو المعروف من الثّمار والغريب منها ، أو المراد ما فيه حظّ للعلّامة وما فيه حظّ للعمّالة ، فانّ ثمار الدّنيا يلتذّ بها الباصرة كما يلتذّ بها الذّائقة ، وفي الجنان يتميّز الكيفيّتان بمحالّها أو صنف مستقدر لمقام تقدّر الإنسان وصنف مجرّد لمقام تجرّده (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ) حال ممّن خاف مقام ربّه (عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها) جمع البطانة بمعنى الباطن (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) شخين الحرير (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) اى الثّمار الّتى من شأنها ان تجنى دانية من الآكلين حتّى ينالها القائم والقاعد والمضطجع (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ) اى في الجنان (قاصِراتُ الطَّرْفِ) على أزواجهنّ ، أو تقصر الأطراف عن النّظر اليهنّ لتلألئهنّ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) الطّمث الافتضاض والمسّ والانس (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) في الصّفاء والشّفيف فانّه روى انّ المرأة من أهل الجنّة يرى مخّ ساقها من وراء سبعين حلّة من حرير (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) اى ما جزاء من أنعم عليه بالمعرفة اى معرفة الامام الّا الجنّة؟ ـ فانّ الإحسان اى صيرورة الإنسان ذا حسن لا يحصل للإنسان الّا بقبول ولاية علىّ (ع) ، وفي رواية : هل جزاء من قال : لا اله الّا الله الّا الجنّة؟! يعنى بشرطها وعلىّ (ع) من شروطها ، وفي خبر : هل جزاء من أنعمنا عليه بالتّوحيد الّا الجنّة؟ ـ يعنى

__________________

(١) الخبط كالضرب وزنا ومعنا.


بالولاية ، فانّ التّوحيد لا يحصل الّا بالولاية ، وفي خبر انّ هذه الآية جرت في الكافر والمؤمن والبرّ والفاجر من صنع اليه معروف فعليه ان يكافي به وليس المكافاة ان تصنع كما صنع حتّى تربّى ، فان صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) عطف على جنّتان اى لمن خاف مقام ربّه من دون الجنّتين الأوليين اللّتين له بحسب قوّته العمّالة الانسانيّة وقوّته العلّامة الانسانيّة جنّتان بحسب قوتيه العمّالة الجزئيّة والعلّامة الجزئيّة ، وبعبارة اخرى بحسب مرتبته الاخرى الّتى شارك بها سائر الحيوان وبعبارة اخرى هاتان لمقامه المقدارىّ وتانك لمقامه المجرّد ، أو حال أو عطف على مجموع لمن خاف مقام ربّه جنّتان يعنى انّ لله من غير تينك الجنّتين جنّتين لمن دون من خاف مقام ربّه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ) اى تضربان الى السّواد من خضرتهما فانّ حسن الخضرة ان تضرب الى السّواد أو من كثرة أغصان أشجارهما والتفافهما وكثرة أوراقها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) نضخه رشّه ونضخ الماء اشتدّ فورانه ، والنّضاخ ككتّان الغزير من المطر ، قيل : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور ، وقيل : تنضخان بأنواع الخيرات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) لعدم جمعهما بين الصّنفين لم يقل : زوجان ، ولعدم اشتمالهما على فواكه المقام العالي لم يقل من كلّ فاكهة ، ولكثرة فوائد النّخل والرّمّان افرادهما بعد ذكر الفاكهة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ) نساء خيرات الأخلاق من نساء الدّنيا أو من الحور (حِسانٌ) اى حسان الوجوه ، عن الصّادق (ع): هنّ صوالح المؤمنات العارفات ، وسئل عنه من قول الرّجل للرّجل : جزاك الله خيرا ، ما يعنى به؟ ـ قال : انّ خيرا نهر في الجنّة مخرجه من الكوثر ، والكوثر مخرجه من ساق العرش ، عليه منازل الأوصياء وشيعتهم ، على حافّتى ذلك النّهر جوار نابتات كلّما قلعت واحدة نبتت اخرى يسمّين باسم ذلك النّهر ، وذلك قوله تعالى فيهنّ خيرات حسان ، فاذا قال الرّجل لصاحبه : جزاك الله خيرا فانّما ، يعنى بذلك تلك المنازل الّتى اعدّها الله لصفوته وخيرته من خلقه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ) بدل من خيرات بدل الكلّ على ان يكون المراد بالخيرات الحور ، أو بالحور معناه اللّغوىّ حتّى يشمل النّساء من الانس ، أو عطف على خيرات بحذف حرف العاطف من قبيل التّعداد (مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) اى مخدّرات في الخيام ، وقيل : مقصورات الأطراف على أزواجهنّ ، أو الانظار مقصورة عنهنّ ، وقيل : كلّ خيمة درّة مجوّفة فرسخ في فرسخ فيها اربعة آلاف مصراع من ذهب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) جمع الرّفرفة وقرئ رفارف (خُضْرٍ) قيل الرّفرف الفرش المرتفعة ، وقيل : رياض الجنّة ، وقيل : المجالس ، وقيل : الوسائد (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) قيل : هي الزّرابىّ ، وقيل : الدّيباج ، وقيل : البسط ، وقيل : كلّ ثوب موشّى هو عبقرىّ ، وقيل : العبقرىّ منسوب الى العبقر وهو اسم بلد الجنّ بزعم العرب ، وفي القاموس : عبقر موضع كثير الجنّ ، وقرية ثيابها في غاية الحسن ، وامرأة ، والعبقرىّ الكامل من كلّ شيء والسّيّد والّذى ليس فوقه شيء والشّديد وضرب من البسط (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) اسم الرّبّ مطلقا هو اسمه الأعظم الّذى هو علىّ بعلويّته (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقرئ ذو الجلال بالرّفع وصفا للاسم فانّ اسمه مثله ذو الجلال الاجلّ من ان يوصف وذو الإكرام الاتمّ.


سورة الواقعة

مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا آية : وتجعلون رزقكم انّكم تكذّبون ، وقيل : الّا قوله : ثلّة من الاوّلين

وقوله : أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ، نزلت في سفره الى المدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) اى القيامة سمّيت واقعة لتحقّق وقوعها ، أو المراد بالواقعة الموت فانّه أيضا متحقّق الوقوع (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) كذب ، ليس ليس جوابا لاذا للزوم الفاء ان كان جوابا فالجملة حاليّة أو معترضة جواب لسؤال مقدّر ، أو هو جواب إذا بتقدير الفاء (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خبر مبتدء محذوف بتقدير الفاء وجواب لاذا ، أو بدون تقدير الفاء ومستأنفة جواب لسؤال مقدّر ، وإذا لم تكن هذه الجملة وسابقتها جوابا لاذا فالجواب محذوف اى تخفض جماعة من الانس والجنّ وترفع جماعة أو تخفض فرقة من قوى النّفس وترفع اخرى ، أو جواب إذا قوله تعالى فأصحاب الميمنة (الى آخره) أو جواب إذا قوله تعالى (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) بتقدير الفاء ، أو إذا رجّت الأرض بدل من إذا وقعت الواقعة أو ظرف لوقعت ، أو لكاذبة أو لخافضة أو لرافعة ، والرّجّ التّحريك والتّحرّك والاهتزاز والحبس (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) البسّ السّوق اللّيّن وان يلّت السّويق أو الدّقيق أو الأقط المطحون بالسّمن أو الزّيت ، والفتّ ومنه البسيس للسّويق (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الهباء الغبار الّذى ينبثّ في الجوّ ويرى في شعاع الشّمس (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) اى أصنافا (ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ما استفهاميّة للتّعجّب والجملة خبر أصحاب الميمنة بتقدير القول (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) والاستفهام والتّعجّب في الاولى للتّفخيم وفي الثّانية للتّحقير (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) هذه جملة مبتدء وخبر والمعنى السّابقون على أصحاب اليمين هم المعروفون بالسّبق ، أو السّابقون على أصحاب اليمين هم السّابقون على الإطلاق في جملة الكمالات ، أو السّابقون هم الأنبياء (ع) المعروفون بالسّبق ، أو السّابقون في الفضل هم السّابقون أصحاب اليمين ، أو السّابقون في الايمان هم السّابقون على الكلّ كقول الشّاعر : انا ابو النّجم وشعري شعري ، أو السّابقون الثّانى تأكيد للاوّل وقوله تعالى (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) خبره ، أو بدل منه وأولئك المقرّبون مبتدء وخبر ، أو موصوف وصفة فالوقف عليه ، أو الوقف على قوله تعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فانّه خبر أو خبر بعد خبر ، أو حال ، أو خبر مبتدء محذوف.

اعلم ، انّ بنى آدم لمّا كانوا جامعين بالقوّة لجميع انموذجات الموجودات وهذا معنى (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، كانوا إذا صاروا بالفعل في شيء من الأشياء صاروا من جنس ذلك الشّيء بحسب الباطن ، ولذلك قيل : انّ الإنسان بحسب الصّورة نوع واحد وبحسب الباطن أنواع مختلفة ، وانّ العوالم بحسب الامّهات ثلاثة : عالم الأرواح الخبيثة ، وعالم الأرواح الطّيّبة ، والعالم الواقع بين العالمين ، وهو عالم الطّبائع ، والكيان ، وانّ تلك العوالم بمنزلة


شخص انسانىّ يمينه عالم الأرواح الطّيّبة ، وشماله عالم الأرواح الخبيثة ، والإنسان الواقع بين هذين العالمين ما لم يتمكّن في شيء من العالمين بل كان حاله باقية على البرزخيّة بينهما لا يحكم عليه بشيء من العالمين والخارج من البرزخيّة المتمكّن في الأرواح الخبيثة يحكم عليه بانّه منهم ، وانّه من أصحاب الشّمال وأصحاب المشئمة ، والمتمكّن في الأرواح الطّيّبة يحكم عليه بانّه منهم وانّه من أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة ، والباقي على البرزخيّة لا يحكم عليه بشيء بل هو المرجى لأمر الله وهم أغلب النّاس ، والحائز لكمالات الإنسان السّابق على أصحاب اليمين وهم الأنبياء والأولياء (ع) هو السّابق وبعبارة اخرى الإنسان امّا قابل للولاية أو معرض عنها ، أو غير قابل وغير معرض ، والمعرض يحكم عليه بحسب اعراضه انّه من أصحاب الشّمال بشرط البقاء على اعراضه ، والقابل يحكم عليه بانّه من أصحاب اليمين ، وغيرهما مرجى لأمر الله ، والقابل للولاية امّا صار بالفعل في بعض الكمالات وهو السّابق ، أو لم يصر وهو من أصحاب اليمين ، وهذه القسمة بحسب كونهم في الدّنيا وفي الانظار القاصرة ، والّا فهم بعد الموت وطىّ البرزاخ امّا سابقون ، أو أصحاب اليمين ، أو أصحاب الشّمال ، وهكذا حالهم في الانظار البالغة في الدّنيا ، فانّ النّاظرين في العواقب يحكمون على الإنسان بكونه من أصحاب الشّمال ، أو أصحاب اليمين ، أو السّابقين ، فالاقسام اربعة في الدّنيا عند القاصرين وثلاثة في الآخرة وفي الدّنيا عند الكاملين في الانظار ، وقد مضى في سورة المائدة عند قوله تعالى (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) بيان للشّمال واليمين وانّهما بالنّسبة الى أنفسهما والى العالم تسمّيان باليمين والشّمال ، وامّا بالنّسبة الى الله تعالى فكلتا يديه يمين ، وعن النّبىّ (ص) انّه سئل عن هذه الآية فقال (ص) : قال لي جبرئيل : ذلك علىّ وشيعته هم السّابقون الى الجنّة المقرّبون من الله بكرامته ، وعن علىّ (ع) قال : والسّابقون السّابقون أولئك المقرّبون فيّ نزلت ، وعن الباقر (ع): ونحن السّابقون السّابقون ونحن الآخرون ، وقال الصّادق (ع) قال ابى لا ناس من الشّيعة ، أنتم شيعة الله ، وأنتم أنصار الله ، وأنتم السّابقون الاوّلون ، والسّابقون الآخرون ، والسّابقون في الدّنيا الى ولايتنا ، والسّابقون في الآخرة الى الجنّة (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) اى جمع كثير منهم من الاوّلين في الزّمان وهم من لدن آدم (ع) الى زمان الخاتم (ص) ، أو من الاوّلين في البيعة وقبول الولاية ، أو من الاوّلين في الرّتبة وهذا هو المقصود ، فانّ المقصود انّ كثيرا من السّابقين كانوا من الاوّلين في الرّتبة وقليل منهم كانوا من الآخرين في الرّتبة عرجوا بعد الموت بتصادم البرازخ الى مقام الاوّلين ولذلك لم يقل في أصحاب الشّمال ، ثلّة من الاوّلين مع انّ أصحاب الشّمال جمع كثير منهم من الاوّلين ، وقيل : ثلّة من الاوّلين من أمّة محمّد (ص) (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) منهم (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) وضن الشّيء ثنّى بعضه على بعض وضاعفه ، أو نضده ، أو نسجه (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) فانّ الرّاحة في الاتّكاء ، وأشرف المجالس التّقابل (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) غلمان لانّهم الطف وأصفى وأشهى من جملة الخدم (مُخَلَّدُونَ) اى غير خارجين من الجنّات فانّهم لا يخرجون منها أبدا ، أو مخلّدون من حيث كونهم غلمانا بمعنى انّهم لا يغيّرهم طول المدّة عن حالهم كأبناء الدّنيا يغيّرهم الأزمان عن صفائهم وطراوتهم ، أو المقرّطون فانّ الخلد القرط (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) الكوب بالضّمّ كوز لا عروة له أو لا خرطوم له ، والإبريق معرّب «آبريز» كوز له عروة وخرطوم (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) اى الخمر الجارية ، ومن معين وصف للثّلاثة ، أو وصف للأخير ، والكأس الإناء يشرب فيه أو ما دام الشّراب فيه ، مؤنّثة مهموزة ، والشّراب ، ويجوزان يراد بها هاهنا الإناء والشّراب (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) لا يأخذهم من تلك الكأس الصّداع كخمر الدّنيا (وَلا يُنْزِفُونَ) نزف كعني ذهب عقله ، ونزف البئر نزح ماءه ، ونزف البئر فنى ماؤه


لازم ومتعدّ ، ونزفت عبرته فنيت ، وقرئ ينزفون مبنيّا للمفعول ومبنيّا للفاعل (وَفاكِهَةٍ) اى يطوفون عليهم بفاكهة (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) قرئ بالجرّ عطفا على أكواب ، وبالرّفع عطفا على ولدان ، وقرئ بالنّصب مفعولا لمحذوف ، وقيل : في وجه اعرابها على القراءات الثّلاث وجوه أخر (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في دار الدّنيا (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) نسبة الى الإثم كما يسمعون في الدّنيا (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) سلاما الثّانى تأكيد للاوّل ، وسلاما الاوّل مفعول لقيلا (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) اى على اىّ وصف أصحاب اليمين؟ (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضد الشّجر قطع شوكة (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطّلح شجر عظام ، والطّلع ، وشجر الموز ، وقيل : شجر له ظلّ بارد رطب ، وقيل : هو شجر من أحسن الأشجار منظرا ، وانّما ذكر هاتين الشّجرتين لانّ العرب تعرفهما وفيهما نفعهم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) اى غير مقطوع (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) مصبوب اى دائم الجريان (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) ولشرافة جنّات السّابقين قال هناك فاكهة ممّا يتخيّرون (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عالية ، أو مرفوع بعضها فوق بعض ، أو المراد بالفرش النّساء اى النّساء العاليات ولذلك عقّبه بقوله (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) اى انشأنا نساءهم إنشاء عجيبا اى شابّة طريّة حسناء بعد ما صرن هرمات كريهات ، أو انشأنا الحور العين من غير طروّ حالات عليهنّ بل انشأناهنّ بالغات طريّات (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً) جمع العروب المرءة المتحبّبة الى زوجها ، أو العاشقة له ، أو المتحبّبة اليه المظهرة له ذلك ، أو الضّحّاكة (أَتْراباً) جمع التّرب بالكسر من ولد معك (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) وقد فسّر اليمين بأمير المؤمنين (ع) ، وأصحاب اليمين بشيعته وذلك لانّه أصل عالم الأرواح (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) اى جماعة كثيرة من الاوّلين في الرّتبة من أصحاب اليمين وجماعة كثيرة من المتأخّرين عن أصحاب اليمين فانّ أغلب من كان مبتلى في البرازخ يلتحق بأصحاب اليمين بعد تطهيره في البرازخ ، وكثير ممّن دخل في الجحيم يخرج منها ويدخل في الجنّات ويلتحق بأصحاب اليمين بخلاف السّابقين فانّ الملتحق بهم من المتأخّرين قليل ، وبخلاف أصحاب الشّمال فانّهم لا يكونون الّا من المتأخّرين فانّ الاوّلين لا يلتحقون بالآخرين ولذلك لم يقل هناك ثلّة ، أو قليل من الاوّلين ، وقي : هاهنا ما قيل في قوله تعالى ثلّة من الاوّلين وقليل من الآخرين (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ) حرّ نار يدخل في المسامّ (وَحَمِيمٍ) ماء متناه في الحرارة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من دخان اسود أو جبل اسود في جهنّم (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) يلتذّ به النّظر وقد فسّر الشّمال بأعداء آل محمّد وأصحابهم أصحاب الشّمال (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) متنعّمين أترفته النّعمة أطغته أو نعّمته ، وأترف فلان اصرّ على البغي ، وأترفه تركه يصنع ما يشاء ولا يمنع من تنعّمه ، والمترف الجبّار (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الحنث بالكسر الإثم والخلف في اليمين والميل من باطل الى حق أو عكسه (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ) لهم (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعنى قل لهم ذلك ردّا عليهم وتهديدا لهم (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) قد مضى بيان الزّقّوم في سورة الصّافّات


(فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الهيم بالكسر الإبل العطاش جمع الهيمان والهيمى بمعنى العطشان ، أو الإبل الّتى بها داء يصيبها شبه الاستسقاء جمع الهيمان والهيمى ، والهيام كسحاب الرّمل الّذى لا يتمالك كلّما صبّ عليه الماء استنقعه ، والهائم المتحيّر والهيام كغراب حالة كالجنون من العشق (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) النّزل ما يعدّ للنّازل تشريفا له وهو تهكّم بهم وتهديد بانّ هذا نزلهم فكيف بهم في منازلهم المقرّرة لهم؟! (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) لا غيرنا (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بمخلوقيّتكم حتّى تصدّقوا بخالقكم ، أو لو لا تصدّقون ببعثكم بعد إقراركم بخلقكم ابتداء ، والبعث أهون في انظاركم من الخلق ابتداء (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) جواب شرط مقدّر والتّقدير ان لم نكن نحن خلقنا فأخبرونى عمّا تمنون (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أو الفاء للسّببيّة ، والهمزة على التّقديم والتّأخير والتّقدير نحن خلقنا بسبب ان يقال : أخبروني عمّا تمنون عن جواب هذا السّؤال الّذى هو أأنتم تخلفونه أم نحن الخالقون ولا جواب لكم الّا ان تقولوا : الله هو الخالق فلو لا تصدّقون بخالقيّتنا؟ (نَحْنُ قَدَّرْنا) قرئ بالتّخفيف والتّشديد (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) لا غيرنا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) اى في عالم لا تعلمونه يعنى نحن شأننا وشغلنا على الاستمرار تبديل الخلق بخلق آخر وإخراج الخلق الاوّل من قبور الأبدان وانشاؤهم في عالم آخر نظير إخراج الجنين من الرّحم وإنشائه في عالم لا يعلمه وتبديله بجنين آخر ولا مانع لنا من ذلك (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) اى النّشأة الدّنيا وتبديلنا للنّبات بنبات آخر وإنشاء النّبات في نشأة الحيوان والإنسان وتبديل الحيوان وإنشائه في عالم حيوان آخر أو إنسان ، وتبديل النّطفة من صورة الى صورة ومن مقام الى مقام ومن حال الى حال وكلّما طرأ عليها من الأحوال والصّور كان أعلى وأشرف من سابقه ، وانّ الدّنيا ليست الّا كالرّحم للجنين ، وانّ نقل الجنين من الرّحم الى الدّنيا ليس الّا النّقل من السّجن الى فسحة وسيعة (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) نقلكم من الدّنيا الى الآخرة ولو لا تذكّرون؟! انّ هذا النّقل أيضا ليس الّا النّقل من السّجن الى فسحة عظيمة وسيعة فلو لا تذكّرون؟! انّه كما يكون نقل الجنين الى الدّنيا استكمالا له بكثير من الكمالات الّتى لا يمكن تحصيلها له في الرّحم كذلك يكون نقل جنين الدّنيا من رحم الدّنيا الى الآخرة استكمالا بكثير من الكمالات الّتى لا يمكن تحصيلها له في الدّنيا ، ولو لا تذكّرون؟! انّ عالم الآخرة نسبته الى الدّنيا مثل نسبة الدّنيا الى الرّحم بل فوق ذلك ، ولقد علمتم النّشأة الاولى وكونكم في الدّنيا واتّصالكم بالآخرة في النّوم الّذى هو أخو الموت وشهودكم لعالم المثال كلّ يوم مرّة أو مرّتين ، واطلاقكم من قبوركم الّتى يتعسّر عليكم طىّ الزّمان والمكان معها وطيّكم للزّمان وشهود ما يأتى وطيّكم للمكان وشهود الوقائع الواقعة في الأمكنة البعيدة فلو لا تذكّرون؟! انّ الموت ان لم يكن اشدّ من النّوم في ذلك لم يكن انقص منه فتشتاقوا الى هذا الإطلاق ، وطىّ الزّمان والمكان وشهود ما يأتى وشهود ما لم يكن في مكانك وبلدتك ، عن السّجّاد(ع) العجب كلّ العجب لمن أنكر النّشأة الاخرى وهو يرى النّشأة الاولى (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) اى أأنتم تنبتونه وتبلّغونه الى مقام بلوغ الحبّ والحصاد أم نحن فاعلون ذلك؟ لستم تقولون انّ الإنبات والتّبليغ الى الحصاد فعل البشر فانّه (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) هشيما يليق للنّار (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) فكّههم بملح الكلام اظرفهم بها فالمعنى تتحدّثون بالأحاديث المليحة على سبيل التّهكّم أو ظلتم تتحدّثون وتنقلون بينكم الأحاديث والأسمار في ذلك (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) من الغرام بمعنى الشّرّ الدّائم والهلاك والعذاب والولوع (بَلْ نَحْنُ) قوم (مَحْرُومُونَ) عن الأرزاق


(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) لا تقدرون ان تقولوا أنزله البشر فانّا (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) بتعظيم المنعم بهذه النّعم بامتثال أوامره ونواهيه (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) اى الشّجرة الّتى تأخذون منها الزّند والزّندة وهما تؤخذان من الشّجر الأخضر فيحكّ الزّند بالزّندة فتنقدح النّار (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها) اى النّار أو الشّجرة (تَذْكِرَةً) لتصرّف الحقّ تعالى وجعل كلّ شيء من سنخه كالنّار ، أو تذكرة لقدرة الحقّ وعنايته بخلقه حيث اخرج من الشّجر الأخضر نارا تنتفعون بها في كثير من معايشكم (وَمَتاعاً) وما يتمتّع به (لِلْمُقْوِينَ) أقوى استغنى وافتقر وبات على القىّ بالكسر اى القفر من الأرض وكذلك القواء بالكسر والمدّ والقواية بالفتح ، وأقوى نزل فيه ، إذا كان ربّك يفعل هذه وينعم بهذه (فَسَبِّحْ) أنت ولا تكترث بردّهم (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الباء للسّببيّة اى سبّح الله بسبب اسم ربّك يعنى بسبب تذكّره أو بسبب بشريّة علىّ (ع) أو بسبب مقام نورانيّته فانّ الكلّ اسم الله ، أو سبّح اسم ربّك فيكون الباء صلة سبّح (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) لا زائدة أو نافية ردّ لما قالوه في القرآن من انّه سحر أو شعر أو أساطير الاوّلين ، أو نافية ونفى للقسم والمعنى لا اقسم فيما أدّعيه من انّه قرآن كريم بوضوحه وعدم احتياجه الى القسم ، ومواقع النّجوم مغاربها ، أو مطالعها ، أو انتشارها يوم القيامة ، أو الأنواء الّتى كانوا في الجاهليّة يقولون : أمطرنا بنوء كذا وهو سقوط كوكب وقت طلوع الفجر وطلوع آخر مقابله ، أو رجومها للشّياطين كما في الخبر ، فانّه روى عن الصّادق (ع) انّ مواقع النّجوم رجومها للشّياطين ، وكان المشركون يقسمون بها فقال سبحانه : فلا اقسم بها ، أو المراد بمواقع النّجوم مواقع نزول القرآن فانّه نزل نجوما (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) اى انّ المتلوّ عليك أو الموحى إليك أو قرآن ولاية علىّ (ع) قرآن كريم عزيز خطير (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) هو كتاب العقول الّذى هو الامام المبين ، أو كتاب النّفوس الكلّيّة الّذى هو الكتاب المحفوظ ، فانّ القرآن نزل من مقام جمع الجمع الّذى هو المشيّة الى مقام الجمع الّذى هو مقام العقول الطّوليّة والعرضيّة ، والى مقام النّفوس الكلّيّة وثبت في تلك المقامات اوّلا ثمّ منها الى صدر النّبىّ (ص) ثمّ منه الى حسّه المشترك ، ثمّ منه الى الخارج بصورة الألفاظ والحروف ، أو بصورة الكتابة والنّقوش وهو في كلّ تلك المقامات قرآن جامع بين الوحدة والكثرة واحكام القلب والقالب والعلم والعمل (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) خبر وباق على خبريّته فانّ القرآن الّذى هو في كتاب مكنون لا يصل الى حريم قدسه الّا الّذى تطهّر من الواث المعاصي والمحرّمات ، وادناس التّوجّه الى الكثرات والانانيّات ، وأرجاس الحدود والتّعيّنات ، ولكن لمّا كان التّكليف مطابقا للتّكوين والظّاهر موافقا للباطن كان التّكليف بحسب المقام البشرىّ ان لا يمسّ قالب الإنسان قالب القرآن وظاهره كما ورد في الاخبار وافتى به العلماء وقالوا : انّ الخبر هاهنا في معنى النّهى اى الّا المطهّر من الاحداث والاخباث ، ولذلك نهوا عن مسّ خيطه وعلاقته وجلده وقرطاسه بدون الطّهارة واستشهدوا بهذه الآية ، وروى انّه لمّا استخلف عمر سأل عليّا (ع) ان يدفع إليهم القرآن فقال : يا أبا الحسن ان جئت بالقرآن الّذى جئت به الى ابى بكر حتّى نجتمع عليه ، فقال : هيهات ليس الى ذلك سبيل انّما جئت به الى ابى بكر لتقوم الحجّة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة : انّا كنّا عن هذا غافلين أو تقولوا : ما جئتنا به فانّ القرآن الّذى عندي لا يمسّه الّا المطهّرون والأوصياء من ولدي ، فقال عمر : فهل وقت لإظهاره معلوم؟ ـ قال علىّ : نعم ، إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل النّاس عليه فتجرى السّنّة به (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) تشريف آخر له (أَفَبِهذَا


الْحَدِيثِ) اى القرآن الّذى هو بهذا الوصف أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو حديث انّه كريم لا يمسّه الّا المطهّرون أو حديث انحصار الخلق والزّرع وإنزال الماء وإنشاء شجرة النّار في الله تعالى (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) دهن نافق ، وداهن وادهن أظهر خلاف ما في قلبه (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) اى تجعلون رزقكم الانسانىّ الّذى هو الحظّ من القرآن واستمداد الحيوة الانسانيّة منه فانّ القرآن رزق الإنسان بعلومه وأخلاقه انّكم تكذّبون به ، أو بمحمّد (ص) أو بالله ، أو تجعلون تكذيبكم شبيه رزقكم الّذى لا انفكاك لكم عنه ، أو تجعلون القرآن الّذى رزقكم الله ، أو سائر أرزاقكم الّتى رزقكم الله بها على صفة انّكم تكذّبون منعمها ورازقها ، أو تجعلون شكر رزقكم انّكم تكذّبون كما نقل انّه أصاب النّاس عطش شديد في بعض اسفار محمّد (ص) فدعا (ص) فسقوا ، فسمع رجلا يقول أمطرنا بنوء كذا فنزلت الآية ، وروى عن أمير المؤمنين (ع) انّه قرأ الواقعة فقال تجعلون شكركم انّكم تكذّبون ، فلمّا انصرف قال : انّى قد عرفت انّه سيقول قائل لم قرء هكذا ، قرأتها انّى قد سمعت رسول الله (ص) يقرؤها كذلك وكانوا إذا امطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله وتجعلون شكركم انّكم تكذّبون (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) الأنفاس أو الأرواح (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ) يا من بلغت أرواحكم الحلقوم أو يا أهل المحتضرين (حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) الى أحوالكم وخروج أرواحكم أو تنظرون حال المحتضرين وخروج أرواحهم ولا يمكنكم علاجهم وردّ أرواحهم (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) اى الى المحتضر (مِنْكُمْ) ووجه كونه أقرب انّ النّاس قربهم له قرب مكانىّ مشتمل على البينونة والفرقة والغيبة بخلاف قربه تعالى فانّ قربه تعالى من الأشياء قرب تقويمىّ قرب الفصول للانواع وهذا القرب لا يكون لشيء من الأشياء الى شيء من الأشياء الّا للمقوّم بالنّسبة الى المتقوّم فانّ المقوّم أقرب الى المتقوّم منه الى نفسه ولذلك كان تعالى أقرب الى الأشياء من أنفسهم (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) اى لا تبصروننا أو لا تبصرون قربنا (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) اى غير مجزيّين أو غير محاسبين أو غير مملوكين فانّ الدّين بمعنى الجزاء والذّلّ والدّاء والحساب والقهر والغلبة والاستعلاء والسّلطان والحكم والإكراه والملك ، والكلّ مناسب هاهنا (تَرْجِعُونَها) اى الرّوح (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في تكذيبكم فانّه لا ثواب ولا عقاب ولا جزاء ولا اله (فَأَمَّا إِنْ كانَ) المتوفّى (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) اى السّابقين (فَرَوْحٌ) قرئ بضمّ الرّاء اى فله روح أو فمنه روح فانّ السّابق مالك للكلّ ، أو فهو روح فانّ الكلّ له ومنه وهو قوامه ، والرّوح بالضّمّ ما به حيوة الأنفس ويؤنّث ، والقرآن والوحي وجبرئيل وملك أعظم من جبرائيل وميكائيل ، أوامر النّبوّة وحكم الله ، وبالفتح الرّاحة والرّحمة ونسيم الرّيح (وَرَيْحانٌ) الرّيحان نبت معروف ، أو كلّ نبت طيّب الرّائحة والرّزق (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) كأنّه تعالى أشار بالرّوح والرّيحان الى المراتب العالية من الجنان ، وبجنّة النّعيم الى المراتب الدّانية ، أو المراد بجنّة النّعيم معنى يشمل جميع مراتب الجنّات على تعميم النّعيم للنّعيم الصّورىّ والمعنوىّ ، أو المعنى فروح وريحان في البرازخ وجنّة نعيم في الآخرة كما في الخبر (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) قد مضى تفسير اليمين بعلىّ (ع) وتفسير أصحابه بشيعته الّذين باعوا البيعة الخاصّة الولويّة على يده ، وقد مضى أيضا مكرّرا انّ اليمين عالم الأرواح ، وأصحاب اليمين هم الّذين تمكّنوا في التّوجّه أو الاتّصال بعالم الأرواح الطّيّبة ، ولا يحصل التّوجّه أو الاتّصال بعالم الأرواح الطّيّبة الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة الولويّة (فَسَلامٌ لَكَ) يا محمّد (ص) (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) يعنى انّهم يكونون في الجنّات مجاورين لك بحسب مراتبك الدّانية ويسلّمون عليك سلام التّحيّة أو سلامة لك منهم بمعنى انّهم بمنزلة اجزائك ولهم السّلامة


من آفات الآخرة وسلامتهم سلامتك أو سلام لك يا من هو من أصحاب اليمين يعنى لا يكون بعضهم شرّا لبعض ، أو يحيّى بعضهم بعضا بتحيّة السّلام ، أو يا من يتأتّى منه الخطاب فانّ أصحاب اليمين سلامة على الكلّ ويحيّون الكلّ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) الماء الحارّ البالغ في الحرارة اى لهم ذلك معدّا لهم كما يعدّ للنّازل تشريفا له (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) وإدخال النّار (إِنَّ هذا) المذكور من الأصناف الثّلاثة وجزاءهم (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ).

اعلم ، انّ الشّيء المتيقّن له ثلاث أحوال : فانّ المدرك المتيقّن امّا متيقّن في مقام العلم ، أو في مقام الشّهود بمعنى انّ المدرك كان مشهودا له ببصره أو بصيرته ، أو في مقام التّحقّق بمعنى انّ المدرك كان متحقّقا بالمدرك وصار ذاته مثاله المتيقّن بالنّار بإدراك الدّخان الّذى هو من آثارها أو بشهودها ، أو بصيرورته عين النّار ، والاوّل هو علم اليقين ، والثّانى عين اليقين ، والثّالث حقّ اليقين ، والاضافة من قبيل اضافة السّبب الى المسبّب ، أو المسبّب الى السّبب ، والمعنى انّ هذا لهو متحقّق وواقع ومورث بآثاره لليقين أو حاصل من اليقين به ٩ (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قد مضى هذه الآية قبيل هذا.

سورة الحديد

مدنيّة كلّها ، تسع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد مضى في سورة بنى إسرائيل بيان تسبيح الأشياء عند قوله :

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، ومضى مكرّرا انّ المقصود من التّسبيح من اىّ شيء كان هو تنزيه لطيفته الإلهيّة ووجهته الرّبّانيّة من نقائص المادّة وحدودها فانّ كلّ موجود ممّا له قوّة واستعداد بفطرة ذاته يخرج من القوّة الى الفعليّة ، ومن النّقص الى الكمال ، ومن الحدود الى الإطلاق بالاضافة الى مراتبه النّاقصة ، وهذا الخروج هو تسبيحه الفعلىّ ولمّا كان تلك الوجهة الالهيّة بوجه ربّه وبوجه اسم ربّه وبوجه مظهر الله وبوجه شيئيّة ذلك الشّيء وذاته كان المقصود من التّسبيح سواء علّق على الله أو على الرّبّ أو على اسم الرّبّ هو تنزيه تلك اللّطيفة ، واللّام في الله زائدة للتّقوية ، والله مفعول به لسبّح أو للتّعليل ، ومفعوله محذوف ، ولفظ سبّح مأخوذ من سبحان الله بطريق المشتقّات الجعليّة اى قال سبحان الله ، أو هو من التّسبيح بمعنى نزّه الله ، والاختلاف بالمضىّ والمضارعة في تلك السّور للاشعار بانّ التّسبيح فطريّ للأشياء غير مقيّد بزمان دون زمان ولتجديد نشاط السّامع والتّفنّن في العبارة ، والإتيان بالمصدر في بنى إسرائيل للاشعار بانّه تعالى منزّه في ذاته سبّحه مسبّح أم لم يسبّحه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى غلبته تقتضي تسبيح كلّ شيء فانّ الغالب يتوجّه كلّ شيء اليه ويعظّمه وينزّهه من كلّ نقص (الْحَكِيمُ) الّذى اتقن صنع كلّ شيء بحيث لا يوجد شيء الّا وهو مسبّح له ولاتقان صنعه لا يشعر أحد بتسبيح شيء من الأشياء ولو أشعر هلك أو جنّ ما لم ينفتح سمعه الملكوتىّ (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وجه آخر لتسبيح كلّ شيء له (يُحْيِي)


على الاستمرار في كلّ آن جمعا بنفخ الحيوة الحيوانيّة في الاجنّة (وَيُمِيتُ) على الاستمرار جمعا من الحيوة الحيوانيّة ، أو يحيى على الاستمرار نفوسا بالحيوة الانسانيّة بنفخ النّفخة الولويّة فيهم ويميت نفوسا عن الحيوة الانسانيّة ، أو يحيى بالحيوة البرزخيّة ويميت عن الحيوة الحيوانيّة ، أو يحيى الأراضي بالنّبات ، والنّبات بالماء والنّضارة والطّراوة والحيوان بالحيوة الحيوانيّة ، والإنسان بالحيوة الانسانيّة ، ويميت كلّ ذلك بالموت المناسب له ، أو يحيى كلّ شيء بإخراجه من القوى والاستعدادات على الاستمرار ويميت ذلك الشّيء عن الفعليّات النّاقصة ، وهذا أوفق بتسبيح الأشياء كأنّه قال : سبّح لله ما في السّموات وما في الأرض بالخروج من القوى الى الفعليّات ، والمخرج هو الله لانّه يحيى بالفعليّات ويميت عن النّقائص (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الاماتة والأحياء وغير ذلك (قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) اى هو الاوّل في تركيب الموجودات وهو الآخر في تحليلها نظير الوحدة في الاعداد وللاشارة الى هذا ورد : يا من لك وحدانيّة العدد ، فانّ مراتب الاعداد كلّها تركيبها من الوحدة لا غير ، وتحليلها الى الوحدة لا غير ، وبهذا اللّحاظ قال تعالى (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) فانّ مراتب الاعداد ظواهرها وبواطنها ليست الّا الوحدة وما به التّميّز بين المراتب ليس الّا اعتباريّا عدميّا ، أو المعنى هو الاوّل بلحاظ المراتب واعتبار حيثيّة العلّيّة والمعلوليّة فانّه تعالى بهذا اللّحاظ اوّل العلل الفاعليّة وآخر العلل الغائيّة لانّه مسبّب الأسباب وعلّة العلل وغاية الغايات ونهاية النّهايات ، أو المعنى هو الاوّل في الإدراك فانّ الظّاهر على المدارك اوّلا هو الوجود الّذى حقيقة الحقّ الاوّل تعالى والآخر في الإدراك بمعنى انّ المدرك كلّما ميّز مدركاته بعض اجزائها من بعض لم يجد المدرك في الحقيقة الّا الاوّل تعالى شأنه فكان آخر المدركات هو الاوّل تعالى وبهذا المعنى قال تعالى والظّاهر والباطن يعنى انّ المدرك من الأشياء اوّلا هو الاوّل تعالى لانّه الظّاهر من كلّ الأشياء ، والمدرك من الأشياء آخرا هو أيضا لانّه الباطن من كلّ شيء ، والباطن المختفى من الإدراك المدرك بالتّعمّل من الأشياء ، أو هو اشارة الى ما يقوله الصّوفيّة من مقام التّوحيد الّذى يظهر لبعض السّالكين بطريق الحال ، ولبعض بنحو المقام ، ولا يجوز التّفوّه به لأحد ما لم يصر ذلك التّوحيد حالا أو مقاما له ، وإذا صار حالا للسّالك لا يجوز التّفوّه به له حين زواله ، وإذا لم يكن ذلك التّوحيد حاله أو مقامه فتفوّه به كان مباح ـ الدّم وهو ان يتجلّى الله للسّالك باسم الواحد أو الأحد فلا يرى في الوجود الّا الواحد أو الأحد فلا يرى اوّلا ولا آخرا ولا علّة ولا معلولا ولا ظاهرا ولا باطنا ولا صاعدا ولا نازلا ولا مدركا ولا مدركا بل يرى كلّ ذلك اعتبارات من النّفوس المحجوبة عدميّات لا حقّيّة ولا حقيقة لها فيكون المعنى هو الاوّل من غير اعتبار اوّليّة له ، وهو الآخر من غير اعتبار آخريّة له ، وهو الظّاهر والباطن كذلك يعنى ليس شيء وشيء ولا اعتبار واعتبار في دار الوجود ، والى هذا المقام كانت الاشارة في هذا الشّعر :

حلول واتحاد اينجا محال است

كه در وحدت دوئى عين ضلال است

وكلّما ذكروا نثرا ونظما من هذه المقولة كان اشارة الى هذا المقام أو ناشئا منه ، والى عدم جواز التّفوّه بهذا الوحدة وعدم جواز اعتبارها لغير من كانت حاله أو مقامه قيل :

الا تا با خودى زنهار زنهار

عبارات شريعت را نگهدار

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بمنزلة قوله تعالى : وهو (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) فانّ علمه عين ذاته ولإحاطته بكلّ الأشياء كان اوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا من الجميع (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) هذه الجمل كلّها مستأنفة واجوبة لأسئلة مقدّرة إذا لم تكن مع العاطف أو حاليّة (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد مضى


هذه الآية مع بيانها في سورة الأعراف (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) قد مضى الآية ببيانها في اوّل سورة السّبا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) معيّة قيّوميّة لازمة لرحمته الرّحمانيّة فانّه تعالى بوجوده الفعلىّ كلّ الأشياء وقوامها وفعليّتها واوّلها وآخرها وظاهرها وباطنها وهو تهديد وترغيب (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تتميم للتّهديد والتّرغيب (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تأكيد في مقام المدح فانّ التّأكيد والتّكرير مطلوب في مقام المدح والرّضا ، وفي مقام الذّمّ والغضب ، والاوّل في مقام التّعليل لتسبيح الأشياء والثّانى في مقام التّعليل لاحاطة علمه بالأشياء وتتميم لتهديده وترغيبه (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) قد مضى الآية في سورة آل عمران (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) من النّيّات والخطرات والخيالات والحالات والسّجيّات ، أو من القوى والاستعدادات الّتى لا خبر لصاحبي الصّدور عنها (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) بمنزلة النّتيجة للسّابق كأنّه قال : إذا علمتم ذلك فلا عذر لكم في الانصراف عن الله وعن رسوله (ص) ، أو لا عذر لكم في الانصراف عن الله ورسوله (ص) في الخروج عن قولهما في ولاية علىّ (ع) فآمنوا بالله وصدّقوه فيما قاله لكم من مطلق الأوامر والنّواهى ، أو فيما قاله لكم من ولاية علىّ (ع) وآمنوا برسوله (ص) بالبيعة العامّة أو البيعة الخاصّة ، أو صدّقوه فيما قاله لكم من الأحكام أو من ولاية علىّ (ع) ، ولمّا كان الخطاب من الله تعالى عامّا للموجودين المسلمين وغير المسلمين والمعدومين فكان لفظ آمنوا أيضا عامّا وشاملا للإذعان والتّصديق والبيعة الاسلاميّة العامّة والبيعة الايمانيّة الخاصّة كأنّه قال : ايّها الكفّار والمستعدّون للإسلام من الموجودين والمعدومين آمنوا بالله ورسوله (ص) بالبيعة العامّة على يد رسوله (ص) ، وايّها المسلمون أذعنوا وصدّقوا الله ورسوله (ص) فيما قال الرّسول (ص) لكم من مطلق الأحكام أو ولاية علىّ (ع) وآمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة بالله ورسوله (ص) على يد رسوله (ص) أو على يد خليفته ، وقد مضى في اوّل البقرة معاني الايمان (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) من الأموال الدّنيويّة والاعراض والحشمة والأعضاء والقوى ومن نسبة الأفعال والأوصاف الى أنفسكم ومن انانيّاتكم وللاشعار بانّ ما لكم من جميع ذلك انّما هو عارية لكم وشأن العارية ان يستردّ حتّى يسهل عليكم إنفاقه قال مستخلفين (فَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو البيعة الخاصّة (مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وعد الأجر الكبير للاشعار بانّ المنظور من الايمان البيعة الخاصّة الولويّة فانّ الأجر الكبير ليس الّا على الولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لا تذعنون أو لا تسلمون بالبيعة العامّة النّبويّة أو لا تؤمنون بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) المطلق الّذى هو ربّ الأرباب ، أو بربّكم في الولاية وهو علىّ (ع) (وَقَدْ أَخَذَ) الله (مِيثاقَكُمْ) في عالم الذّرّ بالايمان بالله أو بالبيعة مع محمّد (ص) أو بالبيعة مع علىّ (ع) وقد أخذ الرّسول (ص) ميثاقكم بعدم التّخلّف عن قوله في البيعة العامّة ، وقرئ بالبناء للمفعول (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اى مصدّقين مذعنين أو بائعين البيعة العامّة الاسلاميّة وجوابه محذوف بقرينة السّابق اى ان كنتم مؤمنين فما لكم لا تؤمنون بعلىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة وقد أخذ الرّسول (ص) ميثاقكم على عدم التّخلّف عن قوله (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) الّذى هو الرّسول (ص) الدّاعى لكم الى الايمان بعلىّ (ع) (آياتٍ بَيِّناتٍ) من الآيات القرآنيّة والمعجزات النّبويّة (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) اى من ظلمات المادّة والشّبهات والشّكوك والاهوية والتّعلّقات الى


نور التّجرّد واليقين والإطلاق من الاهوية والتّعلّقات (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) حالكونكم في سبيل الله الّذى هو الجهاد ، أو سبيل الحجّ أو سبيل الهجرة الى الرّسول (ص) أو الى الامام ، أو حالكونكم في طريق القلب والسّلوك اليه والى الله ، أو ما لكم ان لا تنفقوا في تحصيل سبيل الله وهو الولاية وطريق القلب ، أو ما لكم لا تنفقون في تعظيم سبيل الله وهو كلّ خير من العبادات والجهاد والحجّ ، أو هو الرّسالة ، أو الولاية (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة حاليّة في موضع التّعليل ، واضافة الميراث امّا بيانيّة أو بتقدير في أو بتقدير اللّام فانّ سماوات الأرواح وما فيها وأراضي الأشباح وما فيها ميراث مقام المشيّة يرثها الإنسان الكامل والعقول من المشيّة ، ويرثها ما بعد العقول من العقول ، وما بعد النّفوس من النّفوس ، وما بعد عالم المثال من عالم المثال ، والكلّ من الله تعالى ، والمواليد المكوّنة ميراث ومتخلّف من الكمّلين من بعض لبعض ، والأموال العرضيّة الدّنيويّة ميراث من بنى آدم من بعض الى بعض فما بال ما كان لله لا تنفقون منها بأمره تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل فحذف القرين بقرينة ما يأتى.

الإنفاق قبل الفتح

اعلم ، انّ الفتح يطلق على النّصر والظّفر ، وعلى إعطاء الله الغنائم الدّنيويّة أو الاخرويّة الّذى هو لازم الظّفر وفتح البلاد وفتح باب القلب وعلى فتح البلاد وعلى فتح باب القلب ، والمخاطبون كانوا مسلمين مقصورا همم أكثرهم على الظّفر على الأعداء وفتح البلاد وجمع الغنائم الدّنيويّة ، ومؤمنين مقصورا همم أكثرهم على فتح باب القلب وجمع الغنائم الاخرويّة ، وآيات القرآن منزّلة على مراتب حالات النّاس بكثرتها وسعتها ، واختلاف التّفاسير الواردة من المعصومين (ع) باعتبار اختلاف أحوال النّاس ، وسعة وجوه القرآن بحسب سعة أحوال النّاس فصحّ ان يقال : لا يستوي منكم من أنفق من قبل النّصر والظّفر ، أو من قبل الغنائم الدّنيويّة أو الاخرويّة ، أو من قبل فتح البلاد للمسلمين أو من قبل فتح مكّة وان يقال : لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح باب القلب الى الملكوت ومن أنفق بعد قوّة المسلمين وغلبتهم ، وحين كثرة الغنائم وقوّة رجاء تعاقبها وتعاقب فتح البلاد ، وحين انفتاح باب القلب وشهود ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، فانّ الإنفاق والمقاتلة قبل ذلك لا يكونان الّا عن قوّة اليقين وثبات القلب وقوّة الشّجاعة والسّخاوة ، وامّا بعد الحضور فلا يبقى عدوّ وقوىّ حتّى يكون المقاتلة صعبا ولا يبقى ميل ومحبّة الى ماله من الأموال والقوى والانانيّات لوجدان العوض الأشرف الأعلى الأبهى حتّى يكون الإنفاق صعبا ، فالمنفق والمقاتل حين ضعف المسلمين كان أعظم درجة لكونه أقوى يقينا والمنفق والمقاتل في الغياب البتّة أعظم اجرا من المنفق والمقاتل في الحضور ، وقيل : لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح الرّسول (ص) بسبب المعراج فانّه (ص) بعد المعراج كان أقوى تأثيرا ، ومن أنفق قبل المعراج كان كالّتى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، ونعم ما قال المولوىّ رضوان الله عليه في بيان هذه الآية :

يؤمنون بالغيب مى بايد مرا

زان ببستم روزن فانى سرا

ليك يك درصد بود ايمان بغيب

نيك دان وبگذر از ترديد وريب

بندگى در غيب آيد خوب وكش

حفظ غيب آيد در استبعاد خوش

قلعه داري كز كنار مملكت

دور از سلطان وسايه سلطنت

پاس دارد قلعه را از دشمنان

قلعه نفروشد بمال بى كران

نزد شه بهتر بود از ديگران

كه بخدمت حاضرند وجان فشان

پس بغيبت نيم ذرّه حفظ كار

به كه اندر حاضري زان صد هزار


(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) المثوبة الحسنى أو العاقبة الحسنى (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا حاجة لكم في أعمالكم الى الحضور (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يعنى فيردّه اليه مضاعفا وكان له أجر كريم لا امتنان فيه ولا قصور ولا زوال ، وقد مضى الآية ببيانها في أواخر البقرة ، عن الكاظم (ع): نزلت في صلة الامام ، وفي رواية : في دولة الفسّاق (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) ظرف ليضاعفه أو للخبر في قوله تعالى له أجر كريم أو لكريم ، أو ظرف ليقال المقدّر عند قوله تعالى بشريكم اليوم أو ظرف ليسعى والمعنى كلّما ترى المؤمنين (وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يعنى انّك فتحت بصيرتك فيوم ترى المؤمنين تريهم يسعى نورهم بين أيديهم والمراد بهذا النّور هو الكيفيّة الدّاخلة في قلب البائع البيعة الخاصّة الولويّة بقبول الولاية وهو فعليّته الاخيرة ولذلك يصير ابنا لمن باع معه وقد يرى في الواقعة بصورة من باع على يده ، وقد يرى بصورة ولده من صلبه وتلك الكيفيّة ليست كيفيّة عرضيّة بل هي صورة جوهريّة نازلة من ولّى امره داخلة في قلبه وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) اشارة الى تلك الصّورة ، وتلك الصّورة لا ترى بالأبصار الحسّيّة ، وترى بالبصيرة في الدّنيا والآخرة ، وفي البرازخ والآخرة يخلّص تلك الصّورة من غواشي المادّة ويخلّص البصيرة لكلّ أحد من حجاب البصر فيشهدها كلّ أحد ويشهدها صاحب النّور أيضا فيرى تلك الكيفيّة بصورة امامه يسعى بين يديه ، واختيار بين الأيدي والايمان لانّ تلك الصّورة نورانيّة يستنير منها كلّما تظهر عليه ، وخلف المؤمن الدّنيا الظّلمانيّة ، وشماله الملكوت السّفلى الّتى هي أظلم ولا مناسبة للنّورانىّ مع الظّلمانىّ ، وقدّامه عالم الغيب الّذى هو نور محض ، ويمينه عالم الأرواح الطّيّبة الّذى هو أيضا نورانىّ ، وقد يظهر ذلك النّور على السّالك إذا اشتدّ محبّته واستقام في سلوكه ومات بالموت الاختيارىّ ، وهذا هو الّذى يقوله الصّوفيّة من انّه ينبغي للسّالك ان يكون اهتمامه في سلوكه بحصول حال الحضور ، وهذا هو معرفة علىّ (ع) بالنّورانيّة الّتى هي معرفة الله ، وهذا هو المسمّى بالحضور والسّكينة والفكر ، وهذا هو ذكر الله الحقيقىّ (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) اى تقول أو يقول الملائكة أو يقال بشريكم اليوم (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) قد مضى في آخر آل عمران بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) بدل من يوم ترى المؤمنين أو من اليوم (وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا) انظروا إلينا أو انتظروا لنا (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ولمّا لم يكن بين المؤمنين ونورهم وبين المنافقين مناسبة (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) كما كنتم في الدّنيا راجعين الى ورائكم (فَالْتَمِسُوا نُوراً) قيل ذلك لهم استهزاء (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) حائط (لَهُ بابٌ باطِنُهُ) اى باطن الباب أو باطن السّور (فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) فانّ السّور هو الحجاب الحاجز بين الملكوت السّفلى والملكوت العليا ، وباطنه الى الملكوت العليا وفيها الرّحمة والرّضوان ، وظاهره الى الملكوت السّفلى وفيها الجحيم ونيرانها وأنواع عذابها (يُنادُونَهُمْ) اى ينادى المنافقون والمنافقات الّذين آمنوا (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الانسانيّة ، أو في الإسلام والبيعة العامّة ، أو في الايمان والبيعة الخاصّة (قالُوا بَلى) كنتم معنا في ظاهر الإسلام وفي ظاهر الايمان (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ) الفتنة إعجابك بالشّيء وإذابة الذّهب


والفضّة والإضلال والإيقاع في الفتنة (أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ) بمحمّد (ص) أو بالمؤمنين الدّوائر (وَارْتَبْتُمْ) في دينكم وما كنتم فيه معنا (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) عن طلب الآخرة والعمل لها (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) بقبض أرواحكم (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) اى الشّيطان حيث قال انّ الله كريم وزمان التّوبة وسيع (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) لو كان لكم الفدية ولا فداء لكم (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهرا وباطنا (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) الّذى يلي أمركم فانّها ملكتكم ولا تصرّف لغيرها فيكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النّار (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) لمّا ذكر حال المنافقين ونور المؤمنين وكان النّفاق ينشأ من الوقوف على مرتبة والرّضا بالمقام فيها استبطأ حركة المؤمنين الى مقاماتهم العالية بنحو يكون تحذيرا من المقام على مراتبهم الحاصلة فانّ الاستفهام هاهنا للتّوبيخ والإنكار ، وقد مضى في سورة البقرة بيان معنى الخشوع والفرق بينه وبين الخضوع والتّواضع عند قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) ، والمراد بذكر الله هو الذّكر المأخوذ من صاحب الذّكر ، أو تذكّر الله وتذكّر عظمته ، أو صاحب الذّكر الّذى هو علىّ (ع) ببشريّته ، أو هو صاحب الذّكر بمقام نورانيّته (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) من آيات القرآن ، أو احكام الرّسالة ، أو قرآن ولاية علىّ (ع) ، أو الواردات الآفاقيّة ، أو الانفسيّة (وَلا يَكُونُوا) قرئ بالغيبة ويكون نفيا وعطفا على تخشع أو نهيا وعطفا على الم يأن باعتبار المعنى كأنّه قال : لا يقف المؤمنون على مقامهم ولا يكونوا ، وقرئ بالخطاب نفيا وعطفا على تخشع ويكون التفاتا من الغيبة ونهيا وعطفا باعتبار المعنى ويكون التفاتا والتّقدير لا يقفوا ولا يكونوا (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الزّمان اى طال زمان وقوفهم على مقامهم الحاصل لهم من دون التّرقّى الى المقامات المفقودة عنهم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يعنى صار كثير منهم منافقين فصاروا فاسقين خارجين من حكم امامهم ، روى عن الصّادق (ع) انّ هذه الآية يعنى ولا تكونوا في القائم (ع) والمعنى انّها نزلت في المؤمنين بالغيبة فانّ الله حذّرهم ان يصيروا بسبب الوقوف على مقام واحد وعدم الخروج الى المقامات العالية منافقين مثل المنافقين الّذين كانوا في زمان محمّد (ص) ونافقوا بسبب الوقوف وعدم الخروج ، فانّهم أوتوا كتاب النّبوّة وقبلوها قبلهم (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) كأنّه بعد ما حذّرهم عن الوقوف ووبّخهم عليه يئس جمع من الواقفين عن الرّحمة وقالوا : فما لنا الّا قساوة القلوب فقال رفعا ليأسهم وترجيحا بجانب الرّجاء : اعلموا انّ الله يحيى ارض قلوب المؤمنين بذكر الله في الدّنيا أو بنور الامام في الآخرة (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ، عن الباقر (ع) انّه قال : يحييها الله تعالى بالقائم بعد موتها (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) التّدوينيّة والآيات الآفاقيّة والانفسيّة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تصيرون عقلاء ، أو تدركون إدراكا عقلانيّا ، أو تدركون بعقولكم انّ الوقوف مورث للقسوة ، وانّ الذّكر جلاء للقلوب ومورث للخشوع (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) قرئ بتشديد الصّاد من التّفعّل بمعنى الّذين يعطون الصّدقات ، وقرئ بتخفيف الصّاد من التّفعيل بمعنى الّذين صدقوا الله ورسوله (وَأَقْرَضُوا اللهَ) جملة حاليّة أو متعرضة أو معطوفة على صلة الالف واللّام ، وعلى اىّ تقدير هو تقييد للتّصدّق ان كان بمعنى الإنفاق المطلق ، أو تأكيد له ان كان بمعنى الإنفاق لوجه الله ، أو يكون المراد بالتّصدّق الإنفاق على الفقراء ، وباقراض الله صلة الامام (ع) ، وعلى قراءة تخفيف الصّاد يكون عطفا وبمنزلة ان يقال : انّ الّذين


آمنوا وأنفقوا ، وعلى قراءة تشديد الصّاد يكون قوله : انّ المصّدّقين والمصّدّقات وأقرضوا الله (قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) بمنزلة انّ الّذين يعطون الزّكاة وبيانا لجزاء الإنفاق ويكون قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) بيانا لجزاء الايمان وبعبارة اخرى انّ المصدّقين بيان لجزاء القوّة العمّالة وانّ الّذين آمنوا بيان لجزاء القوّة العلّامة ، وبعبارة اخرى الاوّل بيان لجزاء الزّكاة ، والثّانى بيان لجزاء الصّلوة وترجيح لجانب القوّة العلّامة والصّلوة على القوّة العمّالة والزّكاة فانّ قوله تعالى أولئك هم الصّدّيقون (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لحصر كمال الصّدق والشّهادة فيهم وقوله تعالى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) تفخيم لاجرهم ونورهم بإضافتهما إليهم بمعنى انّ أجرهم لا يمكن معرفته الّا بإضافته إليهم ، وقيل : انّ الشّهداء مبتدء وخبره لهم أجرهم ، وعن الباقر (ع) انّه قال : العارف منكم هذا الأمر المنتظر له المحتسب فيه الخير كمن جاهدوا لله مع القائم (ع) بسيفه ثمّ قال : بل والله كمن جاهد مع رسول الله (ص) بسيفه ، ثمّ قال الثّالثة : بل والله كمن استشهد مع رسول الله (ص) في فسطاطه ، وفيكم آية من كتاب الله قيل : واىّ آية؟ ـ قال : قول الله والّذين آمنوا بالله ورسله (الآية) ثمّ قال : صرتم والله صادقين شهداء عند ربّكم ، والاخبار الواردة بهذا المضمون يعنى تخصيص الصّدّيقين والشّهداء بشيعتهم كثيرة ، وفي هذا الخبر غنية عن نقلها ، وروى عن أمير المؤمنين (ع) انّه لمّا قتل يوم النّهروان الخوارج قام اليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين (ع) طوبى لنا إذ شهدناها معك هذا الموقف وقتلنا معك هؤلاء الخوارج ، فقال أمير المؤمنين (ع): والّذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة لقد شهدنا في هذا الموقف أناس لم يخلق الله آباءهم ولا أجدادهم بعد ، فقال الرّجل : وكيف شهدنا قوم لم يخلقوا؟ ـ قال : بل قوم يكونون في آخر الزّمان يشركوننا فيما نحن فيه ويسلّمون لنا فأولئك شركاؤنا فيه حقّا حقّا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) مقابل الّذين آمنوا بالله ورسله (اعْلَمُوا) ابتداء كلام منقطع عن سابقه وتزهيد عن الحيوة الدّنيا ولوازمها ، وترغيب في الآخرة والإنفاق وتسهيل له (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اللّعب ماله غاية خياليّة غير عقليّة ، واللهو ما لم يكن له غاية خياليّة مدركة مشعورا بها وان كان لا يجوز ان يكون فعل المختار بلا غاية ، والتّقدير اعلموا انّ متاع الحيوة الدّنيا أو حاصل الحيوة الدّنيا لعب ولهو (وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) اى تغالب في ذلك ولا يبقى للعاقلة شيء من ذلك (كَمَثَلِ غَيْثٍ) مفعول ثان لاعلموا أو انّما وما بعده قائم مقام المفعولين أو هو خبر مبتدء محذوف (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) اى نبات الغيث الّذى نبت بسبب الغيث وقال تعالى : أعجب الكفّار لانّ الكفّار لكفرهم بالله اشدّ إعجابا بصورة النّبات بخلاف غير الكفّار فانّهم يفرحون بالمنعم وانعامه (ثُمَّ يَهِيجُ) ييبس ببلوغه الى غايته أو بعاهة (فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) لائقا للنّار (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) مثّل الحيوة الدّنيا ونزول ماء الحيوة من سماء الأرواح بنزول المطر من السّماء وصورة الإنسان في بدو الأمر بنبات النّبات في اوّل الأمر ضعيفا ثمّ استواء الإنسان باستواء النّبات في خضرته وطراوته وإعجابه للغافل عن الآخرة ثمّ انحطاطه بانحطاط النّبات ثمّ موته بيبس النّبات واصفراره وتكسّره ثمّ العذاب في الآخرة للمفتون بالحيوة باحتراق النّبات اليابس (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لمن لم يفتتن أو للكلّ بشرط الاستعداد والاستحقاق (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)


اى التّمتّع المسبّب من الغرور أو متاع سبب للغرور (سابِقُوا) هذا بمنزلة النّتيجة أو جواب لسؤال مقدّر ناش من سابقه كأنّه قيل : ان كان الحيوة الدّنيا متاع الغرور وفي الآخرة عذاب لأهلها أو مغفرة فما نفعل؟ ـ فقال : سابقوا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قد مضى في سورة آل عمران بيان تشبيه عرض الجنّة بعرض السّماوات والأرض (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) هذه صفة أو حال أو مستأنفة (ذلِكَ) الايمان بالله ورسله أو ذلك المذكور من المغفرة والجنّة (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فانّ مبدء التّوفيق للايمان الّذى هو سبب المغفرة والجنّة منه تعالى فلا يدخل الجنّة أحد بنفسه ولا بعمله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ما أَصابَ) منقطعة عن سابقها أو جواب لسؤال ناش من السّابق كأنّه قيل : ان كان الله ذا الفضل بعباده فممّ يكون هذه المصائب والبلايا؟ ـ فقال في الجواب : ما أصاب (مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) في العالم الكبير من البلايا العامّة الواردة على اموال أهل الأرض (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) اى من قبل ان نبرأ الأنفس أو من قبل ان نبرأ الأرض والأنفس والمراد بالكتاب كتاب اللّوح المحفوظ والمقصود انّه ليست المصائب الّا بعلمنا وقدرتنا وأصابتنا (إِنَّ ذلِكَ) الثّبت في الكتاب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا) متعلّق بقوله في كتاب أو متعلّق بمحذوف والتّقدير أخبرناكم بذلك لتعلموا انّ ما يقع في الأرض هو ثابت في اللّوح وبعلمنا وارادتنا لكيلا تأسوا (عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ولكي تصبروا وترضوا عند ما فاتكم وتشكروا الله عند ما آتيكم وهذا هو غاية الزّهد فانّ عدم التّغيّر في فوت ما في اليد وفي إتيان ما ليس في اليد كمال الزّهد كما روى عن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : الزّهد كلّه بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتى فقد أخذ الزّهد بطرفيه ، وعن الباقر (ع): نزلت في ابى بكر وأصحابه واحدة مقدّمة وواحدة مؤخّرة لا تأسوا على ما فاتكم ممّا خصّ به علىّ بن ابى طالب (ع) ولا تفرحوا بما آتيكم من الفتنة الّتى عرضت لكم بعد رسول الله (ص) (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) عطف على قوله ما أصاب والمقصود انّ عدم الحزن على الفائتة وعدم الفرح قد يكون للاختيال والفخر وليس هذا ممدوحا انّما المدح على ذلك إذا كان للزّهد في الدّنيا ، أو المعنى انّ المصّدّقين المنفقين والمؤمنين كذلك وغير المصّدّقين الّذين يختالون ولا ينقصون من انانيّاتهم ، والّذين يفخرون ولا يؤمنون بالله ورسوله مبغوضون لله فانّه قد تكرّر فيما سبق انّ مفهوم هذه العبارة وان كان اعمّ من كونهم مبغوضين لكنّ المراد بحسب المقام ذلك (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأموالهم واعراضهم وقويهم وانانيّاتهم فلا ينفقون ولا ينقصون من انانيّاتهم فلا ينقادون لله ورسوله (ص) (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَ) عن الإنفاق والايمان فلا يضرّ الله شيئا (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) الّذى لا حاجة له الى أموالكم واعراضكم وانفاقكم ممّا ينبغي ان ينفق منه (الْحَمِيدُ) الّذى لا حاجة له الى ايمانكم وتصديقكم وتعظيمكم والمقصود من يتولّ عن علىّ (ع) أو عن الله والرّسول (ص) في ولاية علىّ (ع) فانّ عليّا (ع) الّذى هو مظهر الله هو الغنىّ عنه وعن إنفاقه الحميد في نفسه صدّقه مصدّق أو كذّبه ولمّا كان هناك مظنّة ان يسأل أحد : بما يصير الإنسان مؤمنا ومنفقا حتّى لا يتولّى عن الايمان وعن علىّ (ع)؟ ـ فقال تعالى جوابا لهذا السّؤال (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) اى بأحكام الرّسالة أو بالمعجزات الدّالّة على صدقهم فمن أراد الايمان فليقبل عليهم (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) اى كتاب النّبوّة والكتب التّدوينيّة


والملل الالهيّة صورها ولهذا ورد عن الصّادق (ع) في هذه الآية الكتاب الاسم الأكبر الّذى يعلم به علم كلّ شيء الّذى كان مع الأنبياء (ع) قال : وانّما عرف ممّا يدعى كتاب التّوراة والإنجيل والفرقان فيها كتاب نوح وفيها كتاب صالح وشعيب وإبراهيم (ع) فأخبر الله عزوجل (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (ع) فأين صحف إبراهيم؟ انّما صحف إبراهيم (ع) الاسم الأكبر وصحف موسى (ع) الاسم الأكبر (وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الميزان كلّما يقاس به شيء آخر من ذي الكفّتين والقبان وخيوط البنّائين وسيرة السّلاطين في سلطنتهم واحكام الشّرائع القالبيّة الملّيّة والعقل والرّسول والرّسالة والولىّ والولاية والكتب السّماويّة ، لكنّ الميزان الّذى يقوم النّاس به بالقسط هو الولاية وقبولها وأحكامها وولىّ الأمر فانّ كلّما سواها ميزان لقيام النّاس بالقسط بشرط اتّصاله بها ، فالمراد بالكتاب الّذى مع الرّسل هو النّبوّة والرّسالة وهما الاسم الأكبر الّذى كلّ شيء فيه وشرائع الرّسل وكتبهم صورتهما ، والمراد بالميزان هو الولاية الّتى نزلت من مقامها العالي الى بشريّة الرّسل وظهرت بعدهم في أوصيائهم ليقوم النّاس بها بالقسط ، ولمّا كانت الولاية الّتى هي ميزان العدل والنّبوّة والرّسالة اللّتان هما ميزانان بالولاية من أعظم أسباب قيام النّاس بالقسط أتى بهذه الغاية قبل ذكر الحديد وأضاف الحديد بعدها فقال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) يعنى مع الرّسل أو مطلقا لكن لمّا كان المنظور من ذكر الحديد ترتّب غاية نصرة الرّسل عليه وعلى ما سبقه فالاولى ان يقال : وأنزلنا الحديد مع الرّسل ، ومعنى إنزال الحديد مع انّه يتكوّن في المعادن إيجاده ، أو المقصود انّ كلّ موجود في هذا العالم كان موجودا في عالم المثال وفي العوالم الّتى فوقه ثمّ نزل من تلك العوالم الى عالم الكون والفساد (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) كما يرى من قطع الأعضاء والمفاصل من الحيوان به وقطع حيوة الحيوان والإنسان به (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) لانّ منه آلات أكثر الصّنّاع والصّنائع (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) حالكون النّاصر بالغيب من الله ، أو حالكون الله بالغيب من النّاصر ، أو هو ظرف لينصره وقوله تعالى ليعلم عطف على قوله ليقوم النّاس وقد مضى وجه تأخيره عن نزول الحديد (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) لا حاجة له الى نصرتكم لانّه قوىّ يقدر على كلّ ما أراد عزيز لا مانع له من مراده ولا غالب عليه وانّما أراد اختباركم بذلك وامتياز الكافر والمنافق من المؤمن الموافق (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) عطف على قوله لقد أرسلنا عطف التّفصيل على الإجمال (نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) اى الرّسالة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) في غاية الاهتداء كالأنبياء والأولياء (ع) أو في أواسط الاهتداء كسائر المؤمنين (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) لم يقل في مقابل منهم مهتد ومنهم فاسق للاشارة الى الغلبة في جانب الضّلالة (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) من أنبياء بنى إسرائيل وموسى (ع) وشعيب (ع) (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) بالنّسبة الى دين موسى (ع) لا انّهم ابتدعوها في الدّين حتّى تكون بدعة ، والرّأفة اشدّ الرّحمة أو ارقّها أو ما يظهر اثره في الظّاهر ، والرّحمة ما لا يظهر اثره في الظّاهر أو بالعكس ، والرّهبانية والرّهبة مصدرا الرّاهب واحد رهبان النّصارى الّذين كانوا ينقطعون عن النّاس ويلبسون المسوح ويتعبّدون في الجبال وفي الخلوات (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) اى ما القيناها في قلوبهم (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) اى الّا لابتغاء رضوان الله أو في حال ابتغاء رضوان الله فانّه لا يجوز ان يكون مفعولا له لكتبنا أو المعنى انّهم ابتدعوها وما فرضناها عليهم أصلا ولكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فيكون الاستثناء


منقطعا ولكن قوله تعالى (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) يؤيّد المعنى الاوّل بان جعلوها بأهوية أنفسهم أو ما عملوا بمقتضاها ، أو ما قصدوا بها رضوان الله ، أو ما انتهوا بها الى خليفة الله المؤسّس لآداب السّلوك الى الله ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال لتكذيبهم بمحمّد (ص) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمّد (ص) (مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) عن اتّباع ولىّ الأمر وخليفة الله ، روى عن رسول الله (ص) انّه قال : اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهما ثنتان وهلك سائرهنّ فرقة قاتل الملوك على دين عيسى (ع) فقتلوهم ، وفرقة لم يكن لهم طاقة لموازاة الملوك ولا ان يقيموا بين ظهرانيّهم يدعونهم الى دين الله تعالى ودين عيسى (ع) فساحوا في البلاد وترهّبوا وهم الّذين قال الله عزوجل : ورهبانيّة ابتدعوها ما كتبناها ثمّ قال : من آمن بى وصدّقنى واتّبعنى فقد رعاها حقّ رعايتها ، ومن لم يؤمن بى فأولئك هم الهالكون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما مدح المؤمنين من أهل الكتاب وذمّ الّذين بقوا على صورة ملّتهم ولم يؤمنوا بمحمّد (ص) بقوله : وكثير منهم فاسقون نادى مطلق من آمن بمحمّد (ص) بالبيعة العامّة النّبويّة ، أو نادى المؤمنين بمحمّد (ص) من أهل الكتاب بالبيعة العامّة وقال : لو كان يكفى للنّجاة الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الملّة لكان يكفى أهل الكتاب قبول ملّتهم ولم يكونوا يسمّون فاسقين فلا تقفوا أنتم ايّها المؤمنون على صورة ملّة محمّد (ص) ولا تكتفوا بالبيعة العامّة بل (اتَّقُوا اللهَ) في جميع أوامره ونواهيه أو اتّقوا الله في مخالفة الرّسول (ص) ومخالفة قوله في علىّ (ع) (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بالايمان الحقيقىّ الّذى يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) نصيبا على قبول الرّسالة ونصيبا على قبول الولاية ، وبعبارة اخرى نصيبا على البيعة العامّة ونصيبا على البيعة الخاصّة ، وبعبارة اخرى نصيبا على الإسلام ونصيبا على الايمان ، وبعبارة اخرى نصيبا في مقام النّفس الانسانيّة ونصيبا في مقام القلب ، وبعبارة اخرى نصيبا من جنّات النّعيم ونصيبا من جنّة الرّضوان ، وبعبارة اخرى نصيبا للقوّة العمّالة ونصيبا للقوّة العلّامة (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) والمقصود من النّور هو صورة ولىّ الأمر الّذى يدخل بالبيعة الخاصّة في قلب البائع المعبّر عنه بالايمان الدّاخل في القلب وإذا خرج تلك الصّورة من حجب الأهواء والتّعلّقات ظهر نورها بحيث كان الإنسان يستغنى من نور الشّمس وأشرقت الأرض بنور ربّها اشارة الى ظهور تلك الصّورة ومعرفة علىّ (ع) بالنّورانيّة الّتى هي معرفة الله ، وليست الّا للمؤمن الممتحن قلبه للايمان عبارة عن ظهور هذه الصّورة ، وإذا خلعت تلك الصّورة من حجب النّفس وتعلّقاتها استغنى صاحبها من كلّ ما سواها وكانت تلك الصّورة قرينة للنّصر ونزول الملائكة ، وظهور تلك الصّورة هي نزول السّكينة ولذلك قال : نورا تمشون به في النّاس فانّ تلك الصّورة هي الفعليّة الاخيرة للإنسان وجميع افعال الشّيء تكون بفعليّته الاخيرة فيجعل الله بتلك البيعة نورا مختفيا أو ظاهرا يكون جميع حركاته وسكناته وعباداته ومكاسبه بذلك النّور (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) بذلك النّور فانّ هذا النّور هو باعث غفران الله ، فانّ الله يستحيي ان يعذّب أمّة دانت بامامة امام عادل من الله وان كانت الامّة في أعمالها فجرة (وَاللهُ غَفُورٌ) سجيّته المغفرة سواء كان لها باعث أو لم يكن ، فمن كان له مادّة المغفرة الّتى هي الولاية كان مغفورا لا محالة (رَحِيمٌ) سجّيّته الرّحمة سواء كان لها باعث أو لم يكن ، وقد فسّر النّور بالإمام الّذى يأتمّون به ، وروى عن الصّادق (ع) انّه قال : كفلين من رحمته الحسن (ع) والحسين (ع) ونورا تمشون به يعنى إماما يأتّمون به ، وفي رواية والنّور علىّ (ع) (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) لا زائدة والمعنى على


ما ذكر في نزول الآية ليعلم أهل الكتاب اى اليهود والنّصارى (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) قيل في نزوله : انّ رسول الله (ص) بعث جعفرا في سبعين راكبا الى النّجاشىّ يدعوه فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به ، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ائذن لنا فنأتي هذا النّبى فنسلّم به فقدموا مع جعفر فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله (ص) وقالوا : يا نبىّ الله انّ لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فان أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها ، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فانزل الله فيهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (الى قوله) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن لم يؤمن به قوله أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا فخروا على المسلمين فقالوا : يا معاشر المسلمين امّا من آمن منّا بكتابكم وكتابنا فله أجران ، ومن آمن منّا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ ـ فنزل قوله تعالى : يا ايّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله (الآية) فجعل لهم أجرين وزادهم النّور والمغفرة يعنى جعلنا لمن آمن بمحمّد (ص) واتّقى أجرين ، ليعلم أهل الكتاب انّهم لا يقدرون على شيء من فضل الله (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ولكن نقول على ما ذكر من الفرق بين الإسلام والايمان والملّة والدّين وانّ المراد بقوله : يا ايّها الّذين آمنوا يا ايّها الّذين أسلموا بقبول الدّعوة الظّاهرة والبيعة العامّة وانّ قوله آمنوا امر بالايمان الحقيقىّ وقبول الدّعوة الباطنة بالبيعة الخاصّة الولويّة يجوز ان يراد باهل الكتاب أهل الملّة سواء كان بنحو النّحلة أو بقبول الرّسالة بالبيعة العامّة وسواء كانوا أهل ملّة محمّد (ص) أو أهل سائر الملل وان لا يكون لا في قوله لئلّا يعلم أهل الكتاب زائدة ، ويكون تعليلا للقول المستفاد من قوله : آمنوا برسوله بالبيعة الخاصّة يعنى قلنا آمنوا برسوله بقبول الدّعوة الباطنة لانّ القانعين بالبيعة الاسلاميّة الّذين كانوا أهل كتاب الرّسالة لا يعلمون انّهم لا يقدرون على شيء من فضل الله بل يظنّون انّهم قادرون على فضل الله الظّاهر من اموال الدّنيا وفضل الله الباطن من درجات الايمان ومقامات الرّسالة والنّبوّة والولاية كما كنّا نسمع من بعض يقول : إذا خلونا أربعين يحصل لنا كثير من المراتب الغيبيّة ، وإذا آمنتم بالرّسول (ص) بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبلتم الولاية ظهر لكم قصوركم وانّكم لا تقدرون على شيء من فضل الله وبذلك تتدرّجون في نقصان الانانيّة الّتى هي أعظم المعاصي في الطّريق ، وإذا لم تعلموا ذلك تتدرّجون في ازدياد الانانيّة.

الجزء الثّامن والعشرون

سورة المجادلة

مدنيّة ، احدى وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) نزلت في امرأة من الأنصار اسمها خولة وزوجها أوس بن الصّامت وكانت امرأة حسن الجسم فأرادها


زوجها فأبت فغضب عليها وقال : أنت علىّ كظهر أمّي ، وكان في الجاهليّة إذا قال الرّجل لأهله : أنت علىّ كظهر أمّي ، حرمت عليه آخر الأبد ، فندم الرّجل وقال لامرأته قد أتانا الإسلام فاذهبي الى رسول الله (ص) فاسأليه فأتت الى رسول الله (ص) فقالت : بابى أنت وأمّي انّ أوس بن الصّامت هو زوجي وابو ولدي وابن عمّى فقال لي : أنت علىّ كظهر أمّي ، وانّا نحرّم ذلك في الجاهليّة ، وقد أتانا الله بالإسلام بك فقال لها رسول الله (ص): ايّتها المرأة ما أراك الّا حرّمت عليه ، فأعادت عليه قوله الاوّل ، فقال (ص) : ما أراك الا حرّمت عليه ولم أو مر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله (ص) وكلّما قال لها رسول الله (ص) ، حرّمت عليه هتفت وقالت : أشكو الى الله فاقتي وحاجتي وشدّة حالي ، اللهمّ فأنزل على لسان نبيّك وكان هذا اوّل ظهار في الإسلام فنزل عليه الآيات فقال : ادعى زوجك ، فدعته ، فتلا عليه رسول الله (ص) هذه الآيات (الى قوله) وللكافرين عذاب اليم (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عنهم ويغفر لهم إذا تابوا (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ظاهر الآية انّ من ظاهر فليس عليه شيء ان لم يكرّر القول ، أو ليس عليه شيء في المرتبة الاولى فاذا عاد وظاهر ثانيا فعليه الكفّارة المذكورة ، وروى عن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : انّ الله عفى عن المظاهر الاوّل وغفر له بدون الكفّارة ، فان عاد أحد بعد المظاهر الاوّل فعليه الكفّارة ، وقيل : معنى يعودون لما قالوا يعودون عمّا قالوا فانّه يستعمل يعود فيما قال والى ما قال ولما قال بمعنى يعود عمّا قال ، وقيل : يعودون الى نسائهم ، وقوله تعالى ، لما قالوا ، ابتداء كلام والمعنى فتحرير رقبة لما قالوا (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) يعنى ذلك التّحرير توعظون به لكي ترتدعوا من مثله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) يكفى في صدق تتابع الشّهرين اتّصال شيء من الشّهر الثّانى بالشّهر الاوّل (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) بالمجامعة أو مطلقا (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) بقدر شبعهم أو إعطاء كلّ مسكين مدّا من الطّعام (ذلِكَ) المذكور من عدم الحرمة أبدا بالظّهار كما كانت في الجاهليّة وجواز الرّجوع الى النّساء بعد الظّهار والتّرتيب في خصال الكفّارة (لِتُؤْمِنُوا) اى لترغبوا في شريعة محمّد (ص) ولا تنفروا عنها لما ترون فيها من التّخفيف وتؤمنوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) حدود حماه لا يجوز التّجاوز عنها (وَلِلْكافِرِينَ) بالله ورسوله (ص) أو للكافرين بتلك الحدود (عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) حادّه غاضبه وعادّه وخالفه (كُبِتُوا) كبته صرعة وأخزاه وصرفه وكسره وردّه بغيظه واذلّه والمكتبت الممتلئ غمّا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الّذين حادّوا الله ورسوله من قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم (ع) (وَقَدْ أَنْزَلْنا) عليهم أو عليكم (آياتٍ) دالّات على قدرتنا وحكمتنا ، أو دالّات على صدقنا في وعدنا ووعيدنا ، أو دالّات على صدق رسولنا (بَيِّناتٍ) واضحات أو موضحات وهي الآيات التّدوينيّة أو الآيات الآفاقيّة والانفسيّة (وَلِلْكافِرِينَ) بتلك الآيات أو بالله ورسوله (ص) (عَذابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) ظرف لمهين ، أو لقوله للكافرين ، أو لقوله أحصاه الله (جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ) رفع لتوهّم متوهّم انّ العاملين لا يحصون اعمال أنفسهم فكيف يحصى الله اعمال الجميع (وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تعميم


وتعليل (أَلَمْ تَرَ) خطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب ، وان كان خطابا لمحمّد (ص) فالمعنى لا ينبغي لك الاستغراب عن كونه على كلّ شيء شهيدا لانّك ترى وتنظر الى آثار احاطة علمه تعالى بما في السّماوات وما في الأرض ، وان كان الخطاب عامّا فالمعنى لا ينبغي الاستغراب لظهور آثار احاطة علمه تعالى وينبغي ان يراها كلّ راء لظهورها (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) نجوى جمع نجّى أو مصدر نجاه بمعنى سارّه ، أو اسم مصدر بمعنى السّرّ ، وعلى الاوّل جاز ان يكون مضافا الى ثلثة وان يكون ثلثة بدلا منه ومعنى النّجوى المصدرىّ المسارّة بين اثنين أو أكثر لكنّه يطلق على حديث النّفس وخطرات القلوب والرّؤيا الصّادقة والأحلام الكاذبة لانّها مسارة الشّيطان أو الملك مع الإنسان ، وقد يطلق على مطلق المحاورة (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) اختيار المتناجين اى المتسارّين لانّ المتناجين يكونون بحال لا يطّلع على نجواهم غيرهم فيكون الاطّلاع عليهم أبلغ في الدّلالة على الاطّلاع على خفيّات الأمور ، واختيار الثّلاثة والخمسة من بين مراتب العدد لانّ العدد الوتر أشرف مراتب العدد ، الا ترى انّه تعالى قال (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ولانّ الله وتر يحبّ الوتر ، واقلّ مراتب العدد الوتر الثّلاثة ، وأضاف إليها الخمسة ليعلم انّ خصوص مرتبة الثّلاثة ليس مقصودا ، وقيل : كان من أنزلت الآية فيهم ثلاثة وخمسة والفرق بين ثالث الثّلاثة ورابع الثّلاثة انّ ثالث الثّلاثة يكون واحدا من الثّلاثة مقابلا للآخرين متمّما عددهم ولذا قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وامّا رابع الثّلاثة فهو الّذى يجعل الثّلاثة اربعة سواء كان من جنسهم وفي عدادهم أو لم يكن ، وسواء جعل الثّلاثة اربعة بنفسه أو بغيره فهذه العبارة لا تستلزم التّحدّد وكونه تعالى ثانيا لغيره وغير ذلك ممّا ينافي الوجوب كالعبارة الاولى فانّه تعالى يجعل كلّ ثلاثة اربعة بان يوكّل عليهم واحدا من وكلائه أو أكثر ، وأيضا يجعل الثّلاثة اربعة بان يكون هو بنفسه مقوّما للثّلاثة ومعهم لا معيّة الاثنين من الإنسان بل معيّة قيّوميّة لا ينفك شيء من الأشياء عنها منفردا كان أو منضّما الى واحد أو أكثر وهذا المعنى لا يلزم شيئا من لوازم الإمكان ولذلك لم يكتف بهذا وقال (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) العدد (وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل وتأكيد ونتيجة للسّابق ونزول الآية كما روى عن الصّادق (ع) في ابى عبيدة الجرّاح وعبد الرّحمن بن عوف وسالم مولى ابى حذيفة والمغيرة بن شعبة وعدّة أخر حيث كتبوا الكتاب بينهم وتعاهدوا وتواثقوا لئن مضى محمّد (ص) لا يكون الخلافة في بنى هاشم ولا النّبوّة أبدا (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) اى المسارّة أو المحاورة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعنى يتناجون بغصب حقّ آل محمّد (ص) ومعاداتهم ومخالفة قول الرّسول (ص) فيهم ، وبعبارة اخرى يتناجون بما فيه قوّة القوّة البهيميّة الشّهويّة ، وقوّة القوّة الغضبيّة السّبعيّة ، وقوّة القوّة الجهليّة الشّيطانيّة (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) إظهارا لحبّهم لك بالتّحيّات العالية سرّا لنفاقهم عنك وعن المؤمنين (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) من غير تلفّظ أو فيما بينهم من غير اطّلاع الغير عليهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) لانّهم قبلوا الإسلام وصدّقوا محمّدا (ص) في أكثر ما قاله من امر الآخرة ولم يصدّقوه في خلافة على (ع) (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قيل : نزلت قوله : الم تر الى الّذين نهوا عن النّجوى


(الآيات) في اليهود والمنافقين انّهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون الى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فاذا رأى المؤمنون نجويهم قالوا : ما نريهم الّا وقد بلغهم عن اقربائنا وإخواننا الّذين خرجوا في السّرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة ، فيحزنهم ذلك فلمّا طال ذلك شكوا الى رسول الله (ص) فأمرهم ان لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا الى مناجاتهم ، لكن نقول : ان كان نزولها في اليهود فالمقصود منها منافقوا الامّة الّذين كانوا يتناجون في ردّ قول محمّد (ص) في علىّ (ع) ، وقيل : نزلت قوله : وإذا جاؤك حيّوك (الى آخر الآية) في اليهود فانّهم كانوا يأتون النّبىّ (ص) فيقولون : السّام عليك ، والسّام الموت وهم يوهّمون انّهم يقولون : السّلام عليك وكان النّبىّ (ص) يردّ عليهم بقوله : وعليكم فان كان النّزول فيهم فالمقصود منها المنافقون كما ذكرنا وأشار الصّادق (ع) في الحديث السّابق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذمّ النّجوى مطلقا وذمّ المتناجين بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول (ص) نادى المؤمنين ونهاهم عن النّجوى بما فيه قوّة القوى الثّلاث ، فانّ الإنسان إذا اجتمع مع غيره قوى فيه الشّأن الّذى هو عليه فنهاهم عن ذلك حتّى يتنبّهوا ، وإذا كانوا على تلك الشّؤن ارتدعوا عنها فقال (إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعنى راقبوا أحوالكم فان تروا قوّة الميل منكم الى ذلك فاعلموا انّكم بعد في شأن البهيمة أو السّبع أو الشّيطان فعالجوا أنفسكم بدفع تلك القوّة عنكم (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) الّذى هو لازم قوّتكم العاقلة (وَالتَّقْوى) من القوى الثّلاث يعنى قوّوا بالاجتماع قوّتكم العاقلة وضعّفوا قواكم الثّلاث (وَاتَّقُوا اللهَ) اى سخط الله في تقوية القوى الثّلاث (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) توصيف للتّعليل (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) اى مطلق التّناجى بان حكم على الجنس بحكم أكثر الإفراد واللّام للتّعريف يعنى النّجوى المذكورة وهي النّجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول (ص) ، أو هي نجوى فاطمة سلام الله عليها ورؤياها كما سنذكر في نزول الآية ان شاء الله (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ) اى الشّيطان أو التّناجى (بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ولا يحزنوا بنجوى المنافقين ، أو بنجوى اليهود ، أو بالأحلام والرّؤيا الّتى يرونها ويحزنون بها ، وقد مضى في سورة البقرة عند قوله تعالى (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ما يبيّن به عدم إضرار الشّيطان الّا بإذن الله ، وفسّر النّجوى هاهنا بالرّؤيا الكريهة روى عن النّبىّ (ص) انّه قال : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فانّ ذلك يحزنه ، وعن الصّادق (ع) انّه كان سبب نزول هذه الآية انّ فاطمة (ع) رأت في منامها انّ رسول الله (ص) همّ ان يخرج هو وفاطمة (ع) وعلىّ (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) من المدينة فخرجوا حتّى جازوا من حيطان المدينة فعرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله (ص) ذات اليمين حتّى انتهى الى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله (ص) شاة درّاء وهي الّتى في احدى أذنيها نقط بيض فامر بذبحها ، فلمّا أكلوا ماتوا في مكانهم ، فانتبهت فاطمة (ع) باكية ذعرة فلم تخبر رسول الله (ص) بذلك فلمّا أصبحت جاء رسول الله (ص) بحمار فاركب عليه فاطمة (ع) وامر ان يخرج أمير المؤمنين (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) من المدينة كما رأت فاطمة (ع) في نومها ، فلمّا خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان فأخذ رسول الله (ص) ذات اليمين كما رأت فاطمة (ع) حتّى انتهوا الى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله (ص) شاة درّاء كما رأت فاطمة (ع) فأمر بذبحها فذبحت وشويت ، فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة (ع) وتنحّت ناحية منهم تبكي مخافة ان يموتوا ، فطلبها رسول الله (ص) حتّى وقع عليها وهي تبكي فقال : ما شأنك يا بنيّة؟ ـ قالت : يا رسول الله (ص) رأيت البارحة كذا وكذا في نومى وقد فعلت أنت كما رأيته فتنحيّت عنكم لئلّا أراكم تموتون فقام رسول الله (ص) فصلّى ركعتين ثمّ ناجى ربّه فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمّد (ص) هذا شيطان يقال له الزّها وهو الّذى ارى فاطمة (ع)


هذه الرّؤيا ويؤذى المؤمنين في نومهم ما يغتمّون به ، فأمر جبرئيل فجاء به الى رسول الله (ص) فقال له : أنت الّذى أريت فاطمة (ع) هذه الرّؤيا؟ ـ فقال : نعم يا محمّد (ص) ، فبزق عليه ثلاث بزقات قبيحة في ثلاث مواضع ثمّ قال جبرئيل لمحمّد (ص) : يا محمّد إذا رأيت شيئا في منامك تكرهه أو رأى أحد من المؤمنين فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقرّبون وأنبياء الله المرسلون وعباده الصّالحون من شرّ ما رأيت من رؤياى ، ويقرء الحمد والمعوّذتين وقل هو الله أحد ويتفل عن يساره ثلاث تفلات فانّه لا يضرّه ما رأى ، فأنزل الله عزوجل على رسوله (ص) : انّما النّجوى من الشّيطان (الآية) ، وعنه (ص): إذ أرى الرّجل منكم ما يكره في منامه فليتحوّل عن شقّه الّذى كان عليه نائما وليقل : انّما النّجوى من الشّيطان ليحزن الّذين آمنوا وليس بضارّهم شيئا الّا بإذن الله ثمّ ليقل : عذت بما عاذت به ملائكة الله المقرّبون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصّالحون من شرّ ما رأيت ومن شرّ الشّيطان الرّجيم ، والمقصود من جميع تلك الآيات منافقوا الامّة وان كان النّزول في غيرهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمّا أراد ان يأمرهم بأدب من الآداب الّتى يكرهونها ناداهم تلطّفا بهم وجبرانا لكلفة التّأدّب بما يكرهون (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) الفسحة بالضّمّ السّعة ، فسح المكان ككرم وافسح وتفسّح وانفسح فهو فسيح وفسح له كمنع وتفسّح وسّع له (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) نشز من باب نصر وضرب ارتفع في مكان وقرئ بهما ، قيل : كانوا يتنافسون في مجلس النّبىّ (ص) حتّى جاء جمع من البدريّين وكان النّبىّ (ص) مكرما لهم فقاموا بين يدي النّبىّ (ص) ولم يكن لهم مجلس يجلسون فيه فقال النّبىّ (ص) : يا فلان ، يا فلان ، يا فلان ، قوموا فقاموا ، وكان ذلك شاقّا على بعض فنزلت يعنى إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس يعنى لا يضمّ بعضكم ببعض حتّى تتأذوا من حرارة الهواء وحرارة الانضمام ، وإذا قيل : وسّعوا في المجالس بان تخلّوا لمن يأتى بعدكم مجلسا بان يضمّ بعضكم ببعض حتّى يخلّى مجلس للآتى ، أو يقوم بعض عن مجلسه بعد زيارته للرّسول (ص) وقضاء ووطره حتّى يجلس في مجلسه من يأتى بعده فافسحوا ، وذكر الغاية المترتّبة على الامتثال تطييبا لنفوسهم فقال : يفسح الله لكم ولم يقيّده بالمجالس إيهاما للتّعميم يعنى يفسح الله لكم في المجالس والأرزاق والصّدور في الدّنيا والآخرة ، وإذا قيل : ارتفعوا وقوموا عن مجالسكم فقوموا ولا تغتمّوا بذلك (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) في الدّنيا بحسن الصّيت والإعزاز من الخلق والتّبسّط عليهم وفي الآخرة في درجات الجنان (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) خصّص المؤمنين برفع الدّرجات لانّ غير المؤمنين لا درجة ولا رفع درجة لهم لانّ أجر العمل مشروط بالايمان ، وخصّص العلماء من بينهم بالذّكر لشرفهم وعلوّ درجاتهم بالنّسبة الى المؤمنين ، فانّ فضل العالم على سائر النّاس كفضل النّبىّ (ص) على سائر الخلق أو كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، والشّفعاء يوم القيامة ثلاثة ؛ الأنبياء (ع) ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء ، ويوزن دماء الشّهداء مع مداد العلماء فيرجّح مداد العلماء على دماء الشّهداء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من امتثال أوامره ونواهيه ومخالفتهما (خَبِيرٌ) ترغيب وتهديد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) لمّا كان هذا الأدب مكروها لاكثر النّفوس صدّره بالنّداء.

اعلم ، انّ المناجاة هاهنا اعمّ من المسارّة والمحاورة والمسائلة الجهريّة وانّ المتحاورين إذا لم يكونا متناسبين لم تكن المحاورة بينهما مؤثّرة في جانب الآخرة ولا مورثة للتّوافق ولا لنجح المسؤل فانّ المحاورة مع الرّسول (ص) من حيث انّه رسول لا تكون الّا في أمور الآخرة وينبغي ان تكون مقرّبة إليها ، وإذا لم تكن بين المناجى والرّسول (ص)


مناسبة لم تكن مناجاته مؤثّرة ولا مقرّبة الى الآخرة بل كانت مؤثّرة في عكس المراد ومبعّدة من الآخرة والرّسول (ص) لانّه كما في الخبر لا يجلس اثنان الّا ويقومان بزيادة أو نقيصة ، الم يكن ابو جهل يحاور كثيرا الرّسول (ص) ولم تكن محاورته مؤثّرة بل كانت مبعّدة ، فالرّبّ تعالى بكمال رأفته امر العباد بتقديم الصّدقة الّتى هي كناية عن كسر الانانيّة الّتى هي ضدّ للرّسول (ص) ومشّاقة له حتّى يوافق المناجى له بعض الموافقة فيتأثّر من محاورته على انّ في التّصدّق بأمر الله تعالى نفعا للفقراء ومسّا ليد الرّسول (ص) وتعظيما له وامتثالا لأمر الله تعالى وكسر الانانيّة الّتى هي شبكة الشّيطان وأعظم معصية للإنسان وتمييزا للمخلص عن غيره ، روى عن علىّ (ع) انّه قال في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، آية النّجوى انّه كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فجعلت اقدّم بين يدي كلّ نجوى أناجيها النّبىّ (ص) درهما قال : فنسخها قوله أشفقتم (الى قوله) خبير بما تعملون (ذلِكَ) التّصدّق أو التّناجى (خَيْرٌ لَكُمْ) لانّه ادخل في النّجح وفي التّأثّر بمحاورة الرّسول (ص) (وَأَطْهَرُ) لأنفسكم من رجس الانانيّة وحبّ المال والرّغبة في الدّنيا (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) صدقة تقدّموها امام نجويكم فلا يضرّكم عدم التّقديم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر بفضله رجس انانيّاتكم وان لم تتصدّقوا صدقة فيها كسرها (رَحِيمٌ) يرحمكم بنجح مسئولكم وتأثّركم بمحاورة الرّسول (ص) بدون التّصدّق (أَأَشْفَقْتُمْ) على ما في أيديكم ومن الفقر والحاجة (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) جمع الصّدقات هاهنا لملاحظة جمع المناجين ، أو للاشارة الى انّ في الصّدقة الصّوريّة كسرا للانانيّة وهو صدقة من الانانيّة ، وخشوعا للقلب وهو تصدّق من القلب ، وخضوعا من الجسد وهو تصدّق منه ، وتوجّها من القوى الدّرّاكة الى الرّسول (ص) والى جهة الآخرة ، وامتثالا لأمر الله وحركات من القوى العمّالة في جهة الآخرة وهي تصدّقات منها (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) تقديم الصّدقات (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بان رخّص لكم في تركه ، عن أمير المؤمنين (ع) في هذه الآية فهل تكون التّوبة الّا عن ذنب (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) جبرانا لتقصير ترك الصّدقة امام المناجاة فانّ الحسنات يذهبن السّيّئات فانّ في الصّلوة توجّها الى الآخرة نحو التّوجّه في التّصدّق ، وفي الزّكاة كسرا للانانيّة مثل ما في التّصدّق امام المناجاة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما أمراكم به ونهياكم عنه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ترغيب في الامتثال وتهديد من تركه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قيل المراد منهم قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود ويفشون إليهم اسرار المؤمنين ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النّبىّ (ص) والمؤمنين (ما هُمْ مِنْكُمْ) لعدم ايمانهم باطنا (وَلا مِنْهُمْ) لإقرارهم اللّسانىّ بالإسلام (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) اى على عدم مجالستهم لهؤلاء القوم ، أو عدم استماعهم الى ازدراء المؤمنين ، أو على قصد تقوية الدّين والكلّ كذب منهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انّهم يحلفون على الكذب (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) معنويّة لدفع لوم المسلمين وحفظ عرضهم وما لهم من المسلمين بصورة الإسلام ومن الكفّار بالمسلمين (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بصدّ قويهم عن طريق القلب وبتشكيك الضّعفاء من المسلمين ومنع الرّاغبين في الإسلام من الكافرين ، أو يتّخذ الغاصبون بحقّ آل محمّد (ص) ايمانهم عند المسلمين جنّة يدفعون بها ظنّ المسلمين بهم النّفاق ويدفعون بها لوم اللّائمين لهم على الانحراف ، فيصدّون خلقا كثيرا عن سبيل الله الّذى هو الولاية وهو أمير المؤمنين (ع) ، وقرئ ايمانهم بكسر الهمزة يعنى اتّخذوا صورة إسلامهم جنّة يدفعون بها لوم المسلمين ومعارضتهم ومقاتلتهم معهم ويدفعون بها معارضة الكفّار ومقاتلتهم معهم (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ


لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) من الإغناء أو من عذاب الله (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) ظرف لقوله تعالى لن تغني أو ليحلفون ، على ان يكون الفاء زائدة أو بتقدير امّا أو توهّمها (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) اى لله في القيامة (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدّنيا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) حيث يقولون انّما أردنا بذلك تقوية الدّين ونشر سنّة سيّد المرسلين (ص) ويحلفون لله ظنّا منهم انّ هذا منهم كان حقّا وانّ الله يقبل منهم بحلفهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) البالغون في الكذب لانّ كذبهم مثل جهلهم مركّب لا علاج له لانّهم اعتقدوا انّهم صادقون فلا يمكن ارتداعهم من كذبهم.

اعلم ، انّ كلّ من اتّصف بصفة وطلب امرا يعتقد انّ اتّصافه بتلك الصّفة محمود مرضىّ لله وطلبه لذلك الأمر المطلوب مرضىّ الّا من شذّ كما انّ علماء العامّة الّذين أرادوا إصلاح الدّين وحفظه بالقياس والرّأى والظّنّ والاستحسان الّتى ابتدعوها وليس هذا الّا هدم الدّين وصدّ العباد عن الائمّة (ع) والعلماء يحسبون انّهم مهتدون وانّهم مصلحون للدّين وللعباد ، وانّ للمصيب منهم أجرين وللمخطى اجرا واحدا بل قال المصوّبة منهم ان لا خطاء في آرائهم وانّ حكم الله تابع لآرائهم وهكذا كان الحال فيهم الى يومنا هذا (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) استولى وغلب عليهم بحيث تمكّن منهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) الفطرىّ أو الاختيارىّ (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لاتلافهم بضاعتهم الّتى هي فطرتهم الانسانيّة ومدّة أعمارهم الشّريفة وأخذ العذاب المؤبّد عوضها وعوض النّعيم الأبديّ الّذى كان مقرّرا لفطرتهم وعوضا لأعمارهم ، وقيل في قوله يوم يبعثهم الله إذا كان يوم القيامة جمع الله الّذين عصبوا آل محمّد (ص) حقّهم فيعرض عليهم أعمالهم فيحلفون له انّهم لم يعملوا منها شيئا كما حلفوا لرسول الله (ص) في الدّنيا حين حلفوا ان لا يردّوا الولاية في بنى هاشم* وحين همّوا بقتل رسول الله (ص) في العقبة فلمّا اطلع الله نبيّه (ص) وأخبره حلفوا له انّهم لم يقولوا ذلك ولم يهمّوا به حين انزل الله على رسوله (ص) (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) ، ونقموا الّا ان أغناهم الله ورسوله (ص) من فضله فاذا عرض الله عزوجل ذلك عليهم في القيامة ينكرونه ويحلفون له كما حلفوا لرسول الله (ص) (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يغاضبونه أو يناهضونه في الحرب أو يخالفونه (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة من هو اذلّ الخلق (كَتَبَ اللهُ) تعليل للسّابق (لَأَغْلِبَنَ) لمّا اجرى كتب مجرى القسم في الإتيان به للتّأكيد أتى له بجواب مثل جواب القسم (أَنَا وَرُسُلِي) في الدّنيا بالحجّة والدّين وعلى جنود الشّياطين الّذين كانوا في مملكتهم وان صاروا مغلوبين بحسب أجسامهم بعض الأحيان (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) تعليل للسّابق (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) وذلك لانّ نسبة الايمان الى صاحب الايمان إذا ظهرت وقويت غلبت على النّسب الجسمانيّة لانّ الإنسان بالبيعة الخاصّة الولويّة ودخول الايمان والصّورة الولويّة في قلبه بالبيعة يصير فعليّته الاخيرة هي فعليّة الايمان ويكون الحكم لتلك الفعليّة لا للفعليّات السّابقة الّتى هي كالمادّة ويكون محبّته ناشئة عن تلك الفعليّة ، وتلك الفعليّة مضادّة لمن حادّ الله ورسوله فلا يصير محبّته النّاشئة عن صورة ولىّ الأمر متعلّقة بمن ضادّ تلك الفعليّة (أُولئِكَ كَتَبَ) اى كتب الله ، وقرئ كتب مبنيّا للمفعول اى ثبت ورسخ (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وهو الصّورة الدّاخلة في قلوبهم من ولىّ أمرهم (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المقصود من الرّوح هو ربّ النّوع الانسانىّ وتأييده بالرّوح بان يوكّل عليه ملكا من جنود هذه الرّوح يؤيّده ويسدّده به


فانّ لقلب المؤمن أذنين اذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس واذن ينفث فيها الملك الموكّل عليه من قبل ربّ النّوع ، وعن الكاظم (ع) انّ الله تبارك وتعالى ايّد المؤمن بروح منه فتحضره في كلّ وقت يحسن فيه وتبقى وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدى فهي معه تهتزّ سرورا عند إحسانه وتسيخ (١) في الثّرى عند إساءته فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاح أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا ، رحم الله امرء همّ بخير فعمله وهمّ بشرّ فارتدع عنه ، ثمّ قال : نحن نؤيّد بالرّوح بالطّاعة لله والعمل له هذا في الدّنيا (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات في آخر سورة آل عمران (خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

اعلم ، انّ انفحّة الولاية الّتى تدخل قلوب المؤمنين كما انّها سبب انعقاد القلب على الايمان تكون مادّة رضوان الله عن عباده كما قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، ولمّا كان قبول الولاية بالبيعة الخاصّة مادّة لرضوان الله لم يقدّم رضا العباد على رضاه كما قدّم ما للعباد في سائر الأوصاف على صفته مثل (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). اعلم ، انّ الإنسان ان دخل الايمان الّذى هو صورة ولىّ امره في قلبه بالبيعة مع ولىّ امره والتّوبة على يده صار فعليّته الاخيرة فعليّة ولىّ امره وولىّ امره من جند الله فيصير البائع بتلك البيعة بواسطة تلك الفعليّة من جند الله ، وينصر بوجوده وجنود مملكته ولسان قاله وحاله دين الله ، ويقاتل بفطرته وباختياره مع جنود الشّيطان ويدعو عباد الله بوجوده ولسان حاله وقاله الى الله ، ومن تمكّن في الجهل واتّباع الشّيطان صار من حزب الشّيطان وكان للشّيطان مثل من كان من حزب الله لله ، ومن لم يدخل الايمان في قلبه ولم يتمكّن في اتّباع الشّيطان لا يحكم عليه بشيء من كونه من جنود الرّحمن أو الشّيطان كما لا يحكم عليه بالنّقمة أو النّعمة بل كان مرجى لأمر الله الى الأعراف امّا يعذّبه وامّا يتوب عليه.

سورة الحشر

مدنيّة ، اربع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الحشر إخراج جمع من مكان الى آخر والمعنى أخرجهم في اوّل حشر المؤمنين إليهم للقتال ، أو في اوّل حشرهم من حصونهم للقتال ، أو لأجل حشرهم الاوّل الى الشّام أو الى خيبر وثانى حشرهم الى القيامة أو الى الشّام ، أو وقت ظهور القائم (ع) من الشّام ، أو في القيامة من الشّام ، أو المعنى في اوّل حشر وجلاء وقع في زمان الرّسول (ص) وبعده وقع جلاء وحشر لغيرهم على يد الرّسول (ص) (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) اى من بأس الله (فَأَتاهُمُ اللهُ) اى أتاهم عذابه أو بأسه أو خليفته (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) لقوّة وثوقهم واعتمادهم على حصونهم فأتاهم بأس الله في حصونهم ، عن القمّىّ سبب ذلك انّه كان بالمدينة ثلاثة ابطن من اليهود ، بنى النّضير وقريظة وقينقاع وكان بينهم وبين رسول الله (ص) عهد ومدّة فنقضوا

__________________

(١) ساخ يسيخ ويسوخ دخل وغاب ورسخ وخسف.


عهدهم وكان سبب ذلك بنى النّضير وذلك انّه أتاهم رسول الله (ص) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة يعنى يستقرض ، وكان (ص) قصد كعب بن الأشرف فلمّا دخل على كعب قال : مرحبا يا أبا القاسم وأهلا وقام كأنّه يصنع له الطّعام وحدّث نفسه ان يقتل رسول الله (ص) ويتبع أصحابه ، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك فرجع رسول الله (ص) الى المدينة وقال لمحمّد بن مسلمة الانصارىّ : اذهب الى بنى النّضير فأخبرهم انّ الله تعالى قد أخبرنى بما هممتم به من الغدر فامّا ان تخرجوا من بلدنا وامّا ان تأذنوا بحرب ، فقالوا : نخرج من بلادك فبعث إليهم عبد الله بن ابىّ : الّا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمّدا الحرب فانّى أنصركم انا وقومي وحلفائى ، فان خرجتم خرجت معكم وان قاتلتم قاتلت معكم ، فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيّؤا للقتال وبعثوا الى رسول الله (ص) انّا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع ، فقام رسول الله (ص) وكبّر وكبّر أصحابه وقال لأمير المؤمنين (ع) : تقدّم الى بنى النّضير فأخذ أمير المؤمنين (ع) الرّاية وتقدّم وجاء رسول الله (ص) وأحاط بحصنهم وغدر بهم عبد الله بن ابىّ وكان رسول الله (ص) إذا ظهر بمقدّم بيوتهم حصّنوا ما يليهم وخرّبوا ما يليه ، وكان الرّجل منهم ممّن كان له بيت حسن خرّبه وقد كان رسول الله (ص) امر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك وقالوا : يا محمّد (ص) انّ الله يأمرك بالفساد؟! ان كان لك هذا فخذه ، وان كان لنا فلا تقطعه ، فلمّا كان بعد ذلك قالوا : يا محمّد (ص) نخرج من بلادك فأعطنا مالنا ، فقال : لا ، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل ، فلم يقبلوا ذلك ، فبقوا ايّاما ثمّ قالوا : نخرج ولنا ما حملت الإبل ، فقال : لا ، ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه ، فخرجوا على ذلك ووقع قوم منهم الى فدك ووادي القرى ، وخرج قوم منهم الى الشّام ، وقيل : لمّا غزا رسول الله (ص) غزاة بدر قال بنو النّضير : هذا هو النّبىّ الموعود انّه لا تردّ له راية ، فلمّا غزا غزاة أحد وهزم المسلمون ارتابوا ، وكان بينهم وبين محمّد (ص) عهد فنقضوا العهد وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا منهم الى مكّة ، فأتوا قريشا وأبا سفيان وحالفوا على ان يكون كلمتهم واحدة على محمّد (ص) ، فأخبر الله تعالى رسوله (ص) بذلك ، فلمّا ورد كعب بن الأشرف امر الله رسوله (ص) بقتل كعب بن الأشرف فأمر محمّد بن مسلمة وكان أخا كعب من الرّضاعة بقتله فخرج محمّد ومعه اربعة رجال وذهب الى قرب قصره واجلس قومه عند جدار وناداه : يا كعب ، فانتبه ، وقال : من أنت؟ ـ قال : انا محمّد بن مسلمة أخوك ، جئتك استقرض منك دراهم فانّ محمّدا (ص) يسألنا الصّدقة وليس معنا الدّراهم فقال : لا أقرضك الّا بالرّهن ، قال : معى رهن انزل فخذه ، وكانت له امرأة بنى بها تلك اللّيلة ، فقالت : لا أدعك تنزل لانّى ارى حمرة الدّم في ذلك الصّوت فلم يلتفت إليها فخرج ، وعانقه محمّد بن مسلمة وهما يتحادثان حتّى تباعدا من القصر الى الصّحراء ، ثمّ أخذ رأسه ودعا بقومه وصاح كعب فسمعت امرأته وصاحت وسمع بنو النّضير صوتها فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلا. ورجع القوم سالمين الى رسول الله (ص) ، فأمر رسول الله (ص) بحربهم. قيل : كان اجلاء بنى النّضير مرجع النّبىّ (ص) من أحد وكان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب ، وبينهما سنتان. وقيل : كان اجلاء بنى النّضير قبل أحد على رأس ستّة أشهر من وقعة بدر ، وقيل : كان ذلك بعد الحديبيّة ، واليه أشار المولوىّ قدس‌سره بقوله :

وقت وا گشت حديبيه رسول

در تفكّر بود وغمگين وملول

ناگهان اندر حق شمع رسل

دولت انّا فتحنا زد دهل

آمدش پيغام از دولت كه رو

تو ز منع اين ظفر غمگين مشو

كاندر اين خوارى بنقدت فتحهاست

نك فلان قلعه فلان قلعه تراست

بنگر آخر چونكه وا گرديد تفت

بر قريظه وبر نضير از وى چه رفت

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) كانت بنو النّضير يخربون بيوتهم


بأيديهم ضنّة بها على المسلمين وإخراجا لآلاته النّفسية وتوسعة للقتال ومجالة مع المسلمين وتحصّنا بأطرافها الّتى تليهم بجمع آلات الأطراف الّتى تلى المسلمين في الأطراف الّتى تليهم (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) فانّ المؤمنين أيضا كانوا يخربون الأطراف الّتى تليهم من بيوتهم لتوسعة القتال وإمكان الوصول إليهم ، ولمّا كانوا سببا لقتال المسلمين بنقض العهد نسب الاخراب بأيدي المؤمنين إليهم ، وقرئ يخرّبون بتشديد الرّاء (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فاتّعظوا بحالهم فانّ الاعتبار عبارة عن ان ينظر الرّجل الى امر حسن أو الى امر قبيح وان ينظر الى عاقبته وما يترتّب عليه ثمّ عطف النّظر الى نفسه فارتدع عن القبيح ورغب في الحسن ، وتمسّك بعض من اعتبر القياس بمثل هذه الآية ولا يخفى عدم دلالتها على اعتبار القياس (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) مثل بنى قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) يعنى انّ عذاب النّار ثابت لهم في الآخرة وان لم يعذّبوا في الدّنيا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) عاندوا الله ورسوله (ص) ونبذوا عهده (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدّنيا والآخرة يعنى يعاقبه بشدّة العقوبة لانّ الله شديد العقاب (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) اللّينة اردء التّمر ، أو ما كان أجناسا غير معروفة ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه قال : يعنى العجوة وهي امّ التّمر وهي الّتى أنزلها الله من الجنّة لآدم (ع) (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) جواب عمّا قالوا : يا محمّد انّ الله يأمرك بالفساد؟! حين قطع النّخل (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) بغيظهم وحسرتهم على قطع نخيلهم في حضورهم (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) اى ردّه اليه.

اعلم ، انّ تمام ما سوى الله مملوك للحقّ تعالى شأنه نحو مملوكيّة القوى العلّامة والعمّالة للنّفس الانسانيّة بل نحو مملوكيّة الصّور الذّهنيّة للنّفس الانسانيّة وانّ الإنسان كلّما رقى مرتبة من المراتب الانسانيّة كان المرتبة الدّانية في عين مملوكيّته خليفة للمرتبة العالية مثلا إذا عرج الإنسان عن مقام النّفس الى مقام القلب صار مقام النّفس مملوكا للقلب وخليفة له في التّصرّف في القوى ، وصارت القوى كما انّها مملوكة للقلب مملوكة للنّفس بعد القلب وهكذا ، وانّ الله تعالى مالك لجميع ما سواه وبعده تعالى العقول مالكة لما دونها ، وبعدها النّفوس الكلّيّة مالكة ، وبعدها النّفوس الجزئيّة مالكة ، هذا في النّزول ، وامّا في الصّعود وهو مختصّ بالإنسان ، فاذا استكمل الإنسان واتّصل بعالم الملأ الا على صار مالكا لما دونه وخليفة لله فيما دونه فكلّما في عالم الطّبع فهو لله ، وما كان لله فهو لرسوله (ص) ، وما كان لرسوله (ص) فهو للائمّة (ع) ، وما كان للائمّة (ع) فهو مباح لشيعتهم كما قال تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، وما كان في أيدي الأغيار فهو مغصوب في أيديهم ، وما اخذه الرّسول (ص) والائمّة (ع) والمؤمنون منهم فهو حقّهم الّذى كان مأخوذا منهم غصبا وصار عائدا الى اهله الّذين كانوا مالكين له ولذلك سمّى فيئا (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) وجف يجف اضطرب ، والوجيف ضرب من سير الخيل والإبل (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) الخيل جماعة الافراس لا واحد له ، أو واحده الخائل ، ويطلق على جماعة الفرسان ، والرّكاب ككتاب الإبل واحدتها الرّاحلة ، قيل : نزلت هذه الآية في غنائم بنى النّضير والآية الآتية في سائر اموال الكفّار الّتى يفيئها الله على رسوله (ص) ، وقيل : كلتاهما نزلتا في غنائم بنى قريظة وبنى النّضير كانوا بقرب المدينة فمشوا الى قراهم سوى الرّسول (ص) فانّه ركب حمارا أو جملا ولم يجر مزيد قتال ولذلك لم يعط الأنصار منها شيئا الّا رجلين أو ثلاثة وفي غنائم خيبر وفدك ، وقرى عرينه وينبع ، والآية الاولى لبيان عدم استحقاق


المقاتلين بحقّ المقاتلة ، والآية الثّانية لبيان المصرف (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) اى ذي قربى الرّسول (ص) (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) من قرابات الرّسول (ص) وقد خصّص في الاخبار كلّ ذلك بأقرباء الرّسول (ص) (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) الدّولة بالفتح والضّمّ المال الّذى يتداولونه بينهم ، أو بالضّمّ في المال ، وبالفتح في الحرب ، أو بالضّمّ في الآخرة ، وبالفتح في الدّنيا ، كذا في القاموس (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) اى ما أعطاكم من غنائم بنى النّضير ، أو من مطلق الغنائم ، أو من مطلق الأموال والأوامر (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة الرّسول (ص) (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) عن الصّادق (ع) انّ الله عزوجل ادّب رسوله (ص) حتّى قومه على ما أراد ثمّ فوّض اليه فقال عزّ ذكره : ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فما فوّض الله الى رسوله (ص) فقد فوّضه إلينا ، والاخبار في تفويض امر ـ العباد الى رسول الله (ص) كثيرة وانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحلّ وحرّم أشياء فأجازه الله تعالى ذلك له (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) بدل من قوله لذي القربى ، أو بدل من مجموع قوله لله وللرّسول ويكون إبداله بالنّسبة الى الله ورسوله نحو بدل الاشتمال ، وبالنّسبة الى ذي القربى وما بعده نحو بدل الكلّ من الكلّ والمراد بالمهاجرين من هاجر من مكّة أو من سائر بلاد الكفر الى المدينة أو من هاجر السّيّئات الى الحسنات ، أو من هاجر من دار النّفس الامّارة الى دار النّفس اللّوامة ، ومنها الى النّفس المطمئنّة اللّتين هما دار الإسلام ، ومنها الى القلب الّذى هو دار الايمان (الَّذِينَ أُخْرِجُوا) صفة للفقراء أو ابتداء كلام ومبتدأ ويبتغون خبره ، أو أولئك هم الصّادقون خبره والجملة في مقام التّعليل ، ووضع الظّاهر موضع المضمر ليكون بعقد الوضع دالّا على علّة الحكم أيضا والمقصود انّهم أخرجهم الكفّار من مكّة أو من سائر بلادهم ، أو أخرجهم الملائكة من بلاد الكفر ، أو من مراتب نفوسهم وقال : اخرجوا دون خرجوا للاشعار بانّ الخارج من وطنه أو من مقام الى مقام ان لم يكن بحسب الظّاهر له مخرج فهو خارج بمخرج باطنيّ وليس خارجا بنفسه فيكون خروجه نعمة من ربّه (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ) في ذلك الخروج (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الفضل كما تكرّر ذكره النّعم الصّوريّة والرّسالة وأحكامها وقبولها ، والرّضوان الولاية وآثارها وقبولها (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) عطف على الفقراء المهاجرين أو على المهاجرين أو على الّذين اخرجوا أو مبتدء وخبره يحبّون من هاجر إليهم والجملة معطوفة على سابقتها والمعنى الّذين أقاموا في دورهم وهم الأنصار الّذين لم يكن لهم ان يخرجوا لهجرة الرّسول (ص) إليهم (وَالْإِيمانَ) يعنى أقاموا في الايمان فانّ الأوصاف كثيرا يحكم عليها بحكم الظّروف (مِنْ قَبْلِهِمْ) اى من قبل المهاجرين فيكون المراد الّذين آمنوا بمكّة ثمّ رجعوا الى المدينة وانتظروا قدوم محمّد (ص) ، أو المعنى تبوّأوا الدّار والايمان من قبل هجرة المهاجرين (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من المؤمنين المهاجرين لانّهم أحسنوا الى المهاجرين واسكنوهم دورهم واشركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) اى المهاجرين اى لا يجد الّذين تبوّأوا الدّار في أنفسهم حسدا أو غيظا لازما للحاجة والفقر ناشئا ممّا اوتى المهاجرون ، أو من أجل ما اوتى المهاجرون


من غنائم أهل القرى أو غنائم بنى النّضير ، أو ممّا أوتوا من الفضل الصّورىّ والمعنوىّ لتسليمهم لقسم الله وتوكّلهم على الله ورضاهم بما آتى الله العباد من الفضل الصّورىّ والمعنوىّ ، أو لا يجدون في صدورهم حاجة في شيء من الأشياء لأجل ما أوتوا من قوّة اليقين وقوّة التّوكّل واستغناء القلب فيكون حينئذ مرفوع أوتوا راجعا الى الّذين تبوّؤا الدّار (وَيُؤْثِرُونَ) المؤمنين المهاجرين (عَلى أَنْفُسِهِمْ) بان يقدّموا المؤمنين في حظوظهم النّفسانيّة وفي إفضال الله بحسب الظّاهر والباطن (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فقر وحاجة (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) يعنى من حفظه الله من شحّ نفسه والشّحيح أبلغ من البخيل فانّ البخيل من يبخل بما في يده ولا يعطيه لمستحقّه ، والشّحيح من يبخل بمال الغير بمعنى انّه يريد ان يكون ما في يد الغير له ويحتال في أخذ ما في يد الغير بالحلال أو الحرام ، وقيل : شحّ النّفس هو أخذ الحرام ومنع الزّكاة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) روى انّه جاء رجل الى رسول الله (ص) فشكا اليه الجوع فبعث رسول الله (ص) الى بيوت أزواجه فقلن : ما عندنا الّا الماء ، فقال رسول الله (ص) : من لهذا الرّجل اللّيلة؟ ـ فقال علىّ بن ابى طالب (ع): انا له يا رسول الله (ص) ، وأتى فاطمة (ع) فقال لها : ما عندك يا ابنة رسول الله؟ ، فقالت : ما عندنا الّا قوت العشيّة لكنّا نؤثر ضيفنا ، فقال يا ابنة محمّد (ص) نوّمى الصّبية وأطفئي المصباح ، فلمّا أصبح علىّ (ع) غدا على رسول الله (ص) فأخبره الخبر فلم يبرح حتّى انزل عزوجل : ويؤثرون على أنفسهم (الآية) ، وقيل : انّه أهدي لبعض الصّحابة رأس مشويّ وكان مجهودا فوجّه به الى جار له فتداولته تسعة ثمّ عاد الى الاوّل فنزل : ويؤثرون على أنفسهم. وقيل: قال رسول الله (ص) يوم بنى النّضير للأنصار : ان شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وان شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة فقال الأنصار : بل نقسّم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فنزلت الآية. وقيل : نزلت في سبعة عطشوا في يوم أحد فجيء بماء يكفى لأحدهم فقال واحد منهم : ناول فلانا حتّى طيف على سبعتهم وماتوا ولم يشرب أحد منهم ، فأثنى الله سبحانه عليهم بهذه الآية. (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) عطف على المهاجرين ، أو على الفقراء ، أو على من هاجر إليهم عطف المفرد ، أو مبتدأ وخبره يقولون والمعنى الّذين يجيئون من بعد المهاجرين من مكّة أو من سائر البلاد ، أو الّذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار من سائر المؤمنين من العدم الى الوجود (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) اى سبقونا في رتبة الايمان أو سبقونا في أصل الايمان والتّوصيف به لبيان وجه الأخوّة وانّها اخوة في الدّين (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) اى حقدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تجيب عبادك برأفتك (أَلَمْ تَرَ) يا محمّد (ص) أو من يمكنه الرّؤية (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) وهو عبد الله بن ابىّ (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعنى بنى النّضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) يعنى لا نطيع محمّدا (ص) وأصحابه في القتال معكم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وكان كذلك حيث وعدهم ابن ابىّ ثمّ تخلّف كما مضى (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) قضيّة فرضيّة فانّه لم يقع منهم نصر لهم (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) لانّهم لا يخافون من الله ويخالفونه ويخافون منكم ويوافقونكم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون علما دينيّا اخرويّا وكان ادراكاتهم محصورة على ظاهر


الدّنيا ولذلك لا يخافون من الله ويخافون منكم (لا يُقاتِلُونَكُمْ) ايّها المؤمنون (جَمِيعاً) اى المنافقون واليهود إذا اجتمعوا لا يقاتلونكم (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) لخوفهم منكم وهذه تجرئة للمؤمنين (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) ولكن لالقاء الرّعب في قلوبهم لا يجترءون على مقاتلتكم لا لضعف وجبن فيهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) كما انّ هذا شأن جميع أهل الدّنيا تكون أبدانهم مجتمعة وقلوبهم متفرّقة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) لا عقل لهم ، أو لا يدركون بعقولهم ، أو لا يتعقّلون ما فيه صلاحهم (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) متعلّق بواحد من الأفعال السّابقة ، أو خبر مبتدء محذوف والتّقدير مثلهم في ذلك كمثل الّذين من قبلهم والمراد بمن قبلهم بنو قينقاع ، أو الّذين قتلوا ببدر أو كلّ أبناء الدّنيا ، فانّ من كان من أهل الدّنيا حاله ان لا يفي بوعده ان لم يكن في الوفاء نفعه الدّنيوىّ وكان من يشاهدونهم اشدّ رهبة في صدورهم ممّن لا يشاهدونه وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى. قيل : انّ بنى قينقاع نقضوا العهد وقت رجوع رسول الله (ص) من بدر فأمرهم رسول الله (ص) ان يخرجوا قال عبد الله بن ابىّ : لا تخرجوا فانّى أتى الى النّبىّ (ص) فاكلّمه فيكم أو ادخل معكم الحصن ، فكان هؤلاء أيضا مغترّين بإرسال عبد الله بن ابىّ ثمّ ترك نصرتهم (قَرِيباً) اى حالكونهم قريبا منكم أو زمانا قريبا (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) متعلّق بقوله تعالى: من قبلهم ، أو بذاقوا أو بقوله لهم في لهم عذاب اليم ، أو خبر مبتدء محذوف والتّقدير مثل عبد الله بن ابىّ في غزوه بنى النّضير وبنى قينقاع كمثل الشّيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) قولا فعليّا أو قولا نفسانيّا (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) الإتيان بالماضي للاشعار بانّ المراد بذلك القول وهذا الإنسان قول شخصىّ وإنسان مشخّص لا القول النّوعىّ والإنسان الجنسىّ ، والّا كان المناسب ان يقول كمثل الشّيطان يقول للإنسان على الاستمرارا كفر ، ولعلّه اشارة الى تمثّله بصورة سراقة وإغراء المشركين على محمّد (ص) ببدر ، وقيل : انّه اشارة الى عابد بنى إسرائيل كان اسمه برصيصا ، عبد الله زمانا من الدّهر حتّى بلغ من عبادته الى ان يؤتى بالمجانين اليه وكان يداويهم ويعوّذهم ، فيبرءون ، وأتى بامرأة كانت في شرف في أهلها قد جنّت وكان لها اخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشّيطان حتّى وقع عليها فحملت فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فذهب الشّيطان فقال لإخوتها واحدا واحدا ، فجعل الرّجل يلقى أخاه فيقول : والله لقد أتانى آت فذكر لي شيئا يكبر علىّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والنّاس فاستذلّوه فاقرّ لهم بما فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشّيطان فقال : انا الّذى القتيك في هذا فهل أنت مطيعي فيما أقول لك اخلّصك ممّا أنت فيه؟ ـ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة فقال : كيف اسجد لك وانا على هذه الحالة؟ ـ فقال : اكتفى منك بالإيماء ، فأومى له بالسّجود فكفر بالله وقتل الرّجل (فَكانَ عاقِبَتَهُما) اى الشّيطان والإنسان الكافر بقوله أو عاقبة الفريقين من الممثّل له والممثّل به (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الاسلاميّة (اتَّقُوا اللهَ) في ارتكاب المناهي وترك الأوامر القالبيّة ، أو اتّقوا الله في نقض البيعة ونقض العهد كعبد الله بن ابىّ وبنى النّضير وبنى قينقاع ، أو اتّقوا الله في شوب الأعمال القالبيّة بالأغراض النّفسانيّة المباحة أو الغير المباحة ، أو المعنى يا ايّها الّذين آمنوا بالبيعة الايمانيّة الولويّة اتّقوا الله في الانحراف عن طريق القلب أو اتّقوا الله في نسيان الذّكر المأخوذ ، أو في نسيان الله في جميع أعمالكم ، أو المعنى يا ايّها الّذين آمنوا بالايمان الشّهودىّ بشهود ملكوت ولىّ الأمر ونزول السّكينة والحضور عند ولىّ أمركم اتّقوا الله في الالتفات الى غير ولىّ أمركم والالتذاذ


بغير شهود جماله فانّه ضيف عزيز غيور إذا نظرتم الى غيره أو انصرفتم الى لذّة غير لذّة شهود جماله لم يقم في بيوت قلوبكم وبقي لكم حسرة فراقه وندامته ، أو اتّقوا الله في نسبة الأفعال والصّفات الى أنفسكم حين حضوركم عند ولىّ أمركم (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) نكّر النّفس مع انّ المراد ولتنظر كلّ نفس ما قدّمت لغد لإيهام انّه إذا نظر نفس واحدة من المؤمنين الى اعماله يكفى عن سائر المؤمنين لاتّحاد بينهم ، أو للاشارة الى انّهم نفس واحدة وان كان أبدانهم متعدّدة لانّ فعليّتهم الاخيرة هي صورة ولىّ أمرهم النّازلة إليهم بالبيعة وقبول الولاية فعلى هذا يكون المعنى : ولتنظر نفس عظيمة هي صورة ولىّ أمرهم وهي فعليّتهم الاخيرة ما قدّمت لغد ، ويكون فيه اشارة الى انّ من ينظر الى اعماله الاخرويّة فلينظر بالفعليّة الاخيرة الّتى هي فعليّة الولاية حتّى يمكنه ان يميّز بين صحيحها وفاسدها مشوبها وخالصها ، مدّخرها لغده وراجعها الى النّفس والعاجل ، فانّ هذا التّميز امر صعب لا يحصل الّا للنّاقد البصير المخلص ، أو للاشارة الى انّ نفس ولىّ أمرهم نفسيّة الكلّ والمعنى ولتنظر نفس عظيمة ما قدّمت لغد بنفسها فانّ نظرها الى ما قدّمت هي يكفى عن نظر المؤمنين ، أو لتنظر نفس ولىّ الأمر ما قدّمت لغد اى ما قدّمت اتباعها لغد فانّ فعل الاتباع فعلى ولىّ الأمر بوجه ، والمعنى انّ ولىّ الأمر مأمور بان ينظر الى اعمال اتباعه ويجبر نقصانها وقال لغد مع انّ المراد ما قدّمت للقيامة للاشارة الى قربها ، ولانّ المراتب الطّوليّة كالايّام العرضيّة كلّ يجيء بعقب الاخرى وكلّ يخلف الاخرى ولانّ المراتب الطّوليّة كلّ بالنّسبة الى الاخرى يوم وليل باعتبارين كما سبق مكرّرا ، ونكّر الغد لتفخيمه وللاشارة الى انّه لا يمكن تعريفه للمحجوبين بحجاب المادّة ، ولفظة ما نافية ، والجملة صفة لنفس ، أو معلّق عنها العامل ، أو استفهاميّة ومعلّق عنها العامل ، أو موصولة ومفعول لتنظر (وَاتَّقُوا اللهَ) تأكيد لقوله اتّقوا الله أو النّظر منه الى مرتبة اخرى من التّقوى فانّ للتّقوى كما مرّ في اوّل البقرة وأشرنا اليه هاهنا مراتب عديدة مترتّبة ، أو المقصود منه ان تتّقوا الله بعد ما نظرتم الى أعمالكم الاخرويّة وميّزتم سقيمها عن سليمها ومشوبها عن خالصها في ان تفسدوها بالأغراض النّفسانيّة ، أو تشوبوها بالانتفاعات النّفسيّة ولو كانت تلك الانتفاعات القرب من الله أو رضاه أو المقامات الاخرويّة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيميز المشوب عن الخالص فهو تأكيد للتّقوى وتعليل للأمر بها (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) مطلقا فلا يعملون لغد ، أو لا تكونوا كالّذين نسوا الله فيما يعملون للآخرة فيجعلونها للدّنيا من حيث لا يشعرون (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الّتى هي جهاتهم الإلهيّة ولطيفتهم الانسانيّة فانّها ذواتهم وأنفسهم الانسانيّة ، وبنسيان أنفسهم ينسون ما ينفعها فلا يفعلون ما يفعلون الّا لأنفسهم الحيوانيّة لا لأنفسهم الانسانيّة فيكونون في الآخرة من الأخسرين أعمالا (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ، أو فأنساهم امامهم الّذى هو نفسيّة أنفسهم وبنسيان الامام لا يكون للإنسان الّا الوبال والخسران (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تعليل للسّابق (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) في مقام التّعليل كانّه قال : نهيناكم عن المماثلة معهم لانّه لا يستوي في القيامة النّاسون لأنفسهم والمتّقون لان النّاسين أصحاب النّار والمتّقين أصحاب الجنّة لكنّه عدل عن المضمر الى هذا الظّاهر لافادة انّهم أصحاب النّار وانّ المتّقين أصحاب الجنّة ، وللاشارة الى علّة عدم الاستواء (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) ويستفاد من حصر الفوز بأصحاب الجنّة بقرينة المقابلة انّ أصحاب النّار هم الخاسرون المعذّبون (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) مع صلابته وعظمته (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وقد أنزلناه عليكم وأنتم ضعفاء ليّنون وما خشعتم وما تصدّعتم من خشية الله ، وهذه قضيّة فرضيّة وتعريض ببني آدم (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) الفرضيّة (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في أحوالهم


وينظرون الى قساوتهم ويتدبّرون في تليين قلوبهم (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كلام منقطع عن سابقه والمنظور إثبات التّوحيد الّذى هو المنظور من كلّ منظور ومبدء كلّ مبدء وغاية كلّ غاية والثّناء عليه وتعداد محامده (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اى عالم بما غاب عن الخلق وبما كان مشهودا لهم ، أو عالم بعالم الغيب وعالم الشّهادة (هُوَ الرَّحْمنُ) المفيض للوجودات وللكمالات الاوّليّة على الموجودات (الرَّحِيمُ) المفيض للكمالات الثّانويّة عليها ، أو الرّحمن هو المفيض لاصل الوجود وجميع كمالاته على الأشياء والمفيض للوجود وكمالاته الاولويّة على الإنسان ، والرّحيم هو المفيض للكمالات الثّانية على الإنسان وقد سبق معناهما مفصّلا في سورة فاتحة الكتاب (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لمّا كان المنظور التّوحيد وتعداد المحامد أتى بهذه الجملة بدون العاطف بنحو التّعداد ، وفي هذه اشارة الى تعليل السّابق وهو باعث لترك العاطف أيضا وهي تأكيد للأولى وهو أيضا باعث لترك العاطف (الْمَلِكُ) الّذى يتصوّر كونه ملكا بتصوير كون النّفس ملكا لقواها بل لصورها الذّهنيّة وبذلك يثبت كونه رحمانا رحيما وكونه عالما بالغيب والشّهادة (الْقُدُّوسُ) الّذى كان منزّها عن الكثرات ، ونسبة الأفعال والصّفات ، ولحاظ تلك النّسب والحيثيّات ، وقد مضى في اوّل البقرة عند قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) بيان وتفصيل للتّسبيح والتّقديس ، وقرئ قدّوس بفتح الفاء وهما لغتان فيه والصّيغة للمبالغة مثل سبّوحا مفتوحا ومضموما (السَّلامُ) السّالم من كلّ نقص وعيب ومن كلّ أنحاء الكثرات والحدود والنّسب والإضافات الّا في اعتبار المعتبرين ، والسّالم من تمسّك به من كلّ اثم وذنب وخطاء ، والسّالم من خاف منه من كلّ امر مخوف ، والسّالم عباده من ظلمه (الْمُؤْمِنُ) الّذى آمن خلقه عن ظلمه ، أو آمن خلقه من المخوفات ، أو جعل عباده أمناء ، أو امن بنفسه قبل ايمان خلقه ، أو دعا خلقه الى الايمان به (الْمُهَيْمِنُ) هيمن قال أمين مثل أمّن ، وهيمن الطّائر على فراخه رفّ ، وهيمن على كذا صار رقيبا عليه ، والمهيمن من أسمائه تعالى بمعنى المؤتمن ، أو من آمن غيره من الخوف ، أو الأمين ، أو الشّاهد ، أو الرّقيب ، وقيل : هو مؤامن بهمزتين قلبت الثّانية ياء ثمّ الاولى هاء (الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يغلب أو ذو المناعة والتّأنّف (الْجَبَّارُ) الّذى يجبر كلّ كسر ونقص وقصور وتقصير من عباده ، أو من سائر خلقه ، أو العظيم الشّأن ، أو الّذى يذلّ من دونه ولا تناله يد غيره (الْمُتَكَبِّرُ) البالغ في كبره بحيث لا يبقى عنده جليل ولا حقير (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأصنام والكواكب والعناصر وسائر المواليد لعدم بقاء شيء عند كبره (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) تعداد للمدائح وتعليل للسّابق ، والخالق هو الّذى أوجد مادّة الشّيء اوّلا ، والبارئ هو الّذى سوّاه وأوجده على ما ينبغي ، والمصوّر هو الّذى يعطى كلّه وكلّ اجزائه صورا لائقة بحالها (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الاسم كما سبق في اوّل الفاتحة وفي اوّل البقرة عند قوله : (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) للاختصاص له بالاسم اللّفظىّ بل كلّما يدلّ على شيء آخر هو اسم لذلك الشّيء سواء كان دلالته وضعيّة أم طبعيّة أم عقليّة ، وسواء كان الدّالّ لفظا أو معنى أو ذاتا جوهريّا ، والاسم الحسن هو الّذى لا يكون في إطلاقه على الله وفي دلالته عليه شوب نقص وعدم وحدّ ، وهذه العبارة تفيد بتقديم له ومعناه حصر الأسماء الحسنى فيه وذلك لحصر الصّفات العليا فيه ، وبمفهوم مخالفة الصّفة تفيد عدم جواز اطلاق الأسماء السّوءى عليه ، والأسماء السّوءى ما كان دلالته أو إطلاقه عليه تعالى مستلزما للنّقص والحدّ ، والجملة في مقام التّعليل لاتّصافه تعالى بالأسماء السّابقة ، وقد مضى في سورة الأعراف عند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تفصيل لهذه العبارة (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لمّا كان السّورة لبيان توجّه الأشياء اليه تعالى ، وتوجّهه


تعالى بالتّربية إليهم ختم السّورة بما فتحها به وجعله تعليلا لقوله تعالى : له الأسماء الحسنى فانّ تمام الأسماء الاضافيّة والأسماء الحقيقيّة تستفاد من تسبيح جميع الأشياء له ، وقوله : هو العزيز الحكيم تعليل وتأكيد لما يستفاد من تسبيح الأشياء له فانّه لا يتصوّر ان تكون الأشياء مسبّحة له تعالى الّا إذا كان هو الفعليّة الاخيرة للأشياء وكان قوام جميع الأشياء به ، وهذا المعنى يستلزم جميع الصّفات السّلبيّة والاضافيّة والحقيقيّة ذات الاضافة والحقيقة المحضة.

سورة الممتحنة

مدنيّة ، وثلاث عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) قيل : نزلت في خاطب بن ابى بلتعة وذلك انّ مولاة ابى عمرو أتت رسول الله (ص) من مكّة الى المدينة بعد بدر بسنتين فقال لها رسول الله (ص) : أمسلمة جئت؟ ـ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ ـ قالت : احتجت حاجة شديدة فأتيتكم لترفعوا حاجتي ، قال : فأين أنت من شبّان مكّة؟ ـ وكانت مغنيّة نائحة قالت : ما طلب منّى أحد بعد وقعة بدر فحثّ رسول الله (ص) عليها بنى عبد المطّلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة ، وكان رسول الله (ص) يتجهّز لفتح مكّة فأتاها خاطب بن ابى بلتعة وكتب معها كتابا الى أهل مكّة وأخبرهم انّ محمّدا (ص) يريدهم ، فخرجت سارّة ومعها الكتاب وكانت كتمته في ذؤابتها ، فنزل جبرئيل فأخبر النّبىّ (ع) فبعث رسول الله (ص) عليّا وعمّارّا وعمر والزّبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلّهم فرسانا ، وقال لهم : انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ وخذوا الكتاب منها ، فخرجوا الى ذلك المكان فوجدوها به فقالوا لها : اين الكتاب؟ ـ فحلفت بالله ما معها كتاب ففتّشوها فلم يجدوا معها كتابا فهمّوا بالرّجوع ، فقال علىّ (ع) : والله ما كذب رسول الله (ص) وسلّ سيفه وقال : اخرجى الكتاب والّا والله لاضربنّ عنقك فأخرجته من ذؤابتها فرجعوا بالكتاب الى رسول الله (ص) ، فقال لخاطب : ما حملك على ما صنعت؟ ـ قال : يا رسول الله (ص) والله ما كفرت منذ أسلمت ولاغششتك منذ نصحتك ولكن لم يكن أحد من المهاجرين الّا وله بمكّة من يمنع عشيرته وكنت غريبا وكان أهلي بين ظهرانيّهم فخشيت على أهلي فأردت ان اتّخذ عندهم يدا وقد علمت انّ كتابي لا يغني عنهم شيئا (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكّة (أَنْ تُؤْمِنُوا) لان تؤمنوا (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) شرط تهييجىّ (تُسِرُّونَ) تلقون (إِلَيْهِمْ) في السّرّ أو تظهرون إليهم في السّرّ (بِالْمَوَدَّةِ) أو تعلمونهم في السّرّ من أحوال الرّسول (ص) بسبب المودّة الّتى بينكم وبينهم (وَأَنَا أَعْلَمُ) فعل أو افعل التّفضيل (بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) فاطلع رسولي عليكم (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) وهو الصّراط الانسانىّ يعنى ضلّ سواء السّبيل الى الطّرق الشّيطانيّة (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) في موضع التّعليل (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بالقتل والضّرب والشّتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطف على جملة الشّرط والجزاء (لَنْ تَنْفَعَكُمْ


أَرْحامُكُمْ) الّذين تخالفون رسول الله (ص) بسببهم (وَلا أَوْلادُكُمْ) والجملة جواب لسؤال مقدّر عن كيفيّة انتفاعهم بأرحامهم أو عن علّة هذا القول (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لقوله لن تنفعكم أو لما بعده (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) اى يفرّق بينكم يوم القيامة بشدّة الهول والخوف بحيث يفرّ كلّ من كلّ ، وقرئ يفصل مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول من الثّلاثىّ المجرّد ومن التّفعيل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على ما عملتم فلا نجاة لكم من قبل أرحامكم ولا من قبل الله تعالى (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) اقتداء حسن أو خصلة حسنة ينبغي ان يقتدى بها (فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا) بدل من إبراهيم أو تعليل أو ظرف لقوله معه (لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) اى تبرّأنا منكم فانّ الكفر هاهنا كما في الخبر بمعنى البراءة (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) يعنى بغضنا لكم بغض لله وبغضكم لنا بغض للشّيطان (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فحينئذ ينقلب العداوة محبّة والفة (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) استثناء من إبراهيم استثناء متّصلا في كلام تامّ أو استثناء مفرّغ والتّقدير لكم أسوة حسنة في إبراهيم في كلّ شيء منه الّا في قول إبراهيم (ع) (لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فانّ هذا القول كان لموعدة وعدها ايّاه والّا كان متبرّء منه (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) اى من قبل الله أو من رحمة الله أو من عذاب الله (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) اشارة الى الفناءات الثّلاثة ، فانّ التّوكّل ليس الّا بترك نسبة الفعل الى النّفس ، والانابة حينئذ تكون بترك نسبة الصّفات ، وإليك المصير اشارة الى فناء الذّات ، هذه الجمل من مقول القول الاوّل ومن جملة ما يتأسّى به (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) اى لا تجعلنا امتحانا أو ضلالا أو إثما أو كفرا أو فضيحة أو عذابا أو اضلالا يعنى لا تجعلنا سبب ذلك لهم ، أو لا تجعلنا ممتحنين لأجل عذاب الّذين كفروا ، أو لأجل هداية الّذين كفروا ومعنى كونهم سببا لفتنة الّذين كفروا ان يجعلهم بحال من الفقر والحاجة أو من الابتلاء والمصيبة أو من ارتكاب ما لا ينبغي ان يرتكبوا من المعاصي أو من اختلاف الكلمة والنّزاع بينهم ، أو من موالاة الكفّار أو اتّباعهم في بعض ما لهم ، أو من المعارضة معهم ، أو من المجادلة معهم والضّعف عن جوابهم يستهزئ بهم أو يغتابون أو يعارضون أو يشتمون أو ينفر منهم ومن دينهم أو يقاتلون ، وقيل : معناه ولا تسلّطهم علينا فيفتنونا عن دينك ، وقيل : الطف بنا حتّى نصبر على أذاهم ولا نتّبعهم فنصير فتنة لهم ، وروى عن الصّادق (ع) انّه قال : ما كان من ولد آدم (ع) مؤمن الّا فقيرا ولا كافرا الّا غنيّا حتّى جاء إبراهيم (ع) فقال : ربّنا لا تجعلنا فتنة للّذين كفروا ، فصيّر الله في هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة أقول على المؤمنين ان يشكروا إبراهيم (ع) ولا ينسوا منّته الّتى منّها عليهم (وَاغْفِرْ لَنا) ما فرّط منّا حتّى لا تؤاخذنا بذلك فتجعلنا فتنة لغيرنا (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب المنيع (الْحَكِيمُ) الّذى تعلم دقائق الأمور وتتقن الصّنع مشتملا على غايات دقيقة انيقة (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) في إبراهيم (ع) وقومه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كرّره للتّأكيد والتّرغيب ولتخصيصه بمن كان يرجوا لله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يعنى هذه الاسوة مختصّة بمن كان يرجوا لله وامّا غيره فلا يتأسّى (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن التّأسّى منكم فلا يضرّ الله شيئا وانّما أمركم بالتّأسّى ترحّما عليكم (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) حمد أم لم يحمد (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) جواب


لسؤال مقدّر (وَاللهُ قَدِيرٌ) على ان يبدّل المعاداة والتّبرّى محبّة وموالاة (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر ما صدر منهم من معاداتكم بجهالة وما صدر منكم من موالاتهم بجهالة (رَحِيمٌ) يرحمهم ويرحمكم فضلا عن مغفرته لكم ، في خبر عن الباقر (ع): قطع الله ولاية المؤمنين من قومهم من أهل مكّة وأظهروا لهم العداوة فقال : عسى الله ان يجعل بينكم وبين الّذين عاديتم منهم مودّة فلمّا أسلم أهل مكّة خالطهم أصحاب رسول الله (ص) وناكحوهم وتزوّج رسول الله (ص) حبيبة بنت ابى سفيان بن حرب (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل عن الّذين لم يقاتلوكم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) بتضمين تقضوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل عن الّذين قاتلوكم أو التّقدير كراهة ان تولّوهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع الولاية غير موضعها بل موضع العداوة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ابتداء كلام وأدب آخر للمؤمنين ولذلك صدّره بالنّداء جبرانا لكلفة التّأديب وتنشيطا في الاستماع (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) بان تختبروا موافقة قلوبهنّ لالسنتهنّ بان يحلفن ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من ارض الى ارض ولا التماس دينا وما خرجن الّا حبّا لله ، وعلى هذا كان معنى مؤمنات مذعنات ومصدّقات ، أو مشرفات على الإسلام ، قيل : صالح رسول الله (ص) بالحديبيّة على انّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم ، ومن أتى أهل مكّة من أصحاب رسول الله (ص) لم يردّوه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنّبىّ (ص) بالحديبيّة فأقبل زوجها مسافر من بنى مخزوم في طلبها وكان كافرا فقال : يا محمّد اردد علىّ امرأتى فانك قد شرطت اليوم ان تردّ علينا من أتاك منّا ، فنزلت الآية فأعطى رسول الله (ص) زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه فزوّجها عمر بن الخطّاب وكان رسول الله (ص) يردّ من جاءه من الرّجال ويحبس من جاءه من النّساء ، إذا امتحنّ (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) وانّما يأمركم بالامتحان ليظهر عليكم أيضا ايمانهنّ (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) في موضع التّعليل (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) روى انّه قيل للصّادق (ع): انّ لأمر أتى أختا عارفة على رأينا بالبصرة وليس على رأينا بالبصرة الّا قليل فازوّجها ممّن لا يرى رأيها؟ ـ قال: لا ، ولا نعمة ؛ انّ الله يقول : فلا ترجعوهنّ الى الكفّار (الآية) (وَآتُوهُمْ) اى آتوا الكفّار (ما أَنْفَقُوا) على تلك النّساء من المهر وغيره (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) ترخيص لهم في نكاحهنّ بعد اسلامهنّ (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مهورهنّ سمّاها اجورا لانّ المهر أجر لبذل البضع ، وهذا يدلّ على عدم الاكتفاء في مهورهنّ بمهورهنّ الاولى المردودة الى أزواجهنّ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) يعنى كما انّ المؤمنات لا يحللن للكفّار فكذلك المؤمنون لا يحلّون للكافرات ، والعصم جمع العصمة بكسر العين وقد يضمّ القلادة ، وهذه الآية كما تدلّ على حرمة المشركات تدلّ على حرمة الكتّابيّات (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) ان لحقت منكم امرأة بالكفّار (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) يعنى إذا كان بينكم معاهدة فاسئلوا أنتم ما أنفقتم وليسألوا أيضا ما أنفقوا ولا ترجعوا النّساء الملحقات بكم منهم إليهم ولا تستردّوا الملحقات بهم منكم (ذلِكُمْ) المذكور من حكم الملحقات بهم وبكم (حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) به


(وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمصالح والغايات المترتّبة على الأفعال والأحكام (حَكِيمٌ) لا يفعل فعلا الّا بغايات محكمة نافعة ولا يحكم حكما الّا لمصالح عديدة وغايات شريفة (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ) اى واحدة (مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) اى راجعة الى الكفّار (فَعاقَبْتُمْ) اى فأصبتم من الكفّار عقبى اى غنيمة (فَآتُوا) ايّها المؤمنون (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) من الغنيمة الّتى أصبتم أو المعنى فعاقبتم على نساء أخر فأتوا ايّها المؤمنون من بيت مال المسلمين الّذين ذهبت أزواجهم ما أنفقوا ، وقيل : عاقبتم الكفّار لسبى النّساء منهم أو بأخذ الغنيمة أو بإتيان النّساء منهم إليكم مؤمنات (وَاتَّقُوا) ايّها المؤمنون من عدم إعطاء ما أنفقوا (اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) قيل : كانت لحق المشركين من نساء المؤمنين ستّ نسوة فأعطى النّبىّ (ص) أزواجهنّ مهورهنّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) خصّ الخطاب والنّداء به لاختصاص الحكم به فانّه كان يأخذ البيعة من الرّجال والنّساء دون غيره (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) اى المذعنات أو المشرفات على الإسلام (يُبايِعْنَكَ) لمّا كان زمان بعثة الرّسول (ص) زمان فترة من الرّسل (ع) واندراس من أحكامهم وكان النّاس بالأخذ من الآباء والمعلّمين منتحلين لملّتهم وكان البيعة الّتى كانت أصل جملة الخيرات ولم يكن شريعة ولم يصدق ملّة الّا بها مندرسة ممحّوا أثرها من الأذهان ، بل كانت غريبة في انظارهم مستهجنة في عقولهم الجزئيّة وكان الرّجال بعد مشاهدة هذه الفعلة من الرّسول (ص) وأخذ البيعة من كلّ من أراد الإسلام أيقنوا انّهم إذا أرادوا الإسلام وجب عليهم هذه الفعلة ، وامّا النّساء فكأنّه خفىّ عليهنّ وجوبها وكأنّهنّ اعتقدن انّ الإسلام بان يقلن : لا اله الّا الله ، محمّد رسول الله (ص) ، ولم يعلمن انّ الإنسان بهذه الكلمة في أمان فامّا الإسلام فلا يتحقّق الّا بالبيعة أظهر الله تعالى كيفيّة بيعتهنّ تعريضا بوجوبها عليهنّ أيضا (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأشياء أو لا يشركن شيئا من الإشراك (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) بالوأد (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) قيل : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك كنّى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الّذى تلصقه بزوجها كذبا لانّ بطنها الّذى تحمله فيه بين اليدين وفرجها الّذى تلده به بين الرّجلين ، وليس المعنى نهيهن عن الإتيان بولد من الزّنا لانّ الشّرط بنهي الزّنا قد تقدّم ، وقيل : البهتان الّذى نهين عنه قذف المحصنات والكذب على النّاس ، واضافة الأولاد الى الأزواج على البطلان ، يعنى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ذلك في الحاضر والمستقبل من الزّمان (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) يعنى لا يعصينك فيما أمرت به فانّه ليس الّا معروفا (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

اعلم ، انّ البيعة الّتى كانت معمولة في جميع الشّرائع كانت بمنزلة الانفحّة للبن الوجود وما لم تتّصل الانفحّة باللّبن لم ينعقد وبمنزلة التّأبير لثمر النّخل ما لم يؤبّر النّخل لم يحمل الثّمر وبها يحصل اللّبّ لجوز الوجود وفستقه ، وبمنزلة الوصلة من الشّجر الحلو على الشّجر المرّ ما لم يتّصل من الشّجر الحلو وصلة بالشّجر المرّ لم يصر ثمره حلوا ، ولذلك كانوا في كلّ شريعة من اوّل الأمر مهتمّين بالبيعة ، قيل : كان النّبىّ (ص) يبايع النّساء بالكلام بهذه الآية : وما مسّت يد رسول الله (ص) يد امرأة قطّ الّا امرأة يملكها ، وروى انّه كان إذا بايع النّساء دعا بقدح ماء فغمس فيه يده ويقول ما قاله الله تعالى ثمّ اخرج يده ثمّ غمسن ايديهنّ فيه ، وقيل : انّه كان يبايعهنّ من وراء الثّوب ، وقيل : الوجه في بيعة النّساء مع انّهنّ لسن من أهل النّصرة بالمحاربة هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح شأنهنّ في الدّين والأنفس والأزواج ، وكان ذلك في صدر الإسلام ، ولئلّا ينفتق لهنّ فتق لما صنع من الأحكام فبايعهنّ النّبىّ (ص) حسما لذلك


(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمّا لم يكن هذا الحكم خاصّا بالنّبىّ (ص) خاطب جميع المؤمنين (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قيل : كان فقراء المسلمين يخبرون اليهود اخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهى الله عن ذلك (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) اى الكفّار الّذين هم جنس أهل القبور من الآخرة ، أو كما يئس الكفّار من وصول خير من أهل القبور إليهم ، أو كما يئس الكفّار من ان يحيى أهل القبور.

سورة الصّف

مدنيّة ، وهي اربع عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) قيل : نزلت في قوم كانوا يقولون إذا لقينا العدوّ لم نفرّ ولم نرجع عنهم ثمّ لم يفوا يوم أحد ، وقيل : نزلت في قوم قالوا : جاهدنا وأبلينا وفعلنا ولم يفعلوا ، وقيل : نزلت في المؤمنين فانّهم بعد ما سمعوا ثواب شهداء بدر قالوا : لو لقينا قتالا جهدنا غاية جهدنا ولم نفرّ ، وقيل : انّ المسلمين قالوا : لو علمنا احبّ الأعمال لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فأنزل الله انّ الله يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفّا فلم يفوا يوم أحد وقال القمّىّ : نزلت في الّذين وعدوا محمّدا (ص) ان لا ينقضوا عهده في أمير المؤمنين (ع) فعلم الله انّهم لا يفون بما يقولون وقد سمّاهم الله المؤمنين بإقرارهم وان لم يصدّقوا.

اعلم ، انّ القول هاهنا اعمّ من القول اللّسانىّ والقول النّفسانىّ اى الاعتقاد الجنانىّ ، وامّا الخطرات والخيالات الّتى تقذف في قلوب النّاس من غير عزم منهم عليها فهي ليست أقوالا لهم بل هي واردة عليهم من الشّيطان أو الملك فهي أقوال الشّيطان أو الملك ، وهذا القول اعمّ من ان يكون في الأحكام الالهيّة بان يقول الإنسان بنحو الإفتاء أو التّقليد حكما من الأحكام ولا يفعل به ، وفي الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر بان يأمر غيره ولا يأتمر وينهى ولا ينتهى ، وفي المواعظ والنّصائح بان يعظ وينصح بما لم يفعله ، وقد ابتلى بالاوّل والثّانى المجتهدون الّذين نصبوا أنفسهم لبيان احكام العباد ، والمقلّدون الّذين نصبوا أنفسهم لذلك ، وبالثّالث القصّاص والوعّاظ وان كان لا يخلوا من الثّلاثة أكثر النّاس ولو بالنّسبة الى من تحت يده ، وفي المواعيد والعقود والبيعة الاسلاميّة والايمانيّة ، فانّه ورد عن الصّادق (ع): عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له فمن اخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرّض ، وذلك قوله : يا ايّها الّذين آمنوا (الآيتين) وعن علىّ : الخلف يوجب المقت عند الله وعند النّاس قال الله تعالى : كبر مقتا عند الله (الآية) وفي الصّنائع والحرف فانّ صاحب الحرفة إذا قال : ينبغي لصاحب الصّنعة ان يكون صنعته كذا وكذا ، أو قال : الصّنعة إذا كانت كذا وكذا كان المصنوع محكما وكان أبقى ولم يكن يفعل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) مصطفّين تعليل لقوله : لم تقولون ما لا تفعلون على ما بيّن من نزوله في الّذين تمنّوا القتال والجهاد ثمّ لم يثبتوا في أحد أو مطلقا ، فانّ توفيق الفعل للقول يحتاج الى كثير جهاد مع النّفس والشّيطان (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) الرصّ اتّصال بعض البناء


ببعض واستحكامه ، وعن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : انّ الله يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفّا ، أتدرون ما سبيل الله؟ ومن سبيله؟! انا سبيل الله الّذى نصبني للاتّباع بعد نبيّه (ص) (وَإِذْ قالَ مُوسى) اى ذكّرهم إذ قال موسى (ع) (لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) حتّى يتذكّروا بقبح فعل قوم موسى (ع) وغايته المترتّبة عليه فارتدعوا من ايذائك أو إيذاء عترتك بعدك (فَلَمَّا زاغُوا) عن الحقّ (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الاستقامة الانسانيّة وجعلهم منكوسا رؤسهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تعريض بمن خرج عن قول الرّسول (ص) في حقّ علىّ (ع) أو مطلقا ، يعنى من لا يهديه الله لا يقبل الحقّ ولو أتى بألف آية والله لا يهدى القوم الفاسقين وانّكم يا قوم محمّد (ص) فسّاق بالخروج عن قوله وعدم طاعته (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) يعنى ذكّرهم حتّى يتذكّروا بحقّيّتك ولا يخرجوا من طاعتك (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) والاخبار في تبشير الأنبياء (ع) وأخبارهم بظهور محمّد (ص) وبعثته أكثر من ان تحصى ، ونسب الى الباقر (ع) انّ اسم النّبىّ (ص) في صحف إبراهيم (ع) الماحي وفي توراة موسى (ع) الحادّ ، وفي إنجيل عيسى (ع) احمد (ص) ، وفي القرآن محمّد (ص) ، ونقل انّه سأل بعض اليهود رسول الله : لم سمّيت احمد؟ ـ قال : لانّى في السّماء احمد منّى في الأرض (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) ظاهره منزل في منكري محمّد (ص) ورسالته ومعجزاته وقولهم : انّ الأنبياء (ع) أوصوا ان لا نؤمن برسول حتّى يكون كذا وكذا ، أو قالوا لنا : لا نبىّ بعدنا لكنّ التّعريض بمن ادّعى الخلافة بعد الرّسول (ص) وادّعوا ذلك من الرّسول (ص) أو من الله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بوضع الولاية غير موضعها وبادّعاء الخلافة من غير استحقاق ، ويدلّ على انّ المراد بها التّعريض بمدّعى الخلافة ومنكري علىّ (ع) قوله تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) لانّ نور الله هو الولاية وفسّر في آيات أخر بعلىّ (ع) (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بالولاية ، عن الكاظم (ع) يريدون ليطفؤا ولاية أمير المؤمنين (ع) بأفواههم والله متمّ الامامة لقوله : الّذين (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) ، فالنّور هو الامام ، وقيل: والله متمّ نوره يعنى بالقائم من آل محمّد (ص) إذا خرج يظهره الله على الدّين كلّه حتّى لا يعبد غير الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) اى الرّسالة والإسلام الّذى هو ما به الهداية الى الامام والايمان (وَدِينِ الْحَقِ) اى الطّريق الى الله الّذى هو سبب للوصول الى الحقّ ، أو مسبّب عن الحقّ الّذى هو الولاية المطلقة ، والطّريق الى الله بهذا الوصف علىّ (ع) وولايته (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) يعنى على جنس الأديان والطّرق المختلفة ، ولمّا أراد الجنس المستغرق اكّده بقوله (كُلِّهِ) فانّ طرق النّفس الى الشّيطان كثيرة والطّريق الى الله واحد وهو طريق الولاية وإذا تمسّك الإنسان به على ما ينبغي ظهر وغلب طريق الولاية على جميع الطّرق بحيث لا يبقى للطّرق الشّيطانيّة اثر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) بالولاية وقد سبق في سورة التّوبة هذه الآية مع بيان لها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بالبيعة العامّة ، ولمّا أراد ان يأمرهم بالايمان والبيعة الثّانية وكان ذلك شاقّا على بعض تلطّف بهم وناداهم جبرانا لكلفة هذا الأمر ولذلك أدّى الأمر بصورة الاستفهام والدّلالة على التّجارة المنجية من العذاب الأليم ليتهيّؤا لسماعه ويستعدّوا لقبوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ)


بالايمان الخاص والبيعة الايمانيّة الولويّة (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ) ببذل الأموال الّتى هي كلّ ما ينسب الى الإنسان (وَأَنْفُسِكُمْ) ببذلها بحيث لا يبقى لكم أنفس ولا ما ينسب الى أنفسكم وتؤمنون جواب لسؤال مقدّر لبيان التّجارة (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى ان كنتم من أهل العلم علمتم ذلك ، أو ان كنتم تعلمون ذلك اخترتم ذلك (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) مجزوم في جواب الشّرط يعنى ان كنتم تعلمون ذلك يغفر لكم لانّ العلم يجذب الى العمل واختيار المعلوم ، واختيار المعلوم مورث لمغفرتكم ، أو في جواب تؤمنون فانّه في معنى آمنوا ، أو في جواب الاستفهام والمعنى هل ادلّكم ان ادلّكم يغفر لكم فانّ دلالتي ليست الّا بتوجّهى والتفاتى إليكم ، وتوجّهي والتفاتى إليكم مورث لتغيير أحوالكم ورغبتكم الى العمل والآخرة وهي تورث مغفرتكم (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) اى جنّات الاقامة وهي اخرى الجنّات (ذلِكَ) المذكور من المغفرة وإدخال الجنّات أو إدخال جنّات عدن (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرى تُحِبُّونَها) اى لكم خصلة اخرى تحبّونها ، أو تعطون نعمة اخرى ، أو هل ادلّكم على تجارة اخرى ويكون المعنى هل ادلّكم على ربح آخر لتجارتكم ، أو اخرى مبتدء وخبره (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) في الدّنيا بظهور القائم (ع) كما عن القمّىّ ولمّا كان جلّ أصحاب الرّسول (ص) طالبين للظّفر والغنيمة وإعلاء الكلمة قال : اخرى تحبّونها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالظّفر على جنود النّفس بظهور القائم (ع) ونصرة الله فانّ الايمان يقتضي النّصرة لا محالة بمنطوق : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (الآية) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة الولويّة (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) لمّا كان اللّطيفة الانسانيّة الفطريّة واللّطيفة الولويّة الّتى هي انسانيّة اختياريّة مظهر الله تعالى ، ونصرته بالعلوم الاخرويّة والأعمال الصّالحة تكون نصرة لله وكان خليفة الله أيضا مظهرا لله ونصرته تكون نصرة لله أراد بنصرة الله نصرة تلك اللّطيفة وذلك الخليفة ، وأدّاه بنصرة الله للاشعار بانّ نصرتهما نصرة لله في الحقيقة (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) يعنى قلنا لكم كونوا أنصار الله كما قال عيسى (ع) ، أو المعنى قل يا محمّد (ص) : يا ايّها الّذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى (ع) ، أو كما قال عيسى متعلّق بكونوا أنصار الله ويكون المشبّه به كون الحواريّين أنصار الله (لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) قد مضت هذه الآية في سورة آل عمران مع بيان لها (فَآمَنَتْ) بعد قول عيسى بن مريم (ع) (طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) يعنى بالله بواسطة عيسى أو بعيسى (ع) بعد قوله هذا (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) يعنى غالبين وهذه تسلية للرّسول (ص) وتبشير وتسلية للمؤمنين وتهديد للكافرين من أمّة محمّد (ص).

سورة الجمعة

مدنيّة ، احدى عشرة آية.


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قد مضى وجه الأداء بالماضي في السّور السّابقة ، والإتيان بالمضارع في هذه السّورة وفي التّغابن (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) قد مضى بيان قدسه تعالى والفرق بينه وبين تسبيحه في البقرة عند قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) التّوصيف بهذه الأوصاف لبيان علّة تسبيح الأشياء تماما له ، وقرئ الكلّ بالرّفع على المدح (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) كلام منقطع عن سابقه وبيان للامتنان على أمّة محمّد (ص) وتمهيد للتّعريض الآتي (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قد مضى بيان لهذه الآية ووجه تقديم التّزكية على التّعليم فيها ، ووجه تقديم التّعليم على التّزكية في دعاء إبراهيم (ع) بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) من الامّيّين أو من جنسهم من سائر النّاس من الأعاجم وهو عطف على الامّيّين أو على مفعول يعلّمهم والمراد بالآخرين التّابعون وتابعوا التّابعين الى يوم القيامة ، أو غير أهل مكّة من أهل العالم من الفارس والتّرك والرّوم ، أو المراد بالآخرين آخرون في الرّتبة ، وروى انّ النّبىّ (ع) قرأ هذه الآية فقيل له : من هؤلاء؟ ـ فوضع يده على كتف سلمان رحمه‌الله وقال : لو كان الايمان في الثّريا لنالته رجال من هؤلاء (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وسيلحقون بهم الى يوم القيامة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذلِكَ) اى بعث رسول من جنس البشر أو بعث مثل محمّد (ص) الّذى يزكّيهم ثمّ يعلّمهم الكتاب والحكمة (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من الأمم فيكون منّة منه تعالى على أمّة محمّد (ص) ، أو ذلك الرّسالة وتذكير اسم الاشارة باعتبار الخبر كأنّه قال : ذلك الفضل الّذى هو الرّسالة والنّبوّة فضل الله يؤتيه من يشاء من افراد البشر (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فيعطى أزيد من ذلك أو لا ينقص من فضله شيء بإيتاء الرّسالة للمستحقّين أو ذو الفضل العظيم على النّاس ببعثة محمّد (ص) فيهم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) حملهم التّوراة انبياؤهم وعلماؤهم بان علّموهم التّوراة وكلّفوهم العمل بها ، وهذا بيان لحال اليهود وذمّ لهم لكنّه تعريض بمنافقى أمّة محمّد (ص) الّذين لم يقرّوا بعلىّ (ع) والّذين لم يعملوا بالقرآن (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) بان لم يعملوا بها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) في كلفة الحمل والتّعب فيها وعدم الانتفاع بها بل التّضرّر بثقلها وتعب حملها ، فمن تعلّم القرآن ولم يعمل بما فيه كائنا من كان كان من أهل هذا المثل مثل الصّحابة الّذين اهتمّوا بحفظ القرآن عن التّغيير وبتلاوته وقراءته ولم يعملوا بما فيه من مراعاة العترة ومودّتهم واتّباعهم ، وكذلك من تعلّم القرآن وعلم احكامه وعمل بما فيه ، ومن تعلّم احكام الشّريعة وعمل بها لكن كان منظوره من علم ذلك الحيوة الدّنيا لا الحيوة الآخرة كان من أهل هذا المثل ، ونعم ما قال المولوىّ :

علمهاى أهل دل حمّالشان

علمهاى أهل تن احمالشان

علم چون بر دل زند بارى شود

علم چون بر تن زند بارى شود

گفت ايزد يحمل أسفاره

بار باشد علم كان نبود ز هو


بيان السعادة

علم كان نبود ز هو بيواسطه

آن نپايد همچو رنگ ماشطه

ليك چون اين بار را نيكو كشى

بار برگيرند وبخشندت خوشى

هين بكش بهر خدا اين بار علم

تا ببينى در درون أنبار علم

تا كه بر رهوار علم آئى سوار

آنگهان افتد ترا از دوش بار

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) يعنى كلّ من كذّب بآيات الله وكلّ من كان أهل ملّة ولم يرد وجه الله كان من أهل هذا المثل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعنى المكذّبين بآيات الله والمحمّلين للكتب السّماويّة والغير الحاملين لها ، لكنّه وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بظلمهم وتعليلا للحكم يعنى انّ الله لا يهديهم الى الصّراط الانسانىّ أو الى الجنّة أو الى مقاصدهم (قُلْ) لليهود تعريضا بمن ادّعى منك الخلافة أو بجميع أمّتك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذا الادّعاء يعنى ان كنتم أولياء لله فالحيوة الدّنيويّة تحجبكم عنه وكلّ محبّ يتمنّى لقاء المحبوب والموت يخرجكم من الحجاب ويوصلكم الى لقاء الله (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) لانّهم ناسون لله وراضون بالحيوة الدّنيا (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من المعاصي الّتى يخافون ان يدخلوا بها النّار ، أو من المعاصي الّتى تنسيهم الآخرة وتصرفهم الى جهة الدّنيا بحيث صاروا محبّين للدّنيا غير محبّين للآخرة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) اى بهم ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بظلمهم ومبالغة في تهديدهم (قُلْ) لليهود أو لجميع الخلق (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) فلا ينفعكم الفرار منه وليكن فراركم ممّا يضرّ فيما بعده (ثُمَّ تُرَدُّونَ) بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اى الى الّذى يعلم جميع الغائبات عن المدارك أو جميع الغائبات عن الخلق وجميع المشهودات ، أو جميع ما من شأنه ان يشاهد أو عالم عالم الغيب وعالم عالم الشّهادة وعلى اىّ تقدير فهو تحذير عن مخالفة الله في السّرّ والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجازيكم بحسبه وبعد ما هدّد المسلمين بالتّعريض ناديهم تلطّفا فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ).

اعلم ، انّ ايّام الأسبوع مظاهر للايّام الرّبوبيّة ودوران الايّام على الأسبوع ليس بمواضعة بنى آدم والّا لكان الاختلاف في دورانها وكان فرقة يديرها على السّتة أو الخمسة أو الاربعة ، وفرقة يديرها على الثّمانية أو التّسعة ، أو غير ذلك ومن يديرها على السّبعة لم يكن يديرها بتلك الادارة بان يجعل المبدء الأحد والمنتهى السّبت ، أو المبدء السّبت والمنتهى الجمعة ، وفي الجملة لم يكونوا يسمّى كلّهم أحدا أحدا ومنسوبا الى الشّمس والسّبت سبتا ومنسوبا الى كوكب خاصّ وبالجملة لم يكن عند جميع المنجّمين كلّ يوم مخصوص منسوبا الى كوكب خاصّ ، وقد اتّفق المنجّمون من كلّ ملّة وفي كلّ لسان على ادارة الايّام على السّبعة بهذا التّرتيب المخصوص وانتساب كلّ يوم مخصوص الى كوكب خاصّ سمّيت بهذه الأسماء أم لم تسمّ ، والايّام الرّبوبيّة الّتى هذه الايّام بإزائها يوم المجرّدات الّتى هم قيام لا ينظرون ، ويوم الصّافّات صفّا ، ويوم المدبّرات امرا ، ويوم ذوي الاجنحة مثنى وثلث ورباع ، ويوم الكيان ، ويوم الملكوت السّفلى ، أو يوم المدبّرات امرا ، ويوم الرّكّع والسّجّد ، ويوم المتقدّرات المجرّدة علويّين كانوا أم سفليّين ، وهذه الايّام كما أشير إليها في سورة الأعراف هي الايّام الّتى خلق السّماوات والأرض فيها وبها احتجب عن الخلق ، واليوم السّابع هو يوم جمع الجمع الّذى يعبّر عنه بالمشيّة ومقام الظّهور ، ولمّا كان الجمعة بإزاء


يوم الجمع طولا امر الله العباد بانعقاد الجمعة ، وامر ان لا ينعقد الجمعة باقلّ من سبعة أو خمسة ، ولمّا كان يوم الجمع خاصّا بمحمّد (ص) لا حظّ لأحد سواه (ص) فيه جعل الجمعة الّتى بإزائه عيدا خاصّا بمحمّد (ص) وحرّم السّفر فيها على من كان المسافة بينه وبين مجمع النّاس للجمعة اقلّ من فرسخين أو بقدر فرسخين ، ولذلك قال : إذا نودي للصّلوة من يوم الجمعة يعنى إذا اذّن لصلوة الجمعة (فَاسْعَوْا) اى فأسرعوا (إِلى ذِكْرِ اللهِ) يعنى الصّلوة (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فانّ البيع في هذا اليوم خلاف مقتضى هذا اليوم خصوصا وقت وصول الشّمس الى نصف النّهار (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) فانّه إذا اعطى كلّ يوم حقّه كان خيرا لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) كان خيرا لكم يعنى ان اتّبعتم عليّا (ع) وقبلتم ولايته بالبيعة معه فانّ العلم والتّعلّم منحصران في شيعة علىّ (ع) ، أو ان كنتم تعلمون انّه خير لكم اخترتموه (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لمّا كان الاجتماع في الجمعة لذكر الله بمنزلة الفناء الذّاتىّ والبقاء في ذلك الفناء يورث نقصان الوجود والمطلوب من الإنسان استكماله بجميع جنوده ولا يمكن الّا بالبقاء بعد الفناء أمرهم بالانتشار في الأرض وابتغاء فضله كما قال (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) الصّورىّ بطلب ما تحتاجون اليه من جهة الحلال ، وفضل الله المعنوىّ بزيارة الاخوان وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم كما في الخبر عن النّبىّ (ص) وعن الصّادق (ع): الصّلوة يوم الجمعة ، والانتشار يوم السّبت ، وعنه (ع) انّى لأركب في الحاجة الّتى كفاها الله ما اركب فيها الّا التماس ان يراني الله اضحى في طلب الحلال ، اما تسمع قول الله عزّ اسمه؟ فاذا قضيت الصّلوة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) في حال ابتغاء الفضل أو في جميع الأحوال فانّ ذكر الله مرغوب فيه ولو كنت تبول فانّه كما في الخبر لا بأس بذكر الله وأنت تبول وقد مضى في سورة البقرة عند قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) بيان للذّكر ومراتبه وكيفيّته (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فانّ الفلاح بالذّكر لانّ مناط الطّاعة والمعصية كما يستفاد ممّا ورد عن الصّادق (ع) الذّكر والغفلة ، روى عن النّبىّ (ص) من ذكر الله مخلصا في السّوق عند غفلة النّاس وشغلهم بما هم فيه كتب الله له الف حسنة ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا) إليها استدراك كأنّه قال : لكنّهم لا يقبلون وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا (إِلَيْها) اى الى التّجارة خصّ الضّمير بها لانّ اللهو كان تبعا للتّجارة (وَتَرَكُوكَ قائِماً) تخطب على المنبر كما في خبر ، أو في الصّلوة كما في خبر آخر (قُلْ) لهم (ما عِنْدَ اللهِ) من النّعيم المقيم (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) فانّ التّجارة ان كان فيه نفع دنيوىّ واللهو ان كان فيه نفع خيالىّ والتذاذ وهمىّ فما عند الله خير لانّ نفعه عقلىّ روحىّ وهو غير منقطع وغير مشوب بالآلام (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) روى عن جابر انّه قال : أقبلت عير ونحن نصلّى مع رسول الله (ص) فانفضّ النّاس إليها فما بقي غير اثنى عشر رجلا انا فيهم فنزلت الآية ، وفي رواية : أقبلت عير وبين يديها قوم يضربون بالدّفوف والملاهي فقال النّبىّ (ص): والّذى نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا ، وعن الصّادق (ع): انّ الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة ان يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى ، وفي صلوة الظّهر بالجمعة والمنافقين فاذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول الله (ص) وكان ثوابه وجزاؤه على الله الجنّة ،


سورة المنافقون

مدنيّة ، وهي احدى عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) لبيان انّ المشهود به صدق ورفع توهّم رجوع التّكذيب الى المشهود قدّم هذا ثمّ قال (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) لعدم مطابقة المشهود به لما في قلوبهم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) عن القتل والأسر وحفظوا بها دماءهم وأموالهم أو اتّخذوها جنّة عن شتم المسلمين ولومهم ، أو جنّة عن سوء ظنّ المسلمين بهم وفرارهم عنهم ، وقرئ ايمانهم بكسر الهمزة (فَصَدُّوا) منعوا أو اعرضوا (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الّذى هو علىّ (ع) وولايته (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

اعلم ، انّ النّفاق عبارة عن إظهار ما لم تكن تعتقده مثل الّذين أظهروا الإسلام وباعوا البيعة النّبويّة من غير اعتقاد برسالة الرّسول (ص) أو مع الشّكّ في رسالته ، أو كانوا معتقدين ثمّ طرأ الشّكّ والإنكار ، هذا بحسب الظّاهر والاعتقاد وقد يعتبر النّفاق بحسب الأعمال الظّاهرة من غير موافقة الأحوال الباطنة وهذا نفاق قلّ من يخلو عنه من المسلمين ، فانّ الاذكار والأفعال الواقعة في الصّلوة كلّها عناوين وإظهار لاحوال النّفوس فانّ قول القائل بسم الله الرّحمن الرّحيم تعبير عن نفسه وانّه يسم نفسه بالعبادة فاذا لم يكن حاله موافقا لهذا التّعبير كان منافقا حالا ، وهكذا الحمد لله ربّ العالمين وهكذا ايّاك نعبد حصر للعبادة فيه وايّاك نستعين حصر للاستعانة فيه فلو كان حال القائل ذلك ان يرى موصوفا آخر أو يعتقد موصوفا آخر بالصّفات الحميدة أو كان له معبود آخر من الاهوية أو الاناسىّ ، أو كان نظره الى معين آخر والاستعانة بغير الله كان منافقا حالا ، وفعل الرّكوع تعبير عن نفسه بانّه خاشع لله بحيث دعا خشوعه له الى الانثناء ، وسجوده تعبير عن كمال خضوعه له تعالى فاذا لم يكن حاله على هذا المنوال كان منافقا ، وهكذا قنوته وسائر دعواته في أحوال الصّلوة ، وصيامه تعبير عن نفسه بانّه صام عن غير التذاذ بجمال الله والسّلوك اليه ، وزكوته كناية عن انّه في نقصان الانانيّة ، فلو لم ينقص من انانيّته بل كان في زكوته معجبا بنفسه رائيا عمله كان منافقا ، وقد ورد : ما زاد خشوع الجسد على خشوع القلب فهو من النّفاق (ذلِكَ) الكذب واتّخاذ الايمان جنّة والصّدّ أو الصّدود عن سبيل الله (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) والكفر بعد الايمان أبلغ واشدّ من الكفر الاوّل ، وكفر النّفاق افضح (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) بحيث لم يبق فيها مدخل ومخرج للملك والنّور (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) لا يدركون إدراكا اخرويّا مؤدّيا الى ادراك آخر (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) بحسنها وتجمّلها بما يتجمّل بها وطراوتها ونضارتها (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لطلاقة لسانهم وحلاوة كلامهم وتسمع قام مقام القول اى يقل اسمع لقولهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) على الحائط في كونهم خالين عن الرّوح والعقل ، وفي عدم الانتفاع بهم بوجه آخر مثل الخشب المسنّدة الّتى ليست عمدا لسقف أو غيره (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) لعدم توكّلهم على ربّهم وجبنهم واتّهامهم في المسلمين (هُمُ الْعَدُوُّ) استيناف جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : فما شأنهم؟ وما نفعل بهم؟ ـ فقال : هم الكاملون في العداوة


(فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ) اخبار عن حالهم بانّهم قاتلهم الله عن الحيوة الانسانيّة ، أو اخبار عمّا يفعل بهم بعد لكنّه ادّاه بالماضي لتحقّق وقوعه ، أو دعاء عليهم بمقاتلة الله لهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحقّ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) كناية عن الإنكار والاستكبار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون أو يمنعون (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن الإتيان والاعتذار والاستغفار (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) تعليل لاستواء الاستغفار وعدمه ومبالغة في بأسهم عن مغفرة الله فانّ عدم مغفرته مع استغفار الرّسول (ص) دليل ان ليس فيهم ما يمكن المغفرة لهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تعليل آخر والمقصود عدم الهداية الى الجنّة أو الى الحقّ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرّقوا (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة حاليّة (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) الّذين يقولون لا تنفقوا حتّى ينفضّوا (لا يَفْقَهُونَ) اى لا يدركون ذلك إدراكا اخرويّا (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) كنّوا عن أنفسهم بالاعزّ وعن المؤمنين بالأذلّ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) انّ العزّة الدّنيويّة والاخرويّة لله وعند الله ولمن كان من حزب الله وان كانوا بحسب الانظار الظّاهرة مغلوبين ، نزلت الآيات كما عن القمّىّ ، في غزوة بنى المصطلق في سنة خمس من الهجرة وكان رسول الله (ص) خرج إليها فلمّا رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلا فيها وكان سيّار حليف الأنصار وكان جهجاه بن سعيد الغفارىّ أجيرا لعمر بن الخطّاب فاجتمعوا على البئر فتعلّق دلو سيّار بدلو جهجاه فقال سيّار : دلوي وقال جهجاه : دلوي ، فضرب جهجاه يده على وجه سيّار فسال منه الدّم فنادى سيّار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش فأخذ النّاس السّلاح وكاد ان تقع الفتنة فسمع عبد الله بن ابىّ النّداء فقال : ما هذا؟ ـ فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ثمّ قال : قد كنت كارها لهذا المسير انّى لا ذلّ العرب؟! ما ظننت انّى أبقى الى ان اسمع مثل هذا فلا يكون عندي تغيير ، ثمّ اقبل على أصحابه فقال : هذا عملكم ، أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ، ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل ، فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم ، ولو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم ، ثمّ قال : لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الاذلّ ، وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاما قد راهق وكان رسول الله (ص) في ظلّ شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن ابىّ ، فقال رسول الله (ص): لعلّك وهمت يا غلام؟ ـ قال : لا والله ما وهمت ، فقال : لعلّك غضبت عليه؟ قال : لا والله ما غضبت عليه ، قال : فلعلّه سفّه عليك؟ ـ قال : لا والله ، فقال رسول الله (ص) لشقران مولاه فأحدج (١) فاحدج راحلته وركب وتسامع النّاس بذلك ، فقالوا : ما كان رسول الله (ص) ليرحل في مثل هذا الوقت فرحل النّاس الى ان قال : فسار رسول الله (ص) يومه كلّه لا يكلّمه أحد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن ابىّ يعذلونه فحلف عبد الله انّه لم يقل شيئا من ذلك ، فقالوا : فقم بنا الى رسول الله (ص) حتّى نعتذر اليه فلوّى عنقه ، فلمّا جنّ اللّيل سار رسول الله (ص) ليله كلّه والنّهار فلم ينزلوا الّا للصّلوة ، فلمّا كان من الغد نزل رسول الله (ص) ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السّهر الّذى أصابهم ، فجاء عبد الله بن ابىّ الى رسول الله (ص) فحلف انّه لم يقل ذلك وانّه ليشهد ان لا اله الّا الله وانّك لرسول الله وانّ زيدا قد كذب علىّ ، فقبل رسول الله (ص) منه وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه (الى ان قال) فنزل الوحي عليه فلمّا نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين ففضّح الله

__________________

(١) الحدج كالضرب والاحداج شدّ الحمل على البعير ، والحدج بالكسر الحمل.


عبد الله بن ابىّ ، وعن الكاظم (ع) انّ الله تبارك وتعالى سمّى من لم يتّبع رسوله (ص) في ولاية علىّ (ع) وصيّه منافقين ، وجعل من جحد وصيّه إمامته كمن جحد محمّدا (ص) وانزل بذلك قرآنا فقال : يا محمّد إذا جاءك المنافقون بولاية وصيّك قالوا نشهد انّك لرسول الله والله يعلم انّك لرسوله والله يشهد انّ المنافقين بولاية علىّ لكاذبون ، اتّخذوا ايمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله والسّبيل هو الوصىّ انّهم ساء ما كانوا يعملون ، ذلك بانّهم آمنوا برسالتك وكفروا بولاية وصيّك فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ، يقول : لا يعقلون نبوّتك ، وإذا قيل لهم : ارجعوا الى ولاية علىّ (ع) يستغفر لكم النّبىّ (ع) من ذنوبكم لوّوا رؤسهم قال الله ورأيتهم يصدّون عن ولاية علىّ (ع) وهم مستكبرون عليه ، ثمّ عطف القول بمعرفته بهم فقال : سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم انّ الله لا يهدى القوم الفاسقين يقول الظّالمين لوصيّك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) فانّ القلب للطافته يران عليه ويقسيه اشتغاله بالكثرات الخياليّة وذكر الله يجلوه عن الرّين ، فلو اشتغل الإنسان بالأموال والأولاد فاذا كان ذاكرا لله صار الذّكر جاليا لقلبه عن الرّين ، وإذا كان غافلا عن ذكر الله صار الرّين متراكما على قلبه بحيث يتشكّك اوّلا ثمّ يكفر وينافق (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لاتلاف بضاعتهم وعدم أخذ العوض له (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال والقوى والاعراض ، ومن نسب الأفعال والأوصاف الى أنفسكم ، ومن انانيّاتكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) فيؤخذ جميع ذلك منكم فلا تروا شيئا ممّا تنسبونه الى أنفسكم (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يعنى الى مدّة قريبة من هذه المدّة ان كان هذا القول حال الاحتضار ، أو من مدّة قريبة من وقت الموت ان كان هذا القول في القيامة أو في البرزخ (فَأَصَّدَّقَ) فأتصدّق ممّا ينبغي ان يتصدّق منه (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) مجزوم معطوف على مجموع الفاء وما بعده فانّه واقع موقع المضارع المجزوم في جواب لو لا ، وقرئ منصوبا عطفا على ما بعد الفاء ، ومرفوعا بتقدير انا أكون من الصّالحين (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ) جملة حاليّة ورفع لتوهّم انّه يجوز التّأخير أم لا (نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) إذا قدّر مجيء أجلها ، عن الباقر (ع) انّ عند الله كتبا موقوفة يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، فاذا كان ليلة القدر انزل الله فيها كلّ شيء يكون الى مثلها فذلك قوله : ولن يؤخّر الله نفسا إذا جاء أجلها إذا انزل الله ، وكتبه كتاب السّموات وهو الّذى لا يؤخّره (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تهديد للمنافقين والكافرين ، أو ردع وزجر للكافر في القيامة.

سورة التّغابن

مدنيّة ، وقيل : مكّيّة غير ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) (الى آخر السّورة) ثماني عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ) اى ما ينبغي ان يملك (وَلَهُ الْحَمْدُ)


اى ما ينبغي ان يوصف الكامل به (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على استنطاق الأشياء بالتّسبيح وهذه تعداد الأوصاف الجميلة واشارة الى علّة تسبيح الأشياء له ، ولكونها تعدادا لاوصافه الحميدة قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بدون العاطف والمعنى فمنكم مؤمن بالولاية ، ومنكم كافر بالولاية كما مرّ مرارا انّ مناط الكفر والايمان معرفة الولاية وإنكارها ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال : عرّف الله ايمانهم بولايتنا وكفرهم بتركها يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم (ع) وهم ذرّ (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تهديد للكافر وترغيب للمؤمن (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فلم يكن أسباب السّماوات والأرض الّتى بها ايجادكم وابقاؤكم الّا لأمر حقّ وغاية شريفة متقنة لا لهذه الغايات الدّنيّة الباطلة الّتى هي وصول القوى الشّهويّة والغضبيّة والشّيطانيّة الى مستلذّاتها فلا تقطعوا غاياتكم الشّريفة ولا تبطلوا ذواتكم (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لتكونوا مقرّبين له فانّه خلقكم وصوّركم مشتملين على جميع ما في عالم الأمر والخلق بل على جميع ما في العالم الإلهيّ لتصيروا بطرح الطّوارى عن وجوه ذواتكم بشأنه تعالى وتصيروا احقّاء بقربه فلا تبطلوا ذواتكم دون الوصول الى غاياتكم (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) اى مصيركم ترغيب وتهديد يعنى استعدّوا للحضور عنده وتهيّؤا للوصول اليه بأحسن الوجوه (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) تهديد وترغيب (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قد مضى أمثال هذه الآية مع تفسيرها مكرّرا (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) ايّها النّاس (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) فتعتبروا بأحوالهم وترتدعوا عن مثل أفعالهم (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) في الدّنيا فاحذروا عن مثل أفعالهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كما جاءكم رسولكم بالبيّنات (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) مثل ما تقولون لو شاء الله ان يرسل رسولا لأنزل ملائكة (فَكَفَرُوا) بالرّسل مثلكم (وَتَوَلَّوْا) عنهم وعن بيّناتهم وعن التّدبّر فيها (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عنهم يعنى استغنى الله في مظاهر رسلهم (ع) بمعنى استغنى الرّسل عنهم وعن الاعتداد بهم فلم يكن من قبلهم استعداد لقبول الايمان ولم يكن من قبل الرّسل دعوة لهم (وَاللهُ غَنِيٌ) عنهم وعن عبادتهم وعن ايمانهم (حَمِيدٌ) في نفسه عرف أم لم يعرف ، حمد أم لم يحمد (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا) يعنى إذا كنتم تبعثون فآمنوا (بِاللهِ) الّذى تبعثون اليه (وَرَسُولِهِ) الّذى يعلّمكم طريق الايمان به (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) والنّور المنزل هو ولاية علىّ (ع) الّتى كانت مع كلّ بنىّ سرّا ومع محمّد (ص) سرّا وجهرا ، وقد فسّر في الاخبار بالامامة وبالإمام ، وسئل الباقر (ع) عن هذه الآية فقال : النّور والله الائمّة (ع) ، لنور الامام في قلوب المؤمنين أنور من الشّمس المضيئة بالنّهار ، وهم الّذين ينوّرون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشيهم بها.

اعلم ، انّ النّور هو الّذى ظهر بذاته وأظهر غيره وهذا حقّ الوجود فانّه الظّاهر بذاته بحيث انّه أقدم البديهيّات واوّل المدركات ، وبعد تعيين المفهوم هو اوّل المسؤلات ، فانّ السّؤال بما الشّارحة الّذى هو سؤال عن مفهوم اللّفظ مقدّم على السّؤال بهل البسيطة ، وبعد تعيين مفهوم اللّفظ لا يسأل الّا بهل البسيطة وبعد السّؤال بهل البسيطة يكون سائر السّؤالات ، ومعنى كونه مظهرا للأشياء انّه لا ظهور لشيء من الأشياء على مدرك من المدارك الّا بالوجود ،


والوجود الظّاهر بذاته المظهر لغيره هو المشيّة الّتى هي فعل الحقّ الاوّل تعالى وإضافته الى الأشياء وهي الولاية المطلقة الّتى جميع الولايات الجزئيّة حصص منها وكلّ موجود موجود بها وكلّ ظاهر ظاهر بها حتّى النّور العرضىّ الّذى به يظهر السّطوح والاشكال والألوان ، فانّه لو لا الوجود لما ظهر ذلك النّور على الأبصار ولما أظهر الأشياء ، وكلّ امام لمّا صار متّصلا بالمشيّة نحو اتّصال في الصّعود بعد ما كان متّصلا بها مثل سائر الأشياء في النّزول وبذلك الاتّصال يؤثّر فيمن اتّصل به ويفيده فعليّة وجوديّة في الصّعود لم تكن له تلك الفعليّة وبتلك الفعليّة يظهر عليه وجوده وفسّروا النّور بالإمام قبل الاتّصال بالإمام ، وتلك الفعليّة وجود حادث في فعليّات هذا المتّصل ومقوّمة لسائرها ومحيطة بها ، وهي الايمان الدّاخل في قلب المؤمن بالبيعة الخاصّة الولويّة ، وبتلك الفعليّة يظهر على المؤمن السّالك دقائق أخلاقه الّتى هي ادقّ من الشّعر وأخفى من دبيب النّملة السّوداء على الصّخرة الصمّاء في اللّيلة الظّلماء ، ويظهر عليه مثل هذا الشّرك الخفىّ ولم تكن تظهر عليه أمثال هذه قبل ذلك ، ولم تكن تظهر بنور الشّمع والسّراج ، ولا بنور الكواكب والقمر ، ولا بنور الشّمس الّتى هي أنور ، ولمثل هذا النّور وهذا الظّهور قد يرى المؤمن نفسه أسوء من كلّ مسيء واشدّ ذنبا من كلّ مذنب ، وقد يصير مبغضا لنفسه اشدّ بغض ، ولمثل هذا الظّهور يصير الدّنيا سجنا له ، هذا هو الظّهور العلمىّ والحالىّ الوجدانىّ ، وقد يظهر الامام بصورته الملكوتيّة النّورانيّة على صدر السّالك وهذا الظّهور هو ظهور القائم (ع) في العالم الصّغير وحينئذ تشرق ارض وجود السّالك بنور ربّه إشراقا اشدّ من اشراق ارض العالم الكبير بنور الشّمس ولشدّة الاشراق لا ترى فيها عوجا ولا امتا ، ويومئذ تحدّث اخبارها ، وأخرجت أثقالها ، فعليكم بالاتّصال بهذا النّور فان لم يظهر عليكم الامام بصورته الملكوتيّة فلا اقلّ من ظهور الرّذائل والخصائل بنوره ولا اقلّ من ادراك قبح الرّذائل ثمّ الانزجار منها وادراك حسن الخصائل ثمّ الرّغبة فيها والطّلب لها (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ترغيب وتهديد (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) ظرف لخبير أو لا ذكروا مقدّرا كأنّه قيل : فما نفعل حتّى يستقيم ايماننا بهذا النّور؟ ـ فقال : اذكروا حضوركم عند ربّكم حتّى يسهل عليكم الايمان بهذا النّور وتستقيموا على الايمان به (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) يوم ظهور غبن المغبون ، أو يوم غبن أهل الجنّة أهل النّار بنزولهم منازل أهل النّار في الجنّة ، وفي الخبر يوم يغبن أهل الجنّة أهل النّار (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) اىّ صالح كان حتّى يظهر بعمل صالح ما صحّة ايمانه أو يعمل صالحا عظيما هو قبول الولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قد مضى الآيتان مكرّرتين (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان من يؤمن بالله ويعمل صالحا كذا وكذا في الآخرة فلم يصيبهم المصائب في الدّنيا؟ ـ فقال : اصابة المصيبة لا تكون الّا بإذن الله ، وليست الّا لحكمة تكميل المؤمن ، أو كأنّه قيل : كأنّ كفر الكافر ليس بإذن الله؟ ـ فقال : ما أصاب من مصيبة الّا بإذن الله غاية الأمر انّ مصيبة المؤمن تكون تكميلا له ، ومصيبة الكافر أو كفره كانت باستعداده السّابق ونقمة له (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بالبيعة العامّة (يَهْدِ قَلْبَهُ) للايمان الخاصّ والبيعة الخاصّة ، أو من يؤمن بالله بالبيعة الخاصّة يهد قلبه الى العلم بانّ اصابة المصائب ليست الّا بإذن الله ، عن الصّادق (ع) انّ القلب ليترجّج (١) فيما بين الصّدر والحنجرة حتّى يعقد على الايمان ، فاذا عقد على الايمان قرّ وذلك قول الله عزوجل : ومن يؤمن بالله يهد قلبه (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم القلوب وايمانها وسائر أحوالها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في جميع ما قالاه لكم أو في خصوص ولاية علىّ (ع) وهذا هو المنظور ، فانّ المقصود من طاعة الله ورسوله (ص) في سائر ما امر رسوله (ص) انتهاء الطّاعة الى قبول

__________________

(١) اى يتزلزل وترجرج تحرّك واضطرب.


الولاية لانّها المنظور من كلّ منظور ، والمطلوب من كلّ مطلوب (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الله ورسوله فلا يرد عليه شين من ذلك (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلّغ رسالته أو احكام رسالته أو ولاية خليفته (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لانّ الايمان يقتضي الإقرار بان لا مبدء لحادث من الحوادث الّا الله ، وهذا الإقرار يقتضي التّوكّل عليه والتّوسّل به ؛ وترك التّوسّل والتّوكّل على غيره ، ولمّا كان الاشتغال بالكثرات مطلقا مانعا للقلب عن التّوجّه الى الله والاشتغال بطريق الولاية وكان الايمان بالنّور الّذى هو الولاية امرا مهمّا مرغوبا فيه ، وكان الاشتغال بما يكون القلب متعلّقا به من الكثرات اشدّ منعا وأكثر تأثيرا في ذلك خصوصا الأزواج والأولاد لشدّة تعلّق القلب بهما نادى المؤمنين تلطّفا بهم وحذّرهم عن التّعلّق بهما ، ثمّ أمرهم بالعطوفة عليهما فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) يعنى انّ بعض الأولاد والأزواج يكونون معينين لكم في امر آخرتكم ويكونون محبّين لكم في ذلك ، لكنّ البعض الآخر يكونون أعداء لكم في امر آخرتكم لا سيّما إذا كانوا مخالفين أو موافقين في جهة الدّنيا لا في جهة الآخرة سواء ظهر منهم عداوة في الظّاهر أو لم يظهر (فَاحْذَرُوهُمْ) ولا تخالفوا امر الله في رضاهم ولكن لا تدعوهم الى أنفسهم وادعوا الله لهم واطلبوا من الله المغفرة لهم (وَإِنْ تَعْفُوا) عن مسيئهم (وَتَصْفَحُوا) بتطهير القلوب عن الحقد عليهم (وَتَغْفِرُوا) مساويهم يغفر الله لكم ويرحمكم أو يغفر الله لكم ولهم ويرحمكم وايّاهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نسب الى الباقر (ع) في هذه الآية ، انّ الرّجل كان إذا أراد الهجرة الى رسول الله (ص) تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا : ننشدك الله ان تذهب عنّا وتدعنا فنضيع بعدك ، فمنهم من يطيع اهله فيقيم فحذّرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم ، ومنهم من يمضى ويذرهم ويقول : اما والله لئن لم تهاجروا معى ثمّ يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا ، فلمّا جمع الله بينه وبينهم امره الله ان يحسن إليهم ويصلهم فقال : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ) الّتى امر الله بحفظها (فِتْنَةٌ) لكم اى اختبار أو فساد أو عذاب لكم (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر طاعة الله على محبّة الأموال والأولاد ، أو لمن حفظهما بأمر الله وتوجّه إليهما لله وتحمّل مشاقّ حفظهما ومشاقّ تربية الأولاد وتنمية الأموال لله ، عن أمير المؤمنين (ع) : لا يقولنّ أحدكم : اللهمّ انّى أعوذ بك من الفتنة لانّه ليس أحد الّا وهو مشتمل على فتنة ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فانّ الله يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) وقد مضى هذه الآية في سورة الأنفال (فَاتَّقُوا اللهَ) في تعلّق القلب بالكثرات وفي ترك الكثرات وطرحها وفي الانتقام من الأزواج والأولاد أو الحقد عليهم ، أو إذا كان الله عنده أجر عظيم فاتّقوا الله في جميع أوامره ونواهيه (مَا اسْتَطَعْتُمْ) فانّ الله لا يكلّف نفسا الّا وسعها (وَاسْمَعُوا) منه أوامره ونواهيه على السنة خلفائه (وَأَطِيعُوا) رسوله (ص) (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم واعراضكم وقواكم ونسب الأفعال والأوصاف الى أنفسكم وانانيّاتكم (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) صفة مفعول مطلق ، أو هو مفعول به لانفقوا ، أو مفعول لمحذوف اى أنفقوا وأدركوا خيرا ممّا تنفقون لأنفسكم وهو النّعيم الباقي الاخروىّ ، أو خبر لكان محذوفا اى أنفقوا يكن الإنفاق خيرا لأنفسكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قد سبق هذه الآية في سورة الحشر (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) قد مضى الآية مع بيانها


في سورة البقرة (وَاللهُ شَكُورٌ) ومقتضى شكوريّته ان يضاعف المقرض عوض قرضه (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالمؤاخذة من لم يقرض (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

سورة الطّلاق

مدنيّة ، احدى عشرة آية ، وقيل : اثنتا عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) نداء وخطاب له تشريفا له ولكنّ المقصود بالحكم أمّته ولذلك أشرك الامّة في الخطاب معه حين الحكم (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) في عدّتهن ، والعدّة هاهنا هي الطّهر كما عن الباقر (ع) : العدّة الطّهر من المحيض (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) اى مدّة التّربّص وهي ثلاثة قروء في ذوات القرء ، وثلاثة أشهر في ذوات الأشهر ، ووضع الحمل في الحامل (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) في التّضييق عليهنّ حتّى يضطررن الى الفداء للطّلاق ، أو في تطويل المدّة والعدّة ، أو في حبسهنّ بعد العدّة ، أو في عدم طلاقهنّ وابقائهنّ بلا قسامة (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) بعد الطّلاق حتّى تنقضي عدّتهنّ (وَلا يَخْرُجْنَ) بانفسهنّ لعلّ الله يجعل بينهنّ وبين أزواجهنّ تعاطفا والفة ، وعن الكاظم (ع) انّما عنى بذلك الّتى تطلّق تطليقة بعد تطليقة فتلك الّتى لا تخرج ولا تخرج حتّى تطلّق الثّالثة ، فاذا طلّقت الثّالثة فقد بانت منه ولا نفقة لها ، والمرأة الّتى يطلّقها الرّجل تطليقة ثمّ يدعها حتّى يخلوا أجلها فهذه أيضا تقعد في منزل زوجها ولها النّفقة والسّكنى حتّى تنقضي عدّتها (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) المراد بالفاحشة هاهنا الزّنا أو أذاها لأهل الرّجل وسوء خلقها ، أو اشرافها على الرّجال ، أو سلاطتها على زوجها ، أو مساحقتها وقد أشير الى كلّ في الاخبار (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) حدود حماه واحكامه المقرّرة لعباده (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي) يا محمّد (ص) ، أو يا من يتأتّى منه الخطاب ، أو الفاعل راجع الى النّفس في نفسه ، أو الى المطلّقة المستفادة بالتّضمّن (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ) الطّلاق أو بعد ذلك البقاء في بيوت أزواجهنّ (أَمْراً) وهو رغبة الزّوج في المطلّقة ورجوعه إليها ، وهذا هو علّة التّربّص وعدم الخروج من بيوتهنّ (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) اى قاربن من آخر مدّتهنّ (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) اى راجعوهنّ وأمسكوهنّ في بيوتكم مع ان تحسنوا صحبتهنّ وقسامتهنّ (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بنحو يعدّه العقل والعرف حسنا بان تدعوهنّ يخرجن من بيوتكم ويتزوّجن بغيركم (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الطّلاق أو على الطّلاق وعلى الإمساك يعنى الرّجوع إليهنّ (وَأَقِيمُوا) ايّها الشّهود (الشَّهادَةَ لِلَّهِ) لابتغاء مرضاة الله لا لرضا المشهود له ، أو للاعراض والأغراض الدّنيويّة (ذلِكُمْ) الأمر بالطّلاق في الطّهر وإحصاء العدّة وعدم إخراج المطلّقات والإمساك بالمعروف أو المفارقة بالمعروف (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فانّه الملتفت لحكمه ومصالحه والطّالب لان يأتمر بأوامر الله


(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في خلاف أوامره ونواهيه والتّجاوز عن حدوده (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من شبهات الدّنيا ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة ومن كلّ فتنة ومن كلّ بليّة في الدّنيا أو الآخرة وقد أشير الى كلّ في الاخبار ، ولعلّ اطلاق المخرج كان لتعميمه لكلّ ما يمكن ان يصدق عليه ، وعن الصّادق (ع) عن آبائه عن علىّ (ع): من آتاه الله برزق لم يخط اليه برجله ، ولم يمدّ اليه يده ، ولم يتكلّم فيه بلسانه ، ولم يشدّ اليه ثيابه ، ولم يتعرّض له كان ممّن ذكره الله عزوجل في كتابه : ومن يتّق الله (الآية) ، وعنه (ع) انّ قوما من أصحاب رسول الله (ص) لمّا نزلت هذه الآية أغلقوا الباب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا فبلغ ذلك النّبىّ (ص) فأرسل إليهم فقال : ما حملكم على ما صنعتم؟ ـ فقالوا : يا رسول الله (ص) تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، فقال : انّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطّلب (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) عن الصّادق (ع) : هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا فيستمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتّى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا فينقلوه إليهم فيعيه هؤلاء ويضيعه هؤلاء فأولئك الّذين يجعل الله عزوجل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ، ولا يخفى تعميم الرّزق للرّزق النّباتىّ والحيوانىّ والانسانىّ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في أمور دنياه وآخرته لانّ التّوكّل عبارة عن الخروج عن ارادة النّفس وانتفاعه والايتمار بأمر الله من دون النّظر الى غاية نافعة من امره تعالى وامتثاله للنّفس ، وهذا المعنى لا ينافي الجدّ في مكاسب الدّنيا أو عبادات العقبى كما يظنّ (فَهُوَ حَسْبُهُ) لكمال علمه وقدرته واحاطته (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) الى ما يريد من غير مانع يمنعه ومن غير عجز له (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما لنا نرى المتوكّلين على الله لا يكفى مهمّاتهم؟ ـ فقال : قد جعل الله لكلّ شيء قدرا تقديرا في عالم التّقدير ، أو مقدّرا لا يتجاوز عنه ، ولذلك : لا يعجّل كفاية أمور المتوكّلين ، أو هو أيضا تعليل للأمر بالتّوكّل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) بانقطاع الحيض عنهنّ لمرض أو حمل أو لكبر لكن لم يبلغ كبرهنّ الى خمسين أو ستّين ، أو كان بلوغهنّ مشكوكا فيه ، وامّا اللّائى يئسن من المحيض بسبب البلوغ الى الخمسين أو السّتّين فلا يصبرن بعد التّفريق ثلاثة أشهر ولا يعتددن من الطّلاق أصلا ولذلك قال (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في كبرهنّ وبلوغهنّ الى سنّ من لا تحيض (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) بعد ولكنّهنّ بلغن سنّ من تحيض فعدتهنّ ثلاثة أشهر مثل من قطع حيضهنّ ولم يبلغن خمسين أو ستّين (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) اى مدّة عدّتهنّ أو آخر عدّتهنّ (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وبيان الطّلاق وكيفيّة واقسامه مذكورة في الكتب الفقهيّة (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في امر النّساء ، أو في احكام الطّلاق ، أو في الرّفق بهنّ وعدم الاقدام على الطّلاق ، أو في مطلق احكام الله (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) في الدّنيا أو في الدّنيا والآخرة (ذلِكَ) المذكور من امر النّساء أو من امر الطّلاق والعدّة (أَمْرُ اللهِ) اى حكمه (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) تأكيد للسّابق واشارة الى غاية اخرى ، أو الاوّل اشارة الى التّقوى في امر النّساء ، والثّانى الى التّقوى في مطلق احكام الله (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) الّتى وقعت منه قبل التّقوى أو بالخطاء (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) في الآخرة (أَسْكِنُوهُنَ) اى أسكنوا المطلّقات اللّاتي لا يخرجن من بيوتكم (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) يعنى لا تجعلوا مساكنهنّ أدون من مساكنكم (مِنْ وُجْدِكُمْ) ممّا تجدون لسكناكم (وَلا تُضآرُّوهُنَ) في السّكنى أو لا تضارّوهنّ من جهة اخرى غير السّكنى (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) فتلجئوهنّ الى


الخروج من مساكنكم (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) يعنى انّ الرّجعيّات اللّاتى عليهنّ البقاء في بيت الزّوج لهنّ النّفقة والبائنات لا نفقة لها الّا ان يكنّ حاملات فلهنّ النّفقة حتّى يضعن حملهنّ (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم بعد وضع الحمل وانقطاع علاقة النّكاح (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على الإرضاع لكم (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) يعنى ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف في الإرضاع وفي إيتاء الأجر (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) اى تضايقتم ايّها الآباء عن إتمام الاجرة وإيفاء ما هو حقّ الامّهات من الأجور ، وايّتها الامّهات من المساهلة في مقدار الاجرة (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) مرضعة اخرى وهو عتاب للآباء على المضائقة في الاجرة ومقدارها ، وللامّهات على المضائقة المزبورة (لِيُنْفِقْ) على ما ينبغي ان ينفق عليه من النّفس والأولاد والآباء والأزواج وسائر من تحت اليد من العبيد والإماء والخدم والمطلّقات الرّجعيّات والبائنات الحاملات ، أو لينفق على المطلّقات الرّجعيّات والبائنات الحاملات ، أو على البائنات الحاملات ، أو على البائنات الخارجات عن العدّة المرضعات للأولاد (ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ) وضيق في المعيشة (يُسْراً) وسعة في المعيشة ، روى عن الصّادق (ع) انّه سئل عن الرّجل الموسر يتّخذ الثّياب الكثيرة الجياد والطّيالسة والقمص الكثيرة يصون بعضها بعضا يتجمّل بها أيكون مسرفا؟ ـ قال : لا ، لانّ الله عزوجل قال : لينفق ذو سعة من سعته (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) عطف على قوله : ومن يتّق الله ، وتلويح الى انّ من لا يتّقى يكون له العاقبة السّوءى (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالاستقصاء في المحاسبة والمدّاقّة فيها ومن يداقّه الله فلا مناص له (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) منكرا لا يعرفه أحد لعظمته (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) ضياعا لاصل البضاعة وبيانه قوله (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الدّنيا أو القيامة وبعدها (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) الّذين صاروا ذوي لبّ بالولاية والبيعة الولويّة ولذلك فسّره بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة الولويّة ودخول الايمان بها في قلوبهم ، ويجوز ان يكون التّقدير يا ايّها الّذين آمنوا ، ويجوز ان يكون خبرا لمبتدء محذوف (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) المراد بالذّكر الرّسول (ص) ، أو المراد بالذّكر جبرئيل ، أو المراد بالذّكر القرآن ، ورسولا بدل منه بدل الاشتمال (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالوفاء بالشّروط المأخوذة في البيعتين (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً اللهُ) بدل من الله في أحسن الله له رزقا ، أو مبتدء خبره الموصول الآتي ، أو خبر لمبتدء محذوف (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) في العدد ، روى عن الرّضا (ع): انّ الأرضين السّبع احديها الأرض الّتى تحت أقدامنا ، وثانيتها السّماء الاولى ، وثالثتها السّماء الثّانية ، الى السّادسة ، وعلى ما سبق منّا مكرّرا من انّ العوالم بعضها الغالب عليه الكيفيّة الارضيّة ، وبعضها الغالب عليه الكيفيّة السّماويّة نقول : الأرض الاولى هي الهيولى الاولى ، والثّانية الامتداد الجسمانىّ ، والثّالثة البسائط العنصريّة ، والرّابعة المادّة الجماديّة ، والخامسة المادّة النّباتيّة ، والسّادسة المادّة الحيوانيّة ، والسّابعة المادّة البشريّة ؛ أو الاولى عالم المثال السّفلىّ ، والثّانية عالم الموادّ ، والثّالثة عالم الطّبائع ، والرّابعة عالم النّفوس النّباتيّة ، والخامسة


عالم النّفوس الحيوانيّة ، والسّادسة عالم النّفوس البشريّة ، والسّابعة عالم المثال العلوىّ (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا) بتنزّل الأمر بينهنّ أو بخلق السّماوات السّبع والأرضين السّبع (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) فانّ النّاظر الى السّماوات في العالم الكبير أو الصّغير والى الأرضين فيهما يظهر آثار قدرته وعلمه ورأفته بخلقه له ، وهكذا احاطة علمه بالجليل والحقير :

سورة التّحريم

مدنيّة ، واثنتا عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر لكم ما لحقكم من ايمانكم (رَحِيمٌ) يرحمكم بعد المغفرة (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) اى أوجب الله أو قدّر الله أو اثبت (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) اى تحليل ايمانكم أو كفّارة ايمانكم فانّها ما به التّحليل (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) فهو اولى بالاسترضاء (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بمصالحكم فاذا قال حلّلوا ايمانكم بالكفّارة فحلّلوا (الْحَكِيمُ) في فعاله وأقواله فلا يشرع لكم ولا يأمركم ولا ينهاكم الّا بما فيه مصالح وله غايات شريفة انيقة ، وقال الّذين توسّلوا بأمثال هذه الآية في تصحيح خلافة خلفائهم وإمامة ائمّتهم : انّ في هذه الآية دلالة على انّه تعالى عاتب نبيّه (ص) وليس العتاب الّا لذنب صدر منه والذّنب هاهنا كما نقل في نزول الآية تحريمه (ص) من قبل نفسه بدون امر الله مارية القبطيّة أو شرب العسل على نفسه ، فنقول : مثل هذا العتاب يدلّ على كمال عنايته بمحمّد (ص) ورأفته به بحيث لم يرض انّه (ص) حرّم على نفسه بعض الملاذّ المباحة ، كالأب الشّفيق الّذى يمنع ولده عن ترك بعض الملاذّ النّفسانيّة شفقة عليه ومنعا له من الإمساك عن بعض ما فيه حظوظ النّفس ، ولا يدلّ على انّه صدر منه ذنب أو خلاف امر ، غاية الأمر انّه يدلّ على انّه امتنع عن بعض الملاذّ استرضاء لبعض أزواجه ، واسترضاء الأزواج ممّا ندب عليه ، اما ترى جواز الكذب للأزواج استرضاء لهنّ قال القمّىّ وغيره سبب نزول الآيات انّ رسول الله (ص) كان في بيت عائشة أو في بيت حفصة ، فتناول رسول الله (ص) مارية ، فعلمت حفصة بذلك فغضبت وأقبلت على رسول الله (ص) ، فقالت يا رسول الله ، في يومى في داري وعلى فراشي؟!. فاستحيى رسول الله (ص) ، فقال كفّى ، فقد حرّمت مارية على نفسي وانا اقضى إليك سرّا ان أنت أخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، فقالت نعم ما هو!. فقال (ص) انّ أبا بكر يلي الخلافة بعدي ثمّ بعده أبوك ، فقالت من انبأك هذا؟ قال نبّأنى العليم الخبير ، فأخبرت حفصة به عائشة من يومها ذلك ، وأخبرت عائشة أبا بكر ، فجاء ابو بكر الى عمر ، فقال له انّ عائشة أخبرتني بشيء عن حفصة ولا أثق بقولها ، فاسئل أنت حفصة ، فجاء عمر الى حفصة وقال ، ما هذا الّذى أخبرت عنك عائشة؟ فأنكرت ذلك وقالت ما قلت لها من ذلك شيئا ، فقال لها عمر انّ هذا حقّ فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه ، فقالت نعم قال رسول الله (ص) ، فنزل جبرئيل على رسول الله بهذه السّورة وأظهره الله عليه يعنى أظهره الله على ما أخبرت به وعرّف بعضه اى خبرها وقال لم أخبرت ما أخبرتك؟! واعرض عن بعض يعنى لم يخبرهم بما يعلم ، وقيل : خلا النّبىّ (ص) في بيت عائشة مع مارية فاطّلعت عليه حفصة فقال لها رسول الله : لا تعلمي عائشة ذلك وحرّم مارية على نفسه ، وأخبرها انّ أباها يملك بعده وبعده عمر فأعلمت حفصة عائشة الخبر واستكتمتها ايّاه فاطلع الله نبيّه (ص) على ذلك وهو قوله : وإذ اسرّ النّبىّ الى بعض أزواجه حديثا (الآية) ، وقيل : انّ


رسول الله (ص) كان إذا صلّى الغداة يدخل على أزواجه واحدة واحدة وكان إذا دخل على حفصة حبسته وأحضرت العسل له وانّ عائشة أنكرت احتباسه عندها ، فتواطئت مع بعض أزواجه انّه إذا دخل النّبىّ (ص) عليهنّ يقلن متّفقات : انّا نجد منك ريح المغافير (١) ، فلمّا دخل الرّسول على كلّ قلن ذلك ، فقال الرّسول (ص) : لا اشرب العسل بعد ذلك ، وقيل : كانت زينب بنت جحش تحبس النّبىّ (ص) فتواطئت عائشة مع بعض أزواجه ان يقلن ذلك لما علمن انّه كان يشرب عند زينب العسل (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) حديث خلافة ابى بكر وعمر ، أو حديث تحريم مارية وأمرها بكتمانه (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) عائشة به (وَأَظْهَرَهُ اللهُ) اى أظهر اخبارها لعائشة (عَلَيْهِ) على محمّد (ص) (عَرَّفَ) تلك الزّوج المأمورة بالكتمان (بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) كما مضى (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ) حفصة (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) ثمّ خاطب الله على لسان جبرئيل ومحمّد (ص) حفصة وعائشة فقال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) من إفشاء ما امرتما بكتمانه أو من همّتكما لسمّه (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الفاء سببيّة والجزاء محذوف يعنى ان تتوبا الى الله لأجل ميل قلوبكم عن الحقّ والى خلاف محمّد (ص) الّذى ينبغي التّوبة منه كان خيرا لكما فقد صغت قلوبكما ، أو الفاء للجزاء وقوله : قد صغت قلوبكما قائم مقام الجزاء والمعنى ان تتوبا الى الله كان واجبا عليكما التّوبة لانّه قد صغت قلوبكما ، وجمع القلوب لما عليه العرب من انّه إذا أضيف تثنية الى تثنية أتى بالتّثنية الاولى بصورة الجمع كراهة الاجتماع بين التّثنيتين ، وللاشعار بانّ لكلّ منهما قلوبا متعدّدة ، والآية باتّفاق المفسّرين من الخاصّة والعامّة في عائشة وحفصة (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) والمراد بصالح المؤمنين علىّ بن ابى طالب (ع) قيل : انّه سئل عمر بن الخطّاب من اللّتان تظاهرتا على رسول الله (ص)؟ ـ فقال : عائشة وحفصة ، وعن الباقر (ع) قال : لقد عرّف رسول الله (ص) عليّا (ع) أصحابه مرّتين ، امّا مرّة فحيث قال : من كنت مولاه فعلىّ (ع) مولاه ، وامّا الثّانية فحيثما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله (ص) بيد علىّ (ع) وقال : يا ايّها النّاس هذا صالح المؤمنين ، وقد ورد الرّواية بطريق العامّة والخاصّة انّ المراد بصالح المؤمنين علىّ بن ابى طالب (ع) (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) الإتيان بالايمان بعد الإسلام للاشارة الى انّ الايمان غير الإسلام فليكن الطّالب للآخرة طالبا للايمان بعد الإسلام (قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ) قيل : المراد منه الصّائمات ، لقول النّبىّ (ص): سياحة أمّتي الصّيام ، فانّ الصّوم عن مشتهيات النّفس اطلاق للنّفس ، وفي إطلاقها سياحة لها في ملك الرّبّ ، وقيل : المراد به ماضيات في امر الله وطاعته ، وقيل : مهاجرات الى رسول الله (ص) (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أتى بالعاطف لانّهما بمنزلة صفة واحدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة النّبويّة ، أو بالبيعة الخاصّة الولويّة (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وقاية الشّخص لنفسه من النّار بحفظه لها عن اتّباع الشّهوات والغضبات والحيل الشّيطانيّة ، ووقايته لاهليه بأمرهم بالمعروف وتعليمه لهم ونهيهم عن المنكر وتعليمه لهم وترغيبهم في الخيرات وتحذيرهم عن الشّرور واعلامهم بما هو غاية الغايات ونهاية النّهايات من الولاية واتّباع ولىّ الأمر ، عن الصّادق (ع): لمّا نزلت هذه الآية جلس رجل من المسلمين يبكى وقال : عجزت عن نفسي كلّفت أهلي ، فقال رسول الله (ص) : حسبك ان تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك ، وبهذا

__________________

(١) المغافر كمنابر والمغافير صمغ شجر فيه حرقة كريه الريح ، الواحد مغفر كمنبر ومغفر بضمتين ومغفور بزيادة الواو على الضمتين ، ومغفار ومغفير بكسرهما.


المضمون ورد عنهم اخبار كثيرة (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهو حال أو مستأنف بتقدير القول من الملائكة أو من الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (تُوبُوا إِلَى اللهِ) بالبيعة الخاصّة ، أو المعنى يا ايّها الّذين آمنوا بالبيعة الخاصّة توبوا وارجعوا من مقام نفوسكم الى الله الّذى مظهره قلوبكم (تَوْبَةً نَصُوحاً) خالصة من وصمة العود ، أو توبة ناصحا صاحبها لنفسه فيها بان يكون نادما على ما مضى وعازما على التّرك فيما يأتى ، أو توبة ترقع الخروق الّتى وقعت في الدّين وترتق الفتوق وتصلح الفاسد من النّصح بمعنى الخياطة ، أو المراد بها التّوبة الجارية على يد ولىّ الأمر في البيعة الخاصّة الولويّة فانّها الّتى يخلّص صاحبها عن كلّ سوء وغشّ وغلّ ، وهي الّتى يبصر بها صاحبها كلّ سوء ورذيلة فينصح نفسه في الخلاص عنها ، وهي الّتى ترقع كلّ خرق وقع للنّفس قبلها. اعلم ، انّ للتّوبة بحسب الصّورة معاني فانّ معناها ان يقول الإنسان : أتوب الى الله ، أو تبت الى الله ، وان يرجع الى نبىّ وقته أو ولىّ وقته وباع على يده بيعة عامّة أو بيعة خاصّة ، وان يندم على المعاصي القالبيّة ، وان يندم على الرّذائل النّفسانيّة ، وان يندم على العقائد الزّائغة ، وان يرجع عن ملاحظة نسبة الأفعال الى نفسه ، أو ملاحظة نسبة الصّفات الى نفسه ، أو نسبة الوجود الى نفسه ، وان يندم على تلوّنه في مقاماته ويطلب التّمكين ويرجع اليه والكلّ توبة والكلّ منظور من الآية بحسب مراتب الأشخاص (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) من المعاصي القالبيّة والرّذائل النّفسانيّة والعقائد الزّائغة ومن رؤية الأفعال من أنفسكم ونسبة الصّفات الى أنفسكم ومن انانيّاتكم (وَيُدْخِلَكُمْ) بعد ازالة السّيّئات (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى في سورة آل عمران في آخرها بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) اى باعوا البيعة العامّة أو الخاصّة معه لكنّ المناسب لقوله تعالى (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) هو المعنى الثّانى وقد مضى في سورة التّغابن بيان هذا النّور وانّه في قلب المؤمن أنور من الشّمس المضيئة بالنّهار ، واختار من جملة الجهات ما بين الأيدي والايمان اشعارا بجهتى النّفس المطيعة الّتى هي بحسب قوّتيها العلّامة والعمّالة ، وامّا الخلف واليسار فانّهما لا يكونان للنّفس المطيعة بمعنى انّه لا يكون لها جهة شيطانيّة ولا جهة حيوانيّة اللّتان يعبّر عنهما بالخلف واليسار ولو كانتا لم يكن ذلك النّور في تينك الجهتين (يَقُولُونَ) حالا وقالا (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) فانّهم بظهور هذا النّور والصّورة الملكوتيّة من امامهم يشتدّ لوعتهم ويزداد حرقتهم ويزيد طلبتهم فيطلبون ازدياد الظّهور واشتداد هذا النّور بحيث لا يبقى لهم ذات واثر ، فانّ مثلهم في تلك الحال مثل الفراش والسّراج لا يسكنون ما كان لهم ذات وحركة (وَاغْفِرْ لَنا) الحدود والنّقائص الملحقة بنا المانعة لنا من كمال ادراك هذا النّور (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) في العالم الصّغير والعالم الكبير ، وقرأ الصّادق (ع) : جاهد الكفّار بالمنافقين قال : انّ رسول الله (ص) لم يقاتل منافقا قطّ انّما كان يتألّفهم ، وفي خبر عنه : جاهد الكفّار والمنافقين ، قال : هكذا نزلت فجاهد رسول الله (ص) الكفّار ، وجاهد علىّ (ع) المنافقين فجهاد علىّ (ع) جهاد رسول الله (ص) (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) كفر النّفاق وان كان لهم قرب الى الأنبياء والأولياء (ع) (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا) الخاصّين بنا (صالِحَيْنِ) وكونهما تحتهما كناية عن كمال قربهما (فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ


ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) فانّ وصلة الكفّار ومخالطتهم لا تضرّهم كما انّ وصلة آسية ومخالطتها لفرعون ما كانت تضرّها (إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) اى القبطىّ التّابعين له (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) من ان ينظر اليه أو تنظر هي بنفسها اليه (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) المراد بالكلمات هي الكلمات الوجوديّة وهي مراتب العالم مندرجة في ابن آدم (ع) ، والمراد بالكتب احكام النّبوّات والرّسالات وآثار الولايات ، ومنها الكتب التّدوينيّة (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) لا من القانتات بل هي عدّت من الرّجال ، روى عن النّبىّ (ص) انّه قال : كمل من الرّجال كثير ولم يكمل من النّساء الّا اربع ، آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة (ع) بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الجزء التّاسع والعشرون

سورة الملك

مكّيّة ، ثلاثون آية ، وقيل : احدى وثلاثون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) الملك يطلق على عالم الطّبع مقابل الملكوت العامّة الّتى هي جملة عالم الأرواح ، أو الخاصّة وهي عالم المثال ، وهذا الإطلاق هو المشهور عندهم ، ويطلق على جملة ما سوى الله ، وعلى الرّسالة والصّدر المستنير بنورها ، وعلى النّبوّة والقلب المستضيء بضوئها ، وعلى الولاية الّتى بها يكون التّصرّف في العباد ودعوتهم الى التّوحيد ، واليد تطلق على ما به التّصرّف ، وعلى القدرة الّتى هي مبدء التّصرّف ، وعلى صفات الله اللّطفية والقهريّة ، وعلى عالمي الملكوت العليا والملكوت السّفلى ، والكلّ مناسب هاهنا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الممكنات الواقعة في عالم الطّبع وعالمي الملكوت (قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) لمّا كان الموت من اعدام الملكات ، واعدام الملكات لها حظّ ضعيف من الوجود وما له حظّ من الوجود صحّ تعلّق الخلق به قال: خلق الموت (وَالْحَياةَ) ولمّا كان الموت في عالم الطّبع بوجه مقدّما على الحيوة بالطّبع ، أو كان المنظور من ذكر خلق الموت والحيوة التّهديد عن الشّرور والتّرغيب في الخيرات وكان الموت في هذا المنظور أبلغ قدّم الموت (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ولم يقل ، أو أسوء عملا ، للاشارة الى انّ المنظور من كلّ ذلك ان يحسن الإنسان عمله ، وسوء العمل يكون من الطّوارى وليس علّة غائيّة وحسن العمل يكون بنيّة حسنة كاملة ، والنّيّة الحسنة تكون بالعقل الكامل ولذلك ورد في اخبار عديدة انّ المراد به ايّكم أتمّ عقلا ، وروى عن الصّادق (ع) انّه قال : ليس يعنى أكثر عملا ولكن أصوبكم عملا وانّما الاصابة خشية الله والنّيّة الصّادقة ثمّ قال : الإبقاء على العمل حتّى يخلص اشدّ من العمل ، والعمل الخالص الّذى لا تريد ان يحمدك عليه أحد الّا الله عزوجل ، والنّيّة أفضل من العمل ، الا وانّ النّيّة هو العمل ، ثمّ تلا قوله


عزوجل : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) يعنى على نيّته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الّذى لا مانع له من حكمه وإرادته فليحذر الّذين يخالفون امره ويسيئون في عملهم وليرج الّذين يطيعونه ويحسنون عملهم (الْغَفُورُ) فلا ييأس الّذين يعملون السّيّئات (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) مصدر أو جمع ، والموصول بدل من الّذى في تبارك الّذى ، أو صفة للعزيز ، أو خبر بعد خبر ، أو مبتدء وخبره قوله (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) والعائد الرّحمن الّذى هو بمعناه والمنظور منه بيان قدرته وحكمته وعنايته بخلقه وعدم إهمالهم بلا ثواب وعقاب والمراد بالتّفاوت الاختلاف في الإتقان وعدمه ، وقرئ من تفوّت وهو بمعنى التّفاوت (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) يعنى انظر الى السّماء ثمّ تفكّر في نفسك وتأمّل في خلل السّماء ثمّ ارجع بصرك الى السّماء (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) انشقاق فيها وخلل وفساد في خلقها (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) في ارتياد الخلل والنّقص والفساد ليس التّثنية منظورة بل المنظور تكرار النّظر وكثرته (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) خسأ الكلب كمنع طرده ، وخسأ الكلب بعد كانخسأ ، وخسى من باب علم وخسأ البصر كمنع كلّ ، والخاسئ من الكلاب والخنازير المبعد الّذى لا يترك ان يدنو من النّاس (وَهُوَ حَسِيرٌ) كليل ومنقطع من الأبصار من طول المدى في الأبصار ، ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره في بيان هذه الآية :

اندر اين گردون مكرر كن نظر

زانكه حق فرمود ثمّ ارجع بصر

يك نظر قانع مشو زين سقف نور

بارها بنگر ببين هل من فطور

چونكه گفتت كاندر اين سقف نكو

بارها بنگر چو مرد عيب جو

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) اى أقرب السّماوات الى الأرض فانّ جنس سماء الطّبع أقرب أصناف السّماوات الى الأرض ، وان كان المكوكبة منها هي الثّامنة منها ، فانّ سماوات عالم المثال وعالم النّفوس وعالم العقول ابعد السّماوات الى الأرض ، وهكذا في العالم الصّغير سماء الصّدر المنشرح بالإسلام وسماء القلب الدّاخل فيه الايمان أقرب السّماوات الى ارض البدن وارض النّفس الامّارة واللّوّامة (بِمَصابِيحَ) بالكواكب الصّوريّة أو بالكواكب الذّكريّة النّفسانيّة (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) كون النّجوم الذّكريّة رجوما للشّياطين واضح ، وامّا كون الشّهب السّماويّة رجوما للشّياطين فقد أنكر الفلاسفة سقوط الكواكب عن محالّها لانّها بسائط وليست مركّبة من العناصر بل هي على ما خلقت من غير تغيير وتغيّر ، والشّهب الّتى تترائى انّما تتكوّن في كرة الدّخان وهي أنموذج للشّهب الّتى بها ترجم الشّياطين والّا فالشّياطين من أهل عالم المثال السّفلىّ ولا تزاحم بين أهل عالم المثالين وأجزاء عالم الطّبع ، وقد مضى في سورة الحجر وسورة الصّافّات بيان لهذه الآية (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) في الآخرة (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) صوتا كصوت الحمير وقد مضى في سورة هود بيان انّ لهم فيها زفيرا وشهيقا (وَهِيَ تَفُورُ) اى تغلى بهم غليان المرجل بما فيه (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) اى تتفرّق من الغيظ على أعداء الله (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا) اعترافا بعدم التّحقيق وعدم التّقليد (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) وننقاد لأولياء الأمر وكنّا في تقليد صحيح (أَوْ نَعْقِلُ) اى


ندرك بعقولنا ونميّز الحق من الباطل وكنّا محقّقين (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) لمّا رأوا قصورهم وتقصيرهم في تشخيص حال الأنبياء (ع) (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) اى بعدا ، روى انّ هذه الآيات في أعداء علىّ (ع) وأولاده ، والّتى بعدها في أوليائهم (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) حالكونهم في الغيب من ربّهم ، أو حالكون الرّبّ في الغيب منهم ، أو بسبب غيبة حالهم ، أو غيبة حال الرّبّ في رضاه وسخطه عنهم ، وقد سبق الاشارة الى انّ الخوف في مقام النّفس وظنّه والخشية أيضا في مقام النّفس لكن بعد ترقّبه الى ادنى مرتبة العلم أو أعلاها ، وقد سبق في سورة الفاطر عند قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) بيان للخشية (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) والآيتان وعيد ووعد للفريقين (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) عطف على واحد من الجمل السّابقة لكون الإنشاء في معنى الخبر فانّ الأمر للتّخيير فهو في معنى أنتم مخيّرون بين الأسرار والإعلان أو للتّسوية ، والمعنى سواء اسراركم واجهاركم بالقول عنده (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الّتى هي أخفى من القول الخفىّ ، والمراد بذات الصّدور الخطرات والخيالات ، أو النّيّات والعزمات ، أو القوى والاستعدادات المكمونات الّتى لا شعور لصاحبي الصّدور بها (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) تأكيد لاحاطة علمه فانّ الخالق لا يكون جاهلا بمخلوقه (وَهُوَ اللَّطِيفُ) في علمه بحيث لا يشذّ عن علمه أصغر ما يكون (الْخَبِيرُ) ببواطن الأمور ، روى انّ المشركين كانوا يتكلّمون فيما بينهم بأشياء فيخبر الله بها رسوله فيقولون : اسرّوا قولكم لئلّا يسمع اله محمّد (ص) فنبّه الله على جهلهم (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) مستأنف جواب لسؤال مقدّر (فَامْشُوا) اى إذ كانت ذلولا فامشوا (فِي مَناكِبِها) اى في نواحيها (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) فاحذروا كفران نعمه ومخالفة امره (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) يعنى الملائكة الّذين هم في السّماء (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) كما فعل بقارون (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) تضطرب قبل الخسف أو بعده يعنى صرتم آمنين فتكفرون به وتكفرون بنعمائه لذلك وتخالفون امره وامر رسوله (ص) في ولاية علىّ (ع) (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) اى راميا لكم بالحصباء أو ريحا حاملة للتّراب (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) اى إنذاري حين رأيتم المنذر به (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) إنكاري عليهم فاعتبروا أنتم بهم وتسلّ أنت يا محمّد (ص) عن تكذيبهم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) الم ينظروا في آيات قدرته ولم يروا الى الطّير (فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهنّ (وَيَقْبِضْنَ) بالدّفيف أتى به مضارعا لانّ الدّفيف يكون مكرّرا متدرّجا ويناسبه المضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ ، والصّفيف إذا وقع يكون باقيا على الحالة الاولى ويناسبه الفاعل الدّالّ على الاستمرار من دون التّجدّد في الحدوث (ما يُمْسِكُهُنَ) في الجوّ (إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) فيعلم دقائق ما يحتاج اليه المخلوق والغرض من النّظر الى الطّير ان ينظر العاقل الى انّها مخلوقة من التّراب والغالب عليه الجزء الارضىّ وهي بالطّبع طالب للمركز ، وانّ الله تعالى خلقها بحيث يكون تعيّشها في الجوّ وقوتها يكون من حركتها في الجوّ في الأغلب فخلقها تعالى بحيث يكون جميع ما تحتاج اليه في حركتها وتعيّشها في الجوّ مهيّأة ، وليس هذا الّا فعل حكيم بصير قدير وليس فعل طبيعة السّماء والسّماويات كما يقول الدّهريّون ، ولا فعل الطّبائع الارضيّة كما يقول الطّبيعيّون فيعلم من ذلك مبدء قديرا عليما حكيما لنفسه ، ويعلم انّ الّذى لا يهمل شيئا ممّا يحتاج


اليه الطّير لا يهمل الإنسان الّذى هو أشرف من الطّير ولم يخلقه عبثا (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) أم منقطعة ومن استفهاميّة للإنكار وهذا الّذى خبره (يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) ينصركم حال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر أو صفة لجند وتوحيد الضّمير لوحدة صورة الجند ولذلك حمل على هذا ومن دون الرّحمن بمعنى من عند الرّحمن متعلّق بينصركم أو حال عن فاعل ينصركم ، أو بمعنى من غير الرّحمن ، وحال من فاعل ينصركم أو صفة اخرى لجند يعنى لا يقدر أصنامكم وسائر جنودكم ان تنصركم فباىّ قوّة تعصوننى (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) من الشّيطان (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ) الله (رِزْقَهُ بَلْ) ليس اعتمادهم في مخالفتهم على رازق سوى الله يرزقهم ولكنّهم (لَجُّوا) خاصموا نبيّنا (فِي عُتُوٍّ) في استكبار عن الحقّ واهله وتجاوز عن الحدّ في اللّجاجة (وَنُفُورٍ) من الحقّ واهله (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) اى مصروعا على وجهه فانّ كبّه واكبّه بمعنى صرعة ، واكبّ بمعنى انكبّ لازم ومتعدّ (أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) غير منحرف عن المقصد ، سئل الكاظم (ع) عن هذه الآية فقال : انّ الله ضرب مثلا من حادّ عن ولاية علىّ (ع) كمن يمشى على وجهه لا يهتدى لأمره وجعل من تبعه سويّا على صراط مستقيم ، والصّراط المستقيم أمير المؤمنين (ع) (قُلْ) يا محمّد (ص) لقومك (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ذكرا من أصول ما يحتاج اليه الإنسان ما هو أظهر ، والحاجة اليه أكثر (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) شكرا قليلا أو نعيما قليلا من نعمائه تشكرون (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فهو المبدء والمنتهى والفاعل والغاية ، ومن تحتاجون اليه في الدّنيا والآخرة (وَيَقُولُونَ) اى قومك المنكرون للبعث (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ) لهم انّ البعث خارج عن الزّمان انّما هو في طول الزّمان لا في عرضه وأنتم تسألون عن وقته في عرض الزّمان و (إِنَّمَا الْعِلْمُ) بمرتبته في طول الزّمان (عِنْدَ اللهِ) من العلوم الخاصّة به لا يعلمها غيره (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) من عنده (مُبِينٌ) ظاهر أو مظهر لصدقى (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) ذا زلفة اى لمّا رأوا الموعود ذا قرب (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ) لهم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) قرئ بتخفيف الدّالّ وبتشديده ، والمعنى في كليهما واحد يعنى هذا الّذى كنتم تستعجلون به وتدعون الله بتعجيله ، وقيل : هو من الدّعوى والمعنى كنتم تدّعون انّه ليس بحقّ ، ويكون الباء للتّعدية أو للإلصاق ، روى عن الباقر (ع) : هذه نزلت في أمير المؤمنين (ع) وأصحابه الّذين عملوا ما عملوا ، يرون أمير المؤمنين (ع) في أغبط الأماكن لهم فيسيء وجوههم ويقال : هذا الّذى كنتم به تدّعون الّذى انتحلتم اسمه ، وعنه (ع) فلمّا رأوا مكان علىّ (ع) من النّبىّ (ص) سيئت وجوه الّذين كفروا يعنى الّذين كذّبوا بفضله ، والإتيان بالماضي في قوله فلمّا رأوا لتحقّق وقوعه على الاوّلين ولماضويّته على الأخير (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) ايّها الكفّار (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) أماتني (وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) بابقائنا الى آخر أعمارنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) هو عذاب الدّنيا أو عذاب الموت أو البرازخ أو القيامة ، وهذا جواب لهم حيث قالوا نتربّص به ريب المنون (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) المفيض للوجود وكمالات الوجود على كلّ موجود (آمَنَّا بِهِ) تؤمنون به أو لا تؤمنون (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) فلا نبال معاداتكم ومودّتكم (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) روى عن الباقر (ع) فستعلمون يا معشر المكذّبين حيث انبأتكم رسالة ربّى في ولاية علىّ (ع) والائمّة (ع) من بعده من


هو في ضلال مبين ، كذا أنزلت (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) غائرا في الأرض بحيث لا يمكن اجراؤه على وجه الأرض ولا نيله بدلو وغيره (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) جار أو ظاهر ، ولمّا لم يكن اسم الماء خاصّا بالماء العنصرىّ الّذى هو جسم سيّال محيط بالأرض بل كلّ ما كان سببا لحياة ما وسببا لتماسك الأجسام اليابسة ماء فالعلم والايمان وإفاضات الله كلّها مياه بوجه ، والامام الّذى به يكون الايمان ، والولاية الّتى هي البيعة الخاصّة الايمانيّة الّتى بها يحصل الايمان ويدخل بذر المعرفة في القلوب ماء ، والحياة النّباتيّة والحيوانيّة بمراتبها ، والانسانيّة بمراتبها كلّها مياه ، والعقول والأرواح والنّفوس الكلّيّة والجزئيّة البشريّة والحيوانيّة والنّباتيّة كلّها مياه ، والرّوح النّفسانيّة الّتى هي مركب القوى الدّرّاكة والحيوانيّة الّتى هي مركب حياة الأعضاء ماء ، والمشيّة الّتى هي أصل كلّ أصل ومبدء كلّ مبدء ومنتهى كلّ منتهى أصل المياه ، فاذا عرفت ذلك سهل عليك تصوّر وجوه الآية ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره في بيان وجه من وجوه الآية :

مقرئى مى خواند از روى كتاب

ماؤكم غورا ز چشمه بندم آب

آب را در چشمه كه آرد دگر

جز من بى مثل وبا فضل وخطر

فلسفيّى منطقيّى مستهان

مى گذشت از سوى مكتب آن زمان

چونكه بشنيد آيت أو از ناپسند

گفت آريم آب را ما با كلند

شب بخفت وديد أو يك شير مرد

زد طپانچه هر دو چشمش كور كرد

گفت زين دو چشمه چشم اى شقي

با تبر نوري بيار ار صادقي

روز برجست ودو چشمش كور ديد

نور فائض از دو چشمش ناپديد

سورة القلم

وهي مكّيّة ، وقيل : من اوّله (الى قوله تعالى) (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ، مكّىّ ، وما بعده (الى قوله تعالى) (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، مدنىّ ، وما بعده (الى قوله تعالى) يكتبون ، مكّىّ ، وما بعده مدنىّ ،

وهي اثنتان وخمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن) روى عن الصّادق (ع) وامّا ن فهو نهر في الجنّة قال الله عزوجل : اجمد ، فجمد ، فصار مدادا ثمّ قال عزوجل للقلم : اكتب ، فسطر القلم في اللّوح المحفوظ ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور ، واللّوح لوح من نور ، وبهذا المعنى مع اختلاف في اللّفظ اخبار كثيرة ، وقيل : المراد به الحوت الّذى عليه الأرضون ، وقيل : هو لوح من نور ، وقيل : هو الدّواة ، وقيل : هو مطلق الحوت في البحر ، وقيل : هو من أسماء السّورة ، وقيل : هو من حروف اسم الرّحمن ، وقيل : هو من أسماء محمّد (ص) ولعلّك بعد ما سبق في اوّل البقرة يسهل عليك التّوفيق بين هذه الأقوال ؛ وتعلم انّ ن كناية عن مرتبة من مراتب العالم وانّ محمّدا (ص) متّحد مع جميع مراتب العالم وانّ مراتب العالم مراتب سعة وجود الله تعالى ، وانّ السّورة ظهور لتلك المرتبة (وَالْقَلَمِ) قيل : المراد به مطلق القلم ، اقسم الله به لكثرة منافع الخلق به ، إذ هو أحد لساني الإنسان بل هو أشرف لسانيه لانّ لسانه لا يبلّغ ما في جنانه الى من بعد منه زمانا أو مكانا ، والقلم يبلّغ ما في جنان الإنسان الى الأباعد منه ، والكلام يفنى من حينه ولو بقي اثره في قلب


السّامع لم يبق في الأغلب الى آخر عمره ، ولو بقي لم يبق بعده بخلاف كتاب القلم كما قيل : انّ البيان بيانان ، بيان اللّسان وبيان البنان ، وبيان اللّسان تدرسه الأعوام ، وبيان الأقلام باق على مرّ الايّام ، وبالقلم يحفظ احكام الأديان وبه يستقيم أمور العالمين كما قيل : انّ قوام الدّنيا بشيئين ، القلم والسّيف ، والسّيف تحت القلم ، وقد قيل :

ان يخدم القلم السّيف الّذى خضعت

له الرّقاب ودانت حذره الأمم

كذا قضى الله للاقلام مذ برئت

انّ السّيوف لها مذ أرهفت خدم

وروى انّ المراد به القلم الأعلى الّذى سطر ما كان وما هو كائن وهو ملك من الملائكة (وَما يَسْطُرُونَ) اقسم بالمسطورات أو بالملائكة الّذين يسطرون ما كان وما هو كائن أو الملائكة الّذين يسطرون أحوال الارضيين ، أو كتّاب الأعمال الّذين يسطرون اعمال بنى آدم ، أو النّاس الّذين يسطرون الكتب السّماويّة والأحكام الإلهيّة والشّرائع الحقّة والفنون والصّناعات المعاشيّة والدّيون والمعاملات والمحاسبات الخلقيّة (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) بنعمة ربّك حال والباء للمصاحبة ، والعامل فيها معنى النّفى ، أو للسّببيّة ومتعلّقة بمعنى النّفى (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) على التّبليغ وتحمّل مشاقّه (غَيْرَ مَمْنُونٍ) اى غير مقطوع أو غير ممنون به عليك (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الخلق بالضّمّ وبالضّمّتين السّجيّة والطّبع والمروءة والدّين ، والكلّ مناسب هاهنا ، ولكنّ المراد هو السّجيّة ، فانّ المقصود انّك على خلق تتحمّل به كلّ ما يرد عليك ممّا يغيّر غيرك إذا ورد عليه ولا يغيّرك لا ظاهرا ولا باطنا ، ومثل ذلك الخلق لا يكون الّا عن دين عظيم هو ولاية علىّ (ع) وهي الولاية المطلقة ، فانّ من ترقّى عن مقام البشريّة ووصل الى مقام الولاية المطلقة يتبدّل جميع أوصافه الرّذيلة الّتى هي الأخلاق الحيوانيّة والرّذائل النّفسانيّة بالأوصاف الملكيّة الّتى هي الخصائل الحسنة ومنها المروّة الكاملة ، وسبب الكلّ هو الطّبع الكامل والمزاج المعتدل وقد فسّر في الاخبار بالدّين والإسلام ، وعن الصّادق (ع) : انّ الله عزوجل ادّب نبيّه (ص) فأحسن أدبه فلمّا أكمل له الأدب قال : انّك لعلى خلق عظيم ، وفي خبر انّ الله ادّب نبيّه (ص) فأحسن تأديبه فقال : خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين ، فلمّا كان ذلك انزل الله انّك لعلى خلق عظيم (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) الباء بمعنى مع ، والمفتون بمعنى المصدر ، أو المفتون اسم مفعول ، والمعنى بأيّكم العقل المفتون ، أو هو من باب التّجريد اى مع ايّكم الرّجل المفتون ، أو الباء زائدة ، أو بمعنى في والمعنى في اىّ الفريقين منكم المفتون ، روى عن الباقر (ع) انّه قال : قال رسول الله (ص) : ما من مؤمن الّا وقد خلّص ودّى الى قلبه ، وما خلّص ودّى الى قلب أحد الّا وقد خلّص ودّ علىّ (ع) الى قلبه ، كذب يا عليّ من زعم انّه يحبّنى ويبغضك ، فقال رجلان من المنافقين : لقد فتن رسول الله (ص) بهذا الغلام فأنزل الله تبارك : فستبصر ويبصرون بايّكم المفتون ، قال : نزلت فيهما (الى آخر الآيات) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الّذى هو ولاية علىّ (ع) والضّالّ عن سبيل الولاية هو المجنون حقيقة (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الى الولاية (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) لله أو لك في علىّ (ع) أو لعلىّ (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) المداهنة والادهان إظهار خلاف ما تضمر والغشّ (فَيُدْهِنُونَ) والمعنى ودّوا ادهانك وغشّك أو نفاقك أو مداراتك معهم بخلاف ما أضمرت فيدهنون بعدك أو ودّوا ادهانك بسبب انّهم يدهنون على الاستمرار ، وقال القمّى : اى احبّوا ان تغشّ في علىّ (ع) فيغشّون معك (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) تأكيد للاوّل وتبديل للمكذّبين بالأوصاف الاخر ذمّا لهم بجميع ذلك فانّ كلّ كذّاب يكون كثير الحلف ، وكلّ كثير الحلف يكون مهينا عند الخلق وعند الله ، فانّ كثرة الحلف لا تكون الّا من كون الحالف مهينا لا يقبل منه ،


وكثرة حلفه تصير سببا لكونه مهينا أيضا (هَمَّازٍ) عيّاب طعّان (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) النّمّ التّوريش والإغراء ورفع الحديث اشاعة له وإفسادا وتزيين الكلام ، والنميم والنّميمة اسم له (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يمنع قواه ومداركه وأهل مملكته عن خيراتهم الحقيقيّة الّتى هي انقيادهم لولىّ أمرهم وللعقل ثمّ عن خيراتهم المجازيّة اللّازمة لتلك الخيرات ، ثمّ يمنع أهل المملكة الكبيرة عن الخيرات الحقيقيّة ، ثمّ عن الخيرات المجازيّة (مُعْتَدٍ) متجاوز عن الحدّ أو ظالم على نفسه بالطّغيان على الامام (أَثِيمٍ) كثير الإثم (عُتُلٍ) العتلّ الأكول المنيع الجافي الغليظ (بَعْدَ ذلِكَ) المذكور من المثالب (زَنِيمٍ) الزّنيم المستلحق في قوم ليس منهم والدّعىّ واللّئيم المعروف بلؤمة أو شره ، روى عن النّبىّ (ص) انّه سئل عن العتلّ الزّنيم فقال : هو الشّديد الخلق المصحيح (١) الأكول الشّروب الواجد للطّعام والشّراب الظّلوم للنّاس ، الرّحب الجوف ، وعن علىّ (ع): الزّنيم هو الّذى لا أصل له ، وقال القمّىّ : الخير أمير المؤمنين (ع) معتد اى اعتدى عليه عتلّ بعد ذلك قال : العتّل العظيم الكفر والزّنيم الدّعىّ (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قد مضى بيان الأساطير مكرّرا في السّابق ، وقيل : نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة كان يمنع عشيرته عن الإسلام وكان موسرا وله عشر بنين فكان يقول لهم وللحمته : من أسلم منكم منعته رفدي وكان دعيّا ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) على الأنف قيل : قد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي اثره ، وقيل : انّه كناية عن ان يذلّه غاية الاذلال ، وقال القمّىّ : أساطير الاوّلين اى أكاذيب الاوّلين سنسمه على الخرطوم قال في الرّجعة إذا رجع أمير المؤمنين (ع) ويرجع اعداؤه فيسمهم بميسم معه كما يوسم البهائم على الخراطيم الأنف والشّفتان (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) اى أهل مكّة بالقحط والجوع (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) المعهودة الّتى كانت مالكوها مستعدّين لان يصرموها فلمّا دخلوها وجدوها بلا ثمر لانّهم لم يستثنوا وكانت تلك الجنّة على تسعة أميال من صنعاء اليمن وكانت يقال لها الرّضوان (إِذْ أَقْسَمُوا) اى المالكون لها (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) وقت الصّباح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) لا يقولون ان شاء الله وسمّى استثناء لما فيه من الإخراج من مشيّة القائل والتّعليق على مشيّة الله تعالى (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ) اى حرّ طائف كالسّموم ، أو برد طائف (مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ) صارت وقت الصّباح (كَالصَّرِيمِ) كالجنّة المقطوعة الثّمار أو كاللّيل المظلم باحتراقها ، أو كالنّهار المضيء بابيضاضها وعدم خضرتها ، فانّ الصّريم يطلق على اللّيل والنّهار (فَتَنادَوْا) نادى بعضهم بعضا (مُصْبِحِينَ) وقت الصّباح (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا) الى جنّتهم للصّرم (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتسارّون (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) مفعول ليتخافتون بلا واسطة أو بواسطة الباء الجارّة (الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) اى على منع للفقراء ، أو على جدّ من أمرهم ، أو على غضب على الفقراء وقت الصّرم (قادِرِينَ) اى يقدّرون عند أنفسهم ذلك (فَلَمَّا) دخلوا بستانهم و (رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) عن جنّتنا فانّها ليست على صفة جنّتنا ، أو لضالّون عن طريق الحقّ في أمرنا حيث أردنا منع الفقراء فلذلك عوقبنا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) بل هي جنّتنا لكنّا صرنا محرومين من ثمارها بإرادتنا منع الفقراء (قالَ أَوْسَطُهُمْ) سنّا أو أعدلهم

__________________

(١) وزن مبالغة اى غالب الصّحة وقليل المرض ومقابله الممريض والممراض ، والخبر انّه لا خير في البدن المصحاح.


أو أفضلهم واعقلهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) تنزّهون الله فتؤدّوا شكر نعمه وتؤدّوا حقوقها ، أو تصلّون (قالُوا) اعترافا بظلمهم لأنفسهم وتنزيها للحقّ تعالى عن الظّلم (سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا) اعترافا بطغيانهم (يا وَيْلَنا) يا قوم ويلنا أو نادوا الويل لغاية دهشتهم (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) وهذه تقال عند شدّة الغيظ وغلظ اليأس ، ويقال عند التّوجّه الى الله والتّوبة اليه والنّدم على ما فرّط (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) وهذه تدلّ على انّهم تابوا الى الله وندموا على ما فرّط منهم (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ كَذلِكَ الْعَذابُ) في الدّنيا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) نسب الى عبد الله بن مسعود انّه قال : بلغني انّ القوم أخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصّدق فأبدلهم بها جنّة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا ، وقال ابو خالد اليمامىّ : رأيت تلك الجنّة ورأيت كلّ عنقود منها كالرّجل الأسود القائم (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) عن المعاصي أو عن رؤية أنفسهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَ) لم نجعل لهم جنّات (فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) كانوا يقولون ان كان بعث وجزاء كما يقوله محمّد (ص) فانّ حالنا يكون أفضل في الآخرة كما في الدّنيا ولو لم يكونوا يقولون ذلك بألسنتهم فانّهم كانوا يقولون ذلك بلسان حالهم فقال الله تعالى ، ذلك ظنّ فاسد وزعم باطل (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) على الله ما لا يرضاه الجاهل أو كيف تحكمون بينكم بترجيح الكافر المعاند على المسلم الموافق (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) ذلك اى تقرأون والحال ان ليس لكم كتاب وكتاب الله الّذى هو القرآن يحكم بخلاف ذلك (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) تدرسون معلّق عنه أو هو استفهام على الاستيناف بتقدير اداة الاستفهام (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) اى ثابت علينا الى يوم القيامة أو كاملة باقية (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) جواب للقسم (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ) المذكور من جعلنا المسلمين كالمجرمين (زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) لله يجعلونهم مثل المسلمين (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم امر للتّعجيز (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) ظرف لقوله تعالى : فليأتوا ، أو المعنى فليأتوا بشركائهم في الدّنيا حتّى نعلم انّ لهم شركاء ويوم يكشف ظرف لقوله تعالى : ترهقهم ذلّة كناية عن هول اليوم وشدّته ، فانّ الأمر إذا اشتدّ واحتاج الإنسان الى الفرار يكشف عن ساقه يعنى يوم يشتدّ الأمر عليهم ، أو المعنى يوم يكشف عن ساق البدن الاخروىّ فانّ البدن الدّنيوىّ كالحجاب واللّباس للبدن الاخروىّ بل بساق البدن الاخروىّ ولارادة ساق البدن الاخروىّ نكّر السّاق اشارة الى منكوريّته لهم أو الى تفخيمه ، أو المعنى يكشف عن شدّة عظيمة فانّه يكنّى عن الشّدّة بالسّاق ، وهذا معنى قوله تعالى : والتفّت السّاق بالسّاق ، أو المعنى يوم يكشف عن أصل الأمور وحقيقتها (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لانّ استكبارهم عن السّجود في الدّنيا يظهر بصورة عدم الاستطاعة له في الآخرة ، عنهما (ع) انّهما قالا : أفحم (١) القوم ودخلتهم الهيبة وشخصت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر لما رهقهم من النّدامة والخزي والذّلّة ، وعن الرّضا (ع) انّه قال حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا ويدبّح (٢) أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السّجود (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) من شدّة الهول وكثرة الشّدائد (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ)

__________________

(١) أفحم القوم عجزوا ـ وأفحمه الهمّ منعه.

(٢) دبّح بالدّال والباء الموحّدة المشدّدة والحاء المهملة بسط ظهره وطأطأ رأسه.


في الدّنيا ، وعن الصّادق (ع) وهم سالمون اى مستطيعون ، وقال القمّىّ : يكشف عن الأمور الّتى خفيت وما غصبوا آل محمّد (ص) حقّهم ويدعون الى السّجود قال : يكشف لأمير المؤمنين (ع) فيصير أعناقهم مثل صياصي البقر يعنى قرونها فلا يستطيعون ان يسجدوا وهي عقوبة لهم لانّهم لم يطيعوا الله في الدّنيا في امره وهو قوله وقد كانوا يدعون الى السّجود وهم سالمون قال الى ولايته في الدّنيا وهم يستطيعون (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) اى حديث ولاية علىّ (ع) ، تهديد بليغ لهم (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) قد مضى الآية في سورة الأعراف (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) قد مضت الآية في سورة الطّور (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) من ذلك ما يستغنون به عنك وما يحكمون به (فَاصْبِرْ) اى فانتظر (لِحُكْمِ رَبِّكَ) فيهم ولا تعجل بالدّعاء عليهم أو فاصبر على أذاهم وتدبيرهم لمنع علىّ (ع) عن حقّه لأجل حكم ربّك بإمهالهم ولا تعاجل بالدّعاء عليهم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعنى يونس بن متّى (ع) حيث تعجّل بالدّعاء على قومه فوعده الله العذاب وتاب على قومه ورفع عنهم العذاب فغضب يونس (ع) وفرّ منهم وابتلى ببطن الحوت (إِذْ نادى) في بطن الحوت أو نادى الله بالعذاب على قومه (وَهُوَ مَكْظُومٌ) مملوّ غيظا على قومه ، وعن الباقر (ع) اى مغموم (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وهي التّوبة عليه والشّفقة (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) اى الأرض الخالية من الأشجار والنّبات والسّقوف (وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) بان أخرجه من بطن الحوت ونبذه بأرض ذات ظلّ وجعله ثانيا رسولا الى قومه (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ) اى محمّد (ص) أو القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) قيل : نزلت حين نزول القرآن وقراءته حيث كانوا ينظرون اليه من شدّة البغض والحسد نظرا يكادون يصرعونه بنظرهم ، وورد في الخبر : انّها نزلت حين قال : من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه آخذا بعضد علىّ (ع) رافعا له وقال بعضهم لبعض : انظروا الى عينيه تدوران كأنّهما عينا مجنون ، وقيل : نزلت في اصابة العين فانّه روى انّه كان في بنى أسد عيّانون فأراد بعضهم على ان يعيّنه (ص) ، وورد انّ العين ليدخل الرّجل القبر والجمل القدر ، وروى انّه مرّ الصّادق (ع) بمسجد الغدير فنظر الى ميسرة المسجد فقال : ذاك موضع قدم رسول الله (ص) حيث قال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، ثمّ نظر الى الجانب الآخر فقال : ذاك موضع فسطاط بعض المنافقين فلمّا ان رأوه رافعا يده قال بعضهم لبعض : انظروا الى عينيه تدوران كأنّهما عينا مجنون ، فنزل جبرئيل بهذه الآية.

سورة الحاقة

مكّيّة ، احدى وخمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) من حقّ بمعنى وجب أو ثبت ، أو من حقّ يحقّ من باب نصر من حاققته فحققته احقّه من المغالبة ، وعلى اىّ معنى فسمّيت القيامة حاقّة لتحقّقها وثبوتها ، أو لغلبتها على الكافرين وإبطالهم ، أو لتحقّق الأمور


فيها وثبوت الحقّ فيها وبطلان الباطل ليكون من قبيل الوصف بحال المتعلّق ، والاستفهام عنها وإتيان الظّاهر موضع المضمر للتّفخيم والتّعجيب (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) انكار درايته (ص) بالاستفهام الانكارىّ الدّالّ على المبالغة والإتيان بالاسم الظّاهر موضع المضمر والإتيان بالاستفهام كلّها يدلّ على التّفخيم (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) بالقيامة سمّيت بها لانّها تقرع قلوب الكفّار بأهوالها وإفزاعها ، أو تقرع فيها رؤسهم بالمقارع من النّار فلينظر هؤلاء الى تكذيبهم بها وعاقبتهم حتّى يرتدعوا عن التّكذيب (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) الصّيحة والرّجفة المتجاوزة عن الحدّ كما مضى مكرّرا (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) قد مضى قصّتهم مكرّرا ومضى في سورة فصّلت وسورة القمر بيان الرّيح الصّرصر (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) قد مضى في سورة القمر بيان الايّام الثّمانية ، وقد مضى سابقا قصّة عاد وثمود (حُسُوماً) الحسوم بالضّمّ الشّؤم والدّؤب (١) في العمل ، ويجوز ان يكون جمعا لحاسم بمعنى القاطع أو بمعنى المانع ، فالمعنى ثمانية ايّام شومات ، أو متتابعات أو قاطعات لحياتهم ، أو مانعات لهم ، قال القمّىّ : كان القمر منحوسا بزحل (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) موتى (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) خالية الأجواف تشبيه لهم بعد خروج أرواحهم باعجاز النّخل المتأكّلة الأجواف (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) من الأمم الماضية ، وقرئ من قبله بكسر القاف وفتح الباء اى من عنده من اتباعه (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) اى قرى قوم لوط الّتى ائتفكت بأهلها (بِالْخاطِئَةِ) اى بالخطيئة (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ) ربّهم (أَخْذَةً رابِيَةً) مثل زيادة عملهم في القبح ، أو اخذة زائدة على خطائهم (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) في أمّة نوح (ع) (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) اى السّفينة الجارية يعنى حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) اى لنجعل الفعلة من طغيان الماء وحملكم في الجارية وإهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين تذكرة لكم وعظة وتعى هذه الفعلة أو التّذكرة اذن واعية ، وللاشارة الى التّأويل روى انّه قال الرّسول (ص) لعلىّ (ع): يا علىّ انّ الله تعالى أمرنى ان أدنيك ولا أقصيك ، وان اعلّمك وتعى ، وحقّ على الله ان تعى ، فنزل : وتعيها اذن واعية ، وفيه اشارة ما الى التّأويل فانّ فيه انّا لمّا التقى ماء البحر الأجاج من الأرض الهيولويّة وماء سماء الاهوية وطغى الماءان الملتقيان وحملناكم في سفينة نوح (ع) الّتى هي سفينة الشّريعة الّتى من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك ، أو سفينة الولاية الّتى هي المركب المنجى الحقيقىّ فانّ مثل عترته مثل سفينة نوح (ع) ينجو من ركبها ويهلك من تخلّف عنها ، لنجعل تلك الفعلة من طغيان الماء أو ركوب السّفينة أو نفس السّفينة الّتى هي الشّريعة أو الطّريقة تذكرة لأمور الآخرة وتعيها اى الشّريعة أو الطّريقة بآدابها ، أو هذه التّذكرة اذن واعية شأنها ان تعى ما يسمع ويرى ، وورد انّ رسول الله (ص) لمّا نزلت هذه الآية قال : سألت الله عزوجل ان يجعلها اذنك يا علىّ (ع) ، وفي رواية قال (ص): اللهمّ اجعلها اذن علىّ (ع) (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) لمّا ذكر القيامة وفخّمها فضّلها للتّهويل والتّهديد والمراد بالنّفخة هي النّفخة الاولى أو الثّانية ، والتّوصيف بالواحدة للاشعار باختصارها وسهولتها مثل قوله تعالى : وما أمرنا الّا واحدة كلح بالبصر (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ) اى رفعت عن مكانها (وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) اى دقّتا وكسرتا ، والتّوصيف بالواحدة مثل توصيف النّفخة يعنى يجعل الأرض مثل الأديم المنبسط ليس فيها تلال ولا وهاد (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) اى القيامة ، سمّيت واقعة لوقوعها لا محالة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ)

__________________

(١) الدّؤب بالضّم الجدّ والتّعب في العمل.


رخوة (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) اى جنس الملك بكثرتها على أطراف السّماء (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) روى عن النّبىّ (ص) انّ حملة العرش اليوم اربعة فاذا كان يوم القيامة ايّدهم بأربعة اخرى فيكونون ثمانية ، وعن الصّادق (ع): حملة العرش والعرش العلم ثمانية ، اربعة منّا واربعة ممّن شاء الله.

اعلم ، انّ حملة العرش والعرش بوجه جملة المخلوقات ، وبوجه العلم ، وبوجه الوجود المطلق الّذى هو اضافة الحقّ الاوّل إضافته الاشراقيّة بوجهه الّذى الى الحقّ تعالى شأنه في النّزول اربعة من الاملاك وهم الملائكة المقرّبون وفي الصّعود وعود النّفوس الى الله يصير الحملة ثمانية ، اربعة من الملائكة المقرّبين واربعة من نفوس الكمّلين من الأنبياء المرسلين (ع) الّذين وصلوا الى أعلى درجات الكاملين واتّحدوا مع الملائكة المقرّبين (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ) قرئ بالتّاء الفوقانيّة والياء التّحتانيّة (خافِيَةٌ) اى نفس خافية أو فعلة أو خصلة أو خطرة خافية ، أو هو مصدر أو اسم فاعل ، والتّاء للمبالغة لا للتّأنيث (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) عطف من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال (بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ) تبجّحا (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ها اسم لخذ وقد يمدّ ويلحق بهما كاف الخطاب ويتصرّف فيها تصرّف الضّمائر بحسب حال المخاطب ، وقد يستغنى بتصريف الهمزة نحو تصاريف الكاف عن الحاق الكاف فيقال : هاء بفتح الهمزة وهاء بكسرها ، وهاؤما ، وهاؤم ، وهاؤنّ (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) لمّا كان علوم النّفس مغايرة لمعلوماتها وجائزة الانفكاك عنها كالظّنون كثيرا ما يعبّر عنها بالظّنون كما سبق مكرّرا والمعنى انّى كنت في الدّنيا موقنا انّى ملاق حسابي عند ربّى فعملت على طبق يقيني ، عن الصّادق (ع): كلّ أمّة يحاسبها امام زمانها ويعرف الائمّة (ع) أولياءهم وأعداءهم بسيماهم وهو قوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ) ، وهم الائمّة (ع) يعرفون كلّا بسيماهم فيعطوا أولياءهم كتابهم بيمينهم ، فيمرّوا الى الجنّة بلا حساب ، ويعطوا أعداءهم كتابهم بشمالهم ، فيمرّوا الى النّار بلا حساب فاذا نظر أولياؤهم في كتابهم يقولون لإخوانهم : هاؤم اقرؤا كتابيه انّى ظننت انّى ملاق حسابيه (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) اى راض صاحبها بها وقيل راضية بمعنى المرضية (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) على الجنّات (قُطُوفُها) جمع القطف بالكسر العنقود ، واسم للثّمار المقطوفة اى المجنيّة ، وقطف العنب من باب ضرب جناه (دانِيَةٌ) يعنى ثمارها الّتى من شأنها ان تجنى دانية للقائم والقاعد (كُلُوا) حال أو مستأنف بتقدير القول (وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) اى الماضية من الأعمال الحسنة (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) قيل : نزلت في معاوية (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) لما يرى من سوء العاقبة وثبت الأعمال السّيّئة (يا لَيْتَها) اى يا ليت الموتة الّتى متّها (كانَتِ الْقاضِيَةَ) لي من غير حياة بعدها (ما أَغْنى) الله أو ما اغنى العذاب (عَنِّي مالِيَهْ) اى الّذى كان لي من الاتباع والأولاد والأموال ، أو ما اغنى ما لي عنّى ما لي الّذى جمعته في الدّنيا (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) سلطنتى أو سلطاني الّذى كان يأمرني بأعمال في الدّنيا ، أو سلطاني الّذى كنت أشركه بالله واجعله شفيعا لي عند الله (خُذُوهُ) حال أو مستأنف بتقدير القول (فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) اى أدخلوه (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) وقد وصف الصّادق (ع) تلك السّلسلة بانّ حلقة منها لو وضعت على الدّنيا لذابت الدّنيا من حرّها ، وعنه (ع): وكان معاوية صاحب السّلسلة الّتى قال الله


عزوجل في سلسلة ذرعها (الآية) ، وعن الباقر (ع): كنت خلف ابى (ع) وهو على بغلته فنظرت بغلته فاذا هو شيخ في عنقه سلسلة ورجل يتبعه فقال : يا علىّ بن الحسين (ع) اسقني ، فقال الرّجل : لا تسقه لا سقاه الله ، قال : وكان الشّيخ معاوية ، وقال القمّىّ : معنى السّلسلة سبعون ذراعا في الباطن هم الجبابرة السّبعون.

اعلم ، انّ الإنسان واقع بين الحيوانيّة وبين الملكيّة ولنفسه وجه الى الحيوانيّة ووجه الى الملكيّة ويعبّر عن الجهتين باليسار واليمين ، وإذا عمل الإنسان عمله من حيث وجهته الى الحيوانيّة يثبت ذلك العمل في صفحة النّفس الّتى تلى الحيوانيّة ، وبحذائها الكتاب الّذى بيد كاتب السّيّئات فيثبت ذلك العمل كاتب السّيّئات في كتاب السّيّئات سواء كان ذلك العمل بحسب صورته من الطّاعات أو من المعاصي ، ولذلك ورد في حقّ النّاصب : صلّى أو زنى ، وإذا بعث ذلك العامل يوم القيامة يتمثّل العمل الّذى كان في صفحة النّفس الدّانية ويأتيه كتاب عمله الّذى كتبه كاتب السّيّئات من تلك الجهة وهي شمال النّفس والإنسان ، وإذا عمل عمله من حيث وجهته الى الملكيّة ثبت ذلك العمل اوّلا في صفحة نفسه الملكيّة وبحذائها الكتاب الّذى بيد كاتب الحسنات فيثبته كاتب الحسنات في كتاب الحسنات سواء عدّ ذلك العمل بحسب صورته من السّيّئات أو من الحسنات ، وهذا أحد وجوه تبديل السّيّئات حسنات ، وإذا بعث ذلك العامل يوم القيامة يتمثّل صورة العمل الّذى كان في صفحة النّفس العليا ويؤتى كتابه من تلك الجهة فيرى صورة اعماله في صفحة نفسه وفي كتابه على غاية الحسن والبهاء فيتبجّح ويقول من غاية الوجد والسّرور : هاؤم اقرؤا كتابيه (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) يعنى انّه لم يكن صاحب خير لا بحسب قوّته العلّامة ولا بحسب قوّته العمّالة (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) لانّ النّسب الجسمانيّة صارت منقطعة والنّسب الرّوحانيّة الالهيّة لم تكن له حاصلة لانّ حصولها لا يكون الّا بالايمان بالله بالبيعة العامّة أو الخاصّة فلم يكن له في ذلك الموقف حميم جسمانىّ ولا حميم روحانىّ (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) هو ما يغسل من الثّوب ونحوه كالغسالة ، وما بسيل من جلود أهل النّار ، وما كان شديد الحرّ ، واسم شجر في النّار ولم يكن له طعام الّا من غسلين لانّه لم يكن يطعم من طعامه حتّى يعطيه طعاما طيّبا عوضا من طعامه (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) اى المذنبون من خطئ الرّجل إذا أذنب عمدا أو خطأ (فَلا أُقْسِمُ) لفظة لا مزيدة للتّأكيد وشاع زيادتها في القسم (بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) بكلّ ما من شأنه ان يبصر وان لا يبصر (إِنَّهُ) اى القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وقول الرّسول (ص) من حيث انّه رسول ليس الّا من المرسل سواء أريد بالرّسول جبرئيل أو محمّد (ص) (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) كما تقولون تارة انّه شاعر (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) كما تقولون اخرى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) قليلا صفة مفعول مطلق محذوف ، أو ظرف لتذكّرون وما زائدة للتّأكيد أو صفته والإتيان بالايمان في جانب نفى كونه شعرا لانّ تميّز كونه من الله دون الشّعر يحتاج الى الايمان العامّ أو الخاصّ ، أو الإذعان بالله واليوم الآخر حتّى يعلم انّ مضمونه ليس الّا الهيّا اخرويّا عقليّا بخلاف الشّعر فانّه لا يكون في الأغلب الّا خياليّا نفسانيّا ، وأتى في جانب نفى الكهانة بالتّذكّر لعدم اكتفاء الايمان في تميّز القرآن من الكهانة الّتى هي أيضا اخبار بالغيب ، وللحاجة الى تذكّر حال الكاهن وحال الرّسول (ص) وأقوالهما وانّ حال الكاهن لا يشبه حال الالهيّين الاخرويّين وانّ حال الرّسول (ص) وقوله لا يشبه حال الكاهنين الشّيطانيّين (تَنْزِيلٌ) اى بل هو تنزيل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ) ابتدع (عَلَيْنا) كذبا (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لامسكنا من أعضائه بيمينه كما يمسك من أعضاء الجاني المستحقّ للعذاب بيده ، وذكر اليمين لانّه أشرف أطرافه فيكون أبلغ في الدّلالة على الاذلال أو لأخذنا منه باليمين للقطع اى قطعناها فانّه حينئذ يكون سارقا في الدّين ، والسّارق يقطع منه اليمين ، أو لاخذناه بقوّتنا ، واستعمال اليمين في القوّة


لظهورها على اليد في الأغلب ، واليمين أقوى الأطراف (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) وهو حبل القلب إذا قطع هلك صاحبه ، وقطعه كناية عن إهلاكه (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) مانعين وكافّين وجمع الحاجزين لحملة على أحد المفيد للعموم في سياق النّفى (وَإِنَّهُ) اى القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) وقد مضى بيان التّقوى ومراتبها في اوّل البقرة (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ وَإِنَّهُلَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قد سبق مكرّرا انّ المراد بتسبيح الرّبّ تنزيه اللّطيفة الانسانيّة الّتى هي مظهر الله وهو الرّبّ بوجه واسم الرّبّ بوجه سواء علّق التّسبيح على الله أو على الرّبّ أو على اسم الرّبّ ، والباء هاهنا صلة التّسبيح لتأكيد اللّصوق أو سببيّة ، روى عن الكاظم (ع) (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعنى جبرئيل عن الله في ولاية علىّ (ع) ، قال (ع) قالوا : انّ محمّدا (ص) كذب على ربّه وما امره الله بهذا في علىّ (ع) فأنزل الله بذلك قرآنا فقال : انّ ولاية علىّ (ع) تنزيل من ربّ العالمين ولو تقوّل علينا محمّد (ص) بعض الأقاويل (الآية) ثمّ عطف القول فقال : انّ ولاية علىّ (ع) لتذكرة للمتّقين وانّ عليّا (ع) لحسرة على الكافرين وانّ ولايته لحقّ اليقين فسبّح باسم ربّك العظيم يقول اشكر ربّك العظيم الّذى أعطاك هذا الفضل ، وعن الصّادق (ع): لمّا أخذ رسول الله (ص) بيد علىّ (ع) فأظهر ولايته قالا جميعا : والله ما هذا من تلقاء الله ولا هذا الّا شيء أراد ان يشرّف ابن عمه فأنزل الله : ولو تقوّل علينا (الآيات) وفي خبر : نزلت في أمير المؤمنين (ع) ومعاوية عليه ما عليه.

سورة المعارج

مكّيّة ، وقيل : سوى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) ، اربع وأربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) سأل يتعدّى بنفسه وبعن وبالباء الى المفعول الثّانى ، ويخفّف الهمزة فيقال: سال يسأل مثل خاف يخاف ، وقرئ به أيضا ، قيل : نزلت في ابى جهل حين قال الرّسول (ص) لقريش : انّ الله بعثني ان اقتل جميع ملوك الدّنيا واجرّ الملك إليكم فأجيبونى الى ما أدعوكم اليه تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم وتكونوا ملوكا في الجنّة ، فقال ابو جهل : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الّذى يقول محمّد (ص) (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) حسدا لرسول الله (ص) ، وقيل : نزلت في الحارث بن عمر الفهري حين قال رسول الله (ص) في علىّ (ع) ما قال فقال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (الآية) وقد سبق في سورة الأنفال عند قوله : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) ، بيان لنزول الآية ، وفي خبر : لمّا اصطفّت الخيلان يوم بدر رفع ابو جهل يده فقال : اللهمّ أقطعنا للرّحم وآتانا بما لا نعرفه ففاجئه العذاب ، فأنزل الله تبارك وتعالى سأل سائل بعذاب واقع (لِلْكافِرينَ) اللّام للتّبيين أو متعلّق بواقع واشارة الى انّ الكافر لا حاجة له الى انتظار العذاب بل العذاب واقع له (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) يدفعه عنهم (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) المعراج والمعرج كمكحل والمعرج بفتح الميم والرّاء السّلّم ، والله بإضافته الاشراقيّة الّتى هي فعله وغير خالية منه معراج لعباده السّالكين ، وله معارج بعدد نفوس السّالكين بل بعدد نفوس الخلق أجمعين ، وله أيضا معارج بعدد أنواع الموجودات فهو بوجه معارج ، وبوجه ذو معارج ،


(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) هو ربّ النّوع الانسانىّ وهو أعظم من جميع الملائكة المقرّبين وهو الّذى لم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع نبيّنا (ص) وكان مع أوصيائه الكاملين (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) والمقصود انّه تعرج الملائكة والرّوح اليه في تلك المعارج ، فانّ الملائكة والرّوح تنزل من مقامها العالي الى مقام الطّبع في الملك الكبير والصّغير ثمّ تعرج الى الله ومقامها الاوّل في تلك المعارج ، وقد مضى في سورة بنى إسرائيل وسورة السّجدة بيان لهذه الآية ، وعن الصّادق (ع) انّ للقيامة خمسين موقفا كلّ موقف مقام الف سنة ثمّ تلا الآية (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) على تكذيب قومك وكفرهم بولاية علىّ (ع) لانّهم واقعون في العذاب من غير انتظار لمجيئه (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) اى يرون ذلك اليوم أو العذاب بعيدا من الإمكان أو بعيدا امده (وَنَراهُ قَرِيباً) من الوقوع أو قريبا امده وأنت ترى برؤيتنا فينبغي ان تراه قريبا (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) كالفلزّ المذاب أو كدردىّ الزّيت ويوم بدل من قوله في يوم أو خبر مبتدء محذوف أو ظرف ليبصرونهم أو ليودّ المجرم (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) العهن القطعة من الصّوف أو المصبوغ ألوانا.

اعلم ، انّ الملائكة الموكّلة على بنى آدم والرّوح النّازلة إليهم من مقامها العالي تعرج الى مقاماتها بل الى الله تعالى بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ ، وبالموت يصير سماوات مقامات الأرواح كالصّفر المذاب في عدم تماسكها وعدم تمانعها وانشقاقها لخروج الرّوح الانسانيّة النّاطقة وتصير جبال الانانيّات كالصّوف المنفوش في عدم ثباتها وعدم تمانعها ، وتصير الأعضاء البدنيّة أيضا كالعهن في تخلخلها بخروج الرّوح عنها (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قرئ بالبناء للفاعل وقرئ بالبناء للمفعول يعنى انّ كلّا منهم مشغول بنفسه بحيث لا يسأل الحميم عن حميمه أو لا يسأل حميم عن حميم حمل أوزاره أو دفع العذاب عنه ، لمعرفته انّه لا يغني عنه شيئا ، أو المعنى على البناء للمفعول لا يسئل حميم عن حال حميمه لعدم الاحتياج الى ذلك لمعرفة كلّ كلّ من سواه ، أو لانّ المذنب والمحسن والكافر والمؤمن كانوا ذوي علامات مغنية عن الاستفسار (يُبَصَّرُونَهُمْ) قرئ مبنيّا للمفعول ومبنيّا للفاعل وبصّره من التّفعيل يستعمل في معنى عرّفه وفي معنى قطعه ، وعن الباقر (ع) يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) اى عشيرته الّتى يأوى هو إليهم في نوائبه وكانوا يؤويه في كلّ امر وكان يأوى إليهم في نسبه وصار منفصلا عنهم بالتّولّد منهم (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) ذلك الفداء (كَلَّا) اى يقال له كلّا ردعا له عن ذلك الوداد وعن إنجاء الفداء (إِنَّها لَظى) اللّظى كالفتى النّار أو لهبها ولظى معرفة كما هاهنا اسم لجهنّم أو لواد منها وضمير انّها للقصّة أو لجهنّم ، واستغنى عن ذكرها بشهودها (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) قرئ بالرّفع خبرا للظى ، أو خبرا بعد خبر لانّ وقرئ بالنّصب حالا والشّوى الأمر الهيّن ورذال المال واليدان والرّجلان والأطراف وقحف الرّأس وما كان غير مقتل ، والنّزاعة من نزعه قلعه ، أو من نزع الى اهله نزوعا اشتاق (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) حينئذ عنها أو من أدبر عن الولاية (وَتَوَلَّى) عنها أو عن الولاية أو إليها ، واستعمال تدعو في معنى تجرّ بعنف للتّهكّم بهم (وَجَمَعَ) المال (فَأَوْعى) في وعاء الكنز (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) تعليل للجمع والايعاء يعنى انّ الإنسان بطبعه شديد الحرص وقليل الصّبر ، وقوله تعالى (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) إذا ظرف لجزوعا ، وجزوعا ومنوعا بدل تفصيلىّ من هلوعا ، وهلوعا حال مقدّرة أو محقّقة ، أو جزوعا خبر لكان مقدّرا ، وإذا


ظرف له أو لشرطه (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) والمراد بالشّرّ كلّ ما لا يلائم طبعه وبالخير كلّ ما يلائم طبعه (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) قد مضى في اوّل البقرة بيان الصّلوة ومراتبها (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ).

اعلم ، انّ الصّلوة اسم لكلّ ما به يتوجّه الى الله ولذلك لم يكن شريعة الّا وكانت الصّلوة في تلك الشّريعة وبعبارة اخرى الصّلوة هي التّحلّى بحلي أوصاف الرّوحانيّين كما انّ الزّكاة كانت اسما للتّبرّى من كلّ ما يتبرّى منه ولذلك كانت في كلّ شريعة ، وصلوة القالب كانت في الشّرائع بحسب الاذكار والأفعال مختلفة ، ولمّا كانت شريعة محمّد (ص) أكمل الشّرائع جعلت الصّلوة القالبيّة فيها أكمل الصّلوات مشتملة على عبادات جميع أصناف الملائكة من الّذين هم قيام لا ينظرون ومن الرّكع والسّجّد وعلى صلوة جميع أصناف المواليد من الطّبائع المنطبعة والنّفوس النّباتيّة الّتى هي بوجه قيام لا ينظرون ، وبوجه سجّد ومنطبعة ، ومن النّفوس الحيوانيّة الّتى هي بالطّبع راكعة منكوسة ، ومن النّفوس الانسانيّة الّتى هي قائمة بأحسن التّقويم متمكّنة من الرّكوع والسّجود ، والقيام الّتى كانت لسائر الموجودات ، ولمّا كانت الصّلوة القالبيّة مانعة من الاشغال الضّروريّة من الاكل والشّرب وطلب الحاجات وقضاء الحاجة والنّوم كانت لا يمكن ادامتها الّا على ضرب من التّأويل والمجاز بان يكون المراد من ادامتها عدم فوتها عن أوقاتها المقرّرة ، فليكن المراد ادامة الصّلوة القلبيّة المأخوذة من ولىّ الأمر فانّها ان كان الإنسان مواظبا عليها مستغرقا فيها لم يكن يمنع الاشغال الضّروريّة عن إقامتها بل يكون الإنسان في حالة النّوم أيضا مشغولا بها من غير تعمّل وفكر ورويّة ، ولذلك قال : على صلوتهم يعنى صلوتهم المخصوصة بهم فانّ لكلّ إنسان صلوة خاصّة لا يشاركه فيها غيره بخلاف الصّلوة القالبيّة فانّها مشرّعة للكلّ لا اختصاص لها بفرد دون فرد ، وفي الخبر : إذا فرض على نفسه شيئا من النّوافل دام عليه ، وفي خبر : الّذين يقضون ما فاتهم من اللّيل بالنّهار وما فاتهم من النّهار باللّيل ، ومجمل القول انّ الولاية الحاصلة بالبيعة الثّانية هي الصّلوة الّتى تزكّى الإنسان من الرّذائل الّتى منها كونه هلوعا وتحلّيه بحلية الخصائل الحسنة الّتى منها ادامة الصّلوة القالبيّة والقلبيّة والصّدريّة (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) في الخبر ليس المراد بالحقّ المعلوم الزّكاة ولا الصّدقة المفروضتين بل هو ما يخرجه من ماله يصل به أقرباءه وإخوانه ، والمحروم هو الّذى قد حرم كدّيده في الشري ، أو المحترف الّذى لم يبسط له في رزقه (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) اى يوم الجزاء (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) تعليل لإشفاقهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) قد مضى أكثر تلك الآيات في سورة المؤمنون فلا نعيد تفسيرها (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى إذا كان هذا حال المنافقين الّذين أدبروا عن الولاية ولم يقبلوها وذلك حال من اقبل على الولاية وباع البيعة الخاصّة فما للّذين كفروا بالولاية؟! فانّ الآية كما في الاخبار نزلت في المنافقين الّذين لم يقبلوا ولاية علىّ (ع) (قِبَلَكَ) يعنى فما لهم عندك (مُهْطِعِينَ) مسرعين إليك ، أو مقبلين عليك ، أو ناظرين إليك (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) اى عن يمينك وشمالك (عِزِينَ) العزة كالعدة الجماعة والعصبة منقوص واوىّ جمعه عزين ، وقيل : معناه قعود ، عن أمير المؤمنين (ع) في ذكر حال المنافقين : وما زال رسول الله (ص) يتألّفهم ويقرّبهم ويجلسهم عن يمينه وشماله حتّى اذن الله له في ابعادهم بقوله : واهجرهم هجرا


جميلا ، وبقوله : فما للّذين كفروا قبلك مهطعين (الآيات) (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) قيل : هو انكار لقولهم : لو صحّ ما يقوله لنكون فيها أفضل حظّا منهم كما في الدّنيا (كَلَّا) ردع لهم عن هذا الطّمع (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) اى من نطفة قذرة لائقة للمزابل لا لجنّات النّعيم وانّما يدخل الجنّات إذا بدّل مادّته بمادّة شريفة لطيفة قابلة للجنان الاخرويّة ، ولا يكون ذلك الّا بالايمان بعلىّ (ع) فانّه الماء الّذى كلّما دخل فيه واتّصل به صار من سنخه وجنسه (فَلا أُقْسِمُ) لفظة لا قد مضى مكرّرا انّها شائع دخولها في القسم ، وتكون زائدة للتّأكيد (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) مشارق عالم الطّبع ومغاربه فانّ للشّمس في كلّ يوم بل في كلّ آن مشرقا ومغربا غير ما كان له في الآن السّابق ، ومشارق العوالم العالية ومغاربها ، فانّ كلّ عالم مشرق بوجه ومغرب بوجه ، وله مشرق بوجه ومغرب بوجه (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) بان نذهبهم ونجعل بدلهم جمعا يكونون خيرا منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين ان أردنا ذلك يعنى نقدر على ذلك ولا مانع لنا ولكنّا اهملناهم لحكمة ومصلحة (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في أباطيلهم (وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) اى القبور (سِراعاً) مسرعين (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) النّصب بالفتح والسّكون وقرئ به وبالتّحريك العلم المنصوب ، وبالضّمّتين كلّما جعل علما وكلّما عبد من دون الله وقرئ به ، والنّصب بالضّمّ والسّكون كلّما عبد من دون الله (يُوفِضُونَ) اى يسرعون ، قال القمّىّ : الى الدّاعى يبادرون (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) للخوف والدّهشة (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ) العظيم (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدّنيا وكانوا ينكرونها ويقولون استهزاء : لو كان ما يقولون حقّا لكنّا خيرا منهم فيها.

سورة نوح

مكّيّة ، ثمان وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدّنيا ، أو في الآخرة ، أو بين الدّنيا والآخرة حين الاحتضار ، أو في البرازخ (قالَ) امتثالا لأمرنا وتبادرا الى تبليغ رسالته (يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ظاهر الصّدق ، أو مظهر لصدقى ، أو مظهر لما انذر به ، أو مظهر للأمر بعبادة الله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) ان تفسيريّة وتفسير لنذير أو لمبين ، أو مصدريّة بتقدير اللّام ، أو مصدريّة مفعول به لمبين (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعض ذنوبكم فانّ الكلّ لا يغفر الّا بعد الفناء التّامّ وهو الفناء عن الفناء (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو آخر مدّة أعمارهم وهو الأجل المعيّن الّذى سمّى في الألواح العالية (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ) إذا قدّر مجيئه أو إذا قرب مجيئه (لا يُؤَخَّرُ) فاعملوا لما بعده في زمان الامهال (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لامتنعتم ممّا


أنتم عليه أو ليتكم كنتم تعلمون عقوبة أفعالكم ، أو ليتكم كنتم من أهل العلم (قالَ) بعد ما دعاهم ولم يجيبوه إظهارا لامتثاله وتشكيّا من عدم اجابتهم (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) عنّى وعن الايمان بك وعن تصديقى (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إليك والى الايمان بك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) مساويهم اللّازمة لذواتهم وشنائع أعمالهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلّا يسمعوا قولي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) لئلّا يرونى ادعوهم إليك ، لجاجا وتنفّرا عن الحقّ (وَأَصَرُّوا) على الامتناع (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) عظيما عن انقيادي وسماع قولي (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) تفصيل لدعائه ليلا ونهارا ولذلك عطف بثمّ ، وجهارا مفعول مطلق نوعىّ من غير لفظ الفعل (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) يعنى دعوتهم اوّلا جهارا فلمّا رأيت انّه لا ينفع فيهم لفّقت الجهر والأسرار بالنّسبة الى كلّ ، أو أعلنت لبعض وأسررت لبعض آخر لانّ بعضهم كانوا يتأنّفون عن قبول الدّعاء جهارا (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بيان لكيفيّة دعائه يعنى انّى دعوتهم ووعدتهم على مقتضى اهويتهم ليكون دعائي سببا لميلهم الى المدعوّ لا سببا لنفرتهم (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لمن يستغفره (يُرْسِلِ السَّماءَ) اى السّحاب (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثير الدّرّ والمطر (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) في الدّنيا والآخرة (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) هو من قول نوح (ع) ، أو ابتداء كلام من الله خطابا معهم ، والوقار الرّزانة والعظمة ، والرّجاء ضدّ اليأس ، وقد يستعمل في الخوف ، والمعنى اىّ حال لكم؟ أسفهاء أنتم أم مجانين؟ لانّكم لا ترجون لله وقارا فتستعجلونه بالعذاب ، أو اىّ نفع لكم في حالكونكم لا ترجون لله وقارا وعظمة ، أو ما حالكم؟ ـ أمجانين أنتم أم سكارى؟! لانّكم لا تخافون عظمة الله ، أو اىّ نفع لكم في ذلك؟ (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) نطفة قذرة وعلقة ومضغة وعظما ولحما ونفسا ناقصة وكاملة ، أو خلقكم متطوّرين في أحوالكم من الرّضا والسّخط والبسط والقبض والغنى والفقر والعزّة والذّلّة من غير تصرّف لكم فيها ومن دون ارادة واختيار ، فما لكم لا ترجون رزانته وقد شاهدتموها في تطوّراتكم الخلقيّة ، أو ما لكم لا تخافون عظمته وقد شاهدتموها في تطوّراتكم في أحوالكم (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) هذه أيضا من كلام نوح (ع) استشهادا على عظمته ، أو من كلام الله تعالى (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) مثّل الشّمس بالسّراج في مقابل القمر للاشعار بانّ نورها من ذاتها كالسّراج دون القمر ، وللاشارة الى انّها بضوئها تزيل ظلمة اللّيل كالسّراج (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) انشأكم منها من غير مداخلة اختياركم فيه (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بجعل أبدانكم وأوائل موادّكم جزء منها وقد كنتم متّحدين معها مدّة حياتكم ، أو الله أنبتكم بحسب نفوسكم من ارض أبدانكم ونطفكم نباتا منكورا لا تعرفونها ، ثمّ يعيدكم فيها بعد اختياركم بتوجّهكم الى أبدانكم بلوازم معاشكم (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) يعنى يوقع ذلك بكم مكرّرا ، أو يخرجكم بالموت إخراجا ، أو يخرجكم من أبدانكم البرزخيّة إخراجا منكورا لكم (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) واسعات ، ومن يفعل ذلك ينبغي ان يرجى له الرّزانة أو يخاف منه العظمة (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) اى الرّؤساء الّذين أبطرهم كثرة أموالهم وأولادهم (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) كبيرا غاية الكبارة (وَقالُوا) فيما بينهم (لا تَذَرُنَ


آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) يعنى لا تذرنّ هؤلاء مخصوصا ، قيل : كان هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح (ع) فنشأ قوم بعدهم يأخذون أخذهم في العبادة فقال لهم إبليس : لو صوّرتم صورهم كان انشط لكم وأشوق الى العبادة ، ففعلوا فنشأ بعدهم قوم فقال لهم إبليس : انّ الّذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونهم ، فعبدوهم ، فصار عبادة الأوثان سيرة من ذلك الزّمان ، وقيل : كان نوح (ع) يحرس جسد آدم (ع) على جبل بالهند ويحول بينه وبين الكفّار لئلّا يطوفوا بقبره فقال لهم إبليس : انّ هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون انّهم بنو آدم دونكم وانّما هو جسد وانا اصوّر لكم مثله تطوفون به فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ودّ وسواع ويعوق ويغوث ونسر ، فلمّا كان ايّام الطّوفان دفن تلك الأصنام وطمّها التّراب فأخرجها الشّيطان لمشركي العرب ، وقيل : صارت أوثان قوم نوح (ع) الى العرب فكانت ودّ لقضاعة ، ويغوث لبطنان من طىّ ، ويعوق صار الى همدان ، ونسر لخثعم ، وسواع لآل ذي الكلاع ، واللّات لثقيف ، والعزّى لسليم ، ومناة لقديد ، وإساف ونائلة وهبل لأهل مكّة ، وقيل : كان ودّ على صورة الرّجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة النّسر (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) اى اضلّ عابدوا تلك الآلهة كثيرا من النّاس ، أو اضلّ هؤلاء الآلهة كثيرا بما ظهر من الشّيطان على هياكلها (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) لمّا كان دعاء الأنبياء (ع) على وفق الواقع والتّكوين وقد شاهد نوح (ع) من قومه انّهم في ازدياد الضّلال والبعد عن طريق الإنسان ورأى انّهم قطعوا الانسانيّة والفطرة ويئس من صلاحهم وخيرهم دعا بذلك ، أو لمّا بالغوا في العتوّ والنّفار واخذه البغض في الله واشتدّ غضبه لله دعا بذلك (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) اى من أجل خطاياهم وذنوبهم (أُغْرِقُوا) بالطّوفان (فَأُدْخِلُوا ناراً) بسبب الإغراق فانّهم ماتوا وخرجت أنفسهم بالموت الى النّار (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) يدفعون عنهم العذاب (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) وهذا دليل على انّه علم انّهم قطعوا الفطرة بحيث لا يبقى فيهم استعداد تولّد المؤمن منهم ، روى عن الباقر (ع) انّه سئل : ما كان علم نوح (ع) حين دعا على قومه انّهم لا يلدون الّا فاجرا كفّارا؟ ـ فقال : اما سمعت قول الله تعالى لنوح (ع): (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (رَبِّ اغْفِرْ لِي) بعد ما دعا على قومه لشدّة غضبه لله تضرّع على الله واستغفر من غضبه لله فانّ الحبّ في الله اولى من البغض في الله (وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً)عن الصّادق (ع) يعنى الولاية ، من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء (ع) (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) اى المسلمين والمسلمات الّذين قبلوا الدّعوة العامّة ولم يقبلوا الدّعوة الخاصّة ، أو المراد بهم المؤمنون والمؤمنات بالولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة لكنّ المراد بمن دخل بيته من باع البيعة الخاصّة على يده ، وبالمؤمنين والمؤمنات من باع البيعة الخاصّة على يده وعلى أيدي غيره من الأنبياء والأولياء (ع) (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) بعد دعائه للمؤمنين كرّر دعاءه على الظّالمين لجمعه بين الحبّ في الله والبغض فيه ، وهذا هو الكمال التّامّ للإنسان حيث لا يذهب بغضه في الله حبّه في الله ، ولا حبّه في الله بغضه في الله كما أشار تعالى الى هذا الكمال بقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، قيل : دعا نوح (ع) دعوتين ، دعوة على الكفّار ودعوة للمؤمنين ، فاستجاب الله دعوته على الكافرين فأهلك من كان منهم على وجه الأرض ، ونرجو ان يستجيب أيضا دعوته للمؤمنين فيغفر لهم.


سورة الجنّ

مكّيّة ثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ) لأهل مكّة (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) قد سبق في سورة الأحقاف نزول الآية وقصّة الجنّ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) الجدّ بمعنى البخت ، وروى عن الباقر (ع): انّما هو شيء قالته الجنّ بجهالة فحكى الله عنهم ، أو هو مستعار للعظمة ، وقرئ انّه بكسر الهمزة على انّه محكىّ بقول الجنّ ، وقرئ بفتحها على انّه معطوف على الضّمير المجرور في قوله : فآمنّا به ، أو على انّه معطوف على انّه استمع ، وهكذا الحال في اختلاف القراءة وفي العطف فيما بعد الّا انّ بعض الفقرات لا يمكن ان يكون معطوفا على انّه استمع (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) كما يقول بعض الانس (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) اى من كان منحرفا منّا عن الدّين (عَلَى اللهِ شَطَطاً) قولا بعيدا عن الحقّ مجاوزا عن الحدّ ، أو هو بمعنى الظّلم ، والمراد بالسّفيه الشّيطان ، أو مطلق المنحرفين عن الحقّ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) يعنى ان كنّا نتّبع السّفيه فذلك كان من ذلك الظّنّ يعنى كان تصديقنا واتّباعنا لمن قال لله تعالى بالشّريك والصّاحبة والولد لذلك حتّى سمعنا القرآن وايقنّا انّهم يقولون كذبا (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) من في من الجنّ تبعيضيّة ، أو تعليليّة ، روى عن الباقر (ع) في هذه الآية : انّه كان الرّجل ينطلق الى الكاهن الّذى يوحى اليه الشّيطان فيقول : قل لشيطانك : فلان قد عاذ بك ، وقيل : كان الرّجل من العرب إذا نزل واديا في سفره ليلا قال : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، وقيل : كان رجال من الانس يعوذون برجال من الانس من أجل شرّ الجنّ (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) الرّهق محرّكة السّفه والخفّة وركوب الشّرّ والظّلم ، وغشيان المحارم ، وحمل الإنسان على ما لا يطيقه ، والكذب ، والعجلة ، وضمير فاعل زادوهم للرّجال من الانس ، أو للرّجال من الجنّ ، والمفعول بعكس ذلك ، أو هو للرّجال العائذين أو للمعوّذ بهم أو للجنّ ، والمفعول أيضا يحتمل الكلّ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) هذا من قول مؤمني الجنّ لكفّارهم يعنى انّ هؤلاء الرّجال العائذين لضعف حالهم وسوء عقيدتهم عاذوا بالجنّ أو بالاناسىّ ، فانّهم ظنّوا كما ظننتم ايّها الجنّ ان لن يبعث الله أحدا رسولا الى بنى آدم ، أو لن يبعث الله أحدا في القيامة أو هو معترض من الله والمعنى انّهم اى الجنّ ظنّوا كما ظننتم ايّها الانس ان لن يبعث الله أحدا (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) اى قربناها ، أو صعدنا إليها ، أو طلبنا الصّعود إليها (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) الحرس جمع الحارس وتذكير الشّديد لإجراء الفعيل بمعنى الفاعل مجرى الفعيل بمعنى المفعول في استواء التّذكير والتّأنيث فيه اى حفظة أقوياء لا يمكن الاستراق معهم (وَشُهُباً) جمع الشّهاب (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) يترصّده


للرّمى له وقد مضى في سورة الحجر بيان لهذه الآية ولاستماع الجنّ وردعهم بالشّهب (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) فانّ تغيير أوضاع السّماء يدلّ على حدوث حادث عظيم (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) خيرا وصلاحا (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا) قوم (دُونَ ذلِكَ) في الصّلاح أو دون ذلك بانّ بعضهم في غاية الشّرارة وبعضهم لا يكون في غاية الشّرارة يعنى منّا غير صالحين (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) اى ذوي طرائق مختلفة متفرّقة ، أو كنّا بأنفسنا طرائق متفرّقة ، أو الطّرائق بمعنى الأماثل (وَأَنَّا ظَنَنَّا) اى علمنا ، والإتيان بالظّنّ لما سبق مكرّرا انّ علوم النّفوس شأنها شأن الظّنّ في مغايرتها لمعلوماتها وجواز انفكاك معلوماتها عنها (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أينما كنّا فيها (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) حال أو تميز أو مفعول مطلق لمحذوف حال يعنى ظنّنا انّا لن نعجزه إذا هربنا منه الى السّماء (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) اى القرآن أو الرّسالة أو الولاية (آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) الفاء للسّببيّة (فَلا يَخافُ بَخْساً) نقصا أو ظلما أو مشاحّة في الحساب أو فقأ لعينه (وَلا رَهَقاً) قد مضى الرّهق قبيل ذلك ، عن الكاظم (ع) انّه قال : الهدى الولاية ، آمنّا بمولانا فمن آمن بولاية مولاه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ، قيل : تنزيل؟ قال : لا ، تأويل (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) اى الخارجون عن الحقّ (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) عن الباقر (ع) اى الّذين اقرّوا بولايتنا (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) يعنى يحرقون به أو يوقد الجحيم بهم (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) ان هذه مخفّفة من الثّقيلة والمجموع معطوف على قوله انّه استمع نفر ، أو ان زائدة في الكلام والجملة ابتداء كلام من الله (عَلَى الطَّرِيقَةِ) اى الولاية أو الطّريقة المعهودة المأخوذة من الآباء وهي طريقة الكفر ، ونظير الوجهين قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) اى كثيرا ، لمّا كان الماء عزيز الوجود في ملك العرب وكان جلّ الخيرات منوطا به كنّى به عن كثرة الخيرات ، وعن الصّادق (ع): لأفدناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الائمّة (ع) ، وعن الباقر (ع) يعنى لو استقاموا على ولاية أمير المؤمنين (ع) علىّ (ع) والأوصياء (ع) من ولده وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماء غدقا يقول : لا شربنا قلوبهم الايمان (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم في ذلك الماء ، أو لنعذّبهم بسببه (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) اى عن ذكره لربّه أو ذكر ربّه له ، أو عمّا به ذكر ربّه ، وأصل ما به ذكر الرّبّ علىّ (ع) وولايته كما روى عن ابن عبّاس انّه قال : ذكر ربّه ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) (يَسْلُكْهُ) اى يدخله (عَذاباً صَعَداً) صاعدا كلّ العذاب أو غالبا وغالبا على المعذّب (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) اى مختصّة به (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فيها ، أو المعنى فلا تدعوا مع مظاهر الله الّتى هي المساجد أحدا ، وقد فسّر المساجد هاهنا بالوجه واليدين والرّكبتين والإبهامين ، وعن الكاظم (ع) انّ المساجد هم الأوصياء (ع) وقد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) (الآية) بيان للمساجد (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يعنى محمّدا (ص) (يَدْعُوهُ) اى يعبده ، أو يدعوه بلسانه ، أو يقول : لا اله الّا الله أو يقرأ القرآن ، أو يدعو اليه وهو من جملة ما اوحى اليه (ص) ، أو هو من قول الجنّ بعضهم لبعض (كادُوا) يعنى الجنّ لاستماع دعائه أو أصحابه لاستماع القرآن وأحاديثه ، أو قريشا لمنعه وردعه (يَكُونُونَ


عَلَيْهِ لِبَداً) اللّبدة بالكسرة والسّكون وبالضّمّ والسّكون الصّوف المتراكم بعضه على بعض ، واللّبد بالكسر أو الضّمّ والفتح ، وقرئ بهما جمع لهما ، وقرئ لبّدا بالضّمّ والتّشديد جمع لا بد ولبدا بالضّمّتين (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا) وقرئ قال : انّما ادعوا (رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) سواء رضيتم عنّى أو سخطتم (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) حتّى آتى بما تستعجلون من العذاب أو آتى بما تقترحون من الآيات ، وروى عن الكاظم (ع) انّ رسول الله (ص) دعا النّاس الى ولاية علىّ (ع) فاجتمعت اليه قريش فقالوا : يا محمّد (ص) اعفنا من هذا ، فقال لهم رسول الله (ص): هذا الى الله ليس الىّ ، فاتّهموه وخرجوا من عنده فأنزل الله عزوجل : قل لا أملك (الآية) (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ أو منحرفا وهو تعريض بهم حيث اعتمدوا على الأوثان أو على رؤساء الضّلالة (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) اى تبليغا من جانب الله أو بلوغ الوحي من الله الىّ وهو استثناء من ملتحدا أو من أحدا وضرّا أو رشدا ، روى عن الكاظم (ع) انّه قال الّا بلاغا من الله ورسالاته في علىّ (ع) ، قيل : هذا تنزيل؟ ـ قال : نعم (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في ولاية علىّ (ع) كما عن الكاظم (ع) (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من العذاب أو من الحساب أو من كون علىّ (ع) قسيم الجنّة والنّار ، أو من الموت ، أو القائم (ع) وأنصاره ، أو علىّ (ع) في الرّجعة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) كما يقولون : نحن أقوياء وأكثر عددا من علىّ (ع) (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) ممّا ذكر (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) اى مدّة وهو كناية عن البعد ، قال القمّىّ : لمّا أخبرهم رسول الله (ص) بما يكون من الرّجعة قالوا : متى يكون هذا؟ ـ قال الله : قل يا محمّد (ص) ان أدري (الآية) (عالِمُ الْغَيْبِ) اى عالم عالم الغيب أو عالم ما هو الغيب عن الأبصار والأسماع (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) عن الرّضا (ع) فرسول الله (ص) عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرّسول (ص) الّذى اطلعه الله على من يشاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون الى يوم القيامة ، وقد مضى وجه عدم المنافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ، وانّ المطّلعين على الغيب ليس اطّلاعهم الّا بلطيفة الهيّة (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) سلك زيد المكان وفي المكان ، وسلك زيد عمرا لازم ومتعدّ ، واسم انّ راجع الى الرّسول (ص) ، أو الى الله ، وهكذا فاعل يسلك وهو لازم أو متعدّ ، ورصدا مصدر ، أو جمع للرّاصد والمعنى انّ الله لا يظهر على غيبه أحدا الّا من ارتضاه من رسول بشرىّ أو ملكىّ لانّ الرّسول (ص) يسلك من بين يدي نفسه اى الآخرة ومن خلفه اى الدّنيا مترقّبا لامورهما ، أو للاطّلاع على اسرارهما ، أو هو مفعول مطلق نوعىّ أو يجعل رصّادا ومترقّبين من بين يديه ومن خلفه من قواه الدّرّاكة والملائكة الموكّلة عليه حتّى يعلّموه اخبار الدّنيا واسرار الآخرة ، أو يسلك الله بمظاهره الّذين هم ملائكته الموكّلة على الرّسول مترقّبا للأخبار وأعلام الرّسول (ص) أو يجعل الله رصّادا له لا علامة (لِيَعْلَمَ) الله (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) اى الرّسل الّذين هم الملائكة أو الرّسل البشريّون (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) والمعنى ليظهر علمه بذلك أو ليعلم الرّسول (ص) ان قد أبلغ الملائكة أو أبلغ الرّسل الماضون رسالات ربّهم (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) عطف على عالم الغيب ورفع لتوهّم ان يكون لله علم حادث كما يتوهّم من قوله ليعلم (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) تأكيد وتعميم بعد تخصيص.


سورة المزّمّل

مكّيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة ، وقيل : بعضها مدنىّ وبعضها مكّىّ ، وهي عشرون آية في المشهور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) تزمّل تلفّف بالثّياب أو اللّحاف أو أمثال ذلك أو اختفى ، والخطاب خاصّ بالنّبىّ (ص) أو عامّ وكان النّبىّ (ص) يتلفّف بثيابه أو لحافه وينام أو كان متلفّفا بأحكام الرّسالة وكان يختفى من النّاس تأنّفا من المقابلة مع أمثالهم ، والمعنى يا من تلحّفت باللّحاف أو بثيابك أو بأحكام الرّسالة ، أو المعنى يا من اختفى ممّا يرى من مدّعى الرّياسة ويرى انّ معاداتهم كانت شينا عن العاقل (قُمِ اللَّيْلَ) لصلوة اللّيل فانّه ليس لك ان تنام كلّ اللّيل ، أو قم في عالم الكثرة واهد عباد الله الى الوحدة ، أو قم في عالم الطّبع وانظر الى العوالم العالية ، أو قم عن الاشتغال بالكثرات بحكم الرّسالة وتوجّه الى الوحدة ، أو قم عن الاختفاء وأظهر أمرك واصدع بما تؤمر ، ونعم ما قال المولوىّ رحمه‌الله :

احمقان سرور شدستند وز بيم

عاقلان سرها كشيده در گليم

خواند مزمّل نبي را زان سبب

كه برون آ از گليم اى بو الهرب

سر مكش اندر گليم ورو مپوش

كه جهان جسمي است سرگردان تو هوش

هين مشو پنهان ز ننگ مدّعى

كه تو داري نور وحي شعشعى

هين قم اللّيل كه شمعى اى همام

شمع دائم شب بود اندر قيام

خيز وبنگر كاروان ره زده

غول كشتيبان اين بحر آمده

خضر وقتى غوث هر كشتى توئى

همچو روح الله مكن تنها روى

(إِلَّا قَلِيلاً) من اللّيل (نِصْفَهُ) بدل من المستثنى أو المستثنى منه ، وايّا ما كان فالمعنى واحد (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) قليلا ، أو المعنى يا من تلفّف بثياب طبعه من افراد البشر قم في ليل طبعك وظلمة نفسك ، أو عن ليل طبعك واهوية نفسك للسّلوك الى ربّك الّا قليلا من اللّيل فانّ ضروريّات البدن تحصل في قليل من اللّيل في نصفه أو أكثر أو انقص ، فانّ الوقت ينبغي ان يكون أثلاثا أو أرباعا لطلب المعيشة وتلذّ ذات النّفوس وطلب المعاد ، أو طلب المعاش وتلذّ ذات النّفوس والرّاحة وطلب المعاد ، يعنى ان كنت قويّا فاجعل نصف أوقاتك للسّلوك الى الله ، وان كنت أقوى فاجعل أكثر أوقاتك للسّلوك ، وان كنت ضعيفا فاجعل قليلا من أوقاتك للسّلوك (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ترتيل القرآن بحسب لفظه ان تقرأه قراءة متوسّطة بين السّرعة المفرطة والبطوء المفرّط وابانة حروفه وحفظ وقوفه ، فانّ ترتيل الكلام ان تحسن تأليفه وتترسّل فيه كما عن الصّادق (ع) انّه قال : قال أمير المؤمنين (ع) في بيان الآية : بيّنه تبيينا ولا تهذّه هذّا الشّعر ولا تنثره نثر الرّمل ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ أحدكم آخر السّورة ، وفي خبر آخر : هو حفظ الوقوف وبيان الحروف ، وفي خبر : هو ان تمكث وتحسن به صوتك ، أو المعنى فصّل المعاني المجتمعة المندرجة في وجودك بعد القيام من رقدتك وغفلتك ، واخرج ما كان فيك بالقوّة الى الفعليّة بالنّظر والمراقبة الّتى هي من لوازم سلوكك ، وانظر الى خطرات نفسك انّها من اىّ الخطرات شيطانيّة هي أم رحمانيّة وانظر الى


تجليّات ربّك وجذباته ، ولعلّه للاشارة الى هذا الوجه من التّأويل قال أمير المؤمنين (ع): ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ أحدكم آخر السّورة (إِنَّا سَنُلْقِي) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم أمرت بقيام اللّيل وترتيل القرآن الّذى هو تفصيل المعاني المجملة في الوجود في العالم الكبير أو العالم الصّغير؟ ـ فقال : لانّا سنلقى (عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) لا يتحمّله من كان ضعيفا في قوّته العمّالة ، والعلّامة ، وقيام اللّيل يقوّى القوّة العمّالة ويعدّ القوّة العلّامة لادراك دقائق الأمور وترتيل القرآن يعنى تفصيل المعاني المجملة في العقول الكلّيّة والنّفوس الكلّيّة في الكثرات الكونيّة ، وتفصيلها في الصّغير يقوّى القوّة العلّامة وينشط القوّة العمّالة ، والمراد بالقول الثّقيل القرآن فانّه كان من ثقله إذا نزل يأخذ النّبىّ (ص) شبه الغشي ، وكان في بعض الأحيان يرى سرّة دابّته كأنّها تمسّ الأرض ، أو آثار الولاية فانّها لثقلها لم يكن موسى (ع) يطيق الصّبر على ما يرى من الخضر (ع) ، أو المراد نصب علىّ (ع) بالخلافة فانّها لثقلها لم يكن يظهره النّبىّ (ص) حتّى عوتبه في ذلك ونزل عليه (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، أو المراد مصائب أهل بيته بعده فانّها لثقلها كادت لا يمكن ان تسمع ، أو المراد هو السّكينة الّتى لم تكن تنزل الّا ومعها جنود لم تروها ولم تكن تنزل حتّى يطهّر القلب من الأغيار ، ولم يطهّر الّا باستنارة القوّة العلّامة ونشاط القوّة العمّالة ، ولا يكون ذلك الّا بقيام اللّيل وترتيل القرآن (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) جواب لسؤال ناش من مجموع ما تقدّم كأنّه قيل : لم أمرت بقيام اللّيل وترتيل القرآن لأجل إلقاء القول الثّقيل؟ ـ فقال : انّ ناشئة اللّيل اى النّفس المربّاة في اللّيل أو النّفس المتجاوزة حدّ البلوغ أو الجماعة النّاشئة باللّيل ، أو النّاشئة مصدر بمعنى الفاعل اى الشّخص النّامى باللّيل اشدّ وطأ اى أخذا أو ضغطا أو قدما والمقصود الثّبات والقوّة في القوّة العمّالة (وَأَقْوَمُ قِيلاً) اى اعدل قولا ، ولمّا كان القول مسبّبا عمّا في الضّمير من العلوم كما قال أمير المؤمنين (ع): المرء مخبوء تحت لسانه ، كان هذا اشارة الى اعتدال القوّة العلّامة وقوّتها ، ويجوز ان يكون المعنى كما أشير اليه في الخبر انّ قيام الرّجل في اللّيل عن فراشه هو اشدّ وطأ ، ويكون نسبة اشدّ وطأ الى ناشئة اللّيل بمعنى القيام في اللّيل مجازا عقليّا (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) هذا أيضا جواب لسؤال مقدّر تقديره إذا أمرتنا بقيام اللّيل فمتى ننام؟ ـ وإذا ننام في النّهار فمتى نصلح معيشتنا؟ ـ فقال : انّ لك في النّهار سبحا طويلا ، والسّبح الفراغ والتّصرّف في المعاش والنّوم والسّكون والتّقلّب في الانتشار في الأرض والابعاد في السّير ، والكلّ مناسب هاهنا ، أو المعنى لا تطلب في ليل طبعك وظلمة نفسك سبحا في آثار الله فانّ لك بعد الخلاص من الطّبع والدّخول في نهار الرّوح سبحا طويلا (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) يعنى انّ المقصود من قيام اللّيل ذكر اسم الرّبّ (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) اى التج بالانقطاع عن الخلق الى الله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) التّوصيف للاشعار بوجه الحكم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فاذا كان كذلك (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) في الله أو فيك أو في ابن عمّك (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) بان تكون في الباطن مجانبا مباينا متباعدا منهم وفي الظّاهر مخالطا مداريا بهم (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) بالله أو بك أو بوصيّك ، وعن الكاظم (ع) والمكذّبين بوصيّك ، قيل : هذا تنزيل؟ ـ قال : نعم (أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ) ولا تعاجلهم بالعقوبة من عندك أو بطلب العقوبة من عند الله (قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنا) تعليل (أَنْكالاً) جمع النّكل بالكسر القيد الشّديد ، أو القيد من النّار ، أو ضرب من اللّجم (وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) ينشب في الحلق ولا يسيغ (وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) تضطرب أو تخسف كما قال القمّىّ (وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) الكثيب التّلّ من الرّمل ، وهال عليه التّراب والتّراب مهيل


(إِنَّا أَرْسَلْنا) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل بعد ما هدّدهم بقوله : فذرني والمكذّبين : ما فعلت بنا؟ وما تفعل بعد بنا؟ ـ فقال : انّا أرسلنا (إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً) يشهد (عَلَيْكُمْ) يوم القيامة بالرّدّ والقبول والإقرار والنّكول (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) نكّر الرّسول لعدم تعلّق الغرض بتعيين الرّسول (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ثقيلا فاحذروا أنتم عن مثل فعله حتّى لا نأخذكم مثلهم (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) لطوله أو لشدّة هو له ويوما مفعول تتّقون وهو أليق لتوصيفه بما ينبغي ان يتّقى منه أو ظرف لتتّقون والمفعول محذوف (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) اى فيه أو بسببيه اى بسبب شدّة البلاء والهول فيه (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هذِهِ) المذكورات من الوعد والوعيد (تَذْكِرَةٌ) للنّفوس المتيقّظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ) في الولاية (سَبِيلاً) هو قبول ولايته بالبيعة معه واتّباع أوامره ونواهيه أو الى ربّه المطلق والسّبيل الى الرّبّ المطلق هو صاحب الولاية وقبول ولايته بالبيعة معه واتّباعه (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) اى الزّيادة على النّصف (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بحسب ساعاتهما وأثلاثهما وارباعهما وانصافهما لا أنتم (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أنتم اى لن تحصوا قدرهما أو لن تحصوا كلّا من اللّيل والنّهار (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عن تكليفه لكم بالقيام في نصف اللّيل أو أزيد أو انقص من النّصف بقليل فرفع هذا الحكم عنكم ولذلك ورد انّها نسخت هذه الآية الآية الاولى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) يعنى في الصّلوة في اللّيل بقرينة المقام ، وفي خبر عن الباقر (ع): واعلموا انّه لم يأت نبىّ قطّ الّا خلا بصلوة اللّيل ، ولا جاء نبىّ قطّ بصلوة اللّيل في اوّل اللّيل (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) جواب سؤال ووجه آخر للتّرخيص (مِنْكُمْ مَرْضى) لا يقدرون على قيام اللّيل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) فيكون القيام شاقّا عليهم (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) الصّورىّ كالمسافرين للتّجارة أو المعنوىّ كالمسافرين لطلب الدّين والعلم (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) لمّا كان بعض النّفوس مولعة بالعبادة وقيام اللّيل والأمر بترك العبادة خصوصا ما كان منها موظّفا عليها كان ثقيلا عليها كرّر الأمر بقراءة ما تيسّر من القرآن والصّلوة وكان الاوّل مترتّبا على عدم الإحصاء والثّانى على المرض والضّرب في الأرض ، وروى عن الرّضا (ع) انّه قال : ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السّرّ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) قد مضى بيان الصّلوة والزّكاة ومراتبهما واقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة (وَأَقْرِضُوا اللهَ) من أصل ما لكم أو هو بيان لإيتاء الزّكاة وترغيب فيه واشعار بان من آتى الزّكاة آتاه الله عوضه في الدّنيا أو في الآخرة أو فيهما (قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) تعميم بعد تخصيص أو بيان وتعميم للقرض (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) اى تجدوه بعينه خيرا منه حين آتيتموه وتجدوا اجره أيضا عظيما ، أو تجدوه بما هو اجره خيرا من نفسه وأعظم (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) حين الصّلوة والزّكاة حتّى يستر عليكم دواعي نفوسكم في ذلك ، أو استغفروه في جميع أحوالكم فانّه ما منكم أحد الّا وله مساو لا تليق بشأنه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).


سورة المدّثر

مكّيّة ، ستّ وخمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) تدثّر تلفّف بثيابه ، روى عن الرّسول (ص) انّه قال : جاورت شهرا بحراء فلمّا قضيت جواري نزلت فاستبطنت (١) الوادي فنوديت ، فنظرت امامى وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر أحدا ، ثمّ نوديت فرفعت رأسى فاذا هو على العرش في الهواء يعنى جبرئيل فقلت : دثّروني دثّروني فصبّوا علىّ ماء فأنزل الله عزوجل : يا ايّها المدّثّر ، وفي خبر : فرعبت ورجعت الى خديجة فقلت : دثّروني ، فنزل جبرئيل يا ايّها المدّثّر (قُمْ) عن نومك أو عن التحافك أو عن الكثرات أو عن طبعك (فَأَنْذِرْ) العباد عن الشّيطان وعن مساوي النّفس وعن رذائلها وعن سخط الله وعقوباته ، ولمّا كان ينبغي ان يكون الرّسول (ص) واقعا بين الوحدة والكثرة جامعا لهما بحيث لا يستر جهة الوحدة ولا يتدنّس بعلائق الكثرة حين الاشتغال بالكثرة ولا يغفل عن الكثرة حين الاستغراق في الوحدة قال تعالى : قم عن الاشتغال بالكثرات وتوجّه الى جهة الوحدة وانذر بعد ذلك حتّى لا يذهب إنذارك جهة الوحدة عنك (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) اى لكن ربّك فكبّر حتّى لا ترى شيئا الّا ورأيت الله محيطا به ، وقدّم الرّبّ لشرافته ولارادة الحصر ، والفاء زائدة للتّأكيد ، أو لتقدير امّا أو توهّمه (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) كناية عن تطهير القلب من ادناس الكثرات فانّه كثيرا يكنّى بتلوّث الثّياب عن تلوّث القلب وتعلّقاته ، وعن الصّادق (ع) في خبر انّه قال : شمّر ، وفي خبر : ارفعها ولا تجرّها ، وفي خبر عنه : وثيابك فقصّر (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرّجز بالضّمّ والكسر وقرئ بهما القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشّرك ، والكلّ مناسب ، وقيل : المعنى اهجر الأصنام ، وقيل : اجتنب المعاصي ، وقيل : اجتنب الفعل القبيح والخلق الذّميم ، وقيل : اجتنب حبّ الدّنيا لأنّه رأس كلّ خطيئة (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) اى لا تعط طلبا لاكثر ممّا أعطيت ، أو لا تمنن على العباد عادّا لعطائك كثيرا ، أو لا تمنن بحسناتك على الله مستكثرا لها ، أو لا تمنن ما أعطاك من النّبوّة أو القرآن أو الدّين على النّاس مستكثرا به الأجر من العباد ، وقيل : هو نهى عن الرّبا المحرّم (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) على مشاقّ التّكليف وأثقال النّبوّة ، أو فاصبر على أذى القوم ، أو على محاربة العرب والعجم ، أو على الطّاعات والمصائب وعن المعاصي (فَإِذا نُقِرَ) الفاء سببيّة يعنى لانّه إذا نقر (فِي النَّاقُورِ) اى نفخ في الصّور في النّفخة الاولى أو الثّانية أو حين ظهور القائم (ع) (فَذلِكَ) اليوم (يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) على الكافرين متعلّق بعسير أو بيسير ، وهذا التّقييد يدلّ على سهولته ويسره على المؤمنين ، وعن الصّادق (ع) في هذه الآية: انّ منّا إماما مظفّرا مستترا فاذا أراد الله إظهاره نكت في قلبه نكتة فظهر فقام بأمر الله (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الوحيد بمعنى المتوحّد وهو حال عن فاعل خلقت ، أو عن من ، أو عائده المحذوف ، أو المراد به الوليد بن المغيرة فانّه كان يسمّى وحيدا في قومه فيكون بدلا من من ، أو لانّه كان لا يعرف له أب ، والوحيد من لا يعرف له أب ، وحينئذ يكون حالا عن من (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) اى كثيرا أو متّصلا منافعه لا يقطع في فصل ، ولا يكون كسائر الضّياع وسائر الأموال ، أو ممدودا ما بين مكّة الى الطّائف

__________________

(١) اى وصلت الى بطنها.


من الإبل والخيل والنّعم والجواري والعبيد والمستغلّات الّتى لا تنقطع غلّتها فانّه كان له اموال كذلك ، ومائة الف دينار وعشرة بنين أو ثلاثة عشر بنين (وَبَنِينَ شُهُوداً) حاضرين معه بمكّة لا يسافرون لطلب المعيشة لعدم حاجتهم الى السّفر لغنائهم (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) بسطت له في العيش بحيث لا يحتاج الى شيء الّا كان له ، أو بسطت له في الرّياسة والجاه بحيث لم يكن أحد ينازعه في ذلك وكان يلقّب ريحانة قريش ووحيدا (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا) ردع له عن ذلك الطّمع أو ردع لمن ظنّ له ذلك (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا) الآفاقيّة والانفسيّة وخصوصا الآيات العظمى (عَنِيداً) اى جاحدا رادّا فانّ معنى عنده ردّه عارفا بحقّه فهو عنيد وعاند (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) الارهاق ان يحمل الإنسان على ما لا يطيقه والصّعود بفتح الصّاد مصدر ضدّ الهبوط أو العقبة الشّاقّة أو جبل في جهنّم والمعنى ساحمله على صعود لا يمكنه تعريفه ولا يحتمله الإنسان ، أو ساحمله على الجبل المعروف في جهنّم ، أو على عقبة عظيمة ، وقيل : هو جبل من صخرة ملساء في النّار يكلّف ان يصعدها حتّى إذا بلغ أعلاها احدر الى أسفلها ، ثمّ يكلّف أيضا ان يصعدها ، فذلك دأبه أبدا يجذب من امامه بسلاسل الحديد ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين سنة (إِنَّهُ فَكَّرَ) في القرآن وفيما أراد ان يقول في ردّه وطعنة (وَقَدَّرَ) في نفسه ما أراد ان يقول ، روى انّ النّبىّ (ص) لمّا انزل عليه حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذّنب وقابل التّوب شديد العقاب قام الى المسجد والوليد بن مغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلمّا فطن النّبىّ (ص) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتّى أتى مجلس قومه بنى مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمّد (ص) آنفا كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجنّ وانّ له لحلاوة وانّ عليه لطلاوة(١) وانّ أعلاه لمثمر وانّ أسفله لمغدق (٢) وانّه ليعلو وما يعلى ، ثمّ انصرف الى منزله فقال قريش : صبأ (٣) والله الوليد والله لتصبأنّ قريش كلّهم وكان يقال للوليد ريحانة قريش فقال لهم ابو جهل : انا أكفيكموه ، فانطلق فقعد الى جنب الوليد حزينا فقال : ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟ ـ قال : هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك ويزعمون انّك زيّنت كلام محمّد (ص) فقام مع ابى جهل حتّى أتى مجلس قومه فقال : أتزعمون انّ محمّدا (ص) مجنون؟ ـ فهل رأيتموه يجنّ قطّ؟ ـ فقالوا : اللهمّ لا ، قال : أتزعمون انّه كاهن؟ فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟ ـ قالوا : اللهمّ لا ، قال : أتزعمون انّه شاعر؟ فهل رأيتموه انّه ينطق بشعر قطّ؟ ـ قالوا : اللهمّ لا ، قال : أتزعمون انّه كذّاب؟ فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟ ـ فقالوا : اللهمّ لا ، وكان يسمّى الصّادق الأمين قبل النّبوّة من صدقه ، فقالت قريش للوليد : فما هو؟ ـ فتفكّر في نفسه ثمّ نظر وعبس فقال : ما هو الّا ساحر اما رأيتموه يفرّق بين الرّجل واهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر ، فكان لا يلقى بعد ذلك أحد منهم النّبىّ (ص) الّا قال : يا ساحر ، واشتدّ عليه ذلك فأنزل تعالى : يا ايّها المدّثّر (الى قوله) الّا قول البشر (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تأكيد للاوّل والجملتان دعائيّتان (ثُمَّ نَظَرَ) عطف على فكّر وقدّر (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) تأكيد للاوّل أو الاوّل بمعنى كلمح الوجه ، والثّانى بمعنى نظر بالكراهة (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحقّ (وَاسْتَكْبَرَ) عن الانقياد (فَقالَ إِنْ هذا) الّذى يقرءه محمّد (ص) (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يروى أو يتعلّم ويؤخذ ، أو يختار من بين أفنان السّحر (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) وليس كما يقول محمّد (ص) قول الله (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) جواب لسؤال مقدّر (وَما أَدْراكَ) يا محمّد (ص) أو يا من شأنه السّماع والإدراك (ما سَقَرُ لا تُبْقِي) شيئا لا تأخذه (وَلا تَذَرُ) بعد ما أخذته ، أو لا تبقى شيئا من المأخوذ بعد ما أخذته ولا تذر شيئا لم تأخذه ، أو لا تبقى شيئا من العذاب بل تعذّب المعذّب بجميع أنواع العذاب ولا تذر أحدا من المستحقّين للعذاب (لَوَّاحَةٌ)

__________________

(١) الحسن والقبول والبهجة

(٢) الغدق المطر الكبار القطر والمغدق مفعل منه الماء الغدق الكثير

(٣) صبأ كمنع وكرم خرج من دين الى آخر.


اى مغيّرة غاية التّغيير أو مسوّدة (لِلْبَشَرِ) روى عن الباقر (ع) انّ في جهنّم جبلا يقال له : صعود ، وانّ في صعود لواديا يقال له : سقر ، وانّ في سقر لجبّا يقال له هبهب كلّما كشف غطاء ذلك الجبّ ضجّ أهل النّار من حرّه وذلك منازل الجبّارين (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ملكا أو صنفا من الملائكة لجميع الثّقلين أو لكلّ واحد منهم ، قيل في وجه هذا العدد : انّ المنصرف عن الانسانيّة يحكم عليه المادّة والطّبيعة الجسمانيّة والطّبائع العنصريّة والصّورة الجماديّة والنّفس النّباتيّة والنّفس الحيوانيّة والمدارك العشرة الحيوانيّة والقوى الثّلاثة الشّيطانيّة والبهيميّة والسّبعيّة ، وقيل فيه : هي الملكوت الارضيّة الّتى تلازم المادّة من روحانيّات الكواكب السّبعة والبروج الاثنى عشر الموكّلة بتدبير العالم السّفلىّ المؤثّرة فيه تقمعهم بسياط التّأثير وتردّهم الى مهاويها ، وقيل غير ذلك ، وكلّ ذلك من قبيل الاستحسانات والتّخمينات ، فانّ علم أمثال ذلك موكول الى الله والى من كان علمه علم الله ولا حظّ لغيرهم فيه ولذلك لم يرد من المعصومين (ع) في بيان ذلك شيء ، قيل : لمّا نزلت هذه الآية قال ابو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم أتسمعون ابن ابى كبشة يخبركم انّ خزنة النّار تسعة عشر وأنتم الدّهم (١) الشّجعان أفيعجز كلّ عشرة منكم ان يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟! فقال رجل منهم : انا أكفيكم سبعة عشر عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) يعنى لا يقوم تمام أهل الدّنيا بواحد منهم (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الفتنة بالكسر الاختبار والضّلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب والإضلال والجنون والمحنة واختلاف النّاس في الآراء ، والكلّ مناسب هاهنا لانّ خزنة النّار وان كانوا في الآخرة لكن بمضمون (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يكون من كلّ أنموذج في الدّنيا ويكون موكّلا بانموذجه على الكافر في الدّنيا كما انّه في الآخرة بنفسه يكون موكّلا عليه ، وقيل : سبب افتتانهم بهذا العدد استهزاؤهم واستبعادهم ان يتولّى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثّقلين (لِيَسْتَيْقِنَ) قيل تعليل لمحذوف اى قلنا ذلك ليستيقن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنّصارى بنبوّة محمّد (ص) لمّا رأوا الخبر موافقا لما في كتبهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بمحمّد (ص) (إِيماناً) لمّا أخبرهم أهل الكتاب بموافقته لما في كتبهم (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذا ما فسّروه بحسب الظّاهر به ولكن نقول إيتاء الكتاب كناية عن قبول النّبوّة ايّة نبوّة كانت ولا اختصاص باليهود والنّصارى بل كلّ من قبل نبوّة محمّد (ص) بالبيعة على يده وقبول احكام نبوّته والانقياد تحت حكمه وقبول دعوته الظّاهرة كان ممّن اوتى الكتاب والايمان ، وان كان يستعمل في الإسلام وقبول الدّعوة الظّاهرة بالبيعة العامّة مجازا أو على سبيل الاشتراك ، لكنّ المراد به هاهنا الايمان الحقيقىّ الحاصل بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة والدّخول تحت احكام الولاية ، والى هذين أشار تعالى بقوله : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) فانّ الاوّل اشارة الى المؤمن المحقّق والثّانى الى المسلم المقلّد ، وقد ذكرنا انّ كلّما يكون في الآخرة يكون أنموذجه في الدّنيا فانّ الدّنيا بوجه مادّة الآخرة وبوجه صورة الجحيم أو انموذجها ، فالمعنى عليها تسعة عشر صنفا أو شخصا من الملائكة ليكونوا سائقين للكفّار الى النّار وللمؤمنين الى الجنّة ، ومن قبل النّبوّة لمّا لم يكن يدرك بالذّوق والوجدان أمور الآخرة لم يكن يستيقن بمحض تلك البيعة لأمور الآخرة ، ولمّا كان هؤلاء الملائكة في الدّنيا سائقين لهم الى الآخرة كانوا بذلك السّوق يدركون بالوجدان أمور الآخرة فيستيقنونها ، ولمّا كان المؤمنون موقنين فسوقهم يصير سببا لازدياد ايقانهم ، ويجوز ان يكون تعليلا لقوله : وما جعلنا أصحاب النّار الّا ملائكة ، أو لقوله وما جعلنا عدّتهم الّا فتنة ، ويجوز ان يكون تعليلا للكلّ على سبيل التّنازع

__________________

(١) الدّهم العدد الكثير.


(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ممّن قبل الدّعوة الظّاهرة اى من في قلبه نفاق (وَالْكافِرُونَ) اى الّذين لم يقبلوا الإسلام (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) العدد أو بهذا القول أو بجعل عدّتهم فتنة أو بجعل أصحاب النّار ملائكة (مَثَلاً) تميز عن هذا أو حال عنه اى حالكونه مستغربا غرابة المثل أو حالكونه جاريا على الألسن جريان المثل ، واللّام للعاقبة مثل قوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، أو للغاية على ما بيّنا يعنى ما جعلنا أصحاب النّار الّا ملائكة ليكونوا في الدّنيا سائقين لأهل النّار الى النّار وموصلين لأهل الجنّة الى الجنّة (كَذلِكَ) الإضلال بإظهار ما ليس في وسعهم إدراكه (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) من الملائكة والجنّ وجميع الموجودات فانّ الكلّ من جنوده (إِلَّا هُوَ) فليس قلّة عدد أصحاب النّار لقلّة جنوده بل لعدم الحاجة الى أزيد من ذلك (وَما هِيَ) اى المعهودة المطلقة الّتى هي ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) ، وقيل : ما السّقر أو عدّة الخزنة أو السّورة ، وقد ورد عن الكاظم (ع) تفسيرها بالولاية (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) والتّذكرة الحقيقيّة هي الولاية وان كانت سقر وعدّة الخزنة والسّورة أيضا تذكرة (كَلَّا) ردع لمن لا يعظّم الولاية أو لا يعتنى بسقر أو الخزنة (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) قرئ إذ بسكون الذّال وأدبر من الأدبار وهذه هي القراءة الصّحيحة فانّ اللّيل الّذى هو عالم الكون وجوده على الأدبار فهو مدبر أبدا بخلاف صبح الملكوت فانّه يسفر بعد بالنّسبة الى أهل عالم الملك ، وقرئ إذا بالألف ودبر من الثّلاثىّ المجرّد (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) يعنى الولاية أو سقر أو خزنة جهنّم أو السّورة احدى الآيات أو النّقم والبلايا الكبر (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) حال أو مفعول له أو مفعول مطلق لمحذوف (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من قوله للبشر (أَنْ يَتَقَدَّمَ) الى الولاية (أَوْ يَتَأَخَّرَ) عن سقر ، في الخبر : من تقدّم الى ولايتنا أخّر عن سقر ، ومن تاخّر عن ولايتنا تقدّم الى سقر (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : كيف يكون الولاية احدى الآيات الكبر؟ ـ فقال : لانّ كلّ نفس بما كسبت رهنية الّا من تمسّك بها والمعنى كلّ نفس بما كسبت من خير أو شرّ فانّه مفاد الإطلاق مرهونة فانّ كلّ ما عملت الأنفس بانانيّاتها سواء كانت بحسب الصّورة خيرا أو شرّا كانت وبالا عليها وقيدا لها ، وكانت الأنفس مرهونة مقيّدة بها الّا من تولّى عليّا (ع) لانّ الولاية هي المبدّلة للسّيّئات بالحسنات ويجزى الله الّذين تولّوا عليّا (ع) بإزاء جملة أعمالهم بأحسن ما كانوا يعملون ولذلك قال (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فانّ اليمين أمير المؤمنين (ع) وأصحاب اليمين شيعته (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) يعنى يتساءلون بينهم أو يسألون غيرهم عن حال المجرمين أو يتساءلون هم والمجرمون عن حال المجرمين (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) وهذا الخطاب والسّؤال دليل على انّ أصحاب اليمين يسألون المجرمين عن حالهم (قالُوا) في الجواب (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) اى من المتولّين عليّا (ع) فانّ الصّلوة الحقيقيّة لا تكون الّا بالولاية بل الولاية هي الصّلوة حقيقة ولذلك قال علىّ (ع): انا الصّلوة ، أو لم نكن من اتباع السّابقين فانّهم يسمّون الّذى يلي السّابق في الحلبة (١) مصلّيّا ، أو لم نكن من اتباع وصىّ محمّد (ص) ولم نصلّ عليهم ، والى الكلّ أشير في الخبر ، أو لم نك من المصلّين صلوة القالب المقرّرة في الشّريعة ، واليه أيضا أشير في خبر عن علىّ (ع) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) من الحقوق الواجبة أو المستحبّة ، أو لم نكن نعطى حقوق آل محمّد (ص) من الخمس (وَكُنَّا نَخُوضُ) في الآيات بالرّدّ والقدح والطّعن

__________________

(١) الحلبة كحلقة خيل تجمع للسّباق من كلّ أوب ، كما يقول للقوم إذا جاؤا من كلّ أوب للنّصرة قد احلبوا.


والاستهزاء (مَعَ الْخائِضِينَ) في ذلك (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) بالموت وكشف الحجب (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) لقطعهم الفطرة الّتى هي الولاية التّكوينيّة الّتى هي سبب للولاية التّكليفيّة ولذلك قيل : «مردود شيخي را اگر تمام مشايخ عالم جمع شوند وخواهند إصلاح نمايند نتوانند» لانّ المردود لا يصير مردودا الّا بعد قطع الفطرة والولاية التّكوينيّة وهو الّذى يسمّى بالمرتدّ الفطري الّذى لا يقبل توبته لا ظاهرا ولا باطنا ، وقد سبق بيان الارتداد والمرتدّ الملّىّ والفطرىّ في سورة آل عمران عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (فَما لَهُمْ) يعنى إذا كان الولاية ذكرى للبشر وكانت هي احدى الكبر فما لهم (عَنِ) هذه (التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) اى عن الولاية (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) بالغة في النّفار (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) من أسد ، التّوصيف لزيادة المبالغة (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) ناطقة بصدق محمّد (ص) في نبوّته أو في ولاية علىّ (ع) وهو اضراب من الأدنى الى الأعلى ، يعنى بل ما لهم لا يكتفون بالاعراض ويدّعون ما لا يليق بشأنهم ، وقيل : المعنى يزيدون صحفا من الله بالبراءة من العقوبة وإسباغ النّعمة حتّى يؤمنوا ، وقيل : يريد كلّ منهم ان يكون رسولا يوحى اليه وينزّل عليه كتاب مثل القرآن ، وقيل : المراد معنى قوله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) (كَلَّا) ردع عن هذه الارادة أو عن ظنّ انّهم يريدون ذلك واقعا (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) اى ليس اقتراحهم لطلب الدّين بل لا يخافون الآخرة فيعاندون ويريدون إظهار عجز الرّسول (ص) عن مقترحهم (كَلَّا) ردع عن ذلك الاعراض وتلك الارادة (إِنَّهُ) اى قرآن ولاية علىّ (ع) أو عليّا (ع) بنفسه (تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يعنى انّ مشيّتكم وذكركم وجميع أفعالكم مسبوقة بمشيّة الله التّكوينيّة سواء كانت مرضيّة لله أو مبغوضة فانّ مشيّته الّتى هي عبارة عن رحمته الرّحمانيّة سابقة على رضاه وغضبه وبمنزلة المادّة لهما (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) حقيق بان يتّقى منه (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) فانّ مغفرته غير مشوبة بغرض وغاية بخلاف غيره لعدم خلوص مغفرته عن شوب غرض وغاية.

سورة القيامة

مكّيّة ، وهي أربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) لفظة لا مزيدة للتّأكيد أو جواب ونفى لاعتقادهم لعدم البعث ، أو نفى للقسم والمعنى لا اقسم بيوم القيامة لانّكم لا تعتقدونه ، ولا اقسم بالنّفس اللّوّامة لعدم اعتقادكم لها.

اعلم ، انّ النّفس ذات أنواع وأصناف كثيرة وكلّ فرد منها ذات مراتب ودرجات عديدة ، والنّفس الانسانيّة ذات مراتب ، فمرتبة منها تسمّى بالامّارة وهي الّتى تكون محكومة وخادمة للشّيطنة والغضب والشّهوة ولا تكون الّا أمّارة بالسّوء ، ومرتبة منها تسمّى باللّوّامة وهي الّتى تلوم نفسها في جميع فعالها في سيّئاتها لسوئتها وفي خيراتها


لقصورها وتقصيرها ونسبتها الى نفسها ، ومرتبة منها تسمّى بالمطمئنّة لاطمئنانها عن كدّ الطّلب لخروجها من قوّتها الى الفعليّات (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) هذه قرينة جواب القسم المحذوف (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) قيل : نزلت في عدىّ بن ربيعة سأل رسول الله (ص) عن امر القيامة فأخبره به فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم اصدّقك أو يجمع الله هذه العظام؟ (بَلى) نجمعها (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) الّتى فيها دقائق الصّنع وصغار المفاصل والأوتار ، وقيل : المعنى على ان نسوّى بنانه فنجعلها كالخفّ والحافر ولكن هذا المعنى غير مناسب هاهنا (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) يعنى ليس إنكاره البعث لالتفاته الى الآخرة وانجرار دليله الى الإنكار بل لاقامته على الفجور وعدم نزوعه عنه وعدم التفاته الى البعث والآخرة (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) اى في مستقبل امره (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) استهزاء وهو لا يدرى انّه في الذّهاب الى القيامة وانّ القيامة لا تكون في الزّمان بل هي خارجة عن حدّ الزّمان (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) كناية عن شخوص البصر وعدم القدرة على تحريك الجفن ، وهذه كناية شائعة عن ذلك في العرب والعجم (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب ضوؤه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) وهذه أمارات الموت وأمارات القيامة الصّغرى وأمارات ظهور القائم (ع) (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) يعنى لا مفرّ (كَلَّا) ردع عن تمنّى المفرّ (لا وَزَرَ) لا ملجأ ولا معتصم (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) لا استقرار لأحد الى أحد الّا الى ربّك المضاف وهو الرّبّ في الولاية وهو علىّ (ع) (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) بما عمل وما ترك من خير وشرّ ، أو بما عمل في حياته وما سنّ من سنّة يعمل بها بعد مماته ، أو بما قدّم من ماله في حياته لنفسه وما ترك لورثته (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) البصيرة للقلب كالبصر للجسد ، وتستعمل بمعنى الحجّة وتكون مؤنّث البصير ، فاذا كانت مؤنّث البصير يكون التّقدير عين بصيرة ، أو المراد انّ الإنسان بجوارحه بصير على نفسه فانّث الخبر لاقامة الإنسان مقام الجوارح ، أو التّاء ليست للتّأنيث بل للمبالغة (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو اعتذر الى النّاس بكلّ ما يعتذر به فانّ إلقاء الاعذار وان كان يخفى الشّرّ على الأغيار لكنّه لا يستره على نفسه يعنى يعلم ما صنع وان اعتذر ، عن الصّادق (ع): ما يصنع أحدكم ان يظهر حسنا ويستر سيّئا أليس إذا رجع الى نفسه يعلم انّه ليس كذلك والله عزوجل يقول : بل الإنسان على نفسه بصيرة انّ السّريرة إذا صلحت قويت العلانية ، وفي خبر من اسرّ سريرة ألبسه الله رداءها ، ان خيرا فخير وان شرّا فشرّ (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الخطاب لمحمّد (ص) والمعنى لا تحرّك بالقرآن لسانك قبل ان يتمّ وحيه لتأخذه على عجلة مخافة ان ينفلت منك ، روى انّه كان النّبىّ (ص) إذ انزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه لحبّه ايّاه وحرصه على اخذه مخافة ان ينساه ، أو المعنى لا تحرّك بما أردت إظهاره من البراءة من معاوية كما سيأتى ، وقيل : الخطاب عامّ والمقصود تقريع المسيئين يوم القيامة بهذا الخطاب فانّه إذا اوبى العباد يوم القيامة كتب أعمالهم وينظر الإنسان الّذى هو على نفسه بصيرة ويرى سيّئاته ضجر فيقال له توبيخا : لا تعجل بقراءة كتابك (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) اى تأليفه وتنظيمه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) روى انّه كان النّبىّ (ص) بعد هذا إذا نزل عليه جبرئيل أطرق فاذا ذهب قرأ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) اى إظهار حقائقه عليك لتتحقّق بها (كَلَّا) قيل : ردع عن إلقاء المعاذير وما بينهما اعتراض ، وكونه ردعا عن التّعجيل والتّحريك اولى (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يعنى ليس إلقاء المعاذير لاصلاح النّفوس أو لجهل نقائص النّفس بل لحبّ الدّنيا وإصلاحها (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) جواب سؤال مقدّر عن حال الآخرة


(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) اى الى ربّها المضاف لظهور الولاية وصاحبها في ذلك اليوم ، أو الى ربّها المطلق لظهور آثاره اى الى آثاره ناظرة ، أو منتظرة الى ثواب ربّها ، روى عن أمير المؤمنين (ع) في حديث : ينتهى أولياء الله بعد ما يفرغ من الحساب الى نهر يسمّى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتبيضّ وجوههم إشراقا فيذهب كلّ قذى ووعث (١) ثمّ يؤمرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون الى ربّهم كيف يثيبهم؟ ـ قال : فذلك قوله تعالى : الى ربّها ناظرة وانّما يعنى بالنّظر اليه النّظر الى ثوابه تبارك وتعالى ، وفي الخبر والنّاظرة في بعض اللّغة هي المنتظرة الم تسمع الى قوله : فناظرة بم يرجع المرسلون اى منتظرة و (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) عابسة أو شديدة العبوس (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) الفاقرة الدّاهية ولعلّها كانت في الأصل بمعنى الكاسرة لفقرات الظّهر ثمّ غلب على الدّاهية لكسرها فقرات الظّهر المعنوىّ (كَلَّا) ردع عن اختيار الدّنيا أو ردع عن ظنّ النّجاة بصاحبي تلك الوجوه (إِذا بَلَغَتِ) النّفس (التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ) رافع لك عن هذه المهالك؟ قيل : ذلك على سبيل التّحسّر ، أو يقول الملائكة : من يرفعه بروحه ، ملائكة الرّحمة أو ملائكة العذاب؟ أو من يشفيه بأسماء الله تعالى من الرّقية وهو طلب الشّفاء بأسماء الله تعالى (وَظَنَ) اى علم لكن لمّا كان علوم النّفس في حكم الظّنون لمغايرتها لمعلوماتها وجواز انفكاك المعلومات عنها عبّر عنها بالظّنون كما ذكرنا سابقا مكرّرا (أَنَّهُ الْفِراقُ) من الدّنيا (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) كناية عن انتزاع الرّوح فانّه يلتفّ في كثير السّاقان حينئذ ، ولمّا كان آخر الدّنيا بمنزلة السّاق لها واوّل الآخرة أيضا بمنزلة السّاق لها جاز ان يقال : التفّت الدّنيا بالآخرة ، ولمّا كانوا يكنّون عن شدّة الأمر بالسّاق جاز ان يقال : التفّت شدّة هول الدّنيا بشدّة هول الآخرة (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) هذه الجملة جواب إذا بتقدير الفاء ، أو الجواب محذوف بقرينة المقام (فَلا صَدَّقَ) يجوز ان يكون هذه الجملة جوابا ويكون المعنى إذا بلغت التّراقى لا يكون له راحة لانّه لا صدّق (وَلا صَلَّى) اى لا صدّق الأنبياء والأولياء (ع) ولا صلّى (وَلكِنْ كَذَّبَ) الأنبياء والأولياء (ع) (وَتَوَلَّى) عن طاعة الله وطاعة خلفائه (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) يتبختر سواء كان أصله التّمطّى بالياء أو التّمطّط بالطّاء (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) اولى فعل ماض أصله أولاك الله ما تكرهه ، أو أولاك الله البعد من الخير أو الهلاك ، بمعنى ولّاك الله فحذف الفاعل والمفعول الثّانى وادخل اللّام الزّائدة على المفعول الاوّل للتّأكيد ، أو بمعنى قرّب الله منك الهلاك أو قرب منك الهلاك ، أو بمعنى أرجعك الله الى الهلاك من ، آل يئول مقلوبا ، أو بمعنى أهلك الله من الويل أو هو افعل التّفضيل بمعنى أحرى اى أحرى لك النّار أو الهلاك أو اللّعن أو بمعنى أقرب فحذف المبتدء أو هو افعل من الويل بعد القلب بمعنى ويل لك أو شدّة الويل لك ، أو هو فعلى من آل يئول بمعنى مرجعك النّار وعلى اىّ تقدير هو كلمة تهديد صار كالامثال لا يغيّر ولا يذكر المحذوف المقدّر ، قيل : أخذ رسول الله (ص) بيد ابى جهل ثمّ قال له ذلك فقال : باىّ شيء تهدّدنى؟ لا تستطيع أنت ولا ربّك ان تفعلا بى شيئا وانّى لا عزّ أهل هذا الوادي فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (ص) ، وقال القمّىّ : انّ رسول الله (ص) دعا الى بيعة علىّ (ع) يوم غدير خمّ فلمّا بلّغ وأخبرهم في علىّ (ع) ما أراد ان يخبرهم رجعوا النّاس فاتّكى معاوية على مغيرة بن شعبة وابى موسى الأشعري ثمّ اقبل يتمطّى نحو اهله ويقول : ما نقرّ لعلىّ (ع) بالولاية أبدا ولا نصدّق محمّدا (ص) مقالته فأنزل الله عزوجل : فلا صدّق ولا صلّى (الآيات)

__________________

(١) الوعث المشقّة ، ووعثاء السفر مشقّته ، والوعث ، المكان السّهل الذي تعيث فيه الاقدام ويشقّ على من يمشى فيه ، واوعث القوم اى وقفوا في الوعث.


(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) التّكرير لمحض التّأكيد أو الاوّل وتأكيده للدّنيا ، والثّانى وتأكيده للآخرة (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) مهملا (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) استفهام تقريرىّ في مقام التّعليل لانكار هذا الحسبان (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) اى فسوّاه ذكرا بالغا وأنثى بالغة ، أو فسوّاه بحسب أعضائه بمعنى فكسونا العظام لحما (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) يعنى انّ الله جعل لهذا البنيان ولمادّة الإنسان تبدّلات من اخسّ الأحوال الى أشرفها ، فاذا صار إنسانا بالغا ذكرا أو أنثى لا يهمله بل إذا استكمل في جهة روحانيّته بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ صار اشدّ اهتماما به من حاله الخسيسة الّتى كان فيها نطفة قذرة أو علقة أو مضغة أو جنينا (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) والحال انّ الموت هو سبب حياته الحقيقيّة ، عن الرّضا (ع): انّه إذا قرأ هذه السّورة قال عند فراغها : سبحانك اللهمّ بلى.

سورة الدّهر

وتسمّى سورة الإنسان وسورة الأبرار وسورة هل أتى ، مكّيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة كلّها ، وقيل :

مدنيّة الّا قوله : ولا تطع منهم آثما أو كفورا ، وقيل : انّ قوله : انّا نحن نزّلنا القرآن تنزيلا

(الى آخر السّورة) مكّىّ والباقي مدنىّ احدى وثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) استفهام تقريرىّ والمعنى قد أتى ولذا فسّر به (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في الخلق يعنى كان مقدّرا مقدورا ولم يكن مكوّنا مخلوقا (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : فكيف خلق الإنسان؟ ـ فقال : انّا خلقناه (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) مشج من باب نصر خلط وشيء مشيج كقتيل وسبب وكتف مخلوط ، والجمع أمشاج ، كون النّطفة أمشاجا امّا لاختلاط الاخلاط أو العناصر أو استعدادات الأعضاء والقوى فيها ، أو لاختلاط المائين ماء الرّجل وماء المرأة (نَبْتَلِيهِ) نستخلصه من الفضول وممّا لا يليق به ونعطيه ونتفضّل عليه بما يليق بشأنه (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) يعنى على أشرف أحوال الحيوان (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما فعلت به بعد ذلك؟ وما تفعل به؟ ـ فقال : انّا هديناه السّبيل بحسب فطرته فانّ الكلّ بحسب الفطرة يعرف الخير والشّرّ الانسانيّين وبحسب التّكليف بتوسّط الأنبياء والأولياء (ع) (إِمَّا شاكِراً) اى عاملا بما عرفناه (وَإِمَّا كَفُوراً) تاركا لما عرفناه (إِنَّا أَعْتَدْنا) جواب لسؤال مقدّر عن حال الكفور (لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) بها يقادون عنفا (وَأَغْلالاً) بها يقيّدون (وَسَعِيراً) بها يحترقون (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ) جواب لسؤال مقدّر عن حال الشّاكرين (مِنْ كَأْسٍ) من خمر أو من كأس فيها خمر (كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها) اى منها (عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها) يجرونها باىّ نحو والى اىّ مكان شاؤا ، أو يخرجون


ماؤها من اىّ مكان شاؤا (تَفْجِيراً) لا يعرف لعظمته.

اعلم ، انّ للإنسان حالات ومراتب ودرجات فانّه في اولى مراتبه جماد في تطوّراته ، وفي ثانية مراتبه نبات في تفنّناته ، وفي ثالثة مراتبه حيوان في تبدّلاته وتقلّباته ، وفي رابعة مراتبه إنسان في كثرة نشآته ، ولتلك المراتب ميول واقتضاءات وشهوات وغضبات ومحبّات واشتياقات وعزمات وإرادات وحركات وسكنات ، فاذا بلغ الإنسان مبلغ الرّجال والنّساء فامّا ان تكون حركاته وسكناته بحكم ميوله الجماديّة أو اقتضاءاته النّباتيّة أو شهواته وغضباته الحيوانيّة ، أو إدراكاته وحيله الشّيطانيّة ، وامّا ان تكون بحكم عقله الانسانىّ فان كانت من القسم الاوّل كانت جملة حركاته وسكناته وعزماته وإراداته من حيث انجرارها الى العمل السّيّئ والاسوء سلاسل تجرّه في الدّنيا الى أسفل النّفس الّتى هي صورة جحيم الآخرة والى العمل القبيح الّذى هو من آثار لهبات الجحيم ، وتلك السّلاسل في الدّنيا مستورة عن الانظار الحسّيّة وان كانت مشهودة بالانظار الملكوتيّة لأهلها ، لكن في الآخرة تصير مشهودة ظاهرة بناء على تجسّم الأعمال وموجبة لسلاسل اخرى اخرويّة بناء على جزاء الأعمال في الآخرة بالجزاء المناسب لها ، وكانت كلّها من حيث اكتساب النّفس منها سوأة وثقلا أغلالا لها مستورة عن الانظار الدّنيويّة مشهودة للانظار الاخرويّة ، وان كانت من القسم الأخير صارت سببا لإطلاقه من الأغلال وخلاصه من السّلاسل وسببا لخروجه من هاوية النّفس وعروجه على مراقى الانسانيّة الى أعلى عليّين وقرب ربّه ربّ العالمين وبعبارة اخرى كلّما يفعله الإنسان بعد بلوغه امّا ان يكون بأمر آمر الهىّ من غير شراكة لنفسه وأمرها فيه أو يكون بشراكة لنفسه فيه وامّا ان يكون بأمر نفسه من غير شراكة لربّه وامر ربّه فيه ، فان كان من القسم الاوّل صار سببا لإطلاقه ونجاته ويكون ممّا يتقرّب به قرب الفرائض ، وان كان من القسم الثّانى فامّا ان يكون شراكة النّفس في الفعل لأمر الله من حيث توجّهها الى الله واعانتها لامتثال امر الله وقربها من الله ، أو من حيث انصرافها من الله وتوجّهها الى حظوظها ومآربها ، والاوّل كالاوّل في صيرورته سببا لإطلاق النّفس ونجاتها ويكون ممّا يتقرّب به قرب النّوافل ، والثّانى يكون ممّا يكون العامل فيه مشركا في العبادة ويكون مردودا اليه وممّا يتركه الله تعالى لشريكه لكونه اغنى الشّركاء ويترك لشريكه كلّ عمل يعمل بشراكة غيره ، ويكون سلسلة وغلّا لنفسه ، وان كان من القسم الثّالث لا يكون الّا غلّا وسلسلة وإليها أشار تعالى شأنه بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فانّ أصحاب اليمين اى الّذين قبلوا ولاية علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة هم الّذين توجّهوا الى الله وابتغوا مرضاته ولقائه ، فان كانوا في حال الحضور وكان ولىّ أمرهم ظاهرا عليهم وفاعلا فعلهم بآلات أعضائهم من دون مدخليّة لأنفسهم في فعلهم كان فعلهم من القسم الاوّل ، وان لم يكن لهم حالة الحضور لكن كان حبّهم لربّهم ولولىّ أمرهم بحيث لم يبق لهم التفات الى أنفسهم وحظوظها كان فعلهم أيضا من القسم الاوّل ، وان لم يبلغ حبّهم الى مرتبة لم يبق لهم التفات الى أنفسهم وحظوظها بل كانت أنفسهم أيضا باعثة على أعمالهم ولكن كانت حظوظ أنفسهم في امتثال امر الله وابتغاء مرضاته كان من القسم الثّانى الملحق بالاوّل ، وان كانوا في أفعالهم غافلين من ربّهم وامره مبتغين لحظوظ أنفسهم حظوظها السّفليّة لم يكونوا حينئذ من أصحاب اليمين في تلك الأفعال فانّ قيد الحيثيّة معتبرة في أمثال المقام ، وكانوا مرهونين بأعمالهم مثل سائر النّاس ولم يكونوا ينتفعون ببيعتهم في تلك الأعمال لكن إذا لم يقطعوا حبل الولاية ولم يفسدوا بذر الايمان انتفعوا ببيعتهم عند الموت وبعده ، وقد أشار المولوىّ قدس‌سره الى السّلاسل والأغلال المستورة بقوله :

خلق ديوانند شهوت سلسلة

مى كشد شأن سوى دكّان وغله

هست اين زنجير از خوف ووله

تو مبين اين خلق را بى سلسلة

ميكشاندشان بسوى نيك وبد

گفت حق في جيدها حبل المسد

قد جعلنا الحبل في أعناقهم

واتخذنا الحبل من أخلاقهم


سورة الدهر

واعلم ، أيضا انّ الشّاربين للخمر الخبيثة المحرّمة لهم حالات وبحسب اختلافهم في الحالات يختلف شربهم للخمر الصّوريّة فانّه قد يغلب الحرارة على مزاجهم ، وقد يغلب البرودة ، وقد يعتدل أمزجتهم ، وبحسب اختلاف تلك الأحوال قد يمزجون بشرابهم الكافور وقد يمزجون الزّنجبيل وقد يشربونها خالصا وقد يشربون شرابا خالصا ليذهب بأذى الخمر وكسالة سكره ، ويسمّى بالطّهور والغسّال ، وللسّالكين الى الله أيضا أنواع من الشّراب المعنوىّ الرّوحانىّ فانّه قد يغلب عليهم برد السّلوك فيسقيهم ربّهم شرابا زنجبيليّا يسخّنهم ويزيد في حرارة شوقهم وطلبهم ، وقد يغلب عليهم حرارة الشّوق فيسقيهم ربّهم شرابا كافوريّا ليعتدل سخونة اشتياقهم ببرد كافور السّلوك ، وقد يسقيهم شرابا خالصا غير ممزوج إذا كانوا في السّلوك والجذب معتدلين ، وقد يسقيهم شرابا طهورا يغسّلهم من نسبة الأموال والأفعال والصّفات الى أنفسهم بل من انانيّاتهم وهذه الأحوال تطرو عليهم في الآخرة وفي الجنّات (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) النّذر ما أوجبه الإنسان على نفسه بشرط أو بغير شرط ، والمراد به العهد الّذى كان في ضمن البيعة العامّة أو الخاصّة والوفاء بهذا النّذر يستلزم الوفاء بجميع العهود والشّروط (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) اى متفرّقا غاية التّفرّق وفي الخبر كلوحا عابسا ، وقيل : عظيما (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) بل أطعمناكم ابتغاء لمرضاة الله (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) كريها يعبس فيه الوجوه (قَمْطَرِيراً) شديد العبوس قد روى كثيرا من العامّة والخاصّة انّ الآيات الى قوله : وكان سعيكم مشكورا نزلت في علىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وجارية لهم تسمّى فضّة ، والاخبار الواردة مختلفة بحسب الألفاظ مجمل مضمون أكثرها واشهرها انّه مرض الحسن (ع) والحسين (ع) فنذر هو وفاطمة (ع) وفضّة صوم ثلاثة ايّام ان شفاهما الله فبرئا واستقرض علىّ (ع) ثلاثة أصوع من الشّعير من يهودىّ أو آجر نفسه يهوديّا ليغزل له صوفا وأخذ ثلاثة أصوع من الشّعير فصاموا وطحنت فاطمة (ع) صاعا منها واختبزته وصلّى علىّ (ع) المغرب وقرّبته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم ، فأعطوه ولم يذوقوا الّا الماء ، فلمّا كان اليوم الثّانى اختبزت صاعا آخر منها وقرّبته وقت الإفطار إليهم ، فاذا يتيم بالباب يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا الّا الماء ، فلمّا كان اليوم الثّالث جاء أسير يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا الّا الماء ، فلمّا كان اليوم الرّابع وقد قضوا نذورهم أتى علىّ (ع) ومعه الحسن (ع) والحسين (ع) الى النّبىّ (ص) وبهما ضعف فبكى رسول الله (ص) ونزل جبرئيل بسورة هل أتى ، وفي بعض الاخبار فرآهم النّبىّ (ص) جياعا فنزل جبرئيل ومعه صحفة من الذّهب مرصّعة بالدّرّ والياقوت مملوّة من الثّريد وعراق (١) يفوح منها رائحة المسك والكافور فجلسوا وأكلوا حتّى شبعوا ولم ينقص منها لقمة واحدة ، وخرج الحسن (ع) والحسين (ع) ومع الحسين قطعة عراق فنادته يهوديّة : يا أهل البيت الجوع من أين لكم هذه؟ أطعمنيها ، فمدّ يده الحسين (ع) ليطعمها فهبط جبرئيل وأخذها من يده ورفع الصحفة الى السّماء ، فقال (ص) : لو لا ما أراد الحسين (ع) من إطعام الجارية تلك القطعة لتركت تلك الصحفة في أهل بيتي يأكلون منها الى يوم القيامة (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) في الوجوه (وَسُرُوراً) في القلوب (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) الاريكة السّرير في حجلة وكلّ ما يتّكأ عليه من سرير وغيره ، أو سرير منجّد في قبّة أو بيت (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) يعنى لا يرون حرّا ولا بردا بل يكونون في هواء معتدل (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) اى قريبة منهم افياؤها أو دائمة عليهم افياؤها ، ومعنى دنوّ الظّلال دنوّ المظلّة منهم ، أو الظّلال هاهنا جمع الظّلة بالضّمّ

__________________

(١) العرق العظم الّذى أخذ عنه اللحم ، والجمع عراق بالضّمّ.


بمعنى المظلّة (وَذُلِّلَتْ) اى سهلت (قُطُوفُها) للجنىّ (تَذْلِيلاً) فانّ ثمارها كأنّها باختيار الجاني يجنيها متى شاء وكيف شاء وعلى اىّ حال شاء (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) جمع الكوب وهو كوز لا عروة له ولا خرطوم (كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا) قرئ فيهما بالتّنوين للمناسبة ، وقرئ في الاوّل فقط بالتّنوين (مِنْ فِضَّةٍ) يعنى كانت الأكواب مثل القوارير في الصّفاء والشّفيف ، أو كانت القوارير مأخوذة من الفضّة لا من سائر الأحجار مثل قوارير الدّنيا (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) صفة للاكواب أو للآنية والأكواب والمعنى أكواب كان المؤمنون يقدّرون قدرها في أنفسهم ، أو كانوا يتمنّونها ، أو كان الغلمان المديرون يقدّرونها بقدر ميل المؤمنين ، وقرئ قدّروها على البناء للمفعول (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) الكأس تطلق على الخمر ولذلك تؤنّث ، ولمّا كان السّالك الباقي عليه من نفسه بقايا لا بدّ له من حرارة الطّلب واشتياق السّير في عالم الصّفات الّتى لا نهاية لها كان قد يسقى من الشّراب الزّنجبيلىّ الّذى به يشتدّ حرارة طلبه والتذاذ سيره ووجده (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) بدل من كأسا بدل الاشتمال ، والسّلسّبيل الشّراب السّهل الدّخول في الحلق ، اللّذيذ في المذاق يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل كذا في المجمع (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) جمع الوليد بمعنى الغلام (مُخَلَّدُونَ) دائمون في الجنّة ، أو مخلّدون على حال الغلمان (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً) في الصّفاء والحسن والتّلألؤ (مَنْثُوراً) متفرّقا غير منظوم في الكثرة أو في الخدمة (وَإِذا رَأَيْتَ) شيئا (ثَمَ) في الجنّة حذف المفعول للاشارة الى انّ كلّما كان مرئيّا هناك كان مشتملا على جميع ما يكون في المملكة الكبيرة (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) واسعا جدّا فانّ أدناهم منزلة ينظر في ملكه من مسيرة الف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل : هو القدرة على ما يتمنّى ونفاذ الأمر ، وقيل : هو استيذان الملائكة ورسل الله (ع) على المؤمنين (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) اى مارقّ من الحرير وما غلظ (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) يطهّرهم من كلّ ما كان منسوبا إليهم من الأموال والأفعال والأوصاف والذّوات حتّى لا يبقى فيهم سوى محبوبهم فيصير لذّتهم خالصة غير مشوبة وغير محجوبة ، في خبر : يطهّرهم من الحسد ويسقط عن أبشارهم الشّعر ، وفي خبر : يطهّرهم من كلّ شيء سوى الله (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) خطاب من الله لعباده في الدّنيا أو منه أو من الملائكة لعباده في الآخرة (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) يعنى انّ قرآن ولاية علىّ (ع) ليس الّا من عندنا فما لك تخشى عن النّاس وتخفيه عنهم وتخاف عن ردّهم أو ارتدادهم أو صرف علىّ (ع) عن حقّه (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ولا تحزن على ما يقولون في حقّ علىّ (ع) ولا تغيّر ما نزّلناه عليك (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) عاصيا لك في علىّ (ع) (أَوْ كَفُوراً) ساترا لولايته أو ساترا لنبوّتك فبينهما عموم من وجه (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) اسم الرّبّ هو اللّطيفة الانسانيّة الّتى هي الولاية التّكوينيّة وتتقوّى بالولاية التّكليفيّة ثمّ صاحب الولاية والرّسالة ثمّ كلّ من قبل الولاية ثمّ كلّ وجود عينىّ امكانىّ ثمّ الألفاظ والحروف الموضوعة ثمّ النّقوش المكتوبة ، وذكر الكلّ من حيث كونها أسماء الرّبّ مأمور به ونافع للإنسان ومورث لنجاته من المهاوى والنّيران (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) دائما أو في هذين الوقتين مخصوصا لشرافتهما (وَمِنَ اللَّيْلِ) الّذى هو مظهر عالم الطّبع ومظهر ظلمة النّفس وانانيّاتها (فَاسْجُدْ لَهُ) بكسر


انانيّة النّفس (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) اى بعضا طويلا من اللّيل ، أو ليل الطّبع الّذى طوله بقدر العمر ، عن الرّضا (ع): انّ هذا التّسبيح هو صلوة اللّيل وقد فسّر قوله : بكرة وأصيلا ، بصلوة الغداة والظّهرين وقوله ومن اللّيل فاسجد له ، بالعشائين ، وقوله : وسبّحه ليلا طويلا ، بالتّهجّد في طائفة طويلة من اللّيل (إِنَّ هؤُلاءِ) المشركين أو المنافقين الممتنعين من ولاية علىّ (ع) (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) ولذلك لا يأتمرون بأمر الله ولا بأمر نبيّه (ص) ولا ينقادون لنبيّه (ص) ولا وصيّه (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) يعنى امامهم لكنّه تعالى عبّر بورائهم للاشعار بانّهم منكوسون مقبلون على الدّنيا الّتى هي مدبرة عنهم ومدبرون عن الآخرة الّتى هي مقبلة عليهم ، والمراد بثقله ثقل حسابه وثقل شدائده وثقل حسّابه (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) اى خلقهم أو مفاصلهم بالاعصاب والأوتار أو الياف المعدة والمثانة حتّى صارتا باختيار صاحبهما (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) باذهابهم وجعل أولادهم أخلافهم ، أتى بإذا لتحقّق وقوعه (تَبْدِيلاً إِنَّ هذِهِ) اى ولاية علىّ (ع) ، أو قرآن ولايته ، أو هذه السّورة الّتى فيها ذكر الولاية (تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً وَما تَشاؤُنَ) لمّا أوهم قوله تعالى فمن شاء استقلالهم بالمشيّة رفع ذلك فقال وما تشاؤن (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

اعلم ، انّه لا يكون شيء من المكوّنات ومن افعال العباد وأخلاقهم وإراداتهم ومشيّاتهم الّا بمباد سبعة ، بمشيّة من الله ، وارادة منه ، وقدر منه سبحانه وقضاء واذن وأجل وكتاب وانّ المشيّة هي إضافته الاشراقيّة الّتى هي فعله وكلمته ، وانّ كلّ شيء من المبدعات والمنشئات والمخترعات والمكوّنات قوام وجوده مشيّة الله ، وانّ مشيّة الله غير محبّته ورضاه ، وانّ الرّضا والسّخط بمنزلة صورة للمشيّة ، والمشيّة كالمادّة وانّ مشيّة العباد هي مشيّة الله بضميمة خصوصيّة الاضافة الى العباد فمعنى ما تشاؤن الّا ان يشاء الله الّا في حال ان يشاء الله ، أو بسبب ان يشاء الله ، أو لان يشاء الله ، وامّا جعل ان يشاء الله مفعولا لتشاءون فبعيد بحسب الظّاهر وان كان له معنى صحيح بحسب دقيق النّظر ، لانّ كلّ ما يشاؤه العباد فهو متقوّم بمشيّة الله بل هو عين مشيّة الله الّتى صارت بحسب الاضافة محدودة بحدود الممكنات ، وقد مضى بيان وأف لكون مشيّة الله وإرادته عين مشيّة العباد وإراداتهم من غير لزوم جبر وتسخير عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ، من سورة البقرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) فبعلمه بدقائق الصّنع ومصالح المصنوع جعل مشيّته عين مشيّة العباد (حَكِيماً) بحيث لطف في هذا الصّنع لطفا لا يدركه أحد بل يتوهّمون ضدّه ويقولون : انّ الله فوّض أمور العباد وأفعالهم إليهم (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) اى من يحبّ ويرضاه (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

سورة المرسلات

مكّيّة ، خمسون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قد فسّرت بالملائكة المرسلة المتتابعة لتعذيب أهل الدّنيا وجحيم النّفس أو الملائكة


المرسلة للمعروف والإحسان الى العباد بتعذيب أهل الشّرّ والفساد (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) من قبيل عطف الصّفات المتعدّدة لذات واحدة ، وتخلّل الفاء للاشعار بانّ هذه الصّفة اى شدّة الهبوب والمرور في مقام التّعذيب أبلغ من الإرسال ، وفسّرتا بالرّياح المرسلة لتعذيب أهل الدّنيا بإفساد زراعاتهم وإهلاك مواشيهم (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) فسّرت بملائكة الرّحمة الّذين ينشرون العلوم في قلوب الأنبياء وسائر العباد ، والّذين يأتون بالسّحاب ، وفسّرت برياح الرّحمة الّتى تنشر السّحاب ، وفسّرت بالامطار الّتى تنشر النّبات من الأرض وفسّرت بنفوس الأنبياء (ع) الّذين ينشرون العلوم والأحكام في العباد (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) فسّر هذه بموافقة سابقتها (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) اى الملائكة والرّياح أو السّحب أو الأمطار أو الأنبياء (ع) فانّ كلّا منها يذكّر الإنسان قدرة الله وحكمته في صنعه ، ويستفاد من بيان الفقرات وجه اختلاف العطف بالفاء والواو (عُذْراً أَوْ نُذْراً) اى يلقين الذّكر عذرا اى سببا لنجاتهم ، أو نذرا اى تخويفا فيكونان بمعنى أرجاء وتخويفا وهما بدلان من ذكرا ، أو مفعولان له ، أو حالان وقد فسّرت الفقرات بالواردات الإلهيّة في العالم الصّغير الانسانىّ من الإلهامات والقبضات والبسطات والمنامات المنذرات والمبشّرات والبلايا الواردات ، وجبرانها بالالطاف الالهيّات والخطرات والخيالات والسّطوات والرّأفات والملائكة المرسلات بالنّبوّات والرّسالات (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب للقسم والمراد بما يوعدون البعث والحساب ، أو الثّواب والعقاب (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) اى محقت أو محى نورها ، وجواب إذا محذوف بقرينة السّابق اى كان ما توعدون ، أو بقرينة اللّاحق اى أهلكناهم ، أو الجواب قوله لاىّ يوم أجلت بتقدير القول (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) صدعت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) نسف البناء قلعها ونسف الجبال دكّها (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) وقرئ وقتت على الأصل اى عيّنت يعنى وقت حضورها للشّهادة أو للبشارة والتّخويف أو بلغ وقت ظهورها حين ظهور القائم أو القيامة (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) استفهام للتّعجيب والتّفخيم وجواب لاذا بتقدير القول ، أو حال عن الرّسل (ع) بتقدير القول ، أو استيناف بتقدير استفهام كأنّه تعالى : قال أتدري لاىّ يوم اجّلت؟ (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) اجّلت جواب من الله تعالى (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) جواب للاستفهام بتقدير القول أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى يقال فيه : ويل يومئذ للمكذّبين ، أو جواب لسؤال مقدّر بدون تقدير القول كأنّه قيل : ما حال النّاس فيه؟ ـ فقال : ويل يومئذ للمكذّبين (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما تفعل بهم في الدّنيا؟ ـ فقال : نفعل بهم ما فعلنا بالاوّلين الم نهلك الاوّلين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) من المجرمين قرئ برفع نتبعهم عطفا على الم نهلك ، وقرئ بالجزم عطفا على نهلك والمعنى الم نهلك الاوّلين من قوم نوح وعاد وثمود ، ثمّ لم نتبعهم الآخرين من قوم لوط وشعيب وفرعون (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) من قومك يا محمّد (ص) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لمّا كان التّكرير والتّأكيد والتّهديد والتّغليظ مطلوبا في مقام السّخط كرّر هذه الكلمة (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) تعداد للنّعم الّتى تدلّ على كمال الاهتمام بهم وعدم إهمالهم من غير ثواب وعقاب (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) قذر (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا) فسوّيناكم (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) كفته يكفته صرفه عن وجهه ، وكفت الشّيء


ضمّه وقبضه ، والكفات الموضع الّذى يكفت فيه الشّيء اى يضمّ أو هو مصدر ، أو جمع لكافت ، أو جمع كفت بمعنى الوعاء وهو مفعول ثان لنجعل ، أو حال ، أو المفعول الثّانى قوله تعالى (أَحْياءً وَأَمْواتاً) وعلى الاوّل فأحياء وأمواتا حالان من ذي حال محذوف اى للنّاس ، أو حالان من الأرض وكون الأرض احياء وأمواتا باعتبار صلاحها للنّبات والزّراعات وعدم صلاحها لها ، أو باعتبار وقت إنباتها للنّبات ووقت عدم إنباتها كالخريف والشّتاء ، أو مفعولان لكفاتا ، وتنكيرهما حينئذ للتّفخيم ، أو لانّ احياء الانس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا ثوابت طوالا (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) هذان الفعلان معطوفان على مجموع الم نجعل الأرض فانّه في معنى جعلنا الأرض البتّة كفاتا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ انْطَلِقُوا) حال أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى يقال لهم : انطلقوا (إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من العذاب (انْطَلِقُوا) قرئ هذا امرا ، وقرئ على الاخبار جوابا لسؤال مقدّر (إِلى ظِلٍ) اى ظلّ دخان جهنّم بقرينة ما يأتى (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ).

اعلم ، انّ النّفس الانسانيّة الامّارة مظهر لجهنّم ، وكلّما لها من الأوصاف الرّذيلة شعبة وشعلة من لهبها ، وهي سبب لدخولها ، وانّ أصل جميع الرّذائل هي القوى الثّلاث البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة ، وانّها لهبات من الجحيم وادخنة منها تحترق الانسانيّة بها ، وما دام الإنسان في الدّنيا وكان أسيرا للنّفس الامّارة لا يستشعر بحرقته فاذا مات تمثّل له ما كان مخفيّا عنه في الدّنيا فيظهر عليه اللهبات الثّلاث وادخنتها وظلال ادخنتها فيقال له : انطلق الى هذا الظّلّ ، استهزاء ، فينطلق الى ظلّها لانّه كان في الدّنيا مسخّرا لها ويكون ذلك الظّلّ غير ذي برودة ولذلك قال (لا ظَلِيلٍ) لانّه ظلّ الدّخان فيكون حارّا لا باردا وهذا ردّ لما أوهم لفظ الظّنّ (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) اى من حرّ اللهب كسائر الظّلال المغنية من حرّ الشّمس (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قرئ بسكون الصّاد بمعنى المنزل الرّفيع ، وقرئ بالتّحريك بمعنى أصول النّخل والشّجر وبقاياه وأعناق النّاس والإبل ، والكلّ مناسب ، فانّ القوى الثّلاث في الدّنيا ترمى بخطرات وآمال وانانيّات ، وفي الآخرة تتمثّل تلك بشرر عظام (كَأَنَّهُ) اى كأنّ القصر أو الشّرر فانّه جنس للشّررة (جِمالَتٌ صُفْرٌ) جمع الجمل ، وقرئ جمالات بكسر الجيم وضمّها جمع الجمالة بكسر الجيم وضمّها جمع الجمل فانّ الجمالة والجمالات مثلّثتي الجيم جمع للجمل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) اعلم انّ ايّام الآخرة كثيرة ففي بعضها ينطق النّاس ويسألون ويتضرّعون ، وفي بعضها لا ينطقون فلا ينافي ذلك سائر الآيات والاخبار الدّالّة على تنطّقهم واستنطاقهم (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) في النّطق أو في الاعتذار (فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المحقّ والمبطل ، أو المؤمن والكافر ، أو أهل الجنّة وأهل النّار ، أو يوم القضاء والحكم (جَمَعْناكُمْ) فيه (وَالْأَوَّلِينَ) حال أو استيناف (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) كما كنتم تكيدوننى في الدّنيا بالكيد مع خلفائي وهذا على التّعجيز والتّهكّم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال المكذّبين فما حال المتّقين عن تكذيب الرّسل أو الحشر؟ (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا) استيناف بتقدير القول (هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) لمّا كان السّورة لتهديد المكذّبين كرّر هاهنا هذه الكلمة وثنّى ذكر المكذّبين واضرب عن المتّقين مع انّه كان المناسب ان يقول : طوبى يومئذ للمتّقين (كُلُوا) استيناف أو حال


بتقدير القول (وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) يعنى في الدّنيا (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) تعليل للتّهديد المستفاد من قوله تعالى : كلوا وتمتّعوا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) عطف على مجرمون ، أو حال والتفات من الخطاب (ارْكَعُوا) اى صلّوا كما قيل : انّها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله (ص) بالصّلوة فقالوا : لا ننحنى فانّ ذلك سبّة (١) علينا ، أو تواضعوا وانقادوا (لا يَرْكَعُونَ) أو المعنى إذا قيل لهم اسجدوا في القيامة لا يقدرون على السّجود كما قال تعالى : ويدعون الى السّجود فلا يستطيعون (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) اى بأىّ حديث بعد القرآن أو بعد ما حدّثتك به من امر الآخرة والحشر والحساب والثّواب والعقاب ، أو بعد حديث الولاية ، أو بعد هذا اليوم يؤمنون؟!

الجزء الثّلاثون

سورة النّبا

ويسمّى سورة عمّ وسورة المعصرات وسو التّساؤل مكّيّة كلّها ، احدى وأربعون آية.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) استفهام لتفخيم المسؤل عنه كانوا يتساءلون بينهم عن المبدء وصفاته وعن القيامة وعلاماته ، وعن البعث وثوابه وعقابه ، أو كانوا يتساءلون عن الولاية بعد ما أشار الرّسول (ص) إليها فانّها النّبأ العظيم الّذى يقع الاختلاف فيه ، وانّها النّبأ الّذى ينبغي ان يهدّد النّاس في تركها لانّها الفارقة بين أهل الجنّة والنّار فانّ القابل لها إذا وصل بها الى الآخرة يدخل الجنّة من غير ريب ، والخارج منها إذا خرج بالخروج منها الى الآخرة يدخل النّار ، فانّه لو عبد الله عبد سبعين خريفا يدخل الجنّة من غير ريب ، والخارج منها إذا خرج بالخروج منها الى الآخرة يدخل النّار ، فانّه لو عبد الله عبد سبعين خريفا تحت الميزاب قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) لأكبّه الله على منخريه في النّار وانّ الله لا يستحيي ان يعذّب أمّة دانت بامامة امام جائر ، وان كانت الامّة في أعمالها بررة ، وانّ الله ليستحيي ان يعذّب أمّة دانت بامامة امام عادل وان كانت الامّة في أعمالها فجرة ، وسئل الباقر (ع) عن تفسير عمّ يتساءلون فقال : هي في أمير المؤمنين (ع) ، وبهذا المضمون اخبار كثيرة منهم (ع) (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بدل عن عمّ بتقدير حرف الاستفهام ، أو متعلّق بمحذوف وجواب من الله أو متعلّق بيتساءلون وعمّ متعلّق بمحذوف يفسّره المذكور (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلَّا) عن الاختلاف ، فانّه امر لا ينبغي ان يختلف فيه ، أو عن الإنكار المستفاد من الاختلاف ، فانّ الاختلاف لا يكون الّا بالإقرار والإنكار (سَيَعْلَمُونَ) حين رفع الحجب عن الأبصار عند الموت أو القيامة الكبرى (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) تأكيد للاوّل ، وتخلّل ثمّ للمبالغة في التّأكيد (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : الم يجعل الله دليلا لعباده على الولاية؟ أو على الحشر والحساب والثّواب والعقاب؟ ـ أو قال : الم يجعل لهم وليّا؟ أو الم يكن لهم حشر وحساب؟ ـ فقال : كيف لم نجعل لهم دليلا على

__________________

(١) اى عار


ذلك ، أو كيف اهملناهم ولم نجعل لهم رئيسا وإماما بعد الرّسول (ص)؟! أو كيف نهملهم ولا نبعثهم والحال انّا ما اهملناهم حين لم يكونوا شيئا مذكور أو جعلنا لهم جميع أسباب وجودهم وأسباب بقائهم (وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ذكرا وأنثى حتّى يستأنس بعضكم ببعض وليسكن ويمكن التّناسل ، أو جعلناكم أصنافا لتعارفوا ، وليرفع بعضكم حاجة بعض (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) اى راحة أو قطعا عن الأعمال والمتاعب (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) اى ساترا يستر كلّ عورة (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) وقت تمتّعكم أو سبب ابتغاء معاشكم (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) لا يقبل الانثلام وببنائها وجعل الكواكب فيها يكون بقاؤكم وتعيّشكم (وَجَعَلْنا) اى خلقنا (سِراجاً وَهَّاجاً) لا يمكن وجودكم ولا بقاؤكم بدونه (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) اى السّحائب الّتى صارت معصورة اى متراكمة بالبرد والرّيح أو الرّيح الّتى تكون معصرة للسّحاب ، أو الرّياح الّتى تكون ذوات الأعاصير الى الاغبرة فانّ الرّياح تكون أسباب نزول المطر ، وقد قرئ أنزلنا بالمعصرات وهو يؤيّد المعنى الأخير (ماءً ثَجَّاجاً) سيّالا الى مواضع زراعاتكم وروضاتكم وبه يكون حياتكم (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) لارزاقكم وأرزاق دوابّكم (وَنَباتاً) كذلك (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) الالفاف الأشجار الملتفّة واحدها لفّ بالكسر والفتح أو بالضّمّ وهو جمع لفّاء فيكون الالفاف حينئذ جمع جمع (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا لم تهملهم بلا حساب وثواب وعقاب فهل لهم موعد لذلك؟ ـ أو إذا لم تهملهم بلا ولىّ ورئيس فهل لظهور ذلك الولىّ موعد؟ ـ فقال : انّ يوم الفصل كان موعدا لهم ، والمراد بيوم الفصل يوم خروج الرّوح عن البدن ، أو يوم فصل المحقّ عن المبطل والنّاجى من الهالك (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) النّفخة الاولى أو النّفخة الثّانية (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أتى بالماضي امّا لتحقّق وقوعه أو للاشعار بانّ السّماء كانت من اوّل خلقته منفتحة منشقّة يتراءى بحسب الانظار الظّاهرة انّها غير منفرجة فانّ كلّ ممكن زوج تركيبىّ منشقّ الى مهيّة ووجود ووجوب وإمكان ، ومعنى كونها أبوابا انّها أبواب للملكوت كما انّ سماوات عالم الأرواح أبواب للغيب وفعله الّذى هو عالم المشيّة (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) يعنى انّ الجبال تحسبها ثابتة وهي تمرّ مرّ السّحاب باقتضاء التّجدّد الجوهرىّ ، وكونها سرابا من جهة انّها تتراءى جبالا عظيمة ثابتة جامدة وليست كذلك ، وهكذا حال جبال الانّيّات للأشياء فانّها ترى أشياء مستقلّة في الوجود لها نفسيّات وليست كذلك ، وقد فسّر الأفواج في خبر عن النّبىّ (ص) بأصناف من المعاقبين من أصناف المسيئين (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) رصده رقبه والمرصاد الطّريق أو المكان يرصد فيه العدوّ كأنّ الخزنة يرصدون في جهنّم أعداء أولياء الله والجملة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يفعل بهم بعد إتيانهم أفواجا؟ ـ (لِلطَّاغِينَ مَآباً) طغى كرضى طغيا وطغيانا بالضّمّ والكسر فيهما جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظّلم ، وطغا يطغو طغوا وطغوانا بضمّهما (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) جمع الحقب بالضّمّ والضّمّتين وهي ثمانون سنة أو أكثر ، والدّهر والسّنة أو السّنون ، وقيل : المراد باللّبث أحقابا انّه كلّما مضى حقب جاء بعده حقب آخر ، وقد فسّر الحقب بثمانين سنة من سنى الآخرة ، وقيل : انّ الاحقاب ثلاثة وأربعون حقبا كلّ حقب سبعون خريفا ، كلّ خريف سبعمائة سنة ، كلّ سنة ثلثمائة وستّون يوما ، كلّ يوم الف سنة ، وقيل المعنى لابثين فيها أحقابا موصوفة بانّهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، ثمّ يلبثون فيها يذوقون غير الحميم والغسّاق من أنواع العذاب فهذا توقيت لانواع


العذاب لا لمكثهم في النّار (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) يعنى بردا ينفعهم من حرّ النّار ولا شرابا ينفعهم من عطشهم ، أو المراد بالبرد النّوم كما قيل (إِلَّا حَمِيماً) اى الماء الحارّ الشّديد الحرارة (وَغَسَّاقاً) الغسّاق صديد أهل النّار ، أو ماء يخرج من صديد أهل النّار (جَزاءً وِفاقاً) مفعول له أو وصف لحميما وغسّاقا ، أو مفعول مطلق لمحذوف اى يجازون جزاء ، أو يجزيهم الله جزاء موافقا لاعمالهم (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) اى لا يعتقدون حشرا وحسابا ، أو لا يخافون حسابا كما قيل (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) من حيث انّها آيات وأعظمها علىّ (ع) (كِذَّاباً وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) ومن الأشياء الّتى أحصيناه أعمالهم الّتى عملوها (كِتاباً) اى في كتاب أو حالكونه مكتوبا عندنا (فَذُوقُوا) بتقدير القول (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال المكذّبين بالنّبإ العظيم فما حال المصدّقين بالولاية؟ ـ والمفاز الفوز والنّجاة ، أو محلّ الفوز ، ويستعمل في الهلاك والمهلك (حَدائِقَ وَأَعْناباً) بساتين وأثمارها لكن خصّص الأعناب بالذّكر لامتيازها من بين الاثمار (وَكَواعِبَ) اى جواري ثديّهنّ كاعبات (أَتْراباً) مستويات في السّنّ يعنى كلّهن في اوّل البلوغ (وَكَأْساً دِهاقاً) ممتلئة أو متتابعة (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) قرئ بتشديد الذّال بمعنى التّكذيب وبتخفيف الذّال بمعنى المكاذبة (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) لتشريفهم أصناف الجزاء هاهنا الى الرّبّ (عَطاءً حِساباً) كافيا أو على قدر أعمالهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) قرئ ربّ السّماوات ، والرّحمن بالجرّ والرّفع (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) منه حال من خطابا أو ظرف لغو متعلّق بلا يملكون اى لا يملكون مخاطبته أو لا يملكون من اذنه مخاطبة ولا يقدرون ولا يؤذنون فيها (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) ظرف لواحد من الأفعال السّابقة أو لقوله : لا يتكلّمون ، والرّوح هاهنا عبارة عن ربّ النّوع الانسانىّ الّذى هو أعظم من جميع الملائكة ومقامه فوق مقام جميع الملائكة بل فوق عالم الإمكان لم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) ، وكان مع محمّد (ص) وبعده مع أوصيائه (ع) ويعبّر عنه بروح القدس (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) في صفّ أو حالكونهم مصطفّين (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ) في الدّنيا (صَواباً) أو قال عند الله صوابا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) اى من شاء اتّخذ الى ربّه المضاف الى علىّ (ع) مآبا ، أو من شاء اتّخذ الى ربّه المطلق مآبا ، والمآب حينئذ هو الولاية واتّباع علىّ (ع) (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان ذلك اليوم الحقّ فما فعلت بهم لأجل ذلك اليوم؟ ـ فقال : انّا أنذرناكم (عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) بدل من عذابا نحو بدل الاشتمال أو حال من عذابا (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من خير أو شرّ وهو يوم الموت أو يوم القيامة الكبرى (وَيَقُولُ الْكافِرُ) بالولاية (يا لَيْتَنِي) اى يا قوم ليتني (كُنْتُ تُراباً) في الدّنيا فلم يكن لي حشر ونشر وحساب وعقاب ، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم يكن لي حساب ، أو ليتني كنت ترابا قابلا لخلق الأشياء الاخر منّى فانّ الكافر بسبب الفعليّات السّيّئة الحاصلة فيه لا يكون قابلا لفعليّات أخر منه فيتمنّى ان يكون ترابا مستعدّا لان يخلق فيه صور اخرى ، وقيل بعد ما يحشر الخلائق في صعيد واحد ويقتصّ من الظّالم للمظلوم حتّى للجمّاء من القرناء يقول الرّبّ لغير الثّقلين : انّا خلقناكم وسخّرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم ايّام حياتكم فارجعوا الى الّذى كنتم كونوا ترابا ، فاذا التفّت الكافر الى ما صار


ترابا يقول : يا ليتني كنت على صورة شيء منها وكنت اليوم ترابا ، وقيل : المراد بالكافر إبليس إذا رأى كرامة آدم وولده وقد عابه على كونه من طين يتمنّى ان يكون أصله ترابا ، أو المراد بالكافر الكافر بالولاية فانّه يتمنّى ان يكون من شيعة علىّ (ع) فانّه روى عن ابن عبّاس انّه سئل : لم كنّى رسول الله (ص) عليّا (ع) أبا تراب؟ ـ قال : لانّه صاحب الأرض وحجّة الله على أهلها بعده وله بقاؤها واليه سكونها قال : ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول : انّه إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما اعدّ الله تبارك وتعالى لشيعة علىّ (ع) من الثّواب والزّلفى والكرامة قال : يا ليتني كنت ترابا اى من شيعة علىّ (ع) وذلك قول الله عزوجل : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.

سورة النّازعات

ستّ وأربعون آية ، مكّىّ كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) اقسم تعالى شأنه بالنّفوس المشتاقة الى أوطانها الحقيقيّة من نزع نزوعا اشتاق ، أو بالنّفوس المرتدعة عن النّفس وعلائقها من قولهم : نزع من الأمر انتهى ، الّتى تغرق في الاهتمام بالسّير الى الله ، أو في بحار حبّه ، أو في بحار صفاته ، أو في بحر الاحديّة (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) اى النّفوس النّاشطات الطّيّبات في السّير الى الله ، أو النّاشطات في الخروج من دار النّفس ، أو الخارجات من دار النّفس الى دار القلب ، أو المراد بالنّازعات ملائكة العذاب تنزع أرواح الكفّار ، وبالنّشطات ملائكة الرّحمة تخرج أرواح المؤمنين برفق ، أو المراد بالنّازعات النّجوم تنزع من مطالعها وتغرق في مغاربها ، والنّاشطات النّجوم الّتى تخرج من برج الى برج ، أو المراد بالنّازعات القسىّ تنزع بالسّهم ، والمراد بالنّاشطات الخيل السمينة في الجهاد ، أو المراد بالنّازعات النّفوس المشتاقة الى الله ، وبالنّاشطات النّفوس المسرعة في الخروج عند الموت (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) النّفوس السّابحة في بحار أوصافه تعالى ، أو الجارية المسرعة الى الله ، أو الملائكة الّذين يسرعون في امر الله من غير تأمّل وتوان كالسّابح بالشّيء في الماء ، أو الملائكة الّذين يسبحون أرواح المؤمنين يسلّونها سلّا رقيقا ثمّ يدعونها حتّى تستريح كالسّابح بالشّيء في الماء ، أو الملائكة الّذين ينزلون من السّماء الى الأرض باسراع كما يقال للفرس الجواد سابح ، أو النّجوم الّتى تسبح في فلكها ، أو خيل الغزاة تسبح في عدوها (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) الملائكة الّذين سبقوا ابن آدم بالخير ، أو سبقوا الشّيطان في حفظ ابن آدم منه ، أو سبقوا الشّيطان بالوحي الى الأنبياء (ع) ، أو الّذين سبقوا بأرواح المؤمنين الى الجنّة ، أو النّفوس البشريّة الّتى تسبق سائر النّفوس في الذّهاب الى الله أو القرب منه ، أو الّتى تسبق الملائكة في المرتبة ، أو الّتى تسبق ملك الموت في الخروج الى الله شوقا اليه ، أو النّجوم الّتى يسبق بعضها بعضا في السّير ، أو خيل الغزاة يسبق بعضها بعضا (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) اى الملائكة المدبّرة امر أهل الأرض ، أو الرّؤساء من الغزاة يدبّرون امر الجنود والجهاد ، أو النّفوس الكاملة الرّاجعة من السّير الى الله في السّير الى العباد لتكميلهم ، أو النّفوس السّالكة المدبّرة امر السّير الى الله دون المجذوبة اليه من غير سلوك ، أو النّجوم المدبّرة امر العالم ، وعطف الأخيرين بالفاء للاشعار بشرافة الصّفتين أو الصّنفين ، وجواب القسم محذوف بقرينة الآتي كأنّه قال : لتبعثنّ (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ظرف للمدبّرات


امرا ، أو لمحذوف هو جواب القسم اى لتبعثنّ يوم ترجف الرّاجفة ، أو لقوله تعالى : تتبعها الرّادفة ، أو لقوله تعالى : واجفة ، ويكون يومئذ تأكيدا له أو لا ذكر أو ذكّر مقدّرا ورجف بمعنى حرّك وتحرّك واضطرب شديدا ، ورجفت الأرض زلزلت ، والمراد بالرّاجفة النّفخة الاولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) اى النّفخة الثّانية والجملة استيناف جواب لسؤال مقدّر سواء جعل يوم ترجف الرّاجفة متعلّقا به ، أو لم يجعل أو حال (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) مضطربة (أَبْصارُها) اى ابصار القلوب (خاشِعَةٌ) وفي اضافة الأبصار الى القلوب اشعار بانّ ابصار الأبدان تصير في ذلك اليوم متعطّلة (يَقُولُونَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يقولون في حقّ هذا اليوم؟ ـ فقال : ينكرونها ويقولون (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) اى في اوّل حالنا يعنى في الحياة الثّانية المشابهة للحياة الاولى ، والحافرة الخلقة الاولى ، والعود في الشّيء حتّى يردّ آخره على اوّله (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) بالية متفتّتة (قالُوا تِلْكَ) الكرّة (إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) يعنى خاسر أهلها يعنى قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، أو على سبيل الفرض والشّكّ (فَإِنَّما هِيَ) اى الكرّة أو الرّجعة (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) اى صيحة واحدة لانّ الزّاجر للشّيء في الأغلب يكون زجرة بصياحة وللاشارة الى سهولتها عليه تعالى وسرعة خروجهم من القبور بالصّيحة أطلق الصّيحة الى الرّجعة ووصفها بالواحدة (فَإِذا هُمْ) من القبور (بِالسَّاهِرَةِ) اى على وجه الأرض ، وقيل : السّاهرة موضع بالشّام (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قال : ما افعل بهؤلاء المنكرين المكذّبين؟ ـ وما تفعل أنت بهم؟ ـ فقال : افعل بهم ما فعل موسى (ع) بفرعون وقومه ، ونفعل بهم ما فعلنا بفرعون وقومه ، فلا تكن في ضيق ممّا يمكرون فانّ لك عليهم سلطانا كما لموسى (ع) على قوم فرعون (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ) حال بتقدير القول أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول (إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ) ميل (إِلى أَنْ تَزَكَّى) اى تتطّهر ممّا أنت فيه من الشّرك والذّنوب أو تتنعّم ، أو تنمو فيما أنت فيه من العزّ والسّلطنة ، وهذا تعليم لموسى (ع) كيف يتكلّم له بالقول اللّيّن (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) فحصل لك مقام الخشية الّتى هي للعالم بالله (فَأَراهُ) اى فأتاه ودعاه بالملاينة معه فأريه (الْآيَةَ الْكُبْرى) الّتى هي الثّعبان أو اليد البيضاء (فَكَذَّبَ وَعَصى) في حضوره (ثُمَّ أَدْبَرَ) عنه طلبا لما يكسر به آيته ظنّا منه انّ آيته سحر (يَسْعى) يجهد في طلب ما يكسر به حجّته ، أو يسعى في الإفساد في الأرض (فَحَشَرَ) قومه وجنوده وأهل مملكته (فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) عطف على نادى عطف التّفصيل على الإجمال وكان مقصوده من هذا التّمويه على العوامّ وانكار ان يكون فوقه ربّ سواه ، وقيل : كان مقصوده انّ الأصنام أرباب لكم وانا ربّكم وربّ الأصنام (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) نكال مفعول مطلق من غير لفظ الفعل ، أو منصوب بنزع الخافض اى اخذه الله بنقمة لائقة لكلمته الآخرة الّتى هي قوله : انّا ربّكم الأعلى ، والاولى الّتى هي قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فانّ الكبرياء والانانيّة كانت رداءه تعالى فمن نازعه في ردائه اخذه أخذا شديدا ، وكان بين الكلمتين كما عن ابى جعفر (ع) أربعون سنة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) واتّعاظا (لِمَنْ يَخْشى) الله تعالى بالغيب وكان في مقام العلم وقد خرج من مقام الظّنّ الّذى كان لأصحاب النّفوس ولم يصل الى مقام الشّهود (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) عظما وإتقانا وادامة (أَمِ السَّماءُ) يعنى انّ


خلقكم ابتداء أضعف من خلق السّماء وقد خلقكم وخلق السّماء فكيف يكون عاجزا عن خلقكم ثانيا (بَناها) جواب لسؤال مقدّر أو حال (رَفَعَ سَمْكَها) اى جهتها المرتفعة (فَسَوَّاها) اى اتمّها بجميع ما فيها وجميع ما فيه مصالح العباد (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) اى جعل ليلها مظلما (وَأَخْرَجَ) من اللّيل أو أظهر (ضُحاها) ونسبة اللّيل والضّحى الى السّماء لكونها مبدأهما وهذه الجمل تفصيل لسوّيها فانّ تتميمها يكون بما ذكر بعدها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) اى بعد بناء السّماء ورفع سمكها واظلام ليلها وإخراج ضحيها ، ودحو الأرض عبارة عن بسطها.

اعلم ، انّه لا تقدّم لسماء العالم الكبير على أرضها ، وما ورد في الآيات والاخبار مشعرا بتقدّم خلق الأرض على السّماء أو تقدّم السّماء على الأرض فمؤوّل لانّه ليس بين الأرض والسّماء علّيّة لعدم جواز العلّيّة بين الأجسام كما قرّر في محلّه ولذلك قيل : المراد بقوله تعالى بعد ذلك مع ذلك اى الأرض مع بناء السّماء دحاها فليكن المراد بدحو الأرض بسطها بتوليد مواليدها ، فانّ مرتبة المواليد في الخلقة بعد مرتبة العناصر والسّماوات ، أو ليكن بعد بمعنى مع كما قيل ، أو ليكن المقصود من الأرض والسّماء ما في العالم الصّغير فانّ سماءه بوجه مقدّمة على أرضه وبوجه مؤخّرة (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها) اى اثبتها في أوساط الأرض لتوليد المعادن فيها وإنبات النّبات والأشجار الّتى لا تنبت الّا فيها وسهولة اجراء المياه من تحتها والعيون على سفحها (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) اى حالكونها أشياء تتمتّعون بها في معاشكم أو لتمتّعكم وتمتّع انعامكم فقوله متاعا حال أو منصوب بنزع الخافض وليس مفعولا له لعدم اتّحاد مرفوعه مع مرفوع عامله ، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) يعنى إذا كان خلق السّماء اشدّ من خلقكم ابتداء ، وخلقكم ثانيا أسهل من خلقكم ابتداء فلا مانع من خلقكم ثانيا وقد أخبركم به فهو محقّق لا محاله فاذا جاءت القيامة ، سمّيت بالطّامّة لانّ الطّامة الدّاهية الّتى تغلب ما سواها والقيامة داهية تغلب جميع الدّواهى (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) اى ما عمله فانّ يوم القيامة يوم الذّكر ودار الآخرة دار الذّكر فيتذكّر الإنسان فيها جميع ما عمله بمعنى انّه يرى آثاره على نفسه ويشاهدها ويشاهدها ويشاهد جزاءها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) اى لمن يراها اى لمن كان من شأنه رؤيتها فانّ منهم من لا يراها أصلا وليس من شأنه رؤيتها (فَأَمَّا مَنْ طَغى) طغى يطغو من باب نصر وطغى يطغى من باب منع خرج من الطّاعة (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الحياة الآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) اى مأواه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) عن مقامه عند ربّه أو قيام ربّه للحساب ، أو محلّ قيام ربّه للحساب ، أو تمكّن ربّه وقدرته عند الحساب (وَنَهَى النَّفْسَ) اى نفسه (عَنِ الْهَوى) اى هواها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل بعد ما سجّل عليهم قيام السّاعة : ما يقولون فيها؟ ـ فقال : يسألونك عن وقتها ، أو استفهام بتقدير حرف الاستفهام (أَيَّانَ مُرْساها) اى متى يكون ثباتها (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) تفخيم لأمرها ونفى لعلمه (ص) بها تأكيدا في اخفائها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) يعنى انّ السّاعة منتهاها الرّبّ فان كنت تقدر على معرفة الرّبّ تقدر على معرفتها ، أو المعنى الى ربّك المضاف وظهوره منتهى وقت السّاعة يعنى انّ السّاعة اى وقت القيام عند الله من اوّل الموت الى ظهور ربّك عليك ، وحين ظهور الرّبّ يكون تمام القيام عند الله سواء كان الموت اختياريّا أو اضطراريّا ولذلك فسّرت


السّاعة تارة بظهور القائم (ع) وتارة بالقيامة وتارة بالرّجعة وتارة بالموت ، فانّ الكلّ بعد طىّ البرازخ اختيارا أو اضطرارا ينتهى الى علىّ (ع) فانّ آيات الخلق اليه وحسابهم عليه ورجوعهم اليه (ع) وهو قيامتهم وهو رجعتهم سواء جعل المراد بالرّجعة الرّجعة الى الصّحو بعد المحو ، أو الى القوى والجنود بعد الفناء عنها ، أو الرّجعة الى الآخرة وهو ظاهر ، أو الرّجعة الى الدّنيا فانّه بعد رجوعهم الى امامهم كان اوّل رجعتهم الى الدّنيا والى المراتب الدّانية الّتى كانوا مدبرين معرضين عنها ، وبعد ما نفى علمه بالسّاعة حصر شأنه في الإنذار تأكيدا لنفى علمه بالسّاعة فقال (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) يعنى محصور شأنك في إنذار من كان عالما بها وبأهوالها لا ينفع إنذارك لغيرهم ولا شأن لك سوى ذلك الإنذار (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) وهذا جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما كان حالهم في السّاعة؟ ـ فقال : كانوا حين يرونها كأنّهم لم يلبثوا في السّاعة الّا آخر النّهار أو اوّله حتّى اخرجوا الى النّار ، أو كأنّهم لم يلبثوا في الدّنيا لصغر الدّنيا في أعينهم أو لشدّة اهوالهم الّا ساعة من النّهار.

سورة عبس

مكّيّة كلّها ، ثنتان وأربعون أو احدى وأربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) قيل : نزلت الآية في عبد الله بن امّ مكتوم كان أعمى وذلك انّه جاء الى رسول الله (ص) وعنده جمع من صناديد قريش يدعوهم الى الإسلام وفي رواية كان عنده عتبة بن ربيعة وابو جهل والعبّاس وأبىّ وأميّة ابنا خلف يدعوهم الى الله ويرجوا سلامهم فقال : يا رسول الله (ص) اقرأنى وعلّمنى ممّا علّمك الله فجعل يناديه ويكرّر النّداء ولا يدرى انّه مشتغل بغيره ، فظهرت الكراهة في وجه رسول الله (ص) ويقول في نفسه : يقول هؤلاء الصّناديد انّما اتباعه العميان والعبيد فأعرض عنه وأقبل على القوم وكان رسول الله (ص) بعد ذلك يكرمه ويقول : مرحبا بمن عاتبني فيه ربّى ، وروى عن الصّادق (ع): انّ المراد كان رجلا من بنى أميّة كان عند النّبىّ (ص) فجاء ابن امّ مكتوم فلمّا رآه تقذّر (١) منه وجمع نفسه واعرض عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه ، وعن القمّىّ انّها في عثمان وابن امّ مكتوم وكان مؤذّنا لرسول الله (ص) وجاء الى رسول الله (ص) فقدّمه رسول الله (ص) على عثمان فعبس عثمان وجهه وتولّى عنه (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) يتطهّر أو يصلح في اعماله كمال الصّلاح أو ينمو في دينه وايمانه (أَوْ يَذَّكَّرُ) اى يتذكّر ان لم يكن يزّكّى (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) حتّى يسلم بعد أو ينتفع بها حين موته (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) في ماله أو استغنى عن الإسلام (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) تتعرّض (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) ولا بأس عليك في ان لا يتطهّر ذلك الغنىّ أو اىّ شيء يرد عليك في ان لا يزّكّى ، أو ليس عدم تزكيته وبالا عليك ، وقال القمّىّ : المعنى لا تبالي أزكيّا كان أو غير زكىّ إذا كان غنيّا (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) في طلب الدّين وازدياد ايمانه (وَهُوَ يَخْشى) ربّه بالغيب (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) وقد استبعد بعض العلماء كون الآيات في رسول الله (ص) لبعد مقامه عن العبوس والتّولّى عن الأعمى ، وعلوّ رتبته عن ان يصير معاتبا بمثل هذا العتاب ، أقول : لو كانت الآيات فيه (ص) والعتاب له لم يكن فيه نقص لشأنه ولم يكن منافيا لما قاله تعالى في حقّه من قوله : (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فانّ إقباله (ص)

__________________

(١) اى تنفّر.


وإدباره وعبوسه واستبشاره كان لله فانّ عبوسه ان كان لمنع الأعمى عن نشر دين الله واستماع كلماته لأعداء الله وأعداء دينه وتقريبهم الى دينه لم يكن فيه نقص فيه وفي خلقه ، وامّا أمثال العتاب له (ص) فانّها تدل على تفخيمه والاعتداد به فانّ كلّها كانت بايّاك اعنى واسمعي يا جارة فالخطاب والعتاب يكون لغيره لا له ، وكذا زريه (١) تعالى له (ص) بالعبوس والتّولّى يكون متوجّها الى غيره في الحقيقة (كَلَّا) ردع له عن مثله (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) اى القرآن ، وتأنيث الضّمير لمطابقة المسند أو الرّسالة تذكرة فليس لك ان تكون حريصا على قبولهم أو ولاية علىّ (ع) تذكرة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) اى القرآن أو شأن الرّسالة أو الولاية (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) حال أو خبر بعد خبره ، ويجوز ان يكون ظرفا لغوا متعلّقا بقوله تعالى ذكره ، والمراد بالصّحف المكرّمة الألواح العالية ، أو الأقلام العالية ، الّتى هي العقول الطّوليّة أو العرضيّة أو صحف قلوب الأنبياء (ع) ونفوسهم (مَرْفُوعَةٍ) عن نيل الأيدي النّاقصة (مُطَهَّرَةٍ) عن نقائص المادّة وسواتها (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) جمع السّافر بمعنى الكاتب ، أو المراد الملائكة الّذين كانوا سفراء بينه وبين أنبيائه (ع) (كِرامٍ بَرَرَةٍ) بارّين الى الأنبياء (ع) ، أو الى الخلائق ، أو محسنين في أنفسهم مطيعين لأمر ربّهم (قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء على الإنسان المطلق بسبب شأنه الّذى أودعه الله فيه من كفران النّعمة ، أو الكفر بالله ، أو الرّسول (ص) أو الولاية ، وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حال الإنسان مع ما جعلته تذكرة من القرآن أو شأن الرّسالة أو الولاية؟ ـ فقال : قتل الإنسان (ما أَكْفَرَه) يعنى حاله شدّة الكفران أو الكفر ، والصّيغة للتّعجّب أو مركّبة من لفظة ما الاستفهاميّة والفعل الماضي من باب الأفعال ، ويجوز ان يكون المقصود من قوله ما أكفره ما أكفره بعلىّ (ع) (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل له ما يدلّه على الآلهة أو الرّسالة أو الولاية أو البعث؟ ـ فقال : من اىّ شيء خلقه حتّى يعلم انّ ذلك حقّ فالاستفهام للتّقرير (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) يعنى خلقه من نطفة ضعيفة الوجود لا تحفظ صورته بنفسه آنين قذرة منتنة ادلّ دليل على المبدء والرّسالة والولاية والبعث (فَقَدَّرَهُ) بحسب أعضائه واجزائه ومقدار طوله وعرضه قدرا يليق بشأنه ويتمشّى منه الأفعال المترقّبة منه بسهولة (ثُمَّ السَّبِيلَ) اى سبيل الخروج من بطن أمّه ، أو سبيل السّلوك لطلب معيشة ، أو سبيل السّلوك الى الله وطلب معاده ، أو سبيل السّلوك من الدّنيا الى الآخرة بالموت الاضطرارىّ (يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ) عن صورة وفعليّة ينبغي ان تطرح (فَأَقْبَرَهُ) في صورة اخرى الى ان أماته عن جميع الصّور بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ فأقبره في القبر التّرابىّ وفي الصّور البرزخيّة والمثاليّة (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) من قبره (كَلَّا) ردع للإنسان عن ترقّب رؤية ما ذكره من النّشر (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) اى لمّا يقض ذلك الإنسان ما امره الله من إخلاص العبادة وإتمام العبوديّة حتّى يشاهد ما يتمنّى شهوده من النّشر والحساب والعقاب ، أو لمّا يقض الإنسان ما امره الله تعالى به من الأوامر الشّرعيّة القالبيّة حتّى يشاهد آثار الآلهة أو الرّسالة أو الولاية ، أو يشاهد نشر العباد وحسابهم من طريق باطنه ، أو لمّا يقض الله ما امره وقدّره من حشر الخلائق ونشرهم وحسابهم وثوابهم وعقابهم حتّى يشاهدوا ما نقول من نشر الخلائق (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) الى الأسباب والمسبّبات ويشاهد كيفيّة ترقّيها وترتّبها ووصولها الى غاياتها ومسبّباتها حتّى يعلم بعلم اليقين انّ لها إلها وانّ له رسولا وإماما ، وانّ الإنسان ينتهى في تقلّباته الى ان خرج من قشره وقالبه ، ووصل الى لبّه وقلبه ، والى حسابه وربّه فلينظر من جملة الأسباب والمسبّبات (إِلى طَعامِهِ) الصّورىّ والمعنوىّ (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) من السّحب (صَبًّا) عجيبا يكون بقدر الحاجة وليس كثيرا بحيث يستضرّون به ولا في غير وقت الحاجة (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) بانبات النّبات والأشجار (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا)

__________________

(١) نسبة الله تعالى عيب العبوس والتّولى اليه (ص).


نباتا ذا حبّ (وَعِنَباً) خصّه من بين الفواكه لكثرة منافعه (وَقَضْباً) القضب جمع القضبة وهي ما أكل من النّبات المقتضب غضّا (وَزَيْتُوناً) شجر الزّيتون (وَنَخْلاً) تخصيصهما من بين الأشجار بالذّكر لكثرة منافعهما كالعنب (وَحَدائِقَ غُلْباً) جمع الغلباء الحديقة المتكائفة (وَفاكِهَةً) وسائر أنواع الفواكه (وَأَبًّا) الكلأ والمرعى وما أنبتت الأرض (مَتاعاً) هو بمعنى التّمتيع أو بمعنى التّمتّع مفعول له أو منصوب بنزع الخافض أو مفعول مطلق لمحذوف هو حال ، أو بمعنى ما يتمتّع به فيكون حينئذ حالا (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) فكيف نهملكم بعد ما بلّغناكم من ادنى مراتب وجودكم وهو مقام كونكم نطفة قذرة الى أعلى مقاماتكم وهو مقام روحانيّتكم ومشاركتكم للملائكة بل نبعثكم الى عالم أعلى من عالمكم (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) الصّخّ الضّرب بشيء صلب على مصمت ، والصّاخّة صيحة تصمّ الأسماع لشدّتها والقيامة والدّاهية ، والكلّ مناسب هاهنا (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) يوم الموت أو يوم القيامة الكبرى (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ) تأكيد ليوم يفرّ المرء من أخيه وهو متعلّق بيغنيه أو يوم يفرّ المرء من أخيه ظرف لجاءت أو لمحذوف اى اذكر ويومئذ متعلّق بيغنيه (شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) مشرقة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) لما رأته ممّا اعدّ الله لها (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) الغبرة محرّكة الغبار (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) تغشيها كدرة وسواد من هول القيامة والقتر والقترة محرّكتين والقترة بالفتح والسّكون الغبار أو التّلطخ بالغبار ، وقيل : الغبرة ما انحطّ من السّماء الى الأرض ، والقترة ما ارتفعت من الأرض الى السّماء ، وهذا مناسب لتأدية اللّفظين بقوله : عليها غبرة ترهقها قترة (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ) في علومهم (الْفَجَرَةُ) في أعمالهم فهم النّاقصون في قوّتيهم العلّامة والعمّالة.

سورة التّكوير

مكّيّة كلّها ، تسع وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) التّكوير التّلفيف على التّدوير والصّرع ، كوّره صرعة ، وكوّر المتاع جمعه وشدّه ، والتّكوّر التّقطّر والتّشمّر والسّقوط ، والكلّ مناسب هاهنا ، والمراد بوقت تكوير الشّمس وقت الموت وظهور آثار الآخرة ، أو وقت القيامة الكبرى (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) بذهاب ضوئها (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) باندكاكها وانتثارها أو بسيرها في الأصقاع فانّك ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب بتجدّدها في جوهرها ، وهكذا حال جبال الانّيّات (وَإِذَا الْعِشارُ) جمع العشراء وهي النّاقة الّتى أتت عليها من حملها عشرة أشهر ، وتسمّى بهذا الاسم بعد وضعها وهي أنفس مال عند العرب (عُطِّلَتْ) وأهملت بلا راع (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) اى وحوش العالم الصّغير عند الموت ووحوش العالم الكبير في القيامة (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) سجّر التّنوّر أحماه ، والنّهر ملأه والماء في حلقه صبّه ، والمسجور البحر ، وتسجير الماء تفجيره ، فقيل: المعنى إذا البحار أرسل مالحها


على عذبها ، وعذبها على مالحها حتّى امتلأت ، وقيل : فجّر بعض في بعض فصارت البحور بحرا واحدا ، وقيل : أوقدت فصارت المياه نيرانا ، وقيل : يبست وذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة ، وقيل : ملأت من القيح والصّديد الّذى يسيل من أبدان أهل النّار في النّار (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) كلّ مع سنخه من الاناسىّ والشّياطين ، أو مع الملك والحور العين والجنّة والشّياطين ، أو كلّ مع بدنه المناسب له ، أو كلّ مع جزاء عمله في الآخرة (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) الموؤدة الجارية المدفونة حيّا ، كانوا يدفنون البنات حيّا خوفا من لحوق العار ، كانوا يقولون : انّها يسبين فيتزوّجن في غير اهلهنّ ، أو خوفا من العيلة ، وقيل : كانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها ، فان ولدت بنتا رمت بها في الحفرة (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) والمقصود انّه يسئل عن الموؤدة نفسها أو يسئل القاتلون عن حالها (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) اى صحف الأعمال نشرت للحساب والجزاء (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أزيلت عن موضعها (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أو قدت حتّى ازدادت شدّة على شدّة (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قربت من أهلها للدّخول فيها أو قربت ليشاهدها المؤمنون فيزداد سرورهم (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) النّفس في معنى الجنس الحاصل في عموم الإفراد مثل قولهم تمرة خير من جرادة ، وما استفهاميّة معلّق عنها الفعل أو موصولة ، أو المراد بنفس فرد عظيم في النّكارة لا يمكن ان يعرّف وهو نفس الثّانى (فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة أو جوابيّة أو نافية ، والمعنى لا اقسم لعدم الحاجة الى القسم لوضوح المقسم عليه (بِالْخُنَّسِ) الخنّس الكواكب كلّها أو السّيّارة ، أو النّجوم الخمسة السّيّارة غير النّيّرين ، وخنوسها عبارة عن غيبوبتها تحت الأفق أو تحت ضوء الشّمس (الْجَوارِ) السّيّارات كجريان السّفن في البحار (الْكُنَّسِ) اى المتواريات في البروج ، وقيل : خنوسها اختفاءها بالنّهار تحت ضوء الشّمس ، وكنوسها انّها تغيب في الأفق وقت غروبها (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) اى إذا أدبر أو اقبل ، فانّ العسعسة من الاضداد تستعمل في الأدبار والإقبال (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) شبّه امتداد الشّفق بتنفّس الإنسان (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) اى القرآن ليس من عند نفس محمّد (ص) بل هو قول جبرئيل أو قرآن ولاية علىّ (ع) ، أو نصبه بالخلافة والولاية قول جبرئيل الّذى هو رسول من الله الى الأنبياء (ع) وله الكرامة عند الله (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ) في الملائكة أو في جملة المخلوقات لانّه في العالم الكبير بمنزلة النّفس الانسانيّة في العالم الصّغير (ثَمَّ أَمِينٍ) على وحي الله ومدائن علمه ، وروى عن الصّادق (ع) في قوله ذي قوّة عند ذي العرش مكين انّه قال يعنى جبرئيل قيل : قوله مطاع ثمّ أمين قال يعنى رسول الله (ص) هو المطاع عند ربّه الأمين يوم القيامة (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) عن الصّادق (ع) يعنى النّبىّ (ص) في نصبه أمير المؤمنين (ع) علما للنّاس (وَلَقَدْ رَآهُ) اى رأى القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو جبرئيل أو عليّا (ع) (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) وهو أفق عالم الغيب (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) اى بخيل حتّى يكتمه ولا يظهره عليكم ، وقرئ بالظّاء المؤلّف بمعنى المتّهم من الظّنّة بالكسر بمعنى التّهمة ، وروى عن الصّادق (ع) انّه قال : وما هو تبارك وتعالى على نبيّه (ص) بغيبه بضنين عليه (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) عن علىّ (ع) (إِنْ هُوَ) اى القرآن أو علىّ (ع) (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وعن الصّادق (ع) انّه قال : أين تذهبون في علىّ ان هو الّا ذكر للعالمين لمن أخذ الله ميثاقه على ولايته (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ)


بدل من قوله للعالمين بدل البعض من الكلّ (أَنْ يَسْتَقِيمَ) في طاعة علىّ (ع) والائمّة من بعده كما عن الصّادق (ع) ، أو يستقيم في أفعاله وأقواله وأحواله وأخلاقه اى يتمكّن على الصّدق فيها (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) روى عن الكاظم (ع) انّ الله جعل قلوب الائمّة موردا لإرادته فاذا أراد الله شيئا شاؤه وهو قوله تعالى : وما تشاؤن الّا ان يشاء الله ربّ العالمين وقد مضى بيان هذه العبارة في سورة الدّهر بطريق الإجمال.

سورة الانفطار

مكّيّة كلّها ، تسع عشر آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انشقّت مثل قوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تفرّقت بالتّساقط عن محلّها (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) انفجر الماء وتفجّر سال ، وفجره من الثّلاثىّ المجرّد وفجّره من التّفعيل اساله ، والمراد سيلان البحار بعضها في بعضها ، أو سيلان مائها بحيث لم يبق فيها ماء (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) بعثر نظر وفتّش ، وبعثر الشّيء فرّقه وقلّب بعضه على يعض واستخرجه وكشفه وأثار ما فيه ، وبعثر الحوض هدمه وجعل أسفله أعلاه ، والمراد وقت الموت أو وقت البعث (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) قد سبق هذه العبارة في اوّل سورة التّكوير وقد سبق معنى التّقديم والتّأخير في سورة القيامة عند قوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) التّوصيف بالكرم تهكّم به حيث يقول المغترّون به تعالى : انّ الله كريم فيقول تبارك وتعالى : انّ الله كريم لكنّك ما عملت ما استحققت به كرمه ، أو المنظور تلقينه حجّة غروره كأنّه قال : ما غرّك بربّك غير كرمه والمقصود انّك ما فعلت فعلا لائقا لكرمه حتّى يعمّك كرمه (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) بخلق جميع ما تحتاج اليه في معاشك ومعادك (فَعَدَلَكَ) جعلك معتدلا في بدنك ونفسك لم يجعل قامتك طويلة بحيث لا يمكنك تحصيل مأكولها ومشروبها وملبوسها ومسكونها ، ولا قصيرة بحيث لا يتمشّى منها بعض الأفعال المترقّبة منها ، وجعل اعضاءك متوافقة كلّا مع الآخر والكلّ مع البدن والنّفس (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) اىّ شرطيّة وما زائدة لتأكيد الإبهام ، وشاء فعل الشّرط وركّبك جزاء الشّرط ، أو اىّ شرطيّة وما شرطيّة بدل منها أو في اىّ صورة استفهام تفخيمىّ وما شاء ركّبك جملة شرطيّة ، أو اىّ استفهاميّة للتّفخيم وما زائدة لتأكيد الإبهام والتّفخيم ، وشاء صفة صورة بتقدير العائد وركّبك مستأنفة متعلّقة للظّرف والمراد بالصّورة المركوبة الصّورة البدنيّة من الحسن والقبيح ، والطّويل والقصير ، والذّكر والأنثى ، والأبيض والأسود ، أو الصّورة النّفسيّة والأخلاق الباطنيّة ، أو الصّورة الّتى هي الفعليّة الاخيرة من الفعليّات العلويّة الملكوتيّة أو السّفليّة الملكوتيّة (كَلَّا) ردع عن الاغترار بالكرم (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) اضراب عن الاغترار بكرمه وبيان لاغترارهم بأمانيّهم وتكذيبهم بالدّين اى الجزاء أو ولاية علىّ (ع) أو شريعة محمّد (ص) (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) حال


عن الدّين وقيد للدّين المكذّب به فيكون هو أيضا مكذّبا به أو حال عن الفاعل وقيد للتّكذيب (كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) توصيف للحافظين تفخيما لأمر الجزاء والحساب والعقاب فاذا كانوا يعلمون ما تفعلون فلا تجترؤا على معصية الله (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا كان علينا حافظون فما حالنا في الآخرة؟ ـ فقال : انّ الأبرار لفي نعيم (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها) يتقاسون حرّها (يَوْمَ الدِّينِ) اى يوم الجزاء (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) يعنى انّهم حاضرون فيها في هذه الدّنيا وان كانت هي غائبة عنهم فيها ، أو المعنى ما هم في الآخرة عن الجحيم بغائبين حتّى يفوتونها ، أو المعنى ما هم عنها في الآخرة غائبون زمانا ما بل يكونون أبدا فيها (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تفخيم لشأن ذلك اليوم وانّه لا يمكنك معرفته (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تأكيد لذلك التّفخيم (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) قرئ برفع يوم لا تملك على انّه بدل من يوم الدّين أو خبر لمحذوف أو مبتدء لمحذوف (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) لا امر لأحد لا في نفس الأمر ولا بحسب الظّنّ والتّخمين كما في الدّنيا ، أو المعنى يظهر انّ الأمر يومئذ لله.

سورة التّطفيف

مكّيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة الّا ثماني آيات وهي :

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) (الى آخر السّورة) وهي ستّ وثلاثون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الطّفيف القليل والنّاقص من الشّيء ، والمطفّف كما فسّرته الآية هو الّذى يعطى اقلّ من الوزن أو الكيل الّذى وقع البيع عليه ويأخذ بأكثر ممّا وقع البيع عليه ، فانّه أيضا تقليل في الثّمن فالتّطفيف لا يكون الّا في المعاملات ، والمعاملات تكون بين الشّخص وبين الله ، أو بينه وبين من فوقه في الدّين مثل امامه وإخوانه الّذين سبقوه بالايمان ، أو تكون بين الشّخص ومن تحت يده من اهله وأولاده وخادمه وخادمته ، أو بينه وبين من كان مساويا له في الدّين أو في الدّنيا كسائر المؤمنين من عشائره وغيرهم ، أو بينه وبين من كان أدون منه كسائر فرق المسلمين ، وجميع أنواع الكفّار ، وأيضا تكون المعاملات امّا في الأموال والاعراض الدّنيويّة أو في الأفعال والآداب البدنيّة ، أو في الأحوال والأغراض والأخلاق النّفسيّة ، أو في العلوم والعقائد القلبيّة ولكلّ من العباد وسائر افراد الحيوان حقّ عليك لا بدّ ان تؤدّيه وافيا ولك على كلّ حقّ لا بدّ ان يؤدّوه وافيا ، فان كنت لا توفّى الحقّ الّذى عليك كنت مطفّفا ، وان كنت تطلب منهم أكثر من حقّك الّذى عليهم كنت مطفّفا فانظر الى حالك مع ربّك ومع خلقه حتّى لا تكون مطفّفا ، هيهات هيهات!. كيف نخرج من التّطفيف ونطلب من الله ما لا نقدر على أداء شكر عشر من أعشار ما أعطاناه! ونطلب عن الخلق الثّناء على ما لا نفعل ونغضب ان ذمّونا على ما لنا من المعايب والنّقائص! فما لم نخرج من الانانيّات ولم نصر عبدا لله فانيا فيه لم نخرج من التّطفيف فلنطلب العفو من الله والمغفرة منه لتطفيفاتنا (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) بان اكتالوا أجناس النّاس لأنفسهم (يَسْتَوْفُونَ) لم يقل أو وزنوا لانّ المطفّف في الكيل مطفّف


في الميزان ، ولانّ أكثر المعاملات كانت بالمكيال مثل هذا الزّمان في بعض البلدان (وَإِذا كالُوهُمْ) اى كالوا لهم من أجناسهم ، وامّا جعل الضّمير تأكيدا للمرفوع فبعيد لفظا ومعنى لعدم إثبات الالف في الخطّ وعدم كون المقصود كالوا بأنفسهم ولكون المقصود كالوا أجناسهم للنّاس بقرينة المقابلة (أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) في الإتيان بالاكتيال والكيل في القرينتين اشعار بتعمّلهم في الكيل حين الاكتيال على النّاس والمسامحة في الكيل حين الكيل للنّاس ، قيل : لمّا قدم رسول الله (ص) المدينة كانوا من أخبث النّاس في الكيل والوزن فانزل الله عزوجل : ويل للمطفّفين ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك ، وقيل : الصّلوة مكيال فمن وفي لله وفي الله له ، ومن طفّف فقد سمعتم ما قال الله في المطفّفين (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) استفهام للتّعجيب (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ كَلَّا) ردع عن عدم ظنّ البعث (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قدّم بيان أحوال الفجّار لفي سجّين لانّ الكلام فيهم ولان يختم الآية بالابرار وأحوالهم ، والسّجين الدّائم والشّديد وهو مبالغة في السّجن فانّه عبارة عن الملكوت السّفلى الّتى هي دار الجنّة والشّياطين وفيها الجحيم ونيرانها وعقاربها وحيّاتها ، وهي والملكوت العليا مكتنفتان بالإنسان ، فان كان اعماله من حيث انقياده تحت حكم العالم وتقليده له كان كلّما عمل منها حصل له منها صورة في نفسه من حيث جهتها العليا وكان يكتب الكتبة اعماله في الكتب الّتى هي من العالم العلوىّ ويعبّر عنه بالعلّيّين مبالغة في العلوّ ، وان لم يكن بتقليد العالم كان كلّما عمل من الأعمال حصل له منها صورة في نفسه من حيث جهتها السّفلى وكان يكتب الكتبة اعماله في الكتب الّتى هي من العالم السّفلى ويعبّر عنه بالسّجّين مبالغة في السّجن فانّه أضيق سجن للنّفوس الانسانيّة ، ولمّا كان كلّ عالم كتابا من الحقّ تعالى مرقوما بصوره ونفوسه على صفحات موادّ ذلك العالم فسّر السّجّين بقوله كتاب (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) تفخيم وتهويل لشأن ذلك العالم (كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) من ذلك السّجن السّجّين (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) متجاوز عن الحقّ الّذى هو طريق القلب وهو طريق الولاية (أَثِيمٍ) بالغ في الإثم فانّ يوم الدّين ان كان الإنسان ناظرا الى وجوده وأطوار وجوده كان مشهودا له لم يكن له حاجة الى الآخرة وامّا المتجاوز عن طريق القلب التّابع لاهوية نفسه فهو أعمى من مشهوداته الّتى لا حاجة له الى تعمّل في النّظر إليها ، فكيف بما كان محتاجا الى التّعمّل في النّظر اليه! (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) التّدوينيّة في بيان الأحكام الشّرعيّة ، أو في المواعظ والنّصائح ، أو في بيان آياتنا التّكوينيّة الحاصلة في الآفاق أو الأنفس وخصوصا الآيات العظمى الّذين هم الأنبياء والأوصياء (ع) ، أو في بيان آيتنا العظمى الّذى هو علىّ (ع) وولايته (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا) ردع له عن هذا القول (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) اى ليس آياتنا من الأساطير بل ران ، والرّين الطّبع والدّنس ، وران ذنبه على قلبه غلب (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) فانّ ما كانوا يكسبون لم يكن الّا فعليّة جهة النّفس السّفلى وهي ختم لجهتها العليا وكدرة لها وسدّ لروزنتها الى الملكوت العليا ، وروى عن الباقر (ع): ما من عبد مؤمن الّا وفي قلبه نكتة بيضاء فاذا أذنب ذنبا خرج في تلك النّكتة نكتة سوداء ، فان تاب ذهب ذلك السّواد وان تمارى في الذّنوب زاد ذلك السّواد حتّى يغطّى البياض ، فاذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه الى خير أبدا وهو قول الله عزوجل : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (كَلَّا) ردع لهم عن توقّع الخير وشهود جماله تعالى في الآخرة (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) عن الكاظم (ع) قال يعنى أمير المؤمنين (ع) قيل : تنزيل؟ ـ قال : نعم ، وعلى


هذا فالمعنى انّهم عن علىّ (ع) لمحجوبون ثمّ يقال : هذا علىّ (ع) الّذى كنتم به تكذّبون (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قد مضى بيانه عند قوله كتاب الفجّار لفي سجّين (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) من الملائكة فانّ عالم المثال العلوىّ مشهود لجميع الملائكة المقرّبين ، أو من الأنبياء والمرسلين (ع) والأولياء المقرّبين فانّهم بانظارهم الملكوتيّة يشهدون اعمال الخلائق وصحائف أعمالهم (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) جواب لسؤال مقدّر (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع الاريكة السّرير في حجلة وكلّ ما يتّكأ عليه من سرير ومنصّة وفراش أو سرير منجّد مزيّن في قبّة أو بيت (يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) الرّحيق الخمر أو أطيبها أو أفضلها أو الخالص أو الصّافى ، وضرب من الطيّب (مَخْتُومٍ) مطبوع بحيث لا يمسّه يد غير يد ساقيه (خِتامُهُ) اى الطّين الّذى يختم به (مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) اى فليرغب الرّاغبون أو فليتنازع المتنازعون لا في مثل مهويّات الأنفس الفانيات الزّائلات المستعقبات للحسرة والنّدامة (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) علم لعين في الجنّة من ارفع عيون الجنّة ، أو شرابها من أعلى أقسام شراب الجنّة ، أو تأتى أهل الجنّة من فوقهم ولذلك سمّيت بتسنيم (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا) اى منها (الْمُقَرَّبُونَ) خالصة يعنى انّ المقرّبين يشربون منها خالصة غير ممزوجة وامّا غير المقرّبين فيشربون منها ممزوجة ، أو هو كناية عن كون الأبرار كلّهم مقرّبين (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) جواب لسؤال مقدّر (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) اى يشير بعضهم الى بعض بالأعين والحواجب استهزاء ، ورد من طريق العامّة والخاصّة : انّ الآية نزلت في علىّ (ع) ومنافقي قريش (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) الفكه المتلذّذ باغتياب النّاس واعراضهم وبالسّخريّة منهم (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) حيث رأوهم غير متنعّمين في الدّنيا ثابتين على ما هم عليه من ولاية علىّ (ع) مع كمال الضّيق ورثاثة الحال (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) لاعمالهم أو حافظين لهم عن الضّلال حتّى ينكروا عليهم ما رأوه منهم مخالفا لما هم عليه (فَالْيَوْمَ) اى يوم القيامة سواء جعل اللّام للعهد الحضورىّ فانّ يوم القيامة مشهود لله وللرّسول المخاطب (ص) ، أو للعهد الذّهنىّ أو للعهد الذّكرىّ فانّه مذكور بالالتزام عند قوله : انّ الأبرار لفي نعيم (الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى عليّا (ع) واتباعه على ما سبق من تفسير الآيات (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) قيل انّه يفتح للكفّار باب الى الجنّة ويقال لهم : اخرجوا إليها فاذا وصلوا إليها أغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون ، وقيل : يضحكون لمّا رأوا الكفّار في العذاب وأنفسهم في النّعيم ، ويجوز ان يقال : انّ المؤمنين في الجنّة مسرورون من قبل الكافرين ، لانّهم كانوا في الدّنيا يصبرون على أذاهم واستهزائهم فصار ذلك سببا لتنعّمهم في الجنّة وسرورهم فيها لا انّهم ينظرون إليهم ويتعجّبون من عذابهم ويضحكون منه لانّ ذلك يستلزم الحقد وتشفّى النّفس ، والمؤمنون مطهّرون منهما في الجنّة (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) تكرار لسابقه وهو ممدوح في مقام المدح (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) يعنى هل جوزي الكفّار عين ما كانوا يفعلون ، على تجسّم الأعمال ، أو جزاء ما كانوا يفعلون ، والجملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى على الأرائك ينظرون حالكونهم يقال لهم : هل ثوّب الكفّار ما كانوا يفعلون ، أو مستأنفة منقطعة عن سابقها من دون كونها جوابا لسؤال


مقدّر بل تكون ابتداء خطاب مع محمّد (ص) كأنّه قال بعد ما ذكر جزاءهم : هل يثوّب الكفّار ما كانوا يفعلون؟ والإتيان بالماضي لتحقّق وقوعه ، أو لانّ محمّدا (ص) كان مجازاة أهل النّار في النّار وأهل الجنّة في الجنّة مشهودة له واقعة بالنّسبة اليه ، ويجوز ان تكون متعلّقة بينظرون معلّقا عنها العامل ، يعنى على الأرائك ينظرون الى الكفّار هل جوّزوا ما كانوا يفعلون أم لا؟

سورة الانشقاق

مكّيّة كلّها ، ثلاث وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) اعلم انّ الإنسان حين الموت ينشقّ سماء روحه الحيوانيّة بخروج الرّوح الانسانيّة منها وتنتثر كواكب قواه وتنكدر وتتناثر وتندكّ جبال أعضائه وجبال انّيّاته ، وتنبسط ارض بدنه وأعضائه ، وتخرج جميع القوى الانسانيّة والحيوانيّة الّتى هي أثقالها وتتخلّى منها ، ولمّا كان العالم الصّغير أنموذجا من الكبير كان كلّما وقع فيه وقع في الكبير أيضا فيظهر انشقاق سماء العالم الكبير وانكدار كواكبها وانتثارها واندكاك الجبال وغير ذلك (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) اى سمعت وانقادت (وَحُقَّتْ) بالاستماع والانقياد لانّها مفطورة على ذلك حقّ لك ان تفعل كذا وحققت ان تفعل كذا ، مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول بمعنى فانّه لازم ومتعدّ اى حقّت بان تنقاد (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) اى بسطت بخروج ما به جمعها وقبضها من الرّوح الانسانيّة وباندكاك جبال العالم الكبير وتسطيح آكامها وتلالها ووهادها (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من القوى الموجودة المشهودة والمكمونة في الكبير والصّغير (وَتَخَلَّتْ) من جميعها فانّ المتّصل بالملكوت يرى الملك خاليا من جميع ما يراه المحجوب في الأرض الصّغيرة والكبيرة (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في ذلك (وَحُقَّتْ) وجواب إذا محذوف اى يلقى الإنسان ربّه أو عمله (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أتى بالنّداء هاهنا تنبيها للإنسان عن غفلته فانّ الكدح محسوس له ومشهود ان لم يكن غافلا والجملة مع النّداء جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل ينتهى بالإنسان الى ما ذكر؟ ـ فقال : أنت غافل عن نفسك وحركاتها فتنبّه حتّى تعلم (إِنَّكَ كادِحٌ) اى ساع بالجهد والجدّ (إِلى رَبِّكَ) أو انّك كادح بالجدّ الى انشقاق السّماء وتخلّى الأرض ذاهب الى ربّك مجاوزا عن ذلك (كَدْحاً فَمُلاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) تفصيل لكيفيّة ملاقاته (كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) بان يكون فعليّته فعليّة الهيّة ويكون نفسه وقواها وبدنه وما فيه بتصرّف فعليّته الالهيّة فانّه يعبّر عن فعليّته الالهيّة الاخيرة باليمنى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) لفظة سوف للتّأكيد أو للتّسويف فانّ مقام المحاسبة بعد مقام إيتاء الكتاب فانّ اوّل إيتاء الكتاب يكون في الدّنيا ثمّ عند الموت ثمّ في البرازخ ثمّ في الأعراف والقيامة (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) اى الى من ينبغي ان يكون أهلا له (مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) بيده الّتى هي فعليّته الشّيطانيّة أو الحيوانيّة السّبعيّة أو البهيميّة فانّه قد يعبّر عن تلك الفعليّة بخلف الإنسان وورائه لانّها خلف الانسانيّة فانّ الانسانيّة هي اللّطيفة المقبلة على الله المدبرة عن الشّيطنة والحيوانيّة وقد يعبّر عنها بالشّمال كما يعبّر عن فعليّته الالهيّة باليمين


(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) بقوله : يا ثبوراه ، يا هلاكاه ائت فانّه قد حضر وقتك (وَيَصْلى) اى يدخل (سَعِيراً) يتقاسى حرّها (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) في الدّنيا من غير غمّ لآخرته ومن غير حزن على العمل لأجلها (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) هذه وسابقتها جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى كان مسرورا لانّه كان يظنّ ان لا يرجع الى الله أو الى الآخرة (بَلى) ردّ له عن اعتقاد عدم الرّجوع اى بلى يرجع (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل أو في مقام بيان حالهم ، أو بيان وتفصيل للاجمال المستفاد من بلى (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) قد مضى بيان للا اقسم ، والشّفق الحمرة في الأفق من الغروب الى العشاء الآخرة ، أو المراد به النّوريّة الباقية من النّفس لانسانيّة بعد غروبها في البدن ، أو في المرتبة الحيوانيّة (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) اى ما جمع فانّ النّهار كان سببا للنّشور واللّيل للجمع والسّكون ، وكذلك ليل بدن الإنسان يجمع المتضادّات ويؤلّف المتخالفات (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) انتظم وتكامل في نوره ، وهكذا قمر القلب إذا تكامل (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) اى مرتبة مجاوزة عن مرتبة اى بعد مرتبة من مراتب الآخرة يعنى أنتم في ركوب المراتب الاخرويّة في الدّنيا ولكنّكم غافلون منه ، أو حالا بعد حال لورود الأحوال المختلفة عليكم ، أو لتركبنّ سنن من كان قبلكم مطابقين لهم بعد جمع آخر مطابقين لهم ، أو بعد حال اخرى مطابقة لحالهم كما في كثير من الاخبار ، وفي بعضها : لتسلكنّ سبيل من كان قبلكم من الأمم في الغدر في الأوصياء بعد الأنبياء (ع) وفي بعضها ، أو لم تركب هذه الامّة بعد نبيّها (ص) طبقا عن طبق في امر المنافقين ، والطّبق محرّكة غطاء كلّ شيء ومن كلّ شيء ما ساواه ، ومن النّاس والجراد الكثير أو الجماعة منهم ، وبمعنى الحال ، (فَما لَهُمْ) اى اىّ نفع لهم؟ أو اىّ مانع لهم؟ أو اىّ حال لهم؟ ألهم الجنون؟ أو العقل؟ (لا يُؤْمِنُونَ) جملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل ، أو في مقام بيان حالهم ، أو لفظة ما نافية والمعنى فليس لهم شيء من المنافع ، أو ليس لهم مانع ، وجملة لا يؤمنون مثل السّابق والمراد بعدم الايمان عدم الايمان بالله أو بالرّسالة أو بالولاية (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يخضعون لله ، روى انّ النّبىّ (ص) قرأ ذات يوم واسجد واقترب ، فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) اى بما يضمرون في قلوبهم أو بما يجمعون في نفوسهم من نتائج أعمالهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء منقطع أو متّصل والمعنى الّا الّذين آمنوا بعد منهم فيكون الماضي بعد الموصول بمعنى المضارع (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) اى غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم.

سورة البروج

مكّيّة ، اثنتان وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) الاثنى عشر ، أو المراد سماء روح الإنسان الّتى هي ذات مراتب ودرجات


(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) الّذى هو القيامة الكبرى للرّوح الانسانيّة الّتى لا تكون الّا بالفناء التّامّ (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) نكّرهما للاشعار بانّ الشّاهد لمقام الاحديّة لا يمكن معرفته ، والمشهود الّذى هو مقام الاحديّة أيضا لا يعرف وقد فسّر الشّاهد بيوم الجمعة والمشهود بيوم عرفة ، أو بيوم القيامة ، وفسّر الشّاهد بمحمّد (ص) والمشهود بيوم القيامة وفسّرا بالنّبىّ (ص) وأمير المؤمنين (ع) ، وبالملك ويوم القيامة ، وبنبىّ كلّ زمان وأمّته ، وبمحمّد (ص) وجميع الخلق ، وبهذه الامّة وسائر الأمم ، وبأعضاء بنى آدم وأنفسهم ، وبالحجر الأسود والحجّاج ، وبالايّام وبنى آدم ، وبالأنبياء ومحمّد (ص) ، وبالله ولا اله الّا الله ، وبالخلق والحقّ (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) جواب للقسم أو جملة دعائيّة معترضة بين القسم وجوابه أو خبريّة معترضة واخبار عن حال الكفّار الّذين احرقوا المؤمنين أو اخبار عن حال المؤمنين الّذين احرقوا في الأخدود.

ذكر حكاية أصحاب الأخدود

وذكر حكاية أصحاب الأخدود في روايات الخاصّة والعامّة باختلاف ، فانّه روى عن رسول الله (ص) انّه كان ملك وكان له ساحر فلمّا مرض السّاحر قال : ادفع الىّ غلاما اعلّمه السّحر ، فدفع اليه غلاما وكان بينه وبين السّاحر راهب فمرّ الغلام بالرّاهب فافتتن به فبينما هو كذلك قد حبس النّاس حيّة ، فقال : اليوم اعلم امر السّاحر والرّاهب فأخذ حجرا فقال : اللهمّ ان كان امر الرّاهب احبّ إليك فاقتل هذه الحيّة فقتلها ومضى النّاس فأخبر بذلك الرّاهب ، فقال : يا بنىّ انّك ستبتلى فلا تدلّ علىّ ، وجعل يداوي النّاس ويبرئ الأكمه والأبرص فعمي جليس الملك فأتاه وحمل اليه مالا كثيرا فقال : اشفني ولك ما هاهنا ، فقال : انّ الله يشفى فان امنت بالله دعوت الله فآمن فدعا الله فشفاه ، فجلس الى الملك فقال : من شفاك؟ ـ قال : ربّى ، قال : انا؟ ـ قال : لا ، ربّى وربّك الله ، فأخذه ولم يزل به حتّى دلّه على الغلام ، فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الرّاهب ، فوضع المنشار عليه فنشره شقّين وقال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فأمر ان يصعدوا به الى جبل كذا فان رجع والّا يدهدهوه ، ففعل به ، فلمّا صعدوا به الجبل قال : اللهمّ اكفنيهم ، فكفاه الله واهلكهم ، فرجع الى الملك وقال : كفانيهم الله ، فقال : اذهبوا به فأغرقوه في البحر ، فكفاه الله تعالى وأغرقهم ، فجاء الى الملك وقال : كفانيهم الله ، وقال : انّك لست بقاتلي حتّى تفعل بى ما آمرك ، اجمع النّاس ثمّ اصلبني على جذع ثمّ خذ سهما من كنانتي ثمّ ضعه على كبد القوس ، ثمّ قل : باسم ربّ الغلام فانّك ستقتلني ، ففعل به ما قال فوقع السّهم في صدغه ومات ، فقال النّاس : آمنّا بربّ الغلام ، فقيل له : أرأيت ما كنت تخاف قد نزل بك : آمن النّاس بربّ الغلام فأمر بالأخدود فخدّت على أفواه السّكك ثمّ أضرمها نارا فقال : من رجع عن دينه فدعوه ، ومن ابى فأقمحموه فيها ، وجاءت امرأة بابن لها فقال لها يا أمّه اصبري فانّك على الحقّ ، فلمّا رأى النّاس ذلك اشتدّ ثبات المؤمنين وشوق سائر النّاس الى دين الغلام. ونسب الى أمير المؤمنين (ع) انّ ملكا سكر فوقع على ابنته أو قال على أخته ، فلمّا أفاق قال لها : كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ ـ قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم انّك ترى نكاح البنات وتأمرهم ان يحلّوه ، فجمعهم فأخبرهم ، فأبوا ان يتابعوه فخدّ لهم أخدودا في الأرض وأوقد فيه النّيران وعرضهم عليها ، فمن أبى قذفه في النّار ومن أجاب خلّى سبيله ، ونسب الى أمير المؤمنين (ع) انّ الله بعث رجلا حبشيّا نبيّا فكذّبوه قومه فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروه ثمّ بنوا له حيّزا ثمّ ملئوه نارا ثمّ جمعوا النّاس وقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النّار معه ، فجعل أصحابه يتهافتون في النّار فجاءت امرأة ومعها صبىّ ابن شهر فتكلّم الصّبىّ كما سبق ، وروى عن علىّ (ع) أيضا : انّ أصحاب الأخدود كانوا عشرة وعلى مثالهم عشرة يقتلون في هذا السّوق يعنى سوق الكوفة ، وقيل انّ يوسف بن ذي نواس الحميرىّ سمع انّ بنجران اليمن جمعا على دين عيسى (ع) فسار إليهم وحملهم على التّهوّد فأبوا فخدّ لهم في الأرض وأوقد وعرضهم عليها ، فمن رجع عن دين عيسى سلم ومن لم يرجع كان يلقى في النّار ، وإذا امرأة جاءت مع ابن لها فتكلّم الصّبىّ


كما سبق ، وأصحاب الأخدود على التّأويل من دخل في أخاديد الطّبع وابتلى بنار شهوات النّفس وغضباتها وأهلك عن الفطرة الانسانيّة (النَّارِ) بدل من الأخدود بدل الاشتمال (ذاتِ الْوَقُودِ) التّوصيف بذات الوقود اشارة الى كثرة الحطب وادامة إيقادها (إِذْ هُمْ) اى الملك وأصحابه (عَلَيْها قُعُودٌ) قيل : كانوا على كراسىّ حول النّار ويعذّبون المؤمنين (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) حاضرون على تعذيبهم (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) اى ما كافئوا منهم أو ما أنكروا أو ما كرهوا (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وقد مضى نظير الآية في سورة المائدة والتّوبة (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اى مملكة السّماوات والأرض أو ملكهما الّذى يكون في الانظار مستقلّا بالوجود ومتأبيا عن المملوكيّة فكيف بملكوتهما (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فضلا عن مالكيّته وشهوده على كلّ شيء نحو شهود النّفس على صورها الادراكيّة فيكون مالكيّته أيضا نحو مالكيّة النّفس لصورها الذّهنيّة (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بالإيذاء من غير استحقاق أو بالإيذاء مطلقا (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أعاذنا الله منه (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) الحريق اسم للاحتراق بمعنى انّ لهم عذابا مسبّبا عن الاحتراق ، أو عذابا هو الاحتراق والمقصود انّ لهم في جهنّم عذاب الحيّات والعقارب والحميم والزّقّوم ، ولهم عذاب الاحتراق ، أو المراد بالّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أصحاب الأخدود والمراد بعذاب الحريق احتراقهم بنار الأخدود ، فانّه كما نقل بعد ما القوا المؤمنين في النّار كان المؤمنون يدخلون الجنّة من غير احساس الم النّار وانقلبت النّار على الكفّار فأحرقتهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جواب لسؤال مقدّر عن حال المؤمنين (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات في آخر سورة آل عمران عند قوله فالّذين هاجروا واخرجوا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) يا محمّد (ص) أو من يتأتّى منه الخطاب (لَشَدِيدٌ) الجملة في مقام التّعليل لعذاب الكافرين ونعيم المؤمنين ، والإتيان بالبطش والحكم عليه بالشّدّة اشعار بشدّة العذاب فانّ البطش هو الأخذ بالعنف والسّطوة (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) تعليل لشدّة بطشه فانّ البطش ممّن بيده اعادة الشّيء وابداؤه يكون شديدا بالنّسبة اليه (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) لا غفور الّا هو ، ولا ودود الّا هو ، فيكون مغفرته ووداده بالنّسبة الى مستحقّهما فوق ما يتصوّر ، جمع بين القهر واللّطف والوعيد والوعد كما هو ديدنه وديدن خلفائه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قرئ بالرّفع وبالجرّ ، والعرش جميع ما سواه فله العظمة والمالكيّة لجميع ما سواه فله إعطاء ما يريد (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من غير مانع وعجز وقد مضى في سورة البقرة عند قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) بيان تامّ لقوله : فعّال لما يريد (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) استفهام للتّقرير وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل على وعده ووعيده دليل ممّا مضى؟ ـ فقال : الدّليل على ذلك حكايات الجنود الّذين تجنّدوا على أنبيائهم فيما سلف وقد سمعت حكاياتهم وما فعل بالكفّار منهم وما أكرم به المؤمنين منهم (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أطلق اسم الرّئيس على الجماعة مجازا أو قدّر جنود فرعون وثمود يعنى قد سمعت ذلك فانظر ماذا فعل بالكفّار منهم وماذا فعل بالمؤمنين حتّى تكون على يقين بوعيده ووعده (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) يعنى ليسوا لم يسمعوا حكايات الجنود بل لا شأن لهم سوى شأن التّكذيب ، ومن كان كذلك لو رأوا جميع ما فعل بالكفّار الماضين والمؤمنين ما اقرّوا ولا صدّقوا لعدم شأن لهم سوى التّكذيب ، لانّهم محجوبون عن دار العلم والتّصديق ولذلك يكذّبونك ويكذّبون كتابك


(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) اى من خلفهم فانّهم ناكسون رؤسهم ومدبرون عن الله ولمّا كان احاطة الله من ورائهم لم يكونوا يشاهدونه ويشاهدون احاطته ، ولمّا استفيد من قوله بل الّذين كفروا في تكذيب تكذيبهم لمحمّد (ص) ورسالته وكتابه قال : ليس تكذيبهم لك ولكتابك عن برهان وفي محلّه لانّ كتابك ليس بكاذب (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ) مجموع في بساطته ووحدته (مَجِيدٌ) ذو مجد وشأن (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عن أيدي المحجوبين ، أو عن التّغيّر والتّبدّل ، أو عن مسيس الشّياطين ، أو عن اختلاق المختلقين ، وقرئ محفوظ بالرّفع والجرّ والمعنى واحد والمراد باللّوح المحفوظ النّفوس الكلّيّة أو العقول الكلّيّة فانّها بوجه كتب وألواح أو صدور الرّاسخين في العلم من صدر محمّد (ص) وأوصيائه (ع) ، وهذا اللّوح هو امّ الكتاب ومنه نسخ جميع الكتب.

سورة الطّارق

سبع عشرة آية ، مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) اقسم بالسّماء وبالكواكب أو بكوكب الصّبح وعظّم شأن الكوكب فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) وأجاب بعد تفخيمه بالاستفهام التّعجيبىّ فقال (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) اى المضيء أو الثّاقب للأفلاك بضوئه ، روى عن الصّادق (ع) انّه قال لرجل من أهل اليمن : ما زحل عندكم في النّجوم؟ ـ فقال : اليمانىّ نجم نحس ، فقال (ع) : لا تقولنّ هذا فانّه نجم أمير المؤمنين (ع) وهو نجم الأوصياء (ع) وهو النّجم الثّاقب الّذى في كتابه فقال له اليمانىّ : فما يعنى بالثّاقب؟ ـ قال : لانّ مطلعه في السّماء السّابعة وانّه ثقب بضوئه حتّى أضاء في السّماء الدّنيا ، فمن ثمّ سمّاه الله النّجم الثّاقب (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) قرئ لما بالتّخفيف فان مخفّفة من الثّقيلة واللّام فارقة وما مزيدة ، وقرئ لمّا بالتّشديد فان نافية ولمّا استثنائيّة ويحتمل وجوه أخر ضعيفة ممّا مضى في سورة هود في بيان قوله تعالى : وان كلّا لمّا ليوفيّنّهم ربّك أعمالهم فلينظر اى إذا كان على كلّ نفس حافظ من الله يحفظ عليه اعماله (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) اى فلينظر الى مادّته وانّها كانت أضعف موجود واخسّه حتّى يعلم انّ له خالقا قادرا عليما حكيما ، ويعلم انّ خالقه يقدر على إعادته فيعمل لحال إعادته (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) دفق الماء صبّه بقوّة فالدّافق بمعنى المدفوق ، أو المعنى ماء دافق بقوّة الرّطوبات البلّيّة البدنيّة بالتّبخير والتّعريق ، وقيل : استعمل دفق الماء لازما فيكون الدّافق بمعنى المنصبّ بقوّة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الصّلب بالضّمّ والصّلب بالتّحريك العظم الّذى من لدن الكاهل الى العجب ، والتّرائب عظام الصّدر أو ما ولى التّرقوتين منه ، أو ما بين الثّديين والتّرقوتين ، أو اربع أضلاع من يمنة الصّدر واربع من يسرته ، أو اليدان والرّجلان والعينان ، أو موضع القلادة.

اعلم ، انّ التّحقيق كما عليه معظم الحكماء انّ النّطفة فضلة الهضم الرّابع وهي تفضل في جميع البدن وتنزل الى البيضتين فهي تخرج من جميع أجزاء البدن لا اختصاص لها بالصّلب والتّرائب ، لكنّ لمّا كان الكليتان ادخل في


إصلاح النّطفة في الرّجل والثّديان في المرأة قال يخرج من بين صلب الرّجل وبين ترائب المرأة ، أو المقصود انّ النّطفة تخرج من أجواف الرّجل والمرأة وهي محلّ كثافات البدن ، أو المنظور انّ الصّلب والتّرائب في الرّجل والمرأة ادخل في إصلاح النّطفة فكأنّه تخرج النّطفة من بين صلب الرّجل ومن بين ترائبه ، ومن بين صلب المرأة ومن بين ترائبها (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا كان خلقه من ماء ضعيف قذر فهل يقدر على رجوعه؟ ـ فقال : انّه على رجعه لقادر (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) اى تختبر كلّ سريرة هل هي خالصة أو مغشوشة؟ والمراد بالسّرائر امّا الأعمال القالبيّة فانّها سرائر من حيث الخلوص والشّوب ، ومن حيث المبادى والغايات ، أو الفعليّات الحاصلة للنّفس منها ، أو النّيّات ، أو مكمونات النّفوس الّتى لا يعلمها صاحبوا النّفوس ، والظّرف متعلّق بقادر دون رجعه للفصل بينه وبينه بالأجنبيّ ، أو متعلّق بمحذوف بقرينة قوله (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) يعنى لم يكن له في ذلك اليوم قوّة يدفع بها عن نفسه العذاب ، ولا ناصر ينصره من بأس الله (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) اى ذات الرّجوع الى وصفه الاوّل فانّها ليست في وضع الّا وترجع اليه في ثانى الحال ، أو ذات المطر ، أو ذات الشّمس والقمر والنّجوم فانّها في الرّجع دائما أو ذات الخير الدّائم فانّها ترجع به على الاتّصال على أهل العالم (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) بالنّبات والأشجار (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) اى القرآن أو امر الرّسالة أو امر الولاية أو الرّسول (ص) أو علىّ (ع) قول فاصل بين الحقّ والباطل ، أو المحقّ والمبطل ، أو القول بالبعث والجزاء قول مقطوع به (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) اى هو جدّ وليس مزاحا (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) عظيما والجملة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما يفعل هؤلاء بالنّسبة الى هذا القول؟ ـ (وَأَكِيدُ كَيْداً) عظيما فاذا كنت اكيد كيدا عظيما بهم (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر لتفضيحهم (أَمْهِلْهُمْ) تأكيد لمهّل ، والإتيان بمهّل وتأكيده بأمهل للاشعار بتعمّله (ص) في إمهالهم (رُوَيْداً) مفعول مطلق نوعىّ من غير لفظ الفعل والمعنى امهلهم امهالا يسيرا.

سورة الأعلى

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، تسع عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى صفة للاسم أو لربّك ، والرّبّ تطلق على النّفس الانسانيّة الّتى تربّى البدن ، وعلى العقل الّذى يربّى النّفس والبدن ، وعلى ولىّ الأمر الّذى يربّى النّاس بحسب الظّاهر أو الباطن ، وهو الرّبّ في الولاية ، وعلى ربّ الأرباب وليس المراد باسم الرّبّ اسمه اللّفظىّ بل اسمه العينىّ وأسماؤه العينيّة ذات مراتب من مراتب اللّطيفة الانسانيّة ومراتب الأنبياء والأوصياء (ع) ، ومن مراتب العقول والنّفوس وسائر الموجودات وأعلى أسمائه الاسم الجامع الّذى يعبّر عنه بالمشيّة ، وأعلى أربابه المطلق هو ربّ الأرباب ، وأعلى أربابه المضاف سائر مراتب أربابه ، وقد سبق مكرّرا انّ المراد بالتّسبيح سواء كان متعلّقا بالله أو بالرّبّ أو باسم الرّبّ تنزيه اللّطيفة الانسانيّة عن التّدنّس بالادناس الحيوانيّة والشّيطانيّة فانّها ربّ بوجه ومظهر لله فكانت هي الله بوجه واسما لله وللرّبّ بوجه (الَّذِي خَلَقَ) صفة للرّبّ أو لاسم الرّبّ فانّ أسماءه العينيّة وسائط خلقه وخالقون باذنه (فَسَوَّى) فجعل


جميع أعضائه واجزائه على ما ينبغي (وَالَّذِي قَدَّرَ) لكلّ شيء كمالا خاصّا وغاية مخصوصة (فَهَدى) اى هداه الى ذلك الكمال وتلك الغاية هداية تكوينيّة في جميع الأشياء وهداية اختياريّة تكليفيّة في الإنسان وبنى الجانّ (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) في العالم الكبير والصّغير يعنى بعد ما هدى الأشياء الى كمالاتها وغاياتها هيّأ لها أسباب بلوغها الى ذلك بإخراج المرعى اى الأشجار والنّباتات الّتى بها يتعيّش الإنسان وسائر الحيوان وإخراج جميع القوى والاهوية المكمونة في الإنسان (فَجَعَلَهُ غُثاءً) اى هشيما كالغثاء الّذى تراه فوق السّيل ، والغثاء كغراب القمش والزّبد والبالي من ورق الشّجر المخالط زبد السّيل (أَحْوى) اسود لانّ الكلأ يسودّ إذا يبس في الأغلب ، وهذا تمثيل للحيوة الدّنيا وإخراج القوى والمدارك والاهوية ويبسها بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ ولذلك قال تعالى خطابا لمحمّد (ص) ولمن يتأتّى منه الخطاب بعد ذكر جفاف المرعى (سَنُقْرِئُكَ) يعنى بعد جفاف مرعى القوى والمدارك بالموت الاختياري البتّة نقرئك أو عن قريب نقرئك آيات الأحكام القالبيّة والحكم القلبيّة (فَلا تَنْسى) بعده لانّ الباعث للنّسيان الخروج من دار الذّكر ، وسبب الخروج من دار الذّكر ليس الّا القوى والمدارك ومشتهياتها ، وإذا جعلناها يابسة حواء لم يكن باعث للخروج من دار الذّكر فلم يكن نسيان (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرّغ من قوله سنقرئك ، أو من قوله فلا تنسى اى سنقرئك جميع ما يمكن ان نقرئك الّا ما شاء الله أو فلا تنسى شيئا منها الّا ما شاء الله فانّك بحسب بشريّتك ومرتبة منك واقع في دار النّسيان فيقع منك نسيان ما بمشيّة الله (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) جواب لسؤال مقدّر وتعليل لقوله : سبّح يعنى سبّح اسم ربّك بقولك المجهور والمخفىّ أو بأعمالك الظّاهرة والباطنة لانّ الله يعلم الجهر والمخفىّ ، أو جواب لسؤال مقدّر ناش عن قوله فلا تنسى الّا ما شاء الله كأنّه قيل : هل يعلم الله تذكّر العباد ونسيانهم؟ ـ فقال : انّه يعلم المذكور الّذى كان ظاهرا على الخيال والمنسىّ الّذى كان مخفيّا عنه ، أو يعلم مطلق الظّاهر والمخفىّ ومنهما المذكور والمنسىّ ، أو جواب سؤال ناش من قوله : والّذى اخرج المرعى بناء على تعميم المرعى للقوى والمدارك والاهوية الانسانيّة كأنّه قيل : هل يعلم الله مخفيّات الإنسان ومكموناته حتّى يخرجها؟ ـ فقال : انّه يعلم الظّاهر من أقواله وأفعاله وأحواله وأخلاقه والمخفىّ منها ، ولكون هذا جوابا لسؤال مقدّر عدل عن التّكلّم الى الغيبة (وَنُيَسِّرُكَ) اى نليّنك ونسهّل حالتك «ل» لجهة (لِلْيُسْرى) وهي جهة الكثرات فانّك كنت منزجرا عن الكثرات فارّا منها منقبضا عنها ، وبعد إخراج مرعى وجودك وجعله غثاء تأنس بالكثرات نحو أنسك بالله فانّك تراها مظاهر لله تعالى فيسهل عليك التّوجّه إليها والمحادثة معها ، وقيل فيه غير ذلك فاذا صرت ليّن الجانب بالنّسبة الى الكثرات (فَذَكِّرْ) الخلق بالله وبأحكامه وبالمعاد وجنّته وناره لتكميلهم (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) قيل : شرط للتّذكير يعنى ان لم تنفع فلا تذكّر ، وهذا مناف لتعميم دعوته ، وقيل : المعنى ان نفعت الذّكرى وان لم تنفع ، وقيل : ان بمعنى قد ، وقيل : قال تعالى ذلك بعد ما عمّهم بالتّذكير ولزمت الحجّة ، وقيل : استبعاد لنفعهم بالذّكرى (سَيَذَّكَّرُ) بالله وجنّته وناره (مَنْ يَخْشى) من كان فيه حالة العلم وحالة الخشية (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) اى أشقى الكفّار أو أشقى العصاة فانّ للكفر والعصيان درجات ، والأشقى منهم يبالغ في اجتناب الذّكرى بخلاف غيره فانّه يسمع قليلا ويجتنب ولذلك قال (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) فانّ غيره يصلى النّار الوسطى والصّغرى (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) حياة ينتفع بها فيتعيّش فيها (قَدْ أَفْلَحَ) جواب لسؤال


مقدّر (مَنْ تَزَكَّى) اى تطهّر أو نما ، أو أدّى زكوة ماله (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) اى اجرى على لسانه اسم ربّه المضاف وهو ربّه في الولاية وهو الرّسول أو خليفته (فَصَلَّى) عليه اى قال اللهمّ صلّ عليه ، أو قال صلوات الله عليه ، أو تذكّر اسم ربّه المطلق اسمه النّقشىّ القلبىّ ، أو اسمه المثالىّ الخيالىّ ، أو اسمه العينىّ ، فصلّى عليه أو صلّى الصّلوة الفريضة ، أو صلّى الصّلوة المطلقة ، أو توجّه الى جهة الغيب واستكمل بذلك ، أو ذكر اسم ربّه بالتّكبيرات الواردة قبل صلوة العيدين فصلّى صلوة العيدين ، أو ذكر اسم ربّه في التّكبيرة الافتتاحيّة فعقد صلوته بها ، أو ذكر اسم ربّه بان جعل امامه نصب عينه فصلّى كما ورد وقت تكبيرة الإحرام : تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينك (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) يعنى لكنّكم لا تفعلون ذلك بل تؤثرون الحيوة الدّنيا وتدعون الفلاح والصّلوة (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ) من الدّنيا يعنى على زعمكم انّ الدّنيا لها حسن أو بحسب الواقع فانّ الدّنيا باعتبار انّها مزرعة الآخرة كان لها محاسن عديدة (وَأَبْقى إِنَّ هذا) اى فلاح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى ، أو كون الآخرة خيرا وأبقى (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) عن ابى ذرّ رحمه‌الله انّه سأل رسول الله (ص) كم انزل الله من كتاب؟ ـ قال : مائة كتاب واربعة كتب ، فأنزل الله على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، فانزل التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان ، قال : قلت : يا رسول الله (ص) وما كان صحف إبراهيم (ع)؟ ـ قال : كانت أمثالا كلّها ، وكان فيها : ايّها الملك المبتلى المغرور انّى لم أبعثك لتجمع الدّنيا بعضها الى بعض ولكنّى بعثتك لتردّ عنّى دعوة المظلوم فانّى لا أردّها وان كانت من كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا ان يكون له ثلاث ساعات ، ساعة يناجي ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكّر فيما صنع الله عزوجل اليه ، وساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال فانّ هذه السّاعة عون لتلك السّاعات ، واستجمام للقلوب وتوديع لها ، وعلى العاقل ان يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شانه ، حافظا للسانه ، فانّ من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه الّا فيما يعنيه ، وعلى العاقل ان يكون طالبا لثلاث ، مرمّة لمعاش ، وتزوّد لمعاد ، وتلذّذ في غير محرّم (الى ان قال) قلت : فهل في أيدينا ممّا انزل الله عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم (ع) وموسى (ع)؟ ـ قال : يا أبا ذرّ اقرء : قد أفلح من تزكّى الى آخر السّورة.

سورة الغاشية

ستّ وعشرون آية مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) الاستفهام للتّقرير والخطاب له (ص) والمقصود تذكير غيره والغاشية الدّاهيّة الّتى تعمّ افراد النّاس ، أو تعمّ جميع أعضاء الإنسان واجزائه ، والمراد بها شدائد القيامة أو نفس يوم القيامة أو شدائد جهنّم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) ذليلة من العذاب (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) صفتان لوجوه ، أو هما خبران بعد خبر والمراد بالوجوه وجوه الأبدان أو أشراف النّاس ، والمعنى وجوه كانت في الدّنيا عاملة أعمالا يحسبون انّها حسنات لها وكانت ناصبة في أعمالها يومئذ خاشعة ذليلة لا ينفعها عملها ونصبها في عملها ، لانّهم كانوا أصحاب آراء وأهواء ،


أو المعنى وجوه يومئذ خاشعة عاملة في جهنّم فانّهم يكلّفون ارتقاء جبل من حديد ، أو المعنى عاملة في الدّنيا ناصبة في الآخرة (تَصْلى ناراً حامِيَةً) في غاية الحرارة بالنّسبة الى نار الدّنيا (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) بالغة في الحرارة غايتها (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) والضّريع شيء في جهنّم امرّ من الصّبر وأنتن من الجيفة واحرّ من النّار ، والضّريع في اللّغة نوع من الشّوك يقال له الشّبرق وهو أخبث طعام وأبشعه لا ترعاه دابّة ، ونقل انّ الضّريع عرق أهل النّار وما يخرج من فروج الزّوانى ، وعن النّبىّ (ص) عن جبرئيل : لو انّ قطرة من الضّريع قطرت في شراب أهل الدّنيا لمات أهلها من نتنها ، وقال القمّىّ : هم الّذين خالفوا دين الله وصلّوا وصاموا ونصبوا لأمير المؤمنين (ع) عملوا ونصبوا فلا يقبل شيء منهم من أفعالهم وتصلى وجوههم نارا حامية ، وفي رواية : كلّ من خالفكم وان تعبّد واجتهد فمنسوب الى هذه الآية : عاملة ناصبة (الآية) وفي حديث في بيان قوله تعالى : هل أتاك حديث الغاشية يغشاهم القائم (ع) بالسّيف خاصّة قال : لا تطيق الامتناع ، عاملة قال : عملت بغير ما انزل الله ، ناصبة قال : نصبت غير ولاة امر الله ، تصلى نارا حامية قال : تصلى نار الحرب في الدّنيا على عهد القائم (ع) ، وفي الآخرة نار جهنّم ، وفي رواية اخرى : الغاشية الّذين يغشون الامام لا يسمن ولا يغني من جوع قال : لا ينفعهم الدّخول ولا يغنيهم القعود (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) وهم اتباع أمير المؤمنين (ع) (لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) اللّغو واللّاغية السّقط وما لا يعتدّ به من كلام وغيره ، وكلمة لاغية فاحشة (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) العين الجارية أحسن وأبهى ، وماؤها أشهى من العين الواقفة ، وليس جريان عيون الجنّة في الأخاديد بل هي بإرادة مالكها كلّما أراد أجراها على اىّ مكان شاء (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) قيل : انّها مرتفعة ما لم يجيء أهلها ، فاذا جاؤا تواضعت لهم حتّى يجلسوا عليها ، فاذا جلسوا ارتفعت كما كانت (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على حافّات العيون الجارية ، والكوب قد مرّ انّه كوز لا عروة له ولا خرطوم (وَنَمارِقُ) جمع النّمرق والنّمرقة مثلّثة النّون الوسادة الصّغيرة (مَصْفُوفَةٌ) متّصلة بعضها ببعض على هيئة مجالس الملوك (وَزَرابِيُ) جمع الزّربىّ بالكسر وقد يضمّ النّمارق والبسط أو كلّ ما بسط واتّكأ عليه (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) لمّا وصف الله تعالى الجنّة وما فيها كان ينبغي ان يشتاق النّفوس إليها ويسأل عمّا دلّ عليها وعلى بقاء النّفوس فيها ، فقال تعالى جوابا عن هذا السّؤال : ينبغي ان ينظروا الى الإبل وعجائب خلقتها ، فانّ الله تعالى خلقها عظيمة الجثّة بحيث تحمل أحمالا ثقيلة ، تبرك للحمل ، وتنهض بالحمل ، تتحمّل الجوع والعطش حتّى تقوى على قطع المفاوز البعيدة ، منقادة للأطفال مع عظم جثّتها ، طويلة العنق حتّى يتأتّى لها ان ترعى النّبات قائمة من غير حاجة الى البروك ترعى كلّما تنبت من الأرض حتّى يتأتّى لها البقاء في كلّ صقع من الأرض (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) وفي رفعتها توليد المواليد وتعيّشها وبقاؤها فانّ الكلّ منوط بتأثير الكواكب وتأثير اشعتّها ، ولو لا تلك الرّفعة لما اثّرت تلك التّأثيرات (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) وفي نصبها تهيّة أسباب معاشكم من توليد المعادن فيها ، وتسفيح سفحها ، وتكوّن المياه تحتها وسهولة جريان العيون والقنوات منها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) وفي تسطيحها سهولة توليد المواليد وسهولة تعيّشكم (فَذَكِّرْ) يعنى إذا كان حال الكفّار كذا وحال المؤمنين كذا والادلّة على ذلك كثيرة فذكّر المؤمنين ترغيبا فيما اعدّ الله لهم والكافرين تحذيرا ممّا يبتلون به بسوء أعمالهم (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) يعنى شأنك بحسب رسالتك التّذكير سمعوا أم لم يسمعوا (لَسْتَ عَلَيْهِمْ


بِمُصَيْطِرٍ) المسيطر بالسّين والصّاد الرّقيب والحافظ المتسلّط ، وقرئ بهما (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) استثناء مفرّغ من قوله ذكّر أو من قوله انّما أنت مذكّر ، أو استثناء متّصل في كلام تامّ من قوله : لست عليهم بمصيطر اى لست متسلّطا عليهم الّا على من تولّى وكفر يعنى لست مسلّطا عليهم لا بحسب أبدانهم فتقتلهم وتجبرهم على القبول ولا بحسب أرواحهم فتتصرّف فيهم بحسب مرتبة رسالتك وتغيّرهم عمّاهم عليه الّا من تولّى فانّك بحسب رسالتك مسلّط عليه بحسب بدنه ، فتقتله وتجبره على قبول التّذكير ، أو استثناء منقطع كأنّه قال : لكن من تولّى وكفر (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) اى عذاب القتل والأسر والنّهب على يدك في الدّنيا ولا عذاب أكبر منه ، أو يعذّبه الله في الآخرة العذاب الأكبر وهو العذاب في النّار (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) جواب لسؤال مقدّر عن حالهم في الآخرة على المعنى الاوّل وفي مقام التّعليل على المعنى الثّانى (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) عن الباقر (ع): إذا كان يوم القيامة وجمع الله الاوّلين والآخرين لفصل الخطاب دعا رسول الله (ص) ودعا أمير المؤمنين (ع) فيكسى رسول الله (ص) حلّة خضراء تضيء ما بين المشرق والمغرب ، ويكسى علىّ (ع) مثلها ، ويكسى رسول الله (ص) حلّة ورديّة ويكسى علىّ (ع) مثلها ، ثمّ يصعد ان عندها ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب النّاس ، فنحن والله ندخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار ، وعن الكاظم (ع): إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم ، فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عزوجل حتمنا على الله في تركه لنا فأجابنا الى ذلك ، وما كان بينهم وبين النّاس استوهبناه منهم وأجابوا الى ذلك وعوّضهم الله عزوجل ، وعن الصّادق (ع): إذا كان يوم القيامة وكلّنا الله بحساب شيعتنا ، فما كان لله سألنا الله ان يهبه لنا فهو لهم ، وما كان لنا فهو لهم ، ورزقنا الله ذلك.

سورة والفجر

مكّيّة كلّها ، اثنتان وثلاثون أو ثلاثون أو تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ) اقسم الله بالفجر وهو بياض الصّبح ، أو صلوة الصّبح مطلقا ، أو فجر ذي الحجّة أو صلوته ، أو فجر يوم النّحر أو صلوته ، أو أراد بالفجر النّهار كلّه مطلقا ، أو نهار الايّام المذكورة (وَلَيالٍ عَشْرٍ) اى عشر ذي الحجّة ، وقيل : هي العشر من آخر رمضان ، وقيل : هي العشر الّتى أتمّ موسى (ع) بها ثلاثين (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يعنى الزّوج والفرد من العدد والمعدود كلّها ، وقيل : الزّوج الخلق لانّ كلّا من الخلق زوج تركيبىّ ، والوتر الله ، وقيل : الشّفع والوتر الرّكعتان من صلوة اللّيل ، والرّكعة الواحدة منها ، وقيل : الشّفع يوم النّحر لانّه يشفع بيوم النّفر الاوّل ، والوتر يوم عرفة لانّه ينفرد بالموقف ، وقيل : الشّفع يوم التّروية ، والوتر يوم عرفة ، وقيل : الشّفع يوم النّفر الاوّل ، والوتر يوم النّفر الثّانى ، وقيل : الشّفع علىّ (ع) وفاطمة (ع) ، والوتر محمّد (ص) ، وقيل : الشّفع الرّوح الانسانيّة المنضمّة الى البدن ، والوتر الرّوح المجرّدة عن البدن (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قرئ بحذف الياء وصلا ووقفا اجراء للوصل مجرى الوقف وتوفيقا للّفظ والمعنى ، فانّ السّير في الأغلب لا يتمّ في اللّيل بل يمتدّ الى النّهار ، وقرئ بإثبات الياء على الأصل ، وقرئ بالتّنوين المبدل من حرف المدّ ، ونسبة السّير الى اللّيل مجاز عقلىّ والمعنى إذا يسرى فيه ، أو المراد القسم باللّيل إذا أدبر مثل واللّيل إذا أدبر ، أو المراد القسم باللّيل إذا اقبل علينا ، ولذلك عدل عن إذ الى إذا ، وعن الماضي


الى المستقبل ، والمراد باللّيل مطلق اللّيل أو ليل المزدلفة فانّه يسير الحاجّ في اوّله من عرفات الى المزدلفة وفي آخره واوّل نهاره من المزدلفة الى منى (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) استفهام تقريرىّ يعنى في تلك الأقسام قسم كاف لذي عقل حقير أو لذي عقل عظيم يعنى انّ صاحب العقل يعلم انّ هذه الأشياء الّتى اقسم بها الله أشياء عظيمة شريفة فيها دلالات بوجوه عديدة على علمه وحكمته وقدرته وعنايته تعالى بخلقه وان كان غير ذي الحجر لا يرى هذه الأقسام شيئا (أَلَمْ تَرَ) هذا الخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ وهذا قرينة جواب القسم والتّقدير لنهلكنّ الّذين أفسدوا في الأرض الم تر (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) عاد اسم لقوم هود سمّوا باسم أبيهم فانّ عادا كان عادين ، عادا الاولى ، وعادا الاخرى وقوله تعالى (إِرَمَ) كعنب اسم آخر لعاد ، أو هو اسم جدّ عاد ، أو هو اسم سام بن نوح ، فانّ عادا كان ابن عوص بن آدم بن سام بن نوح (ع) ، وقوم هود كانوا أولاد عاد سمّوا باسم جدّهم وأبيهم ، أو هو اسم لقبيلة هود ، وقيل : هو اسم لقبيلة من قوم هود كان الملك فيهم ، وقيل : هو اسم بلد ، وقيل : هو دمشق ، وقيل : هو مدينة الاسكندريّة ، وقيل : هو اسم لجنّة شدّاد ، وعلى اىّ تقدير فهو بدل من عاد امّا بدل الكلّ من الكلّ ، أو بدل الاشتمال ، فانّه إذا كان اسما للبلد فان أريد به اهله كان بدل الكلّ من الكلّ ، وان أريد به نفس البلد كان بدل الاشتمال (ذاتِ الْعِمادِ) العماد بالكسر الشّجعان من العسكر والابنية الرّفيعة والعمود والاخبية ، وأهل العماد أهل الاخبية ، وقيل : سمّاهم الله ذات العماد لانّهم كانوا أهل الاخبية وكانوا سيّارين لرعى مواشيهم ، وقيل : معناه ذات الطّول والشّدّة ، أو كانوا أهل القصور الرّفيعة ، أو كان فيه شجعان قويّة.

وصف ارم ذات العماد

قيل : خرج رجل يقال له عبد الله بن قلابة في طلب إبل له شردت ، فبينا هو في صحارى عدن إذ هو قد وقع على مدينة عليها حصن فلمّا دنى منها ظنّ انّ فيها أحدا يسأله عن ابله فنزل عن دابّته وعقلها وسلّ سيفه ودخل الحصن ، فاذا هو ببابين عظمين لم ير أعظم منهما مرصّعين بالياقوت الأبيض والأحمر فدهش ، وفتح أحد البابين فاذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها ، فيها قصور فوقها غرف وفوق الغرف غرف مبنيّة بالذّهب والفضّة واللّؤلؤ والياقوت ، ومصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة مفروشة كلّها باللّئالى وبنادق من مسك وزعفران ، فلمّا لم يرفيها أحدا هاله ذلك ونظر فرأى أشجارا في أزقّتها مثمرة وتحت الأشجار أنهار جارية من قنوات من فضّة ، فظنّ الرّجل انّها هي الجنّة الموصوفة في القرآن فحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزّعفران ، ولم يستطع ان يقلع من زبرجدها وياقوتها وخرج ورجع الى اليمن وأخبر النّاس فانتشر الخبر حتّى بلغ معاوية خبره ، فأرسل اليه فقصّ عليه القصّة فأرسل معاوية الى كعب الأحبار فلمّا أتاه سأله عن ذلك فقال : أخبرك بتلك المدينة وبمن بناها ، بناها شدّاد بن عاد والمدينة ارم ذات العماد الّتى وصفها الله تعالى انّ عادا الاولى أبا قوم هود كان له ابنان شدّاد وشديد فهلك عاد وبقيا وقهرا البلاد ، فهلك شديد وبقي شدّاد مالكا لجميع ملوك الأرض ، فدعته نفسه الى ان بنى مثل الجنّة الّتى وصفها الله لأنبيائه (ع) فأمر ببناء تلك المدينة وامّر على صنعتها مائة قهرمان مع كلّ قهرمان الف من الأعوان ، وكتب الى ملوك الدّنيا ان يجمعوا له ما في بلادهم من الجواهر وأقاموا في بنائها مدّة طويلة ثمّ سار الملك إليها في جنده ووزرائه فلمّا كان منها على مسيرة يوم بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السّماء فأهلكتهم جميعا ، وسيدخلها في زمانك رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له وكان الرّجل عند معاوية فالتفت اليه وقال : هذا والله ذلك الرّجل (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) اى حفروا الصّخر وقطعوها لبناء البيوت (بِالْوادِ) اى وادي القرى (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قد مضى في سورة ص بيان كونه ذا الأوتاد (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) السّوط الخلط وهو ان تخلط


شيئين في إنائك ثمّ تضربهما بيدك حتّى يختلطا ، والمقرعة والنّصيب والشّدّة والضّرب بالسّوط ، واستعمال الصّبّ للاشعار بكثرة العذاب وشدّته (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) المرصاد الطّريق والمكان الّذى يرصد ويترقّب فيه العدوّ والمعنى انّه تعالى في محلّ يرصد فيه جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم فلا يفوته شيء منها فيجازيهم عليها ، وعن الصّادق (ع): المرصاد قنطرة على الصّراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) كأنّه قال : هذا حال الرّحمن فامّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بيان لاكرامه (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) هذا خبر الإنسان ولذلك ادخل الفاء الّتى تكون عقيب امّا عليه ، وقوله : إذا ما ابتلاه على تقدير التّأخير يعنى يفرح بالنّعمة ويحسب انّ النّعمة كرامة من الله له والحال انّها قد تكون استدراجا ونقمة (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) لانّه لا يحسب النّعمة في غير النّعم الصّوريّة ويحسب انّ الكرامة والنّعمة والعزّة انّما هي في النّعم الصّوريّة (كَلَّا) ردع له عن هذا الحسبان وتعليق للتّوسعة والتّقتير على فعل الإنسان يعنى ليس التّوسعة والتّقتير على ما تزعمون (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ) اى لا تحاثّون ، والحضّ والحثّ لا زمان ومتعدّيان (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) التّراث من الإرث بمعنى ما يورث ، ولمّا كان جميع الدّنيا ممّا أورث من السّابقين أو يورث للّاحقين يصدق عليها التّراث ، فقيل : كانوا لا يورثّون الأيتام والنّساء وكانوا يأكلون انصبائهم ، وقيل : المعنى يأكلون الميراث ولا يخرجون حقوقه الواجبة والمندوبة لكنّ الحقّ عدم التّخصيص بل المراد انّهم يأكلون ما يؤكل ، ويجمعون ما يجمع ، ويدّخرون ما يدّخر ، وينكحون ما ينكح ، ويركبون ما يركب ، ويلبسون ما يلبس ، ويدركون ما يدرك ، ويتخيّلون ما يتخيّل ، اكلا جامعا بين صحيحها وفاسدها ، حلالها وحرامها ، مأمورها ومنهيّها ، وجامعا بين جهتي الهيّتها ونفسانيّتها ، ولمّا امّا أصله لمّا بالتّنوين ، اجرى الوصل على الوقف ، أو أصله لمّا بالألف المقصورة امّا وهو مصدر للّم بمعنى جمع ، وحينئذ تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، أو صفة لاكلا ، أو هو بمعنى جميعا وتأكيد للتّراث (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) الجمّ الكثير من كلّ شيء أو هو مصدر جمّ بمعنى كثر وهو امّا صفة لجمّا أو مفعول مطلق لفعل محذوف هو حال (لَّا) ردع لهم عن ذلك (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) الدّك الدّقّ والهدم وتسوية صعود الأرض وهبوطها ، واندكّ المكان استوى ، وكنس التّراب وتسويته (وَجاءَ رَبُّكَ) المضاف الّذى هو القائم في وجودك وقد سمّاه الصّوفيّة بالفكر والحضور والسّكينة وهو ملكوت ولىّ الأمر ، ولا يظهر على السّالك الّا بعد موته الاختيارىّ ، وإذا ظهر ظهر جميع آثار القيامة في عالمه الصّغير وجميع ما ورد من علائم ظهور القائم (ع) وآثاره في الاخبار وكان مؤيّدا بالملائكة ويظهر الملك على السّالك حين ظهوره وبعده ولذلك قال تعالى (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) المراد بالملك الجنس ولذلك قال صفّا صفّا فانّ الواحد لا يكون صفّا صفّا والمراد انّ الملائكة يجيئون في صفوف عديدة بحسب مراتبهم في القرب والبعد (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) فانّ الظّاهر عليه ولىّ امره ينفتح بصيرته الاخرويّة فيرى ما لا يراه غيره فيرى جهنّم وأنواع عقباتها وعقوباتها ، ويرى الجنان أيضا وأنواع نعيمها ، عن الرّسول (ص) انّه قال : انّ روح الأمين أخبرني انّ الله لا اله الّا هو إذا برز الخلائق وجمع الاوّلين والآخرين أتى بجهنّم تقاد بألف زمام أخذ بكلّ زمام مائة الف يقودها من الغلاظ الشّداد ، لها حدّة وغضب وزفير وشهيق وانّها لتزفر الزّفرة ، فلو لا انّ الله اخّرهم للحساب لأهلكت الجميع ثمّ يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البرّ منهم والفاجر ما خلق الله عبدا من عباد الله ملكا ولا نبيّا الّا ينادى : ربّ نفسي!. نفسي!. وأنت يا نبىّ الله تنادي


أمّتي أمّتي!. ثمّ يوضع عليها الصّراط ادقّ من الشّعر واحدّ من حدّ السّيف عليه ثلاث قناطر ، فامّا واحدة فعليها الامانة والرّحم ، والثّانية فعليها الصّلوة ، والثّالثة فعليها ربّ العالمين لا اله غيره فيكلّفون الممرّ عليها فيحبسهم الرّحم والامانة ، فان نجوا منها حبستهم الصّلوة ، فان نجوا منها كان المنتهى الى ربّ العالمين وهو قوله : انّ ربّك لبالمرصاد ، والنّاس على الصّراط ، متعلّق بيد ، وتزلّ قدم ، ويستمسك بقدم والملائكة حولها ينادون : يا حليم اعف واصفح وعد بفضلك وسلّم سلّم ، والنّاس يتهافتون في النّار كالفراش فاذا نجا ناج برحمة الله مرّ بها ، فقال : الحمد لله وبنعمته تتمّ الصّالحات وتزكو الحسنات والحمد لله الّذى نجّاني منك بعد أياس عنه وفضله ، انّ ربّنا لغفور شكور (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) هذه جواب إذا أو هذه مستأنفة وجواب إذا محذوف أو جوابها قوله تعالى : يقول يا ليتني قدّمت ، أو قوله : فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد والمقصود انّ الإنسان في ذلك اليوم يتذكّر خيره وشرّه ، وانّ اىّ الأعمال كان نافعا وايّها كان ضارّا لكن لا ينفعه ذلك التّذكّر ولذلك قال (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) اى الذّكرى النّافعة (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) اى ليتني قدّمت لانتفاعى في حيوتى في الآخرة ، أو ليتني قدّمت في حيوتى الدّنيا (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ) قرئ يعذّب بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول وعلى القرائتين فضمير عذابه لله أو للإنسان وعذابه مفعول مطلق نوعىّ وهذه أوصاف الإنسان الغافل الكافر (أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) حال أو جواب لسؤال مقدّر عن حال الإنسان المؤمن ناش عن ذكر الإنسان الكافر واحكامه وكلا الوجهين بتقدير القول ، ونفس الإنسان ذات مراتب ودرجات عديدة وأمّهات مراتبها بحسب تمكّن الشّيطان منه وتمكّنه في دار الرّحمن وتوسّطه منهما ثلاث ، وتسمّى الاولى بالامّارة وهي الّتى تأمر بالسّوء اى بما تهواه سواء كان في صورة الخير أو الشّرّ ، ولا ترتدع ولا تندم عليه ، والثّانية باللّوّامة وهي الّتى تلوم نفسها في كلّ ما تأتى خيرا كان أو شرّا وتحزن على ما فعل من حيث شرّيّته ، أو من حيث نقصانه عن درجة الكمال ، أو من حيث نسبته الى نفسها ، والثّالثة بالمطمئنّة لاطمئنانها الى ربّها وخروجها عن انانيّتها الّتى هي سبب اضطرابها (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) المضاف الّذى هو ولىّ أمرك وهو على الإطلاق علىّ (ع) أو الى ربّ الأرباب بالرّجوع الى مظاهره ودار كرامته وضيافته (راضِيَةً) بما فعل ربّك بك (مَرْضِيَّةً) عند ربّك وخلفائه (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) لخروجك عن انانيّتك ودخولك في العبوديّة بالخروج من الانانيّة (وَادْخُلِي جَنَّتِي) المضاف الى نفسي المعدّة لأوليائي.

اعلم ، انّه لا يحصل الاطمينان للسّلّاك الى الله الّا بنزول السّكينة الّتى تسمّى في اصطلاح الصّوفيّة بالفكر والحضور ، وهو ان يتمثّل ملكوت ولىّ الأمر في صدر السّالك ، وحصول صورة ولىّ الأمر امّا يكون بنحو المباينة أو بنحو الاتّصال أو بنحو الاتّحاد أو بنحو الوحدة ، ولا يحصل الاطمينان التّامّ الّا في المرتبة الاخيرة وان كان يحصل اطمينان ما في المراتب الاخر أيضا ، وفيما روى عن الصّادق (ع) دلالة على ما ذكر وهو انّه سئل هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ ـ قال : لا والله انّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت : يا ولىّ الله لا تجزع فو الّذى بعث محمّدا (ص) لأنا أبرّ بك وأشفق من والد رحيم لو حضرك ، افتح عينيك فانظر ، قال : ويتمثّل له رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) والائمّة (ع) من ذرّيّتهم فيقال له : هذا رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) والائمّة (ع) رفقاؤك فيفتح فينظر فينادى روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول : يا ايّتها النّفس المطمئنّة اى الى آل محمّد (ص) وأهل بيته ارجع الى ربّك راضية بالولاية


مرضيّة بالثّواب فادخلي في عبادي يعنى محمّدا (ص) وأهل بيته وادخلى جنّتى فما من شيء احبّ اليه من استلال (١) روحه واللّحوق بالمنادي وفسّر الآية بالحسين بن علىّ (ع) ولذلك سمّيت السّورة بسورة الحسين بن علىّ (ع).

سورة البلد

مكّيّة ، عشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) اى بلد مكّة وهو البلد الحرام وقد مضى بيان لا اقسم وانّ لا زائدة لتأكيد القسم أو نافية ، ونفى لمعتقدهم ، أو نافية ونفى للقسم (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) اى أنت حلال هتكك ومالك ودمك ، أو أنت حلال لك ما تفعله بهذا البلد وان كان في وقت وهو عام الفتح ، أو حالّ ومقيم بهذا البلد ، والتّقييد تعظيم له (ص) واشارة الى انّ فخامة المكان تكون بالمكين (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) اى آدم (ع) وما ولد ، أو إبراهيم (ع) وما ولد ، أو علىّ (ع) وما ولد من الائمّة (ع) كما روى ، والتّنكير للتّفخيم والإتيان بما في مقام من للتّعجيب ، أو المراد كلّ والد وما ولد بحسب الولادة الجسمانيّة فانّ التّوالد بالكيفيّة المخصوصة في النّزو ، وقرار النّطفة في مقرّ مخصوص وخروج الجنين منه ونموّه وبلوغه مبلغ والده امر عجيب يقسم به ، أو المراد كلّ والد وما ولد بحسب الولادة الرّوحانيّة فانّ الولادة الرّوحانيّة أعجب من الولادة الجسمانيّة ، أو المراد والد الكلّ بالولادة الرّوحانيّة وهو محمّد (ص) وبعده علىّ (ع) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) اى في شدّة ومشقّة في الدّنيا أو في الرّحم أو من اوّل خلقته أو مستقيما منتصبا بخلاف سائر الدّوابّ ، وعن الصّادق (ع) انّه قيل له : انّا نرى الدّوابّ في بطون أيديها الرّقعتين مثل الكىّ فمن اىّ شيء ذلك؟ ـ قال : موضع منخريه في بطن أمّه وابن آدم منتصب في بطن أمّه ، وذلك قول الله عزوجل : لقد خلقنا الإنسان في كبد ، وما سوى ابن آدم فرأسه في دبره ويداه بين يديه (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ضمير يحسب راجع الى الإنسان والمراد به مطلق الإنسان ، أو المراد به الإنسان المخصوص يعنى يحسب ان لن يقدر عليه أحد في قتله ابنة النّبىّ (ص) ، وقيل : هو ابو الأسد بن كلدة كان قويّا شديد الخلق (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) اللّبد كصرد وسكر واللّابد المال الكثير يعنى يقول أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمّد (ص) مفتخرا به ، أو أهلكت مالا كثيرا في نصرته مغتمّا به ، أو أهلكت مالا كثيرا بامره في الكفّارات وغيرها إظهارا للغرامة والنّدامة ، وقيل : هو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وذلك انّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله (ص) فأمره ان يكفّر فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنّفقات منذ دخلت في دين محمّد (ص) ، وفي خبر يعنى الّذى جهّز به النّبىّ (ص) في جيش (٢) العسرة ، وفي خبر هو عمرو بن عبد ودّ حين عرض عليه علىّ بن ابى طالب (ع) الإسلام يوم الخندق قال : فأين ما أنفقت فيكم مالا لبدا وكان أنفق مالا في الصّدّ عن سبيل الله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) اى انّه لم يره أحد في اعماله وأفعاله وأقواله فيطالبه بذلك ويسأله عنه والمقصود انّه يظنّ ان لم يره الله تعالى في ذلك وبئس الظّنّ ذلك لا ينبغي ان يظنّ ذلك كيف لم يره أحد ولم نره وقد خلقناه وجعلنا فيه دقائق القوى والمدارك والأعضاء ومن جعل له هذه الأمور الدّقيقة كيف لا يراه؟! (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) مشتملتين على عشرة أجزاء بحيث جعلنا فيها نورا يبصر به الأشياء (وَلِساناً) مركّبا

__________________

(١) خروج السّيف من الغلاف.

(٢) والمراد بها غزوة تبوك.


من اللّحم والعصب والشّرائين والاوردة والأوتار والعظم مفهّما به ما في ضميره مدركا به طعم الطّعوم (وَشَفَتَيْنِ) تكونان حافظتين للّسان وسائر ما في الفمّ محسنتين للصّورة معينتين على التّكلّم (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) عطف على مجموع الم نجعل فانّه بمعنى جعلنا له عينين أو على مدخول النّفى ، والمراد بالنّجدين سبيل الخير والشّرّ كما في الاخبار ، وقيل : المراد بهما الثّديان ، قيل لأمير المؤمنين (ع) : انّ أناسا يقولون في قوله : وهديناه النّجدين : انّهما الثّديان ، فقال : لا ، هما الخير والشّرّ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قحّمته في الأمر تقحيما رميته فيه فجأة بلا رويّة فانقحم واقتحم ، وقحم في الأمر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا رويّة ، واقتحم بالغ فيه والعقبة المرقى الصّعب من الجبال ، والمراد بها عقبات النّفس الّتى هي الرّذائل الّتى لا مرقى أصعب منها فانّ العبور عنها وتخلية النّفس منها والتّرقّى منها الى الخصائل أصعب كلّ شيء ولذلك أتى بالاستفهام التّعجيبىّ لتفخيمها وفسّرها بالعبور عن الرّذائل والدّخول في الخصائل بالاشارة الى أمّهاتها فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ).

شرح في القوى الأربع للإنسان

اعلم ، انّ الإنسان له قوى اربع وكلّ من الأربع لها اعتدال وتوسّط بين الإفراط والتّفريط في الآثار ، والتّوسّط والاعتدال منها ممدوح ومطلوب ، والإفراط والتّفريط مذموم وقبيح ، والقوى الأربع هي العلّامة والعمّالة والشّهويّة والغضبيّة ، فالعلّامة كسلطان البلد يأمر وينهى ويدبّر ، والعمّالة كالوزير الّذى يمضى في امر الملك ، والشّهوية كالنّاظر الوكيل لخرج الجنود ، والغضبيّة كأمير الجنود ، واعتدال العلّامة بتمييزها بين الحقّ والباطل والمحقّ والمبطل والخير والشّرّ كما هي ، ويسمّى ذلك التّميز بالحكمة العلميّة ، ولمّا كان الحكمة العلميّة هي التّميز بين الذّوات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والعلوم والوجدانات والخطرات والخيالات والمشاهدات والتفاتات القلب من حيث ارتباطها ورجوعها الى الآخرة ، وكان في ازديادها ازدياد كمال النّفس وفي نقصانها نقصانه لم يكن لها طرفا افراط وتفريط ، بل كانت الجربزة الّتى عدوّها افراط القوّة العلّامة النّفسانيّة تفريطا وقصورا للنّفس عن البلوغ الى درجة الحكمة ، لانّ الجربزة هي التّصرّف بحسب العلم الوهمىّ في الأمور الدّنيويّة زائدا على ما ينبغي وليس ذلك الّا من نقصان ادراك الأمور الاخرويّة ، فالجربزة والبلادة اللّتان عدوّهما طرفي افراط العلّامة وتفريطها معدود ان من قسم البلادة ولذلك فسّروا الأحمق والسّفيه بمن لا يعرف الحقّ سواء كان بحسب الدّنيا سفيها أو لم يكن ، مثل معاوية فانّه كان بحيث سمّاه أهل زمانه بأعقل زمانه ، ولأجل عدم طرف الإفراط المذموم للحكمة قالوا : الرّذائل بحسب الامّهات سبع ، والخصائل بحسب الامّهات اربع ، واعتدال العمّالة بان تكون تحت حكم العاقلة العلّامة وان تقدر على الإتيان بما يأمرها العاقلة ويسمّى بالعدل الّذى هو وضع كلّ شيء في محلّه ولا يمكن ذلك الّا باستخدام الشّهويّة والغضبيّة ، وطرفا افراطه وتفريطه يسمّيان بالظّلم والانظلام ، واعتدال القوّة الشّهويّة ان تكون مطيعة للعمّالة المنقادة للعاقلة العلّامة ويسمّى اعتدالها بالعفّة ، وطرفا افراطها وتفريطها يسمّيان بالشّره والخمود ، واعتدال الغضبيّة يسمّى بالشّجاعة وطرفا افراطها وتفريطها يسمّيان بالتّهوّر والجبن ، وقد يقال : انّ القوى الأربع في الإنسان هي البهيميّة والسّبعيّة والشّيطنة الّتى هي العلّامة النّفسانيّة الوهميّة ، والعاقلة الّتى هي العلّامة العقلانيّة ويجعل العمّالة خادمة للقوى الأربع ويجعل العدل المتوسّط بين الظّلم والانظلام من شعب الشّجاعة ، ويجعل الحكمة الّتى هي التّوسّط بين البلادة والجربزة من مقتضيات العلّامة النّفسانيّة ، ويجعل مقتضى العلّامة العقلانيّة تعديل القوى الثّلاث وتعديل العمّالة بحيث لا يخرج شيء منها من حكم العاقلة ويسمّى بالعدالة وتلك العدالة ليس لها طرفا افراط وتفريط بل لها التّفريط فقط وتفريطها هو قصور العاقلة عن تسخير القوى الثّلاث وهو ظلم من القوى وانظلام للعاقلة وكأنّه أراد العلّامة النّفسانيّة من العمّالة من جعل العمّالة منشأ لبعض الخصال للتّلازم الواقع بينهما فقوله تعالى : فكّ رقبة ان كان المراد به فكّ


رقبة نفسه عن التّقيّد بقيود النّفس كان المراد به أصل الخصال وروحها الّذى يعبّر عنه بالفناء عن نسبة الأفعال والصّفات الى نفسه بل عن نسبة الذّات الى نفسه ولذلك قدّمه على الجميع ، وان كان المراد به فكّ رقاب النّاس عن رقّيّة أنفسهم وعن النّار كان اشارة الى أشرف أقسام العدل ، وان كان المراد به فكّ رقاب العبيد الصّوريّة عن الرّقبة كان اشارة الى أعلى أقسام السّخاوة الّتى هي أشرف أنواع العفّة (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) اى ذي مجاعة اشارة الى السّخاوة على المعاني الثّلاثة الاوّل لقوله فكّ رقبة والى صنف آخر من السّخاوة على الأخير (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) ذا فقر من ترب تربا ومتربا ومتربة بمعنى افتقر (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على إطعام من قبيل عطف الفعل على الاسم الخالص بتأويل المصدر بتقدير ان ، وحينئذ يكون فكّ رقبة اشارة الى الفناء الّذى هو أصل جملة الخصال ، ويكون لفظة أو للتّرديد بينه وبين الخصال الّتى تحصل بالبقاء بالله بعد الفناء في الله ، ويكون الإطعام اشارة الى العفّة ، والكون من الّذين آمنوا ، اشارة الى أفضل أنواع الحكمة ، ويكون قوله تعالى (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) اشارة الى الشّجاعة فانّ حبس النّفس عن الجزع عند المصيبة ، وعن المعصية عند اقتضاء القوى النّفسانيّة ، وعلى الطّاعة من قوّة القلب الّتى هي الشّجاعة ، وقوله تعالى (تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) اشارة الى العدالة فانّ العدل الّذى هو وضع كلّ شيء في محلّه لا يتأتّى الّا بالمرحمة ، والتّواصى بها شعبة من العدالة ، أو قوله كان من الّذين آمنوا عطف على قوله تعالى اقتحم العقبة والعطف بثمّ للتّفاوت بين المرتبتين (أُولئِكَ) هم (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) جواب لسؤال مقدّر وقد مضى انّ أصحاب اليمين شيعة أمير المؤمنين (ع) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أوصد اتّخذ حظيرة لإبله ، وأوصد الكلب اغراه ، والباب اطبقه وأغلقه.

سورة والشّمس

مكّيّة ، كلّها ستّ عشرة آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) اقسم بالشّمس الصّوريّة ، أو بالشّمس الحقيقيّة ، أو بالرّوح الانسانيّة (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) اى خلّفها في الاضاءة ، أو تبعها في الطّلوع أو تلاها عند غروبها بان طلع حين غروبها وهو في أواسط الشّهر ، أو اقسم بقمر النّفس الانسانيّة إذا تلى وتبع الرّوح في العروج الى الله (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) اى جلّى الشّمس وأبرزها بكمال الظّهور وهو أوقات أواسط النّهار ، أو المراد بالشّمس الامام وبالنّهار الصّدر المنشرح بالإسلام إذا ابرز الامام واستشرق بنور الامام ، وهو وقت نزول السّكينة على السّالك بظهور الامام بملكوته عليه (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) اقسم باللّيل ووقت احاطة ظلمته نور الشّمس فانّ بقاء المواليد وتوليدها لا يكون الّا بظهور الشّمس وغشيان اللّيل (وَالسَّماءِ وَما بَناها) اى والّذى بناها ، أتى بما ليكون موافقا لاعتقاد جميع الفرق ، أو لفظة ما مصدريّة


(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) طحا كسعى بسط وانبسط واضطجع ، وطحا يطحو بعد وهلك ، والقى إنسانا على وجهه (وَنَفْسٍ) كان اللّائق بسياق الكلام ان يقول والنّفس بلام الجنس لكنّه عدل عنه امّا لتفخيم النّفس بالنّسبة الى السّابق ، أو لارادة نفس مخصوصة مفخّمة بحيث لا يمكن تعريفه وهي النّفس الكلّيّة أو نفس النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) أو نفس محمّد (ص) أو علىّ (ع) ، أو لارادة نوع مخصوص منها عظيم وهو نوع نفس الإنسان (وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) يعنى القى في خاطرها فعل فجورها أو ألهمها معرفة فجورها حتّى تجتنب ومعرفة تقويها حتّى ترتكب (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أنماها وأصلحها أو طهّرها (وَقَدْ خابَ) خسر ، أو كفر ، أو افتقر ، أوجاع (مَنْ دَسَّاها) دسا يدسو نقيض زكى وبمعنى استخفى ، ودسى مثل سعى من اليائىّ ضدّ زكا أيضا ، ودسّاه من التّفعيل أغواه وأفسده ، وقيل : قد خاب من دسّى نفسه في أهل الخير اى أخفيها فيهم وليس منهم (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) جواب سؤال مقدّر واستشهاد على خيبة من دسّى نفسه (بِطَغْواها) الباء للسّببيّة ، والطّغوى بمعنى الطّغيان والعصيان ، وقيل : الباء صلة كذّبت والطّغوى اسم للعذاب الّذى نزل بهم (إِذِ انْبَعَثَ) اى نهض لعقر النّاقة (أَشْقاها) اى أشقى ثمود واسمه قدار كهمام وكان اسم أبيه سالفا قال رسول الله (ص) لعلىّ بن ابى طالب (ع): من أشقى الاوّلين؟ ـ قال : عاقر النّاقة ، قال : صدقت ، فمن أشقى الآخرين؟ ـ قال : قلت : لا اعلم يا رسول الله (ص) ، قال : الّذى يضربك على هذه ، وأشار الى يافوخه (١) (فَقالَ لَهُمْ) الاولى ان يكون الفاء للسّببيّة الخالصة (رَسُولُ اللهِ) اى صالح (ع) (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) منصوب من باب التّحذير أو الإغراء ، أو منصوب بفعل محذوف من غير باب التّحذير والإغراء اى اتركوا ، والمراد بسقيها نوبة شربها أو الماء الّذى كانت تشربها بالنّوبة (فَكَذَّبُوهُ) في رسالته ، أو في التّحذير والإغراء ، أو في نزول العذاب (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) دمّه طلاه ، والبيت جصّصه ، والسّفينة قيّرها ، والأرض سوّاها ، وفلانا عذّبه عذابا تامّا وشدخ رأسه وشجّه وضربه ، والقوم طحنهم فأهلكهم كدمدمهم ودمدم عليهم (فَسَوَّاها) اى سوّى الدمدمة عليهم وعمّهم بها ، أو سوّى ثمود في الدّمدمة بان عمّهم بها ، أو بان سوّى بعضهم ببعضهم بان جعل كبيرهم على مقدار صغيرهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) اى لا يخاف الله عقبى الدّمدمة ، أو عقبى التّسوية لانّه لا يردّ عليه شيء من فعله لانّه لا يعارضه أحد ولا ينتقم منه أحد أو لا يخاف العاقر عقبى فعلته ، أو لا يخاف صالح عقبى العقوبات الّتى خوّفهم بها لكونه على ثقة من ربّه في نجاته ، أو لا يخاف عقبى دعوته على القوم وتبعتها ، لانّ دعوته على القوم كانت بإذن من الله واستحقاق منهم.

سورة واللّيل

مكّيّة ، احدى وعشرون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) بظلمته نور الشّمس والأبصار ، وببرودته المدارك والرّوح الحيوانيّة والنّفسانيّة حتّى تجتمعا في الباطن ، أو يغشى النّاس بالنّوم ، أو اقسم بليل الطّبع أو النّفس أو البلايا ، أو ليل القدر إذا يغشى اهله

__________________

(١) اليافوخ الموضع الّذى يتحرّك من رأس الطّفل.


(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) وقت الضّحى الى الآصال أو نهار الرّوح أو السّرور أو نهار عالم المثال إذا تجلّى لأهله (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) لفظة ما مصدريّة أو موصولة بمعنى من ، والتّأدية بما لتوافق اعتقاد الجميع والمراد بالذّكر والأنثى جنسهما ، أو آدم وحوّاء أو علىّ (ع) وفاطمة (ع) ، وقرئ وخلق الذّكر والأنثى بدون ما (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) اى متفرّق ، اعلم انّ السّعى عبارة عن حركات الأعضاء ، ولمّا كان الحركات الاراديّة لا بدّ لها من مبدء إراديّ والمبدأ الارادىّ لا يكون الّا العلّة الغائيّة الّتى هي مبدأ فاعليّة الفاعل بحسب التّصوّر وغاية الفعل بحسب الوجود ، وكان الإنسان ذا قوى كثيرة بحسب شعب القوى الشّهويّة والغضبيّة والشّيطنة والعاقلة منفردة أو مركّبة ، ولكلّ قوّة مباد وغايات عديدة مثل شهوة النّساء مثلا فانّ المشتهى لهنّ قد يكون الدّاعى في سعيه النّظر فقط ، وقد يكون مع ذلك اللّمس ، وقد يكون التّقبيل والتّعانق والتّحادث ، وقد يكون الالتحاف معهنّ ، وقد يكون السّفاد كان سعيه مع اختلافه بحسب الصّورة مختلفا في المبدء والغاية (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) من ماله لله ، ومن جاهه وعرضه ، ومن قوّة قواه وحركات أعضائه ، ومن قوّته المتخيّلة والعاقلة (وَاتَّقى) من البخل ومن الإعطاء في غير طلب رضا الله ، وهذا اشارة الى الكمال العملىّ (وَصَدَّقَ) تقليدا بان استمع من صادق وصدّق ، أو تحقيقا بان وجد أنموذج ما استمع في نفسه (بِالْحُسْنى) اى العاقبة أو المثوبة أو الخصلة أو الفضيلة أو الكلمة الحسنى ، وروى عن الصّادق (ع) انّ المراد بها الولاية فانّه لا حسنى أحسن منها ، وقيل : المراد بها السّير في الله وهو أيضا آخر مقامات الولاية وهذا اشارة الى الكمال العلمىّ (فَسَنُيَسِّرُهُ) بحسب العمل (لِلْيُسْرى) اى الخصلة اليسرى الّتى هي أيسر شيء على انسانيّة الإنسان وهي الجدّ في طلب مرضاة الله فانّه بعد ما كان الإنسان مصدّقا خصوصا إذا كان تصديقه تحقيقيّا كان الطّاعة أيسر شيء والذّ شيء عنده فقوله تعالى : من أعطى ، اشارة الى العمل التّقليدىّ ، وصدّق اشارة الى انتهاء العمل الى التّحقيق ، وقوله تعالى : فسنيسّره لليسرى اشارة الى العمل التّحقيقىّ ، أو المراد باليسرى السّير في الله فانّه الخصلة اليسرى على الإطلاق فانّ السّير في الله لا يكون الّا بعد الخروج عن انانيّات النّفس والفناء الذّاتىّ ، وكلّ عمل يكون مع بقاء انانيّة للنّفس يكون له عسرة ما على النّفس ، أو المراد باليسرى ضد اليمنى ، ويسرى النّفس الانسانية هي الكثرات يعنى سنيسّره للاشتغال بالكثرات بحيث يكون في نهاية اليسر عليه بعد ما كان عسيرا عليه (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بحسب العمل التّقليدىّ (وَاسْتَغْنى) عن موائد الآخرة بترك العمل لها وهذا اشارة الى النّقصان العملىّ والعلمىّ (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) اشارة الى النّقصان العلمىّ (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) اى الطّريقة العسرى وهي طريق النّفس الى الملكوت السّفلى ، ولا أعسر على الانسانيّة منها (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) اى سقط في الهاوية من: تردّى في البئر إذا سقط فيها ، قال القمّىّ : نزلت في رجل من الأنصار كانت له نخلة في دار رجل وكان يدخل عليه بغير اذن فشكا ذلك الى رسول الله (ص) وفي المجمع كان لرجل نخلة في دار رجل فقير ذي عيال وكان الرّجل إذا جاء فدخل الدّار وصعد النّخل ليأخذ منها التّمر فربّما سقطت التّمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرّجل من النّخلة حتّى يأخذ التّمر من أيديهم ، وان وجدها في فيّ أحدهم ادخل إصبعه حتّى يأخذ التّمرة من فيه ، فشكا ذلك الى النّبىّ (ص) وأخبره بما يلقى من صاحب النّخلة فقال النّبىّ (ص) لصاحب النّخلة ، تعطيني نخلتك المائلة الّتى فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنّة؟ ـ فأبى ، فقال (ص) بعنيها بحديقة في الجنّة؟ فأبى ، وانصرف ، فمضى اليه ابو الدّحداح واشتراها منه بأربعين نخلة ، وأتى الى النّبىّ (ص) فقال : يا رسول الله (ص) خذها واجعل لي في الجنّة الحديقة الّتى قلت لهذا ، فلم يقبله ، فقال رسول الله (ص) لك في الجنّة حدائق وحدائق وحدائق ، فأنزل الله الآيات ، وعن الباقر (ع) فأمّا من أعطى ممّا آتاه الله واتّقى وصدّق بالحسنى اى بانّ الله يعطى


بالواحد عشر الى مائة الف فما زاد فسنيسّره لليسرى لا يريد شيئا من الخير الّا يسّر له ، (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) قال : والله ما تردّى من جبل ولا من حائط ولا في بئر ولكن تردّى في نار جهنّم ، وعنه (ع) فامّا من أعطى واتّقى وآثر بقوته ، وصام حتّى وفي بنذره ، وتصدّق بخاتمه وهو راكع ، وآثر المقداد بالدّينار على نفسه ، وصدّق بالحسنى وهي الجنّة والثّواب من الله فسنيسّره لذلك بان جعله إماما في الخير وقدوة وأبا للائمّة يسّره الله لليسرى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : أليس لله صنع في الإعطاء والبخل حتّى نسب تلك الأفعال الى العباد بالاستقلال؟ ـ فقال : ليس علينا الّا الهدى وإراءة طريق الخير والشّرّ (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) مبدء وغاية وملكا فنعطى منهما ما نشاء لمن نشاء (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ) بالولاية (وَتَوَلَّى) عنها ، أو كذّب بالآخرة ، أو بالرّسالة (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) اى سيجعل منها على جانب أو بعد (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) استثناء منقطع أو استثناء متّصل من محذوف جواب لسؤال مقدّر اى لا يؤتى ماله الّا ابتغاء وجه ربّه الأعلى (وَلَسَوْفَ يَرْضى) ان كانت الآيات نزلت في رجل خاصّ فالمعنى عامّ والأصل في من أعطى واتّقى علىّ (ع) ، وفي من بخل واستغنى هو عدوّه ، وقيل : المراد بمن أعطى ابو بكر حيث اشترى بلالا في جماعة من المشركين كانوا يؤذونه فأعتقه ، والمراد بالأشقى ابو جهل وأميّة بن خلف.

سورة والضّحى

احدى عشرة آية ، مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى) وقت ارتفاع الشّمس أو النّهار تماما بقرينة قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أو ضوء النّهار وقدّم الضّحى هاهنا لانّ الخطاب هاهنا لمحمّد (ص) والمقدّم في نظره ضحى عالم الأرواح بخلاف السّورة السّابقة فانّ المخاطب فيها من كان سعيهم شتّى والغالب عليهم التّقيّد بعالم الطّبع الظّلمانىّ وسجي سجوّا سكن اهله أو ركد ظلامه (ما وَدَّعَكَ) قرئ بالتّشديد وبالتّخفيف اى ما تركك (رَبُّكَ وَما قَلى) اى ما أبغضك ، عن الباقر (ع) انّ جبرئيل ابطأ على رسول الله (ص) وانّه كانت اوّل سورة نزلت : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ثمّ ابطأ عليه فقالت خديجة : لعلّ ربّك قد تركك فلا يرسل إليك؟! فأنزل الله تبارك وتعالى : ما ودّعك ربّك وما قلى ، وفي حديث : انّ الوحي قد احتبس عنه ايّاما فقال المشركون : انّ محمّدا (ص) ودّعه ربّه ، وقيل : انّ اليهود سألوا محمّدا (ص) عن ذي القرنين وأصحاب الكهف فقال (ص) : أخبركم غدا ولم يستثن فاحتبس الوحي واغتمّ لشماتة الأعداء ، فنزلت تسلية (وَلَلْآخِرَةُ) اى الدّار الآخرة (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) اى الدّنيا أو الكرّة الآخرة من جبرئيل في الوحي عليك خير لك من المرّة الاولى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) اى سوف يعطيك في الدّنيا أو في الآخرة ما يحصل لك به مقام الرّضا أو ما يحصل لك الرّضا به ، وقد فسّر المعطى بالشّفاعة الكبرى ولذلك ورد انّ هذه


الآية أرجى آية في كتاب الله ، وعن الصّادق (ع) رضا جدّى (ص) ان لا يبقى في النّار موحّد (أَلَمْ يَجِدْكَ) استفهام إنكارىّ واستشهاد على إعطاء ما يرضاه كأنّه قيل : ما الدّليل على صدق هذا الوعد؟ ـ فقال: الدّليل عليه انّه وجدك (يَتِيماً) عن الأب والامّ (فَآوى) اى آواك اليه أو وجدك يتيما بلا نظير فآوى النّاس إليك كما في الخبر (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) عطف على الم يجدك فانّه في معنى وجدك يتيما اى وجدك قاصرا عن مرتبة الكمال المطلق فهداك اليه ، أو وجدك متحيّرا في امر معاشك فهداك الى تدبير معيشتك فانّه يقال للمتحيّر في مكسبه : انّه ضالّ ، أو وجدك لا تعرف ما الكتاب ولا الايمان فهداك إليهما ، وقيل : المعنى وجدك ضالّا في شعاب مكّة فهداك الى جدّك عبد المطّلب لانّه روى انّه ضلّ في شعاب مكّة وهو صغير فرآه ابو جهل وردّه الى جدّه ، وقيل : انّ حليمة الّتى كانت ترضعه أرادت ان تردّه الى جدّه بعد إتمام رضاعه وجاءت به الى جدّه فضلّ في الطّريق فطلبته جزعة فرأت شيخا متّكأ على عصاه فسألها عن حالها فأخبرته بذلك فقال : لا تجزعي انا ادّلك عليه فجاء الى هبل فقال : هذه السّعديّة ضلّ عنها رضيعها وجئت إليك لتردّ محمّدا (ص) عليها فلمّا تفوّه باسم محمّد (ص) تساقطت الأصنام وسمع صوتا انّ هلاكنا على يدي محمّد (ص) فخرج وأسنانه تصطكّ فأخبرت عبد المطّلب (ع) فطاف بالبيت فدعا فأشعر بمكانه فأقبل عبد المطّلب في طلبه فاذا هو تحت شجرة يلعب بأوراقها ، وقيل : انّه خرج مع عمّه ابى طالب (ع) في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل به عن الطّريق فجاء جبرئيل وردّه الى القافلة ، أو المعنى وجدك ضالّا عن قومك بمعنى انّ قومك كانوا لا يعرفون مرتبتك فهدى قومك الى معرفتك (وَوَجَدَكَ عائِلاً) اى فقيرا (فَأَغْنى) يعنى وجدك محتاجا في المال فأغناك بمال خديجة ، أو بالقناعة أو في العلم فأغناك بالوحي ، أو وجدك ذا عيال فأغناك ، أو وجدك تمون قومك بأرزاقهم المعنويّة فأغناك بالوحي ، روى عن الرّضا (ع) انّه قال : فردا لا مثل لك في المخلوقين فآوى النّاس إليك ، ووجدك ضالّا اى ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك ، ووجدك عائلا تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك (فَأَمَّا الْيَتِيمَ) عن الأب الصّورىّ أو عن الامام بان لا يكون له امام أو بان انقطع عن امامه بغيبته أو بموته أو بعدم الحضور الملكوتىّ عنده وان كان حاضرا عنده بالحضور الملكىّ ، أو اليتيم عن العلم (فَلا تَقْهَرْ) اى لا تقهره على ماله فتذهب بحقّه أو لا تحتقره ، روى انّ رسول الله (ص) قال : من مسح على رأس يتيم كان له بكلّ شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة ، وفي خبر : لا يلي أحدكم يتيما فيحسن ولايته ووضع يده على رأسه الّا كتب الله له بكلّ شعرة حسنة ، ومحا عنه بكلّ شعرة سيّئة ، ورفع له بكلّ شعرة درجة ، وفي خبر : انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى الله عزوجل ، وأشار بالسّبّابة والوسطى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) اى لا تزجر ، والمراد بالسّائل من يسأل من اعراض الدّنيا ، أو من يلتمس امرا من أمور الآخرة ، روى عن رسول الله (ص): إذا أتاك سائل على فرس باسط كفّيه فقد وجب الحقّ ولو بشقّ تمرة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) النّعمة كما مرّ مرارا ليست الّا الولاية ، أو ما كان لأهل الولاية من حيث انّهم أهل الولاية سواء كان من لوازم الحياة الدّنيا وطواريها ، أو من لوازم الحياة الآخرة وغاياتها ، وسواء كان بصورة النّعمة أو بصورة البلاء ، والتّحديث اعمّ من ان يكون بالفعل أو بالقول أو بالكتابة أو بالاشارة بل التّحديث بالفعال احبّ الى الله من التّحديث بالمقال ، فاذا أنعم الله على عبد بنعمة من النّعم الصّوريّة الدّنيويّة أو الاخرويّة المعنويّة احبّ ان يرى من المنعم عليه ان يظهرها بلسانه أو بفعاله ، فلو كتمها من غير مرجّح الهىّ كان كافرا لأنعم الله ، ولمّا كان الخطاب يعمّ الرّسول (ص) واتباعه كان الأمر بالتّحديث مختلفا بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال ، فانّه إذا كان الخطاب لمحمّد (ص) كان الأمر بتحديث الولاية والنّبوّة والرّسالة والقرآن واحكام الولاية


والنّبوّة والرّسالة ونزول الوحي والملك عليه والنّعم الصّوريّة جميعا ، وان كان الخطاب لخلفائه كان الأمر بتحديث جميع ذلك لكن في النّبوّة والرّسالة القرآن بنحو الخلافة لا الاصالة ، وان كان الخطاب للمؤمنين كان الأمر بتحديث الولاية الّتى قبلوها بالبيعة الخاصّة والرّسالة الّتى قبلوها بالبيعة العامّة وبتحديث أحكامهما وبتحديث النّعم الصّوريّة ، وان كان الخطاب للمسلمين كان الأمر بتحديث الرّسالة الّتى قبلوها بالبيعة العامّة وبتحديث أحكامها وبتحديث سائر النّعم ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمّى حبيب الله محدّثا بنعمة الله ، وإذا أنعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمّى بغيض الله مكذّبا بنعمة الله ، وعن أمير المؤمنين (ع) في حديث منعه لعاصم بن زياد عن لبس العباء وترك الملأ : لابتذال نعم الله بالفعال احبّ اليه من ابتذاله لها بالمقال وقد قال الله تعالى : وامّا بنعمة ربّك فحدّث والاخبار في إظهار العلم والدّين وسائر النّعم إذا لم يكن مانع من ذلك كثيرة.

سورة الم نشرح

ثمان آيات ، مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) لمّا كان اوّل هذه السّورة على سياق السّورة السّابقة وتعداد النّعمة تعالى على محمّد (ص) ورد في بعض الاخبار انّه لا يقرأ في الفريضة إحديهما بدون الاخرى ، وافتى بعض العلماء لذلك انّهما سورة واحدة ، وشرح كمنع كشف وقطع كشرّح من التّشريح وفتح وشرح الشّيء بمعنى جعله وسيعا ، وشرح الصّدر توسعته بحيث لا يضيق عن ملائم ولا عن غير ملائم ، وشرح صدر محمّد (ص) كان عبارة عن عدم ضيقه عن الجمع بين الكثرات والوحدة ، ودعوة الخلق وعبادة الحقّ ، روى انّه سئل النّبىّ (ص) فقيل : يا رسول الله (ص) أينشرح الصّدر؟ ـ قال : نعم ، قال : يا رسول الله (ص) وهل لذلك علامة يعرف بها؟ ـ قال : نعم ، التّجافى عن دار الغرور ، والانابة الى دار الخلود ، والاعداد للموت قبل نزول الموت (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) اى حملك الثّقيل الّذى صوّت ، أو أثقل ، أو كسر ظهرك ، والمراد ثقل دعوة الخلق أو معاشرتهم ، أو ثقل استماع الوحي ورؤية الملك فانّه (ص) في اوّل نزول الوحي صار محموما وقال : دثّروني كما سبق ، أو ثقل إظهار النّبوّة وإظهار الصّلوة وغيرها ، أو ثقل أذى الكفّار والغموم الّتى تلحقه منهم ، أو ثقل إصلاح المسلمين وإقامتهم على الدّين (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) بعد ما كنت خامدا مختفيا في شعب عمّك مدّة مديدة ، فانّه رفع ذكره حتّى سمع به في حياته العرب والعجم وسمع به بعد وفاته جميع البلاد ، ورفع ذكره بحيث قرنه بذكره تعالى في الأذان الاعلامىّ وفي أذان الصّلوة وإقامتها ، ورفع ذكره بحيث يذكره الخطّاب والوعّاظ في خطبهم ومواعظهم ومنابرهم ، ورفع ذكره بحيث كلّ من سمع به صلّى عليه ، ورفع ذكره بان شقّ اسمه من اسمه (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) الفاء للسّببيّة والمعنى سهّلنا لك أمورك بعد ما كان صعبا إليك بسبب انّا جعلنا ان يكون لكلّ عسر يسرين فهو تعليل لسابقه ووعد له (ص) بيسر آخر ، والمراد بالعسر الفقر أو تألّمه (ص) عن عدم ايمان قومه وعن إيذاء المشركين له (ص) وللمؤمنين ، أو ضيق صدره عن المعاشرة مع الخلق ودعوتهم واقامة عوجهم (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للاوّل وتأكيد له ولذلك لم يأت بأداة الوصل ، والمكرّر إذا كان معرّفا باللّام كان عين الاوّل إذا لم يكن قرينة ، وإذا كان منكّرا كان غيره إذا لم يكن قرينة على خلافه ، ولذلك ورد في الاخبار انّه : لا يغلب


عسر يسرين ، فعن النّبىّ (ص) انّه خرج مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين فانّ مع العسر يسرا ، انّ مع العسر يسرا (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) نصب من باب علم بمعنى اعيى وأتعب ، وعيش ناصب ذو كدّ وجهد ، ونصب من باب ضرب بمعنى رفع ووضع من الاضداد ، ونصب له من باب ضرب بمعنى عاداه ، والنّاصبىّ من كان معاديا لعلىّ (ع) مبالغة في النّاصب ، أو منسوب الى من أبدع المعاداة له (ص) اوّلا ، والمعنى كلّما فرغت ممّا عليك من مرمّة معاشك ومن دعوة الخلق وجهادهم وممّا افترض الله عليك من أمور دينك فاجهد وأتعب في ابتغاء وجه الله ومرضاته ، وقيل : إذا فرغت من عبادة فعقّبها بأخرى ولا تخلّ وقتا من أوقاتك فارغا لم تشغله بعبادة ، وعن الصّادقين (ع) : فاذا فرغت من الصّلوة المكتوبة فانصب الى ربّك في الدّعاء وارغب اليه في المسئلة يعطك ، وعن الصّادق (ع) : هو دعاء في دبر الصّلوة وأنت جالس ، وقيل : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام اللّيل ، وقيل : إذا فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربّك ، وقيل : إذا فرغت من الجهاد فانصب في العبادة ، أو فانصب في جهاد نفسك ، وقيل : إذا فرغت من العبادة فانصب لطلب الشّفاعة ، وقيل : إذا صححت وفرغت من المرض فانصب في العبادة ، وقيل : إذا فرغت ممّا يهمّك فانصب في الفرار من النّار ، وعن الصّادق (ع) : إذا فرغت من نبوّتك فانصب عليّا (ع) ، والى ربّك فارغب ، وعنه انّه قال : يقول : فاذا فرغت فانصب علمك وأعلن وصيّك فأعلمهم فضله علانية فقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، الحديث ، قال : وذلك حين اعلم بموته ونعيت اليه نفسه ، وظاهر هذين الخبرين انّه (ع) قرئ : انصب بكسر الصّاد ، ويمكن استفادة هذا المعنى من القراءة المشهورة لجواز ان يكون المعنى إذا فرغت من تبليغ الرّسالة وتبليغ جميع الأحكام ، أو من حجّة الوداع فجدّوا تعب في خلافة علىّ (ع) فيكون بمعنى اعى ، أو بمعنى ارفع خليفتك واعلنه ، أو بمعنى ارفع خليفتك عليهم ، قال الزّمخشرىّ : ومن البدع ما روى عن بعض الرّافضة انّه قرئ فانصب بكسر الصّاد اى فانصب عليّا (ع) للامامة ، ولو صحّ هذا للرّافضىّ لصحّ للنّاصبىّ ان يقرأه هكذا ويجعله آمرا بالنّصب الّذى هو بغض علىّ (ع) أقول : ليس في القراءات المشهورة ولا في الشّاذّة قراءة انصب بكسر الصّاد ، ولا دلالة فيما ذكرناه من الرّوايتين على القراءة المذكورة ، وقوله تعالى بعد ذلك : والى ربّك فارغب ، يدلّ على انّه امر بنصب الخليفة فانّ ظاهره يدلّ على نعى نفسه (ص) ، والمناسب لنعى نفسه تعيين الوصىّ لنفسه ونصب خليفة للنّاس لئلّا ينفصم نظامهم.

سورة والتّين

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) التّين فاكهة معروفة وهو غذاء وادام وفاكهة كثير الغذاء قليل الفضول لا نوى له ولا قشر نافع لكثير من الأمراض واسم جبل بالشّام ومسجد بها ، وجبل بقطفان ، واسم دمشق ، ومسجد ، وطور تيناء بفتح التّاء والمدّ أو القصر بمعنى طور سيناء ، والزّيتون شجرة الزّيت أو ثمرتها وهو أيضا كثير المنافع يعصر منه دهن يكون إداما وجزء لاكثر الإدام في بلادهم ، ومسجد دمشق ، أو جبال الشّام ، وبلد بالصّين ، وقرية بالصّعيد ، ويجوز لله تعالى القسم بكلّ منهما ، ولكن لمّا كان قوله : وطور سينين ، وهذا البلد الأمين معطوفا عليهما فالاوفق ان يكون المراد بهما أحد الأمكنة


بحسب الظّاهر ، والأوفق بحسب التّأويل ان يكون المراد بالتّين جهة النّفس العمّالة الالهيّة ، وبالزّيتون جهتها العلّامة فانّهما مسجدان في العالم الصّغير (وَطُورِ سِينِينَ) سينين وسينا بالمدّ مكسورة السّين ومفتوحتها ، وسينى بفتح السّين والقصر يضاف إليها الطّور ، وقد مضى في سورة المؤمنون بيان لها (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) اى مكّة ، وكونها أمينا لجعلها مأمنا بالمواضعة ومأمنا بمحض مشيّة الله حيث ابتلى بعض من أراد التّعرّض لها كأصحاب الفيل ، وطور سينين بحسب التّأويل في العالم الصّغير اشارة الى الجهة العليا من النّفس الّتى يناجي الصّاعد عليها ربّه ويشاهد حضرته ، وهذا البلد الأمين الى مقام القلب ونواحيه ، وعن الكاظم (ع) انّه قال : قال رسول الله (ص) انّ الله تبارك وتعالى اختار من البلد ان اربعة فقال تعالى : والتّين والزّيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين فالتّين المدينة ، والزّيتون بيت المقدس ، وطور سينين الكوفة ، وهذا البلد الأمين مكّة ، وقال القمّىّ : التّين رسول الله (ص) ، والزّيتون أمير المؤمنين (ع) ، وطور سينين الحسن (ع) والحسين (ع) ، وهذا البلد الأمين الائمّة ، وعن الكاظم (ع) التّين والزّيتون الحسن (ع) والحسين (ع) ، وطور سيناء علىّ بن ابى طالب (ع) ، وهذا البلد الأمين محمّد (ص) ، وهذه الاخبار اشارة الى بعض وجوه التّأويل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قوّمه جعله معتدلا ، وقوّمه أزال عوجه ، وكون الإنسان في أحسن تقويم بحسب الصّورة والمعنى مشهود ومحسوس فانّه جعل جميع اجزائه وأعضائه مناسبا وموافقا له ، وجعل جميع مراتبه العالية أيضا مناسبا وموافقا ، وإذا لوحظ مع كلّ مولود من النّبات والحيوان كان أحسن تعديلا منه (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) نكّر السّافلين للاشارة الى انّهم من فظاعة حالهم ونكارة تسفّلهم لا يمكن تعريفهم فانّهم يجعلهم اخسّ وأسفل من النّسوان والأطفال والمجانين ، أو جعلناه من أهل أسفل دركات الجحيم ، وقد فسّر الإنسان بمنافقى الامّة في الاخبار فيكون الاستثناء منقطعا ، وان كان المراد مطلق الإنسان وهو الأوفق كان الاستثناء متّصلا وكان المعنى لقد خلقنا هذا الجنس في ضمن جميع الإفراد في أحسن تقويم بحسب صورته وباطنه ، ثمّ رددناه أسفل سافلين بحسب صورته وبحسب باطنه حيث أنزلناه الى أسفل دركات الجحيم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قد مضى مكرّرا بيان هذه العبارة يعنى لا نردّهم أسفل سافلين (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعنى بسبب انّ لهم اجرا غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم فانّ المؤمنين كما يكونون من اوّل الصّبا في النّمو بحسب الصّورة يكونون في النّموّ بحسب الباطن الى آخر العمر ليس ينقص زيادة العمر من ايمانهم شيئا ، وكما يكونون بحسب الباطن في النّموّ يكون أكثرهم بحسب الظّاهر في ازدياد البهاء والنّضرة الى آخر العمر (فَما يُكَذِّبُكَ) كذّب بالأمر من باب التّفعيل أنكره ، وكذّبه حمله على الكذب وجعله كاذبا وعدّه كاذبا والمعنى اىّ شيء يحملك أو يجعلك أو يعدّك كاذبا (بَعْدُ) اى بعد هذا الدّليل المشهود المحسوس على الحشر (بِالدِّينِ) بالحشر والجزاء ، أو بسبب هذا الدّين الّذى أنت عليه ، أو بولاية علىّ (ع) أو بعلىّ (ع) ، والخطاب خاصّ بمحمّد (ص) على التّعريض أو عامّ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) اى أحسن الحاكمين في حكمه أو اشدّ المتقنين في إتقان صنعه يعنى انّك إذا نظرت الى صورة الإنسان وسيرته أيقنت بانّه أحسن حكما واتقن صنعا من كلّ صانع ، ومن كان كذلك لا يهمل صنعه الّذى عمل فيه دقائق الصّنع الّتى تحيّر فيها أولوا الألباب ولا يبطله بلا غاية ، فانّ ادنى صانع إذا كان عاقلا لا يبطل صنعه من غير فائدة.


سورة العلق

مكّيّة ، عشرون آية ، وقيل : تسع عشر آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) في أكثر الاخبار من طرق العامّة والخاصّة انّ هذه السّورة اوّل سورة نزلت عليه (ص) وكانت هذه السّورة في اوّل يوم نزل جبرئيل على رسول الله (ص) واوّل ما نزل كان خمس آيات من اوّلها ، وقيل : اوّل ما نزل سورة المدّثّر ، وقيل : فاتحة الكتاب ، ولفظة الباء في باسم ربّك للسّببيّة أو للاستعانة ، والمعنى انّك كنت قبل ذلك تقرأ بنفسك ، وبعد ما فنيت من نفسك وأبقيت بعد الفناء وارجعت الى الخلق صرت مشاهدا للحقّ في الخلق وفاعلا وقائلا وقاريا بالحقّ لا بنفسك ، فاقرء مكتوبات الله في ألواح الطّبائع والمثال ومقروّات ملائكته عليك ومسموعاتك من وسائط الحقّ تعالى بعد ما رجعت الى الخلق باسم ربّك لا بنفسك ، وقيل : لفظة الباء زائدة ، والمعنى اقرء اسم ربّك والمعنى انّك كنت تقرأ قبل الفناء أسماء الأشياء ، وبعد البقاء ينبغي ان تقرأ اسم ربّك لانّك لا ترى بعد ذلك الّا أسماء الله لا أسماء الأشياء (الَّذِي خَلَقَ) يعنى بعد الرّجوع لا ترى الأشياء الّا مخلوقين من حيث انّهم مخلوقون ، ولمّا كان قوام المخلوق من حيث انّه مخلوق بالخالق بل ليس للمخلوق من تلك الحيثيّة شيئيّة وانانيّة الّا شيئيّة الخالق وانانيّته فلم يكن في نظرك الّا اسم الله الخالق ، ولمّا كان ظهور خالقيّته وإتقان صنعه ودقائق حكمته وحسن صانعيّته بخلق الإنسان والسّير من مقام كماله في خلقه أو في امره وخلقه الى اخسّ موادّه بطريق السّير المعكوس قال تعالى (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق محرّكة الدّم عامّة ، أو الشّديد الحمرة ، أو الغليظ ، أو الجامد منه ، والطّين الّذى يعلق باليد ، والكلّ مناسب (اقْرَأْ) خلق الإنسان بدل من خلق نحو بدل البعض من الكلّ ، أو نحو بدل الكلّ من الكلّ ، أو تأكيد له أو مستأنف وتفسير له ، جواب لسؤال مقدّر أو مفعول لاقرء الثّانى وهو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما اقرء؟ ـ فقال : اقرء خلق الإنسان من علق (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الكريم السّخىّ الحيّى الّذى يعطى بلا عوض ولا غرض ، ويتحمّل من غير عجز ، ولا يظهر إساءة المسيء في وجهه ، والأكرم البالغ في ذلك ، وهو خبر ربّك أو وصفه (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) اى علّم الإنسان الخطّ بالقلم ، أو علّم جميع ما دون الأقلام العالية جميع ما يحتاجون اليه تعليما وجوديّا أو تعليما شعوريّا بتوسّط الأقلام العالية ، أو أشعر الإنسان بالقلم الطّبيعىّ حتّى حصّل أنواع الخطوط بتوسّطه ، أو أشعر الإنسان بالأقلام العالية وانّها أوائل علله حتّى يطلب التّشبّه بها والوصول إليها (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) بدل أو تأكيد أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر والمراد من التّعليم بالقلم التّعليم الوجودىّ وبتعليم ما لم يعلم التّعليم الشّعورىّ يعنى علّم الإنسان بالتّعليم الشّعورىّ ما لم يعلم بالتّعليم الوجودىّ أو كلاهما عامّ (كَلَّا) ردع وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان الرّبّ الأكرم الّذى علّم الإنسان ما لم يعلم فما له لم يعلم جميع الاناسىّ من اوّل أعمارهم جميع ما لم يعلموا حتّى يستغنوا من اوّل الأمر بحسب العلم؟ ـ فقال : كفّ عن هذا السّؤال وهذا التّمنّى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) خطاب لمحمّد (ص) أو للإنسان ، وجواب لسؤال مقدّر كأنّه (ص) قال : فما له بعد هذا الطّغيان؟ ـ أو كأنّ الإنسان قال : فما لنا بعد الطّغيان؟ ـ قال :


(إنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) نزلت في ابى جهل فانّه قال : لو رأيت محمّدا (ص) يعفّر لوطئت عنقه ، فقيل : هو يسجد ، فجاءه ثمّ رجع على عقبه وكان يتّقى بيديه ، فقيل له في ذلك ، فقال : انّ بيني وبينه خندقا من النّار وهولا وأجنحة (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ) المصلّى (عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) اى وامر بالتّقوى لكنّه أتى بلفظة أو للاشعار بانّ كلّا من الوصفين يكفى في سوء حال النّاهى عن الصّلوة ، وجواب الشّرط محذوف (أَرَأَيْتَ) هذه وسابقتها تكرير وتأكيد للأولى فانّ المقام مقام الذّمّ والسّخط ، والتّكرير مطلوب (إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) متعلّق كذّب وتولّى يجوز ان يكون الله أو الرّسول أو الصّلوة (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) يعنى ان كان يعلم فهو ملوم مستحقّ للعذاب مرّتين ، وان كان لا يعلم فهو ملوم ومستحقّ للعذاب مرّة واحدة (كَلَّا) ردع للإنسان عن فعلته (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) سفعه لطمه وضربه ، وسفع الشّيء وسمه ، وسفع السّموم وجهه لفحه لفحا يسيرا ، وسفع بناصيته قبض عليها فاجتذبها ، ويجوز ان يكون السّفع هاهنا من كلّ من هذه اى لنقبضنّ على ناصيته ونجرّنّه الى النّار ، أو لنسوّدنّ وجهه ، والاختصاص بالنّاصية لانّه أشرف أجزاء الوجه وما به ظهوره اوّلا ، أو لنعلمنّه (١) أو لنذلّنّه ، أو لنضربنّه ، وقد مضى في سورة هود تحقيق الأخذ بناصية كلّ دابّة عند قوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) نسبة الكذب والخطيئة الى النّاصية مجاز (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) اى أهل ناديه ، قيل : انّ أبا جهل قال : أتهدّدني وانا أكثر أهل الوادي ناديا؟! فنزلت (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) جمع الزّبنية كشر ذمة متمرّد الجنّ والانس والشّديد منهما ، والشّرطىّ ، أو الزّبانية جمع الزبنىّ بكسر الزّاء والنّون وتشديد الياء بمعنى الشّرطىّ ، يعنى سندعوا الزّبانية لأخذه فليدع ناديه لدفع العذاب ومدافعتنا (كَلَّا) ردع لمحمّد (ص) عن انثلام عزيمته في طاعة ربّه ، أو الخطاب عامّ وكلّا ردع لمن أراد اتّباع ابى جهل في غوايته (لا تُطِعْهُ) في النّهى عن الصّلوة أو في تكذيبه لمحمّد (ص) (وَاسْجُدْ) (٢) ولا تكترث بنهيه اى صلّ واسجد في صلوتك أو تذلّل لربّك (وَاقْتَرِبْ) بسجدتك الى ربّك فانّ أقرب ما يكون العبد الى ربّه وهو ساجد ، والسّجود هاهنا فرض ، فعن ابى عبد الله (ع): العزائم الم تنزيل ، وحم السّجدة ، والنّجم إذا هوى ، واقرء باسم ربّك ، وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض ، وفرض السّجدة على الامّة ان كان الخطاب خاصّا بمحمّد (ص) كان بتبعيّته وفرض السّجدة لقراءة أمثال هذه الآية أو استحبابه لما ذكرنا مكرّرا انّ القارى ينبغي ان يكون حين القراءة فانيا عن نسبة الأفعال الى نفسه ويكون لسانه لسان الله لا لسان نفسه حتّى لا يكون في زمرة من قال الله تعالى : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) فاذا صار لسان القارى لسان الله ينبغي ان يستمع الأمر بالسّجدة من الله فيسجد لسماع الأمر بالسّجدة امتثالا لأمر الله المسموع من لسانه الّذى صار لسان الله.

سورة القدر

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، ستّ ايات

__________________

(١) من العلامة.

(٢) سجدة واجبة.


سورة القدر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) اى القرآن ، أبهمه من دون ذكر له تفخيما له بادّعاء انّه معيّن من غير تعيين كما انّ نسبة الانزال الى ضمير المتكلّم وتعيين الظّرف تفخيم له وقد انزل القرآن بصورته (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الّتى هي صدر محمّد (ص) ، وفي ليلة القدر الّتى هي النّقوش المداديّة والألفاظ الّذى يختفى المعاني تحتها.

اعلم ، انّه يعبّر عن مراتب العالم باعتبار أمد بقائها ، وعن مراتب الإنسان باعتبار النّزول باللّيالى وباعتبار الصّعود بالايّام لانّ الصّاعد يخرج من ظلمات المراتب الدّانية الى أنوار المراتب العالية ، والنّازل يدخل من أنوار المراتب العالية في ظلمات المراتب النّازلة كما انّه يعبّر عنها باعتبار سرعة مرور الواصلين إليها وبطوء مرورهم بالسّاعات والايّام والشّهور والأعوام ، وأيضا يعبّر عنها باعتبار الإجمال فيها بالسّاعات والايّام وباعتبار التّفصيل بالشّهور والأعوام ، وانّ المراتب العالية كلّها ليال ذوو الأقدار وانّ عالم المثال يقدّر قدر الأشياء تماما فيه ويقدّر أرزاقها وآجالها وما لها وما عليها فيه ، وهو ذو قدر وخطر ، وهكذا الإنسان الصّغير وليالي عالم الطّبع كلّها مظاهر لتلك اللّيالى العالية ، فانّها بمنزلة الأرواح لليالى عالم الطّبع وبها تحصّلها وبقاؤها لكن لبعض منها خصوصيّة ، بتلك الخصوصيّة تكون تلك اللّيالى العالية اشدّ ظهورا في ذلك البعض ولذلك ورد بالاختلاف وبطريق الإبهام والشّكّ : انّ ليلة القدر ليلة النّصف من شعبان ، أو التّاسع عشر أو الحادي والعشرون ، أو الثّالث والعشرون ، أو السّابع والعشرون ، أو اللّيلة الاخيرة من شهر رمضان وغير ذلك من اللّيالى ، وعالم الطّبع وكذلك عالم الشّياطين والجنّ بمراتبها ليس بليلة القدر ، وهذان العالمان عالما بنى أميّة وليس فيهما ليلة القدر ، والأشهر المنسوبة الى بنى أميّة الّتى ليس فيها ليلة القدر كناية عن مراتب ذينك العالمين (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) الإتيان بالاستفهامين لتفخيم تلك اللّيلة ، ولمّا لم يمكن بيان حقيقة تلك اللّيلة قال تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة القدر ، في اخبار كثيرة عن طريق الخاصّة : انّ رسول الله (ص) رأى في منامه انّ بنى أميّة يصعدون على منبره من بعده ويضلّون النّاس عن الصّراط القهقهرى فأصبح كئيبا حزينا فهبط عليه جبرئيل فقال : يا رسول الله (ص) ما لى أراك كئيبا حزينا؟ ـ قال : يا جبرئيل انّى رأيت بنى أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون النّاس عن الصّراط القهقرى ، فقال : والّذى بعثك بالحقّ نبيّا انّى ما اطّلعت عليه فعرج الى السّماء فلم يلبث ان نزل عليه بآي من القرآن يونسه بها ، قال : أفرأيت ان متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما اغنى عنهم ما كانوا يمتّعون وانزل عليه : انّا أنزلناه في ليلة القدر وما أدريك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر ، جعل الله ليلة القدر لنبيّه (ص) خيرا من الف شهر ملك بنى أميّة ، روى انّه ذكر لرسول الله (ص) رجل من بنى إسرائيل انّه حمل السّلاح على عاتقه في سبيل الله الف شهر فعجب من ذلك عجبا شديدا وتمنّى ان يكون ذلك في أمّته فقال : يا ربّ جعلت أمّتي اقصر الأمم أعمارا واقلّها أعمالا فأعطاه الله ليلة القدر وقال : ليلة القدر خير من الف شهر الّذى حمل الاسرائيلىّ السّلاح في سبيل الله لك ولامّتك من بعدك الى يوم القيامة في كلّ رمضان (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) تنزّل نزل في مهلة ومضى في سورة بنى إسرائيل بيان الرّوح وانّه أعظم من جميع الملائكة وانّه ربّ النّوع الانسانىّ (فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بعلمه أو إباحته (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) لأجل كلّ امر قدّر في تلك اللّيلة وقرئ من كلّ امرء بهمزة في آخره يعنى من أجل كلّ إنسان من حيث خيره أو شرّه ، وقيل : من كلّ امر متعلّق بقوله تعالى (سَلامٌ هِيَ) والظّاهر انّه متعلّق بتنزّل ومعنى سلام هي (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) انّ تلك اللّيلة


سلامة من كلّ شرّ وآفة ، أو هي تحيّة على طريق المجاز كما ورد عن السّجّاد (ع) يقول : يسلّم عليك يا محمّد (ص) ملائكتى وروحي سلامي من اوّل ما يهبطون الى مطلع الفجر ، وقال القمّىّ : تحيّة يحيّى بها الامام الى ان يطلع الفجر ، وفي خبر انّ علامة ليلة القدر ان يطيب ريحها ان كانت في برد دفئت ، وان كانت في حرّ بردت ، وفي رواية : لا حارّة ولا باردة تطلع الشّمس في صبيحتها ليس لها شعاع.

سورة البيّنة

مدنيّة ، وقيل : مكّيّة ، ثمان ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اى اليهود والنّصارى فانّهم كانوا معروفين بهذا الاسم (وَالْمُشْرِكِينَ) عبدة الأصنام أو عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف المشركين ، وسمّى أهل الكتاب كافرين لانّهم ستروا الدّين والطّريق الى الله ، وستروا الحقّ بحسب صفاته وان كانوا اقرّوا بالتّوحيد (مُنْفَكِّينَ) اى لم يكونوا متفرّقين بان يكون بعضهم على الحقّ وبعضهم على الباطل بل كان جميعهم على الباطل مجتمعين فيه أو منفكّين عن دينهم أو عن الوعد باتّباع الحقّ إذا جاءهم محمّد (ص) أو عن الإقرار بمحمّد (ص) ورسالته أو عن الحجج والبراهين (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) المراد بالبيّنة الرّسول (ص) أو رسالته أو معجزاته ، واستقبال تأتيهم بالنّسبة الى قوله لم يكن والّا فهو على المضىّ (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بدل من البيّنة بدل الكلّ أو بدل الاشتمال أو رسوله خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبر محذوف أو مبتدء خبره قوله تعالى (يَتْلُوا) عليهم (صُحُفاً مُطَهَّرَةً) والمراد بالصّحف الألواح العالية والأقلام الرّفيعة ، أو الصّدور المستنيرة والقلوب المضيئة ، أو الكتب الماضية السّماويّة من كتب الأنبياء الماضين والكلّ مطهّر من التّغيير والتّبديل والمادّة ونقائصها وانقلاباتها ومن مسّ أيدي الأشرار ومن إتيان البطلان إليها (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) اى مكتوبات مستقيمة لاعوج فيها أصلا ، أو مقيمة تقيم كلّ من اتّصل بها ، أو معتدلة لا انحراف فيها ، أو كافية يكفى جميع أمور من توسّل بها ، أو المراد بالصّحف المطهّرة القرآن وفيها جميع العلوم القلبيّة والقالبيّة الكافية لمن تدبّرها وتوسّل بها (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فيما ذكر سابقا (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) يعنى لم يكونوا منفكّين عن دينهم أو اجتماعهم أو تصديق محمّد (ص) وما تفرّقوا الّا بعد الرّسول (ص) بان صدّق بعضهم وكذّب بعضهم وبقي بعضهم على دينه وترك بعضهم دينه (وَما أُمِرُوا) اى والحال انّهم ما أمروا بشيء (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) الحنيف الصّحيح الميل الى الإسلام الثّابت عليه وكلّ من حجّ أو كان على دين إبراهيم (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) قد مضى في اوّل البقرة بيان لاقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة يعنى انّ أهل الكتاب ما أمروا على لسان أنبيائهم (ع) وفي كتبهم الّا بتوحيد العبادة المستلزم لتوحيد الواجب والمبدء ، وبإقامة الصّلوة الّتى هي عماد الدّين وجالب الخصائل ، وإيتاء الزّكاة الّذى هو تطهير من كلّ رذيلة ، وما تأمرهم أنت أيضا الّا بذلك ، فما لهم اختلفوا في تصديقك وتكذيبك؟! (وَذلِكَ) اى توحيد العبادة وتوحيد المبدء واقامة الصّلوة


وإيتاء الزّكاة (دِينُ الْقَيِّمَةِ) اى دين الكتب القيّمة ، وقيل : القيّمة جمع القائم اى دين القوم القائمين بأمر الله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالرّسول (ص) أو بكتابه أو بأمر الله تعالى في رسوله (ص) أو بالولاية والجملة جواب لسؤال مقدّر عن حال المختلفين (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) عطف على الّذين كفروا أو على أهل الكتاب (فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) من أهل الكتاب والمشركين أو من اىّ فرقة كانوا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ومقام الرّضا آخر مقامات النّفس الانسانيّة كما انّ جنّة الرّضوان آخر الجنان (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) قد مضى مكرّرا انّ الخشية حالة حاصلة من امتزاج الخوف والحبّ ولا تكون الّا بعد العلم بالمخشىّ منه الّذى كان له محبوبيّة ولذلك قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) يعنى من لم يعلم بالله لم يخشه لعدم حصول المحبّة له.

سورة الزّلزال

تسع آيات مدنيّة ، وقيل : مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) المعهود وهو زلزال القيامة الصّغرى أو الكبرى أو الزّلزال اللّائق بحالها وهو الزّلزال المحيط بها وهو الزّلزال العامّ الّذى ليس الّا في القيامة ، فانّ ارض البدن عند الاحتضار يتزلزل تزلزلا عظيما (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أثقال الأرض عبارة عن القوى والأرواح وعن القوى والاستعدادات المكمونة في ارض العالم الكبير أو في الأبدان فانّ ارض البدن عند الموت تخرج بالموت جميع ما فيها من الفعليّات الموجودة والاستعدادات المكمونة وتظهر حينئذ جميع المكمونات في العالم الكبير (وَقالَ الْإِنْسانُ) الواقع في الزّلزال أو النّاظر الى الزّلزال تعجّبا من ذلك الزّلزال (ما لَها يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) روى عن الباقر (ع) انّ أمير المؤمنين (ع) قال : انا الإنسان وايّاى تحدّث اخبارها ، وروى عن النّبىّ (ص) انّه قال : أتدرون ما اخبارها؟ ـ قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال : اخبارها ان تشهد على كلّ عبد وامة بما عمله على ظهرها ، تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، فهذه اخبارها (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) ان تحدّث وحي الهام أو وحيا بتوسّط الملك (يَوْمَئِذٍ) اى يوم القيامة الصّغرى (يَصْدُرُ النَّاسُ) اى القوى والمدارك الانسانيّة في العالم الصّغير من مراقدها ومحالّها أو يوم القيامة الكبرى يصدر افراد النّاس من مراقدهم ومواقفهم (أَشْتاتاً) متفرّقين في صفوف عديدة بحسب مراتبهم ودرجاتهم في السّعادة والشّقاوة (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) قرئ بفتح الياء وضمّها ، وقد مضى مكرّرا انّ العامل يحصل من عمله فعليّة في نفسه ويراه العامل بعد الموت بصورة مناسبة لذلك العمل وهذا العامل ، ويرى صورة اخرى موافقة لتلك الصّورة في الآخرة فيرى أعماله بأنفسها وبصورها اللّائقة بها المعبّر عن تلك الصّور بجزاء الأعمال (فَمَنْ يَعْمَلْ) من المؤمنين (مِثْقالَ ذَرَّةٍ)


اى مقدار ذرّة (خَيْراً يَرَهُ) يعنى لا يعزب عن نظر المؤمنين شيء يسير من اعماله ويرى اعماله بصورها وبجزائها ، وامّا شرور المؤمن فامّا ممحوّة أو مغفورة أو مبدلة ، فلا يراها ، أو المعنى فمن يعمل من المؤمن والكافر مثقال ذرّة خيرا يره لكنّ المؤمن يراه في ميزان نفسه والكافر يراه في ميزان المؤمن ، فيزداد تحسّره (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يعنى من يعمل من الكافر فانّ خيرات الكافر تحبط ، وشرور المؤمن قد ذكر انّه لا يراها ، أو من الكافر والمؤمن فانّ المؤمن يرى شروره في ميزان الكافر.

سورة والعاديات

احدى عشرة آية ، مدنيّة ، وقيل : مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) اقسم بالخيل العاديات في الجهاد ، والضّبح صوت أنفاس الخيل وهو مفعول مطلق للعاديات فانّها مستلزمة للضّبح ، أو لفعله المحذوف ، أو حال بمعنى ضابحات (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) ورى الزّند خرجت ناره ، واوريت الزّند أخرجت ناره ، وقدح بالزّند رام إخراج ناره ، عبّر عن خروج النّار من ملاقاة حوافر الخيل والأحجار بالايراء والقدح (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) اى وقت صبح ، وأغار بمعنى عجّل في المشي وأغار على القوم غارة واغارة ، وأغار الفرس اشتدّ عدوه في الغارة (فَأَثَرْنَ بِهِ) اى بالصّبح أو بالعدو (نَقْعاً) اى غبارا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) الكنود كافر النّعم ، والكافر واللّوّام لربّه تعالى ، والبخيل ، والعاصي ، ومن يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده ، والمراد بالإنسان مطلق الإنسان ، فانّها كما روى نزلت في غزاة علىّ (ع) لأهل الوادي اليابس كانوا اثنى عشر ألفا قد استعدّوا وتعاهدوا وتعاقدوا على ان يقتلوا محمّدا (ص) وعلىّ بن ابى طالب (ع) فأرسل النّبىّ (ص) إليهم أبا بكر فلمّا وصل إليهم ورأى عدّتهم وكثرتهم جبّن وجبن أصحابه ورجع الى رسول الله (ص) فقال الرّسول (ص) : خالفت قولي وعصيت الله وعصيتني ، ثمّ أرسل إليهم عمر ، ففعل مثل ما فعل صاحبه ، ثمّ أرسل إليهم عليّا (ع) وأخبر انّه سيفتح الله على يديه ، فسار علىّ (ع) إليهم في اربعة آلاف من المهاجرين والأنصار وسار بهم غير مسير صاحبيه فانّهما كانا يسيران برفق وسار علىّ (ع) وأتعب القوم حتّى وصل الى مكان يرونهم فلمّا سمع أهل الوادي اليابس بمقدم علىّ (ع) اخرجوا اليه منهم فأتى رجل شاكي السّلاح وخرج علىّ (ع) مع نفر من أصحابه فقالوا لهم : من أنتم؟ ـ ومن اين أقبلتم؟ ـ قال : انا علىّ بن ابى طالب جئنا إليكم لنعرض عليكم الإسلام فان تقبّلوا والّا قتلناكم ، فقالوا : انّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك ، والموعود بيننا وبينك وقت الضّحوة من غد ، فانصرفوا وانصرف علىّ (ع) ، فلمّا جنّه اللّيل امر أصحابه ان يحسنوا الى دوابّهم فلمّا انشقّ عمود الصّبح صلّى بالنّاس بغلس ثمّ غار عليهم بأصحابه ، فلم يعلموا حتّى وطئتهم الخيل فما أدرك آخر أصحابه حتّى قتل مقاتليهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وخرّب ديارهم ، واقبل بالأسارى والأموال معه ، فصعد الرّسول (ص) المنبر قبل وصول علىّ (ع) وأخبر النّاس بما فتح الله على المسلمين وأعلمهم انّه لم يفلت منهم الّا رجلان ، ونزل ، فخرج يستقبل عليّا (ع) في جميع أهل المدينة حتّى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة ، فلمّا رآه علىّ (ع) مقبلا نزل عن دابّته ونزل النّبىّ (ص) حتّى التزمه وقبّل ما بين


عينيه ، وعن جعفر بن محمّد (ع): ما غنم المسلمون مثلها قطّ الّا ان يكون من خيبر فانّها مثل خيبر فانزل الله تبارك في ذلك اليوم هذه السّورة (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) يعنى انّ الإنسان يشهد ويعلم انّه كنود ، أو الله يشهد على انّه كنود (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) اى بخيل أو قوىّ ، والمراد بالخير المال أو الحياة أو كلّ ما كان ملائما للإنسان (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ) اى بعث (ما فِي الْقُبُورِ) اى قبور التّراب من الأموات ، وقبور الأبدان من القوى والفعليّات ، والقوى والاستعدادات المكمونات (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) من النّيّات والإرادات والخيالات والاعتقادات (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) الجملة مفعول يعلم معلّق عنها العامل يعنى انّه ينبغي ان يعلم ذلك فيرتدع من خلاف قول رسوله (ص) وضمير بهم راجع الى الإنسان لانّه امّا في معنى الجنس ، أو راجع الى ما في القبور ، والتّعبير بما لانّ ما في القبور ما دام في القبور في حكم غير ذي الشّعور ، وإذا بعث من القبور صار في حكم ذي الشّعور.

سورة القارعة

مكّيّة ، احدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) وضع الظّاهر موضع المضمر وتكرير الاستفهام ونفى دراية محمّد (ص) أو دراية من له شأن الدّراية تعظيم وتهويل للقارعة والمراد بالقارعة امّا القيامة فانّها تقرع كلّ من كان له في الدّنيا انانيّة بما فيها من الأهوال ، أو المراد بها الدّاهية الّتى تكون في القيامة (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الّذى يتهافت على السّراج ولا يكون لحركته وطيرانه نظام ، شبّه النّاس في القيامة به لشدّة تحيّرهم وعدم انتظام حركاتهم مثل قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) ويوم منصوب بالقارعة ، أو بأعني محذوفا ، أو بيكون محذوفا (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن الصّوف أو المصبوغ منه ألوانا ، والمنفوش المنتشر والمعنى تكون الجبال كالصّوف المصبوغ المندوف (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) اى ذات رضا ، أو الوصف بحال المتعلّق اى في عيشة راض صاحبها بها (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) الامّ هاهنا بمعنى المسكن أو الخادم ، أو المعنى امّ رأسه ساقطة في النّار ، لكنّ الاوّل اولى ليوافق ظاهره التّفسير الّذى في قوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) شديد الحرارة.

سورة التّكاثر

مدنيّة ، وقيل : مكّيّة ثمان آيات


بيان السعادة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) اى التّفاخر والتّغالب بكثرة المال والأولاد ، أو بكثرة العشائر والقبائل ، أو الاهتمام في تكثير الأموال والأولاد ، والى كلّ أشير في الاخبار (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) يعنى ما قنعتم بالتّكاثر بالاحياء حتّى عددتم الأموات والحال انّ الاعتبار بالأموات كان اولى من الافتخار بهم ، أو ألهاكم التّفاخر أو طلب الكثرة حتّى متّم ودخلتم المقابر ، والى كلّ أشير في الاخبار (كَلَّا) ردع عنه اى انتهوا عن ذلك (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) انّ الاشتغال عن الآخرة بالتّكاثر سبب دخول الجحيم بل هو دخول في الجحيم لكن لمّا كان مدارككم خدرة وأبصاركم في غشاوة في الدّنيا لم تحسّوا بألمها ولم تبصروا نارها وأنواع عذابها ، أو المعنى سوف تصيرون من أهل العلم وإذا صرتم عالمين رأيتم الجحيم ولم يك ينفعكم علمكم حينئذ (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تأكيد للاوّل وتخلّل ثمّ للمبالغة في التّأكيد ، أو الاوّل في القيامة الصّغرى والثّانى في القيامة الكبرى (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَ) في الدّنيا (الْجَحِيمَ) كما انّكم في الآخرة تصيرون عالمين فترونّ الجحيم وقد مضى مكرّرا انّ علوم النّفوس لكونها غير المعلومات وجواز انفكاك المعلومات عنها إذا كانت النّفوس مدبرة عن دار العلم سمّيت ظنونا في الكتاب والاخبار بخلاف ما إذا كانت مقبلة على دار العلم ، فانّ ظنونها تصير علوما بل أشرف من العلوم حينئذ ، ومراتب اليقين ثلاث ؛ علم اليقين وهو ادراك الشّيء بصورته الحاصلة عند النّفس بشهود آثار ذلك الشّيء أو وجدانها في وجوده ، وعين اليقين وهو مشاهدة عين ذلك الشّيء ، وحقّ اليقين وهو التّحقّق بذلك الشّيء ، والمعنى لو تعلمون في الدّنيا علم اليقين لادّى بكم الى رؤية الجحيم في الدّنيا فانّ الظنّ يؤدّى الى العلم ، والعلم الى الرّؤية ، والرّؤية الى المعاينة ، والمعاينة الى التّحقّق ، ولقد مرّ تفصيل تامّ لمراتب الظّنّ والعلم واليقين ، والفرق بين العلم الاخروىّ والعلم الدّنيوىّ في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ).

اعلم ، انّ للرّؤية مراتب ؛ فاولى مراتبها المشاهدة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشّيء عن بعد من غير تميز جميع معيّناته وجميع دقائق شخصه وصورته ، وثانية مراتبها المعاينة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشّيء بجميع مشخّصاته ودقائق وجوده ، وثالثة مراتبها التّحقّق بالمرئىّ بدرجاتها (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) الإتيان بثمّ للاشارة الى انّ هذا السّؤال بعد ما علموا انّهم اشتغلوا بما لا فائدة لهم فيه ، أو للتّرتيب في الاخبار (يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قد ذكر في اخبار كثيرة من جملة النّعيم المسؤل عنه ملائمات القوى الحيوانيّة والملاذّ الدّنيويّة كالطّعام واللّباس والرّطب والماء البارد ، وفي اخبار أخر انكار ان يكون النّعيم المسؤل ذلك وانّ السّؤال والامتنان بالنّعمة وصف الجاهل اللّئيم ، وانّ الله نهى عن ذلك وانّ الله لا يوصف بما لا يرضاه لعباده ، وانّ النّعيم المسؤل عنه محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، أو حبّنا أهل البيت ، أو ولايتنا أهل البيت ، والتّحقيق في هذا المقام والتّوفيق بين الاخبار انّ النّعمة كما مرّ مرارا ليست الّا الولاية وكلّ ما اتّصل بالولاية سواء كان من ملائمات الحيوانيّة أو من موذيات القوى الحيوانيّة ، وبعبارة اخرى سواء عدّ من النّعم الدّنيويّة أو من النّقم الدّنيويّة كان نعمة ، وكلّ ما انقطع عن الولاية كان نقمة وان كان بصورة النّعمة ، وكلّ من اتّصل بالولاية كان ضيفا لله وكان جميع نعمه الصّوريّة والمعنويّة مباحة له وكان مأمورا بالتّصرّف فيها بمنطوق قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ولا يسأل الله تعالى عن شيء منها ولو سأل كان سؤاله مثل السّؤال


عن الضّيف وانّه كيف أكل؟ ولم أكل؟ وعلى اىّ مقدار أكل؟ ولم لم يعمل لي على قدر ما أكل؟ وكان قبيحا عن البشر فكيف بخالق البشر ، ومن انقطع عن الولاية كان جميع نعمه الصّوريّة مغصوبة في يده وللحاكم والمالك ان يسألا الغاصب عن تصرّفاته في العين المغصوبة ، ولا قبح في ذلك السّؤال ، ولمّا كان الخطاب للمحجوبين المنقطعين عن الولاية كان المراد بالنّعيم الولاية ثمّ جميع الملائمات الحيوانيّة والانسانيّة وكان السّؤال عن أداء شكرها وصرفها في مصرفها أو غير مصرفها ، أو المعنى إذا رفع حجاب الخيال والوهم عن بصائركم ووصلتم الى دار العلم وشاهدتم الجحيم وآلامها والجنّات ولذّاتها وعاينتم انّ النّعيم الصّورىّ صار سببا لدخول الجحيم ، وأيقنتم انّ النّعيم الصّورىّ كان نقمة في الحقيقة ، وانّ النّعيم كان الولاية ولوازمها الّتى هي الجنّة ونعيمها تسألون أكان ما كنتم فيه من الملاذّ الحيوانيّة نعيما أم ما عليه المؤمنون توبيخا لكم؟ أو المعنى انّكم إذا وصلتم الى مقام المعاينة تسألون عن مقام حقّ اليقين ما هو؟ لانّكم بالمعاينة تجدون ذوق الحقيقة وجاز لكم السّؤال والجواب عنها ، وما روى عن الرّسول (ص) يؤيّد ما وفّقنا به بين الاخبار فانّه قال : كلّ نعيم مسئول عنه صاحبه الّا ما كان في غزو أو حجّ ، فانّ السّالك القابل للولاية في غزو وحجّ شعر به أم لا ، وكذلك ما روى عن الصّادق (ع) انّه قال : من ذكر اسم الله على الطّعام لم يسأل عن نعيم ذلك فانّ الذّاكر لاسم الله ليس الّا من قبل الولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة فانّ غيره بمضمون : من لم يكن له شيخ تمكّن الشّيطان من عنقه ، قد تمكّن الشّيطان منه ، ويكون كلّ أفعاله وأقواله وأحواله بتصرّف الشّيطان فاذا قال ، بسم الله : يتصرّف الشّيطان فيه ويخلّى اللّفظ من معناه ويجعل نفسه في الله فيصير بسم الله في الحقيقة بسم الشّيطان كما مرّ تحقيقه في اوّل فاتحة الكتاب ، ويؤيّد ذلك التّوفيق السّورة الآتية فانّ السّؤال عن النّعمة الّتى أنعم الله بها على عباده خسران بوجه.

سورة والعصر

مكّيّة ، ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ) المراد بالعصر وقت صلوه العصر ، اقسم به كما اقسم بالضّحى ، أو المراد به الدّهر مطلقا ، أو عصر النّبىّ (ص) على ان يكون اللّام لتعريف العهد ، أو صلوة العصر ، أو الملكوت فانّها بعدها يختفى شمس الحقيقة في عالم الطّبع وانّها بمثالها الصّاعد معصورة عالم الطّبع كما انّها بمثالها الهابط معصورة الجبروت ، أو المراد بالعصر مطلق عالم الطّبع لكونه عصير الملكوت (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) خسر كفرح وضرب ضلّ ، والخسر بالضّمّ وبالضّمّتين مصدره ، وخسر وضع في تجارته عن رأس ماله ، والإنسان ما لم يؤمن بالبيعة الخاصّة الولويّة لم يكن على الطّريق فانّ الطّريق علىّ (ع) وولايته ، ولم ينفتح باب قلبه وما لم ينفتح باب قلبه بالولاية التّكليفيّة الّتى هي حبل من النّاس كان كلّما فعل حصل له فعليّة في جهة نفسه الجهة السّفليّة وكلّما حصل للنّفس من جهتها السّفليّة فعليّة اختفى تحت تلك الفعليّة انسانيّته الّتى هي الولاية التّكوينيّة الّتى هي الحبل من الله وبضاعته انسانيّته واختفاؤها خسران بضاعته ولا يخلوا الإنسان آنا ما من فعل وفعليّة ، فجميع افراد الإنسان في خسر على الاستمرار (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالبيعة الخاصّة أو الّا الّذين آمنوا بالبيعة الخاصّة وعملوا الصّالحات بالوفاء بشروط البيعة (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) التّواصى اعمّ من ان يكون بالقال أو بالحال أو بالفعال أو بالدّعاء والالتماس


من الله في الحضور أو بظهر الغيب ، فانّه قد مرّ في سورة البقرة عند قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) بيان انّ المؤمن بوجوده يدعو الى الجنّة وان لم يكن له دعوة قالا ، والمراد بالحقّ الولاية فانّها حقة بحقيقة الحقّيّة ، وان كان المراد به الحقّ المطلق كان المراد منه أيضا الولاية لانّ ظهور الحقّ المطلق لا يكون الّا بالحقّ المضاف الّذى هو الولاية ويراد كلّ امر ثابت وكلّ امر غير باطل بإرادة الولاية فانّ الكلّ من شعب الولاية (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على الحقّ أو بالصّبر مطلقا فانّ جميع أنواع الصّبر الّتى أمّهاتها ثلاث ؛ الصّبر على المصائب ، والصّبر عن المعاصي ، والصّبر على الطّاعات ، راجعة الى الصّبر على الحقّ فانّ المنظور من الصّبر على المصائب ان لا يجزع عند المصيبة لانّ الجزع لا يكون الّا بالغفلة عن الولاية ، والمنظور من الصّبر عن المعاصي عدم خروج النّفس عن انقياد العقل في ادامة الحقّ ، والخروج عن الانقياد لا يكون الّا بالغفلة عن الولاية ، والصّبر على الطّاعة ليس الّا الصّبر على الولاية الّتى هي روح كلّ طاعة ، ولا شكّ انّ المؤمنين إذا التقيا حصل لكلّ بملاقاة الآخر صبر وزيادة توجّه واشتداد ترقّب لوجهته الولويّة ، وليجد المؤمن ذلك من وجوده.

سورة الهمزة

مكّيّة ، تسع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الهمز الغمز ، والضّغط والنّخس والدّفع والضّرب والعضّ والكسر ، والكلّ من باب نصر وضرب ، واللّمز العيب والاشارة بالعين ونحوها ، والضّرب والدّفع والفعل من البابين ، قيل : المراد بالهمزة الطّعّان ، وباللّمزة المغتاب ، وقيل : العكس ، وقيل : الهمزة الّذى يطعن في وجهك واللّمزة الّذى يطعن في غيابك ، والصّيغتان تستعملان فيما صار عادة وسجيّة ، والرّذيلتان حاصلتان في تركيب الشّيطنة والسّبعيّة والبهيميّة فانّ صاحبهما بشيطنته يتكبّر على النّاس ويحقّرهم وبغضبه يدفع فضل من يتفضّل عليه ، وبشهوته يريد ان يكون ممدوحا في النّاس ، ذا فضيلة عندهم محبوبا لهم ، وإذا اجتمع هذه الخصال يغتاب ويغمز ويطعن في النّاس لرؤية نفسه واستكباره على الخلق وتحقيرهم ، وارادة كونه محبوبا فيهم بظهور النّقص فيهم وعدم ظهوره فيه ، فهما اخسّ الرّذائل (الَّذِي جَمَعَ مالاً) بحرصه الّذى هو نتيجة قوّته الشّهويّة (وَعَدَّدَهُ) اى عدّه مرّة بعد اخرى لحبّه ايّاه أو اعدّه لنوائبه ، والاعداد للنّوائب نتيجة القوى الثّلاث ؛ فانّه بشيطنته يريد الاستكبار على الخلق ويدبّر لذلك ويهيّئ أسبابه ، وبشهوته يحبّ المال ويدّخره ، وبغضبه يريد دفع ما يرد عليه بما ليس ملائما له ويدفع من أراد ان يدفعه عمّا هو عليه فيهيّئ لذلك أسبابه (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) هو على الاخبار ، أو على الاستخبار بتقدير الاستفهام (كَلَّا) ردع له عن هذا الحسبان ، ليموتّن و (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) الحطم الكسر أو خاصّ باليابس ، والحطمة كالهمزة النّار الشّديدة واسم لجهنّم أو باب لها (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) يعنى انّها ليست مثل نيران الدّنيا لا تتجاوز عن الأجسام بل هي تتجاوز عن الأجسام وتصل الى القلب بل الى عليا مرتبة القلب الّتى تلى الرّوح وهي الفؤاد ، وأنموذج ذلك في الدّنيا انّ الموصوف بالرّذيلتين المقهور تحت حكم القوى الثّلاث تحترق نفسه الانسانيّة


وقلبه وتنحطم بحيث كأنّه لم يكن له انسانيّة وقلب وإذا نظرت حقّ النّظر رأيته لم يكن فيه شيء من صفات الإنسان (إِنَّها) اى الحطمة أو النّار (عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) اى مطبقة اى يطبق أبوابها عليهم ، أو ينطبق النّار عليهم بحيث لا تدع منهم شيئا (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) العمد بالتّحريك والعمد بالضّمّتين ، وقرئ بهما جمع العود ، والظّرف حال عن الضّمير المجرور بعلى يعنى انّهم موثّقون على الاعمدة الطّويلة ، أو حال عن الضّمير المنصوب اى انّ النّار بأبوابها مطبقة عليهم حالكونها في مسامير من الحديد المحمى يعنى انّ الأبواب تطبق عليهم ثمّ تشدّ بمسامير من الحديد ، وقيل : المراد عمد السّرادق الّتى في قوله تعالى : أحاط بهم سرادقها ، وقيل : المراد بالعمد الأغلال الّتى يقيّدون بها.

سورة الفيل

مكّيّة ، خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) يعنى انّ قضيّتهم مشهورة بحيث تكاد ترى لكلّ راء وان كان قد مضى زمانها ، ومحمّد (ص) فتح الله بصيرته بحيث صار الماضي والآتي في نظره كالحاضر (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) لخراب البيت (فِي تَضْلِيلٍ) في الافناء والإهلاك أو في عدم الاهتداء الى المقصد ، قد اجمع الرّواة انّ الّذى قصد بالفيل الكعبة هو ملك اليمن ، وقيل : كان من قبل النّجاشىّ ملك الحبشة على اليمن وكان حركته الى مكّة بأمره ، والنّجاشىّ هذا كان جدّ النّجاشىّ الّذى كان في زمن النّبىّ (ص) وأقرّبه ، وكان اسم ملك اليمن أبرهة بن الصّباح الاشرم وكنيته ابو يكسوم بنى كعبة باليمن وامر النّاس ان يحجّوا إليها ، وانّ رجلا من بنى كنانة خرج حتّى قدم اليمن ثمّ نظر إليها فقعد فيها لقضاء حاجته فغضب أبرهة لذلك واحلف ان يهدم البيت ، ثمّ خرج بجنوده ونزل على ستّة أميال من مكّة فبعث مقدّمته وأصاب مقدّمته مأتى بعير لعبد المطلّب فلمّا بلغه خرج حتّى أتى القوم فاستأذن على أبرهة فأذن له بعد ما عرفوه انّه رئيس القوم فدخل عليه وهو على سريره فعظّمه ونزل من سريره وجلس معه ثمّ قال : ما حاجتك؟ ـ قال : حاجتي مأتا بعير أصابتها مقدّمتك ، قال : أعجبتني رؤيتك وزهّدنى فيك كلامك ، قال : ولم ايّها الملك؟ ـ قال: لأنّى جئت لأهدم بيت عزّكم وشرفكم وجئت تسألنى حاجتك ولا تسأل عن انصرافي عن بيتكم؟! فقال : انا ربّ الإبل وللبيت ربّ يمنعك منه ، فأمر ابو يكسوم بردّ ابله فخرج فلمّا أصبحوا بعثوا فيلهم فلم ينبعث ، وقيل: كان معهم فيل واحد اسمه محمود ، وقيل : ثمانية افيال ، وقيل : اثنا عشر ، فظهر عليهم طير من قبل البحر مع كلّ ثلاثة أحجار حجر في منقاره وحجران في رجليه ، وكانت ترفرف على رؤسهم وترمى في دماغهم فيدخل الحجر في دماغهم ويخرج من ادبارهم وينتقض أبدانهم فصاروا كما قال تعالى كعصف مأكول ، ولم يبق منهم الّا رجل واحد هرب فجعل يحدّث النّاس بما رأى إذ طلع عليه طائر منها بعد ما وصل الى اليمن فرفع رأسه فقال : هذا منها وجاء الطّير حتّى حاذى رأسه ثمّ القى الحجر عليه فخرج من دبره فمات ، وكان ذلك في العام الّذى ولد فيه رسول الله (ص) ، وقيل : كان قبل مولده بثلاث وعشرين سنة ، وقيل : بأربعين سنة (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أبابيل جمع بلا واحد يقال : ابّل أبابيل اى فرّق ، أو هو جمع الابّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء ، أو جمع الابّيل كسكّيت بمعنى القطعة من الطّير ، والإبل والمتتابعة منها ، وكان الطّير هذه الطّير المعروفة بابابيل ، وفي خبر عن الباقر (ع): كان


رؤسها كأمثال رؤس السّباع وأظفارها كأظفار السّباع ولا رأوا قبل ذلك مثلها ولا بعدها (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) معرّب «سنگ گل» (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) كورق زرع اكله الدّود ، أو كزرع أكل حبّه فبقي بلا حبّ أو كتبن أكلته الدّوابّ فدفعته.

سورة قريش

اربع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) قرئ ليلاف قريش بدون الهمزة ، الا فهم من دون ياء ، وقرئ ليلاف قريش مثل القراءة الاولى إيلافهم بهمزة وياء بعدها وقرئ لإيلاف قريش إيلافهم في كليهما بهمزة وياء بعدها ، والجارّ والمجرور متعلّق بقوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، أو بقوله : (فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) لانّ السّورة الاولى كانت في مقام الامتنان على قريش بجعل بيتهم ومسكنهم مأمنا ، أو متعلّق بقوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) يعنى لان جعل الله قريشا ذات الفة بملوك النّواحى مثل ملك الفارس والشّام والحبشة واليمن بواسطة كونهم أهل مكّة وصاحبي بيت الله فليعبدوا ربّه قيل : كان هاشم يألف الى الشّام وعبد شمس الى الحبشة ، والمطلّب الى اليمن ، ونوفل الى فارس ، وكان تجّار قريش يختلفون الى هذه الأمصار بسبب هذه الأخوّة وألفتهم لملوك تلك النّواحى ، وقيل : انّما كانت قريش تعيش بالتّجارة وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة ، رحلة في الشّتاء الى اليمن لانّها بلاد حامية ، ورحلة في الصّيف الى الشّام لانّها باردة ، فلمّا قصد أصحاب الفيل مكّة اهلكهم الله لتألّف قريش هاتين الرّحلتين وكانت لا يتعرّض لهم أحد بسوء وكانوا يقولون : قريش سكّان حرم الله وولاة بيته ، ويجوز ان يكون اللّام للتّعجّب والعامل محذوفا (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أخرجهم بالاطعام من جوع (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

سورة الماعون

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، وقيل : بعضها مكّىّ ، وبعضها مدنىّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قرئ أرأيت على الأصل ، وأريت بلا همز وأ رايتك بكاف الخطاب أو الخطاب خاصّ بمحمّد (ص) أو عامّ ، وتكذيب الدّين للجهل المركّب الّذى هو داء عياء وهو أصل جميع الشّرور يعنى أرأيت يا محمّد (ص) الّذى جمع بين رذائل القوى الثّلاث العلّامة والسّبعيّة والبهيميّة ، ولمّا كان الجهل أصل جملة الشّرور عطف على تكذيب الدّين الرّذائل الاخر بالفاء فقال (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُ) اى يدفع (الْيَتِيمَ)


بعنف ، قيل : نزلت في العاص بن وائل ، وقيل : في الوليد بن المغيرة ، وقيل : في ابى سفيان كان ينحر في كلّ أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه ، وقيل : نزلت في رجل من المنافقين ، وقيل : نزلت في ابى جهل كان وصيّا ليتيم فأتاه عريانا وسأله اللّباس عن مال نفسه فضربه ودفع اليتيم وضربه رذيلة الغضبيّة بل اردأ رذائلها لانّ تحقير الحقير الضّعيف ومن شأنه ان يرحم عليه وضربه ودفعه والاستكبار عليه اردأ من الاستكبار على القوىّ المنيع (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) وهو رذيلة الشّهويّة لانّ عدم الحضّ على طعام المسكين من حبّ المال (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) اى لهم ولذلك عطف بالفاء لكنّه أتى بالظّاهر مقام المضمر للاشعار بانّهم ان صلّوا لم يكن صلوتهم صلوة بل كانت وبالا عليهم ومعصية (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أضاف الصّلوة إليهم للاشعار بانّ لكلّ إنسان صلوة خاصّة به يكون تلك الصّلوة القالبيّة تذكرة لها ، والمصلّى بالصّلوة القالبيّة لا بدّ وان يكون متذكّرا لصلوته الخاصّة به والّا كان مستحقّا بصلوته للويل الّذى ليس الّا للكفّار والصّلوة المخصوصة بكلّ إنسان ، امّا ولايته التّكوينيّة أو التّكليفيّة أو ذكره المأخوذ من ولىّ امره أو صورة ولىّ امره الّتى دخلت في قلبه مختفية فيه أو ظاهرة ، أو التّوجّه الى الله ، ويجوز ان يكون المعنى ويل للمصلّين الّذين يتهاونون بصلوتهم القالبيّة بعدم حفظ حدودها أو بعدم حفظ مواقيتها ، أو بتأخيرها من اوّل أوقاتها ولكن قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) ، النّاس ، يؤيّد المعاني الاول ، فانّ المرائى يأتى بها ويتمّ حدودها ويحفظ أوقاتها والّا لم يتأتّ له المراياة ، وهذه من رذائل العلّامة والشّهويّة (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الماعون المعروف والماء وكلّ ما انتفعت به أو كلّ ما يستعار ، والزّكاة ، وهذه من رذائل العلّامة والشّهويّة (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الماعون المعروف والماء وكلّ ما انتفعت به أو كلّ ما يستعار ، والزّكاة ، وهذه من رذائل الشّهويّة ، عن الصّادق (ع): هو القرض تقرضه والمعروف تصنعه ، ومتاع البيت تعيره ، ومنه الزّكاة ، قيل : انّ لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه وأفسدوه فعلينا جناح ان نمنعهم؟ ـ فقال : ليس عليكم جناح ان تمنعوهم إذا كانوا كذلك.

سورة الكوثر

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قد فسّر الكوثر بنهر في الجنّة وهو حوض النّبىّ (ص) عليه آنية عدد نجوم السّماء يذود (١) محمّد (ص) وعلىّ (ع) عنه أعداءهما ويسقيان شيعة علىّ (ع) عنه ، والكوثر في اللّغة الكثير من كلّ شيء والكثير الملتفّ من الغبار ، والإسلام ، والنّبوّة ، والرّجل الخيّر المعطاء كالكثير مثل الصّقيل ، والسّيّد ، ومطلق النّهر ونهر في الجنّة يتفجّر منه جميع أنهارها.

اعلم ، انّ الولاية هي الكوثر بأكثر معانيه وهي الّتى أعطاها بتمام حقيقتها محمّدا (ص) وبسببها أعطاه النّبوّة والرّسالة والعلم والحكم والاتباع الكثير والأولاد الكثيرين والقرآن ودين الإسلام والصّيت والسّلطنة والخير الكثير في الدّنيا والآخرة ، وهي الّتى تكون بصورة النّهر والحوض في الآخرة وهي الّتى تصوّرت بصورة علىّ (ع) في الدّنيا ، وقد أعطاه الله محمّدا (ص) ومنّ به عليه (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) اى إذا كان الله أعطاك الكوثر فتوجّه وتضرّع عليه وادعه شكرا لهذه النّعمة ، أو صلّ الغداة من العيد بجمع (وَانْحَرْ) بمنى ، أو صلّ صلوة العيد وانحر اضحيّتك ، قيل : كان

__________________

(١) ذاده ، ذودا دفعه وطرده.


ينحر النّبىّ (ص) قبل ان يصلّى فامر ان يصلّى ثمّ ينحر ، وقيل : كان أقوام يصلّون لغير الله وينحرون لغير الله فأمره ان يصلّى لله وينحر لله ، وقيل : صلّ الصّلوة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك فانّه يقول العرب : منازلنا تتناحر يعنى بعضها يستقبل بعضا ، وفي خبر قال ابو عبد الله (ع) في قوله : فصلّ لربّك وانحر هو رفع يديك حذاء وجهك ، وفي خبر قال النّبىّ (ص) لجبرئيل : ما هذه النّحيرة الّتى أمرني بها ربّى؟ ـ قال : ليست بنحيرة ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصّلوة ان ترفع يديك إذا كبّرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الرّكوع ، وإذا سجدت ؛ فانّه صلوتنا وصلوة الملائكة في السّماوات السّبع (إِنَّ شانِئَكَ) اى مبغضك (هُوَ الْأَبْتَرُ) اى المنقطع عن الخير أو عن الولد أو عن الصّيت في النّاس أو عن الدّين ، قيل : انّ العاص بن وائل التقى رسول الله (ص) عند باب المسجد وتحدّثا وأناس من قريش جلوس في المسجد فلمّا دخل العاص قالوا : من الّذى كنت تتحدّث معه؟ ـ قال : ذلك الأبتر فسمّاه أبتر لانّه كان له ولد اسمه عبد الله وكان من خديجة فمات ولم يكن له ابن غيره ، وكانوا يسمّون من لم يكن له ولد أبتر.

سورة الكافرون

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ستّ ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) روى انّ نفرا من قريش اعترضوا لرسول الله (ص) فقالوا : يا محمّد (ص) هلمّ نعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشرك نحن وأنت في الأمر؟ فقال : معاذ الله ان أشرك به غيره ، قالوا : فاستلم بعض الهتنا نصدّقك ونعبد إلهك ، فقال : حتّى انظر ، فنزلت السّورة فأيس قريش من محمّد (ص) وتصديقه ، وقد مضى في الفصل السّادس من فصول اوّل الكتاب انّ القارى ينبغي ان يجاهد حتّى يشاهد أو يتّحد مع خلفاء الله أو مع فعل الله فيصير لسانه لسان الله أو لسان خلفائه ، فيصير حين قراءة أمثال هذه السّورة عن مخاطبات الله آمرا من الله بل يصير امره امر الله ؛ فاعلم انّ الإنسان لكونه مختصرا من جميع العوالم وفيه لطائف جميع العوالم ولطائف جميع مقامات الأنبياء والأولياء (ع) ينبغي ان يجاهد وقت قراءته حتّى يصير لسانه لسان الله أو لسان وسائط الوحي ويصير سمعه سمع اللّطيفة النّبويّة فاذا قال : قل ، يصير ذلك القول امرا من الله باللّسان المنسوب الى الله أو الى الملك المبلّغ من الله ويصير المستمع لطيفته النّبويّة فيتمثّل الأمر ويخاطب كفّار وجوده من القوى البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة بعد إبائهم عن اتّباعه وإصرارهم على كفرهم وعبادتهم أصنامهم الّتى هي اهويتهم وبعد دعوتهم نبيّهم الّذى هو لطيفته النّبويّة الى موافقتهم فيقول : يا ايّها الكافرون (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) اى لا اعبد في المستقبل لانّ لا لا تستعمل في الحال (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) في المستقبل فانّ الصّيغة وان كانت مشتركة بين الازمنة الثّلاثة لكنّها مخصّصة بالاستقبال بقرينة ما قبلها (ما أَعْبُدُ) في الحال أو في الحال والاستقبال (وَلا أَنا عابِدٌ) في الماضي بقرينة ما بعده ، أو في الماضي والحال أو مطلقا (ما عَبَدْتُّمْ) في الماضي (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وأشار بتغيير الصّيغة في جانب الكفّار الى انّهم كانوا عابدين لاهويتهم بعبادة الأصنام واهويتهم غير ثابتة بل هي متغيّرة متبدّلة فكان معبودهم في الأمس غير معبودهم في الحال والمستقبل ، وبتوافق الصّيغة في جانب محمّد (ص) الى انّ معبوده كان في الماضي والحال والآتي واحدا غير متعدّد ولا مختلف ولا يحصل تلك


اللّطيفة الّا بالتّكرار ، والوجه الاخر للتّكرار انّ السّورة في مقام التّبرّى وإظهار السّخط والمغايرة ، والتّكرار مناسب لهذا المقام ، ويجوز ان يكون لفظة ما مصدريّة في المواضع الاربعة أو في الموضعين الأخيرين ، والإتيان بما في قوله تعالى : ما اعبد ، على تقدير كون ما موصولة دون من للمشاكلة لقوله : ما تعبدون ولانّ المناسب لمقام التّبرّى والسّخط والمحاجّة الإتيان باللّفظ العامّ دون الخاصّ وليطابق اعتقادهم لتصوّرهم انّ ربّ السّماوات والأرض يكون مثل أربابهم ، نقل انّه سأل ابو شاكر الدّيصانىّ أبا جعفر الأحول عن وجه التّكرار وقال : هل يتكلّم الحكيم بمثل هذا القول ويكرّر مرّة بعد مرّة؟! فلم يكن عند الأحول في ذلك جواب فدخل المدينة فسأل الصّادق (ع) عن ذلك فقال : كان سبب نزولها وتكرارها انّ قريشا قالت لرسول الله (ص) تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة ؛ فأجابهم الله بمثل ما قالوا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ليس هذه متاركة وإباحة حتّى يقال : انّها منسوخة بآية القتال بل هي أيضا تهديد بليغ لهم مثل قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

سورة النّصر

مدنيّة : ثلاث ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قيل هذه آخرة سورة نزلت عليه (ص) كما ان (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) كانت اولى سورة نزلت عليه ، وقيل : نزلت في حجّة الوداع بمنى ، وقيل : عاش (ص) بعدها سنتين ، وقيل : مات من سنته ، وقال (ص) بعد نزول السّورة : نعيت الىّ نفسي ، وروى انّه بكى العبّاس بعد نزولها فقال : ما يبكيك يا عمّ؟ ـ قال : نعيت إليك نفسك ، قال : انّه لكما تقول ، واستفادة نعى نفسه (ص) من السّورة تكون من القرائن المنضمة والحاليّة الّتى تكون بين المتخاطبين وان لم يكن في اللّفظ ما يدلّ صريحا عليه ، واعلم انّ النّصر والفتح يطلقان بمعناهما المصدرىّ ويراد بهما النّصرة على الأعداء وفتح البلاد ، واستعمال المجيء فيهما من باب الاستعارة وتشبيه النّصرة والفتح بالجائى ، ويطلقان على نصرة الإنسان على أعدائه الباطنة وعلى فتح باب القلب ، ويطلقان على معنى حقيقىّ هو الملك النّازل على صدر النّبىّ (ص) ، وصورة ولىّ الأمر النّازلة على صدر السّالك ، وكما تكون نصرا من الله على الأعداء الظّاهرة والباطنة تكون فتحا من الله ، وبها تكون الفتح الظّاهر والباطن ويطلقان على النّصر المطلق الّذى لا نصر بعده وهو النّصر في الخروج من جميع قيود الإمكان ، والفتح المطلق الّذى هو فتح الغيب المطلق وهو الخروج من مقام الإمكان والعروج من مقام الواحديّة الى الاحديّة وهو مقام القدس والتّقديس ، ولمّا كان النّصر مضافا الى الله والفتح مطلقا كان المراد هذا النّصر وذلك الفتح وقد يستنبط نعى نفسه (ص) من هذا فانّ النّصر المطلق والفتح بهذا المعنى قلمّا يكون بدون وقت الارتحال (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) لمّا فتح الله تعالى مكّة صار جميع الاعراب في الأطراف ذليلا منقادا لمحمّد (ص) وكانوا يدخلون في الإسلام من دون مقاتلة ودعوة ، والدّين كما يطلق على الملّة وعلى الولاية الّتى هي الطّريق الى الله بحسب التّكليف والاختيار يطلق على مطلق الطّريق الى الله تكوينا أو تكليفا لذوي الشّعور أو غير ذوي الشّعور ، وإذا ارتفع القيود والحدود عن نظر الكامل يرى الكلّ داخلين في دين الله يعنى في طريق السّلوك الى الله بل يرى الكلّ عقلاء علماء عرفاء ساعين الى الله والى مظاهره اللّطفيّة والقهريّة ولا يرى شيئا من الموجودات


خارجا من دين الله فانّه إذا جاء الفتح المطلق للسّالك يرى جميع الحدود والتّعيّنات مرتفعة كما قيل :

صورت خود را شكستى سوختى

صورت كلّ را شكست آموختى

وإذا انقلب البصر ورأى السّالك ذلك كان زمان ارتحاله الكلّىّ ونقلته العظمى قريبا فيستنبط من هذا أيضا نعى نفسه (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) اى نزّه ربّك أو لطيفتك الانسانيّة عمّا لا يليق بشأنه تعالى وشأنها وليكن تنزيهك بالجمع بين صفات الجلال والجمال ولا تكن كموسى (ع) ناظرا الى المظاهر ولا كعيسى (ع) ناظرا الى الظّاهر ، وكن ناظرا الى المظاهر والظّاهر من دون رجحان أحد النّظرين الى الآخر ، فانّ هذا معنى التّسبيح بالحمد يعنى إذا جاء نصر الله المطلق والفتح المطلق بحيث ترى الكلّ يدخلون في دين الله أفواجا فجاهد حتّى لا يختفى الكثرات عن نظرك ولا تشتغل بالتّوحيد عن حضورك ، والكلّ جنودك بل تكون جامعا بين الوحدة والكثرة والحقّ والخلق (وَاسْتَغْفِرْهُ) واطلب منه ستر الحدود حتّى لا يغلب رؤية الحدود على رؤية الحقّ الاوّل تعالى في المظاهر (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) كثير المراجعة على العباد ، أو استغفره لجنودك ما ترى عليهم من الحدود والنّقائص انّه كان توّابا على جميع خلقه.

سورة تبّت

مكّيّة خمس ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) تبّ تبّا وتببا وتبابا وتبيبا نقص وخسر ، وتبّ الشّيء قطعه ، ونسبة التّبّ الى يديه لأجل قطعه حياته الابديّة ووصلته الاخرويّة بيديه ، ولكون اعماله الّتى هي سبب الخسران والهلاك ظاهرة على يديه في الأغلب ، والجملة الاولى دعائيّة والثّانية خبريّة أو كلتاهما دعائيّة أو خبريّة ، ويكون الاولى بالنّسبة الى الدّنيا والاخرى بالنّسبة الى الآخرة ، أو بملاحظة انّ الاولى بالنّسبة الى نفسه والثّانية بالنّسبة الى الإغناء بالمال ، وابو لهب هذا عمّ رسول الله (ص) واسمه عبد العزّى وكنّوه بتلك الكنية لبريق وجنتيه ، وأتى بكنيته دون اسمه لمراعاة الجناس مع قوله : ذات لهب ، وكان شديد المعاداة لمحمّد (ص) : قيل : رأيت في سوق ذي المجاز شابّا يقول : ايّها النّاس قولوا : لا اله الّا الله تفلحوا ، وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه ، ويقول : ايّها النّاس انّه كذّاب فلا تصدّقوه ، فقلت : من هذا؟ ـ فقالوا : هو محمّد (ص) يزعم انّه نبىّ وهذا عمّه ابو لهب : يزعم انّه كذّاب (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) لفظة ما موصولة وهي فاعل تبّ اى تبّ الإغناء الّذى اغنى عنه ماله أو مصدريّة وهي مع صلتها فاعل تبّ ، أو فاعل تبّ ابو لهب ، وما نافية والجملة خبريّة أو دعائيّة أو لفظة ما استفهاميّة (وَما كَسَبَ) ما موصولة أو مصدريّة أو نافية أو استفهاميّة ومعطوفة على ما اغنى أو مصدريّة أو موصولة ومعطوفة على ماله والمقصود ممّا كسب ما كسبه بما له من الأرباح والعرض والجاه والخدم والحشم ، أو المقصود ممّا كسب أولاده ، أو المجموع ، وهذا اخبار منه (ص) بما سيقع وقد وقع الأمر كما أخبر فانّه لمّا أنذره النّبىّ (ص) بالنّار قال : ان كان ما تقول حقّا افتد بمالي وولدي ، فافترسه أسد في طريق الشّام وقد احدق به العير ولم يغن عنه ماله ولا ولده ، ومات بالعدسة بعد وقعة بدر بايّام معدودة وترك ثلاثا حتّى أنتن ثمّ استأجروا بعض السّودان حتّى دفنوه (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) اى سيقاسى حرّها (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ


الْحَطَبِ) قرئ حمّالة الحطب بالرّفع وحينئذ يجوز ان يكون امرأته عطفا على المستتر في يصلى وان يكون عطفا على ما اغنى على ان يكون فاعل تبّ أو على يدا ابى لهب ويكون حمّالة الحطب على التّقادير خبر مبتدء محذوف أو صفة لامرأته إذا جعل معرفة بالاضافة ، ويجوز ان يكون امرأته مبتدء وحمّالة الحطب خبره أو صفته ، والجملة معطوفة على واحدة من الجمل السّابقة ، وقرئ حمّالة الحطب بالنّصب حالا أو مفعولا لمحذوف أو منصوبا على الاختصاص ، وامرأته على الوجوه السّابقة الّا انّه إذا كان مبتدء ويكون خبره بعده وسمّيت حمّالة الحطب لانّها كانت تحمل الأوزار الّتى هي وقود جهنّم بمعاداة الرّسول (ص) ، أو تحمل النّاس وتحمل زوجها على معاداة الرّسول وتجرّهم الى جهنّم بالصّدّ عن رسول الله (ص) والحمل على معاداته ، أو لانّها كانت تمشي بالنّميمة بين النّاس فيوقد نار العداوة بينهم وتسمّى النّميمة حطبا لذلك ، أو لانّها كانت تحمل حزمة الشّوك والخسك فتنشرها في طريق الرّسول (ص) (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) المسد بالسّكون الفتل ، وبالتّحريك المحور من حديد ، وحبل من ليف أو ليف المقل أو من اىّ شيء كان ، أو المفتول المحكم الفتل من اىّ شيء كان ، وقيل : هو حبل يكون له خشونة اللّيف وحرارة النّار وثقل الحديد يجعل في عنقها زيادة في عذابها ، وقيل : في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها وتخرج من دبرها وتدار على عنقها في النّار ، وقيل : كانت قلادة في عنقها فاخرة من الجواهر فقالت : لانفقنّها في عداوة محمّد (ص) فيكون عذابا لها يوم القيامة ، وزوجة ابى لهب كانت بنت حرب وأخت ابى سفيان وكنيتها امّ جميل ولقبها العوراء ، ولمّا نزلت السّورة أقبلت ولها ولولة وهي تذمّ رسول الله (ص) فقال ابو بكر : يا رسول الله (ص) قد أقبلت امّ جميل وانّى أخاف عليك ، فقال رسول الله (ص): انّها لا تراني فجاءت ورأت أبا بكر ولم تر محمّدا (ص).

سورة الإخلاص

مكّيّة ، وقيل : مدنيّة ، اربع ايات ، وقيل : خمس ايات ، سمّيت سورة الإخلاص ، لانّ من قرأها واعتقد بها صار خالصا من جميع أنواع الشّرك ، وسمّيت سورة التّوحيد لدلالتها على التّوحيد ذاتا ووصفا ، ولانّ من قرأها على ما نزلت صار موحّدا ، وسمّيت سورة الصّمد ، وسورة قل هو الله ، وسورة نسبة الرّبّ ، وسورة الولاية كما تسمّى فاتحة الكتاب بسورة النّبوّة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) نزلت السّورة حين سأل المشركون رسول الله (ص) فقالوا : انسب لنا ربّك ، أو حين أتى رجلان منهم فقالا ذلك ، أو حين جاء أناس من أحبار اليهود فسألوه ذلك ، أو حين انطلق عبد الله بن سلام اليه فسأل ذلك وقد نقل كلّ ذلك في نزوله ، وقرئ أحد الله الصّمد بالوصل وتحريك التّنوين بالكسر ، وقرئ أحد الله الصّمد بالوصل وإسقاط التّنوين تشبيها للتّنوين بحرف اللّين ، وقرئ بالوقف بإسقاط التّنوين ، وقرئ كفوا مضمومة الفاء وبالواو وقرئ كفؤا ساكنة الفاء مهموزة ، وقرئ كفوا مضمومة الفاء مهموزة.


بيان السعادة

واعلم ، انّ الأنبياء (ع) لهم حالات بالنّسبة الى الله والى عالم الغيب وتختلف مناجاتهم لله ومخاطبات الله لهم ومخاطباتهم للخلق بحسب اختلاف أحوالهم ، فانّه إذا انسلخ النّبىّ (ص) من جميع ماله من نسبة الأفعال والأوصاف والذّات ولم يبق في وجوده الّا فاعليّة الله تعالى يكون مخاطبات الله له بلسانه الّذى صار لسان الله فيصير كلام الله كلاما الهيّا بشريّا ويسمّى حديثا قدسيّا ، وإذا تنزّل عن ذلك المقام باقيا ببقاء الله متوجّها الى كثرات وجوده وهذا التّوجّه والالتفات يسمّى بالنّبوّة أو خلافة النّبوّة ، أو متوجّها الى كثرات العالم وهذا التّوجّه يسمّى بالرّسالة أو خلافة الرّسالة ، فكلّما تلقّى من الله بطريق القذف والإلهام وكلّما شاهد في عالم المثال في هذه الحال أو قبل النّزول الى ذلك المقام وكلّما وجد انموذجة من مدركاته وكلّما القى اليه الملك من العلم والحكم لا بنحو الوساطة من الله كان حديثا نبويّا ، وإذا تنزّل الى مقام البشريّة فكلّما تكلّم به من حيث تدبير الحياة الدّنيويّة من غير إظهار لحاظ الجهة الالهيّة يكون كلاما بشريّا ، وإذا كان خطاب الله في تلك الأحوال بتوسّط الملك المرسل من الله لتبليغ خطابه كان كلاما الهيّا وكتابا سماويّا ، فان كان النّبىّ (ص) في مقام الانسلاخ كان الخطاب من مقام الغيب واحديّة الذّات ، وان كان في مقام النّبوّة والرّسالة كان الخطاب من مقام الظّهور والواحديّة وهو مقام الولاية ، وكان الكلام في المقام الاوّل مشتملا على التّنزيه ونفى النّسب والإضافات ، وفي المقام الثّانى مشتملا على الإضافات واحكام الكثرات : ولذلك سمّيت السّورة بسورة التّوحيد ، وسورة الإخلاص ، وسورة الولاية ، لانّ المخاطب بها خوطب بها حين خلوصه من شوب الكثرات وحصول مقام الوحدة له وظهوره بشأن الولاية ، وسمّيت الفاتحة بسورة النّبوّة لانّ المخاطب بها خوطب بها حين ظهوره بشأن النّبوّة فقوله تعالى : قل هو الله أحد خطاب من مقام الاحديّة ولذلك أتى باسمه الخالص من شوب الصّفات اوّلا وهو لفظ هو بخلاف قوله تعالى : قل أعوذ بربّ الفلق ، وقل أعوذ بربّ النّاس ، وأمثال هذين.

اعراب سورة الإخلاص

واعراب السّورة المباركة بحسب الوجوه المحتملة كثيرة : فأقول ، لفظ هو ضمير الشّأن أو ضمير يشاربه الى مقام الغيب لتعيّنه في الأذهان أو ادّعاء تعيّنه أو هو علم واسم لمقام الغيب ، وعلى الأخيرين فالله بدل منه أو عطف بيان أو خبر أو مبتدء ثان ، واحد خبره والجملة خبر هو واكتفى عن العائد بتكرار المبتدء بالمعنى ، وأحد خبر أو خبر بعد خبر والله الصّمد مبتدء وخبر ، أو صفة وموصوف وخبر بعد خبر أو مبتدء وخبره لم يلد ، وعلى تقدير كونه مبتدء فالجملة خبر بعد خبر أو حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال عن حاله تعالى في نفسه أو عن علّة الحكم ولم يلد خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو مستأنفة جواب لسؤال عن حاله تعالى مع غيره أو عن علّة الحكم ، وإذا كان هو ضمير الشّأن فالله أحد خبره والله الصّمد مبتدء وخبر وخبر بعد خبر لهو أو خبر بعد خبر لله أو حال أو مستأنفة في مقام السّؤال عن الحال أو عن علّة الحكم أو الله الصّمد موصوف وصفة وخبر بعد خبر لله ، أو مبتدء ولم يلد خبره والجملة خبر بعد خبر لهو أو لله أو حال أو مستأنفة.

معنى الأحد

واحد يقال بمعنى الواحد سواء جعل مهموزا في الأصل أو واويّا ويوم من الايّام ، ويقال للأمر المتفاقم احدىّ الأحد ، ويقال : فلان أحد الاحدين وواحد الاحدين وواحد الآحاد واحدىّ الأحد لا مثل له ، وقد يستعمل الأحد خاصّا بالله والوجه انّ في الأحد مبالغة في الوحدة والبالغ في الوحدة ان لا يكون فيه شوب كثرة بوجه من الوجوه لا كثرة العدد ولا كثرة الاجزاء المقداريّة ولا كثرة الاجزاء الخارجيّة من المادّة والصّورة ولا كثرة الاجزاء العقليّة من الجنس والفصل أو من المهيّة والوجود ، وبهذا المعنى لا يوصف به الّا الله ، ولهذه المبالغة خصّص الأحد في اصطلاحهم بمقام الغيب الّذى ليس فيه كثرة ولا لحاظ كثرة وقالوا : الأحد اسم لمقام الغيب الّذى


لا اسم له ولا رسم ولا صفة له ولا خبر عنه ، والواحد اسم لمقام ظهوره تعالى بأسمائه وصفاته ففي مقام الواحديّة هو متكثّر بكثرة الأسماء والصّفات بحيث لا ينثلم وحدته بها ، وفي مقام الاحديّة لا كثرة فيه لا في الواقع ولا في العقل ولا في الاعتبار.

معنى الصّمد

والصّمد بالتّحريك السّيّد لانّ الصّمد بالسّكون بمعنى القصد والسّيّد من شأنه ان يقصد ، والدّائم والرّفيع والمصمت الّذى لا جوف له ، والرّجل الّذى لا يعطش ولا يجوع في الحرب ، خاطب الله سبحانه نبيّه (ص) في مقام انسلاخه عن جميع الكثرات وجميع الاعتبارات بقوله : قل يا محمّد (ص) في ذلك المقام مشيرا الى الذّات بدون اعتبار صفة من الصّفات.

تفسير السّورة

هو ، فانّ لفظ هو اسم له تعالى مجرّدا عن جميع الاعتبارات حتّى عن اعتبار التّعيّن ، الله يعنى انّ الذّات المجرّدة عن اعتبار الصّفات عين الذّات المعتبرة باعتبار جميع الأسماء والصّفات لا مغايرة بينهما الّا بالاعتبار ، فانّ الله اسم للذّات باعتبار جملة الصّفات ولذلك قيل : انّه امام الائمّة وقد مضى بيان لفظ الله في اوّل الفاتحة ، أحد يعنى انّه في عين استجماعه لجملة الصّفات منزّه عن جميع الكثرات لا يشوبه كثرة من كثرة الصّفات ، الله الصّمد اى السّيّد المصمود الّذى يصمده كلّ موجود وانتهى سؤدده ومصموديّته فانّه يستفاد الانتهاء في ذلك من الحصر المستفاد من تعريف المسند ، والدّائم الّذى لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ، والمرتفع الّذى لا رفيع فوقه ، والقائم بنفسه الغنىّ عن غيره ، لم يلد بانفصال شيء منه سواء كان المنفصل ولدا مماثلا له أو شيئا غير مماثل له فانّه لا مباين له حتّى يكون منفصلا منه أو غير منفصل ، ولم يولد ولم ينفصل هو من شيء من الأشياء فانّه لا شيء غيره حتّى يكون هو منفصلا منه ومباينا له ، ولم يكن له كفوا أحد تقديم الظّرف لشرافته ، وتقديم الخبر للاهتمام بنفي الكفاءة ولمراعاة رؤس الآي ، وقد ورد في بعض الاخبار ما يدلّ على اعتبار الحروف في الأسماء ، وما يدلّ على انّ دلالة الأسماء على المسميّات ليست بمحض المواضعة بل يعتبر المناسبات الذّاتيّة بين الأسماء وحروفها وبين المسميّات فانّه ورد عن الباقر (ع) انّه قال : قل اى أظهر ما أوحينا إليك ونبّأناك به لتأليف الحروف الّتى قرأناها لك ليهتدى بها من القى السّمع وهو شهيد ، وهو اسم مكنّى مشار به الى غائب ، فالهاء تنبيه على معنى ثابت ، والواو اشارة الى الغائب عن الحواسّ كما انّ قولك هذا اشارة الى الشّاهد عند الحواسّ وذلك انّ الكفّار نبّهوا عن الهتهم بحرف اشارة الشّاهد المدرك ، فقالوا : هذه الهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار فأشر أنت يا محمّد (ص) الى إلهك الّذى تدعو اليه حتّى نراه وندركه ولا نأله فيه ، فأنزل الله تبارك وتعالى : قل هو فالهاء تثبيت للثّابت ، والواو اشارة الى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواسّ وانّه تعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواسّ ، قال (ع): الله معناه المعبود الّذى أله الخلق عن درك مائيّته والاحاطة بكيفيّته ، ويقول العرب : أله الرّجل إذا تحيّر في الشّيء فلم يحط به علما ، ووله إذا فزع الى شيء ممّا يحذره ويخافه ، والإله هو المستور عن حواسّ الخلق ، قال (ع): الأحد الفرد المتفرّد ، والأحد والواحد بمعنى واحد وهو المتفرّد الّذى لا نظير له ، والتّوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد ، والواحد المتباين الّذى لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء ومن ثمّ قالوا : انّ بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد لانّ العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين فمعنى قوله : الله أحد اى المعبود الّذى يأله الخلق عن إدراكه والاحاطة بكيفيّته فرد بالهيّته متعال عن صفات خلقه ، قال (ع): وحدّثنى ابى زين العابدين (ع) عن أبيه الحسين بن علىّ (ع) انّه قال : الصّمد الّذى لا جوف له والصّمد الّذى قد انتهى سؤدده ، والصّمد الّذى لا يأكل ولا يشرب ، والصّمد الّذى لا ينام ، والصّمد الدّائم الّذى لم يزل ولا يزال ، قال (ع): كان محمّد بن الحنفيّة يقول : الصّمد القائم بنفسه والغنىّ عن غيره ، وقال غيره : الصّمد المتعالي عن الكون والفساد ، والصّمد الّذى لا يوصف بالتّغاير قال (ع): الصّمد السّيّد المطاع


الّذى ليس فوقه آمر ولا ناه ، قال (ع): وسئل علىّ بن الحسين (ع) عن الصّمد فقال : الصّمد الّذى لا شريك له ولا يؤده حفظ شيء ولا يعزب عنه شيء ، وروى عن زيد بن علىّ (ع) انّه قال : الصّمد الّذى إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون ، والصّمد الّذى أبدع الأشياء فخلقها اضدادا واشكالا وأزواجا ، وتفرّد بالوحدة بلا ضدّ ولا شكل ولا مثل ولا ندّ ، وعن الصّادق (ع) عن أبيه (ع) انّ أهل البصرة كتبوا الى الحسين بن علىّ (ع) يسألونه عن الصّمد فقال : كتب إليهم بسم الله الرّحمن الرّحيم امّا بعد فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلّموا فيه بغير علم فقد سمعت جدّى رسول الله (ص) يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النّار ، وانّ الله سبحانه قد فسّر الصّمد فقال الله : قل هو الله أحد الله الصّمد ثمّ فسّره فقال : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، لم يلد يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة الّتى تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنّفس ولا تنشعب منه البدوات كالسّنة والنّوم والخطرة والهمّ والحزن والضّحك والبكاء والخوف والرّجاء والرّغبة والسّأمة والجوع والشّبع ، تعالى عن ان يخرج منه شيء وان يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف ، ولم يولد ولم يتولّد من شيء ولم يخرج من شيء كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشّيء من الشّيء والدّابّة من الدّابّة والنّبات من الأرض والماء من الينابيع والثّمار من الأشجار ، ولا كما يخرج الأشياء اللّطيفة من مراكزها كالبصر من العين والسّمع من الاذن ، والشّمّ من الأنف ، والذّوق من الفم ، والكلام من اللّسان ، والمعرفة والتّميز من القلب ، وكالنّار من الحجر ، لا بل هو الله الصّمد الّذى لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء مبدء الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم الله الصّمد الّذى لم يلد ولم يولد عالم الغيب والشّهادة الكبير المتعال ، ولم يكن له كفوا أحد ، وعن الصّادق (ع) انّه قدم وفد من فلسطين على الباقر (ع) فسألوه من مسائل ، فأجابهم ، ثمّ سألوه عن الصّمد فقال : تفسيره فيه ، الصّمد خمسة أحرف ، فالالف دليل على انيّته وهو قوله عزوجل : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وذلك تنبيه واشارة الى الغائب عن درك الحواسّ ، واللّام دليل على الهيّته بانّه هو الله ، والالف واللّام مدغمان ولا يظهر ان على اللّسان ولا يقعان في السّمع ويظهر ان في الكتابة دليلان على انّ الهيّته بلطفه خافية لا تدرك بالحواسّ ولا تقع في لسان واصف ولا اذن سامع لانّ تفسير الإله هو الّذى أله الخلق عن درك مائيّته وكيفيّته بحسّ أو بوهم لا بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواسّ وانّما يظهر ذلك عند الكتابة فهو دليل على انّ الله تعالى أظهر ربوبيّته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللّطيفة في أجسادهم الكثيفة فاذا نظر عبد الى نفسه لم ير روحه كما انّ لام الصّمد لا يتبيّن ولا يدخل في حاسّة من حواسّه الخمس فاذا نظر الى الكتابة ظهر له ما خفي ولطف ، فمتى تفكّر العبد في مائيّة الباري وكيفيّته أله فيه وتحيّر ولم تحط فكرته بشيء يتصوّر له لانّه عزوجل خالق الصّور فاذا نظر الى خلقه ثبت له انّه عزوجل خالقهم ومركّب أرواحهم في أجسادهم ، وامّا الصّاد فدليل على انّه عزوجل صادق ، وقوله صدق ، وكلامه صدق ، ودعا عباده الى اتّباعه الصّدق بالصّدق ، ووعد بالصّدق دار الصّدق ، وامّا الميم فدليل على ملكه وانّه الملك الحقّ لم يزل ولا يزول ملكه ، وامّا الدّال فدليل على دوام ملكه وانّه عزوجل دائم تعالى عن الكون والزّوال بل هو عزوجل مكوّن الكائنات الّذى كان بتكوينه كلّ كائن ثمّ قال (ع) : لو وجدت لعلمي الّذى أتاني الله عزوجل حملة لنشرت التّوحيد والإسلام والايمان والدّين والشّرائع من الصّمد وكيف لي بذلك ولم يجد جدّى أمير المؤمنين (ع) حملة لعلمه حتّى كان يتنفّس الصّعداء ويقول على المنبر: سلوني قبل ان تفقدوني ، فانّ بين الجوانح منّى علما جمّا هاه هاه الا لا أجد من يحمله ألا وإنّي عليكم من الله الحجّة البالغة ف (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) ، وعن الصّادق (ع) انّه سأله سائل عن التّوحيد فقال : انّ الله عزوجل علم انّه يكون في آخر الزّمان أقوام متعمّقون فأنزل الله


قل هو الله أحد والآيات من سورة الحديد الى قوله : عليم بذات الصّدور فمن رام وراء ذلك فقد هلك ، والمراد بالآيات من سورة الحديد آيات اوّلها الى قوله عليم بذات الصّدور فانّ الله تعالى أدرج فيها دقائق التّوحيد الّذى لا يصل إليها ادراك المتعمّقين في التّوحيد فكيف بغيرهم!. وسئل الرّضا (ع) عن التّوحيد فقال : كلّ من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التّوحيد ، قيل : كيف يقرؤها؟ ـ قال : كما يقرؤها النّاس وزاد فيها كذلك الله ربّى مرّتين ، ولمّا كان السّورة مشتملة على توحيده تعالى وإضافاته وكان القارى كأنّه يقرأ بلسان الله ويأمر بلسان الله نفسه بالتّوحيد وبكيفيّة إضافاته ورد عنهم بعد تمامه : كذلك الله ربّى ، مرّتين ، اشارة الى امتثال امره وإقرارا بتوحيده وإضافاته ، ولمّا كان السّورة مشتملة على توحيده وإضافاته وسلوبه روى عن الفضيل بن يسار ، انّ أبا جعفر أمرني ان اقرأ قل هو الله أحد وأقول إذا فرغت منها : كذلك الله ربّى ، ثلاثا ، اشارة الى الامتثال بالإقرار بالتّوحيد وإضافاته وسلوبه ، ولمّا كان العلوم ثلاثة بمضمون ما ورد عن النّبىّ (ص) من قوله : انّما العلم ثلاثة ؛ آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة ، وتمام القرآن لبيان هذه الثّلاثة ، وهذه السّورة مشتملة بايجازها على تمام الآيات المحكمات ورد عنهم : انّ من قرأها كان كمن قرء ثلث القرآن ، والوجه الآخر في ذلك انّ السّالك الى الله لا يحصل له السّلوك الّا بالجذب والانسلاخ من الكثرات وبالتّوجّه الى الكثرات ، والتّوجّه الى الكثرات امّا لمرمّة المعاش أو تزوّد المعاد ، وتمام القرآن لبيان كيفيّة هذه الثّلاثة والسّورة المباركة في مقام الجذب والانسلاخ ، والوجه الآخر انّ القرآن لاثبات الرّبّ وتوحيده وإثبات الخلق وتكثيرهم ، وإثبات الوسائط بين الرب والخلق ، والوجه الاخر ان القران لبيان اضافة الحقّ الى الخلق واضافة الخلق الى الرّبّ وبيان الوسائط بين الاضافتين ، ولمّا لم يكن يتمّ سلوك السّالك الّا بطروّ حال الجذب والانسلاخ عليه فانّه لو لم يكن للسّالك حرارة الجذب جملة ولم يتحرّك الى الله ورد عن الصّادق (ع): من مضى به يوم واحد فصلّى فيه خمس صلوات ولم يقرء فيه بقل هو الله أحد قيل له : يا عبد الله لست من المصلّين ، وليس المراد بقراءة قل هو الله لقلقة اللّسان فقط فانّها ربّما تصير وبالا على القارى ، بل المراد توفيق الحال للقال حتّى ذاق القارى ووجد في وجوده أنموذج الانسلاخ ولهذا الوجه ورد عنه (ع): من مضت له جمعة ولم يقرء بقل هو الله أحد ثمّ مات مات على دين ابى لهب لانّ أبا لهب كان فارغا من حرارة الجذب الفطرىّ ، وقد ورد في حقّ هذه السّورة فضائل كثيرة عنهم (ع) ولفضلها لا يجوز العدول عنها في الفريضة الى غيرها إذا شرع المصلّى فيها ، وإذا صلّى ولم يقرء في صلوته بقل هو الله أحد كان صلوته ناقصة كما في الاخبار ، وقد روى عن النّبىّ (ص) انّه قال : من قرأ قل هو الله أحد مرّة بورك عليه ، فان قرأها مرّتين بورك عليه وعلى اهله ، فان قرأها ثلاث مرّات بورك عليه وعلى اهله وعلى جميع جيرانه ، فان قرأها اثنتى عشره مرّة بنى له اثنا عشر قصرا في الجنّة ؛ فتقول الحفظة : انطلقوا بنا ننظر الى قصر أخينا! فان قرأها مأة مرّة كفّر عنه ذنوب خمس وعشرين سنة ما خلا الدّماء والأموال ، فان قرأها اربعماة كفّر عنه ذنوب اربعمائة سنة ، فان قرأها الف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه من الجنّة أو يرى له ، والاخبار في انّها تعدل ثلث القرآن وانّ من قرأها ثلاث مرّات الف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه من الجنّة أو يرى له ، والاخبار في انّها تعدل ثلث القرآن وانّ من قرأها ثلاث مرّات كان كمن قرأ القرآن كلّه كثيرة ، وروى انّه جاء رجل الى النّبىّ (ص) فشكا اليه الفقر وضيق المعاش فقال له رسول الله (ص) : إذا دخلت بيتك فسلّم ان كان فيه أحد وان لم يكن فيه أحد فسلّم واقرأ قل هو الله أحد مرّة واحدة ، ففعل الرّجل فأفاض الله عليه رزقا حتّى أفاض على جيرانه ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : من اصابه مرض أو شدّة فلم يقرأ في مرضه أو شدّته بقل هو الله أحد ثمّ مات في مرضه وفي تلك الشّدّة الّتى نزلت به فهو من أهل النّار ، وسبب ذلك انّ هذا المبتلى لو كان بقي فطرته الّتى بها ينجذب الى عالم الآخرة والى الله يصير مرضه وشدّته لا محالة سببا لانسلاخه وتوجّهه الى الله ، وهذا الانسلاخ هو قراءة قل هو الله قرأ أو لم يقرء ، وإذا لم ينسلخ علم انّه لم يبق فيه الفطرة فكان من أهل النّار لانّ من لم يبق


فيه فطرة الانسانيّة كان مرتدّا فطريّا غير مقبول التّوبة ، وعنه (ع) انّه قال : من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع ان يقرأ في دبر الفريضة بقل هو الله أحد فانّه من قرأها جمع له خير الدّنيا والآخرة وغفر الله له ولوالديه وما ولد ، أو وجهه يستنبط ممّا ذكرنا ، فانّ الفريضة عبارة عن التّوجّه الى الله والى الآخرة ، فاذا كان من صلّى الفريضة كما هو مأمور بها لا بدّ وان تنتهي به الى حالة الانسلاخ والدّخول في دار القلب الّتى هي دار التّوحيد وفي ذلك الانسلاخ وهذا الدّخول خير الدّنيا والآخرة وغفران الذّنوب له ولمن اتّصل به ؛ فجاهدوا إخواني حتّى يكون صلوتنا باعثة لانسلاخنا من أنفسنا واهويتها ومورثة لدخولنا في دار القلب أو توجّهنا إليها ، ولا نكون ممّن يصلّى والصّلوة تلعنه ، وعن ابى الحسن (ع) انّه يقول : من قدّم قل هو الله أحد بينه وبين كلّ جبّار منعه الله منه ، يقرأها بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، فاذا فعل ذلك رزقه الله خيره ومنعه شرّه ، وسرّ ذلك ما ذكرنا.

سورة الفلق

مدنيّة ، وقيل : مكّيّة ، خمس ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) يعنى قل يا محمّد (ص) إذا تنزّلت الى مقام بشريّتك وصرت بحال تتأثّر ممّا يرد عليك إذا لم يكن ملائما لك ويؤثّر فيك تصرّفات الخلق وسحرهم أعوذ بربّ الفلق يعنى أنشئ العوذ بهذه الكلمة أو أخبر من عوذى بهذه الكلمة حتّى تكون بذلك العوذ محفوظا من شرّ الأشرار ، والفلق محرّكة الصّبح ، أو ما انفلق من عموده ، أو الفجر ، أو الخلق كلّهم أو جهنّم أوجب فيها ، والمناسب ان يكون الاستعاذة في حال نزوله (ص) الى مقام البشريّة الى ربّ الصّبح منتظرا لطلوعه وذهاب ظلمة ليلة بشريّته (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أتى بلفظ ما دون من للتّعميم وأتى بلفظ خلق للاشارة الى انّ المبدعات والمنشآت والمخترعات العلويّة لا شرّيّة فيها ، وامّا المخترعات السّفليّة فهي داخلة في الخلق (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) الغاسق اللّيل إذا غاب الشّفق والقمر وكلّ هاجم بضرره والمعنى أعوذ من شرّ اللّيل إذا دخل لانّ كلّ ذي شرّ في الأغلب يظهر شرّه في اللّيل أكثر من النّهار ، أو من شرّ كلّ ما يهجم بشرّه ، وقيل : المعنى من شرّ الثّريّا إذا سقطت لكثرة الأسقام عند سقوطها ، وقيل : المعنى من شرّ الذّكر إذا قام ، والغسق محرّكة ظلمة اوّل اللّيل وشيء من قماش الطّعام كالزّوان (١) ونحوه ، وغسقت عينه كضرب وسمع أظلمت أو دمعت ، وغسق الجرح سال منه ماء اصفر ، وغسق اللّيل واغسق اشتدّت ظلمته (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) اى من شرّ النّفوس اللّاتى يعقدن على الشّعور والخيوط وينفثن فيها ويسحرن النّاس بها ، أو النّساء اللّاتى يفعلن ذلك (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) اى من شرّ من له قوّة الحسد إذا ظهر حسده فانّ الحسد المكمون لا يضرّ المحسود ولا يضرّ الحاسد الّا انّه نقصان في وجود الحاسد ، خصّ هذه الثّلاث بالذّكر بعد تعميم الاستعاذة من شرّ جميع ذوي الشّرور للاهتمام بالاستعاذة منها ، لانّ ضرّ هذه الثّلاث وشرّها خفىّ لا يمكن التّحرّز منها فينبغي ان يتعوّذ منها بالله العليم بالخفيّات القدير على الحفظ منها ، روى انّ لبيد بن الأعصم اليهوديّ سحر رسول الله (ص) ثمّ دسّ ذلك في بئر

__________________

(١) الزّوان بكسر المعجمة وقد تضمّ حبّ يخالط البرّ.


لبني زريق ، فمرض رسول الله (ص) فبينا هو نائم إذا أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فأخبراه بذلك وانّه في بئر كذا ، فانتبه رسول الله (ص) وبعث عليّا والزّبير وعمّارا ، فنزحوا ماء تلك البئر ثمّ رفعوا الصّخرة الّتى كانت في قعر البئر فاذا فيه مشّاطة رأس وأسنان من مشطة وإذا فيه معقد فيه اثنا عشر عقد مفروزة بالابر ، فنزلت هاتان السّورتان فجعل كلّما يقرأ آية انحلّت عقدة ووجد رسول الله (ص) خفّة فقام فكأنّما انشط من عقال ، وروى قصّة نزول السّورتين بغير هذا الطّريق مع اختلاف في اللّفظ والمعنى ، ولمّا كان المقصود من الأمر بالقراءة ان يصير القارى بحال يكون لسانه لسان الله أو لسان الملك النّازل من الله لا لسان نفسه ويصير سمعه سمع اللّطيفة النّبويّة فيصير في أمثال هذه المخاطبات آمرا من الله للطيفته النّبويّة ويجعل عالمه الصّغير أنموذجا للعالم الكبير ، جاز ان ينظر القارى حين قراءة السّورة الى عالمه واستعاذ من أهل مملكته من أعضائه وقواها ونفسه وجنودها فيقول امتثالا لأمر الله : أعوذ بربّ الفلق اى بربّ المواليد المنفلق من بدني ونفسي ، أو بربّ الصّبح المنفلق أو الفالق لظلمة ليل طبعي ونفسي من شرّ ما خلق في مملكتي من القوى البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة ، ومن الأعضاء والآلات البدنيّة أو من شرّ الاحتجاب بالخلق عن الحقّ فانّ شرّ الكلّ من أهل العالم الكبير أو الصّغير راجع الى الاحتجاب بهم عن الحقّ ، ومن شرّ غاسق اى البدن وظلماته إذا دخل ظلمته في عالم الرّوح وجعل الرّوح مظلما بظلمانيّته ، أو من شرّ امراض البدن إذا دخلت واثّرت في الرّوح ، أو من شرّ القبض أو النّفس واهويتها إذا اثّرت في الرّوح ، ومن شرّ النّفّاثات اى القوى العلّامة والعمّالة الّتى تعقد في طريق السّالك وتنفث بحيلها فيها حتّى لا يمكن للرّوح حلّها والتّجاوز عنها فانّ العلّامة الشّيطانيّة تحمل العمّالة على امر باطل لا حقيقة له فيجعله العلّامة بتمويهاتها بحيث لا يمكن الإنسان ان يتجاوز عنها ولا ان يتركها فتهوي بالانسانيّة من عالمها الى شبكة ذلك الأمر فتهلكها ، ومن شرّ حاسد من النّفس وقواها الّتى تتمنّى مداما زوال النّعمة عن الانسانيّة وعدم ترقّيها الى مقام القلب ومقام الشّهود والغنى ، وتتمنّى ان تكون الانسانيّة في الحجاب والبعد والعذاب مثلها إذا حسد الانسانيّة وألقاها في شبائكها.

سورة النّاس

مدنيّة ، ستّ ايات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) لمّا كان الله تعالى شأنه امر نبيّه (ص) بالاستعاذة من الوسواس الصّادر من شياطين الجنّ والانس ، وكان ذلك الوسواس لا يتعلّق بغير الإنسان النّاسى لذكر الله أضاف الرّبّ الى النّاس وعبّر بالنّاس للاشارة الى انّ ذلك الوسواس لا يكون الّا للنّاسى ، وربّ النّاس هو ربّ الأرباب لكن باسمه المحيط بكلّ الأسماء المسخّر لكلّ الأرباب وهو ربّ النّوع الانسانىّ ، وهو المعبّر عنه بالرّوح وهو أعظم من جبرئيل وميكائيل ولم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع محمّد (ص) ومرتبته فوق الإمكان وتحت الوجوب وهي مقام علويّة علىّ (ع) والمعنى يا محمّد (ص) أخبر عن استعاذتك بالله وانشئها بلسان قالك وبلسان حالك ، ولمّا كان استعاذتك من شرّ الوسواس وليس يظهر ذلك الّا في مظهر النّاس سواء كان بلسان النّاس أو بلسان الجنّ في صدر النّاس كان ينبغي لك الاستعاذة بربّ النّاس مخصوصا بخلاف استعاذتك في السّورة السّابقة ، ولمّا كان يظهر اوّل الأمر آثار ربوبيّته للسّالك بالتّنقيص والتّكميل والخذلان والجبران بالغفران امر نبيّه (ص) بان يعبّر عنه اوّلا بعنوان الرّبوبيّة وأبدل عنه قوله


(مَلِكِ النَّاسِ) شعارا بانّه تعالى في ثانى الأحوال يظهر على السّالك ملكيّته ومالكيّته لكلّ الأشياء ، وذلك بعد الفناء التّامّ والتّقوى التّامّة وأبدل عنه آخرا قوله (إِلهِ النَّاسِ) للاشارة الى انّه تعالى بعد فناء العبد وبقائه بعد الفناء يصير معبودا للعبد ، وامّا قبل ذلك فمعبوده يكون اسما من أسمائه وأظهر النّاس مع انّ المقام كان مقام الإضمار اشعارا بذمّه على نسيانه بفطرته مع انّه لا ينبغي ان يكون ناسيا لربّه الموصوف بتلك الأوصاف الثّلاثة (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) الوسواس بكسر الواو مصدر وسوس والوسواس بالفتح اسم للمصدر وهو على معناه المصدرىّ فيكون قوله تعالى (الْخَنَّاسِ) بدلا منه بدل الاشتمال أو هو بمعنى الموسوس فيكون الخنّاس صفة له ، وسمّى الموسوس بالوسواس للمبالغة ، والخنوس التّأخّر أو الغيبة ، ولمّا كان الشّيطان الموسوس من عادته التّأخّر عن الإنسان أو الغيبة عنه حين ذكر الله سمّى خنّاسا (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) والوسوسة حديث النّفس وحديث الشّيطان بما لا خير فيه ولا نفع ، ووسوس له واليه (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) من تبعيضيّته أو بيانيّة ، والظّرف حال من الوسواس على ان يكون الوسواس بمعنى الموسوس ، أو ابتدائيّة والظّرف أيضا حال على ان يكون بمعنى المصدر ، أو ابتدائيّة والظّرف متعلّق بيوسوس اى يوسوس من جهة الجنّة والنّاس.

قد تمّ الكتاب بتوفيق الملك الوهّاب على يد مؤلّفه سلطان محمّد بن حيدر محمّد بن سلطان محمّد بن دوست محمّد بن نور محمّد بن الحاجّ محمّد بن الحاج قاسم علي البيدختىّ الجنابذىّ الخراسانىّ بشّرهم الله بما بشّر به عباده المؤمنين في الرّابع عشر من شهر صفر المظفّر من شهور السّنة الحادية عشرة بعد الثّلاثمائة بعد الالف من الهجرة النّبويّة على هاجرها آلاف التّحيّة.

والحمد لله على توفيقه للتّدبّر في كتابه والتّفكّر في أحاديث خلفائه ، والصّلوة والسّلام على جميع خلفائه ، ولا سيّما على محمّد وأهل بيته الطّاهرين خصوصا على ابن عمّه وخليفته بلا فصل ووصيّه وصهره علىّ بن ابى طالب عليهما الصّلوة والسّلام ١٤ شهر صفر المظفّر ١٣١١.

تمّ طبع الكتاب بعون الله الملك الوهّاب

وكان اختتام طبعه سابع رمضان المبارك من شهور السّنّة السّادسة والثّمانين بعد ثلاثمائة والف من الهجرة النّبويّة على مهاجرها وآله الف سلام وتحيّة ، وهذا من حسن الاتّفاق لانّه هو الشّهر الّذى نزل فيه القرآن فالحمد لله على ذلك وكان افتتاح طبعه في شوال المكرّم من شهور سنة اربع وثمانين وثلثمائة بعد الف من الهجرة.

اللهمّ لك الحمد على ما أنعمت به علينا بهذا التّوفيق فصلّ على نبيّك وآله واجعل هذا الأمر منا خالصا لوجهك الكريم وتقبّله بقبول حسن وأنفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون الّا من أتى الله بقلب سليم والسّلام على من اتّبع الهدى.

وكان ذلك سابع رمضان المبارك ١٣٨٦ الهجرية

ويطابقه (٢٩ / ٩ / ١٣٤٥ الهجرية الشّمسية)


فهرست السّور والمطالب

عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

سورة مريم

١

وفي معنى ليعبدون ، اي ، ليعرفون)

١١٦

تحقيق كون الكفربارادة الله وعدم رضاءبه ورضاء بالايمان

٢

سورة الطور

١١٧

بيان انباع احسن القول وتحقيقه

٥

سورة النجم

١٢٠

الجزء الرابع والعشرون

٨

سورة القمر

١٢٦

تحقيق تبديل الارض واشراقها بنوريّها

١٥

سورة الرحمن

١٣١

سورة المؤمن

١٧

سورة الواقعة

١٣٧

تحقيق البداء ونسبة التردد والمخو والاثبات الى الله تعالى

٢٧

العم (شرح في اصحاب الشمال واصحاب اليمين)

١٣٨

سوم حم السجدة

٣١

سورة الحديد

١٤٣

الجزء الخامس والعشرون

٣٩

الانفاق قبل الفتح

١٤٦

سورة الشورى

٤١

الجزء الثامن والعشرون

١٥٣

سورة الزخرف

٥٢

سورة المجادلة

١٥٣

سورة الدخان

٦٤

اعلم (بيان في النجوى)

٥٦١ و ١٥٧

اعلم (تأويل معنى الليالي والايام وبيان في علة اختلاف الاحكام والاخبار

٦٤

سورة الحشر

١٦٠

سورة الجالية

٧٠

سورة الحشر

١٦٠

الجزء السادس والعشرون

٧٥

سورة الممتحنة

١٦٨

سورة الاحقاف

٧٥

اعلم (بيان في البيعة وبيعة النساء)

١٧١

سورة محمد

٨١

سورة الصف

١٧٢

حديث في احوال الناس في آخرالزمان

٨٤

سورة الجمعة

١٧٤

سورة الفتح

٨٨

اعلم (بيان في ايام الاسبوع)

١٧٦

شرح في صلح الحديبية

٨٩

سورة التغابن

١٨٠

اعلم (بيان في ذنب كل انسان بحسب مقامه)

٩١

سورة الطلاق

١٨٤

شرح في فتح خيبر

٩٥

سورة التحريم

١٨٧

اعلم (بيان في شأن السلوك بحسب مقامه)

٩١

الجزء التاسع والعشرون

١٩٠

شرح في فتخ خيبر

٩٥

سورة الملك

١٩٠

اعلم (بيان في شأن السلوم وشأن الجذب)

٩٩

سورة القلم

١٩٤

سورة الحجرات

١٠٠

سورة الحاقة

١٩٨

اقسام الظن وهي خمسة بحسب احكام الخمسة

١٠٣

سورة المعارج

٢٠٢

معنى الغيبة

١٠٣

سورة نوح

٢٠٥

اعلم (بيان في معنى الاسلام والايمام)

١٠٥ و ١٠٦

سورة المزمل

٢١١

سورة ق

١٠٧

سورة المدثر

٢١٤

حديث في تجدد العوالم غير هذا العالم

١٠٨

كلمات متغايرة من وليدين مغيرة في حق الرسول (ص)

٢١٥

سورة الذاريات

١١٢

سوة القيامة

٢١٨

حديث في كيفية وضع الارض وطبقات السماوات

١١٢

سورة الدهر

٢٢١

الجزء السابع والعشرون

١١٥

اعلم (بيان في تجسم الاعمال في الآخرة)

٢٢٢

اعلم (في معنى المقدسي : كنت كترا مخفيا (الخ)


عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

الجزء الثلاثون

٢٢٨

سورة العلق

٢٦٥

سورة النبأ

٢٢٨

سورة القدر

٢٦٦

سورة النازعات

٢٣١

سورة البينة

٢٦٨

سورة عبس

٢٣٤

سورة الزلزال

٢٦٩

سورة التكوير

٢٣٦

غزوة علي (ع) لاهل الوادي اليابس

٢٧٠

سورة الانفطار

٢٣٨

سورة القارعة

٢٧١

سورة التطفيف

٢٣٩

سورة التكاثر

٢٧١

بيان في بسط معنى التطفيف

٢٣٩

سورة العصر

٢٧٣

سورة الانشقاق

٢٤٢

سورة الهمزة

٢٧٤

سورة البروج

٢٤٣

سورة الفيل

٢٧٥

ذكر حكاية اصحاب الاخدود

٢٤٤

سورة قريش

٢٧٦

سورة الطارق

٢٤٦

سورة الماعون

٢٧٦

سورة الاعلى

٢٤٧

سورة الكوثر

٢٧٧

سورة الغاشية

٢٤٩

سورة الكافرون

٢٧٨

سورة الفجر

٢٥١

سورة النصر

٢٧٩

وصف ارم ذات العماد

٢٥٢

سورة تبت

٢٨٠

اعلم (بيان وحديث في حالة النزع)

٢٥٤

سورة الاخلاص

٢٨١

سورة البلد

٢٥٥

اعراب سورة الاخلاص

٢٨٢

شرح في القوى الاربع للانسان

٢٥٦

معنى الاحد

٢٨٢

سورة الشمس

٢٥٧

معنى الصمد

٢٨٣

سورة الليل

٢٥٨

تفسير السورة

٢٨٣

سورة الضحى

٢٦٠

سورة الفلق

٢٨٦

سورم الم نشرح

٢٦٢

سورة الناس

٢٨٧

سورة التبن

٢٦٣

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ٤

المؤلف:
الصفحات: 291