
بسم الله الرحمن الرّحيم
الحمد لله القديم
الأزليّ الدائم الأبدي الفرد الصّمد الواحد ، الحليم الكريم العظيم الجواد الماجد ، المتقدس بوجوب وجوده عن الشريك والضدّ والمعاند ،
المتنزّه بكماله الذاتي عن الصاحبة والوالد والوالد ، المتوحّد بتفرّده في الصنع
والإبداع عن المعين والظهير والمعاضد ، العالم بمستودعات السرائر ومكنونات الضمائر
وما اشتملت عليه العقائد ، المتعالي بتجرّده عن نيل الأوهام وإدراك الحواس ،
المدرك لجميع الموجودات من الأشخاص والأصناف والأنواع والأجناس ، فهو الغائب
الشاهد المختص بالملكوت والعظمة والجبروت ، فكلّ شيء له خاضع ساجد ، يسبّح له ما
في السماوات وما في الأرض من رطب وجامد ، أحمده على افضاله المتضاعف وكرمه
المترادف المتزايد ، وأشكره على سوابغ قسمه وتواتر نعمه الأوابد. وأشهد أن لا إله
إلّا الله وحده لا شريك له ولا ندّ ولا مساعد ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله
أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشرك والجاحد ، شهادة
أستدفع بها الأهوال والشدائد ، وأدّخر
__________________
بها الزاد يوم
المعاد وأسترفد بها من الله تعالى أعظم الذخائر والفوائد.
وصلّى الله على
سيّد الأنبياء وخير الأصفياء محمّد بن عبد الله ، القامع شرعه لكلّ شيطان مارد ،
والموضح دينه لأنواع الحكم وأصناف المقاصد ، وعلى آله المطهّرين عن الأدناس ،
المقدسين عن الخطايا والأرجاس ، الغرر الأماجد ، صلاة يدحض بها كيد كلّ كائد ويقمع
عناد كلّ معاند ، وسلّم تسليما.
أمّا بعد : فإنّ الله تعالى شرّف العلماء وعظّم الفضلاء لاختصاصهم
بمزيد الإفضال وتميّزهم بأسباب الكمال ، وهو حصول العلم فيهم المقتضي لارتفاعهم عن
مشابهة الجمادات وامتيازهم عن العجماوات ، وجعل مساواتهم لغيرهم محلّ العجب العجاب
فقال عزّ من قائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ) . وقد تطابقت الأخبار النبوية والقضايا العقلية البديهيّة
على ارتفاع قدر العلماء إلى ذروة العلى ، وإنهباط منازل الجهال إلى أسفل درك
الشقاء. هذا مع ما أعدّ الله تعالى لذوي البصائر والألباب وأولي النهى
والصواب من مزيد الانعام وكثرة الثواب.
ثمّ إنّ العلوم متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات ، ومتفاضلة بحسب
تفاضل المتعلّقات ، وبعضها سبب النجاة ، فيجب على طلّاب العلم صرف الهمم إلى
البدأة بالأهم منها فالأهم.
ولا شك أنّ أهمّ
المعارف وأولاها وأجلّها وأسناها ، ما يكون سببا للخلاص
__________________
من المهلكات
وموجبا لارتفاع الدرجات ، وقد ظهر لأهل الحلّ والعقد ، وأرباب السبك والنقد ، أنّ أشرف الموجودات وأكمل المعلومات ، هو ذات
واجب الوجود ، المفتقر إليه كلّ موجود ، فالعلم به تعالى وتقدّس أجلّ من كلّ علم
وأنفس. هذا مع اتّفاق الرسل والأنبياء ، وإطباق العقلاء وإجماع العلماء على وجوب
معرفة الله تعالى على الأعيان ، والحتم بها في كلّ حين وزمان ، ولم يسوّغ أحد من المشرّعين ، ولا
جوّز أحد من العارفين سلوك طريق التقليد لأحد من العلماء ، ولا ارتكاب عقائد
الأجداد والآباء ، إلّا بعد الجدّ والاجتهاد والاستقصاء في تحصيل الاعتقاد ، بل
حرّموا ذلك على الإطلاق ومنعه الشارع بالاتفاق.
وأوجبوا على كلّ
مكلّف بذل الوسع في تحصيل المعارف ، ليحصل الأمن من المخاوف ، وذلك إنّما هو بعلم
الكلام ، فوجب معرفته على الخاص والعام. وقد صنّفنا فيه كتبا متعدّدة ومسائل مسدّدة.
وقد أجمع رأينا في
هذا الكتاب الموسوم ب «نهاية المرام في علم الكلام» على جمع تلك الفوائد التي
استنبطناها والنكت التي استخرجناها ، مع زيادات نستخرجها في هذا الكتاب لطيفة ،
ومعان حسنة شريفة لم يسبقنا إليها المتقدّمون ولا سطرها المصنّفون.
ثمّ نذكر على الاستقصاء
ما بلغنا من كلام القدماء ، ونحكم بالإنصاف بين
__________________
المتكلّمين
والحكماء ، وجمعت فيه بين القوانين الكلاميّة والقواعد الحكميّة المشتملة عليهما المباحث والنهاية . فكان في هذا الفن قد بلغ الغاية ، لأجل أعزّ الناس عليّ وأحبّهم إليّ وهو الولد العزيز
محمّد ، رزقه الله تعالى الوصول إلى أقصى نهايات الكمال ، والارتقاء إلى أعلى ذرى الجلال ، وأيّده بالعنايات الأزليّة ، وأمدّه بالسعادات
الأبديّة ، وأحياه الله تعالى في عيش رغيد وعمر مديد ، بمحمّد وآله الطاهرين.
وقد رتّبت هذا
الكتاب على مقدمة وقواعد مستعينا بالله لا غير ، فإنّه الموفق لكلّ خير ودافع كلّ ضير.
وتشتمل المقدمة
على فصول :
الأوّل : في بيان شرف هذا العلم
ويدلّ عليه وجوه :
أ ـ أنّ البديهة
حاكمة بشرف العلم وعلو شأنه. لا شكّ أنّ شرف العلم تابع لشرف المعلوم ، ولمّا كان
الغرض الأقصى من هذا الفن معرفة الله تعالى وصفاته وكيفيّة أفعاله وتأثيراته ،
والبحث عن رسله وأوصيائهم ، وأحوال النفس والمعاد ، وهذه أشرف المطالب خصوصا وواجب
الوجود تعالى أشرف الموجودات ،
__________________
فالعلم به أشرف
العلوم.
ب ـ أنّ مقدمات
العلوم قد تكون قطعيّة ، وقد تكون ظنّية ، ويحصل بالأوّل اليقين ، وبالثاني الظنّ
، والأوّل أشرف.
ومقدمات هذا الفن
قطعيّة يقينيّة ، إمّا بديهيّة أو كسبيّة راجعة إليها ، فتكون براهينه أوثق من
غيره ، فيكون أشرف.
ج ـ الإنسان خلق لا كغيره من الحيوانات ، بل جعل محلّا لخطاب
الله تعالى وتكليفه ، لينال السعادة الأخروية ، وهي أجلّ المطالب وأتمّ المقاصد ، ولا شكّ أنّ نيل هذه السعادة
إنّما يحصل بالإيمان بالله تعالى ورسله واليوم الآخر ، وذلك كلّه إنّما يحصل
بمعرفة هذا الفن ، فيكون أشرف.
د ـ السعادة
الدنيوية لا يمكن تحصيلها ، إلّا بالحكمة العمليّة المعلوم فيها معرفة أحوال نظام
العالم ، والعلوم السياسية والمدنية ، والأخلاق المحمودة والمذمومة ، لتكمل النفس باستعمال تلك
، والتنزّه عن هذه ، وذلك إنّما يحصل بالرغبة في الثواب والرهبة من العقاب ،
وإنّما يستفادان من هذا العلم.
ه ـ العلم إمّا ديني أو دنيوي ، والثاني غير معتدّ به عند
العقلاء ، لأنّه يجري مجرى الحرف والصناعات ، فالمعول عليه هو الأوّل لا غير ،
والعلوم الدينيّة كلّها متوقّفة على صحّة هذا العلم ، لأنّه المتكفّل لإثبات
الصانع تعالى ، وإثبات قدرته وعلمه ، ليصحّ تكليفه ، ويتيسر للفقيه والمحدّث والمفسّر للكتاب
__________________
العزيز وغيرهم من
العلماء الخوض في علومهم. وإذا ثبت استغناؤه عن غيره واحتياج غيره إليه كان أشرف.
و ـ أنّ للضد
مدخلا في حسن الضد الآخر وقبحه ، فإذا كان الخطأ في هذا العلم كفرا وبدعة ، وهما
من أقبح الأشياء وأخسّها ، وجب أن يكون هذا العلم الذي يحصل به إصابة الحق ، من
أشرف الأشياء وأحسنها.
ز ـ موضوعات سائر
العلوم على ما سيظهر ، راجعة إلى هذا العلم ، وموضوعه بديهيّ الثبوت ، فجميع
العلوم محتاجة إليه ، ومبادئها مستندة إليه ، فيكون أشرف .
الفصل الثاني : في علّة تسميته بالكلام
كلّ علم من العلوم
لا ينفكّ عن البحث والمناظرة والكلام ، لكن خصّص هذا العلم باسم الكلام لوجوه :
أ ـ العادة قاضية
بتسمية البحث في دلائل وجود الصانع تعالى وصفاته وأفعاله ، الكلام في الله تعالى
وصفاته ، فسمّي هذا العلم بذلك. ولا استبعاد في تخصيص بعض الأسماء ببعض المسمّيات
دون بعض.
ب ـ أنكر جماعة
البحث في العلوم العقليّة والبراهين القطعية ، فإذا سئلوا عن مسألة تتعلّق بالله
تعالى وصفاته وأفعاله والنبوّة والمعاد ، قالوا : نهينا عن الكلام في هذا العلم ،
فاشتهر هذا العلم بهذا الاسم.
__________________
ج ـ هذا العلم
أسبق من غيره في المرتبة ، فالكلام فيه أسبق من الكلام في غيره ، فكان أحقّ بهذا
الاسم.
د ـ هذا العلم
أدقّ من غيره من العلوم ، والقوّة المميّزة للإنسان ـ وهي النطق ـ إنّما تظهر بالوقوف على أسرار هذا العلم ، فكان المتكلّم
فيه أكمل الأشخاص البشريّة ، فسمّي هذا بالكلام ؛ لظهور قوّة التعقّل فيه.
ه ـ هذا العلم
يوقف منه على مبادئ سائر العلوم ، فالباحث عنه كالمتكلّم في غيره ، فكان اسمه بعلم
الكلام أولى.
و ـ أنّ العارفين
بالله تعالى يتميزون عن غيرهم من بني نوعهم ، لما شاهدوه من ملكوت الله تعالى ،
وأحاطوا بما عرفوه من صفاته ، فطالت ألسنتهم على غيرهم فكان علمهم أولى باسم الكلام.
الفصل الثالث : في موضوعه
اعلم أنّ لكلّ علم
على الإطلاق أمورا ثلاثة : موضوعا ومبادئ ومسائل.
ونعني
بالموضوع : ما يبحث في ذلك
العلم عن عوارضه التي تلحقه لما هو هو ـ أي: لذاته ـ أو لجزئه أو لما تساوى ذاته
من لوازمه ، وهذه أجمع تسمّى
__________________
بالأعراض الذاتية
، وأمّا ما يلحقه لأمر أعمّ من ذاته عارض لها أو لأمر أخصّ فهما عرضان غريبان.
وباعتبار هذا
الموضوع تتمايز العلوم وتختلف ، مثلا : أجرام العالم من حيث الشكل موضوعة للهيئة ،
ومن حيث الطبيعة موضوعة للسماء والعالم من الطبيعي . فلولا اعتبار هاتين الحيثيتين لامتزج العلمان واختلط
أحدهما بالآخر.
والموضوع قد يكون
واحدا على الإطلاق ، وقد يكون متكثّرا ، لكن بشرط تناسب تلك الأشياء المتكثرة ، إمّا بأن تتشارك
في ذاتي كالخطّ والسطح والجسم ، إذا جعلت موضوعات الهندسة ، فإنّها تشترك في الكمّ
المتّصل القار الذات ، وهو جنس لها ، أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه وأحواله ،
والأدوية والأغذية وما شاكلها ، إذا جعلت جميعا موضوعات علم الطب ، فإنّها تتشارك
في كونها منسوبة إلى الصحّة التي هي الغاية في ذلك العلم.
وإنّما سمّي
الموضوع موضوعا للعلم ؛ لأجل أنّ موضوعات مسائل ذلك العلم ترجع إليه ، بأن تكون
نفسه أو جزئيا تحته أو جزءا منه أو عرضا ذاتيا له.
أمّا
المبادئ : فهي التي يبنى
العلم عليها ، وهي إمّا تصوّرات أو تصديقات.
فالتصوّرات
: هي حدود أشياء
تستعمل في ذلك العلم ، وهي إمّا موضوع العلم أو جزء منه أو جزئي تحته أو عرض ذاتي
له. وهذه الأشياء قد يجب تقديم
__________________
التصديق بها على
العلم ، وهي الموضوع وما يتركب منه ، وقد يكون في ذلك العلم ، وهي الأعراض الذاتية
، وحدود الأوّل بحسب الماهيّات والثاني بحسب الأسماء.
وأمّا
التصديقات : فهي المقدمات التي
منها تؤلّف قياسات ذلك العلم ، فمنها بيّن يجب قبوله ، وتسمّى القضايا المتعارفة ،
وهي مبادئ على الإطلاق. ومنها غير بيّن يجب تسليمها ليبنى عليها ، ومن شأنها أن
تبيّن في علم آخر ، وهي مبادئ بالقياس إلى العلم المبني عليها ومسائل بالقياس إلى
الآخر.
ثمّ تسليم هذه إن
كان مع مسامحة وحسن ظن بالمعلم ، فهي أصول موضوعة ، وإن كان مع استنكاف سمّيت مصادرات.
وأمّا
المسائل : فهي المطالب
المبيّنة في ذلك العلم ويطلب فيه انتساب محمولاتها إلى موضوعاتها.
وإذ
قد تمهّدت هذه القاعدة ، فنقول : علم الكلام ينظر فيه في أعمّ الأشياء ، وهو الوجود. ينقسم
الوجود أوّلا إلى قديم ومحدث ، ثم يقسم المحدث إلى جوهر وعرض ، ثم يقسم العرض إلى
مشروط بالحياة وغير مشروط. ويقسم الجوهر إلى حيوان ونبات وجماد.
ويبيّن وجه الخلاف
بينها ، هل هو بذاتي أو عرضي؟ ثمّ ينظر في القديم ، فيبيّن عدم تكثّره بوجه من
الوجوه ، وأنّه متميز عن الحوادث بما يجب له من الصفات ويمتنع عليه ، ويفرّق بين
الواجب والجائز والممتنع ، ثمّ يبيّن أنّ أصل الفعل جائز عليه ، وأنّ العالم فعله ، وإرسال الأنبياء من جملة آثاره
، وأنّهم
__________________
صادقون باعتبار
فعل المعجزة منهم ، ثمّ يستعين العقل بقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي استدل على صدقه فيما يقوله في الله تعالى واليوم
الآخر مما يعجز عن إدراكه العقل ولا يحكم بامتناعه. ولا شك في أنّ هذه الأشياء
عارضة للوجود من حيث هو ، فيكون موضوعه هو الوجود المطلق.
الفصل الرابع : في غايته
إنّ الإنسان خلق
لا كغيره من أنواع الحيوانات ، بل هو مدنيّ بالطبع يفتقر في معاشه إلى غذاء ولباس
ومسكن وصلاح أحواله ومن يعوله من نسله وغيرهم ، وهذه أمور صناعية لا يمكن صدورها
عن صانع واحد ، وإنّما تحصل باجتماع خلق يتعاونون عليه ، ويتشاركون في تحصيله ،
ليفرغ كلّ واحد منهم لصاحبه عن بعض مهمه منهم ، فيتمّ بمعارضته ومعاوضته. ثمّ إنّ الاجتماع على
التعاون إنّما يتمّ إذا كان بين بني النوع معاملة وعدل ؛ إذ كلّ منهم يشتهي ما
يحتاج إليه ، ويغضب على مزاحمته فيه ، وبحسب هاتين يحصل الجور فيقع الهرج والمرج ،
ويختلّ أمر النظام ، ولا بدّ من عدل متفق عليه ، ولمّا كانت الجزئيات غير منحصرة
وجب وضع قوانين شرعية لكيفيّة العدل ، وتلك القوانين لو وضعها الناس لحصل الاختلاف
، فيقع الهرج المحذور منه ، فإذن يجب امتياز الشارع بينهم باستحقاق الطاعة ليطيعه
الباقون ، وإنّما يتميّز بمعجزات تصدر عنه دون غيره ، ولمّا كانت الحكمة إنّما
تتمّ بالتكليف ، إذ ضعفاء العقول يستجيزون اختلال العدل الناظم لمعاشهم ، وجب في عنايته تعالى إرسال
الأنبياء بشرائع تقتضي نظام الوجود ، ومجازاة الممتثل لها بالإحسان ، ومقابلة
المخالف بالعذاب الأخروي ، ووجب معرفة
__________________
المجازي واقتران
تلك المعرفة بالتكرار الموجب للتذكار ، وهو إنّما تتمّ بعبادات مذكّرة متكررة في
أوقات متتالية.
وعلم الكلام هو
المتكفّل بمعرفة المجازي ، وكيفية آثاره وأفعاله وتكاليفه على الإجمال. وذلك هو
سبب السعادة الأبديّة والخلاص عن الشقاء الأبدي ، ولا غاية أهمّ من هذه الغاية.
الفصل الخامس : في مرتبته ونسبته إلى سائر العلوم
إنّه لمّا ظهر أنّ
موضوع هذا العلم هو الوجود المطلق ، وكان الوجود أعمّ من كلّ موضوع ، وجب أن يكون
هذا العلم أسبق العلوم وأقدمها.
وأيضا فإنّ مبادئ
سائر العلوم إنّما تتبيّن فيه ، ومعرفة ذي المبدأ متوقفة على معرفة المبدأ. فلهذا
العلم تقدّم بهذا الاعتبار أيضا على غيره من سائر العلوم.
ولأنّ سبب النجاة
إنّما هو معرفة هذا العلم وهذه الغاية أكمل من كلّ غاية ، فلهذا العلم تقدم على
غيره بحسب غايته.
ولأنّ معلومه أشرف
من كلّ معلوم وجب تقدمه على جميع العلوم.
ولأنّ السمعيّة
متوقفة عليه ، والعقليّة إمّا كلّية أو جزئيّة ، والكلّي منها هو هذا العلم وباقي
العقليات جزئيّة ، والجزئي ينتهي إلى الكلّي فجميع العلوم متأخّرة عن هذا العلم.
الفصل السادس : في وجوب معرفته
إنّه سيظهر لك
فيما بعد إن شاء الله تعالى ، أنّ معرفة الله تعالى واجبة ، وكذا
__________________
معرفة صفاته وما
يجب له ويستحيل عليه ، ولا تتمّ هذه المعرفة إلّا بهذا العلم ، لأنّه المتكفّل
بذلك ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب على ما يأتي.
وأيضا قوله تعالى
: (قُلِ انْظُرُوا) وقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) وقوله: (أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة عليه.
وكذا ما ورد من
الآيات الدالّة على النهي عن التقليد وذمّه. ولا خلاف بين العقلاء في ذلك.
إذا عرفت هذا
فنقول : الواجب على قسمين : إمّا على الأعيان أو على الكفاية. ووجوب هذا العلم على
الأعيان ، للنهي عن التقليد في العقائد.
واعلم أنّ القدر
الواجب على الأعيان من هذا العلم ، هو معرفة الله تعالى بالدليل ، ومعرفة ما يجب
معرفته من صفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، ومعرفة آثاره التي تتوقّف عليها بعثة الرسل
ومعرفة الرسل وصدق الأنبياء ، ومعرفة المعاد ، والإمام. ولا يجب تتبّع الجواب عن
الشبهات ، ومقاومة الخصوم على الأعيان ، بل ذلك واجب على الكفاية.
__________________
القاعدة الأولى
في تقسيم المعلومات
وفيه مقاصد :
المقصد الأوّل
في التقسيم إلى الموجود والمعدوم
اعلم أنّ كلّ
معلوم إمّا أن يكون موجودا وإمّا أن يكون معدوما ، فهنا فصول :
الفصل الأوّل :
في مباحث الوجود
البحث الأوّل : في أنّ تصور الوجود بديهيّ
وفيه
مقامات ثلاثة :
الأوّل : في الاستدلال على أنّه بديهي
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب المحقّقون إليه ، ونازع فيه جماعة ، وزعموا أنّه يعرف بحدّه ، واختلفوا
في حدّه ، فقال قوم : إنّ الموجود هو الثابت العين.
__________________
وقال آخرون : إنّه
ما صحّ التأثير به أو فيه. وأراد بقوله فيه الجواهر ، لأنّ الجواهر يصحّ التأثير
فيها ولا يصحّ بها لأنّها لا توجب حكما في الغير.
وقيل : حدّ الوجود
ما يظهر معه مقتضى صفات النفس ، وهذا على رأي من قال : المعدوم له في حال عدمه صفة
، ولكلّ جنس صفة نفسية ، ومن قال : إنّ المعدوم لا صفة له حال عدمه قال : الوجود
هو الثبوت.
وقال آخرون :
الوجود هو الذي يوجب كون ما وصف به موجودا.
وقيل : إنّه الذي
ينقسم إلى القديم والحادث.
وقيل : الوجود هو
الذي ينقسم إلى فاعل أو مفعول.
وهذه التعريفات
كلّها رديئة لاستلزام التعريف بها الدور ، أو التعريف بالأخفى ، والحق أنّه غني عن
التعريف ، إذ كلّ عاقل لا يشك في أنّه موجود .
وقد استدل أفضل
المتأخّرين على أوليّته بوجوه :
الوجه
الأوّل : علمي بوجودي بديهي
، والوجود جزء من وجودي ، والعلم بالجزء سابق على العلم بالكل ، والعلم السابق على
الأوّلي أولى أن يكون أوّليا ، والوجود في الكلّ واحد ، فالوجود المطلق أوّلي.
وفيه نظر ، فإنّ
للقائل أن يقول : البديهي ، الحكم بأنّي موجود ، أمّا تصوّر وجودي فممنوع ، ونمنع
كمالية تصوّر كلّ واحد لوجوده ، فجاز أن يتصوّره باعتبار
__________________
ما ، وحينئذ لا
يجب تصوّر جزئه ، ونمنع أيضا كون الوجود المطلق جزءا من وجودي ، لابتنائه على
اشتراك الوجود في المعنى وقد خالف فيه جماعة.
الوجه
الثاني : التصديق البديهي
بأنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ليس إلّا التصديق بامتناع الخلوّ عن الوجود
والعدم ، وذلك مسبوق بتصوّر الوجود ، والسابق على البديهي بديهي.
قيل عليه : التصديق البديهي لا يستلزم كون تصوّراته بديهيّة ، بل
يجوز أن تكون كسبيّة.
الوجه
الثالث : تعريف الوجود بنفسه محال وبأجزائه أيضا ، لأنّها إن كانت
وجودات لزم توقّف الشيء على نفسه ، وإن لم تكن فعند اجتماعها إن لم يحصل زائد كان
الوجود محض ما ليس بوجود. وإن حصل كان هو الوجود ، وتلك الأمور معروضاته ، فلا
تكون أجزائه.
وتعريفه بالأمور
الخارجة عنه محال ، لأنّ الرسم إنّما يفيد تصوّر الماهية بعد اختصاصه بها ، وذلك
إنّما يكون معلوما لو عرفنا الماهية وما غايرها من جميع الماهيّات ، فيلزم الدور و
معرفة ما لا يتناهى ، ولا بالمركّب من الداخل والخارج لأنّه خارج.
وفيه نظر ؛ لأنّه لا يلزم من كون أجزاء الوجود وجودات أن تكون هي
نفس الوجود ، كما أنّه لا يلزم من كون أجزاء الجوهر جواهر أن تكون الأجزاء هي نفس
المركّب.
__________________
سلّمنا ، لكن عند
اجتماعها لا يحصل زائد غير المركّب ولا يكون الوجود محض ما ليس بوجود ، لأنّ
المركّب مغاير لأجزائه.
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من حصول الزائد أن لا تكون تلك الأجزاء أجزاء. على أنّ هذا يقتضي نفي التركيب
مطلقا ، كما تقول : الحيوان ـ مثلا ـ ليس بمركّب ، لأنّ أجزاءه إن كانت حيوانات
لزم تركّب الشيء من نفسه وهو محال. وإن لم تكن فإن لم يحصل زائد عند اجتماعها ،
كان الحيوان محض ما ليس بحيوان ، وإن حصل كان هو الحيوان ، وتلك ليست أجزاء له.
سلّمنا ، لكن جاز
التعريف بالخارج ، وهو يتوقف على الاختصاص لا على العلم به ولا دور ، ولا يلزم
العلم بما لا يتناهى على التفصيل لتوقّفه على العلم بعارض كالمعلومية.
الوجه
الرابع : تعريف الوجود ليس
بالحدّ فإنّه لا جنس له ولا فصل ، ولا بالرسم لأنّ الاستقراء دلّ على أنّه لا شيء
أعرف من الوجود .
وهو ضعيف لأنّ
الحدّ لا يجب تركّبه من الجنس والفصل.
سلّمنا ، لكن نمنع
انتفاء الجنس والفصل عنه. وعدم العلم لا يدلّ على العدم.
سلّمنا ، لكنّ
الاستقراء لا يفيد اليقين.
لا يقال : لو كان
بديهيا استحال البرهان عليه ، لكنّكم برهنتم عليه فلا يكون تصوره بديهيا.
لأنّا نقول :
التصوّر البديهي له اعتباران : أحدهما : ثبوته في نفسه ، والثاني : ثبوت هذا الوصف
، أعني كونه بديهيا له. والممتنع إقامة البرهان عليه هو الأوّل ، أمّا الثاني فلا.
__________________
المقام الثاني : في أنّ تصوّره أوّل الأوائل
الأمر في هذا ظاهر
، فإنّه لا شيء أعرف عند الإنسان من وجود نفسه ، وثبوت ذاته.
وأيضا فإنّه أعمّ
الأشياء والأعمّ جزء الأخص ، والعلم بالكلّ متوقّف على العلم بالجزء ، والمتوقّف
عليه أعرف من المتوقف ، فالوجود أعرف.
وهو ضعيف ، لأنّا
نمنع كونه أعمّ الأمور ، فإنّ المعلوم والمخبر والمذكور والممكن العام أعمّ من الموجود ، والشيء مساو له
، هذا إن عنى الوجود الخارجي ، وإن عنى المطلق كان مساويا للمعلوم ، والشيء إن
أطلق على الذهني فكذلك ، كما قال الشيخ : «إنّ الوجود إمّا خارجيّ أو ذهنيّ ،
والشامل لهما الشيئية» ، وإن أريد الخارجي لا غير ، كما هو رأي نفاة شيئية المعدوم
كان أخص.
سلّمنا أنّه أعم ،
لكن لا نسلّم أنّ الأعم جزء من الأخص ، فإنّ العموم إذا كان عموم العارض لا يوجب
كونه جزءا ، والوجود وصف خارجيّ.
وقيل : إنّ الأعم أعرف ، لأنّ النفس قابلة للتصوّر ولا منع عن
الفيض من قبل الله تعالى إلّا لعدم شرط أو وجود مانع ، وكلاهما منتف هنا ، فإنّ الأعمّ يستحيل اشتراطه بالأخص ، وكلّ ما عدا الوجود فهو
أخصّ منه ، والأمور الخاصّة قد تتعاند ، ولا تعاند صورة ما يعمّها ، لكن كلّ
ما يعاند العام فهو يعاند
__________________
الخاص ، فالأعمّ
إذن أقل معاندا وشرطا ، فيكون أولى بالوقوع. فالوجود اللازم للماهيّات لمّا كان
أعمّ كان انتقاشه في النفس أكثر من انتقاش غيره.
وفيه نظر ، فإنّا
نسلّم أنّ الوجود أعم ، لكن نمنع كون ما هو أقل شرطا ومعاندا في الخارج أعرف ،
فإنّه لا شيء أعرف عند الإنسان من ذاته لذاته وليست أعم الموجودات.
المقام الثالث : في كلام الخصم في هذا الباب
اعلم أنّ جماعة
أنكروا هذا الحكم وكلامهم يقع في موضعين :
الموضع
الأوّل : في أنّ الوجود غير
متصوّر ، واستدلّوا عليه بوجوه :
الوجه
الأوّل : لو تصوّر الوجود
لزم اجتماع المثلين ، والتالي باطل على ما يأتي ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ التصوّر ارتسام صورة المتصوّر في المتصوّر ، فلو كان الوجود متصوّرا لزم
ارتسام صورة مساوية له في الذهن ، ولا شك في أنّ الذهن موجود فيجتمع المثلان.
الوجه
الثاني : تصوّر الشيء
بالحقيقة إنّما يكون بعد أن يتميّز عن غيره ، والتميّز عبارة عن كون الشيء ليس
غيره ، وهذا سلب خاص يتوقّف على مطلق السلب ، فتصوّر الوجود إنّما يتمّ بعد تصوّر
مطلق السلب ، لكن مطلق السلب إنّما يعلم إذا أضيف إلى مطلق الوجود، فيلزم الدور.
__________________
الوجه
الثالث : الوجود بسيط
والبسيط لا تعقل حقيقته.
الوجه
الرابع : لو كان الوجود
معلوما لكانت حقيقة الباري تعالى معلومة ، والتالي باطل بما يأتي ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه سيظهر أنّ حقيقة الله تعالى هي نفس الوجود ، فلو كان الوجود متصوّرا لزم
تصوّره تعالى.
الموضع
الثاني : في أنّ تصوّره ليس
بديهيا لوجوه :
الأوّل
: الوجود صفة غير
مستقلّة بالمعقولية دون موصوفه ، لكنّ موصوف الوجود هو الماهيات ، وليس تصوّرها
بديهيا ، فلا يكون تصوّر الوجود بديهيا.
الثاني
: لو كان تصوّره
بديهيا لزم بداهة تصوّر لوازمه ، من اشتراكه وزيادته ، لما تقرّر من أنّ العلم
بالملزوم علّة للعلم باللازم ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
الثالث
: لو كان بديهيا
لاشترك العقلاء فيه ، والتالي باطل ؛ لوقوع الخلاف فيه ، حتّى أنّ جماعة من
العقلاء زعموا أنّه إنّما يعرف بحدّ أو رسم.
الرابع
: الوجود الذهني
مطابق للخارجي ، وكلّ ما هو أشدّ جزئية فهو أولى بالجوهريّة في الخارج ، فإذن
الأولى بالحضور ذهنا هي الأمور الجزئية ، فالوجود الأعم يكون مرجوحا ، فلا يكون
تصوّره أوليّا.
الخامس
: لو كان أوليا لما
افتقر إلى برهان ، ولما وقع فيه خلاف.
والجواب
عن الأوّل
:
المنع من حصول
المعقول نفسه ، بل إن كان فصورته وهي مغايرة للحقيقة ، فلا يجتمع المثلان.
__________________
سلّمنا حصول حقيقة
الوجود المطلق ، لكنّه مغاير لوجود العاقل ومخالف له.
سلّمنا ، لكنّ لا
نسلّم أنّا نفتقر في تصوّر الوجود إلى صورة أخرى غير صورة الوجود الثابتة في نفس
الأمر لنا ، فإنّه سيظهر أنّا ندرك ذاتنا بذاتنا لا بصورة أخرى مساوية لذاتنا في
ذاتنا ، وإن افتقرنا في تصوّر غيرنا إلى صورة حالّة فينا.
وعن
الثاني : أنّ تصوّر الشيء
لا يتوقّف على العلم بتميّزه عن غيره وأنّه ليس ذلك الغير ، فإنّ العلم بأنّ حقيقة
ما ليست غيرها علم بسلب أمر عن آخر ، والمعلوم فيه مجموع أمور ، والعلم بالمجموع
متأخّر عن العلم بكلّ واحد من تلك الأمور ، فإذن العلم بالوجود لا يمكن توقّفه على
أنّه ليس غيره. والأصل في ذلك ، أنّ الشيء إذا أخذ لا بشرط غيره ، كان مغايرا له
إذا أخذ بشرط لا غيره ، فإنّ الأوّل بسيط والثاني مركّب ، فإذا أخذت الحقيقة
بالاعتبار الأوّل لم يتوقّف تصوّرها على تصوّر غيرها ، وإذا أخذت بالاعتبار الثاني
، توقّف تصوّرها على تصوّر ذلك الغير.
وعن
الثالث : بالمنع من كون
البسيط غير معلوم ، إذ لو كان كذلك لامتنع تعقّل شيء البتة ، نعم إنّه غير معلوم
بالحدّ ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ.
وعن
الرابع : أنّ الوجود
المعلوم مغاير لحقيقته تعالى على ما سيظهر الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
والجواب
عن الأوّل : أنّه لا يلزم من كون الشيء تبعا لغيره في الوجود ، كونه
تبعا له في التصوّر. ولو كان تبعا لتصوّر غيره لم يجب كونه كسبيّا ، لجواز كون
تصوّر ذلك الغير بديهيا.
__________________
أيضا بأن نقول :
تصوّر الوجود تابع لتعقّل ماهية ما ، لا لتعقّل الماهيات المخصوصة ، وتعقّل ماهية
ما أوّلي أيضا ، إلّا أنّ الإشكال باق ، فانّ كون ماهية ما ، ماهيّة ما من العوارض التي لا تستقلّ
بالمعقوليّة.
ويمكن أن يقال :
إنّ تصوّر الوجود يستدعي تصوّر ماهيّات مخصوصة ، وتصوّر تلك الماهيّات المخصوصة
بديهي.
وعن
الثاني : أنّه لا يلزم من
كون تصوّر الشيء بديهيا ، كون تصوّر لوازمه كذلك.
وأيضا فإنّ كون
الوجود زائدا ومشتركا وصفان اعتباريان لا وجود لهما في الخارج ، وإلّا لزم التسلسل
، وإذا لم يكونا من الأمور الوجوديّة ، لم يكونا لازمين للوجود مطلقا ، وأيضا لا
نسلّم كون هذين التصوّرين مكتسبين.
وأيضا إنّما يجب
تصوّرهما لو كانا من اللوازم البيّنة ، وهو ممنوع.
وعن
الثالث : بالمنع من وجوب
اشتراك العقلاء في الضروريات.
وأيضا فإنّ أحدا
لم يحاول تعريف حصول الشيء وثبوته ، لكن لما اعتقدوا أنّ الوجود ليس الحصول ، بل
علّته ، لا جرم عرفوا ما ذهبوا إليه وجعلوه مسمى بالوجود لا نفس الحصول.
وعن
الرابع : بالمنع من كون
الأخصّ أولى بالوجود الخارجي ، وإن كان أولى بالجوهرية ، أعني الاستغناء ، إلّا
أنّ الأعمّ أولى بالوجود منه.
سلّمنا ، لكن نمنع
كون الذهني كذلك ، فإنّ الأعم أولى بالوجود الذهني من الأخص ، لما بيّنا أنّ الشيء
إذا كان أعمّ كان شرطه ومعانده أقلّ وكان أولى ، وفي الخارج يستحيل وجود الكلّي في
الأعيان فظهر الفرق بينهما.
__________________
وعن
الخامس : أنّ البرهان إنّما
هو على صفة من صفاته وهو كونه بديهيّا ، فإنّ كون البديهي بديهيا يجوز أن يكون
مكتسبا. ولا يلزم من وقوع الخلاف في أنّ تصوّره بديهي أو لا ، أن لا يكون بديهيا ،
فإنّ كونه بديهيا حال من أحوال التصوّر لا نفسه.
البحث الثاني : في تحقيق ماهيته
وفيه مقامان :
المقام الأوّل : في أنّه بسيط البسيط
يراد به معنيان :
أحدهما : الوجود الذي لا جزء له. والثاني : الذي يتساوى أجزاؤه في الحدّ.
والمراد هنا الأوّل ، وظاهر أنّ الوجود كذلك. فإنّا لا نعني بالوجود إلّا الكون في
الأعيان ، وهو معنى يعتبره العقل من غير توقف في تصوّره على تصوّر غيره ، ولو كان
مركّبا لتوقّف تصوّره على تصوّر جزئه ، ولأنّه لو تركّب لكانت أجزاؤه إمّا وجودات
أو عدمات أو ما يعرضان له.
والثاني باطل ، لأنّه يستحيل تركّب الشيء عمّا ينافيه ويناقضه.
والثالث باطل أيضا
، لأنّ المركّب من تلك الأشياء إمّا أن يتغيّر حاله عند تغيّر حال الأجزاء وجودا
وعدما أو لا. والأوّل يستلزم أن يكون للوجود وجود وعدم وهو محال. والثاني محال ؛
لاستحالة كون المعلول على حال واحدة عند وجود
__________________
العلة وعدمها.
ولأنّ خاصية الجزء المطلقة وهي التقدم في الوجودين إنّما تتحقّق لو كان للوجود
وجود وهو محال.
والأوّل باطل ، لأنّ الجزء إن كان وجودا مطلقا كان المركّب هو نفس
الجزء ، هذا خلف ، وانتفت الكلّية والجزئية وهو المطلوب. وإن كان وجودا خاصّا لزم
الدور ، وأن لا يكون الوجود وجودا ، لأنّ ما به الامتياز مخالف لما به الاشتراك ،
فلا يكون وجودا ، ومقوّم الجزء مقوّم الكل ، هذا خلف. وإن كان وجودا بمعنى أنّه
موجود فقد تقدم بطلانه في الثالث. ولأنّه إن كان موجودا بوجود سابق على تحقّق
الوجود كان الشيء متقدّما على نفسه. وإن كان موجودا بوجود متأخّر عن الوجود أو
مصاحب لم يكن وجود الجزء سابقا على وجود الكلّ ، لكن من خواص الجزء تقدّمه في
الوجودين والعدمين على الكلّ.
المقام الثاني :
في أنّ الوجود نفس الكون في الأعيان ، لا ما به الكون في
الأعيان
اعلم أنّا نعني
بالوجود ، المعنى المفهوم منه المتعارف عند العقلاء ، وهو
__________________
حصول الشيء
وتحقّقه وثبوته. وقد نازع في ذلك جماعة المثبتين ، وذهبوا إلى إثبات صفة أخرى
مغايرة لذلك سمّوها : «الوجود». وحينئذ يكون إطلاق لفظ «الوجود» على ما قلناه وعلى
ما ذهبوا إليه بالاشتراك اللفظي. ويرجع حاصل الكلام إلى أنّه تثبت للذات صفة أخرى
وراء الحصول والتحقّق. ولكن يجب عليهم إفادتنا هذا المعنى ، وإقامة البرهان عليه.
فإن قال : أعني
بالوجود صفة تقتضي حصول الشيء في الأعيان ، قلنا : يستحيل أن يكون الحصول في
الأعيان معلّلا بصفة قائمة بالشيء لوجوه :
الأوّل
: اتّصاف الشيء بتلك
الصفة التي هي علّة الحصول مسبوق بحصول ذلك الشيء في نفسه ، لأنّ حصول الصفة
للشيء فرع على حصول ذلك الشيء في نفسه ، فلو كان حصول غيره له علّة لحصوله في نفسه لزم الدور.
الثاني
: علّة الحصول
مخالفة للحصول في الحقيقة ؛ لاستحالة كون المماثل علّة ، وتلك العلّة لها حصول ،
وإلّا لزم تعليل الوجود بالعدم ، فيكون حصول تلك العلّة مفتقرا إلى علّة أخرى
ويتسلسل.
الثالث
: لو كان الحصول في
الأعيان مغايرا للوجود جاز أن تعلم الماهية كائنة في الأعيان قبل العلم بثبوت ذلك
الزائد ، فلا يكون وجود الأمور المحسوسة بديهيّا بل مستفادا من الحجة ، ويلزم من
الشك في تلك الحجّة الشك في وجود الأمور الضرورية.
الرابع
: الإضافات موجودة
على ما يأتي. وهي من حيث إنّها موجودة في الأعيان مقولة بالقياس إلى غيرها ، فلو
كان وجودها مستقلا بنفسه ، لكان يمتنع
__________________
أن تكون تلك
الإضافات الغير المستقلّة في وجودها موجودة ، ولمّا بطل التالي بطل المقدم.
وفي هذه الوجوه
نظر :
أمّا
الأوّل : فإنّه معارض بنفس
الوجود ، فإنّه صفة زائدة على ما يأتي ، فثبوته للشيء إن اقتضى سبق ثبوت الشيء في نفسه لزم التسلسل ، وإلّا فليكن علّة الوجود
غير مقتضية لسبق الوجود كما أنّ الوجود غير مقتض.
وأمّا
الثاني : فإنّ العلية تقتضي
المخالفة ، أمّا في الماهية فلا ، ولهذا جاز تعليل بعض أفراد النوع ببعض آخر ،
إلّا أن تكون علّة بماهيته.
وأمّا
الثالث : فللمنع من
الملازمة الأولى ، مع أنّها لا تفيد نفي تعليل الحصول بعلّة زائدة.
وأمّا
الرابع : فالمنع من الصغرى
على ما يأتي.
سلّمنا ، لكن لا
نسلم استقلال وجودها.
والوجه أن نقول :
لو كان الوجود مغايرا للكون في الأعيان وعلّة له لكان العلم بالكون في الأعيان
إمّا أن يستلزم العلم بالوجود أو لا ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ العلم بالكون في الأعيان ضروري ، فيجب أن لا ينفك الإنسان عن العلم بذلك
الزائد ، كما لا ينفك عن العلم بالكون في الأعيان ، لكنّ التالي باطل بالضرورة.
وأمّا الثاني ،
فلأنّه يستلزم جواز العلم بكون الماهية كائنة في الأعيان وانتفاء العلم بوجودها
وهو ضروري البطلان.
__________________
البحث الثالث : في أنّ الوجود مشترك
اختلف الناس في
ذلك ، فالذي ذهب إلى أنّ الوجود نفس الماهية أحال كونه مشتركا ، والذي قال
بالزيادة ذهب إلى أنّه مشترك وهو الحق ، لنا وجوه :
الأوّل
: الوجود بديهي
التصوّر على ما سبق ، ولو لم يكن مشتركا لم يكن كذلك ، لأنّه حينئذ يكون نفس
الحقيقة أو أمرا مغايرا للكون في الأعيان وكلاهما مكتسب.
الثاني
: الوجود والعدم
متقابلان على سبيل منع الجمع والخلوّ بينهما ، وأعرف القضايا عند العقل أنّه لا
واسطة بين هذين المتقابلين ، ولمّا كان النفي مفهوما واحدا لا تعدّد فيه ولا
امتياز من حيث إنّه نفي ، وجب أن يكون المقابل له كذلك ، إذ لو كان المقابل له
أمورا متعدّدة لم يكن التقسيم منحصرا بين الطرفين.
الثالث
: إذا عرفنا وجود
ممكن جزمنا حينئذ بوجود سببه ، وإذا تردّدنا في كون ذلك السبب واجبا أو ممكنا ،
وعلى تقدير كونه ممكنا هل هو جوهر أو عرض؟ وعلى تقدير كونه جوهرا هل هو مجرّد أو
مقارن؟ لم يكن ذلك موجبا للتردّد في الجزم بوجود السبب ، وإذا لم يكن التردّد في
الخصوصيات موجبا للتردّد في الوجود المطلق ، بل كان ثابتا حال زوال اعتقاد كل
خصوصية وثبوت غيرها ، وجب كونه مشتركا بين الجميع ، أمّا لو اعتقدنا كونه ممكنا
ثمّ تجدد لنا اعتقاد كونه واجبا لزم زوال اعتقاد الإمكان.
الرابع
: أنّه يمكننا أن
نقسّم الوجود إلى الواجب والممكن ، ويقبل العقل هذه القسمة ، ومورد التقسيم لا بدّ
وأن يكون مشتركا بين الأقسام ، ولا يجوز أن
__________________
يكون مورد القسمة
اللفظ ، وإنّا لو فرضنا بطلان الوضع لم تبطل قسمة العقل ، ولا خصوصيّة كل واحد من
الأقسام ، وإلّا لزم انقسام الشيء إلى نفسه ومقابله ، وهو باطل قطعا.
الخامس
: لو لم يكن الوجود
مشتركا جاز أن يكون الشيء الواحد واجبا ممكنا ، فلا يتميّز الواجب عن الممكن
بالتقسيم بالوجوب والإمكان والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ مفهوم الوجود إذا كان مختلفا ، جاز أن يكون الوجود للشيء الواحد بأحد مفهوميه
واجبا وبالآخر ممكنا ، فلا يكون التقسيم موجبا للامتياز ، أمّا مع اتّحاد المفهوم
، فإنّه يستحيل توارد الوجوب والإمكان عليه بالنسبة إلى الشيء الواحد.
السادس
: من قال : إنّ
الوجود غير مشترك فقد حكم باشتراكه من حيث لا يشعر ، فإنّ حكمه بأنّه غير مشترك
ليس مقصورا على وجود خاص ، بل على كلّ وجود ، فإن كان مفهوم الوجود مختلفا وجب أن
يبرهن على كلّ واحد من وجودات الماهيّات بأنّه غير مشترك ، و يعتقد أنّ استدلاله على : أنّ الوجود غير مشترك ، يتناول
كلّ وجود.
والاعتراض
على الأوّل : المنع من الصغرى وقد تقدّم .
وعلى
الثاني : أن نفي كلّ حقيقة
يقابله تحقّق تلك الحقيقة ، وليس بين ثبوت كل حقيقة ونفيها واسطة
، وليس ثبوتها أمرا زائدا عليها ، أو ان كان ، لكن
__________________
لا يكون مشتركا
بينها وبين غيرها ، وإلّا يلزم على هذا التقدير عدم انحصار القسمة ، لأنّه لا واسطة
بين تحقّق كلّ حقيقة ولا تحقّقها ، فإن ادّعيتم ثبوتا عاما مشتركا بين الموجودات
في مقابله نفي عام ، فهو نفس النزاع ، ولأنّا نعارض بنفس الوجود ، فإنّا إذا قلنا
: الشيء إمّا أن يكون ثابتا أو لا ، فالوجود إن لم يدخل في القسم الثابت دخل في
قسم اللاثابت ، فلا يكون الوجود زائدا وإن دخل فلا شكّ في أنّه مغاير للماهية الثابتة ، فيكون الوجود مشاركا للماهية الموجودة في أصل الثبوت
وممتازا عنها حينئذ بخصوصيّته ، فيكون للوجود وجود آخر ويتسلسل.
وعلى
الثالث : أنّا نعتقد ثبوت
شيء يقال عليه لفظة الموجود ، وإن لم نتصوّره ، ولا يلزم كونه مشتركا.
وعلى
الرابع : أنّ مورد التقسيم
هو الماهيّة ، فإذا قلنا : الموجود إمّا واجب أو ممكن ، فكأنّا قلنا السواد إمّا
تكون سواديته واجبة أو لا ، ولأنّه آت في الوجود ، لأنّه يمكننا أن نقسم الثابت إلى الوجود والماهيّة
الموجودة ، فتكون الثابتيّة مشتركة بين الوجود وغيره وهو محال.
وعلى
الخامس : أنّه مصادرة على
المطلوب الأوّل ، فإنّ من زعم أنّ الوجود ليس بمشترك زعم أنّ وجود كلّ شيء حقيقته
المخصوصة. وإذا استحال أن تكون الحقيقة الواحدة حقيقتين ، استحال أن يكون للشيء
وجودان ، فهذه الحجّة إنّما
__________________
تتمّ لو ثبت كون الوجود زائدا على الماهية ، وهو نفس النزاع .
وعلى
السادس : أنّ الحكم على أنّ
الوجود غير مشترك ، ليس حكما على الوجود من حيث هو ، بل على كلّ ما يطلق عليه لفظة
الوجود ، كما في قولنا : العين غير مشترك.
والجواب
عن الأوّل : ما تقدّم.
وعن
الثاني : أنّ مفهوم السلب
واحد ، فإنّ سلب السواد وسلب البياض لا يتمايزان إلّا بالإضافة إلى ملكاتهما ،
وإذا كان مفهوم السلب واحدا ، فالمقابل له إن كان خصوصيات الماهيّات لم يكن
المقابل للسلب أمرا واحدا ، بل أمورا كثيرة ويبطل الحصر ، وإن لم يكن المقابل له
نفس الخصوصيّات ، بل أمرا واحدا هو الوجود ، ثبت المطلوب.
وأيضا إنّما
نستعمل هذه الحقيقة لنتوصّل إلى معرفة الحقّ من أحد طرفيها ، ونصحّحه بالبرهان
، ونبطل الباطل منه بالبرهان ، ولو كان قولنا : الإنسان إمّا أن يكون موجودا أو
معدوما ، وأنّه لا يخلو عن النفي والإثبات ، معناه أنّ الإنسان لا يخلو عن أن يكون
إنسانا ، أو لا يكون ، لكانت حقيّة الحق وباطلية الباطل من الطرفين معلومة
بالضرورة ، فإنّا نعلم قطعا أنّ الإنسان إنسان ، وأنّه يستحيل أن لا يكون إنسانا ،
ولمّا كان ذلك باطلا ، بطل ما قالوه.
والمعارضة بالوجود
باطلة ؛ فإنّ الوجود وإن شارك الماهيّات الموجودة في أصل الثبوت ، لكن يمتاز عنها بقيد
سلبي وهو أنّه لا مفهوم له سوى الوجود
__________________
وإنّما تحصل
الكثرة لو كان الاشتراك بأمر ثبوتي والامتياز بأمر ثبوتي.
والتحقيق : أنّ
الوجود ليس له وجود آخر وإلّا لزم التسلسل ، وكذا الماهيّات ليس لها ثبوت في
أنفسها مغاير لمطلق الوجود الثابت لها ، ولا يلزم أن تكون عدميّة ، لأنّها من حيث
هي هي لا ثابتة ولا معدومة على أن يكونا داخلين في مفهومها وإن لم ينفك عنها ،
فالماهية المجردة عن الثبوت ليس لها ثبوت آخر ، فإنّ الماهيّة من حيث إنّها ماهيّة
ليست إلّا تلك الماهية ، ولا توصف بوصفي الوجود والعدم ، لأنّهما مفهومان زائدان
على مفهوم كونها تلك الماهية.
وعن
الثالث : أنّا نعتقد ثبوت
معنى حقيقي ، لا مجرّد لفظ وتسمية ، وذلك المعنى متصوّر لنا بالضرورة على ما سبق.
وعن
الرابع : أنّ الوجوب
والإمكان أمران اعتباريان عقليان من قبيل النسب والإضافات ، لا تعقل إلّا بين
شيئين ، فلا يمكن أن يكون مورد القسمة هو الماهية لا غير ، لأنّه حينئذ يبقى
التقدير : الماهية إمّا تكون واجبة أو ماهية ، أو لا تكون ، و هذه قسمة باطلة ، فإنّ الماهية يجب أن تكون تلك الماهية ،
ويمتنع أن لا تكون تلك الماهية.
وعن
الخامس : أنّ هذه الحجّة
تتوقّف على كون الوجود زائدا على الماهية ، لكن يمكن أن يسلّم الخصم ذلك ويمنع
اشتراكه.
وعن
السادس : أنّ الحكم على
الشيء يستدعي تصوّر المحكوم عليه ، ولو كان الحكم على ما يطلق عليه لفظ الوجود ،
فإن كان على وجود خاص وجب تصوّره ، وليس أولى من غيره ، وإن كان على وجود مطلق ثبت
المطلوب.
واحتج المانعون :
بأنّ الوجود نفس الماهية ، فلا يكون مشتركا ، والصغرى
__________________
يأتي بيانها ،
والكبرى ضرورية.
والجواب : المنع
من الصغرى ، وسيأتي.
واعلم أنّ الحكم
باشتراك الوجود أمر بيّن عند العقل ، فإنّه إذا نسب موجودا إلى مثله حكم بينهما
بمشاركة ليست هي نسبة موجود إلى معدوم ، وذلك المشترك هو الوجود ، ولا يمكن أن
يكون ذلك المشترك راجعا إلى اللفظ ، فإنّ الواضع لو وضع لطائفة من الموجودات
والمعدومات لفظا واحدا ، ولم يضع لجميع الموجودات اسما واحدا ، لم تكن المقاربة
بين تلك الموجودات والمعدومات المتّحدة في الاسم أكثر من التي بين الموجودات
المتغايرة في الاسم.
البحث الرابع : في كيفية اشتراكه
اعلم أنّ كلّ معنى
كلّي صادق على جزئيات مندرجة تحته ، فإمّا أن تتساوى تلك الجزئيات المندرجة تحته
في مقوليته عليها ، ويسمّى المتواطئ ، كالحيوان بالنسبة إلى جزئياته ، وإمّا أن لا
تتساوى ، بل تختلف بأحد أمور ثلاثة :
الشدّة : بأن يكون
ذلك المعنى أشدّ في بعض تلك الجزئيات من غيره ، كالبياض الذي هو أشدّ في الثلج منه
في العاج.
والأوّليّة : بأن
يكون ذلك المعنى في بعض جزئياته أقدم منه في الآخر ، كالوجود الذي هو في العلّة
أقدم منه في المعلول.
والأولويّة : بأن
يكون ذلك المعنى في بعض جزئياته أولى منه في الآخر ، كالوجود فإنّه في الجوهر أولى
منه في العرض.
إذا ثبت هذا فنقول
: الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته من الموجودات ، فإنّه في واجب الوجود أشدّ
وأولى وأقدم منه في غيره ، وكذا ثبوته في الجواهر
والأعراض ، بل وفي
نفس الجواهر ، وكذا الأعراض. فإنّ الأعراض الباقية أولى بالوجود من غيرها. وهذا
المقول بالتشكيك يقع على الجزئيات المندرجة تحته لا بالاشتراك اللفظي البحت، بل
بمعنى واحد في جميع تلك الجزئيات ، ولكن لا على السواء ، بل إمّا بالتقديم
والتأخير ، كوقوع المتّصل على المقدار وعلى الجسم ذي المقدار ، أو بالأولويّة
وعدمها كوقوع الواحد على ما لا ينقسم أصلا ، وعلى ما لا ينقسم باعتبار دون اعتبار
، أو بالشدّة والضعف ، كالبياض على الثلج والعاج.
والمعنى الواحد
المشكّك يمتنع أن يكون ماهية ، أو جزء ماهية لتلك الأشياء ، فإنّ الماهيّة لا
تختلف ولا جزئها ، بل إنّما يكون عارضا خارجا لازما أو مفارقا ، فالبياض لازم
لبياض الثلج وبياض العاج ، وكذا الوجود في وقوعه على وجود الواجب ، ووجودات
الممكنات المختلفة بالهويّة التي لا أسماء لها بالتفصيل ، ويقع على جملتها اسم
واحد. هكذا قاله أفضل المحققين.
وعندي فيه نظر ،
فإنّ اسم البياض إن كان للمعنى الأزيد أو الأنقص أو الأوسط لم يكن دالّا على
الباقيين إلّا بنوع من المجاز ، وإن كان للمعنى المشترك بينها كان متواطئا ، وليس
اختلاف هذه الجزئيات أشدّ من اختلاف الأنواع المندرجة تحت جنس واحد.
لا يقال : الحرارة
اسم للكيفية التي تصدر عنها الآثار المحسوسة ، فإذا كانت تلك الكيفيّة في بعض
الجزئيات أكثر تأثيرا من غيرها ، كانت أولى باسم الحرارة ، وكذا البياض وشبهه ،
وهذا هو معنى المشكّك.
لأنّا نقول :
الجوهر أيضا كذلك.
وبالجملة : فعندي
في المشكّك إشكال ، وليس هذا موضع تحقيقه.
فالموجودات على ما
ذكره معان مجهولة الأسماء ، شرح أسمائها أنّه موجود
كذا أو الموجود الذي لا سبب له ، ثم يلزم الجميع في الذهن الوجود العام ، كما أنّا
لو لم نعرف الكميّة والكيفيّة وغيرهما من الأعراض بأسمائها ورسومها لكنّا نقول في
الكم : هو عرض ما أو موجود ما في موضوع. ونسبة الوجود إلى أقسامه كنسبة الشيء إلى
ما تحته ، لكنّ أقسام الشيء معلومة الأسماء والخواص ، ولا كذا أقسام الوجود ، وهذا
كما أنّ أنواع الأعداد معان مجهولة الأسامي فيعبّر عنها ببعض لوازمها ، فيقال :
عشرة ، أي العدد الذي من خواصّه ولوازمه الانقسام إلى عشرة آحاد.
البحث الخامس : في أنّ الوجود زائد على الماهيّة
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب «أبو الحسن الأشعري» و «أبو الحسين
البصري» إلى أنّ وجود كل شيء نفس ماهيته.
__________________
وقال أصحاب «أبي
هاشم» : أنّه زائد على الماهيّة مطلقا.
وأمّا الأوائل ،
فإنّهم فصّلوا وقالوا : وجود الله تعالى نفس حقيقته ، وأمّا وجودات الممكنات ،
فإنّها زائدة على ذواتها.
وسيأتي البحث في
وجود واجب الوجود تعالى ، وأمّا وجود الممكنات ، فالحقّ أنّه زائد عليها لوجوه :
الأوّل
: إنّ الوجود مشترك
بين الموجودات على ما سبق ، فيكون مغايرا لها ، وإلّا لزم اشتراك الماهيّات في
خصوصياتها ، واللازم باطل بالضرورة.
الثاني
: لو كان الوجود نفس
الماهيّة لكان قول القائل : الجوهر موجود يتنزّل منزلة قولنا : الجوهر جوهر ، أو
الموجود موجود ، والتالي باطل قطعا ، فإنّا ندرك تفرقة بين حمل الوجود على الجوهر
وبين حمل الجوهر على نفسه ، ونعقل من الأوّل قضية حملية مفيدة دون الثاني ، فيكون
المقدّم باطلا.
لا يقال : إذا
قلنا : السواد موجود ، أردنا به أنّ المتصوّر في العقل موجود محصّل في الخارج ،
وذلك لا يقتضي أنّ كونه محصّلا في الخارج زائد عليه ، بل يقتضي امتياز كونه محصّلا
في الخارج عن كونه متصوّرا في الذهن. ولأنّا نقول : الليث أسد فيفيد ، ولو قلنا :
الليث ليث لم يفد.
ونقول : واجب
الوجود موجود مع أنّ وجوده نفس حقيقته.
لأنّا نقول : نحن
لا ندّعي أنّ الوجود زائد على كونه محصّلا في الخارج ، بل
__________________
كونه محصّلا في
الخارج زائد على سواديته ، وما ذكرتموه تسليم لنا في ذلك ، فقولنا : الليث أسد ،
نشير به إلى أنّه سمّي باسم الأسد ، فالحمل في اللفظ بعد الوضع ، ولو انتفى الوضع
انتفى الحمل بخلاف حمل الوجود على السواد ، فإنّه يصحّ وإن لم يكن وضع ، وحمل
الوجود على واجب الوجود حمل على المغاير ، فإنّ المفهوم من واجب الوجود ليس نفس
حقيقته ، بل وصف سلبي معناه المستغني عن غيره.
الثالث
: الوجود بديهي
التصوّر ، والماهية ليست كذلك ، فالوجود مغاير للماهية.
الرابع
: الوجود مقابل
للعدم ، وقابل للقسمة بالوجوب والإمكان ، وخصوصيات الماهيّات غير قابلة لهذه
الأحكام.
الخامس
: لو لم يكن الوجود
زائدا على الماهية لزم نفي الإمكان ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّ الماهية بشرط الوجود يستحيل عليها العدم ، وبشرط العدم يستحيل عليها الوجود ،
فلا تكون ممكنة مع هذين الاعتبارين ، وإنّما تكون ممكنة من حيث هي هي ، فلو كان
الوجود نفس الماهية استحال الحكم عليها بإمكان العدم والوجود ، لاستحالة قبول
الشيء لما ينافيه وتزايد الوجود.
السادس
: لو لم يكن الوجود
زائدا على الماهية ، لكان إمّا نفس الماهية أو جزئها ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل :
فلما تقدّم. ولأنّه يلزم امتناع إقامة برهان ما على وجود شيء واستحالة التشكيك في
وجود كلّ شيء.
__________________
لا يقال : سلّمنا ، أنّ الشك يدلّ على المغايرة ، لكنّه إنّما يثبت
بالنسبة إلى الموجود الخارجي ، أمّا الذهني فلا.
لأنّا نقول : قد
نعقل الماهية ونشك في وجودها الذهني ، ولهذا أنكره جماعة ، فالوجود الذهني وإن كان
لازما للشعور بالشيء لكنّه غير لازم في الشعور به . ولأنّ الماهية الموجودة في الأعيان ، وهي غير معقولة
لعاقل ، تكون حقيقتها حاصلة ، ووجودها الذهني غير حاصل ، ويلزم منه المطلوب.
لا يقال : نعارض
بالوجود ، فإنّا نتصوّره ونشك في حصوله في الأعيان ، فيلزم أن يكون للوجود وجود
ويتسلسل.
لأنّا نقول : الشك
في الشيء قد يكون في ثبوته لشيء ، وقد يكون في ثبوت آخر له. والشك في الوجود إنّما
هو بالمعنى الأوّل ، لا بمعنى ثبوت وجود آخر له ، لامتناع وصف الوجود بالوجود
والعدم ، فإنّه لو اتصف بالوجود لزم التسلسل ، ولو اتّصف بالعدم ، لكان
الشيء موصوفا بنقيضه ، وإذا كان معنى الشك في الوجود هو أنّه هل هو ثابت لغيره أو
لا؟ ثبت المطلوب. أمّا الشك في الماهية فليس معناه هذا ، بل هل ثبت لها وجود أم لا؟ وفيه نظر.
ولأنّ الوجود
مستند إلى الفاعل وحاصل بجعل جاعل ، بخلاف الماهية.
ولأنّ الفصل علّة
لوجود الحصّة لا لماهياتها.
ولأنّ العلّة
متقدمة على المعلول في الوجود لا في الماهية.
__________________
وأمّا الثاني فلوجوه :
الوجوه
الأوّل : لو كان الوجود
جزءا لكان جنسا إذ هو أعمّ الذاتيات ، فيكون فصله موجودا لأنّه علّة للموجود فيكون
الجنس داخلا في طبيعة الفصل.
وفيه نظر ؛ لاحتمال صدق الجنس عليه صدق العارض.
الوجه
الثاني : لو كان جنسا لكان
فصله علّة لوجوده ، فيكون للوجود وجود آخر ويتسلسل.
الوجه
الثالث : لو كان جنسا
لافتقر واجب الوجود في وجوده إلى فصل.
وفيه نظر ؛ لأنّ
البحث ليس إلّا في الوجود الممكن.
الوجه
الرابع : الوجود مقول
بالتشكيك ، فإنّه في الواجب أولى وأقدم وأشد ، فلا يكون جزءا.
لا يقال : جاز أن
يكون جنسا في الممكنات.
لأنّا نقول : لا
يجوز أن يكون الجنس في أنواعه أضعف منه في معروضه ولأنّ في الممكنات جوهرا وعرضا
وعلّة ومعلولا.
__________________
الوجه
الخامس : لو كان جزءا
لامتنع افتقار إثباته إلى برهان.
وفيه نظر ؛ لوروده
في جوهرية النفس وهيولى الجسم.
الوجه
السادس : لو كان جنسا ، فإن
كان في نفسه غنيا عن الموضوع كان جوهرا وهو جزء من العرض ، فكان العرض جوهرا ، هذا
خلف. وإن لم يكن غنيا عنه وهو جزء من الجوهر كان الجوهر عرضا ، هذا خلف. واعترض
بمنع استلزام جوهرية الجزء جوهرية الكلّ.
وفيه نظر ؛ لأنّه
حينئذ محمول بالمواطاة على أنّه داخل ، لكن يشكل بمنع جوهريته على تقدير استغنائه
، إذ لا ماهية له زائدة على وجوده ؛ لاستحالة أن يكون للوجود وجود.
واحتجّ المانعون
من الزيادة بوجوه :
الأوّل
: ما ذكره «أبو
الحسين» وهو أنّه لو كان وجود الجوهر صفة زائدة على كونه متحيّزا ،
لصحّ أن نعلمه متحيّزا من دون أن نعلمه موجودا ، أو نعلمه على صفة الوجود من دون
أن نعلمه متحيّزا ، إذ لا تعلّق بينهما يمنع من ذلك ، فلمّا لم نعلمه موجودا إلّا
وقد علم متحيّزا ، ولا يعلم متحيّزا إلّا وقد علم موجودا ، علمنا أنّ وجوده وتحيّزه واحد. وإنّما
قلنا أنّه لا تعلّق بينهما ، لأنّه لو كان أحدهما متعلّقا بالآخر ، بأن يكون
أحدهما أصلا للآخر ـ إذ يمتنع كون كلّ منهما
__________________
أصلا للآخر ،
وإلّا دار ـ لصحّ العلم بذلك الأصل دون فرعه ، وهذا غير ثابت في المتحيّز والوجود
، كما تقدّم.
الثاني
: لو كان الوجود
زائدا على الماهية لصحّ أن نعلم الماهية حاصلة متحقّقة مع الذهول عن وجودها ، أو
نعقل وجودها مع الذهول عنها ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم. وهي كالأوّلي.
الثالث
: لو كان الوجود
زائدا ، لكان إمّا ثابتا فيتسلسل ، أو غير ثابت ، فلا يكون زائدا.
الرابع
: لو كان الوجود
زائدا ، لكانت الذات قابلة له ، لكن قبول الذات له يستدعي تعيّن تلك الذات
وتحصّلها حتّى يصحّ لها القبول ، وذلك التحصّل هو الوجود ، فتكون الذات موجودة قبل
اتّصافها بالوجود ، هذا خلف.
الخامس
: لو كان الوجود
زائدا على الماهية لكان قيام الوجود بالماهية إن توقّف على كون الماهية موجودة لزم
إمّا كون الشيء شرطا في نفسه أو التسلسل ، وإن لم يتوقف لزم قيام الصفة الثبوتية
بالمحلّ المعدوم وهو محال.
والجواب
عن الأوّل : أنّه في غاية
الاختلال ، فإنّه لا يلزم من المغايرة الانفكاك في التصوّر ولا شكّ أنّ الغلط هنا
من باب إيهام العكس ، فإنّ الأمور التي تنفك بعضها عن بعض في التصوّر
متغايرة.
سلّمنا وجوب
الانفكاك لكن لم قلتم باستحالته؟ فإنّا قد نتصوّر جوهرا متحيّزا غير موجود.
__________________
وعن
الثاني : بذلك أيضا ،
ولأنّه مغالطة فإنّ الوجود هو كون الماهية محصّلة في الخارج ، فإذا عقلنا الماهية
محصّلة في الخارج فقد عقلناها موجودة فيستحيل حينئذ الغفلة عن كونها موجودة.
وعن
الثالث : الثابت ينقسم إلى
ما لا مفهوم له وإلى ما له مفهوم آخر وراء كونه ثابتا ، فإن كان له مفهوم وراء
كونه ثابتا كان الثبوت زائدا عليه. وإن لم يكن له مفهوم وراء الثبوت لم يكن الثبوت
زائدا عليه. وبالجملة فالقسمة المذكورة باطلة كما في قولنا : الإنسان إمّا أن يكون
إنسانا أو لا.
وعن
الرابع : التعيّن لا يستدعي
الوجود الخارجي.
وعن
الخامس : أنّ الوجود قائم
بالماهية من حيث هي هي ، لا من حيث إنّها موجودة ولا من حيث إنّها معدومة ، ولا
يلزم من عدم إدخال الوجود في الاعتبار إدخال العدم فيه.
تنبيه
:
لا نعني بكون
الوجود زائدا على الماهية ما نعنيه بقولنا : السواد زائد على ماهية الجسم ، فإنّ الجسم يوجد
في الخارج منفكّا عن السواد فيحكم حينئذ بزيادته عليه في الخارج وليس الوجود
بالنسبة إلى الماهية كذلك ، فإنّه من المستحيل أن يوجد الجسم في الخارج منفكا عن
الوجود ، ثمّ يحلّ فيه الوجود حلول السواد في الجسم ، فإنّ كون الجسم في الخارج هو
وجوده ، والماهية لا تتجرّد عن الوجود إلّا في العقل ، لا بأن يكون في العقل
منفكّة عن الوجود ، فإنّ الكون في العقل وجود عقلي كما أنّ الكون في الخارج وجود
خارجي ، بل نعني أنّ للعقل أن يلاحظ الماهية وحدها من غير ملاحظة الوجود ، فاتّصاف
الماهية بالوجود أمر
__________________
عقلي بخلاف اتّصاف
الجسم بالسواد ، فإنّ الماهية ليس لها وجود منفرد ولعارضه المسمّى بالوجود وجود
آخر ، ويجتمعان كاجتماع المقبول والقابل ، بل الماهية إذا كانت فكونها هو وجودها ،
فالماهية إنّما تكون قابلة للوجود عند كونها في العقل.
البحث السادس : في الوجود الذهني
اختلف الناس في
ثبوته ، ونفاه قوم ، وأثبته آخرون ، وهو الحقّ.
لنا أنّا نتصوّر أمورا لا ثبوت لها في الخارج ، ونحكم عليها
بأحكام ثبوتية والمحكوم عليه بالحكم الثبوتي يجب أن يكون ثابتا ، وإذ ليس بثابت في
الخارج ، فهو ثابت في الذهن. فهنا مقدمات :
الأولى
: تصوّر أمور لا
ثبوت لها في الخارج وهي ظاهرة ، فإنّا نتصوّر بحرا من زئبق ، وجبلا من ياقوت وغير
ذلك من المركّبات التي لا تحقّق لها في الخارج.
الثانية
: أنّا نحكم عليها
بأحكام ثبوتية وذلك ، لأنّا نحكم بامتياز إحدى
__________________
الصورتين عن
الأخرى وبمخالفتها لها ، وأنّ لها تعيّنا وتخصّصا ليس لما عداها ، وأنّ الجبل
والبحر المذكورين أجسام. وهذه أحكام ثبوتية.
الثالثة
: المحكوم عليه
بالحكم الثبوتي يجب أن يكون ثابتا ، وذلك لأنّ ثبوت شيء لغيره فرع على ثبوت ذلك
الغير في نفسه ، وهو ضروري.
لا يقال : الوجود
صفة ثبوتية ، ولا يستدعي حصولها للماهية كون الماهية ثابتة وإلّا لزم التسلسل.
ولأنّا نحكم على السلب بمقابلته للإيجاب ، وليس في السلب ثبوت في
نفسه ولا في الذهن ، لأنّه من حيث هو ثابت في الذهن لا يقابل الثبوت المطلق ، بل هو
قسم منه ، فهو من حيث إنّه مقابل لمطلق الثبوت لا يكون ثابتا ، ولأنّا نحكم على
الممتنع بالامتناع ، ولأنّا نحكم على العدم بامتناع الحكم عليه وذلك مناقضة.
لأنّا نقول :
الضرورة قاضية بالفرق بين اتّصاف الشيء بالثبوت واتصاف الشيء بثبوت آخر له ، فإنّ
العقل قاض بعدم اشتراط الأوّل بالثبوت وإلّا لزم التسلسل ، وباشتراط الثاني
بالثبوت ، وإلّا لجاز قيام الصفات الثبوتية بالمحل المعدوم ، وذلك يفضي إلى
السفسطة ، فإنّا إنّما نشاهد من الأجسام أعراضها من الكم والكيف وغير ذلك ، فلو
سوّغنا قيام الموجود بالمعدوم جاز قيام هذه الصفات بأجسام معدومة وذلك باطل
بالضرورة.
والتحقيق : ما
تقدّم من أنّه ليس في الخارج ماهية ووجود قائم بها قيام السواد بالجسم ، بل الذهن
يفصّل الشيء الموجود والمعقول إلى ماهيّة ووجود ،
__________________
ويميّز بينهما ،
ويحكم بزيادة الوجود وحلوله في الماهية ذهنا وتعقّلا لا خارجا. والوجود الذهني وإن
كان عبارة عن كون الماهية في الذهن فهو كالخارجي أيضا ؛ لأنّ الذهن قد يعقل
الماهية خالية عن الوجود الذهني ويفرض لها وجودا آخر يكون شرطا لهذا الوجود ،
وهكذا إلى أن ينقطع بانقطاع الاعتبار. والوجود المطلق مشروط بالوجود الخاص الذهني أو الخارجي ، ولا استبعاد في
كون الخاص علّة وسببا لوجود العام في غيره.
وإذا استحضر الذهن صورة غير مستندة إلى الخارج وحكم عليها بأنّه
لا مطابق لها في الخارج كان ذلك هو تصوّر السلب ، ثم إذا استحضر صورة أخرى وحكم
عليها بأنّ لها في الخارج مطابقا كان ذلك هو تصوّر الإيجاب ، ثم يحكم على إحداهما
بأنّها مقابلة للأخرى، لا من حيث إنّهما حاضرتان في العقل ، بل من حيث استناد
إحداهما إلى الخارج دون الأخرى ، فالمحكوم عليه بالتقابل صورتان عقليّتان موجودتان
في الذهن ، وهذا معنى قولهم «تقابل السلب
والإيجاب : إنّما يتحقّق في القول والضمير لا في الخارج».
ويمكن اعتبار ذلك
أيضا في الصورة الذهنية فإنّ للذهن أن يعتبر رفع جميع الأشياء حتّى رفع نفسه فإذا تصوّر شيئا لا وجود له في
الخارج بصورة حلّت فيه ، أمكنه تصوّر عدمها وحكم بالتقابل بينهما من حيث إنّ
الصورة أخذت ثابتة في الذهن تارة ومسلوبة عنه أخرى ، وإن كان لا بدّ في السلب من
ثبوت ذهني ، لكن باعتبار آخر ، فالحكم هنا بالتقابل على صورتين ثابتتين في الذهن
لا باعتبار
__________________
ثبوتهما في الذهن
، بل من حيث إنّ احداهما أخذت موجودة بالوجود الذهني والأخرى أخذت مسلوبا عنها الوجود الذهني .
وإذا استحضر الذهن
صورة وحكم عليها بالامتناع ، كان حكما على صورة ذهنية بامتناع وجودها في الخارج ،
لا بامتناع وجودها في الذهن ، والمحكوم عليه بهذا الامتناع ليس تلك الصورة من حيث
إنّها ذهنية ، فإنّ ذلك غير مختصّ بالممتنع ، بل كلّ صورة ذهنية يمتنع وجودها في
الخارج ، بل المحكوم عليه حقيقة تلك الصورة الموجودة في الذهن.
ولا تناقض في الحكم على العدم بامتناع الحكم عليه ، لتغاير
الجهة ، فإنّه من حيث هو في الذهن مقيّد بقيد العدم الخارجي يحكم عليه بامتناع
الحكم ، فالحكم عليه من حيث ثبوته في الذهن ، وامتناع الحكم عليه ، باعتبار كونه
عدما مطلقا .
احتج النافون
بوجوه :
الأوّل
: لو ثبت الوجود
الذهني لزم أن يكون الذهن حارا باردا ، مستديرا مستقيما ، وهو باطل بالضرورة.
ولعدم اجتماع الضدين.
الثاني
: الصورة الذهنية إن
لم تطابق الخارج كانت جهلا ، وإن طابقت بطل أصل الدليل.
__________________
الثالث
: يجوز أن تكون
الصور الخياليّة قائمة بأنفسها ، كما يقوله افلاطون.
الرابع : الوجود الذهني إن ثبت فإنّما
يثبت في ما لا وجود له خارجا ، أمّا في ما له وجود في الخارج فلا.
والجواب
عن الأوّل : أنّ الموجود في الذهن ليس نفس الحرارة والبرودة ، بل
صورتهما ومثالهما ، وهما لا يوجبان التسخين والتبريد ، ولا يلزم حرارة الذهن ، ولا
اجتماع الضدّين ، ولأنّ الذهن غير قابل للكيفيّات المحسوسة ، فلا يلزم أن يكون
متسخّنا.
وفيه نظر ؛ لأنّ
الصورة والمثال إن كانت عين الحرارة لزم الإشكال ، وإلّا كان قولا بعدم ثبوت
الحرارة في الذهن وهو المطلوب ، ولا نعني بالانفعال عن الحرارة إلّا وجود هذه
الكيفية في المحل ، وإذا لم يكن الذهن قابلا لهذه الكيفية ، لم يكن محلا لها.
وعن
الثاني : أنّ الجهل إنّما
هو في الحكم بالمطابقة مع عدمها ، أمّا في نفس وجود الصورة الذهنية فلا.
وعن
الثالث : أنّ الضرورة قاضية
بنفي الممتنعات.
وعن
الرابع : أنّ الوجود
الخارجي غير كاف في الحكم على الشيء ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ الحاكم على الشيء
يجب أن يحضره المقضي عليه.
واعلم أنّا لا
نعني بالوجود الذهني ثبوت الشيء نفسه في الذهن فإنّ ذلك معلوم البطلان بالضرورة ،
بل نعني به وجود مثال له وصورة مساوية لا من كلّ وجه. وسيأتي تحقيق ذلك في باب
العلم إن شاء الله تعالى.
__________________
البحث
السابع : في أنّ الوجود هل يقبل الشدة والضعف أم لا؟
وقبل الخوض فيه لا
بدّ من تقديم معنى الشدّة والضعف أوّلا.
فنقول : فسّر أفضل
المحقّقين الاشتداد بأنّه اعتبار المحل الواحد الثابت إلى حالّ فيه غير قارّ تتبدّل نوعيّته ، إذا قيس ما
يوجد منها في آن [ما] إلى ما يوجد في آن آخر ، بحيث يكون ما يوجد في كلّ آن
متوسطا بين ما يوجد في آنين يحيطان بذلك الآن ، ويتجدّد جميعها على ذلك المحلّ
المتقوّم دونها من حيث هو متوجه بتلك المتجدّدات إلى غاية ما. ومعنى الضعف هو ذلك
المعنى بعينه ، إلّا أنّه يؤخذ من حيث هو منصرف بها عن تلك الغاية ، فالآخذ في
الشدة والضعف هو المحل ، لا الحالّ المتصرم المتجدّد .
إذا عرفت هذا
فنقول : اختلف الناس في أنّ الوجود هل يقبل الشدة والضعف أم لا؟ فأثبته قوم ونفاه
آخرون.
احتج المثبتون :
بأنّ معنى الاشتداد ثابت في الوجود ، فإنّه كما أنّ السواد يشتد باعتبار كونه
كيفية يفرض العقل لها طرفين ، ووسائط تقرب بعضها من أحد الطرفين وبعضها من الآخر ،
فأحد الطرفين هو السواد البالغ في السوادية ، الذي لا يوجد فوقه مرتبة زائدة عليه
في السوادية ، والطرف الآخر البياض ، وأقرب
__________________
المراتب إلى الطرف
الأوّل شديد وأبعدها عنه ضعيف ، وتؤخذ مراتب غير متناهية بين الطرفين. وكذا الوجود
له طرفان : الوجوب والعدم ، ووسائط هي وجودات الممكنات ، فكلّ ما كان أقرب إلى
الوجوب كان أشدّ من الآخر ، فيكون قابلا للشدة والضعف.
واحتج المانعون :
بأنّ الوجود معنى معقول بسيط لا يعقل فيه مراتب باعتبار كونه وجودا. ولأنّه بعد
الاشتداد إن لم يحدث شيء لم يكن اشتدادا ، بل هو باق كما كان ، وإن حدث لم يكن
اشتدادا أيضا للموجود الواحد ، بل يكون حاصله أنّه حدث شيء آخر معه. وهذه الحجة
تبطل الاشتداد في جميع الأعراض.
الفصل الثاني :
في مباحث العدم
البحث الأوّل : في أنّ تصوّره بديهي
البحث هنا كما
قلنا في الوجود ، فإنّا كما نعلم بالضرورة وجود ذواتنا ، كذا نعلم بالضرورة ارتفاع
ذلك الوجود وعدمه. ولأنّ التصديق الضروري ، بأنّه لا يخلو الشيء عن الوجود والعدم
، مسبوق بتصوّر الوجود والعدم ، والسابق على البديهي أولى أن يكون بديهيا.
واعلم : أنّ العدم
إمّا مطلق أو مضاف ، والأوّل لا يعلم ولا يخبر عنه ، إذ لا تعيّن له ولا تخصّص ولا
امتياز ، والعلم يستدعي ذلك كلّه ، وما لا هويّة له كيف يشير العقل إليه بأنّه هو.
أمّا المضاف فإنّه يعلم بواسطة ملكته.
لا يقال : العدم
المطلق جزء من المضاف ، والشيء ما لم يعلم جزؤه لا يعلم ، ولأنّ قولنا : العدم لا
يخبر عنه إخبار عنه.
لأنّا نقول :
العدم لا يعقل جزءا من غيره ، وإنّما ذلك اعتبار عقلي. والإخبار
عن العدم بعدم
الإخبار عنه غير متناقض للتغاير في الموضوعات ، فإنّ ما ليس بثابت في الذهن له
ثبوت ذهني ، لأنّ هذا السلب متصوّر والمنسوب إليه هذا السلب ليس له ثبوت أصلا.
فهنا اعتباران : سلب الثبوت ذهنا ، والمنسوب إليه هذا السلب ، فبالاعتبار الأوّل
أمكن الحكم عليه دون الاعتبار الثاني من غير تناقض ، لعدم اتّحاد الموضوع فيهما ،
وإنّما حصل لنا تصوّر سلب الثبوت المطلق ، لأنّ للذهن أن يتصوّر جميع الأشياء حتّى
عدم نفسه ، فإذا تصوّر الوجود المطلق وتصوّر عدمه فقد تصوّر سلب الثبوت المطلق .
البحث الثاني : في أنّ المعدوم ليس بشيء
هذه مسألة عظيمة
وقع الخلاف فيها بين النفاة والمثبتين مع أنّها ظاهرة.
وتقرير الكلام في
ذلك أن نقول : المعدوم إمّا أن يكون ممتنع الثبوت ، ولا
__________________
نزاع في أنّه نفي
محض.
وإمّا أن يكون
ممكن الثبوت ، فعندنا أنّه كذلك ، وهو مذهب الأوائل وجماعة من المتكلّمين «كأبي الهذيل» و «هشام الفوطي» و «هشام البردعي» و «أبي الحسين
البصري» و «الخوارزمي» و «القاضي أبي بكر الباقلاني» وغيرهم.
وذهب آخرون إلى
أنّه شيء ، بناء على أنّ الوجود زائد على الماهية ، وأنّه يجوز خلو تلك الماهية عن
الوجودين وتبقى ثابتة في الأعيان ، فجعلوا الوجود غير الثبوت ، وهو مذهب «أبي
يعقوب الشحّام» و «أبي علي
الجبائي» و «أبي
__________________
هاشم» و «أبي
الحسين الخيّاط» و «أبي القاسم
البلخي» و «أبي عبد الله
البصري» و «أبي اسحاق بن
عياش» و «قاضي القضاة» و «أبي رشيد» [و] «ابن متّويه»
وغيرهم.
لنا
وجوه : أوّلا : لو كانت الماهيات متحقّقة في الخارج حال عدمها ، لكانت متشاركة في ذلك التحقّق
ومتباينة بخصوصيّاتها ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم أن يكون تحقّق
كلّ ماهية زائدا عليها ولا نعني بكونها موجودة
__________________
سوى ذلك ، فيلزم
أن تكون موجودة حال فرضها معدومة ، وذلك باطل بالضرورة .
وفيه نظر ؛ لأنّهم
سلّموا مغايرة الثبوت للوجود ، وأنّ الثبوت أمر مشترك زائد على الماهيّات ، ولا
يلزم أن تكون الماهيات موجودة حال كونها معدومة ، بل أن تكون ثابتة حال كونها
معدومة ، وهو محلّ النزاع.
والتحقيق : أن
نقول : النزاع هنا ليس إلّا في إثبات معنى غير الثبوت وعدمه ، والحق عدمه ، لأنّ
الثبوت هو الكون في الأعيان ، ونحن لا نعقل سوى الماهية والكون في الأعيان ،
والوجود هو الكون في الأعيان.
ثانيا
: لو كانت الذوات
ثابتة في العدم ، لكانت إمّا متناهية أو غير متناهية ، والقسمان باطلان ، فالقول
بكونها ثابتة في العدم باطل.
أمّا
الأوّل : فبالاتفاق ، وإلّا
لزم انحصار مقدور الله تعالى في عدد متناه.
وأمّا
الثاني : فلأنّها بعد إخراج
شيء منها إلى الوجود إمّا أن تبقى كما كانت وهو باطل بالضرورة ، وإلّا لزم أن يكون
الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ، وإمّا أن تنقص ، فيلزم تناهيها ، والذي خرج منها
إلى الوجود متناه ، فيكون الكلّ متناهيا وقد فرض غير متناه ، هذا خلف .
وفيه نظر ، فإنّه
لا يلزم من القلّة التناهي ، فإنّ معلومات الله تعالى أكثر من مقدوراته، وتضعيف
الألف مرارا غير متناهية أقلّ من تضعيف الألفين كذلك والكلّ غير متناه ، بل كلّ
عدد غير متناه إذا أخذ أي عدد متناه كان منه ، فإنّ الباقي يكون غير متناه وأقلّ
من الأوّل.
__________________
ثالثا
: هذه الماهيات من
حيث إنّها هي ممكنة لذواتها ، وكل ممكن محدث ، فهذه الماهيات من حيث هي هي محدثة ،
فتكون مسبوقة بالنفي الصرف.
أمّا المقدمة
الأولى ، فلأنّها لو كانت واجبة التقرّر في الخارج لذواتها ، لكانت واجبة الوجود ،
وسيأتي بيان أنّه واحد.
وأمّا الثانية ،
فسيأتي بيان أنّ كلّ ممكن محدث ، وأنّ كل محدث مسبوق بالعدم .
وفيه نظر ، فإنّهم
يسلّمون أنّها ممكنة ومحدثة ، ولكن ليس معنى المحدث هو المسبوق بالنفي ، بل
بالعدم. ولا يلزم من كونها واجبة التقرّر في الخارج كونها واجبة الوجود ، لأنّ
التقرّر في الخارج هو الثبوت ، وليس واجب الوجود هو واجب التقرّر أو الثبوت ، بل
واجب الوجود ، والوجود أخصّ من الثبوت على ما مرّ.
رابعا
: الذوات أزليّة ،
فلا تكون مقدورة ، والوجود حال ، فلا يكون مقدورا ، فتكون الذوات الموجودة غير
مقدورة ، فتنتفي قدرة الله تعالى وهو محال .
وفيه نظر ؛ فإنّهم
يذهبون إلى أنّ القادر تأثيره في جعل الذوات موجودة ، ولا يندرج ذلك تحت ما ذكره
من الأقسام.
خامسا
: السواد المعدوم
إمّا أن يكون واحدا أو كثيرا ، والقسمان باطلان ، فالقول بثبوته باطل. أمّا الأوّل
، فلأنّ وحدته إن كانت لازمة لماهيته امتنع تكثّره في الخارج ، وإن لم تكن لازمة
أمكن عدمها ، فيحصل التعدّد ، لكنّه محال لتوقّفه على التباين بالهوية ، ثمّ ما به
التباين إن كان لازما للماهية لزم اختلاف كل شيئين بالماهية ، فلا يوجد شخصان من
نوع واحد ، هذا خلف. وإن لم يكن لازما كان
__________________
المعدوم موردا
للصفات الزائلة وهو محال ، وإلّا لجاز أن يكون محلّ الحركات والسكنات
المتعاقبة معدوما ، وهو باطل بالضرورة .
وهو ضعيف ؛ لأنّ
السواد المعدوم لا يوصف بكثرة ولا وحدة.
سلّمنا ، لكن
التباين إذا لم يكن من اللوازم لم يجب زواله ، وإن أمكن ، لكن كونه موردا للصفات
الزائلة لازم للزوال لا لإمكانه.
سادسا
: المعدوم إن ساوى
المنفي أو كان أخصّ ، فكلّ معدوم منفي وكلّ منفي فليس بثابت فالمعدوم ليس بثابت.
وإن كان أعم وجب أن لا يكون نفيا محضا ، وإلّا لم يبق فرق بين العام والخاص ، وإذا
لم يكن نفيا كان ثابتا ، وهو مقول على المنفي فإنّ العام صادق على الخاص ، فيكون الثابت صادقا على
المنفي ، هذا خلف .
وفيه نظر ؛ لجواز
المباينة ، فإنّهم يذهبون إلى أنّ المنفي هو الممتنع ، والمعدوم هو الممكن الثابت.
سابعا
: المعدوم الثابت
إمّا أن يكون وجوده ثابتا أو منفيا ، والقسمان باطلان ، فالقول بثبوت المعدوم
باطل.
أمّا الأوّل ،
فلأنّه إن لم يكن ثابتا له لزم ثبوت الصفة لغير الموصوف ، وهو غير معقول. وإن كان
ثابتا له لزم أن يكون موجودا حال ما فرضناه معدوما ، هذا
__________________
خلف.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ المنفي ممتنع الثبوت عندهم فلا تكون الذوات المعدومة ممكنة الوجود ، هذا
خلف.
ثامنا
: المعدوم الممكن
إمّا أن يكون موجودا أو ليس بموجود ، ولا ثالث لهما ، فإنّ أحدهما نفي والآخر
إثبات.
والأوّل باطل ،
وإلّا لزم أن يكون المعدوم موصوفا بالوجود ، وهو باطل بالضرورة.
والثاني يلزم منه
أن يكون نفيا ، فيكون ممتنعا.
وفيه نظر ؛ فإنّه
لا يلزم من كونه ليس بموجود أن يكون نفيا ، لأنّ ما ليس بموجود قد يكون ثابتا.
واعلم أنّ الضرورة
قاضية بفساد هذا المذهب ، فإنّه لا يعقل شيء سوى الماهية والوجود ، ومن أثبت أمرا
وراء الوجود أعمّ منه وسمّاه الثبوت ، فقد كابر مقتضى عقله.
احتج المخالف
بوجوه :
الأوّل
: المعدومات متميّزة
في أنفسها وكلّ متميّز ثابت.
أمّا الصغرى ،
فلأنّا نعلم طلوع الشمس غدا وهو معدوم الآن ، ونعلم الحركة التي يمكنني أن أفعلها
والتي لا يمكنني فعلها ، ولهذا نحكم على إحداهما بإمكان الوقوع دون الأخرى. ولأنّا
نقدر على الحركة يمنة ويسرة ، ولا نقدر على خلق السماء والأرض ، وهذا الامتياز
حاصل قبل وجود هذه الأشياء. ولأنّا نريد اللذات ونكره الآلام وهي معدومة ، ولو لا
امتياز بعضها عن البعض لاستحال
تخصيص بعضها
بالإرادة وبعضها بالكراهة ، فقد ثبت بهذه الوجوه أنّ المعدومات متميّزة.
وأمّا الكبرى ،
فلأنّ معنى الثابت هو المتميّز عن غيره ، المتخصّص بتعيّنه عمّا سواه ، فإنّ ذلك
إنّما يعقل بعد تحقّق تلك الحقائق ، فتكون الماهيّات متحقّقة وثابتة حال العدم.
الثاني
: المعدوم الممكن
موصوف بالامتياز عن الممتنع ، والامتناع ليس وصفا ثبوتيا ، وإلّا لكان محلّه ثابتا
، هذا خلف ، وإذا لم يكن الامتناع ثبوتيا ، كان الإمكان الذي هو مناف للامتناع
ثبوتيا ، ضرورة كون أحد المتنافيين ثبوتيا ، فيكون المعدوم الممكن ثابتا.
الثالث
: المقدور لا يوجد
إلّا بإيجاد القادر إيّاه ، وإيجاد القادر إيّاه متوقّف على تعلّق القادر به ،
وتعلّق القادر به دون غيره يتوقّف على تميّزه عن غيره ، فإذن وجوده يتوقّف على
تميّزه بمراتب. أو نقول : المقدور محتاج إلى الموجد ، فلا بدّ من أمر متصف بالحاجة
وليس المتّصف بالحاجة هو الموجود ؛ لأنّ الحاجة إلى القادر لأجل أن يجعل الشيء
موجودا فالموجود يستحيل إيجاده ، فكيف يمكن أن يحتاج إلى الفاعل ليجعله موجودا.
ولأنّه لو احتاج الشيء حال وجوده إلى المؤثّر لاحتاج حال بقائه إليه ، لأنّ وجوده
في الحالين واحد ، ومقتضى الشيء الواحد من حيث هو حاصل في جميع أزمان حصوله لا
يختلف ، فيثبت أنّ المتّصف بالحاجة إلى الفاعل هو المعدوم ، وكل ما اتّصف بصفة
ليست حاصلة لغيره ، فإنّه لا بدّ وأن يكون متميّزا في نفسه وثابتا ، فيكون المعدوم
ثابتا.
الرابع
: لا نزاع بين
العقلاء في وجود الممكنات ، والممكن هو الذي يصحّ عليه الوجود والعدم. والمعنى
بقولنا : إنّه يصحّ عليه العدم ، أنّه يصحّ أن يقال : إنّه معدوم ، وهذا يقتضي
تحقّق تلك الحقيقة عند كونها معدومة ، لأنّ الموصوف لا بدّ
وأن يكون متقرّرا
مع الصفة ، وهذا يقتضي أن تكون هذه الحقائق متقررة ثابتة مع كونها معدومة ، وهو
المطلوب.
الخامس
: علّة الحاجة إلى
المؤثّر إنّما هي الإمكان لا الحدوث على ما يأتي ، والإمكان حالة إضافية لا تتحقّق
إلّا بين الأمرين ، ويستحيل عروض الإضافة للأمر الواحد ، فإذن الحقائق المفردة
يستحيل عروض الإمكان لها ، فيستحيل أن تكون مجعولة ، فهي إذن ثابتة لأنفسها
وذواتها ، وإنّما توجد بالفاعل ، فهي إذن ثابتة في العدم.
السادس
: قال تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ) وصف الزلزلة بالشيئية وهي معدومة.
وكذا قوله تعالى :
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) وقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) .
السابع
: الماهيات غير
مجعولة ، وإلّا لزم من فرض عدم الفاعل خروج الماهيّة عن كونها ماهية ، لأنّ كلّ ما
تحقّقه بسبب غيره ، فإنّه يلزم من فرض عدم الغير عدم ذلك الأثر ، فلو كان الجوهر
جوهرا بالفاعل أو السواد سوادا بالفاعل لزم عند فرض عدم ذلك السبب أن يخرج الجوهر
عن كونه جوهرا ، والسواد عن كونه سوادا وذلك محال ، لأنّ قولنا : السواد خرج عن
كونه سوادا ، قضية يجب صدق محمولها على موضوعها ، فيكون موضوعها ثابتا حال صدق
محمولها عليها ، فيكون السواد ثابتا حال صدق خروجه عن السوادية وذلك محال ، فيثبت
امتناع
__________________
استناد تقرّر
الماهيّات وتحقّقها إلى الفاعل.
الثامن
: لو لم يكن المعدوم
شيئا وذاتا لصحّ أن يقال : إنّ الله تعالى علم الأشياء ولا معلوم ، لأنّ المعدوم
إذا لم يكن شيئا لم يكن معلوما.
التاسع
: القادر يريد إيجاد
الجوهر وإيجاد السواد ، فلا بدّ وأن يكونا ذاتين حتى يصحّ منه القصد إلى إيجادهما
، ويدعوه الداعي إلى ذلك.
والجواب
عن الأوّل : أنّ العلم لا
يستدعي الثبوت في الخارج ، بل في الذهن ، فإنّا نتصوّر شريك الباري ولهذا نحكم
عليه بالامتناع ، والحكم على الشيء يستدعي تصوّره وكذا نتصوّر بحرا من زئبق وجبلا
من ياقوت ، ونحكم بامتياز بعض هذه التصوّرات عن بعض ، وماهيّات الجواهر والأعراض
وإن كانت ثابتة ، إلّا أنّ الجواهر الموصوفة بالأعراض غير ثابتة.
ولأنّا نتصوّر
وجودات هذه الأشياء ونميّز بعضها عن بعض ، فإنّا كما نميّز بين ماهية الحركة يمنة
ويسرة ، كذا نميّز بين وجود إحداهما ووجود الأخرى ، مع أنّ الوجود ليس ثابتا في العدم اتفاقا ،
ولأنّه مناف له.
ولأنّا نعقل ماهية
التركيب والتأليف قبل دخولهما في الوجود ، مع أنّه لا تقرّر لهذه الماهية في العدم
، فإنّ التأليف عبارة عن اجتماع الأجزاء وتماسّها على وجه مخصوص وذلك غير ثابت في
العدم اتّفاقا. وكذا نعقل المتحركية والساكنية قبل حصولهما ، مع أنّهما من قبيل
الأحوال ، فقد ظهر أنّ التميّز في التصوّر لا يستدعي ثبوتا في الخارج.
قولهم : المعدوم
مقدور فيكون ثابتا.
__________________
قلنا : متعلّق
القدرة إمّا أن يكون ثابتا أو لا ، فإن كان الأوّل لزم تحصيل الحاصل وهو محال ، أو
أن لا يكون للقدرة فيه أثر ، فلا يكون ما فرضناه متعلّق القدرة متعلّق القدرة ،
هذا خلف. وإن كان الثاني بطل أصل الدليل.
وكذا قولهم :
المعدوم مراد وكل مراد ثابت ، فإنّ متعلّق الإرادة إن كان ثابتا لزم تحصيل الحاصل.
وإن لم يكن ثابتا بطل الاستدلال.
لا يقال : متعلّق
القدرة والإرادة هو الذات الثابتة على معنى إيجاد تلك الذات.
لأنّا نقول :
متعلّق القدرة والإرادة إن كان هو الإيجاد عاد التقسيم فيه ، وإن كان هو الماهية
بمعنى أنّ القدرة والإرادة تعلّقا بإيجادها ، لم يكن متعلّق الإرادة والقدرة سوى
الإيجاد.
وعن
الثاني : إنّ الموصوف
بالإمكان يستحيل أن يكون ثابتا في العدم ، لأنّ الذوات المعدومة يستحيل عليها
التغيّر والخروج عن الذاتية ، فلا يمكن جعل الإمكان صفة لها ، وإن لم يكن ثابتا في
العدم ، لم يمكن الاستدلال بالإمكان على كون الموصوف به ثابتا في العدم . ثم نقول : الإمكان ليس وصفا ثبوتيا وإلّا لزم التسلسل ،
فلا يكون الموصوف به واجب التحقّق.
وعن
الثالث : ما تقدم من أنّ
متعلّق القدرة لا يجوز أن يكون ثابتا ، وتميّزه يعطي ثبوته في الذهن لا في الخارج
، والموصوف بالاحتياج ثابت في الذهن ، لأنّه
__________________
لو كان ثابتا في
الخارج لم يكن محتاجا.
وعن
الرابع : أنّ المراد بصحّة
العدم ليس أن تكون الماهية ثابتة متقرّرة في الخارج ، وتكون حينئذ موصوفة بالعدم ،
بل معناه إمكان أن لا تتحقّق تلك الماهية ولا تكون ماهية. والأصل فيه أنّ
الماهية إن كانت متقررة حالتي الوجود والعدم استحال جعل الإمكان صفة لها ، بل
للوجود ، وهو غير ثابت بالاتفاق ، فقد ظهر الاتفاق على أنّ الموصوف بالإمكان ليس
ثبوتيا في العدم.
وعن
الخامس : أنّ معروض الإضافة
ثابت في الذهن لا في الخارج على ما تقدّم ، ولو استحال استناد الذات إلى الفاعل
لاستحال استناد الوجود إليه ، وإلّا لخرج الوجود عن كونه وجودا ، كما قلتم في
الماهية ، واستحال استناد موصوفية الماهية بالوجود إلى الفاعل كذلك أيضا ، ولأنّ
الموصوفية ليست صفة زائدة على ذات الموصوف والصفة ، وإلّا لزم التسلسل.
وعن
السادس : أنّ هذه المعدومات
تسمّى شيئا لغة على معنى أنّه يصحّ تعقلها والإخبار عنها ، لا بمعنى أنّها ذوات
ثابتة في الخارج.
وعن
السابع : ما تقدم من أنّ
الماهيات لو لم تكن مجعولة ، لزم نفي المجعولية أصلا ورأسا ، بل الفاعل كما يجعل
الماهية موجودة ، يجعل الماهية ماهية لا بأن تكون الماهية ثابتة وتوجد لها وصف
كونها ماهية ، بل بأنّه تحقّق تلك الماهية. مع أنّ هذا الدليل آت في الوجود ،
فإنّه لو كان بالفاعل ، لزم عند عدم ذلك الفاعل أن يخرج الوجود عن كونه وجودا.
لا يقال : الوجود
لا يقع بالفاعل ، بل موصوفية الذات بالوجود.
لأنّا نقول :
الإيراد آت في الموصوفية ، فيلزم أن لا يكون للفاعل أثر البتّة.
__________________
وعن
الثامن : أنّا نلتزم ذلك ،
فإنّه تعالى علم الأشياء قبل وجودها ، ولا معلوم له ثابت في الخارج ، إلّا أنّا لا
نطلق ذلك ، لأنّه يوهم أنّه ما علم شيئا ، ولا يلزم من كون المعدوم ليس بشيء كونه
ليس بمعلوم. ثمّ إنّه يبطل بقولهم : إنّه تعالى علم أنّه لا مثل له.
وعن
التاسع : بالمنع من توقّف
القصد على ثبوت الذاتية ، بل يكفي في صحّة القصد إلى إيجاد الحجم أن يعلم القادر
حقيقة الحجم ما هي ، ثمّ يدعوه الداعي إلى إيجاد ما يطابق ما علمه من حقيقة الحجم ، فيجعل حجما لكونه قادرا ، كما يعلم مثله
في القادر منّا ، فإنّا نعلم حقيقة ما نفعله قبل إيجاده ، ثمّ يقصد إلى فعل ما يطابق علمه بحقيقته ، من
دون أن يشعر أنّ في العدم شيئا وذاتا. وأيضا ، فإنّ مذهبكم أنّ القادر يقصد إلى
إيجاد الذات وتحصيلها على صفة الوجود ، ومع ذلك فإنّه لا يجب أن تكون على صفة
الوجود حتى يصحّ منه القصد إلى ذلك.
لا يقال : الذات
عندنا معلومة للقادر ، فصحّ منه القصد إليها ليوجدها.
لأنّا نقول :
القصد عندكم لا يتعلّق بالذات ، لأنّ الذات يستمرّ كونها ذاتا عندكم ، فهي في حكم
الباقي ، والقصد إلى الباقي وإلى الأعيان عندكم لا يصحّ ، وإنّما يتعلّق القصد
عندكم بالحدوث أو بحدوث الشيء على وجه ، وإذا لم يتعلّق القصد بالذات من حيث هي
ذات ، بل بصفة الوجود ليجعل الذات عليها ، ولا يجب أن تكون صفة وجودها قبل حصولها
، فليجز مثل ذلك في قصد القادر إلى جعل الذات.
__________________
البحث الثالث : في تفصيل قول المعتزلة في هذا الباب
ذهب جماعة من
معتزلة البصرة «كأبي يعقوب الشحّام» و «أبي علي الجبّائي» وابنه «أبي هاشم» و «أبي
الحسين الخيّاط» و «البلخي» و «أبي عبد الله البصري» و «أبي إسحاق بن عيّاش» و «قاضي
القضاة عبد الجبار» وتلامذته ، إلى أنّ المعدومات الممكنة قبل وجودها ذوات وأعيان
وحقائق ثابتة في أنفسها ، جواهر وسواد وبياض وغير ذلك ، وأنّه لا تأثير لله تعالى
في جعل الذوات ذواتا والجوهر جوهرا وغير ذلك ، بل إنّما يؤثر في جعل تلك الذوات
موجودة. واتفقوا على أنّ تلك الذوات متباينة بأشخاصها ، وأنّ الثابت من كلّ نوع من
تلك الذوات المعدومة عدد غير متناه ، فللجوهر أشخاص هي جواهر متساوية غير متناهية
، وكذا السواد له جزئيات متماثلة غير متناهية ، وكذا البياض وغيرها من الأنواع. واتفقوا
كافة على أنّ تلك الذوات المعدومة متساوية في كونها ذوات ، وأنّ الاختلاف بينها
إنّما هو بصفات.
ثمّ اختلفوا ،
فذهب أكثرهم إلى أنّ تلك الذوات المعدومة موصوفة بصفات الأجناس كالجوهرية في
الجوهر ، والسوادية في السواد ، والبياضيّة في البياض ، وزعم «ابن عيّاش» أنّها
عارية عن جميع الصفات في العدم وإنّما تحصل الصفات في زمان الوجود.
أمّا القائلون
بالصفات ، فزعموا أنّ صفات الجوهر ، إمّا أن تعود إلى الجملة ، كالحيّية وما يكون
مشروطا بها ، أو إلى الأفراد وهي أربع :
__________________
الأولى
: الجوهرية : وهي حاصلة حالتي الوجود والعدم وهي الصفة النفسيّة.
الثانية
: التميّز
:
وهي الصفة التابعة
للحدوث الصادرة عن صفة الجوهرية بشرط الوجود ، ولأجلها يحتاج إلى حيّز ، وهي في
الحقيقة الصورة الجسمية عند الأوائل ، وهي مغايرة للكائنية المعلّلة بالحصول في
الحيّز ، مثل كون الجوهر متحرّكا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرّقا ، وهي معلّلة
بالأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق بشرط الوجود.
الثالثة
: الوجود : وهي الصفة الحاصلة
بالفاعل.
الرابعة
: الحصول في الحيّز ، ويسمّى الكائنية : وهي الصفة المعلّلة بالمعنى القائم بالجوهر ، وذلك المعنى
هو الكون وليس للجوهر الفرد صفة زائدة على هذه الأربع ، فليس له لكونه أسود أو
أبيض ، أو حلوا أو حامضا ، أو حارّا ، صفة معلّلة بمعنى ، بل لا معنى لكونه أسود ،
إلّا حلول السواد فيه.
وكذا القول في كلّ
عرض غير مشروط بالحياة ، وأمّا ما هو مشروط بالحياة أو الحياة نفسها ، فإنّها توجب
أحوالا ، فإنّ الحياة توجب لمن قامت به الحيّية ، وهي حالة لا موجودة ولا معدومة
معلّلة بالحياة ، وكذا العالمية صفة للجوهر العالم لا موجودة ولا معدومة معلّلة
بالعلم. أمّا السواد إذا قام بالمحل فإنّه لا يوجب حالة هي صفة لمن قامت به ، بل
معنى كونه أسود قيام السواد به ، لا أنّه حصل له صفة السوادية معلّلة بقيام السواد
به ، إلّا الكائنية فإنّها حالة معلّلة بالكون. وأمّا الأعراض ، فلا صفة قائمة بها
عائدة إلى الجملة ، فإنّها لا تتركب عنها بنية تقوم بها الحياة.
وأثبتوا ثلاث صفات
عائدة إلى الآحاد :
الأولى
: الصفة الذاتية
الحاصلة حالتي الوجود والعدم ، وهي صفات
__________________
الأجناس كالسوادية
والبياضية ، وهي الصفة النفسية.
الثانية
: الصفة الصادرة عن صفات الأجناس ، وهي الحلول في المحلّ بشرط الوجود.
الثالثة
: صفة الوجود
الحاصلة بالفاعل ، فإنّ الفاعل لا يعطي حقيقة السواد ، بل وجوده.
ولا يعقل صفات
المعاني في الأعراض لاستحالة قيام المعنى بالمعنى. وقد نازع بعضهم في هذا التفصيل
في أربعة مواضع.
الأوّل
: ذهب «أبو يعقوب
الشحّام» و «أبو عبد الله البصري» و «أبو إسحاق بن عيّاش» إلى أنّ الجوهرية هي
التحيّز. ثمّ اختلفوا فقال «الشحّام» و «البصري» : إنّ ذات الجوهر كما أنّها
موصوفة بالجوهرية حالة العدم ، فهي موصوفة بالتحيّز.
ومنع «أبو إسحاق
بن عيّاش» من ذلك ، وقال : إنّ الجوهر حال العدم كما يمتنع اتّصافه بالتحيّز ، كذا
يمتنع اتّصافه بالجوهرية ، فلهذا أثبت الذوات خالية عن جميع الصفات.
واختلف «الشحّام» و
«البصري» ، فزعم «الشحّام» أنّ الجوهر حال عدمه حاصل في الحيّز ، موصوف بالمعاني
حال عدمه ، فألزم بإثبات رجل معدوم على فرس معدوم يقاوم العالم ، فالتزم به. قال «الجويني» : هذا قول بقدم العالم
إلّا أنّه لم يصرّح به ، وقد كفّره المعتزلة بهذا القول ، حتّى أنّ الجبّائيين
كفّراه بذلك.
وقال «البصري» :
إنّ الشرط في كون المتحيّز حاصلا في الحيّز هو الوجود ، فالجوهر قبل الوجود موصوف
بالتحيّز ، لكنّه غير حاصل في الحيّز.
__________________
قال «الشحّام» :
وصف الجوهر بكونه متحيّزا مع أنّه غير حاصل في الحيز محال ، ولو جاز ذلك لجاز وصف
الذات بكونها عالمة وإن لم يحصل لها العلم.
قال «ابن عياش» :
لو كان الجوهر موصوفا بالجوهرية التي هي التحيّز لكان حاصلا في الحيّز والتالي
باطل فكذا المقدّم ، فلهذا أثبت الذات خالية عن الجوهرية .
ونقل عن «الكعبي» : أنّ المعدوم شيء ، ولكنّه ليس بجوهر ولا عرض حالة العدم.
وهذا راجع إلى مذهب «ابن عيّاش» لأنّه إن أثبت الذوات في العدم خالية عن الصفات ،
فهو قول «ابن عيّاش» ، وإن لم يثبتها كان نزاعا في اللفظ حيث سمّى المعدوم شيئا.
الثاني
: اتفق الكل إلّا «أبا
عبد الله البصري» على أنّه ليس للمعدوم بكونه معدوما صفة. وقال «البصري» : إنّ له
صفة بكونه معدوما وهو خطأ ؛ لأنّ علّتها إن كان الذات دام عدمها ، هذا خلف ، وإن
كان غيرها ، فإمّا مختار فتكون المعدومية متجدّدة ، هذا خلف ، أو موجب فتدوم
المعدوميّة ، وهو محال.
الثالث
: اتفقوا على أنّ
الجواهر المعدومة لا توصف بأنّها أجسام حال العدم ، إلّا «أبا الحسين الخيّاط» ،
فإنّه قال به وكذا «الشحّام».
الرابع
: اتفقوا على أنّ
بعد العلم بأنّ للعالم صانعا عالما قادرا حيّا حكيما مرسلا للرسل ، يمكننا الشك في
أنّه هل هو موجود أم لا؟ إلى أن نعرف بالدليل ، لأنّهم جوّزوا اتّصاف المعدوم
بالصفات ، فلا بدّ من دلالة منفصلة على وجوده تعالى بعد العلم بكونه موصوفا بصفة
العالمية والقادرية.
واتفق باقي
العقلاء على إنكار ذلك ، وأنّه جهالة ، وإلّا لزم الشك في وجود الأجسام ، فإنّا لا
نعلم إلّا صفاتها كالحركة والسكون .
__________________
واعلم أنّ ضرورة
العقل قاضية ببطلان هذه المذاهب ، وفسادها ظاهر غنيّ عن البرهان ، ومع ذلك فلنذكر
ما يبطل أقوالهم الفاسدة على نهج طرقهم.
فنقول : لو كان
الجوهر جوهرا في العدم لكان متحيّزا في العدم ، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه لو كان جوهرا حال العدم ولم يكن متحيّزا ، كان التحيّز صفة مغايرة له زائدة
عليه تثبت له بعد أن لم يكن ثابتة ، والتالي باطل ، فإنّ صفة التحيّز يستحيل
ثبوتها إلّا مختصّة بالجهة ، وذات الجوهر بدون صفة التحيّز يستحيل اختصاصه بالجهة
، وحصول ما يجب اختصاصه بالجهة لما يستحيل اختصاصه بالجهة محال بالضرورة ، وإلّا
لجاز مثله في القديم وغيره ، فيكون العالم حالّا في ذاته ، أو يكون ذات القديم
مختصّة بصفة التحيّز ، وكذا كلّ عرض من الأعراض يقتضي لذاتها صفة التحيّز ،
واقتضاء ذلك مشروط بشرط يتعلّق باختيار القادر ، فيجوز أن يوجد في بعض الأوقات ،
فيصير ذات القديم أو ذات العرض متحيّزا ، ولمّا كان العلم باستحالة ذلك ضروريا لا
نظريا ، لما بيّنا من أنّ حصول ما يختص بالجهة لما لا يختص بالجهة محال ، وذلك
حاصل هنا ، فيجب أن يستحيل ذلك.
وأيضا الضد إذا
طرأ على الضد كالسواد على البياض حتى نافاه ، فإمّا أن تكون المنافاة بالحقائق
التي يقع بها التضاد أو بما هو زائد عليها وهو الوجود الذي ذهب الخصم إليه ، لا
جائز أن يكون بالوجود ، لأنّه لا منافاة بين الوجودات ، ولهذا يصحّ اجتماع كثير من
الأعراض في محلّ واحد ، وإذا بطل أن تكون المنافاة التي بها يثبت التضاد
بالوجود ، والذي يثبت به التضاد هو الحقائق ،
__________________
فإذا طرأ السواد
على البياض فقد نافاه ولم يكن حينئذ حقيقة ، فكان إفناؤه إفناء الحقيقة.
وأيضا نفرض الكلام
في نوع واحد من الأنواع ، كالجوهر مثلا فنقول : لا يجوز أن يكون في العدم جواهر
متماثلة ، سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، لأنّ ذلك إثبات للتعدّد في الذوات
من غير فصل مميّز ، فيكون محالا.
أمّا الأوّل :
فلأنّا فرضنا الكلام في نوع واحد لا تميّز لاحدى الذاتين عن الأخرى ، كالجوهرين
والسوادين.
وأمّا الثاني : فالضرورة
قاضية به ، فإنّا نعلم في كل شخص بالضرورة أنّه واحد ، ولو جاز إثبات شيئين لا
يتميّز أحدهما عن الآخر لجوّزنا أن يكون له ثان ، لكنّه لا يفصل عنه بفصل. ولأنّا
إذا علمنا حقيقة الجوهر مطلقا ، ثم علمنا جوهرا معيّنا ، فلا شكّ أنّه دخل في
العلم الثاني معلوم العلم الأوّل ، وإلّا لم يكن علما بحقيقة جوهر ، فإن لم يدخل
في الثاني أمر زائد على الأوّل مع أنّ الأوّل لم يكن علما بجوهر معين ، كان الثاني
كذلك ، وقد فرضناه علما بحقيقة جوهر معيّن ، فيثبت أنّه دخل فيه أمر زائد لم يدخل
في العلم الأوّل ، وهكذا في كلّ فرد معيّن من أفراد ذلك النوع ، فوجب في الاثنينية
أمر زائد لو لا ذلك لم يتصوّر الاثنينية.
احتجّوا بوجوه :
أ
: القادر يقدر على
إيجاد الجوهر وغيره ، فلا بدّ له من تعلّق بالمقدور حتّى يصحّ منه إيجاده ، فيجب
أن يكون الجوهر ذاتا في حال عدمه حتّى يكون متعلّقا.
ب
: التحيّز صفة
تقتضيها صفة الذات في العدم ، فلا بدّ من إثبات الذات الموصوفة بالصفة الذاتية في
العدم. وإنّما قلنا ذلك ، لأنّ تحيّز الجوهر أمر متجدّد ، فإمّا أن يتجدّد ذلك
لأمر أو لا لأمر ، والثاني باطل ، فصحّ أنّه لأمر ، فذلك الأمر
__________________
إمّا أن يكون
مجرّد ذات الجوهر ، أو صفة وجوده ، أو حدوثه ، أو وجود معنى فيه ، أو عدم معنى عنه
، أو فاعل ، أو صفة ذاتية له ، والكلّ باطل ، إلّا قولنا : المقتضي له هو الذات
على صفة الجوهرية بشرط الوجود.
أمّا امتناع أن
يكون ذلك الأمر ذاته أو وجوده أو حدوثه ، فلأنّه لو كان كذلك للزم أن يكون كلّ ذات
وموجود وحادث متحيزا.
وأما امتناع أن
يكون لمعنى ، فلأنّه لا بدّ من اختصاص ذلك المعنى ، واختصاصه فرع على تحيّزه ،
لأنّه لا معنى للحلول إلّا الحصول في الحيّز تبعا لحصول محلّه فيه ، فلا يجوز أن
يكون تحيّزه فرعا على المعنى ، لاستحالة الدور.
وأمّا امتناع أن
يكون لعدم معنى ، فلأنّ المعدوم لا اختصاص له.
وأمّا امتناع
الفاعل ، فلأنّه لو كان بالفاعل لأمكنه أن يجعل الذات على صفات أجناس غير متناهية
، بأن يجعل الذات الواحدة حركة سوادا متحيّزة ، إلى غير ذلك من صفات الأجناس.
ثمّ لو طرأ بياض
ليس بسكون ولا فناء لزم أن لا ننفيه من حيث هو حركة ، وننفيه من حيث هو سواد ،
فيكون معدوما موجودا وهو محال.
وإذا بطلت الأقسام
كلّها ، سوى أن يكون المقتضي للتحيّز هو الذات على الصفة للذات ، ولا بدّ من أن
يكون كذلك قبل الوجود ، حتى يقتضي التحيّز حال الوجود ، صحّ أنّه ذات وأنّه على
صفة ، وهو معدوم.
ج
: لو كان الجوهر
جوهرا بالفاعل وغيره من الأجناس ، لما جاز أن يختص بعضها بصحّة البقاء عليها دون
البعض ، كالجوهر وكثير من الأعراض يصحّ عليها البقاء ، والصوت لا يصحّ عليه البقاء
، وكذا الإرادة والكراهة ، فلو لا أنّها مختلفة ، وإلّا لم يجب ذلك.
والجواب
عن أ : القادر لا يقدر
على إثبات ما هو ثابت في نفسه وهو الذات ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل. وإنّما يقدر
على إثبات ما ليس بثابت ، وحينئذ يبطل أصل الدليل.
لا يقال : القادر
لا يقدر على الذات ، لاستحالة إثبات الثابت ، ولا على أمر وراء الذات ، لأنّ ما
وراء الذات هي صفة الوجود ، والصفة غير مقدورة ولا معلومة أصلا ولا تبعا ، بل
المقدور هو الذات على صفة الوجود.
لأنّا نقول :
المقدور ليس هو الذات الثابتة في العدم ولا غيرها ، لأنّه إن لم يكن ثابتا صحّ
مطلوبنا ، من أنّ المقدور ليس بثابت ، وإن كان ثابتا لزم تحصيل الحاصل. ولا
المجموع ؛ لأنّه قول بإثبات الثابت مع التزام أنّه فعل مع ذلك غيره ، وهو تسليم
للقول بأنّ ما فعله لم يكن ثابتا في العدم ، وليس هناك قسم رابع يفهم من قولهم
الذات على الوجود.
سلّمنا تعقله ،
لكنّا نقول : إذا كان متعلّق القادر هو الذات على الوجود ، وتعلّق المقدور يقتضي
ثبوته ، لزم أن تكون الذات على صفة الوجود أمرا ثابتا ، حتّى يتعلّق بالقادر.
وبالجملة فالتقسيم آت فيه ، فإنّ متعلّق القادر إمّا أن يكون ثابتا في العدم فيلزم
تحصيل الحاصل ، أو غير ثابت فيبطل الدليل ، أو المجموع فيبطل الدليل أيضا ، ويلزم المحال الأوّل.
وعن
ب : أنّه وإن كان
عندهم هو النهاية القصوى في التحقيق مبنيّ على أصول فاسدة ، وهو أنّ تحيّز الجوهر
غير كونه جوهرا وموجودا ، وأنّ للذات صفات أجناس ، وأنّ التنافي بها دون حقائق
الذوات ، وأنّه إذا تنافت الصفتان تزول عن الذات صفة أخرى هي الوجود ، كما أنّ الوجود شرط
اقتضاء المقتضي
__________________
للصفة المقتضاة ، والصفتان اللّتان بهما التضاد لا تتنافيان إلّا باعتبار
إزالة الوجود الذي هو الشرط مع عدم منافاة الصفة الذاتية لصفة الوجود ، وأدلّتهم
على هذه الأصول في غاية الضعف.
قالوا : لمّا كان
المعدوم ذاتا حال عدمه ولم تكن له صفة الوجود والتحيّز ، كانا زائدين على الذات.
قلنا : معرفة
زيادة هاتين الصفتين على الذات ، إذا توقّف على ثبوت كون المعدوم ذاتا ، وتوقّف
كون المعدوم ذاتا على كونهما زائدتين دار.
سلّمنا الزيادة ،
لكن لم قلتم : إنّ التحيّز إذا تجدد افتقر إلى أمر؟ فإنّ مذهبكم أنّ الأعراض
تتجدّد لها صفة الحلول في جميع المحالّ ، وأنّ ذلك يثبت لها لا لأمر. وكذا غير
القارّ من الأعراض لها صفة صحّة الوجود في أوقاتها لا لأمر ، فليجز مثله في
التحيّز.
سلّمنا أنّ ثبوت
الصفة يستدعي سببا ، لكن لا مطلقا ، بل مع جواز ثبوتها لا مع وجوبه ، فإنّ مذهبكم
أنّ صفة الجوهر يختص بذاته ، وهي مساوية لذات العرض والقديم تعالى.
ثمّ هذه الذوات مع
تساويها في الذاتية ، اختصت بصفات أجناسها واختلفت لا لأمر ، فجاز أن يختص ذات
الجوهر عند شرط الوجود بصفة التحيّز لا لأمر.
سلّمنا ، لكنّ
القسمة غير حاصرة ونفي الدليل على ثبوت زائد لا يقتضي نفيه .
__________________
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون السبب هو الذات ، أو الوجود ، أو الحدوث؟
قوله : يشترك في
ذلك الذوات والموجودات والحوادث.
قلنا : هذا بناء
على تساوي الذوات في الذاتية أو الوجود أو الحدوث وهو ممنوع ، والاشتراك اللفظي لا
يفيد.
سلّمنا أنّها لا
تختلف ، فلم قلتم : إنّها تتماثل؟ لأنّ الاختلاف كما هو مبنيّ على الصفات كذا
التماثل ، وإذا فقد ثبوت الصفة فقد الاختلاف والتماثل.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون لمعنى؟
قوله : لا بدّ من
حلوله فيه ، ولا بدّ في حلوله من تحيّزه؟
قلنا : لم لا يجوز
ذلك إذا تقارن في الوجود؟ فإنّ الكون عندكم يوجب كون الجسم في الجهة ، مع أنّ من
شرط إيجابه حلوله فيه وهو في الجهة التي توجب كونه فيها.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز [أن] يكون لعدم معنى؟
قوله : لا اختصاص
له به.
قلنا : لا نسلّم
بأنّه غير حال فيه. ولا نسلّم بأنّ اختصاص الجهات منحصرة في الحلول. ولم لا يجوز
أن يكون هاهنا وجه اختصاص آخر؟ فإنّ هذا المعنى عند الوجود يختص بالحلول في هذا
الجسم دون غيره من الأجسام لا لأمر ، فلم لا يجوز أن يختصّ به وهو معدوم؟ أو نقول
: لم لا يجوز أن يكون في العدم معان مختلفة كلّ واحد منها يختص بعدم لا يختص به
الآخر ، ويكون ذلك معلّلا بذاتها وحقيقتها التي لا يشاركها فيها غيرها؟
__________________
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون بالفاعل؟
قوله : يلزم إمكان
أن نجعل الذات على صفات أجناس.
قلنا : هذا بناء
على ثبوت صفات الأجناس ونحن نمنعه ، فإنّ الذات تخالف غيرها لذاتها.
سلّمنا ، لكن لم
لا تجعل الذات على صفات متعدّدة؟
قوله : إذا جعل
ذاتا سوادا متحيّزا وطرأ عليه بياض نفاه من وجه دون آخر.
قلنا : إن عنيتم
به أنّه ينفي كونه سوادا ولا ينفي كونه حركة ، فلم لا يجوز ذلك؟ وإن عنيتم شيئا
آخر فبيّنوه!
قالوا : نعني بذلك
أنّ الذات تخرج عن صفة الوجود التي هي زائدة على الذات ولا تخرج عنها ، لأنّ صفة
الذات تقتضي هيئة السواد والتحيّز بشرط الوجود ، فإذا لم ينتف الوجود لم ينتف
التحيّز ، وإذا انتفى التحيّز انتفى الوجود.
قلنا : نمنع كون
التحيّز وهيئة السواد مقتضى عن صفة الذات ، فإنّ ذلك إنّما يتم لو امتنع كونه
بالفاعل. فإذا احتيج في بيان امتناع كونه بالفاعل إلى كونه مقتضى عن صفة الذات ،
دار.
سلّمنا أنّ الوجود
مقتضى عن صفة الذات ، وأنّ الوجود شرط اقتضائه ، فلم لا يجوز زواله؟ فإنّه لا يلزم
من قيام المقتضي وحصول الشرط ثبوت المقتضى ، لإمكان أن يعارضه ما ينافيه.
سلّمنا ، لكن نمنع
إمكان جعل الذات على صفات متعدّدة ، لجواز تنافيها.
والجواب
عن ج : بالمنع من
الملازمة. أمّا أوّلا ، فلابتنائه على تساوي الذوات. وأمّا ثانيا ، فلأنّا نقول :
القادر إذا خصص بعض الذوات بكونها جوهرا لزم البقاء ، وإذا خصص بعضها بكونها إرادة
أو صوتا امتنع البقاء.
البحث الرابع : في كيفية العلم بالمعدومات
اختلف الناس هنا ،
فمنع منه قوم ، وجوّزه آخرون ، وهو الحق.
لنا ، أنّا نعلم
حركاتنا الماضية وهي معدومة ، وكذا المستقبلة ، ونفرّق بين ما نقدر عليها ، وبين
ما لا نقدر وهو أمر ضروري.
احتجّ المانعون :
بأنّ كل معلوم متميّز ، وكلّ متميّز ثابت ، وقد سبق بطلان ذلك ، إذا ثبت هذا ،
فالمعدوم إمّا أن يكون بسيطا أو مركبا.
أمّا الأوّل ، فكعدم
ضد الله تعالى ، وذلك إنّما يعقل لأجل تشبيه بأمر موجود مثل أن يقال : ليس لله
تعالى شيء نسبته إليه نسبة السواد إلى البياض ، فلولا معرفة المضادة الحاصلة بين
أمور وجودية ، لاستحال أن يعرف ضد الله تعالى. وإن كان مركبا كالعلم بعدم اجتماع
السواد والبياض ، فالعلم به إنّما يتم بسبب العلم بأجزائه الوجودية بأن يعقل
السواد والبياض والاجتماع حيث يعقل ، ثمّ يقال : إنّ الاجتماع الذي هو أمر وجودي
معقول غير حاصل للسواد والبياض. فقد ظهر أنّ عدم البسائط إنّما يعرف بالمقايسة إلى
الأمور الوجودية ، وعدم المركّبات إنّما يعرف بمعرفة بسائطها .
أمّا المعتزلة ،
فقد اختلفوا ، فذهب البصريون إلى أنّ المعدوم يعلم على صفة هو عليها في حال عدمه
يتعلّق العلم بتلك الصفة ، وبها يماثل ما يماثل ويخالف ما يخالف.
__________________
وقال آخرون : إنّه
إنّما يعلم بأمور مترقّبة متجدّدة فيما بعد.
احتجّ الأوّلون :
بأنّا إذا علمنا المعدومات متميّزة حال عدمها ، وجب أن يكون المعلوم من حال الجوهر
غير المعلوم من حال العرض ، والمعلوم من حال السواد غير المعلوم من حال البياض ،
وكذا باقي الأجناس. وإذا ثبت هذا فلا بدّ له من صفة يتميّز بها عن غيره ، ويخالف
ما يخالف ويضاد ما يضاد ، لاشتراكها أجمع في المعلوميّة ، فلا يقع الامتياز بذلك ،
فلا بد من أمر آخر هو الذي نسمّيه صفة أو حالا ، وذلك المائز لا يجوز أن يكون
مترقّب الحصول نحو كونه متحيّزا ، أو هيئة مخصوصة ، أو له تعلّق مخصوص ، لأنّ
التمايز والتماثل والاختلاف أمور حاصلة في الحال ، وكما أنّ التماثل والاختلاف لا
يقف على أمر متجدّد ، فكذا التمايز ، فكما لا يجوز أن يتميّز بأمر متعلّق بالفاعل لأنّه متجدد ، فكذا كونه متحيزا أو هيئة مخصوصة
أمر متجدّد ، لا يجوز أن يقف الخلاف والمماثلة عليه.
وهذه الحجّة فاسدة
لابتنائها على تساوي الذوات ، والحق الاختلاف وإنّ تلك المعلومات مختلفة لذواتها
وهي ثابتة ذهنا لا عينا.
قال الآخرون :
إنّا نعلم تمايز الأجسام بعضها عن بعض قبل وجودها ، ونحكم بمخالفة صورة الإنسان
وشكله لصورة الفرس ، وليس ذلك لأجل صفات هي عليها في حال العدم.
ثم ألزموا الأوائل
التسلسل ؛ لأنّه إذا كان المعلوم من حال الجوهر أنّه يقتضي صفته الذاتية دون غيره
أن يكون ذلك لأمر آخر اقتضى ذلك ، لزم المحال.
والحق : أنّ
القولين متساويان في الاستحالة. والسبب فيه عدم التفطن بالوجود الذهني.
__________________
البحث الخامس : في حصر قسمة المعلوم إلى الموجود والمعدوم
أطبق أكثر العقلاء
على ذلك وذهب قوم ممّن عمشت بصائرهم من إدراك الحق وقصرت أفكارهم عن التعمّق في
المباحث العقلية : إلى إثبات واسطة بين الموجود والمعدوم ، سمّوها الحال .
وتقرير قولهم أن
نقول : إذا علمنا أمرا من الأمور ، فإمّا أن يكون راجعا إلى الإثبات أو إلى النفي.
والأوّل لا يخلو ، إمّا أن يضاف إلى غيره أو لا. والثاني هو الذات ، ويحدّ بأنّه
الثابت الذي يعلم غير مضاف إلى غيره ، فخرج المعدوم وإن كان معلوما ، لأنّه ليس
بثابت ، والصفة لأنّها تعلم مضافة إلى غيرها.
والمضاف إمّا أن
يكون مقصورا على ما يضاف إليه نظير كون المحلّ ، أو يكون منفصلا عنه نظير الفعل
بالنسبة إلى الفاعل.
فالأوّل الحال ،
ويحدّ بأنّه الذي يثبت للذات مقصورا عليه. فخرج النفي بقولنا : ثبت ، والذات
بقولنا : للذات ـ فإنّها لا تثبت لغيره ـ والأشياء المنفصلة التي تضاف إلى غيرها
كالأفعال ، والآثار الصادرة عن العلل في غير محالّها ، فإنّها لا تكون أحوالا
للعلل ، بقولنا مقصورا عليه.
واعلم : أنّ الحال
أخصّ من الصفة ، فإنّ الصفة كلّ أمر مضاف إلى غيره ،
__________________
سواء كان إثباتا
أو نفيا ، مقصورا عليه أو غير مقصور عليه. وأمّا الحكم ، فهو ما كان صادرا عن غيره
، سواء كان ذاتا أو صفة. فالحال صفة لموجود لا يوصف بالوجود ولا بالعدم.
وأوّل من قال
بالأحوال : «أبو هاشم الجبّائي» وأتباعه من المعتزلة . وجوّز أن تكون الحال ثابتة للمعدوم كالجوهرية. وفصّل
الأحوال فقال : الأعراض التي لا تكون مشروطة بالحياة ، فإنّها لا توجب أحوالا ،
ولا صفة لمن قامت به ، كاللون والرائحة وغيرها ، إلّا الكون فإنّه يوجب حالة راجعة
إلى المحل هي الكائنية ، وأمّا الأعراض المشروطة بالحياة ، فإنّها توجب أحوالا
عائدة إلى الجملة ، فالعلم يقتضي لجملة البدن حالة هي العالمية ، وكذا القدرة
وغيرهما من الأعراض. وأثبت «القاضي أبو بكر» و «الجويني» من الأشاعرة ، الأحوال
أيضا في كلّ صفة قائمة بالذات ، سواء اشترطت بالحياة أو لا ، فالأسودية حالة
معلّلة بالسواد ، وكذا باقي الأعراض.
لنا : أنّ الضرورة
قاضية بأنّ كلّ معقول ، فإمّا أن يكون له تحقّق أو لا.
والأوّل : هو
الموجود ، والثاني هو المعدوم ، وأنّ من أثبت واسطة بينهما ، فقد كابر مقتضى عقله .
واحتجّوا بوجهين :
الأوّل
: الوجود وصف مشترك
بين الموجودات على ما تقدّم ، وهي متخالفة بحقائقها ، وما به الاشتراك غير ما به
الامتياز ، فيكون الوجود مغايرا للماهية فذلك الوجود إمّا أن يكون موجودا أو
معدوما ، أو لا موجودا ولا معدوما.
__________________
والأوّل : باطل
وإلّا لزم التسلسل ، فإنّ الوجود لو كان موجودا لكان مساويا للموجودات في الوجود
ومخالفا لها بخصوصيته ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فالوجود المشترك بين
الوجود وبين سائر الماهيات الموجودة مغاير لخصوص ماهية الوجود التي بها الامتياز ،
فيكون للوجود وجود آخر ويتسلسل.
والثاني : باطل
أيضا ، لامتناع اتّصاف الشيء بنقيضه ، فتعيّن الثالث ، وهو : أن لا يكون الوجود موجودا ولا
معدوما ، وذلك هو الواسطة.
الثاني
: الماهيات النوعية
مشتركة في الأجناس ، فتثبت الحال.
أمّا الأوّل :
فظاهر ، فإنّا نعلم أنّ بين السواد والبياض اشتراكا في اللونية لا في مجرد الاسم ،
فإنّا لو سمّينا السواد والحركة باسم واحد ، ولم نضع للسواد والبياض اسما ، لكنّا
نعلم بالضرورة أنّ بين السواد والبياض اشتراكا معنويا دون السواد والحركة. ولأنّ العلوم المتعلّقة بالمعلومات المختلفة متغايرة مختلفة ، مع
أنّا نحدّ العلم بحدّ واحد بحيث يندرج فيه العلم القديم والحادث ، والعلم بالجوهر
والعرض ، فيكون العلم وصفا مشتركا. ولأنّ الأعراض مشتركة في العرضية ولهذا انحصر التقسيم في قولنا :
الممكن إمّا جوهر أو عرض ، ولو لا اشتراكه لما انحصر ، كما لا ينحصر إذا قلنا :
الممكن إمّا جوهر أو سواد.
وأمّا الثاني :
فلأنّ الاشتراك يقتضي تعدّد الجهة في الماهيّات المشتركة بحيث يكون فيها جهة
اشتراك وجهة امتياز ، فهاتان الجهتان إن كانتا موجودتين لزم قيام العرض بمثله.
وإن كانتا معدومتين لزم الحكم بكون هذه الماهيات معدومة ، وهو باطل بالضرورة ،
فتعيّن أن لا تكون موجودة ولا معدومة.
__________________
والجواب عن الأوّل
: أنّ القسمة للوجود إلى الوجود والعدم باطلة ، كما أنّ قولنا : الإنسان إمّا إنسان
أو فرس أو غيرهما ، باطل.
سلّمنا ، لكنّ
الوجود موجود بذاته ، ثمّ التسلسل إنّما يلزم لو كان الاشتراك في وصف ثبوتي ،
والاختلاف في أمر ثبوتي ، وهنا ليس كذلك ، فإنّ الوجود يشارك الماهية الموجودة في
الموجوديّة ، ويخالفها بقيد عدمي ، وهو أنّ الوجود وحده وإن كان
موجودا ، لكن ليس معه شيء آخر ، والماهية الموجودة وإن كانت موجودة لكن لها مع
مسمّى الموجودية أمر آخر هو الماهية ، وحينئذ لا يلزم أن يكون الوجود موجودا بوجود
آخر ، بل موجوديته عين ماهيته ، فينقطع التسلسل.
قال النفاة : حاصل
أدلّة المثبتين يرجع إلى أنّ الحقائق مختلفة بخصوصيّاتها ومشتركة في عموماتها ،
وما به الاشتراك غير ما به الاختلاف ، وذلك ليس بموجود ولا معدوم ، فتثبت الواسطة
، ويلزم منه التسلسل : فإنّ الأحوال قد اشتركت في عموم الحالية واختلفت بخصوصياتها
، فيلزم أن تكون للحال حال أخرى إلى غير النهاية.
وأجاب المثبتون :
بأنّ الحال لا يوصف بالتماثل والاختلاف ، لأنّ التماثل والاختلاف من لواحق الوجود
، والحال ليست موجودة ، وبالتزام التسلسل كما اختاره «الأصم» لأنّها طبيعة عدمية ليست موجودة ، والتسلسل في الأمور
العدمية ليس بمحال.
أجاب النفاة عن
الأوّل : بأنّ كلّ أمرين يشير العقل إليهما ، فإمّا أن يكون المتصوّر من أحدهما هو
المتصوّر من الآخر أو لا. والأوّل : المثلان. والثاني : المختلفان ، ولا واسطة
بينهما.
__________________
وعن الثاني : بأنّ تجويز ذلك يسدّ باب إثبات الصانع تعالى.
أجاب أفضل
المتأخّرين : بأنّ السواد والبياض لمّا اشتركا في الموجودية واختلفا في السوادية
والبياضية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز لا جرم أثبتنا شيئين ، ولمّا لم
يكن ما به الاشتراك والامتياز سلبيّين أثبتناهما وجوديّين ، أمّا الوجود والسوادية ، فهما مختلفان بحقيقتهما
ومشتركان في الحالية ، لكن الحالية ليست صفة ثبوتية ، لأنّه لا معنى للحال إلّا ما
لا يكون موجودا ولا معدوما. وإذا كان الاشتراك واقعا في وصف سلبي ، لم يلزم أن
تكون الحالية صفة قائمة بالموجود ، فلم يلزم أن تكون للحال حال آخر .
اعترضه أفضل
المحقّقين بأنّ الحال ليس سلبا محضا ، فإنّ المستحيل عندهم ليس
بموجود ولا معدوم وليس حالا ، وإنّما الحال وصف ثبوتي يلزمه أن لا يكون موجودا ولا
معدوما فهو يشتمل على معنى غير سلب الوجود والعدم عنه يختص بتلك الأمور التي
يسمّونها حالا وتشترك الأحوال فيه ولكونها غير مدركة بانفرادها لا يحكمون عليها بالتماثل
والاختلاف ، فإنّهم يقولون : المثلان ذاتان يفهم منهما معنى واحد ، والمختلفان
ذاتان لا يفهم منهما معنى واحد ، والحال ليس بذات ولا ذات ذات ، فلا توصف بالتماثل
والاختلاف. فإنّ الذات هي ما تدرك بالانفراد ، والحال لا يدرك بالانفراد ، فكيف
يكون المدرك من كلّ
__________________
حال هو المدرك من
حال آخر؟ فإنّ كلّ حال مدرك مع شيء آخر ، والمشترك ليس بمدرك بالانفراد ، حتى يحكم
عليه بأنّ المدرك من أحدهما هو المدرك من الآخر أو ليس ، وأنتم قلتم كلّ أمرين
يشير العقل إليهما ، فإمّا أن يكون المتصوّر منهما واحدا أو لا يكون ، والحال ليس
بأمر يشير العقل إليه إشارة لا تكون إلى غيره معه .
والجواب عن الثاني
: أنّ جهتي الاشتراك والامتياز وجوديتان ، ولا يلزم قيام العرض بالعرض ، فإنّ الصفات المشتركة إن
كانت ثبوتية وكانت داخلة في مفهومات ما يشترك في تلك الصفات ، كاللون المشترك بين
السواد والبياض ، وهو جزء من مفهوم السوادية والبياضية ، لم يكن عرضا قائما بعرض
قائم بالمركب ، فانّ الجزء ليس بعرض قائم بالمركب منه ومن غيره ، فلا يلزم من
اتّصاف المختلفات به قيام العرض بالعرض. وإن لم تكن داخلة ، كالعرض الذي يوصف به
السواد والحركة ، وهو عارض لهما غير داخل في مفهومهما وعروض الشيء للشيء لا يكون
قيام عرض بعرض ، ولا يلزم من كون صفة مشتركة عارضة لمختلفين قيامها بهما إلّا
بدليل منفصل.
وإن كانت سلبيّة فهي غير ثابتة ولا يلزم من الاتصاف بها قيام عرض بعرض.
سلّمنا ، لكن قيام
العرض بمثله جائز ، فإنّ السرعة والبطء كيفيّتان قائمتان بالحركة ، والتزامه أقرب
من التزام هذا المحال.
وللأوائل طريق آخر ، وهو أنّ الأجناس والفصول التي بها تتقوّم
الأنواع
__________________
البسيطة في الخارج
موجودات في الذهن لا في العين.
اعترضه أفضل
المتأخّرين فقال : الذهني إن طابق الخارج عاد كلام مثبتي الحال ، وإلّا كان جهلا.
أجاب أفضل
المحقّقين : بأنّ الأجناس والفصول ليست بتصديقات ، بل هي تصوّرات مفردة ، ولا يجب
فيما لا يشتمل على الحكم بمطابقة الخارج أن يكون مطابقا له وإلّا كان جهلا مركّبا
، فإنّ الجهل المركّب حكم على الخارج بخلاف الواقع. وفي التصوّر المفرد لا تعتبر
المطابقة ولا عدمها ، بل [تعتبر] فيما له أجناس وفصول أن تكون فيها حيثيات يمكن
للعقول تعقل الأجناس والفصول منها ، ولذلك يسلبان عن واجب الوجود ، لامتناع أن
تكون فيه حيثيتان. وليس معنى الاشتراك إلّا أنّ المعقول من أحد المشتركين هو
المعقول من الآخر فيما يشتركان فيه ، لا أن يكون شيء واحد في الخارج موجودا في
شيئين معا ، أو نصف منه في أحدهما ونصفه في الآخر ، أو خارجا عنهما وهما متّصفان
به .
وفيه نظر ، فإنّ
أفضل المتأخّرين ، لم يقل إنّ الأجناس والفصول تصديقات ، بل الحكم بأنّ لهذه
الماهيّة جنسا وفصلا تصديق ، فإن كان مطابقا لزم وجود الجنس والفصل في الخارج ،
وإلّا كان جهلا بمعنى أنّ الذهن حكم على ماهية بأنّ لها في نفس الأمر جنسا وفصلا
ولم يكن في الخارج شيء منهما. واعترافه بأنّ لتلك الماهية حيثيتين هو المقصود من
المطابقة في الخارج. وتحقيق هذا البحث ليس هذا موضعه.
تذنيب
: قال مثبتوا الحال
: ثبوت الحال للشيء قد يكون معلّلا بموجود قائم بالشيء ، كالعالميّة المعلّلة
بالعلم وهو الحال المعلّل ، وكالمتحركيّة فإنّها حالة معلّلة بالحركة. وقد لا يكون
كسوادية السواد وهو الحال غير المعلّل. واتّفقوا على
__________________
أنّ الذوات بأسرها
متساوية ، ومختلفة بهذه الأحوال. واختلفوا في أمر الوجود ، فالقائلون بالأحوال من
الأشاعرة ذهبوا إلى أنّه نفس الذات. وقالت المعتزلة : إنّه زائد عليها. والقول
بتساوي الذوات باطل سواء قلنا الوجود نفس الذات أو زائد عليها لأنّ الأشياء
المتساوية تشترك في اللوازم ، فيصح انقلاب القديم محدثا والجوهر عرضا ، وبالعكس ،
وهو باطل بالضرورة. ولأنّ اختصاص الذات المعينة بالصفة المخصوصة إن لم يكن لأمر ،
يرجّح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وإن كان لأمر نقلنا الكلام إليه ولزم التسلسل. أمّا إذا
جعلنا ما به الاشتراك صفة وما به الامتياز ذاتا ، اندفعت هذه المحاذير ، لجواز
اشتراك الأشياء المختلفة في لازم واحد ، ولا يجوز اختلاف المتساويات في اللوازم.
اعترض أفضل
المحقّقين :
أوّلا
: بأنّ الحيوانية
المشتركة بين الإنسان والفرس ، يرد عليها ما قلت من صحّة انقلاب الإنسان فرسا
وبالعكس.
وثانيا
: بأنّه لازم على
الأجناس والفصول ، بل في الأشخاص التي تحت نوع واحد ، فإنّك إن جعلت الفصول
والمشخّصات ذواتا والحيوان والإنسان لوازم ، لم تكن الحيوانية والإنسانية جزءا
للماهيّة ولا نفسها ، فإنّ اللوازم إنّما تلزم بعد تقوّم الملزومات .
وفيه نظر ؛ فإن
الحيوانية لازمة والفصول ملزومة ، فلا يلزم إمكان الانقلاب. ولهذا قالوا : «إنّ
الفصول علل الطبيعة الجنسيّة» والحيوان إذا جعلناه لازما للناطق لم يناف كونه جزءا
من الإنسان ، وأشخاص النوع الواحد تختلف بعوارض مستندة إلى أسبابها.
__________________
المقصد الثاني
في التقسيم
بالنسبة إلى الوجوب والإمكان والامتناع
اعلم : أنّ
الضرورة قاضية بأنّ كلّ معلوم فإمّا أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو ممكن الوجود لذاته
، أو ممتنع الوجود لذاته. فهنا فصول :
الفصل الأوّل :
في أنّ تصوّر هذه الأشياء ضروري
ذهب من لا تحقيق
له إلى أنّ هذه الأشياء قد تعرّف.
ونحن نقول : لا
يمكننا تعريف كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة ، إلّا بما
__________________
يشتمل على الدور ،
فإنّا إنّما نعرّف كلّ واحد من هذه بسلب الآخرين عنه. فنقول : «الممكن : هو الذي
لا يجب وجوده ولا يمتنع» ، أو «الذي ليس بضروري في طرفي وجوده وعدمه» ثمّ نقول : «الواجب
: هو الذي لا يمكن عدمه» ، أو «الذي يستحيل عدمه»، و «الضروري : هو الذي لا يمكن
عدمه ، أو لا يمكن وجوده» . و «الممتنع : هو الذي لا يمكن وجوده».
فقد ظهر لك لزوم
الدور في هذه التعريفات. فان قبلت هذه التعريفات على سبيل التعريف اللفظي أمكن ،
ولكن لا يكون تعريفا حقيقيا.
واعلم أنّ هذه
الأمور الثلاثة متفاوتة عند العقل ، فإنّ كلّ ما هو أقرب إلى طبيعة الوجود كان
أعرف عند العقل ، وما كان أقرب إلى طبيعة العدم كان أبعد ، ولمّا كان الوجوب هو
تأكّد الوجود ، كان أقرب إليه ، وكان أعرف عند العقل. ولمّا كان الامتناع أبعد ،
كان الإمكان متوسطا بينهما.
فإذا أريد التعريف
اللفظي فليؤخذ الوجوب بيّنا ، ثمّ يعرّف الإمكان بسلب الضرورة عن الطرفين ، والامتناع
بإثبات الضرورة على السلب.
__________________
الفصل الثاني :
في مباحث الوجوب
البحث الأوّل : في تفصيله
الوجوب قد يكون
بالذات وقد يكون بالغير ، فالأوّل : ما يقتضي ذات الموصوف به وجوب وجودها
لماهيّتها ، لا باعتبار أمر آخر وهو واجب الوجود لذاته. والثاني : ما لا يقتضي
ماهيّته الوجود ، وإنّما يستفيد الوجود من غيره حال فرض وجود السبب ، كالممكنات
حال وجود عللها وأسبابها.
فللواجب الأوّل
أمران : أحدهما : كونه مستحقّا للوجود من ذاته. والثاني : عدم توقّفه في وجوده على
الغير. وهذا الاعتبار الثاني كالمعلول للأوّل ؛ فإنّ الواجب لمّا استحقّ الوجود
لذاته استغنى عن غيره ، فإنّ الحاجة إلى الغير إنّما هي بسبب الإمكان.
__________________
البحث الثاني : أنّ الوجوب ثبوتي أو لا؟
قد بيّنا أنّ
للواجب اعتبارين : أحدهما : عدم توقّفه على الغير. والثاني : استحقاقه للوجود من
ذاته. فإن جعلنا الوجوب هو الأوّل كان عدميا قطعا ، ويكون وصفا اعتباريا ذهنيّا لا
تحقّق له في الخارج. وإن جعلناه عبارة عن الثاني فهل هو ثبوتي أم لا؟
اضطرب قول أفضل
المتأخّرين فيه فتارة جعله ثبوتيا وتارة جعله عدميّا ، وهو الحق. لنا وجوه :
الوجه
الأوّل : لو كان الوجوب
ثبوتيّا في الخارج لزم التسلسل ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّ كلّ موجود في الخارج ، فإنّه مساو لسائر الموجودات في الوجود وممتاز عنها
بخصوصيته ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيكون
__________________
وجوده زائدا على
ماهيته ، فاتّصاف ماهيّته بذلك الوجود إمّا أن يكون واجبا ، أو ممكنا ، فإن كان
الأوّل نقلنا الكلام إلى ذلك الواجب ولزم التسلسل ، وإن كان الثاني لزم خروج
الواجب عن كونه واجبا ، فيكون ممكنا ، هذا خلف.
لا يقال : لا يلزم
من إمكان الوجوب إمكان الواجب.
لأنّا نقول :
إمكان الوجوب يستلزم إمكان عدمه عن الواجب ، وإذا انتفى الوجوب عن الواجب تعالى
بقي إمّا ممكنا أو ممتنعا وهما محالان.
الوجه
الثاني : الوجوب متقدّم على
الوجود ، لأنّه عبارة عن استحقاق الوجود ، واستحقاق الوجود متقدّم على نفس الوجود
، فلو كان الوجوب وصفا ثبوتيا ، لزم أن يكون ثبوت الصفة للماهيّة سابقا على ثبوت
نفس الماهيّة وهو محال.
الوجه
الثالث : لو كان الوجوب
ثبوتيا لكان إمّا نفس الماهية ، أو جزءها ، أو خارجا عنها والكلّ باطل ، أمّا
الأوّل والثاني ، فلأنّ الوجوب عبارة عن استحقاق الماهية للوجود ومفهوم هذا المعنى
«نسبة الماهية إلى الوجود» ، والنسبة بين الشيئين متأخرة عنهما ، فيكون هذا المعنى
متأخّرا بالاعتبار عن الماهية ، فلا يكون نفسها ولا جزءا منها. والثالث باطل ،
لأنّ الخارج عن الماهيّة إذا كان صفة لها كان محتاجا إليها ، فيكون الوجوب بالذات
، ممكنا بالذات ، واجبا بوجوب سببه ، فللماهيّة وجوب آخر قبل هذا الوجوب ويلزم التسلسل. ولأنّ
اقتضاء الماهية للوجود ، لو كان وصفا ثبوتيا ، لكان اقتضاء الماهية لذلك الوصف
أيضا زائدا عليه ولزم التسلسل.
الوجه
الرابع : الوجوب نسبة بين
الماهية والوجود. وسيأتي بيان أنّ النسب عدمية.
__________________
احتج المخالف
بوجوه :
الأوّل
: استحقاق الوجود ،
نقيض لا استحقاق الوجود ، ولا استحقاق الوجود أمر عدمي فيكون استحقاق الوجود
ثبوتيا. والمقدمة الأولى ظاهرة. وأمّا الثانية ؛ فلأنّ لا استحقاق الوجود يصدق على
الممتنع وهو واجب العدم ، وعلى الممكن وهو جائز العدم ؛ فإذن لا استحقاق الوجود
صادق على المعدوم ، والصادق على المعدوم يمتنع أن يكون ثبوتيا ، لاستحالة اتّصاف
المعدوم بالوصف الثبوتي ، فإذن لا استحقاق الوجود وصف عدمي ، فيكون الاستحقاق وصفا
ثبوتيا ، ضرورة اختلاف النقيضين بالسلب والإيجاب.
الثاني
: استحقاق الوجود
عبارة عن نسبة خاصة للماهية إلى الوجود ، وتلك النسبة ليس تحققها بحسب فرض العقل ، فإنّ الشيء في نفسه واجب سواء
اعتبره العقل أو لا ؛ ولو جاز أن لا يكون اقتضاء الوجود وصفا ثبوتيا ـ مع أنّه في نفسه نسبة محققة
محصّلة ـ لجاز أن يقال : نسبة الجسم إلى الجهة والحيّز بالحصول فيه ، ليست أمرا
ثبوتيا ، بل أمرا عدميا.
الثالث
: الشيء ما لم يجب
لم يوجد ، فالوجوب سابق على الوجود ، فإنّه لا بدّ من تقدّم جهة الاستحقاق على
حصول المستحق ، وجهة الاستحقاق في الواجب هو كونه مستحقا للوجود من ذاته ، ووجود
الشيء سابق على أوصافه السلبية ، فإنّ الصفات السلبية لا تعيّن ولا تخصص لها في أنفسها ، بل تعيّنها وتخصّصها تبع لتخصص محالها الموجودة الموصوفة بها ؛ فحينئذ وجود الشيء سابق على
__________________
سلب غيره عنه ،
وإذا كانت السلوب بأسرها متأخرة عن وجود الشيء ، وكان الوجوب متقدما عليه لم يكن
سلبيا ، وإلّا لكان متقدّما متأخرا ، هذا خلف.
الرابع
: الوجوب تأكد
الوجود ، والشيء لا يتأكّد بنقيضه ، فيكون الوجوب ثبوتيا.
الخامس
: الوجوب نقيض
الامتناع ، والامتناع عدمي ـ وإلّا لكان الموصوف به ثابتا ـ فيكون الوجوب ثبوتيا .
والجواب
عن الأوّل : أنّ استحقاق
الوجود أمر اعتباري حكمه في الثبوت والانتفاء واحد ، وإذا كان أمرا اعتباريا لم
يكن وجوديّا ولا يلزم أن يكون نقيضه ثبوتيا ، كما أنّ الامتناع أمر اعتباري ،
ونقيضه قد يصدق على المعدوم.
ولأنّ قولكم
اللااستحقاق محمول على الممتنع والممكن ، وهما معدومان مغالطة ؛ لأنّ الممتنع إن
كان له في نفسه تخصص أمكن وصفه بالامتناع والوصف الثبوتي ، وإن لم يكن له في
نفسه تخصص بحيث يستعدّ للموضوعية ، ولا الامتناع أمرا معقولا بحيث يستعدّ للمحمولية ، لم
يكن الحكم بالامتناع على الممتنع ، إلّا من حيث إنّ الذهن يستحضر ماهية ثم يحكم
عليها بامتناع حصول الوجود الخارجي لها ، فالمحكوم عليه بهذا الحكم هو تلك الماهية
المحصّلة في الذهن ، والحكم هو امتناع حصول الوجود الخارجي لها ، وحينئذ يكون
المحكوم عليه بالامتناع أمرا ثبوتيا في الذهن .
__________________
قال أفضل
المحقّقين : «إذا كان الوجوب سلبيّا لم يلزم منه أن يكون نقيضا
للوجود ، لأنّ السلبي هو «سلب شيء عن شيء» وسلب شيء عن الوجود لا يكون حمل العدم عليه. وأيضا إن كان الوجوب واللاوجوب نقيضين
يعني يقتسمان جميع الاحتمالات ، والوجود والعدم كذلك ، وكان المعدوم محمولا على اللاوجوب ، فلا يلزم أن يكون الوجود محمولا على
الوجوب حملا كليّا ، لأنّه من الجائز أن يكون بعض ما هو وجوب عدميا ، فإنّ الممكن
العام والممتنع نقيضان بالوجه المذكور ، والممتنع عدميّ ، فلا يجب أن يكون كلّ ما
هو ممكن بالإمكان العام وجوديا ، بل بعضه وجودي وبعضه عدمي».
وفيه نظر ؛ فإنّ
الوجود والعدم متناقضان وإذا صدق أحدهما على شيء استحال صدق الآخر عليه ، فيصدق
على نقيضه. والنقض بالممكن العام والممتنع ، فيه مغالطة ، فإنّ المدّعى «أنّ الوصف
إذا كان ثبوتيا كان نقيضه عدميا» لا ما صدق عليه الوصف من الماهيات الموضوعة لذلك
الوصف.
وعن
الثاني : أنّ الصفات
اللازمة للماهية ، والأحكام الثابتة لها ، لا تتوقف على وجود تلك الماهية في الذهن
أو في الخارج ، بل هي مستندة إليها سواء فرضها فارض أو لا ، فإنّ الممتنع ممتنع في
نفسه ، بمعنى أنّه متى عقل الذهن ماهية الممتنع بجميع لوازمها ، عقل لها الوصف
بالامتناع ، لا بمعنى كون الامتناع ثابتا في الخارج ، ولا بمعنى كونه ثابتا في
الذهن غير مطابق للخارج بحيث يكون جهلا ، بل بمعنى أنّه وصف لازم لها. وكما لا
يلزم من اقتضاء ماهية الممتنع
__________________
وصف الامتناع ،
كون الامتناع أو الممتنع ثبوتيا في الخارج ، كذا البحث في الوجوب.
وعن
الثالث : أنّ الوجوب من حيث
إنّه سابق على الأوصاف الثبوتية ، لا يكون ثابتا.
وعن
الرابع : أنّ الوجوب تأكّد
النسبة ، سواء كانت النسبة للوجود أو العدم ، فإنّه يدلّ على وثاقة الربط بأيّ
محمول كان ، وكما يؤكّد الوجود كذا يؤكّد العدم.
وعن
الخامس : ما تقدّم ، والنقض
بالإمكان .
البحث الثالث : في تقسيم الواجب
الواجب إمّا أن
يكون واجبا لذاته ، وهو الله تعالى لا غير. وإمّا أن يكون واجبا لغيره ، وهو كلّ
ممكن اتّصف بالوجود.
وأمّا الواجب
لذاته ، فوجوبه قد بيّنا أنّه أمر اعتباري .
ومن ذهب إلى ثبوته
في الخارج ، منع من كونه خارجا عن الذات ، لأنّه إن استقل بذاته امتنع أن يكون
وصفا لغيره ، لعدم استقلال الوصف بذاته ، فإنّه لا يعقل إلّا تابعا للموصوف. وإن
لم يستقل كان ممكنا لأنّه لو فرض ارتفاع الموصوف
__________________
ارتفع. وكلّ ما
كان قوامه متوقّفا على غيره ، فإنّه لما هو هو مع قطع النظر عن غيره يكون ممكنا ،
وكلّ ممكن يصحّ عدمه ، فلو امتنع عدمه ، لم يكن ذلك الامتناع لنفس مفهومه ، بل
لامتناع سببه الذي هو الذات ، فهو متردّد بين صحّة العدم وامتناعه ، لكنّ صحّة
عدمه يستلزم صحّة عدم الواجب ، هذا خلف. وامتناع عدمه يستلزم وجوب الذات ، فإنّ
وجوب المعلول تابع لوجوب العلّة ، فيكون للماهية وجوب مثل هذا الوجوب ويتسلسل. ولو جاز لقلنا : الذات إن اقتضت لما
هي هي وجوبا ، لم يكن بين الذات وبين ذلك الوجوب وجوب آخر ، وإن لم تقتض لزم نفي
الوجوب عن الذات بالكلّية ، فيثبت انّ الوجوب بالذات يمتنع أن يكون خارجا عن
الماهيّة. ولا يمكن أن يكون جزءا من الماهية ، وإلّا لزم تركيب الواجب لذاته هذا
خلف. فوجب أن يكون نفس الماهية.
والتحقيق يقتضي
نفي النزاع هنا. فإنّ من جعل الوجوب أمرا اعتباريا ، سلّم أنّه ليس أمرا خارجا عن
الذات ولا جزءا منها. ومن جعله نفس الذات ، إن قصد أنّ مفهوم النسبة ، وهي «كيفية
الرابطة بين الوجود والماهية» نفس الذات لم يصب. وإن قصد أنّه ليس شيئا زائدا على
الذات في الخارج ، فهو مسلّم.
أمّا الوجوب
بالغير ، فإنّه معلول لذلك الغير ، فصحّ أن يكون خارجا عن الماهية.
لا يقال : وجوب
الوجود وصف للوجود ، والوصف منفصل عن الموصوف ، فلا يمكن جعله نفسه ، ولأنّ
الواجب لذاته يساوي سائر الموجودات
__________________
في الوجود
ويخالفها في الوجوب ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فالوجود غير الوجوب.
ولأنّا ندرك تفرقة
بين قولنا : موجود واجب وبين قولنا : موجود موجود ، ولو كان الوجود هو الوجوب لم
يبق بينهما فرق ، فيثبت أنّ الوجود مغاير للوجوب. فإن لم يكن بينهما تلازم أمكن
انفكاك أحدهما عن الآخر ، فيجوز تحقّق الوجوب من دون الوجود ، فيخرج الواجب عن
كونه واجبا ، هذا خلف. ويجوز تحقّق الوجوب من دون الوجود ، فتوجد الصفة من دون
الموصوف ، هذا خلف.
وإن تلازما ،
فإمّا من الطرفين وهو دور ، أو يكون الوجود ملزوما ، فكلّ موجود واجب ، هذا خلف. ويلزم أيضا
افتقار الوجوب لصيرورته معلولا ، فيلزم افتقار الواجب والتسلسل ، لأنّ المعلول
واجب لعلّته ، فقبل هذا الوجوب وجوب آخر. أو يكون الوجود لازما وهو محال وإلّا جاء
الدور ؛ لأنّ الوجوب نعت للوجود ، فلو كان الوجود تابعا لزم كون الوجود تابعا
متبوعا. أو يكونا معلولي علّة واحدة ، لأنّ تلك العلّة إن كانت موصوفة بهما ، كان
ما ليس بموجود ولا واجب علّة للوجوب والوجود ، فالمعدوم الممكن علّة للموجود
الواجب ، هذا خلف. ويلزم كون الوجوب معلولا. وإن كانت صفة لهما عاد الإشكال في
كيفية ذلك اللزوم. أو لا موصوفة ولا صفة ، فيكون الموجود الواجب لذاته مفتقرا إلى
علّة منفصلة ، هذا خلف.
لأنّا نقول :
الشيء إذا أخذ بشرط وجوده صار ممتنع العدم ، وما كان مانعا للعدم كان مانعا لإمكان
العدم والوجود ، فإذن الوجود من حيث هو وجود يمنع
__________________
الإمكان ، وما كان
مانعا من الإمكان لزمه الاستغناء عن المقتضي ، فالوجود بشرط التجرّد عن الماهية
أولى بالمنع من الإمكان ، لأنّ الشيء الذي له اعتبار الإمكان إذا أخذ مع الوجود
دخل في الوجوب ، فالذي لا اعتبار له إلّا الوجود هو أولى بالوجوب.
والتغاير بين
الوجود والوجوب اعتباريّ ، لما بيّنا من كون الوجوب والإمكان والامتناع أمورا
معقولة ، تحصل في العقل من اسناد المتصوّرات إلى الوجود الخارجي ، وهي في أنفسها
معلولات للعقل بشرط الإسناد المذكور ، وليست أمورا متحقّقة في الخارج بحيث يرد
عليها التقسيم بأنّها إمّا علل للأمور التي يستند إليها أو معلولات لها ، كما أنّ
تصوّر زيد وإن كان معلولا لمن يتصوّره ، لا يكون علّة لزيد ولا معلولا له. وكون
الشيء واجبا في الخارج ، هو كونه بحيث إذا عقله عاقل مسندا إلى الوجود الخارجي لزم
في عقله معقول هو الوجوب. ولما كان الوجود مقولا بالتشكيك لم يجب تساوي مقتضياته ،
فانّ المعاني المشتركة على سبيل التشكيك لا يقتضي استلزام بعضها لشيء استلزام غير
ذلك البعض لذلك الشيء ، فإنّ نور الشمس يستلزم زوال العشي وسائر الأنوار لا تقتضيه
، لكون النور مشتركا بين نورها وسائر الأنوار بالتشكيك.
وفيه نظر ؛ فإنّ
المشكك يوجد فيه اشتراك معنويّ ، وإذا اقتضى لذاته شيئا وجب وجود ذلك الاقتضاء في
جميع موارده. أمّا إذا اقتضى لا لذاته ، بل لأجل انضمام ما حصل فيه من الاختلاف ،
لم يجب عموم الاقتضاء ، وزوال العشي لا يستند إلى النور المطلق ، بل إلى النور
المستند إلى الشمس خاصّة إمّا لشدّته أو لمعنى مختص به ، حصل باعتباره مخالفته
لسائر الأنوار .
والتحقيق في ذلك
كلّه ، ما قلناه أوّلا من كون الوجوب اعتباريا.
__________________
البحث الرابع : في خواص الواجب لذاته وهي عشرة
الأولى
: لا يمكن أن يكون
الشيء الواحد واجبا لذاته ولغيره معا ، لأنّ كلّ ما بالغير فإنّه يرتفع بارتفاع
ذلك الغير ، وما بالذات لا يرتفع بارتفاع الغير ، فلو كان الواحد واجبا لذاته
ولغيره معا ، لزم ارتفاعه عند ارتفاع ذلك الغير بالنظر إلى كونه واجبا بغيره ، وعدم ارتفاعه عند ارتفاع
ذلك الغير بالنظر إلى كونه واجبا لذاته ، فيجتمع فيه النقيضان.
ولأنّ الواجب
بذاته مستغن عن الغير ، إذ معنى الوجوب «استحقاق الوجود لذاته ، أو عدم توقّفه على
الغير» ، والواجب بغيره مفتقر إلى ذلك الغير ، لاستحالة وجود
المعلول بدون علّته ، والجمع بين الحاجة في الوجود والاستغناء فيه محال ، وهذا حكم
غني عن البرهان .
الثانية
: الواجب لذاته بسيط
، لا يتركّب عن غيره ، وإلّا لكان ممكنا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ كلّ مركب مفتقر إلى أجزائه ، والأجزاء مغايرة له ، فيكون مفتقرا إلى غيره ،
وكلّ مفتقر ممكن ، وأمّا بطلان التالي ، فلامتناع اجتماع النقيضين.
__________________
لا يقال : يجوز أن
يكون كل جزء من الواجب واجبا ، فيستغني في أجزائه عن الغير ، وعند
وجود الأجزاء يجب حصول المركّب ، فلا يكون مفتقرا إلى الغير لا في ماهيته ولا في
أجزائه .
لأنّا نقول :
التركيب يستدعي الإمكان ، فإنّ كلّ مركب ممكن بالضرورة ، لافتقاره إلى أجزائه
المغايرة له ، فلا يكون المركب واجبا وقد فرضناه واجبا ، هذا خلف.
الثالثة
: الواجب لذاته لا
يتركّب عنه غيره ، لأنّ التركيب إمّا معنوي أو خارجيّ ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّه إنّما يحصل من الجنس والفصل ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون جنسا ، وإلّا
لافتقر إلى الفصول. ويستحيل أن يكون فصلا ، لأنّه صورة للجنس ، والصورة مفتقرة إلى
المادة نوعا ما من الافتقار ، وواجب الوجود لا يفتقر إلى الغير.
وأمّا الثاني ،
فلأنّه لا بدّ فيه من انفعال ما ، كما في الممتزجات ، وهو ممتنع في حق واجب الوجود.
الرابعة
: الواجب لذاته لا
يكون وجوده زائدا عليه ، وإلّا لزم أن يكون ممكنا ، لافتقار وجوده إلى ماهيته.
وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
الخامسة
: الواجب لذاته لا
يكون وجوبه زائدا عليه ، وقد تقدّم .
__________________
السادسة
:
الواجب لذاته لا
يكون مشتركا بين اثنين ، وإلّا لزم تركّب كل واحد منهما ، لاشتراكهما في الوجوب
الذاتي ، فيجب امتياز كلّ منهما عن صاحبه بأمر مغاير لما وقع به الاشتراك ، فيكون
كلّ واحد منهما مشتملا على ما به الاشتراك وما به الامتياز ، فيكون مركّبا ، فيكون
ممكنا ، ولأنّ الجزءين إن لم يكن بينهما تلازم ، أمكن انفكاك كلّ واحد منهما عن
صاحبه ، فيكون اجتماعهما معلول علّة منفصلة ، هذا خلف. وإن كان بينهما ملازمة ،
فإن استلزمت الهوية الوجوب ، كان الوجوب معلولا ، هذا خلف ، وإن كان بالعكس لزم المطلوب ، إذ يكون كلّ واجب هو هو ، فما ليس هو لم يكن واجبا.
اعترض : بأنّ الوجوب ليس وصفا ثبوتيا وإلّا لزم التسلسل ، وكذا
التعين .
ولأنّ الواجب
يشارك الممكن في الوجود ، ويخالفه في الوجوب ويعود التقسيم .
ولأنّ الاشتراك
هنا لفظي لا معنوي.
__________________
ولأنّ الوجوب وصف
لا جزء ، ولا يلزم من الاشتراك في الأوصاف التركيب.
ولأنّ الامتياز
بعارض ، فلا يكون مركبا.
والجواب : البحث
في مفهوم واجب الوجود ، ولا يمكن أن يكون وصفا اعتباريا.
والاشتراك في
الوجود إن كان ، فهو في وصف عارض ، فلا يجب به التركيب.
والاشتراك هنا
معنوي ، لأنّ المفهوم واحد فيما يفرض اشتراكه فيه.
والوجوب إذا
جعلناه وصفا لم يلزم كون الواجب وصفا ، والبحث في الواجب. على أنّا أخذنا مفهوم
الواجب ، وجعلناه منظورا فيه لا معروضه.
والامتياز إذا كان
بعارض ، أمكن زواله ، فخرج هذا الواجب عن كونه واجبا ، هذا خلف.
قال أفضل
المحقّقين : «كون استلزام الهوية الوجوب خلفا ، فيه نظر ؛ لأنّ الخلف يكون لو كان
الواجب معلول الغير ، لا الوجوب. أمّا إن كانت هويته مستلزمة لوجوبه ، وكان وجوبه
محتاجا إلى هويته ، لم يلزم منه كون الهوية معلول الغير ، بل يلزم منه كون الهوية غير واجبة بانفرادها ، إنّما
تكون واجبة بصفة تقتضيها ذاتها» .
وفيه نظر ، لأنّ
إمكان الوجوب يستلزم إمكان الواجب ، فإنّ الواجب إنّما
__________________
هو واجب بذلك
الوجوب ، فإذا أمكن زواله ، أمكن خروج الواجب عن كونه واجبا ، فلا يكون واجبا
لذاته. وكون الهوية واجبة بصفة تقتضيها ذاتها ، يستلزم الدور ، لأنّ وجوب الصفة تابع
لوجوب الموصوف ، فلا يمكن أن يكون متبوعا.
ثمّ أجاب عن
المعارضة بكون الواجب مساويا للممكن في الوجود ، بأنّ اشتراكهما في الوجود ليس
بالتواطؤ.
وفيه نظر ؛ فإنّ
قصد المشك وجود أمرين في واجب الوجود ، فيلزم التركيب.
وإنّما الجواب
الحق ، ما بيّناه ، من أنّ الاشتراك في الصفات لا يلزم منه التركيب.
ثمّ قال : «والواجب أن نقول : «الواجب لذاته يستحيل أن يكون محمولا على اثنين ، لأنّه إمّا أن يكون ذاتيا لهما ، أو عرضيّا لهما ، أو ذاتيا
لأحدهما عرضيّا للآخر. فإن كان ذاتيا لهما ، فالخصوصيّة التي بها يمتاز كلّ واحد
من الآخر لا يمكن أن يكون داخلا في المشترك ، وإلّا فلا امتياز ، فهو خارج ، فيضاف إلى المعنى المشترك ، فإن كان في كلّ واحد منهما ، كان كلّ
واحد منهما ممكنا من
__________________
حيث هو موجود
ممتاز عن الآخر ، وإن كان في أحدهما فهو ممكن. وإن كان عرضيّا لهما أو لأحدهما ،
فمعروضة في ذاته لا يكون واجبا».
لا يقال : الواجب
لذاته هو المعنى المشترك فقط.
لأنّا نقول :
المعنى المشترك لا يوجد في الخارج من حيث هو مشترك من غير مخصّص يزيل اشتراكه.
لا يقال : المخصّص
سلبي ، وكل واحد منهما مختصّ بأنّه ليس الآخر.
لأنّا نقول : سلب
الغير لا يحصل إلّا بعد حصول الغير ، وحينئذ يكون كلّ واحد منهما بعد حصول الغير ، فيكون ممكنا» .
السابعة
: وقوع لفظ الواجب
على الواجب لذاته والواجب لغيره بالاشتراك اللفظي ، وإلّا لزم تركيب الواجب لذاته
، فيكون ممكنا ، ولأنّ القدر المشترك إن كان غنيا عن الغير ، لم يكن تمام ماهية
الوجوب بالغير عارضا للغير ، هذا خلف. وإن كان مفتقرا ، لم يكن تمام ماهيّة الوجوب
بالذات غنيّا عن الغير.
اعترض بإمكان
التقسيم إليهما ، ومورد التقسيم مشترك.
قال أفضل
المحقّقين : لا يلزم من كون الوجوب مشتركا بين الوجوب بالذات والوجوب بالغير ، كون
الوجوب بالذات مركبا ، لأنّ تعقل الوجوب بالذات لا يفتقر إلى تعقل غير الذات. أمّا
الوجوب بالغير فيفتقر تعقّله إلى انضياف تعقّل
__________________
الغير إلى تعقّل
الوجوب.
ثمّ لو كان الوجوب
الذي هو «أمر حاصل في العقل عند اسناد متصوّر إلى الوجود الخارجي» مركّبا لم يلزم منه تركيب المسند إليه ، كما لا
يلزم من كونه محتاجا إلى موصوف به ، كون الموصوف به محتاجا إلى غيره.
وأيضا الامتناع
مشترك بين الامتناع بالذات والامتناع بالغير ، ولا يلزم من تركّبه تركّب في
الممتنع لذاته الذي يكون نفيا محضا.
وقوله : «القدر المشترك إن كان غنيا عن الغير لم يكن تمام ماهية
الوجوب بالغير عارضا للغير ، هذا خلف».
فيه نظر ؛ لأنّه
لا يلزم منه الخلف ، فإنّ من استغناء الجزء لا يلزم استغناء المركّب ، بل إنّما
يلزم من افتقار الجزء افتقار المركّب» .
وفيه نظر ؛ فإنّ
كلّ معنى معقول كلّي إذا أخذ مخصّصا ، استدعى تركيبا عقليا ممّا وقع به الاشتراك
وما وقع به التخصص سواء كان ذلك الكلّي جنسا أو نوعا ، فإنّ أفراد النوع
مشتركة في معنى كلّي إذا أخذ مع مشخّصات خاصة ، كان المجموع مركّبا من ذلك المعنى
الكلّي ومن قيد التشخّص ، والوجوب هنا أخذ مشتركا ، فيكون الوجوب بالذات مركّبا
منه ومن قيد الخصوصيّة.
وقوله : «الوجوب
بالذات لا يفتقر إلى تعقّل غير الذات» ، لا يضرّ في
__________________
الدليل ، فإنّ
الذات مغايرة للوجوب ، والتركيب لم يلزم من الافتقار إلى تعقّل غير الذات ، بل من
وجوب وجود مخصّص زائد على القدر المشترك.
ثمّ قوله : «إنّه
غير مفتقر إلى تعقّل غير الذات» ممنوع ، بل يفتقر إلى تعقّل نسبته إلى الذات ، وهو أمر مغاير لذلك المعنى الكلّي ، كما أنّ
الوجوب بالغير يفتقر إلى انضياف تعقّل الغير إلى تعقّل الوجوب.
قوله : «تركيب الوجوب لا يلزم منه تركيب المسند إليه».
قلنا : نسلّم ، بل يلزم منه إمكانه على ما تقدّم .
قوله : «كما لا
يلزم من كونه محتاجا إلى موصوف به ، كون الموصوف به محتاجا إلى غيره».
قلنا : مسلّم أنّه
لا يلزم من افتقار الصفة افتقار الموصوف ، لكن هنا يلزم ذلك ، فإنّ الموصوف إنّما
هو واجب بهذه الصفة ، فإذا كانت ممكنة ، كان الموصوف ممكنا. والتركيب العقلي كما
هو ثابت في الواجب ، كذا في الممتنع ، وكونه نفيا محضا لا ينافي التركيب العقلي.
وقوله : «لا يلزم
من استغناء الجزء استغناء المركّب».
قلنا : حق ، لكنّا
نحن ادعينا أنّ المشترك إذا كان غنيّا ، لم يكن تمام ماهية الوجوب بالغير عارضا
للغير ، وهو صحيح ، فإنّ العارض حينئذ لا يكون تمام الماهية ، بل
جزئها.
__________________
وأيضا ، فإنّ
الوجوب المشترك حينئذ يكون جنسا فإذا افتقر الفصل إلى الغير ، كان الجنس الذي هو
معلوله أولى بالافتقار.
وأيضا الواجب
لغيره هو الذي يجب وجوده عند حصول ذلك الغير ، فإذا كان الوجوب المشترك بين هذا
الممكن وبين الواجب لذاته مستغنيا عن الغير ، كان ذلك الممكن مستغنيا عن الغير ،
هذا خلف.
الثامنة
: الواجب لذاته واجب
في جميع صفاته الحقيقية ، لامتناع افتقاره إلى الغير على ما يأتي بيانه :
أمّا الصفات
الإضافيّة فإنّها أمور اعتباريّة متوقّفة على المضافين ، وليست حاصلة
في الخارج ، بل في الذهن ، فجاز توقّفها على الغير ، ولا يثلم ذلك غناه .
التاسعة
: الواجب لذاته لا
يمكن عدمه ، وإلّا لم يكن واجبا لذاته ، إذ معناه هو الذي لا يمكن عدمه. وقيل : «لو صحّ عليه العدم ، لكان وجوده متوقّفا على عدم سبب
عدمه ، والمتوقّف على الغير ممكن بالذات».
قال : أفضل
المحقّقين : «عدم واجب الوجود ممتنع لذاته لا لغيره ،
__________________
فالتعليل «بعدم
توقف وجوده على عدم سبب عدمه» تعليل ما ثبت للشيء لذاته بعلّة غير ذاته».
العاشرة
: قال أفضل
المتأخّرين : الواجب لذاته يجوز أن تعرض له صفات تستلزمها ذاته ،
فيكون الوجوب الذاتي حصة لتلك الهويّة فقط ، وسائر النعوت واجبة لوجوب تلك الهوية ، وتكون الوحدة حصة لتلك الهوية من حيث هي هي ،
وإن كانت إذا أخذت مع الوحدة لم تبق واحدة».
قال أفضل
المحقّقين : «هذا ممتنع عند الحكماء ، لأنّهم يقولون «الواحد من حيث هو واحد لا
يكون مصدرا لأكثر من واحد».
وقوله : «وسائر
النعوت واجبة لوجوب تلك الهوية» معناه أنّ صفاته المتكثّرة ممكنة لذواتها ،
فالواحد لا يكون إلّا الذات ، مع أنّها مع الوحدة لا تكون أيضا واحدة ، ومع الصفات
تكون كثيرة وهذا ليس ممّا ذهب إليه الحكماء ولا المتكلّمون ، إلّا الأشاعرة ، كما
سيجيء شرحه.
وقوله : «الوحدة
حصّة لتلك الهويّة وإذا أخذت مع الوحدة لم تبق واحدة» يجري مجرى قول من يقول : «إذا
علم الإنسان الواحد ، كان ذلك الواحد مع علمه به اثنين ، فإنّ الوحدة هي تعقّل
العقل لعدم انقسام تلك الهويّة» .
__________________
الفصل الثالث :
في مباحث الإمكان
البحث الأوّل :
الممكن له أمران : أحدهما : أنّه ليس له في ذاته اقتضاء الوجود ولا اقتضاء العدم ، وهو
اعتبار مغاير لاقتضاء العدم ، فإنّ اقتضاء العدم يدخله في الممتنع ، بخلاف عدم
اقتضاء الوجود والعدم.
والثاني
: احتياجه في وجوده
وعدمه إلى الغير ، وهذا الاعتبار الثاني معلول للأوّل.
وبينهما فرق ،
فإنّا إذا حكمنا على شيء بالحاجة إلى الغير طلب العقل لذلك علّة ، فإن علّل بعدم
اقتضاء الوجود والعدم قنع بذلك. وإنّما يصحّ التعليل لو
__________________
تغاير الاعتباران
، ولأنّ عدم اقتضاء ذاته للوجود والعدم اعتبار حاله من حيث هو مع قطع النظر عن وجود غيره وعدمه ، وأمّا تعلّقه
بالغير وتوقّفه عليه فذلك اعتبار حاله بالنسبة إلى الغير .
البحث الثاني : في أقسامه
الإمكان بالنسبة
إلى الضرورة ، كالعدم بالنسبة إلى الحقيقة. ولما كانت أقسام العدمات تابعة لأقسام
الملكات ، كان الإمكان تابعا للضرورة في التقسيم. ولما كانت الضرورة إمّا ذاتية أو
غير ذاتية. والذاتية إمّا بالنظر إلى الوجود أو بالنظر إلى العدم ، كان سلبها
كذلك.
فالإمكان وضع في
اللغة بإزاء سلب الضرورة ، فإن سلب ضرورة الوجود ، كان إمكانا عاما سلبيا ، وإن
سلب ضرورة العدم ، كان إمكانا عاما إيجابيا ، وإن سلب الضرورتين معا ، كان إمكانا
خاصا. وإن سلب الضرورة الذاتية والمشروطة ، كان إمكانا أخصّ. وإن أخذ ذلك باعتبار
المستقبل كان إمكانا استقباليا.
فالإمكان العام ،
إن أخذ بالنظر إلى الوجود ، كان ممكن الوجود هو «الذي لا يمتنع وجوده» وهو يشمل
أمرين : وجوب الوجود ، وإمكان الوجود والعدم.
وإن أخذ بالنظر
إلى العدم ، كان ممكن العدم هو «الذي لا يجب وجوده» وهو يشمل أمرين : وجوب العدم
أعني الممتنع ، وإمكان الوجود والعدم.
__________________
والأشياء بحسب هذا
الاعتبار قسمان : ممكن ، وضروري مقابل له.
وأمّا الإمكان الخاص
، فإنّه يقابل الضرورتين معا.
والأشياء بحسبه
ثلاثة : واجب ، وممتنع ، وممكن خاص. ويصدق عليه الإمكان باعتبارين أحدهما : دخوله
تحت الأوّل. والثاني : الوضع بإزائه.
واعلم : أنّ
الإمكان عند الأوائل يقال بالاشتراك اللفظي على معنيين.
أحدهما : ما يقابل
الامتناع ، وهو الإمكان الراجع إلى الماهية ، وهو عندهم صفة عقليّة يوصف بها كلّ
ما عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات .
والثاني :
الاستعداد وهو عندهم صفة موجودة من جملة أنواع مقولة الكيف ، عرضي غير باق بعد
وجود المستعد إلى الفعل.
البحث الثالث : في أنّ الإمكان العام سلبي
الحقّ : أنّه
اعتبار عقليّ ، لا تحقّق له في الأعيان وإلّا لزم التسلسل ، واللازم باطل ،
فالملزوم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ كل ثابت ، فإمّا واجب أو ممكن ، فلو كان الإمكان ثابتا ، لكان أحدهما ، فيكون
له إمكان آخر ، إذ نسبة وجوده إليه لا يخلو عن هاتين الكيفيتين.
ولأنّ صحّة وجود
الماهية سابقة على حصوله ، فتلك الصحّة لو كانت صفة ثبوتية ، لكان ثبوت الصفة
الثابتة للشيء سابقا على ثبوت الشيء في نفسه.
__________________
ولأنّه محمول على
الممكن الخاص الذي يجوز أن يكون معدوما ، وما يجوز حمله على العدم كان عدميا ،
فالإمكان العام عدميّ.
ولأنّ المفهوم منه
سلب الضرورة ، وسلب الضرورة داخل تحت مطلق السلب.
ولأنّ إمكان
الوجود هو بعينه إمكان العدم ، إذ مفهومه واحد فيهما ، وإمكان العدم عدمي ، لاتّصاف العدم به ، فيكون إمكان
الوجود كذلك.
احتجّ المخالف :
بأنّه نقيض الامتناع العدمي ، فيكون ثبوتيّا.
والجواب ، كما
أنّه نقيض الامتناع باعتبار ، فكذا هو نقيض الوجوب باعتبار ، فيكون عدميّا.
والحق : أنّه
اعتبار عقلي وحكم ذهني يتعلّق بنسبة المحمول إلى الموضوع.
واعلم : أنّه كما
أنّ الإمكان العام ليس بثبوتي ، فكذا ليس بجنس وهو ظاهر ، فإنّ العدمي لا يقوّم
غيره. وقد بيّنا أنّه أمر اعتباري.
ولأنّه لو كان
جنسا لكان امتياز الواجب عن الممكن بفصل ، فيكون الواجب مركّبا.
البحث الرابع : في أنّ الإمكان الخاص سلبي
أكثر الأوائل على
أنّ الإمكان الخاص ثبوتي ، واحتجّ «ابن سينا» عليه : بأنّه لو كان عدميّا لما بقي
فرق بين قولنا : لا إمكان له ، وبين قولنا : إمكانه عدميّ ، لعدم الامتياز في
العدميّات ، ولمّا كان الفرق ثابتا وجب أن يكون الإمكان ثبوتيّا.
__________________
وهذه الحجّة عظيمة
الاختلال ، فإنّ الملازمة كاذبة ، لأنّ الفرق واقع في العدميّات ، كالوجوديّات ،
ومنقوضة بالامتناع ، فإنّ الحجّة التي ذكرها في الإمكان ، آتية في الامتناع ، إذ
لقائل أن يقول : لو لم يكن الامتناع ثبوتيا لم يبق فرق بين قولنا : لا امتناع له ،
وبين قولنا : امتناعه عدميّ ، ولمّا لم يدلّ ذلك على ثبوت الامتناع ، فكذا الإمكان
.
ثمّ الذي يدلّ على
كونه عدميّا وجوه :
الوجه
الأوّل : لو كان الإمكان
ثبوتيا لزم التسلسل ، أو وجوب الممكن لذاته ، والتالي باطل بقسميه ، فكذا المقدّم .
بيان الشرطية :
أنّه لو كان ثابتا ، لكان قد شارك غيره من الموجودات في الوجود ، وامتاز عنها
بخصوصيّة ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيكون وجوده زائدا على ماهيته ،
فاتّصاف ماهيّته بوجوده إمّا أن يكون واجبا أو ممكنا.
فإن كان واجبا لزم
كون الممكن الموصوف بالإمكان أولى بالوجوب ، لأنّ شرط الواجب لذاته واجب. ولأنّ
وجوب الإمكان غير معقول. أمّا أوّلا : فلأنّه صفة والصفة لا تعقل قائمة بذاتها ،
بل قائمة بغيرها ، فلا يعقل وجوبها. وأمّا ثانيا : فلأنّه أمر نسبي لا يعقل إلّا
بعد ثبوت منتسبيه.
وإن كان ممكنا كان
له إمكان زائد على ماهيته ، لأنّه نسبة بين ماهيته ووجوده والنسبة مغايرة للمنتسبين وهو ثبوتي ، فيكون له إمكان آخر
ويتسلسل. وأمّا بطلان التالي فظاهر.
__________________
اعترضه أفضل
المحقّقين : «بأنّ الإمكان أمر عقلي ، فمهما اعتبر العقل للإمكان ماهية ووجودا ،
حصل فيه إمكان امكان وانقطع عند انقطاع الاعتبار. فإنّ كون الشيء معقولا ينظر فيه
العقل ويعتبر وجوده ولا وجوده ، غير كونه آلة للعاقل ، ولا ينظر فيه من حيث ينظر
فيما هو آلة لتعقّله ، بل إنّما ينظر به ، مثلا العاقل يعقل السماء بصورة في عقله،
ويكون معقوله السماء ، [و] لا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ، ولا يحكم
عليها بحكم ، بل يعقل أنّ المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر. ثمّ إذا نظر في
تلك الصورة ، أي يجعلها معقولا منظورا إليها ، لا آلة في النظر إلى غيرها ، وجدها عرضا
موجودا في محلّ هو عقله ممكن الوجود . وهكذا «الإمكان» هو كآلة للعاقل بها يعرف حال الممكن في
أنّ وجوده كيف يعرض لماهيته ، ولا ينظر في كون الإمكان موجودا أو غير موجود ، أو
جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا. ثمّ إن نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو
جوهريّته أو عرضيّته ، لم يكن بذلك الاعتبار إمكانا لشيء ، بل كان عرضا في محلّ هو
العقل ، وممكنا في ذاته ، ووجوده غير ماهيته. وإذا تقرّر هذا ، فالإمكان من حيث هو
إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير موجود أو ممكنا أو غير ممكن. وإذا وصف بشيء من
ذلك لا يكون حينئذ إمكانا ، بل يكون له إمكان آخر» .
وهذا الكلام على
طوله لا يفيد مطلوبه ، بل هو تسليم لما قلناه ، فإنّه إذا كان أمرا عقليا كان عدميا
في الخارج لا تحقّق له فيه ، وهو المراد.
__________________
ثمّ قوله : «إذا
اعتبر العقل للإمكان ماهية ووجودا حصل فيه إمكان امكان» ، إن قصد بذلك ثبوت وجود
خارجي لزم التسلسل ، ولم يكن اعتبارا عقليّا ، وهو ضد ما قاله أوّلا. وإن قصد بذلك
ثبوت وجود ذهني ، فهو مسلّم ، ونحن لا نتنازع في الثبوت الذهني. وإن قصد أنّه
موجود في الخارج باعتبار كونه ثابتا في الذهن ويعرض له حينئذ إمكان آخر ذهني ، فهو
تسلّم لما قلناه أيضا.
الوجه
الثاني : لو كان الإمكان
ثبوتيا لزم أحد محالات أربعة : إمّا كون الإمكان جوهرا ، أو قيام الموجود بالمعدوم
، أو قيام الصفة بغير الموصوف ، أو سبق الوجود على الإمكان ، والكلّ باطل ،
فالمقدم كذلك.
بيان الشرطية :
أنّ الإمكان الثابت للحادث إمّا أن يثبت قبل وجوده أو لا. فإن كان الثاني ، لزم
سبق الوجود على الإمكان. وإن كان الأوّل ، فإمّا أن يكون قائما بذاته فيكون جوهرا
، إذ لا معنى للجوهر إلّا المستغنى في وجوده عن محلّ يقوم به. وأمّا أن يكون قائما بغيره ، فذلك الغير إمّا الموصوف ،
فيلزم قيام الموجود بالمحلّ المعدوم ، أو غيره ، فيلزم قيام الصفة بغير موصوفها. وأمّا بطلان الأقسام
فظاهر ، فإنّ الإمكان أمر نسبي يتوقّف على ثبوت المنتسبين ، فلا تعقل جوهريّته
وقيامه بذاته واستقلاله بالوجود عن محلّه. والضرورة قاضية بسبق الإمكان على الوجود
، فإنّ الشيء يمكن أن يوجد ، ثمّ يوجد بفاعله. ولا يصحّ أن يقال : يوجد ، ثمّ يمكن
وجوده. ولو جوّزنا قيام الموجود بالمعدوم ، لجوّزنا كون الأجسام عدمية ، لأنّ المشاهد
منها ليس إلّا الأعراض ، وذلك عين السفسطة. ولو جوّزنا قيام الصفة بغير الموصوف ،
لجوّزنا أن يكون زيد عالما قادرا ذا لون مخصوص وكم
__________________
مخصوص بعلم وقدرة
ولون ، وكم قائمة بالغير ، وذلك ظاهر البطلان.
اعترضه أفضل
المحقّقين بأنّ «إمكان الشيء قبل وجوده حالّ في موضوعه» ، فإن معناه
كون ذلك الشيء في موضوعه بالقوّة ، وهو صفة للموضوع من حيث هو فيه ، وصفة للشيء من حيث هو بالقياس إليه. فبالاعتبار الأوّل يكون كعرض في
موضوع ، وبالاعتبار الثاني يكون كإضافة لمضاف إليه ، ولمّا لم يكن وجود مثل هذا الشيء إلّا في غيره لم يمتنع
أن يقوم إمكانه أيضا بذلك الغير» . ولأنّ الإمكان صفة للمتصوّر المستند إلى الوجود الخارجي ،
والشيء حال عدمه يكون متصوّرا ، فيكون موصوفا بالإمكان.
والجواب : أنّ
موضوع الشيء مغاير له ، فلا يعقل قيام صفة الشيء به.
اللهم إلّا أن
يقول : إنّ الموضوع لمّا كان محلّا للشيء كان محلّا لصفاته ، فنقول حينئذ يستحيل
قيام تلك الصفات بذلك الموضوع بالاستقلال ، وإنّما تقوم به تبعا لقيام موصوفها به ، لكن قيام موصوفها به يستدعي وجوده
، فيلزم أن يكون قبل وجوده لا صفة له في موضوعه.
ثمّ قوله : «إنّه
صفة للموضوع من حيث هو فيه ، وصفة للشيء من حيث هو بالقياس إليه» ضعيف ؛ فإنّ الشيء الواحد لا يمكن
أن يكون وصفا لأمرين
__________________
متغايرين ، بل
إنّما هو صفة للمنسوب إليه ، فلا يعقل قيامه بالاستقلال في موضوعه.
وقوله : «ولمّا لم
يكن وجود مثل هذا الشيء إلّا في غيره ، لم يمتنع أن يقوم إمكانه أيضا بذلك الغير»
ضعيف ؛ لأنّ إمكانه إنّما يقوم بذلك الغير تبعا لقيامه بذلك الغير كما بيّنا. ثمّ
تخصيص الإمكان بالقائم بالغير ممنوع ، فإنّ كل حادث على الإطلاق يسبقه إمكان
حدوثه.
لا يقال : الحوادث
منحصرة في الصور والأعراض والمركّبات.
لأنّا نقول :
سيأتي بطلان ذلك في باب الحدوث إن شاء الله تعالى.
وقوله : «الإمكان
صفة للمتصوّر المستند إلى [الوجود] الخارجي ، والشيء حال عدمه يكون متصوّرا ،
فيكون موصوفا بالإمكان» تسليم للمنازع ، فإنّا ما سعينا إلّا لإثبات كون الإمكان أمرا
اعتباريا لا تحقّق له في الخارج.
الوجه
الثالث : لو كان الإمكان
ثبوتيا لزم تأخّر الشيء عن المتأخّر عنه ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ الإمكان أمر إضافي ، متوقّف وجوده على وجود مضافيه ، فيكون متأخرا عن ثبوت
الماهية والوجود ، فيكون الوجود المتأخّر عن الإمكان متقدّما عليه ، هذا خلف .
اعترضه أفضل
المحققين : بأنّ الإمكان من حيث كونه صفة إضافية إنّما يتحقّق عند ثبوت المضافين ، ولكن يكفيه ثبوتهما في العقل ، ولا يجب من ذلك تقدمهما
عليه في الخارج ، لكنّه من حيث تعلّق معروضيه الثابتين في العقل بأمر
__________________
وجوديّ في الخارج
يستدعي لا محالة موضوعا موجودا في الخارج .
وليس بجيّد ، فإنّ
الإضافات تابعة لوجود المضافات ، فإذا كانت الإضافة ثابتة في الخارج ، وجب ثبوت
مضافها فيه. وإذا ثبت المضافان في العقل استحال ثبوت الإضافة في الخارج ، فلا يكون
للإمكان ثبوت في الخارج ، بل في العقل ، وهو المطلوب.
قوله : «لكن من
حيث تعلّق معروضيه الثابتين في العقل بأمر وجودي في الخارج ، يستدعي لا محالة
موضوعا موجودا في الخارج» ضعيف ، فإنّ معروضيه هما الماهية والوجود ، وهما عقليان
على ما فرضهما ، فكيف يتعلقان بأمر خارجي قبل وجودهما فيه.
الوجه
الرابع : لو كان الإمكان
ثبوتيا لزم تسلسل المواد وثبوت المادة للمجرّدات ، والتاليان باطلان ، فالمقدم
كذلك .
بيان الشرطية :
أنّ الصور والأعراض كما أنّها ممكنة ، كذلك المواد والنفوس والعقول ممكنة أيضا ،
فإن استدعى الإمكان الأوّل موضوعا ، استدعى الثاني.
اعترضه أفضل
المحقّقين : بأنّ كلّ إمكان فهو بالقياس إلى وجود. والوجود إمّا بالعرض كوجود
الجسم أبيض ، أو بالذات كوجود البياض. أمّا الإمكان بالقياس إلى وجود
بالعرض ، فهو يكون للشيء بالقياس إلى وجود شيء آخر له ، أو
بالقياس إلى صيرورته موجودا آخر ، كما يقال : الجسم يمكن أن يكون أبيض ،
__________________
أو يوجد له البياض
، أو يقال : الماء يمكن أن يصير هواء ، والمادة يمكن أن تصير موجودة بالفعل . وظاهر : أنّ جميع هذه الإمكانات محتاجة إلى موضوع موجود
معها ، وهو محلّها . وأمّا الإمكان بالقياس إلى وجود بالذات ، فيكون للشيء
بالقياس إلى وجوده. ولا يخلو إمّا أن يكون ذلك الشيء ممّا يوجد في موضوع ، أو
مادّة ، أو مع مادّة ، كما يقال : البياض يمكن أن يوجد أو يكون ، وكذلك الصورة
والنفس. وحكم هذا الإمكان في الاحتياج إلى موضوع حكم القسم الأوّل ، ويكون موضوعه حامل وجود ذلك الشيء. وأمّا ما لا يكون
كذلك ، بل يكون ذلك الشيء قائما بنفسه ، لا علاقة له بشيء من الموضوع والمادة ،
فإنّه لا يكون محدثا ، وإلّا لسبقه إمكانه. ولا يمكن أن يتعلّق بموضوع دون موضوع ،
إذ لا علاقة له بشيء. فإمكانات الحوادث تكون قبل وجودها ، ويعبّر عنها بالقوّة ،
فيقال : هذه الموجودات في موادّها بالقوّة ، وهي تختلف بالبعد والقرب ، ويزول عنها
مع خروج الوجودات من القوّة إلى الفعل. وإنّما يقع اسم الإمكان عليها
بالتشكيك. وأمّا إمكان الموجودات الممكنة في أنفسها ، فهي أمور لازمة لماهيّاتها
عند تجرّدها عن الوجود والعدم بالقياس إلى وجوداتها ، وكذلك الوجوب والامتناع.
فقد ظهر الفرق بين
الإمكانين عند تعلّقهما بما في الخارج ، وأنّ إمكان مثل
__________________
هذه الأشياء
المجرّدة صفة لماهيّاتها المجرّدة عن الوجود والعدم في العقل ، وهي من حيث ثبوتها
في العقل موضوع. والإمكان بهذا الاعتبار ، كعرض في موضوع ، وهو أيضا صفة لوجوداتها
، ويكون بهذا الاعتبار كاضافة لمضاف إليه .
والجواب : قد
بيّنا ضعف حلول إمكان الشيء في موضوعه ، للتغاير بين الموضوع والحال ، إلّا على
سبيل التبعيّة ، وحينئذ يلزم المحذور الذي فرّ منه .
وقوله : «ما لا يكون كذلك لا يكون محدثا وإلّا لسبقه إمكانه».
قلنا : الإمكان
سابق إمّا بالزمان أو بالذات قطعا ، لكن لا في الخارج ، لما بيّنا من كون الإمكان
أمرا اعتباريا ، وجعل الإمكان واقعا بالتشكيك لا يفيده شيئا على تقدير ثبوته. وباقي كلامه سبق جوابه.
الوجه
الخامس : لو كانت الإمكانات
ثبوتية لزم وجود ما لا يتناهى دفعة مع ترتيب عقلي ، والتالي باطل ـ لما سيأتي في
بطلان التسلسل ـ فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ الحوادث غير متناهية في المستقبل ، فتكون لها إمكانات لا تتناهى ، ولمّا كانت
الحوادث مترتبة ترتّبت إمكاناتها ، وهو محال. ثمّ نقول هذه الإمكانات لا يمكن
اجتماعها ، فإنّ الإمكان ـ من حيث طبيعة الإمكان ـ لا تختلف أفراده ، ومن حيث
المادة الحاملة لها لم تختلف ، فليس اختلاف الإمكانات الغير المتناهية إلّا
لاختلاف ما هي امكاناته ، وهي الحوادث المعدومة ، ويستحيل
__________________
امتياز الإمكانات
بالإضافة إلى أشياء معدومة ، ولا يمكن امتيازها باعتبار الذهن ، فإنّ الأشياء
المتحصلة في الأعيان يجب امتيازها بأمور عينية لا ذهنية.
ونقول أيضا : هذه
الإمكانات التي لا تتناهى إذا كانت حالّة في مادّة ، وقسمناها بنصفين ، فإن بقى في
كلّ واحد إمكانات غير متناهية هي بعينها الإمكانات الأولى لزم قيام الشيء الواحد
بمحلّين ، وهو غير معقول. وإن حدث في كلّ واحد منهما إمكانات أخر غير متناهية ،
احتاجت عندكم إلى إمكانات أخر غير متناهية. وإن بقي في كلّ واحد منهما إمكانات
متناهية ، كان المجموع متناهيا. ولو كانت الإمكانات ثبوتية ، لكانت إمّا غنية عن
المؤثّر أو محتاجة إليه ، والقسمان باطلان ، فالمقدم باطل.
بيان استحالة
الأوّل : أنّ كلّ موجود لا يكون واجب الوجود فهو محتاج إلى السبب.
وبيان استحالة
الثاني : أنّ المؤثّر إمّا تلك الماهية أو شيء آخر ، والثاني محال ، لأنّ الأمر
الخارجي لا يعطي صفة للشيء إلّا بعد أن يكون ذلك الشيء قابلا لها ، فإذن هذه الإمكانات
إنّما تفيض عن واهبها بعد أن تكون الماهية قابلة لها ، وذلك القبول هو الإمكان ،
فقبل الإمكان إمكان آخر ، ويتسلسل إلى أن ينتهي إلى إمكان لا يحصل من الفاعل
الخارجي ، والأوّل محال ، أمّا أوّلا : فلاستحالة كون الشيء قابلا وفاعلا معا
عندهم. وأمّا ثانيا : فلأنّ العلّة متقدمة على المعلول في الوجود ، فلو كانت
الماهية علّة لوجود الإمكان لكانت الماهية موجودة قبل وجود إمكانها ، وهو باطل.
وأمّا ثالثا ، فلأنّ الإمكان سابق على الوجود ، فيلزم وجود الوصف قبل وجود الموصوف
، وهو باطل.
البحث الخامس : في كيفيّة عروض الإمكان
الإمكان أمر عقلي
واضافة ذهنية يحكم به العقل على الغير عند قياسه إلى وجوده أو إلى وجود شيء آخر له
، لا مطلقا ؛ فإنّه لا يحكم به على الواجب لذاته ، ولا على الممتنع لذاته ، وإنّما
يحكم به على ماهية لا يجب لها أحد الأمرين ، أعني الوجود أو العدم ، فإذا نسب
العقل الوجود إلى هذه الماهيّة حكم لها بجوازه ، ثمّ لو فرض العقل هذه الماهية
مقترنة مع وجودها ، أو وجود سببها ، أو مع عدمها ، أو عدم سببها ،
لم يحكم بهذه الإضافة أيضا ، فإنّ الماهية مع الوجود تصير واجبة ، وكذا مع وجود
سببها. وإذا أخذت مع العدم صارت ممتنعة ، وكذا مع عدم سببها ، وإن كان الوجوب
والامتناع هنا غير ذاتيين ، إلّا أنّهما ينافيان جواز الوجود والعدم ، فالحكم
بالإمكان على الماهية ، إنّما يكون مع فرض الماهية خالية عن جميع الاعتبارات ، لا
بشرط الخلو أيضا ، بل من حيث هي هي بالنسبة إلى وجودها أو عدمها ، فإنّ الماهية من
حيث هي هي لا يلزم من فرض وجودها ولا من فرض عدمها محال أصلا.
وقد اعترض بوجوه :
الأوّل
: عروض الإمكان غير
معقول ، لأنّه أمر نسبي لا يعقل إلّا بين شيئين ، فالماهية من حيث هي هي لا يمكن
وصفها به ، إذ ليس هنا إلّا شيء واحد. والوجود أيضا أمر واحد ، فيستحيل عروض
الإمكان له. والنسبة الحاصلة بينهما
__________________
أيضا أمر واحد ،
فلا يعرض لها الإمكان. وإذا استحال وصف كلّ واحد من هذه الثلاثة بالإمكان ، استحال
وصف المجموع به.
وبالجملة المفردات
لا يعرض لها الإمكان ، لأنّه أمر نسبيّ لا يعرض لها. والمركب واجب الحصول عند وجود
مفرداته ، فلا يعرض له الإمكان ، فإنّ المركّب عبارة عن مجموع تلك المفردات.
الثاني
: الوجود إن كان نفس
الماهية استحال عروض الإمكان لها ؛ لاستحالة الحكم بجواز كون الماهية ليست تلك
الماهية ، فإنّ معنى قولك «الماهية يمكن أن تكون موجودة ، وأن تكون معدومة» أنّ
الماهية يمكن أن تكون تلك الماهية وأن لا تكون. والموجود يصحّ أن يكون موجودا ،
وأن يكون معدوما ، مع أنّ قولنا «الموجود يصحّ أن يكون موجودا» إن جعلنا الموضوع
والمحمول واحدا ، كان الأمر النسبي الذي لا يعقل إلّا بين اثنين ، عارضا للشيء
الواحد ، هذا خلف. وإن تغايرا لزم كون الموجود الواحد موجودا مرتين. وقولنا
«الموجود يصحّ أن يكون معدوما» حكم على الموجود بالمعدوم. والمحكوم عليه لا بدّ
وأن يكون ثابتا حال ثبوت المحكوم به ، والموجودية لا يعقل تقرّرها حال ثبوت
المعدوميّة.
وإن كان الوجود
غيرها ، فالموصوف بالإمكان إمّا المفردات أو المركّب ، والقسمان باطلان على ما
تقدم .
الثالث
: المحكوم عليه
بالإمكان إمّا أن يكون موجودا أو معدوما ، والقسمان باطلان ، فالحكم بالإمكان
باطل.
أمّا بطلان كونه
موجودا ، فلأنّه حال الوجود لا يقبل العدم ، لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم.
وإذا لم يقبل العدم لم يقبل إمكان الوجود والعدم.
__________________
وأمّا بطلان كونه
معدوما ، فلأنّه حال العدم لا يقبل الوجود ، فلا يقبل العدم والوجود ، فلا يكون
ممكنا.
وإذا لم تنفك
ماهية الممكن عن هذين التقديرين ، وكلّ واحد منهما مناف للإمكان ، لم تنفك ماهيته عن المنافي للإمكان ، فلا تحقّق للإمكان لاستحالة الجمع
بين المتنافيين. ولأنّ الممكن إمّا أن يحضر معه سبب وجوده أو لا. والأوّل واجب ،
والثاني ممتنع ، فلا إمكان.
الرابع
: لو كان الشيء
ممكنا ، لكان إمكانه إمّا أن يكون ثبوتيا أو عدميّا ، والقسمان باطلان ، فالقول
بالإمكان باطل ، أمّا الأوّل فلأنّه لو كان ثبوتيا لزم التسلسل ، أو وجوب الممكن.
وأيضا يلزم حلول الموجود في المعدوم ، أو قيام الصفة بغير الموصوف ، وأمّا الثاني
، فلأنّه نقيض [اللاإمكان] المحمول على المعدوم ، فيكون معدوما ، فيكون الإمكان ثبوتيا.
والجواب
عن الأوّل : المنع من استحالة
وصف المجموع به ، فإنّ الإضافات بأسرها يمتنع عروضها للآحاد وهي عارضة للمجموع.
وعن
الثاني : بأنّ الإمكان يعرض
للماهية من حيث هي هي ، لا بمعنى أن نفرض الماهية متقرّرة ، ثم يعرض لها إمكان
التقرّر وعدمه. فإنّ مع فرض التقرّر ، تكون الماهية واجبة غير ممكنة ، بل بمعنى
أنّ الماهية إذا فرضت كانت تلك الماهية ، وإن لم تفرض لم تكن ماهية.
ثمّ إنّ هذه
الشبهة تبطل الحمل مطلقا ، فإنّا إذا قلنا : السواد موجود ، فإن
__________________
كان الموجود عين
كونه سوادا ، كان جاريا مجرى قولنا : السواد سواد ، وإن كان مغايرا سقنا ما قالوه
هنا.
والأصل في ذلك ،
أنّ من يجعل الوجود عين الماهيّة يريد بقوله : «الماهية يصحّ أن تكون موجودة وأن
تكون معدومة» أنّ من الممكن أن يحدث ما يسمّى بعد حدوثه تلك الماهية ، ويصحّ أن
تعدم تلك الماهية. ومن يذهب إلى المغايرة لا يريد أنّ المعدوم يمكن أن يصير موصوفا بالوجود ، وهو
معدوم ، بل من حيث هو هو يصحّ أن يكون موردا للصفتين معا. و معناه أنّ الماهيّة الموصوفة بالعدم ، يمكن أن تزول [عنها]
صفة المعدوميّة ، وتحدث بعدها لها صفة الوجود.
فقولنا : «السواد
يمكن أن يوجد» معناه : أنّ الماهيّة التي لا يعتبر معها وجود ولا عدم ، يمكن أن
ينضاف إليها صفة الوجود. وأيضا هذا إنّما يرد على من يقول : «الشيء حال وجوده يمكن
وجوده ، أو حال عدمه يمكن عدمه» أمّا من يقول : «الشيء حال وجوده يمكن أن يصير
معدوما في الزمان الثاني منه» ، لا يلزم ذلك.
اعترض باستحالة الإمكان الاستقبالي ؛ لأنّا إذا حكمنا على الموجود في الحال ، بامكان عدمه في
الاستقبال ، فإمّا أن يقال : إمكان العدم الاستقبالي حاصل في الحال ، أو يقال :
إمكان العدم الاستقبالي لا يحصل إلّا في الاستقبال ، والأوّل محال ؛ لأنّ العدم في
الاستقبال من حيث إنّه في الاستقبال موقوف على حصول الاستقبال ، وحصول الاستقبال
محال في الحال ، فحصول العدم في الاستقبال من حيث إنّه عدم استقبالي ، موقوف على
حصول شرط محال وهو
__________________
حصول الاستقبال في
الحال ، والموقوف على المحال محال ، فالعدم الاستقبالي ممتنع الحصول في الحال ،
وإذا استحال حصول «العدم في الاستقبال» في الحال لم يكن في الحال ممكن الحصول ، بل
كان حصوله حاصلا في الاستقبال ، لا في الحال.
لا يقال : إنّه
بهذا الشرط ، وإن كان ممتنع الحصول في الحال لكنّه لا من هذه الحيثية غير ممتنع في الاستقبال ، ونحن إنّما أثبتنا هذا الإمكان
بالنسبة إلى الاستقبال.
لأنّا نقول :
الإمكان نسبة لا توجد إلّا بعد وجود المنتسبين ، والإمكان بالنسبة إلى الاستقبال
لا يحصل إلّا عند الاستقبال ، فحصوله في الحال محال. وإذا استحال اجتماع هذين
المنتسبين استحال تحقق هذه النسبة.
وإن كان إمكان
العدم الاستقبالي ، لا يحصل إلّا عند حضور الاستقبال ، كان ذلك حكما بالإمكان على الشيء بالنسبة إلى
زمانه الحاضر ؛ لأنّ الاستقبال عند حضوره يصير حالا ، ويعود الإشكال.
سلّمنا الإمكان الاستقبالي ، لكنّ الإشكال باق ، فإنّ قولنا : «إنّه
في الحال يمكن أن يصير معدوما في الاستقبال» يقتضي إمكان صيرورة هويّته محكوما
عليه بالعدم ، فإن كانت هويته عين الوجود ، كان ذلك حكما باتّصاف الوجود بالعدم ،
ويعود الاشكال.
أجاب أفضل
المحققين : بأنّ تصوّر الاستقبال في الحال معقول. والماهية لا من حيث هي موجودة أو
غير موجودة ، مستندة إلى الوجود الخارجي في الاستقبال ،
__________________
أو إلى عدمه ، ليس
بمتعذّر التعقّل. والإمكان الاستقبالي هو الذي يلحق ذلك المتصوّر عند ذلك الإسناد
، والنظر في أنّ إمكان العدم يحصل في الحال أو في الاستقبال ليس نظرا في الإمكان
من حيث كونه إمكانا ، بل فيه من حيث إنّه صورة في العقل ، وهو حاصل في وقت التعقّل
من حيث هي صورة عقليّة ، ومتعلق بالاستقبال من حيث هو إمكان ، ولا
يلزم منه محال.
وأمّا «أنّ
الإمكان نسبة إضافية لا تتحقق إلّا عند تحقّق المنتسبين» ، فقد ظهر أنّ منتسبيه
حاصلان في التصوّر ، متعلّقان بالاستقبال.
وقوله : «إمكان
العدم الاستقبالي لا يحصل إلّا عند حضور الاستقبال» فباطل ، لأنّه لا يتوقف على
حضور الاستقبال ، بل يتوقف على تصوّر الاستناد .
وعن
الثالث : أنّ المحكوم عليه
بالإمكان ، الماهية من حيث هي هي ، لا باعتبار كونها موجودة ، ولا باعتبار كونها
معدومة ، فإن أخذ الماهية من حيث هي هي مغاير لأخذها من حيث إنّها موجودة أو
معدومة ، وإن كان الإمكان لا يعقل إلّا بالنسبة إلى أحدهما ، لكن إذا نسبنا أحدهما
، فإنّما ننسبه إلى الماهيّة من حيث هي هي ، لا من حيث أحدهما. وكون الماهية لا
تخلو في نفس الأمر أو في الخارج عن اعتبار الوجود والعدم ، لكنّها من حيث هي هي خالية عنهما ، أي لا يجب أخذ أحدهما
معها ، وهناك يعرض لها الإمكان إذا نسبت إلى أحدهما.
والأصل في ذلك :
أنّ القسمة في قوله : «المحكوم عليه بالإمكان إمّا أن يكون
__________________
موجودا أو معدوما»
غير حاصرة ، فإنّ المفهوم منه أنّ المحكوم عليه بالإمكان إمّا أن يكون مع الوجود
أو مع العدم ، ويبقى قسم آخر وهو أن لا يكون مع أحدهما.
وقوله : «الممكن
إمّا يحضر معه سبب وجوده أو لا ، والثاني ممتنع».
قلنا : ممنوع ،
فإنّ قولنا : «لم يحضر» يحتمل أن يحضر معه : لم يحضر سبب وجوده ، أو لم يحضر لا
سبب وجوده ولا لم يحضر سبب وجوده الذي هو سبب عدمه ، فالقسمة غير مستوفاة .
وعن
الرابع : أنّ الإمكان
اعتبار عقلي يعتبره الذهن عند مقايسة الماهية إلى الوجود. وحكمه في الثبوت
والانتفاء واحد. وليس له تحقق في الخارج ، فإنّه لا ماهية متأصّلة في الخارج يقال
لها «إمكان» و «لكون نقيضها محمولا على المعدوم» لا يقتضي كونها ثبوتية ، فإنّه
بعينه آت في الامتناع ، وإذا حمل الإمكان على المعدوم ، لا يكون ذلك الحمل كليا ، فإنّ بعض
المعدومات غير ممكن ، وبعضها ممكن. ولا يلزم من «كون اللاإمكان عدميا ، كون
الإمكان وجوديا» ، فإنّ الإنسان وجودي وبعض اللاإنسان إنسان أيضا وجودي ، وكذا
اللاممكن عدمي وبعض الممكنات عدمي.
تذنيب
:
الإمكان للممكن
واجب ، وإلّا لأمكن زواله ، فينقلب الممكن واجبا أو ممتنعا ، هذا خلف. ولأنّ
الإمكان لو كان ممكنا للممكن لافتقر ثبوته له إلى سبب ، لكن تأثير المؤثّر فيه
مسبوق بالإمكان ، فيكون هو مسبوقا بنفسه ، هذا خلف.
__________________
وفيه نظر ؛ فإنّ
السابق هو إمكان الإمكان ، والمسبوق هو إمكان الممكن ، وهما متغايران.
ولأنّ الإمكان لو
كان ممكنا للممكن ، لكان إمكان الإمكان زائدا عليه ويتسلسل. ولا نعني بالوجوب هنا
الوجوب الذاتي ، بل نعني به أنّ الإمكان وصف لازم للممكن ، لا يعقل انفكاكه عنه.
تنبيه
: من الإمكان ما هو
لازم للماهيّات وهو الذاتي. ومنه عارض وهو الاستعداد ، وهو قابل للشدّة والضعف.
وجعله الأوائل نوعا من الكيف ، ثبوتيا في الأعيان. والأدلّة السابقة تبطله.
البحث السادس : في أنّ الممكن محتاج إلى المؤثّر
هذا الحكم قطعي قد
اتفق عليه العقلاء ، لكن اختلفوا ، فالمحققون على أنّه بديهيّ، وقال آخرون ـ قصرت أفكارهم عن إدراك اليقين ـ : إنّه
كسبي.
والحقّ : الأوّل ،
فإنّ العقل قاض بأنّ الشيء إذا كانت نسبة الوجود والعدم إليه على السوية ، امتنع
رجحان أحدهما على الآخر إلّا لمرجّح ، ولهذا فإنّ كلّ عاقل إذا أحسّ بحدوث شيء في
وقت معيّن ، طلب لحدوثه علّة وسببا.
أمّا القائلون
بأنّه استدلالي ؛ فقد استدلّوا عليه بوجهين :
أ
: ماهية الممكن لمّا
كانت مقتضية للاستواء ، فلو حصل الرجحان أيضا ، لاجتمع النقيضان وهو محال.
__________________
ب
: الممكن هو الذي
يكون الوجود والعدم بالنسبة إليه على السواء ، والشيء الذي يكون كذلك ، يمتنع أن
يوجد إلّا بعد أن يصير وجوده راجحا على عدمه ، فذلك الرجحان سابق على وجوده ،
فيمتنع أن يكون محلّ ذلك الرجحان هو وجوده ، فإنّه لو كان الوجود محلّه ، لكان
متأخرا عن وجوده ، لكنّا بيّنا أنّه متقدم على وجوده ، فيدور. فإذن ذلك الرجحان
يجب أن يكون صفة لشيء آخر يلزم من وجوده وجوده ، وذلك هو المؤثر. فإذن كلّ ممكن
مفتقر إلى المؤثر. وهما ضعيفان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ اجتماع النقيضين ، إنّما يلزم لو اقتضت الماهية الاستواء والرجحان معا.
أمّا إذا اقتضت
الاستواء وحصل الرجحان لا لمؤثر هو الذات ولا غيرها لم يلزم التناقض.
وأمّا الثاني ،
فلأنّا نمنع كون المتساوي يمتنع أن يوجد إلّا بعد أن يصير وجوده راجحا على عدمه ،
فإنّه نفس النزاع.
سلّمنا ، لكنّا نمنع
كون محلّ الرجحان هو الفاعل ، فإنّ الرجحان صفة للوجود ، ولا يعقل قيامها بغيره ،
وكما أنّ الممكن لا يوجد إلّا إذا وجب ، كذا المؤثّر لا يؤثّر إلّا إذا وجب تأثيره
فيه ، فرجحان التأثير غير رجحان الأثر ، والرجحان ليس أمرا خارجيا ، بل هو اعتبار
ذهني ، كما أنّ التساوي أعني الإمكان كذلك.
وقد اعترض بوجوه
:
الوجه الأوّل :
الحكم بافتقار الممكن إلى المرجّح ،
إمّا أن يكون ضروريّا أو نظريّا ، والقسمان
__________________
باطلان. فالحكم بالافتقار
باطل.
أمّا بطلان الأوّل
، فلأنّه لو كان ضروريّا لاشترك العقلاء فيه ، لاشتراك العقلاء في الضروريات.
ولمّا اختلف فيه العقلاء ، فذهب بعضهم إلى نفيه ، وبعضهم إلى أنّه استدلالي ،
وبعضهم إلى أنّه ضروري : امتنع كونه ضروريّا.
ولأنّا إذا عرضنا
على عقولنا هذه القضية ، وأنّ الواحد نصف الاثنين ، وجدنا بينهما تفاوتا ، وأنّ
الثانية أظهر ، والتفاوت إنّما يكون لو تطرّق الاحتمال إلى المرجوح ، وإذا تطرّق
احتمال النقيض على الحكم ، لم يكن ضروريا ، بل ولا يقينيا.
وأمّا الثاني ،
فلأنّه لا برهان قطعي على ذلك.
الوجه
الثاني :
لو افتقر الممكن
إلى المؤثر ، لكان تأثير المؤثر في ذلك الأثر إمّا أن يكون وصفا ثبوتيا أو لا ، والقسمان باطلان ،
فالقول بالمؤثرية باطل.
أمّا بطلان الأوّل
، فلأنّ ثبوته إن كان في الذهن دون الخارج ، كان جهلا ، كمن يعتقد «أنّ العالم
قديم» وليس كذلك في نفسه ، فلو كان حكم الذهن بالمؤثرية غير مطابق للخارج ، كان
جهلا ، فلا يكون الشيء مؤثرا في نفسه. ولأنّ كون الشيء مؤثرا في غيره ، صفة لذلك
الشيء ، فلا يعقل قيامها بالذهن المغاير له ، وتكون حاصلة قبل الأذهان.
وإن كان ثابتا في
الخارج ، فإن كان نفس المؤثر أو الأثر لزم الدور ، لأنّ التأثير أمر نسبي ، لا
يعقل إلّا بين ذات المؤثر وذات الأثر ، والأمور النسبية متأخرة عن المنتسبين ،
والمتأخر مغاير. ولأنّا قد نعقل ذات المؤثر وذات الأثر ، مع الشك في كون المؤثر
مؤثرا في الأثر ، كما إذا علمنا قدرة الله تعالى وعلمنا العالم قبل العلم
__________________
بتأثير القدرة في
العالم. ولأنّا نصف المؤثر بأنّه مؤثر في ذلك الأثر ، والوصف مغاير للموصوف.
ولأنّا نعلّل الأثر بكون المؤثر أثّر فيه ، لا بذات الأثر ، فنقول : إنّما وجد
الأثر ، لأنّ الله تعالى أوجده ، ولا نقول : إنّما وجد الأثر ، لأنّ الله تعالى
موجود ، فاذن المؤثرية مغايرة للمؤثر والأثر معا.
وإن كان مغايرا
لهما ، فإمّا أن يكون قائما بنفسه ، أو عارضا لغيره ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ المفهوم من التأثير «نسبة بين المؤثر والأثر» والنسبة بين الشيئين لا يعقل
قيامها بذاتها وجوهريتها. ولأنّه إمّا واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، وكلاهما محال.
أمّا الأوّل فلاستحالة تعدد واجب الوجود. وأمّا الثاني ، فلأنّه يلزم منه التسلسل.
ولأنّ هذا الجوهر ، إمّا أن يكون بينه وبين الأثر نسبة أو لا. والأوّل باطل ، لأنّ
الكلام في تلك النسبة ، كما في الأوّل ويتسلسل. والثاني باطل ،
وإلّا لم تكن بينه وبين الأثر نسبة وإضافة ، فيكون أجنبيا عن الأثر بالكلّية.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ العارض ممكن ، فله مؤثر فتأثير المؤثر فيه زائد عليه ، ويلزم التسلسل
المحال. وبتقدير صحّته ، فالمحال لازم من جهة أخرى ، فإنّ التسلسل إنّما يعقل لو
فرضنا أمورا متتالية إلى غير النهاية ، ويكون كلّ واحد متلوّا بصاحبه ، وإنّما
يكون متلوا بصاحبه لو لم يكن بينه وبين صاحبه ثالث ، لكنّ ذلك محال ، لأنّ تأثير
المتلو في التالي متوسط بينهما ، وقد كان لا يتوسط ، هذا خلف.
وأمّا امتناع كون
المؤثّرية وصفا عدميا ، فلأنّ المؤثّرية نقيض اللامؤثرية ، وهذا النقيض عدمي ،
لأنّه يحمل على العدم ، والمحمول على العدم عدم ، ونقيض
__________________
العدم ثبوت ،
فالمؤثرية أمر ثبوتي. ولأنّ الشيء لم يكن مؤثرا ، ثم يصير مؤثرا ، فيحصل له وصف
المؤثرية ، بعد أن لم يكن ، فهي صفة ثبوتية ، وإلّا لجاز فيما إذا لم تكن الذات
عالمة ثمّ تصير عالمة أن لا يكون العلم أمرا وجوديا ، وهو باطل قطعا. وإذا بطل كون
المؤثرية صفة ثبوتية ، وكونها صفة عدميّة امتنع تحققها.
الوجه
الثالث :
المؤثر إمّا أن
يؤثر حال وجود الأثر ، أو حال عدمه ، والقسمان باطلان ، فالقول بالتأثير باطل.
أمّا الحصر ،
فظاهر ، إذ لا حال ثالثة للأثر.
وأمّا بطلان
الأوّل ، فلاستلزامه تحصيل الحاصل.
وأمّا بطلان
الثاني ، فلأنّ حالة العدم لا أثر ، فلا تأثير ، لأنّ التأثير إن كان هو حصول الأثر عن المؤثر ،
فحيث لا أثر فلا تأثير ، فإنّ المؤثر ما يكون له أثر ، والعدم نفي محض ،
وإن كان مغايرا لزم التسلسل. ولأنّ الأثر حال عدمه ، يكون مستغنيا عن
المؤثر ، فإنّها حالة البقاء على العدم الأصلي ، والعدم الأصلي يمتنع استناده إلى مؤثر الوجود والإيجاد.
الوجه
الرابع :
لو تحققت المؤثرية
، لكان المؤثر إمّا أن يؤثر في ماهية الأثر ، أو في وجوده ، أو في اتّصاف ماهيته بوجوده ، والكلّ باطل
، فالقول بالتأثير باطل.
__________________
أمّا الحصر ،
فلأنّ الماهية والوجود واتّصاف الماهيّة بالوجود ، إذا كانت غنيّة عن المؤثر انتفى
التأثير ، لأنّه إنّما يعقل في أحد هذه الأمور الثلاثة ، فإذا استغنت عن المؤثر ، فلا
أثر ولا تأثير.
وأمّا بطلان
الأوّل ، فلأنّ السواد لو كان سوادا بالفاعل ، لكان عند عدم ذلك الفاعل وجب أن
يخرج السواد عن كونه سوادا ، لأنّ ما بالغير يرتفع عند ارتفاع ذلك الغير ، لكنّ
خروج السواد عن كونه سوادا محال ، لأنّ السواد يستحيل أن يصير غير السواد.
لا يقال : نحن لا
نقول : السواد مع كونه سوادا يصير موصوفا بأنّه ليس بسواد ، فإنّ ذلك جمع بين
النقيضين. بل نقول : معناه : السواد يفنى ولا يبقى.
لأنّا نقول : إذا
قلنا : السواد يفنى ، كان قضية يجب تحقق موضوعها حال الحكم بحصول المحمول له ، أو سلبه عنه ، والموضوع هو السواد ، فيجب أن
يكون متقررا متحققا حال الحكم عليه بالعدم ، لكنّ ذلك جمع بين النقيضين ، فتكون هذه القضيّة كاذبة.
وأمّا بطلان
الثاني ، فكذلك أيضا ، لاستلزامه عدم كون الوجود وجودا عند عدم
الفاعل.
وأمّا بطلان
الثالث ، فكذلك أيضا ، فإنّ الموصوفية لو كانت موصوفية
__________________
بالفاعل ، لزم عند
عدم الفاعل أن لا تبقى الموصوفية موصوفية. وأيضا فإنّ الموصوفية ليست ثبوتيّة ،
وإلّا لم تكن جوهرا لاستحالة قيامها بنفسها واستقلالها بالمعقوليّة ، فتكون عرضا فتكون موصوفيّة الذات ، بها أمرا زائدا ، ويلزم التسلسل.
ولأنّها لو كانت
ثبوتيّة ، استحال استنادها إلى المؤثر ، لأنّ تأثير المؤثر إمّا في ماهيتها ، أو
في وجودها ، أو في اتّصاف ماهيتها بوجودها ، ويعود المحال. وإذا استحال أن تكون
ثبوتية ، استحال استنادها إلى المؤثر. وإذا ثبت امتناع استناد الماهية والوجود
واتّصاف الماهية بالوجود إلى المؤثر ، استحال افتقار الأثر إلى المؤثر.
الوجه
الخامس :
لو افتقر الممكن
في وجوده إلى المؤثر ، لافتقر في عدمه إلى المؤثر ، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ علّة افتقار الموجود إنّما هو الجواز ، وهو متعلق بالطرفين أعني الوجود والعدم
، فلو كان جواز الوجود يقتضي احتياج الوجود إلى المؤثر ، لكان جواز العدم يقتضي احتياج العدم إلى المؤثر.
وأمّا بطلان
التالي ، فلأنّ العدم نفي محض وعدم صرف ، ولا يعقل كونه أثرا
__________________
وصادرا عن الغير.
وأيضا ، فالعدم
مستمر من الأزل إلى الأبد ، والباقي لا يستند إلى المؤثر حال بقائه ، لما يأتي.
لا يقال : علّة
العدم عدم العلّة.
لأنّا نقول :
العلّية مناقضة للاعلّية التي هي عدم ، فالعلّية ثبوتية ، فالموصوف بها ثابت ،
وإلّا فالمعدوم موصوف بالوجود ، وهو محال. ولأنّ العدم نفي محض وعدم صرف لا تميّز
فيه ولا تعدد ولا هويّة ، فيستحيل جعل البعض علّة والبعض معلولا.
الوجه
السادس :
لو كان الممكن
محتاجا إلى المؤثر ، لكانت الحاجة إمّا أن تكون أمرا ثبوتيا في نفسها أو لا تكون .
والأوّل باطل ،
لأنّ الحاجة لو كانت ثبوتية لساوت في الثبوت غيرها من الماهيّات الثابتة ، وامتازت
عنها بخصوصيتها ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيكون وجودها مغايرا
لماهيّتها ، فاتّصاف ماهيتها بوجودها ، إن كان واجبا لذاته كان الوصف المفتقر إلى
الممكن واجبا ، وهو باطل بالضرورة. وإن كان ممكنا ، كان محتاجا فله حاجة زائدة على
ماهيته ، ويتسلسل. ولأنّ الحاجة لو كانت ثبوتيّة ، وهي معلولة للإمكان ـ وقد ثبت
أنّ الإمكان عدمي ـ لزم كون المعدوم علّة في الموجود ، وهو محال. ولأنّ حاجة الممكن إلى المؤثر سابقة على وجوده
، فلو كانت أمرا ثبوتيا ، لزم أن يكون ثبوت الوصف للشيء سابقا على ثبوت الشيء في
__________________
نفسه ، وهو محال ،
فبطل كون الحاجة ثبوتية.
والثاني : ـ وهو
أن تكون عدمية ـ محال أيضا ، لأنّها نقيض لا حاجة ، وهو عدمي ، فتكون الحاجة
ثبوتية. ولأنّها لو كانت عدميّة ، لم يبق فرق بينها وبين نفي الحاجة ، لامتناع
التمايز في العدمات ، لكن لا حاجة نفي للحاجة.
والجواب عن الأوّل
:
أنّ الحكم
بالافتقار ضروري ، وإنّما يجب اشتراك العقلاء في التصديق الضروريّ ، لو اشتركوا في
تصوّر مفرداته. وأمّا إذا حصل قصور لبعض الأذهان عن تصوّر أحد طرفيه ، إمّا لنقص
في الغريزة أو لغفلة أو لتدنيس ، تعذّر الحكم الضروري به ، واحتاج إل تمثيل وشبهه ، حتى
يحصل له كمال التصوّر ، ولهذا تمثل للشاك في هذا الحكم بكفتي الميزان ، فإنّ نسبة
طرفي الوجود والعدم إلى الممكن متساوية ، كنسبة كفتي الميزان إلى الميزان ، فكما يحكم العقل
بامتناع رجحان إحدى الكفّتين على الأخرى بدون المرجح ، كذا يحكم بامتناع ترجيح أحد
طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح. فهذا هو السبب في عدم اشتراك العقلاء في
الضروريات.
والأصل فيه ما
تقدّم : من أنّ التصديقات الضرورية ، قد تتوقف على أسباب وشرائط لا تحصل بدونها ،
ولا يثلم فقدانها عن فاقد الأسباب والشرائط كونها ضرورية ، فإنّ البصير يدرك
التفرقة الضرورية بين السواد والبياض ، ويحكم على كلّ واحد منهما بأحكام ضروريّة ،
لا يحكم بها الأعمى لفقد الأسباب والشرائط ، وهي الإحساس. ولهذا قال متقدم الحكماء
: «من فقد حسا فقد فقد علما يؤدّي إليه ذلك الحس». والتفاوت في الضروريّات لا
يخرجها عن كونها ضروريّة ، فإنّ فقدها
__________________
عن البعض ، لمّا
لم يخرجها عن كونها ضرورية في أنفسها ، فالتفاوت فيها أولى ، وليس سبب التفاوت
منحصرا في تطرق الاحتمال إلى المرجوح ، فإنّ سبب التفاوت في الضروريّات ، قد بيّنا
أنه للتفاوت في تصوّر المحكوم عليه أو المحكوم به ، لا في نفس الحكم.
وأجاب أفضل
المتأخرين أيضا : بأنّه استدلال ، بأنّ الممكن ما لم يجب لم يوجد ، وحصول الوجوب بعد أن لم
يكن يدلّ على كونه وصفا وجوديا لا عدميّا ، وثبوت الوصف يستدعي ثبوت الموصوف ،
لاستحالة قيام الوصف بذاته ، وهذا الموصوف بالوجوب ليس هو الممكن ، لأنّه قبل
وجوده معدوم ، والمعدوم يستحيل أن يكون محلا للأمر الثبوتي ، فلا بدّ من شيء آخر
يكون محلا لذلك الوجوب ، يعرض له بالنسبة إلى هذا الممكن ، وذلك هو المؤثر .
اعترضه أفضل المحققين
: بأنّ وجوب الممكن المقتضي لوجود الموصوف به ، لا يمكن أن يكون قائما بمؤثره ،
لأنّ ذلك الوجوب وصف للممكن ، ووصف الشيء يستحيل أن يقوم بغيره ، والقائم بالمؤثر
إن كان ولا بدّ منه ، فهو الإيجاب لا الوجوب.
والحق : أنّ ذلك
الوجوب أمر عقلي ، كسائر الصفات ، ويكون قائما بالمتصوّر من الممكن عند الحكم بحدوثه ، وهذا البرهان مبني على حكم هو «أنّ الممكن
ما لم يجب لم يوجد» وهذه القضية لا يصحّ الحكم فيها إلّا إذا علم أنّ كلّ مسبّب
فله سبب. وفي قولنا : «ترجّح أحد المتساويين يحتاج إلى مرجح» هذا
__________________
المعنى بعينه
موجود ، لكن بعبارة أخرى ، فإذن هذا البرهان مبني على [ما] يتضمنه الحكم البديهي المذكور الذي عدل عنه إلى ذلك
البرهان ، فهذا البرهان فضلة لا يحتاج إليه .
وأقول : الحكم «باحتياج
الممكن إلى المؤثر» ، أظهر عند العقل من الحكم «بأنّ الممكن ما لم يجب لم يوجد» ،
ولهذا توقف في الحكم الثاني جماعة جزموا بالحكم الأوّل ، واكتفوا بمطلق الرجحان
الشامل للمانع من النقيض وغير المانع. ولأنّ الرجحان أعمّ من الوجوب ، والأعم
أظهر.
وعن الثاني : أنّ التأثير وصف اعتباري عقلي إضافي ، يثبت في العقل عند
تعقّل صدور الأثر عن المؤثر ، فإنّ تعقّل ذلك يقتضي ثبوت أمر في العقل هو المؤثرية
، كما في سائر الإضافات ، والفرق بين الصدور والتأثير ظاهر ، فإنّ الأوّل إضافة
الأثر إلى مؤثره ، والثاني إضافة المؤثر إلى أثره. وعدم مطابقته للخارج ، لا يقتضي
كونه جهلا ، وإنّما يكون جهلا لو حكم بثبوته في الخارج ولم يثبت ، أو بالعكس.
واعتقاد قدم العالم مع أنّه ليس كذلك ، يدلّ على ما ذكرنا في تفسير الجهل ، لا على
ما ذكره السائل. وعدم مطابقته لا يقتضي أن لا يكون شيء مؤثرا أصلا ، بل إذا حكم
بثبوته في العقل فقط ، فمطابقته ثبوته في العقل دون الخارج.
قوله : «كون الشيء
مؤثرا في غيره صفة للشيء قبل الأذهان ، فلا يعقل قيامها بالذهن المغاير للموصوف
المتأخر عنها».
قلنا : كون الشيء
بحيث لو عقله عاقل حصل في عقله إضافة لذلك الشيء
__________________
إلى غيره ، هو
الحاصل قبل الأذهان ، لا الذي يحصل في العقل ، فإنّ ذلك يستحيل أن يحصل قبل وجود
العقل .
وفيه نظر ؛ فإنّ
هذه الحيثية ، لو كانت ثابتة ، فإمّا في الذهن وهو محال لثبوتها قبله ، أو في
الخارج ، فلم يكن نفس ذات المؤثر ، لانفكاكهما تعقلا ، ولأنّها صفة لا يعقل قيامها
بذاتها ، فتكون مغايرة ، ويلزم وجود ما لا يتناهى من الصفات ، لعدم تناهي المضاف
إليه بالمتأثرية .
قوله : «اللامؤثرية
عدمية ، فنقيضها وجودي» غلط ، لأنّ اللازم من قولنا : «اللامؤثرية عدمية»
الوجوديّة مؤثريّة بطريق عكس النقيض. وهذا الغلط نشأ من باب إيهام العكس .
وفيه نظر ؛ فإنّ
المعترض لم يستدل بعكس النقض ، بل بأنّ المؤثرية واللامؤثرية ، أمران متناقضان لا
يمكن اجتماعهما وجودا وعدما ، فإذا كان أحدهما ثبوتيا وجب أن يكون الآخر عدميّا
وبالعكس ؛ ولمّا كانت اللامؤثرية عدمية وجب أن تكون المؤثريّة وجودية.
والتحقيق في
الجواب : أنّ المؤثرية واللامؤثرية وصفان اعتباريان ، حكمهما في الثبوت والعدم
واحد ، ولا تحقق لهما في الخارج. ولا يجب أن يكون أحد النقيضين وجوديا والآخر
عدميا ، بل يجب أن يكون أحدهما موجبا والآخر سالبا ، وذلك عائد إلى القول والعقد ،
لا إلى الحصول في الخارج ، كالامتناع ونقيضه ،
__________________
والإمكان ونقيضه ،
والوجوب ونقيضه إلى غير ذلك من الاعتبارات العقليّة. وتجدّد المؤثرية لا يقتضي
كونها ثبوتية في الخارج ، بل في العقل ، كما في سائر الإضافات .
وفيه نظر ؛ فإنّا
قبل ثبوت الأبوة لزيد نتصوّرها له ، ولا نحكم له بها ، ولو حكمنا بها له ، كان جهلا لعدم المطابقة ، فإذا ثبتت له بالفعل ، حكمنا
له بها ، وكان الحكم مطابقا. فلا بدّ من اعتبار أمر آخر غير الذهن ينسب الثبوت
إليه ، بحيث تثبت المطابقة بالنسبة إليه وعدمها.
وأجاب أفضل
المتأخرين عن أصل المعارضة : بأنّ هذا التقسيم ، قد يتوجه على ما يحكم بوجوده ضرورة ، كما إذا قيل : لو كنت موجودا الآن ، لكان كوني
الآن إمّا أن يكون عدميّا أو وجوديّا ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّه نقيض اللاكون في الآن ، وهو عدميّ ، ونقيض العدمي ثبوتي.
والثاني باطل ،
لأنّه إمّا أن يكون عين الذات ، فلا تبقى الذات عند ما لا يبقى حصولها في ذلك الآن
، أو يكون مغايرا لها زائدا عليها ، فيكون حاصلا في ذلك الآن ، ويلزم التسلسل.
ولمّا كان الحصول في ذلك الآن يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة كان باطلا ، فلا يكون
للذات حصول في شيء من الآنات ، وهو يستلزم البطلان بالضرورة. وإذا كان هذا التقسيم
مبطلا للضروريّات ، قضت الضرورة ببطلانه .
واعترضه أفضل
المحققين : بأنّ الأمر ليس كما قاله ، لأنّ الكون في الزمان أمر
__________________
عقليّ يعرض
للمتكوّن ، مشروط بوجود الزمان المتعلّق به ، ويقتضي كون المتكوّن بحيث يصلح أن يعرض له ذلك عند فناء الزمان ،
ولا يتسلسل ، ولا يلزم منه ما يبطل البديهيّات.
وفيه نظر ؛ فإنّ
كون الكون في الزمان أمرا عقليّا ، لا يبطل التقسيم ، بل فيه اختيار أحد الأقسام ،
وهو أن يكون عدميا ، ثمّ عروضه للمتكوّن ، إمّا أن يكون في العقل لا غير، فيبطل
بإمكان أن يعتبره العقل قبل الزمان وبعده ، أو يستند إلى أمر خارج الذهن ويعود
المحذور بعينه.
وعن
الثالث : أنّ المؤثر يؤثر
في الأثر حال وجوده ، أي في زمان وجوده ، وهذا ليس بمحال ، فإنّ العلّة مع معلولها
بهذه الصفة ، لا بمعنى أنّه تجدّد لها وجود آخر غير الوجود الواقع في ذلك الزمان ،
بل بمعنى أنّ هذا الوجود الواقع في ذلك الزمان صدر منه في ذلك الزمان ، ولا يلزم
من ذلك ثبوت المقارنة الذاتية بين المؤثر وأثره ، بل المقارنة الزمانية ، ولا
استحالة فيه ، وإنّما يؤثر فيه لا من حيث هو موجود ، ولا من حيث هو معدوم ، بل من
حيث ماهية الأثر وإن كانت موجودة في ذلك الزمان.
وبعض المتكلمين
يقول : المؤثر يؤثر حال حدوث الأثر ، فإنّها ليست بحالة الوجود ولا بحالة العدم.
وأجاب أفضل
المتأخرين عن أصل المعارضة : بأنّ هذا التقسيم عائد فيما علم بالضرورة ثبوته ،
فإنّ الإحداث وإن كان في محل البحث ، لكن لا نزاع في الحدوث ، والتقسيم الذي ذكروه
يدفعه ، لأنّه يقال : لو حدث هذا الصوت مثلا ،
__________________
فإمّا أن يكون
حدوثه حال وجوده أو حال عدمه ، فإن حدث حال وجوده فقد وجد الموجود ، وإن حدث حال
عدمه فقد وجد عند عدمه. فظهر أنّ هذا التقسيم مبطل للضروريات .
واعترضه أفضل
المحققين : بأنّ هذا الكلام باطل ، ودال على تحيّره في أمثال هذه المواضع. وقد يمكن أن
يقال فيه ما يقول المتأخرون من المتكلّمين الذين لا يقولون بمقارنة العلّة
والمعلول في الزمان ، فإنّهم يقولون : الثبوت الذي يوجد في الآن الثاني يصدر من
موجده في الآن الذي قبله ، فيكون التأثير سابقا على الآثر بآن ، ويقع بالقياس إلى
ما يحصل بعده ، سواء كان الأثر موجودا في ذلك الآن بتأثير آخر أو معدوما ، ويكون
الأثر في آن التأثير غير موجود ، وفي الآن الذي يصير موجودا لا يكون مقارنا
للمعدوم .
وعن
الرابع : أنّ المؤثر يؤثر
في الماهية.
قوله : «إنّه محال
، لأنّ كون السواد سوادا بالغير ، يوجب أن لا يكون السواد سوادا عند عدم الغير».
قلنا : إذا فرض
السواد ، وجبت سواديّته بسبب الفرض ، وجوبا لاحقا مترتبا على الفرض ، ومع ذلك
الوجوب يمتنع تأثير المؤثر فيه ، فإنّه يكون إيجادا لما فرض موجودا. أمّا قبل فرضه سوادا ، فيمكن أن يوجد المؤثّر
السواد على سبيل الوجوب ، ويكون ذلك الوجوب سابقا على وجوده ، والفرق بين
__________________
الوجوبين ظاهر . وهذه المغالطة نشأت من قبل اشتراك اللفظ بين الوجوب
السابق واللاحق ، لأنّ الوجوب يدلّ على المعنيين بالشركة اللفظية .
وأيضا إذا قلنا : «فنى
السواد» معناه : أنّ السواد الحاصل في زمان ليس بحاصل في زمان بعده ، ويكون حمل
غير الحاصل على المتصوّر منه ، لا على الموجود الخارجي ، فإنّ الوضع والحمل يكونان
في العقل لا في الخارج أصلا ، وهكذا القول في حصول الوجود من موجده.
وإن قيل : تأثير المؤثر في جعل الماهية موصوفة بالوجود ، كما ذهب إليه القائلون
بشيئية المعدوم ، لم يتعلق ذلك بموصوفية الماهية بالوجود ، لأنّ ذلك أمر
إضافي يحصل بعد اتّصافها به ، والمراد من تأثير المؤثر هو ضمّ الماهيّة إلى الوجود
، ولا يلزم ما ذكر من المحال .
وفي قوله : «أمّا قبل فرضه سوادا ، فيمكن أن يوجد المؤثر السواد على
سبيل الوجوب» يقتضي أن يكون تأثير الفاعل ليس إلّا في الوجود ، وليس هو الذي
اختاره ، بل الوجه أن يقول : أمّا قبل فرضه سوادا فيمكن أن يؤثر المؤثر في كونه
سوادا.
__________________
وعن
الخامس : أنّ عدم الممكن المتساوي
الطرفين ليس نفيا محضا. وتساوي طرفي وجوده وعدمه لا يكون إلّا في العقل ، ومرجّح
طرف الوجود يكون موجودا ، وأمّا في العدم ، فالمرجّح لا يكون إلّا عقليّا. وعدم
العلّة ليس بنفي محض ، وهو يكفي في الترجيح العقلي. ولكونه ممتازا عن عدم المعلول
في العقل ، يجوز أن يعلل هذا العدم بذلك العدم في العقل.
وفيه نظر ؛ فإنّه
إن عنى بأنّ عدم الممكن ليس نفيا محضا أنّ له نوعا من الثبوت وحظا من
الوجود ـ كما اختاره الرئيس ـ فهو ممنوع ، فإنّا لا نعقل من عدم السواد إلّا عدما
مطلقا مضافا إلى السواد ، ولا نفرق بينه وبين العدم المطلق إلّا بالإضافة إلى
الملكة ، وذلك لا يعطيه حظا من الوجود ، كعدم شريك الباري تعالى. وإن عنى به ،
أنّه ليس عدما مطلقا غير مضاف إلى ملكة ، فهو حق ، لكنّ ذلك لا يقتضي خروجه عن
النفي المحض.
والتحقيق : أنّ
الأعدام قد تتمايز بحسب الإضافة إلى ملكاتها ، فعدم العلّة ممتاز عن عدم غيرها.
وهذا الامتياز كاف في جواز إسناد البعض إلى البعض.
وعن
السادس : أنّ الحاجة وصف
اعتباري لا تحقق له في الخارج حكمه في الثبوت والانتفاء واحد. ولا يلزم من كونها
عدميّة أن لا يكون الشيء في نفسه محتاجا ، كالعدم والامتناع ، فإنّهما ليسا
بثبوتيّين ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون الشيء معدوما وممتنعا.
وبالجملة :
فالضرورة قاضية باحتياج الممكن في اتّصافه بوجوده أو عدمه إلى سبب خارج عن ذاته ،
فالمعارضات في مقابلها تشكيك في الضروريّات ، فلا يكون مسموعا ، كشبه السوفسطائية.
__________________
البحث
السابع :
في أنّه هل يعقل أن يكون أحد طرفي
الممكن أولى به لذاته وإن لم ينته إلى حدّ التعيّن؟
ذهب بعض الناس إلى أنّه يمكن أن يكون شيء يصحّ عليه الوجود والعدم ، يكون
أحد طرفيه أولى به من الآخر لذاته.
والمحقّقون على
خلاف ذلك ، لوجوه :
الأوّل
: أنّ ذلك الرجحان
إن عقل زواله عند وجود شيء آخر ، اعتبر في تحققه عدم ذلك الآخر ، فماهيّة الممكن
إذا اعتبرت مع قطع النظر عن ذلك العدم لم تكن مقتضية لذلك الرجحان ، وإن امتنع
زواله بشيء أصلا ، كان حاصلا أبدا ، ممتنع الزوال ، فيكون منتهيا إلى حدّ التعيين.
وفيه نظر ، لمنع
الملازمة الأخيرة.
الثاني
: الممكن مع ذلك
الرجحان ، إمّا أن يمكن طريان الطرف المرجوح عليه أو لا ، فإن أمكن ، فإمّا أن
يكون طريانه لسبب ، أو لا لسبب. فإن كان لسبب ، لم يكن الرجحان كافيا في بقاء
الطرف الراجح ، بل لا بدّ معه من عدم سبب الطرف المرجوح. وإن كان لا لسبب ، فقد
وقع الممكن المرجوح لا لعلّة ، وهو محال ؛ لأنّ المتساوي أقوى من المرجوح ، فلمّا امتنع الوقوع حال التساوي
__________________
فأن يمتنع حال
المرجوحية كان أولى. وإن لم يمكن طريان المرجوح ، كان الراجح واجبا والمرجوح
ممتنعا .
اعترضه أفضل
المحققين : بأنّ هذا الدليل يقتضي نفي الأولويّة مطلقا. ولقائل أن يقول : طرف
الأولى يكون أكثر وقوعا ، أو أشدّ عند الوقوع ، أو أقلّ شرطا للوقوع ، والمستدلّ
ما أبطله.
وقد قيل في رجحان العدم
في الموجودات الغير القارة ، كالصوت والحركة : إنّ العدم لو لم يكن أولى
بها لجاز عليها البقاء.
وأجيب عنه : بأنّ
كلامنا في الممكن لذاته ، لا في الممتنع لغيره ، وبقاء الغير القارة يمتنع لغيره .
وفيه نظر ؛ لأنّ
الدليل يقتضي نفي أولوية كافية في الإيجاد لا مطلقا.
وقوله في أصل الدليل : «إن كان طريان المرجوح لسبب ، لم يكن
الرجحان كافيا في بقاء الراجح» ممنوع. فإنّا نقول : إنّه كاف ، ما لم يطرأ سبب
المرجوح ، ويترجّح على الراجح.
الثالث
: الماهية لو كانت
أولى بالوجود ، لم يتخلف عنها الوجود إلّا لوجود ما ينافي ذلك الوجود. وإنّما
تتحقق المنافاة من الجانبين. فهذه الأشياء المتعارضة إن كان بعضها أقوى من بعض ،
فتلك القوة أمر لازم للماهية لنفسها لا لغيرها ، والضعف كذلك ، فيستحيل انقلاب القوي ضعيفا والضعيف قويا ، فحينئذ
__________________
يبقى القوي موجودا
ممتنع الزوال ، لأنّه لو عدم لكان عدمه لأجل وجود معارضه ، ومعارضه أضعف منه ، فلا
يوجد مع وجوده ، إذ لو وجد مع وجوده لكان أقوى منه ، فإذن القوي يكون دائم الوجود ممتنع الزوال. والضعيف يكون دائم العدم ممتنع
الحصول. والأوّل هو الواجب ، والثاني هو الممتنع ، فيخرجان عن حدّ الإمكان. وإن لم
يكن بعضها أقوى ، لم يكن اندفاع أحدهما بالآخر أولى من اندفاع الآخر به ، فلا يحصل
الترجيح إلّا لأمر من خارج ، وحينئذ يحصل التساوي المطلوب .
احتج الآخرون
بوجوه :
الأوّل
: الماهيات أمور
متعيّنة ، كل واحد منها متميّز عن الآخر بخصوصية ، فإمّا أن يكون في الماهية
اقتضاء الوجود والعدم ، أو ليس فيها اقتضاء شيء منهما ، وهذا الأخير يوجب صحة
خلوها عنهما. والأوّل إمّا أن تكون الماهية تقتضيهما جميعا ، وهو محال ، أو تقتضي
أحدهما لا بعينه ، وهو باطل ، لأنّ الماهية متعيّنة في نفسها ، فلا بدّ وأن تقتضي
شيئا بعينه ، لامتناع أن يكون للمبهم حصول ، فإنّه لا يعقل في الوجود شيء هو في
نفسه غير معيّن ، وإذا استحال حصول المبهم في الخارج ، استحال اقتضاء الماهيّة له
، أو يقتضي واحدا بعينه ، مع أنّه يصحّ عليها طريان الطرف الآخر ، وإلّا لم تكن
ممكنة ، وهو المطلوب.
الثاني
: الموجودات
السيّالة ، كالزمان والحركة والصوت ، العدم أولى بها ، وإلّا لصحّ بقاؤها ،
والوجود يصحّ عليها وإلّا لم توجد البتة ، وإذا كان بعض الممكنات
__________________
يصحّ عليه الوجود
والعدم ويكون العدم به أولى ، جاز ذلك في جانب الوجود .
الثالث
: أنّ كثيرا من
العلل يكون اقتضاؤها لمعلولاتها موقوفا على شرط ، أو زوال مانع ، فإذا أخذت تلك
العلل مجرّدة عن وجود تلك الشرائط لها ، أو عن انتفاء الموانع ، كان اقتضاء تلك العلل لمعلولاتها أولى من
عدم الاقتضاء ، وإلّا لم تتميّز العلّة عن غيرها ، فتلك العلّة صحّ عليها الإيجاب
وعدمه ، مع أنّ الإيجاب أولى من عدمه .
الرابع
: المعلول إذا توقّف
وجوده على وجود أشياء كثيرة ، كان وجوده مع وجود أكثرها أولى من عدمه ، ويحصل
التفاوت في أولوية وجوده باعتبار كثرة الحاصل من علله وقلّته.
الخامس
: قد تكون بعض العلل
أكثريّ الاقتضاء لمعلولاته من غير دوام ، كاقتضاء الصور النوعيّة ، في العناصر أعراضها ، مع أنّها قد تنفك عنها قسرا ، كاقتضاء طبيعة الأرض النزول ، مع أنّها قد تتصاعد
قسرا ، أو اقتضاء الماء البرودة مع تسخّنه قسرا. فهذه المعلولات أولى بالوجود ، وإلّا لم تكن أكثريّة
.
والجواب
عن الأوّل : أنّه لا يلزم من
عدم اقتضاء الماهية لشيء من الوجود
__________________
والعدم ، صحّة
خلوها عنهما ، فإنّ المعلول لا يقتضي وجود العلّة ولا عدمها ، ولا يصحّ خلوّه
عنهما.
سلّمنا ، لكنّها
تقتضي عدم الخلو عن الوجود والعدم ، وذلك أمر عدمي ، ولا امتناع في اقتضاء الحقيقة أمرا عدميا ، كاقتضائها
كثيرا من السلوب.
وعن
الثاني : أنّا نمنع أولوية العدم في الحركة ، لأنّها إمّا الحصول الأوّل
في الحيّز الثاني ، وذلك ممكن البقاء وليس العدم به أولى ، أو الاتصال الممتدّ من
أوّل المسافة إلى آخرها أو التوسط ، وهما باقيان ، والأجزاء فيها بالقوة لا بالفعل
، وليس العدم أولى بالحركة من أوّل المسافة إلى منتهاها ، بل استمرارها ممكن ، كما
أنّ انقطاعها ممكن.
وعن
الثالث : نمنع الأولوية في
اقتضاء العلل المجرّدة عن الشرائط ، بل إنّما تحصل الأولوية عند استجماع الشرائط ،
وهناك تكون الأولوية وجوبا. وهو الجواب عن الرابع والخامس .
البحث الثامن : في أنّ الممكن ما لم يجب لم يوجد
اعلم أنّ كلّ ممكن
، فإنّه محفوف بضرورتين ، إحداهما سابقة عليه ، والأخرى لاحقة به. أمّا السابقة ،
فهي الوجوب المستفاد من وجود المؤثر ، أو الامتناع المستند إلى عدمه ، ويدلّ عليه
أنّا نعلم بالضرورة أنّ الممكن لا ينفك عن أحد وصفي
__________________
الوجود والعدم ،
وقد بيّنا أنّهما بالنظر إلى ذاته متساويان لا يترجّح أحدهما على الآخر بالنظر إلى
ذاته ، والضرورة قاضية بأنّ الترجيح لا بدّ له من سبب ، وإذ ليس نفس الماهيّة، فهو
خارج. ومعلوم أنّ الرجحان غير المانع من النقيض لا يكفي في حصول الراجح، لأنّ
الممكن مع ذلك الرجحان ، إمّا أن يمكن طرو المرجوح عليه أو لا. فإن لم يمكن ، فذلك الرجحان ، مانع من
النقيض ، وقد فرض أنّه غير مانع ، هذا خلف. ولأنّه المطلوب. وإن أمكن فليفرض واقعا
في وقت ، فتخصّص أحد الوقتين بوجود الراجح والآخر بوجود المرجوح إمّا أن يكون لسبب
أو لا. والثاني باطل ، لقضاء الضرورة بافتقار وقوع الممكن إلى سبب. والأوّل
إمّا أن يكون الراجح معه واجبا أو المرجوح أولا ، فإن لم يكن عاد البحث ، وإن كان فالمطلوب.
وإذا تقرّر هذا
فنقول : إذا فرض انضمام سبب أحد الطرفين إلى ماهيّة الممكن ، فإمّا أن يبقى الممكن على حالة قبل الانضمام من الاستواء ، وهو
محال ، لاقتضائه خروج السبب عن كونه سببا ، إذ لا فرق بين وجوده وعدمه ، أو يخرج
عن حدّ الاستواء إلى حيّز الرجحان ، فإمّا أن يكون لما يقتضيه السبب أو للآخر ،
والثاني غير معقول ، وإلّا لكان سببا للمرجوح لا للراجح. والأوّل يقتضي كون ذلك الطرف
راجحا ، وقد تقرّر أنّ الرجحان المطلق غير كاف ، بل لا بدّ من
__________________
الوجوب ، فيلزم
وجوب الطرف الراجح حتى يوجد ، وهو المطلوب.
ولأنّ الممكن لا
ينفك عن الاتّصاف بما يقتضيه الراجح ، أو نقيضه. ولا يمكن هنا اتّصافه بنقيضه ،
لخلوّه عن السبب ، وهو في حال التساوي يمتنع اتّصافه به ، ففي حال المرجوحية أولى
بامتناع الاتّصاف به ، وإذا امتنع اتّصافه به ، وجب اتّصافه بالراجح ، وإلّا لزم
خلوّه عن النقيضين ، وهو محال ، فقد ظهر أنّ كلّ ممكن ، فإنّه لا يوجد أو يعدم
إلّا إذا سبقت الضرورة المستندة إلى المؤثر عليه.
وأمّا الضرورة
اللاحقة ، فإنّ كلّ ما فرض موجودا ، فإنّه يستحيل عليه العدم في تلك الحالة التي
فرض فيها موجودا ، وإلّا اجتمع النقيضان. وهذا الوجوب لحق بعد فرض الشيء موجودا ،
وإذا فرض معدوما ، امتنع وجوده في تلك الحال ، لامتناع اجتماع النقيضين. وهذا
الامتناع هو ضرورة العدم ، لحقت بعد فرضه معدوما. ولمّا كان الممكن لا ينفك عن
الوجود أو عن العدم ، فهو لا ينفك في كل واحدة من حالتيه عن الوجوبين ، لوجوده أو
عدمه ، وهو لا يقتضي شيئا منهما ، كما لا يقتضي أحد الطرفين لذاته ، فهذان
الوجوبان خارجان عن ماهية الممكن لا داخلان في ماهيته.
لا يقال : الممكن متردّد
بين الوجود والعدم ، لا بين الوجوب والامتناع ، فكيف جعل الوجوب سابقا على الوجود.
لأنّا نقول :
للممكن وجوبان لاحق وسابق لو لاه استحال وجوده ، لكن لمّا كان الوجود والعدم غايتي هذا
الوجوب والامتناع ، صحّ أن يقال : الحقيقة متردّدة بين العدم والوجود ، لا بين
الوجوب والامتناع. على أنّه في الحقيقة الترديد بين
__________________
الوجود والعدم ،
هو بعينه ترديد بين الوجوب والامتناع ، لأنّ الترديد في الحقيقة هكذا : الممكن
إمّا أن يكون موجودا عن سبب الوجود ، أو معدوما عن سبب العدم.
لا يقال : وجوب
الممكن وصف له ، فيستحيل سبقه عليه.
لأنّا نقول :
الوجوب ليس ثبوتيّا حتى يستدعي محلّا ثابتا ، بل هو أمر ذهني اعتباري ، يكفي
حلوله في الذهن ونسبته إلى ماهية ذهنيّة.
البحث التاسع : في علّة احتياج الأثر إلى مؤثّره
اختلف الناس هنا ،
فذهب الأوائل والمتأخّرون من المتكلّمين إلى أنّ علّة الحاجة إنّما هي الإمكان.
وذهب قدماء المتكلّمين إلى أنّها الحدوث ، وقال آخرون : العلّة مجموع الأمرين ،
إمّا بأن يكون الحدوث شطر العلّة وجزءا منها ، أو بأن يكون شرطا لها .
والحقّ الأوّل ، لوجهين :
الأوّل
: أنّ الضرورة قاضية
، بأنّ الشيء إذا كان يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون ، وكلاهما متساويان بالنسبة
إليه ، فإنّه يستحيل أن يترجح أحد طرفيه على الآخر إلّا بسبب مغاير لذاته ، وإن لم
يعقل سوى الإمكان. ولو جرّده العقل عنه
__________________
ووصفه بأيّ وصف
كان ، من حدوث وغيره لم يحكم بالاحتياج. ولو جوّز العقل كون الحادث واجبا لذاته ،
لم يحكم عليه بالحاجة وإن كان حادثا ، باعتبار زوال الإمكان عنه.
فعلم من هذا ، أنّ
العلّة في احتياج الممكن إلى المؤثر ، إنّما هي إمكانه لا حدوثه.
الثاني
: أنّه لو كان
الحدوث علّة الحاجة ، لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمراتب ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله .
بيان الشرطية : أنّ الحدوث هو كون الوجود بعد العدم ، فهو صفة للوجود ،
والصفة متأخّرة بالطبع عن موصوفها ، فالحدوث متأخّر عن الوجود تأخّرا بالذات ، والوجود
متأخّر عن الإيجاد الذي هو تأثير موجده فيه ، تأخّر المعلول عن علّته ، والإيجاد متأخّر عن
احتياج الأثر إلى مؤثره تأخرا بالطبع ، فإنّه لو لا الحاجة امتنع تأثيره فيه ، والاحتياج متأخّر عن علّته
تأخّر المعلول عن العلّة ، فلو كانت علّة الحاجة هي الحدوث ، لزم تقدّم الشيء وهو
الحدوث على نفسه بهذه المراتب الأربعة ، وتقدّم الشيء على نفسه محال بالضرورة ،
فامتنع كون الحدوث علّة الحاجة ، فلم يبق إلّا الإمكان ، فهو علّة الحاجة .
__________________
لا يقال : هذا
الدليل قائم بعينه في الإمكان. لأنّا نقول : الإمكان صفة للممكن، فيتأخّر عنه بالذات ، والممكن
متأخّر عن (تأثير المؤثّر فيه الذي هو الايجاد والايجاد متأخّر عن) الاحتياج المتأخّر عن علّته ، فلو كانت العلّة هي الإمكان
، لزم تقدّم الشيء ـ وهو الإمكان ـ على نفسه بمراتب ، فيلزم خروج الإمكان عن العلّية بعين ما خرج به
الحدوث.
لأنّا نقول : لا
نسلّم قيام الدليل في الإمكان ، لأنّ قوله : «الممكن متأخّر عن تأثير المؤثر فيه»
غلط ، بل إنّما يتأخّر في وجوده أو عدمه عنه المتأخّرين عن ذاته ، وبسببهما احتاج
الممكن إلى المؤثر ، ثم إلى علّة الاحتياج .
احتجّوا بوجوه.
الأوّل
: لو كان الإمكان
علّة الحاجة إلى المؤثر ، لكان الممكن المعدوم محتاجا ، والتالي باطل ، لأنّ العدم
نفي محض ، فلا يتحقّق فيه التأثير ، لأنّ العدم ليس بأثر فلا تأثير ، والشرطية
ظاهرة.
الثاني
: لو كان الإمكان
علّة الحاجة لكان الممكن الباقي محتاجا ، والتالي باطل بما يأتي ، فالمقدّم مثله ،
والشرطية ظاهرة.
الثالث
: الضرورة قاضية ،
بأنّ كلّ حادث ، فلا بدّ له من محدث.
والجواب
عن الأوّل : ما تقدّم من «احتياج
الممكن في عدمه إلى سبب هو عدم مؤثره» ، فبالحقيقة علّة الوجود هي علّة العدم ،
لكن إن حضرت أثرت الوجود ، وإن عدمت أثرت العدم ، وكونه نفيا محضا ، لا ينافي
تميّزه باعتبار نسبته
__________________
إلى ملكته ، ونمنع
كون العدم ليس بأثر ، نعم إنّه ليس بأثر وجودي ، بل هو أثر عدمي.
وعن
الثاني : بالمنع من بطلان
التالي وسيأتي .
وعن
الثالث : بأنّ الضرورة
إنّما قضت بذلك ، لاتّصاف الحادث بالإمكان ، لأنّه لما حدث بعد أن لم يكن ، فقد
اتّصفت ماهيته بالعدم السابق والوجود اللاحق ، فكانت ماهيته من حيث هي هي قابلة
للأمرين ، فاتّصافها بأحدهما لا بدّ له من سبب ، لأنّ التساوي يمنع من الترجيح ،
فلا بدّ من وجوب سابق مستند إلى المؤثر ، فلو جوّز العقل وجوبه لم تقض الضرورة
بالحاجة فيه.
واعلم ، أنّ الوجه
الثاني من الوجهين الدالّين على أنّ الحدوث لا يصلح للعلّية يدلّ بعينه على أنّه
لا يجوز أن يكون جزءا منها ، ولا شرطا لها ، لأنّا أبطلنا كونه علّة ، لكونه متأخّرا والعلّة متقدمة ، وجزء العلّة وشرطها
أقدم من العلّة بمرتبة ، فكانا أولى بالامتناع لزيادة مراتب التقدّم حينئذ.
واعلم ، أنّا لو
جعلنا العلّة المحوجة إلى المؤثر هي الإمكان ، بشرط كون الممكن ممّا سيحدث ، على
أن يكون هذا الوصف جزء العلّة ، أو شرطها ، أو جعلناه كلّ العلّة ، اندفع الدور
وتقدّم الشيء على نفسه ، وكأنّ مقصود كلام المتقدّمين من المتكلّمين ذلك.
__________________
البحث العاشر :
في
أنّ الممكن الموجود ، هل يحتاج في بقائه إلى السبب أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب الأوائل والمتأخّرون من المتكلّمين إلى أنّ الممكن حال بقائه محتاج إلى
السبب ، ونفاه قدماء المتكلّمين والمعتمد الأوّل.
لنا : أنّ العلّة
المحوجة إلى المؤثر هو الإمكان ، وهو لازم للماهيّة ، ثابت لها حالة البقاء ، كما
ثبت حالة الحدوث ، فيلزم ثبوت الاحتياج في الحالتين ، لوجود العلّة فيهما.
وأيضا : لو استغنى
الممكن في وجوده في الزمن الثاني عن المؤثر ، لكان واجبا ، إذ ليس معنى الواجب سوى
المستغني في وجوده عن السبب ، فإن كان لذاته فهو محال ، لاستحالة تعدّد الواجب
لذاته ، وتجدّد الوجوب الذاتي للشيء ، وإن كان لغيره ، فهو المطلوب.
احتجّوا بوجهين :
الأوّل
: لو افتقر الممكن
حال بقائه إلى السبب ، لكان ذلك السبب إمّا أن يكون له أثر ، أو لا. فإن لم يكن له
أثر البتة ، كان الباقي في ذلك الوجود غنيا عن ذلك المؤثر. وإن كان له أثر ، فإمّا
أن يكون هو الوجود الأوّل ، أو غيره. فإن كان
__________________
الأوّل ، كان ذلك
تحصيلا للحاصل وإن كان الثاني ، كان الشيء موجودا مرتين ، وهو محال. ولأنّه يلزم
أن يكون المحتاج إنّما هو الوجود المتجدّد لا الباقي ، وهو المطلوب .
الثاني
: أنّا نشاهد البناء
باقيا بعد الباني ، ولو كان محتاجا إليه عدم لعدمه ، والحجر المرمي تبقى حركته بعد
مفارقة الرامي .
والجواب
عن الأوّل : أنّ قولكم : «السبب
حال البقاء ، إمّا أن يكون له أثر أو لا» غلط ، فإنّ المؤثر في البقاء ، لا يكون
له أثر البقاء حال البقاء ، وتحصيل الحاصل إنّما لزم منه ، بل المؤثر يفيد البقاء
بعد الإحداث ، وتأثيره بعد الإحداث في أمر جديد هو البقاء ، فإنّه غير الإحداث ، فهو
مؤثر في أمر جديد صار الباقي به باقيا ، لا في الذي كان باقيا ، ولو لا ذلك الجديد
، لم يكن الأثر باقيا.
وأيضا إن عنيتم
بقولكم : «المؤثر هل له فيه تأثير أم لا؟» أنّ المؤثر هل له فيه تأثير جديد ، فليس
الأمر كذلك ، وإن عنيتم به أنّ المؤثر له فيه تأثير ، بمعنى أنّ الأثر الذي وجد
عنه استمر لأجل استمراره ، فالأمر كذلك.
واعترضه أفضل
المحقّقين : بأنّ البقاء المستفاد من المؤثر أمر جديد ، لو لاه لم يكن الأثر باقيا
.
وفيه نظر ؛ فإنّ
تحصيل الحاصل ، نشأ من أنّ المؤثر أثّر في الباقي البقاء حال
__________________
فرض البقاء موجودا
، لكن المستدل لم يطلب ذلك ، بل قصد أنّ أثر السبب في الباقي في زمان البقاء ، إن
كان هو الذي أوجده حال الحدوث ، لزم تحصيل الحاصل ، وإن كان مغايرا له ، كان
التأثير في أمر جديد. وأيضا هذا الجواب يقتضي كون البقاء موجودا ، ويلزم منه
التسلسل.
وعن
الثاني : أنّ البناء ، ليس
المحتاج فيه إلى الباني استقرار أجزائه في مواضعها ، بل حركة الباني علّة لحركة
تلك الأجزاء من موضع إلى آخر ، واستقرارها في مواضعها مستند إلى خلق أكوان فيها من
الله تعالى ، كما ينقل الجسم من حيّز إلى آخر. والرامي يفيد المرمي قوة تستمر
باستمرار الحركة.
خاتمة
: الامتناع وصف
عدميّ ، وإلّا لكان الموصوف به ثابتا ، وهو باطل بالضرورة. وهو قد يكون ذاتيا ،
كامتناع شريك الباري لذاته ، لا بمعنى أنّ له ذاتا تقتضي امتناع وجوده ، بل أنّ
تصوّره مقتض لامتناع وجوده. وقد يكون عرضيّا ، كوجود المعلول مع عدم علّته ، فإنّه
يكون ممتنعا لا لذاته ، بل باعتبار عدم علّته ، والامتناع الذاتي في مقابله الوجوب الذاتي ، والعرضي في مقابله العرضي.
__________________
المقصد الثالث
في التقسيم بالنسبة إلى الماهية والجزء
والخارج والكلّي والجزئي
اعلم : أنّ كلّ
معقول فإمّا أن يكون نفس الماهيّة أو جزءها أو خارجا عنها.
وأيضا ، فإمّا أن
يكون كليا أو جزئيا ، فهنا فصول :
الفصل الأوّل :
في مباحث الماهيّة
البحث الأوّل : في تحقيق الماهية
لكلّ شيء حقيقة هو
بها ما هو ، وتلك الحقيقة هي الماهيّة بالذات ومغايرة
__________________
لها بالاعتبار ،
فإنّ الماهيّة إذا أخذت ثابتة في الأعيان ، سمّيت حقيقة ، وإن أخذت معقولة، سمّيت
ماهيّة ، وهي مشتقّة عمّا هو ، وهي ما به يجاب عن السؤال بما هو. وتلك الماهية إذا
أخذت من حيث هي هي ، ولم يضم إليها في الاعتبار شيء من صفاتها ، من وحدة أو تعدّد أو غيرهما من الصفات اللازمة أو
المفارقة ، كانت نفس الماهية مغايرة لجميع الصفات ، فالفرسيّة إذا أخذت من حيث هي
فرسية لم تكن شيئا غير الفرسيّة ، وهي مغايرة للوحدة والكثرة والوجود والعدم. فإذا
ضممت قيدا زائدا إليها ، كالوحدة ، صارت فرسية وشيئا آخر هو الوحدة ، فصارت
باعتبار الوحدة فرسية واحدة وتغاير الاعتباران.
وإذا أخذت
الفرسيّة من حيث تطابق بحدها أمورا كثيرة ، صارت عامّة ، وهي في نفسها ليست إلّا الفرسيّة ، ومفهوم
الوحدة والكثرة مغايران لمفهومها ، وإلّا لو كانت مفهوم أحدهما ، لم تصدق على
مقابله.
فإن سألنا عن
الفرسيّة بطرفي النقيض ، لم يكن الجواب إلّا السلب ، على أن يكون قبل «من حيث» لا
على أنّه بعد «من حيث» .
ولو سألنا عنها
بموجبتين في قوة النقيضين ، بحيث لا تخلو عنهما ، كالواحد والكثير ، لم يلزم
الجواب.
__________________
والفرق ظاهر ، لأنّ الكثير هنا وقع موقع السلب بعد «من حيث» ؛ فإنّا إذا قلنا : الفرسيّة
من حيث هي فرسيّة واحد أم ليس؟ كان الجواب : ليس الفرسية من حيث هي فرسيّة واحدا ،
وهو جواب صحيح.
ولو قلنا :
الفرسيّة من حيث هي فرسيّة واحد ، أو كثير ، فقلنا : واحد ، أو كثير ، لم يكن
جوابا صحيحا. وكان الحق : ليست الفرسيّة من حيث هي فرسيّة ، واحدا ولا كثيرا لأنّ
قولنا : ليست الفرسيّة من حيث هي فرسية واحدا يصدق مع كونه واحدا بخلاف قولنا :
الفرسيّة من حيث هي فرسيّة كثير. فالفرسيّة من حيث هي فرسيّة ، لا يدخل في مفهومها
الواحديّة والكثيريّة ، وإن وجب اتّصافها بأحدهما ، لكن لا من حيث مفهوم الفرسيّة
، بل باعتبار ما ينضمّ إليها.
وإذا قيل :
الإنسانيّة التي في زيد من حيث هي إنسانيّة ، لا تغاير التي في عمرو ، كان حقّا.
ولا يلزم منه أن يقال : فهما واحد بالعدد ، لأنّا عنينا بهذا السلب «أنّ تلك
الإنسانية من حيث هي إنسانيّة ، إنسانيّة فقط ؛ وكونها غير التي في عمرو شيء من
خارج».
وإذا قيل :
الإنسانيّة التي في زيد من حيث هي إنسانيّة ، هل هي التي في عمرو؟ فالجواب «ليس»
قبل «من حيث» لأنّ قولنا : من حيث هي إنسانيّة أسقط اعتبار كونها في زيد ، لأنّه قيد خارج عن الإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة.
فإن قيل : الإنسان
من حيث هو إنسان ، إذا كان موجودا في زيد ، فإمّا أن
__________________
يكون خاصّا به ،
فلا يكون غيره إنسانا ، ولم يكن الإنسان بما هو إنسان موجودا فيه ، بل إنسان ما.
وإن لم يكن خاصّا به ، كان شيء واحد بالعدد موجودا في محالّ متعددة وهو محال ؛ فإذن يمتنع أن يكون الإنسان من حيث هو
موجودا في الأشخاص ، فيكون مفارقا.
فالجواب : الإنسان
من حيث هو موجود في الشخص ، فيكون إنسانا ما. وإذا كان المعيّن موجودا ، فالإنسان من حيث هو ، موجود ، لأنّ المعيّن إنسان وشيء ، ووجود المركب يستلزم وجود أجزائه. وإذا كان
إنسان ما موجودا ، فالإنسان الذي هو جزء من إنسان ما موجود ، فاعتبار الإنسان
بذاته جائز ، وإن كان مع غيره ، لأنّ ذاته مع غيره ذاته ، وذاته له بذاته ، وكونه مع غيره عارض له ، وهذا
الاعتبار مقدم في الوجود على الإنسان الشخصي والكلّي العقلي تقدم البسيط على
المركب ، وهو بهذا الاعتبار لا جنس ولا نوع ، ولا واحد ولا كثير ، بل انسان فقط ،
لكن يلزمه إحدى هذه الأوصاف من خارج ذاته ، وليس من هذه الجهة فرسا ما وإن كان يلزمه أن يكون فرسا ما .
وأيضا لا يصحّ قوله : «الإنسان الموجود في الأشخاص إمّا خاص أو
عامّ» ؛ لأنّ الإنسان من حيث هو لا عامّ ولا خاصّ.
واعلم : أنّ
الكلّي قد يوجد باعتبارات ثلاثة :
الأوّل
: الماهيّة من حيث
هي هي ، وتسمّى الطبائع ، أي طبائع أعيان الموجودات ونفس حقائقها. وتسمّى الأمر
الإلهي ، كما يؤخذ الحيوان لا بشرط
__________________
شيء .
الثاني
: الماهيّة بشرط
التجرّد عمّا سواها ، كأخذ الحيوان بشرط لا شيء ، بل مجرّدا عن غيره. والأوّل
موجود في الخارج ، بخلاف الثاني ، فإنّ وجوده ذهني ، على أنّ ذلك خارج عنه أيضا ،
فإنّ شرط تجرّده ينافي اعتبار وجوده ذهنا ، لا وجوده ذهنا .
الثالث
: الماهيّة بشرط
عروض اللواحق الخارجيّة عنها بها ، من الفصول ، فتكون أنواعا ، ومن العوارض ،
فتكون أصنافا وأشخاصا. وهي بهذا الاعتبار موجودة في الخارج ، بل هي المقصودة
بالذات بالوجود ؛ فإنّ الغرض والغاية الحقيقيّة يتعلّقان بوجود الأنواع .
والفرق بين أخذ
الشيء بشرط لا ، وبين أخذه لا بشرط ، إنّما يظهر في الخارج عن الماهيّة ، لا في
الماهيّة ولا في مقوّماتها ، بل الماهيّة ومقوّماتها دائما توجد بشرط لا ، إذ لو
أدخلت في الحقيقة قيدا أو أخرجت عنها قيدا ، لم تكن تلك الحقيقة ، بل صارت حقيقة
أخرى. أمّا لوازم الحقيقة ، فتارة تؤخذ بشرط لا ، وتارة تؤخذ لا بشرط. فإذا أخذت
الحقيقة بالنسبة إلى تلك اللوازم بشرط لا ، فقد أخذت الحقيقة مجردة عن تلك العوارض
، وهو ممكن ، بخلاف المقوّمات. وإذا أخذت الحقيقة بالنسبة إلى تلك اللوازم لا بشرط
، فقد أخذت الحقيقة صالحة لعروض أمر زائد عليها ولعدمه.
__________________
واعلم : أنّ الجنس
قد يمكن أن يؤخذ باعتبارين معا ، فإنّ الحيوان يمكن أخذه بشرط لا شيء ، فإنّ شرط
الشيء هنا يراد به ما من شأنه أن يدخل في مفهوم الحيوان عند صيرورته محصّلا ، فإنّ
المعاني الجنسيّة إنّما تتحصل بالفصول.
البحث الثاني : في تقسيم الماهية
الماهيّة إمّا أن
تكون بسيطة ، وإمّا أن تكون مركّبة. وللبسيط تفسيران :
أحدهما
: الذي لا تلتئم
حقيقته من أمور.
والثاني
: الذي تتساوى
أجزاؤه في الاسم والحدّ.
والمراد هنا
الأوّل.
والمركّب هو الذي
تلتئم حقيقته من عدة أمور. والحسّ دلّ على وجوده.
ولا بدّ من وجود
البسيط ، وإلّا لزم تركّب كلّ ماهيّة من أمور غير متناهية كلّ واحد من تلك الأمور
مركّب من أمور غير متناهية. وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهو غير معقول ، لاستلزامه
وجود الكثرة من دون الوحدات.
والضرورة قاضية ،
بأنّ كلّ كثرة سواء كانت متناهية أو غير متناهية ، فإنّ الواحد فيها موجود ، لأنّه جزء ، ولا وجود للكلّ بدون جزئه ، ثمّ ذلك
الواحد إن كان مركّبا لم يكن واحدا ، هذا خلف ، وإلّا فالمطلوب.
قال أفضل
المتأخّرين : مجموع أجزاء الماهيّة نفسها ، وإلّا لكان إمّا داخلا فيها ، وهو محال
، وإلّا لكان هناك جزء آخر ، فلم يكن ما فرضناه مجموع
__________________
الأجزاء ، هذا خلف
، أو خارجا عنها ، فتكون الأجزاء عوارض ، وهو محال.
وليس بجيد ، لأنّ
هنا قسما آخر وهو أن يكون مجموع الداخل ، لأنّ كلامه يشعر بأنّه أراد بالداخل بعض
الأجزاء.
وقيل : لو كان
مجموع الأجزاء نفس الماهيّة ، لم تكن للمركّب علّة تامة ، لأنّها ليست مجموع
الأجزاء ، لأنّ التقدير أنّها نفسه ، ولا بعضها ، لافتقاره إلى الآخر ولا الخارج ، لافتقاره إلى الأجزاء. ولا إلى جميع الأجزاء والخارج ، وإلّا لكان نفس الماهيّة جزء
علّتها. ولا بعض الأجزاء والخارج ، لافتقاره إلى البعض الآخر ، وهذا الإيراد من فوائد
«المولى الأعظم الوزير خواجه رشيد الملّة والدين» وهو لازم لا جواب عنه إلّا
المعارضة.
وهذه الآحاد إنّما
تتركّب منها الماهيّة لو كان بعضها محتاجا إلى البعض الآخر ، إذ لو كان كلّ واحد
منها غنيّا عن صاحبه لم تتركّب منها حقيقة واحدة ، وكان بمنزلة جلوس الإنسان على
الحجر ، فإنّه لمّا انتفت الحاجة بينهما ، امتنع تركّب حقيقة منهما. والمعجون وإن
استغنى كلّ واحد من أجزائه عن البواقي ، لكنّ الصورة الحاصلة من تركيب تلك الأجزاء
الماديّة محتاجة إليها ، وتلك الصورة المعجونية جزء من المعجون ، وكذا الصورة العددية ، كالعشرية المحتاجة إلى آحادها ، والصناعية كذلك
، كالحائط المستغني كلّ واحد من أجزائه المادّية عن الآخر ، واحتياج صورته إليها ،
ولا يمكن احتياج كلّ واحد منها إلى الآخر من الجهة الواحدة ، وإلّا لزم الدور ، بل
إن احتاج كلّ منهما إلى الآخر فمن جهتين
__________________
متغايرتين ،
كالمادة والصورة.
قيل : إنّه لا
يكفي احتياج بعض الأجزاء إلى ما يحتاج إليه الآخر وإن استغنى عن الآخر ، وإلّا
لتمت الحقيقة بالمحتاج والمحتاج إليه ، دون الآخر ، فلا يكون الآخر جزءا ، بل ما
احتاج إليه الآخر ، مثلا الحيوان غير متقوّم بالضاحك ، وإن احتاج إلى ما يحتاج
إليه الضاحك وهو الناطق. والملازمة ممنوعة.
البحث الثالث : في أنّ البسائط هل هي مجعولة أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك ، بعد اتفاقهم على أنّ وجود الممكن البسيط إنّما يحصل بالفاعل ، فليس النزاع
في أنّ وجود البسيط هل يحصل بالفاعل أم لا ، بل في ماهيته ، مثلا : هل السواد سواد
بالفاعل أم لا؟.
فذهب أكثر الأوائل
وقدماء المعتزلة إلى أنّها غير مجعولة.
وذهب آخرون ،
خصوصا من جعل الوجود نفس الماهية ، إلى أنّها مجعولة .
احتجّ الأوّلون
بوجوه :
الأوّل
: علّة الحاجة إلى
المؤثر إنّما هي الإمكان ، وهو أمر إضافي لا يعقل تحقّقه بالنسبة إلى شيء واحد ،
لاحتياج الإضافة إلى مضافين ، إذ من خاصّيتها التعاكس. وإذا لم يعقل عروض الإمكان للواحد إلّا باعتبار
حصول شيء آخر له كوجود أو عدم ، استحالت الحاجة عليه لانتفاء علّتها .
__________________
الثاني
: تأثير الشيء في
غيره إنّما يكون بعد احتياجه إلى ذلك الشيء ، واحتياجه إلى ذلك الشيء نعت من نعوته ، والنعت متأخّر عن المنعوت ، فإذن
حقيقته مقدّمة على تأثير الشيء فيه ، فيستحيل أن يكون للشيء فيه تأثير.
الثالث
: لو تعلّقت سوادية
السواد بغيره ، لم يكن السواد سوادا عند فرض عدم ذلك الغير ، وهو محال ؛ لأنّ
السواد سواد لذاته سواء تحقّق غيره أو لا.
وفي الأوّل نظر ؛ لأنّ الماهيّة وجعل الفاعل لها أمران متغايران ، فصحّ عروض
الإمكان بالنسبة إليهما.
وفي
الثاني : لأنّ الاحتياج وصف
اعتباري ، وإن كان منسوبا إلى الماهيّة ، لكنّ ذلك لا يقتضي كونه وجوديا ، لأنّه
منسوب إليها حال كونها ذهنيّة بالحاجة عند كونها خارجية.
وفي
الثالث : لأنّه المتنازع ،
فإنّ من يجعل السواد سوادا بالفاعل ، يعترف برفع حقيقة السواد عند ارتفاع الفاعل ،
لا بأن يثبت السواد ويرتفع عنه كونه سوادا ، بل بأن لا تبقى له حقيقة البتّة.
احتجّ الآخرون :
بأنّه لو انتفت مجعولية البسيط انتفت المجعولية مطلقا ، لأنّ الماهية إذا لم تكن
مجعولة ، لم يكن الوجود أيضا مجعولا ، بعين ما تقدّم من الأدلّة ، فلا تكون
الماهيّة الموجودة مجعولة ، فلا يستند الممكن الموجود إلى المؤثر ، فلا يكون ممكنا
بل واجبا ، هذا خلف.
لا يقال : المستند
إلى الفاعل هو موصوفية الماهيّة بالوجود ، وهو أمر مغاير للماهيّة والوجود.
لأنّا نقول : أوّلا : الموصوفيّة ليست ثبوتيّة وإلّا لزم التسلسل ، لاستحالة
__________________
قيامها بذاتها ،
فإنّه لا يعقل لها تأصّل في الوجود واستغناء عن القيام بالغير ، وإذا كانت صفة للغير كان اتّصاف الغير
بها أمرا زائدا عليهما فكان للموصوفيّة موصوفية أخرى ويتسلسل. وإذا لم تكن ثبوتية
استحال اسنادها إلى المؤثر.
وثانيا
: أنّ البحث في
الموصوفية كالبحث في الماهيّة ، بأن نقول : لو كانت الموصوفية بالفاعل لزم
ارتفاعها بارتفاع الفاعل ، لكن خروج الموصوفيّة عن كونها موصوفيّة محال ، كاستحالة
خروج السواد عن كونه سوادا.
وثالثا
: أنّ موصوفية
الماهيّة بالوجود إن كانت نفس الوجود عاد الإشكال ، وإن كانت مغايرة له ، فإن لم
تكن ثبوتيّة استحال اسنادها إلى الفاعل ، وإن كانت ثبوتيّة ، فإن كانت بسيطة عاد
الإشكال ، وإن كانت مركّبة ، كان الكلام في بسائطها وتركّبها ، كالكلام في
الماهيّة والوجود وانتساب أحدهما [إلى] الآخر.
واعترض أفضل
المحقّقين : بأنّ تأثير المؤثر ، في جعل الماهية موصوفة بالوجود ،
كما هو رأي القائلين بشيئية المعدوم ، ولا يتعلق ذلك بموصوفيّة الماهيّة بالوجود ،
لأنّ ذلك أمر إضافي يحصل بعد اتّصافها به. والمراد من تأثير المؤثّر هو ضم
الماهيّة إلى الوجود ، ولا يلزم من ذلك محال .
وفيه نظر ، لعود
البحث في الضم وجعل الماهيّة موصوفة بالوجود ، وغير ذلك من العبارات ، فإنّ
المستند إلى الفاعل كيفما كان إمّا بسيط أو مركّب .
__________________
البحث الرابع : في الفرق بين الجزء وغيره
للجزء خواص ثلاثة
: إضافيتان وحقيقية هي : تقدّمه في الوجودين والعدمين ، لأنّ الماهية معلولة للأجزاء ،
والعلّة متقدّمة على المعلول ، وعدم العلّة متقدّم أيضا على عدم المعلول ، لكونه
علّة له. فالعشرة إنّما توجد إذا وجدت آحادها بأجمعها ، وعدم أيّ واحد كان منها
علّة في عدمها فكلّ واحد من الأجزاء علّة ناقصة في تحقّق العشرية ، وعدم
كلّ واحد علّة تامّة في عدمها.
والفرق ، أنّ
الوجود لمّا توقّف على تحقّق جميع الأجزاء توقّف المعلول على علّته ، وكان عدم
العلّة الناقصة ، علّة تامة في عدم المعلول ، لزم توقّف الوجود على الجميع والعدم
على عدم أيّ واحد كان. ولمّا وجب التطابق بين الصورة العقليّة والخارجية ـ وإلّا
لم تكن الصورة المعقولة صورة للخارجية ـ وكانت الأجزاء لذاتها متقدّمة في الوجود
الخارجي على الماهيّة ، وجب أن يكون في العقل أيضا كذلك ، فإنّه يستحيل تعقّل
الماهيّة مفصّلة ، إلّا بعد تعقّل جميع أجزائها ، إذ لو عقلت الحقيقة مفصّلة بدون
جزئها لم يكن ذلك جزءا لها ، بل وصفا خارجيا عنها.
والحاصل : أنّ
الماهيّة ليست إلّا مجموع تلك الأجزاء ، وحصول المجموع
__________________
متأخّر عن حصول
الأجزاء ، ولمّا كان التقدّم من لوازم الجزء لذاته ، وتعقّل الملزوم يستلزم تعقّل
اللازم القريب ، وجب أن يتصوّر الذهن تقدم الجزء ، فتصوّره متقدّم ، وتقدمه
متصوّر. أمّا لو عقلنا الماهيّة غير مفصّلة ، بل بحسب عوارضها ، لم
يجب تصوّر الجزء معها ولا تقدّم تصوّره ، لأنّ ذلك في الحقيقة ليس تصوّرا لتلك
الماهيّة بل لعارضها. فالأجزاء لكونها متقدمة في الوجود الذهني ، يلزمها كونها
بيّنة الثبوت للماهيّة ، أي لا تفتقر إلى وسط بينها وبين الماهيّة ، ولكونها
متقدّمة في الخارج تستغني عن السبب الجديد ، لأنّ تحقق الماهيّة إذا تأخر عن تلك
المفردات ، فمتى تحققت الحقيقة فقد كانت تلك المفردات متحققة أوّلا ، وحينئذ لا
يجوز استنادها إلى سبب آخر جديد ، لاستحالة تحصيل الحاصل. وكذا في الذهن ، لما
تأخر حصول الحقيقة فيه عن تصوّر المفردات ، استغنى عن السبب الجديد أيضا ، وهذا
الاستغناء الثاني هو المراد بالتبيّن. وخاصيّة التقدّم أخص من الخاصية التي هي الاستغناء عن السبب ، لأنّ
الأولى هو الحصول المتقدّم ، والثانية هي مطلق الحصول. فلهذا قالوا : «لا يلزم من
كون الوصف بيّن الثبوت للشيء وكونه غنيا عن السبب كونه ذاتيا».
لا يقال : لو
اقتضى عدم الجزء عدم الكلّ ، لزم اجتماع العلل الكثيرة على المعلول الشخصي ، أو
الترجيح من غير مرجح ، والتالي باطل بما يأتي ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه لو عدمت الأجزاء دفعة ، فإمّا أن يستند عدم الماهيّة إلى
__________________
عدم كلّ جزء ويلزم
الأوّل ، أو إلى أحدها وهو ترجيح من غير مرجح.
وأيضا ، لو كان
كذلك لزم إمّا تحصيل الحاصل ، أو تخلف المعلول عن علّته التامة ، والتالي بقسميه
باطل ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه لو عدم جزء ، ثم عدم بعده آخر ، فالعدم الثاني إن اقتضى عدم الماهيّة ، وقد
كان حاصلا بالعدم الأوّل لزم الأوّل ، وإن لم يقتض ، مع أنّه علّة تامة لزم
الثاني.
لأنّا
نجيب عن «أ» من وجوه :
الأوّل
: عدم الماهيّة
يستند إلى أسبق الأجزاء عدما ، ولا يلزم تعدد العلل.
الثاني
: عدم الماهيّة
يستند إلى عدم أي جزء اتفق ، أي عدم أحد الأجزاء لا بعينه ، فإذن عدم المعيّن
اقتضى عدم المركب لا من حيث إنّه معيّن ، بل من حيث اشتماله على أحد الأجزاء مطلقا
.
الثالث
: لا نسلّم أنّ
المعلول هنا شخصي ، حتى يستحيل تعدد علله.
وبيانه : أنّ
العدم غير متشخص في نفسه ، ولا متميز عن غيره ، وإنّما يتمايز أفراده باعتبار
ملكاته تمايزا غير حقيقي ، بل باعتبار إضافته إلى ملكته. ثمّ عدم الماهيّة بعدم
جزء من أجزائها ، مغاير لعدمها بعدم جزء آخر مغاير له ، أو بعدم جزءين ، أو بعدم
جميع الأجزاء.
وعن ب : بأنّا نختار القسم الثاني ، ونمنع كون الثاني علّة تامّة
لعدم الماهيّة ، لأنّه إنّما تكون علّة تامة لو كان جزءا للكلّ ونمنع كونه جزءا
للكلّ بعد عدم
__________________
الأوّل ، إذ بعدم
الأوّل يعدم الكلّ ، والجزء مضاف إلى الكلّ وإذا عدم أحد المضافين عدمت الإضافة ،
فيلزم عدم الجزئية عن الثاني ، فتنتفي الخاصّية عنه.
أو نقول : لم لا
يجوز أن يكون علّة لا مطلقا؟ بل بشرط وجود الأوّل ، فإذا انتفى الأوّل انتفى شرط
عليّة العدم الثاني.
أو نقول : لم لا
يجوز أن يكون عدم الأوّل مانعا للثاني عن تأثير عدمه في عدم الماهيّة؟ فهذا تحقيق
الخاصّة المطلقة للجزء.
وأمّا الإضافيّتان
: فإحداهما : أنّه لا يعلّل بعلّة مغايرة لعلّة الكلّ ، فإنّ السواد هو لون لذاته
لا لشيء آخر يجعله لونا ، فإنّ ما جعله سوادا جعله لونا.
والثانية : أنّ
الجزء يمتنع رفعه عمّا هو ذاتي له وجودا وتوهّما.
وإنّما كانتا
إضافيّتين لمشاركة بعض اللوازم العرضيّة فيهما ، فإنّ الاثنين لا يحتاج في اتّصافه
بالزوجيّة إلى علّة غير ذاته. ولا يمكن رفع الزوجيّة عنه وجودا وتوهما ، إلّا أنّ
الجزء يلحق المركّب قبل ذاته ، فإنّه من علل ماهيّته ، والعرضي اللازم يلحقه بعد
ذاته ، فإنّه من معلولاته. وأمّا غير الجزء ، فإنّه لا يوجد له صفة التقدم في
الوجودين والعدمين سواء كان لازما أو لا.
البحث الخامس : في الفرق بين التركيب الذهني والخارجي
أجزاء الماهيّة
إمّا أن تكون محمولة عليها حمل المواطاة أو لا.
والأوّل ، إنّما
تكون أجزاء في الذهن لا غير ، كتركّب السواد من جنسه الذي
__________________
هو اللون ومن فصله
الذي هو قابضيّة البصر ، فإنّ السواد لمّا شارك البياض في اللونيّة وامتاز عنها
بالقابضيّة ، جزم العقل بالفرق بينهما ، لقضاء الضرورة بأنّ جهة الاشتراك مغايرة
لجهة الامتياز. وإنّما كان هذا التركيب ذهنيا لامتناع وجود لونية مطلقة في الخارج ، وقابضيّة تنضم إليها
تحصل منهما هيئة السواد ، لأنّهما إمّا محسوستان أو لا.
فإن كانتا
محسوستين ، فإن ماثلا السواد امتنع تقوّمه بهما. وإن خالفاه كان لونا مخصوصا مخالفا للسواد في
خصوصيته ، فيكون نوعا آخر من اللون المطلق ، ولا يكون هو اللونيّة المطلقة ، لأنّ
اللونيّة المطلقة إذا كانت محسوسة فإذا انضافت القابضيّة إليها ، فإمّا أن تحدث هيئة أخرى مخصوصة أو لا. فإن لم
تحدث كان المحسوس هو اللونية المطلقة و (وطبيعة الجنس هي) طبيعة النوع ، وإن حدثت هناك هيئة أخرى ، لم يكن إحساسنا
بالسواد إحساسا بهيئة واحدة ، بل بهيئتين ، وهو محال.
وإن لم تكونا
محسوستين فعند اجتماعهما إمّا أن تحدث هيئة محسوسة أو لا. فإن لم تحدث لم يكن
السواد محسوسا. وإن حدثت هيئة محسوسة ، فتلك الهيئة المحسوسة معلولة لاجتماع
اللونية والقابضيّة وهي خارجة عنهما مغايرة لهما. ولا نعني بالسواد إلّا نفس تلك
الماهيّة المحسوسة ، فتكون اللونيّة والقابضيّة خارجتين لا مقومتين ، فثبت امتناع
تميّز أحد جزئي السواد عن صاحبه ، بل ذلك التميّز إنّما يكون في الذهن وفي نفس
الأمر ، إذ لو لا تميّز الجنس عن الفصل في نفس الأمر
__________________
وتغايرهما ، لكان
الذهن قد حكم بالتركيب فيما لا تركيب فيه ، وهو جهل.
فاللونيّة
والقابضيّة متغايران في الحقيقة والوجود الذهني لا في الوجود الخارجي ، فكلّ واحد
منهما لا يتميّز عن الآخر في الخارج ، بخلاف التركيب الخارجي ، فإنّ كلّ واحد من
أجزائه موجود متميّز بنفسه عن صاحبه لا يبطل ببطلانه.
لا يقال : الفصل
علّة الجنس ، فله تقدم واستقلال حين يفيد الوجود لغيره.
لأنّا نقول : هذا
أمر يعتبره العقل لا في الخارج.
لا يقال : ما به
الاشتراك غير ما به الامتياز ، لأنّ الذي به الاشتراك هو اللونية ، والذي به
الامتياز هو القابضيّة ، ومفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر ، فلا يتقدّم أحدهما على الآخر
في الوجود ، لأنّه إمّا أن لا يكون كلّ واحدة من الماهيتين غنيّة عن الأخرى فيدور. أو
يكون أحدهما محتاجا ، فيكون المشترك متقدما حتّى يلحقه التميّز ، فيستدعي وجودا
متقدّما ووجودا لاحقا.
لأنّا نقول :
التقدّم ليس بالوجود ، فإنّ أجزاء الماهيّة متقدمة على الماهيّة لا بالوجود.
لا يقال : إذا
حملنا الحيوان على الإنسان ، فإن أردنا اتّحادهما في المفهوم ، لزم الكذب ، وانتفت
فائدة الحمل ، ورجع إلى صدق الألفاظ المترادفة بعضها على بعض. وإن أردنا اتّصاف
ماهيّة الإنسان بالحيوان ، لزم الكذب ؛ لأنّ الحيوان لمّا كان مقوّما امتنع أن
يكون صفة ، لتقدّم الجزء وتأخّر الصفة.
لأنّا نقول : معنى
«الإنسان هو الحيوان» أنّ الحيوان والإنسان وإن تغايرا في
__________________
الماهيّة ، لكنّهما
متّحدان في الوجود ، أمّا التغاير فظاهر ، وأمّا الاتّحاد فلأنّه لا وجود لحيوان
مطلق ما لم يتقيّد بقيد سلبيّ أو وجودي ، كالناطق واللاناطق ، وإذا استحال عروض
الوجود إلّا للمركّب ثبت الاتّحاد في الخارج.
قيل : لا يجوز
عروض الوجود الواحد لماهيّتين وإلّا لجاز قيام العرض الواحد بمحلّين وحصول الجسم
في مكانين ، مع أنّ القيد السلبي لا يجوز أن يكون جزءا من ماهية القابل للوصف
الوجودي ، فيستحيل أن يقبل الحيوان اللاناطق الوجود.
والتحقيق : أنّ
معنى الحمل : الصدق ، والامتناع في صدق الجزء على الكلّ لا من حيث إنّه جزء ، بل
معروض الجزئية.
البحث السادس : في التشخّص
كلّ ماهيّة معقولة
، فإنّ نفس تصوّرها لا يمنع من حملها على كثيرين. ومن ادّعى حملها على كثيرين
موجودين طولب بالبرهان من غير تناقض. ومن ادّعى حصرها في شخص واحد لم تكن دعواه
ضروريّة ، بل يطالب بالبرهان.
وأمّا الشخص
المعيّن ، فإنّ نفس تصوّره يمنع من وقوع الشركة فيه. ولا يحتاج في العلم بفساد من
ادّعى صدقه على كثيرين ، ولا في العلم بصحّة من ادّعى حصره ، إلى برهان. فبالضرورة
قد انضم إلى الحقيقة من حيث هي هي أمرا زائدا عليها ، فماهية الشخص هي ماهيّة النوع منضمّا إليها شيء
آخر.
بقي هنا بيان أنّ
ذلك المنضم الذي حصل به التعيّن والتشخّص
__________________
أمر ثبوتي ، فنقول : اختلف الناس في ذلك ، فذهب الأوائل إليه ،
وأنكره المتكلّمون.
احتج الأوائل
بوجهين :
أ
: تعيّن الشيء
وخصوصيته نفس هويّته ، والشخص من حيث هو هو ثابت ، والهويّة جزء منه وجزء الثابت
ثابت فالتعيّن ثابت.
ب
: لو كان التعيّن
عدميّا ، فإمّا أن يكون عبارة عن اللالاتعيّن مطلقا أو عن لا تعيّن غيره ، والأوّل محال ، لأنّ
اللاتعيّن مطلقا عدميّ ، فعدمه عدم العدم فيكون ثبوتيا. والثاني ، إن كان تعيّن
غيره عدميا كان هو ثبوتيا ، لكنّ تعيّنه كتعيّن غيره ، فتعيّن غيره أيضا ثابت ،
وإن كان تعيّن غيره ثبوتيا كان هو ثابتا لأنّه كهو.
احتج المنكرون
بوجوه :
الأوّل
: لو كان التعيّن
ثبوتيا زائدا على الماهية ، لكان له ماهيّة نوعيّة مقولة على أشخاص التعيّنات ،
لاشتراك جميع التعيّنات في الماهيّة المسمّاة بالتعيّن ، وحينئذ يمتاز كلّ واحد
منها عن صاحبه بخصوصيّة ، فتكون شخصيّة كلّ نوع زائدة على ماهيته ، فيلزم التسلسل
، وبهذا سقط قول من قال : التعيّن يتعيّن لذاته.
الثاني
: اختصاص ذلك الزائد
بذلك المتعيّن دون غيره ، إنّما يكون بعد
__________________
امتياز ذلك
المتعيّن عن غيره وإلّا لم يكن اختصاصه به أولى من اختصاصه بغيره ، أو اختصاص غيره
به ، فيجب أن يكون اختصاص ذلك التعيّن بذلك المتعيّن بعد تعيّنه ، فهو متعيّن قبل أن يكون متعينا
، هذا خلف.
الثالث
: تشخّص الشخص الذي
له ما يشاركه في نوعه إن كان أمرا زائدا ، فله علّة غير الماهية ، وإلّا انحصر
نوعها في شخصها. وليست العلّة الفاعليّة ، لأنّ الفاعل ليس له إلّا الإيجاد ،
وإيجاده له لا يقتضي أن يكون الحاصل هو ذلك بعينه ، ولا الصوريّة لتأخّر وجودها عن
محلّها ، فلا تكون علّة لهويّته ولإيجاد الصورة في جميع أفراد النوع ، ولا الغائية
لتأخّر وجودها عن وجود الشيء ، ولا القابليّة ، لأنّ الكلام في تعيّن ذلك القابل
كالكلام في تعيّن ذلك الشيء ، فإن كان لتعيّنه دار ، وإن كان لتعيّن قابل آخر
تسلسل. وإن كان لذاته ، فنوع كلّ قابل منحصر في شخصه ، وهو محال ، لاشتراك الأجسام
في الجسميّة ، فإمّا أن لا يكون لها ما يقبلها ، فيلزم وجود أمور متّحدة في
الحقيقة تشخّصت لا بسبب القابل ، وإن كان فتلك القوابل إن اشتركت في الماهيّة عاد الإلزام. وإن
اختلفت كانت قوابل الأجزاء المفروضة في الجسميّة متمايزة بالفعل ، لكنّها غير
متناهية ، فالقوابل المتمايزة بالفعل غير متناهية ، فالجسميّة الحالّة في كلّ واحد
، مغايرة للتي في غيره ، فالجسم مركّب من أجزاء غير متناهية . ولا يمكن أن تكون ماهية كلّ من القابل والمقبول علّة
لتعيّن الأخرى ، وإلّا لاستحال أن تحلّ في القابل الواحد إلّا حال واحد وهو محال .
الرابع
: لو كان التعيّن
ثبوتيا لكان الموجود الواحد موجودين لا واحدا ،
__________________
هذا خلف ، لأنّ
الماهيّة التي انضاف إليها التعيّن إن كانت موجودة لزم كون الواحد اثنين. ولو سلّم
إمكانه ، لكنّ الكلام في كلّ واحد منهما كالكلام في الآخر ، ويكون كلّ واحد منهما
موجودا ، فكلّ شيء أشياء غير متناهية وهو محال. وبتقدير تسليمه فلا بدّ من الواحد
، لأنّ الكثرة إنّما تتحقق مع الواحد. وإن لم تكن الماهيّة موجودة ، كان التعيّن
الموجود منضما إلى الماهيّة المعدومة وحالّا فيها ، وهو محال.
الخامس
: لو كان التعيّن
ثبوتيا استحال انضمامه إلى الماهيّة إلّا بعد وجودها ، لكن الماهيّة لا توجد إلّا
بعد التعيّن ، فإن كان بهذا التعيّن لزم أن يكون الشيء شرطا في نفسه وهو محال. وإن كان بغيره لزم تعدّد التعيّنات
، فكان الشيء الواحد متعينا مرّتين ، وهو محال.
والجواب
عن الأوّل :
أنّ التعيّن إن
كان له مفهوم زائد وراء المفهوم من المتعينية ، اقتضى أن يكون مفهوم المتعينيّة مقارنا لمفهوم آخر.
وإلّا فيكون التعيّن متعيّنا لذاته ، ويكون تعيّنه نفس تعيّن ذاته لا زائدا ، ولا يلزم التسلسل.
وفيه نظر ، فإنّ
النزاع وقع في أنّ التعيّن هل هو زائد على الماهية أم لا؟ لا في أنّه زائد على
المتعينية أم لا؟ والتسلسل لازم أيضا على التقدير الأوّل.
والتحقيق أن نقول
: إمّا أن يكون النزاع في التعيّن أو فيما به التعيّن. والأوّل أمر اعتباري «هو
كون الماهيّة بحيث يمنع نفس تصوّرها من وقوع الشركة». وأمّا الثاني ، فلا يلزم من
زيادته اشتراكه مع غيره ، إلّا في وصف اعتباري ، وهو صدور
__________________
التعيّن عنه ، ولا
ينافي زيادته واختلافه في الحقيقة اشتراك ما انضم إليه في الماهيّة.
وأجاب أفضل
المحقّقين في شرح الإشارات : بأنّ تعيّنات الأشخاص من حيث تعلّقها بالمتعيّنات لا تشترك في شيء ، ومن حيث تشترك في شيء ، فليست بتعيّنات.
والتحقيق ما
بيّناه.
وعن
الثاني : بأنّ كلّ ما لا
يكون تعيّنه معلول ماهيّته ، حتّى يكون نوعه في شخصه ، فلا بدّ له من مادة ، ومادته
لا بدّ وأن تكون متخصّصة بأعراض شخصيّة ، ويكون تشخّص المادّة بتلك الأعراض علّة
لتشخّص ذلك الحادث ؛ ومن الممتنع أن يقترن بتلك المادة في ذلك الوقت فرد آخر من
ذلك النوع حتّى يلزم الإشكال. ولا نقول أيضا : بأنّ ذلك الشيء يوجد ويوجد التعيّن
، وبعد حصولهما يتقارنان ، بل حصول الشيء في تلك المادّة المخصوصة هو تعيّنه .
وفيه نظر ؛ لأنّا
نمنع المادة على ما يأتي. سلّمنا لكنّ تلك الأعراض إذا كانت متشخصة كان البحث فيها
كالبحث في الماهيّات ، وكان توسط المادة عبثا وجاز تشخص الماهيّات بذاتها.
وأجاب أفضل
المحقّقين : بأنّ الطبائع تتعيّن بالفصول كالأنواع المركّبة من الأجناس والفصول ،
أو بأنفسها كالأنواع البسيطة. ثمّ هي من حيث كونها طبيعة تصلح لأن تكون عامّة
عقلية ، ولأن تكون خاصّة شخصية ، فكما بانضياف
__________________
معنى العموم إليها
تصير عامّة ، كذلك بانضياف التعيّنات إليها تصير أشخاصا ، ولا تحتاج إلى تعيّن
آخر. ولو كان التعيّن بالفرض أمرا سلبيا ، لما كان عدم الشيء مطلقا ، بل كان شيئا عدميا ، وأمثال هذه الأعدام تصلح لأن تصير
فصولا ، فضلا عن أن تكون عوارض.
وعن
الثالث : بأنّ تشخص
الماهيّة باعتبار أعراض متشخصة بذاتها مستندة إلى الفاعل.
وعن
الرابع : أنّ الماهيّة ،
إنّما توصف بالوجود بعد اتّصافها بالتعيّن ، وكما أنّ الماهيّة المغايرة للوجود لا
توصف بالوجود من حيث هي مغايرة للوجود ، كذلك التعيّن لا يوصف بالوجود من حيث هو
تعيّن . والماهيّة المتعيّنة موجود واحد.
وفيه نظر ؛ فإنّا
نسلّم أنّ الماهيّة ، إنّما توصف بالوجود بعد اتّصافها بالتعيّن ، لكنّ ذلك لا
يدفع الكثرة ، فإنّ المعترض قال : إذا كان التعيّن مغايرا للماهية ، فالوجود
القائم بأحدهما ليس هو الوجود القائم بالآخر ، لاستحالة قيام الصفة بمحلّين ، فلا
يكون الواحد واحدا بل اثنين وهكذا.
بل الوجه في
الجواب أن نقول : لا نعني بالوجود الواحد إلّا الماهيّة المتّصفة في الوجود
بالوحدة وذلك وإن أوجب كثرة باعتبار الماهيّة والوحدة ، لكنّها واحدة لا بهذا
الاعتبار الموجب لكثرتها.
قوله : «لو تكثر
لزم التسلسل». قلنا : ممنوع ، وإنّما يلزم التسلسل لو احتاجت الماهيّة إلى تعيّن
آخر غير ما فرض ثبوته له ، واحتاج التعيّن إلى تعيّن
__________________
آخر وهو ممنوع ،
فإنّ الماهيّة تعيّنت بذلك التعيّن والتعيّن متعيّن بذاته ، فانقطع التسلسل.
وعن
الخامس : بالمنع من أنّ الماهيّة
لا ينضم إليها التعيّن إلّا إذا كانت موجودة ، بل الحقّ العكس ، وهو أنّ الماهيّة
لا توجد إلّا بعد انضمام التعيّن إليها ، فتوجد متعيّنة بتعيّن سابق على وجودها ،
ولا يلزم الدور ، ولا تعدّد التعيّن.
واعلم : أنّه فرق
بين المشخّص والمميّز ، فإنّ الفصول مميزات للأنواع من الأجناس ، وكذلك
العوارض مميّزات أصناف الأنواع ، وليست مشخصة لعدم خروجها بالتميّز عن الكلّية ، واحتياجها بعده إلى ما
هو أشدّ تخصّصا حتّى ينتهي إلى التشخّص.
البحث السابع : في كيفيّة تشخّص الماهيّة
إن تشخّصت لذاتها
كان نوعها منحصرا في شخصها ، وامتنع تكثّرها حينئذ ، إذ لو وجد اثنان منها لزم
تخلّف المعلول عن علّته واختلاف لوازم الملزومات المتّفقة . وإن لم تقتض التشخّص لذاتها لم تقتض الكثرة ، وإلّا لم
يوجد الواحد منها ، فلم توجد الكثرة ، بل لا تقتضي شيئا منهما. وإنّما تتّصف
__________________
بأحدهما باعتبار
ما يعرض لها ، وتشخّص مثل هذه الماهيّة إنّما يكون إمّا بحلولها في مادة شخصيّة ـ تشخّصت إمّا بماهيّة هذا الحالّ ، أو
لشيء آخر ـ وإمّا باعتبار حلول أعراض متشخّصة لذاتها فيها ، أو لإضافات فقط من غير
أن يكون معنى في الذات كتشخص البسائط والأعراض ، فإن تشخّصها يكون لحصولها في
موادّها ومحالّها.
ولمّا كان
المتشخّص علّة في التشخّص ، وكان عدم العلّة علّة في عدم المعلول لزم من عدم
المشخّص عدم ذلك التشخّص وارتفاعه. وأمّا كلّ عارض للشخص من حيث هو ذلك الشخص ، وكلّ خاصة له لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشخص ، فإنّه
يكون عارضا بعد التشخّص ، لا من جملة مقوّمات التشخّص ، بل من المتقوّمات به.
واعلم : أنّ تقييد
الكلّي بالكلّي لا يقتضي التشخّص ، فإنّك إذا عبّرت عن زيد بأنّه «الإنسان العالم»
لم يحصل التشخّص المانع من الشركة ، بل بقى احتمال التعدّد كما كان ، فإن زدت وقلت
: إنّه «الطويل الزاهد الأبيض ابن فلان الذي تكلّم يوم كذا في موضع كذا» ، لم يحصل
التشخّص أيضا ، لإمكان حمل من حصل فيه هذه الصفات على كثيرين.
وبالجملة فلا بدّ
في تشخّص ما يتكثّر أفراده من مشاركة الوضع.
__________________
الفصل الثاني :
في مباحث الجزء
البحث الأوّل : في أقسامه
قد عرفت خواص الجزء ، والفرق بينه وبين العارض. وعرفت أيضا أنّ التركيب قد يقع في الأمور الخارجية ، وقد يقع في
الأمور الذهنية. وكلّ مركّب في الخارج فإنّه مركّب في الذهن دون العكس. ولا بدّ في
كلّ مركّب من أجزاء ماديّة وجزء صوري ، سواء كان التركيب في الخارج أو في الذهن.
وهذه الأجزاء قد توجد بحيث لا يمكن أن تكون محمولة على المركّب منها ، ويسمّى
حينئذ مواد وأجزاء ، وقد يمكن أخذها بحيث يصحّ حملها ، لكن لا باعتبار كونها أجزاء فإنّ جزء الشيء يمتنع حمله على الكلّ
، فالحيوان إن أخذ منضما إلى الناطق كان هو الإنسان
__________________
بعينه ، ولم يكن
محمولا وإن أخذ بشرط التجرّد والخلو عن الناطق كان مادة للإنسان و جزءا منه ولم يكن أيضا محمولا ، وإن أخذ من حيث هو هو لا
بشرط شيء كان محمولا. وكلّ جزء محمول فهو إمّا جنس أو فصل ، لأنّ ذلك الجزء إن
اختص بتلك الماهيّة ولم يكن مشتركا بينها وبين غيرها فهو الفصل ، لاقتضائه تمييز
تلك الماهيّة عمّا يشاركها في جنس أو وجود ، وإن كان مشتركا ، فإن كان تمام
المشترك بينها وبين نوع ما كان جنسا ، وفيه منع. وإن لم يكن تمام المشترك ، بل
جزءا منه ، فإمّا أن يكون أعمّ منه ، أو مساويا ـ لامتناع كونه أخص ، فإنّ جزء
الماهيّة لا يمكن أن يكون أخصّ منها ، وإلّا لوجد المركّب بدون أجزائه ، فلا يكون
الجزء متقدّما ، هذا خلف ـ فإن كان مساويا كان فصلا لتمام المشترك ، فكان فصلا
مفيدا للماهية ، وإن كان أعمّ ، فإن كان تمام المشترك بين تمام المشترك
وبين ما غايره كان جنسا ، وقد فرض أنّه ليس كذلك ، هذا خلف. وإن لم يكن تمام
المشترك تسلسل ، وهو محال.
البحث الثاني : في تقسيم الجزء باعتبار آخر
قيل : أجزاء الماهيّة إمّا أن يكون بعضها أعمّ من البعض فتسمّى
متداخلة ، أو لا يكون فتسمّى متباينة. والمتداخلة إمّا أن يكون بعضها أعمّ من
الآخر مطلقا ، أو من وجه ، فإن كان مطلقا ، فإمّا أن يكون العام متقوّما بالخاص ،
__________________
أو بالعكس ،
والأوّل إمّا أن يكون العام موصوفا والخاص صفة ، فالعام هو الجنس والخاص هو الفصل
، أو يكون الخاص موصوفا بالعام كالموجود الصادق على المقولات العشر. وأمّا الذي
يكون الخاص متقوّما بالعام ، فهو كالنوع الأخير المقوّم لخواصّه التي لا توجد في
غيره.
والفرق بين انقسام
الجنس بالفصول وانقسام النوع بالخواص ـ بعد اشتراكهما في أنّ العام منهما موصوف
بالخاص ـ أنّ في الجنس ، العام متقوّم بالخاص ، وفي النوع بالعكس.
وأمّا الذي يكون
العموم فيه من وجه ، فهو كالحيوان والأبيض ، إذا ركّب منهما حقيقة.
وأمّا المتباينة ، فهو كتركيب الشيء باحدى علله أو معلولاته ، أو بما لا
يكون علّة ولا معلولا ، فالتركيب مع العلّة الفاعليّة كالعطاء ، فإنّه اسم لفائدة
مقرونة بالفاعل. ومع الماديّة ، كالأفطس إذا جعل اسما للتقعير الذي في الأنف ، ومع الصوريّة ،
كالأفطس إذا جعل اسما للأنف الذي فيه تقعير ، ومع الغائية ، كالخاتم ، فإنّه اسم
لحلقة مقرونة بغاية التجمّل في الإصبع. والتركيب مع المعلول كالخالق والرازق
وغيرهما.
والتركيب مع ما لا
يكون علّة ولا معلولا ، فإمّا أن يكون عن أمور بعضها عدميّ وبعضها وجوديّ «كالأوّل»
، فإنّه اسم لمجموع أمرين : ثبوتي هو كونه
__________________
مبدأ عدميّ هو
أنّه لا مبدأ له ، أو كلّها ثبوتيّة ، فإمّا أن تكون كلّها حقيقة متشابهة كتركّب
العدد من الوحدات ، أو مختلفة معقولة كتركّب الجسم من الهيولى والصورة ، والعدالة
من العفّة والحكمة ، والشجاعة من الإقدام والعقل. أو محسوسة كتركيب الخلقة من
اللون والشكل ، والبلقة من السواد والبياض.
وأمّا أن تكون
كلّها إضافية كالأقرب والأبعد ، فإنّهما دالّان على إضافات عارضة لاضافات. أو
بعضها حقيقية وبعضها إضافية ، كالسرير الذي يعتبر في تحقّق ماهيّته الأجزاء
الخشبية ، وهي موجودات حقيقيّة هي الأجزاء الماديّة ، والترتيب الذي هو الجزء
الصوري وهو أمر نسبي ، لا أنّه ماهيّة متأصّلة بنفسها.
واعلم : أنّ أكثر
هذه الأقسام لا باعتبار الأمر نفسه ، بل باعتبار عمل الذهن ، وأخذ العارض للشيء جزءا مع
ذلك الشيء.
البحث
الثالث :
في ما وجد من الأقسام المذكورة في الجواهر والأعراض
اعلم : أنّ الجوهر
الذي هو احدى المقولات العشر بسيط غير مركّب البتة ، وإلّا لم يكن جنسا عاليا. ثمّ
إنّ أنواعه يجب تركّبها ، وإلّا لم يكن جنسا.
وإذا وجب تركّبها
، فقد يتركّب بعض أنواعه من جنس وفصل عقليين ، كتركّب المفارقات كالعقول والنفوس
من أجناسها وفصولها ، فإنّ الجنس فيها لا يتميّز عن الفصل في الوجود الخارجي. وقد
يتركّب من جنس وفصل خارجيين ،
__________________
كالإنسان المركّب
من الحيوان والناطق. و [قد يتركب] من أجزاء متباينة لا يكون بعضها جنسا للبعض ، بل ولا يكون
محمولا عليه ، إمّا في العقل ، كتركّب الجسم من الهيولى والصورة. أو في الحس
كتركّب البدن من الأعضاء ، والبيت من السقف والجدار.
وكذلك العرض قد
يتركّب من أجزاء عقليّة ، كما بيّنا في السواد من تركّبه من اللون والقابضيّة
اللذين لا يتميّزان إلّا في العقل. وقد يتركّب من أجزاء خارجيّة كتركّب المثلث ،
فإنّه سطح تحيط به ثلاثة أضلع ، فالسطح جنس والأضلع الثلاثة أو احاطتها بالسطح
فصله. ولكلّ واحد من هذا الجنس والفصل وجود يتميّز به في الخارج عن الآخر. وقد
يتألف من أجزاء متباينة كتألّف العدد من الوحدات ، والخلقة من اللون والشكل.
البحث الرابع :
في طريق معرفة تركّب الماهيّة من الجنس والفصل
قد عرفت في ما
تقدّم خاصّة الجزء المطلقة ، وهي السبق في الوجودين والعدمين ، فإذا فرض حقيقتان
اشتركتا من وجه ، واختلفتا من آخر ، ووجدت تلك الخاصة في المشترك والمميّز حكمنا
بأنّهما جزءان ، لكلّ واحدة من الحقيقتين وقضى العقل بأنّ جهة الاشتراك مغايرة
لجهة الامتياز ، فكمال الجزء المشترك هو الجنس ، وكمال الجزء المميّز هو الفصل.
واعلم : أنّه ليس
مجرد اشتراك الحقيقتين في وصف ، واختلافهما في آخر
__________________
موجبا لتركّبهما
من المشترك والمميّز ، فإنّ البسائط قد تشترك في أوصاف سلبيّة وثبوتيّة ، وتختلف
بصفات أخر سلبيّة وثبوتيّة ، فإنّ كلّ بسيطين فرضا يشتركان في سلب ما عداهما عنهما
، ويمتاز كلّ واحد عن صاحبه بنفس حقيقته ، ولا يقتضي ذلك التركيب ، وإلّا لخرج عن
كونه بسيطا ، وكلّ بسيط يفرض ، فإنّه يشارك جميع البسائط في الوجود والشيئيّة
والمعلوميّة وغيرها من الأوصاف العامّة ، وهي متمايزة بالضرورة ، ولا يلزم تركّبها
من الوصف الثبوتي المشترك والمميّز ، وإلّا لم تكن بسائط. وكلّ مركّب ، فإنّ
البسيط منه يشاركه في صدقه عليه ، ويمتاز عنه البسيط بسلب الآخر عنه ، ولا يقتضي
ذلك التركيب ، فإنّ الإنسان يشارك الحيوان في صدق الحيوانية عليهما ، وثبوت
الطبيعة الحيوانيّة لهما ، لكنّ الحيوان لا يمتاز عن الإنسان إلّا بقيد سلبي ، وهو
: أنّ الحيوان ليس له إلّا الحيوانيّة ، وللإنسان أمر آخر وراء الحيوانيّة. فإذن
الاشتراك والامتياز في الأوصاف الثبوتيّة أو السلبيّة لا توجب التركيب.
نعم إذا وجدنا
ماهيتين اشتركتا في بعض مقوّماتهما ، واختلفتا في مقوّمات أخر ، علمنا قطعا تركّب
الحقيقة من الجنس الذي هو تمام المشترك ، ومن الفصل الذي هو تمام المميّز. ولا
يكفي في ذلك مطلق الاشتراك والامتياز.
فإذا قيل : لمّا
ثبت كون الوجود زائدا على الماهيّة باعتبار أنّ الماهيّات قد اشتركت فيه ، وامتازت
بأمور أخر ، وقضت الضرورة بأنّ ما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز ، أمكن أن
يقال : الثبوت مشارك للماهيّات الثابتة في أصل الثبوت ، وممتاز عنها في الحقيقة ،
فيلزم أن يكون للوجود وجود آخر.
قلنا : الاشتراك
وإن كان في وصف ثبوتي ، وهو مطلق الثبوت ، إلّا أنّ الامتياز بقيد سلبي ، لأنّ
الثبوت يتميّز عن الماهيّات الثابتة بأنّ الثبوت ليس له إلّا مفهوم الثابتيّة ،
والماهيّات الثابتة لها أمور أخر وراء ذلك المفهوم ، فلا يلزم أن يكون
للثبوت ثبوت آخر.
ولو قيل : البسائط
مشتركة في الوجود وممتازة في حقائقها ، فيلزم التركيب.
قلنا : الاشتراك
وقع في وصف خارجي ثبوتي لا في وصف مقوّم.
ولو قيل : أفراد
النوع متمايز بعضها عن بعض مع كونها مشتركة في الماهيّة. فيلزم الكثرة.
قلنا : الامتياز
وقع في أوصاف خارجيّة.
البحث الخامس :
في الفرق بين الطبيعة الجنسيّة والطبيعيّة النوعيّة
إذا أخذ الجسم لا
بشرط شيء ، وهو الجسم المأخوذ بمعنى الجنس ، كان كالمجهول ، فلا ندري على أيّ صورة
هو ، وكم صورة يشتمل. فتكون النفس طالبة لحصول ذلك ، إذ لم يقدّر بعد عند النفس شيء هو جسم محصّل.
وكذا إذا أخطرنا
اللون بالبال ولم نضمّ إليه قيدا آخر. فإنّ النفس لا تقنع بتحصيل شيء غير متصوّر
بالفعل ، بل تطلب في معنى اللون زيادة حتّى يتقرّر بالفعل لونا. وكذا المقدار
المطلق لا تتصوّر النفس منه معنى تامّا حتّى يتخصّص بكونه خطا أو سطحا أو جسما ،
فإذا تصوّرت كونه خطا فقد يكمل عندها معنى المقدار ، وإن لم تتصوّره مستقيما أو
منحنيا. فالطبيعة الجنسية تطلب النفس فيها
__________________
تحصيل معناها
بانضمام بعض الفصول إليها.
وأمّا طبيعية
النوع فليس تطلب فيها تحصيل معناها ، بل تحصيل الإشارة إليها. وإذا طلبت النفس
تحصيل الإشارة في طبيعة الجنس ، كانت قد فعلت الواجب ، فإنّ ذلك الجنس لا بدّ وأن
يشار إليه آخر الأمر ، ولكنّها مع ذلك تكون طالبة لتحصيل ماهيتها قبل طلبها
للإشارة ، فإنّ النفس لا يمكنها أن تجعل اللون مشارا إليه إلّا بعد أن تضيف إليه
أمورا أخر تنوّع لونيّته وتحصّل ماهيّة تلك الأنواع. وكذلك القول في المقدار ، وفي
الكيفيّة.
وأمّا النوع ،
فإنّ العقل لا يطلب تكميل معناه بضمّ شيء آخر إليه ، بل يطلب الإشارة إليه ، وذلك
هو طلب الشخصيّة .
البحث السادس : في التناسب بين الحدّ والمحدود
الحدّ : «قول دالّ
على تفصيل ما دلّ عليه الاسم بالإجمال» فإذا قلنا : إنسان ، فقد أشرنا بهذا الاسم
إلى حقيقة الإنسان وماهيّته ، من غير التعرّض لذكر شيء من أجزائها ، فإذا حدّدناه
بأنّه «الحيوان الناطق» ، فقد فصّلنا معنى الإنسان بذكر هذين الجزءين.
واعلم : أنّا إذا
قلنا : للإنسان أنّه «حيوان ناطق» فإنّه في الظاهر يفهم منه تركّبه منهما ، وذلك
شيء يقال على سبيل التفهيم والتعليم ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فإنّه ليس الإنسان
مجموع الحيوان والناطق ، وليس في الخارج شيء هو
__________________
الحيوان المطلق
والناطق وانضمّ أحدهما إلى الآخر حتّى تحصّلت حقيقة الإنسان ، بل المراد من أنّه «حيوان
ناطق» أنّه الحيوان الذي ذلك الحيوان ناطق ؛ فإنّ الناطق داخل في الحيوان ومضمر
فيه ، فإنّ الحيوان لا بشرط شيء ، إنّما يحصل ويتمّ لو شرط فيه ثبوت أحد فصوله ،
إمّا الناطق أو عدمه ، فإذا قيّد بالناطق يحصل بعد ذلك ، وتحقق له ماهيّة مستقلة
تامّة في التعقّل ، ولا يمكن سبق وجود الحيوان قبل انضمام الناطق أو غيره من
الفصول إليه ، ثمّ ينضمّ إليه أحدها ، وإلّا لكان عارضا له لا مقوما.
وكذا المقدار ،
فإنّه في نفسه يمكن أن يكون خطا أو سطحا أو جسما ، وإنّما يتحصّل مفهوميته بأحدها لا مطلقا ،
ولا على أن ينضمّ إليه أحدها ، بل الخط هو نفس المقدار الذي لا عرض له ولا عمق ،
لأنّ معنى المقدار هو شيء يحتمل المساواة من حيث هو هو لا بشرط شيء آخر ، والمقدار
بهذا المعنى يمكن أن يكون نفسه خطا ، ويمكن أن يكون سطحا ، فإذا فرضناه خطا لم يكن
هناك موجودان متغايران انضمّ أحدهما إلى الآخر حتّى حصل الخط ، بل هو موجود واحد.
وفرق بين هذا ،
وبين أخذ المقدار بشرط أن لا يؤخذ معه غيره ، فإنّه بهذا الاعتبار يكون فصل الخط
خارجا عنه عارضا له ، ويحتاج العقل في كون ذلك المقدار خطا إلى ضمّ
الفصل إليه ،
فلهذا كان المقدار بهذا الاعتبار مادّة ، وكان فصل الخط صورة ، وكانا معا جزءين من
الخط لا يتضمّن أحدهما الآخر ، ويمتنع حملهما على الخط بخلاف الاعتبار الأوّل.
فهكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع.
__________________
البحث السابع : في النسبة بين الجنس والفصل
اعلم : أنّ كلّ
واحد منهما يناسب صاحبه في كونهما جزئي النوع على المعنى الذي قرّرناه في البحث
السابق.
والفصل مقسّم
للجنس على معنى : أنّ الطبيعة الجسميّة باعتبار ضمّ الفصل إليها تصير خاصّة مباينة
في التحصيل للحصّة الأخرى المنضمّة إلى الفصل الآخر. وبهذا الاعتبار يمتنع أن يكون
الفصل لازما للطبيعة الجنسيّة ، وإلّا لوجد في جميع صور وجودها فلا يكون مقسّما
لها ولا أخص ولا يحدث بسبب انضمامه إلى الطبيعة تخصيص لبعض أفرادها عن البعض.
وقد زعم بعض من لا
مزيد تحقيق له : أنّ الجنس لا يجب أن يكون لازما للفصل. وتمسّك بأنّ النطق الذي هو
مبدأ فصل الإنسان مشترك بين الإنسان والملك ، مع أنّ الملك ليس بحيوان ، لأنّ
النطق هو «القوّة على إدراك المعلومات» وهو معنى مشترك بين الإنسان والملك ،
والحيوان مشترك بين الإنسان والفرس ، فإذا اعتبرنا حال الإنسان مع الفرس ، كان
الحيوان جنسا والناطق فصلا. وإذا اعتبرنا حال الإنسان مع الملك ، كان الناطق جنسا
والحيوان فصلا ، فجوّز انقلاب كل من الجنس والفصل إلى الآخر.
والجواب : ليس فصل
الإنسان عبارة عن النطق الذي هو «القوّة على إدراك
__________________
المعلومات» ، بل ذلك لازم للفصل الذي هو الجوهر القوي على هذه الأحوال
، وهو عبارة عن «النفس الناطقة» في الإنسان ، وعن النفس الملكيّة في الملائكة. والنفوس
البشريّة مخالفة بالحقيقة للنفوس السماويّة.
واعلم : أنّ الجنس
لا يجوز أن يكون داخلا في طبيعة الفصل ، لأنّ الجنس عبارة عن كمال الذاتي المشترك
، والفصل عن كمال الجزء المميّز ، وصريح العقل حاكم بالتغاير بينهما.
قيل : إنّما يتمّ ذلك لو جعلنا الجوهريّة مقولة على ما تحتها
قول اللوازم والعوارض ، لا قول الأجناس والمقوّمات ، لأنّه لو كان الجوهر جنسا
لوجب أن تتمايز أفراده بفصول مقوّمة له ، لكن مقوّم الجوهر يجب أن يكون جوهرا ،
فتكون الفصول جواهر ، فيدخل الجنس في طبيعة الفصل. فظهر أنّه إنّما يتمّ هذا
لو جعلنا الجوهر لازما لا مقوّما.
وفيه نظر ، فإنّه
لا يلزم من جوهرية الفصل أن يكون الجوهر جزءا منه وجنسا له ، لجواز صدق الجوهر
عليه صدق اللازم على ملزومه ، ولا يلزم من جنسيّة الجوهر كونه جنسا لجميع ما يقال
عليه ، بل ذلك ممتنع ، فإنّ الأجناس تصدق على فصولها ويمتنع أن تكون أجناسا لها.
قيل : الفصل علّة للحصّة من الجنس ، لأنّ أجزاء الماهيّة لا
بدّ وأن يكون بعضها علّة لوجود البعض ، لامتناع الاستغناء مطلقا ، ولا يجوز أن
تكون العلّة الجنس ، وإلّا لوجد الفصل أينما وجد الجنس ، هذا خلف. فوجب أن تكون
العلّة الفصل.
__________________
وهذا الدليل ليس
بشيء ، لأنّ المطلوب إن كان هو أنّ الفصل علّة تامّة ، لم يلزم من نفيها الاستغناء
، لجواز كونه جزء العلّة ، وذلك كاف في الحاجة المشترطة في التركيب. وإن كان هو
كون الفصل علّة بوجه ما ، جاز أن تكون العلّة هو الجنس ، ولا يلزم وجود الفصل في
جميع موارده كغيره من العلل الناقصة ، بل الوجه في العلّية : أنّا قد بيّنا أنّ
الجنس أمر مبهم في نفسه ، غير متحصّل في ذاته ، وإنّما يتعيّن ويتحصّل ماهيّته
بالفصل ، كما قلنا في المقدار ، فإنّه لا يمكن تحصّل مقدار مطلق ، بل إنّما يتحصّل
لو كان خطا أو سطحا أو جسما.
فالوجود ينال
الأنواع أوّلا حيث تضمّنت الأجناس [و] الفصول ، ثم يعرض الأجناس متحقّقة بعدها. وإذا امتنع
تحصّله إلّا منضمّا إلى الفصل كان وجوده متوقّفا عليه ، فلهذا كان علّة ، إذ ليس معنى العلّية إلّا توقف الوجود على الوجود. فثبت أنّ للفصل بالنسبة إلى
الجنس خاصّتين. إحداهما : تقسيم الطبيعة الجنسيّة. والثانية : تقويم الحصّة التي
للنوع منها ، أي تكون علّة لوجودها . وله ثالثة بالنسبة إلى النوع وهي التقويم بمعنى كونه علّة
لحقيقته. وتقسيمه للجنس قبل تقويمه للنوع ، لأنّ تحصيل الجزء سابق على تحصيل
الكلّ.
لا يقال : الناطق
إن كان علّة لمطلق الجنس لم يكن مقسّما له ، وإن كان علّة للحصّة المخصوصة بنوعه ، فلا بدّ وأن
يفرض تخصيص ذلك الجنس أوّلا حتّى يكون الفصل علّة له ، لكن ذلك الجنس متى تخصّص
فقد دخل في الوجود ، فلا يكون الناطق علّة.
__________________
لأنّا نقول :
الحيوان من حيث هو هو يحتاج إلى علّة ما تقوّم وجوده وتخصّصه وتعيّنه وتخصص العلّة
بالناطق مثلا إنّما جاء من قبل الناطق ، فإنّ الحيوان مثلا لا يحتاج باعتبار
حيوانيّته المطلقة إلى الناطق ، بل لأنّ الناطقيّة لذاتها علّة لذلك الحيوان ،
فالحاجة المطلقة جاءت من قبل الجنس ، وتعيّن العلّة جاء من قبل العلّة.
البحث الثامن : في الفصل
قد عرفت أنّ الفصل كمال الجزء المميّز ، وأنّه مقسّم ، وقسمته لازمة لا عارضة ككون الجسم
متحرّكا تارة وغير متحرك أخرى. ويجب أن لا يكون عروضه بسبب شيء أعمّ منه كلحوق
الأبيض والأسود للحيوان لا باعتبار أنّه حيوان ، بل باعتبار أنّه جسم قائم بالفعل
موضوع لهذه العوارض. وكذا الذكورة والأنوثة عرضت للإنسان باعتبار أنّه حيوان ، ولا
بسبب شيء أخصّ منه ، فإنّه حينئذ يكون لازما للفصل ، أو فصلا بعيدا لا قريبا ، كما
نقول : الجوهر إمّا أن يكون قابلا للحركة أو لا يكون ، فإنّ قابلية الحركة عرضت
بسبب الجسميّة لا بسبب الجوهريّة. وهذا القبول لازم للفصل لا أنّه فصل.
وإذا قلنا : الجسم
إمّا ناطق أو غير ناطق ، لم يكن الجسم بما هو جسم مستعدا لأن يكون ناطقا ، بل
يحتاج أن يكون أوّلا ذا نفس حتّى يصير ناطقا .
واعلم : أنّ
القسمة اللازمة اللاحقة لا بواسطة أعمّ أو أخص ، لا يجب أن
__________________
تكون بالفصول ،
فإنّ من اللوازم ما هو كذلك كالذكورة والأنوثة ، وليسا فصلين لأنّه يمكننا أن
نتوهّم الحيوان موجودا لا ذكرا ولا أنثى ، ولا يمكننا أن نتصوّر الحيوان موجودا لا
ناطقا ولا غير ناطق. ولأنّ الحيوان إنّما صار ذكرا لحرارة عرضت لمزاجه في
ابتداء تكوّنه وفي رحم أمّه ، ولو عرضت له برودة لكان ذلك الشخص بعينه أنثى ، وليس
شأن الفصول كذلك ، فليس الحيوان الذي صار إنسانا يمكن زوال الناطقيّة عنه ويصير
فرسا.
واعلم : أنّ بعض
الماهيّات اعتبارية ، ومثلها جاز أن تكون فصولها عدميّة. وأمّا الماهيّات المحصّلة
في الأعيان ، فإنّه يمتنع أن تكون فصولها عدميّة ، لما تقرّر من أنّ الفصل علّة
للجنس ، وعلل الأمور الوجوديّة ، يمتنع أن تكون عدميّة.
قال أفضل
المحقّقين : لا استبعاد في جعل الأمور العدميّة عدم الملكة فصولا للماهيّات
المحصّلة ، لأنّ الفصل ليس بمقوّم للماهيّة الموجودة في الأعيان من حيث وجودها في
الأعيان ، إنّما هو مقوّم لها من حيث وجودها في العقل مطابقا لما في الأعيان ،
لأنّ الجنس أمر مبهم في العقل غير محصّل في الوجود ، إنّما يتحصّل بالفصل معقولا
مطابقا للذي في الأعيان وهو النوع ، وذلك كالمعنى الجنسي من الكم المتّصل الذي هو
الطول مثلا ، فإنّه يقع على المقدار الذي يكون له مع الطول عرض وهو السطح ، وعلى
المقدار الذي لا يكون له ذلك وهو الخط. ثمّ إنّه يتحصل خطا بتقيّده بعدم العرض له
، ويتحصّل سطحا بوجوده له. وكذلك الكمّ الذي هو جنس عال ، فإنّه يتحصّل بالمتّصل
والمنفصل نوعين هما المقدار والعدد. والفصل فصل مبدؤه عدم الاشتراك في حدّ مخصوص. وبالحقيقة يكون الشيء
الذي يفيد الامتياز وجوديّا ومبدأ الامتياز فيه عدميّا. ويكون الفصل هو
__________________
الشيء الذي من
شأنه ذلك العدم ، وعلى هذا الوجه لا يكون ممتنعا وذلك هو المراد من الفصول العدميّة.
وفيه نظر ، فإنّ
أحدا لم يمنع كون بعض الوجوديّات من شأنها عدم خاص سواء كان فصلا أو غيره. والنزاع
ليس في ذلك ، بل في كون الفصل نفسه عدميّا.
واعلم : أنّه لا
يمكن أن يكون لشيء واحد فصلان ثابتان في مرتبة واحدة ، لأنّ التمييز إن حصل
بأحدهما لم يكن الآخر مميّزا ، لاستحالة استناد المعلول الواحد بالشخص إلى العلل
المتعدّدة ، وإن لم يحصل لم يكن فصلا. نعم يجوز أن يتركّب الفصل من أمرين ، ويكون
كلّ واحد منهما فصلا ناقصا ، والفصل التام واحد هو مجموعهما ، وذلك ممّا لا نزاع
فيه .
واعلم : أنّ
الفصول الحقيقية قلّ أن يدركها الإنسان ، إلّا بواسطة أعراضها الصادرة عنها. فإذا اتّفق أن يكون لبعض
الفصول أعراض متعدّدة أخذ أظهرها عند العقل وجعل فصلا ، وليس في نفس الأمر فصلا ،
بل الفصل هو مبدأ ذلك العرض ، كما أنّ النفس الإنسانيّة التي هي فصل الإنسان
بالحقيقة مجهولة الماهيّة عند العقل ، وإنّما تتصوّر بعوارضها. ولما صدر عنها
النطق والضحك وغيرهما ، وكان النطق أظهرها ، جعل الناطق فصلا دون الضاحك ، للعلم
بتقدم الناطق على الضاحك.
فإن اتّفق أن يحصل
عرضان يشتبه تقدّم أحدهما على الآخر وكلاهما واضحان عند العقل ، أمكن الاستدلال
بهما معا على الفصل ، كما في الحسّاس والمتحرّك بالإرادة ، فإنّ قوّة الحسّ
والحركة أمران صدرا عن النفس الحيوانيّة ، ولم
__________________
يحصل عندنا شعور
بتقدّم أحدهما على الآخر ، فأخذنا هما معا في التعريف ، وليس واحد منهما بفصل ،
فإنّ الحيوان ليس مركّبا من الجسم وقوّة الحس ، ولا قوّة التحريك ، لأنّ هذين
أمران يعرضان للنفس الحيوانيّة بعد تحصّلها ، وصيرورة بعض
الأجسام باعتبارها حيوانا لكن لعدم شعورنا بالفصول في نفس الأمر ـ لا التي هي فصول في
أذهاننا ـ وعدم الأسماء لها ـ لا لعارضها ـ يضطر إلى العدول عن الفصول الحقيقيّة
إلى لوازمها للضرورة.
وليس كلامنا في
الفصول بحسب تعقّلنا وتصرّفنا ، بل من جهة كيفية الوجود في نفسه. ولهذا الاشتباه
توهّم بعض الناس جواز تعدّد الفصول في مرتبة واحدة ، وتمثّل في ذلك بالحسّاس
والمتحرّك بالإرادة. والتحقيق فيه : ما قلناه. نعم يجوز أن تتعدّد فصول الشيء
الواحد في مراتب متعددة كالناطق الذي هو فصل قريب ، والحساس الذي هو فصل بعيد ،
والنمو الذي هو فصل أبعد.
واعلم : أنّ
الفصول لما كانت عللا للأجناس وجب تناهيها ، لما يأتي من وجوب تناهي العلل ،
ولأنّها أجزاء الماهيّات ، ويمتنع أن تكون للماهيّة أجزاء غير متناهية ، لامتناع
تصوّرها حينئذ ، فإنّ الذهن لا يمكنه استحضار ما لا نهاية له على التفصيل. فلهذا
وجب تناهي الأجناس في التصاعد والتنازل ، وإلّا لما تحصّلت الأنواع ولا الأشخاص .
واعلم : أنّ الفصل
الأخير هو العلّة الأولى ، فإنّ الناطقيّة علّة لوجود النفس الحيوانيّة، وهي علّة
القوّة النباتيّة ، التي هي علّة الجسميّة ، التي هي علّة الجوهريّة.
__________________
البحث التاسع : في ترتّب الأجناس في الحمل
لمّا كان الجنس هو
المقول على كثيرين ، وجب أن يكون محمولا عليها. فإنّ المقوليّة هي الحمل ، فإذا
فرض للنوع جنسان مترتّبان أحدهما أعمّ من الأخر ، كان حمل الجنس القريب الأخص على النوع علّة لحمل البعيد عليه ، فإنّ حمل الحيوان علّة
لحمل الجسم على الإنسان ، (إذ يستحيل أن يكون الجسم محمولا على الإنسان) ، إلّا بعد صيرورته حيوانا ، لأنّا قد بيّنا أنّ الجنس أمر
مبهم عند العقل وفي نفس الأمر ، وإنّما يتحصّل بالفصول ، وإذا توقّف تحصّله في
الذهن والخارج على فصوله ، فحمله أولى بالتوقّف.
ولمّا كان الجسم
الذي ليس بحيوان مسلوبا عن الإنسان ـ لا أنّه موجب عليه ـ وجب أن يكون المحمول عليه هو الجسم الذي هو الحيوان. فلمّا كانت الحيوانيّة شرطا في
حمل الجسميّة على الإنسان كان حمل الحيوانيّة على الإنسان أقدم من حمل الجسميّة
عليه.
لا يقال : الجنس
البعيد جزء من الجنس القريب ، والجزء مقدّم على الكلّ ، فكان أقدم منه في الحمل.
لأنّا نقول : ليس
تقدّم الجزء في الوجود مقتضيا لتقدّمه في الوجود للنوع ، فإنّه لا استبعاد في أن
يكون الشيء متقدّما على آخر في نفس الأمر والوجود ، ويكون
__________________
ذلك الآخر
المتأخّر علّة في ثبوت المتقدّم لشيء ثالث ، فيكون المتقدّم في وجوده المطلق ،
متأخّرا في وجوده لذلك الثالث.
وكذا حمل الجنس
القريب على النوع علّة لحمل الفصل القريب عليه ، لأنّ تأثير الناطق أوّلا في وجود
الحيوان ، ثمّ إذا وجد الحيوان ، صار مجموع الحيوان الناطق إنسانا ، فالناطق يؤثّر
أوّلا في الحيوان وبواسطته في الإنسان.
__________________
الفصل الثالث :
في الخارج عن الماهيّة
الوصف الخارج عن
الماهيّة قد يكون لازما كسواد القار. وقد يكون مفارقا ، إمّا سريع المفارقة كحمرة
الخجل ، أو بطيء المفارقة كسواد اللحية. وأيضا إمّا سهل الزوال أو عسيره. واللازم قد يكون لازما للماهيّة كزوجيّة الاثنين ، وقد
يكون لازما للوجود كحدوث الجسم.
ولازم الماهيّة قد
يكون بوسط وهو ما يقترن بقولنا : «لانّه» حين يقال لأنّه كذا ، كإمكان العالم اللازم بواسطة كثرته. وقد يكون
بغير وسط ، بل بمقتضى طبعه كالانقسام للعدد. واللازم بغير وسط يجب أن يكون بيّنا ،
لأنّ الماهيّة لمّا اقتضت ذلك اللازم ، اقتضته مطلقا ، سواء كانت ذهنية أو خارجيّة
، لأنّ الماهيّة حال كونها ذهنية هي الماهيّة حال كونها خارجيّة ، وإنّما يزيد
الخارج عليها بالوجود ، وهو عارض خارجي ، ولو كانت إنّما تقتضيه في الخارج لكان
الوجود وسطا في اللزوم ، وقد فرضناه بغير وسط. وإذا كانت لما هي هي مقتضية لذلك
اللازم ، وهي من
__________________
حيث هي هي ثابتة
في الذهن ، فاقتضت ثبوت لازمها لها ذهنا ، ولا نعني بالبيّن سوى ذلك.
لا يقال : لو كان
كذلك لزم من تصوّر الشيء تصوّر أمور غير متناهية ، لأنّ لكلّ ماهيّة لازما وأقلّه
أنّها ليست غيرها.
لأنّا نقول : لو
سلّم أنّ لكلّ ماهيّة لازما ، لكن لا يجب أن يكون بيّنا ، فإنّ اللوازم قد يمكن أن
يستمر الاندفاع فيها ما لم يطرأ على الذهن ما يوجب إعراضه عن تلك المتلازمات والتفاته إلى غيرها ، لكن مثل هذه اللوازم قليلة في
الوجود.
أمّا اللوازم التي
لا تنحصر ، فإنّها تحصل عند تصوّر الأمور التي إليها يقاس الموضوع كمساواة زوايا
المثلّث لقائمتين. وتصوّر تلك الأمور التي هي شرط في حصولها ، ليس بواجب الحصول
على الترتيب المؤدّي إلى وجود تلك اللوازم المترتبة. وكون الماهيّة ليست غيرها ،
ليس لازما بيّنا يلحق الماهيّة لذاتها ، بل بالقياس إلى ذلك الغير. ولو لم يلحظه
الذهن لم يحكم بالسلب ، لكن تصوّر ذلك الغير ليس بواجب من تصوّر الماهيّة ،
واللازم بوسط إنّما يجب تصوّره مع تصوّر ذلك الوسط.
وللبيّن تفسيران :
أحدهما الذي يلزم من تصوّر ملزومه تصوّره. والثاني الذي يلزم من تصوّر الماهيّة
وتصوّر ذلك اللازم تصوّر اللزوم. والأوّل أخصّ.
وقد اعترض على
اللزوم بأنّه لو ثبت ، فإمّا أن يكون عدميّا أو وجوديا ، والقسمان باطلان ، فتحقّق
اللزوم باطل ، والشرطية ظاهرة.
__________________
وبيان بطلان
الأوّل : أنّه لا يبقى حينئذ فرق بين عدم اللزوم ولزوم عدمي ، لاستحالة التمايز في
العدمات ، لأنّ التمايز من خواصّ الوجود.
وبيان بطلان
الثاني : أنّه لو كان وجوديا ، فإمّا أن يكون نفس الملزوم أو اللازم وهو محال ؛ لإمكان تعقّلهما من دون تعقّله
وبالعكس ، ولأنّه نسبة وإضافة بين المتلازمين فيتأخّر عنهما ، فيتأخّر عن كلّ واحد
منهما ، فلو كان نفس أحدهما لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمرتبتين ، ولأنّه يستلزم كون
كلّ واحد من كلّ متلازمين نفس هذه النسبة والإضافة ، وهو محال. وإمّا أن يكون
مغايرا لهما وهو محال ، وإلّا لزم التسلسل ، أو عدم التلازم بين ما فرض ثبوته
فيهما ، والتالي بقسميه باطل ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّ ذلك الزائد إمّا أن يكون لازما أو لا ، فإن كان لازما كان لزومه زائدا عليه ،
والكلام في ذلك الزائد كالكلام في اللزوم الأوّل ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وهو
أحد قسمي التالي. وإن لم يكن لازما جاز زواله ، وحينئذ ينتفي اللزوم بين
المتلازمين ، لأنّهما إنّما تلازما باعتبار هذا اللزوم ، فإذا زال انتفى التلازم
بين ما فرض ثبوته فيهما ، وهو القسم الثاني من قسمي التالي.
وأيضا لو تحقّق
اللزوم ثابتا بين المتلازمين ، لزم اتّصاف المعدوم بالموجود ، والتالي باطل
بالضرورة ، فكذا المقدم.
بيان
الشرطية : أنّ شيئا ما من
الأشياء لو كان لازما لغيره لكان عدم الملزوم لازما لعدم اللازم ، فيكون اللزوم
الثبوتي حاصلا بين العدمين وصفة لهما ، فيكون الوصف الثبوتي قائما بموصوف معدوم ،
وهو باطل.
والجواب
: أنّ اللزوم وصف
اعتباري عقلي لا ثبوت له في الخارج ، بل حكمه في الثبوت والانتفاء واحد.
__________________
قوله : لو كان
عدميا لم يبق فرق بين عدم اللزوم وبين لزوم عدمي.
قلنا : ممنوع ،
فإنّ الأوّل نفي مطلق اللزوم ، سواء كان ثبوتيا أو عدميّا. والثاني ثبوت لزوم عدمي
وبينهما فرق وإن اشتركا في كونهما عدميّين. وأعدام الملكات قد تتمايز باعتبار
تمايز ملكاتها ، ولو صحّ هذا الدليل لصحّ فيما علم بالضرورة بطلانه كالامتناع
والعدم. والتمايز من خواص مطلق الوجود الشامل للذهني والخارجي ، فكما يقع بين
الأمور العينيّة كذا يقع بين الأمور الذهنيّة ، وإمكان الانفكاك في التعقل يدلّ
على الزيادة فيه ، لا على الزيادة في الخارج ، كما في الأجناس والفصول ، فإنّهما
متغايران في التعقّل وإن اتّحدا في الوجود الخارجي. وبالجملة ، فالتحقيق في الجواب
ما تقدّم من أنّ اللزوم اعتباري.
تتمّة
: كلّ وصف فإنّه
بالضرورة يستدعي موصوفا ينسب إليه ويكون محلّا له. لكن من الأوصاف ما هو ثابت في
الأعيان ، فيجب ثبوت موصوفه في الأعيان لامتناع قيام الوصف بذاته ، ومنها ما هو
ثابت في الذهن وهو ينقسم إلى ما يجب ثبوت الموصوف به في الأعيان أيضا ، كالوجوب
ومنها ما لا يجب ، بل ولا يثبت.
الفصل الرابع :
في الكلي والجزئي
كلّ مفهوم فإمّا
أن يمنع نفس تصوّر معناه من وقوع الشركة فيه ، ويسمّى الجزئي الحقيقي كزيد ، أو لا
يمنع ، ويسمّى الكلّي كالإنسان ، فإن كان هذا الكلّي مندرجا تحت غيره ، سمّي أيضا
جزئيا إضافيا ، بالنظر إلى ذلك الغير ، وهو أعمّ من الحقيقي مطلقا ، لاندراج كل حقيقي تحت ماهيته المعرّاة
عن المشخصات وتحت الأمور العامّة ، وليس جنسا لانفكاكه عنه تصوّرا.
وإذا نسب الكلي
إلى الوجود انقسم إلى ستة :
أ
: ما يمتنع وجوده ،
كشريك الباري تعالى.
ب : ما يمكن وجوده ولا يوجد ، كجبل من ياقوت .
__________________
ج : ما يكون الموجود منه واحدا مع امتناع تكثّره ، كواجب الوجود
تعالى.
د : ما يكون الموجود منه واحدا مع امكان تكثّره ، كالشمس.
ه : ما يتعدّد أفراده في الوجود مع تناهيها ، كالكوكب.
و : وما تتعدد أفراده في الوجود مع عدم تناهيها .
والكلّي والجزئي
يقالان بالذات للمعنى ، وبالعرض للفظ. والكليّة والجزئيّة من ثواني المعقولات لا تأصّل لهما في الوجود ، وهما مغايران لما
يصدقان عليه من الماهيّة ؛ فإنّ الحيوان لو كان نفس كونه كلّيا أو جزئيا لم يصدق
على الآخر ، فهما إذن متغايران. ولأنّ الكليّة إضافيّة ، وليس الحيوان اضافيا.
فالكليّة العارضة
للحيوان يقال له كلّي منطقي ، لأنّ بحث المنطقي عنه وهو أمر عقلي. ومعروضه وهو الحيوان
يقال له كلّي طبيعيّ ، لأنّه نفس حقيقة الشيء وطبيعته ، وهو موجود في الخارج ،
لأنّه جزء من هذا الموجود ، لأنّ الجزء إمّا الحيوان من حيث هو ، أو حيوان ما ، والحيوان جزء من حيوان ما وجزء الموجود موجود.
والمجموع المركّب منهما عقلا يسمّى الكلّي العقلي ، ولا وجود له إلّا في العقل ،
لأنّ جزئه عقلي ، ولأنّ الحيوان الكلّي مشترك فيه ، ولا شيء من المشترك فيه بموجود
في الخارج من حيث هو مشترك فيه ، لأنّ عمومه يستدعي وجوده في محالّ متعدّدة ،
ويمتنع وجود شيء واحد في أكثر من محلّ واحد.
والكلّي والجزئي
الإضافي يحاذيان العام والخاص. والعموم إمّا مطلق أو من وجه. فالعام المطلق وجودا
أخص عدما ، لأنّ العامّ والخاص لا بدّ من تواردهما
__________________
على محل واحد ،
وإلّا لتباينا ، ويتخلّى الخاص عن العام في موارد أخرى ، وإلّا لتساويا ، ففي تلك
الموارد التي تخلّى الخاص عنها يوجد فيها نقيضه مع وجود عين العام فيها. وكلّ صورة
ينتفي العام عنها ينتفي عنها الخاص ، وإلّا لكان أعمّ ، فإذا وجد نقيض الخاص في
كلّ موضع يوجد فيه نقيض العام ، من غير عكس ، كان نقيض العام مطلقا أخص من نقيض
الخاص مطلقا.
وأمّا العام من
وجه ، فليس بين نقيضه ونقيض الأخص عموم مطلقا ، ولا من وجه ، بل مباينة جزئيّة ،
لثبوت هذا العموم ، بين عين العام ونقيض الخاص مع التباين الكلّي بين نقيض العام
وعين الخاص. ولمّا وجد كلّ منهما في صورة واحدة وعدم كلّ منهما مع وجود الآخر في
غير تلك الصورة لا جرم كانت المباينة جزئية.
وبين نقيضي
المتساويين وهما اللذان يصدق كلّ منهما على كلّ ما صدق عليه الآخر
مساواة أيضا ، إذ لو وجد أحدهما بدون صاحبه كان الموجود أعمّ من صاحبه لصدقه في
تلك الصورة مع كذب الآخر.
وبين نقيضي
المتباينين وهما اللذان لا يصدقان على شيء البتة تباين جزئي ، لأنّ نقيضيهما إن
اقتسما طرفي النقيض لم يصدقا على شيء البتة ، كالموجود والمعدوم تباينا كلّيا. وإن
لم يقتسماهما ، بل صدق عدمهما على ما يغايرهما ، كان بين نقيضيهما مباينة جزئية ،
لصدق نقيض كلّ منهما على ما يغايرهما وصدقه على عين الآخر وكذب نقيض الآخر على
عينه.
ولمّا كان الكلّي
أعمّ من الجزئي ، وكان وجود الخاص في موارد يوجد فيها العام ، ويوجد العام في
موارد لا يوجد فيها الخاص من صور ، أمكن وقوف العقل
__________________
على الصور التي
تخلّى عنها الخاص من صور العام ، ولم يمكن وقوفه على صور الخاص إلّا مع وقوفه على
العام ، لا جرم كان الكلّي أعرف من الجزئي.
والكلّي إمّا ذاتي
أو عرضي .
والذاتي يقال على
معان متعددة بالاشتراك ، يراد منها هنا معنيان ، أحدهما المقوّم لما يحمل عليه ،
بأن يكون جزءا منه. والثاني نفس طبيعة ما يحمل عليه.
والأوّل لا اشكال
فيه ، لامكان النسبة فيه ، بخلاف الثاني ، فإنّ الشيء لا ينسب إلى نفسه ، بل أطلق
على نفس الماهيّة لفظة الذاتي بنوع من الاشتراك ، وإن كان بعضهم خصّ الذاتي
بالأوّل .
ومنهم من أطلق
الذاتي على كلّ ما هو بيّن الثبوت للشيء ، سواء كان جزءا للماهية أو خارجا. ومنهم
من فسّره بأعمّ ، وهو الذي يمتنع زواله عن الشيء ، سواء كان بيّن الثبوت له أو لا.
والنزاع لفظي. لكن من فسّر اللفظ بأمر وجب عليه رعاية ذلك التفسير وأن يحترز عن
الغلط الواقع بسبب الاشتراك.
والذاتي إمّا جنس
: وهو الكلّي المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو من حيث هو كذلك.
وأقسامه أربعة :
العالي : وهو الذي
لا جنس فوقه ، وتحته جنس ، ويسمّى جنس الأجناس .
والسافل : وهو
الذي فوقه جنس ، وليس تحته جنس.
__________________
والمتوسّط : وهو
الذي فوقه جنس وتحته جنس.
والمفرد : وهو
الذي ليس فوقه جنس ولا تحته جنس.
لا يقال : المقول
على كثيرين جنس للجنس ، فهو جنس خاص من حيث إنّه جنس للجنس ، فيكون أخصّ ، لكنّه
أعمّ من مطلق الجنس ، فإنّ كلّ جنس أعمّ من نوعه ، ولأنّه محمول ، وإلّا لم يكن
مقولا على كثيرين ، فإنّ المقوليّة نفس الحمل ، ولا شيء من الجزء بمحمول ، فلا شيء
من الجنس بجزء ، فليس مقوّما بل عارضا. ولأنّه ليس في الخارج ، وإلّا لكان شخصا
غير مقول على كثيرين ، ولا في الذهن لامتناع تقوّم الأنواع الخارجيّة بأمور ذهنية.
لأنّا نقول :
المقول على كثيرين أعمّ من الجنس باعتبار ذاته ، وأخصّ باعتبار عروض الجنسيّة له.
ولا استبعاد في صيرورة ما هو أعمّ ، باعتبار عروض عارض أخصّ أو مساويا ، كالجنس
والمضاف والحدّ وحده. والحيوان المحمول ليس هو الجزء وإن اتّحدا في الذات ،
لكنّهما متغايران بالاعتبار ، وهو موجود في الخارج لا باعتبار أنّه جنس أو كلّي ،
بل من حيث هو هو. فمعروض الجنسيّة موجود لا من حيث العروض ، بل من حيث اعتبار
الذات من حيث هي هي. وهو من حيث عروض الجنسيّة موجود في الذهن لا غير ، وليس هو من
تلك الحيثيّة بمقوّم.
وإمّا نوع : ويقال بالاشتراك على الحقيقي ، وهو الكلّي المقول على
كثيرين متّفقين بالحقيقة في جواب ما هو من حيث هو كذلك. وعلى الإضافي ، وهو أخصّ
الكليّين المقولين في جواب ما هو. وهما متغايران ، لامتناع الجنسيّة في الأوّل
وامكانها في الثاني ؛ والاكتفاء بالمحموليّة في الأوّل دون الثاني ؛ وامكان بساطة
الأوّل وامتناعها في الثاني ؛ واستغناء الأوّل أحيانا عن فصل أو جنس بخلاف الثاني.
ولا يتلازمان ، لوجود الأوّل في الحقائق البسيطة دون الثاني ، وبالعكس في
__________________
الأجناس
المتوسّطة. والأوّل هو أحد الخمسة ، وإلّا صارت القسمة مسدّسة ، لوجود الحقيقي في البسيط .
ومراتب الإضافي
أربع : العالي : وهو الذي تحته نوع ، وليس فوقه نوع.
والسافل : وهو
الذي ليس تحته نوع ، بل فوقه ، ويسمّى نوع الأنواع .
والمتوسّط : وهو
الذي فوقه نوع ، وتحته نوع.
والمفرد : وهو
الذي ليس فوقه نوع ، ولا تحته نوع.
وقد تتوارد بعض
هذه المراتب وبعض مراتب الجنس على محلّ واحد ، هو كلّ ماهيّة اختلفت أفرادها في
الحقيقة واندرجت تحت مثلها.
ولا وجود للمفرد
والسافل إلّا في الحقيقي. ولا وجود للجنس العالي والمفرد إلّا فيما باين مراتب النوع. والطبيعة الجنسيّة إذا أخذت معقولة مجردة عن
فصولها كانت نوعا حقيقيا ، وإنّما يكون جنسا لو التفت إلى فصولها التي تتحصّل بها
أنواعا مختلفة في الأعيان.
وإمّا فصل : وهو الكلّي المقول على الشيء في جواب أيّما هو في جوهره.
فمنه قريب وبعيد ، وهو بالنسبة إلى الجنس خاصّة ، كما أنّ الجنس بالنسبة إليه
__________________
عرض عام. ومقوّم
العالي مقوّم للسّافل من غير عكس. ومقسّم السافل مقسّم العالي من غير عكس. وللعالي فصل مقسّم
لا يتقوّم ، والسّافل بالعكس ، والمتوسّطات لها فصول مقوّمة ومقسّمة.
وأمّا العرضي ، فإمّا خاصّة : وهي الكلّي المقول على أفراد حقيقة واحدة
من حيث هو كذلك فقط قولا عرضيا ، سواء كانت تلك الحقيقة جنسا عاليا أو سافلا أو
متوسطا أو نوعا حقيقيا.
والخاصّة إمّا
مطلقة لا توجد في غير أفراد ما قيل له إنّه خاصّة له ، أو إضافية توجد في بعض ما
غايره دون بعض. وهي إمّا شاملة لجميع أفراد الحقيقة ، أو قاصرة ، بسيطة أو مركّبة
من أمور كلّ واحد منها أعمّ ويجتمع من المجموع مساو كقولنا في الخفاش : إنّه
الطائر الولود. والمفيد في التعريفات الخاصّة اللازمة الشاملة البيّنة.
وإمّا عرض عام ، وهو الكلّي المقول على أفراد حقيقة واحدة وعلى غيرها
قولا عرضيا من حيث هو كذلك. وهو مغاير للعرض القسيم للجوهر.
وقد ذكرنا أنّ
الجنس والنوع يقالان في جواب ما هو ، لكنّ الجنس إنّما يقال في جواب ما هو حال
الشركة ، لأنّ الجنس جزء الماهيّة ، والسائل بما هو إنّما سأل عن كمال الحقيقة ،
فلا يجوز الجواب إلّا بذكر جميع المقوّمات. وإذا سئل عن جماعة من الأنواع صلح
الجنس للجواب ؛ لأنّ السائل إنّما سأل عن كمال المشترك ، والحدّ يقال في جواب ما
هو حال الخصوصيّة. والنوع يقال في جواب ما هو
__________________
بحسب الشركة
والخصوصيّة معا ، لأنّه يقال في جواب السؤال عن فرد واحد ، وعن جميع الأفراد .
وفرق بين المقول
في جواب ما هو الذي هو نفس الماهيّة وبين الداخل في جواب ما هو الذي هو جزء
الماهيّة ، والواقع في طريق ما هو الذي هو الجزء الأعمّ .
واعلم : أنّ الكلّ
مغاير للكلّي والجزء مغاير للجزئي ، لأنّ الكلّ من حيث هو كلّ موجود في الخارج ،
والكلّي من حيث هو كلّي لا يوجد إلّا في الذهن. ولأنّ الكلّ يعدّ بأجزائه ، والكلي
لا يعدّ بجزئياته. ولأنّ الكلّي مقوّم للجزئي ، والكلّ متقوّم بالجزء ، ولأنّ
الكلّ لا يكون كلّا لكلّ جزء وحده ، والكلّي يكون كليا لكلّ جزئي وحده. ولأنّ
الكلّ أجزاؤه متناهية ، وجزئيات الكلّي غير متناهية. ولأنّ الكلّ محتاج إلى حضور
أجزائه جميعا ، والكلّي لا يحتاج إلى حضور جزئيّاته جميعا. ولأنّ طبيعة الكلّ لا
تصير هي الجزء ، أمّا طبيعة الكلّي فإنّها بعينها جزئية كالإنسان .
__________________
القاعدة الثانية
في تقسيم الموجودات
وفيه نوعان :
النوع الأوّل
في التقسيم على رأي المتكلّمين
اعلم : أنّ
الموجود إمّا أن يكون قديما لا أوّل لوجوده ، وهو الله تعالى ، أو محدثا لوجوده
أوّل ، وهو ما عداه. فهنا فصول.
الفصل الأوّل :
في القدم والحدوث
وفيه مباحث :
البحث الأوّل : في تحقيقهما
القديم : هو
الموجود الذي لم يسبقه العدم ، أو الموجود المساوق لأزمنة
__________________
مقدّرة لا نهاية لها.
وأمّا المحدث فله تفسيران : أحدهما : أنّه المسبوق بالعدم ، والثاني : أنّه
المسبوق بالغير. وعلى كلا التفسيرين فالسبق هنا عند المتكلّمين إنّما هو بتقدير
أزمنة لا نهاية لها.
قال الأوائل : مفهوم قولنا : «كان الله تعالى موجودا في الأزل» إن كان
عدميّا كان نقيضه وهو «ما كان الله تعالى في الأزل» ثبوتيا ، لكن قولنا «ما كان»
عدمي ، ولأنّه إذا كان قولنا : «ما كان الله تعالى موجودا في الأزل» ثبوتيا كان
المعدوم في الأزل موصوفا بوصف ثبوتي ، وهو محال.
وإن كان قولنا : «كان
الله تعالى في الأزل» ثبوتيا ، فإمّا أن يكون نفس ذات الله تعالى ، أو مغايرا لها.
والأوّل باطل ؛ لأنّ كونه في الأزل نسبة وإضافة لا تقوم بذاته ، بل إنّما يعقل
وصفا لغيره ، فلا تأصّل له في الوجود ، بل هو من ثواني المعقولات ، والله تعالى
قائم بذاته. ولأنّ كونه في الأزل نسبة له إلى الأزل ، والنسبة بين الشيئين متأخّرة
عنهما ، والمتأخّر عن الشيء لا يمكن أن يكون نفس ذلك الشيء. ولأنّ كونه في الأزل
ليس بحاصل الآن ، وإلّا لكان كلّ حادث الآن ، بل في كلّ آن سابق أو لاحق ، فلا تقدّم ولا تأخّر لبعض الموجودات على البعض ،
وهو محال ، والله تعالى موجود الآن ، فتغايرا.
وبالجملة ، فالحكم
بالتغاير ضروري أظهر من هذه البراهين ، فذلك المتغاير إن كان موجودا في الأزل ،
فقد كان مع الله تعالى في الأزل غيره ، وهو محال عندكم. ولأنّ ذلك الغير هو الذي
يلحقه معنى «كان» و «يكون» لذاته ، وهو الزمان ، فالزمان أزلي.
__________________
أجاب المتكلّمون :
بأنّ معنى كون الله تعالى قديما ، أنّا لو قدّرنا أزمنة لا نهاية لها لكان الله
تعالى موجودا معها بأسرها ، ولا يحتاج هذا المعنى إلى تحقّق الزمان ووجوده ، بل
تقدير وجوده ، لأنّه لو اعتبر الزمان في ماهيّة القدم والحدوث لكان ذلك الزمان
إمّا قديما أو حادثا ، فإن كان قديما ، فإن احتاج قدمه إلى زمان يصحبه ، وجب أن
يكون له زمان آخر ، فللزمان زمان وهكذا إلى ما لا نهاية له. وإن لم يحتج قدم
الزمان إلى اعتبار آخر ، لم يجب اعتبار الزمان في معنى القديم ، فيكون القدم
معقولا من غير اعتبار الزمان ، وإذا عقل ذلك في موضع ، فليعقل في جميع المواضع.
وإن كان ذلك الزمان حادثا ، فإن اعتبر في حدوثه الزمان تسلسل ، وهو محال. وإذا لم
يعتبر الزمان في الحدوث في نفس الزمان ، فليعقل مثله في جميع المواضع. ولأنّ
القديم يمتنع اعتبار الزمان الحادث في تحقّقه.
قال أفضل
المحقّقين : «لا يجب أن يكون نقيض العدميّ ثبوتيا ، بل منقسما إلى الثبوتي
والعدميّ. وأيضا قولنا : «كان الله تعالى موجودا في الأزل» نقيض «ما كان موجودا في
الأزل» وهي قضية ، ولا يكون شيء من المعدومات موصوفا بهذه القضيّة. وان جعل بإزائه
«ما كان معدوما ما موجودا في الأزل» حتى يصير ذلك المعدوم موصوفا بأنّه لم يكن في
الأزل ، لم تكن هذه القضيّة نقيضا للأولى ، لتخالف موضوعيهما. وإن أراد بذلك أنّ
الكون واللاكون متناقضان ، والكون محمول على الله ، واللاكون محمول على المعدوم ، فيكون الكون وجوديا ، كان إيراد قضيّتين بدل مفردين
حشوا. وما نقله عن المتكلّمين غير مرضي عند الكلّ منهم ، فإنّ كون الشيء مع الشيء لا يتحقّق إلّا فيما كان في
زمان أو تقدير زمان.
__________________
والمحقّقون منهم
يقولون : معناه أنّه غير مسبوق بغيره.
لا يقال : إنّ
السبق أيضا لا يتحقّق إلّا بتقدير زمان ، لأنّهم يقولون : «سلب السبق عنه لا يقتضي كونه زمانيا» .
وفيه نظر ، لأنّه
ليس المقصود ما صدق عليه النقيض حتى يكون منقسما إلى ثبوتي وعدميّ ، بل نفس مفهوم
النقيض ، وذلك غير منقسم.
والتحقيق : أنّ من
المعقولات ما يوجد في الخارج فلا ينفك الخارج عنه وعن نقيضه بالضرورة ، لامتناع
الخلو عن النقيضين. ومنها ما لا وجود له إلّا في الذهن ، ومثله حكم النقيضين فيه
بالنسبة إلى الخارج سواء ، لأنّ أحدهما إذا أخذناه على أنّه ثبوتي لم يرد به
الثبوت العيني ، بل الذهني. وهنا يكون أحدهما موجبا والآخر سالبا ، ولا يجب أن
يكون أحدهما موجودا في الخارج ، والآخر معدوما ، بل موضوعاته.
وقولنا : «كان
الله تعالى موجودا في الأزل» وإن كان قضيّة ، فليس المراد إلّا : الكون في الأزل
هل هو ثبوتي أم لا؟ وكذا نقيضه الذي هو اللاكون.
والمتكلّمون لا
يسلّمون افتقار المعيّة إلى الزمان ، كما لا يسلّمون أنّ التقدّم إنّما يكون
بالزمان. والسبق أيضا عندهم لا يفتقر إلى الزمان.
البحث الثاني : في التفسير على رأي الحكماء الأوائل
فسّروا الحدوث
بأمرين :
__________________
أحدهما
: حصول الشيء بعد أن
لم يكن له وجود في زمان سابق وعلى هذا التفسير لا يكون الزمان حادثا ، وإلّا لكان عدمه
سابقا على وجوده بزمان سابق ، فيكون للزمان زمان وهكذا.
والثاني
: أن يكون حصوله بعد
عدمه بعديّة بالذات ، وهو الحدوث الذاتي ، فإنّ كلّ ممكن ، فإنّه لا يستحقّ الوجود من ذاته وإنّما يستحق
الوجود من غيره ، وما بالذات أسبق ممّا بالغير ، فيكون لا استحقاقية الوجود التي هي مقارنة للعدم ، سابقا
على استحقاقية الوجود ، فيكون العدم سابقا على الوجود المستند إلى الغير ، وسواء
كان ذلك الاستناد مخصوصا بزمان أو مستمرا في كلّ الزمان.
وللقدم معنيان
مقابلان لمعنيي الحدوث : أحدهما الذي لا أوّل لزمان وجوده. والزمان بهذا المعنى
ليس بقديم ، وإلّا لكان للزمان زمان آخر ، وهو محال.
والثاني الذي لا
مبدأ ولا علّة لوجوده ، وهو القدم الذاتي.
البحث الثالث : في أنّ الحدوث والقدم هل هما ثبوتيّان أم لا؟
اختلف الناس هنا ،
فالمحققون على أنّهما وصفان اعتباريان لا تحقّق لهما في الخارج.
وذهبت الكرّاميّة إلى أنّ الحدوث صفة زائدة على الذات.
__________________
وذهب «عبد الله بن
سعيد» من الأشاعرة إلى أنّ القدم وصف ثبوتي.
والكلّ باطل. أمّا
الأوّل : فلأنّ الحدوث لو كان ثبوتيا ، لكان عرضا قائما بالغير ، فذلك الغير إمّا
أن يكون قديما أو حادثا ، والقسمان باطلان. أمّا الأوّل : فلاستحالة اتّصاف القديم
بالحدوث. وأمّا الثاني فلاستلزامه التسلسل.
لا يقال : لم لا
يقوم الحدوث بالماهيّة من حيث هي هي ، فلا يلزم التسلسل؟
لأنّا نقول :
الماهيّة من حيث هي هي لا توجد إلّا في العقل ، فيستحيل قيام الحدوث الثبوتي في
الأعيان بماهيّة ذهنية ، بل إنّما تحلّ في ماهيّة موجودة ، ولمّا كان هذا الوجود
مسبوقا بالعدم وجب أن يكون الشرط هو هذا الوجود المسبوق بالعدم. وأيضا لو كان
الحدوث صفة وجودية لكان إمّا قديما أو حادثا ، والقسمان باطلان. أمّا الأوّل
فلاستلزامه قدم موصوفه الذي هو الحادث ، فيكون الحادث أزليّا ، هذا خلف ، ولأنّ
الحدوث عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم ، فيستحيل عليه القدم الذي هو عدم مسبوقية
الوجود بالعدم. وأمّا الثاني فلاستلزامه التسلسل ، فإنّ الحدوث لو اتّصف بالحدوث ،
لكان الكلام في الحدوث الذي هو الوصف كالكلام في الحدوث الذي هو الموصوف ، وهكذا
إلى ما لا نهاية له.
وأمّا الثاني :
وهو مذهب «ابن سعيد» ، فإنّه باطل أيضا ، لأنّ القدم لو كان وصفا ثبوتيا ، فإمّا
أن يكون قديما أو حادثا ، والأوّل يستلزم التسلسل. والثاني يستلزم اجتماع
النقيضين. ولأنّه لو كان ثبوتيا لم يكن قائما بذاته ، بل بغيره. فذلك الغير إمّا
أن يكون قديما أو حادثا ، والقسمان باطلان ، كما تقرّر أوّلا في الحدوث.
__________________
قال أفضل
المحقّقين : كلّ ما ليس القدم داخلا في مفهومه ، فإذا وصف بالقدم احتيج إلى صفة زائدة
عليه هي القدم ، وأمّا القدم فلا يحتاج إليه لكونه قديما لذاته.
وأمّا الحدوث
فإنّه صفة والصفات لا توصف بالقدم ولا الحدوث ، لأنّ الاتّصاف بهما من شأن الذوات .
وفيه نظر ، لأنّهم
لمّا سلموا كون القدم ثبوتيا في الخارج وجب أن يكون مشاركا لغيره في الثبوت ،
وممتازا عنها بخصوصيّة ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فاتّصاف ماهيته
بوجوده إمّا أن يكون مسبوقا بالعدم ، فيكون حادثا وهو محال. وإمّا أن لا يكون ،
فيكون قديما ، وقدمه راجع إلى نسبة وجوده إلى ماهيته وتلك النسبة مغايرة لما عداها
من النسب. ولأنّه إذا جاز في القدم أن يكون قديما لذاته ، فليجز في كل قديم ذلك.
والحدوث إذا كان
صفة ثبوتيّة وجب أن يكون موصوفا بالثبوت ، فلا يصحّ قولهم : «الصفة لا توصف» ولأنّ
الضرورة قاضية بأنّ كلّ ثبوتي فإنّه موصوف بالثبوت ، فإمّا أن تكون موصوفيّته به
مسبوقة بالعدم أو لا.
احتجّوا : بأنّ
الشيء لا يكون حادثا ثمّ يصير حادثا ، فتجدّد الصفة بعد عدمها يدلّ على كونها
ثبوتيّة ، أو كون عدمها ثبوتيا ، والثاني محال ، فالحدوث ثبوتي. ولأنّه
نقيض «لا حدوث» العدمي. وكذا القدم نقيض «لا قدم» العدمي ،
__________________
فيكون كلّ منهما
ثبوتيّا.
والجواب : التبدّل
لا يدلّ على الثبوت ، فإنّ الشيء الممكن إذا أخذ من حيث هو هو لم يكن واجبا ولا
ممتنعا بالغير ، ثمّ إذا فرض انضمامه إلى المؤثر أو عدمه صار واجبا أو ممتنعا مع
كونهما عدميين. وقد عرفت أنّ الاستدلال بصورة السلب على العدم باطل.
قيل : حدوث الحادث ليس وجوده الحاصل في الحال ، وإلّا لكان كلّ
موجود حادثا ، ولا العدم السابق من حيث هو عدم ، وإلّا لكان كلّ عدم حدوثا ، بل
الحدوث هو مسبوقية الشيء بالعدم ، ومسبوقيّة الشيء بالعدم كيفيّة زائدة على الوجود
والعدم.
قلنا : إن أردتم
الزيادة في التعقّل والذهن فمسلّم ، ولكن ذلك لا يقتضي كون الحدوث ثبوتيا في
الأعيان ، وإن أردتم الزيادة في الخارج ، فدليلكم لا يعطي أكثر من مطلق الزيادة في
المفهوم.
__________________
الفصل الثاني :
في خواص القديم
وفيه مباحث :
البحث الأوّل : في أنّ القديم هل يصحّ اسناده إلى الفاعل أم لا؟
المشهور بين الناس
أنّ هذه مسألة خلاف بين الحكماء والمتكلّمين ، فإنّ الحكماء جوّزوا اسناد القديم
إلى المؤثّر ، لأنّ علّة الحاجة إلى المؤثر عندهم هي الإمكان ، وهذه العلّة ثابتة
في القديم الممكن ، فيثبت حكمها وهو الاحتياج. والمتكلّمون منعوا في الظاهر اسناده
إلى الفاعل ، لأنّ علّة الحاجة إلى الفاعل إنّما هي الحدوث.
وفي التحقيق : لا
نزاع بين الخصمين ، لأنّ الحكماء اتّفقوا على امتناع اسناد القديم إلى المؤثّر
المختار ، لأنّ المختار إنّما يفعل بتوسّط القصد والداعي ، والداعي إنّما يتوجّه
إلى إيجاد المعدوم لا الموجود ، لاستحالة القصد إلى تحصيل
__________________
الحاصل. فواجب في
أثر المختار سبق العدم عليه ، فلهذا استحال اسناد القديم إليه.
والمتكلّمون أيضا
منعوا من ذلك ، ونفوا القول بالعلّة والمعلول ، لا بهذا الدليل ، بل بما دلّ على
وجوب كون المؤثّر في وجود العالم قادرا. وجوّز الفريقان اسناد القديم إلى العلّة
الموجبة ، بل صرّحوا بوقوع ذلك . واستدلوا على ثبوته : بأنّ مثبتي الحال من الأشاعرة ،
ذهبوا إلى أنّ عالميّة الله تعالى وعلمه قديمان ، والعالمية معلّلة بالعلم ، وكذا
القدرة والقادريّة وغيرها من الصفات. وزعم «أبو هاشم» من المعتزلة وأتباعه : أنّ
العالمية والقادريّة والحييّة والموجوديّة معلّلة بحالة خامسة ، مع أنّ الكلّ
قديم. وقال «أبو الحسين البصري» : إنّ العالمية حالة معلّلة بالذات. وهؤلاء وإن
منعوا من إطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ، إلّا أنّهم يعطون المعنى في الحقيقة .
قال أفضل
المحقّقين : هذا صلح من غير تراضي الخصمين ، لأنّ المتكلّمين بأسرهم صدّروا كتبهم
بالاستدلال على وجوب كون العالم محدثا ، من غير تعرّض لفاعله فضلا عن أن يكون
فاعله مختارا أو غير مختار. ثمّ ذكروا بعد إثبات حدوثه أنّه محتاج إلى محدث وأنّ
محدثه يجب أن يكون مختارا ، لأنّه لو كان موجبا لكان العالم قديما ، وهو باطل بما
ذكروه أوّلا. فظهر أنّهم ما بنوا حدوث العالم على القول بالاختيار ، بل بنوا
الاختيار على الحدوث. وأمّا القول بنفي العلّة والمعلول فليس بمتّفق عليه عندهم ؛
لأنّ مثبتي الأحوال من المعتزلة قائلون بذلك صريحا. والأشاعرة يثبتون مع المبدأ
الأوّل قدماء ثمانية يسمّونها صفات المبدأ الأوّل. فهم
__________________
بين أن يجعلوا
الواجب لذاته تسعة ، وبين أن يجعلوها معلولات لذات واجبة هي علّتها. وهذا شيء إن
احترزوا عن التصريح به لفظا ، فلا محيص لهم عن ذلك معنى ، فظهر أنّهم غير متّفقين على القول بنفي العلّة والمعلول
، مع اتّفاقهم على القول بالحدوث .
وأيضا المتكلّمون
إنّما منعوا من إسناد القديم إلى الفاعل ، ليس لقولهم : «علّة الحاجة هي الحدوث» ،
فإنّ هذا القول مختصّ ببعضهم ، ولم يتفقوا عليه ، لكن لقولهم بأنّ «ما سوى الله
تعالى وصفاته محدث» والأحوال التي ذكرها عند مثبتيها ليست بموجودة ولا معدومة ، فلا توصف بالقدم
على ما ذكره في تفسير القديم وهو : أنّ القديم ما لا أوّل لوجوده ،
إلّا أن يغيّر التفسير ويقول : القديم ما لا أوّل لثبوته ، على أنّ الوجود والثبوت
مترادفان ، لكنّه يقول هنا ما قاله المتكلّمون وليس عند بعضهم
معناهما واحدا. و «أبو الحسين» لا يقول بالحال ، لكنّه يلزمه أن يقول : العلم صفة
قديمة معلّلة بالذات .
وأمّا الأشاعرة
فيقولون بصفات قديمة ، لكنّهم يقولون : لا هي الذات ولا غيرها ، فلذلك لا يطلقون
المعلوليّة عليها.
والحقّ : أنّ
جميعهم أعطوا معنى القديم في الحقيقة على هذه الصفات ،
__________________
وأنّ إباءهم عن
إطلاق لفظ القديم عليها ليس بحقيقي .
وأمّا الفلاسفة
فلم يذهبوا إلى : أنّ الأزليّ يستحيل أن يكون فعلا لفاعل مختار ، بل ذهبوا إلى :
أنّ الفعل الأزليّ يستحيل أن يصدر إلّا عن فاعل أزليّ تامّ في الفاعليّة ، وأنّ
الفاعل الأزليّ التام في الفاعليّة يستحيل أن يكون فعله غير أزليّ ، ولمّا كان
العالم عندهم فعلا أزليّا أسندوه إلى فاعل أزليّ تامّ في الفاعليّة ، وذلك في
علومهم الطبيعية . وأيضا لما كان المبدأ الأوّل عندهم أزليّا تامّا في
الفاعليّة ، حكموا بكون العالم الذي هو فعله أزليّا ، وذلك في علومهم الإلهيّة ،
ولم يذهبوا أيضا إلى أنّه ليس بقادر مختار ، بل ذهبوا إلى أنّ قدرته واختياره لا
يوجبان كثرة في ذاته ، وأنّ فاعليته ليست كفاعليّة المختارين من الحيوانات ، ولا كفاعليّة المجبورين من ذوي الطبائع الجسمانية .
وفرق بين الاختيار
الذي يثبته الحكماء والذي يثبته المتكلّمون ، لأنّ الحكماء يقولون: إنّه مختار
بمعنى وجوب صدور الفعل عنه دائما ، والمتكلّمون ينفون دوام الصدور عنه ، ويقول
بعضهم بوجوب الصدور نظرا إلى قدرته وإرادته ، وبعضهم ينفي وجوب الصدور عنه أصلا ، ويقولون : إنّه يختار أحد الطرفين المتساويين على
الآخر لا لمرجّح .
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
المتكلّمين لم يقصدوا إثبات الحدوث بالذات ، بل قصدهم بالذات إثبات الصانع ، ولمّا
كان الطريق هو الحدوث ، لا جرم قدّموا البحث عنه على البحث عن إثبات الصانع ، ولم
يكتفوا بالإمكان ، لأنّهم وجدوا العالم لا يخلو عن الحوادث ، وحكموا بأنّ ما لا
يخلوا عن الحوادث فهو حادث ، فلزمهم القول بحدوث العالم ، ولمّا استحال إسناد
الحادث إلى القديم الموجب التام في الفاعليّة ، وكان التسلسل محالا ، لا جرم
أسندوه إلى الفاعل المختار ، فحكموا بأنّ مؤثر العالم قادر.
وأفضل المتأخّرين
لم يقصد بقوله : «إنّ المتكلّمين نفوا العلّة والمعلول» الإطلاق ، لأنّهم يعترفون
بثبوت التعليل في كثير من الأحكام والصفات والذوات أيضا ، بل قصد أنّهم ينفون
العلّة والمعلول عن الله تعالى والعالم .
وأيضا المتكلّمون
لمّا نفوا المجرّدات الممكنة ، وحكموا بأنّ كلّ متحيّز بالذات أو بالعرض محدث ،
لبراهينهم التي استدلّوا بها ، لزمهم أن يكون ما سوى الله تعالى وصفاته محدثا ،
فلهذا لم يسندوا العالم إلى مؤثّر موجب ، بل إلى قديم مختار. و «أبو الحسين البصري»
لم يقصد بالحال في العلم ما قصده «أبو هاشم» ، بل الوصف الثبوتي.
وأمّا الفلاسفة ،
فإنّهم اتّفقوا على امتناع إسناد القديم إلى فاعل مختار يفعل بواسطة القصد والداعي
، لأنّه ليس إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك ، مع إمكان توارد
المشيئتين عليه ، ولم يثبتوا قدرة واختيارا بهذا المعنى ، بل بمعنى مقارنة فعله
للعلم ، مع عدم منافاته لذاته ، ولا فارق بين فعله وفعل الطبائع الجسمانية عندهم
إلّا باعتبار مقارنة العلم وعدمه. فقد تقرّر من هذا ، أنّ
__________________
القديم يمكن
إسناده إلى المؤثّر الموجب دون المختار.
وقد اعترض بعضهم ،
بأنّ القادر لا يجب أن يكون فعله حادثا ، لأنّ الحادث هو الموجود المسبوق بالعدم
فلنحلّل هذا المعنى ، وننظر في القدر المحتاج منه إلى المؤثّر فنقول : لا يجوز أن
يكون المحتاج إلى المؤثّر هو العدم ، لأنّ العدم حاصل أبدا ، ولأنّ الكلام مفروض في الحادث ،
ولو كان العدم هو المحتاج لم يستند الموجود إلى المؤثّر ، فيكون الحادث غنيّا في
وجوده عن المؤثّر ، هذا خلف ، ولأنّ العدم نفي محض ، فلا حاجة به إلى المؤثّر ،
ولا الوجود من حيث هو وجود ، وإلّا لكان كلّ موجود محتاجا إلى المؤثّر ، فواجب
الوجود محتاج ، هذا خلف. ولا مسبوقية الوجود بالعدم ، لأنّها ليست ثبوتية ، وإلّا
لزم التسلسل ، ولأنّها صفة للموجود متأخّر عنه ، فالمحتاج إلى الفاعل متأخّر عن
الوجود ، ويكون الوجود السابق مستغنيا عن المؤثّر ، فالممكن واجب ، هذا خلف. ولأنّ
المسبوقية هنا واجبة لذات هذا الحادث ، فلا يستند إلى الغير ، لأنّ الواجب غير
معلّل.
وإذا امتنع كون
الحدوث علّة الحاجة إلى المؤثّر ، وجب أن يكون هو الإمكان ، لأنّه إذا انتفى
الحدوث والإمكان بقي الشيء قديما واجبا ، والقديم الواجب مستغن عن المؤثر ، فلم
يبق المحتاج إلّا الممكن المحتاج إلى القادر لا يجب أن يكون حادثا.
وأيضا العدم
السابق ينافي وجود الفعل وفاعلية الفاعل ، وما كان منافيا للشيء لا يكون شرطا له ،
فالعدم السابق لا يكون شرطا لكون الفعل فعلا ، ولا لكون الفاعل فاعلا ، فالفعلية
والفاعلية يتحقّقان عند عدم العدم السابق ، فلا
__________________
يجب أن يكون فعل
المختار حادثا.
وأيضا الإمكان
علّة الحاجة إلى المؤثّر ، فالباقي محتاج ، فليس الحدوث شرطا في الحاجة.
لا يقال : الباقي
يصير أولى ، وتلك الأولوية تغني عن المؤثّر.
لأنّا نقول :
الأولوية إن حصلت لذاته ، كانت حاصلة حال الحدوث ، فيجب الاستغناء عن المؤثر حال
الحدوث ، وإن كانت حاصلة لأمر ، كان الباقي محتاجا في بقائه إلى علّة الأولوية
بواسطة حاجته إلى الأولوية ، وذلك قول : بحاجة الباقي إلى المؤثّر.
والجواب : نحن
نسلّم : أنّ علّة الحاجة إلى مطلق المؤثّر هي الإمكان ، لكن [علّة] الحاجة إلى القادر ليس الإمكان وحده ، بل الإمكان للممكن
الذي سيحدث ويتجدّد له وجود ، ونمنع أيضا كون الإمكان علّة ، بل هذا الإمكان
الخاص. ولا يلزم من كون الحدوث ليس علّة الحاجة أن يكون مطلق الإمكان هو العلّة ،
بل العلّة هذا الإمكان الخاص.
وكون العدم ينافي
الوجود مسلّم ، لكن ذلك لا يخرجه عن الشرطية ، لأنّه يجوز أن يكون المنافي للشيء
شرطا في وجود منافيه المتأخّر عنه ، لأنّ المنافاة إنّما هي مع التقارن. ولهذا
كانت الحركة شرطا في وجود السكون المتعقّب لها ، مع المنافاة بينهما ، وكلّ جزء
متقدّم من أجزاء الحركة شرط في الباقي منها ، مع المنافاة بينهما ، فجاز أن يكون
العدم السابق في الحادث شرطا في وجود الحادث.
وقد بيّنا أنّ
الإمكان علّة في مطلق الحاجة لا في الحاجة إلى المختار ، بل العلّة فيها هي
الحدوث.
__________________
البحث الثاني : في أنّ القديم لا يجوز عليه العدم
اعلم : أنّ القديم
الوجودي لا يجوز عليه العدم ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو ممكنا لذاته ، فإن كان واجبا لذاته امتنع عليه العدم
، لما تقدّم في خواص الواجب. وإن كان ممكنا لذاته ، افتقر في وجوده إلى مؤثّر ،
وذلك المؤثّر يجب أن يكون قديما لاستحالة تقدم المعلول على علّته. ويجب أن يكون
موجبا ، لامتناع استناد القديم إلى المختار.
ويجب أن يكون
واجبا ، إمّا لذاته أو لغيره ، فإن كان واجبا لذاته ، فإمّا أن يكون ايجابه للقديم
موقوفا على شرط أو لا ، فإن لم يكن موقوفا على شرط ، لزم من استمرار وجود الواجب
لذاته ، استمرار وجود معلوله المطلق ، لامتناع انفكاك العلّة التامّة عن معلولها ،
لكنّ الواجب لذاته يستحيل عليه العدم ، فيستحيل على معلوله المستند إليه خاصة ،
وإن كان موقوفا على شرط فنقول :
ذلك الشرط لا يجوز
أن يكون حادثا ، لاستحالة اشتراط القديم بالحادث ، وإلّا لكان الشيء متقدّما على
شرطه ، فلا يكون مشروطا به ، بل يجب أن يكون قديما ، فإمّا أن يكون واجبا لذاته ،
وهو محال ؛ لاستحالة تعدّد الواجب لذاته ، ولو سلّم فالمطلوب ، لأنّ العلّة يستحيل
عدمها لوجوبها ، والشرط أيضا يستحيل عدمه لوجوبه ، فاستحال عدم المعلول حينئذ.
وإن كان الشرط
ممكن الوجود ، فلا بدّ له من علّة قديمة ، وإلّا لكان حادثا
__________________
فلا يكون شرطا
للقديم ، وتكون واجبة لذاتها أو مستندة إليه ، وعلى كل تقدير يمتنع عدمها فيمتنع
عدم القديم.
فإن قيل : لا
نسلّم امتناع عدم القديم ، لأنّ الممكن المستند إلى علّته القديمة لا يخرج عن
إمكانه ، وكل ممكن فإنّه يجوز عدمه ، فكيف يصحّ الحكم عليه بامتناع العدم.
لا يقال : إنّه من
حيث ذاته يمكن عدمه ، لكنّه باعتبار علّته يمتنع عدمه ، وليس مطلوبنا إلّا ذلك.
لأنّا نقول : هذا
يلزم منه التناقض ، لأنّ الممكن لو كان وجوده لازما لوجود الواجب لذاته ، ومعلوم
أنّ عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم ، وأنّ إمكان الملزوم ملزوم لإمكان اللازم ،
فيكون عدم الممكن المعلول للواجب ملزوما لعدم الواجب ، فإمكان عدم الممكن ملزوم
لإمكان عدم الواجب ، وإمكان عدم الممكن واقع فيقع ملزومه ، وعدم الواجب محال.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون القديم الوجوديّ المعلول للواجب مشروطا بشرط عدمي أزليّ؟ والعدميّ
الأزليّ يجوز زواله ، وإلّا لم يوجد العالم ، وإذا زال شرط القديم الوجودي لزم زوال القديم.
سلّمنا ، لكنه معارض بوجوه :
الأوّل
: حدوث العالم في
الأزل ، ومحدثية الباري تعالى لو كانا ممتنعين فتلك الاستحالة ، إن كانت هي
بعينها ، مع أنّها قد زالت ، فلم لا يجوز زوال الواجب لذاته؟ وإن كانت بسبب ،
رجعنا إليه بالتقسيم الذي ذكرتموه ، مع أنّها قد زالت.
__________________
الثاني
: إمكان العالم فيما
لا يزال ، إن كان لذاته ، فإن كان ثابتا في الأزل (بطل القول بوجوب حدوث العالم ،
وإن لم يكن ثابتا في الأزل مع أنّه قد تجدّد جاز حينئذ أن تحدث الأمور اللازمة لحقائق
الأشياء فجاز أيضا أن تزول بعد ثبوتها ، إذ لا فرق في العقل بين الطرفين ،
وإن كان بسبب ، كان ذلك الإمكان ممكنا في نفسه فيفضى إلى ثبوت إمكانات غير متناهية
، وهو محال.
ثمّ إنّها بأسرها
تستدعي سببا ، وكلّ ما كان كذلك فهو لذاته ممكن ، فإذن إن لم يكن هناك استغناء عن
الجعل امتنع جعل تلك الإمكانات ، وإن كان هناك إمكان استغنى عن الجعل فهو حاصل لذاته ، ويعود الكلام الأوّل.
الثالث
: صحّة مؤثّرية الله
تعالى في العالم ، إن كانت لذاته يلزم دوامها لدوام ذاته ، أو لأمر آخر فيعود
التقسيم ولا ينقطع إلّا عند الانتهاء إلى واجب الوجود ، ومع ذلك فلا يجب دوام صحّة
تلك المؤثريّة.
الرابع
: الحادث يصحّ أن
يكون مقدورا لذاته ، وحال البقاء يمتنع عليه أن يكون مقدورا ، فقد تبدّلت صحّة تلك
المقدورية بامتناعها ، وقد تبدّل الواجب الذاتي.
الخامس
: الحادث قد كان
مقدورا للباري تعالى في الأزل إلى أن أوجده ، ثمّ زالت صحّة قدرته تعالى على احداثه ابتداء ، لاستحالة إيجاد الموجود ، وإذا
زالت تلك الصحّة مع أنّها قديمة ، لزم عدم القديم.
__________________
لا يقال : لا
نسلّم زوال تلك الصحّة ، لأنّه تعالى بعد إيجاده للعالم قادر على إيجاده مرّة أخرى
، بأن يعدمه ثمّ يوجده.
لأنّا نقول :
كلامنا في الإيجاد المبتدأ لا في تجدد إيجاد بعد إعدام ، ولا شك في امتناع ابتداء
الإيجاد.
السادس
: أنّه تعالى في
الأزل عالم ، بأنّ العالم سيحدث فيما لا يزال ، فإذا وجد العالم استحال بقاء علمه
بأنّه سيحدث ، لأنّه جهل ، تعالى الله عنه. فذلك التعلّق إن كان حادثا فقبله تعلّق
آخر لا إلى أوّل ، فهناك حوادث لا أوّل لها ، والقول بتجويزه اعتراف بفساد
المقدّمة الثانية من أصل دليلكم على حدوث العالم ، وإن كان قديما فذلك التعلّق
الأزلي قد عدم.
لا يقال : قد
تقدّم أنّ القديم الأزلي إذا كان مشروطا بشرط عدمي أزلي جاز زواله لزوال شرطه
العدمي الأزلي ، وهاهنا اقتضاء ذاته تعالى لتلك العالمية مشروط بعدم العالم أزلا ،
إذ لو كان موجودا لاستحال علمه بأنّه سيوجد ، فجاز زوال التعلّق الأزلي لزوال
شرطه.
لأنّا نقول : هذه
مساعدة لنا على مطلوبنا ، وهو جواز عدم القديم لزوال شرطه العدمي ، وإذا جاز في
قديم جاز في كل قديم.
والجواب : أنّ الممكن لذاته بالنظر إلى ذاته ليس بقديم ولا حادث ،
ولا واجب لغيره ولا ممتنع ، وإنّما يعرض له شيء من ذلك بالنظر إلى غيره ، ولا
نسلّم بقاءه على إمكانه بالنظر إلى وجود علّته أو عدمها ، بل يخرج إلى حيّز الواجب
لغيره أو الممتنع ، وهما ينافيان الإمكان بالنظر إلى الغير ، وإن لم ينافياه
بالنظر إلى
__________________
الذات ، وإنّما
يجوز عدمه بالنظر إلى ذاته ، فصحّ الحكم عليه بامتناع العدم بالنظر إلى علّته ،
ولا تناقض ، لاختلاف الموضوع ، لأنّه في أحدهما الممكن لذاته ، وفي الآخر الممكن
المأخوذ مع علّته ، والتناقض ممنوع. ولا نسلّم وقوع إمكان عدم الممكن ، وإنّما يكون واقعا لو لم يعتبر وجود علّته أو
عدمها. ولا نسلّم أنّه يمكن اشتراط القديم الأزلي بشرط عدمي ، لأنّ العدم لا يجوز
أن يكون علّة ولا جزء علّة للوجودي ، والشرط في الحقيقة جزء من العلّة التامة.
وفيه نظر ؛ فإنّا
نعلم بالضرورة أنّ المؤثّر مع وجود المانع لا يوجد أثره ، فعدم المانع شرط في وجود
الأثر.
بل الحق في الجواب
وجهان :
الأوّل
: أن نقول : ذلك
الشرط العدمي إن استغنى عن المؤثّر بذاته كان واجبا ، إذ هو معناه ، وإن احتاج
فليس إلّا عدم مؤثّره على ما يأتي ـ من أنّ علّة العدم عدم العلّة لا غير ـ ثمّ
ننقل الكلام إلى عدم العلّة وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فيلزم أن لا توجد ملكة هذا
الشرط إلّا إذا وجد ما لا يتناهى دفعة ، وهو محال ، وإذا لم توجد ملكة هذا الشرط
امتنع زوال القديم.
الثاني
: أنّ بين القديم
وملكة شرطه منافاة ذاتية ، فلا يمكن إسناد الملكة إلى ذلك القديم ، ولا إلى
معلولاته ؛ لامتناع اقتضاء الشيء منافي ذاته أو علّة ذاته ، ولا إلى علله ؛
لامتناع صدورها عنها بالاختيار ، وإلّا لزم صدور القديم بالاختيار وبالإيجاب ،
لامتناع اقتضاء الشيء الواحد المتنافيين ، ولأنّ وجود الملكة يستلزم عدم القديم ،
لكن عدم القديم إنّما هو لعدم علّته ، فتكون علّة القديم موجودة بالنظر إلى وجود معلولها
الذي هو الملكة ، ومعدومة بالنظر إلى عدم معلولها الذي هو
__________________
القديم. ولا إلى
غيرهما لوحدة واجب الوجود ، وتناهي الحوادث على ما يأتي.
وعن
المعارضة الأولى : أنّ الامتناع والصحّة أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج ، والقديم
العدمي يجوز زواله ، لأنّ الامتناع هنا مستند إلى المانع ، وهو الأزل المنافي ، لصحّة حدوث العالم ومحدثية الله تعالى فيه.
وعن
الثاني : أنّ الإمكان عدميّ
اعتباري أيضا ، لا تحقّق له في الخارج ، وهو لازم عقلا للماهية ، فإذا فرضت
الماهية في أي وقت فرض لزم الإمكان لها ، وهذا الإمكان الراجع إلى الماهية لا
ينافي الاستحالة باعتبار الأزلية للحادث.
وعن
الثالث : أنّ المؤثّرية أمر
اعتباري أيضا ، لا تحقّق لها في الخارج ، وإلّا لافتقرت إلى مؤثّرية أخرى ،
ويتسلسل.
وكذلك الجواب عن
الرابع : فإنّ صحّة المقدوريّة ذهنية ، وإلّا تسلسل.
وعن
الخامس : أنّ القدرة باقية
، والزائل هو التعلّق وهو أمر اعتباري. وابتداء الوجود ثابتا ، بوصف كونه وجودا
ثابتا ومبتدأ جمع بين المتناقضين ، وهو محال لذاته فلا يكون مقدورا ، لأنّ المقدور
إنّما هو الممكن لا غير.
وعن
السادس : أنّ الناس اختلفوا
فذهب «أبو هاشم» وجماعة [إلى] أنّ العلم بأنّ الشيء سيحدث ، هو بعينه العلم بحدوثه
وقت حدوثه ، فيزول الإشكال عنه. ومنهم من قال : إنّ التعلّق الأوّل باق وتجدّد
تعلّق آخر ، ويزول عنه الإشكال أيضا ، وهو مذهب «أبي الحسين» وبعضهم قال : إنّ التعلّق الأوّل
قد زال ويتوجّه عليه الإشكال.
__________________
وفيه نظر ؛ فإنّ
التعلّق الثابت بين العلم والمعلوم أمر اعتباري لا تحقّق له في الخارج ، فلا بعد
في زوال التعلّق الأوّل وتجدّد تعلّق آخر بعده ، كما في جميع الصفات الإضافية
المحضة. والقدرة والعلم باقيان أزلا وأبدا ، والزائل هو التعلّق بينهما وبين
المقدور والمعلوم ، كما أنّ الواحد منّا يقدر على تحريك جسم صغير ، فإذا عدم ذلك
الجسم ، لم تعدم قدرتنا على تحريك مثله ، بل عدم تعلّق قدرتنا بذلك الجسم المعدوم
لا غير ، لأنّ التعلّق إضافة بين قدرتنا وبين ذلك المعدوم ، وإذا عدم أحد المضافين
عدمت الإضافة.
البحث الثالث : في أنّ القديم واحد
اختلف الناس هنا
فذهبت الإمامية إلى أنّ القديم هو الله تعالى لا غير ، وأنّ ما عداه محدث ،
للبراهين الآتية الدالّة على أنّ العالم ـ وهو كلّ ما سوى الله تعالى ـ محدث ،
ولأنّه ممكن وكل ممكن محدث.
وذهبت الأشاعرة
إلى إثبات قدماء ثمانية مع ذات الله تعالى ، هي المعروفة عندهم بالمعاني ، وسيأتي
البحث فيها إن شاء الله تعالى.
قيل : إنّهم لا يطلقون اسم القدماء على المعاني التي يثبتونها
لله تعالى في الأزل ، لأنّ القدماء عندهم عبارة عن أشياء متغايرة ، والتغاير إنّما
يثبت عندهم بين الذوات لا بين الصفات أنفسها ، ولا بين الصفات والذوات.
وفيه نظر ، لأنّهم
صرّحوا بثبوتها في الأزل ، ولا يجب في القديم أن يكون ذاتا ، بل كلّ ثابت في الأزل
فإنّه قديم. ثمّ إنّ النزاع في ذلك لفظي ، لأنّهم يعطون معنى القديم.
__________________
وذهبت المعتزلة
إلى إنكار القدماء وبالغوا فيه ، لكنّ «أبا هاشم» أثبت في الأزل الأحوال الخمسة ،
وهي : القادريّة والعالميّة والحييّة والموجوديّة ، وعلّلها بحالة خامسة وهي
الإلهيّة .
قيل : إنّ هذه الأحوال وإن قال بثبوتها في الأزل ، لكنّه لا
يقول بقدمها ، لأنّ القديم هو الموجود أزلا ، والحال لا توصف بالوجود والعدم ، فلا
تكون قديمة.
وهو أيضا راجع إلى نزاع لفظي ، لأنّا لا نعني بالقديم إلّا
الثابت في الأزل ، ولا فرق بين الثبوت والوجود.
وقد اتفق المسلمون
كافّة على نفي كل قديم غير الله تعالى وغير صفاته ، لدلالة السمع عليه ،
لأنّ الدليل العقلي ـ وهو التمانع ـ إنّما دلّ على نفي إلهين ، فأمّا على نفي قديم
غير قادر ولا حيّ ، فلا يدلّ العقل عليه.
وهو خطأ ، لأنّ ما
عدا الله تعالى ممكن وكلّ ممكن محدث.
وذهب الحرنانيّون إلى إثبات قدماء خمسة ، اثنان حيّان فاعلان وهما : الباري
تعالى والنفس ، وعنوا بالنفس ما يعمّ الأرواح البشرية والسماوية ، وهي مبدأ
الحياة. وواحد منفعل غير فاعل ولا حيّ وهي الهيولى ، واثنان لا حيان ولا فاعلان
ولا منفعلان ، وهما الزمان والخلاء.
أمّا الباري تعالى
، فلأنّه لو كان حادثا لافتقر إلى موجد ويتسلسل ، أو يدور ، أو ينتهي إلى قديم هو
المبدأ له ، فيكون هو الباري تعالى ، لا ما فرضناه ، وهذا
__________________
خلف.
وأمّا النفس
والهيولى ، فلأنّهما لو كانا حادثين لكان لهما هيولى ؛ لأنّ كلّ محدث فله هيولى ،
لكن ليس للهيولى ولا للنفس هيولى ، لاستحالة أن تكون تلك الهيولى حادثة ، وإلّا
لزم التسلسل ، أو إثبات هيولى قديمة وهو المطلوب وهذا غير تام ، إذ لا يلزم من قدم هيولى النفس قدمها.
وأمّا الزمان ،
فلأنّه لو كان حادثا لكان عدمه قبل وجوده قبلية زمانية فيكون للزمان زمان آخر ويتسلسل ، أو ينتهي إلى زمان قديم
وهو المطلوب .
وأمّا الخلاء ،
فلأنّه واجب لذاته ، إذ معنى الواجب لذاته ، هو الذي لا يتصوّر عدمه ، ولا رفعه عن
الوجود ، والخلاء لا يمكن رفعه ، ولا يتصوّر الذهن عدمه ؛ لأنّه لو ارتفع الفضاء
لم تبق الجهات متمايزة ولا مشارا إليها ، وهو غير معقول.
ومال «ابن زكريا» إلى هذا المذهب ، ونحن نمنع احتياج الحادث إلى المادة والمدّة وسيأتي.
وامتناع رفع
الفضاء مستند إلى الوهم لا العقل.
وذهبت الفلاسفة
إلى قدم المادّة والزمان ، لأنّ كلّ حادث عندهم فإنّه مسبوق بمادة ومدة لما يأتي.
__________________
الفصل الثالث :
في خواص المحدث
وفيه مباحث :
البحث الأوّل : في أنّه لا يجب في المحدث سبق المادة عليه
ذهبت الفلاسفة إلى
أنّ كلّ محدث فإنّه مسبوق بمادة يكون حالّا فيها كالصور والأعراض ، أو موجودا عنها
كالمركّب ، أو معها كالنفوس ، وحصروا المحدثات في هذه الأصناف الثلاثة لا غير.
وكلّ بسيط غير هذه فإنّه يستحيل أن يكون محدثا عندهم.
واستدلّوا على سبق
المادة ، بأنّ كلّ محدث فإنّ عدمه سابق على وجوده ، ووجوده حال عدمه ممكن ، وإلّا
امتنع حدوثه ، فذلك الإمكان سابق على وجوده. وليس راجعا إلى صحّة اقتدار القادر
عليه ؛ لأنّ هذا الإمكان مأخوذ بالقياس إلى ذات الممكن من غير التفات إلى مؤثّره ،
وصحّة اقتدار القادر عليه مأخوذة
__________________
بالقياس إلى
المؤثّر ، فتغايرا . ولأنّه يعلّل الثاني بالأوّل ، فنقول : إنّما صحّ اقتدار
القادر عليه لأنّه ممكن ؛ لأنّ الإمكان علّة في صحّة تعلّق المقدورية به ، ولا
يصحّ أن يقال : إنّما صحّ اقتدار القادر عليه لأنّه صحّ اقتدار القادر عليه ،
فتغايرا. وليس الإمكان عدميّا للفرق بين نفي الإمكان والإمكان العدمي ، ولا جوهرا
قائما بذاته ، ولا بالممكن ، لعدمه. فلا بدّ له من محلّ مغاير هو الهيولى .
والجواب : قد
بيّنا أنّ الإمكان عدميّ ، وأنّ الفرق لا يستدعي ثبوته كالعدم والامتناع وغيرهما
من الصفات العدميّة.
قيل : الإمكان
عندهم يقع بالاشتراك اللفظي على أمرين :
أحدهما : ما يقابل
الامتناع وهو عندهم صفة عقلية يوصف بها كلّ ما عدا الواجب والممتنع من المتصوّرات
، ولا يلزم من اتّصاف الماهية بها كونها ماديّة.
والثاني :
الاستعداد ، وهو موجود عندهم معدود في نوع من أنواع جنس الكيف ، وإذا كان موجودا
وعرضا وغير باق بعد الخروج إلى الفعل ، فيحتاج لا محالة قبل الخروج إلى محلّ ، وهو
المادة. فهذا البحث معهم يجب أن يكون في إثبات ذلك العرض ونفيه .
وفيه نظر ، فإنّ
البحث في الاستعداد كالبحث في الإمكان ، والوجوه الدالّة على نفيه دالّة على نفي
الاستعداد .
__________________
البحث الثاني : في أنّه لا يجب في المحدث سبق المدّة عليه
اختلف الناس هنا ،
فذهب المسلمون كافة إلى ذلك ، وذهبت الفلاسفة إلى أنّ كل محدث فإنّه مسبوق بزمان
هو موجود غير قارّ الذات متصل اتصال المقادير ، لأنّ الحادث بعد ما لم يكن تكون بعديته هذه مضافة إلى قبليّة قد زالت ، فله قبل لا
يوجد مع البعد ، وليست تلك القبليّة كقبليّة الواحد على الاثنين التي قد يكون بها
ما هو قبل وما هو بعد معا في حصول الوجود ، بل يجب أن تكون قبلية قبل لا تثبت مع البعد ، بل تزول
قبليته عند تجدّد البعدية.
وهذه القبلية مغايرة
للعدم ، لأنّ العدم كما كان قبل ، فقد يصحّ أن يكون بعد ، وليس القبل بعد ، ولا
الفاعل لأنّه قد يكون الفاعل قبل الحادث ومعه وبعده ، وليس القبل كذلك. فهو شيء آخر يتجدّد ويتصرّم
، وهو غير قارّ الذات ، وهو متّصل في ذاته ، لإمكان فرض متحرّك يقطع مسافة يوافق
حدوث هذا الحادث انقطاعها ، فيكون ابتداء حركته قبل هذا الحادث ، ويكون بين ابتداء
الحركة وانتهائها ، كما بين ابتداء الحركة وحدوث الحادث ، فكما كان هناك قبليات
وبعديات متصرّمة متجدّدة مطابقة لأجزاء المسافة والحركة، كذا يجب أن يكون بين
ابتداء الحركة وابتداء هذا الحدوث.
__________________
وسيظهر في بطلان
الجزء ، أنّ مثل هذا المتّصل لا يتألّف من أجزاء لا تتجزّأ. فيثبت أنّ كل حادث
مسبوق بموجود غير قارّ الذات متّصل اتصال المقادير ، وهو الزمان.
والاعتراض : لا
نسلّم ثبوت هذه القبليّة في الخارج ، ودليلكم إنّما ينهض بثبوتها مطلقا ، وهو أعمّ
من الثبوت الذهني والخارجي ، ولا يدلّ ثبوتها في الذهن على ثبوت موصوفها في الخارج
، فإنّه كما يصحّ وصف الموجود بها ، كذا يصحّ وصف المعدوم بها ، فإنّه دليلكم على
ثبوت الزمان ، بل يمتنع ثبوت القبليّة والبعديّة في الخارج لوجوه :
أ
: لو كانت القبليّة
موجودة لزم التسلسل ؛ لأنّ القبليّة الواحدة سابقة على كل ما يتأخّر عنها ، فيفتقر
إلى قبليّة أخرى ، ويلزم التسلسل لا دفعة واحدة ، بل دفعات لا تتناهى ، وهو غير
معقول.
واعترضه أفضل
المحقّقين : بأنّ القبليّة والبعديّة اللاحقتين بالزمان إضافيتان عقليتان ،
والموجود في الخارج هو الزمان ، وهو الذي تلحقه القبليّة لذاته وتلحق ما سواه ممّا
يقع فيه بسببه في العقل ، أمّا نفس القبلية فليس من الموجودات المختصّة بزمان دون
زمان ، لأنّها أمر اعتباري يصحّ تعقّله في جميع الأزمنة ، وإن أخذ من حيث يقع في زمان
معيّن ، كان حكمه حكم سائر الموجودات في لحوق قبليّة أخرى يعتبرها العقل به ، ولا
يتسلسل ذلك ، بل ينقطع بانقطاع الاعتبار
__________________
الذهني .
وفيه نظر ؛ لأنّ
فيه اعترافا بأنّ القبليّة ليست في الخارج ، وقد بيّنا أنّ للذهن إلحاقها بالوجودي
والعدمي ، ولا يمكن الحاق القبليّة بالزمان لذاته ، وإلّا لوجب اختلاف أجزائه
بالذات ، فيلزم وجود أجزاء لا تتجزّأ فيه ، وهو عندهم محال.
لا يقال : كل واحد
من العدم والوجود ليس قبلا ولا بعدا لذاته ، وإلّا لامتنع انقلاب كلّ منهما إلى صفة الآخر
، وهو محال ، فوجب ثبوت شيء يلحقانه غيرهما ، وهو المراد بالزمان.
لأنّا نقول : قد
بيّنا أنّ معروضهما قد يكون وجوديّا وقد يكون عدميا ، فلا يجوز الاستدلال بعروضهما
لشيء على كون ذلك الشيء ثبوتيا.
ب
: القبليّة
والبعديّة إضافتان ، فإن كانتا ذهنيّتين لم يجب ثبوت معروضهما في الخارج، وإن
كانتا خارجيّتين وجب أن توجدا معا ، وقيل إنّهما لا توجدا معا ، هذا خلف.
اعترضه أفضل
المحقّقين بأنّهما إضافتان عقليتان لا توجدان إلّا في العقول ، لأنّ الجزءين من الزمان اللذين تلحقهما القبليّة والبعديّة لا يوجدان
معا ، فكيف توجد الإضافة اللاحقة لهما ، لكنّ ثبوتهما في العقل لشيء يدل على وجود معروضهما الذي
هو الزمان مع ذلك الشيء ويجب أن يكون وجود معروضهما معا في العقل ، ولا يجب أن يوجدا في الخارج
معا .
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
فيه اعترافا بأنّهما ليس لهما ثبوت في الأعيان ، فلا يلزم وجود معروضهما فيه ، وهو
المطلوب.
لا يقال :
القبليّة والبعديّة إذا كانا معا في الذهن ، فلا بدّ وأن يوجد معروضهما معا في
الذهن ، حتى يصحّ الحكم على أحدهما بالقبليّة وعلى الآخر بالبعديّة ، فحينئذ الحكم
بالقبليّة : إمّا أن يكون باعتبار وجود معروضهما في الخارج ، وهو محال ، لعدم
اقتضاء الوجود القبليّة والبعديّة. أو باعتبار ذاته وهو محال أيضا ، لأنّ الذاتين
من حيث هما ذاتان لا تعرض لاحداهما القبليّة وللأخرى البعديّة. فلا بدّ من أمر
مغاير لمعروض القبلية ، يوجد المعروض فيه ، وباعتباره يكون قبلا وكذا
البعديّة .
لأنّا نقول :
فنرجع بالبحث على ذلك الشيء ، لم صار أحدهما متقدما والآخر متأخّرا؟ فإن أسندتموه
إلى ذاتهما فليسند إلى الذاتين. وأيضا يلزم اختلافهما بالماهيّة ، لكنّ أجزاء
الزمان متساوية. وأيضا يلزم وجودهما بالفعل ، وأجزاء الزمان عندكم إنّما توجد
بالفرض.
ج : لو كانت القبليّة وجوديّة لم يصحّ وصف العدم بها ، لاستحالة اتّصاف المعدوم بالموجود .
واعترض عليه أفضل
المحقّقين : بأنّ العدم المقيّد بشيء ما ، يكون معقولا بسبب ذلك الشيء ، ويصحّ
لحوق الاعتبارات العقلية به من حيث هو معقول .
__________________
وفيه نظر ؛ لأنّ
البحث إنّما هو : هل القبليّة وجوديّة أم لا؟ وإذا اعترف بأنّها عقلية بطل النزاع.
د
: أجزاء الزمان يعرض
لبعضها بالنسبة إلى البعض الآخر هذا التقدّم والتأخّر بعينه، فيلزم أن يكون للزمان زمان آخر.
لا يقال : الفرق
بين الزمان وغيره ظاهر ، لأنّ الزمان متقضّ لذاته فلهذا استغنت القبليّة والبعديّة
العارضتان له عن زمان آخر ، ولم تستغن القبليّة والبعديّة العارضتان لغيره عنه.
ولأنّ القول بالقبليّة والبعديّة يمكن مع القول بكون كل جزء من الزمان مسبوقا بجزء
آخر ، ولا يمكن مع القول بحادث هو أوّل الحوادث ، لأنّه ينافي الإشارة إلى ما هو
قبل أوّل الحوادث.
لأنّا نقول على
الأوّل : أجزاء الزمان إن كانت متساوية في الماهية ، استحال تخصّص بعضها بالتقدّم
دون البعض الآخر ، وإن لم تكن ، كان انفصال كلّ جزء عن الآخر بماهيته ، فيكون الزمان غير متّصل ، بل مركّبا من آنات. وأيضا
تجويز وجود قبلية وبعدية لا توجدان معا في جزءين من الزمان من غير زمان يغايرهما ،
يقتضي تجويز كون العدم قبل وجود الحادث من غير زمان يغايرهما.
وعلى الثاني :
بأنّ معنى قولنا : اليوم متأخّر عن أمس ، ليس هو «أنّه لم يوجد معه»؛ لأنّ اليوم
لم يوجد أيضا مع الغد. وإن سلّمنا ، أنّ معناه «أنّه لم يوجد معه» ، كانت هذه
المعيّة اضافة عارضة لهما مغايرة لذاتيهما ، فكان المعقول منه : أنّ اليوم ما حصل
في الزمان الذي حصل فيه الأمس ، وحينئذ يعود التسلسل. وإن لم يكن معناه أنّه لم
يوجد معه ، بل كان معناه : أنّ اليوم لم يوجد حين كان أمس ، فلفظة
__________________
«كان» مشعرة بمضيّ
زمان ، وذلك يقتضي أن يكون للزمان زمان آخر.
اعترضه أفضل
المحقّقين : بأنّ الزمان ليس له ماهية غير اتّصال الانقضاء والتجدّد ، وذلك
الاتصال لا يتجزّأ إلّا في الوهم ، فليس له أجزاء بالفعل ، وليس فيه تقدّم ولا
تأخّر قبل التجزئة. ثمّ إذا فرض له أجزاء فالتقدّم والتأخّر ليسا بعارضين يعرضان
للأجزاء وتصير الأجزاء بسببهما متقدّما ومتأخّرا ، بل تصوّر عدم الاستقرار الذي هو
حقيقة الزمان ، يستلزم تصوّر تقدم وتأخّر للأجزاء المفروضة لعدم الاستقرار لا لشيء
آخر ، وهذا معنى لحوق التقدّم والتأخّر الذاتيّين به. وأمّا ما له حقيقة غير عدم
الاستقرار يقارنها عدم الاستقرار ، كالحركة وغيرها فإنّما يصير متقدّما ومتأخّرا
بتصوّر عروضهما له. وهذا هو الفرق بين ما يلحقه التقدّم والتأخّر لذاته ، وبين ما
يلحقه بسبب غيره ، فإنّا إذا قلنا : اليوم [و] أمس ، لم نحتج إلى أن نقول : اليوم متأخّر عن أمس ، لأنّ
نفس مفهومهما يشتمل على معنى هذا التأخّر. أمّا إذا قلنا : العدم والوجود ، احتجنا
إلى اقتران معنى التقدّم بأحدهما حتى يصير متقدّما.
وفيه نظر ، فإنّ
تفسير الزمان باتّصال الانقضاء والتجدّد ، يقتضي اتصال المعدوم بالموجود ، أو أحد
المعدومين بالآخر ، وهو محال ، ولا يقتضي وجوده ، ولأنّ الاتّصال أمر ذهني فكيف
يدّعى وجود الزمان بهذا المعنى ، خصوصا وقد فرض عارضا لأمر عدمي.
وقوله : «وليس فيه
تقدّم ولا تأخّر قبل التجزئة. [ثم] إذا فرض له أجزاء فالتقدم والتأخّر ، ليسا
بعارضين يعرضان للأجزاء ، وتصير الأجزاء بسببهما متقدّما ومتأخّرا ، بل تصوّر عدم
الاستقرار الذي هو حقيقة الزمان ، يستلزم تصوّر تقدّم
__________________
وتأخّر للأجزاء
المفروضة ، لعدم الاستقرار لا لشيء آخر» ، ينافي دليلهم : إنّ التقدّم والتأخّر يعرضان لشيء غير الذاتين اللتين
عرضا لهما وهو الزمان لذاته. ثمّ «فرض التجزئة» لا يوجب وجود التجزئة ، فلا يوجب
عروض التقدّم والتأخّر للزمان ولا للذوات بسببه.
و «كون التقدّم
والتأخّر لا يعرضان لأجزاء الزمان» ينافي عدم استقراره وكونه معروضا للتقدّم
والتأخّر ، إذ لا يعرضان له بالنسبة إلى ذاته ، لامتناع عروض هاتين الإضافتين لشيء
واحد مطلقا ، بل لا بدّ من أمرين تعرضان لهما الإضافتان ، ولا بالنظر إليه مع غيره
فإن لم يعرضا لأجزائه لم يعرضا لشيء البتّة.
وجعل الزمان «عدم
الاستقرار» يقتضي كون الزمان عدميا.
والفرق بين اليوم
وأمس ، وبين الذوات ليس بجيّد ، لأنّ مفهوم أمس ـ هو الزمان السابق على زمان اليوم
ـ ولو لم يوضع لهما هذان اللفظان ، بل قيل زمانان لم يعلم السابق منها من الآخر ،
نعم يعلم أنّ أحدهما على الإجمال سابق على الآخر بعرض أنّه موجود غير قارّ كالحركة
، ولا فرق بين علم تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض وعلم تقدّم بعض أجزاء الحركة
على بعض ، فإن جعل التقدّم والتأخّر للحركة بسبب غيرها ، منع ذلك كما يمنع في الزمان.
ه
: لو كان الزمان
موجودا مع الحركة ، لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، بحيث توجد الحركة والزمان معا
فيه حتى تصح المعيّة ، إذ ليس المراد بها هنا إلّا المعيّة الزمانية ، فيكون
الزمان واقعا في الزمان بعين ما ذكرتموه.
__________________
اعترضه أفضل
المحقّقين : بأنّ معيّة ما هو في الزمان للزمان غير المعيّة بالزمان ، أعني : معيّة
شيئين يقعان في زمان واحد ، لأنّ الأولى تقتضي نسبة واحدة لشيء غير الزمان إلى
الزمان [و] هي متى ذلك الشيء ، والأخرى تقتضي نسبتين لشيئين يشتركان في منسوب
إليه واحد بالعدد ، [و] هو زمان ما ، ولذلك لا يحتاج في الأولى إلى زمان يغاير الموصوفين بالمعيّة ، ويحتاج في الثانية إليه .
وفيه نظر ؛ فإنّ
الفرق بين معيّة ما هو في الزمان للزمان ، ومعيّة الشيئين بالزمان غير مفيدة
للغرض. لأنّا نقول : المعيّة بين الشيئين مطلقا إن اقتضت ثالثا تحصل به المعيّة
وجب ثبوت ذلك في الزمان نفسه ، وإلّا لم يجب ثبوت الزمان مطلقا ، وإن حصل في بعض
الأشياء دون بعض كان تحكّما محضا.
البحث الثالث : في أنّ كلّ محدث فإنّه ممكن
هذا المطلوب ظاهر
، فإنّ المحدث لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالعدم ، أو مسبوقا بالغير على اختلاف
التفسير ، وإذا كان مسبوقا بالعدم كانت ماهيته
__________________
موصوفة بالعدم
والوجود ، ولا نعني بالممكن ، إلّا ما يجوز عليه العدم والوجود ، والوقوع يستلزم
الجواز.
لا يقال : لم لا
يجوز أن يكون موصوفا بالوجود على سبيل الوجوب في وقت ، وموصوفا بالعدم في وقت آخر
على سبيل الوجوب ، فحينئذ تحقّق الحدوث دون الإمكان.
لأنّا نقول :
اتّصاف الذات بالوجود ، إن كان واجبا لنفس تلك الذات وجب دوامه بدوام الذات ، وإن كان لغيرها كانت الماهية في نفسها غير مقتضية للوجود
ولا للعدم ، بل كلاهما جائز عليه بالنسبة إلى الذات ، وهو معنى الممكن. وكذا البحث
في طرف العدم. وإذا كان مسبوقا بالغير كان معناه : أنّ وجوده مستند إلى ذلك الغير
، وكل مستند إلى غيره فإنّه مفتقر إلى ذلك الغير ، وكل مفتقر إلى الغير ممكن
بالضرورة.
__________________
الفصل الرابع :
في المتقدّم والمتأخّر والمع
وفيه مباحث :
البحث الأوّل : في أقسام هذه الأنواع
ذهب الأوائل إلى
أنّ التقدّم يقال على خمسة أنحاء بالتشكيك وزاد المتكلّمون قسما سادسا .
الأوّل : التقدّم بالعلّية
وهو أن يكون شيئان
وجود أحدهما صادر عن الآخر ومستند إليه ، ووجود
__________________
الآخر ليس صادرا
عن الأوّل ، فما يستحق أحدهما ـ الذي هو المعلول ـ الوجود إلّا وقد حصل للآخر ـ الذي
هو العلّة ـ الوجود ووصل إليه ، وأمّا الآخر فليس يتوسّط أحدهما بينه وبين ذلك الآخر في الوجود ، بل يصل إليه الوجود لا عنه ، وليس يصل إلى ذلك إلّا مارّا على الآخر ، كتقدّم حركة اليد على حركة الخاتم
، فإنّه يصحّ أن يقال : لو لا حركة اليد لما تحرّك الخاتم ، ولا يصحّ أن يقال : لو
لا حركة الخاتم لما تحرّكت اليد ، ويصحّ أن يقال : تحرّكت يدي فتحرّك الخاتم ، ولا
يصح أن يقال : تحرّك الخاتم فتحرّكت يدي.
فهذا النوع من
الترتب معلوم لكل عاقل ، وهو المراد بالتقدّم.
قيل عليه : تقدّم
العلّة على المعلول إمّا أن يكون لماهيتها ، أو لنفس العلّية والمعلولية ، أو
لمجموع الأمرين ، أعني : الماهية مع اعتبار العلّية والمعلولية ، والأقسام الثلاثة
باطلة ، فالتقدم المذكور باطل.
أمّا بطلان الأوّل
، فلأنّا إذا فرضنا حركة اليد من حيث هي هي ، وحركة الخاتم من حيث هي هي ، لم يكن
لإحداهما تقدّم على الأخرى ولا تأخّر ولا معيّة ، لأنّا قد بيّنا أنّ كلّ ماهيّة
إذا اعتبرت من حيث هي هي فهي لا متقدّمة ولا متأخّرة ولا مقارنة ، ولا واحدة ولا
كثيرة ، لأنّ كلّ ذلك لواحق تلحق الماهية خارجة عنها.
وأمّا بطلان الثاني
، فلأنّ العلّية والمعلولية وصفان اضافيان ، فيكونان معا في الوجود ، فيستحيل أن
يكون لأحدهما تقدّم على الآخر ، وإذا كانت الماهية من حيث هي غير متقدّمة ، ولا من
حيث هي علّة متقدّمة أيضا ، امتنع أن يكون
__________________
المجموع متقدّما ،
لتأخّر المركّب عن مفرداته.
وأجيب : بأنّا لا
نعني بهذا التقدّم والتأخّر إلّا احتياج أحدهما إلى الآخر في الوجود وتوقّفه عليه.
إلّا أنّ هذا
كالمخالف للمشهور ، لأنّهم يعلّلون هذا التقدّم بهذه الحاجة ، فيقولون : لمّا
احتاجت حركة الخاتم إلى حركة الاصبع ، وجب أن يكون لحركة الإصبع تقدّم على حركة
الخاتم ، وهذا مشعر بكون التقدّم والتأخّر معلولين للحاجة .
وفي السؤال نظر ،
فإنّ الماهيّة من حيث هي هي ، وإن لم تكن متقدّمة ولا متأخّرة ولا مصاحبة ، لكن قد
يلحقها اقتضاء ذلك كزوجية الاثنين ، فإنّها صادرة عن الاثنين من حيث هي هي لا
باعتبار لحوق آخر بها.
وقولهم : «الماهية
إذا أخذت من حيث هي هي لا تكون متقدّمة ولا متأخرة» ، لا يعنون بذلك أنّها لا تتصف
بشيء من ذلك ، فإنّه محال خلو الماهية عن ذلك ، بل يعنون به: أنّ أخذها من حيث هي
هي ، مغاير لأخذها من حيث هي مقتضية لأحدهما أو متّصفة به.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون الاقتضاء من حيث إنّ الماهية علّة قوله : العلّية والمعلولية
إضافتان توجدان معا. قلنا : توجدان معا في العقل ، لكن يثبت لأحدهما صفة المبدئيّة وللآخر صفة المعلولية ،
كما في اضافتي التقدّم والتأخّر. والأصل فيه أنّ الإضافة مغايرة لمبدإ الإضافة ،
والعلّة هي الماهية من حيث هي مبدأ إضافة العلّية ، وهذا الاعتبار متقدّم على
إضافة العلّية.
__________________
وقيل أيضا : إن كان المراد من تقدّم العلّة على معلولها ، كونها
مؤثّرة فيه ، كان معنى قولنا : العلّة متقدّمة على المعلول ، هو أنّ المؤثّر في
الشيء مؤثّر فيه ، وهذا تكرار خال عن الفائدة ، وإن كان المراد شيئا آخر فلا بدّ
من إفادة تصوّره.
وأجاب أفضل
المحقّقين : بأنّ تقدّم الشيء الذي منه الوجود على الشيء الذي له الوجود في الوجود
معلوم ببديهة العقل .
وفيه نظر ، فإنّ
المعلوم بالبديهة هو الاحتياج والإسناد ، أمّا التقدّم فإنّه المتنازع.
الثاني : التقدم بالذات
كتقدّم الواحد على
الاثنين ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّه لا يصحّ للاثنين وجود ، إلّا إذا كان الواحد
موجودا ، وقد يوجد الواحد وإن لم يوجد الاثنان. وكذا الجزء والكلّ ، والموصوف مع
صفته ، والشرط مع مشروطه وجزء العلّة مع المعلول. والمتقدّم هنا محتاج إليه
والمتأخّر محتاج.
ويصحّ وجود
المتقدّم والمتأخّر في هذين القسمين معا في الزمان ، بل يجب في الأوّل المقارنة الزمانية
بينهما ، ويمكن في الثاني . ويشتركان أيضا في أنّ المتأخّر محتاج إلى المتقدّم في تحقّقه
، ولا يكون الآخر محتاجا إلى المتأخّر. لكنّ الفرق بينهما ، أنّ المحتاج إليه في
الأوّل ، هو الذي بانفراده يفيد وجود المحتاج ، ويلزم من وجود المتقدّم وجود
المتأخّر. ويقترنان في الارتفاع زمانا كما اقترنا في الوجود. وكلّ واحد منهما
يرتفع مع ارتفاع صاحبه ، إلّا أنّ ارتفاع المعلول يكون تابعا ومعلولا
__________________
لارتفاع العلّة من
غير عكس ، كما كانا في طرف الوجود على هذه النسبة ، فإنّهما يوجدان معا بالزمان ،
ويكون وجود كلّ من العلّة والمعلول مع وجود صاحبه ، لكنّ وجود المعلول يكون تابعا
ومعلولا لوجود العلّة.
وأمّا في الثاني ،
فإنّ وجود المتقدّم لا ينفرد بإيجاد المتأخّر ، بل يحتاج إلى غيره ينضم إليه ،
حتى يتحصّل للمتأخر وجود ، فالمتأخّر بالذات يستلزم المتقدّم في الوجود من غير
انعكاس ، فإنّ المتقدّم يمكن أن يوجد لا مع المتأخّر ، أمّا المتأخّر فلا يمكن أن
يوجد إلّا مع المتقدّم.
وقد يقال لهذا
المشترك : تأخّر وتقدّم بالطبع. وقد يقال : المشترك تأخّر بالذات فيكون مشتركا
لفظا بينه وبين المتأخّر بالذات. ويقال للمتقدّم بالعلّية : إنّه متقدّم بالطبع
أيضا ، فالتقدّم بالعلّية مختصّ بالأوّل لا غير ، ولا شركة لفظية فيه ، وأمّا
التقدّم بالطبع وبالذات فيقالان بالاشتراك على الأوّل والثاني والمشترك ، وهذا التقدّم المشترك هو التقدّم الحقيقي الذي لا ينقلب
إلى صاحبه ، فإنّ العلّة وجزئها لا يمكن تأخّرهما عن المعلول بخلاف المتقدّم بالزمان وغيره من أقسام التقدّم الذي يجوز
أن ينقلب المتقدّم فيه فيصير متأخّرا ، وهو هو في الحالين.
الثالث : التقدّم بالزمان
وهو أن يكون شيئان
في زمانين ، ابتداء وجود أحدهما في زمان ، والآخر في زمان آخر ، ومن المعلوم
بالضرورة تقدم أحد الزمانين على الآخر ، فما قارن وجوده
__________________
الزمان المتقدّم ،
يقال له : إنّه متقدّم على ما قارن وجوده الزمان المتأخّر ، وذلك كتقدّم الأب على
الابن.
والزمان إمّا ماض
أو مستقبل أو حاضر ، فالمتقدّم في الماضي هو ما كان أبعد من الآن ، والمتأخّر هو
ما كان أقرب منه. والمتقدّم في المستقبل هو ما كان أقرب من الآن ، والمتأخّر هو ما
كان أبعد منه. وأمّا الآن نفسه فإنّه متقدّم بالنسبة إلى المستقبل ، ومتأخّر
بالنسبة إلى الماضي. وهذا المتأخّر لا يمكن أن يجامع المتقدّم في الزمان الذي به
تقدّم. فانقسم المتقدّم في الأنواع الثلاثة إلى أقسام ثلاثة : منها ما يجب أن
يجامع المتقدّم المتأخّر في زمان المتقدّم ، ومنها ما يمتنع ، ومنها ما يمكن.
الرابع : التقدّم بالرتبة
وهو ما كان أقرب
من مبدأ معيّن ، ثمّ المراتب : منها طبيعية كترتب الأنواع التي بعضها تحت بعض ،
والأجناس التي بعضها فوق بعض. ومنها وضعيّة كترتّب الصفوف في المسجد بالنسبة إلى
المحراب ، أو إلى الباب. وكذلك التقدّم في المرتبة قد يكون طبيعيا ، كتقدّم الجنس
المتوسّط على الأخير إذا ابتدأت من العالي وبالعكس إذا ابتدأت من النوع وقد يكون وضعيا ، كتقدّم الصف القريب من الإمام إن جعل
الإمام مبدأ ، وبالعكس إن جعل الباب مبدأ .
الخامس : التقدّم بالشرف
كتقدّم الفاضل على
المفضول. فهذه الأقسام الخمسة اقتصر الأوائل عليها.
__________________
البحث الثاني : في الحصر
ذهب الأوائل إلى
حصر أقسام التقدّم في هذه الأنواع الخمسة ، ولا برهان لهم على ذلك سوى الاستقراء ، وهو لا يفيد اليقين ، خصوصا وقد أبدى المتكلّمون قسما
سادسا للتقدّم ، وهو تقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض ، كتقدّم الأمس على اليوم ،
فإنّه ليس بالعلّية وهو ظاهر ، لاستحالة اجتماعهما في الوجود ، وإلّا لم يكن الزمان
متقضيا ، فلا يكون الزمان زمانا ، ووجوب اجتماع العلّة والمعلول
فيه ولأنّ أجزاءه متساوية فيستحيل اختصاص أحدهما بالعلّية والآخر بالمعلولية ،
ولأنّه لو كان المتقدّم علّة والمتأخّر معلولا ، لوجب اختلاف حقيقتهما ، فيكون
الزمان مركّبا من أجزاء لا تتجزأ غير متناهية بالفعل ، وهو محال عندهم.
ولا بالذات لهذه
الوجوه أيضا.
ولا بالشرف ، إذ
لا يعقل شرف أحد أجزاء الزمان وخسّة الآخر ، ولأنّ المتقدّم بالشرف قد يجامع
المتأخّر ، ولأنّه يستلزم وجود أجزاء الزمان بالفعل.
ولا بالرتبة
الحسّية ، إذ الزمان ليس من ذوات الأوضاع وهو ظاهر. ولا هو بمحسوس ، وإلّا لم يشك
في وجوده ، مع أنّ أكثر الناس نفاه ، واختلف مثبتوه في حقيقته.
ولا بالرتبة
العقلية أيضا ، فإنّ هذا النوع من التقدّم يمكن أن يجتمع
__________________
المتقدّم به مع
المتأخّر في الزمان ، بخلاف أجزاء الزمان.
ولا بالزمان ،
وإلّا لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، بحيث يوجد الأمس في زمان متقدّم ، واليوم في
زمان متأخّر ، ويتسلسل.
لا يقال ، تقدّم
بعض أجزاء الزمان على البعض راجع إلى التقدّم بالزمان ، وذلك غير محوج له إلى زمان
آخر ، لأنّ ما عدا الزمان إنّما يتقدّم بالزمان ، أمّا الزمان نفسه فلا.
لأنّا نقول : قد
بيّنا امتناع ذلك باقتضائه انقسام الزمان بالفعل إلى ما لا يتناهى ، واختلاف أجزاء
الزمان بالنوع ، وهو محال عندكم .
وللمتكلّمين نوع
آخر من التقدّم ، يثبتونه في حق الله تعالى بالنسبة إلى العالم ، وهو التقدّم
بزمان تقديري ، على معنى : أنّا لو فرضنا أزمنة لا نهاية لها لكان الله تعالى
متقدّما بها.
البحث الثالث : في أنّ مقوليّة التقدّم على أنواعه بأيّ
معنى هو؟
قد وقعت المشاجرة
بين الأوائل في وقوع التقدّم على أنواعه الخمسة ، فقال طائفة منهم : إنّه واقع
عليها بالتشكيك ، وذلك لأنّها اشتركت في معنى واحد ، هو الموضوع له
التقدّم ، واختلفت فيه بالأوّليّة وعدمها ، وذلك المعنى المشترك ، هو أنّ المتقدّم
بما هو متقدّم له شيء ليس للمتأخّر ، ولا شيء للمتأخّر إلّا وهو موجود للمتقدّم ،
ثمّ هذا التقدّم يوجد للمتقدّم بالعلّية قبل المتقدّم بالطبع ، وللمتقدّم
__________________
بالطبع قبل سائر [أنحاء]
التقدّم.
وفيه نظر ، فإنّ المتقدّم في الزمان إذا بطل ، ووجد المتأخّر بعد
بطلانه ، فقد حصل للمتأخّر زمان لم يحصل للمتقدّم ، كما حصل للمتقدّم زمان لم يحصل
للمتأخّر. نعم يجب تقييد قولهم : «ولا شيء للمتأخّر ، إلّا وهو موجود للمتقدّم»
بقولنا : بما فيه التقدّم.
قيل : المتقدّم بالزمان ليس شيء منه أولى منه بالمتأخّر ممّا يقع باعتباره
التقدّم فإنّ نسبتهما إلى الوجود الزماني واحد.
وفيه نظر ، فإنّ
المتقدّم بالزمان وإن لم يكن فيه تفاوت ، لكن لا يخرج مطلق التقدّم باعتباره عن
التفاوت ، ونحن لا نشترط التفاوت في كلّ جزئيات المقول بالتشكيك ، فإنّ البياض
يوجد متفاوتا بين مراتب ، كل مرتبة تشتمل على أشخاص متساوية ، ولا يخرج البياض
بهذا التساوي عن التفاوت وكونه مقولا بالتشكيك على أفراده.
وقالت طائفة أخرى
: إنّه واقع عليها بالاشتراك اللفظي بين الجميع وهو خطأ ، فإنّ التقدّم بالذات
والعلّية قد اشتركا في معنى التقدّم ، فإنّ لكلّ واحد منهما تقدّم ذات شيء على ذات
آخر. [فإنّ العلّة] سواء كانت تامّة أو غير تامّة ، يجب أن تتقدم ذاتها و وجودها على المعلول.
__________________
وذهبت طائفة أخرى : إلى أنّ التقدّم يقال على البعض بمعنى واحد ، وعلى
الباقي بالاشتراك أو التجوّز. أمّا الذي يقع عليه بمعنى واحد ففي التقدّم بالذات.
وأمّا الذي يقع عليه بالمجاز فكالتقدّم الزماني ، فإنّ الشيئين إنّما يتقدّم
أحدهما على الآخر بالزمان لأجل تقدّم زمان أحدهما على الآخر لا بحسب ذاتيهما ـ وذهب
قوم : إلى أنّ التقدّم بين أجزاء الزمان بعضها على البعض تقدّم طبيعي ، إذ المتقدّم علّة للمتأخّر فيرجع تقدّم الشيئين
بالزمان إلى التقدّم بالطبع ـ ويقال «التقدّم» لهما بالمجاز. وكذلك التقدّم بالرتبة، فإنّ بغداد متقدّمة على
البصرة لا باعتبار ذاتيهما ولا حيّزيهما ومكانيهما ، بل باعتبار القاصد من خراسان
إلى البصرة فإنّه يقصد بغداد أوّلا ، ومعنى قصده أوّلا ، أنّ زمان وصوله إليها قبل
زمان وصوله إلى تلك ، فيرجع هذا التقدّم إلى التقدّم الزماني . وأمّا التقدّم بالشرف ، فإنّه لا يخلو عن تجوّز أو اشتراك
، فإنّ معنى تقدّم صاحب الفضيلة وجوب تقدّمه في المناصب ، فالفضيلة سبب لتقدّمه في
المجالس ، وأطلق عليها لفظ التقدّم إطلاق اسم المسبّب على السبب ، فيكون مجازا من هذه الجهة ،
ويرجع إلى التقدّم المكاني الذي يرجع إلى الزماني. وإن لم يعتبر هذا المعنى في التقدّم الشرفي كان إطلاقه عليه وعلى الذات
بالاشتراك .
__________________
واعلم أنّا إذا
جعلنا التقدّم واقعا على أصنافه بمعنى واحد ، فلا شكّ في أنّه ليس بجنس لها ،
لتفاوتها فيه ، بل هو أمر لازم لها وإضافته مجهولة ، يعرف بها اللازم الذي هو التقدّم . والتقدّم إنّما يكون بالوجود أو بمعنى ثالث كالزمان
والمكان ، فأمّا المعنى فلا يتقدّم في نفسه على آخر ولا يتأخّر.
تنبيه : قد عرفت أقسام التقدّم وبه تعرف
أقسام التأخّر.
وأمّا
المعيّة :
فيقال : معا
بالزمان ، ومعا بالطبع إذا كانا متكافئي الوجود كالأخ والأخ ، أو لا مع تكافؤ
الوجود كجزئي العلم والمعيّة في الرتبة كنوعي الجنس المتأخرين معا عن طبيعته والمعيّة في الشرف ظاهر . وليس كل شيئين ليس بينهما تقدم وتأخّر زماني تثبت المعيّة
الزمانية بينهما ، فإنّ واجب الوجود لا يتقدّم على الحادث بالزمان ، ولا يتأخّر
عنه ، ولا يصاحبه بالزمان. ويصحّ أن يكون شيئان معا في الزمان من جميع الوجوه ،
دون المكان . وفي المعيّة بالعلّية إشكال .
__________________
النوع الثاني
في التقسيم على رأي الأوائل
قال الأوائل : كلّ موجود ، فإمّا أن يكون واجب الوجود لذاته ، وهو الله
تعالى لا غير ، أو يكون ممكنا لذاته ، وهو ما عداه. أمّا الواجب فسيأتي البحث عنه
إن شاء الله تعالى. وأمّا الممكن فإمّا أن يكون موجودا في موضوع أو لا. ونعني
بالموضوع : المحلّ المستغني عن الحالّ فيه المقوّم له في الوجود ،
فهو أخص من مطلق المحلّ الذي حذف فيه قيد الاستغناء والتقويم ، فعدمه يكون أعمّ من عدم [المحل]
فكلّ موجود في الموضوع فهو موجود في المحلّ ، وليس كل موجود في المحلّ يكون
موجودا في الموضوع ، فالموجود في الموضوع إذن أخصّ من الموجود في المحل ، فلهذا
جاز في بعض الجواهر أن تكون موجودة في المحل ، ولا تكون موجودة في الموضوع ،
وبعضها لا توجد في محلّ ولا موضوع. وكلّ عرض فإنّه موجود في موضوع. فههنا فصول :
__________________
الفصل الأوّل :
في الجوهر
وفيه مباحث :
البحث الأوّل : في رسمه
رسم الأوائل الجوهر بأنّه الموجود لا في موضوع ، ومعناه : أنّه الماهيّة التي إذا وجدت كانت لا في موضوع ، ولا يراد به
الموجود بالفعل ، وإلّا لكان الشك في وجود زيد يستلزم الشك في جوهريته ، وهو محال
؛ لأنّه لذاته جوهر ،
__________________
سواء كان موجودا
في الأعيان أو معدوما ، وحينئذ يجب أن يكون وجوده زائدا على ماهيته ومغايرا لها ،
فيخرج عن هذا الرسم واجب الوجود تعالى ، لأنّه وإن كان موجودا لا في موضوع ، لكنّه
ليس بجوهر ، لأنّ وجوده نفس حقيقته وليس زائدا عليها ، فلا يصدق عليه أنّه
الماهيّة التي إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع.
ومن يجعل وجود
واجب الوجود تعالى زائدا على ماهيّته يجعله داخلا تحت هذا الرسم، ولا يطلق عليه
لفظة الجوهر ، لأنّ أسماءه تعالى توقيفية ، ويمنع من كون الجوهر جنسا له تعالى ،
لاستحالة دخوله تحت الجوهر ، وإلّا لكان له فصل فكان مركّبا ، وقد بيّنا أنّه
يمتنع عليه التركيب .
وهذا الجوهر هو
أحد المقولات العشر ، وهي أجناس عالية كلّ واحد منها لا جنس له ، بل تحته أجناس.
البحث الثاني : في أنّ الجوهر هل هو جنس أم لا؟
اختلف الأوائل هنا ، فذهب الأكثر منهم إلى أنّ الجوهر جنس عال لكل ما
يندرج تحته اندراج النوع. ومنع آخرون منه.
احتجّ الأوّلون :
بأنّ خواص الجنس موجودة فيه ؛ لامتناع بقاء كل ما يقال عليه الجوهر مع رفعه عنه
ومقوليته على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو
__________________
بالسوية. وهو ضعيف
، لعدم دليل يدل على مقوليته بالسويّة على أفراده وكونه ذاتيا وكمال الذاتي
المشترك. واستلزام رفعه رفع ما جعل نوعا لا يدلّ على الذاتية ، لأنّ بعض العوارض
كذلك .
احتجّ الآخرون
بوجوه .
الأوّل
: جعلتم الجوهر هو
الموجود لا في موضوع ، والموجود من العوارض لكل ما يصدق عليه لا من المقوّمات.
وتقييده بأنّه لا في موضوع ليس بفصل ، لأنّه أمر عدمي ، فلا يكون جزءا لغيره.
الثاني
: لو كان الجوهر
جنسا لما تحته لزم التسلسل ، ودخول الجنس في طبيعة الفصل ، والتاليان باطلان ،
فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه لو كان جنسا لوجب أن يكون له فصل يقوّمه ، ومقوّم الجوهر جوهر ، فيكون الفصل
جوهرا فيدخل الجنس في طبيعة الفصل وهو محال ، وافتقر الفصل في امتيازه عن غيره من
الجواهر إلى فصل آخر فيتسلسل.
الثالث
: الجوهر إذا قيل
على ماهيّة ما ، فإن كانت تلك الماهية بسيطة لم يكن الجوهر جنسا ، لأنّ كلّ ما
اندرج تحت الجنس فإنّه مركّب ، ولا شيء من البسيط بمركب. وإن كانت مركبة فبسائطها إن كانت جواهر ، لم يكن الجوهر جنسا لها ، وإلّا كانت
مركبة لا بسيطة ، وإن لم تكن جواهر كانت أعراضا ، فكان الجوهر متقوّما بالأعراض ،
هذا خلف.
الرابع
: إذا قلنا للجسم :
إنّه جوهر. فهناك أمور أربعة :
__________________
الأمر الأوّل :
الماهيّة التي صدق عليها الاستغناء عن الموضوع.
والأمر الثاني :
الاستغناء عن الموضوع.
والأمر الثالث :
مجموع الماهيّة مع هذا العارض.
والأمر الرابع :
كون الماهيّة علّة لهذا الاستغناء بشرط الوجود .
والأوّل ليس بجنس
، لاحتمال أن تكون المشتركات في هذه العلّية أمورا مختلفة في الماهية ، فإنّ الماهيات المختلفة
يلزمها لازم واحد ، وتشترك في أوصاف كثيرة ، ثبوتية وعدميّة ، مع اختلافها
بالحقيقة ، فجاز اختلاف الماهيات التي يصدق عليها وصف الاستغناء.
ولا الثاني ،
لكونه سلبيا فلا يجوز أن يكون جزءا من الماهيات المحصّلة الوجودية في الأعيان.
ولا الثالث ، لأنّ
هذا العارض سلبي فلا يكون جزءا من الجنس الذي هو جزء الوجودي.
ولا الرابع ، لأنّ
كون الماهية علّة لذلك الاستغناء بشرط الوجود حكم من أحكام الماهية يلحقها بعد
تمام حقيقتها ، فإنّ الشيء ما لم تتحقق ماهيته استحال أن تصير ماهيته علّة لشيء.
ولأنّ كون الماهيّة علّة لهذا الوصف ، يستحيل أن يكون أمرا ثبوتيا زائدا عليها ،
وإلّا لزم التسلسل. ومع جوازه فالمقصود حاصل ، لأنّ الماهيّة بما هي ، إن لم تقتض
شيئا كان ذلك إخراجا للماهية عن العلّية. وإن اقتضت فلا متوسط ، وإلّا لكان المقتضي المتوسط لا الماهية. فإذن كون
الماهية علّة للاستغناء يمتنع أن يكون وصفا ثبوتيا فضلا عن أن يكون معنى جنسيا.
__________________
الخامس
: لو كان الجوهر
جنسا لكانت النفوس والعقول مركّبات ، فيكون العقل الصادر عن المبدأ الأوّل ابتداء
مركّبا ، والمبدأ واحد ، فلا يصدر عنه أكثر من واحد.
السادس
: الجنس مقول على ما
تحته بالتواطؤ ، والجوهر ليس كذلك فلا يكون الجوهر جنسا. والمقدمة الأولى مسلّمة.
وبيان الثانية : أنّ الجواهر المفارقة أولى بالجوهرية والاستغناء عن الموضوع من
الأجسام ، وهي أولى بالجوهرية من الهيولى .
السابع
: النفس الإنسانية
جوهر مجرّد مفارق للمادة على ما يأتي ، وهي عالمة بنفسها ، وعلمها بنفسها لا يمكن
أن يكون مكتسبا ، والحكماء اتفقوا عليه ، بل جعلوا علمها بذاتها نفس ذاتها ، فكان يجب أن يكون العلم
بجوهريتها حاصلا لها دائما أوّليا ، ومعلوم أنّ الأمر بخلاف ذلك.
لا يقال : علم
الإنسان بوجود ذاته غير مكتسب ، فجاز أن يكون علمه بماهية نفسه مكتسبا ، والجوهرية
إنّما تقوّم ماهية النفس لا وجودها ، وإذا كان علمها بماهيتها مكتسبا جاز أن يكون
العلم بجوهريتها مكتسبا.
لأنّا نقول : هذا
لا يتأتى على رأي الحكماء ، لأنّهم اتفقوا على أنّ علم الإنسان
بنفسه هو نفس نفسه ، إذ لو كان زائدا على نفسه لوجب أن تحلّ في نفسه صورة مساوية
لنفسه فيجتمع المثلان. وإذا كان كذلك وجب أن يكون علمه بذاته هو نفس حضور ذاته
لذاته ، فعلم الإنسان بحقيقته يجب أن يكون حاضرا أبدا ، ويرد الإشكال .
__________________
واعترض على الأوّل : بأنّ الوجود لا في موضوع لازم من لوازم الجنس ، ولازم الجنس
ليس جنسا ، فلا يلزم من إبطال كونه جنسا إبطال كون الجوهر ـ الذي هو ملزومه ـ جنسا.
وفي الثاني نظر ؛ لأنّا نمنع الملازمة بين المقدم والتاليين ، وإنّما يثبت لو
كان قول الجوهر على الفصول قول الأجناس ، أمّا إذا كان قول اللوازم فلا . ولا امتناع في كون الجنس جنسا لشيء ولازما لغيره ، بل من
الواجب ذلك. وكون فصل الجوهر ومقوّمه يجب أن يكون جوهرا ، لا يقتضي كون الجوهر
داخلا في ماهيّته ، بل أعمّ من ذلك وهو مطلق الصدق عليه.
وفي الثالث نظر ؛ لأنّ كون البسيط ـ الذي يقال عليه الجوهر ـ بسيطا ، لا يخرج
الجوهر عن جنسيته للمركبات وصدقه على البسائط. وكون البسيط غير داخل تحت
مقولة الجوهر ، لا يوجب كونه عرضا ولا تقوّم المركب الذي هو الجوهر من الأعراض.
وفي الرابع نظر ؛ فإنّ القدر الذي يعلم به اتّصاف الماهيات آت هنا ، فإن تمّ
، وإلّا بطل في الجميع.
وفي الخامس نظر ؛ فإنّ هذه الأمور لو ثبتت لاستندت إلى القادر المختار عندنا.
سلّمنا ، لكن الجنس
كالمادة ، وفصولها كالصورة ، ولها تقدم فجاز صدورها أوّلا.
وفي السادس نظر ؛ للمنع من الأولويّة في الجواهر المجردة.
__________________
وفي السابع نظر ؛ بمنع دوام تعقل الجزء ، فإنّ الإنسان قد يغفل أحيانا عن
ذاتياته ولوازمه.
سلّمنا ، لكن
إنّما يلزم من العلم بالمركب ، العلم بذاتياته لو عرفنا المركب معرفة تفصيليّة ،
أمّا لو علمناها بوجه صادق عليها فلا ، والنفس إنّما تعلم باعتبار عارض عرض لها ،
وهو كونها مدبرة للبدن ، فلهذا جهلنا جوهريتها.
البحث الثالث : في أنّ كليات الجواهر جواهر
قد عرفت أنّ الكلي
: هو الذي لا يمنع نفس تصوّر معناه من وقوع الشركة فيه ، وهذا المعنى متحقق في
الجوهر بأقسامه الخمسة. وقد عرفت أنّ الكلّية لا تخرج الماهيّة الصادقة عليها عن
حقيقتها ، وإلّا لكانت الماهيّة مقتضية للجزئية ، وقد عرفت بطلانه. ولأنّه لو
اقتضت الجزئية ، فإمّا جزئية معيّنة فلا تصدق الحقيقة على غير ذلك الجزئي ، فكلّ
ماهيّة منحصرة النوع في شخص واحد ، وهو محال ، أو غير معيّنة وهو أيضا كلّي ، فقد
قارنت الماهية الكلّية ، فلا منافاة بينهما ، فكما أنّ الجزئيات من الجوهر جواهر
كذا الكليات.
وأيضا الجوهر هو
الماهية التي إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع ، ليس أنّه الموجود في الخارج
لا في موضوع ، والصور الكلّية الذهنية المطلقة المطابقة للجواهر لها ماهيات ، وتلك
الماهيات يصدق عليها أنّها لو كانت في الأعيان كانت لا في موضوع ، فكليات الجواهر
جواهر لصدق حدّ الجوهر عليها ، وإن لم تكن الآن موجودة في الخارج ، إذ ليس هذا
القيد معتبرا في حقيقة الجوهر.
وأيضا كليات
الجواهر تحمل على الجزئيات منها ، حمل المواطاة ، أعني
__________________
حمل هو هو ، ولا
شيء من الأعراض يحمل على الجوهر حمل هو هو ، فكليات الجواهر ليست بأعراض ، فهي
جواهر. وأيضا لو كانت جزئيات الماهية إنّما تصير جوهرا عند وجودها في الأعيان ،
ووجودها في الأعيان أمر عرضي ، لزم أن يكون عروض العارض للماهية سببا لثبوت وصف
ذاتي له ، وهو محال ، ولكان زوال ذلك العارض سببا لزوال الأمر الذاتي ، وهو محال.
فإذن الجواهر الكلّية جواهر.
وأيضا جوهرية
الشخص إن كانت لأنّه ذلك الشخص ، وجب أن يكون ما عداه غير جوهر ، وإن لم تكن
لشخصيته ، بل لماهيته ، وجب أن تكون تلك الماهية جوهرا كيفما كان.
قيل عليه : لا يلزم من كون شخصية معيّنة علّة لجوهرية ذلك الشخص
انتفاء جوهرية ما عداه ، لإمكان اسناد المعلول الواحد بالنوع إلى علل كثيرة.
والتحقيق أن نقول
: إن عني بقولنا : كليات الجواهر جواهر ، الجوهر المقيد بقيد الكلّية ـ وهو الكلّي
العقلي ـ فلا شك في أنّه ليس بجوهر. أمّا أوّلا ؛ لأنّه عرض قائم بالنفس فيستحيل
صدق الجوهر عليه ، وكون مطابقه بوجه ما جوهرا لا يستلزم جوهريته. وأمّا ثانيا ؛
فلأنّ الكلّية أخذت قيدا فيها ـ وهي من الاعتبارات العقلية المأخوذة بالقياس إلى
الغير ـ فلا يجوز أن يكون جزءا من المستقل بذاته الغني عن ملاحظة الغير في تصور
ماهيته.
وإن عني به :
الكلّي الطبيعي ـ وهو نفس حقيقة الجوهر ـ ، فإنّها جوهر ، ضرورة امتناع كون الشيء
ليس نفس ذلك الشيء.
__________________
البحث الرابع : في أنّ الجزئيات أولى بالجوهرية من الكليات
لمّا وجد الأوائل
الخواص والكمالات التي للجوهرية في الجزئيات أكثر منها في الكليات، حكموا بأنّ
الجوهرية للجزئيات أولى منها للكليات وإن لم تكن قبلها ، فإنّه ليس الجوهر للجزئيات قبل الكليات ، كما أنّ الوجود
للواجب قبل الممكن ، لكن لمّا كانت اللواحق والكمالات العارضة للجوهر لما هو هو في
الجزئيات أكثر ، كان قوله عليها أولى. وبيانه من وجوه :
الوجه الأوّل : أنّ الاستغناء من جملة كمالات الجوهر وخواصه ، والكلي من
الجواهر محتاج إلى الشخص ، فإنّ الكلي إنّما يوجد لو كان الشخص موجودا ، لأنّه
إنّما يوجد في ضمنه ، فاحتاج في الوجود إليه. والشخص غني عن الكلي ، لأنّ الكلي هو
المقول على كثيرين ، ولو احتاج الشخص إلى الكلي لاحتاج إلى الشخص الآخر بحيث يوجد
معه ، ليكون الكلي مقولا عليهما .
وفيه نظر ، فإنّ
الكلي إن أريد به هنا العقلي لم يكن جوهرا. فلا يقال : إنّ الجوهرية للجزئي أولى
منه ، وإن أريد به الكلي الطبيعي ، لم يتمّ لأنّه جزء الشخص ، وجزء الشخص مستغن
عنه والشخص محتاج إليه ، فكانت الجوهرية للكلي أولى منه للشخص ، ولأنّ الكلي
الطبيعي لا يحتاج في مقوليته على الشخص إلى شخص آخر ، بل ذلك في الكلي العقلي الذي
يمتنع أن يكون شخصا واحدا.
الوجه الثاني : تقدمه بحسب استقرار الأمر المعتبر في الجوهرية ـ وهو الوجود لا في موضوع ـ ،
فإنّ الجوهرية هو كون الماهيّة بحيث إذا وجدت كانت لا في موضوع ، وأشخاص الجوهر قد
ثبت لها ذلك بالفعل ، وأمّا في كلياتها فإنّه منتظر
__________________
لها ، لم يحصل لها
بعد ذلك.
وفيه نظر ؛ فإنّهم
قد صرّحوا بأنّ المراد بالموجود هنا ليس الموجود بالفعل ، بل الماهية التي لو وجدت
كانت لا في موضوع ، وهذا المعنى ثابت بالفعل للكليات كما ثبت للأشخاص ، بل هو
للكليات أسبق ، لأنّه قد ثبت : أن كلّ معنى ثبت لكلي من جزئي ، فإنّه ثابت أوّلا
للكلي وبالذات ، وثانيا للجزئي وبالعرض.
الوجه الثالث : من حيث القصد إلى التكوين ، فإنّه متوجه بالذات إلى صيرورة
النوع شخصا ، ليمكن أن يحصل في الأعيان.
وفيه نظر ؛ فإنّ
القصد بالذات في التكوين إنّما يتوجه إلى الطبائع النوعية لا إلى الشخص المنقطع ،
بل إلى الطبيعة النوعية المستمر وجودها في ضمن الجزئيات بتلاحقها ، فالجزئيات مقصودة بالقصد الثاني.
الوجه الرابع : السبق إلى التسمية ، لأنّ أوّل شيء عرف أنّه لا في موضوع هو
الأشخاص الجزئية.
وفيه نظر ؛ فإنّ
الطبيعة النوعية أسبق من الشخص في الوجودين ، فهي أسبق بالتسمية.
واعلم أنّ الأنواع
أولى بالجوهرية من الأجناس لقربها من الأشخاص وبعد الأجناس عنها ، ولأنّها أشدّ
مشاركة للأشخاص من الأجناس ، فنسبة الجنس إلى النوع كنسبة النوع إلى الشخص ، فلهذا
كانت الأجناس ، الجواهر الثالثة . وأيضا الجواهر العقلية الجزئية أولى بالجوهرية من الأشخاص
الجوهرية المحسوسة ، لأنّ تلك أسباب لهذه ، والسبب مستغن عن مسببه ، فكان معنى
الاستغناء ـ الذي هو معتبر في الجوهرية ـ لها أتمّ. وقد قدّمنا المنع من ذلك.
__________________
قالوا : الفصول
المنطقية للجواهر جواهر ـ كالناطق ـ لأنّها محمولة على الأنواع حمل على . وأمّا الفصول البسيطة كالنطق ، فإنّها جواهر أيضا ، لأنّه
جزء من الناطق المحمول حمل على ، وجزء الجوهر جوهر. واعترض بالبياض الذي هو جزء
الأبيض المحمول على الجوهر حمل على.
البحث الخامس : في أنّ الجوهر مقصود إليه بالإشارة
الإشارة : دلالة
حسّية أو عقلية إلى الشيء بحيث لا يشركه فيها غيره ، والإشارة الحسية تتوقف على تشخص
المشار إليه ، وهي تتناول الجوهر بالذات ، والإشارة إلى الأعراض إنّما تكون بعد تميّزها ، وتميّزها
على ما تقدم معلول المادة ، فإذن الإشارة إليها بعد الإشارة إلى تلك المادة .
وفيه نظر ؛ فإنّ
هذا بعينه وارد في الصورة والمادة ، لأنّ الصورة علّة فاعلية في تشخص المادة ،
والمادة علّة قابليّة في تشخص الصورة ، بل وفي الجسم أيضا ، فإنّه إنّما يتشخص
بالأعراض المادية كأين معيّن ووضع معيّن وكيف وكم معيّنين. والإشارة الحسيّة إلى
الأمور الكليّة من الجواهر والأعراض غير ممكنة ، فإنّ الحسّ لا يدرك الكلي ، بل
الجزئي فكيف يمكنه الإشارة إليه؟ وأمّا الإشارة العقلية فلا تتناول الشخصية من
الجواهر والأعراض أيضا ، إلّا من جهة العلم بأسبابها ، والشيء إذا عرف بسببه كان
كليا. وأيضا الكلي لا يمكن الإشارة إليه لإمكان
__________________
وقوع الشركة فيه
بين الجواهر والأعراض ، والإشارة تنافي ذلك ، بل تصور الجوهر الكلي ممكن من غير
اعتبار حلول عرض ما فيه . وأمّا العرض فلا يمكن تصوره إلّا قائما بالجوهر، فإن عني
بتناول الإشارة بالذات للجواهر هذا المعنى صحّ ، وإلّا فلا.
البحث السادس : في أنّ الجوهر هو القابل للأضداد على سبيل
الاستقلال
اعلم أنّ الجوهر
هو الذي يقبل الأضداد غير الإضافية ، لاستحالته في ذاته بالذات ، لا على سبيل
التبعيّة. وذلك بخلاف الظن والقول ، فإنّهما يتغيران عن الصدق إلى
الكذب وبالعكس لا لذاتيهما ، بل تبعا لتغير المظنون والمخبر عنه فإذا ظنّ أنّ زيدا
في الدار، أو حكم بذلك وكان زيد فيها ، كان الظن والقول صادقين ، فإذا خرج زيد
عنها واستمر الظن والحكم تغيرا عن الصدق وكانا كاذبين ، ومع ذلك فلا يتغير ذات
الظن والقول ، وإنّما تتغير نسبتهما وإضافتهما. أمّا الجواهر فإنّها تقبل الأضداد
كالسواد والبياض ، لاستحالتها في نفسها. وهذه الخاصيّة غير ثابتة في الجواهر
العقلية ، لبعدها عن التغير عندهم ، وهو ممنوع. ولا في الجواهر الكليّة ، لأنّ
الكلي يشتمل على كلّ شخص ، ولا يصدق أنّ كلّ شخص أسود أو أبيض.
لا يقال : العرض
الكلي كاللون يقبل الضدين ، وهما السوادية والبياضية.
لأنّا نقول :
اللون الذي هو حصّة السواد يمتنع أن يبقى عند زوال السوادية عنه ، لأنّ الفصل
علّة للحصة ، فإذا عدم عدمت ، فلا يمكن أن يتصف
__________________
بعد زوال فصل
السواد عنه بفصل البياض. نعم قد يقال : اللون يقبل الضدين بنوع من المجاز، إمّا
باعتبار انقسامه إليهما فيكون بعضه بياضا وبعضه سوادا ، أو باعتبار تجرّده في
الوهم عن الفصلين ، فيكون من حيث هو لون مطلق قابلا لأيّ الفصلين كان ، وليس
كلامنا في الأمور الوهمية ، بل في الأمور المحصّلة في الخارج ، هل يوجد شيء محصّل
في الخارج يقبل الضدين؟
ولو كان اللون
يقبل السوادية تارة والبياضية أخرى لما كان سوادا وبياضا ، بل كان مسودّا ومبيضّا
، وهذا باطل .
البحث السابع : في أنّ الجوهر لا ضد له
الضدان عند
الأوائل : هما الذاتان الوجوديتان المتعاقبتان على موضوع واحد وبينهما غاية
الخلاف. وحينئذ يكون الحكم بامتناع التضاد عليه ظاهرا ، لأنّ التضاد إنّما يتحقق
فيما يوجد في الموضوع بحيث يتعاقب ضده عليه ، ولمّا كان الجوهر هو الموجود لا في
موضوع ، امتنع وقوع التضاد فيه. وقد يعنى بالضدين المتعاقبان على محل واحد ، ولا يشترط الموضوع ، فيصح وقوع التضاد فيه حينئذ ، لأنّ
الصور الجوهرية للعناصر تتعاقب على محلّ واحد هو المادة ، وبينهما غاية الخلاف ،
لكنّ ذلك خارج عن مصطلح القوم. وبالجملة فالنزاع لفظي .
__________________
الفصل الثاني :
في العرض
وفيه مباحث :
البحث الأوّل : في تعريفه
قد عرفت فيما تقدم
أنّ العرض هو الموجود في موضوع عند الأوائل ، ورسموه أيضا بأنّه الموجود في شيء
غير متقوّم به لا كجزء منه ، ولا يصحّ قوامه دون ما هو فيه . فهذه قيود أربعة :
الأوّل
: قولنا في شيء ،
ولفظة «في» يقال بالاشتراك أو التشابه على معان كثيرة ، فيقال للشيء : إنّه في
الزمان ، أو في المكان ، أو في العرض ، أو في الغاية ، أو في الكل ، أو في الجزء.
ومرادنا هاهنا أن يكون الشيء مختصا بشيء آخر ويكون ساريا فيه ، بحيث تكون الإشارة
إلى أحدهما هي الإشارة إلى الآخر تقديرا أو تحقيقا ، ويكون ناعتا له فيسمى الناعت
حالا والمنعوت محلّا ، فيجب التغاير
__________________
بينهما واحتياج
أحدهما إلى صاحبه ، وإلّا لاستغنى كل منهما عن الآخر ، فلا يتحقق الحلول. فإن كان
الحال سببا لوجود المحل سمي ذلك المحل هيولى ، والحال فيه صورة ، وهما جوهران. وإن كان المحل سببا
لوجود الحال ومقوّما له ، فالمحل يسمى موضوعا ، والحال فيه يسمى عرضا. وقد اشتركت
الهيولى والموضوع في مطلق المحل ، والعرض والصورة في مطلق الحال ، فالجوهر إن كان محلا فهو الهيولى والمادة ، وإن كان
حالّا فهو الصورة ، وإن كان مركبا منهما فهو الجسم ، وإن لم يكن حالّا ولا محلّا
ولا مركبا منهما ، بل كان مجرّدا فإن تعلق بالبدن تعلّق التدبير سمي نفسا ، وإن لم
يتعلق به البتة سمي عقلا ، فهذه الخمسة هي أقسام الجوهر .
وقولنا في شيء ،
لأنّ العرض الواحد يمتنع أن يوجد في أشياء ، بل لا يوجد إلّا في شيء واحد.
لا يقال : هذا
ينتقض بالعدد ، فإنّه عرض موجود في أشياء كثيرة ، وكذا الكلّية والإضافة ، فإنّها
إنّما توجد في المضافين.
لأنّا نقول : لا
يشترط في وحدة موضوع العرض الوحدة المطلقة من كل وجه ، بل من الجهة التي هو بها
موضوعه وإن كان فيه كثرة أخرى باعتبار آخر ، فموضوع العشرية ليس موضوعا لها من حيث
هي أمور ، حتى تكون العشرية حاصلة لكل واحد من تلك الأمور ، بل حصل لتلك الأمور
هيئة اجتماعية صارت باعتبارها مجموعا واحدا ، فصحّ بهذا الاعتبار أن يكون موضوعا
للعشرية. لكنّ الإشكال في العشرية عائد في المجموعية والهيئة الاجتماعية والوحدة.
وليس هنا إضافة واحدة توجد في المضافين على ما يأتي .
__________________
والوجه في الجواب
: أن نقول : العشرية ليست من الأمور الخارجية ، بل هي أمر ذهني يلحقه الذهن بالآحاد
إذا اعتبر ضمّ بعضها إلى بعض وكذا المجموعية والكلّية.
قيل : الكلّ بما
هو كلّ موجود في الأجزاء لا في آحادها ، بل في مجموعها ، والمجموع من حيث هو ذلك
المجموع أمر واحد ، فالكلّ من حيث هو كلّ موجود في شيء لا في أشياء فيكون الكل
عرضا.
وأجيب : بأنّ نسبة
الكلّ إلى الأجزاء ليس إلى كلّ واحد ، وإلّا لكان كلّ واحد من الكل
كلّا ، ولا إلى مجموع الأجزاء ، لأنّه نفس المجموع.
ووجود الكلي في
جزئياته كالحيوان الموجود في أنواعه ، والنوع في أشخاصه ، ليس وجودا في شيء ، بل
في أشياء فلا يكون عرضا.
الثاني
: قولنا : «غير
متقوّم به» احترزنا به عن الصورة في المادة ، فإنّ المادة متقوّمة بها فليست
الصورة عرضا.
الثالث
: قولنا : «لا كجزء
منه» احترزنا به عن وجود الكل في الجزء ، ووجود الجنس في النوع والنوع في الشخص
وكلّ من الصورة والمادة في المركب ، فإنّ هذه كلّها موجودة في أشياء هي أجزاء لها.
وكذا وجود النوع في عموم الجنس ، فإنّ النوع جزء من عموم الجنس ، فيكون النوع
الموجود في الجنس موجودا في جزء منه.
الرابع
: قولنا : «ولا يصحّ
قوامه دون ما هو فيه» نريد به : أنّه يمتنع وجود ذلك الشخص بما هو ذلك الشخص إلّا
في ذلك المحلّ المعيّن ، فإن كان هذا الامتناع ليس لوجود ذلك الخاص ، بل لأمر آخر عرض له في ابتداء تكونه ،
__________________
فصار لأجله بحيث
يمتنع انفكاكه عمّا هو فيه ، فذلك لا يوجب كونه عرضا. وبهذا يقع الفرق بين وجود
العرض في الموضوع ، ووجود الجسم في المكان ، أو في الزمان ، أو في العرض ، وكون
الشيء في غايته كالإنسان في السعادة ، وكون المادة في الصورة ، فإنّ الجسم قد
يفارق مكانه وزمانه وعرضه وغايته ، مع بقاء جسميته وإنسانيته. وكذا المادة قد تفارق بعض صورها مع بقاء وجودها
متقوّمة بحسب صورة وصورة.
لا يقال : الجسم
لا يفارق المكان والزمان المطلقين ، ولا العرض المطلق ، فأيّ فارق بينه وبين العرض؟
لأنّا نقول : معنى
قولنا ـ ولا يمكن مفارقته عمّا هو فيه ـ هو أنّ الشخص من العرض بشخصيته يقتضي ذلك
المحلّ ، بخلاف وجود الجسم في الزمان والمكان المطلقين ، فإنّ الأمور الكلّية لا
وجود لها في الخارج ، فيمتنع وجود الجسم فيها في الخارج ، وكلامنا في كون العرض في الموضوع وجودا خارجيا
لا ذهنيا.
لا يقال : الأجسام
الإبداعية يمتنع عليها مفارقة أمكنتها الخاصة ، فتكون أعراضا.
لأنّا نقول : هذا
محال عندنا ، ولا جسم إبداعي في الوجود ، ولا جسم يمتنع مفارقته لمكانه. وأمّا على
رأي القوم فإنّهم يفرّقون : بأنّ الأعراض تتشخص بموضوعاتها المعيّنة ، والإبداعيات
لا تتشخص بحصولها في تلك الأحياز ، فإنّ نوعها في شخصها ، فسبب تشخصها طبيعة نوعها
، ثمّ يتبع شخصها حصولها في تلك الأحياز.
لا يقال : مادة
الفلك موجودة في صورته ، والصورة متحصلة القوام ،
__________________
وليست جزءا منها ،
ولا يصحّ قوام تلك المادة دون ما هي فيه ، أعني تلك الصورة.
لأنّا نقول : ليست
المادة في الصورة بمعنى صفة العرض بالنسبة إلى الجسم ، لأنّ هذه صفة ناعتة بخلاف
تلك ، فإنّ المادة لا تكون ناعتة للصورة ومقصودنا هذه الصفة.
البحث الثاني : في أنّ العرض ليس بجنس
اتفقت كلمة
العقلاء من المتكلّمين والحكماء على ذلك ، فإن أطلقوا عليه لفظة الجنس ، لا
باعتبار المعنى ، بل باعتبار عارض صادق على كثيرين. ويدل عليه وجوه :
الوجه
الأوّل : أنّا نتصوّر
الأعراض الجزئية كالسواد والبياض والسطح والخط وغيرها ، ونشك في عرضيتها ، فلا
تكون العرضية مقوّما ، لامتناع تصوّر الشيء بدون تصوّر مقوّماته.
وفيه نظر ؛ لأنّا
نمنع تصوّر الأعراض الجزئية بحقائقها ، بل ببعض عوارضها ولوازمها ، فلا يجب تصور
مقوّماتها حينئذ.
لا يقال : لا نعني
بالسواد إلّا الهيئة التي أدركناها وعرفناها.
لأنّا نقول : نحن
نسلّم أنّكم أدركتم هيئة وسميتموها سوادا ، فلم قلتم : إنّ تلك الهيئة المدركة هي
حقيقة السواد في نفس الأمر؟ فإنّ ذلك لا يستفاد من العناية والتفسير.
__________________
قيل : الشك في
عرضية هذه الأشياء بعينه ، شك في الجوهرية ، فإن اقتضى هذا الدليل خروج العرض عن
الجنسية ، اقتضى خروج الجوهر عنها ، فيلزم أن لا يكون الجوهر جنسا.
وفيه نظر ؛ فإنّا
نلتزم أنّ الجوهر ليس جنسا لهذه الأعراض. وما ذكرتموه إنّما يقتضي نفي كون الجوهر
جنسا لهذه الأعراض خاصّة ، لا للجواهر ، وذلك مسلّم لا شك فيه.
الوجه
الثاني : معنى كون السواد
عرضا ليس إلّا نسبته بالحلول في الموضوع ، والجنس إنّما يستند إلى أمر داخل في
الذات ، لا إلى نسب عارضة للذات.
وفيه نظر ؛ فإنّه
جاز أن يكون ذلك لازما للعرض لا نفس العرض ، كما أنّ الموجود لا في موضوع أمر لازم
للجوهر وعارض له ، وبهذا أبطلتم طعن من منع كون الجوهر جنسا.
الوجه
الثالث : العرضية مقولة على
ما تحتها بالتشكيك ، والجنس غير مقول على ما تحته بالتشكيك. والكبرى ظاهرة ، وبيان
الصغرى : أنّ تعلّق بعض الأعراض بالموضوع أكثر من تعلّق بعض ، فإنّ الإضافات والنسب أشد حاجة إلى الموضوع
من البعض.
اعترض بأنّ
الحكماء قالوا : إنّ بعض الجواهر قبل البعض ، ولكنّ ذلك التقدم لمّا كان في الوجود
لا في الجوهرية لم يلزم اخراج الجوهر عن أن يكون جنسا ، وكذلك بعض الأعداد وإن كان
متقدما على البعض ، لكنّ ذلك التقدم في الوجود
__________________
لا في معنى
العددية ، فلا يقتضي خروج العدد عن الجنسية لأنواعه ، فكذلك هنا
جاز أن يقال : الأعراض متساوية في حمل العرضية عليها ، والتفاوت الذي ذكرتموه عائد
إلى وجوداتها ، فلا تكون مقولية العرض على أنواعه بالتشكيك.
وأجيب : بأنّ هذا
إنّما يلزم ، لو كان للعرضية مفهوم آخر سوى كونه موجودا في الموضوع ، وأمّا إذا لم
يكن للعرضية معنى سوى وجوده في الموضوع ، فمتى وقع التفاوت فيه فقد وقع في نفس
مفهوم العرضية.
اعترض : بأنّه ليس
من شرط كون العرض عرضا ، أن يكون موجودا في الخارج ويكون مع ذلك في موضوع ، بل من شرطه أن يكون بحيث لو وجد في الخارج
كان في موضوع ، كما قيل في الجوهر : أنّه الذي إذا وجد كان غنيا عن الموضوع ، لا
الموجود في الخارج بالفعل لا في موضوع. فعلى هذا يكون كون العرض عرضا مغايرا
لوجوده ، ويعود الإشكال.
البحث الثالث : في استحالة الانتقال على الأعراض
اعلم أنّ
المتكلّمين والحكماء اتفقوا على استحالة الانتقال على الأعراض ، واحتجوا عليه
بوجوه :
الأوّل
: المعقول من
الانتقال : هو الحصول في حيّز بعد الحصول في حيّز آخر ، وذلك إنّما يعقل في
المتحيّز.
__________________
وفيه نظر ؛ فإنّه
إن كان المراد بهذا التفسير الحصول في حيّز بالذات بعد الحصول في حيز آخر بالذات
فهو مسلّم ، فإنّ نفي الانتقال بهذا المعنى عن الأعراض ضروري ، لأنّ العرض لا يحصل
في الحيّز إلّا تبعا لحصول محلّه فيه ، ولا يعقل فيه التحيّز بالذات ، لكنّ النزاع
ليس في ذلك ، بل في مطلق الانتقال سواء كان بالذات حاصلا في الحيّز الأوّل أو
بالعرض. وليس المقصود من نفي الانتقال إلّا امتناع انتقال العرض من محلّ إلى محلّ
آخر وهذا الدليل لا يعطيه.
الثاني
: العرض إمّا أن
يكون غنيا عن الموضوع ، أو يكون محتاجا إليه ، فإن كان غنيا عن الموضوع ، امتنع أن
يعرض له ما يصيّره محتاجا إلى الموضوع ، فإنّ الغني بذاته عن الشيء يستحيل أن يصير
محتاجا إليه باعتبار عارض يعرض له. وإن كان محتاجا فلا يخلو : إمّا أن يكون محتاجا
إلى موضوع معيّن ، أو غير معيّن والثاني محال ، لأنّ الشيء المعيّن لا يقتضي أيّ
شيء كان ، فإذن لا بدّ له من موضوع معين ، فإذن خصوصيّته متعلقة بذلك الموضوع ،
فإذن يمتنع أن يفارق ذلك الموضوع.
اعترض : بجواز
كونه غنيا عن المحلّ لذاته.
قوله : «فحينئذ لا
يعرض له ما يحوجه إليه».
قلنا : العرض لا
يصدق عليه أنّه يجب أن لا يكون في المحلّ حتى يكون ذلك منافيا لحصوله في المحل
بسبب منفصل ، بل يصدق عليه أنّه بالنظر إلى ذاته لا يجب أن يكون في المحل ، وهذا
لا ينافيه الحصول في المحل لسبب منفصل.
وفيه نظر ؛ لأنّ
الحلول يستدعي حاجة الحالّ إلى المحلّ بالضرورة ، ويمتنع أن تكون الحاجة عارضة
بسبب أمر خارج ؛ لأنّه يكون منافيا لمقتضى الذات.
__________________
وبأنّ هذا يبطل بالجسم المعيّن ، فإنّه لا بدّ وأن يكون له حيّز
معيّن ووضع معيّن ، ومع ذلك فإنّه لا يقتضي وضعا معينا شخصيا ولا حيزا معيّنا شخصيا بحيث يمتنع انتقاله عنه.
وأيضا المادة
محتاجة إلى صورة ما ، لا إلى صورة معينة ، بل إلى أي صورة كانت ، فجاز أن يكون
العرض كذلك.
وأيضا العرض
الواحد بالشخص مفتقر إلى موضوع واحد بالنوع ، والواحد بالنوع معيّن في نفسه ،
متخصّص في طبيعة نوعه ، غير مبهم ، ولا يحتاج إلى المحل الواحد بالشخص ، فحاجة
العرض الواحد بالشخص إنّما هو إلى المحلّ الواحد بالنوع وإن كان مبهما من حيث
التشخّص غير متعيّن فيه ، إلّا أنّ التعيّن الشخصي في الموضوع غير محتاج إليه ،
فأمكن أن يفارق محلّه إلى آخر من نوعه ، كما يمكن ذلك في الجسم.
وأيضا النفس تحتاج
في حدوثها إلى مادة معينة ، ثمّ إنّها تفارق تلك المادة مع بقاء النفس ، ولا تعدم
النفس بسبب مفارقة ما احتاجت إلى شخصه ، فلم لا يجوز مثله في العرض؟
الثالث
: تشخص كلّ عرض زائد
على ماهيته على ما تقدم ، فإن كانت علّته ماهية العرض كان نوعه منحصرا في شخصه ،
وكذا إن كانت علّته لازما من لوازمه ، ولأنّه كان يستغني عن جميع الموضوعات ويكون قائما بذاته ،
لاستغنائه
__________________
في تعيّنه بذاته
عن كلّ موضوع ، فوجب أن تكون الشخصية مستندة إلى علّة من خارج.
فنقول : إن كانت
العلّة محلّه امتنعت مفارقته عنه ، وهو المطلوب ، وإن كانت حالّة فيه لزم استغناؤه
عن الموضوع ؛ لأنّه يكون مكتفيا في وجوده بموجده وفي تشخصه بما يحلّ فيه. وإن كانت
مفارقة عنه لا حالّة فيه ، ولا محلّا له ، كانت نسبته إليه كنسبته إلى غيره ، فلا
تكون علّة التشخص معيّنة ، فلم تبق علّة التشخص إلّا الموضوع ، فإذا فارقه بطل ذلك
التشخص. وحينئذ تخرج الإشكالات المذكورة.
أمّا الجسم :
فتعيّنه لتعيّن صورته النوعية ، وتعيّن تلك الصورة لتعيّن الصورة السابقة على هذه
وهكذا لا إلى أوّل ، وليس تعيّن الجسم بسبب الوضع والحيّز المعيّن ، فلا جرم أمكنه
أن يفارق وضعه وحيّزه مع بقاء شخصيته.
وأمّا المادة :
فإنّها محتاجة إلى الصورة من حيث هي لا إلى صورة معينة ، والصورة من حيث هي صورة
أمر معيّن.
لا يقال : جاز أن
يكون العرض محتاجا إلى الموضوع من حيث هو موضوع نوعي ، وهو من حيث هو موضوع نوعي
متعيّن ، كما قلتم في المادة بالنسبة إلى الصورة من حيث هي صورة مطلقة لا شخصية.
لأنّا نقول :
الفرق بينهما ظاهر ، فإنّ للمادة مبدأ معينا هو العقل الفعال ، وليست مستندة إلى
شيء من هذه الصور ، والعقل الفعّال موجود متعيّن متشخص ، والصور شرائط في إمكان
تأثيره في استبقاء هذه الهيولى ، ومن الجائز أن يكون المؤثر معينا ، ويكون تأثيره
موقوفا على أشياء كثيرة تشترك في وجه ما ، بسبب ذلك المشترك يكون مؤثرا ، بحيث أيّ
واحد حصل كفى ، كمن يمسك سقفا بدعامات متعاقبة ، يزيل واحدة ويضع غيرها ، فإنّ
الوضع يكون محفوظا بواسطة
تلك الدعامات
المتعددة بالشخص ، المشتركة في الغاية المطلوبة من كلّ واحد منها. وأمّا هنا ، فقد
بيّنا أنّ الذي هو سبب تعيّن العرض المتعين هو الموضوع المخصص باللواحق الجزئية ،
فيمتنع أن تكون وحدته نوعية ، فإنّ الواحد بالنوع لا يتقرر في الخارج ، فلا بدّ
وأن تكون علّة تعيّنه شيئا متعيّنا شخصيا.
وأمّا النفس :
فإنّ البدن شرط في حدوثها ، وكانت في جوهريتها وتعيّنها غنيّة عن تلك المادة ،
ولهذا لم تنطبع فيها.
وأمّا الأعراض :
فإنّها كما احتاجت في حدوثها إلى المواد ، احتاجت أيضا في وجودها الحادث ـ الذي هو
تعينها ـ إلى الموضوعات ، فإذا فارقتها عدمت.
وفيه نظر ؛ فإنّا
نمنع استحالة انحصار نوع كل عرض في شخصه. والإحساس لا يدل عليه ، فإنّ الأشياء
المختلفة بالحقائق قد تتفق في الإحساس وبالعكس. والاستغناء في التعيّن عن الموضوع
لا يقتضي استغناؤه عنه ، فإنّ الحاجة في القيام والحلول إلى المحلّ لا يجب انحصاره
في الحاجة إلى التعيّن ، وإلّا لكان العرض في ذاته غنيا عن المحل وإنّما يحتاج
إليه في تشخصه ، وليس كذلك ، فإنّ العرض بما هو عرض لا يعقل قيامه إلّا في محلّه ،
لا من حيث تشخصه.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز استناده إلى المحل من حيث هو ، لا من حيث ذلك المحلّ الشخصي ، فجازت
المفارقة عليه ، أو إلى الحال ، ولا يلزم استغناؤه عن الموضوع كما تقدم، ونمنع تساوي نسبة المفارق إلى كلّ الأعراض.
وبعد هذا كلّه ،
فالحق استناد تشخصه إلى الفاعل المختار. وسيأتي إبطال حوادث غير متناهية.
__________________
والعقل الفعّال ؛
كما هو مبدأ معيّن للمادة بشرط الصورة من حيث هي ، جاز أن يكون مبدأ للعرض بشرط
الموضوع من حيث هو ، ويستحفظ وجود ذلك العرض بموضوع بعد موضوع. ويكون المعيّن هو
العقل المتشخص مع أيّ موضوع اتفق. واحتياج الأعراض في تعيّنها إلى الموضوعات نفس
النزاع.
الرابع
: العرض : هو
الموجود الذي لا يتحقق وجوده الشخصي إلّا بما يحلّ فيه ، والشيء المحتاج في وجوده
الشخصي إلى علّة لا يمكن أن يحتاج إلى علة مبهمة ، لأنّ المبهم لا يكون من حيث هو
مبهم موجودا في الخارج ، وما لا يكون موجودا في الخارج لا يفيد وجودا في الخارج بالبديهة. فالعرض إذن لا يتحقق وجوده إلّا
بمحلّ بعينه يتحقق به وجوده الشخصي ويبطل بتبدّله ذلك الوجود ، ولذلك
يمتنع انتقاله عنه.
أمّا الشيء
المحتاج في صفة غير الوجود إلى غيره من حيث طبيعة ذلك الغير ، كالجسم المحتاج في
التحيّز ـ لا في الوجود ـ إلى حيّز لا بعينه ، فلا يمتنع أن ينتقل من حيّز بعينه
إلى حيّز آخر يساوي الحيّز الأوّل في معنى الحيّز ، وهكذا إذا تعيّن مكان الواحد
بالنوع ، كان الواحد بالشخص من جملة ذلك النوع محتاجا إلى أحد أجزاء حيّز ذلك
النوع لا بعينه ، ولذلك أمكن انتقاله إلى حيّز آخر.
وأيضا الوجود
الشخصيّ الحاصل من سبب موجود معه يمكن أن تختلف شرائطه بحسب أزمنة مختلفة ،
كالهيولى المحتاجة إلى صورة لا بعينها ، وذلك غير ما نحن فيه ، فإنّ تشخّص الهيولى
لا يتبدّل بتبدّل أشخاص الصورة ، والعرض المعيّن لا يكون ذلك العرض عند تبدّل محلّه . وهذا وإن رجع إلى ما تقدم ، لكن لا بدّ
__________________
من البحث عنه.
فإنّ فيه نظرا ؛
فإنّ قوله : «العرض هو الموجود الذي لا يتحقق وجوده الشخصي ، إلّا بما يحلّ فيه» ،
إن قصد بذلك محلا معينا فهو المتنازع. وإن عنى به محلا معينا شخصيا بالشخص المنتشر
فهو مسلّم ، لكنّ ذلك لا يمنع من انتقاله عنه. وليس الموضوع علّة فاعلية
للعرض بحيث يمتنع فيها الإبهام ، بل هو علّة قابلية ، التي هي جارية مجرى الشروط ،
فجاز أن يدخله الإبهام ، والمبهم من حيث إنّه مبهم ليس موجودا في الخارج ، أمّا من
حيث هو هو لا باعتبار الإبهام ولا باعتبار التعيّن ، فإنّه موجود في الخارج ، وهو
الطبيعة النوعية التي هي جزء من الموجودات. والعرض الشخصي جاز أن يحتاج إلى موضوع
مبهم ، لا من حيث الإبهام ، بل من حيث هو هو.
وقوله : «ما لا
يكون موجودا في الخارج لا يفيد وجودا في الخارج» مسلّم ، لكن قد بيّنا أنّ الموضوع لا يفيد
الوجود ، بل يقبل العرض. ونمنع الفرق بين العرض والجسم ، بأنّ الجسم لا يحتاج في
وجوده ـ بل في تحيّزه ـ إلى المكان ، والعرض يحتاج في وجوده إلى المحل، فجاز أن
يحتاج العرض أيضا في حلوله إلى المحل لا في وجوده. وكونه لا يوجد إلّا حالّا ثابت
للجسم ، فإنّه لا يوجد إلّا متحيّزا ،. فإن جعل ذلك لازما بعد تحقق الجسم فليجز
جعل الحلول لازما بعد تحقق العرض.
واعلم : أنّ الحكم
بامتناع الانتقال على العرض كالبيّن بذاته ، فإنّ ما لا يمكن قيامه بذاته ، ويمتنع
استقلاله بالوجود منفردا عن محل يوجد فيه ، كيف يستقل بالانتقال.
__________________
البحث الرابع : في أنّ العرض هل يصحّ أن يقوم بعرض آخر أم
لا؟
اختلف الناس في
ذلك فذهب جمهور المتكلّمين إلى امتناعه ، وأكثر الفلاسفة إلى جوازه ، وهو قول
معمّر من المتكلّمين.
احتج المانعون :
بأنّ معنى حلول الشيء في غيره ، حصوله في الحيّز الذي حصل فيه تبعا لحصول محلّه
فيه ، وليس على سبيل الاستقلال ، فإذا لم يكن للمحل استقلال بالحصول في الحيّز ،
بل كان تابعا لغيره ، ساوى الحالّ فيه في الحلول في ذلك الحيّز على سبيل التبعيّة
، فلم يكن كون أحدهما حالّا والآخر محلّا أولى من العكس ، ولم يكن جعل أحد
الحصولين تبعا للآخر أولى من العكس. فإمّا أن يكون كل واحدا منهما قائما بالآخر
وهو محال ، أو لا يقوم واحد منهما بالآخر وهو المطلوب ، فيكونان معا تابعين لثالث
، فيكونان معا حالّين في ذلك الثالث ، فذلك الثالث إن كان عرضا عاد البحث فيه ،
وإن كان جوهرا فهو المطلوب ، فلا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري يكون محلا للجميع
.
والجواب : ليس
معنى الحلول ما ذكرتم ، فإنّ الوجود زائد على الماهية ، ولا يصح تفسير الحلول فيه
بما ذكرتم. وللواجب نعوت يوصف بها ، ولا يصحّ تفسير ما ذكرتم من الحلول فيه. وتوصف
جميع الماهيات بصفات سلبية وإضافية ، ولا يمكن تفسير الحلول فيها بما ذكرتم ،
ويلزم أن لا يكون ذات الله تعالى مؤثرة ، فإنّ المؤثرية حاصلة بالنسبة إلى العالم
، ولا يمكن وصفه تعالى بالعالم. وللجواهر
__________________
المجردة صفات
حالّة فيها ، ولا يصحّ ما ذكرتم من تفسير الحلول فيها ، بل معنى الحلول : اختصاص
شيء بشيء بحيث يصير أحدهما منعوتا بالآخر ، فالناعت هو الحالّ والمنعوت المحلّ.
وخصوصية ذلك الاختصاص غير معلومة ، وإنّما نعرفها بلازمها.
وفي النقوض نظر ،
فإنّ مفهوم الاتّصاف مغاير لمفهوم الحلول ، ولا شك في أنّ الماهيات تتصف بالسلوب
والإضافات ، لا على معنى حلول تلك السلوب والإضافات فيها ، فلا يمكن النقض بها. بل
الحق : أن قيام البعض بالبعض ، وقيام البعض الآخر بالجوهر ، لا يقتضي امتناع حلول
العرض في العرض ، ولا نفي وجوب الانتهاء إلى ما يقوم بالجوهر.
واحتج المجوّزون
بوجوه :
الأوّل
: السواد يشارك
البياض في اللونية التي هي جنس لها ، ويخالفه بفصل السوادية ، وما به الاشتراك غير
ما به الامتياز ، فاللونيّة صفة مغايرة للسوادية قائمة بها ، وهما موجودان ، لعدم الواسطة بين الوجود والعدم ،
فاللونيّة عرض قائم بالسوادية.
الثاني
: كون العرض حالا في
المحلّ ليس نفس العرض ونفس المحلّ ، لإمكان تعقّلهما مع الذهول عن ذلك الحلول ،
وليس أمرا عدميا ، لأنّه نقيض اللاحلول ، فهو صفة قائمة بذلك العرض. ثمّ الكلام
فيه كالكلام في الأوّل. فهنا أعراض غير متناهية يقوم كل واحد منها بالآخر.
واعترض : بأنّ الوجهين المذكورين اقيم فيهما الصفات مقام الأعراض
،
__________________
والصفة ما لا يعقل
إلّا مع غيره ، والعرض ما لا يوجد إلّا في غيره. وقيام بعض الصفات ببعض لا يوجب
قيام بعض الأعراض ببعض ، واللونية جنس للسوادية ، وهو جزء من مفهوم السواد ، لأنّ
السواد لون يقبض البصر ، واللون أحقّ بأن يكون موصوفا ، وكونه قابضا للبصر أحقّ
بأن يكون صفة. والجنس لا يكون عرضا قائما بالنوع ، ولا الجزء بالكل. وكون العرض
حالّا في محلّه إضافة لا وجود لها إلّا في العقل ، ولا يتسلسل ، بل يقف عند وقوف
العقل عن الاعتبار ، وكون الحلول نقيضا للّاحلول لا يقتضي وجود الحلول.
وفيه نظر ؛ فإنّ
كل واحد من المضافين لا يعقل إلّا مع صاحبه ، ولا يصحّ وصفه به ، والصفات القائم
بعضها ببعض لا يصحّ أن تكون جواهر ، ـ فإنّ الجوهر لا يعقل أن يكون صفة لغيره ـ فيجب
أن تكون أعراضا ويلزم المطلوب.
الثالث
: هنا أعراض يحصل
بينها من الاختصاص ما يكون أحدها منعوتا بالآخر مع امتناع اتّصاف الجسم بذلك الآخر
، فيعلم أنّه حالّ في الأوّل ، فإنّ كلّ عرض يحلّ في محلّ فإنّه يفيد صفة لمحلّه ،
كالبطء ، فإنّه أمر وجودي زائد على الحركة ووصف لها ، ويمتنع اتّصاف الجسم به ، فإنّه لا يعقل أن يكون الجسم
بطيئا في جسميّته ، فإذن البطء ليس وصفا إلّا للحركة. وكذا الأعراض ، كل عرض منها
موصوف بالوحدة ، وهي عرض. والاستقامة والانحناء عرضان حالّان في الخط. والنقطة عرض
قائم بالخط لا بالجسم ، إلّا بواسطة.
واعلم : أنّ
المتكلّمين لمّا نفوا الجواهر المجرّدة ، وامتنع كون الله تعالى محلّا لشيء من
الأعراض ، لا جرم صحّ لهم تفسير حلول العرض بما ذكروه ، لكن أهملوا جواز توسط عرض
بين الجوهر القائم بذاته وبين الحال في المتوسط ، كما في السرعة والبطء مع توسط
الحركة بينهما وبين الجسم.
__________________
البحث الخامس : في امتناع قيام العرض الواحد بمحلّين
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب أكثر المحصلين من الحكماء والمتكلمين إلى امتناعه ، وذهب قوم من
الفريقين إلى جوازه ووقوعه كأبي هاشم ومتابعيه من المتكلّمين ، فإنّه قال بقيام
التأليف بمحلّين ، ومنع من قيامه بأكثر من محلين. وكجماعة من قدماء
الأوائل ذهبوا إلى أنّ الإضافات قائمة بكلا المضافين.
احتج الأوّلون بوجهين
:
الوجه
الأوّل : لو جاز في العقل
أن يكون الحالّ في هذا المحلّ عين الحالّ في ذلك المحلّ الآخر ، لجاز أن يكون
الحاصل في ذلك المكان هو الحاصل في هذا المكان ، فيكون الجسم الواحد حاصلا في
المكانين.
اعترض عليه أفضل
المحققين : بأنّه قياس العرض على الجسم الممتنع كونه في مكانين. ولو صحّ ذلك لقيل
: يمتنع اجتماع عرضين في محل واحد قياسا على امتناع اجتماع الجسمين في مكان واحد ،
لكنّ اجتماع الأعراض الكثيرة في محل واحد ـ كالسواد والحركة والتأليف والحياة ـ ثابت
عند جميع العقلاء.
وفيه نظر ؛ فإنّه
لم يستعمل القياس الظني هنا ، بل ذكر ملازمة بين تجويز
__________________
كون العرض في
محلّين ، وكون الجسم في مكانين ، وبيانها : أنّ المشاهد لنا من الأجسام إنّما هي
الأعراض ، فإذا جوّزنا قيام العرض الواحد بمحلين جاز أن يكون العرضان المشاهدان في
الجسمين عرضا واحدا ، وحينئذ يجوز أن يكون الجسمان واحدا ، لأنّا إنّما حكمنا
بتعددهما بواسطة تعدد العرضين ، فإذا جوّزنا وحدتهما انتفى دليل كثرة الجسمين
فجازت الوحدة حينئذ.
وأيضا لو جاز أن
يكون العرض القائم بهذا المحلّ هو العرض القائم بالمحل الآخر ، مع أنّهما في
حيّزين متباينين بالتبعية ـ لأنّ الإشارة إلى هذا العرض إنّما يمكن بالإشارة إلى
محلّه ـ فإذا تعددت الأحياز والحيثيات والإشارات ، وأمكنت الوحدة جاز ذلك في
الأجسام ، إذ لا مدخل لكون التحيّز والإشارة بالذات أو بالعرض في هذا الباب.
والملازمة في قياس العرض على الجسم لو سلّم أنّه قياس بين حلول العرض في محلين ،
وبين اجتماع جسمين في حيّز واحد ممنوعة ، والفرق ظاهر ؛ لأنّ المقتضي للمنع هنا
كون المانع من وحدة الحيّزين تمانع الجسمين ، لوجوب كونه ذا مقدار وكون حيّزه
مساويا له في المساحة ، وهذا المعنى مفقود في العرض.
الوجه
الثاني : لو حلّ العرض
الواحد في محلين ، فإمّا أن يقال : إنّه قد انقسم حتى وجد كلّ جزء منه في جزء من
موضوعه ، وذلك مسلّم لا نزاع فيه ، وليس محل النزاع ، لأنّ المتنازع أنّ العرض
الواحد مطلقا هل يحلّ في محلين بأن يكون بجملته حالّا في محلّ ، وهو بجملته بعينه
حالّا في محل آخر. وما ذكرتموه ليس كذلك ، بل هو حلول أعراض متعددة في محالّ
متعددة ، أطلق عليها اسم الوحدة باعتبار ما.
وإن حلّ العرض
بجملته في محلّ ، وحلّ بجملته في محلّ آخر ، بحيث يكون الشيء الواحد بعينه موجودا
في كلا المحلّين ، لم يكن حال العرضين في الاثنينية
إلّا كحال هذا
العرض الواحد القائم بالمحلّين ، فلا ينفصل الاثنان عن الواحد وهو محال.
احتج الآخرون
بوجوه :
الأوّل
: هنا أعراض واحدة
كثيرة المحالّ ، كالعدد والكلّية والكثرة.
لا يقال : إنّ تلك
المحالّ المجموعة تعرض لها وحدة ثمّ تعرض لها باعتبار تلك الوحدة هذه العوارض.
لأنّا نقول : تلك
الوحدة إن عرضت لها بعد عروض وحدة أخرى ، لزم التسلسل ، وإلّا عاد السؤال.
الثاني
: المضافان إن قام
بكلّ واحد منهما إضافة على حدة ، كان كل واحد منقطعا عن الثاني ، فلا بدّ بينهما
من رابط ، وإذا لم يقم بهما عرض واحد لم يكن الربط حاصلا.
الثالث
: أنّ التأليف عرض
واحد قائم بالمحلين ، لأنّ عدم انفكاك المؤلّف من الجوهرين ـ دون المتجاورين ـ لا بدّ له من علّة
، فلو قامت تلك العلّة بكلّ واحد منهما لم يتعذّر انفكاكهما ، فلا بدّ من عرض
يقتضي صعوبة التفكيك بين المؤلّفين ، بخلاف المتجاورين ، وهذه حجة «أبي هاشم». ومنع من قيام هذا العرض بأكثر من
محلّين ، وإلّا لجاز أن يقوم بالحبل الواحد تأليف واحد ، فإذا
__________________
أخذنا منه جزءا
وجب أن يعدم التأليف القائم بالحبل ، فتتفرق جميع أجزائه ، وهو معلوم البطلان.
وأجيب عن الأوّل : بأنّ لموضوعات الأعداد وحدة باعتبارها صارت موصوفة بتلك
الصور العددية.
ويرد عليه : لزوم
التسلسل ، بل الوجه في الجواب : أنّ الوحدة أمر عقلي يلحقه العقل بالماهيات ،
فتصير تلك المعروضات لهذا اللحوق العقلي واحدة ، فيصحّ حينئذ عليها عروض هذه الأشياء الخارجية. على أنّا نمنع كون هذه الأشياء
بسائط ، بل نمنع من الأصل كونها ثابتة في الخارج.
وعن الثاني : أنّ الرابط بينهما هي الوحدة النوعية ، وهي غير حالّة في
أحد الشخصين دون الآخر ، فالمضافيّة مطلقا أمر مشترك بين المضافين. فأمّا كون هذا
مضافا إلى ذلك ، فغير موجود في الآخر ، فإنّ أخوّة زيد لعمرو ليست بعينها أخوّة
عمرو لزيد ، لأنّ الأخوة التي لزيد بالنسبة إلى عمرو ليست ثابتة لعمرو ، وإلّا
لكان عمرو أخا لنفسه ، وهو محال. وهذا في المضافات المتخالفة أظهر ، فإنّ الأبوة
لا يمكن قيامها بالابن ، وكذا البنوة لا يمكن قيامها بالأب.
وعن الثالث : بالمنع من كون علّة المنع من التفكيك هي التأليف القائم
بمحلّين ، بل صعوبة التفكيك مستندة إلى القادر المختار ، بأن يلصق أحدهما بالآخر ،
فإنّ هذا أولى من التزام هذا المحال .
__________________
البحث السادس : في جواز بقاء الأعراض
اختلف الناس في
ذلك ، فالذي عليه الإمامية وكافة المعتزلة والأوائل جواز البقاء عليها ، وأنّ العلم به بديهي عند الأكثر منهم . وبعضهم ذهب إلى أنّه كسبي. ومنعت الأشاعرة من ذلك .
احتج الأولون على
كونه بديهيا : بأنّ العلم البديهي هو الذي لا يفتقر إلى طلب وكسب ، وإن استند إلى
الحس وكما نعلم بالضرورة أنّ الشخص الذي شاهدناه طول أعمارنا هو الشخص الذي
شاهدناه الآن ، كذا نعلم بالضرورة أنّ السواد الذي شاهدناه طول أعمارنا في جسم
معين هو الذي شاهدناه الآن فيه. ولو أخذ العقل يشك في أنّ كلّ آن يجب تجدّد عرض مساو للأوّل ، ويعدم الأوّل ، لشك في أنّ كل شخص من أشخاص
البشر يعدم ويوجد الله تعالى غيره مساويا له في جميع الصفات بحيث يحكم العقل بواسطة المساواة عند
الحس
__________________
بوحدتهما ، فلا
يحصل الوثوق بأنّ أبا الشخص أو أخاه ، أبوه أو أخوه ، بل مساو لهما وهذا عين السفسطة. وكما حكمنا بالوحدة في الأجسام ، فكذا
في الأعراض ، بل هنا أولى، لأنّه لا نزاع في أنّا نحس باللون ، وأكثر الناس منعوا
من رؤية الجسم ، فلو جاز القدح في اللون كان في الجسم أولى.
واحتج من جعله
كسبيا : بأنّ العرض قبل وجوده ممكن الوجود وقت وجوده لذاته ، وإلّا لكان ممتنعا
لذاته فكان لا يوجد ، هذا خلف.
وإذا ثبت أنّه
ممكن الوجود لذاته حال وجوده فلا يخلو :
إمّا أن يبقى
إمكانه الذاتي في ثاني الحال ، أو لا يبقى. والثاني محال ، وإلّا لزم انتقال
الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي وهو محال بالضرورة. ولأنّه يستلزم
نفي الصانع تعالى ؛ لأنّه كما جاز الانتقال من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي
، جاز أن ينتقل من الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي ، والواجب مستغن عن المؤثر ،
فيلزم الاستغناء عن المؤثر ، بل ولا يبقى وثوق بشيء من القضايا العقلية ، لأنّ أجلاها الحكم بأنّ الشيء ، إمّا واجب لذاته
لا ينتقل عن وصفه هذا ، أو ممكن لذاته كذلك ، أو ممتنع لذاته كذلك ، فتعيّن الأوّل
وهو أنّه : إذا كان ممكنا لذاته في وقت كان ممكنا في كل وقت ، فكل ممكن الوجود
ممكن البقاء وهو المطلوب.
وفيه نظر ؛ فإنّا
نمنع أنّ كل ممكن الوجود ممكن البقاء ، ولا يلزم من كون الشيء ممكنا في الزمن
الأوّل كونه ممكنا في الزمن الثاني عقيب وجوده في الزمن الأوّل. ولا يلزم من نفي
ذلك انتقال الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ،
__________________
فإنّ من الموجودات
ما يمتنع عليه البقاء كالحركة والزمان ، ولا يلزم انتقالها من الإمكان إلى
الامتناع. والأصل فيه : أنّ من الممكنات ما يمكن وجوده في كل وقت آنا واحدا ، ولا
يمكن بقاؤه وإمكان البقاء غير إمكان الوجود. وكل وقت يمكن وجود هذا العرض ابتداء
ولا يمكن استدامته ، فالامتناع الذاتي راجع إلى الاستدامة ، وهي مغايرة للابتداء
الممكن الذاتي ، ولا انتقال من جهة الإمكان إلى جهة الامتناع ، فالتعويل إذن ليس
إلّا على قضاء البديهة به.
احتج الأشاعرة
بوجهين :
الوجه
الأوّل : لو صحّ بقاء
الأعراض لزم قيام العرض بالعرض ، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ البقاء عرض على ما يأتي ، فلو اتّصف العرض به لزم قيام العرض بالعرض ، وبيان
بطلان التالي ما تقدم .
الوجه
الثاني : لو صحّ بقاء العرض
لامتنع عدمه ، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ عدمه بعد البقاء ، إمّا أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا ، أو ممتنعا لذاته.
والأوّل باطل ، وإلّا لانقلب الشيء من الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي ، ومن
الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ، وهو معلوم البطلان.
والثاني محال أيضا
، لأنّ كلّ ممكن وقع فله سبب ، وهو إمّا وجودي أو عدمي ، والوجودي إمّا أن يكون
موجبا كما يقال : إنّه يفنى بطريان الضد ، أو مختارا. والأوّل محال ؛ لأنّ طريان
الضد على المحل مشروط بعدم الضد الأوّل عنه ،
__________________
فلو علّل عدم الضد
الأوّل بطريان الضد الثاني لزم الدور. وأيضا التضاد حاصل من الطرفين، فليس بان يعدم الباقي بطرو الطارئ ، أولى من أن يندفع الطارئ بوجود
الباقي .
لا يقال : بل عدم
الباقي أولى لوجوه :
الأوّل : لو عدم الطارئ حال وجوده كان موجودا معدوما دفعة ، وهو
محال.
الثاني : الحادث حال طروه متعلّق بالسبب بخلاف الباقي ، فإنّه مستغن عنه.
الثالث : يجوز أن يكون الطارئ أكثر عددا ، فإنّ السوادين أقوى من
الواحد ، فإذا فرض جزء من البياض وطرأ عليه جزءان من السواد أعدماه.
لأنّا نقول : إنّ
الطارئ ، لسنا نقول : إنّه يوجد ثم يعدم في تلك الحال ، بل نقول : إنّه لا يوجد
البتة بسبب ضده الباقي ، وذلك غير محال.
ونمنع استغناء الباقي. وأيضا عند المعتزلة ، الشيء حال حدوثه
مستغن عن السبب.
والجمع بين الأمثال محال.
والثاني محال أيضا ، لأنّ العدم لا يصحّ إسناده إلى الفاعل المختار
؛ لأنّه عند الإعدام ، إمّا أن يكون قد صدر عنه أمر أو لا ، فإن صدر فتأثيره في
تحصيل أمر وجودي ـ هو ذلك الأمر الصادر ـ لا في أمر عدمي ، وهذا يكون إيجادا لا
__________________
إعداما ، وكلامنا
إنّما هو في الإعدام.
وأيضا ذلك الأمر إن كان منافيا لذلك الباقي ، كان عدم الباقي معللا بطرو
ذلك الأثر على المحل ، وهو خروج عن هذا القسم. وإن لم يكن منافيا لم يلزم من وجوده
عدم ذلك الباقي ، وهو معارض بنفس العدم.
وإن لم يصدر عنه أمر فهو محال ، لأنّ القادر إذا فعل فلا بدّ له من أثر ،
فإذا لم يكن له أثر لم يكن مؤثرا. ولأنّه حينئذ إذا لم يصدر عنه أمر كان حاله بعد
الإعدام كحاله قبله ، وكما أنّه قبل الإعدام لم يكن معدما ، فكذا بعده ، فلا يكون
المعدم معدما ، هذا خلف.
وأمّا إن كان
السبب عدميا ، وذلك بأن ينتفي لانتفاء شرطه ، لكن شرط العرض الجوهر ، والجوهر باق
، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض ، ويلزم التسلسل. وأيضا ذلك الشرط إن كان
باقيا كان الكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض ، فيلزم التسلسل. فإن كان غير باق
، فهو باطل بحصول الاتّفاق على أنّ حصول اللون في المحلّ غير مشروط بقيام شيء من الأعراض التي لا تبقى
بالمحل. فثبت أنّه لو كان باقيا لامتنع عدمه ، لكنّ التالي باطل قطعا فالمقدم
مثله.
والجواب
عن الأوّل : نمنع كون البقاء
عرضا وسيأتي. سلّمنا ، لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله ، وقد بيّنا بطلانه
وبطلان أدلتهم فيه.
وعن
الثاني : نمنع استحالة كون
عدمه واجبا بعد بقائه في زمن معين ، فإنّه من الجائز أن يبقى أزمنة كثيرة ، ثمّ
ينتهي إلى زمان يصير فيه ممتنع الوجود لذاته ، كما أنّه عندكم جائز الوجود في
الزمان الأوّل ، ثمّ انقلب ممتنعا في الزمان الثاني ، وحينئذ يستغني عن السبب.
__________________
سلّمنا ، لكن لم
لا يستند إلى الموجب؟ قوله : «طريان الضد على المحل مشروط بعدم الضد الأوّل ، فلو
علل عدم الضد الأوّل بطريان هذا الضد دار» ، دعوى خالية عن البرهان ، فللقائل أن يقول : بل عدم الضد
الأوّل معلل بطريان الضد على المحل ، وليس أحد القولين راجحا على الثاني ، بل لا
بدّ من الدليل.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون أولى وإن كنّا لا نعرف سبب الأولوية.
سلّمنا ، لكن لم
لا يستند إلى الفاعل المختار؟ قوله : «العدم إن صدر عنه أمر ، فتأثيره في تحصيل
أمر وجودي ممنوع» ؛ فإنّا نقول : إنّ تأثيره في أمر متجدّد ، وهو يصدق مع إيجاد
المعدوم وإعدام الموجود ، فإنّ الإعدام المتجدّد يصدق عليه أنّه أمر متجدد ، فإنّ
الممكن هو الذي يتساوى طرفاه بالنسبة إليه ، فإذا حصل معه ترجيح أحد الطرفين وجب
حصول ذلك الطرف ، سواء كان وجودا أو عدما ، وإلّا لما كان الطرفان متساويين
بالنسبة إليه ، وذلك الأثر إعدام مناف لا إيجاد ، فلا يكون ضدا.
سلّمنا ، لكن لم
لا ينتفي لانتفاء شرطه؟
قوله : «شرطه
الجوهر وهو باق ، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض».
قلنا : لا نسلّم
انحصار الشرط في الجوهر ، فجاز أن تكون الأعراض الباقية مشروطة بأعراض تتجدد عليها
غير باقية متعاقبة ، إذا انقطعت عدمت الأعراض الباقية المشروطة بها ، ولا يبقى في
دفع هذا الاحتمال إلّا الاستقراء ، وهو إنّما يفيد الظن دون القطع.
__________________
وتحقيقه : أنّ
الجوهر قابل ، فربّما احتاج تأثير فاعله فيه إلى وجود شرط آخر ، كالشمس الفاعلة
لإضاءة وجه الأرض بشرط المحاذاة ، فإنّ المحاذاة إذا عدمت لم يبق وجه الأرض مضيئا
، وإن كان الفاعل والقابل موجودين .
البحث السابع : في انقسام العرض بانقسام محله
أمّا المتكلّمون
القائلون بانقسام الأجسام إلى الجواهر الأفراد ، فإنّ هذا الحكم ظاهر عندهم ، لأنّ
الحالّ في أحد الأجزاء غير الحالّ في الآخر ، لاستحالة أن يكون هو هو بعينه ،
لامتناع حلول الواحد المطلق في محلين.
وأمّا الأوائل
القائلون بوحدة الجسم وأنّه قابل للانقسام ، فاستدلوا على هذا الحكم : بأنّ الجسم ذا القوة البسيطة ، إمّا أن تكون تلك القوة
حاصلة في جسميته أو أطرافه ، كالبياض والضوء ، أو لا في جسميته ولا في أطرافه. فإن
لم تكن في جسميته ولا في أطرافه فليس موجودا فيه ، وإن كان في جسميته أو في أطرافه
، فأيّ جزء أخذته من الجسمية ، إن لم توجد تلك القوة فيه كان ذلك الجزء خاليا عن
القوة ، فليس ذلك الجسم بكلّيته فيه تلك القوة ، بل في بعض من ذلك الجسم دون بعض.
وكذا البحث في الأطراف المنقسمة ، وإن كانت في طرف غير منقسم ، كالنقطة لم توجد في
الجسم الكري ؛ لأنّ النقطة لا توجد إلّا بعد الحركة التي هي بعد القوة التي هي في
النقطة ، والشيء لا يتأخر عن نفسه.
__________________
وإن وجد في كل
واحد من أجزاء الجسم القوة ، فإمّا أن تحصل تلك القوة بتمامها في كل واحد من
الأجزاء ، فتكون للحالّ الواحد محالّ كثيرة ، وهو محال ، أو يوجد
في كل جزء من المحل جزء من الحالّ ، وهو يقتضي انقسام الحال لانقسام المحل. ولا
يرد بالشكل حيث يقال : إنّه يوجد بتمامه في الجسم ولا يوجد في أجزائه
، لأنّ أجزاء الشكل ليست مساوية لكله في الماهية ، لأنّ الشكل تركيبا ما.
وفيه نظر ؛ فإنّا
نمنع عدم الحلول في الجسمية إذا لم يكن حالّا في أجزائها ، فإنّه المتنازع ، وهذا
كالإضافة ، فإنّ الأبوة قائمة بذات الأب لا بأجزائه ، ونمنع أنّ النقطة لا توجد
إلّا بعد الحركة ، فقد تكون هناك أسباب أخر.
قيل : النقطة عرض
فلها موضوع ، فإن لم يكن متحيّزا لم تكن النقطة مشارا إليها إشارة حسية ، ولا كانت من ذوات الأوضاع وهو محال. وإن كان متحيّزا انقسمت بانقسامه
، لأنّ كل متحيّز عندهم منقسم.
وأجيب : بأنّ
الموجب للانقسام إنّما هو حلول السريان ، لا مطلق الحلول ، فإنّ الحلول قد يكون
حلول السريان ، كاللون الشائع في سطح الجسم ، فإنّ كلّ جزء نفرضه في السطح يوجد فيه شيء
من اللون. وقد لا يكون كالنقطة الحالّة في الجسم ، فإنّها لا يجب انقسامها بانقسام
محلها ، وهكذا الإضافات فليس في نصف الأب نصف الأبوة.
قيل : إنّ التحقيق
هنا أن يقال : الحالّ قد يكون بحيث لا يقتضي انقسامه
__________________
انقسام المحل ،
وقد يكون بحيث يقتضي. والأوّل هو الحالّ الذي لا ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع
كالسواد المنقسم إلى جنسه وفصله ، وكأشياء كثيرة تحلّ محلّا واحدا كالسواد والحركة مثلا ،
فإنّهما لا يقتضيان انقسامهما إلى هذين النوعين انقسام المحل إلى جزء أسود غير متحرك ،
وإلى جزء آخر متحرك غير أسود. والثاني هو الحالّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في
الوضع كالثلاثة ، فإنّها تنقسم إلى عرضين متباينين في المحلّ والوضع.
والمحلّ أيضا قد
يكون بحيث لا يقتضي انقسامه انقسام الحال ، وقد يكون بحيث يقتضي. والأوّل هو المحل
المنقسم إلى أجزاء غير متباينة في الوضع ، كالجسم المنقسم إلى جنسه وفصله ، أو إلى
مادته وصورته ، والمحل الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع ولكن لا يحلّ فيه الحالّ من حيث هو ذلك المحلّ ، بل من حيث لحوق طبيعة
أخرى به كالخط ، فإنّ النقطة لا تنقسم بانقسامه ، لأنّها لا تحله من حيث هو خط بل
من حيث هو متناه ، وكالسطح فإنّ الشكل لا يحلّ فيه من حيث هو سطح ، بل من حيث هو ذو نهاية واحدة
أو أكثر ، وكالجسم فإنّ المحاذاة التي هي إضافة مثلا لا تحله من حيث هو جسم ، بل
من حيث وجود جسم آخر على وضع ما منه ، وكالأجزاء فإنّ الوحدة لا تحلّها من حيث هي
أجزاء ، بل من حيث هي مجموع.
والثاني هو المحلّ
الذي يحلّ فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة ، كالجسم الذي يحلّ فيه
السواد أو الحركة أو المقدار.
__________________
البحث الثامن : في امتناع كون الشيء الواحد جوهرا وعرضا
زعم بعض من لا
مزيد تحصيل له من الأوائل : أنّ الشيء قد يكون بعينه جوهرا وعرضا ، واحتجوا عليه بوجوه :
الأوّل
: فصول الجواهر
مقوّمة لها ، ومتقدمة عليها ، وعلل فيها ، فتكون جواهر ، لأنّ مقوّم الجوهر
والمتقدم عليه والعلّة فيه ، يجب أن يكون جوهرا ؛ لاستحالة تقوّم الجوهر ـ المتقدم
على العرض ـ بالعرض ، وإلّا لتأخر عنه. ثمّ إنّ الحكماء قالوا للفصول : إنّها
كيفيات ، والكيفيات أعراض ، فالفصول إذن جواهر وأعراض ، فالشيء الواحد جوهر وعرض
معا.
الثاني
: الحرارة جزء من
الحار ، والحار هو جوهر ، والحرارة جزء الجوهر ، وجزء الجوهر جوهر ، فالحرارة
بالنسبة إلى الحار من حيث هو حار جوهر ، لكنّها بالنسبة إلى الجسم القابل لها عرض
، فهي جوهر وعرض بالنسبة إلى أمرين.
الثالث
: العرض في المركب
كجزء منه كالبياض في الأبيض ، وكل ما هو في الشيء كجزء منه لا يكون عرضا فيه ، وكل
ما لا يكون عرضا في الشيء كان جوهرا فيه ، لكنّه بالنسبة إلى الجسم القابل له عرض
، فالشيء الواحد جوهر وعرض معا.
الرابع
: الصور الجوهرية
المعقولة حالّة في النفس لا كجزء منه ، فتكون
__________________
عرضا بالنسبة إلى
النفس ، لكنّها لو وجدت في الخارج كانت لا في موضوع فتكون جواهر ، لأنّا لا نشترط
في الجوهر كونه في الحال موجودا لا في موضوع ، بل متى وجد كان وجوده لا في موضوع.
والجواب
عن الأوّل : أنّ الكيفية تقال
على المقولة ، وعلى الفصول بالاشتراك اللفظي ، فلا يجب أن تكون فصول الجواهر
أعراضا تخرج عن حقائقها باعتبار وضع اسم الكيفية لها.
وعن
الثاني : أنّ الحار عبارة
عن الشيء ذي الحرارة ، ولا يلزم من كون ذلك الشيء جوهرا أن تكون الحرارة جوهرا.
قوله : الحرارة
جزء من الحار ، والحار جوهر.
قلنا : إن أردتم
بذلك أنّ الحرارة جزء من مفهوم الحار من حيث هو حار ، أعني المجموع المركب من
الشيء ذي الحرارة والحرارة ، فهو مسلّم ، لكن نمنع صدق الكبرى ، فإنّ المفهوم
المركب من الجوهر والعرض عرض. وإن أردتم أنّ الحرارة جزء من مفهوم ذات الحار لا من
هذه الحيثية ، منعناه.
وعن
الثالث : بالمنع من كون «كل
ما لا يكون عرضا في الشيء يكون جوهرا فيه» ، ومسلّم «أنّ كلّ ما هو في الشيء كجزء
منه لا يكون عرضا فيه» ، والبياض إذا أخذ جزءا من المركب ، أعني الأبيض ، لا يكون
عرضا في الأبيض الذي هو مركب من الجسم ومن البياض ، بل هو عرض في الجسم المعروض
للبياض الذي هو جزء آخر من المركب ، وليس من شرط كون العرض عرضا ، أن يكون حصوله
في جميع الأشياء حصول العرض في الموضوع ، حتى يلزم أنّه إذا لم يكن في المركب كون
العرض في الموضوع أن يصير جوهرا ، بل من شرط الجوهر أن لا يكون في موضوع أصلا ،
فالبياض وإن لم يكن وجوده في الأبيض الذي هو المركب وجود العرض في الموضوع ، إلّا
أنّه بالنسبة إلى المحل الذي هو الجسم ، وجوده في
موضوع ، وذلك يكفي
في حصول العرضيّة. فشرط الجوهريّة البراءة عن جميع الموضوعات. والعرضيّة تتحقق
لأجل التعلّق بموضوع واحد ، فالعرض في المركب وإن لم تكن عرضيته حاصلة من هذا
الوجه ، لكنّه عرض باعتبار تعلّقه بالموضوع.
قيل ، في توجيه هذا الأمر : إنّه إذا حلّ شيء في شيء فإنّه يكون لذلك الحالّ
اعتباران ، أحدهما : أنّه في ذلك المحل ، والثاني : اعتبار أنّه في ذلك المجموع ، كالحرارة الحالّة في الجسم ، فإنّ لها اعتبارا بالنسبة
إلى الجسم لأنّها فيه ، واعتبارا بالنسبة إلى المركب بأنّها في الحارّ .
فأمّا الاعتبار
الثاني : وهو اعتبار كون الحرارة في الحار ، فظاهر أنّه لا يوجب العرضية ، لأنّ
الحرارة جزء من الحار ، ومن شرط العرض أن لا يكون جزءا من الموضوع.
وأمّا الاعتبار
الأوّل ، وهو اعتبار كون الحرارة في المحل ، فنقول : لا يخلو إمّا أن يعقل محل
يتقوّم بما يحلّ فيه ، أو لا يعقل ذلك ، والأوّل باطل.
أمّا أوّلا :
فلأنّ الحال يحتاج في وجوده إلى المحلّ ، فلو احتاج المحلّ في وجوده إلى الحالّ
لزم الدور.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ هيولى العناصر مشتركة بين صورها ، فلو كان لوجود شيء من صور
العناصر مدخل في
تتميم وجود الهيولى ، لزم ارتفاع الهيولى عند ارتفاع
__________________
تلك الصورة ،
فحينئذ لا تكون الهيولى مشتركة.
ويوضح ذلك : أنّا
نرى الحيوانية إذا عدمت فإنّه لا تعدم جسمية بدن ذلك الحيوان، فلا تكون تلك الجسمية متقوّمة بالصورة الحيوانية. فظهر
امتناع تقوّم شيء من المحالّ بشيء ممّا يحلّ فيه . فإذن كلّ حالّ بالنسبة إلى محلّه عرض. فأمّا أن يقال :
إنّه عرض مطلقا ، حتى يكون هو بالنسبة إلى المركب عرضا ، فحينئذ يبطل الفرق بين
الصورة والعرض ، وذلك مخالف للإجماع المنعقد بين العلماء.
وأيضا فإنّ جوهر
الشيء في اللغة عبارة عن أصله ، والعرض هو الذي يكون عارضا ، فلا بدّ وأن يكون
خارجا ، ومعلوم أنّ الحرارة بالنسبة إلى الحار من حيث هو حار داخلة فيه ، فيصحّ أن
يقال : إنّها داخلة في جوهر الحار ، وهي بالنسبة إلى الجسم القابل لها غير داخلة
فيه ، بل خارجة عنه عارضة له فيكون عرضا بالنسبة إليه ، فصحّ كون الشيء جوهرا
وعرضا.
وهذا الكلام على
طوله لا فائدة فيه ، فإنّه يقتضي أن لا يكون في الوجود عرض على الإطلاق ، بل يكون
جوهرا وعرضا ، ويقتضي خروج الحقائق عن اصالتها وجعلها اعتبارات وألفاظا لا تأصل لها في نفس الأمر.
ثمّ الاستدلال في
هذا المطلب العقلي القطعي باتفاق العلماء وإجماعهم ووضع أهل اللغة ، من أغرب
الأشياء وأعجبها. والدور يلزم لو اتحدت جهة الحاجة ، أمّا لو تعددت فلا ، وهنا
الجهة متعددة ، لأنّ الحالّ يحتاج إلى محل معيّن ، والمحل يحتاج إلى صورة ما ، لا
إلى صورة معينة ، لأنّ تعيّنها إنّما هو باعتبار مقارنة
__________________
الأعراض المادية
بها ، وبهذا الاعتبار لا ترتفع الهيولى بارتفاع الصور الشخصية ، وإنّما ترتفع
بارتفاع مطلق الصورة الكلّية ، ولا يرتفع البدن بارتفاع الصورة الحيوانية ، بل
ترتفع صورته ويلبس غيرها.
والحق امتناع ذلك
، فإنّ معنى الجوهر هو الغنيّ في وجوده عن الموضوع ، والعرض هو المحتاج إلى
الموضوع في وجوده ، فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد. ولأنّ مثل هذا العرض الذي
أثبتّموه مفتقر إلى الموضوع ، لوجوب وجود هذه الخاصة في كل عرض ، فإن جعل موضوعه نفسه ، كان الشيء حالّا في
نفسه ، وهو محال غير معقول ، وإن جعل غيره كان الجوهر محتاجا إلى الموضوع ، لأنّ
التقدير أنّه شيء واحد هو جوهر وعرض ، وبالجملة فالضرورة قاضية بامتناع ذلك.
__________________
الفصل الثالث :
في أقسام الأعراض على رأي الأوائل
وفيه مقدمة
ومقالات :
والمقدمة في تقسيمها
:
قسّم الأوائل
العرض إلى تسعة : الكم والكيف والمضاف والأين والمتى والوضع والملك وأن يفعل وأن
ينفعل. وجعلوها أجناسا عالية لكل عرض ، كما جعلوا الجوهر جنسا عاليا لكل جوهر ،
فالممكنات إذن كلّها داخلة تحت هذه المقولات العشر. وهذا يحتاج إلى بيان كون كلّ واحد منها جنسا عاليا ،
__________________
وانحصار الممكنات
فيها وكيفية انقسامها إلى أنواعها ، وإنّما يتم كونها أجناسا إذا ثبت أمور خمسة :
الأمر
الأوّل : جعل الأقسام التي
هي تحت كل واحدة من هذه العشرة مشتركة في أمر ما ، وهو ظاهر ، فإن أقلّ مراتب
الجنس أن يكون مشتركا بين أنواعه.
الأمر
الثاني : أن نبيّن كون جهة
الاشتراك أمرا ثبوتيا ، فإنّ الصفات السلبية لا يصحّ جعلها أجناسا.
الأمر
الثالث : أن يكون المشترك
مقولا على ما تحته بالتواطؤ ، لامتناع قبول الجزء التفاوت.
الأمر
الرابع : أن يكن ذاتيا ،
لأنّ الجنس جزء الماهية.
الأمر
الخامس : أن يكون كمال
الذاتي المشترك ، لأنّ الفصل ذاتي ، وليس كمال الذاتي المشترك.
وإنّما يتم كونها
عالية لو لم يوجد اثنان منها تحت مقولة واحدة ، ولا برهان لهم على ذلك. ونقل بعض
القدماء أنّ مقولتي الفعل والانفعال مندرجتان تحت الكيفية ؛ فإنّ التسخين والتسخن
نفس السخونة. وهو خطأ فإنّ التسخن طلب السخونة ، ويستحيل طلب الشيء نفسه.
وذهب آخرون منهم إلى أنّ المقولات العالية أربع لا غير : الجوهر والكم
والكيف والنسبة وجعل النسبة جنسا للسبعة النسبية.
وبعضهم أخرج الوضع
عن النسبة ؛ لأنّه ليس نفس النسبة ، فإنّه عرض
__________________
يحصل للجسم بسبب
نسبة بين أجزائه بعضها إلى بعض ، ونسبة أجزاءه إلى الأمور الخارجة عنه.
وبعضهم جعل المضاف
جنسا للستّة الباقية من النسب ، وهو غلط ؛ فإنّ المضاف يعتبر فيه التكرير بخلاف
باقي النسب.
وإنّما يتمّ الحصر
لو لم يوجد جنس خارج عنها ، ولا برهان عليه سوى الاستقراء.
واعترض بأنّ هنا
أمورا خارجة عن هذه العشرة ، كالوحدة والنقطة والآن والوجود والشيئية وغيرها من
الاعتبارات العامّة والحركة فإنّها خارجة عن المقولات العشر ، وأعدام الملكات
كالجهل والعمى ، وجميع مفهومات المشتقات كالأبيض ، فإنّ المفهوم منه أنّه شيء ما
ذو بياض ، وفهم هذا لا يتوقف على فهم كونه جوهرا ، لأنّه لا يمتنع أن يكون الشيء
والبياض عرضين ، فلا يكون مفهوم الأبيض داخلا تحت جنس الجوهر ، وليس داخلا تحت
مقولة الكيف لأنّ الداخل تحت الكيف هو البياض ، وليس كلامنا فيه ، بل في الأبيض ،
ولا داخلا تحت مقولة أخرى منها وهو ظاهر ، فإذن مفهوم الأبيض خارج عن المقولات
العشر.
وأجيب : بأنّ الآن
لا وجود له بالفعل ، وكلامنا في الأمور الوجودية. وكذا أعدام الملكات.
والوحدة والنقطة
قيل : إنّهما داخلتان تحت مقولة الكيف ، لأنّهما أعراض لا يتوقف تصوّرها على تصوّر شيء خارج عن حاملها ،
ولا تقتضي قسمة ولا نسبة في أجزاء حاملها.
وجعلهما بعضهم من
الكم ، وهو غلط ؛ لأنّ الكم هو الذي يقبل المساواة واللامساواة ، وذلك غير صادق
على الوحدة والنقطة.
وقيل : إنّهما داخلة تحت مقولات كثيرة باعتبارات مختلفة ، فالنقطة من
__________________
حيث هي طرف من
المضاف ، ومن حيث إنّها هيئة ما من الكيف ، وذلك غلط ، لأنّ الماهية إذا تقوّمت
بأحد الجنسين امتنع تقوّمها بما ليس من ذلك الجنس.
وقيل : إنّهما خارجة عن المقولات العشر ، ولا امتناع فيه. ولا يناقض ذلك
حصر الأجناس في عشرة ، لأنّ الأجناس كلها ترجع إلى هذه العشرة ، أمّا الأنواع
كلّها فلا ، فجاز أن تكون هذه أنواعا بسيطة ، فلا تندرج تحت الأجناس العالية ،
والعشرة أجناس لكل جنس لا لكل شيء ، فإن كل حقيقة بسيطة خارجة عنها. نعم يجب في
بيان حصر الأجناس في العشرة بيان أنّ هذه ليست أجناسا.
والأسامي المشتقة
خارجة عن المقولات العشر باعتبار ، وإن اندرجت تحتها باعتبار آخر ، فإنّ القائم من
حيث المفهوم شيء له القيام ، ومن حيث الوجود جسم له القيام ، والجسم جوهر والقيام
من باب الوضع. ولا يقدح خروجها عن المقولات العشر ، لأنّها ليست أجناسا.
والحركة قيل :
إنّها من مقولة أن ينفعل .
وأمّا كيفية
انقسام هذه إلى أنواعها ، فلا نعلم بعد العلم بجنسيتها هل نقسمها إلى
هذه بالفصول أو بالعوارض؟ وبتقدير أن يكون بالعوارض ، فهل هو مطابق للتقسيم بالفصول كما يقسم الحيوان بقابل العلم وغير
قابله؟ فإنّه مطابق لتقسيمه بالناطق وغيره. أو غير مطابق كتقسيم الحيوان بالذكر والأنثى ، فإنّه غير مطابق للتقسيم
بالناطق وغيره ، بل مداخل .
__________________
المقالة الأولى
في الكم
وفيها مباحث :
البحث الأوّل : في تعريفه
البسائط لا حدود
لها ، لانتفاء الجزء فيها ، وإنّما تعرف بالخواص. والتي يمكن الوقوف منها على
معرفة الكم هنا خواص ثلاثة :
١ : التقدير
والمساواة واللامساواة ، وهي أمور إضافية تعرض بواسطة الكم ، لا بسبب الصورة
الجسمية.
٢ : قبول الانقسام
، وهي لازمة للكم بسبب الخاصية الأولى. ثمّ حصول الانقسام على وجهين :
الوجه
الأوّل : كون المقدار بحيث
يمكن أن يفرض فيه شيء غير شيء دائما ،
__________________
وهذا المعنى يلحق
المقدار لذاته ، فإنّا متى تصوّرنا المقدار الطولي مثلا أمكن أن يفرض العقل فيه
شيئين متغايرين ، وهكذا في كلّ واحد من القسمين المفروضين ، وهكذا في كلّ
واحد من قسمي القسمين وهكذا أبدا. وإنّما كانت هذه الخاصة تابعة للأولى لأنّه معنى
يوجد للمقدار من حيث يفاوت غيره ويساويه ، وهذه القسمة لا تغيّر الجسم ولا توجب له
حركة في المكان.
الوجه
الثاني : الافتراق
والانفصال ، بحيث تحدث للجسم الواحد باعتباره هويتان بعد أن كانت له هوية واحدة ،
فإنّ الجسم عند الأوائل واحد في نفسه ، فإذا انقسم وانفصل بعضه عن بعض فقد عدم
اتصاله الأوّل ، وحدث اتصالان آخران ومتصلان آخران مغايران للأوّل ، والاتصال
عندهم جزء الجسم ، ولا بدّ في هذا المعنى من تغيّر في الجسم وحركة ، وهذا المعنى
من لواحق المادة ، ويستحيل عروضه للمقدار لامتناع التنافي بين القابل والمقبول ،
وهذا المقدار متى انفصل عدمت ذاته فلا يكون هو القابل ، بل المادة. نعم ، عروض هذا
القبول للمادة ، إنّما هو بسبب تهيؤ المادة لقبوله المستند إلى المقدار ، فإنّه لو
لا المقدار لما عرض للمادة قبول الانقسام. ولا يلزم من قولنا : المقدار هو الذي
يهيئ المادة لقبول الانقسام ، حصول ذلك الاستعداد في نفس المقدار ؛ لأنّه حاصل في
المادة فكيف يحصل فيه أيضا؟!
وليس كل فاعل فعل
، فإنّه يفعله في نفسه ، بل ولا يجب أن يكون المقدار باقيا عند حصول الانقسام بالفعل
، بل يجب عدمه. كما أنّ الحركة تهيئ الجسم للسكون الطبيعي ، ولا تبقى مع السكون ،
لأنّ أثر الحركة الإعداد للسكون ، وقد حصل معها. وكذا اعداد المادة لقبول القسمة
مستند إلى المقدار ، وقد وجدت معه. وحصول القسمة بالفعل مستند إلى أسباب أخرى ،
كما استند السكون إلى
__________________
أسباب غير الحركة
، ولا يجب وجود المقدار عند وجود تلك الأسباب.
قالوا : فالجسم
متصل واحد على ما يأتي وقابل لانقسامات غير متناهية ، لا على معنى أنّها توجد
بالفعل دفعة ، بل على معنى أنّه كلما وجد من الأقسام شيء أمكن تقسيمه إلى أقسام
أخر ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، وانقساماته دائما غير متناهية بهذا الاعتبار ، وهو
أنّه دائما موصوف بأنّه لا ينتهي إلى قسمة لا تحتمل القسمة بعدها. ودائما متناهية
من حيث إنّ ما وجد فيه من التقسيمات متناهية ، فالجسم إذن قابل للتنصيف إلى غير
النهاية.
والتنصيف في
المقدار تضعيف في العدد ، فالعدد غير متناه في الزيادة ، وينتهي في النقصان إلى
الواحد ، والمقدار بالعكس غير متناه في النقصان ومتناه في طرف الزيادة. ولمّا كان
المقدار قابلا للتجزئة لذاته وجب أن يكون قابلا للتعديد ، لأنّ التنصيف في المقدار
تضعيف في العدد ، ومبدأ العدد واحد ، فالمقدار لذاته قابل لأن يفرض فيه واحد عاد ، ويصير هو معدودا بذلك الواحد.
٣ : وهذه الخاصة
الثالثة للمقدار ، وهو : كونه بحال يمكن أن يصير معدودا بواحد فيه.
لكن لا يمكن تعريف
الكم بالخاصة الأولى ، لأنّ المساواة اتحاد في الكم فقد أخذ في تعريفها ، فلم يمكن
أخذها في تعريفه .
ولا بالثانية ،
لأنّ قبول القسمة من عوارض الكم المتصل .
__________________
فلم يبق إلّا
الخاصة الثالثة ، فيعرف بأنّه الذي يمكن أن يوجد فيه شيء واحد عاد لذاته ، وهو
شامل لما وجد فيه الواحد بالفعل كالعدد وبالقوة كالمتصل .
البحث الثاني : في الفرق بين المقدار والجسمية
الفرق بينهما من
وجوه :
الوجه
الأوّل : الجسم الواحد
تتوارد عليه المقادير المختلفة مع بقاء جسميته الشخصية ، فانّ الشمعة يمكن أن
نجعلها تارة كرة وتارة ذا أشكال مختلفة كالتربيع والتثليث وغيرهما ، فيزيد طوله
وينقص عرضه أو عمقه ، وبالعكس. فتغيّر المقدار وبقاء الجسمية يدل على التغاير.
وهذا إنّما يتمّ على تقدير نفي الجوهر الفرد ، إذ مع ثبوته جاز أن يكون التغير عائدا إلى اختلاف وضع
الأجزاء.
لا يقال : المقدار
باق ، فإنّ أبعاد الشمعة حال الكرية مساوية لها حال التكعيب للمساحة.
لأنّا نقول :
المساواة قد تكون بالقوّة وقد تكون بالفعل ، والكرى والمكعب لا مساواة لهما بالفعل
، بل بالقوّة ، وما بالقوّة غير موجود.
__________________
واعترض بمنع زوال
المقدار ، بل الزائل الأشكال ، وهي مغايرة للجسمية.
الوجه
الثاني : الأجسام مختلفة في
المقادير ، ومشتركة في الجسمية فتغايرا.
اعترض بأنّها كما اشتركت في أصل الجسمية كذا اشتركت في أصل
الكمية والمقدارية ، فإن اقتضى اختلافها في المقادير المخصوصة بعد اشتراكها في
الجسمية زيادة مقاديرها على جسميتها ، لزم أن يكون اختلافها في المقادير المخصوصة
بعد اشتراكها في المقدارية ، موجبا زيادة مقاديرها المخصوصة على المقدار المطلق ،
حتى يكون المشترك عرضا والمقدار المخصوص عرضا آخر ، ويلزم التسلسل ؛ لأنّ تلك
المقادير المخصوصة أيضا مشتركة في أصل المقدار فيكون هناك مقدار آخر مشترك ويتسلسل
فوجب أن يكون اشتراك الأجسام في أصل المقدار ، واختلافها في المقادير الخاصة ، لا
يستلزم أن يكون أصل المقدار موجودا مغايرا للمقدار المخصوص ، وحينئذ يجوز أن تكون
الجسمية مشتركة بين الأجسام ، وتتمايز الأجسام في المقادير المخصوصة ، وإن لم يكن
المقدار موجودا مغايرا للجسمية.
وفيه نظر ، فإنّ
اشتراك الأجسام في الجسمية ضروري ، وقد سلّمه أيضا ، واختلافها في المقادير ضروري
أيضا ، وقد سلّمه ، والتغاير بين ما به الاشتراك وما به الامتياز ضروري أيضا ،
فيكون الإنتاج ضروريا. والمعارضة بالمقدار ساقطة ؛ لأنّ الأجسام مشتركة في المقدار
المطلق ـ الذي هو جنس للمقادير المخصوصة ـ واختلفت في المقادير المخصوصة التي هي
الأنواع ، ولا شك في المغايرة بين الجنس والنوع ، لكن سبب التمايز في المقادير المخصوصة ، الفصول المقسمة لجنس
المقدار ، وتلك غير مشتركة إلّا في المقدار الذي هو الجنس ـ اشتراك
__________________
المعروضات في
العارض ـ فإنّ الجنس بالنسبة إلى الفصول عرض عام لها فلهذا انقطع التسلسل.
الوجه
الثالث : بعض الأجسام يصحّ
أن يقدّر البعض ، ولا يجب في المقدّر المساواة ، فإنّ الصغير يصحّ أن يقدّر الكبير ، بل تصحّ
المخالفة في المقدّر ، وليست المقدّرية هي نفس الجسمية التي يمتنع أن يخالف جسم
فيها جسما ، فتلك المقدّريّة بأمر زائد على الجسمية ، والجزء الذي لا يتجزّأ باطل
، فلا يرجع ذلك إلى كثرة الأجزاء.
الوجه
الرابع : الجسم يزداد
مقداره وينقص من غير انضمام شيء إليه أو نقصان شيء منه ، ومن غير وقوع خلاء بين
أجزائه ، لامتناعه ، والجسم في حد جسميته محفوظ حالة التبدّل فتغايرا. وهو مبني
على التخلخل والتكاثف الحقيقين المبتنيين على نفي الجوهر الفرد.
واعترض بمنع بقاء
الجسمية ، لاحتمال أن لا يحصل ذلك العظم إلّا عند تفرّق الاتصال المقتضي لعدم
الجسمية.
الوجه
الخامس : وجود السطح من
توابع المادة ، فلا يكون نفس الجسمية المقوّمة للمادة المتقدّمة عليها بالعلّية ،
فالسطح مغاير للجسمية ، والخط من عوارض السطح فهو أولى بالتأخّر ، فيغاير الجسم. وتحقيقه ، أنّ الجسم يصحّ أن يعقل مع الذهول عن
تناهيه ، فيكون خارجا عن مفهومه ، فالجسمية ، وإن امتنع انفكاكها عن السطح في
الخارج ، إلّا أنّه يصحّ انفكاكها عنه في التصوّر ، والخط يمكن خلو الجسمية عنه في
الذهن والخارج معا ، لأنّ الكرة لا خط فيها بالفعل ، وإنّما يتعيّن المحور
والمنطقة باعتبار الحركة التي لا يجب ثبوتها لها ذهنا ولا خارجا.
اعترض بأنّ للسطح
اعتبارين : أحدهما غير إضافي ، بل من مقولة الكم وهو
__________________
أنّه مقدار قابل
لفرض امتدادين. والآخر إضافي وهو كونه نهاية للجسم ، وهو بهذا الاعتبار كم عرضت له
الإضافة ، فإن كان السطح غير داخل في مفهوم الجسم من حيث هو مضاف ، لا يلزم أن لا
يكون داخلا فيه من حيث هو كم.
ثمّ ينتقض ما
ذكرتموه بالهيولى والصورة ، فإنّهما داخلان في قوام الجسم ، وقد لا يعلمهما من علم
الجسم ، ولا يلزم خروجهما عن التقويم له .
وفيه نظر ، فإنّ
السطح لا يعرض للجسم إلّا إذا انقطع ، فيكون متأخّرا عن القطع العارض للجسم ، فلا
يصحّ أن يكون متقوّما باعتبار ما ، ولا أن يكون نفس الجسمية ، ونحن لا نستدل بكون السطح
المأخوذ مع الإضافة ، عارضا على كونه من حيث هو غير مضاف عارضا.
وأمّا الهيولى
والصورة فإنّما جهلناهما للجسم ، لأنّ الجسم لم نتصوّره بحقيقته ، بل باعتبار عارض
عرض له.
البحث الثالث : في أقسام الكم
اعلم أنّ الكم جنس
لنوعي المتصل والمنفصل.
والمتصل يراد به
معنيان :
أحدهما
: حال المقدار في
نفسه وهو الذي يمكن أن تفرض فيه أجزاء تتلاقى عند حدّ مشترك يكون بداية لأحد
الجزءين ونهاية للآخر ، وهذا هو الفصل
__________________
للمتصل. والمنفصل
يقال في مقابلته وهو الذي لا يكون بين أجزائه حدّ مشترك.
والثاني
: الذي يوجد بالقياس
إلى غيره وهو على معنيين أيضا :
أحدهما : أن يكون
نهاية أحد المقدارين هو نهاية الآخر كالخط المتصل بخط آخر على زاوية ، فيقال لكل
منهما أنّه متّصل بالآخر.
والثاني : أنّ
تتعدّد نهايتاهما ، لكن تتلازمان بحيث يتحرّك أحدهما بحركة الآخر باعتبار الاتصال
بينهما.
والمراد هنا هو
الأوّل ، وهو المتصل الحقيقي ، وهو إمّا أن يكون قارّ الذات ، أو غير قارّ الذات.
والأوّل : إن
انقسم في جهة واحدة لا غير فهو الخط ، وإن انقسم في جهتين لا غير فهو السطح ، وإن انقسم في ثلاثة فهو الجسم التعليمي
.
والثاني : هو
الزمان ، وهو كم ، لإمكان تعديده بواحد فيه من الساعات والدقائق وغيرهما ، ومتصل
لأنّه يمكن أن يتوهّم فيه شيء هو الآن يكون نهاية الماضي وبداية المستقبل ، ولأنّه
مطابق للحركة المطابقة للجسم المتّصل القابل لانقسامات غير متناهية ، ولو كان
منفصلا استحال ذلك فيه.
وقيل : إنّه منفصل
؛ لأنّه عدد الحركة ، ولأنّه ينفصل بسبب الآن. وليس بجيد ؛ لأنّ كونه عددا ، عارض
له كما يعرض للخط والسطح والجسم كونها معدودة ، وهو من حيث هو زمان ليس عددا
للحركة. والآن في الزمان بالقوّة كالنقطة في الخط ، ولو كان بالفعل لم يلزم كون
الزمان منفصلا ، فإنّه إذا كان الآن
__________________
حاصلا بالفعل كان
حدّا مشتركا بين الماضي والمستقبل ، فكان متّصلا.
فأقسام الكم
المتصل هذه الأربعة ، وأدخل بعضهم المكان فيه وهو خطأ ، فإنّ المكان عند أكثرهم «هو
السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي» ، وليست كميته إلّا باعتبار كونه سطحا ، لا باعتبار ما
لحقه من الإضافات.
وأمّا المنفصل :
فهو العدد خاصة وهو كم ؛ لأنّه معدود بواحد فيه. ومنفصل لعدم حدّ مشترك فيه بين
أجزائه ، فإنّ الأربعة إذا قسّمتها بنصفين لم تجد بينهما حدّا مشتركا ، والخمسة
إذا قسّمتها بثلاثة واثنين لم تجد حدّا مشتركا بينهما ، فإن عنيت واحدا من الخمسة
ليكون مشتركا ، بقي الباقي أربعة ، وإن أخذت واحدا خارجا عنها صارت الخمسة ستة.
ولا منفصل غير
العدد ، لأنّ قوام المنفصل من المتفرّقات ، والمتفرّقات من المفردات [والمفردات] آحاد
، والواحد إذا أخذ من حيث هو واحد ، لم يكن الحاصل من تكثّره إلّا العدد ، وإن أخذ
من حيث هو إنسان أو غيره كان الحاصل من تكثّره معدودات من جنس ذلك الواحد ، لكن
كونه عددا ليس باعتبار المعروضات.
وذهب بعضهم إلى
أنّ «القول» كم منفصل مغاير للعدد ، لتركّبه من المقاطع وتقدّره بها ، وكل ما يتقدّر بجزئه
فهو كم ، وأمّا تركّبه من المقاطع ، فلأنّ المقطع هو أقلّ ما يمكن أن يتفوه به
تاما من الأصوات ، وهو إمّا صامت ـ وهو
__________________
ما يمكن الابتداء
به ، وهي الحروف الصحيحة ـ مقرون بمصوت وهو ما لا يمكن الابتداء به ، بل تكون هيئة عارضة للحرف
المبتدأ به ، إمّا مقصور هو الواقع في أقصر زمان يمكن الانتقال فيه من صامت إلى
صامت ، وهو الفتحة والضمة والكسرة ، أو ممدود وهو الواقع في ضعف ذلك الزمان
كإشباعات الحركات الثلاث والمقاطع يتركّب على وجهين :
أ : أن يذكر
المقطع المقصور ثم يردف بالممدود مثل «على».
ب : أن يذكر
الممدود ثم يردف بالمقصور مثل «كان» وأمّا باقي المقدمات فظاهرة.
والجواب : ليس كل ما يتقدّر بجزء يكون كما بالذات ، لجواز أن تكون
له حقيقة أخرى وقد عرض لها المقدار ، كجميع الأشياء المعروضة للأعداد ، والقول ليس
كما من حيث إنّه قول وإنّما يصير كما باعتبار الكثرة التي عرضت له.
البحث الرابع : في الكم المتصل القارّ الذات
هل هو وجودي أو
عدمي؟
اعلم : أنّ البحث
عن هذا المطلب يتوقّف على تحقيق ماهية كل واحد منها ، فنقول: المتكلّمون جعلوا الجسم عبارة عن جواهر أفراد متألّفة في الأبعاد الثلاثة
التي هي الطول والعرض والعمق.
والسطح عبارة عن
جواهر أفراد متألّفة في بعدين منها لا غير ، هما الطول والعرض.
__________________
والخط عبارة عن
جوهرين أو جواهر متألّفة في بعد واحد لا غير ، هو الطول ، وحينئذ تكون وجودية
بالضرورة.
وأمّا الجسم
التعليمي والسطح والخط التعليميان اللذان بيّنهما الأوائل مغايرة لذلك ، فإنّها
ليست وجودية بالضرورة
وأمّا الأوائل
فمنعوا من وجود الجوهر الفرد أصلا ، ومن تألف الأجسام والسطوح والخطوط منها ، بل
جعلوا كل واحد من هذه الثلاثة عرضا قائما بالجسم الطبيعي ، إمّا بالاستقلال كقيام
الجسم التعليمي به ، أو بالتبعية كقيام السطح به بواسطة قيامه بالجسم التعليمي
المتناهي ، وقيام الخط بالسطح المتناهي القائم بالجسم التعليمي المتناهي ، وإن كان
بعضهم قد منع من وجودها لوجوه :
الوجه
الأوّل : السطح نهاية الجسم
، ونهاية الشيء هي أن يفنى ذلك الشيء فلا يبقى منه شيء ، وذلك من الأمور العدمية
لا الوجودية.
الوجه
الثاني : لو كان السطح
والخط والنقطة أمورا وجودية ، فإمّا أن تكون متحيّزة أو لا ، والأوّل يستلزم
انقسام كل واحد منها في الجهات الثلاث ، فتكون أجساما لا نهايات لها ، وإمّا أن
تكون قائمة بالمتحيّز المنقسم في الجهات الثلاث فتكون منقسمة بانقسامه في الجهات
الثلاث ، فلا تكون نهايات ، بل أجساما.
الوجه
الثالث : الجسمان إذا
تلاقيا فلا بدّ أن يتلاقى سطحاهما ، فإمّا بالأسر فيتداخلان وهو محال أو لا بالأسر
، فيكون كل من السطحين جسما لانقسامه في الجهات الثلاث ، هذا خلف .
اعترض «أفضل
المحقّقين» : بأنّ السطح ليس هو فناء الجسم فقط ، فإنّ الفناء لا يقبل
الإشارة الحسيّة والسطح يقبلها ، بل التحقيق يقتضي أنّ هناك أمورا
__________________
ثلاثة : فناء
الجسم في جهة معيّنة من جهاته ، ومقدار ذو طول وعرض فقط ، وإضافة تعرض للفناء ،
فيقال له بحسب ذلك : نهاية لجسم ذي نهاية ، فالمقدار موجود وبسببه يقبل الإشارة ،
والفناء ليس بعدم محض ، بل عدم أحد أبعاد الجسم وهو تخنه ، والإضافة عارضة لها
متأخّرة عنها. وربّما يعتبر السطح وحده من حيث هو مقدار ، وذلك موضوع لعلم الهندسة
، وكذلك الخط والنقطة. ولا يلزم من حلول السطح في الجسم انقسامه في الجهات الثلاث
كانقسام الجسم ، لأنّ ذلك يكون حكم العرض الساري في محلّه ، وليس السطح ، ولا الخط
، ولا النقطة من الأعراض السارية في محالها ، وكذلك الوحدة والوضع ، وغير ذلك ممّا
لا ينقسم بانقسام المحل.
واحتج المثبتون من
الأوائل بوجهين :
الأوّل
: نجد الأجسام
متماسّة ، وليست المماسة بتمام ذواتها ، وإلّا لزم التداخل ، بل بسطوحها ، وما به
التماس أمر وجودي بالضرورة.
الثاني
: الجسم المتصل إذا
قطع حدث له سطح بعد أن لم يكن ، فيكون وجوديا.
واعلم : أنّ هذا
إنّما يتم لو قلنا بنفي الجوهر الفرد ، أمّا على تقدير ثبوته فلا. على أنّ في
كلامهم نظرا ، فإنّ لقائل أن يمنع وجود شيء تحصل به المماسة ، فإنّ التماس
والالتصاق والاتصال كالألفاظ المترادفة الدالة على المعنى المفهوم منها ، وهو
الملاقاة بحيث لا يتخللهما ثالث. وكيف يستقل السطح بالملاقاة من دون قيامه منفردا
بنفسه عن محلّه ، ونمنع كون كل متجدّد وجوديا ، فإنّ العمى يحدث بعد أن لم يكن ،
وليس ثبوتيا.
__________________
البحث الخامس : في ماهية الزمان
اختلف الناس في
ماهية الزمان ، فذهب جماعة من الأوائل إلى أنّه لا تحقّق له في الأعيان
، وإنّما هو عبارة عن مقايسة بعض الحوادث ببعض ، فإذا قيل : وجد زيد منذ يومين ،
كان معناه : أنّه وجد بعد طلوع الشمس من مشرقها مرّتين ، وإنّما اعتبر ذلك دون
غيره لعمومه وشهرته عند كلّ الناس ، وإلّا فقد كان يمكن نسبة كلّ حادث إلى كلّ
حادث.
وذهب آخرون منهم إلى أنّ له ماهية وحقيقة ، واختلفوا فذهب بعضهم إلى أنّه
جوهر مجرّد قائم بنفسه واجب الوجود لذاته ، لاستلزام فرض عدمه المحال وهو ضروري
الثبوت ؛ لأنّا نعلم أنّ زيدا الحادث الآن لم يكن موجودا زمان الطوفان ، وأنّه
موجود الآن ، والعلم بوجود الآن والماضي جزء من العلم بأنّه موجود الآن ولم يكن موجودا زمن الطوفان. والعلم بالجزء سابق على العلم
بالكل ، والسابق على البديهي أولى أن يكون بديهيا. وأمّا استلزام فرض عدمه المحال
، فلأنّه لو فرض عدمه كان عدمه بعد وجوده بعدية زمانية ، فيكون موجودا حال ما فرض
معدوما ، وهذا محال بالضرورة ، وكلّ ما استلزم عدمه المحال لذاته كان واجب الوجود
لذاته ، وكلّ جسم وجسماني ليس واجبا لذاته ، فالزمان ليس بجسم ولا جسماني.
__________________
وهذا خطأ ؛ فإنّ
الزمان لو ثبت لكان متقضّيا لذاته ، وإلّا لكان الآن هو زمان الطوفان ، بل كلّ زمان
سابق عليه ، فما حدث الآن فهو حادث في كلّ زمان بنفسه ، هذا خلف. وكل متقضّ فإنّ
له أجزاء تعدم ، وأجزاء تتجدد ، وواجب الوجود لذاته يستحيل عليه ذلك. والحجّة التي
ذكروها ساقطة ، لأنّ المحال لم يلزم من فرض عدم الزمان مطلقا ، بل من فرض عدمه بعد
وجوده ، وهو لا يدل على وجوبه الذاتي. على أنّا نمنع كون عدمه بعد وجوده بالزمان ،
وإلّا لزم في أجزائه ذلك ، فيلزم وجود أزمنة لا تتناهى لا دفعة واحدة ، بل مرارا
لا نهاية لها ، وهو ضروري البطلان .
وذهب آخرون منهم
إلى أنّ الزمان أمر موجود جوهر متحيّز ، وهو فلك معدل النهار ، لأنّ الزمان محيط
بجميع الحوادث ، وفلك معدل النهار محيط بجميع الحوادث.
وهو برهان عقيم لا
ينتج ، فإنّ الموجبتين في الشكل الثاني غير منتجتين . ثمّ إحاطة الزمان بجميع الحوادث ، ليس هي إحاطة الفلك
بجميع الحوادث ، لأنّ المراد بالحوادث الأولى الزمانية وبالثانية المكانية.
وذهب آخرون إلى
أنّه عرض غير قارّ الذات ، وهو نفس حركة معدل النهار .
وهو خطأ ؛ لأنّ
الحركة توصف بالسرعة والبطء والمعيّة فيقال : حركتان معا ، لا يصحّ كلّ ذلك في
الزمان. ويقال : الحركة السريعة هي التي تقطع مثل ما قطع
__________________
البطيء في زمان
أقل ، ولا يجوز أن يقال في حركة أقل ؛ ولأنّ الحركة ونصفها متساويان في السرعة والبطء والماهية وغير متساويين في المقدار.
وذهب المشاهير من
الحكماء إلى أنّه عرض هو مقدار حركة معدل النهار ، لأنّه قابل
للمساواة والمفاوتة ، فيكون كمّا ، وليس منفصلا ، وإلّا لما كان قابلا
للانقسام الغير المتناهي ، لأنّ الوحدة غير قابلة للقسمة ، والتالي باطل ، لأنّ
كلّ زمان ففيه حركة واقعة على مسافة منقسمة ، ويلزم من انقسام المسافة
انقسام الحركة ، فإنّ الحركة إلى نصف تلك المسافة نصف الحركة إلى كلّها. وينقسم
الزمان أيضا ، لأنّ زمان نصف الحركة نصف زمان كلّ الحركة. وليس قارّ الذات
بالضرورة فتكون أجزاؤه على التقضي ، فيكون له مادة وليس مقدارا للمادة ، لامتناع كونه مقدارا
لمادة المسافة ، لأنّ المختلفين في هذا المقدار قد يتساويان في المسافة وبالعكس ،
ولا لمادة المتحرّك ، وإلّا لكان الأكثر زمانا ـ وهو الأبطأ ـ أعظم حجما ، ولا
مقدارا لهيئة قارّة في المادة ، وإلّا لكان قارّا ولزادت تلك الهيئة بزيادته ، فهو مقدار
لهيئة غير قارّة وليست إلّا الحركة .
والاعتراض : لا
نسلّم قبوله المساواة والمفاوتة ، فإنّ ذلك فرع وجوده وهو ممنوع.
__________________
سلّمنا ، لكن نمنع
كمّيته ، وإنّما يثبت لو قبلهما لذاته ، وهو ممنوع.
سلّمنا ، لكن نمنع
كونه متّصلا ، قوله : «لو لم يكن متّصلا لما وقعت فيه الحركة» ، قلنا : إن عنيت
الحركة بمعنى القطع فتلك لا توجد إلّا في الذهن ، فكيف يثبت الزمان في الخارج ممّا
لا يثبت فيه ، وإن عنيت الحركة بمعنى التوسّط فتلك آنية.
سلّمنا أنّه مقدار
الحركة ، فلم قلتم : إنّه يكون عرضا حالّا فيها. قوله : «لأنّ كلّ حادث فله موضوع».
قلنا : ينتقض بالنفوس الناطقة فإنّها حادثة وغير حالّة في المادة. ثمّ يعارض بوجوه
:
الوجه
الأوّل : لو كان الزمان
مقدارا للحركة لزم عدمه عند عدمها ، والتالي باطل فالمقدم مثله ، والشرطية ظاهرة فإنّ
فرض وجود مقدار الشيء مع فرض عدم ذلك الشيء محال كما في الجسم ومقداره ، وأمّا
بيان بطلان التالي : فلأنّا بعد فرض عدم جميع الحركات نعلم بالضرورة أنّ ذلك العدم
بعد الوجود ، وتلك البعدية عندكم تفتقر إلى الزمان ، فيلزم وجود الزمان حال عدم
الحركة.
الوجه
الثاني : لو كان الزمان
مقدارا للحركة ، فإمّا أن يكون مقدارا لحركة خاصة ، أو لمطلق الحركة ، والتالي
بقسميه باطل فالمقدّم مثله ، والشرطية ظاهرة. وبيان بطلان الأوّل : أنّا لو فرضنا
عدم تلك الحركة ووجود أخرى ، لزم أن تقع لا في زمان ، والتالي باطل ، لأنّ كلّ
حركة فعلى مسافة منقسمة ، ويكون نصفها قبل كلّها فلا تنفك حركة عن
الزمان ، والتالي باطل ، لأنّه يقتضي أن تكون الحركة من حيث هي هي مستدعية زمانا ،
وليس بأن يكون الزمان حاصلا لبعضها بالأصالة وللباقي بالتبعية أولى من العكس ،
لأنّ جهة الاقتضاء حاصلة في الجميع ، فإمّا أن يحصل لكلّ حركة زمان على حدة ، أو
يحصل للكلّ زمان واحد، أو لا يحصل لشيء
__________________
منها ، والأوّل
باطل ، لأنّ الساعة الواحدة ليست ساعات متعدّدة بتعدّد الحركات بالضرورة، ولأنّ
تلك الأزمنة توجد معا فمعيتها لا بدّ وأن تكون لزمان آخر محيط بها ويتسلسل ، ويلزم
اجتماع النقيضين ، لأنّا حصرنا الأزمنة بأسرها في ذلك المجموع ، فالمحيط بها
الخارج عنها لا بدّ وأن لا يكون زمانا ، لكنّ الذي تلحقه القبلية والبعدية
والمعيّة لذاته هو الزمان ، فاذن ذلك الخارج يكون زمانا وليس بزمان ، هذا خلف.
والثاني محال ؛
لأنّ ذلك الواحد إن حلّ بعينه في كلّ حركة ، لزم تعدّد محل الحال الواحد بالشخص ،
وهو محال. ولأنّه لو عدمت حركة لزم عدم مقدارها مع بقاء مقدار الحركة الأخرى فيلزم
وجوده وعدمه ، وهو محال. والثالث المطلوب.
الوجه
الثالث : لو كان مقدارا
للحركة ، فإمّا أن يكون مقدارا للحركة بمعنى القطع ، أو بمعنى التوسّط. والأوّل
باطل ؛ لأنّ تلك الحركة ذهنية لا تحقّق لها في الخارج ، وما لا تحقّق له في الخارج يمتنع أن يكون محلّا للأمر
الخارجي. والثاني باطل ، لأنّ تلك الحركة آنية فلا يصحّ حلول مقدار الزمان فيها.
الوجه
الرابع : لو كان مقدارا
للحركة لكان محتاجا إليها ، لأنّه يكون حالّا فيها حلول العرض في موضوعه ، والعرض
محتاج إلى الموضوع ، لكنّ الحركة محتاجة إلى الزمان ، لأنّه لا تعقل حركة إلّا أن
يتقرّر في العقل زمان معيّن من الحاضر أو الماضي أو المستقبل ، وحينئذ يلزم الدور.
الوجه
الخامس : الضرورة قاضية
بأنّ الحركة الحاصلة في هذا اليوم فإنّها حصلت بجميع صفاتها فيه ، فلو كان اليوم
من صفاتها لكان اليوم حاصلا في هذا اليوم ، هذا خلف.
__________________
الوجه
السادس : عدم الزمان بعد
وجوده ممتنع لذاته ، فلو كان صفة للحركة لزم أن تكون الحركة شرطا فيما يستحيل عدمه
لذاته ، فتكون أولى باستحالة العدم لذاتها ، فتكون واجبة لذاتها ، غنيّة عن المحل
، وهو محال.
وفيه نظر ، فإنّ
الواجب لذاته هو الذي يستحيل عدمه لذاته مطلقا ، والزمان والحركة ليسا كذلك ،
إنّما يستحيل عدمهما بعد وجودهما بعدية زمانية ، لا لذاتهما مطلقا ، بل لاقتران فرض وجودهما وعدمهما دفعة واحدة ، وكلّ الممكنات كذلك ،
ولا يلزم خروجها عن حدّ الإمكان.
الوجه
السابع : كما يحكم بأنّ
الزمان عارض للأشياء الغير القارّة ، كذا يحكم بعروضه للأشياء القارّة. فإنّا كما
نحكم بأنّ من الحركات ما كانت موجودة أمس ، ومنها ما يوجد غدا ، كذلك نحكم بأنّ
الله تعالى كان موجودا في الماضي وهو الآن موجود ، أو أنّه موجود في المستقبل ،
ولو جاز إنكار الثاني جاز إنكار الأوّل ، وإذا قارن وجوده الأزمنة الثلاثة كان الزمان
عارضا للوجود المطلق لا للوجود الغير القارّ ـ أعني الحركة ـ بخصوصيّته ، فيكون
مقدارا لمطلق الوجود ، وهو محال ؛ لأنّه إن كان متغيّرا استحال انطباقه على الثابت
، وإن كان ثابتا استحال انطباقه على المتغيّر .
وفيه نظر ، فإنّا
نمنع وجود الله تعالى وغيره من الأمور الثابتة في الزمان وجود المتغيّرات فيه. نعم
الأشياء الثابتة موجودة مع الزمان لا المعيّة الزمانية ، فإنّ ما يوجد في الزمان ليس
إلّا الأشياء التي يلحقها التغيّر ، إمّا لذاتها فتكون زمانية لذاتها ، أو بالعرض
فتكون زمانية بالعرض.
__________________
لا يقال : نسبة المتغيّر إلى المتغيّر هو الزمان ، ونسبة المتغيّر
إلى الثابت هو الدهر ، ونسبة الثابت إلى الثابت هو السرمد.
لأنّا نقول : لا
فائدة في هذا التهويل ، لأنّ مفهوم «كان» و «يكون» إن كان قارّ الذات لم يوجد في
المتغيّرات ، وإن لم يكن ثابتا استحال وقوعه في الثوابت.
اعترض «أفضل
المحقّقين» : بأنّه لا شك في أنّ وقوع الحركة مع الزمان ليس كوقوع
الجسم القار الذات المستمرّ الوجود مع الزمان ، وليس كوقوع القارّ الذات الباقي مع
القارّ الذات الباقي ، كالسماء مع الأرض ، وهذا الفرق معلوم محصّل. وليس معيّة
المتغيّر والثابت مستحيلة. فإنّا نقول : عاش نوح ألف سنة ، فانطبق مدة بقائه على
ألف دورة من الشمس ، وإذا تقرّر اختلاف المعاني ، فللمصطلحين أن يعبّروا عن كلّ
معنى بعبارة يرون أنّها مناسبة لذلك المعنى ، ولا يعنون ب «التحصيل» هناك غير
دلالة العبارات على المعاني.
وفيه نظر ، فإنّ
المفهوم من المعية الاقتران والمصاحبة ، وهو معنى واحد معقول بين كل مقترنين ، لكن
اقتران الحركة والزمان هو اقتران شيء غير قارّ الذات بشيء غير قارّ الذات ،
فالأجزاء المفروضة في أحدهما على التعاقب مقارنة للأجزاء المفروضة في الآخر على
التعاقب ، أيضا والمجموع مع المجموع ، وأمّا معيّة الجسم والزمان ، فهي اقتران
الجسم مع كلّ جزء من أجزاء ذلك الزمان المفروضة ومع المجموع منها. ومعية الجسم مع
الجسم هي الاقتران بينهما ،. فلو جعل لهذين النوعين معنى آخر غير الزمان به تقع المقارنة ، لزم أن يثبت مع الزمان أمران آخران هما : الدهر
والسرمد يكون كل منهما مقدارا ، فله محلّ ، ويلزم التسلسل ، لأنّ
__________________
لكل منهما معية مع
غيره.
الوجه
الثامن : مقدار الشيء موجود
معه بالزمان ، فلو كان الزمان مقدارا للحركة لوجد معها في الزمان ، فيكون للزمان
زمان ، هذا خلف.
الوجه
التاسع : لو كان الزمان
مقدارا لامتداد الحركة ، وامتداد الحركة لا وجود له في الأعيان ، لأنّ الامتداد لا
يحصل إلّا عند حصول جزءين ، والجزءان لا يحصلان دفعة ، بل عند حصول الأوّل فالثاني
غير حاصل ، وعند حصول الثاني فالأوّل فائت ، وإذا لم يكن لامتداد الحركة وجود في
الأعيان لم يكن لمقدار هذا الامتداد وجود ، لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم .
اعترضه أفضل
المحقّقين : بأنّ امتداد الشيء القارّ الذات يجب أن يكون في ما تكون أجزاؤه دفعة
حاصلة ، أمّا امتداد الشيء غير القارّ الذات فلا يمكن أن يكون في ما تكون أجزاؤه
دفعة ، بل يجب أن يكون في ما لا يوجد منه جزءان دفعة ، ولو لم يكن الامتداد في لفظ
الزمان معقولا لما سمّى العقلاء الزمان بالمدّة المشتقّة من الامتداد. واعلم أنّ
أرسطو قال : الزمان مقدار الحركة ، وهذا المعترض زاد فيه الامتداد ليعترض عليه بمثل
هذا الكلام ، ولم يعلم أنّ الامتداد هو المقدار المتصل ، فيكون في هذا التفسير
تكرار غير محتاج إليه.
وفيه نظر ، فإنّا
نسلم أنّ امتداد غير القارّ لا يمكن أن يكون في ما تكون أجزاؤه دفعة ، بل يجب أن
يكون في ما لا يوجد فيه جزءان دفعة لو أمكن عروضه له. لكنّ البحث في أنّ عروض
الامتداد لمثل هذا الشيء هل هو ممكن أم لا؟
__________________
والاستناد في مثل
ذلك إلى الاشتقاق من أضعف الأدلّة ، مع أنّ الامتداد عرض لا يعقل حلوله إلّا في ذي
أجزاء ، وأنّه نسبة بينها ، فلا يتحقّق وجوده إلّا بعد وجود المنتسبين ، لكنّهما
لا يوجدان معا ، فلا يتحقّق له وجود.
تنبيه
: اعلم أنّ القائلين
بكون الزمان مقدارا للحركة ، زعموا أنّ للحركة مقدارين أحدهما من جهة المسافة ،
فإنّ الحركة تزيد بزيادة المسافة وتنقص بنقصانها ، والثاني من جهة الزمان ، فإنّ
الحركة أيضا تزيد بزيادة الزمان وتنقص بنقصانه ، وللمسافة أجزاء يعرض لها تقدّم
وتأخّر بحسب الوضع والمرتبة الحسّية ، ويوجد المتقدّم والمتأخّر دفعة في الوجود ،
ويعرض للحركة التجزئة باعتبار تجزئة المسافة ، ويصير أيضا بعضها متقدّما وبعضها
متأخّرا بإزاء تقدّم أجزاء المسافة وتأخّرها ، إلّا أنّ المتقدّم والمتأخّر في
الحركة لا يمكن اجتماعهما في الوجود ، بخلاف المتقدّم والمتأخّر اللذين في أجزاء
المسافة ، فالزمان هو مقدار الحركة ، لا من جهة المسافة ، بل من جهة التقدّم
والتأخّر اللذين لا يجتمعان .
البحث السادس : في أنّ الزمان هل هو موجود أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك فذهب المتكلّمون وجماعة من قدماء الأوائل إلى أنّه لا تحقّق للزمان في الأعيان
، مع العلم الضروري بأنّ هنا وقتا ماضيا ومستقبلا وحاضرا ، لكنّها ليست وجودية في
الخارج. وذهب الأوائل إلى أنّه موجود في الأعيان. لنا وجوه :
الوجه
الأوّل : لو كان الزمان
موجودا لكان ، إمّا أن يكون قارّ الذات أو لا ، والقسمان باطلان ، فلا يكون له
تحقق.
أمّا الأوّل ،
فلأنّه لو كان قارّ الذات لكان الحاضر هو عين الماضي
__________________
والمستقبل ، فيكون
الحادث الآن حادثا زمان الطوفان ، بل كل زمان سبق وكلّ زمان سيأتي ، فيكون الشيء في كلّ آن حادثا ، لكنّه
باق لوجوده في جميع الأزمنة ، هذا خلف.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ المتقضى هو الذي لا بقاء لأجزائه ، بل كلّ جزء وجد فإنّه ينقضي
ويصير ماضيا ، وكلّ جزء منه كان موجودا لم يبق الآن ، وكلّ جزء مستقبل سيوجد الآن
والماضي ، والآن هو الزمان ، فيلزم وقوع الزمان في الزمان ، فلو كان أمرا وجوديا
لزم التسلسل.
اعترض «أفضل
المحقّقين» : بأنّ الزمان لو كان قارّ الذات لا يكون الحاضر عين الماضي ، بل
يكونان معا كما في الجسم الذي هو قارّ الذات ، ولا يلزم منه أن يكون جزء منه هو
عين الجزء الآخر. وأمّا إذا كان الزمان غير قارّ الذات ولم يبق جزء منه عند حصول
جزء آخر ، فلا يلزم منه أن يكون للزمان زمان ، لأنّ القبلية والبعدية لأجزاء
الزمان لذاتها ، فيكون جزء مقدما على جزء لا بزمان غيرهما ، بل بذاتيهما ، ولا
يلزم منه تسلسل .
وفيه نظر ؛ فإنّ
قارّ الذات هو الذي توجد أجزاؤه دفعة ، ويبقى أكثر من زمان واحد ، وأجزاء الزمان
لا يعقل فيها ذلك ، ولو قارن الماضي الآن لكان الماضي هو عين الآن ، لأنّ المراد
بالزمان هو الآن ، والماضي وكل ما يوجد الآن فإنّه يكون حاضرا لا ماضيا ، فيكون
الماضي حاضرا ، وهذا بخلاف أجزاء الجسم ، وقد بيّنا بطلان لحوق القبلية والبعدية
للزمان لذاته.
الوجه
الثاني : الزمان إمّا
الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فالحاضر إن لم يكن
__________________
له وجود ـ والماضي
والمستقبل معدومان ـ لم يكن الزمان موجودا ، وهو المطلوب وإن كان موجودا. فإمّا أن
لا يكون منقسما ، فيكون عدمه ، دفعة لا محالة ، وعند فنائه يحدث آن آخر دفعة ،
فيلزم منه تتالي الآنات ويلزم تركّب الزمان من الآنات ، فلا يكون كمّا متّصلا، ولا مقدارا للحركة ، ويلزم تركّب الجسم من الجواهر
الأفراد ، وكل ذلك محال عندكم.
وإمّا أن يكون
منقسما ، فيكون بعضه حاضرا وبعضه ماضيا أو مستقبلا ، فلا يكون الحاضر كلّه حاضرا ،
هذا خلف.
اعترضه «أفضل
المحقّقين» : بأنّ الزمان إمّا الماضي أو المستقبل ، وليس لهما قسم آخر هو الآن ،
إنّما الآن هو فصل مشترك بين الماضي والمستقبل ، كالنقطة في الخط ، والماضي ليس
بمعدوم مطلقا ، إنّما هو معدوم في المستقبل ، والمستقبل معدوم في الماضي ، وكلاهما
معدومان في الآن ، وكل واحد منهما موجود في حدّه ، وليس عدم شيء في شيء هو عدمه مطلقا
، فإنّ السماء معدوم في البيت ، وليس بمعدوم في موضوعه ، ولو كان الآن جزءا من
الزمان لما أمكن قسمة الزمان إلى قسمين ، مثلا تقول : من الغداة إلى الآن ، ومن
الآن إلى العشي ، فإن كان الآن جزءا لم تكن هذه القسمة صحيحة ، ولا أمكن قسمة
مقدار من الزمان إلى قسمين ، فالآن موجود وهو عرض حالّ في الزمان ، كالفصل المشترك
في الخط ، وليس بجزء من الزمان ، وليس فناؤه إلّا بعبور زمان ، فلا يلزم تتالي
الآنات .
وفيه نظر ، لتوقفه
على اتصال الزمان ، بل وعلى وجوده ، وهما ممنوعان والضرورة قاضية بأنّ أمس غير
موجود مطلقا ، وأنّ غدا غير موجود مطلقا ، ولو
__________________
أخذ العقل يشك في
وجود الماضي في الماضي ، ووجود المستقبل في المستقبل ، لشكّ في أنّ زيدا لم يعدم ،
وأنّ عمرا الذي لم يخلق موجود ، هذا عين السفسطة.
ثمّ قوله : «إنّه
موجود في حدّه» إن أراد به أنّ الماضي موجود في الماضي ، والمستقبل موجود في
المستقبل ، لزم أن يكون للزمان زمان ، ويتسلسل. وإن عنى به أنّ الماضي والمستقبل
موجودان مطلقا ، على معنى أنّ الوجود قد حصل لهما بالفعل ، ولم يلحقهما العدم بعد
ذلك ، لزم الحكم ببقائهما موجودين ، والضرورة تدفع كلّ ذلك ، وليس حالهما حال عدم
السماء في الأرض ، لأنّ للسماء وجودا محقّقا بخلاف الماضي والمستقبل اللّذين حكمت
الضرورة بعدمهما ، ومن جعل الآن جزءا من الزمان جعله منقسما إلى أجزاء لا تتجزّأ ،
وأمكن أن يقسّم بقسمين مختلفين ومتساويين كالأجسام ، والحكم بوجود الآن يستدعي
انقسام الزمان بالفعل ، والبحث في كيفية عدم الآن سيأتي إن شاء الله تعالى.
الوجه
الثالث : لو كان الزمان
موجودا لكان واجب الوجود لذاته ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه لو كان موجودا وفرضناه قابلا للعدم فليفرض أنّه عدم ، فيكون عدمه بعد وجوده
بعديّة لا يوجد فيها البعد مع القبل ، وهذه البعدية لا تتحقّق إلّا عند تحقّق
الزمان ، فيلزم من فرض عدم الزمان وجوده ، وذلك محال. فإذن مجرد فرض عدمه يستلزم
المحال ، ففرض عدمه محال ، فهو واجب لذاته. وأمّا بطلان التالي فظاهر ، أمّا أوّلا
فلتركّبه من الأجزاء وكلّ مركب ممكن. وأمّا ثانيا فلأنّ كلّ جزء منه حادث ،
والواجب لذاته ليس بحادث. وأمّا ثالثا فلأنّ كلّ جزء منه يعدم ، وواجب الوجود
يستحيل أن يعدم. وأمّا رابعا فلأنّه قائم بالحركة القائمة بالجسم ، فهو محتاج إلى
محلّه وواجب الوجود ليس بمحتاج.
اعترض أفضل
المحقّقين : بأنّ فرض عدم الزمان بعد وجوده ، يكون فرض
عدمه مع وجوده ،
ويلزم منه المحال ، لاشتماله على عدم الشيء ووجوده ، وفرض عدم الزمان وحده ممكن
إذا لم يقترن ذلك العدم بقبل أو بعد ، وهذا الغلط ينشأ من قياس الزمان على ما في
الزمان ، ومن اقتران وجود الشيء بعدمه .
وفيه نظر ، فإنّ
للسائل أن يقول : نحن لا ندّعي إلّا أنّ عدم الزمان بعد وجوده محال لذاته ، فيكون
واجبا ، وإنّما كان محالا لذاته لاستلزامه فرض عدم الزمان مع وجوده ، ولزوم المحال
باعتبار اشتماله على عدم الشيء ووجوده لا يخرجه عن الاستحالة الذاتية ، لكنّ
الوجوب محال.
واحتجّ مثبتوا
الزمان بوجهين :
الأوّل
: كلّ حركة تفرض في
مسافة على مقدار من السرعة ، وأخرى معها على مقدارها من السرعة ، وابتدأتا معا
فإنّهما تقطعان المسافة معا ، وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى ، ولكن تركتا
معا فإنّ الثانية تقطع دون ما قطعت الأولى ، وإن ابتدأ معها بطيء واتفقتا في الأخذ
والترك ، وجد البطيء قطع أقل والسريع قطع أكثر ، فبين أخذ السريع الأوّل وتركه
إمكان قطع مسافة معيّنة بسرعة معيّنة وأقل منها ببطء معيّن ، وبين أخذ السريع
الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة ، بحيث يكون هذا الإمكان جزءا
من الإمكان الأوّل ، فهذا الإمكان قابل للزيادة والنقصان ، فيكون وجوديا مقدارا
للحركة على ما سبق تقريره .
والاعتراض من وجوه
:
__________________
أ : هذا الدليل
يتوقف على إمكان وجود حركتين تبتدئان معا وتنتهيان معا ، وهذه المعيّة لا يمكن
تفسيرها إلّا بالمعيّة الزمانية ، فلا يمكن إثبات هذه المعيّة إلّا بعد إثبات
الزمان ، فلو أثبتّم الزمان بواسطة هذه المعيّة لزم الدور.
ب : هذا الدليل
يتوقف على وجود حركتين إحداهما أسرع والأخرى أبطأ ، والسرعة والبطء لا يمكن
إثباتهما ولا تعقلهما إلّا بعد إثبات الزمان وتعقّله ، فيدور.
ج : كيف يصحّ منكم
الحكم على هذا الإمكان بالزيادة والنقصان مع أنّكم منعتم وصف الزمان الماضي بهما ،
وقلتم : إنّه غير موجود بمجموعه في وقت من الأوقات ، وما لا يكون موجودا لا يصحّ
الحكم عليه بالزيادة والنقصان .
الثاني
: الشيء إذا قارن
وجوده عدم آخر ثم وجد معه ، فإذا اعتبر وجود الأوّل مع عدم الثاني كان متقدما عليه
، وإذا اعتبر من حيث تقارنا في الوجود كان معه ، كالأب المقارن وجوده عدم الابن ،
ثم يوجد الابن معه فيكون مقارنا له ، فهذا التقدم إمّا أن يكون نفس ذات الأب وهو
محال ، لأنّ تقدّمه إضافي . وذات الأب جوهر. ولأنّه قد قارنه بعد ذلك فكان معه بهذا
الاعتبار لا قبله ، فذات الأب قد وجدت مع معيّة الابن ، ولم توجد قبليته معها ، فالقبلية زائدة على ذاته. وهذه القبلية ليست صفة لازمة ،
لأنّ ذاته قد توجد عند زوال هذه القبلية عنه ، وهو حال مقارنته لوجود الابن. وليس
هذا الوصف مجرد وجود الأب وعدم الابن ، لأنّا إذا أخذنا وجود الأب مع العدم الذي
حصل للابن بعد وجوده فهنا قد اعتبرنا وجود الأب وعدم الابن ، وليس الأب بهذا
الاعتبار متقدما على الابن ، بل متأخرا عنه ، فإذا كان الوجود متقدما تارة ومتأخرا
أخرى علم أنّ اعتبار كون الأب متقدما
__________________
على الابن ليس هو
اعتبار وجود الأب وعدم الابن كيف اتفق. فهذه القبلية وصف زائد على وجود الأب وعدم
الابن ، وهو وصف إضافي يستدعي محلا. وليس عروض القبلية والبعدية للأب والابن
لذاتيهما ، فهما لغيرهما ، فإن كان عروضهما لذلك الغير لا لذاته ، بل لغيره تسلسل
، ولا بدّ وأن ينتهي إلى ما يكون عروض القبلية والبعدية لذاته ، وهو الزمان الذي
كلّ جزء منه لذاته يكون قبل جزء وجزء منه لذاته بعد جزء ، على معنى أنّ الموصوف
بالقبلية بالنسبة إلى شيء يستحيل أن يوصف بالبعدية بالنسبة إلى ذلك الشيء ، وما
عداه من جميع الأشياء فكل ما كان منها مطابقا للجزء القبل من الزمان كان «قبلا» ،
وما كان منها مطابقا للجزء البعد من الزمان كان «بعدا» ، ولو وجد الأب في الزمان
الذي وجد الابن فيه ووجد الابن في الزمان الذي وجد الأب فيه ، لكان الابن قبلا
والأب بعدا فتعاكسا ، بخلاف القبل والبعد من الزمان فإنّهما لا يمكن انقلابهما البتة.
والاعتراض : قد بيّنا أنّ القبلية والبعدية من الاعتبارات العقلية لا
من الأمور الخارجية ، فلا يستدعيان زمانا خارجيا ، وإلّا لزم التسلسل.
البحث السابع : في أنّ الكم المنفصل هل هو ثبوتي أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب المتكلّمون إلى نفيه ، وذهب الأوائل إلى ثبوته.
احتج الأوّلون
بوجهين :
__________________
الأوّل
: العدد عبارة عن
مجموع الوحدات ليس إلّا ، فهو مركب من الوحدات ، والوحدة ليست ثبوتية زائدة على
الذات ، وإلّا لزم أن يكون كلّ واحد من أشخاص تلك الماهية واحدا ، فله وحدة ،
وللوحدة وحدة أخرى إلى ما لا يتناهى ، وهو محال.
الثاني
: الاثنينيّة لو
كانت صفة ثبوتية قائمة بالوحدتين ، فإمّا أن تكون بتمامها قائمة بكل واحدة من
الوحدتين ، فيلزم قيام الواحد بالاثنين ، ويلزم أن يكون كلّ وحدة وحدها اثنين ،
لقيام الاثنينيّة بها وهو محال. أو تقوم بواحدة من الوحدتين بعض الاثنينية بحيث
تتوزع عليهما كان القائم لكل واحدة من الوحدتين ، فلا يكون للوحدة الأخرى مدخل في
الاثنينيّة ، ويلزم أن تكون الوحدة التي قامت بها الاثنينيّة اثنين ، ويلزم
الترجيح من غير مرجح ، والكل محال. أو تقوم بكل واحدة من الوحدتين بعض الاثنينية
بحيث تتوزع عليهما كان القائم بكل واحدة من الوحدتين غير القائم بالأخرى ، فلم تكن
الاثنينيّة صفة واحدة قائمة بالوحدتين ، بل مجموع أمرين متغايرين ، وإذا جاز ذلك
فلتكن الاثنينيّة نفس تينك الوحدتين من غير ثبوت أمر زائد ، هو العدد.
اعترضه أفضل
المحققين : بأنّ الوحدة أمر عقلي تعقل بها حيث يعتبر عدم الانقسام ، وإذا اعتبرت من حيث كونها موضوعا
لوحدة أخرى لزمت وحدة أخرى ، وتكن حينئذ الوحدة واحدة بذلك الاعتبار ، ولا تكون
الوحدتان اثنين ، لأنّهما ليستا في مرتبة واحدة ، بل الأولى معقولة من الموضوع ،
والثانية معقولة من المعقول من الموضوع ، ولا يتسلسل ، بل ينقطع عند عدم الاعتبار.
والاثنينيّة قائمة بمجموع الوحدتين من حيث اعتبار الانقسام فيه إلى وحدتين ، [أمّا
باعتبار عدم
__________________
الانقسام فيه من
حيث هما مجموع واحد لوحدتين] فيكون اثنان واحدة من جميع آحاد ما يفرض اثنين ، ويقال
عليهما اثنان.
وفيه نظر ؛ فإنّ
فيه اعترافا بكون الوحدة أمرا عقليا لا تحقق له في الأعيان ، ويلزم منه أن يكون
العدد المركب من الآحاد أمرا عقليا لا وجود له في الخارج. وسعي المتكلّمين ليس
إلّا في ذلك ، فيثبت مطلوبهم.
وقوله : «لا تكون
الوحدتان اثنين ، لأنّهما ليستا في مرتبة واحدة» ممنوع ؛ لأنّ وحدة الجسم مثلا
مغايرة لوحدة الوحدة ، فهنا وحدتان بالضرورة ، وإن كانت إحداهما للجسم والأخرى
لوحدته ، فإنّه لا يلزم في الاثنينية اتحاد نوع الوحدتين ، بل أيّ وحدتين فرضتا
لأيّ ماهيتين فرضتا ، لزم ثبوت الاثنينية ، ولا فرق بين انضمام وحدة الوحدة
إلى وحدة الجسم ، وبين انضمام وحدة العرض إلى وحدة الجسم في حصول اثنينية منهما. وكون الاثنينية قائمة بمجموع الوحدتين
، إن أراد به أنّه يحصل للوحدتين هيئة باعتبارها يكون للوحدتين مجموع تصير به شيئا
واحدا حتى تحلّ الاثنينيّة التي هي عرض واحد ، فيكون البحث في حلول تلك
الهيئة في الوحدتين كالبحث في حلول الاثنينيّة. وإن أراد أنّه تحل الاثنينية في
الوحدتين من غير أن تصيرا محلا واحدا ورد الإشكال.
واحتج الأوائل على
كونه ثبوتيا :
__________________
بأنّ العدد مركب
من الواحدات وليس شيئا مغايرا لمجموع الوحدات ، لكن كلّ وحدة فإنّها وجودية ، لأنّ
الشيء الواحد كالسواد الواحد الشخصي يخالف العشرة من أشخاص السواد في مسمّى
الواحدية ، ويشاركها في مسمّى السوادية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ،
فالواحديّة صفة زائدة على الماهية ، وليست أمرا عدميا ؛ لأنّها لو كانت عدما لم يكن
عدم أي شيء كان ، بل كانت عدم الكثرة ، فالكثرة إن كانت عدمية كانت الوحدة عدم
العدم ، وعدم العدم ثبوت ، فالوحدة ثبوتية ، ولا معنى للكثرة إلّا مجموع تلك
الوحدات ، وإن كانت وجودية كانت الوحدة عدمية ، فيكون مجموع العدمات أمرا وجوديا ،
وهو محال. فيلزم أن تكون الكثرة والوحدة صفتين وجوديتين قائمتين بالذوات المعروضة لهما ، وهو المطلوب.
اعترضه أفضل
المحققين : بأنّ قوله ـ يعني أفضل المتأخرين ـ : «إنّ الفلاسفة قالوا : الكثرة عدم
الوحدة ، ثمّ قالوا : الكثرة مجموع الوحدات ، فحاصله أنّهم قالوا : المجموع هو عدم
الجزء منه» وهذا لا يقوله عاقل.
والمشهور بين
الفلاسفة أنّهم قالوا : الوحدة أمر عقلي عام يقع على الوحدات كالوجود ، والشيء
ويعدّونها في الأمور العامّة ، ويقولون : إنّها تقع على موضوعاتها لا بمعنى واحد ، فليس
وحدة النقطة كوحدة الجسم ، ولا كوحدة الحيوان ، ولا كوحدة العسكر ، والكثرة مؤلّفة
من الآحاد.
وفيه نظر ؛ فإنّ «أفضل
المتأخرين» لم ينقل عن الفلاسفة أنّهم قالوا : الكثرة عدم الوحدة ، بل إنّ الوحدة
لو كانت عدما لم تكن عدم أيّ شيء كان ، فإنّ عدم الفرس أو عدم الإنسان أو ما
عداهما ليس وحدة ، بل إن كانت عدما لم تكن إلّا
__________________
عدم ما يقابلها ،
ومقابل الوحدة ليس إلّا الكثرة ، فيلزم أن تكون الوحدة عدم الكثرة ، لكن ذلك محال
؛ لأنّ الكثرة إمّا أن تكون وجودية أو عدمية ، فإن كانت وجودية لزم أن تكون مجموع
العدمات أعني الوحدات ، أمرا وجوديا ، وهو معلوم البطلان ، وإن كانت عدمية كانت
الوحدة عدم هذا الأمر العدمي ، وعدم العدم ثبوت ، فتكون الوحدة ثبوتية ، وقد
فرضناها عدمية ، هذا خلف ، وهذا بعينه دليل الأوائل.
وقوله : «الوحدة
أمر عام عقلي ويعدّونها من الأمور العامة» مسلّم كونها كذلك ، ليس النزاع في ذلك ،
بل في الوحدات الشخصية هل هي ثبوتية أم لا؟ وكلامه يعطي أنّها ليست ثبوتية في
الأعيان ، ويلزم منه أن لا تكون الكثرة وجودية ، لتركبها عن الأمور الاعتبارية ،
فلا يكون العدد كمّا منفصلا قسيما للمتصل ، لاستحالة كون الجنس جنسا باعتبار نوعين
أحدهما ثبوتي والآخر عدمي.
والوجه : أنّ
الوحدة أمر اعتباري كما قاله ، والكثرة كذلك. وليست الوحدة نفس العدم حتى يلزم أن يكون
عدمها ثبوتيا ، بل هي وصف ثبوتي في الذهن ، اعتباري لا تحقق له في الأعيان ، ولا
يلزم من ذلك أن يكون له نقيض ثبوتي كالعمى ، فإنّ عدمه يصدق بثبوت البصر ونفيه
أيضا مع انتفاء المحل ، فسقطت حجة الفلاسفة بالكلّية.
تذنيب
: قال المتكلّمون :
لمّا ثبت أنّ الكمّيات ليست ثبوتية لم تكن الكيفيّات المختصة بها ثبوتية ، لامتناع
كون الصفة ثبوتية والموصوف عدميا.
قال أفضل المحققين
: لا شك في وجود الخط المستقيم والمنحني والدائرة والكرة والزاوية، وامتياز بعضها
عن بعض ، وليس ذلك إلّا كيفيّات مختصّة بالكمّيات .
وفيه نظر ؛ لجواز
ردّ ذلك كلّه إلى التأليف بين الأجزاء.
__________________
البحث الثامن :
في المسائل المتفرّعة على وجود الكم عند الأوائل وهي خمسة :
المسألة الأولى : في أنّ الكم لا ضد له
هذه المسألة ساقطة
عندنا ، لأنّ الكم قد بيّنا أنّه ليس ثابتا في الأعيان ، وإنّما نبحث فيها على رأي
القدماء ، قالوا : الكم لا ضد له ، أمّا المنفصل فلوجوه :
أ
: كلّ عدد يفرض
فإنّه مقوّم لما هو أكثر منه ، ومتقوّم بما هو أقل منه ، ولا شيء من الضدين بمقوّم
لصاحبه ولا متقوّم به ، فلا شيء من الأعداد بمتضادة.
ب
: يشترط في الضدين
غاية التباعد ، ولا شيء من العدد أقل من الاثنين ، ولا ضد له من الأعداد ، لأنّ كلّ عدد يفرض ضدا له فهناك
عدد فوقه بعده من الاثنين أكثر من هذا العدد ، لعدم تناهي الأعداد ، وإذا لم يكن
هناك عدد يضاد الاثنين ، فلا يكون الاثنان ضدا لشيء البتة ، لأنّ التضاد إنّما يتحقّق من الجانبين.
ج : يشترط في الضدين وحدة الموضوع ، ويستحيل أن يكون لنوعين من
العدد موضوع واحد ، فإنّ كلّ عدد إنّما يتقوّم بمجموع وحدات يبلغ عددها ذلك العدد
، فالثلاثة تتقوم صورتها عند اجتماع وحدة ووحدة ووحدة ، وما دامت هذه الوحدات
موجودة استحال عروض الثنائية لها ، بل الموضوع لا بدّ وأن يعرض له ،
__________________
إمّا زوال تلك
الوحدات وتبدّلها بوحدتين حتى يعرض له معنى الثنائية ، فيكون الموضوع قد فسد ،
وإمّا ارتفاع وحدة وبقاء وحدتين فقط حتى يعرض حينئذ معنى الاثنوة ، فلا يكون موضوع
الاثنينية موضوع الثلاثية بل جزء من موضوعها.
وأمّا الكم المتصل
، وهي المقادير والخطوط والسطوح ، فليس بعضها مضادا للبعض لوجوه :
أ
: كلّ واحد من هذه
إمّا قابل للآخر أو مقبول له ، والقابل والمقبول لا يوجدان إلّا معا ، ويتقوّم
المقبول بالقابل ، ويكون القابل مقوّما للمقبول ، ولا شيء من الأضداد بواجب
المقارنة لضده ، ولا يتقوّم أحدهما بالآخر.
ب : ليس هنا مقدار في غاية البعد عن الآخر.
ج : الموضوع لها ليس واحدا ، فإنّ الخط والسطح لا يوجدان في
موضوع واحد بالذات ، بل الخط لا يوجد إلّا في السطح ، والسطح لا يوجد إلّا في
الجسم ، والجسم لا يوجد إلّا في المادة.
لا يقال : إنّه قد
يعرض له التضاد ، فإنّ الزوجية كميّة مضادة للفردية. والاستقامة كميّة مضادة
للانحناء. والمتصل كم يضاد المنفصل. والمساوي ضد المفاوت ، والعظيم ضد الصغير ،
والكثير ضد القليل. والمكان الأعلى ضد للمكان الأسفل.
لأنّا نقول : ليست
الزوجية من باب الكم ، فإنّه لا تعرض لها لذاتها المساواة واللامساواة ، بل هي من باب الكيف. والوجه أنّها من باب الانفعال ،
فإنّها انقسام الشيء بمتساويين في العدد ، نعم لو جعلت كيفية قائمة بالعدد مقتضية
__________________
لقسمته بمتساويين
، صحّ أنّها من باب الكيف ، لكن لا برهان على ذلك.
سلّمنا أنّها من
باب الكم ، لكنّها لا تضاد الفردية ، فإنّ المشهور أنّ الفردية عدم الانقسام
بمتساويين ، فهو عدم الزوجية عمّا من شأنه أن توجد له الزوجية تحت جنسه ، فالتقابل
بينهما تقابل العدم والملكة لا تقابل الضدية.
سلّمنا كون
الفردية وجودية ، لكن يستحيل أن يكون موضوع الزوجية والفردية واحدا ، فإنّ العدد
الذي تعرض له الزوجية يمتنع أن تعرض له الفردية.
والاستقامة
والانحناء من باب الكيف لا من باب الكم ، وأيضا سيأتي بيان اتحادهما في الموضوع .
والمتصل والمنفصل
فصلان لنوعي الكم ، ويستحيل اندراجهما تحت الجنس ، لامتناع مساواة الفصل للنوع في
التقوّم بالجنس الواحد. على أنّا نمنع كون الانفصال وجوديا ، بل هو عدم الاتصال
عمّا من شأنه أن يتصل.
والمساواة
والمفاوتة والعظم والصغر والكثرة والقلّة اضافات في كميات ، لا أنّها في ذاتها كميات. وأيضا هذه الاضافات وأمثالها يمتنع عروض التضاد لها
. والمكان الأعلى يستحيل أن يوجد في موضوع المكان الأسفل فلا تضاد بينهما ؛
لامتناع تعاقبهما على موضوع واحد ، نعم الحصول في المكان الأعلى ضد الحصول في
المكان الأسفل ، وهذان الحصولان نوعان من الأين لا من الكم. وأيضا المكان من حيث
هو ليس بفوق ولا أسفل ، بل هو سطح حاو لآخر وكونه حاويا إضافة. وأمّا كونه تحتا
وفوقا فهو بالقياس إلى مكان آخر ، وإذا كانت الفوقية والتحتية من باب الاضافات
امتنع عروض التضاد لها ، كما امتنع عروضه للكبير والصغير.
__________________
المسألة الثانية : في أنّ الكم لا يقبل الشدة والضعف
إنّه من الظاهر
البيّن عند العقل : أنّه ليس ثلاثة أشد من ثلاثة أخرى في الثلاثية أو أضعف ، ولا
جسم أشدّ من جسم آخر في الجسمية أو أضعف ، ولا سطح أشد من سطح في السطحية ، ولا خط
أشد من خط آخر في الخطية. نعم إنّه يقبل الزيادة والنقصان وهو غير الشدة والضعف ،
لأنّ الخط إذا ازداد أمكن أن يشار إليه مع مثل ما كان من الزيادة ، والسواد إذا
اشتد لم يمكن أن يشار إليه مع مثل ما كان من الزيادة. والأزيد والأنقص غير منحصر ،
وتفاوت الشدة والضعف منحصر بين طرفي الضدين ، لأنّ الضدين بينهما غاية البعد ،
فمعلوم أنّه لا يمكن أن يكون عدد أو مقدار أشد في عدديته أو مقداريته من عدد آخر
أو مقدار آخر.
المسألة الثالثة : في الكم بالعرض
اعلم أنّ الكم هو
الذي يقبل لذاته المساواة واللامساواة ، وهنا أشياء تقبلهما ، لكن لا لذواتها ، بل
لغيرها ، فتسمّى كما بالعرض. وذلك على وجوه أربعة :
أ : أن يكون شيئا موجودا في الكم كالزوجية والفردية والاستقامة
والانحناء.
ب : أن يكون الكم موجودا فيه كالأشخاص العشرة ، وكالجسم الذي
طوله ذراع . والزمان له اتصال ذاتي ، لأنّه نوع من الكم المتصل ،
واتصال عرضي
__________________
بسبب اتصال
المسافة التي يوجد فيها المتحرّك ، فيقال زمان فرسخ ، فيقدر الزمان بالفرسخ ، فالزمان من هذا الوجه داخل
بالعرض تحت الكم المتصل. ولا استبعاد في كون الشيء من مقولة ويعرض
له من نوع تلك المقولة شيء كالأقرب ومنفصل بالعرض ، لانقسامه إلى الساعات والأيام
والشهور والأعوام . والحركة توصف بالطول والقصر والمساواة وعدمها ، إمّا
باعتبار حلول الزمان فيها أو باعتبار حلولها في المسافة ، فيقال حركة طويلة أي
باعتبار طول الزمان أو باعتبار طول المسافة. والأجسام توصف بأنّها طويلة أو عريضة
باعتبار حلول الكم المتصل فيها.
ج : ما تكون كميته باعتبار حلوله في المحل الذي حصل فيه الكم ،
كما يوصف السواد بالطول باعتبار حلول المقدار والسواد في محل واحد.
د : أن يكون الشيء ليس محلا للمقدار ، ولا كمّيته حلوله فيه ،
بل له تعلّق ما بالمقدار أو العدد فيصحّ اتّصافه بما يتّصف به الكم ، كالقوى إذا اعتبرت
بالنسبة إلى آثارها ، فتلك القوّة ليست ذات كميّة في نفسها ، بل باعتبارها إلى ما
يصدر عنها ، فيقال إنّها متناهية أو غير متناهية باعتبار تناهي آثارها وعدم
تناهيها ، ويحصل للقوى اختلاف بالزيادة والنقصان بالإضافة إلى شدة ظهور الفعل عنها ، وإلى عدّة ما
يظهر عنها ، و إلى مدّة بقاء الفعل.
__________________
فهذه أصناف اختلاف
القوى باعتبار آثارها المتفاوتة بالعدّة أو المدّة أو الشدّة ، لأنّ الصادر عنها ،
إمّا عمل متصل في زمان أو أعمال متوالية لها عدد ، ففرض النهاية واللانهاية فيه
يكون بحسب مقدار ذلك العمل أو عدد تلك الأعمال ، والذي بحسب المقدار يكون إمّا مع
فرض وحدة العمل واتصال زمانه ، أو مع فرض الاتصال في العمل نفسه ، لا من حيث يعتبر
وحدته وكثرته ، كقوى يفرض صدور عمل واحد منها في أزمنة مختلفة ، كرماة يقطع سهامهم
مسافة محدودة في أزمنة مختلفة ، فالتي زمانها أقلّ أشدّ قوّة من التي زمانها أكثر،
ويجب أن يقع عمل غير المتناهية لا في زمان. وكقوى يفرض صدور عمل ما منها على
الاتصال في أزمنة مختلفة ، كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء ، ولا محالة
تكون التي زمانها أكثر أقوى من التي زمانها أقل ، ويجب من ذلك أن يقع عمل غير
المتناهية في زمان غير متناه. وكقوى يفرض صدور أعمال متوالية عنها مختلفة بالعدد
كرماة يختلف عدد رميهم ، ولا محالة تكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي
يصدر عنها عدد أقل ، ويجب من ذلك أن يكون لعمل غير المتناهية عدد [غير] متناه. فالاختلاف الأوّل بالشدّة والثاني بالمدّة والثالث
بالعدّة.
والفرق بين الشدّة
والمدّة :
١ ـ أنّ الزائد
بحسب الشدّة ناقص بحسب المدّة.
٢ ـ ولأنّه قد
تختلف القوى بحسب المدّة دون الشدّة ، فإنّ سكون الثقيل في الجوّ لا يقبل التفاوت
بحسب الشدّة ، بل بحسب المدّة.
والفرق بين العدّة
والمدّة ، أنّ المدّة هي في ثبات شيء واحد ، واعتبار العدّة ليس في ثبات شيء واحد .
__________________
المسألة الرابعة : في أنّ الثقل والخفّة ليسا من الكم
إنّه قد يعرض
كثيرا لبعض الناس الاشتباه بين الكم بالذات والكم بالعرض ، فيلحق الثاني بالأوّل
لقصور قوّته المميّزة بين ما هو للشيء بالذات وبين ما هو للشيء بالعرض. وهؤلاء
لمّا رأوا :
١ ـ قبول كلّ واحد
من الثقل والخفة للمساواة والمفاوتة والزيادة والنقصان ، حيث يقال : ثقل هذا الجسم
يساوي ثقل ذاك أو يزيد عليه أو ينقص عنه.
٢ ـ وقبولهما
للتجزئة حيث يقال : ثقل هذا الجسم نصف ثقل ذلك أو ضعفه ، وتوهّموا أنّ هذا القبول
لذات الثقل والخفة ، لا جرم توهّموا أنّهما داخلان تحت مقولة الكم. وهو خطأ ، فإنّ
المساواة والمفاوتة في الكم عبارة عن فرض حدّ للشيء منطبق على حد آخر مفروض ، فإذا
انطبق كلّيته على كلّية الآخر ، فإن انطبق حدّاه الآخران على حدّي الآخر قيل له :
إنّه قد ساواه ، وإن لم ينطبق الحدّان الآخران على حدّي الآخر ، قيل : إنّه قد
فاوته إمّا بزيادة أو نقصان.
وهذا المعنى لا
يتحقّق في الثقل والخفة ، لأنّهما عبارتان عن قوّتين إحداهما تحرّك الشيء إلى أسفل
، والأخرى تحرّكه إلى فوق ، وهذه القوة المحرّكة إمّا أن تكون بالطبع ، وهي صورة
جوهرية نوعية وتلك من مقولة الجوهر ، أو الميل الذي هو السبب القريب للحركة ، وهو
من مقولة الكيف. نعم يعرض للحركة التفاوت بسبب تفاوت الزمان فيدخلان تحت الكم
بالعرض بهذا الاعتبار.
وأمّا التجزئة
فإنّما حصلت لهما بسبب أنّ القوة تحرّك في الزمان في نصف المسافة ، أو تحرّك في
المسافة في ضعف الزمان ، فعروض المساواة والمفاوتة بسبب تأثيره في الحركة
المتعلّقة بالزمان ، والتجزئة إنّما حصلت للزمان بالذات ، ولهما بالعرض.
__________________
المسألة الخامسة : في الطول والعرض والعمق
الطول يقال على
معان خمسة بالاشتراك :
أ : الامتداد الواحد كيف كان.
ب : الامتداد المفروض أوّلا.
ج : أطول الامتدادين المحيطين بالسطح.
د : البعد الآخذ
من رأس الإنسان إلى قدمه أو من رأس الحيوان إلى ذنبه.
ه : الامتداد الآخذ من مركز العالم إلى محيطه.
وأمّا العرض فيقال
على معان أربعة بالاشتراك :
أ : المقدار الذي
فيه بعدان.
ب : البعد الذي
يفرض مقاطعا لبعد آخر فرض أوّلا.
ج : أقصر البعدين
المحيطين بالسطح.
د : البعد الآخذ
من يمين الحيوان إلى شماله.
وأمّا العمق فيقال
على معان أربعة أيضا بالاشتراك :
أ : الثخن الذي تحصره السطوح.
ب : البعد المقاطع
للبعدين المفروضين أوّلا.
ج : الثخن الذي
تحصره السطوح بشرط الأخذ من فوق إلى أسفل ، فإن ابتدأ بالأخذ من أسفل إلى فوق سمّي
سمكا.
د : البعد الذي
يحويه قدّام الإنسان وخلفه ، ومن الحيوان فوقه وأسفله.
__________________
وهذه المعاني
كميات عرضت لها إضافات. فإن أريد بالطول والعرض والعمق نفس الامتدادات فهي كمّ
بالذات ، وإن أريد بها ما تقدّم من المعاني فهي كميات أخذت مع إضافات ؛ لأنّ كلّ
خط فهو طويل في نفسه على معنى أنّه في نفسه بعد وامتداد واحد. ثمّ يقال : هذا الخط
طويل وذاك الآخر ليس بطويل ، فالمسلوب هنا ليس هو الخط الذي بمعنى البعد والامتداد
، لأنّ كلّ خط فهو طويل بهذا المعنى ، بل المسلوب هو الأمر الإضافي.
ثمّ هذه الكميات
المأخوذة بالإضافة إلى شيء قد تؤخذ بحيث لا تكون من شرط إضافتها إلى شيء إضافتها إلى
ثالث ، كما يقال : هذا الخط طويل وهذا ليس بطويل ، وهذا السطح عريض والسطح الآخر
ليس بعريض ، وهذا الجسم ثخين والآخر ليس بثخين ، وهذا العدد كثير والآخر ليس بكثير
، وقد تؤخذ بحيث تشترط الإضافة إلى ثالث كالأطول والأعرض والأثخن والأكبر .
البحث التاسع : في تناهي الأبعاد
اختلف الناس في
ذلك ، فالذي عليه المتكلّمون كافّة ومحقّقوا الأوائل : أنّ الأبعاد متناهية. وذهب
حكماء الهند إلى أنّها غير متناهية. لنا وجوه :
أ
: لو كانت الأبعاد
غير متناهية لامتنع توارد المسامتة على الخط بعد الموازاة مع غيره فامتنعت الحركة
الدورية ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.
__________________
بيان الشرطية :
أنّه لو كانت الأبعاد غير متناهية لفرض فيها خط غير متناه مواز لخط خرج من مركز كرة إلى محيطها ، فإذا تحرّكت الكرة حتى صار
ذلك الخط الخارج من مركزها مسامتا للخط الغير المتناهي بعد الموازاة ، فلا بدّ وأن
تحدث فيه نقطة يقع عليها أوّل المسامتة ، لكنّ ذلك محال ، لأنّه لا نقطة في ذلك
الخط إلّا وفوقها نقطة أخرى تقع بها المسامتة قبل النقطة التي تفرض أوّل نقط
المسامتة ؛ لأنّ المسامتة مع النقطة المفروضة أوّل نقط المسامتة إنّما تحصل بواسطة
الحركة إليها ، لكنّ الحركة إنّما تقع على مسافة منقسمة ، والحركة إلى نصف تلك
المسافة سابقة على الحركة إلى آخرها ، فتكون النقطة المحاذية لطرف الخط حال كونه في
النصف سابقة على تلك النقطة المفروضة عند كونه في آخرها ، وهكذا في نصف النصف إلى
ما لا يتناهى ، فلا نقطة تفرض أوّل نقط المسامتة إلّا وقبلها نقط لا تتناهى تمنعها
عن كونها أوّل نقط المسامتة ، وهذا محال أدى إليه عدم تناهي الأبعاد ، وكلّ ما
يؤدي إلى المحال يكون محالا ، فعدم تناهي الأبعاد محال.
وفيه نظر ؛ لأنّ
هذا البرهان مبني على اجتماع النقيضين واجتماع النقيضين محال ، فلا تحقق لصحة هذا
البرهان.
وبيانه : أنّه
مبني على ثبوت الجزء ونفيه ، وهما متناقضان. وإنّما كان مبنيّا على ثبوت الجزء ،
لأنّ فرض نقطة هي أوّل نقط المسامتة ، إنّما يتم لو كانت هناك حركة لا تنقسم تفرض
المسامتة الأولى عندها ، لكنّ وجود حركة لا تنقسم يتوقّف على ثبوت مسافة لا تنقسم
، أعني : الجوهر الفرد. وإنّما كان مبنيّا على نفيه ، لأنّ انقسام الحركة إلى ما
لا يتناهى إنّما يصحّ على تقدير نفي الجوهر الفرد ، إذ على تقدير ثبوته لا يصحّ
انقسامها إلى ما لا يتناهى ، فقد ظهر توقف هذا
__________________
البرهان على ثبوت
الجوهر الفرد وعلى نفيه معا ، فيكون فاسدا.
قال أفضل
المحقّقين : هذا البرهان فيه نظر ؛ لأنّ الأمور الواقعة في الزمان ، إنّما يكون
أوائلها آن هو مبدأ ذلك الزمان كالحركة ، فإنّ مبدأها الآن الذي لم يشرع المتحرك
في الحركة بعد ، وكلّ آن بعد ذلك الآن فإنّ الحركة قد عبر منها جزء حتى وصلت إليه ، وذلك الجزء يقبل القسمة إلى ما لا
نهاية له ، كذلك مسامتة الخط للخط بعد الموازاة ، فإنّها تقع في زمان بخلاف مسامتة
الخط للنقطة الواقعة في آن ، فمبدأ المسامتة يكون آن الموازاة ، وكلّ آن بعد ذلك
الآن يكون الخط فيه مسامتا ، بعد أن عبر من المسامتة شيء ينقسم إلى ما لا نهاية له
، وبان من ذلك أنّ المحال الذي ذكروه غير لازم ولا متعلّق بتناهي الخط ولا تناهيه.
ب
: لو كانت الأبعاد غير متناهية ، لأمكن أن يخرج امتدادان من
نقطة واحدة ، كساقي مثلث لا يزال البعد بينهما يتزايد بقدر واحد من الزيادات إلى
غير النهاية ، وكلّ زيادة توجد فإنّها مع المزيد عليه يوجد في البعد الذي فوقه ،
فهذه مقدّمات أربع يتوقّف هذا البرهان عليها :
١ ـ إمكان خروج
امتدادين من نقطة واحدة كساقي مثلث. وهذا ظاهر ، لكنّه ليس بعام ، بل هو مختص
بامتناع عدم تناهي بعدين أو ثلاثة ولا يدل على امتناع بعد واحد غير متناه ، لعدم
إمكان فرض الساقين المذكورين فيه.
٢ ـ جواز وجود
أبعاد بينهما تزايد بقدر واحد من الزيادات ، مثلا يكون البعد الأوّل ذراعا ،
والثاني يزيد عليه بنصف ذراع ، والثالث يزيد على الثاني أيضا
__________________
بنصف ذراع فما زاد
وهكذا. وإنّما شرطنا التزايد ليظهر انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين. وإنّما شرطنا
أن تكون الزيادات بقدر واحد فما زاد ، ليحصل لنا : أنّ البعد المتزايد بينهما
المشتمل على تلك الزيادات غير متناه في الطول ، فإنّا لو نصّفنا خطا طوله ذراع ،
ثم جعلنا أحد نصفيه أصلا ، وزدنا عليه نصف النصف الآخر ، ثم نصف النصف الباقي
وهكذا إلى ما لا يتناهى ـ وهو ممكن لأنّ كلّ مقدار عندهم قابل لانقسامات غير
متناهية ـ كانت الزيادات التي يمكن ضمّها إلى الأصل غير متناهية ، والأصل يتزايد
إلى غير النهاية مع أنّه لا ينتهي إلى مساواة الخط الذي فرضناه ذراعا ، فيجب أن
تكون تلك الزيادات غير متناقصة ، لأنّها لو تناقصت لم يلزم من كونها غير متناهية
أن يصير المزيد عليه غير متناه ، بل يجب أن يكون بقدر واحد أو أزيد. وهذه المقدمة
أيضا ظاهرة الثبوت.
٣ ـ جواز أن تفرض
بين الامتدادين هذه الأبعاد المتزايدة بقدر واحد إلى غير النهاية ، فيكون هناك
إمكان زيادات على أوّل تفاوت يفرض بغير نهاية. وهذه ظاهرة أيضا ، لأنّا فرضنا
البعدين غير متناهيين فالزيادات بينهما كذلك ، وإلّا انقطعت فانقطعا.
٤ ـ أنّ كلّ زيادة
توجد فإنّها مع المزيد عليه قد توجد في بعد واحد ، فكلّ بعد أخذته وجدت جميع
الزيادات التي دونه موجودة فيه ، مثلا البعد العاشر ليس عبارة عن التاسع مع زيادة
فيه عليه فقط ، بل هو عبارة عن البعد الأوّل مع مجموع تلك الزيادات إلى البعد
العاشر ، فتكون تلك الزيادات بأسرها موجودة في بعد واحد هو العاشر ، وهكذا إلى ما
لا يتناهى.
وإذا تقررت هذه
المقدمات فنقول : إمّا أن يكون في هذه الأبعاد المتزايدة إلى غير النهاية بعد واحد
يشتمل على الزيادات الغير المتناهية ، أو لا يكون. والثاني
__________________
باطل ؛ لأنّه إمّا
أن يوجد بين الامتدادين بعد لا يوجد فوقه بعد آخر ، أو لا يوجد. والأوّل يوجب
انقطاهما ، وقد فرضناهما غير متناهيين ، هذا خلف. والثاني يقتضي أن لا تكون هناك
زيادة إلّا وهي حاصلة في بعد آخر ، فيصدق على كلّ زيادة أنّها حاصلة في بعد ، ومتى
صدق على كلّ واحدة أنّها حاصلة في بعد ، صدق على المجموع أنّه حصل في بعد ، فوجب
أن يوجد بين الامتدادين بعد يشتمل على الزيادات الغير المتناهية مع كونه محصورا
بين حاصرين ، وهو محال.
وأيضا يجب أن يكون
هو آخر الأبعاد ، وإلّا لو كان فوقه بعد آخر لم يكن مشتملا على زيادته مع أنّا
فرضناه مشتملا على كل الزيادات ، وإذا كان آخر الأبعاد وجب انقطاع الامتدادين ،
وأن لا ينفذا بعد وجود هذا البعد الذي فرضناه آخر الأبعاد.
وهذا البرهان
يشتمل على مقدمة واحدة مشكلة ، وهي أنّ كلّ زيادة لمّا كانت حاصلة في بعد وجب أن
تكون جميع الزيادات حاصلة في بعد ، فإن ثبتت استمر البرهان ، وإلّا سقط بالكلّية .
ج
:
لو كانت الأبعاد
غير متناهية ، لأمكن فرض خطين غير متناهيين من جهة ومبدءاهما واحد ، ثم تقطع من
أحدهما قطعة متناهية ، ثم يطبق الخط الأوّل مع الخط المقطوع ، بأن يجعل الأوّل من
التّام بإزاء الأوّل من الثاني بعد القطع ، والثاني من الأوّل بإزاء الثاني من
الثاني وهكذا ، فإن استمر التطبيق بينهما إلى غير النهاية ، ولم ينقص أحدهما عن
صاحبه كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ، إذ كانا قبل القطع متساويين وبعده كذلك
، فيكون الخط المقطوع مساويا للتام حالتي قطعه وعدمه ، فيكون وجود القطعة المحذوفة
وعدمها سواء ، إذ لم يظهر هناك تفاوت ،
__________________
وهو باطل بالضرورة
، وإن حصل التفاوت فإمّا أن يكون من الطرف المتناهي وهو محال ، لأنّا فرضنا
التطبيق بين أوّل أحد الخطين وأوّل الثاني وهكذا ، فيبقى التفاوت إذن في الطرف
الغير المتناهي ، فينقطع الناقص ويستمر التام ليحصل التفاوت من تلك الجهة ،
فيتناهى الناقص ، وكذا التام ؛ لأنّه لا يزيد عليه إلّا بالقدر المقطوع ، وذلك شيء
متناه ، والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون بالضرورة متناهيا فقد تناهي الامتدادان وهو المطلوب.
اعترض بأنّ تطبيق نهاية الزائد على نهايته الناقص إنّما يمكن على
أحد وجوه ثلاثة:
١ ـ أن يتحرك
الناقص بكلّيته عن جهة نهايته حتى تنطبق نهايته على نهاية الزائد ، أو يتحرك
الزائد بكلّيته عن جهة نهايته حتى تنطبق نهايته على نهاية الناقص.
٢ ـ أن يزداد
الناقص حتى ينطبق طرفه على طرف الزائد ، أو ينتقض طرف الزائد وينزل حتى ينطبق على طرف الناقص.
٣ ـ أن يبقى
الزائد والناقص كما كانا ، ولكنّه توضع نهاية الزائد على نهاية الناقص ، فتظهر في
الزائد فضلة لا تنطبق [على الناقص بل تبقى متجافية عليها وذلك مثل] خطين يتفاوتان في نهايتهما ، فإذا أطبقا بين نهايتهما حدثت في الزائد فضلة [متجافية] لا تنطبق على
الناقص ، ثمّ لا تزال تزيد تلك الفضلة وتبعدها إلى الجانب الآخر ، إلى أن تظهر
الفضلة من [الجانب] الآخر.
__________________
فإن ادّعينا صحّة
التطبيق بين نهايتي المقدارين على الوجه الأوّل لزمنا المصادرة على المطلوب ؛ لأنّ
الخط إنّما يمكن أن يتحرك بكلّيته إذا خلّى مكانا وشغل غيره ، وإنّما يصحّ ذلك لو
كان متناهيا من كلّ الجهات.
وإن ادّعينا ذلك
على الوجه الثاني فحينئذ يصير كلّ واحد منهما بعد النمو والذبول مساويا للآخر ، ولا يلزم منه محال.
وإن ادّعينا ذلك
على الوجه الثالث ، فللخصم أن يقول : الزائد والناقص يمتدان إلى غير النهاية وتبقى
في الزائد تلك الفضلة الغير المنطبقة أبدا ، ولا ينتهي إلى حيث تزول تلك الفضلة
فإذن هما يمتدان إلى غير النهاية ، [ولا يلزمني أن أجعل الناقص مساويا للزائد لأنّ
تلك الفضلة أبدا] موجودة مع الزائد .
وأيضا ينتقض بالنفوس الحادثة من زمان الطوفان إلى ما لا يتناهى من
الماضي ، فإنّها أقل من النفوس الحادثة من زماننا إلى ما لا يتناهى في الماضي ، مع
أنّه لا بداية لها عندكم.
أجاب الأوائل عن
النقض : بأنّ كل كثرة تجتمع أجزاؤها ويكون لها ترتيب في الطبع كالعلل ، أو الوضع
كالمقادير ، فدخول ما لا نهاية فيها ممتنع ، أمّا ما انتفى عنه أحد الوصفين ،
كالحركات التي لا توجد معا والأزمنة ، فلا يمتنع فيه أن يكون غير متناه ، وكالنفوس
الموجودة دفعة ، لكن لا ترتيب بينها بالطبع ولا في الوضع ، لعدم إمكان فرض
المطابقة فيها.
__________________
وفي هذا الجواب
نظر ؛ فإنّ النفوس الحادثة أيضا بينها ترتيب لكون كلّ سابقة معدة للاحقة.
وقد اعترض جماعة
من الأوائل عليه.
فقال بعضهم :
النفوس لا بقاء لها ، وإلّا لكانت النفوس الآن غير متناهية فالأبدان كذلك ،
لامتناع التناسخ ، لكنّ عدم تناهيها محال لأنّها قابلة للزيادة والنقصان.
ومنهم من قال بوجوب
تناهي الحركات ، لأنّ النفوس متناهية لقبولها الزيادة والنقصان ، والتناسخ باطل ،
فيلزم تناهي الأبدان ، فيلزم تناهي الحوادث.
ومنهم من قال
بالتناسخ لأبدان غير متناهية ونفوس متناهية.
وقيل : العلم بأن كل ما يحتمل الزيادة والنقصان يكون متناهيا ،
إمّا أن يقال : إنّه من الأوليات أو من النظريات. وباطل أن يكون من الأوليات
لاختلاف العقلاء فيه ، فمنهم من ذهب إلى تركّب الجسم من أجزاء غير متناهية بالفعل.
ومنهم من ذهب إلى أنّ العالم مركّب من أجزاء كرية الشكل صلبة لا نهاية لها. ومنهم
من قال بالخليط الغير المتناهي. والمتكلمون اتفقوا على أنّ معلومات الله تعالى أزيد من مقدوراته ، مع
عدم تناهيهما. ومنهم من زعم أنّ الأكوان المقدورة لله تعالى غير متناهية ، والجزء
الذي لا يتجزأ عندهم يمكن حصوله في أحياز غير متناهية على البدل ، ويمكن أن تقوم به أفراد غير متناهية من نوع واحد على البدل. ومنهم من
أثبت في العدم ذوات غير متناهية. ومنهم من أثبت لله تعالى
__________________
صفات غير متناهية.
وأيضا نعلم بالبديهة أنّ مراتب الأعداد غير متناهية. ونعلم بالضرورة أنّ تضعيف
الألف مرارا غير متناهية أقل من تضعيف الألفين كذلك. ونعلم أنّ الحركات الحادثة في
المستقبل أو التي يمكن حدوثها لا نهاية لها مع احتمالها للزيادة
والنقصان.
فإذن هذه المقدمة
برهانية ، وإنّما يتم البرهان مع التطبيق ، لأنّ الموجب للتناهي هو أنّه يجب
انتهاء الناقص إلى حد لا يبقى منه شيء ويبقى بعده من الزائد ، وهذا إنّما يجب لو
تعذّر وقوع جزء من الجملة الناقصة في مقابلة الجزءين من الجملة الزائدة ، فإن كان
ذلك ممكنا لم يجب انتهاء الناقص إلى حد لا يبقى منه شيء ويبقى بعده من الزائد شيء.
وذلك إنّما يتحقق فيما يحتمل الانطباق ؛ لأنّه إذا فرض جزء من الجملة الزائدة
منطبقا على جزء من الجملة الناقصة استحال أن ينطبق جزء آخر من الجملة الزائدة على
ذلك الجزء من الجملة الناقصة ، لاستحالة حصول الجسمين في حيّز واحد ، فإذا صار جزء
من الجملة الناقصة مشغولا بمماسة جزء من الجملة الزائدة ، استحال أن يصير هو بعينه
مشغولا بمماسة جزء آخر ، بل المشغول بمماسة جزء آخر من الجملة الزائدة جزء
آخر من الجملة الناقصة، وذلك يوجب أن ينتهي الناقص إلى حدّ ينقطع ويبقى بعد ذلك من
الجملة الزائدة مقدار الزيادة. فأمّا الأمور التي لا يفرض فيها الانطباق فليس هناك
بين أجزاء الجملتين مماسة حتى تكون مماسة جزء جزءا تمنعه من أن يماسّه جزء آخر ،
بل ليس بينهما نسبة إلّا باعتبارين :
الأوّل
: كون كلّ واحد
منهما مثلا لصاحبه ، لكن لا يلزم من كون الشيء مثلا لشيء أن لا يكون مثلا لغيره.
أمّا في المقادير فإنّ الجزء المشغول بمماسة جزء
__________________
يمتنع أن يكون هو
بعينه في تلك الحالة مشغولا بمماسة جزء آخر ، فلا جرم كانت المماسة والانطباق
كاشفين للفضل الخالي عن العوض.
الثاني
: أن يفرض في الذهن
تقابل إحدى الجملتين بالجملة الأخرى ، وذلك أيضا على وجهين : فإنّه إمّا يفرض
تقابل إحدى الجملتين بالجملة الأخرى من حيث هما جملتان ، فلا يكون في ذلك إلّا
مقابلة شيء واحد بشيء واحد. وإمّا أن يفرض تقابل آحاد إحدى الجملتين بآحاد الجملة
الأخرى ، وذلك محال ، لأنّ العقل لا يقوى على استحضار أعداد لا نهاية لها على
التفصيل ، وأمّا إن قابل بعض آحاد إحدى الجملتين ببعض آحاد الجملة الأخرى ، فلا
يلزم منه وقوع النقصان في الكل. وظاهر مما مرّ أنّ الفضل الخالي عن العوض إنّما
يلزم عند وجود الانطباق ، فثبت أنّ احتمال الزيادة والنقصان لا يوجب التناهي إلّا
بهذا الشرط .
وفيه نظر ؛ لأنّ
التطبيق لا يشترط فيه الوضع عند الأوائل ، بل الترتيب ـ طبعا كالعلل أو وضعا
كالمقادير ـ والاجتماع في الوجود ، ولهذا حكموا بأنّ النفوس والحركات لو وجد فيها
الشرطان امتنع عدم التناهي فيها.
والنقض بتركّب
الجسم من أجزاء غير متناهية غير وارد ، لعدم الحكم هنا بالزيادة والنقصان ، وكذا
القائل بتركب العالم من أجزاء غير متناهية ومن الخليط ، وكذا الأكوان والمعدومات
ومراتب العدد.
وأمّا المعلومات
والمقدورات ، فليست وجودية ، بل هي أمور مفروضة على معنى أن كلّ شيء نتصوره ممكنا
فإنّا نحكم عليه بكونه مقدورا ومعلوما ، وكلّ شيء نفرضه ممتنعا نحكم عليه بأنّه
معلوم غير مقدور ، ويمكننا في كلّ واحد من الفرضين فرض ما زاد عليهما إلى ما لا
يتناهى.
__________________
وأمّا تضعيف الألف
والألفين مرات غير متناهية ، فإنّ قبولهما للزيادة والنقصان لا ينافي عدم تناهيهما
، لأنّ الزيادة والنقصان ليس باعتبار ما حصل لهما من عدم التناهي في العدد ، وإنّا
إذا قابلنا كلّ واحد من آحاد الألف المتضاعفة إلى غير النهاية بكل واحد من آحاد
الألفين المتضاعفة إلى غير النهاية أيضا لم يتفاوتا في العددية ، بل تفاوتا في
مقابلة كلّ واحد باثنين ، فالتفاوت حصل لهما عرضا ، وعدم التناهي طولا ، وكان
بالحقيقة كفرض ثلاثة آلاف في مرتبة واحدة تضاعف كلّ ألف منها إلى ما لا يتناهى.
د
:
لو كانت الأبعاد
غير متناهية لكان فيها حيثيات غير متناهية ، ونقط غير متناهية. وكلّ حيث في غير
المتناهي بينه وبين كلّ واحد من الحيثيات الأخرى ، إمّا أن يتناهى أو لا يتناهى ،
فإن تناهى ما بين كلّ واحد وواحد من الحيثيات الأخرى ـ أيّ واحد كان مع أيّ واحد ـ فليس فيه عددان من الحيثيات
المستغرقة لعدم النهاية ، قربت أو بعدت ، اشتملت على أجزائها أو ما اشتملت إلّا
وبينهما متناه ، فالكلّ متناه ، وإن كان بين حيثيّة وحيثية لا يتناهى فقد انحصر ما
لا يتناهى بين حاصرين ، وهو محال.
وفيه نظر ؛ لعدم
التلازم بين الحكم على الكل وكلّ واحد.
ه
:
لو كانت الأبعاد
غير متناهية لكان ما لا يتناهى محصورا بين حاصرين ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم
مثله.
بيان الشرطية :
أنّه يمكن فرض خطين خرجا من نقطة واحدة كساقي مثلث على زاوية هي ثلثا قائمة ، ثم
يمتدان إلى غير النهاية ، فيكون الوتر مساويا لهما ،
__________________
فيلزم انحصاره مع
عدم تناهيه لوجوب مساواته لهما حيث تساوت الزوايا بين الخطين.
وفيه نظر ؛ فإنّ
برهان اقليدس على المساواة إنّما هو في الخطوط المتناهية بحيث تنطبق
نهايتا كلّ خطّ ووسطه على نهايتي مساويه ووسطه .
احتجوا بوجوه :
الأوّل
: الفطرة شاهدة بأنّ
كلّ بعد يتناهى فإنّ وراءه بعد آخر ، إمّا خلاء أو ملاء ، وأنّ فيه حيثيات
وجهات متغايرة ، وهذا الحكم غير قابل للتشكيك ، ولو قبله لم يبق وثوق بامتناع حصول
الجسم في مكانين ، وامتناع اجتماع المتناقضين ، وذلك يرفع الوثوق بالقضايا
البديهية بأسرها.
لا يقال : الفطرة
وإن شهدت بالقضية المذكورة كما شهدت بالضروريات ، إلّا أنّها شهدت بصحّة ما ينتج نقيضها
، بخلاف باقي الضروريات ، فلهذا رددناها دون القضايا البديهية.
لأنّا نقول : لو
جاز ذلك لارتفع الوثوق بجميع الضروريات ، لأنّ الفطرة إذا شهدت بصحّة قضية ثمّ
تبيّن لنا فسادها بوجه من الوجوه ، زال الوثوق بحكمها فلزم الشك في جميع الضروريات
، وإذا لم نجد ما يدل عل فساد القضية لم يجب الحكم بصحتها ، لجواز كونها باطلة ولا
نعرف وجه بطلانها ، بل ولو دلّ دليل على صحتها لم يفد ؛ لأنّ الدليل إنّما يفيد
العلم لو تركّب من الأوليات ابتداء
__________________
أو بواسطة تنتهي
إليها ، فإذا جوّزنا الشك في الضروريات امتنع الجزم بشيء من الكسبيات ؛ لأنّ
الضروريات أصل الكسبيات ، والطعن في الأصل يستلزم الطعن في الفرع ، فإذن لا يجوز
تطرّق الشك إلى شيء من الضروريات.
الثاني : الواقف على طرف العالم إن لم يمكنه مدّ يده إلى خارجه كان
ذلك لممانعة الأجسام له ، فوراء العالم أجسام تمانع المتحرك عن الحركة وهكذا إن
تناهت تلك الأجسام ، وإن أمكنه فهناك أحياز وجهات قابلة للمساواة والمفاوتة
والتجزئة ، لأنّا نعلم أنّ الحيّز الذي يتسع لليد مساو له ، وأنّه أزيد من نصفه ،
وأقل من ضعفه ، فإذن هناك أبعاد غير متناهية.
الثالث : لو كان العالم متناهيا لكنّا إذا فرضناه أزيد ممّا هو عليه
الآن بذراع لكان أكبر مما هو الآن ، ولو فرضناه أزيد ممّا هو الآن بنصف ذراع لكان
أقل من الأوّل ، ولو فرضناه أزيد مما هو الآن بذراعين لكان أكبر من الجميع. فإذن
خارج العالم أحياز قابلة للتفاوت ، فتكون أبعادا وجودية ، أو ذوات أبعاد.
الرابع : الجسم من حيث هو جسم كلي لا يمنع وقوع الشركة فيه إلى ما لا
يتناهى ؛ لامتناع انحصار نوعه في شخصه وتناهي الشركة فيه لعدم الأولوية ، وإذا لم
يمنع مفهوم البعد الشركة إلى ما لا يتناهى ، كان عدم التناهي ممكنا ، والمبدأ
الفيّاض عام الفيض ، لا يمنع مستحقّا عن مستحقّه ، فيجب إفاضة جميع الأفراد
الممكنة للجسم ، لكنها غير متناهيّة.
الخامس : الزمان لا بداية له ولا نهاية ، فالكون لا بداية له ولا
نهاية ، فالأبعاد كذلك.
السادس
: الأعداد لا تتناهى
في الزيادة ، والمقدار لا يتناهى في النقصان ، فالأبعاد لا تتناهى قياسا عليهما.
والجواب عن : الأوّل : أنّا نمنع استناد ذلك إلى الفطرة ، بل إلى القوّة الوهمية ،
والإنسان في بدو
نظره يعجز عن التمييز بن القضايا الوهمية والعقلية ، لأنّ أكثر القضايا التي يحكم
بها الإنسان مستندة إلى الوهم ، فإذا تدبّر الإنسان وراجع عقله وفكره ، عرف استناد
كلّ قضية إلى قوة ، فحكم بصحّة بعض القضايا وفساد الباقي. وأيّ ضرورة شهدت عند
الفطرة بذلك؟!
وعن
الثاني : أنّه لا يمكنه مد
يده لا لشغل البعد بالجسم ، بل لعدم الشرط وهو الحيّز والمكان ، فإنّ شرط خروج
اليد خارج العالم وجود مكان وحيّز لها ، والعالم وراءه عدم صرف لا خلاء ولا ملاء ،
نعم قد يعجز الوهم عن تحصيل ذلك ، فالمرجع فيه إلى العقل.
وعن
الثالث : أنّه أمر وهمي غير
حاصل في الوجود فلا عبرة به.
واعلم : أنّ حكمهم
بكون هذا الحكم وهمي لا عقلي ، مع حكمهم بأنّ التفاوت الحاصل في الزمان المقدّر المفروض في الحركات المختلفة بالسرعة والبطء المفروضة أيضا
عقلي ، لا وجه له لتساويهما في الفرض والتقدير. والحقّ أنّهما وهميان.
وعن
الرابع : أنّ الكلي لا يمنع
الشركة فيه من حيث المفهوم ، وإن جاز أن يمتنع لخارج عن مفهومه لازم له أو زائل ،
ولا يكفي في عدم الامتناع أن لا يكون الشيء الواحد بعينه مانعا منه ، لجواز أن
يمتنع لأمر آخر ، كما هو هنا.
وعن
الخامس : بمنع عدم تناهي
الزمان.
سلّمنا ، لكن نمنع
دلالة عدم تناهي الكون على عدم تناهي الجسم ، لإمكان أن يتشكل الجسم بأشكال غير
متناهية مختلفة في أحوال مختلفة.
__________________
وعن
السادس : بأنّ القياس لا عبرة به في الأمور القطعيّة ، مع أنّه لو اشتمل على
الجامع لكان مفيدا للظن ، فإذا خلا عنه لم يثمر شيئا أصلا ، وقياسهم هنا خال عن
الجامع.
قال بعضهم : كما
أنّ الجسم لا ينتهي في الصغر إلى حدّ لا يوجد ما هو أصغر منه وإن امتنع خروج جميع
الانقسامات الغير المتناهية إلى الفعل ، كذا كل عظم نفرضه للجسم يمكنك فرض ما هو
أزيد منه ، ولا يجب أن ينتهي في العظم إلى حدّ لا يمكن أن يوجد ما هو أعظم منه ،
وإن استحال وجود ما لا يتناهى من العظم .
واعلم : أنّ
مرادنا بتناهي الأبعاد ليس إلّا ما اعترف به من استحالة وجود ما لا يتناهى في
العظم.
قال الشيخ : إنّه
يصحّ من وجه دون وجه. أمّا وجه الصحّة ؛ فلأنّ أحد نصفي الخط إذا أضيف إليه أحد
نصفي الآخر ، ثمّ أحد نصفي نصفيه ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فإنّه
يزداد ذلك النصف إلى غير النهاية ، مع أنّه لا يبلغ الخط المنقسم أولا ، وهكذا
الفرض من الزيادات لا يبلغ الجسم كلّ عظم اتّفق ، بل له حد لا ينتهي إليه فضلا عن
أن يزيد عليه.
وأمّا وجه البطلان
، فهو أن يصل الجسم إلى كلّ حدّ من النمو والعظم ، وذلك ممتنع، وليس ذلك مثل الصغر
المفروض ؛ لأنّ القسمة لا تحتاج إلى شيء خارج عن المقسوم، والزائد يكون إمّا بسبب
أنّ المادة تنضم إلى الأصل ، وهو يوجب أن تكون مواد الأجسام بغير نهاية ، وإمّا
بسبب تخلخل لا يقف ، فيكون هناك حيّز غير متناه ، وكلّ ذلك محال.
__________________
البحث العاشر : في المسائل المتعلّقة بما لا يتناهى
وهي عشرة :
المسألة الأولى : في الوجوه التي يقال عليها اللانهاية
إنّ ذلك تارة يقال
بحسب الحقيقة ، وأخرى بحسب المجاز.
والأوّل
: قد يقال على وجه
السلب ، وقد يقال على وجه العدول.
والأوّل يصدق تارة بسلب الشيء الذي لأجله يصحّ أن يوصف الشيء
بالنهاية كما نقول : الله تعالى لا نهاية له ، والنقطة لا نهاية لها ، حيث سلبنا
عنهما المعنى المصحّح لدخول التناهي فيه وهو الكم ، وتارة يصدق على وجه العدول
الذي نذكره ؛ لأنّ السالبة أعمّ من المعدولة.
والثاني أن يكون المعنى المصحّح لوصف الشيء بالنهاية حاصلا له ،
لكن النهاية لا تكون حاصلة وهو على وجهين :
أ
: أن يكون الشيء
بحيث إذا أخذ منه أي شيء كان وجد شيء خارج عنه من غير حاجة إلى العود كقولنا
الأجسام غير متناهية في العظم.
ب : أن يكون محدودا بمحيطه ، وليس في ذلك المحيط نقطة بالفعل ،
كما في سطح الدائرة ، فيقال : إنّها غير متناهية لا بالمعنى الأوّل.
__________________
وأمّا الذي بحسب
المجاز ، فقد يقال : لما لا يمكن سلوكه كالطريق بين السماء والأرض ، وقد يقال :
لما يعسر ذلك فيه لبعده كالطريق بين المشرق والمغرب تشبيها بالأوّل.
المسألة الثانية : في معنى اللانهاية في الماضي
اعلم أنّه سنثبت
انتهاء الحوادث الماضية وأنّ دخول اللانهاية فيها ممتنع عند أهل الملل كافة ، أمّا
الأوائل فأثبتوا حوادث لا نهاية لها في الماضي ، وسيأتي الكلام معهم إن شاء الله
تعالى.
قالوا : إذا قلنا
الأشخاص الماضية غير متناهية احتمل أمرين :
الأوّل
: أنّ كلّ واحد من
تلك الأشخاص غير متناه ، وهو معلوم البطلان ، وإنّما ذكر لئلّا يتوهّم إمكان الحمل
عليه ، كما حكم به على الجملة ، كالحدوث.
الثاني
: أنّ جملة الآحاد
المجتمعة لها عدد غير متناه ، وهذا إمّا أن يفهم بحسب الوجود أو بحسب التوهّم ،
فالأوّل إن أخذ بمعنى السلب ، بأن يقال : إنّ جملة الأشخاص الماضية ليست أمرا له
عدد متناه فهو صادق عندهم ، لأنّ نقيضه ، وهو أنّ جملة الأشخاص الماضية أمر له عدد
موجود متناه كاذب ، إمّا لكذب موضوعها ؛ لأنّ جملة أشياء كلّ واحد منها لا يثبت مع
آخر ، بل يعدم مع وجوده لا يكون بما هي جملة موجودة ، إذ ليست موجودة في الخارج
لفرض تنافيها فلا يمكن اجتماعها في الوجود في زمان ما ، أو لعدم تناهيها عندهم.
وإن أخذ
__________________
بمعنى العدول ،
بأن يقال : جملة الأشخاص الماضية أمر له عدد غير متناه فهو باطل ، لأنّ موضوع
المحمول الثبوتي يجب أن يكون ثبوتيا ، ومجموع الأشخاص الماضية غير موجودة في شيء
من الأحوال البتة ، ولا في الذهن أيضا ، لقصوره عن استحضار عدد غير متناه بالفعل،
و إن قوى على استحضار وصف اللانهاية لوحدته . وأمّا الثاني وهو المأخوذ بحسب الوهم ، فهو أن يقال : إنّ
المتوهم من الأشخاص الماضية عدد أيّ واحد أخذته تجد واحدا غيره قد وجد من غير حاجة
إلى التكرير ، ولا ينتهي الحساب إلى واحد غير مسبوق بغيره ، وهو ممكن عندهم.
المسألة الثالثة : في معنى اللانهاية في المستقبل
النظر في الأمور
المستقبلة ، إمّا أن يكون في وجودها ، أو في تناهيها ولا تناهيها.
أمّا
الأوّل : فنقول لا شك في
أنّ الأمور المستقبلة ليست موجودة بالفعل ، لأنّ الموجود في المستقبل هو الذي لم
يوجد بعد ، بل هي موجودة بالقوة ، فنقول حينئذ : إمّا أن نعتبر كلّ واحد واحد من
تلك الأمور ، أو نعتبر حال الجميع ، فإن اعتبرنا حال كلّ واحد واحد ، فإمّا أن
يكون كلّ واحد منها موجودا بالقوّة في وقت واحد وهو صحيح ، وإمّا أن يكون كلّ واحد
موجودا بالقوّة في كلّ وقت [وهو باطل] ، وإلّا لم يوجد في وقت من الأوقات شيء من الأشخاص ، ولا
يمكن أن يبقى الحادث الواحد مستمرا أبدا. وإن اعتبرنا وجود الكلّ من حيث هو كلّ
فذلك على وجهين :
__________________
أ : أن يكون ذلك
الكلّ موصوفا دائما بأنّ بعضا منه موجود بالفعل وبعضا منه موجود بالقوّة ، فهو
صحيح أيضا ، لأنّ الماهية ذات الآحاد المتعاقبة يصحّ أن يقال : إنّ ما تحمل عليه
تلك الماهية دائما شيء موجود بالقوّة ، ولا يجوز أن يخرج إلى الفعل بحيث لا يبقى
بعده منه شيء بالقوّة ، لكن يبطل باعتبار أنّ الكلّ بما هو كلّ غير موجود حتى يوصف
بما هو ثبوتي.
ب : أن يكون ذلك
الكل بحيث يكون كلّ واحد من المعدومين منه يكون موجودا بالقوّة بحسب وقت معين ،
وإن لم يكن منه شيء بالفعل.
وأمّا
الثاني : وهو النظر في
تناهيها ولا تناهيها ، فاعلم أنّه يصحّ أن يقال للأشياء التي في طريق التكوّن :
إنّها أبدا متناهية بالفعل ، باعتبار أنّها دائما تكون واصلة إلى حدّ معيّن ،
فتكون بذلك الاعتبار متناهية ، وإنّها أبدا متناهية بالقوّة ، باعتبار النهايات
الأخرى التي بالقوّة بعد النهاية الحاصلة بالفعل ، وإنّها غير متناهية لا بالقوة
ولا بالفعل أبدا بالقياس إلى النهاية الأخيرة التي لا يحصل بعدها شيء آخر البتة ،
فظهر صدق أنّها متناهية بالفعل ، بالقياس إلى النهاية الحاضرة ، ومتناهية بالقوّة
، بالقياس إلى ما سيحضر ، وأنّها غير متناهية بالقياس إلى نهاية لا نهاية بعدها ،
فصحّ أنّ ما لا نهاية لا موجود بالفعل دائما ، أي من جهة أنّه غير متناه إلى نهاية
أخيرة وصحّ أنّ ما لا نهاية له موجود بالقوة دائما ، أي من طبيعته دائما شيء
بالقوّة لا يخرج إلى الفعل إلّا وتعقّبه شيء آخر.
المسألة الرابعة : في أنّ اللانهاية عدمية
ذهب بعض من لا
مزيد تحصيل له ، إلى أنّ اللانهاية من جملة
__________________
المبادئ . ونحن نقرّر تحقيق ذلك فنقول : «ما لا نهاية» يعتبر على
وجهين :
الأوّل : نفس هذا المفهوم.
الثاني : معروضه.
والثاني : راجع
إلى الماهيات والمفهومات التي توصف بهذا الوصف ، ولا يمكن أن يكون مبدأ من حيث هذا
المفهوم.
والأوّل : راجع
إلى مجرّد اعتبار نسبي ليس له مفهوم مستقل ، ولا يمكن أن يعقل بالاستقلال ولا
منفردا بالوجود ، فكيف يكون مبدأ لغيره. ولأنّها أمر عدميّ ، لأنّ طبيعة القوّة
عنها لا تزول ، لأنّ الذي لا نهاية له لا ينتهي إلى زوال طبيعة القوّة عنه ،
فحقيقة ما لا نهاية له ووجوده متعلّقة بالقوّة دائما ، والقوّة متعلّقة بالمادة لا
بالصورة التي هي الفعل ، فلا يتحقّق للا نهاية كلّ وجملة ، لأنّ الكلّ صورة أو ذو
صورة ، وهي منفية عنها.
المسألة الخامسة : في امتناع حركة ما لا يتناهى
اعلم أنّ الجسم
يمتنع عليه عدم التناهي ، لكن لو فرض لامتنع عليه الحركة الاينيّة ، لأنّه إن كان
غير متناه من جميع الجوانب لم يخل عنه مكان ، فلا تتحقّق الحركة الاينيّة ، لأنّها
إنّما تكون من مكان إلى مكان خال عنه ، فإذا كان مشغولا به امتنعت حركته إليه. وإن
كان متناهيا من جهة وغير متناه من أخرى ، فإنّه يمتنع أن يتحرّك في الأين إلى
الجهة التي هو غير متناه فيها ، لعدم فراغ عنه ، ويمتنع أن يتحرّك في الأين إلى
الجهة التي هو متناه فيها ، لأنّه إذا انتقل إلى الجهة الفارغة ، فإمّا
__________________
أن ينتقل الجانب
الآخر أو لا ، فإن انتقل خلا الجانب الآخر عنه ، فانقطع فيها ، فكان متناهيا في
تلك الجهة ، وقد فرضناه غير متناه فيها ، هذا خلف. وإن لم ينتقل ولم يخل ، لم تكن تلك حركة ، بل ازدياد في الجهة التي تناهى فيها.
ولأنّ تلك الحركة
ليست طبيعية ، لأنّ الطبيعي هو الذي يطلب أينا طبيعيّا وحدّا معينا ، وكلّ حدّ فهو
محدود ، والمحدود لا ينتقل إليه ما لا حدّ له ، ولا تكون قسرية ، لأنّ القسر على
خلاف الطبع ، وحيث لا طبع فلا قسر.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع أنّ الطبيعة فيما لا يتناهى تطلب حدّا متناهيا.
ولأنّ تناهيه من
بعض الجوانب ، إن كان طبيعيا وجب تناهيه من الجميع ، لتساوي فعل الطبيعة الواحدة
في جميع الجهات ، وإن كان بالقسر ، فإن أفاد القاسر ذلك الحد بأن قطعه لم يكن ذلك
الانتهاء إلى فضاء ، بل إلى مقطوع من جنسه ، فلا يكون هناك مكان يتحرك إليه ، وإن
أفاده حدودا من غير أن يقطع منه شيئا بواسطة التكاثف الحقيقي ، فيكون من شأن ذلك
الجسم أن يكون متناهيا بذلك القاسر ، وغير متناه بمقتضى طبعه ، وهو محال. وهذا غير
دال على المطلوب ، بل على امتناع وجود جسم هذا شأنه.
واعلم أنّه كما
امتنعت الحركة على الجسم الذي لا يتناهى ، كذا تمتنع الحركة الطبيعية على أجزائه ،
لأنّه إن كان غير متناه من جميع الجهات لم يكن المكان المتروك مخالفا للمكان
المطلوب بالطبع ، فلا تعقل فيه حركة طبيعية ، وإن كان غير متناه من بعض الجهات
بحيث يتحرك ذلك الجزء في الخارج عن ذلك الحد ، فتكون حركة ذلك الجزء إلى مكان
مطلوب له طبعا ، وهو الذي يطلبه الكل ، لمساواته إيّاه في الطبيعة ، لكنّ الكل لا
يطلب مكانا بالطبع، إذ لا محيط له حتى يطلبه ، وليس مطلوبه الخلاء لاستحالته ،
فإذن ليس للكل حيّز مطلوب ، فلا يكون
__________________
للجزء ذلك ،
لمشابهته إيّاه في الطبيعة. فالأجسام التي لأجزائها حركات طبيعية إلى جهات محدودة
كلّها متناهية.
المسألة السادسة : في امتناع وقوع فعل ما لا يتناهى أو
انفعاله في زمان
اعلم أنّ الجسم
إذا كان غير متناه ، وجب أن يكون فعله وانفعاله واقعين في الآن لا في الزمان ،
ومتى كانا زمانيّين وجب تناهيه.
أمّا بيان أنّه لا
يجوز أن يكون الجسم الغير المتناهي فاعلا فعلا زمانيا ، فلأنّ المنفعل إن كان
متناهيا وجب أن ينفعل جزء منه عن جزء من الفاعل ، فإذا فعل جزء من غير المتناهي في
المتناهي ، أو في جزء منه وجب أن يكون نسبة زمان فعل ذلك الجزء في المنفعل إلى
زمان فعل غير المتناهي إلى ذلك المنفعل ، كنسبة قوّة غير المتناهي
إلى قوّة المتناهي ، لأنّ الجسم كلّما كان أعظم كانت قوّته أعظم ، فزمان أثره أقصر
، فإذا كان عظمه غير متناه وجب أن يقع أثره لا في زمان ، لأنّ كلّ زمان يفرض فإنّ
الأثر في نصفه أقصر من الأثر في جميعه ، لكنّا فرضنا فعله في زمان ، هذا خلف.
وإن كان المنفعل
غير متناه ، كان نسبة انفعال جزء منه إلى انفعال كلّه كنسبة الزمانين، فيقع انفعال
كلّ جزء منه لا في زمان ، ويكون انفعال الجزء الأصغر أسرع من انفعال الجزء الأكبر
؛ لأنّ الصغر مقتض للسرعة فيكون أسرع من الكائن لا في زمان. وإذا عرف ذلك من جهة
الفعل ، فليعرف مقابله من جهة الانفعال.
واعلم أنّ الصورة
قد تشتد في تأثيرها ، على معنى : أنّ النار الكبيرة تأثيرها
__________________
أشد من تأثير
النار الصغيرة ، وليست هذه الزيادة زيادة الشدّة في الجوهر ، بل في الأثر باعتبار
زيادة المقدار ، لا شدته ولا شدة الجوهر.
البحث الحادي عشر : في بقايا مسائل الكم
المسألة الأولى : في أنّ المقدار هل يوجد في الخارج منفكّا
عن المادة أم لا ؟
اختلف الأوائل في
ذلك على حسب اختلافهم في الخلاء ، فمثبتوه جوّزوا انفكاك المقدار عن المادة ، والمانعون
هناك منعوا هنا.
احتجّ المانعون
بأنّ هنا مقدارا حالّا في الأجسام ، فلو قدّرنا مقدارا مجردا عن المادة ، فإمّا أن
يكون تجرّده لذاته ، أو لأمر لازم لذاته ، أو لأمر عارض لذاته ، والأوّلان باطلان
، وإلّا لكان كلّ مقدار مجرّدا عن المادة ، فلا يكون مقدار ما ملابسا للمادة ،
لأنّ الذات إذا اقتضت التجرّد استحال حلولها في المحل لعارض.
وإن كان لعارض
فإمّا أن يكون المقدار المجرّد حالّا فيه ، أو يكون محلا له ، أو يكونا حالّين في
محلّ ثالث ، أو يكون ذلك العارض لا حالّا في المقدار ولا في محلّه ، ولا يكون
محلّا له. والأوّل باطل ؛ لأنّ ذلك المحل ، إن كان غنيا في ذاته عن الموضوع ، كان
المقدار حالّا فيما هو غني عن الموضوع ، فلا يكون مجرّدا عن الموضوع. وإن كان
محتاجا إلى الموضوع، كان المقدار الحالّ فيه حالّا في ذلك الموضوع ، فيكون أولى
بالحاجة إلى الموضوع. ويستحيل أيضا أن يكون هذا المجموع غنيا عن الموضوع.
__________________
والثاني باطل أيضا
؛ لأنّ المقدار إذا كان لذاته محتاجا إلى الموضوع استحال أن يستغني عنه بسبب عارض
يحل فيه ، ولا يجوز أن يكون غنيا بذاته عن الموضوع ويعرض له ما يحوجه إليه ، لأنّ
ما بالذات لا يزول بسبب العوارض.
والثالث باطل ،
لأنّ المقدار حينئذ يكون ماديا ، مع أنّه قد فرض مجرّدا.
والرابع باطل ،
أمّا أوّلا : فلتساوي نسبة المجرّد إلى جميع المقادير ، فلا يقتضي تخصيص بعضها
بالتجرّد والاستغناء ، وبعضها بالحاجة والحلول في المادة. وأمّا ثانيا : فلأنّ
المقدار حينئذ يكون لذاته محتاجا إلى الموضوع ، فلا يصير غنيا عنه بسبب غيره ،
كغيره من الأعراض.
اعترض بمنع استحالة تجرّد بعض المقادير لذاته ، وإن كان البعض
الآخر قائما بالموضوع ، كما أنّ الحيوانية محتاجة إلى الناطقية في بعض المواضع دون
البعض ، فكما استغنت الحيوانية التي في الفرس مثلا عن الناطقية ، واحتاجت
الحيوانية التي في الإنسان إليها ، فليجز في بعض المقادير أن يحتاج إلى المادة
ويستغني بعض المقادير في بعض الصور عنها.
وأجيب بالفرق بين
المقدار والطبيعة الجنسية ، فإنّ الجسم طبيعة نوعية محصّلة وكذا السطح طبيعة أخرى
نوعية ، والخط أيضا كذلك ، فلا يمكن أن يختلف مقتضى كلّ واحد منها بالحاجة
والاستغناء المستندين إلى الذات باعتبار اختلاف المقارنات.
وأمّا الطبيعة
الجنسية فإنّها أمر مبهم غير محصّل ، وإنّما تتحصّل بفصولها التي تضاف إليها ،
وتتعيّن بها عند العقل ، ويكمل باعتبارها في العقل تصوّرها ، كالمقدار المطلق الذي
هو جنس للجسم والسطح والخط ، فإنّه مبهم لا يفهم منه سرى أنّه شيء يقبل القسمة ،
لكنّ هذا المفهوم غير محصّل ، ولا يكمل تصوّره إلّا
__________________
بما ينضاف إليه من
الفصول كقبوله للقسمة في جهة واحدة أو جهتين أو ثلاث ، فحينئذ يفهم منه أنّه خطّ
أو سطح أو جسم ، وأمّا قبل ذلك فلا يفهم منه إلّا أنّه شيء يمكن أن يكون جسما ، أو
شيء يمكن أن يكون سطحا ، أو شيء يمكن أن يكون خطا ، فلا يتحقق له مفهوم محصّل عند
العقل. وأمّا كون البعد بعضه قائم لا في مادة وبعضه قائم بالمادة ، فليس من الفصول
المنوعية للبعد ، بل طبيعة واحدة ، فيجب أن لا تختلف لوازم هذه
الطبيعة.
واعترض بأنّ النقض إنّما ورد على أنّ الشيء إذا احتاج إلى موضوع
في موضع وجب أن يحتاج في كلّ موضع ، ونحن قد نقضنا عليكم بالجنس المحتاج إلى فصل
معيّن في موضع دون موضع ، مع وحدة ماهية الجنس ، فإذا جاز ذلك هنا فليجز هناك .
والفرق بين طبيعة
الجنس غير محصّلة وطبيعة البعد محصّلة ، لو سلّم كان فرقا في غير محلّ الجمع ، بل
الجواب أنّ الجنس محتاج إلى فصل يقوّمه ، فكانت الحاجة لازمة له أبدا ، وتعيّن
الفصول إنّما جاء من جانب الفصل لا الجنس.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع كون كلّ واحد من هذه الأمور طبيعة نوعية ، بل جاز أن يكون كلّ واحد منها جنسا
، وكيف لا يكون كذلك وعندهم أنّ الجسمية التي للفلك يمتنع عليها الانفصال لصورة
نوعية اقترنت بها ونوّعتها وجعلتها مخالفة للعنصريات بالذات ، كما يجعل الفصل
الجنس مختلف الأنواع بالذات ، وكذلك السطح. والخط المستقيم عندهم مغاير للمستدير
بالنوع.
سلّمنا ، كونه
طبيعة نوعية ، لكن لا نسلّم أنّ الحلول والتجرّد من الأعراض
__________________
اللازمة لماهية ما
يعرضان له ، فإنّه المتنازع ، ولو سلّمنا وجوب حلول المقدار في محل قائم بذاته غير
موجود في موضوع ، فلم قلتم إنّه يجب أن يكون حينئذ حالّا في المادة؟!
المسألة الثانية : في تحقيق كون المقدار تعليميّا
اعلم أنّ أنواع
المقدار المتصل ذي الوضع ، ثلاثة ؛ لأنّ المقدار لا بدّ فيه من الانقسام ، فخرجت النقطة ـ التي
هي شيء غير منقسم ـ عنه ، وبقي ما ينقسم في جهة واحدة وهو الخط ، وما ينقسم في
جهتين وهو السطح ، وما ينقسم في الثلاث وهو الجسم التعليمي. ولا يمكن الزيادة
عليها ، لأنّ الخطوط المتقاطعة على زوايا قائمة لا تزيد أبعادها عن الثلاثة.
ثمّ قد سبق أنّ
هذا المقدار لا يفارق المادة في الخارج عند أكثرهم ، ويمكن أن يفارقها في الذهن ، فإنّه يمكننا أن نعتبر مجرّد المقدار وإن لم نلتفت إلى
موادّه ككونه مقدارا لأرض أو لماء أو لهواء ، فإذا تخيّلنا الجسمية ـ التي هي
الأبعاد الثلاثة ـ من غير اعتبار شيء من المواد البتة ، ولا أحوالها ، كان ذلك المتخيّل هو الجسم التعليمي ،
لأنّه موضوع بعض علم الهندسة.
ثمّ [إنّ] تلك
الأبعاد الثلاثة المتخيّلة لا تتخيل ، ولا تحسّ إلّا جسما متناهيا ،
__________________
فتخيّلنا السطح
حينئذ ، لأنّه نهاية الجسم ، فإن تخيّلنا السطح من حيث هو ذو بعدين لا غير ، ولم
نعتبر كونه مصاحبا للجسم ولا لما يعرض له من الألوان وغيرها بالإطلاق كالخشونة والملاسة
وغيرهما ، كان هذا المتخيّل هو السطح التعليمي. فإن تخيّلنا السطح
متناهيا ونظرنا إلى نهايته من حيث هي ذو بعد واحد لا غير ، ولم نلتفت إلى أنّ ذلك
الخط يستصحب السطح ، ولا غيره من الأعراض القائمة به كالاستقامة وغيرها ، كان ذلك المتخيّل خطا تعليميا. وإذا تخيّلنا الخط
متناهيا تخيّلنا نهايته وهي النقطة ، فإذا نظرنا إليها من غير التفات إلى مصاحبة
الخط وغيره ، فقد جرّدنا النقطة في النظر والاعتبار ، فهذه المقادير إذا أخذت
مجرّدة في الذهن عما عداها كانت هي المقادير التعليمية ، لأنّها موضوع علم التعاليم.
واعلم أنّ أخذ
الجسم تعليميا يفارق أخذ السطح والخط كذلك ، لأنّ الجسم يمكن أخذه باعتبار أن لا
يكون معه شيء آخر كمادة وغيرها ، ويمكن أخذه لا باعتبار أن يكون معه شيء آخر ،
وبين الاعتبارين فرق ظاهر ، فإنّ الأوّل أخذ شيء بشرط أن لا يكون معه غيره ،
والثاني أخذ شيء لا بشرط أن يكون معه غيره. وأمّا السطح والخط فلا يمكن أخذهما
بالاعتبار الأوّل ، بل بالثاني لا غير ، فإنّه لا يمكن تخيّل السطح إلّا بشرط أن
يكون معه جسم ، لأنّه لا يمكن أن يتخيّل إلّا على وضع خاص ، ويتوهّم له جهتان ،
فيكون منقسما جسما لا سطحا وكذا الخط والنقطة.
__________________
المسألة الثالثة : في النقطة
وهي الجوهر الفرد
عند المتكلّمين ، وسيأتي البحث فيه.
وعند الأوائل
أنّها عرض قائم بالجسم هي طرف الخط ورسموها بأنّها شيء لا ينقسم بوجه ، ويجب تعيين
الشيء بذي الوضع. وإنّما لم ينقسم ؛ لأنّها نهاية الخط ، فلو انقسمت لكان الجزء
الأخير منها هو النهاية. ومن هنا نعرف أنّ الخط لا ينقسم في العرض ، والسطح لا
ينقسم في العمق. وإذا اجتمعت نقط متعددة لم يحصل منها خط ؛ لأنّ النقطة الوسطى إن
لاقت الطرفين بالاسر كان مداخلة ، فلم يحصل مقدار ولا خط ولا غيره ، وإن لاقتهما
لا بالاسر انقسمت ، فلا تكون كلّها هي النقطة.
وقد يقال على سبيل
التفهيم : إنّ النقطة بحركتها تفعل الخط ، وليس ذلك على وجه التحقيق ؛ لأنّ حركة
النقطة إنّما تكون على شيء من جسم أو سطح أو خط ، فتكون متأخرة عنه .
البحث الثاني عشر : في المكان
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في ماهيته
اختلف القائلون
بثبوته في الأعيان في ماهيته ، وضبط المذاهب فيه أن نقول :
__________________
المكان إمّا أن
يكون جوهرا ، أو عرضا ، فإن كان جوهرا ، فإمّا أن يكون قائما بذاته غنيا عن غيره
أو لا.
والأوّل هو البعد
المفطور الذي بين طرفي الإناء الخالي مثلا أو شبهه ، فإنّ بين غايات الإناء الحاوي
للماء أبعادا ثابتة تتعاقب عليها الأجسام ، مساو لما يملأ الإناء منها ، وكذا بين
الجدارين وشبههما. ثمّ منهم من جوّز خلو هذا البعد عن المتمكن ، ومنهم من منع. وإن افتقر إلى غيره فهو جزء الجسم إمّا
المادة أو الصورة. وإن كان عرضا ، فإمّا أن يكون عبارة عن أي سطح كان ، أو عن
السطح الباطن من الجسم الحاوي المساوي للسطح الظاهر من الجسم المحوي.
والأوّل
: مذهب مشهور عند
قدماء الحكماء ومتأخّريهم ، ومذهب المتكلّمين آئل إليه ؛ لأنّهم يجعلون المكان هو
الفراغ المتوهّم الذي يشغله المتمكّن بالحلول فيه ، وهو المعتمد عندي.
والثاني
: مذهب افلاطون فإنّه جعل المكان هو الهيولى ؛ لأنّ المكان هو الذي تتعاقب
عليه أشياء هي المتمكنات ، والمادة تتعاقب عليها أشياء هي الصور ، فكانا واحدا.
والثالث
: مذهب بعض القدماء
، فإنّ المكان محدود حاصر ، والصورة محدودة حاصرة .
وهذان المذهبان
باطلان ؛ لأنّ المكان يفارقه المتحرك بالحركة وينتقل عنه
__________________
وإليه ، وهو باق
في الحالين ، ولا شيء من الهيولى والصورة كذلك ؛ لاستحالة مفارقة الشيء جزئه مع
بقائه. ولأنّ المكان مطلوب بالحركة ، والهيولى والصورة لا تطلبان بالحركة ، وليس
الكائن الفاسد يطلب صورة لبطلانه عند مفارقة الأولى وحصول غيره. ولأنّ المركّب قد
ينسب إلى مادّته ، فيقال : باب خشبي وخاتم فضي ، والشيء لا ينسب إلى مكانه.
وأدلّتهم من موجبتين في الشكل الثاني ، فتكون عقيمة غير ناتجة.
وأمّا القائلون
بأنّ المكان هو السطح مطلقا فقد احتجّوا عليه ، بأنّ الفلك الحاوي متحرك ، وكلّ
متحرك فله مكان ، لكن ليس له سطح من حاو محيط به ، وإلّا لزم عدم تناهي الأجسام ، فلم يبق مكانه
إلّا سطح الفلك الذي تحته. ولأنّ كلّ جسم لا بدّ له من مكان ، والأبعاد متناهية ،
فلو لم يكن مكان الحاوي سطح المحوى كذبت الكلّية الصادقة.
وهو خطأ لمنع
الكبرى ، نعم المتحرك في الأين يجب أن يكون له مكان ، لكن حركة المحدد ليست في
الأين ، بل في الوضع. والمكان إن جعلناه البعد صدقت الكلّية على تقدير التناهي ،
لأنّ المحدّد في بعد وإن جعلناه السطح الحاوي ، لم يجب صدق الكلّية ، فإنّه لا
برهان عليها ، بل على نقيضها. ثمّ يقابل هذا المشهور لمشهور آخر ، وهو أنّ الناس
اتّفقوا على أنّ مكان الجسم الواحد واحد ، ولو جعلناه أيّ سطح كان ، لكان لكل ما
تحت المحدّد مكانان ، وهو محال.
فإذا بطلت هذه
الأقوال بقى المشهور أمران :
الأوّل : أن يكون
المكان هو البعد على ما اخترناه .
__________________
والثاني : السطح
الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوى.
فلنشرع في تحقيق
الحق منهما فنقول :
إنّ بعض من جعل
المكان هو البعد زعم أنّه ضروري ، وأنّ العلم به لا يفتقر إلى دليل ، ومنهم من
جعله كسبيا ، واستدل عليه بوجوه :
أ
: كون الجسم في
المكان ضروري ، وليس احتياجه إلى المكان لسطحه ، فإنّه عرض قائم به عندكم ، بل
لجسميته ، والمكان مساو للمتمكن عند العقلاء ، ومساو البعد بعد ، لكنّ أبعاد الجسم
ثلاثة ، وللمكان أبعاد ثلاثة ، وهو المطلوب.
ب
: إذا اختلطت
البسائط حصل نوع اشتباه بينها ، وإنّما يتميّز بعضها عن بعض برفع البعض إلى أن
يبقى واحد ، فحينئذ يحصل امتيازه عنها ، ولمّا كان المكان تتعاقب عليه المتمكنات ،
وجب أن يعتمد في امتيازه إلى رفعها كلّها ، فالباقي بعد ذلك الرفع يكون هو المكان
، ونحن إذا فرضنا خروج الماء من الإناء ، وعدم دخول الهواء فيه ، حكمنا بأنّ
الأبعاد التي كان الماء والهواء يداخلها باقية خالية عن مالئ ، فعرفنا أنّ المكان
هو البعد الباقي ، وأنّ ذلك البعد قد كان موجودا حال وجود المالئ فيه.
ج : لو كان المكان هو السطح الحاوي لزم الحكم بحركة ما هو ساكن
، وبسكون ما هو متحرك ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ المكان إذا كان هو السطح الحاوي ، يكون الحجر الواقف في الماء الجاري ، والطير
الواقف في الهواء ، متحركين ، لأنّهما تفارقان كلّ حال سطحا حاويا لهما ، ويرد
عليهما سطح آخر حاو ، والحركة عبارة عن انتقال الجسم
__________________
من مكان إلى مكان
، وقد حصل هذا المعنى فيهما ، فكانا متحركين مع أنّهما ساكنان بالضرورة ، وكلّ
سكون ففي مكان واحد ، فليس السطح ، فهو البعد الذي لا ينتقل ولا يتبدّل بوجه ، بل
يكون ثابتا ، وإنّما تحرك الجسم الحاوي له أو لا ، ويكون كلّ فلك محوي وكلّ كوكب ساكنا لملازمته السطح
الحاوي له ، والضرورة قاضية بحركة الشمس وسكون الحجر في الماء الجاري.
د
: من شأن المكان
الثبات والبقاء وعدم الحركة والزوال ، وهذا إنّما يتحقّق في البعد ، فإنّه لا يزول
ولا ينتقل عن موضعه ولا يتحرك البتة ، وأمّا نهايات المحيط فإنّها قد تتحرك بوجه
ما وتزول.
ه : الناس يصفون المكان بالخلو والفراغ تارة ، وبالامتلاء أخرى
، ولا يصفون السطوح بذلك ، فتغايرا.
و : لو جعلنا المكان هو السطح المماس لسطح المتمكن لم يكن
لأجزاء المتمكن مكان ، ولو كان عبارة عن البعد كان لها مكان.
ز
: النار في حركتها
إلى فوق والأرض في حركتها إلى أسفل تطلب مكانا بكلّيتها ، ولا يطلب نهاية الجسم
الذي فوقه أو تحته ، فإنّ النهاية يستحيل أن يلاقيها جسم ، فالمطلوب هو البعد على
الترتيب.
اعترض على أ : بانّكم إن
عنيتم بكون الجسم مقتضيا للمكان ، أنّه بجسميته يصحّ أن يحيط به جسم آخر فذلك
مسلّم ، ولا يلزم منه مقصودكم ،
__________________
وإن عنيتم به أنّ
كلّ بعد من جسميته يقتضي بعدا يكون فيه ، فهو مصادرة على المطلوب الأوّل.
وفيه نظر ، لأنّ
الأوّل غير ممكن الإرادة ، وإلّا لزم أن يكون كلّ جسم كذلك ، فالمحيط له محيط ،
ويلزم عدم تناهي الأبعاد ، وهو محال. بل المراد المعنى الثاني ، وليس مصادرة على
المطلوب الأوّل ، بل هو حكم ضروري يشهد به العقل ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ أبعاد
الجسم مساوية للأبعاد التي داخلها الجسم.
وعلى ب : بأنّه
يلزم ممّا فرضتموه وجود البعد ، ولكنّ الذي فرضتموه محال عندنا ، واللازم عن
المحال لا يجب أن يكون صحيحا ، بل يجوز أن يكون محالا.
وفيه نظر ، لأنّ
المحال لم يلزم من فرضنا ، بل من الخلاء ، لا من إثبات البعد ؛ لأنّ العقل حاكم
بثبوته ، أقصى ما في الباب أنّكم تدّعون وجوب انتفاء الخلاء ، ونحن ننازعكم فيه
على ما يأتي ، ولكنّ ذلك لا مدخل له في إثبات البعد ونفيه.
وعلى ج : إن عنيتم
بسكون الطير في الهواء ، عدم تبدّل نسبته إلى الأمور الثابتة ، فهو ساكن بهذا
المعنى ، لكن لم قلتم إنّ السكون بهذا المعنى يقتضي الاستقرار في مكان واحد؟! وإن عنى بالسكون نفس الاستقرار في مكان
واحد ، فهذا الجسم ليس بساكن.
ثمّ المتحرك إن
عنى به ما يكون مبدأ المفارقة للأمور الثابتة فيه من ذاته أو من غيره ، فهذا
متحرك. وإن عنى به ما يكون مبدأ المفارقة من ذاته ، فهذا ليس بمتحرك ولا ساكن ،
ولا امتناع في ذلك ، فإنّ الجسم في الآن ليس بمتحرك ولا ساكن.
وفيه نظر ، فإنّ
كلّ عاقل يجزم بسكون الطير في الهواء ، والحجر في الماء ، وإن
__________________
استبدلا سطوحا بعد
سطوح على التعاقب ، والسكون هو حصول الجسم في مكان واحد أزيد من زمان واحد ، أو
عدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرك ، مع أنّ الحركة تستلزم تعاقب الأمكنة على
التساوي ، فلمّا كان هذا الجسم ساكنا ، وكلّ ساكن فإنّه يحفظ مكانا واحدا ، وهذا لا يحفظ سطحا واحدا ، جزم العقل بالمغايرة بين
المكان والسطح.
وعلى د : إنّ
المكان من شأنه أن لا يتحرك بذاته ، لا أنّه لا يتحرك مطلقا ، فإنّ عدم حركته
بالعرض غير مشهور ولا مسلّم ، كيف والمشهور بين الناس أنّ الجرّة مكان للماء
وأنّها تتحرك؟!
وفيه نظر ، فإنّه
من المشهور أنّ المكان لا يتحرك ، لا بالذات ولا بالعرض ، وإلّا وجب أن يكون له
مكان ، لأنّ كلّ متحرك سواء كان بالذات أو بالعرض فله مكان ، والجرة ليست مكانا
اتفاقا ، بل إمّا البعد الذي احتوت عليه ، أو السطح الباطن منها ، لكنّ السطح
منتقل بانتقالها بخلاف البعد ، فكان جعله في المشهور مكانا أولى من جعل السطح.
وعلى ه : بأنّ
الأمور المبنيّة على العرف والعادات ، لا يصحّ التعويل عليها في العقليات ، مع أنّ
الناس لا يمتنعون من أن يقولوا : إنّ البسيط الذي هو داخل الجرة مملوء وفارغ.
وفيه نظر ، لأنّ
احتياج الجسم إلى المكان أمر حاصل عند فطرة العقل ، ولا شكّ في أنّ العقل يقسّم المكان إلى حالتي الخلو
والامتلاء ويجزم به جزما ضروريا ، فليس مستندا إلى عرف أو عادة يمكن تغييرهما ولا
يكون لهما
__________________
أصل عقليّ ، ووصف البسيط بالخلو والامتلاء باعتبار الأبعاد التي
اشتمل عليها.
وعلى و : أيّ
برهان قام على أنّ لكلّ جسم مكانا ، حتى يحصل لأجزاء البعد مكان؟! بل لها وضع ،
والفلك الأقصى له وضع وحركة فيه ، فأمّا أنّ لكل جسم مكانا لا محالة ، فذلك ممّا
لم يثبت البتة ، وإذا لم يثبت لم يلزمنا الحكم بأنّ المكان هو البعد لا غير.
وفيه نظر ، لأنّا
ندّعي أنّ افتقار كلّ جسم إلى مكان بالمعنى الذي ذكرناه ـ وهو البعد ـ ضروري ،
فإنّ الضرورة قاضية بأنّ للجسم أبعادا ثلاثة ، وأن مطابق الأبعاد مساو لها.
وعلى ز : بأنّ طلب
النهاية على وجهين :
الأوّل : هو أن
يطلب الحجم أن يدخل في نفس السطح ، وذلك محال.
الثاني : أن يطلب
أن يلاقيه الآخر ملاقاة المحيط المحاط ، وهذا المعنى يتحقّق مع القول بجعل النهاية
مكانا.
وفيه نظر ، فإنّ
النار كما تطلب القرب من المحيط كذلك كلّ جزء منها ، فيكون المطلوب هو البعد خاصة.
احتج القائلون
بأنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي ، بأنّ للمكان خواص :
أ : أن يكون الجسم
فيه.
ب : أنّه لا يسع غيره معه.
ج : أنّه يفارق
بالحركة.
د : أنّه يقبل
المنتقلات.
__________________
ثمّ قد يقال لما
يستقر عليه الجسم ويمنعه من النزول : إنّه مكان ، ولمّا تأملوا الجسم الأسفل عرفوا
أنّه بأجمعه ليس مكانا للأعلى ، إذ لو عدم الجسم ولم يبق إلّا سطحه الحاوي لكان هو
المكان ، لأنّ الأعلى يمكنه أن يستقر عليه ويمنعه من النزول.
ثمّ إنّهم يجعلون
للسهم النافذ في الهواء مكانا ، وللطير الواقف في الجو مكانا ، وليس تحتهما ما
يمنعهما من النزول ، فيحصل من أقوالهم أنّ المكان هو السطح المماس الحاوي لوجود
الأمارات الأربع المتفق عليها بين الجماهير فيه ، فإنّ الجسم يحصل فيه ، ولا يسع
معه غيره ، ويفارقه المتحرك بالحركة ، ويقبل المنتقلات. وأيضا القول بأنّ المكان
هو البعد محال ، فيكون هو السطح ، إذ لا يعقل غيرهما. وبيان الأوّل من وجوه :
الأوّل
: لو كان المكان هو
البعد لزم التداخل ، أو حلول المعدوم في المعدوم ، أو حلول المعدوم في الموجود ،
أو بالعكس ، أو مساواة الكل للجزء في المقدار. والأقسام بأسرها باطلة بالضرورة ،
فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ المكان لو كان هو البعد لكان مغايرا لبعد الجسم المتمكن بالضرورة ، فإذا حلّ
فيه فإمّا أن يبقى البعدان كما كانا متميزين ، فيكون الكلّ مساويا لجزئه في
المقدار ، ضرورة عدم اتّساع الإناء بعد حلول الماء فيه ، وعدم زيادة مقدار الماء
باعتبار حلوله في الإناء ، وإن لم يبقيا متميزين لزم التداخل. وإن حصل العدم ، فإن
عدما معا لزم حلول المعدوم في المعدوم ، وإن عدم المتمكن لزم حلول المعدوم في
الموجود ، وإن عدم المكان لزم العكس.
الثاني : لو كان المكان هو البعد لزم اجتماع بعدين متماثلي الماهية
في مادة
__________________
واحدة ، فلا يحصل
الامتياز بينهما بالذاتيات ولا باللوازم ، لتساويهما في الماهيّة ولوازمها ، ولا
بالعوارض لتساوي نسبتها إليهما ؛ لأنّ المثلين إذا حلّا في مادة
واحدة ، لم يكن أحدهما بعروض العارض له أولى من الآخر ، فإمّا أن يكون عارضا لهما
، أو لا يعرض لشيء منهما ، وعلى التقديرين يرتفع الامتياز والاثنينية والتعدّد ،
ويلزم من ذلك ما تقدّم من المحالات.
لا يقال ، يمتاز
أحدهما عن الآخر بكون أحدهما حالّا في الجسم ، والآخر محلّا له.
لأنّا نقول :
إنّهما مثلان ، فتخصيص أحدهما بالحاليّة والآخر بالمحلّية ترجيح من غير مرجح.
الثالث
: البعد الشخصي هو
البعد المشار إليه بين طرفي هذا الإناء ، أو بين هذين الجدارين مثلا ، فلو كان
المكان هو البعد ، مع أنّ للمتمكن بعدا آخر لاجتمع بين طرفي الإناء بعدان ، مع أنّ
البعد المشار إليه الشخصي ليس إلّا بعدا واحدا ، وذلك يفضي إلى الشك في المحسوسات في
أنّ الواحد منها هل هو واحد أم أكثر؟ بل جوّز العقل أن يكون أكثر من بعدين وثلاثة
، وإلى ما لا يتناهى ، وهذا معلوم البطلان بالضرورة ، فإذن ليس بين طرفي الإناء
إلّا بعد المتمكن.
لا يقال : إنّما
حكمنا بتعدّد البعد بين طرفي الإناء ، لأنّا قدّرنا خروج المتمكن منه ، وعدم دخول
آخر ، ثمّ وجدنا بعد ذلك بعدا فارغا فحكمنا بوجوده حال خلوه عن بعد المتمكن ، فإذا
فرضنا وجود المتمكن فيه علمنا أنّه قد اجتمع بعدان ، بخلاف غيره من الأشخاص ، فإنّ
المحسوس من الجسم الواحد ليس إلّا الواحد ، فلا يلزم تشكك العقل في أنّ هذا
الإنسان واحد أو اثنان؟ ولا البعد ثلاثة
__________________
أو أزيد؟
لأنّا نقول : فرض
خروج الماء وعدم دخول جسم آخر فيه فرض لوجود الخلاء ، وهو محال ، فيكون المبنيّ
عليه محالا ، ولو فرضنا إمكانه ، لكن استفدنا منه أنّ الواحد في الماهيّة وفي
الإشارة الحسية ، قد لا يكون واحدا بالشخص ، بل كثيرا به. وإذا جوّزنا ذلك ، وثبت
أنّ هذا الطريق لم يوجد في الإنسان المشار إليه ، ولكن مع ذلك لا يمكننا القطع
بكونه إنسانا واحدا ، لإمكان وجود طريق آخر يقتضي ما اقتضاه الأوّل من كثرة
الإنسان الواحد وتعدّده بالشخص كما في البعد ، وإن لم يعلم ذلك الطريق ، فيلزم
ممّا قالوه الشك في وحدة جميع الأشخاص.
الرابع
: من المعلوم
بالضرورة امتناع تداخل الأجسام ، والمعنيّ من امتناع تداخلها وجوب تباينها في
الأحياز ، بحيث يكون حيّز كلّ واحد منها يباين حيّز الآخر ويغايره ، والضرورة
قاضية بإسناد هذا الحكم في الأجسام إلى الشيء الذي له بذاته حصول في الحيّز والجهة
؛ لأنّ ما عداه من الصور والأعراض لا مدخل له في هذا الامتناع ، لأنّ ما لا يكون
بذاته حاصلا في الحيّز استحال أن يقتضي أن يكون بذاته حاصلا في جهة غير جهة شيء
آخر ، ومعلوم أنّ الذي لذاته يقتضي الحصول في الحيّز ، إنّما هو المقدار ، فإنّ
الهيولى متجرّدة في ذاتها عن الوضع والمكان ، وإنّما يعرض لها ذلك بواسطة المقدار
، والصورة أيضا لا مدخل لها في ذلك ، إذ لا مقدار لها حتى يمانع الداخل في المكان
، وليست في ذاتها شاغلة للحيّز ، ولأنّ الجسم قد يزداد مكانه لازدياد مقداره
بواسطة التخلخل ، وينقص مكانه لنقص مقداره بواسطة التكاثف ، مع بقاء الصورة
الجسمية في الأحوال كلّها. وكذا الصورة النوعية وجميع الأعراض لا حظّ لها في شغل
الحيّز ولا ممانعة الغير فيه بالذات ، بل الشاغل بالذات الممانع للغير فيه ليس
إلّا المقدار ، فامتناع المداخلة إنّما حصل بالذات للمقدار ، وبالعرض لغيره.
الخامس
: الضرورة قاضية
بأنّ مجموع البعدين أكثر من واحد ، وأنّ الكثرة في البعدين توجب زيادة العظم ،
لأنّ زيادة المقدار على المقدار يقتضي الزيادة في العظم ، ولا شك في أنّ الجسم
الداخل في الإناء كان له مقدار متفرد عن المقدار الذي أثبتّموه بين طرفي الإناء ،
فلو كان هناك مقدار آخر ، لكانا أعظم من الواحد ، ومعلوم أنّه ليس كذلك ، لأنّ مجموعهما
هو الذي بين النهايات ، وهو بعينه قدر كلّ واحد منهما.
اعترض بأنّ
البعدين إنّما يكونان أعظم من الواحد لو لم يتداخلا ، أمّا على تقدير التداخل فلا
، لأنّ الإشارة حينئذ إلى أحدهما تكون بعينها الإشارة إلى الآخر ، وإذا لم يتداخلا
تكون الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى الآخر ، فيحصل العظم حينئذ ، لكن نمنع
عدم حصول التداخل ، وليس النزاع إلّا فيه.
فالحاصل أنّه لا
يمكن أن يكون مجموع البعدين أعظم من البعد الواحد إلّا بعد بيان امتناع تداخلهما ،
ولو بيّنا امتناع تداخلهما بوجوب كون مجموعهما أعظم من كلّ واحد منهما لزم الدور.
والجواب
عن الأوّل
:
بأنّ الأمارات
المذكورة المشهورة عند جماهير القوم ، وهي الأربعة السابقة ، موجودة في البعد الذي
ادّعيناه ، فإنّه يصدق عليه بالحقيقة أنّ الجسم فيه بجملته وأجزائه ، فهو أحق
بالمطّرد فيه من كونه في السطح. وكذا أنّه لا يسع معه غيره ، فإنّ
البعد أولى ، فإنّا لو فرضنا جسما مملوءا من رمل ، ثمّ أفضنا عليه ماء وسعه السطح دون البعد. وكذا قبوله للمنتقلات ،
لثباته ، وإمكان توارد المتمكنات عليه وعدم حركته وانتقاله ، بخلاف السطح المنتقل
__________________
المتبدل ، مع
أنّهم لا يصفون السطح بقبوله للمنتقلات ، كيف والسطح عرض غير مستقل بالقيام بذاته.
وكذا أنّه يفارق بالحركة ، فإنّه للبعد الذي يفارقه المتمكن مع ثباته أولى من
السطح الذي يتحرك وينتقل بانتقال محله ، وجعل المكان لما يستقر عليه ، ويمنعه من
النزول لا يتأتى في السطح أيضا.
وعن
الثاني : أنّه لا يلزم من
بطلان كون المكان هو البعد جعل المكان سطحا ، لجواز أن يكون أمرا مغايرا لهما ،
لازما لأحدهما أو غير لازم ، والتداخل إنّما يحكم بامتناعه بين المقادير الحالّة
في المواد ، لا مجرد البعد الذي ليس في مادة ، فإنّه لا يمانع غيره ، إذ ليس إلّا
فراغا متوهما.
وعن
الثالث : بأنّ البعدين
المذكورين يتّحدان ويتداخلان ، على أنّ أحدهما ليس على ما يقولون ، من أنّه كمّ
متّصل متحقّق في الخارج ، بل هو فراغ متوهّم يحصل له التقدير بالعرض ، على معنى أنّا لو فرضنا فيه تعاقب جسمين متفاوتين
قدر التفاوت باعتبار تفاوتهما ، لا أنّه في نفسه شيء متحقّق يختلف باختلاف
المقادير ، وحينئذ يتميّزان بذاتيهما وحقيقتيهما ، وإن تشاركا في اعتبار قبول
التقدير ، لكنّه في أحدهما حقيقي دون الآخر.
وعن
الرابع : أنّا نسلّم وحدة
البعد المشار إليه بين طرفي الإناء ، وبين الجدارين ، لكن بعد الجسم إذا حلّ فيه
لم يلزم تعدّده ، لأنّهما يتّحدان ويتداخلان ، وتجويز تعدّد الأشخاص باعتبار تعدّد
البعد تجويز للسفسطة ، فإنّ الضرورة حكمت بتعدّد الشخصين دون البعدين المتحدين ،
وفرض الخلاء وإن كان محالا ، لكن لا يستلزم رفع البعد بين طرفي الإناء ، لأنّه أمر
محسوس.
__________________
وعن
الخامس : بأنّ المقتضي
لامتناع التداخل ليس إلّا المقدار الحالّ في المادة بحيث يكون مفتقرا إلى بعد يحلّ
فيه ، ولا تداخل غيره ممّا هو حالّ في المادة فيه ، لا مطلق المقدار المجرّد أو
الفراغ المتوهّم ، إذ لا ممانعة فيهما.
وعن
السادس : أنّ الزيادة في
العظم إنّما تحصل في الأبعاد الحالّة في المواد المتغايرة أو المنسوبة إليها
لامتناع التداخل فيها ، أمّا الأبعاد الخالية أو الفراغ المتوهم فلا يحصل فيها هذا
الحكم ، لإمكان تداخل غيرها معها.
المسألة الثانية : في إثباته
اعلم : أنّ كثيرا
من الأشياء الثابتة عينا أو المعدومة ، قد يعلم ببعض عوارضه ، ويكون مجهولا
باعتبار ماهيته ووجوده ، فيصحّ طلب الماهيّة وطلب الوجود أيضا ، والمكان من هذا
القبيل ، فإنّه من المشهور عند الجمهور الخواص التي له ، وإن اختلفوا في وجوده
وماهيته.
وقد قدّمنا بيان
حقيقته ، فلنشرع الآن في بيان وجوده ، فنقول :
من المعلوم أنّ
الخواص التي حكم العقلاء بثبوتها للمكان لا يصحّ عروضها لمعدوم صرف ونفي محض ، بل
إنّما يعرض لشيء له تحقّق وتعيّن ، مع أنّ الضرورة قاضية بإثبات المكان المدّعى
ثبوته عند الكل. أمّا على البعد أو الفراغ المتوهّم ، فإنّ الفطرة شاهدة به ،
لقضاء العقل بثبوت فراغ متوهّم أو بعد ممتد من طرفي الإناء ، سواء حلّ فيه جسم
كالماء أو لا ، فإنكاره ضروري البطلان. وأمّا السطح فلأنّ الأجسام متناهية فالسطوح
ثابتة ، فلا وجه لادّعاء نفيه.
وأيضا الانتقال هو
التغير في الأين ، لوجود الانتقال مع عدم التغيّر في
__________________
الجوهر والكم
والكيف وغيرها ، وقد لا يوجد الانتقال عند حصول التغيّر في تلك الأمور ، فإذن
الانتقال تغيّر في الأين ، أي في نسبته إلى المكان ، وذلك يوجب وجود المكان. ولأنّ
الجسم يحضر ويغيب ، ثمّ يحضر غيره حيث هو ، وبالضرورة يحصل أمر مشترك بين المتعاقبين
، وليس غير المكان.
ولأنّ الضرورة
قاضية بوجود الفوق والسفل ، وذلك يقتضي وجود المكان.
واحتج منكروه
بوجوه :
أ
: لو كان موجودا
لكان إمّا جوهرا أو عرضا ، فإن كان جوهرا استحال أن يكون جسما ، لاحتياج كلّ جسم
إلى مكان ، فلو كان المكان جسما لافتقر إلى مكان آخر ، فيتسلسل أو يدور. ولأنّ
المكان يداخله المتمكن فلو كان جسما لزم تداخل جسمين وهو محال بالضرورة. ولأنّه
ليس من بسائط الأجسام ، ولا من مركّباتها ، لأنّه ليس شيء منهما يشار إليه أنّه هو
المكان. ويستحيل أن يكون جوهرا غير متحيّز ، لأنّ المطابقة واجبة بين المكان والمتمكن بحيث لا يفضل
أحدهما على الآخر في المقدار ، ولا يتصوّر ذلك بين الجسم والمجرد المعقول. ولأنّ
المكان مقصود بالإشارة الحسّية ، ولا شيء من الجواهر العقلية كذلك. ولأنّ الخواص
الأربعة المشهورة عند الجمهور منفية عن المجرّد ، فلا يكون هو المكان.
وإن كان عرضا
استحال أن يكون قائما بذاته ، بل لا بدّ له من محل يحلّ فيه ، فإن كان محلّه
المتمكن لزم انتقاله بانتقاله ، فتكون الحركة مع المكان ، لا منه ولا إليه ، وهو
محال. ولأنّ العرض يكون موجودا في المحل ، ولا يكون المحل موجودا فيه ، فلا يكون
الجسم موجودا في المكان ، ولاستلزامه الدور. ولا يجوز أن يكون قائما بغيره ،
__________________
وإلّا لاشتق لذلك
الغير منه اسم ، فكان المتمكن من قام به المكان لا من قام بالمكان ، فيكون المتمكن
هو الحاوي لا المحوي. ولأنّ المساواة منتفية بين الجسم والعرض ، والمكان مساو ، والعرض ليس بمساو ، فلا
يكون المكان عرضا. ولأنّ الجسم لا يعقل وجوده إلّا في مكان ، فله سبق وتقدّم عليه
، فلو كان عرضا لزم أن يكون العرض أقدم في الاختراع من الجسم ، وهو محال لتأخّره
عنه. وإذا بطل أن يكون المكان جوهرا وبطل أن يكون عرضا استحال تحقّقه في الأعيان.
ب : لو افتقر كلّ متحرك إلى المكان لكان المكان : إمّا أن يكون
محتاجا إلى الحركة ، وهو باطل لوجود المكان مع عدم الحركة في الذهن والخارج معا ،
ولأنّ الحركة عبارة عن الانتقال من مكان إلى مكان فماهيتها مسبوقة بالمكان وتحقّقه
، فلا يجوز أن يحتاج في تحقّقه إلى الحركة المتأخرة عنه ، وإلّا دار.
وإمّا أن تكون
الحركة محتاجة إلى المكان ، فيجب أن يكون المكان إحدى علل الحركة ، لأن كلّ ما يحتاج إليه الشيء فانّه يكون علّة له ، ولكنّ
المكان ليس علّة فاعلية للحركة ؛ لأنّه لا يلزم من وجود المكان بالفعل وجود الحركة
، ولأنّ كلّ حركة فإنّها مستندة إلى علّة فاعلية غير المكان. وليس علّة مادية ؛
لأنّ مادة الحركة هي المتحرك لا المكان ، لأنّ الحركة إنّما تحلّ المتحرك. وليس
علّة صورية ، لأنّ المكان ليس هيئة وصورة للحركة ، ولأنّه قد يوجد بالفعل من دون
الحركة ، والصورة يجب مقارنتها لذي الصورة زمانا. ولا علّة غائية ، لأنّ الغاية
إنّما يجب وجودها في الأعيان عند الوصول إلى الغاية ، والمكان يجب حصوله قبل
الوصول إلى الغاية ؛ ولأنّ المكان لو كان كما لا يشتاق إليه المتحرك ، لكان من
كمالات الإنسان أن يحصل في أمكنة يشتاق إليها ؛ ولأنّ الكمال منه خاص هو الجزء
__________________
الصوري للشيء ،
ومنه مشترك بين الشيء وغيره ، وليس المكان صورة للمتحرك ولا للحركة، وليس مشتركا ؛
لأنّه خاص بالمتمكّن دون غيره.
ج : لو كان كلّ جسم في مكان لكانت الأجسام النامية في مكان ،
ويجب أن ينمو وأن يتحرك بحركتها ، فيكون لمكانها مكان آخر ويتسلسل إلى غير
النهاية.
د : لو كان الانتقال يوجب المكان للجسم المتحرك ، لكانت السطوح
والخطوط والنقط في أمكنة ، لأنّه قد يقع لها الحركة واستبدال القرب بالبعد ، كما
يقع للجسم ، لوجود العلّة فيها ، ولا مدخل لخصوصيّات المنتقلات ، لكنّ التالي باطل
؛ لأنّ المكان مساو للمتمكن ، ومساوي النقطة يجب أن يكون نقطة ، فمكان النقطة يجب أن
يكون نقطة ، ثمّ ليس إحدى النقطتين بأن تكون مكانا للأخرى أولى من العكس ،
لتساويهما في الماهية ، فتكون كلّ واحدة منهما مكانا للأخرى ، فتكون كلّ واحدة
منهما حالا في الأخرى ومحلّا له ، وهو محال.
ولأنّ كلّ ما له
مكان فإنّه يستحق مكانا طبيعيّا يقتضيه طباعه ، وله مكان غريب ، ويكون له ميل إلى
مكانه الطبيعي الملائم له ، وميل عن الغريب ، والميل هو الثقل والخفة ، فيكون
للنقطة ثقل وخفة ، وهو محال.
ولأنّ النقطة
والخط والسطح أمور عدمية ؛ لأنّها نهايات ، والنهاية عبارة عن فناء ذي النهاية
وعدمه ، فلا يعقل أن يكون مكانا ومحلّا للأشياء الثابتة في الأعيان ، ويستحيل أن
يكون لها أمكنة.
والجواب عن ـ أ ـ أن نقول إنّ المكان جوهر قائم بذاته هو البعد ،
وليس
__________________
بجسم ولا مجرّد ،
أو يكون عرضا قائما بغير المتمكن هو السطح الباطن ، على الخلاف.
وحديث الاشتقاق
راجع إلى بحث لفظي لا معنوي ، فلا يجوز ذكره في هذه المطالب العلمية. على أنّا
نمنع وجوب الاشتقاق ، فكثير من الأعراض قائمة بمحالّها ، ولم يشتق لها منها أسماء
كأنواع الروائح.
سلّمنا ، لكن نمنع
أنّ المتمكن مشتق من المكان ، بل من «التمكن» وهذا التمكن معنى ثابت للجسم المتمكن
في المكان لا للمكان.
سلّمنا اشتقاقه من
المكان ، لكن يجوز أن يقوم العرض بمحلّ ويشتق لغيره منه اسم كالقتل والضرب
الحالّين في المقتول والمضروب والاشتقاق للقاتل ، وكالعلم فإنّه حالّ في العالم ،
ويشتق منه اسم المعلوم.
والمساواة ثابتة
هاهنا ، إذ المراد منها مطابقة نهايات المتمكن لنهايات المكان ، والحاوي متناه وله
تقدم على المحوي بنهاياته ولوازمه.
وعن ـ ب ـ المنع
من حصر المحتاج إليه في العلل الأربع ، فإنّ الاثنين محتاج إلى الواحد ، وليس
الواحد فاعلا للاثنين ، ولا مادة له ، ولا صورة ، ولا غاية ، بل هذا نوع آخر من
التقدم يسمّى التقدم بالطبع ، فالحركة محتاجة إلى المكان ، إذ لا يمكن وجودها إلّا في
محل يتحرك على المكان.
وفي سند المنع نظر
، فإنّا نختار أنّ الواحد جزء مادة للاثنين ، أو جزء فاعل. نعم لو قيل بأنّ المكان
جزء مادة للحركة ، لاستحالة حلولها في غيره وغير المتمكن ، أمكن.
وعن ـ ج ـ أنّ
النامي يستبدل مكانا بعد مكان ، كما يستبدل مقدارا بعد
__________________
مقدار ، ولا
امتناع فيه ، ولا يلزم أن يتحرك المكان.
وعن ـ د ـ أنّه لا
يرد على القائل بكون المكان بعدا ، بل على القائل بأنّه السطح. ويمكن الجواب :
بأنّ الموجب
للمكان ليس مطلق الانتقال ، بل الانتقال الذي يكون بالذات لا بالعرض ، فانتقال
الشيء بالذات ـ وهو أن يفارق ما يحيط به مفارقة من ذاته لا بسبب لزومه للمفارق
بذاته ـ هو الموجب للمكان ، أو مفارقته لبعد يحلّ فيه بجملة أجزائه وأقطاره ، هو
المحوج إلى المكان ، والسطح والخط والنقطة ، لا استقلال لها في المفارقة ، بل يتبع
الجسم الذي هو محلها.
البحث الثالث عشر : في الخلاء
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في أنّه هل هو ثابت أم لا؟
اعلم أنّ الخلاء
يفسّر بأمرين :
أحدهما وجودي ، هو
عبارة عن الأبعاد الثلاثة التي إذا حلّت في المادة
__________________
حصل الجسم منهما ، وإن لم يحلّ فيها كان ذلك خلاء.
والثاني عدمي ،
وهو الفراغ المتوهم ، وهو عبارة عن وجود جسمين لا يتلاقيان ولا يكون بينهما ما
يلاقيهما ، وهي مسألة من الطبيعيات بحث المتكلمون عنها ليدفعوا شبه
الفلاسفة في المعاد ، وفي إمكان خلق عالم آخر.
وقد اختلف الناس
في ثبوت الخلاء ونفيه على التفسيرين ، فالمتكلمون على إثباته ، وهو مذهب جماعة من
الأوائل ، وباقي الأوائل على نفيه ، وهو قول أبي القاسم الكعبي.
لنا على ثبوت
الخلاء وجوه :
الوجه
الأوّل : لو كان العالم
ملاء لامتنعت الحركة على شيء من الأجسام في الأين ، والتالي باطل بالضرورة ، فإنّا
نشاهد الأجسام تتحرك وتنتقل من جهة إلى أخرى ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ الجسم لو انتقل فإمّا أن ينتقل إلى مكان مملوء أو فارغ ، فإن كان فارغا فهو المطلوب
، وإن كان مملوءا ، فإمّا أن يبقى الجسم المالئ للمكان المنتقل إليه على حاله أو
ينتقل ، فإن بقى لزم التداخل ، وهو باطل بالضرورة. وإن
__________________
انتقل فإمّا إلى
مكان الأوّل فيلزم الدور ؛ لأنّ حركة الجسم الأوّل إلى المكان الثاني تتوقف على
انتقال الجسم الثاني إلى المكان الأوّل ، ولكن انتقال الجسم الثاني إلى المكان
الأوّل يتوقف على فراغ المكان الأوّل بحركة الجسم الأوّل عنه إلى المكان الثاني
وأيضا لو أمكن أن يتحرك كلّ من الجسمين إلى مكان صاحبه ، لأمكن أن نأخذ كوزين
مملوءين من الماء ، فينتقل الماء من أحدهما إلى الآخر في حال انتقال الماء من
الكوز الآخر إلى الأوّل. وإمّا إلى مكان آخر ، وننقل الكلام إليه ، فيلزم حركة جميع الأفلاك والعناصر من
حركة البقة ، وهو ضروري البطلان.
الوجه
الثاني
:
إذا وضعنا سطحا
أملس على مثله ، بحيث يلاقي كلّ واحد من السطحين بجملة أجزائه جميع السطح الآخر
بجملة أجزائه ، وذلك ممكن بالضرورة ، ولأنّه لو لم يمكن تلاقي السطوح لزم الخلاء
وهو المطلوب ثمّ رفعنا أحد السطحين عن صاحبه دفعة ، ارتفعت جميع أجزائه ، إذ لو
بقى من أجزائه شيء ملاق للأسفل لم يرتفع لزم تفكك الأعلى ، لأنّ ارتفاع الجزء
الأوّل يقتضي حصوله في جهة فوق وبقاء الثاني على حاله يقتضي عدم مصاحبته له في
الارتفاع ، بل يبقى مماسا للأسفل كما كان أوّلا ، وهذا عين التفكّك.
وبهذا الوجه استدل
الأوائل على بطلان الجزء بوقوع التفكك في أجزاء الرحى ، حيث سكن الجزء القريب من
القطب ، ولم يفارق مكانه حال مفارقة الجزء القريب من المنطقة ، والتفكّك باطل
بالحسّ.
ولو سلّم قلنا :
اللامماسة من الأمور الآنية ، فالجسمان المفروضان كانا أوّلا متماسّين ، فإذا صارا
لا متماسّين ، فالذي صار لا مماسا دفعة ، إمّا أن يكون سطحا
__________________
منقسما ، أو غير
منقسم ، فإن كان منقسما فله جوانب وأطراف ، وقد ارتفع بجميع جوانبه وأطرافه دفعة
عما كان مماسّا له من السطح الأسفل ، فيثبت جواز ارتفاع السطح الأعلى بجملته عن
الأسفل ، وإن كان ذلك المرتفع غير منقسم ، لزم تركّب السطح من النقط وهو محال.
وإذا أمكن ارتفاع أحد السطحين عن صاحبه دفعة ، لزم وقوع الخلاء في وسطه ، لأنّه لو
كان بينهما جسم ، لكان :
إمّا سابقا على
الرفع بينهما فيلزم عدم تلاقيهما ، مع أنّا فرضناهما متلاقيين ، هذا خلف ؛ لأنّه
يلزم أن لا يكون بين جسمين مماسّة إلّا بثالث يتوسّطهما ، وننقل الكلام إلى الثالث
، فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأجسام حالة المماسّة بين المتماسّين. وهو ضروري
البطلان ، ومع ذلك فلا بدّ وأن يتلاقى منها جسمان ، وإلّا لم يكونا متلاقيين. فتلك
السطوح المتلاقية ليس بينها شيء ، وهو كاف في الغرض.
وإمّا أن يكون
حاصلا حال الرفع فنقول : ذلك المتوسّط إمّا أن ينتقل من مسامّ الأعلى والأسفل ، أو
من الجوانب. والأوّل باطل ، لأنّ الأجسام وإن اشتملت على مسامّ ومنافذ ، لكن بين
كلّ منفذين سطح متصل لا منفذ فيه ، وإلّا لم يكن في الجسم ذي الثقب سطح متّصل ،
فيكون ذلك الجسم عبارة عن جواهر أفراد متفرقة متبددة ، وذلك محال ؛ لامتناع وجود
الجوهر الفرد عندهم ، ولأنّه يلزم عدم الأجسام بالكلّية ، إذ الجسم هو الطويل
العريض العميق ، وليس شيء من النقط المتفرقة كذلك ، ولا جسم هنا غيرها. ولأنّ تلك
المنافذ إن كانت خالية ثبت المطلوب ، وإن كانت مملوءة ثبت انطباق جسم لا منافذ فيه
ـ وهو الحاصل من النقط المتفرقة ومن الأجزاء المالئة لتلك المنافذ ـ وهو المطلوب.
وإذا انتفت المنافذ استحال أن يقال : الهواء يدخل من المسام في ذلك الوسط.
وإمّا أن يدخل من
الجوانب ، فنقول : لا يمكن حصوله في الوسط إلّا بعد مروره بالجوانب ، لكنّ حال
مروره بالجوانب لا يمكن أن يكون في الوسط ؛
واحد منهما سبب
للآخر فهو باطل ، بل السبب في تحرك الثاني تحرك الأوّل ، وليس تحرك الثاني سببا
لتحرك الأوّل. وإن أرادوا به أنّ تحرك كلّ واحد منهما مع تحرك الآخر فجائز ، فإنّ
حركة الخاتم غير مفارقة لحركة الإصبع ، وإن كانت حركة الإصبع علّة لحركة الخاتم.
والفرق بين هذين وبين الكوزين ، أنّه إذا كان كلّ واحد من الكوزين مملوءا ماء ،
فعند انضمام فوهة كلّ واحد منهما على الآخر ، يتكافأ دفع كلّ واحد منهما للآخر ،
فلم يخرج شيء من الماء عن مكانه لتكافؤ الدفع وحصم جنبات الكوز لكلّ قطعة من الماء
من جانب من الكوز على الماء الذي في الكوز الآخر ، كان يمكن أن يخرج على جملة
الكوز. وأمّا إذا لم تنضم فوهة كلّ واحد من الكوزين على الآخر ،
وأملنا كلّ واحد منهما ، فإنّ الماء يخرج حالة ما نميله ويرسب في الهواء. فأمّا
الهواء الذي يتحرك فيه فليس كذلك ، لأنّه لا يجوز أن يرسب ، فلذلك يمكنه أن يتحرك
إلى المكان الذي كان فيه. ثمّ يدل على إمكان هذا القسم ، تحرك السمكة في الماء ،
فإنّ الماء يتحرك عن جنبها إلى مكانها.
والذي يقال من أنّ
في الماء خللا خالية ، فإذا تحركت السمكة اندفع الماء إلى ذلك الخلل فحصل المكان
للسمكة ، باطل.
أمّا أوّلا ،
فلأنّه لو كان كذلك لما انحدر الماء إلى مكان السمكة ؛ لأنّه لمّا وجد فيما يلي
مكان السمكة أماكن كثيرة غير المكان الذي كانت السمكة فيه ، فأيّ حاجة به إلى دخول
ذلك المكان؟
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ الماء لطيف سيّال ، فلما ذا لم يدخل تلك الخلل الخالية؟
والجواب عن الأوّل
: أنّه مبني على ثبوت المادة ، وسيأتي بيان بطلانه إن شاء
__________________
ويكون الوسط خاليا
، لامتناع دخول جسم فيه.
الوجه
الثامن : لو ملأنا زقّا
بجسم ثمّ شددنا رأسه ، ثمّ أدخلنا فيه مسلّة ، فإنّها تدخل فيه ، ولو لا وجود الخلاء بين أجزائه لامتنع
ذلك فيه.
الوجه
التاسع : إذا ملأنا إناء من
رماد وشبهه أمكننا أن نصب عليه الماء بقدر ما يملؤه ، فلو لا أنّ هناك خلاء لامتنع
ذلك.
الوجه
العاشر : أنّا قد نملأ دنّا
شرابا ، ثمّ نخرجه منه ونجعله في ظرف ، ثمّ ندخله في الدّن ، فإنّه يسعهما ،
فلو لا أن بين أجزاء الشراب خلاء انحصر فيه مقدار مساحة الظرف ، وإلّا لم يسعهما.
الوجه
الحادي عشر : لو فرضنا خطا من ستة أجزاء ، ثمّ رفعنا الأجزاء التي بين الطرفين ، فإن التقى
الطرفان في الحال لزم الطفرة ، وإن لم يلتقيا ثبت الخلاء.
الوجه
الثاني عشر : يصحّ أن يوجد الله تعالى السماء والأرض ولا هواء بينهما ، لأنّهما لا يحتاجان
إليه ، ولا يحتاج القديم تعالى في خلقهما إليه.
اعترض على
ـ الأوّل ـ بأنّ المتحرك يدفع
ما قدّامه من الهواء ، ويمتدّ ذلك إلى حيث لا يطبع فيه الهواء المتقدّم ، فيتكوّن
الموج من المندفع وعن المندفع ، ويضطر إلى قبول حجم أصغر ، وأمّا خلفه فيكون
بالعكس ، فيكون بعضه ينجذب معه وبعضه يعصي فلا ينجذب ، فيتخلخل ما بينهما إلى حجم
أكبر. وأيضا ينتقل الجسم إلى مكان الهواء عند انتقال الهواء إلى مكانه.
وقولهم تتوقف حركة
كلّ من الجسمين على حركة الآخر ، إن أرادوا به أنّ كلّ
__________________
لاستحالة حصول
الجسم الواحد في مكانين دفعة ، وإذا لم يكن في الوسط لزم خلوّ الوسط ، وهو
المطلوب.
الوجه
الثالث : الجسم إمّا أن يجب
فيه ملاقاة سطحه لسطح جسم آخر ، أو لا يجب ، فإن وجب لزم أن يكون كلّ سطح مماسّا
بسطح آخر ، فيلزم وجود أجسام لا نهاية لها ، وهو باطل. وإن لم يجب جاز أن يوجد جسم
لا يلقاه جسم آخر ، وذلك هو القول بالخلاء.
الوجه
الرابع : النامي إنّما
يتحقق فيه النمو لو نفذ فيه شيء ، فيكون ذلك النافذ ينفذ في الخلاء لا في الملاء.
الوجه
الخامس : نرى الأجسام
تتخلخل وتتكاثف من غير دخول شيء فيها أو خروجه عنها ، والتخلخل تباعد الأجزاء
بعضها عن بعض بحيث يصير ما بينها خاليا ، والتكاثف رجوع الأجزاء إلى الأجزاء الخالية.
الوجه
السادس : القارورة إذا كبت في الماء لم يدخل فيها شيء منه ، ولو مصّت مصّا
شديدا ، وختم رأسها ، ثمّ كبت فيه وأزيل الختم ، فإنّ الماء يدخلها ، ولو كان
الهواء بعد المص موجودا كما كان قبله ، وكانت مملوءة به أو بغيره كما كانت أوّلا ،
لم يفترق الحال فيها ، وكان لا يدخلها شيء بعده كما لا يدخل قبله.
الوجه
السابع : إذا أخذنا زقّا خاليا وألصقنا أحد جانبيه على الآخر بحيث لا يبقى بينهما
شيء من الهواء البتة ، ثمّ شددنا جوانبه شدا وثيقا وقيّرناه بما يمنع من نفوذ شيء من الهواء إليه ، ثمّ رفعنا أحد
طرفيه عن الآخر ، فإنّه يرتفع ،
__________________
الله تعالى ، وعلى
زيادة المقدار على الجسم ، وقد تقدم فساده.
وعن الثاني : فراغ
المكان المنتقل إليه شرط في حركة الجسم إليه ، والشرط مقدّم بالذات على المشروط ،
وإن قارنه بالزمان ، وحديث السمكة ضعيف ، لأنّ وجود الخلل بين أجزاء الماء ممكن
محتمل ، والدور الذي ذكرناه قطعي ، فلا يعارضه المحتمل.
وعلى
ـ الثاني ـ بارتفاع أحد
السطحين عند ارتفاع الآخر ، على ما يأتي من تلازم صفائح الأجسام.
والجواب : أنّه
باطل بالحسّ ، فإنّا نرفع الأجسام الصقيلة بعضها عن بعض ، فانّ فرض اختلاف السطحين
بالخشونة والملاسة ، واختلافهما بالوضع ، بحيث يكون في أحدهما ارتفاع بعض أجزائه
عن بعض ، وفي الآخر انخفاض.
قلنا : لا بدّ في
السطحين من سطوح ملس ، وإن كانت صغارا ، ومنها يحصل المطلوب.
وعلى
ـ الثالث ـ بجواز أن يكون
الجسم يقتضي أن يلقاه جسم آخر لا مطلقا ، حتى يلزم عدم تناهي الأجسام ، بل بشرط أن
يوجد جسم آخر خارج عنه.
وهو ضعيف ، إذ
العقل يشهد بعدم دخول هذا الشرط الذي ذكرتموه في الاقتضاء.
وعلى
ـ الرابع ـ بأنّ الغذاء لو
كان ينفذ في الخلاء لكان الحجم قبل الدخول وبعده متساويا ، وليس كذلك ، بل الغذاء
ينفذ بين الأجزاء المتماسة من الأعضاء ، بأن يبعد جزءا عن جزء ويسكن فيما بينهما.
وهو ضعيف ، وإلّا
لزم وقوع الألم لوجود سببه.
وعلى
ـ الخامس ـ بأنّ التخلخل
والتكاثف قد يكونان حقيقيّين بأن تتصف
المادة بمقدار
أكبر أو أصغر من غير انضياف شيء إليها ، أو انفصال شيء عنها وقد يكونان مشهوريين
بأن ينفصل منه شيء ، أو تندمج أجزاءه ، أو ينضاف إليه شيء من خارج ، أو تتنفش أجزاؤه ، وحينئذ يندفع الإشكال.
ويضعّف بأنّه مبني
على المادة ، وسيأتي إبطالها.
وعلى
ـ السادس ـ بأنّ العلّة لو
كانت خلو القارورة لما وجب صعود الماء إليها ، لأنّ الهواء الخارج قد وجد مكانا
فارغا في العالم ، وفراغ بعض القارورة أمر ممكن ، وليس من شأن الماء الصعود ، فلو
لا امتناع الخلاء لما صعد ، فهو يدل على الملاء لا على الخلاء.
وتحقيق الجواب :
أنّ المادة الواحدة قد تتصف بمقدار عظيم بعد صغير ، ولا بدّ وأن يكون أحدهما
طبيعيا والآخر قسريا ، كما في الكيفيات من كون بعض الأجسام يستحق بطبعه الحرارة
وبعضها البرودة ، فإذا خرج بعض الهواء من القارورة بالمصّ ، اكتسب الهواء الباقي
في القارورة مقدارا أكبر بالقسر ، خصوصا وحركة المصّ توجب السّخونة المقتضية
للتخلخل وعظم المقدار ، فلا يلزم الخلاء.
ولمّا كان هذا
المقدار قسريا كان في طبيعة الهواء اقتضاء العود إلى المقدار الأوّل الطبيعي ،
فإذا لقيه برد الماء تكاثف الهواء ، وعاد إلى مقداره الأوّل الطبيعي له ، فيتصاعد
الماء لضرورة الخلاء. ويدل على هذا التخلخل والتكاثف بالمعنى الحقيقي هنا ، أنّا
إذا جعلنا قارورة ضيّقة الرأس فنفخنا فيها ، ووضعنا الإصبع مع قطع النفخ سريعا على
فمها لئلا يخرج ما نفخنا فيها ، دخل هواء أزيد مما كان قبل
__________________
النفخ فيه ، لأنّا
متى غمسناها منكوسة والإصبع على فمها ، ثمّ رفعنا الإصبع يتبقبق الماء، ولو لم ينفخ فيها لم يتبقبق ، فهذا الهواء الذي
أدخلناه إن كان قد دخل في خلاء لم يخرج عن القارورة في الماء ولم يتبقبق ، فلما
خرج علمنا أنّها كانت مملوءة ، وأنّا لما أدخلنا الهواء الجديد فيها تكاثف الهواء
الذي كان فيها قسرا ، حتى حصل للداخل بالقسر مكان ، فلما زال القاسر خرج الهواء
الجديد ، وعاد الهواء الأوّل إلى مقداره الطبيعي.
والجواب : أنّه لا
يدلّ على نفي الخلاء لجواز أن يكون في الإناء قبل المصّ من الهواء شيء كثير بحيث
يمانع دخول الماء فيه ، للتعاند الواقع بين العناصر ، وإن كان فيه أجزاء خالية ،
وبعد المصّ يخرج من الهواء أكثره ، فلا يبقى للماء مانع من الدخول فيه ، ولا نسلّم
أنّ صعود الماء لامتناع الخلاء. ولبس المادة مقدارا بعد خلع آخر ، يتوقف على ثبوت
المادة وزيادة المقدار ، وهما ممنوعان. ولو كان للهواء مقدار طبيعي لوجب تشارك
الكلّ من الهواء والجزء منه فيه. ثمّ إنّ صعود الماء قسري وبقاء الهواء على القدر
الثاني قسري ، فلم كان أحدهما أولى؟!
وكثافة الهواء
بسبب البرد إن اقتضت عود الهواء إلى مقداره الطبيعي وجب الخلاء عند دخول أوّل جزء
من الماء لحصول البرد به . وإن اقتضت زوال الهواء عن مقداره القسري لم يكن حصول بعض
المقادير له أولى من غيره. وإن اقتضى طبعه حصول القدر المالى مطلقا ، فلم لا كان
ذلك قبل الدخول؟! ولأنّه يستلزم أولوية الاختصاص مع عدم سببها . ولأنّ مقتضى الطبيعة واحد ، والقدر المالئ غير واحد ،
لاختلافه بسبب اختلاف الخلاء. ولأنّه لو كان البرد موجبا لكثافة
__________________
الهواء بحيث يصغر
مقداره ، لوجب أن يختلف حال القارورة قبل المصّ بين وضعها على الماء الحار والبارد
، فإنّه في الثاني يحصل للهواء برد فيحصل له بسببه كثافة ، فيصغر مقداره ، فكان
يجب أن يصعد من الماء قدر ما يملؤه من غير مصّ وليس كذلك. وخروج الهواء الجديد من
القارورة التي نفخ فيها قسري ، وبقاء الهواء الذي كان أوّلا على المقدار الذي حصل
له بعد النفخ قسري ، فلم كان أحدهما أولى من الآخر بالزوال ، والآخر أولى بالبقاء؟
وعلى
ـ السابع ـ بالمنع من عدم رفع
أحد طرفيه عند ارتفاع الآخر ، اللهمّ إلّا إذا كان فيه مسامّ يسيرة جدا لا تحسّ
بها ، وينفذ قدر يسير من الهواء فيها ، حتى يدخل في الزق فيرتفع قدر يسير جدا.
والجواب : لو
امتنع ذلك في الزق لامتنع الرفع في كلّ سطح أملس وضع على مثله ، وقد تقدم.
وعلى
ـ الثامن ـ أنّ المسلّة إذا
دخلت خرج بعض الهواء من مسام الزق ومنافذه الغير المحسوسة ، أو ترتفع أطراف الزق
ارتفاعا يسيرا بقدر ما دخل من رأس المسلّة.
والجواب : أنّ
الهواء جسم واحد متصل بالذات عندكم ، لا جزء له بالفعل ، فلا أولوية لاختصاص بعض
الجوانب منه بالخروج من بعض.
وعلى
ـ التاسع ـ بأنّه كذب ، إذ لو
كان كذلك لكان الإناء كلّه خاليا لا رماد فيه.
والجواب : أنّا لا
ندعي نفوذ قدر الإناء من الماء بل نفوذ قدر كثير منه في الإناء ، وهو كاف في
المطلوب.
وعلى
ـ العاشر ـ بجواز أن يكون
المقدار الذي للزق لا يظهر تفاوته في
الحبّ حسّا. ويجوز
أن يكون الشراب ينعصر ، فيخرج منه بخار أو هواء فيصير أصغر. ويجوز أن يصغر بتكاثف
طبيعي أو قسري.
والجواب : أنّ هذه
كلّها أمور ظنية ، والتعويل على ما تقدم من البراهين.
واحتج النافون
بوجوه :
الوجه
الأوّل : الخلاء قابل
للتقدير والمساواة والمفاوتة ، وكلّ ما كان كذلك فهو أمر وجودي هو كمّ أو ذو كم.
أمّا الصغرى فلأنّ الجسمين غير المتلاقيين إذا خلا ما بينهما أمكننا أن نقيسه إلى
خلاء آخر بين جسمين آخرين ، وننسبه إليه بالمساواة والمفاوتة ، فإنّا نعلم
بالضرورة ، أنّ ما بين السماء والأرض أزيد ممّا بين طرفي الجدارين ، وما بين طرفي
الجدارين أقلّ ما بين السماء والأرض وأزيد ممّا بين طرفي الإناء ومساو لما بين
طرفي جدارين مساويين لهما في التباعد. وأنّ كلّ ذلك يقبل التقدير بالأذرع وشبهها.
وأنّ ما بين جسمين غير متلاقيين ، قد يكون بحيث يمتلئ بالذراع الواحد ، وقد يكون
بحيث يفضل عن الذراع ، وقد يكون بحيث لا يتسع للذراع الواحد ، والذي بين جسمين
آخرين قد يكون مخالفا لما بين الجسمين الأوّلين ، وقد يكون موافقا في احتمال
الأجسام العظيمة والصغيرة.
وليست هذه أحكام
وهمية كاذبة ، فإنّ اتساع ما بين الجسمين المفروضين تارة للذراع ، وتارة لما هو
أقل ، وتارة لما هو أكثر ، وفضل البعد بين السماء والأرض على البعد بين الجدارين
أمر حاصل في نفس الأمر واقع سواء فرضه فارض واعتبره معتبر أو لا. وقبول المساواة
والمفاوتة والتقدير من خواص الكم ، فبطل بهذا مذهب من يرى أنّ الخلاء عدم صرف ،
ونفي محض ، وفراغ متوهم.
__________________
ثمّ نشرع بعد ذلك
في إبطال المذهب الثاني فنقول :
قد ثبت أنّ الخلاء
يمكن مسحه وتقديره ، وهو من خواص الكم ، فإمّا أن يكون كمّا متصلا أو منفصلا.
والثاني باطل ؛ لأنّ المنفصل حصوله من الوحدات الغير القابلة للانقسام ، فكان
يستحيل أن يحلّ فيه الجسم القابل للانقسام أبدا. ولأنّ المنفصل غير ذي وضع ، ومكان
الجسم يجب أن يكون ذا وضع ، فهو كمّ متصل. فإمّا أن يكون كمّا متصلا بالذات أو بالعرض.
فإن كان كمّا
متصلا بالذات ، ولا شك أنّه ذو وضع ، فيستحيل أن يوجد إلّا في المادة لما مضى من
امتناع قيام المقدار بذاته مجردا عن المادة ، فيكون الخلاء جسما ، فلا يكون خلاء.
وإن كان متصلا
بالعرض ، فإمّا أن يكون الخلاء حالّا في المقدار ، أو المقدار حالّا في الخلاء ،
أو الخلاء والمقدار حالّين في ثالث ، فإن كان الأوّل كان الخلاء حالّا في المقدار
، والمقدار حالّ في المادة ، فيكون ملاء لا خلاء ، وكذا الثالث. وإن كان الثاني كان
الخلاء جسما ، لأنّه لا معنى للجسم إلّا الذي فيه قابلية الأبعاد ، فيكون الخلاء
ملاء. ولأنّ الخلاء لو حصل فيه الجسم لزم اجتماع مقدارين متماثلين في الماهية في
مادة واحدة ، واجتماع المثلين محال. ولأنّ المانع من التداخل هو المقدار ، فلو كان
الخلاء مقدارا منع دخول الأجسام فيه.
الوجه
الثاني : الأبعاد متناهية
على ما تقدم ، وكلّ متناه فله حدّ واحد يحيط به كالكرة ، أو حدود تحيط به
كالمثلثات وما عداها ، وكلّ ما له حدّ أو حدود محيطة
__________________
به ، فإنّه يكون
مشكلا ، على معنى أنّ له هيئة إحاطة الحدّ أو الحدود به ، فلو كان الخلاء بعدا
مجردا لكان متناهيا ذا شكل ، فالشكل إن حصل للمقدار لذاته لزم تساوي الكلّ والجزء
فيه ، لتساويهما في الطبيعة والحقيقة ، وكلّ متساويين في الحقيقة يجب تساويهما في
اللوازم ، فكان شكل الكل والجزء واحدا ، فلا يكون الكلّ كلّا ، ولا الجزء جزءا.
ولأنّه لو ساوى الجزء الكلّ في الشكل كان شكل الكلّ لا لذاته ، فيصحّ توارد
الأشكال عليه ، وكلّ ما كان كذلك كان جسما ، فالخلاء جسم ، هذا خلف.
وإن حصل الشكل
للمقدار بسبب فاعل ، كان المقدار الواحد الجسماني مستقلا بقبول الفصل والوصل
والتمدد ، لأنّ قبول الشكل إنّما يكون بواسطة ذلك ، لكنّ ذلك محال ، لأنّ المقدار
إنّما يوجد في المادة. فتعيّن أن يكون ذلك الشكل حصل للمقدار بواسطة المادة ، فذلك
المقدار مادّي ، والمادة الموصوفة بالمقدار تكون جسما ، فالخلاء جسم ، هذا خلف.
ولأنّ الشكل إذا لم يكن للمقدار لذاته صحّ عليه توارد الأشكال المختلفة ، وكلّ ما
صحّ عليه توارد الأشكال المختلفة يكون جسما ، فيكون الخلاء جسما ، وهو محال.
الوجه
الثالث : لو كان الجسم
حاصلا في الخلاء استحال أن يكون متحركا فيه بالطبع وبالقسر وبالإرادة ، أو ساكنا ، والتالي باطل بالضرورة فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ الخلاء إمّا أن يكون متشابه الأجزاء أو لا يكون. والثاني محال ، لأنّ مخالفة
جزء منه لجزء آخر منه ، إمّا أن يكون لازما لذلك الجزء لذاته وماهيته فيلزم اختلاف
المتساويات في الماهية بالماهية ، وهو ضروري البطلان ؛ لأنّ
__________________
الخلاء إن كان
عبارة عن عدم الأجسام استحال أن يكون فيه مخالفة ، بل استحال أن يكون فيه جزء
مغاير لجزء ، بل لا جزء فيه البتة. وإن كان عبارة عن الأبعاد المفارقة ، لم يعقل
فيه اختلاف البتة في نفس هذا المفهوم. أو يكون لازما لأمر يحلّ فيه ، وهو باطل ؛
لأنّ ذلك الحالّ إن كان لازما لذلك الجزء من الخلاء فهو باطل ؛ لأنّ لوازم
الماهية مشتركة بين أفرادها ، فلو لزم جزءا من الخلاء لازم ، كان لازما لكلّ جزء ،
ولا يقع اختلاف بين جزء وجزء فيه ، وإن لم يكن لازما لم يكن التخالف بسببه لازما.
أو لأمر يحلّ فيه ، وهو محال ؛ لأنّ الخلاء حينئذ يكون ملاء.
وإمّا أن لا يكون
وجه المخالفة لازما البتة ، فيمكن زواله ، فيحصل التساوي بين أجزاء الخلاء. فتعيّن
الأوّل ، وهو التساوي بين الأجزاء المفروضة في الخلاء.
وإذا ثبت تساوي
أجزاء الخلاء امتنع أن يكون بعضها مكانا طبيعيا للجسم ، وبعضها غير طبيعي ،
فاستحال أن يكون بعضها مطلوبا بالطبع ، وبعضها مهروبا عنه بالطبع ، لاستحالة أن
يكون أحد المثلين مطلوبا بالطبع والآخر مهروبا عنه بالطبع ، فلا يكون متحركا بالطبع ، ولا ساكنا بالطبع ، لأنّه لا مكان طبيعي
له يتخصص به من دون باقي الأمكنة ، لتساوي أجزاء الخلاء في الحقيقة.
ولا يكون له أيضا
حركة إراديّة ، ولا سكون إرادي ، لاستحالة أن تختص الإرادة لأحد المثلين بحكم دون
الثاني. ويستحيل أن تكون له حركة قسرية أيضا ، لأنّ القسر على خلاف الطبع ، وإذا
انتفى الميل الطبيعي انتفى الميل القسري.
الوجه
الرابع
:
لو كان الخلاء
موجودا لكانت الحركة مع العائق أسرع منها مع غير العائق ، والتالي باطل بالضرورة ،
فالمقدم مثله.
__________________
وبيان الشرطية :
أنّ الحركة في المسافة المملوءة بالعائق مختلفة باختلاف ذلك العائق في الرقة
والغلظ وسهولة القطع وصعوبته. والمشاهدة تقتضي ذلك ، فإنّا نعلم قطعا أنّ المسافة
إذا كانت مشغولة بالمعاوق الثخين ، فإنّ الحركة فيه تكون في زمان أطول من زمان
الحركة لو كان العائق رقيقا. فنسبة رقة العائق إلى غلظه ، كنسبة قصر زمان الحركة
في الرقيق إلى زمانها في الغليظ ، فكلما كان العائق أرق كان الزمان أقصر والحركة
أسرع ، وكلما كان أغلظ كان الزمان أطول والحركة أبطأ. فسرعة الحركة وقصر الزمان في
مقابلة الرقة ، وبطؤها وطول الزمان في مقابلة الغلظ.
إذا تقرر هذا
فنقول : لنفرض متحركا تحرك مسافة معينة بقوّة معينة ذات ملاء أغلظ في عشر ساعات
مثلا ، وتحركها بعينها بتلك القوة في خلاء في ساعة واحدة ، وتحركها بعينها بتلك
القوّة في ملاء أرق من الأوّل ، ولنفرض رقته أزيد من رقة الأوّل عشرين مرة ، بحيث
يكون فيه من المقاومة والمعاوقة نصف عشر مقاومة الأوّل ومعاوقته ، فيلزم أن تتحرك
تلك المسافة في نصف عشر زمان حركة الملاء الأوّل ، فتقع حركته في جميع المسافة
بتلك القوّة في نصف ساعة ، مع أنّه تحرك تلك المسافة في الخلاء ساعة ، فتكون
الحركة مع العائق الرقيق أسرع منها مع الخلاء الذي هو عديم المعاوقة.
الوجه
الخامس : الحجر إذا رمي إلى
فوق قسرا فإنّه يصعد بقوة ـ مودعة فيه ـ قسرية مستفادة من القاسر على ما يأتي.
فنقول : لو وقعت
تلك الحركة في الخلاء لزم أن ينتهي الحجر بتلك القوة إلى مقعر الفلك ، ولا يهبط
الحجر قبله ، لأنّ تلك القوة باقية ، وما دامت باقية فإنّها تحرّك الحجر إلى فوق ،
لأنّ تلك القوة لا تعدم لذاتها ، وإلّا لما وجدت. ولا لطبيعة
__________________
الجسم لذلك أيضا ،
بل إنّما تبطل بمصادمات الهواء الذي في المسافة ، فلو كانت المسافة خالية عن
العائق لم يكن لتلك القوة ما يصادمها ويضعفها ويبطلها ، فكان أثرها باقيا إلى أن
يتصل المتحرك إلى سطح الفلك. ولما لم يكن كذلك علمنا انتفاء الخلاء.
الوجه
السادس : الإناء الضيق
الرأس إذا كان في أسفله ثقبة ضيقة ، وملئ ماء وضمّ رأسه لم ينزل الماء ، وإن فتح
رأسه نزل. فعدم النزول ليس لعدم علّة النزول ـ لأنّ علته طبيعة الماء فإنّها تقتضي
نزوله عند خروجه عن مكانه الطبيعي ، وطبيعة الماء موجودة ـ بل لوجود المانع ،
فإمّا أن يكون خارجا عن القارورة أو لا.
والأوّل إمّا انسداد
المنافذ وهي تلك الثقبة بالأهوية المحتبسة فيها ، أو امتلاء العالم بحيث لا يبقى
للماء خارج الإناء مكان. والأوّل باطل ، وإلّا لم ينزل حال فتح الرأس. ولأنّ الثقب
إذا كانت واسعة كان يجب أن لا ينزل الماء ؛ لأنّه يجاوره من الهواء أكثر ، فكان
أولى بعدم النزول ، لأنّ الهواء اليسير إذا أقلّ جميع الماء في الآنية كان الهواء الكثير المجاور للثقب
الواسع أولى. ولأنّه إذا كان خارج الآنية خلاء كان يجب أن ينزل الماء ويندفع
الهواء بسببه إلى الأحياز الخالية ، لأنّ الماء أثقل من الهواء ، ومن شأن الثقيل
إذا ضغط الخفيف أن يزيله عن مكانه ، كما تتحرك الأجسام في الأهوية.
والثاني قول أصحاب
الملاء ، ولكن لا يدل على امتناع الخلاء ؛ لإمكان أن يكون الملاء حاصلا مع إمكان
الخلاء.
وأمّا إن كان
المانع ليس خارجا عن تلك القارورة ، فذلك إنّما يكون إذا كان سطح القارورة حافظا
لما فيه من الماء ، ومعلوم أنّه لا يحفظه لخصوص كونه ماء ،
__________________
لأنّه لو فتح رأس
الإناء لنزل الماء ، فعلمنا أنّه إنّما يمسكه لأنّ سطحه يقتضي أن يماسّ سطح أيّ
جسم كان ، أو لأنّ سطح الماء ملازم بالطبع لسطح الإصبع الذي لا يمكّن من النزول
فيبقى الماء محبوسا بسبب ذلك. وكلّ ذلك يقتضي استحالة الخلاء.
لا يقال : يمتنع
كون العلّة في عدم نزول الماء ما ذكرتم من تلازم السطوح ؛ لأنّه يلزم أن لا ينزل
عند اتساع الثقب. ولأنّه كان يجب أن لا ينزل الزئبق لو ملئ به الإناء. ولأنّه إذا
ملئ نصفه ماء ونصفه هواء ، ثمّ شددنا رأسه كان يجب أن ينزل الماء لإمكان أن ينبسط
الهواء الذي فيه ، حتى يشغل كلّ الإناء.
لأنّا نقول :
الأوّل غير لازم ، لأنّ الثقبة إذا كانت واسعة أمكن أن ينزل الماء من ناحية ،
ويصعد الهواء من ناحية أخرى ، وهو مشاهد في القارورة الضيقة الرأس المكبوبة على الماء
، فإنّه يضطرب نزول الماء في رأس الإناء بمزاحمة صعود الهواء له.
وأمّا الثاني :
فإن فرط ثقل الزئبق ربّما أوجب زيادة مدافعة الهواء المجاور للثقب ، فيضطره ذلك
إلى التحرك ، فإذا لم يجد مكانا وراءه اضطره ذلك إلى مزاحمة الزئبق ، ودخوله من ناحية من نواحي الثقب ،
وإن تعذر ذلك احتبس الزئبق ولم ينزل.
وأمّا الثالث :
فإنّ الطبيعة تفعل الأسهل ، ولا يمتنع أن يكون وقوف الماء أسهل على الطبيعة من
تعظيم حجم الهواء.
الوجه
السابع : الانبوبة إذا غمس
أحد طرفيها في الماء ، ومصّ الطرف الآخر ، فإنّ الماء يصعد حال خروج الهواء ،
ومعلوم أنّه ليس من شأن الماء الصعود. فبقي أن يكون ذلك لأنّ سطح الهواء يلازم سطح
الماء ، فإذا مصّ الهواء
__________________
انجذب فتبعه الماء
، وذلك كما نشاهد من ارتفاع اللحم عند مصّ المحجمة ، ولا علة لذلك إلّا تلازم السطوح.
لا يقال : لو
ارتفع اللحم لأجل وجوب الملاء ، لوجب إذا ألقينا المحجمة على الحديد، ثمّ مصصناها
أن يرتفع الحديد.
لأنّا نقول : إذا
وضعنا المحجمة على الحديد ولا خلاء بينهما ولا منفذ البتة فإمّا أن لا يخرج من الهواء شيء البتة بالمص ، وإمّا أن
يخرج البعض فينبسط الباقي ويملأ جميع المكان. ولهذا إذا أفرط الإنسان في مصّ
القارورة والمحجمة وكانت رقيقة انكسرت. ولو كان الخلاء ممكنا لما وجب الكسر ، وكذا
إذا وضعنا المحجمة على السّندان ومصصناها ارتفع السندان بارتفاع المحجمة.
الوجه
الثامن : إذا أدخلنا رأس
أنبوبة داخل قارورة ، ثمّ سددنا الخلل بين عنق القارورة وعنق الانبوبة سدا محكما ،
ثمّ جذبنا الانبوبة بحيث لا يدخل الهواء ، فإنّ القارورة تنكسر إلى داخل ؛
لاستحالة الخلاء. ولو أدخلت الأنبوبة إلى باطن القارورة بحيث لا يخرج الهواء عنها
أكثر ممّا دخل ، انكسرت إلى خارج ، لأنّ الإناء كان مملوءا ، فإذا أدخلنا الانبوبة
لم يحتملها فانشقّ الإناء إلى الخارج.
الوجه
التاسع : لو أمكن الخلاء لجاز في بعض الأوقات أن
تكبّ القارورة في موضع يكثر
فيه الخلاء ، فينزل الماء بسهولة ، ويندفع الهواء إلى الأماكن الخالية ، ولا يصعد
الهواء إلى القارورة ، حتى كنّا لا نرى النفاخات والبقابق ، لأنّ الهواء ما دام
يجد المواضع الفارغة خارج الإناء فإنّه لا يتكلّف الصعود إليها ، ولا بدّ
__________________
من اتصال الماء.
ولجاز في بعض القوارير أن تكون خالية ، فإذا كببناها وغمسناها في الماء واعتمدنا عليها ، وجب أن يصعد الماء من غير أن
يخرج منها شيء من الهواء ، حتى لا تظهر البقابق والنفاخات. فهذه جملة ما وصل إلينا
من أقوى حجج القوم.
الوجه
العاشر : الطاس إذا وضع
فارغا على الماء لم ينزل مع ثقله ، والسبب فيه الهواء المحتقن فيه ، فيلزم الملاء.
والجواب
عن الأوّل : لا نسلّم أنّ
الخلاء قابل للتقدير والمساواة والمفاوتة ، لأنّه عدم صرف ونفي محض ، والمقايسة
التي ذكروها ليست بين أمرين حاصلين بالفعل ، بل هناك إمكان حصول ما لو حصل لكان
قابلا للزيادة والنقصان. فلا نحكم بأنّ ما بين الجدارين أزيد مما بين طرفي الطاس
إلّا على سبيل التوهّم ، فإنّه لو فرض بين الجدارين جسم ثابت بالفعل لكان ذلك
الجسم أزيد من الجسم الذي يوجد بين طرفي الطاس ، وكذا المساواة والتقدير. فإن
ادعيت حصول ما يقبل الزيادة والنقصان بينهما فهو مصادرة على المطلوب ، والذي يدل
عليه أنّه يمكننا أن نفرض العالم واقعا بحيث يكون البعد بين محيطه ومركزه أكثر من
البعد الذي وجد الآن بمقدار ذراع ويمكننا أن نفرضه واقعا على وجه يكون البعد بين
محيطه ومركزه أكثر من البعد الذي وجد الآن بذراعين ، فيلزم وقوع الخلاء خارج
العالم ، مع أنّهم يعترفون بنفيه. فإن أجابوا بأنّ الزيادة والنقصان من لواحق
المقادير ، ولم يوجد خارج العالم شيء من المقادير ، فيستحيل الحكم عليها بالزيادة
والنقصان في نفس الأمر ، بل الزيادة والنقصان المذكوران أمر في الوهم لا في الوجود
ولا عبرة بالأمور الوهمية ، بل بالأمور المحققة ، كان هو بعينه جوابا لهم عن هذا
السؤال. فيثبت أنّ ما ذكروه لا يقتضي كون الخلاء أمرا موجودا.
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
الوهم يعارض العقل في كثير من أحكامه ، حتى أنّ النفس تعجز عن التمييز بينهما في
أكثر القضايا ، ويفتقر إلى تعب شديد في إسناد الحكم إلى العقل أو إلى الوهم. وأعظم
ما يتمسك به في التمييز بينهما استمرار الحكم عند حصول المبادئ التي له ولضده
فيكون عقليا ، وانقطاعه عند حصول المبادئ التي للعقل فيكون وهميا. ولمّا دلّ العقل
على تناهي الأبعاد بمقدمات ساعده الوهم على تسليمها ونكص الوهم عن النتيجة لتوهم ضدّها ، حكمنا بالعقل على أنّ خارج
العالم عدم صرف لا بعد أما بين الجدارين وشبهه فإنّ البعد ثابت فيه لقبوله التقدير
والمساواة والمفاوتة ، فإنّ القطر الآخذ من الزاوية العليا في البيت إلى مقابلها من أسفل
زائد على كلّ ضلع من أضلاع البيت بالضرورة ، سواء توهم جسم حالّ فيه أو لا.
وأيضا نعلم
بالضرورة : أنّا لو ملأناه بذراع مثلا حكمنا بمطابقة الذراع لشيء وليس المطابق
أمرا عدميا ، لعدم المطابقة بين الوجودي والعدمي ، فهو لأمر ثبوتي هو البعد
المجرد.
بل الجواب هنا أن
نقول : لا نسلّم أنّ كلّ بعد في مادة ، والملاء إنّما هو البعد المادي لا مطلق
البعد.
وعن
الثاني : أنّ الشكل حصل
للخلاء بواسطة ما يحويه ، كما يحصل للهواء والماء المحبوسين. على أنّا نمنع ثبوت
الشكل لكل بعد ، سواء كان مجرّدا أو ماديا ، بل إنّما يثبت الشكل للبعد المادي ،
لأنّه تابع للصورة. بل ونمنع كون الخلاء وجوديا ، كما ذهب إليه بعضهم ، فلا يكون
له شكل.
__________________
سلّمنا ، لكن يجوز
أن يحصل له الشكل بواسطة الفاعل ، ولا يلزم منه قبوله للفصل والوصل ، فإنّ الشمعة
قد تتشكل بأشكال مختلفة مع بقاء اتصالها الواحد بالشخص في الأحوال كلّها. وثبوت الشكل
للشيء إن اقتضى كونه جسما كان توسط التقسيم في بيانه ضائعا. وإن لم يقتض لم يلزم
من توارد الأشكال المختلفة عليه كونه جسما ، لأنّ اتّصافه بالشكل السابق لا يقتضي
جسميته ، ولا عدمه قطعا ، ولا الشكل المتجدد ، لأنّه لا يقتضيه من حيث إنّه شكل ،
ولا من حيث عدمه السابق.
وعن
الثالث : بأنّا لا نسلّم
أنّ الحركة الطبيعية هي التي تطلب مكانا خاصا يكون طبيعيا لها ، بل التي تطلب
القرب من بعض الأجسام الملائمة لمحلها والبعد عما ينافره. وهذا المعنى لا يقتضي
الافتقار إلى اختلاف الأمكنة.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون الطبيعي هنا كما هو عندكم؟ فإنّ المكان الطبيعي للنار هو القريب
من الفلك ، وللأرض البعيد عنه ، فقد حصل الطبيعي للمتمكنات باعتبار الفلك ، وهو
أمر خارج عن الأحياز . والأمكنة والمتمكنات ليس ذاتيا لها ولا لازما ، إلّا على
سبيل الاتفاق.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون التخالف لما يحل في الخلاء ، ويكون ملزوما للخلاء لا لازما؟
سلّمنا ، فلم لا
يجوز أن يكون لما يحلّ فيه الخلاء. قوله يكون ماديا ، قلنا إنّما يكون ماديا لو
انحصر المحل في المادة الجسمانية؟ وهو ممنوع.
__________________
سلّمنا ، فلم لا
يجوز أن لا يكون لازما ، بل ولا مخالفة هناك ، ويكون كلّ أجزاء الخلاء طبيعيا ،
ويكون كحال أجزاء كلّ عنصر بالنسبة إلى كلية مكان ذلك العنصر ، فإنّ الكل طبيعي له
، وفي أيّها اتفق وجوده فيه كان موجودا في مكان طبيعي له ويمكن سكونه فيه ، فإنّه ليس
يجب إذا كان للشيء الواحد مواضع متشابهة أن يلزمه أن لا يسكن في واحد منها ، فإنّ
أمثال هذه المواضع أيّها اتفق للجسم الحصول فيه وقف بطبعه ولم يهرب.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يختص بالحركة إلى مكان والسكون فيه دون غيره للفاعل المختار ، أو يكون
اختصاصه به كاختصاص بعض أجزاء النار بمماسة سطح الفلك دون البعض؟
سلّمنا ، لكن
دليلكم إنّما يلزم لو لم يكن في الوجود إلّا جسم واحد ، حتى يقال : إنّ حصوله في
خلاء ليس أولى من حصوله في خلاء آخر ، أمّا إذا وجدت أجسام كثيرة كالسماء والأرض
فحينئذ يكون حصول بعض الأجسام في بعض الأحياز أولى من حصوله في غيرها ، للاختلاف
الحاصل في الخلاء بسبب الاختلاف في القرب والبعد من تلك الأجسام ، وهذا المنع تقدم
في تفسير كون المكان طبيعيا ، وهنا في منع الافتقار إلى الطبيعي لو غاير هذا
التفسير.
لا يقال : الكلام
في اختصاص هذه الأجسام الكثيرة ببعض هذه الجوانب من الخلاء كالكلام في هذا الجسم.
لأنّا نقول : جاز
أن يكون الخلاء هو هذه الأبعاد الفارغة لا غير ، وهي متناهية ، فحصل فيها هذه
السماوات والأرض ، ولم توجد أبعاد فارغة سواها ، فلم يلزم المحال الذي ذكرتموه.
__________________
سلّمنا ، لكن
الاختصاص هنا كاختصاص كلّ واحد من أجزاء العنصر بجزء من أجزاء حيّز ذلك العنصر.
وعن
الرابع : بأنّ الحركة من
حيث ذاتها وحقيقتها تستدعي قدرا من الزمان ، وهو يستدعي زمانا زائدا على ما تقتضيه
ذاتها باعتبار ما يعرض لها من البطء الحاصل بسبب المعاوقة. أمّا الأوّل فلأنّها من
حيث هي هي لا تتحقق ولا تتحصل إلّا على مسافة منقسمة ، فيكون وجود بعضها قبل وجود كلّها ، والقبلية والبعدية من لواحق الزمان لا
يوجدان بدونه. وأيضا لو كان الزمان عارضا للحركة باعتبار بطئها المستند إلى
المعاوقة بسبب ما في المسافة من الملاء لم يكن عارضا للحركات الفلكية ، حيث لا
معاوقة فيها باعتبار الملاء في المسافة ، فكان يجب أن توجد الحركة الفلكية لا في
زمان ، وهو محال.
وأمّا الثاني : فظاهر
؛ لأنّا نعلم أنّ الزمان يزيد مع زيادة البطء ، وينقص مع نقصانه إلى أن يبطل زمان
المعاوقة بانتفائها ، فينتفي الزمان المستند إلى ما تستحقه الحركة لذاتها ، وإذا
كانت بنفسها تستدعي قدرا من الزمان فالحركة في الخلاء لمّا وقعت في ساعة كان ذلك
هو الزمان المستحق لذاتها ، إذ لا معاوقة هنا.
ثمّ الحركة في
الملاء الغليظ لمّا وقعت في عشر ساعات كان الزمان المستحق لها لذاتها ساعة واحدة ،
وأمّا الساعات التسع الباقية فإنّها حصلت بسبب المعاوقة ، فإذا فرضنا المعاوقة
الأخرى أقلّ من الأولى بعشرين مرة وجب تقسيط الساعات التسع لا غير على المعاوقة ،
فيكون حظ المعاوقة في الملاء الرقيق من هذا الزمان الحاصل بسبب البطء نصف عشر
الساعات التسع ؛ بسبب أنّ ما فيه من المعاوقة نصف عشر ما في الملاء الغليظ ،
والزمان الذي تستحقه معاوقة الملاء الغليظ تسع ساعات ، فالزمان الذي تستحقه بسبب
معاوقة هذا الرقيق نصف
__________________
تسع ذلك الزمان ،
فيكون زمان الحركة في هذا الملاء الرقيق ساعة ونصف عشر تسع ساعات ، فلا يلزم من
هذا أن تكون الحركة في الملاء أسرع من الخلاء .
اعترض أفضل
المحققين : بأنّ الحركة لا تخلو من حدّ ما من السرعة والبطء ، لأنّ كلّ حركة إنّما
تقع في شيء ما يتحرّك المتحرّك فيه ، مسافة كان أو غيرها ، وفي زمان ما ، وقد يمكن
أن يتوهم قطع تلك المسافة بزمان أقلّ من ذلك الزمان فتكون الحركة أسرع من الأوّل ،
أو أكثر فتكون أبطأ منها ، فإذن الحركة لا تنفك عن حدّ ما من السرعة والبطء ،
والمراد منهما شيء واحد بالذات هو كيفية قابلة للشدة والضعف ، وإنّما يختلفان
بالإضافة العارضة لها. فما هو سرعة بالقياس إلى شيء هو بعينه البطء بالقياس إلى
آخر ، والحركة لا بدّ لها من ثلاثة أشياء : مسافة وزمان وحدّ معين من السرعة
والبطء. فإذا اتفق واحد من الثلاثة واختلف الباقيان ، فقد يعرض بين المختلفين
تناسب ما ، فإنّ المتحرك بالحدّ الواحد من السرعة ، والبطء يقطع مسافة طويلة في
زمان طويل وقصيرة في قصير. فنسبة المسافة إلى المسافة كنسبة الزمان إلى الزمان على
التساوي ، والمتحرك في المسافة الواحدة يقطعها بحدّ أسرع في زمان أقصر ، وبحد أبطأ
في زمان أطول ، فنسبة السرعة إلى البطء كنسبة الزمان القصير إلى الزمان الطويل.
والمتحرك في
الزمان الواحد يقطع بحد أسرع مسافة أطول ، وبحد أبطأ مسافة أقصر ، فنسبة السرعة
إلى البطء كنسبة المسافة الطويلة إلى القصيرة ، فالطول في المسافة ، والقصر في
الزمان بإزاء السرعة ، ومقابلهما بإزاء البطء.
والحركة بنفسها لا
يمكن أن تستدعي قدرا من الزمان والمسافة ، وبسبب السرعة والبطء تستدعي شيئا آخر ،
لأنّ الحركة لا يمكن وجودها إلّا على حدّ من السرعة والبطء ، إذ لو وجدت منفكة
عنهما في زمان كانت بحيث إذا فرض وقوع
__________________
أخرى في نصف ذلك
الزمان أو في ضعفه كانت لا محالة أبطأ أو أسرع من المفروضة ، وكانت مع حدّ من
السرعة والبطء حين فرضناها لا مع حدّ منهما .
والجواب : كون
الحركة مع حدّ من السرعة والبطء لا تنفك عنهما لا يخرج الحركة عن مقتضاها ، فإنّ
لوازم الماهيات لو أخرجت ملزوماتها عن مقتضياتها لزم كون تلك الملزومات ممتنعة
التحقق ، ومعلوم أنّ الحركة من حيث هي هي تستدعي قدرا من الزمان عندهم بالنظر إلى
ذاتها منفكة عن السرعة والبطء ، وهو كاف في هذا الباب.
وعن
الخامس : بمنع وجود القوة
القسرية.
سلّمنا ، لكن نمنع
استناد بطلان القوة إلى المصاكات ، لأنّها حاصلة من أوّل المسافة ، والمصاكات
متساوية في الحقيقة ، فتتساوى في الاقتضاء ، فكان يجب عدم تلك القوة عند أوّل
المصاكات.
لا يقال :
المصاكات تقتضي ضعف القوة لا عدمها ، ثمّ لا يزال الضعف يتواتر عليها إلى أن تعدم.
لأنّا نقول :
الاختلاف بالشدّة والضعف اختلاف بالنوع ، فعند الضعف إن لم يعدم شيء لم يكن للضعف
معنى ، وإن عدم فإن كان صفة للقوة فلا تأثير للمصاكة في القوة، بل تأثيرها في أمر آخر.
وإن كان ذاتها عدمت عند أوّل المصاكات.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم ضعفها بالملاء لا غير ، بل جاز أن يكون بكثرة أثرها ، فإنّهم نصّوا على أنّ
القوّة الجسمانية تكلّ بكثرة الأفاعيل.
سلّمنا ، لكن تضعف
بمعاوقة القوة الطبيعية لها ، كما في الانفعال الحاصل في المزاج.
__________________
سلّمنا ، لكن
الشيخ الرئيس كما أثبت قوة قسرية محركة ، كذا أثبت قوة قسرية مسكّنة عند المنتهى ،
فجاز إسناد الضعف إليها.
سلّمنا أنّ ضعف
القوة مستند إلى مصادمات الهواء ، لكنّه لا يستلزم الملاء ، فجاز أن
تكون في المسافة أجزاء هوائية مبثوثة فيها ، بينها أجزاء خلائية ، ويحصل المقصود
مع ثبوت الخلاء.
وعن
السادس : بالمنع من عدم
استناد النزول إلى انتفاء المقتضي. قوله : المقتضي طبيعة الماء. قلنا مطلقا أو
بشرط؟ ا ع م فجاز أن تكون علّة بشرط ولم يتحقق الشرط. ولو كانت طبيعة
الماء علة للنزول مطلقا لما وقف ، فلمّا وقف علمنا أنّها ليست علّة مطلقا. وحصر
المانع الخارجي في الانسداد والملاء ممنوع.
سلّمنا ، فلم لا
يستند إلى الانسداد؟ وإنّما ينزل مع فتح الرأس لأنّ مع فتح الرأس يطلب الهواء
مكانه الطبيعي ، وهو البعد الذي احتوى عليه الماء ، حيث إنّ الماء في مكان الهواء
قسرا ، ولهذا نزل فدافع الماء من فوق الإناء ، فنزل من أسفله ومع ضم الرأس لا يكون
للماء مدافع ، فبقي محفوظا في الإناء. وطلب العلّة في نزوله مع اتساع الثقب مشترك
بيننا وبينهم. على أنّا نقول : العلّة ، أنّ مع اتساع الثقب يكون ثقل الماء فيه أكثر من ثقله في الثقب
الضيق ، فيقهر الهواء لسهولته وسرعة انفعاله. وأيضا يبرده فيكثف فيقلّ حجمه
فينزل الماء ، ولا يلزم أن يكون الخلاء ملاصق أسفل الإناء بحيث يتحرك الهواء إليه
بسهولة ، فجاز أن
__________________
يكون بعيدا أو في
أعلى الإناء.
ولأنّه وارد علكيم
؛ لأنّ الخلاء وإن لم يكن مانعا من نزول الماء ، بل معين له على نزوله ، حيث لا ممانعة
فيه لما تقتضي طبيعة الماء من النزول ، كذلك الهواء لا ممانعة فيه عن مقتضى طبيعة
الماء من النزول ، ولهذا تتحرك الأجسام في الأهوية ، بل ويكون معينا له على النزول
ليستقر مكانه ، فإنّه طبيعي للهواء لا للماء. ولو كان المانع الملاء لكن لا يمنع
من وجود الخلاء اليسير بين أجزائه أو في غير ذلك الموضع. ولو سلّم وجود الملاء
الذي لا يتخلّله خلاء ، لكن لا يدل على امتناع الخلاء كما تقدم.
واعتذارهم في نزول
الماء مع سعة الثقب بصعود الهواء من جانب منه ونزول الماء من آخر ، آت مع ضيق
الثقب ، لأنّ كلّ واحد من هذين العنصرين لطيف جدا يقبل التشكلات بأجمعها بسهولة ،
فلما ذا لا يحصل هذا الأثر مع الثقب الضيق كما حصل مع اتساعه. وأيضا يلزم الترجيح
من غير مرجّح ، إذ لا أولوية لنزول الماء من بعض الجهات وصعود الهواء من بعضها.
وأيضا إذا فرضنا الإناء مملوءا ماء حارا ، ثمّ لحقه البرد لزمه التكاثف وكان ينزل
الماء ، وليس كذلك. وأيضا إذا كان الثقب واسعا ونزل الماء من بعض جوانبه وصعد
الهواء من البعض الآخر ، فلا بدّ من خلو بعض الإناء ، وهو الموضع الذي ينزل الماء
منه ، فإمّا أن يخلع الماء مقداره ويلبس مقدارا أكبر بحيث يملئ ما خلا ، أو يلزم التداخل بواسطة دخول الهواء ،
ويلزم على الأوّل أن يخلع الجانب الآخر من الماء الذي يصعد فيه الهواء مقدارا أصغر
حتى يدخل الهواء ، وهذان قسريان ، فلم يلبس الماء مقدارا أكبر حتى ينزل البعض منه.
__________________
وعن
السابع : أنّ صعود الماء
قسري ، ولبس الهواء مقدارا أكبر قسري أيضا ، فلم كان أحد القسرين أولى من الآخر؟
ولم أطاعت المحجمة للكسر مع صعوبته وصلابتها ولم يخلع الهواء مقداره ويلبس أكبر مع
سهولته ، حتى لو بقي من الهواء مقدار رأس أبرة أمكن أن يلبس من المقدار أضعاف ملء
الإناء؟
وعن
الثامن : بما تقدم من أنّ
خلع الهواء مقداره أسهل من كسر القارورة إلى داخل أو خارج.
وعن
التاسع : بإمكان ما ذكروه ،
وهؤلاء لم يسندوا جميع أحوال نزول الماء في جميع الأماكن ، وأحوال الخلاء سعة وضيقا ، وكثرة النفاخات وقلتها.
وعن
العاشر : أنّا لا نمنع من
وجود الهواء بين الأجسام ، لكن لا نوجبه ولا نوجب الخلاء ، فجاز طفو الطاس باعتبار الهواء الذي فيه ، لكن نمنع
امتلاءه به.
المسألة الثانية : في أنّ الخلاء ليس فيه قوة جاذبة للأجسام
ولا دافعة لها
ذهب محمّد بن
زكريا الرازي إلى أنّ للخلاء قوة جاذبة للأجسام ، لأنّ الماء تحتبس في الأواني
التي تسمّى سراقات الماء ، وينجذب من الأواني التي تسمّى
__________________
زراقات الماء.
ومنهم من أثبت
للخلاء قوة دافعة للأجسام إلى فوق ، فإنّ الجسم إذا تخلخل بكثرة خلاء يداخله صار
أخفّ وأسرع حركة إلى فوق.
والأوّل باطل
لوجهين :
الوجه
الأوّل : أجزاء الخلاء
متشابهة ؛ لأنّه إن كان عدما صرفا فظاهر ، وإن كان بعدا مجردا عن المادة فكذلك ،
إذ المفهوم من البعد واحد ، فلو كان في بعض الأجزاء قوة جاذبة وجب أن يكون في
الجميع تلك القوة ، فلم يكن اندفاعه إلى بعض الجهات أولى من اندفاعه إلى غيرها.
وفيه نظر ، لجواز
تخصص اندفاعه إلى جهة بما يتخصص اندفاعه لو لا القوة الجاذبة.
الوجه
الثاني : لو كان حابس الماء
في السراقة هو الخلاء الذي امتلئ به ، فلم ينزل الماء المنفوش في الهواء الشاغل لخلل
الهواء الخالي؟ ، وإن كان ثقله يغلب جذب ذلك الخلاء ، فلم ينتقل الماء المنكب عليه
القارورة ولا يغلب الخلاء بل ينجذب؟ وامساك الثقيل المشتمل عليه أسهل من إشالة
الثقيل المباين.
وأيضا فلم إذا فتح
رأس الآنية ينزل الماء؟ بل كان يجب أن يحبس الخلاء الماء هناك ولا
يتركه حتى ينزل ، ولا يدع الإناء الذي فيه ينزل أيضا ، بل يبقى
__________________
مرتفعا مشالا. فإن
قالوا ثقل الإناء غلب جذب الخلاء ، أبطلناه بما إذا كان الإناء أخف وزنا من الماء.
ويدل على بطلان
القول الثاني وجهان :
أ
: الخلاء الذي يحرك
الأجسام إمّا أن يكون هو الخلاء المبثوث داخل الجسم ، أو الخارج عنه المحيط به. فإن
كان الأوّل ، فإمّا أن يحرك مع ذلك أجزاء الجسم وهو محال ، لأنّه لا خلاء في كلّ
واحد من تلك الأجزاء ، فلا تكون حركة شيء من الأجزاء بسبب الخلاء ، بل لكلّ حركة
محرك ، ومجموع المحركات إذا حركت مجموع الأجزاء كان ذلك سببا لحركة كلّ ذلك الجسم
، فحركة كلّ الجسم لا للخلاء ، بل لسبب آخر. وأمّا أن لا يحرك الخلاء شيئا من
أجزاء الجسم فيستحيل أن يحرك كلّيته ، لأنّ تحريك الكل بواسطة تحريك الأجزاء.
وإن كان الثاني فمعلوم أنّ الخلاء المحيط بجسم كبير لا يصعّده إلى فوق ،
فإذن ليس كلّ جسم ينفعل عن الخلاء ، بل جسم يقتضي طبيعته أن يتخلل الخلاء بين
أجزائه ، فيكون معنى ذلك أنّ بعض الأجسام مقتضى طبيعته أن تتباعد بعض أجزائه عن
بعض ، وذلك محال. أمّا أوّلا : فلأنّ هرب الأجزاء المتجانسة بعضها عن بعض محال.
وأمّا ثانيا : فلأنّ الهرب إلى جهات مختلفة بعضها يمنة وبعضها يسرة ، وبعضها قدّام
وبعضها خلف ، مع اتحاد الطبيعة محال. وأمّا ثالثا : فلأنّه إمّا أن يكون هناك
مهروب عنه ، وإمّا أن لا يكون. والأوّل محال ؛ لتشابه الأجزاء ، وإذا لم يكن هناك
مهروب عنه كان الكل هاربا من غير أن يكون هناك مهروب عنه ، وهو محال .
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
الخلاء يحرك كلّية الجسم ، ولا جزء له بالفعل. فإن فرض له جزء كان متحركا عنه
بالعرض بواسطة تحريكه للكل لا بالذات ، كالقوى المحركة للأجسام عندهم. ونمنع كون
الخلاء لا يصعّد الجسم إلى فوق. ولو سلّم فلا يلزم من نفي هذا التحريك نفي مطلق
التحريك.
ب ـ الخلاء المتخلل لأجزاء الجسم إن كان هو الذي يوجب حركته إلى
فوق ـ وموجب الشيء ملازم له ـ فيكون الخلاء ملازما للمتخلخل في حركته منتقلا معه ، فيحتاج الخلاء إلى مكان آخر طبيعي
له حتى يكون مطلوبا له يتحرك إليه ، هذا خلف. وأمّا أن لا يكون كذلك ، بل لا يزال
الجسم يستبدل في حركته خلاء بعد خلاء ، فلا يكون ملاقاة الجسم للخلاء الواحد إلّا
في آن واحد ، وفي الآن لا يحرك شيء شيئا ، وبعد الآن لا يكون ملاقيا له.
ولا يمكن أن يقال
: الخلاء يعطي الجسم قوة من شأنها أن تبقى ويكون المحرك هو تلك القوة ، ويكون كلّ
خلاء يؤثر أثرا جديدا ، ولا يزال ذلك الأثر يشتدّ والحركة تسرع. وذلك أيضا باطل ؛
لأنّ الخلاء متشابه فليس بعض أجزائه بهذا الاقتضاء أولى من البعض الآخر.
وفيه نظر ، لأنّا
نقول : الخلاء إذا تخلّل أجزاء الجسم أفاد الجسم خفّة ، وتلك الخفة تقتضي اصعاده ،
ولا يحتاج الخلاء إلى مكان آخر طبيعي له. أقصى ما في الباب أنّه يحتاج إلى أن
يطابقه بعد تخلل الجسم وأجزائه والأجزاء الخلائية المتخللة بينها فيه.
تذنيب
: من جعل المكان هو
السطح المحيط ، قسّم المكان إلى سطح واحد ، بأن يكون محيطا بجميع السطح الظاهر من
المحوي ، وإلى أكثر من واحد ،
__________________
كالماء الذي يحيط
به سطح الأرض وسطح الهواء ، فالمكان هنا مركب. وقد يتحرك أحد السطحين ويكون الآخر
ساكنا كالحجر على أرض النهر الجاري ، وقد يتحرك المكان مع سكون المتمكن ، كالطير
الواقف في الهواء الجاري عليه. وقد يتحركان معا على الخلاف ، كالمحيط وفلك البروج .
البحث الرابع عشر : في بقايا مسائل المكان
المسألة الأولى : في أنّ لكل جسم حيّزا طبيعيا
اتفق أكثر الأوائل
على ذلك ، واحتجوا عليه بوجهين :
الوجه
الأوّل : أنّ الجسم إذا
فرضناه خاليا عن جميع اللواحق والعوارض وكلّ ما يمكن خلوه عنه فإنّه لا بدّ له من
حيّز معيّن ، وإلّا لكان في كلّ الأحياز ، وهو باطل بالضرورة ، أو لا في شيء من
الأحياز ، وهو أيضا باطل بالضرورة ، بل لا بدّ له من حيّز يكون أولى به من غيره ،
لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، وليس ذلك مقتضى جسميته ، لأنّها أمر مشترك بين
جميع الأجسام وليس ذلك المكان حاصلا لكل الأجسام ، فهو لأمر زائد على جسميته ،
وذلك هو الطبيعة ، لأنّا فرضنا خلوّه عمّا عداها.
__________________
والاعتراض : لم لا يختص بالفاعل المختار ، أو نقول : لم لا يجوز أن
يعرض للجسم عارض يقتضي تخصيصه بحيّز معين؟ ثمّ إنّ ذلك العارض لا يزول إلّا بعارض
آخر يخصصه بحيّز آخر ، وحينئذ يكون الجسم أبدا حاصلا في حيّز معين بسبب تلك
العوارض الغير اللازمة.
وفيه نظر ، لأنّا
فرضنا خلو الجسم عن كلّ العوارض.
وأجيب أيضا ، بأنّ
ذلك يوجب امتناع خلو الجسم عن تلك العوارض بعد اتّصافه بها ، ولا يوجب امتناع خلوه
مطلقا ، لإمكان أن لا يوجد فيه العارض الأوّل حتى لا يحتاج إلى عارض آخر يزيله.
فإذن خلو الجسم عن جميع العوارض جائز مطلقا ، وخلوه عن الحصول في الحيّز غير جائز
، ويستحيل تعليل واجب الثبوت بغير واجب الثبوت ، فيمتنع تعليل حصول الجسم في
الحيّز بشيء من العوارض.
واعترض أيضا بوجوه
:
الأوّل
: لو استدعى الجسم
مكانا معينا ، لكان ذلك الاستدعاء إمّا لجسميته أو للوازمها عم ، فكلّ جسم في ذلك المكان. أو لأمر غير لازم ؛ فاتّصاف الجسم
به إن لم يكن لأمر لزم الترجيح من غير مرجح ، وجاز مثله في المكان بأن لا يكون شيء
منها مستحقا لذات الجسم ، لكنّه يحصل في واحد اتفاقا. وإن كان لأمر فإن كان مقارنا
نقلنا الكلام إليه وتسلسل. وإن كان سابقا أعدّ الجسم لاتّصافه بالوصف الحاصل جاز
في المكان ذلك ، بأن يكون حصوله في مكان سابق أعده لحصوله في المكان اللاحق ، أو
أنّه كان موصوفا بأمر أعده للحصول في
__________________
هذا المكان ، فلا
ينفك عن المكان المعيّن ، وإن لم يكن طبيعيا.
الثاني
: لو سلّمنا
الاشتراك في الجسمية ، لكن جعلتم اقتضاء الجسم المعيّن للحيّز المعيّن لأجل خصوصية
في ذلك الجسم ، فذلك الجسم إن لم يجب اتّصافه بتلك الخصوصية كان المقتضي للحيّز
المعين شيئا غير لازم لذلك الجسم ، وقد أبطلوه. وإن كان لازما ، فإمّا
لنفس الجسمية ،
ويعود المحال ، أو لخصوصية أخرى ويتسلسل. ولا مخلص عنه إلّا أن يقال : الجسم
العنصري يستدعي صورة نوعية ، أية صورة كانت ، وتعيّنها بأسباب خارجية.
لكنّا نقول : إذا
جاز أن يكون المقتضي لجسم العنصر إنّما هو صورة مبهمة أية صورة كانت ثم استند
تعيّنها إلى أسباب خارجية غريبة لا بسبب صورة متقدمة ، فلم لا يجوز مثله في الحصول
في الحيّز؟ وبالجملة فكما أنّ الجسم لا بدّ له من حيّز معيّن ، فكذا لا بدّ له من
خصوصية تقتضي ذلك الحيّز ، وكما لا يلزم من حصول صورة معينة ، أن يكون ذلك بصورة أخرى
تتقدمها ، كذا لا يلزم من حصول الحيّز المعين أن يكون ذلك بصورة تتقدمه. وكما
اقتضت الجسمية صورة مبهمة وتخصصت بالأسباب الغير اللازمة للجسمية ، كذا يجوز أن
تقتضي الجسمية لذاتها حيزا مبهما ثمّ يتخصص بالأسباب الغير اللازمة.
الثالث
: الحيّز المعيّن من
الأرض يستدعي حيّزا مبهما من أجزاء مكان كلّية الأرض ، ثمّ يخصص ذلك الحيّز بأسباب
خارجية مع استحالة انفكاك الجزء المعين عن الحيّز ، فكذا يجوز في كلية الأرض ذلك.
الوجه
الثاني : إذا رميت المدرة إلى فوق عادت إلى أسفل ، ولو لا اقتضاء
__________________
طبيعتها العود إلى
أسفل لم تعد.
والاعتراض : لا
نسلّم أنّ المدرة تطلب المكان المعيّن ، بل تطلب كلّية الأرض.
لا يقال : حصول
الكليات في أحيازها ليس للجسمية ، وإلّا لاشتركت الأجسام ، فلا بدّ من زائد ، وهو
المطلوب.
لأنّا نقول : إن
تمسّكتم باختصاص الكليات بأحيازها ، عارضناكم باختصاص تلك الكليات بتلك الطبائع
المخصوصة. وأيضا باختصاص الأجزاء بأحيازها الجزئية. وإن تمسّكتم بحركة أجزاء
العناصر إلى أحياز كلياتها ، فقد قلنا : إنّه لطلب كلّياتها.
واعلم أنّ ثابت بن
قرة : ذهب إلى أنّ الأجسام لا تطلب أحيازا بأعيانها ، فلا يظن أنّ الأرض ولا غيرها من الأجسام طالبة للمكان
الذي هي فيه ، إذ لا حال يخص شيئا من الأمكنة دون غيره ، بل لو توهّمنا جميع
الأمكنة خالية ، ثمّ جعلت الأرض في أي موضع منها اتفق سكنت فيه ، وامتنع انتقالها
عنه ، إلّا بسبب من خارج ، لأنّه مساو لكل مكان ، وإنّما تعود المدرة المرمية إلى
فوق لطلب طبيعة الأرض ، فإنّ الشيء يطلب شبهه ، كما يبعد عن ضده.
ولو توهّمنا
الأماكن خالية ، ثمّ جعل بعض أجزاء الأرض في موضع من الخلاء والباقي في موضع آخر ،
وجب أن يجذب الكبير الصغير ، فإن تساويا طلب
__________________
كلّ منهما صاحبه ،
حتى يلتقيا في الوسط. ولو توهّمت الأرض قد ارتفعت إلى فلك الشمس، ثمّ أرسلت ، لم
تهبط ولو أطلق حجر من المركز إلى أسفل صعد إليها طالبا لها ولو تفرقت في جوانب
العالم توجه بعضها إلى البعض ووقعت في موضع يتفق التقاء جملة تلك الأجزاء ، ولا
تفارق ذلك الموضع لمساواته لهذا الموضع.
ولأنّ كلّ جزء
يطلب جميع الأجزاء منها طلبا واحدا ، ويستحيل أن يلقى الجزء الواحد جميع الأجزاء
لا جرم طلب أن يكون قربه من جميع الأجزاء قربا متساويا ، وهذا هو طلب الوسط. ثمّ
إنّ جميع الأجزاء هذا شأنها فتكون الأرض مستديرة ، وأن يكون كلّ جزء منها يطلب
المركز حتى يستوي قربه من الجملة.
ثمّ أورد على نفسه
سؤالات :
منها
: وجوب مثل ذلك في
أجزاء كلّ عنصر فيكون كلّ واحد منها كرة مصمتة .
وأجاب
: بأنّه لو لا
المانع لكان الأمر كذلك. والمانع هو أنّ الأجسام وإن اختلفت لكنّها متساوية في
الجسمية ، فكان طلبها لبعضها بعضا لأجل التشابه بطلب أجزاء العنصر الواحد في طلب
أجزائه للبعض ، ولهذا السبب تلازمت صفائح الأجسام وامتنع الخلاء. فقد وجد هنا
سببان متنازعان ، أحدهما ثابت لكل عنصر على حدة ، وهو اقتضاء كلّ جزء منه جذب سائر
الأجزاء منه إلى نفسه ، بحيث يكون كلّ عنصر كرة مصمتة. والآخر ثابت لعموم الجسمية
، وهو طلب كلّ عنصر لصاحبه من حيث الجسمية ، وهو يقتضي عدم كون كلّ عنصر
__________________
مصمتا. والأوّل
يستلزم الخلاء ؛ لأنّ تلاقي الكرتين يستلزم الخلاء بينهما ، وأن يعدم أثر السبب
الثاني ، فلا يجذب بعض العناصر بعضا فيبطل مقتضى التشابه في الجسمية ، فاقتضت
الطبيعة العدل بقدر الإمكان وفعلت ما هو الأقرب إلى الجميع ، فجمعت بين أجزاء كلّ
عنصر على حدة للمشابهة بين تلك الأجزاء ، وجعلت بعض العناصر محيطا بالبعض للتشابه
بين تلك العناصر في مطلق الجسمية.
وأتمّ العناصر في
هذا المعنى أقربها إلى الوسط ، لأنّه متى كان أقرب إلى الوسط كان أقرب نسبة إلى
جميع الأجسام ، لكنّه لمّا وجبت إحاطة البعض بالبعض للمشابهة العامة عرض أن وقع
بعض هذه الأجسام في غاية البعد عن غيره.
ومنها
: أنّ الأجزاء إذا
تحركت لطلب الكل ، فما سبب اختصاص الكل من كلّ عنصر بمكانه ، فلم كانت النار في
المحيط والأرض في المركز ، لو لا اقتضاء الطبائع ذلك؟
وأجاب
: بأنّه ليس السبب
في طلب النار المحيط ، أنّ النار بعد تحققها نارا تطلب ذلك المكان ، بل كلّ ما
جاور الفلك صار نارا لدوام الحركة الموجبة للمصاكة المقتضية للتسخين إلى أن يستحيل
ويصير نارا بعد كونه في ذلك المكان ، والبعيد من الفلك يبعد من المصاكة ويكون
باردا فصار أرضا.
وأبطله أبو علي في
الشفا بوجهين :
أ
ـ الحجر المرسل من
رأس البئر يذهب غورا ، ولا يلتصق بشفير البئر ، مع
__________________
أنّ اتصاله بكلّية
الأرض هناك ثابت .
ب ـ الكل مساو للجزء في النوع فلا يجذبه ، لأنّ الشيء لا ينفعل
عن مساويه.
واعترض على الأوّل
: بأنّ كلّ جزء يطلب الاتصال بكل جزء ، وعند التعذّر يجب الممكن ، وهو تساوي
قربه من الكل ، وإنّما يحصل التساوي في وسط الأجزاء فلهذا هبط ولم يقف على الشفير
، لأنّه حينئذ لا يكون طالبا للقرب من الكل ، بل من البعض مع انتفاء الأولوية.
وعلى الثاني :
بأنّ الحسّ يدل على تلازم صفائح الأجسام ، ووقوع الأمور العجيبة بواسطة التلازم ،
والتلازم إنّما يكون لتلازم الطبائع وتشابهها ، لا مع التنافر ، وإذا عقل ذلك في
موضع فليعقل في كلّ المواضع .
والمعتمد في إبطال
قول ثابت : أنّ اختصاص الجسم الملاصق للفلك بذلك المكان حتى صار نارا
، والملاصق للمركز حتى صار أرضا ، لا بدّ له من سبب ، وإلّا لكان ترجيحا من غير
مرجح.
واعلم أنّ الحق
هنا شيء واحد ، وهو اسناد ذلك كلّه إلى الله تعالى الفاعل بالاختيار.
__________________
المسألة الثانية : في امتناع تعدد المكان الطبيعي للبسيط
احتج الأوائل على
ذلك بوجوه :
الوجه
الأوّل : لو كان لجسم بسيط
مكانان طبيعيان ، فإذا حصل في أحدهما ، فإن لم يطلب الثاني كان المكان الطبيعي
متروكا بالطبع ، فلا يكون طبيعيا ، وإن طلبه بالخروج من الأوّل كان الطبيعي أيضا
متروكا بالطبع ، فلا يكون طبيعيا .
الوجه
الثاني : لو كان خارجا
عنهما وتساوت نسبته إليهما ، فإن لم يطلب أحدهما مع انتفاء العائق كان الطبيعي
متروكا بالطبع ، وإن طلبهما معا وتوجه إليهما معا كان حاصلا في مكانين ، وهو محال
، وإن توجه إلى أحدهما أو طلبه خاصة كان ترجيحا من غير مرجح.
الوجه
الثالث : البسيط له طبيعة
واحدة ، فلا يقتضي أمرين متعاندين ، والحصول في حيّز ينافي الحصول في حيّز آخر ،
فلا تقتضيهما الطبيعة الواحدة.
والاعتراض : أنّ
في هذه الوجوه نظرا ، لأنّها منقوضة بجزئيات كلّ عنصر فإنّ مكان كلّ جزء من أجزاء
ذلك العنصر مكان طبيعي لكل جزء ، مع ورود هذه الوجوه فيه. وأيضا إذا حصل في أحد
المكانين لم يطلب الثاني ، لامتناع حصوله في مكانين دفعة ، ولا يكون ذلك الترك
طبيعيا ، بل اتفاقيا حيث اتفق حصوله في الآخر. وإذا خرج عنهما لم يطلب أحدهما مع
تساوي النسبة ، لأنّ تساوي النسبة أمر خارجي فاشبه القسري ، والثالث نفس المتنازع.
__________________
المسألة الثالثة : في أنّ المكان الواحد لا يستحقه جسمان
مختلفان بالطبع
اعلم أنّ الأوائل
قالوا : لا يمكن أن يكون للمكان الواحد بالشخص جسمان مختلفان بالطبع يستحقانه ، بل
لكلّ جسم مكان يخصّه لا يشارك في استحقاقه سواه ، ولم نر لهم حجّة على ذلك ، سواء
ما ذكره أفضل المحققين من أنّ تلك الأجسام ، إمّا أن تكون مختلفة الميول إلى جهات
متعددة أو متفقتها. فإن كان الأوّل فظاهر عدم استحقاقها لمكان واحد ، لاستحالة أن
تقتضي مكانا بالطبع ، وتميل بالطبع إلى غيره. وإن كانت متفقة الميول إلى جهة واحدة
كانت الأشياء المتخالفة بالطبع مقتضية من حيث هي مختلفة شيئا واحدا ، وهو محال.
ولم يزد على ذلك ،
وهو غير تام ، لإمكان اتفاق الأشياء المختلفة بالطبع في لازم واحد يلزم تلك
المختلفات ، أو معلول واحد بالطبع كثير بالشخص يصدر عن علّتين مختلفتين بالطبع. بل
الوجه في الاستدلال أن نقول : لو اقتضى جسمان مختلفان بالطبع مكانا واحدا بالشخص ،
وكانا خارجين عنه متساويي النسبة إليه ، ثمّ طلباه على التساوي ، فإمّا أن يحصلا
فيه دفعة واحدة وهو محال بالضرورة ، أو يحصل فيه أحدهما دون الآخر ، وهو ترجيح من
غير مرجّح ، إذ لا أولوية في التخصيص ، أو لا يحصل شيء منهما فيه ، فيكون المكان
الطبيعي متروكا بالطبع ، وهو محال.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع كون الترك لو لم يطلباه طبيعيا ، بل يكون قسريا ، فإنّ كلّ واحد منهما يمانع
الآخر عن مقتضاه.
المسألة الرابعة : في المكان الطبيعي للمركّب
اعلم أنّ المركّب
لا مكان له في أصل الإبداع عند نفاة الخلاء من الحكماء ، لأنّ التركيب أمر يعرض
بعد الإبداع ، وايجاد مكان على سبيل الإبداع قبل التركيب يطلبه المركّب إذا حصل
يقتضي وجود الخلاء حالة الإبداع. وأيضا لو طلب البسيط بعد طريان التركيب عليه ذلك
المكان المفروض لوجب خلوّ مكانه الأوّل ، وهو محال. وأيضا لمّا كان التركيب لا يقتضي
زيادة في وجود الأجسام ، فلا احتياج بسببه إلى مكان زائد على ما كان للبسائط. فإذن
أمكنة المركبات هي أمكنة البسائط بعينها ، فلا حاجة هنا إلى إثبات أصل أمكنتها ،
إذ هي أمكنة البسائط ، بل الواجب أن يبحث في تعيين أمكنتها ، فنقول :
لا بدّ في المركب
من تعدد البسائط بالضرورة ، فإمّا أن يتركّب عن بسيطين أو ثلاثة أو عن أربعة.
فالأوّل إن تساويا وتمانعا بأن يكون ما يطلب جهة فوق أسفل وبالعكس. فإن تساوى بعد كلّ
منهما عن حيّزه تقاوما ، إذ لا مزيّة لأحدهما على صاحبه فيقف في الوسط ، وإن كان
بعد أحدهما من حيّزه أقرب جذب الآخر إلى حيّزه ، فحصل المركب فيه ؛ لاشتداد
الحركات الطبيعية عند القرب من الحيز وفتورها عند البعد عنها. وإن لم يتمانعا ،
افترقا ولم يجتمعا إلّا بقاسر. وإن كان أحدهما أغلب في القوة والمقدار ، وهناك
قاسر يحفظ ذلك المزاج انجذب المركب إلى مكان الغالب.
والثاني : إن غلب
أحدهما حصل المركب في مكانه ، وإن تساوت فإن كانت
__________________
الثلاثة متجاورة
حصل المركب في الوسط من الأحياز الثلاثة ، وإن تباينت حصل المركب أيضا في الوسط ،
وهو مكان الماء لو تركب من الماء والأرض والنار ؛ لتساوي جذب النار والأرض ، ولأنّ
الأرض والماء ، وإن اختلفا في الطبيعة ، لكنّهما مشتركان في الميل إلى أسفل، فغلبا
النار.
والثالث : إن
تساوت حصل المركب في الوسط ، وإلّا ففي حيّز الغالب.
وقيل : لا وجود له
إذ لا مكان له ، فإنّه لا أولوية هنا لأحد الأمكنة بالحصول فيه.
وليس بجيد ؛ لأنّ
ما اتفق وجوده فيه أولى من غيره. نعم إنّه لا يستمر وجوده ، بل لا يوجد إلّا زمانا
يسيرا جدا لانفعاله بالكيفيات الخارجية المقتضية لاستحالته إلى ذلك العنصر الموافق
في الكيفية.
وهذا الاعتبار من
التساوي والتفاوت في العناصر ، إنّما هو بحسب القوى دون الحجم ، فإنّه من الجائز
أن يكون الأصغر في الحجم أقوى قوّة من الأكبر فيه ، فيكون المعتد به هنا القوّة
دون الحجم.
تذنيب
: قد يتفق لبعض
الأجسام وقوف في مكانه الغريب بالطبع ، كما لو فرضنا نارا في مركز الأرض بحيث لا
يكون لجزء منها ميل إلى جهة ، بل يكون مركز تلك النار حالّا في مركز الأرض ، مع أنّها مصمتة ، فإنّ تلك النار تقف طبعا
؛ لأنّه لا يمكن أن تتحرك إلى جهة دون أخرى ؛ لعدم المخصّص. ولا يمكن أن تنفرج عن
فرجة في وسطها تنبسط عنها إلى كلّ الجهات بالسوية إلى أن يلقى كلّ جزء من النار ما
هو أقرب إليه من مقعر فلك القمر لوجهين :
أ
: ذلك النفوذ إنّما
يمكن بانخراق الهواء والنفوذ فيه ، والخرق لا يمكن في
__________________
جميع الجهات ؛
لأنه حينئذ يكون إعداما للمخروق ، بل إنّما يكون في جهة دون جهة ، ولا أولوية هنا.
ب : يلزم وقوع الخلاء في الوسط ، فإذن النار تبقى في الوسط قسرا
مستندا إلى الطبع.
المسألة الخامسة : في أنّ لكل جسم شكلا طبيعيا ، وأنّ شكل
البسيط الكرة
قد ثبت فيما سبق
وجوب تناهي الأبعاد ، ومعلوم بالضرورة أنّ كلّ مقدار متناه فإنّه مشكّل ؛ لأنّه لا
بدّ وأن يحيط به حدّ واحد فيكون كرة ، أو حدود مختلفة فيكون مثلثا أو مربعا أو
غيرهما من أشكال المضلعات.
وفيه نظر ، لأنّ
الشكل إنّما يثبت للجسم بواسطة التناهي بالضرورة ، والتناهي ليس مستندا إلى ذات
الجسم وحقيقته ، وإلّا لما تصوّر جسم غير متناه ، فكيف يكون الشكل التابع له
طبيعيا للجسم.
وأمّا أن شكل
البسيط الكرة ، فلأنّ البسيط هو الذي له قوة واحدة ، والقوة الواحدة لا تفعل في
المادة الواحدة إلّا فعلا واحدا ، ولا شكل هو واحد سوى الكرة ؛ لأنّ ما عداها فيه
أفعال مختلفة مثل كون بعضها خطا ، وبعضها زاوية ، وبعضها نقطة ، فلا يصدر ذلك كلّه
عن الطبيعة الواحدة.
واعترض عليه بوجوه
:
الوجه
الأوّل : من البسائط ما ليس
شكله الكرة كالأرض ، فإنّا نشاهد فيها الجبال والأغوار والأنجاد.
__________________
لا يقال : إنّ هذه
الأشياء من التّضريسات الواقعة على ظاهرها بمنزلة الخشونة القليلة الواقعة على
ظاهر الكرة العظيمة ، فلا تخرجها عن الكرية ، لأنّه لا نسبة محسوسة لها إلى جملتها
، فإنّا لو فرضنا جبلا ارتفع نصف فرسخ ، كان نسبته إلى كرة الأرض ، كنسبة خمس سبع
عرض شعيرة عند كرة قطرها ذراع.
لأنّا نقول : الكرة
الحقيقة والدائرة الحقيقية لا تقبلان الأشد والأضعف والتفاوت وإن قلّ جدا بحيث يثبت في نفس الأمر ، ولا يثبت عند الحسّ
تخرج الطبيعة عن اقتضاء الكريّة ، فتكون الكريّة غير حاصلة.
الوجه
الثاني : كلّ فلك خارج
المركز فلا بدّ له من متمّمين على التبادل ، مختلفي الثخن والرقة ، فقد فعلت
الطبيعة في كلّ واحد من المتمّمين أفعالا مختلفة في الثخن والرقة ، فجاز أن تفعل
أفعالا مختلفة في الشكل ، وأيضا فإنّ أحد جانبي المتمّم ثخين والآخر رقيق ، فاختلف
الشكل ، وإن كانت الاستدارة حاصلة.
الوجه
الثالث : كلّ كوكب مركوز في
فلك إمّا خارج المركز أو تدوير ، فإنّه يرتكز في نقرة في ذلك الفلك وتلك النقرة
تحصل في ثخن بعض جوانب الفلك دون بعض ، فقد اختلف فعل طبيعة كلّ فلك.
الوجه
الرابع : القوة المصوّرة في
بدن الحيوان هي المؤثرة عندهم في أعضاء شكل الحيوان والنبات وعظمها ومقدارها
وملاستها وخشونتها ، وهي قوة طبيعية بسيطة ، ولم تفد موادها أشكال الكرة ، بل سائر
الأشكال غيرها.
لا يقال : السبب
في ذلك أنّ مادة الحيوان مركبة غير بسيطة من أجزاء مختلفة الطبائع والقوى.
لأنّا نقول :
سلّمنا ذلك ، لكن يجب أن تفعل كلّ قوة من أجزاء القوة المركبة
__________________
في مادّتها شكل
الكرة ، لأنّها قوة بسيطة حالّة في مادة واحدة ، لأنّ القوة المركبة إنّما تتركب
من القوى البسيطة ، فيكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض.
الوجه
الخامس : لو اقتضت طبيعة
البسيط الشكل الكريّ لاقتضت طبيعة المركب ذلك ، لأنّه لم توجد فيه سوى قوة البسيط
الآخر ، لكنّها معاونة للبسيط الأوّل على ذلك ، لأنّ طبيعة كلّ واحد من البسيطين
تعين طبيعة البسيط الآخر على ذلك الاقتضاء لاقتضائهما إياه ، وعند اجتماع العلل
على الأمر الواحد ، إن لم يصر الفعل أقوى ، فلا أقلّ من البقاء على حاله.
الوجه
السادس : سلّمنا أنّه لا
يكون مضلّعا ، فلم يجب أن يكون كريّا؟ فجاز أن يكون عدسيا أو بيضيا.
الوجه
السابع : الفلك عندهم
يستحيل خلوّه عن الوضع المطلق ، ولا يقتضي وضعا معيّنا ، فلم لا يجوز أن تكون
الأجسام لا تقتضي مواضع معيّنة ، ولا أشكالا معينة ، مع استحالة خلوّها عنهما؟
الوجه
الثامن : الشكل الطبيعي
واحد ، فجاز إسناده إلى الجسمية المشتركة ، فلا يجب باعتباره إثبات الصورة
النوعية.
وأجيب
عن الأوّل : بأنّ شكل الأرض
الكرة ، لكنّها لمّا انثلم منها جزء لم يحصل للباقي شعور بذلك الانثلام. واليبوسة
التي لها حافظة للشكل الأوّل ، فبقي الشكل الأوّل على ذلك الانثلام فحصلت الخشونات
بهذا السبب.
وفيه نظر ، لأنّ
اليبوسة إمّا أن تقتضي حفظ أي شكل اتفق ، مع أنّ الطبيعة تقتضي الشكل الكريّ ،
فتكون الطبيعة قد اقتضت أمرين متنافيين. وإمّا أن
تقتضي حفظ الشكل
الطبيعي ، وقد زال بالانثلام ، وحصل شكل غريب ، فلا يجوز لها أن تحفظه.
وعن
الثاني : بأنّ المتمّم ليس
جسما مستقلا بنفسه ، بل هو جزء من فلك ، فلا يجب أن تكون له طبيعة مستقلة ، وكلّية
الفلك لها طبيعة مستقلة ، فكان شكل الفلك هو الكرة.
قيل عليه : لو لم
يخالف كلّ واحد من المتمّمين صاحبه في الماهية ويخالف الفلك الذي بينهما ، لصحّ أن
[ينفذ] أحدهما إلى الآخر ، وأن يتشكّل بشكله ويحصل في موضعه ،
ولمّا امتنع ذلك امتنع تساويهما ، لأنّ اختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات.
وعن
الثالث : قال أفضل المحققين
: اتصال الصور الكماليّة ببعض البسائط في فطرتها الأولى لأسباب تعود إلى العلل
الفاعلية غير ممتنع ، كما أنّ اتّصالها ببعض المركّبات لأسباب تعود إلى العلل
القابليّة في الفطرة الثانية غير ممتنع ، فإنّ الكائن نباتا أو حيوانا في هذه
الفطرة إنّما تتصل به صورة كمالية نباتيّة أو حيوانية ، مع بقاء صور أجزائه
العنصريّة بحسب مزاجه ، كذلك لا يبعد أن تتّصل في الفطرة الأولى ببعض الأفلاك
المستديرة صورة (كمالية) تفرز من ذلك الفلك كرة تختصّ بها هي فلك خارج المركز أو
تدوير أو كوكب مع بقاء الصورة الأولى المتصلة بجميع أجزاء الفلك الأوّل فيها ،
ويكون ذلك بحسب أمر في العلّة المقتضية لوجود ذلك الفلك. ويلزم من ذلك أن يبقى من
الفلك الأوّل متمّم أو نقرة متصوّرة بالصورة الأولى فقط ، على ما يشهد به علم
الهيئة .
__________________
وفيه نظر ، لأنّهم
يمنعون من اقتضاء الطبيعة الواحدة أمرين متنافيين ، ولا شك عندهم في اقتضاء طبيعة
الفلك الكريّة ، فلو اقتضت شكلا مغايرا له لزم المحال عندهم ، وإن استند الشكل
الثاني إلى صورة أخرى كمالية لحقت به في الفطرة الأولى على ما قال ، لزم كون الفلك
مركبا من قوى وطبائع مختلفة فلا يكون بسيطا.
وعن
الرابع : أنّ شكل الحيوان
يستند إلى القادر المختار ، ولا يجوز اسناده إلى القوّة المصوّرة التي لا شعور لها
البتة ، فكيف يحكم عاقل بصدور هذه الخلقة العجيبة والهيئة الغريبة عن قوة جسمانية
لا تعقّل لها البتة.
قال أفضل المحققين
، القوة المصوّرة على تقدير بساطتها وتركّب محلّها ، وعلى تقدير تركّبها وتعلّق
أجزائها بأجزاء المحل ، لا تقتضي كون الحيوان مجموع كرات ؛ لأنّ حكم الشيء حال
الانفراد لا يكون حكمه حال التركيب مع الغير. ونحن إنّما ادّعينا أنّ القوة
الواحدة في المحل المتشابه تفعل فعلا متشابها ، ولم يلزم من ذلك أنّها تفعل في
أجزاء المحل المختلف فعلها في المحلّ المتشابه ، لأنّ المنفعل منها ليست هي
الأجزاء أفرادا ، بل المركب الذي هو المحل ، وكذلك لم يلزم أنّ القوة المركبة تفعل
فعل بسائطها ، لأنّ المجموع فاعل واحد كثير الآثار بحسب البسائط التي هي كآلات لها
، ليس عدّة فاعلين متشابهي الأفعال .
وفيه نظر ، فإنّ
القوة البسيطة إذا حلّت محلّا مركّبا كلّ واحد من أجزائه يفعل ما يفعله الآخر ، لم
يحصل هناك ما يقتضي خلاف ما اقتضته الأجزاء من القبول ، ولا خلاف ما اقتضته القوة
البسيطة.
__________________
وعن
الخامس : أنّ المركبات يحصل
فيها شكل غريب بسبب القواسر الخارجية ، ثمّ إنّ بما فيها من اليبوسة تحفظ ذلك الشكل الغريب على ما تقدم. وفيه
ما تقدم.
وعن
السادس : أنّ في البيضي
والعدسي اختلافا لقرب بعض الجوانب فيه من الوسط ، وبعد البعض الآخر.
وعن
السابع : بأنّ الفلك مع قطع
النظر عن غيره لا يوجب الوضع الذي هو المقولة لا مطلقا ولا معيّنا ، فلهذا حكمنا
بأنّه لا يقتضي وضعا معيّنا ، والجسم مع قطع النظر عن غيره يقتضي مكانا وشكلا
معيّنين ، فلذلك حكمنا بذلك.
وفيه نظر ، لأنّ
البحث ليس في الوضع بمعنى المقولة ، فإنّه لا يجب مطلقا ولا معيّنا. وأيضا المكان
لا يقتضيه الجسم من حيث هو جسم ، لأنّه السطح عندكم ، فيلزم التسلسل.
وعن
الثامن : أنّ الأشكال من
حيث هي مطلقة كذلك ، أمّا من حيث هي معيّنة متأخرة عن المقادير التي تختلف باختلاف
الطبائع ، ولذلك كانت مستندة إلى الطبائع.
وفيه نظر ، لأنّ
الشكل المعيّن كما تأخّر عن المقدار المعيّن ، كذا الشكل المطلق متأخّر عن المقدار
المطلق. ثمّ أيّ مدخل لتأخّره في عدم تعليله بالجسمية المشتركة؟
تذنيب
: الإناء القريب من
المركز ، يحتمل من الماء أكثر من البعيد عنه ، لأنّ قوس الدائرة المارة بطرفي
الإناء حال قربه بمركز الأرض ، أكثر تقبيبا من قوس الدائرة المارة بطرفي الإناء
حال بعده بمركز الارض.
__________________
البحث الخامس عشر : في الجهات
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تحقيق الجهة
للجهة أمارتان
باتفاق جماهير الفلاسفة :
الأمارة
الأولى : أنّها مقصد
المتحرك الأيني على الاستقامة ، فإنّ المتحرك في الأين يقصد بحركته الوصول إلى
منتهى حركته.
الأمارة
الثانية : أنّها مقطع منتهى
الإشارة الحسّية ، وذلك أنّ الإشارة امتداد يبتدئ من المشير وينتهي إلى المشار
إليه ، بأنّه هنا أو هناك ، فهي طرف الامتداد ونهاية بالنسبة إلى الامتداد ،
وبالنسبة إلى الحركة والإشارة جهة. فهي من ذوات الأوضاع ليست من المعقولات
المجرّدة التي لا وضع لها ، بل هي ذات وضع ، ووضعها في امتداد مأخذ الإشارة
والحركة ، لأنّه لو كان وضعها خارجا عن ذلك لكانت الإشارة والحركة ليستا إليها.
وهي غير منقسمة ، لأنّها لو كانت منقسمة ، فإذا وصل المتحرّك إلى منتصفها ولم يقف
، لم يخل إمّا أن يقال : إنّه يتحرّك بعد إلى الجهة ، أو يقال : إنّه يتحرّك عن
الجهة ، فإن كان يتحرّك بعد إلى الجهة فالجهة الجزء الثاني من المنقسم ، وليس
للأوّل مدخل في تحققها ، وإن كان يتحرك عن الجهة فالمنتصف الذي وصل إليه ، هو
الجهة لا جزء الجهة. فظهر أنّ الجهة حدّ في ذلك الامتداد، وطرف ونهاية غير منقسم.
__________________
لا يقال : أنتم
قسمتم الحركة الآخذة نحو شيء ذي وضع إلى حركة إليه وحركة عنه ، أي حركة قرب وحركة
بعد ، وهذه القسمة حاصرة بالقياس إلى ما لا ينقسم في جهة الحركة ، وغير حاصرة
بالقياس إلى ما ينقسم بوجود قسم آخر وهو الحركة فيه ، وإيراد قسمة لا يصحّ إلّا
بالقياس إلى ما لا ينقسم في بيان أنّ الشيء غير منقسم ، مصادرة على المطلوب.
لأنّا نقول :
الحركة في المنقسم إنّما تكون عن جهة أو إلى جهة ، ويعود القسمان الأوّلان ، وإلّا
جاز أن تكون جهة الحركة هي المسافة التي تقطع بالحركة ، وهو محال .
المسألة الثانية : في أنّ الجهة موجودة
لمّا كانت الجهة
مقصد المتحرك ومتعلق الإشارة لزم أن تكون موجودة ، فإنّ المتحرك لا يقصد التوجه
إلى شيء بالحصول فيه إلّا إذا كان ذلك الشيء موجودا. والإشارة أيضا إنّما تتناول
الأمر الموجود ذا الوضع.
لا يقال : ليس من
شرط ما يقصده المتحرك أن يكون موجودا ، فإنّ المستحيل من السواد إلى البياض يقصد
البياض ، وإن لم يكن البياض موجودا بعد ، فلم لا يكون المتحرك في الأين كذلك؟
لأنّا نقول :
الفرق بين الحركة في الأين والحركة في الكيف ظاهر ، لأنّ المتحرك إلى الجهة إنّما
يقصد الحصول في الجهة ، لا تحصيل الجهة بحركته ، فهي يتوخّى بلوغها أو القرب منها
، ولا يجعل الجهة ممّا يتوخّى تحصيل ذاتها بالحركة ، ولا تجعل لها عند تمام الحركة
حالا من الوجود أو العدم ، والمتحرّك في الكيف
__________________
يقصد بحركته تحصيل
الكيفية التي قصدها ، لا الحصول فيها. وأيضا لو كانت الجهة تحصل بالحركة لكانت من
ذوات الأوضاع ، موجودة غير منقسمة ، وهو المطلوب. والحق في الجواب هو الأوّل .
المسألة الثالثة : في عدد الجهات
وهنا رأيان :
مشهوري وحقيقي. فالمشهوري أنّ الجهات ست ، وله سببان رأي عامي، واعتبار خاصي .
أمّا العامي : فهو
أنّ الإنسان يحيط به جنبان عليهما اليدان ، وظهر وبطن ورأس وقدم. فالجهة القويّة
التي منها ابتداء الحركة يسمّونها اليمين ، وما يقابله يسمّونها اليسار ، والجهة
التي تلي رأس الإنسان الفوق ، ويقابله الأسفل ، وفي سائر الحيوانات الفوق ما يلي ظهورها ، والتحت مقابله ، والجهة التي تلي حاسّة الإبصار ، وإليه حركاتها
بالطبع تسمّى القدّام ، والخلف ما يقابله. و [لمّا] لم يكن عندهم جهة غير هذه ،
فجعلوا في الإنسان طوله من رأسه إلى قدمه ، وعرضه من يمينه إلى يساره ، وعمقه من
قدامه إلى خلفه، وحيث لم تكن الأسماء إلّا لهذه ، وقفت الأوهام على هذا المبلغ.
وأمّا الاعتبار
الخاصيّ : فهو أنّ كلّ جسم له أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا
__________________
قوائم لا أزيد ،
ولكل بعد طرفان ، فكانت الجهات ستا بعدد الأطراف. وهذا الاعتبار غير واجب ، لأنّ الأبعاد الثلاثة إنّما تعرض لو فرض بعد
واحد ، وجعل أصلا من غير أن يكون بالطبع ، فحينئذ يعرض عليه الخطان الآخران
القائمان عليه في جهتين ، لكن لو فرضنا امتدادا آخر غير مواز للأوّل ، لحصل لنا
ثلاثة أبعاد أخرى متقاطعة على قوائم غير تلك بالعدد ، وحصل لنا جهات ست غير تلك
الجهات ، لكنّ كلّ جسم سواء كان متناهيا أو غير متناه يمكن أن يفرض فيه خطوط غير
متناهية العدد تكون أصولا لخطّين آخرين قائمين عليه ، فتكون الجهات حينئذ غير
متناهية . والكرة لا جهة لها بالفعل ولها جهات غير متناهية بالقوة.
وأمّا المضلّعات
فإن اعتبرنا الخطوط والسطوح والنقط ، كان عدد جهاتها عدد حدودها ، ويكون الخط
والسطح جهتين باعتبار كونهما أطرافا ، لا باعتبار امتدادهما. وإن اعتبرنا في الجهة
عدم الامتداد فيها مطلقا ، كانت جهاتها الفعلية هي النقط التي تناهت خطوطها بها لا
غير. وأمّا بالقوة فغير متناهية كالكرة.
وقد يعرض فرض هذه
الجهات الست لغير الإنسان من الحيوانات وغيرها بالقياس إلى الإنسان حتى الفلك ،
فإنّ الجانب الشرقي منه يمينه والغربي يساره ، كالإنسان الذي يسمّى أقوى جانبيه
الذي تظهر منه الحركة يمينا ومقابله يسارا ووسط سمائه يشبه القدام ، ومقابله الخلف ، وأحد قطبيه العلو والآخر سفله.
__________________
وهذه الجهات الست
منها اثنتان بالطبع لا يتبدلان بتبدّل الفروض والأوضاع ، وهما الفوق والسفل. وأمّا
الأربعة الباقية فإنّها تتبدل بتبدل الفروض والأوضاع ، لأنّ المتوجه إلى المشرق
يكون المشرق قدّامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شماله ، فإذا توجه إلى
المغرب تبدلت جميعها ، فصار ما كان قدّاما خلفا ، وما كان يمينا شمالا ، وبالعكس ،
بخلاف الفوق والسفل ، فإنّ القائم لو صار منكوسا لا يصير ما يلي رأسه فوقا ، وما
يلي رجليه تحتا ، بل صار رأسه من تحت ورجلاه من فوق ، وكان الفوق والتحت بحالهما.
قيل : إن جعل اعتبار الفوق والسفل بالرأس والقدم تبدلا كغيرهما
، فإنّ شخصين لو قاما على طرفي قطر الأرض كان ما يلي رأس أحدهما يلي قدم الآخر ، ولا
يتبدّلان إن جعل الاعتبار بما يقرب من السماء وما يقابله.
وأجيب : ليس
المراد من اعتبار الرأس والقدم ما يلي رأس الشخص وقدمه ، فإنّا قد بيّنا تبدله
بالانتكاس ، بل المراد ما يلي الرأس والقدم بالطبع ، فلا يكون الطرف الآخر من قطر
الأرض هو الذي يلي القدم بالطبع .
واعلم : أنّ هذه
الجهات غير متخالفة بالماهية حتى تكون في كلّ جسم جهة هي بعينها يمين وأخرى هي
يسار ، وإنّما تميّز ذلك في الحيوانات بسبب أنّ الجانب الأقوى يخالف مقابله ،
فبسبب ذلك صار اليمين مخالفا لليسار. وكذا باقي الجهات ، إلّا الفوق والسفل فإنّ
اختلافهما قد يكون بالعرض وقد يكون بالطبع ، أمّا الأوّل فعلى ما يتفق وضعه ، فكل
جانب يلي الأرض من الجسم هو الجهة السافلة ، وما يقابله هو الفوق.
__________________
ثمّ إنّ الأرض عند
حصولها في حيّزها الطبيعي لا يقال : إنّ لها جهة تلي الأرض. فبهذا الوجه يحتمل أن
يقال : إنّه لا جهة لها إلّا الفوق إن عني بالجهة ما يلي نهاية الشيء ، لأنّ نهاية
الأرض سطح ، وسطحها يلي السماء. أمّا إذا كانت الجهة لا تقتضي النسبة إلى سطح ، بل
إلى كلّ طرف كبعد مفترض في الجسم ، فتكون حينئذ للبعد المفروض في الأرض جهة عند
مركز كرته الذي هو مركز الكل ، وجهة أخرى عند سطحه ، لكنّه لا تكون جهة العلو كجهة
السفل ؛ لأنّ جهة العلو سطح موجود بالفعل ، وجهة السفل نقطة موجودة بالقوة ، لكنّه
أيضا يحتمل أن يقال : جهة الفوق للأرض هي طرف البعد المتصل بالمركز ، والسطح هو
نقطة. وعلى هذا لا تكون الجهتان بالفعل ، بل بالقوة. لكن أحد أسباب انقسام المتصل
المسامتات والمحاذيات ، فإذا حصل [الأفق] للأرض بالفعل لوجود قائم عليها حصل ذلك البعد بالفعل ،
وحصلت النقطتان اللتان هما الجهتان بالفعل.
لا يقال : لو لم
يكن للأرض علو إلّا السماء وجب أن يكون لها علو ، لكن العلو علو بالقياس إلى أسفل
، فيكون لها سفل ، لكنّ السفل لا يتعيّن إلّا بتعيّن بعد ، والبعد لا يتعيّن بوجود
السماء ، بل لأجل قائم يحصّل للأرض افقا ، فيلزم أن يتعيّن العلو بوجود السماء ، وأن لا يتعين ،
هذا خلف.
لأنّا نقول :
العلو يراد به تارة ما يقابل السفل ، وتارة ما يلي جهة السماء ، وأحد العلوين مقول
بالقياس إلى أسفل ، والثاني معقول بنفسه لا يحوج تعقّله إلى اعتبار وجود ما يقابله
، فللأرض بالقياس إلى السماء وحدها جهة ، ولها بالقياس إلى غاية البعد التي هي
مركزها علو ، فاندفع الخلف بتغاير المعنيين.
__________________
والفوق والسفل
يوجدان للنبات والحيوان بالطبع ، فإنّ جهة الغصن فوق بالطبع وجهة الأصل سفل
بالطبع. ثمّ يعرض أن يصير الفوق أسفل وبالعكس ، ويكون الفوق حافظا للطبيعة الفوقية
وكذا السفل. وأمّا القدّام والخلف فإنّهما حاصلان للحيوان حالتي الحركة والسكون ،
وغير الحيوان إنّما تعرضان له عند الحركة ، فالجهة التي إليها الحركة تكون قدّاما
، والتي عنها الحركة تكون خلفا ، ومتى تغيرت الحركة تغير القدّام والخلف ، ولا
كذلك الحيوان فإنّ قدّامه وخلفه متعيّن بالطبع. وغير الحيوان قد يكون قدّامه وفوقه
واحدا عند ما يتحرك إلى فوق ، وتارة يتخالفان إذا كانت حركاته لا إلى الوسط ولا
عنه ، بل معترضة بينهما .
المسألة الرابعة : في تحدّد الجهات
أثبت الفلاسفة
جسما محيطا بكلّية العالم كري الشكل يحدّد الجهات أي يميّزها ، ونفاه المتكلمون.
وهذه مسألة من الطبيعيات تبنى عليها مسائل كثيرة عندهم مهمة سيأتي البحث فيها معهم
إن شاء الله تعالى.
واحتجوا هنا على
اثبات المحدّد ، بأنّ الجهات قد ثبت فيها جهتان متمايزتان بالطبع هما الفوق والسفل
، وأنّهما ذواتا وضع ، فتعيّن وضعهما ، إمّا في شيء متشابه سواء كان خلاء أو ملاء
، وإمّا في شيء مختلف ، والأوّل محال ؛ لأنّ المتشابهات تتساوى أحكامها ، فليس بعض الحدود المفروضة في ذلك
المتشابه بأن تكون جهة أولى من سائرها ، فإمّا أن يقتضي كلّها جهة واحدة ، وليس
إحداهما بأن يكون
__________________
مقتضاه أولى من
الأخرى ، أو لا يقتضي شيء منهما شيئا من الجهتين.
وأيضا الحدود في
المتشابهة بالفرض غير متناهية ، والجهتان بالطبع اثنتان فحسب ، فلا يكون التحديد
مستندا إلى الخلاء والملاء المتشابهين. فتعيّن القسم الثاني ، وهو أن يكون التعيّن
بشيء مختلف خارج ممّا يتشابه ، وذلك الشيء يستحيل أن يكون مجرّدا لتساوي نسبته إلى
الجميع ، فيكون جسما أو جسمانيا ، لوجوب كونه ذا وضع. وإذا كان جسما فإمّا أن يكون
جسما واحدا يحدّد الجهتين معا ، أو جسمين يحدّد كلّ واحد منهما واحدة منهما.
والجسم الواحد
إمّا أن يحدد الجهتين من حيث هو واحد أو لا من حيث هو واحد. والجسمان إمّا أن
يحددا بأن يكون أحدهما محيطا بالآخر ، أو بالمباينة ، فالأقسام أربعة :
أ
ـ أن يكون المحدّد
للجهتين جسما واحدا من حيث هو واحد ، وهو لا يمكن أن يكون محددا ، لأنّ كلّ امتداد
فله جهتان هما طرفاه لوجوب تناهيه ، وكذلك الطبيعيتان فإنّهما طرفا امتداد ،
فالمحدد يجب أن يحدّد جهتين معا ، والجسم الواحد من حيث هو واحد إن حدّد ما يليه
بالقرب فلا يمكن أن يحدد ما يقابله ، لأنّ البعد عنه ليس بمحدود.
ب
ـ أن يكون التحدد
بجسمين على سبيل إحاطة أحدهما بالآخر ، وهو باطل ، ومع ذلك فإنّ المطلوب حاصل به.
أمّا بيان بطلانه : فلأنّ المحاط به يكون داخلا في التحديد بالعرض لوقوع الاكتفاء
بالمحيط في تحديد الامتدادين بالقرب الذي يتحدّد بإحاطته والبعد الذي يتحدّد بأبعد
حدّ من محيطه وهو مركزه ، فلا يكون المحدد إلّا واحدا ، وأمّا حصول المطلوب به
فلأنّ المطلوب هو إثبات محيط بالأجسام كلّها يميّز الجهات ويحدّدها ، وقد ثبت.
ج : أن يكون التحدّد بجسمين على سبيل المباينة ، وهو باطل
لوجهين :
الأوّل
: كلّ واحد من
الجسمين إنّما يحدد جهة واحدة هي القرب منه ، ولا يتحدد البعد عنه ، فلا يكون واحد
منهما يحدد الجهتين معا ، وقد قلنا : إنّ المحدد يجب أن يحدد جهتين معا.
الثاني
: كلّ واحد من
الجسمين له جهات لا تتناهى بحسب فرض الامتدادات الخارجة منه ، ووقوع الآخر منه في
جهة من تلك الجهات وعلى بعد معين منه دون سائر الأبعاد الممكنة ، ليس بأولى من
وقوعه في جهة أخرى وعلى بعد معيّن منه دون غيره ممّا يمكن ، فإنّ الوقوع في كلّ جهة وعلى كلّ بعد من ذلك
ممكن بحسب العقل ، وإن امتنع فلمانع مؤثر في التحديد ، وهو أيضا يجب أن يكون
جسمانيا ذا وضع ، والكلام في وقوعه في بعض جهات هذين دون بعض وعلى بعد معين منهما
كالكلام فيهما ، فإن علّل بهذين صار دورا ، وإلّا تسلسل.
ولمّا بطلت
الأقسام بقي الرابع ، وهو أن يكون المحدد واحدا ، لا من حيث هو واحد ، ولا على أي
وجه يتّفق ، بل من حيث الإحاطة ، وهي الحال الموجبة لتحديدين متقابلين. فإذن محدّد
الجهات جسم واحد محيط بالأجسام ذوات الجهات.
والاعتراض من وجوه
:
الوجه
الأوّل : لا نسلّم أنّ هنا
جهة مغايرة للمكان ، فإنّ كلّ متحيّز على الإطلاق لا بدّ له من حيث وحيّز يشار
إليه بواسطته أنّه هنا أو هناك ، وهو معنى المكان ، ولهذا يقال للمتحرك إذا وصل
إلى جهته إنّه قد حصل في جهته ، ولا
__________________
يشيرون بذلك إلى
نقطة غير منقسمة.
الوجه
الثاني : لا نسلّم أنّ هنا
جهتين متخالفتين بالطبع ، وكيف يصحّ منكم هذه الدعوى؟ مع أنّ الجهة عندكم طرف الامتداد
وغير منقسم ، فتكون نقطة ، والنقطة عندكم لا وجود لها بالفعل ، فكيف تذهبون إلى
تخالفها بالطبع ، مع أنّ منكم من يذهب إلى أنّ النقطة عدمية ، والباقون منكم
يذهبون إلى أنّها فرضية.
الوجه
الثالث : النقط كلّها
متساوية في الماهية والحقيقة لو كانت ثابتة ، لأنّ مفهومها هو أنّها شيء ذو وضع
غير منقسم ، وهو معنى واحد لا اختلاف فيه البتة ، فكيف يصحّ منكم القول بأنّها
مختلفة بالطبع.
الوجه
الرابع : منعتم من اسناد
التحديد في الخلاء أو الملاء المتشابه لاقتضائه تمايز الجهتين المختلفتين بالطبع ،
مع أنّكم أسندتم هذا التحديد إلى طرفي الامتداد الآخذ من المحيط إلى المركز ،
والطرفان متساويان ، وهذا عين التناقض.
الوجه
الخامس : الأبعاد متناهية
فحصل بواسطة السطح الظاهر الذي هو نهايتها غاية البعد ، وحصل بما يتوهم أنّه وسط
لها ، ما يشبه المركز ، فحصلت الجهتان متميزتين من غير واسطة المحيط.
الوجه
السادس : إمّا أن يجعلوا
المحيط كلّه هو جهة القرب من الفلك فيلزم انقسام الجهة ، وأنتم منعتم من ذلك ، أو
بعضه فيلزم الترجيح من غير مرجح.
لا يقال : كلّ
امتداد يفرض آخذا من المركز إلى أي نقطة كانت من المحيط يكون طرفاه غير منقسمين.
وأحد الطرفين هو جهة القرب.
لأنّا نقول :
فحينئذ لا تنحصر الجهة الطبيعية في اثنتين.
لا يقال : قد
اشترك كلّ ما يقرب من المحيط في كونه قربا.
لأنّا نقول :
مقابل الواحد بالشخص ، وهو البعد الحاصل بالمركز ، يجب أن يكون واحدا بالشخص.
الوجه
السابع : إمّا أن يجعلوا
الفوق كلّ ما قرب من المحيط مطلقا ، أو ما يقرب منه مسامتا لرأس الإنسان بالطبع
حال قيامه على الأرض ، فإن كان الأوّل كانت الجهات الفرضيّة والطبيعيّة واحدة ،
وكان بخلاف العرف المشهور بين الناس. فإنّ ما يلي اليمين أو الشمال أو القدّام أو
الخلف ، لا يسمّونه فوقا ، وإن كان الثاني لم يجب الإحاطة في المحدد.
الوجه
الثامن : سلّمنا أنّ المحدد
محيط ، فلم أوجبتم فيه الكريّة؟ فإنّ تمايز الجهتين يحصل وإن كان مضلّعا ، وجاز أن
يكون بعض المحيط أقرب إلى المركز من بعض.
الوجه
التاسع : لم لا يجوز
التحديد بجسم واحد من حيث هو واحد ويتحدد به القرب منه؟ وأمّا البعد عنه فإنّه
يتحدد بواسطة تناهي الأبعاد.
الوجه
العاشر : لم لا يقع التحديد
بجسمين متباينين؟ وكما يتحدد بكلّ واحد منهما القرب منه ، كذا يحدد البعد عن
الآخر. ويكون حصول كلّ منهما حيث هو كحصول القطب في موضع دون غيره من الفلك
البسيط.
__________________
المقالة الثانية
في الكيف
وفيها فصول :
الفصل الأوّل :
في المقدمات
وهي اثنتان :
المقدمة الأولى : في تعريفه
الماهيات البسيطة
لا يمكن أن تحدّ على ما عرفت ؛ لأنّ الحدّ يتألف من
__________________
أجزاء المحدود ،
والبسيط لا جزء له ، بل إنّما يعرف بلوازمه البيّنة. ولمّا كان الكيف من الأجناس
العوالي لم يمكن تعريفه إلّا بالرسم. وقد اشتهر عن القدماء في رسمه أنّه : «هيئة
قارّة لا يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها ، ولا قسمة ولا نسبة في أجزاء
حاملها» فبالهيئة خرج الجوهر ، وكونها «قارّة» يميّزها عن مقولتي أن يفعل وأن
ينفعل وعن الزمان ، و «كون تصورها لا يوجب تصور غيرها» يميّزها عن المضاف والأين
والمتى والملك، و «وكونها غير مقتضية للنسبة في أجزاء حاملها» يميّزها عن الوضع ، و
«كونها بحيث لا تقتضي القسمة» يميّزها عن الكم.
قيل : المفهوم من «أن يفعل» مؤثّرية الشيء في الشيء ، فالشيئان
إن كانا ثابتين كانت مؤثرية المؤثر في المتأثّر أيضا ثابتة ، لأنّ المؤثرية من
لوازم الماهية المؤثّرة ولازم الثابت ثابت. وإذا كانت تلك المؤثرية ثابتة غير
متغيرة ، فقولنا «هيئة قارّة» لا يفيد الاحتراز عن تلك المؤثرية الثابتة ، إلّا أن
يقال : المؤثر إن كان متغيّرا كانت مؤثريته زائدة على الذات ، وإن كان ثابتا لم
تكن المؤثرية حكما زائدا على الذات ، وإذا كانت المؤثرية الثابتة غير ثبوتي لم
يحتج إلى الاحتراز عنها في الرسم ، ولكن ذلك تحكّم ، فإنّه ليس بأن تكون مؤثرية
المؤثر المتغير زائدا على ذاته ، أولى من أن تكون مؤثرية المؤثر الثابت زائدة على
ذاته.
وأيضا قولكم : «لا
يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها» يفيد الاحتراز عن مقولتي «أن يفعل» و
«أن ينفعل» ؛ لأنّهما من الأعراض النسبية التي يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن
حاملها ، فيستغني عن
__________________
ذكر القارّ. فإن
احترزوا به عن الزمان كان قولنا «لا يقتضي القسمة» كافيا ومغنيا عنه.
وأيضا الصوت من
مقولة الكيف ؛ لأنّه ليس جوهرا ، ولا كمّا متصلا غير قارّ ، لأنّه منحصر في الزمان
، ولا قارّا ؛ لأنّ الصوت غير قارّ على ما يأتي ، ولا من باقي المقولات ، فهو من
الكيف مع أنّه ليس بقارّ ، لأنّ معنى القارّ ما توجد أجزاؤه المفروضة فيه في آن
واحد ، وليس الصوت كذلك بالضرورة. ولأنّه معلول لتموّج الهواء ، والتموّج حركة
فالصوت معلول الحركة ، ومعلول غير القارّ يجب أن لا يكون قارّا. فإذن الصوت كيف
غير قارّ ، فلا يجوز اشتراط القارّ فيه .
وأيضا الوحدة عرض
قارّ لا يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها ، ولا تقتضي قسمة ولا نسبة في
أجزاء حاملها ، وكذا النقطة.
لا يقال : المعقول
من النقطة أنّها نهاية الخط ، وذلك لا يعقل إلّا عند تعقّل الخط. والوحدة معنى
يلزمه عدم الانقسام ، وهو لا يعقل ، إلّا عند تعقّل الانقسام ، فتصورها يوجب تصور
غيرها.
لأنّا نقول : إن
اعتبرتم في الكيف أنّه لا يلزم من تصوّره تصوّر غيره مطلقا خرج أكثر أنواع الكيف ،
فإنّ الاستقامة والانحناء لا يتصوران إلّا في المقدار. وإن لم تشترطوا ذلك ، بل أن
لا يلزم من تصوره تصور شيء خارج عن محلّه ، وما يلزم من تصوّره تصوّر محله أو
تصوّر ما يوجد في محله من الكيف ، فالوحدة والنقطة من الكيف ، إذ لا يلزم من
تصورهما إلّا تصوّر محلهما أو تصور حال من أحوال محلّهما.
وأيضا الإدراك
والعلم [والقدرة] والشهوة والغضب وجميع الأخلاق ، لا يمكن تعقّلها ، إلّا ويوجب
تصوّرها تصوّر متعلقاتها ، أعني المعلوم والمقدور
__________________
والمشتهى والمغضوب
عليه.
لا يقال : تصوّر
هذه وإن استلزم تصوّر متعلقاتها ، لكنّ تصوّرها سابق على تصوّر المتعلقات ، فإنا
نعقل العلم أوّلا ثمّ بعد ذلك نعقل أنّه لا بدّ له من متعلق ، بخلاف النسب
والإضافات ، فإنّه لا بدّ وأن نعقل المنسوب والمنسوب إليه أوّلا حتى يصير تعقّلهما
سببا لتعقل تلك الأمور النسبية. فلمّا كانت الكيفية يتقدم تعقّلها على تعقل ما هي
منتسبة إليها والإضافات متأخر تعقلها عن تعقل معروضاتها ظهر الفرق.
لأنّا نقول :
الفرق وإن كان صحيحا في الحقيقة ، إلّا أنّ عبارتكم لا تفيده ؛ لأنّ حاصله راجع
إلى أنّ الكيف هو الذي لا يتوقف تصوّره على تصوّر غيره ، إلّا أن يكون «تصوّره» في
قولنا : «ما لا يوجب تصوّره تصوّر غيره» منصوبا ، ويكون «تصوّر غيره» مرفوعا فيلائم تمام الرسم المذكور.
وأيضا لو حملنا قولكم «ما لا يوجب تصوّره تصوّر غيره» على أنّه
ما لا يكون تصوّره معلولا لتصوّر غيره ، فمع هذا كيف يطّرد الرسم في الشكل
كالتربيع والتثليث ، وفي خواص الأعداد كالجذرية والكعبية ، فإنّ التربيع هو الهيئة الحاصلة بسبب إحاطة الحدود
الأربعة بالسطح ، فما لم يتقدم العلم بالحدود الأربعة المحيطة بالسطح لا يحصل
العلم بتلك الهيئة. فإذن العلم بتلك الهيئة من الكيف وكذا خواص الأعداد ، فيكون
تصوّرها معلولا لتصوّر غيرها.
__________________
وأيضا الهيئة لفظ
مشترك ، فيقال : ١ ـ هيئة الوجود. ٢ ـ هيئة الاستقلال والاستقرار. ٣ ـ هيئة
الجوهرية والعرضية. ٤ ـ هيئة الجلوس. ٥ ـ هيئة التأثير والتأثّر ، والمشترك لا
يستعمل في الرسم.
وقولكم : «لا يوجب
تصوّره تصوّر شيء خارج عنه وعن حامله ، ولا نسبة ولا قسمة في أجزاء حاملها» لا فرق
بينه وبين أن نقول : الكيف هو الذي لا يكون كما ولا وضعا ولا سائر الأعراض
النسبية. ولو صرّح بذلك لم يكن تعريفا صحيحا ، وإلّا لصح ذلك في سائر المقولات ،
بل ذلك أولى ، لأنّ الأمور النسبية لا تعرف ، إلّا بعد معرفة معروضاتها التي هي
الكيفيات .
فإذن الأولى أن
يقال : «الكيف هو العرض الذي لا يتوقف تصوّره على تصوّر غيره ، ولا يقتضي القسمة
واللاقسمة اقتضاء أوّليا ، فخرج بقولنا «العرض» الباري تعالى والجوهر. وبقولنا «لا
يتوقف تصوّره على تصوّر غيره» الأعراض النسبية. والكيف وإن لزم من تصوّره تصوّر
غيره ، لكن لا على أنّ تصوّره معلول لتصوّر غيره ، بل على أنّ تصوّره علّة لتصوّر
غيره. ويدخل فيه الصوت ؛ لأنّ تصوّره لا يتوقف على تصوّر غيره. وبقولنا «لا يقتضي
القسمة واللاقسمة» نميّزه عن الكم والوحدة والنقطة ، لأنّهما يقتضيان اللاقسمة.
وقولنا «أوّليا» ليدخل فيه العلم بما لا ينقسم ، فإنّه يمتنع من الانقسام ، لكن
ذلك الاقتضاء ليس بأوّلي ، بل بواسطة وحدة المعلوم.
ولمّا كانت
الأجناس العالية بسائط لم يمكن تعريفها إلّا بالرسم ، إمّا بأمور
__________________
ثبوتية أو سلبية
تكون أعرف. والأجناس العالية خفية ، فلو قيل الكيف ما لا يكون جوهرا ولا كما ولا
غيرها كان المذكور سلب أمور ليست أعرف منه ، فلم يكن التعريف صحيحا.
أمّا ما اعتبرناه
من العرضية ـ أعني الحلول في محلّ متقوّم به ـ ومن عدم توقف تصوّره على تصوّر
الغير ، وأن لا يكون علّة الانقسام واللاانقسام كانت هذه السلوب سلوبا جلية ظاهرة
يصحّ التعريف بها.
المقدمة الثانية : في تقسيم الكيف
وهو جنس لأنواع
أربعة باتفاق الجماهير من الفلاسفة :
النوع
الأوّل : الكيفيات
المحسوسة.
فإن كانت ثابتة
راسخة فهي «الانفعاليات» وإن كانت سريعة الزوال فهي «الانفعالات».
النوع
الثاني : الكيفيات
النفسانية.
فإن كانت راسخة
فهي «الملكات» ، وإن كانت غير راسخة بل سريعة الزوال فهي «الحالات».
__________________
النوع
الثالث : الاستعداد الشديد.
فإن كان نحو
الانفعال فهو «اللاقوة» وإن كان نحو اللاانفعال فهو «القوة».
النوع
الرابع : الكيفيات المختصة
بالكميات.
إمّا المتصلة
كالاستقامة والانحناء والتربيع وشبهه ، أو المنفصلة كالزوجية والفردية. وقد ذكروا
في الحصر وجوها ضعيفة :
الأوّل
: الكيفية إمّا أن
تختص بالكمية أو لا ، فإمّا أن تكون محسوسا أو لا ، وإمّا أن تكون استعدادا نحو
الكمال وهو القوة واللاقوة ، أو نفس الكمال وهو الحال والملكة. وخواص الأدوية صور جوهرية لا من الكيف .
وهو غير تام ،
لأنّهم إذا فسّروا الحال والملكة بالكيفيات النفسانية احتمل أن توجد كيفية جسمانية
لا تختص بالكمية ، وليست محسوسة ولا مختصة بذوات الأنفس ، ولا تكون استعدادا .
الثاني
: الكيفية إمّا أن
تكون بحيث تصدر عنها أفعال على وجه التشبيه ، كالحار يجعل غيره حارا ـ لا كالثقل
الذي فعله في محله التحريك وليس بثقل ، وهو الكيفيات الفعلية والانفعالية ـ أو لا
، فإمّا أن تتعلق بالكم كالأشكال وغيرها
__________________
أو لا تكون ؛
فإمّا أن تكون للأجسام من حيث هي طبيعية ، وهي الفعلية والانفعالية أيضا ، أو من
حيث هي نفسانية ، وهي الكيفيات النفسانية.
الثالث
: الكيفية إمّا أن
تتعلق بوجود النفس ، وهي الكيفيات النفسانية ، أو لا ، فإمّا أن تتعلق بالكمية ،
وهي الكيفيات المختصة بالكميات ، أو لا ، فإمّا أن تكون هويتها أنّها استعداد وهي
القوة واللاقوة ، أو هويتها أنّها فعل ، وهي الانفعاليات والانفعالات.
الرابع
: الكيفية إمّا أن
تفعل على طريق التشبيه ، وهي الانفعاليات والانفعالات ، وإمّا أن لا تكون كذلك ،
فإمّا أن لا تتعلق بالأجسام ، وهي الحال والملكة ، أو تتعلق ، وذلك التعلق إمّا من
حيث كمّيتها ، وهي المختصة بالكميات ، أو من حيث طبيعتها ، وهي القوة واللاقوة ،
وعلى هذا التقسيم تضيع الكيفيات المختصة بالأعداد ، وهذه القسمة في الجميع غير
محيطة بطرفي النقيض.
الفصل الثاني :
في القسم الأوّل وهي :
الكيفيات الفعلية والانفعالية
وفيه مباحث :
البحث الأوّل :
في أمور كلّية لهذا القسم ، وهي أربعة :
الكلية
الأولى : إنّما سميت
الثابتة انفعالية لأمرين :
الأمر
الأوّل : انفعال الحواس
عنها ، فإن اعتبرنا في الإحساس كونه أوّليا خرج الثقل والخفة عنها ؛ لأنّ الشيخ نص
في «طبيعيات الشفاء» أنّهما ممّا لا يحسّ بهما إحساسا أوّليا ، ونصّ في «المقولات
من منطقه» : أنّهما من هذه
__________________
الكيفيات. ويخرج أيضا الألوان ؛ لأنّها لا تحس إلّا بواسطة الضوء.
وإن لم نعتبر الأولية دخل ما يحسّ ثانيا كالأشكال والحركات والسكنات وغيرها.
الأمر
الثاني : حدوثها ـ إمّا
بالشخص أو بالنوع ـ تابع لانفعالات موادها وللمزاج. أمّا بالشخص فكالصفرة التابعة
لسوء المزاج الحار المستحكم في الكبد وحلاوة العسل ، وإن لم يكن حدوثها لأجل
الانفعالات ، لكن من شأن تلك الحقيقة أن توجد عند الانفعال أيضا. وأمّا بالنوع
فكحرارة النار ، فإنّ الحرارة النارية وإن لم تحصل في النار بالانفعال ، لكن من
شأن الحرارة من حيث هي حرارة أن تحدث أيضا بالانفعال في مادة. وغير المستقرة ، وإن
كانت انفعالية باعتبار الأمرين ، لكنها لقصر مدتها وسرعة زوالها منعت اسم جنسها ،
واقتصر في تسميتها على اسم الانفعالات ، وإن لم يكن في أنفسها انفعالات.
الكلية
الثانية : قيل الخاصّة
المساوية لهذا النوع العامة لأفراده إنّها تفعل في موادها أشياء يشاركها في المعنى
، فإنّ الحار يجعل غيره حارا وكذا البارد ، والأسود يقرر شبحه في العين.
واعترض بأنّ الثقل والخفة من هذا النوع ولا يفعلان مثل أنفسهما ،
وبأنّ الشيخ ذكر في فصل «الاسطقسات» في علة تسمية الرطوبة واليبوسة بالمنفعلتين أنّه لم يثبت
بالبرهان أنّ الرطب يجعل غيره رطبا ، واليابس يجعل غيره يابسا ، فلا تفيدان مثل
نفسيهما.
الكلية
الثالثة
:
ذهب قوم من
القدماء إلى أنّ الكيفيات المحسوسة
__________________
لا حقيقة لها في
أنفسها ولا ثبوت لها في الخارج ، فليست النار حارة ، ولا الماء باردا ، ولا الثلج
أبيض ولا القار أسود ، بل هي انفعالات تعرض للحواس فقط. فقيل لهم : لم اختص اللون
بهذه الكيفية الخاصة لو لا اختصاصه في نفسه بتلك الكيفية؟
أجابوا : بأنّ
الأجسام مركبة من أجزاء لا تنقسم فعلا ، بل فرضا ، وأشكالها مختلفة ، فبسبب اختلاف
أشكالها واختلاف وضعها وترتيبها اختلفت الآثار الحاصلة في الحواس عنها ، فالذي
ينفصل منه شعاع يفرّق البصر بياض ، والذي ينفصل منه شعاع يجمعه سواد ، ويحصل من
اختلاط نوعي الشعاع الألوان المتوسطة. والذي يقطع إلى عدد أكثر وتكون أجزاء صغارا
شديدة النفوذ هو المحرق الحرّيف ، والمتلاقي لذلك التقطيع هو الحلو. والذي يحيطه أربعة
مثلثات تكون مفرّقة لاتصال العضو تحس منه بالحرارة ، والذي يحيط به ستة مربعات
تكون غليظة الأطراف غير نافذة في العضو فيحس منه بالبرد ، وكذا الروائح. فاختلاف
الإحساسات لاختلاف الأشكال والحواس المنفعلة ، لا لاختلاف الكيفيات الفاعلة التي
يثبتونها.
واحتجوا بأنّ
الإنسان الواحد يحس جسما واحدا على لونين مختلفين بحسب اختلاف وضعه في الوقوف ،
كطوق الحمامة ، فإنّها ترى شقراء وتارة ارجوانية وأخرى على لون الذهب بحسب اختلاف
المقامات واستعداد المادة بحسبها. ولو كان اللون حقيقيا لم يكن كذلك. والسكر في فم
الصّفراوي يجده مرا ، فاختلاف
__________________
الإحساس لاختلاف
المنفعلات. وسيأتي في علم الكون والفساد إبطال مذهب أصحاب الأشكال.
ثمّ يدل على
المغايرة بين الشكل واللون وجوه :
الوجه
الأوّل : أنّ الشكل محسوس
باللمس ، واللون غير محسوس باللمس ، فتغايرا.
لا يقال : ليس
المحسوس الشكل ، بل هيئة حاصلة في الحس ، والمؤثر في تلك الهيئة اختلاف الأشكال ،
ولا استبعاد في أن يكون الشكل المخصوص يفيد آلة البصر أثرا وآلة اللمس أثرا آخر.
لأنّا نقول : تلك
الآثار الحاصلة في الحواس إن كانت أشكالا ، وكلّ شكل ملموس ، فالأثر الحاصل في
العين ملموس ، وإن لم تكن أشكالا ثبت المطلوب من اثبات كيفيات مغايرة للأشكال ،
وإذا جاز ذلك فأي مانع يمنع من اثباتها في الجسم الخارجي؟ إلّا أنّ هذا لا يدل على
وجود الكيفية في الخارج ، بل على عدم استبعاد وجودها ، وهو غير كاف في الجزم
بوجودها.
والوجه في إبطال
هذه المقالات الالتجاء إلى الضرورة ، فإنّ كلّ عاقل لا يشك في ثبوت هذه الكيفيات
المحسوسة ، وإنكارها سفسطة.
الوجه
الثاني : الألوان متضادة ،
ولا شيء من الأشكال بمتضادة ، إذ ليس بين اثنين منها غاية البعد ، فلا شيء من
الألوان بشكل.
الوجه
الثالث : الإحساس بالشكل
يتوقف على وجود اللون ، والمتوقف على الشيء مغاير له.
والجواب عما ذكروه
: أنّ المرئي في طوق الحمامة ليس شيئا واحدا ، بل أطراف الريش ذوات جهات ،
وكلّ جهة لها لون يستر لون الأخرى بالقياس إلى القائم الناظر. واختلاف الإحساس
إنّما يكون لاختلاف المنفعلات ، لو سلّمنا لهم أنّ الإحساس عبارة عن انفعال البصر
عن المحسوس.
الكلية
الرابعة
:
ذهب قوم من أوائل
الحكماء غير محقّقين إلى أنّ هذه الكيفيات نفس الأمزجة ، فإذا كان المزاج بحدّ ما وبحال ما كان لونا معينا وطعما
معينا ، وإذا كان بحال آخر وبحدّ آخر كان لونا آخر وطعما آخر. وليس اللون والطعم
وسائر ما يجري مجراها شيئا ، والمزاج شيئا آخر. بل كلّ واحد منها مزاج مخصوص يفعل
في القوة اللامسة شيئا وفي القوة الباصرة شيئا آخر. وهذا المذهب باطل لوجوه :
الوجه
الأوّل : ليس المزاج إلّا
الكيفية الحاصلة من تفاعل الحار والبارد بحيث تستسخن بالقياس إلى البارد وتستبرد
بالقياس إلى الحار ، فتكون بالحقيقة من جنس الحرارة والبرودة ، فتكون مدركة باللمس
، واللون والطعم وغيرهما ليست ملموسة ، فلا تكون هي المزاج.
الوجه
الثاني : هذه الكيفيات توجد
فيها غايات وأطراف في التضاد ، والأمزجة متوسطة بين الغايات فتغايرا.
__________________
الوجه
الثالث : قد يحصل اللون
فيما لا مزاج فيه كالكواكب ، والطعم عند من يثبته للماء ،. وإنّما نشأ غلطهم من
أنّ الأكثر متابعة اللون والطعم للمزاج ، ونحن نسلّم ذلك ونمنع الوحدة بينهما.
البحث الثاني : في الكيفيات الملموسة
وهي الكيفيات
المدركة بالقوة اللمسية. والعناصر قد تخلو عن الكيفيات المدركة بسائر المشاعر دون
هذه ، لأنّ ما عدا هذه القوة من الحواس إنّما تدرك بتوسط جسم كالهواء أو الماء ولا يمكن أن يتوسط المتوسط بين نفسه وغيره. فإذن كلّ واحدة
من هذه الحواس لا تدرك المتوسط الذي يتوسط لها ، بل تجده خاليا عما تدركه هي ،
وتلك الأجسام لا تخلو عن الملموسة ، لأنّها لا تحتاج إلى متوسط.
وأيضا الحيوان قد
يخلو عن تلك المشاعر ، ولا يخلو عن اللمس. فلهذا قيل الملموسات أوائل المحسوسات
. وهي بالاستقراء : الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واللطافة والكثافة
، واللزوجة والهشاشة ، والجفاف والبلّة ، والثقل والخفة. وقد يدخلون في هذا الباب
الخشونة والملاسة ، والصلابة واللين فهنا أبواب :
__________________
الباب الأوّل
في الحرارة والبرودة
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في حدّ الحرارة والبرودة
اعلم أنّ الأمور
المحسوسة أظهر عند العقل من أن تكتسب بحدّ أو رسم ؛ لأنّها أعرف من غيرها. وقد حدّ
الشيخ في «الشفاء» الحرارة : بأنّها التي تفرّق بين المختلفات ، وتجمع بين
المتشاكلات. والبرودة : بأنّها التي تجمع بين المختلفات وتفرّق بين المتشاكلات . وذكر في «[رسالة] الحدود» أنّ الحرارة : كيفية فعلية
محرّكة لما تكون فيه إلى فوق لإحداثها الخفة ، فيعرض أن تجمع بين المتجانسات وتفرّق بين المختلفات وتحدث تخلخلا من باب الكيف وتكاثفا
من باب الوضع لتحليله وتصعيده اللطيف .
__________________
والتخلخل يعنى به تارة رقّة القوام وهو من باب الكيف ، ويعنى به
تارة انفشاش الأجزاء بحيث يخالطها جرم غريب ، وهو من باب الوضع.
والتكاثف مقابل له ، وهو إمّا ثخن القوام وغلظه ، أو اجتماع الأجزاء الوحدانية
الطبع ، وخروج الجسم الغريب عما بينها. فمن حيث إنّ الحرارة شأنها التلطيف
والترقيق [فهي] مفيدة للتخلخل الذي من باب الكيف. ومن حيث إنّها تجمع بين
المتشاكلات وتفرق بين المختلفات تفيد التكاثف الذي من باب الوضع الذي هو عبارة عن
اجتماع الأجزاء الوحدانية الطبع ، وخروج الجسم الغريب عما بينها.
وقولنا : «تجمع
المتشاكلات» إنّما هو في المركبات ، لأنّها إنّما تجمع ما ليس بمجتمع، والبسيط
مجتمع الأجزاء.
لا يقال : لا نسلّم أنّها تجمع بين المتشاكلات ؛ لأنّها تفرّق
الماء بالتصعيد وترمد الحطب وتفرقه. ولا أنّها تفرّق المختلفات لعدم قوتها على
تفريق أجزاء الطّلق والنورة والحديد والذهب والحيوان المسمى بالسمندل ، بل قد تجمع بين المختلفات كبياض البيض وصفرته.
__________________
سلّمنا ، لكنّه
ليس فعلا أوّليا لها ؛ لأنّ فعلها الأوّل تسييل الرطوبات المنجمدة بالبرد وتحليلها
ثم تصعيدها وتبخيرها ، فإن كانت المجتمعات مختلفة في قبول التحليل والتبخير كان بعضها أسرع وبعضها أبطأ ، فإذا بادر الأسرع دون الأبطأ
والمطيع دون العاصي عرض من ذلك تفرّقها ، وإن تشاكلت طبائعها تشابهت في الاستعداد
للحركة ، فلذلك لا تتفرق ، وإذا لم يكن فعلها الأوّل ذلك بل تسييل الرطوبات كان
تعريفها به أولى من الأوّل.
لأنّا نقول : ليست الحرارة تفرق الماء ، بل إذا استحال جزء منه لشدة
الحرارة فصار هواء فرّقت بينه وبين الماء الذي ليس من طبعه ، ثمّ يلزمه أن تختلط
بذلك الهواء أجزاء مائية ، فتصعد مع الهواء ويكون مجموع ذلك بخارا. وإنّما رمدت
الحطب ، لأنّ الأجزاء الأرضية التي فيه متماسكة بالرطوبات المائية التي فيها ،
فإذا فرّق بين الرطب واليابس عرض منه تناثر الأجزاء اليابسة.
وأمّا الطلق
والنورة والحديد فالنار قوية على تسييلها بحيل أصحاب الإكسير ، وخصوصا مع اعانتها
بما يزيدها اشعالا كالكبريت والزرنيخ. وإنّما لم يتفرق الذهب بالنار لشدة تلازم
بسائطه ، فكلّما مال فيها شيء إلى التصعّد حبسه المائل إلى الانحدار ، فتحدث حركة
دورية وغليان ، ولو لا هذا العائق لتفرق. وليس عدم تفريق النار له لأجل العائق
دليلا على أنّ النار لا تحاول التفريق. وليس عقد البيض جمعا له ، بل إحالة في
قوامه ثمّ تفرّقه النار عن قريب بواسطة التقطير.
وحقّ «أنّ الجمع
والتفريق ليسا أوّليين للنار» ؛ لأنّ الجمع والتفريق هنا معتبران بالقياس إلى
المركب. والفعل الأوّل للحرارة التحريك إلى فوق بواسطة ما يفيد من الميل المصعّد ،
لكن لمّا كانت أجزاء المركب مختلفة الاستعداد لقبول
__________________
التصعيد ـ فإنّ
الماء أقبل من الأرض ـ بادر الأقبل من تلك الأجزاء إذا حرّكتها الحرارة إلى فوق
للتصعيد قبل مبادرة الأبطأ ، والأبطأ يتحرك دون العاصي فيحصل منه تفريق تلك
المختلفات واجتماع المتشاكلات لتشارك الأشياء المتشاركة في الطبائع في الآثار ،
والتي تكون سريعة القبول تتحرك بأسرها ، والعاصي لا يتحرك منه شيء فيعرض
اجتماعهما.
وقد يتفق أن يكون
ما لا يقبل التصعيد مخالطا لما يقبله مخالطة شديدة ، فقبل أن يفرق الحار بينهما
يتصعّد اللطيف مستتبعا لتصعّد الكثيف المغلوب باللطيف في القوة ، فعلمنا أنّ الفعل
الأوّل للحرارة التصعيد إلى فوق. فلهذه العلّة قال في تعريفها : «إنّها قوة محركة لما يكون فيه إلى فوق
لإحداثها الخفة» ، ثمّ قال : «فيعرض لها جمع المتجانسات وتفريق المختلفات» ، فلا
يكون صدور الجمع والتفريق من الحرارة أوّليا ، بل ذلك تابع للخاصة الأولى ، وهي
التحريك إلى فوق على الوجه الذي بيّناه.
وفي قوله : «كيفية
فعلية محركة» نظر ؛ لأنّ المفهوم من الكيفية الفعلية ، الكيفية التي تؤثر في أمر
ما ، والمفهوم من المحرّك أنّه المؤثر في أمر ما شيئا ما هو الحركة ، والمفيد لشيء
جزء من المفيد لشيء ما هو الحركة ، فيكون الدال على مفيد الحركة دالا بالتضمن على
المفيد المطلق. فقوله كيفية فعلية محركة يشتمل على تكرار فالأولى حذفه.
لا يقال : هذا
التعريف ليس بحدّ ، لأنّه غير مركب من المقوّمات ، ولا برسم ، لأنّه مركب من اللوازم
البيّنة بحيث ينتقل الذهن منها إلى ماهية الملزوم ، وليس من فهم الحركة إلى فوق
والجمع بين المتشاكلات والتفريق بين المختلفات فهم أنّ المؤثر في ذلك الحرارة ، بل
ما لم نشاهد الحرارة ونشاهد منها هذه الآثار لم
__________________
نعرف لزوم هذه
الآثار لها ، فإذا لم نعرف ثبوت هذه الآثار لها إلّا بعد معرفة استنادها إليها
استحال أن تكون هذه الآثار معرّفة لها ، وإلّا دار.
لأنّا نقول : ليس
الغرض من رسوم هذه الكيفيات إفادة ماهيتها ، فإنّ الحس أفاد الممكن في ذلك ، بل
الغرض ذكر خواصّها وآثارها بحيث تميّزها عن غيرها ، وهو يحصل بذكر هذه اللوازم.
وأمّا اللذع فهو
كيفية نفّاذة جدا لطيفة ، تحدث في الاتصال تفرقا كثير العدد ، متقارب الموضع ،
صغير المقدار ، فلا يحس كلّ واحد بانفراده ، ويحس بالجملة كالوجع الواحد. والتخدير
بتبريد العضو بحيث يصير جوهر الروح الحاملة قوة الحس والحركة إليه باردا في مزاجه
، غليظا في جوهره ، فلا تستعملها القوى النفسانية ، ويجعل مزاج العضو كذلك فلا
يقبل تأثير القوى النفسانية ، وهاتان فعليتان.
واللذع يفعل ما
يفعل بفرط الحرارة المقتضية للنفوذ واللطيف. والتخدير يفعل ما يفعل بفرط البرودة
المقتضية لنفوذ الروح ، فهما تابعان للحرارة والبرودة.
المسألة الثانية : في اثبات البرودة والحرارة
ذهب جماعة من
قدماء الحكماء إلى أنّ البرودة ليست كيفية وجودية ، بل هي عدم الحرارة عمّا من
شأنه أن يكون حارا ، والضرورة تقتضي بطلان ذلك ، فلا حاجة هنا إلى إبطاله
بالبرهان. وقد استدل بعضهم على إبطاله بوجهين :
أ
: لو كانت البرودة
عدم الحرارة لكان الذي ندركه من الجسم البارد ، إمّا الجسم ، أو عدم الحرارة.
والأوّل باطل ، وإلّا لكنّا إذا أدركنا الجسم الحار وجب أن ندركه على حالة البرودة
، لأنّ برودته نفس جسميته المدركة حال حرارته ، لكن ذلك محال. والثاني باطل ، لأنّ
العدم لا يحس به.
__________________
ب : التكثف والسّيلان والجمود والتفرق والجمع أفعال ثبوتية
متقابلة ، فلا يستند الواحد منها إلى الجسمية المشتركة ، وإلّا لاشتركت الأجسام
فيه ، ولا إلى أمر عدمي ، لامتناع استناد الأثر الوجودي إلى المؤثر العدمي ، فلا
بدّ من كيفيتين ثبوتيتين لتكونا مصدرين للأفعال المتقابلة.
ولو قيل : المؤثر
في التكثف هو الجسمية بشرط عدم الحرارة ، لم يكن هذا أولى من أن يقال المؤثر في
التسييل الجسمية بشرط عدم البرودة .
وفيهما نظر : أمّا
الأوّل فلأنّه إذا كان المدرك نفس الجسمية لم يجب ادراك الجسم الحار على حالة
البرودة ، لوجود أمر زائد على الجسمية مناف للحرارة.
قال أفضل المحققين
: لا نسلّم أنّ العدم لا يحس به ، فإنّ الأمر العدمي إذا كان مقتضيا لأمر غير
ملائم ، يحس به من جهة مقتضاه ، كتفريق الاتصال ، والجوع ، والعطش، فإن كانت
البرودة عدم الحرارة ، وكانت الحاسّة محتاجة إلى حرارة تعدل مزاجها ، فعدم تلك
الحرارة يقتضي أمرا غير ملائم فيها فيحس به. ولم يقل أحد إنّ عدم الحرارة هو الجسم
، حتى يكون الإحساس بالجسم احساسا بالبرودة. والحق أنّ البرودة كيفية تضاد الحرارة
، فإنّ مقتضاها كالتكاثف والثقل ضد مقتضيات الحرارة ، كالتخلخل والخفة .
وفيه نظر : فإنّ
الضرورة قاضية بأنّ كلّ محسوس موجود ، والعدم المقتضي لأمر غير ملائم لا نحس به ،
بل بالمنافي ، كالألم عند تفرق الاتصال وعند الجوع وعند العطش. ولم يدعي المستدل
أنّ عدم الحرارة هو الجسم ، بل قال : إذا أدركنا الجسم البارد فهنا شيئان : الجسم
المطلق والبرودة ، فإن كانت البرودة عدم الحرارة ، والعدم لا يحس به لم يبق
المحسوس إلّا الجسم المطلق. والاستدلال على كون البرودة كيفية مضادة لمضادة آثارها
استدلال بالأخفى على ما هو ضروري.
__________________
وأمّا الثاني :
فإنّ هذه الأعراض تستند إلى الفاعل المختار ، أو إلى المبدأ الفياض عندهم بشروط
عدميّة ، أو إلى كيفية ثبوتية غير الحرارة.
وذهب جماعة من
المتكلّمين لا مزيد تحصيل لهم ، من جملتهم سعيد بن زرارة إلى أنّه ليس في النار
حرارة ، ولا في الزيتون زيت ، بل الحرارة تحدث فيها عند قربنا منها ، والزيت يحدث
عند العصر. وربّما قالوا : بل تحدث الحرارة فينا نحن عند قربنا منها. وهذه جهالة
ظاهرة. قال بشر بن المعتمر شعرا :
يا سعيد بن
زرارة وحمار ابن حمارة
|
|
ليس في الزيتون
زيت ، ليس في النار حرارة
|
المسألة الثالثة : في تعديد أصناف الحار والبارد
الحار قد يقال على
ما يحس بحرارته ، كالنار. وقد يقال على ما لا يكون كذلك ، بل يكون ظهور تلك
الكيفية منه موقوفا على ملاقاته لبدن الحيوان ، كما يقال للغذاء والدواء إنّهما
حارّان. وعليه يقاس البارد.
وللقسم الثاني
منهما ـ وهو الذي لا نحس فيه بالحرارة والبرودة ، بل يكون ظهورهما موقوفا على
ملاقاة البدن ـ علامات بعضها تجريبيّة وبعضها قياسية. وهو من وجوه : أضعفها اللون
، وتارة الطعم وأخرى الرائحة ، وتارة سرعة الانفعال وعسره ، فإنّ المتخلخل أسرع
انفعالا عمّا يلاقيه من المتكاثف ، لضعف جرميّة المتخلخل وقوة جرميّة المتكاثف.
فالأجسام إذا تساوت في القوام ثمّ تفاوتت في قبول الحرارة من فاعل واحد فالأقبل
يكون في طبعه أسخن ، لأنّه لمّا تساوى نسبة الفاعل والقابل منهما ، لو لم يختص
الأقبل بما يعاضد الخارجي ، لم يكن الأثر
__________________
الحاصل فيه أقوى.
وإن تفاوتت المنفعلات في القوام فالأقوى قواما إن انفعل أسرع ، ففيه ما يقتضي تلك
الكيفية ، بل هو أولى من المساوي. وأمّا الأضعف فلا يدل سرعة انفعاله على شيء ؛
لاحتمال أن يكون ذلك لأجل ضعف قوامه.
وتارة بالاشتعال
والجمود ، فإنّ المتماثلين في القوام إذا عرضا على فاعلين متساويين في القوة ،
فالأسرع جمودا أبرد ، والأسرع اشتعالا أحر ، وإن اختلفا قواما فإن كان المتكاثف
أشد اشتعالا فهو أسخن ؛ وإن كان المتخلخل ، فلا دلالة لجواز استناد السخونة إلى رقة القوام.
المسألة الرابعة : في خواص الحرارة والبرودة
للحرارة خواص
أربعة :
أوليها
: من شأن الحرارة
إفادة الميل المصعّد وبواسطته التحريك. ولمّا اختلفت المركبات في اللطافة والكثافة
، وكلّ ما كان ألطف كان أقبل للخفة من الحرارة ، فإنّ الهواء أسرع قبولا لذلك من
الماء الذي هو أسرع فيه من الأرض ، لا جرم إذا عملت الحرارة في المركب بادر الأقبل
منها للتصعيد قبل الأبطأ فيعرض تفرق المختلفات ، فتجتمع المتجانسات بمقتضى طبائعها
؛ لأنّ الجنسية علّة الضم .
ثانيتها
: تسويد الرطب وتبيض
اليابس ، وإنّما تفعل الحرارة في الرطب سوادا ، لا صعادها للأجزاء المشفة وتحليلها للرطوبات ، فخلصت الأجزاء
__________________
الكثيفة ، كما
تفعل في الحطب والأشربة المحترقة ، وفي بشرة الإنسان إذا لاقتها الشمس كثيرا وتفعل
في اليابس بياضا لتفريق أجزائها واخراج ما يقبل الإصعاد منها وتكثير سطوح الأجزاء
الباقية منها القابلة لانعكاس النور من بعضها إلى بعض ، كما تفعل في الأملاح
والأسباخ ، وفي الفحم أجزاء رمادية. وقد يظن أنّ بياض الجص منه لا من مداخلة
الهواء ، وإلّا بلغ السحق والتصويل بحجر الجص إلى ذلك البياض. والبرودة بالعكس منها.
ثالثتها
: إفادة القوام كما
في بياض البيض.
رابعتها
: أنّها تحدث
بالحركة ، للتجربة.
وأنكره أبو
البركات ، لأنّ العناصر الثلاثة في وسط الأثير والأفلاك كالقطرة في البحر المحيط ،
فلو كانت الحركة مسخّنة لأثّرت الحركات السريعة التي في الأفلاك مع الأثير في
تسخين هذه العناصر الثلاثة ، حتى كان يصير الكل نارا .
وهو ضعيف ؛ لأنّ
الأجرام الفلكية وإن كانت متحركة لكنّها غير قابلة للسخونة ، والشيء كما يعتبر في
حصوله الفاعل يعتبر فيه أيضا القابل ، فلا يلزم من حصول الحركة في الأجرام العلوية
كونها متسخنة. وأيضا فإنّ مقعر الفلك ومحدب النار سطحان أملسان ، فلا يلزم من حركة أحد السطحين حركة الآخر ، فإذن أجرام
الأفلاك غير متسخّنة حتى يلزم من سخونتها سخونة العناصر. ولا يلزم أيضا من حركاتها
حركات هذه العناصر ، حتى يلزم من حركاتها سخونتها. فإذن لا يلزم من حركة الأفلاك
مع عظمها وسرعتها ، سخونة هذه العناصر على صغرها.
__________________
تذنيب : لا شك في مضادة الحرارة للبرودة ، ولهذا تضادت آثارهما. وهل
يضادهما ثالث؟ فيه احتمال إن جوزنا كثرة الأضداد ، وإلّا فلا. وإنّما فعلت البرودة
في الرطب بياضا ، لاجماد أجزائه وتكثيفه وتحصيل فرج خالية فيما بينها يملأها
الهواء. وتتكثر سطوح أجزائه التي ينعكس النور من البعض إلى البعض ، كما تفعل في
الثلج والصقيع والأجسام المتكرجة التي قد حللت رطوباتها الحرارة ، ثمّ عقدتها البرودة ،
لينحل عليها تكرجا أبيض. وتفعل في اليابس سوادا لتكثيفه وقبضه واخراج ما في خلله من
الجسم المشف بالقسر ، كما تفعل في الأشجار والزروع إذا أصابها البرد الشديد ،
فيقال لها أحرقها البرد. وتفعل في أعضاء الحيوان مثل ذلك. وكما تفعل في الأخلاط
السوداوية في أبدان الحيوانات ، وفي الحماة تحت الطين ، فإنّ الغالب على طبيعتهما
اليبس ، ولاستيلاء البرد عليهما يسودّان ، وكما في الأحجار السود في الجبال
وغيرها.
المسألة الخامسة : في الحرارة الغريزية
اختلف الأوائل في
الحرارة الغريزية ، فذهب بعضهم إلى أنّها مخالفة بالنوع للحرارة النارية. قال
الشيخ في «القانون» : الحار الخارجي إذا حاول إبطال الاعتدال فإنّ الحار الغريزي
أشد الأشياء مقاومة له ، حتى أنّ السموم الحارة لا تدفعها إلّا الحرارة الغريزية ،
فإنّها آلة للطبيعة تدفع ضرر الحار الوارد بتحريك الروح إلى دفعه ، وتدفع ضرر
البارد الوارد عليه بالمضادة. وليست هذه الخاصية للبرودة ، فإنّها إنّما تنازع
وتعاوق الحار الوارد بالمضادة فقط ، ولا تنازع البارد الوارد.
__________________
فالحرارة الغريزية
هي التي تحمي الرطوبات الغريزية عن أن يستولي عليها الجفاف ، ولهذا يقال : حرارة غريزية ، ولا يقال : برودة غريزية .
وحكى في «حيوان
الشفاء» عن المعلم الأوّل أنّه قال : الحرارة المنويّة التي بها
تقبل علاقة النفس ليس من جنس الحار الاسطقسي الناري ، بل من
جنس الحار الذي يفيض من الأجرام السماوية ، فإنّ المزاج المعتدل بوجه ما مناسب
لجوهر السماء ؛ لأنّه منبعث عنه. وفرق بين الحار السماوي والحار الأسطقسي ، واعتبر
ذلك بتأثير حرّ الشمس في أعين العشي دون حرّ النار ، وبسببها صار الروح جسما إلهيا نسبته من
المني والأعضاء نسبة العقل من القوى النفسانية ، فالعقل أفضل المجردات والروح أفضل الأجسام.
وذهب آخرون إلى أنّها من جنس الحرارة النارية ، فالنار إذا خالطت
العناصر ، وكانت تلك النار تفيد ذلك المركب طبخا واعتدالا وقواما ، ولم تبلغ في
الكثرة إلى حيث تبطل قوامها وتحرقها ، ولم تكن في القلة بحيث تعجز عن الطبخ
__________________
الموجب للاعتدال ،
فتلك هي الحرارة الغريزية. وإنّما تدفع الحرّ الغريب لما يحاول الحار الغريب
التفريق وتلك الحرارة الغريزية أفادت من النضج والطبخ ما يعسر عنده على الحرارة
الغريبة تفريق تلك الأجزاء ، فلهذا السبب تدفع الحرارة الغريزية الحرارة الغريبة ،
فالتفاوت بين تلك الغريزية وتلك الغريبة ليس في الماهية ، بل في كونها جزءا من
المركب ، والغريبة ليست كذلك. فلو توهّمت الحرارة الغريبة جزءا من المركب ،
والغريزية خارجة عنه ، لكانت الغريزية عند ذلك تفعل فعل الغريبة ، والغريبة تفعل
فعل الغريزية .
والمعتمد عندي
الأوّل فإنّ الحرارة التي في النار غير ملائمة للحياة ، والتي في بدن الحيوان
ملائمة لها. وهنا حرارة أخرى هي الفائضة عن الأجرام الفلكية. وتأثير الحرارة
الشمسية في أعين العشي الإبصار دون حر النار ، فعلمت المباينة بين هذه الأنواع.
ومن المعلوم أيضا أنّ الحرارة الغريزية تفتقر إلى البنية ولا يكفي فيها المحل الواحد ، بل لا بدّ فيها من مزاج
مخصوص. والحرارة النارية لا تفتقر إلى شيء من ذلك .
المسألة السادسة : في بقايا أحكامهما على رأي المتكلمين
وهي : أوّلا : أنّهما باقيتان ، للدليل العام على بقاء الأعراض. وربّما
التجأ بعضهم في ذلك إلى الضرورة ، فإنّا نعلم قطعا أنّ برودة الماء وحرارة النار
لا يتجددان حالا فحالا ، كما نعلم ذلك في الجسم المحسوس.
__________________
ثانيا
: طريق إدراكهما لمس
محلهما. وإذا قيل : إنّهما مدركان لمسا فالمراد ملامسة المحل؛ لأنّ اللمس لا يقع
إلّا بين الجسمين. ويكفي في ادراكهما كلّ محل فيه حياة من غير حاجة إلى حاسّة
مخصوصة ، وهو ممنوع. وسيأتي تتمة البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
وإذا أدركناهما
بمحل الحياة فإنّما ندركهما في غيره ، بخلاف الألم الذي يدرك بالحياة في محلّها ؛
لأنّ الواحد منّا إنّما يدرك حرارة بدنه بلمسه ببعض آخر.
ثالثا
: ذهب أبو القاسم
الكعبي إلى أنّ الحرارة والبرودة مقدورتان للعباد ، لأنّ الواحد منّا يحك خشبة
بأخرى فتحصل حرارة.
وذهب آخرون إلى
أنّ تلك الحرارة كامنة في الخشبة يظهر بالحك ، لا أنّها تحدث بالحك ، وإلّا لحصلت
عند حك الجليد بالجليد. وهؤلاء منعوا من استحالة الماء إلى الحرارة ، أو الحار إلى
البرودة ، وعلّلوا الحرارة والبرودة بمجاورة النار أو الهواء البارد. وسيأتي البحث
معهم في إبطال الكمون إن شاء الله تعالى.
رابعا
: قال أبو القاسم
الكعبي : إنّ الهواء قد يصير نارا مما يفعله أحدنا في القدح من الحجر والحديد.
ومنعه آخرون وقالوا : إنّ النار كانت كامنة فيهما ، إذ لو استند إلى القدح لم
تختلف الأجسام في ذلك. وربّما علّلوا ذلك بأنّ الحجر يكتسب النارية من حرارة الشمس
على طول الدهر ، وكذا الخشبة ، وهما باطلان.
خامسا
: قال جماعة من
المتكلّمين : إنّ النار إنّما تحرق لأجل ما يختص به من الاعتماد دون الحرارة ،
لأنّ الحرارة لا جهة لها فكيف تولد في غير محلها؟! والإحراق يحصل في غير محل
الحرارة. وأيضا الإحراق تفريق مخصوص ، وهو مقدور لنا ، فلو ولّدته الحرارة لقدرنا
عليها ؛ لأنّ القادر على المسبب قادر على سببه.
وقال جماعة من
الأشاعرة : إنّ الإحراق لا يحصل من النار ، بل من الله تعالى ، ولا أثر للنار فيه
، بل نسبة النار إليه كنسبة الجمد إليه ، ونسبة البرد إلى الجمد كنسبته إلى النار.
وهذان القولان
ضعيفان. والمعتمد استناده إلى قوة مودعة في النار حادثة بعناية الله تعالى ومقتضى
حكمته.
سادسا : نقل عن
الأوائل توقف إحراق النار لما يحرقه على هواء يتخلل بين النار وبين ما يحترق بها ،
وتقف حركتها على الهواء ؛ لأنّ الثوب إذا وضع على جسم صقيل لم يحترق لعدم تخلل
الهواء.
ومنعه المتكلّمون
، لأنّ المولد للتفريق هو الاعتماد ، سواء كان هناك هواء أو لا ، بل المانع هناك
صقالة الجسم فإنّها تمنع من تخلل النار فيه. وأمّا امتناع اشتعال النار في البئر
وامتناع اشتعال المصباح إذا وضع عليه ما يمنع الهواء ، فلأنّ كثافة هواء البئر
تطفي السراج ، كما تطفي إذا ديس تحت الرجل ، وإذا وضع عليه حب وشبهه لم يجد منفذا
فيتراجع.
الباب الثاني
في الرطوبة واليبوسة
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعريفهما
قد عرفت في ما
تقدم أنّ الأمور المحسوسة أرفع من أن تعرّف بحد أو رسم ؛ لأنّ كلّ ما يقال في
تعريفها فهو أخفى منها. وتعريفاتها لا يمكن أن تشتمل إلّا على إضافات واعتبارات
لازمة لها لا يدلّ شيء منها على ماهيّاتها بالحقيقة ، فهي لا تفيد في تعريفها ما
يفيد الإحساس بها . نعم قد يحصل الاشتباه بينها وبين غيرها فنذكر بعض الخواص
في إزالة ذلك الاشتباه. وقد وجدنا للرطوبة وصفين أحدهما : أنّها كيفية بها يكون الجسم سهل الالتصاق بالغير
سهل الانفصال عنه. وثانيهما : أنّها كيفية بها يكون سهل التشكّل بشكل الحاوي
الغريب سهل الترك له.
قال الشيخ في
الشفاء : إنّ الجمهور يظنّون أنّ الجسم إنّما يكون رطبا إذا كان
__________________
بحيث يلتصق بما
يلامسه ، ويعتقدون أنّ الرطوبة حقيقتها هذا. وهو باطل ، لأنّ الجسم كلّما كان أرقّ
كان أقل التصاقا بما يلامسه ، وكلّما كان أغلظ كان أشدّ ملازمة. فلو كان الالتصاق بالغير
لأجل الرطوبة لكان الأرطب أشد التصاقا وهو باطل ، فإنّ الماء اللطيف الجيد إذا غمس
فيه الإصبع كان ما يلزم الإصبع منه أقل ممّا يلزم من الماء الغليظ أو الدهن أو
العسل ، فثبت أنّ الالتصاق لازم للكثافة والغلظة. ولما بطل هذا الاعتبار بقي
للرطوبة واليبوسة الوصف الثاني ، وهو سهولة التشكّل بشكل غيره مع سهولة تركه له ،
ولليابس عسر قبول الأشكال الغريبة وعسر تركه لها. فالرطوبة إذن هي «الكيفية التي
بها يكون الجسم سهل التشكّل بشكل الحاوي الغريب ، وسهل الترك له». واليبوسة هي : «الكيفية
التي يعسر بها قبول الشكل الغريب ، وبها يعسر تركه له» .
وقال في الحدود :
الرطوبة «كيفية انفعالية تقبل الحصر والتشكّل الغريب بسهولة ، فلا يحفظ ذلك ، بل
يرجع إلى شكل نفسه [ووضعه اللّذين بحسب حركة جرمه في الطبع]». واليبوسة «كيفية
انفعالية عسرة القبول [للحصر و] للتشكل [الغريب ، عسرة الترك له والعود إلى شكله
الطبيعي]» . واعترض بوجهين :
الأوّل
: جعل الرطوبة قابلة
للتشكّل ، وهو محال ، فإنّ الرطوبة غير قابلة للتشكّل ، بل الجسم يقبل التشكّل
بسببها.
__________________
الثاني
: أنّه قال : «كيفية
انفعالية قابلة للتشكّلات» ، وهو يدل على الانفعال ، فيجب حذفه ، فإذا حذف وحملنا
قوله «قابلة للتشكّلات» على أنّها هي التي لأجلها يقبل الجسم التشكّلات ، صار هكذا
: الرطوبة هي الكيفية التي لأجلها يقبل الجسم التشكّلات ، وهو ما ذكره في الشفاء.
وقيل لو فسّرت
الرطوبة «بما من شأنه أن يسهل التصاقه بغيره وانفصاله عنه» ، كان أولى ، لاتفاق
الجمهور على أنّ الرطب يفيد اليابس المختلط به استمساكا عن التشتت ، ولا يمكن ذلك
إلّا بأن يلتصق بما يلامسه ، فإنّ الهواء لو اختلط بالتراب اليابس لم يفده
استمساكا ، بل زيادة تشتت ، ولو فسّرنا اليبوسة «بالكيفية التي باعتبارها يعسر
قبول الأشكال» ، لم يبق بينها وبين الصلابة فرق ، فكان يجب أن تكون النار صلبة
يابسة ، وذلك باطل ، فإنّ النار ألطف العناصر وأكثرها رقة وأبعدها عن الكثافة ،
وإذا كان كذلك فالنار أقبل العناصر للأشكال الغريبة بسهولة ، فكان يجب أن تكون
النار أرطب العناصر ، وهو ممّا لا يقول به عاقل.
وقال بعضهم : إذا
أوقدنا في تنوّر شهرا أو شهرين ، فإنّ الهواء الذي في داخل التنور ينقلب أكثره
نارا ، فكان ينبغي أن يظهر من ذلك في الهواء ممانعة ، لأنّ النار يابسة ، واليابس
ممانع ، ولكنّا إذا أدخلنا فيه جسما لم نجد فيه ممانعة أصلا ، بل ربّما صار ذلك
الهواء عند استحالته نارا ألطف وأقبل للخرق ، فبطل ما قالوه.
وقول الشيخ : «لو
كانت الرطوبة لأجل الالتصاق ، كان الأكثر التصاقا أشد رطوبة» ، إن عنى بكثرة
الالتصاق سهولته ، فلا شك أنّ الشيء كلّما كان أرطب كان أسهل التصاقا بالغير ،
ولكنّ العسل ليس أسهل التصاقا بغيره من الماء ، بل الماء أسهل. وأيضا العسل أعسر
انفصالا ، وكلّ ما كان كذلك كان أعسر اتصالا ، فلا يلزم أن يكون العسل أرطب من
الماء. وإن عنى بكثرة الالتصاق دوامه ، فنحن لا
نفسّر الرطوبة
بدوام الالتصاق حتى يلزم أن يكون الأدوم التصاقا أرطب ، وكيف نقول ذلك والأدوم
التصاقا لا بدّ وأن يكون أعسر التصاقا؟ وذلك ضدّ ما جعلناه تفسيرا للرطوبة ، وهو
سهولة الالتصاق.
فالحاصل : أنّ
المحال الذي ذكره إنّما يلزم لو فسرنا الرطوبة بدوام الالتصاق ، فأما إذا فسّرناها
بسهولة الالتصاق لم يلزم ما قالوه .
لا يقال : لو كان
الالتصاق معتبرا في حقيقة الرطوبة بأي اعتبار كان لزم أن يكون الأدوم التصاقا أرطب.
لأنّا نقول : لا
نذهب إلى أنّ الرطوبة نفس الالتصاق ، وكيف والالتصاق من باب المضاف والرطوبة من
باب الكيف؟! بل الرطوبة [هي] الكيفية التي باعتبارها يستعدّ الجسم للالتصاق بالغير
، وتلك الكيفية تلزمها لا محالة سهولة الانفصال المنافي لصعوبة الانفصال ، كما أنّهم
لا يقولون : الرطوبة هي الشكل نفسه ، حتى يكون الأثبت شكلا ، وهو اليابس ، أرطب ،
بل يقولون : الرطوبة سهولة قبول الشكل ، وكذا هنا. فإذن ما يكون عسر الانفصال يكون
عسر الاتصال ، ونحن إذا جعلنا سهل الاتصال رطبا ، لا يلزمنا أن نجعل عسر الانفصال رطبا ، فثبت أنّ الرطوبة هي «الكيفية التي يستعد الجسم
باعتبارها لسهولة الالتصاق بالغير وسهولة الانفصال عنه» .
واعلم أنّ الجمهور
يفسّرون الرطوبة بالبلّة ، ولهذا لا يطلقون الرطب على الهواء ، بل على الماء فتكون
اليبوسة بهذا الاعتبار هي الجفاف .
__________________
وقال في الشفاء :
البلّة هي «الرطوبة الغريبة الجارية على ظاهر الجسم» كما أنّ الانتفاع هي «الرطوبة
الغريبة النافذة إلى باطنه» والجفاف «عدم البلّة في ما من شأنه أن يبتلّ». وأمّا
اليبوسة فقد فسّرها الشيخ بأنّها «الكيفية التي بها يعسر قبول الأشكال الغريبة
وتركها» وهذا بالصلابة أولى.
فالواجب إذن أن
نقول : نرى من الأجسام ما تتفرّق أجزاؤه وتنفرك بسهولة ، ومنها ما لا يكون كذلك. والثاني هو الصلب ،
والأوّل على قسمين : منها ما تكون مركبة من أجزاء صغار لا يقوى الحس على إدراك كلّ
واحد منها منفردا ، وكلّ واحد منها يكون صلبا ، ولا يكون سهل الانفراك ، ولكن
البعض منها متصل بلحامات سهلة الانفراك ، ومنها ما يكون كلّ الجسم في طبيعة تلك
اللحامات في سهولة الانفراك ، كالمدر الخالص الأرضية الترابي ، فالأوّل الهش
والثاني اليابس ، فاليبوسة هي «الكيفية التي يكون الجسم معها سريع التفرّق عسر
الاجتماع» .
والوجه أنّ الكفية
إن اقتضت سهولة الاتصال والانفصال فهي الرطوبة وإن اقتضت عسرهما فهي اليبوسة. وإن
اقتضت سهولة الانفصال وعسر الاجتماع فهي الهشاشة والسلاسة . وإن اقتضت عسر الانفصال وسهولة الاتصال فهي اللزوجة.
فاللزوجة «كيفية تقتضي سهولة التشكّل مع عسر التفريق ، والشيء بها يمتد متصلا ،
وتحدث من شدّة امتزاج الرطب الكثير باليابس القليل» .
__________________
المسألة الثانية : في إثبات الرطوبة واليبوسة
قيل : إذا جعلنا الرطوبة «ما لأجله يسهل قبول الجسم للأشكال»
فذلك كلام مجازي ؛ لأنّ السهل والصّعب من باب المضاف ، والرطوبة واليبوسة ليستا من
المضاف.
وفيه نظر ، فإنّه
لا استبعاد في صدور الإضافي عن غير المضاف نعم المحال تحديد غير المضاف بالأمر
الإضافي ، فالاعتراض لازم لو قلنا الرطوبة سهولة قبول الأشكال .
ثمّ قالوا : بل
الرطب هو «الذي لا مانع له في طباعه عن قبول التشكّلات الغريبة ، وعن رفضها».
واليابس هو «الذي في طباعه مانع يمنع من ذلك مع إمكانه» فيكون التقابل بينهما
تقابل العدم والملكة ، لأنّ الرطوبة صارت مفسّرة بعدم المانع ، ويكون الإحساس بها
ليس إلّا أن لا يرى مانع ولا معاوق ، وباليبوسة ما يرى مانع. فالرطوبة بانفرادها
لا تدل على وجود الجسم ، واليبوسة تدل .
ثمّ إنّ الرطوبة
إمّا أن تكون قابلية الأشكال ، فلا تكون أمرا وجوديا ، لأنّ قابلية الشيء للشيء لو
كانت زائدة لافتقرت إلى قابلية أخرى ، لأنّها تكون عرضا قائما بالذات. أو تكون علة
القابلية وهو محال ؛ لأنّ الجسم قابل لكل الأشكال لذاته ـ ولذلك فإنّ القبول حاصل
لليابس ـ ولمّا كانت قابلية الجسم للأشكال حكما ثبت له لذاته استحال أن يستدعي
علّة زائدة ، فالرطوبة بهذا التفسير
__________________
لا تكون وجودية.
وقيل : لو كانت الرطوبة على تفسيرهم وجودية فالأشبه أنّها غير
محسوسة ، لأنّ الهواء رطب بذلك المعنى ، فلو كانت محسوسة لكان يجب أن يكون الهواء
المعتدل الذي لا حرّ فيه ولا برد ولا حركة له مدركا باللمس ، لرطوبته ، ولو كان
كذلك لكان الهواء دائما محسوسا ، فلا يقع شك في أنّ الفضاء الذي بين السماء والأرض
ملاء لا خلاء. ولمّا لم يكن كذلك عرفنا أنّ الرطوبة على تفسيرهم غير محسوسة. ولو
عنينا بها الكيفية التي معها يكون الجسم سهل الالتصاق فهي محسوسة وجودية. وقد
اختلف قول الشيخ ، ففي «القانون» أنّها غير محسوسة ، ولعلّه أراد بذلك سهولة قبول
الأشكال. وفي كتاب «النفس» أنّها محسوسة ولعله أراد الرطوبة بمعنى سهولة الالتصاق .
والتحقيق أن نقول
: الرطوبة قد تطلق على البلّة ، وهي المعنى المتعارف عند الجمهور ، وقد تطلق على
تقبل الانعطاف والميل بسهولة كالأغصان. وفيما ذكروه أوّلا نظر ، فإنّ جعل الرطوبة
أمرا عدميا باطل ، لأنّ الحسّ يفرّق بينها وبين اليبوسة ، وعدم المنع من قبول الشك
أمر مبدؤه الرطوبة لا نفس الرطوبة. والرطوبة إذا فسّرت بأمر عدمي افتقرت إلى محل
وجودي يقوم به ؛ لأنّها حينئذ تكون عدم ملكة ، وأعدام الملكات يفتقر إلى محالّ
ملكاتها. وقابلية الأشكال ليست نفس الرطوبة ، بل الرطوبة كيفية بها يقبل الجسم
الأشكال بسهولة ، والقبول وإن كان لازما لطبيعة الجسم ، لكن كونه بسهولة ليس لذاته
، بل بواسطة الرطوبة.
__________________
المسألة الثالثة : في سبب كون الحرارة والبرودة فعليّتين
وكون الرطوبة واليبوسة انفعاليّتين
قيل الحرارة
والبرودة قد يحصل بينهما تفاعل وتأثير وتأثّر ، كما يحصل بين الرطب واليابس ، فلما
ذا كانت الحرارة والبرودة فعليتين ، والرطوبة واليبوسة منفعلتين ؟! أجيب: بأنّ السبب في ذلك أمور ستة :
السبب
الأوّل : الأضداد لا يجب أن
تكون كلّها متفاعلة ، فإنّ الخفة والثقل ضدان ولا يؤثر ثقل الثقيل في خفة الخفيف
مع بقاء طبيعته ، بل تغيّر خفة الخفيف وثقل الثقيل تابع لتغيّر طبيعة كلّ منهما.
وكذا الرطب إذا خالط اليابس بلّه ، ولم ينقل اليابس عن يبوسته إلى الرطوبة فإنّه
لم يثبت ذلك بالبرهان ، وكذا اليابس إذا خالط الرطب نشّفه ، فأمّا أن ينقله عن
الرطوبة إلى اليبوسة ، مع بقاء طبيعته ، فلم يثبت بالبرهان أيضا. أمّا الحرارة
والبرودة فإنّ البرهان قائم على انقلاب الحار باردا وبالعكس من غير أن يخالط كلّ
منهما صاحبه ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى في باب الكون والفساد.
السبب
الثاني : الحار والبارد
يفعلان في الرطب واليابس دون العكس ، فإنّ الحرّ يفيد الترقيق والرطوبة ، والبرودة
تفيد التكثيف واليبس ، فالحرارة والبرودة كلّ واحدة منهما فاعلة في الأخرى ، وهما
فاعلتان في الرطوبة واليبوسة. وأمّا الرطوبة واليبوسة فليس لواحدة منهما فعل في
الأخرى ولا في الحرارة والبرودة ، فلهذا جعلت الحرارة والبرودة فاعلتين دون
الرطوبة واليبوسة.
السبب
الثالث : لو سلّمنا أنّ بين
الرطوبة واليبوسة تفاعلا كما بين الحرارة
__________________
والبرودة ، فإذا
أردنا تعريف الحرارة لم نعرّفها بفعلها في ضدها ؛ لأنّا لا نعقل فعله في ضده إلّا
بعد تعقل ضده ، وإنّما نعقل ضده بفعله فيه ، فيلزم الدور ، بل المعرّف للحرارة لوازم فعلية ، وهي
الصعود إلى الفوق ، والجمع بين المتشاكلات ، والتفريق بين المختلفات. وكذا البرودة
بأفعال أخر تضاد تلك الأفعال ، وأمّا الرطوبة واليبوسة فإنّهما نعرّفهما بسهولة
قبول الأشكال وعدمه ، وهي لوازم انفعالية. فلما عرّفنا الحرارة والبرودة باللوازم
الفعلية ، والرطوبة واليبوسة باللوازم الانفعالية ، جعلنا الأوليين فعلية
والأخريين انفعالية.
السبب
الرابع : الكيفية لا تكون
منفعلة البتة ، بل المنفعل إنّما هو الموضوع المستقل بنفسه ، والكيفية ليست كذلك ،
بل الكيفية قد تكون علّة لصيرورة الموضوع مستعدا للانفعال ، وقد تكون علّة
لصيرورته مستعدا نحو الفعل ، والرطوبة واليبوسة من قبيل الأوّل ، فسميتا
بالانفعاليّتين ، والحرارة والبرودة من قبيل الثاني فسميتا بالفعليّتين.
السبب
الخامس : إذا نسبنا الحرارة
والبرودة إلى الرطوبة واليبوسة وجدناهما فاعلتين فيهما ، والرطوبة واليبوسة لا
تفعلان فيهما إلّا بالعرض ، كالخنق المنسوب إلى الرطوبة ، وذلك إمّا بسبب أنّ الرطوبة تجمع
الحار على شكل مضاد للطبيعة ، وإمّا لأنّ الأرطب الكثير لا ينفعل عن الحار ولا يستحيل إلى المادة الصالحة
لحفظ الحرارة فلا يتولّد حار بعد حار ، فإذا انفصل الأوّل لم يعقبه الثاني ، كما
يعرض عند كثرة دهن السّراج.
السبب
السادس : اللمس يتأثر عن
الحار والبارد ، ولا يتأثر عن الرطب واليابس إن قلنا إنّهما غير محسوستين.
__________________
المسألة الرابعة : في بقايا مباحث الرطوبة واليبوسة :
وهي ثلاثة :
الأوّل
: قيل : الرطوبة جنس
لرطوبة الماء ورطوبة الدهن ورطوبة الزيتون وغيرها ، فإنّ رطوبة الماء مخالفة
لرطوبة الدهن ، وهي مخالفة لرطوبة غيرها. ولا دليل لهم على ذلك. وقيل إنّها نوع ،
وزعم أنّ الاختلاف إنّما هو بسبب اختلاط اليابس والرطب. ولا دليل أيضا عليه.
الثاني
: لا شك في التضاد
بين الرطوبة واليبوسة ، فإنّ عدم اجتماعهما معلوم بالضرورة وبينهما غاية التباعد ،
لأنّهما طرفان. وقيل لهما ضد ثالث. إن منعنا من تكثّر ضد الواحد لم يكن لهما ثالث
، وإن سوّغناه أمكن ، لكن لا دليل على ثبوته.
لا يقال : الخشونة
ضد الرطوبة والملاسة ضد اليبوسة.
لأنّا نقول :
سيأتي إن شاء الله تعالى أنّهما ليستا من باب الكيف الملموس.
الثالث
: السيلان عبارة عن
حركات توجد في أجسام متفاصلة في الحقيقة متواصلة في الحس لدفع بعضها بعضا كالتراب
والرمل ، والوجه عدم اشتراط التفاصل فالسيلان غير الرطوبة وغير مشروط بها.
الباب الثالث
في اللطافة والكثافة
واللزوجة والهشاشة والصلابة واللين
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في اللطافة والكثافة
اللطافة يقال
بالاشتراك على رقة القوام ، وهي سهولة قبول الأشكال الغريبة وتركها. وعلى قبول
الانقسام إلى أجزاء صغيرة جدا . وعلى سرعة التأثر من الملاقي . وعلى الشفافية . والكثافة يقال لمقابلات هذه.
قال الشيخ :
التّخلخل يشبه اللطيف بالمعنى الأوّل ، إلّا أنّ التخلخل يستدعي
معنى زائدا على الرقة ، وإن كان تابعا لها حتى تكون الرقة تدل عليه دلالة
__________________
الملزوم ،
والتخلخل يدل عليه دلالة التضمن ، فإنّه يفيد الرقة مع الزيادة في الكم ، حتى لو
لم يوجد ذلك كان الأولى بالمعنى اسم اللطافة والرقة.
وفيه نظر ، فإنّ
مفهوم التخلخل الحقيقي ليس إلّا «خلع المادة مقدارا ولبسها مقدارا أكبر» وذلك غير
مختص في المفهوم بالرقيق وإن كان في الوجود مختصا به في الأكثر.
ويقال التخلخل ،
ويراد به تباعد أجزاء الجسم بعضها عن بعض على فرج يشغلها ما هو ألطف منها ، وليس
مرادا هنا.
ثمّ إنّ اللطيف
والمتخلخل بالمعنى الأوّل غير نافع في الفعل والانفعال إلّا بالعرض ، وهما جاريان
مجرى الثقل والخفة ، ويكاد أن يتلازما حتى أنّ كلّ ما هو أثقل فهو أغلظ وأشد
تكاثفا.
وقد يقال تخلخل للانفشاش ، كالصوف المنفوش. ويقال لما إذا صار الجسم
إلى قوام أقبل للتقطيع والتشكيل من غير انفعال يقع فيه. ويقال لقبول المادة حجما
أكبر. فالأوّل من الوضع والثاني من الكيف والثالث كم ذو إضافة ، أو إضافة في كم.
وقد يظن اتحاد الثاني والثالث. وهو غلط ، فإنّ النار أشد تخلخلا من الهواء بمعنى
زيادة الحجم ، وليس أقبل منه للتشكيل والتقطيع ، فإنّ الهواء رطب جدا والنار يابسة
، والهواء إذا استحال نارا ازداد حجمه وقلّت رقته.
واعترض على قول الشيخ : «إنّ اللطيف والمتخلخل بالمعنى الأوّل غير
نافع في الفعل والانفعال إلّا بالعرض» ، والمعنى الأوّل هو الرقة التي فسّرها
بسهولة قبول التقطيع والتشكيل ، وهذا هو الذي فسّر الرطوبة به ، فأخرج
__________________
الرطوبة من
الكيفيات النافعة في الفعل والانفعال ، مع أنّ مطلوبه في هذا الفصل إثبات ذلك.
وأيضا حكم بكون
الثقل والخفة لازمين للكثافة واللطافة بهذا المعنى حتى أنّ كلّ أخف ألطف بمعنى رقة
القوام وقبول التقطيع والتشكيل ، وهذا هو الرطب عنده ، فتكون النار أرطب الأجسام.
وأيضا حكم أوّلا «بأنّ
الرقة تدل على التخلخل دلالة الملزوم على اللازم والتخلخل يدل على اللطيف دلالة
التضمن» ، وهو يناقض قوله في المقولات : إنّ الرقة قد توجد بدون الزيادة في الحجم
كالنار تصير هواء ، فإنّه يزداد رقّته ، وينقص مقداره.
فالحق أن يقال :
المراد من سهولة قبول الأشكال الرقة واللطافة ، ومن الرطوبة سهولة الالتصاق بالغير
وسهولة الانفصال. والكثافة هي صعوبة قبول الأشكال. ومعلوم أنّ اللطافة غير نافعة
في الفعل والانفعال إلّا بالعرض من حيث لا تمنع من الاختلاط بالغير. والرطوبة
بمعنى سهولة الالتصاق نافعة ، لأنّها تفيد الاجتماع عن التشتت.
المسألة الثانية : في اللزوجة والهشاشة والبلّة والجفاف
قد عرفت أنّ
اللزوجة هي «الكيفية التي بها يسهل الالتصاق والاتصال ، ويعسر
الانفصال والتفريق ، بل يمتد بها الشيء متصلا» ، فهي كيفية مزاجية لا
__________________
بسيطة ، بل مركبة
من رطب ويابس شديدة الالتحام فإدعانه من الرطب واستمساكه من اليابس ، فقد تحصل اللزوجة من مزج
التراب بالماء وجمعها بالدق والتخمير حتى يشتد المزاج.
وأمّا الهشاشة :
فهي «كيفية مزاجية أيضا ، يصعب بها التشكّل ويسهل التفريق» لغلبة اليابس وقلة
الرطب وضعف المزاج.
والبلّة هي «الرطوبة
الجارية على ظاهر الجسم الحاصلة من الغير» ، فإنّ الرطب هو الذي تقتضي صورته
النوعية كيفية الرطوبة ، والمبتل ليس كذلك ، بل جاوره جسم كذلك. والانتقاع هي «الرطوبة
الحاصلة من الغير ، النافذة في عمق المجاور». والجفاف «عدم البلّة فيما من شأنه أن
يبتل».
المسألة الثالثة : في الصلابة واللين والخشونة والملاسة
قد يغلب على ظن
جماعة أنّ الصلابة واللين من باب الكيفيات الملموسة ، وليس كذلك . فإنّ اللين «كيفية تقتضي قبول الغمر إلى الباطن ، ويكون للشيء بها قوام غير سيال فينتقل عن
وضعه ، ولا يمتد كثيرا ، ولا يتفرّق بسهولة. وإنّما يكون قبوله للغمر من الرطوبة
وتماسكه من اليبوسة» فهنا أمور ثلاثة :
__________________
الأمر
الأوّل : الحركة الحاصلة في
سطحه المقارنة لحدوث شكل التقعير.
الأمر
الثاني : التشكّل بشكل
التقعير.
الأمر
الثالث : استعداد قبول
الانغمار.
والأوّل من باب
الحركة والثاني من الكيفيات المختصة بالكميات. وهما محسوسان بالبصر بخلاف اللين.
فلم يبق إلّا الأخير ، وهو أنّ كون الشيء لينا عبارة عن كونه مستعدا لقبول ذلك
الانغمار استعدادا تاما. وكذا الصلب قيل : هو الذي لا ينغمر ، وهناك أيضا أمور
ثلاثة :
الأمر
الأوّل : عدم الانغمار.
الأمر
الثاني : بقاء الشكل.
الأمر
الثالث : المقاومة.
وليست الصلابة هي
الأوّل ، لأنّه عدمي. ولا الشكل الباقي ، لأنّه من الكيفيات المخصوصة بالكميات.
ولا المقاومة المحسوسة ، فإنّ الهواء الذي في الزق المنفوخ فيه مقاومة ، وليست فيه
صلابة ، لأنّ الهواء لم يصلب ، ولا ينعقد أصلا ، وكذا الرياح. بل الصلابة هي
الاستعداد الطبيعي الذي في ذلك الشيء نحو اللاانفعال ، وظاهر أنّ الاستعداد الشديد
نحو الانفعال واللاانفعال غير محسوسين ، فالصلابة واللين ليستا من الكيفيات
المحسوسة .
وأمّا الخشونة فهي
عبارة عن «اختلاف وضع الأجزاء في ظاهر الجسم ، بأن
__________________
يكون بعضها ناتئا وبعضها غائرا» وهذا من باب الوضع. والملاسة «استواء الأجزاء
في الوضع» فهما من باب الوضع لا من باب الكيف الملموس.
وأيضا إنّهما لا
يحس بهما إلّا بواسطة المقادير والحركات والأشكال ، ومع ذلك فإنّهما لا تفعلان في
الحس تأثيرا من جهة نفس الحال العارضة لأجزائها مطلقا الذي هو الوضع ، بل لأمر آخر
هو صلابة أو رخاوة أو حرارة أو برودة ، فهما إذن خارجتان عن الكيف وعما يكون
محسوسا ، لكنّ الأوائل عدوهما من الكيفيات ، ويمكن أن يكون الوضع مبدأهما.
__________________
الباب الرابع
في الثقل والخفة
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في مغايرتهما للحركة وللقوة المحركة
هاهنا ميل يكون الجسم به مدافعا لما يمنعه من الحركة إلى جهة ما. ومدافعته
محسوسة ـ إمّا نحو الفوق وهو الخفة ، أو نحو السفل وهو الثقل ـ مغايرة للحركة
وللقوة المحركة ، لأنّ الزّق المنفوخ إذا حبس تحت الماء قسرا ، والحجر الموضوع
على اليد ، يحس منهما مدافعة نحو الفوق والسفل ، والحركة غير موجودة. فالميل الصاعد غير
الحركة إلى فوق ، والميل الهابط غير الحركة إلى أسفل.
وأيضا المدافعة قد تكون نفسانية ، كما إذا اعتمد انسان على انسان
__________________
بحيث لا يتمكن
أحدهما من الحركة ، فقد وجد الميل دون الطبيعة المحركة ولأنّ الجسم في حيّزه
الطبيعي يكون عديم الميل ؛ لأنّه لا يميل عنه ـ وإلّا لكان الطبيعي متروكا بالطبع
ـ ولا إليه ـ لأنّه موجود فيه ـ مع أنّ طبيعته موجودة ، فتكون الطبيعة مغايرة
للميل. ولأنّ الطبيعة جوهر ، فلا تكون قابلة للشدّة والضعف ، والمدافعة تقبل الشدة
والضعف ، فتغايرا.
المسألة الثانية : في أنّ الميل هل هو نفس هذه المدافعة أو
علّتها
فيه خلاف بين
الأوائل ، فقال بعضهم إنّهما متغايران ؛ لأنّ الحلقة التي يجذبها جاذبان متساويان
تقف في الوسط ، فكلّ واحد منهما قد فعل فعلا معوّقا لفعل الآخر ، وليس ذلك هو
المدافعة ؛ لأنّها ليست موجودة البتة ، ولا قوة الجاذب الآخر ، لأنّها لا تستند
إليه ، ولأنّه إن لم يفعل في المجذوب فعلا لم يصر مجرد قوته عائقا لأن يفعل فيه
غيره فعلا ، فإذن قد فعل كلّ منهما فعلا غير المدافعة. ولا شك أنّ الذي فعله كلّ
منهما لو خلا عن المعارض لاقتضى انجذاب الحلقة إليه ، فثبت وجود شيء لو خلا عن
المعاوق لاقتضى الدفع إلى جهة مخصوصة ، وليس نفس الطبيعة ؛ لأنّها تحرك إمّا إلى
فوق أو إلى أسفل ، والذي فعله المتجاذبان غير ذلك. فإذن هذه المدافعة لها علة غير
الطبيعة وغير القوة النفسانية.
المسألة الثالثة : في تعريفهما
قال في الحدود :
الثقل «قوة طبيعية يتحرك بها الجسم إلى الوسط بالطبع»
__________________
والخفة «قوة
طبيعية يتحرك بها الجسم عن الوسط بالطبع» .
قيل : المركز نقطة يمتنع حصول الجسم بالكلّية فيها ؛ لاستحالة
حلول المنقسم في الجهات الثلاثة الطويل العريض العميق في شيء وضعي غير منقسم ،
وإذا امتنع حلول الجسم في النقطة استحال طلبه للحصول فيها.
وأجيب : بأنّ معنى
الثقيل ليس أن يحصل في المركز ، بل أن ينطبق مركز ثقله على مركز العالم ،
وحين صار ملاقيا سطحه مركز العالم فإنّه لا يقف هناك ، بل يتحرك وينزل إلى أن
ينطبق مركزه على مركز العالم إذا لم يعقه عائق. ونعني بمركز الثقل النقطة التي
يتعادل ما على جوانبها.
واعترض أيضا :
بأنّ قوله «بالطبع» تكرار ؛ لأنّ الطبيعة تغني عنه.
وأجيب : أنّ قوله «بالطبع»
صفة الوسط ، فإنّ منه ما هو وسط بالطبع ، وهو مركز المحدد. ومنه ما ليس بوسط
بالطبع ، وهو مركز الأفلاك الخارجة المراكز ، فإنّ لكل واحد منها وسطا تكون حركته
عليه ، وليس وسطا بالطبع ، بل بالنسبة إليه خاصة.
واعلم أنّه كما
يقال : «ثقل» لهذه القوة الطبيعية التي يتحرك بها الجسم إلى حيث ينطبق مركز ثقله
على مركز العالم أعني الميل ، كذا يقال على الطبيعة المقتضية له ، وعلى المدافعة
الحاصلة ، بالاشتراك ، وكذا الخفة. لكن قولنا في التعريف : الثقل قوة طبيعية ،
يتناول قوة منسوبة إلى الطبيعة ، فهي تكون مغايرة لها لا محالة ، فهذا الرسم حينئذ
لا يتناول إلّا الميل ، سواء قلنا : الميل نفس هذه المدافعة أو علّتها.
__________________
المسألة الرابعة : في الحاجة إلى الميل
قال أفضل
المحقّقين : المحرّك إنّما يحرّك بتوسط الميل. وسبب احتياجه إليه أنّ الحركة لا
تخلو عن حدّ ما من السرعة والبطء ؛ لأنّ كلّ حركة إنّما تقع في شيء ما يتحرّك فيه
المتحرك، مسافة كان أو غيرها ، وفي زمان ما. وقد يمكن أن يتوهم قطع تلك المسافة
بزمان أقل من ذلك الزمان فتكون الحركة أسرع من الأولى ، أو بأكثر منه فتكون أبطأ
منها. فإذن الحركة لا تنفك عن حدّ ما من السرعة والبطء ، والمراد منهما شيء واحد
بالذات ، وهذه كيفية قابلة للشدة والضعف ، وإنّما يختلفان بالإضافة العارضة لهما ،
فما هو سرعة بالقياس إلى شيء فهو نفسه بطء بالقياس إلى آخر.
ولما كانت الحركة
ممتنعة الانفكاك عن هذه الكيفية ، وكانت الطبيعة التي هي مبدأ الحركة شيئا لا يقبل
الشدة والضعف ، وكانت نسبة جميع الحركات المختلفة بالشدّة والضعف إليها واحدة ،
وكان صدور حركة معينة منها دون ما عداها ممتنعا ـ لعدم الأولويّة ـ فاقتضت أوّلا
أمرا يشتدّ ويضعف بحسب اختلاف الجسم ذي الطبيعة في الكم ، أعني : الكبر والصغر ،
أو الكيف ، أعني : التخلخل والتكاثف ، أو الوضع ، أعني : اندماج الأجزاء وانفشاشها
، أو غير ذلك. وبحسب ما يخرج عنه كحال ما فيه الحركة من رقّة القوام وغلظه ، وذلك الأمر هو
الميل ، ثم اقتضت بحسبه الحركة.
ولما كان هو السبب
القريب للحركة انقسم بانقسامها ، فمنه ما يحدث من
__________________
طباع المتحرّك ـ إمّا
أن تحدثه الطبيعة ، كميل الحجر عند هبوطه ، أو النفس كميل النبات عند بروزه من
الأرض ، والحيوان عند اندفاعه الإراديّ ـ أو يحدثه القاسر الخارج من الجسم كميل
السهم عند انفصاله عن القوس .
وفيه نظر ، فإنّا
نقول : إن كانت الطبيعة في اقتضائها للحركة القابلة للشدة والضعف مفتقرة إلى توسط
لثباتها وعدم ثبات الحركة باعتبار قبولها للشدة والضعف ، نقلنا الكلام إلى ذلك
المتوسط ، فإنّه إن كان قابلا للشدة والضعف امتنع صدوره عن الطبيعة الثابتة ، وإن
لم يكن قابلا للشدة والضعف امتنع صدور الحركة عنه.
المسألة الخامسة : في أقسام الميل
لما كان الميل
مبدأ قريبا للحركة انقسم بانقسامها. ولمّا انقسمت الحركة إلى الطبيعية والإرادية
والقسرية ، وأيضا إلى المستقيمة والمستديرة ، وكذلك باقي أقسامها ، انقسم الميل
أيضا إلى تلك الأقسام. فالطبيعي منه ما تحدثه الطبيعة ، والإرادي منه ما تحدثه
النفس ، والقسري ما يحدثه القاسر. والميل المستقيم ما تقتضي الحركة المستقيمة ،
والمستدير ما تقتضي المستديرة. وكما وجد في الحركة تضاد ، كذا يوجد فيه تضاد أيضا.
وكما أمكن تركّب الحركات ، كذا أمكن تركب الميول.
واعلم أنّ الأجسام
تختلف في قبول الميل والامتناع عن ذلك بحسب الأمور الذاتية وغيرها. فالاختلاف
الذاتي هو الذي يكون بحسب قوة الميل الطباعي وضعفه ، وهو أن يكون الأقوى بحسب
الطباع ـ كالحجر العظيم ـ أكثر امتناعا
__________________
من قبول القسريّ ،
والأضعف أقل امتناعا. وما عدا هذا اختلاف يكون بالأسباب الخارجة، ككون الأضعف أكثر
امتناعا ، إمّا لعدم تمكّن القاسر منه كالرملة الصغيرة ، أو لعدم تمكّنه من دفع
الموانع كالتبنة ، أو لتخلخله الذي لأجله تتطرّق إليه الموانع بسهولة كالريشة ، أو
لغير ذلك.
ولمّا كانت الحركة
توجها إلى جهة ، وكانت الحقيقة منها اثنتين وهما الفوق والسفل ، وكان الميل منقسما بانقسام الحركة ،
كان الميل الطبيعي إمّا يتوخى جهة الفوق وهو الخفة ، أو السفل وهو الثقل .
والثقيل منه ما هو
مطلق وهو الراسب تحت الأجسام بأسرها ، وفي طباعه أن يتحرك إلى غاية البعد عن
المحيط إلى المركز ، وهو الأرض. ومنه ما هو مضاف وله معنيان :
أحدهما
: الذي في طباعه أن
يتحرك في أكثر المسافة الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المركز لكنّه لا يبلغ
المركز.
والثاني
: الذي إذا قيس إلى
الأرض كانت الأرض سابقة له إلى المركز ، فهو عند المركز خفيف وثقيل بالإضافة.
وكذا الخفيف منه
مطلق ، وهو الذي في طباعه أن يتحرك إلى غاية البعد عن المركز ، ويقتضي طبعه أن يقف
طافيا بحركته فوق الأجرام كلّها من الأجرام العنصرية. والخفيف بالإضافة له معنيان
:
__________________
أحدهما
: الذي في طباعه أن
يتحرك في أكثر المسافات الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المحيط لكنّه لا يبلغ
المحيط.
وقد يعرض له أن
يتحرك عن المحيط ، ولا يكون تانك الحركتان متضادتين خلافا لبعضهم ؛ لأنّهما
تنتهيان إلى نهاية واحدة ، وهذا مثل الهواء ، فإنّه يرسب في النار ويطفو على
الماء.
والثاني
: الذي إذا قيس إلى
النار نفسها كانت النار سابقة إلى المحيط ، فهو عند المحيط ثقيل وخفيف بالإضافة.
وهذا الوجه يقرب من الأوّل وليس به ، فبهذا الاعتبار يشارك النار ، لكنّه يتخلف
عنه ، وبالاعتبار الأوّل لا يريد من المحيط ما تريده النار.
المسألة السادسة :
الميل الطبيعي لا
يوجد في الجسم عند كونه في الحيّز الطبيعي ، لأنّ الميل هو المدافعة ، والمدافعة تلزمه الحركة لو لا
المانع ، فلو كان في الجسم الحاصل في حيّزه الطبيعي مدافعة لوجب تحركه عند لو لا
المانع ، وهو محال إن كانت المدافعة عنه ، وإلّا لكان المطلوب بالطبع متروكا
بالطبع ، وهو محال. وإن كانت إليه فهو محال ؛ لأنّه حاصل فيه ، فلو طلبه لكان
طالبا لتحصيل الحاصل ، وهو محال.
__________________
لا يقال : الثقيل
يمتنع خلوه عن هذه المدافعة على ما ذكرتموه ، لاستحالة حصوله في حقيقة المركز ، بل
يكون أبدا خارجا عنه فتكون المدافعة بالفعل حاصلة.
لأنّا نقول : قد
بيّنا أنّ المطلوب للثقيل انطباق مركز ثقله على مركز العالم. ثمّ ذلك الثقيل إن
كان ذا أجزاء بالفعل كان لكلّ منها حظ من الثقل لا محالة فيكون كلّ واحد من أجزائه
طالبا للحالة المذكورة ، فلا يكون الواجد لهذه الحالة إلّا جزءا واحدا من تلك
الأجزاء ، فيكون في كلّ جزء غيره مدافعة موجودة بالفعل. وإن كان عديم الأجزاء ،
فإذا انطبق مركز ثقله على مركز العالم فذلك الجسم حينئذ لا توجد فيه المدافعة ؛
لأنّها لو وجدت لكانت إمّا في كلّ ذلك الجسم أو في أجزائه ، والأوّل محال ؛ لأنّ
كلّيته طالبة لتلك الحالة فيستحيل أن يوجد فيها طلب الخروج عنها. والثاني محال ؛
لأنّا قد فرضناه عديم الجزء ، وإذا لم يكن له جزء لم يثبت لجزئه ميل ، فثبت خلو
الجسم حينئذ عن الميل.
والحجر المفصول عن
الأرض يحسّ بثقله ، لا لأنّه ليس في مركز العالم ، بل لأنّه لا ينطبق مركزه على
مركز العالم ، فإذا اتصل بالأرض بالفعل صار مكانه الطبيعي جزء مكان الأرض.
المسألة السابعة
:
قد جرى للشيخ
اضطراب كلام في الشفاء في اجتماع الميلين ، فتارة جوّز وتارة منع. فقال في بيان
وجوب السكون بين الحركتين المتضادتين : «ولا تصغ إلى قول من يقول إنّ الميلين
يجتمعان ، فكيف يمكن أن يكون شيء فيه بالفعل مدافعة إلى جهة ، وفيه بالفعل التنحّي
عنها ، ولا تظن أنّ الحجر المرمي إلى فوق فيه ميل إلى
__________________
أسفل البتة ، بل
مبدأ من شأنه أن يحدث ذلك الميل إذا زال العائق» .
وقال في الحركة
القسرية : «إنّ سببها قوة يستفيد المتحرك من المحرك تثبت فيه مدة إلى أن تبطلها
مصاكّات كانت تصطكّ عليه ممّا يماسّه وتنخرق به ، فكلّما ضعفت بذلك قوى عليه الميل
الطبيعي والمصاكة ، فمضى المرمي نحو جهة ميله الطبيعي» .
فقوله : «قوى عليه
الميل الطبيعي» مشعر بأنّ الميل الطبيعي موجود مع الميل القسري.
والوجه في الجمع
بين كلاميه أنّه أراد في الأوّل بالميل : نفس المدافعة ؛ لأنّ قوله : «كيف يكون في
الشيء مدافعة إلى جهة والتنحّي عنها» عند طلب بيان امتناع اجتماع الميلين ، يدل
على أنّ الميل المدافعة لا علتها ، إذ لو كان الميل عبارة عن علة المدافعة لأمكن
أن يجتمعا ، ولا يقتضيان المدافعتين ، كما أنّه لا منافاة بين القوة الطبيعية
والقوة الفاعلية للحركة القسرية. وأراد في الثاني بالميل : علّة تلك المدافعة.
فالحاصل : أنّ
الضرورة قاضية بامتناع اجتماع المدافعتين. أمّا إذا كانت طبيعيتين فظاهر ؛ لامتناع
اقتضاء الطبيعة الواحدة المتنافيين ، وامتناع اجتماع طبيعتين مختلفتين في بسيط
واحد. وإن كانت احداهما طبيعية والأخرى قسرية لما عرف من أنّ المدافعة إلى جهة
تقتضي التوجه إليها. والحس دل على أنّ الحجر الصاعد ليس فيه مدافعة نحو السفل أصلا
، فإنّ من مسّه لا يحس منه بمدافعة نحو السفل .
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
المدافعة لو لم تكن موجودة لما كانت حركته أبطأ مما لو فرض أسرع منه ، وإنّما لا
يحس بها لغلبة المدافعة القسرية عليها.
لا يقال : الميل
عندكم موجود آن الوصول ، وليس هناك مدافعة ، فإذن لا يلزم من عدم المدافعة عدم
الميل.
لأنّا نقول : بل
المدافعة موجودة في ذلك الآن ، لأنّه لو كان في ذلك الحيّز جسم آخر اندفع به في
ذلك الآن.
احتج من جوّز الاجتماع
: بأنّ الحجرين المرميين من يد واحدة في مسافة واحدة بقوة واحدة ، يختلفان
بالسرعة والبطء إذا اختلفا في المقدار ، ولا سبب لاختلافهما إلّا كثرة الميل في
الكبير وقلته في الصغير.
وأجيب : بإمكان
اسناد الاختلاف إلى الطبيعتين ، فإنّ الطبيعة قوة سارية في الجسم منقسمة بانقسامه
، ففي الصغير أقل ممّا في الكبير ، وهي معوقة للحركة القسرية ، فكان الأكبر أبطأ.
قال أفضل
المحقّقين : لمّا كان الميل هو السبب القريب للحركة ، وكان من الممتنع أن يتحرّك
الجسم إلى جهتين مختلفتين معا بالذات لاقتضاء كلّ حركة منهما التوجه إلى مقصد غير
مقصد الأخرى ، ويلزمه عدم التوجّه إلى غير ذلك المقصد ، والحركتان المختلفتان معا
يلزمهما التوجّه وعدمه إلى كلّ واحد من المقصدين معا ، ويمتنع أن يقتضي الشيء شيئا
وعدمه معا. فكان من الممتنع وجود ميلين مختلفين في جسم واحد بالفعل ، بل كما يجوز
اجتماع حركتين في جسم واحد إحداهما بالذات والأخرى بالعرض ، كالمتحرك في السفينة
تحرّكه السفينة تارة وبنفسه أخرى ، كذا يوجد ميلان أحدهما ذاتي والآخر عرضي ، كحجر
يحمله إنسان يمشي
__________________
فإنّه يحسّ بثقله
، وهو ميله بالذات ، وينخرق منه الهواء وهو ميله بالعرض.
فإذا طرأ على جسم
ذي ميل طبيعي بالفعل ميل قسري تقاوم القاسر والطبيعة ، فإن غلب القاسر حدث ميل
قسري وبطل الطبيعي. ثمّ تأخذ الموانع الخارجية والطبيعة معا في إفنائه قليلا قليلا
، وتقوى الطبيعة بحسب ذلك ، ويأخذ الميل القسري في الانتقاص وقوة الطبيعة في
الازدياد إلى أن تقاوم الطبيعة الباقي من الميل القسريّ فيبقى الجسم عديم الميل.
ثمّ تجدّد الطبيعة
ميلها مشوبا بآثار الضعف الباقية فيها ، ويشتدّ الميل بزوال الضعف ويكون حكمها حكم
الممتزجين ، فإنّ الماء الحار لا يجتمع فيه حرارة وبرودة معا ، بل يكون متكيّفا
بكيفية متوسطة بين غايتين الحرارة الغريبة والبرودة الذاتية ، تارة أميل إلى هذه
وتسمى حرارة ، وتارة أميل إلى تلك وتسمى برودة ، وتارة متوسطة بينهما ولا تسمى
باسمهما ، وذلك بحسب تفاعل الحرارة العارضة والطبيعة المبرّدة. كذا الميلان لا
يجتمعان في الجسم على حد الصّرافة ، بل يكون أبدا ذا حال بين الميل القسريّ الشديد
والطبيعيّ الشديد ، تارة يسمى بالميل المنسوب إلى القسر ، وتارة بالمنسوب إلى
الطبع ، وتارة بعدمهما معا ، وذلك بحسب تفاعل الميل القسريّ والطبيعة. فكما كان فعل
الطبيعة المائيّة عند وجود العرض الذي تقتضيه وهو البرودة حفظه ، وعند وجود ما
يضادّه كالحرارة إفنائه ، وعند الخلوّ منهما ايجاد البرودة ، كذا فعل الطبيعة في
الجسم ما دام مفارقا لحيّزه عند وجود الميل المنبعث عنها حفظه، وعند وجود ميل غريب
يخالفه إفنائه ، وعند خلوّ الجسم عن الميل إيجاد الميل الطبيعي.
وفيه نظر ، لأنّه
إن عنى بالسبب القريب التام ، منعنا كون الميل كذلك ،
__________________
وكيف وللحركة
أسباب مادية وغائية وفاعلية؟! وإن عنى به مطلق السبب الذي لا يتوسط بينه وبين
معلوله علّة أخرى مستقلة ، سلّمناه ، لكن لا يلزم من وجود هذا السبب وجود مسبّبه ،
فلا يلزم من اجتماع الميلين إلى جهتين اجتماع الحركتين إليهما.
وأيضا نمنع عدم
اجتماع الحركتين ، فإنّ الحركات المركّبة إنّما تتحقّق باجتماع حركتين فإن اتّحدت
الجهتان حصلت سرعة فيها زائدة على البسيطين ، وإن تضادتا فإن تساويا في السرعة
والبطء حصل للمتحرك مع حركته وتحريكه وقوف. وإن غلبت إحداهما ظهر الفصل في جهتهما.
وإن اختلفتا حصلت حركة مركبة بين المقصدين. نعم الحركتان بالذات لا يمكن اجتماعهما
كما ذكر.
المسألة الثامنة : في اجتماع الميلين مع اتّحاد الجهة
اعلم أنّ الطبيعة
إذا كانت خالية عن المعاوق الداخلي والخارجي وكان لها أثر قابل للشدة والضعف
فإنّها توجد ذلك الأثر أشد ما يكون وأقصى الممكن من ذلك المعلول.
وإذا تقرر هذا
فنقول : إذا اقتضت الطبيعة ميلا إلى جهة ، ولا عائق لها ـ كالحركات الفلكية حيث لا
عائق لها ولا مانع من الموانع الخارجية والداخلية غير مقتضى صورها النوعية،
وكالعناصر لو قدّرنا خلاء العالم ـ لم يمكن أن يحصل لها ميل آخر غريب إلى تلك
الجهة ؛ لأنّه لا يؤثر شيئا حيث استوفت الطبيعة كلّ الممكن وبلغت الغاية التي هي
الطرف في الشدة.
لكن قد اعترض هنا
باعتراض واقع ، وهو أنّ كلّ نوع من مراتب الأشد
__________________
والأضعف مخالف
لغيره من تلك المراتب ـ أضعف منه أو أشد ـ مخالفة نوعية ، فجاز أن تقتضي الطبيعة
نوعا من تلك المراتب ، ولا تقتضي باقي الأنواع ، وظاهر أنّه كذلك ، لأنّ تلك
الأنواع متضادة متعاندة ؛ لدخولها تحت جنس آخر ، مع قبولها الشدة والضعف. والطبيعة
الواحدة بالشخص يستحيل أن يتعدد مقتضاها بالشخص ، فضلا عن تعدده بالنوع ، فلا يلزم
أن تقتضي أقصى الممكن وهو الطرف.
لكنّا نحن نقول :
هذا الفرض الذي ذكرتموه غير ممكن عندكم ؛ لأنّ تلك الحركة إذا خلت عن الموانع
الخارجية والداخلية فوجب أن تقع لا في زمان ، وإلّا لو وجدت في زمان أمكن فرض وقوع
تلك الحركة من تلك العلّة أو من غيرها في نصف ذلك الزمان ، فيكون هذا أسرع ممّا
فرض أنّه البالغ إلى النهاية في السرعة ، وهو محال. ووقوع الحركة لا في زمان منقسم
محال عندكم.
أمّا إذا كان
الجسم معارضا بما يدفعه مثل الحجر الهاوي ، فإنّ الهواء يقاومه ، ويحصل له باعتبار
تلك المقاومة فتور وبطء ، فأمكن أن يحصل مع ذلك الميل الطبيعي ميل آخر غريب ،
وتكون الحركة عند ذلك أسرع ممّا توجد عن الميل الطبيعي وحده ، كما إذا دفعنا الحجر
الهابط دفعا قويا ، فإنّ حركته تكون أسرع ممّا لو تحرك بطبيعته لا غير.
المسألة التاسعة : في إثبات الميل
اعلم أنّ الجسم
القابل للحركة القسرية لا يخلو عن مبدأ ميل بالطبع. وبالجملة فإنّ الجسم الخالي عن
الميل لا يمكن أن يتحرك بالقسر ؛ لأنّ الجسم إذا
__________________
فرضناه خاليا عن
المعاوق الطبيعي وحرّكه القاسر مسافة ما في زمان ما ، وفرضناه ممنوّا بالعائق الطبيعي متحركا تلك المسافة بعينها عن ذلك المحرّك
بعينه ، فإنّه يتحركها لا محالة في زمان أطول لامتناع أن تكون الحركة مع المعاوق
كهي لا مع المعاوق. ثمّ لنفرض ذلك المتحرك يتحرّك تلك المسافة عن ذلك المحرك مع
معاوقة أقل من المعاوقة الأولى على نسبة الزمانين ، فإنّه يقطعها لا محالة في زمان
مساو لزمان عديم المعاوقة ، وذلك يستلزم تساوي الحركة مع العائق والحركة لا معه ،
إلّا أن نجعل حركة عديم المعاوقة لا في زمان ، بل في آن ، وهو محال.
واعلم أنّ الحركة لا بدّ لها من كيفية ما هي سرعة أو بطء لا توجد
عند الحكماء منفكة عنهما. والحركة تنقسم إلى نفسانية وغير نفسانية ، والنفسانية
تحدّد النفس حالها من السرعة والبطء المتخيّلين لها بحسب الملائمة ، وينبعث عنها
الميل بحسبها ، ومن الميل تتحصل الحركة السريعة والبطيئة.
وأمّا غير
النفسانية ـ وهي التي مبدؤها طبيعة أو قسر ـ فتحتاج إلى ما يحدّد حالها تلك ، إذ
لا شعور هناك بالملائمة وغيرها. فهي بحسب ذاتها تكاد تحصل في غير زمان لو أمكن ،
وإذ لم يمكن فلا بدّ لها من أمر يحدّد لها ميلا يقتضيها ، وحالا تتحدّد بها ، ولا يتصور ذلك إلّا عند تعاوق بين
المحرّك وغيره فيما يصدر عنهما ؛ لأنّ الطبيعة لا يتصور فيها من حيث ذاتها تفاوت ،
والقاسر إذا فرض على أتم ما يمكن أن يكون لا يقع أيضا بسببه تفاوت ، والميل في
ذاته مختلف ، فالتفاوت الذي بسببه يتعيّن الميل وما يتبعه ـ أعني الحدّ المذكور من
السرعة والبطء ـ يكون بشيء آخر ، إمّا خارج عن المتحرك أو غير خارج عنه ، وهو
المسمى
__________________
بالعائق. والخارج
اختلاف رقة ما يتحرّك فيه ـ كالهواء والماء ـ وغلظه الحاصلين في مسافة المتحرك
المعاوقين له عن الحركة أو شدتها. وغير الخارج فإنّه لا يمكن أن يعاوق الحركة
الطبيعية، لأنّ ذات الشيء لا يمكن أن تقتضي شيئا ويقتضي ما يعوقه عن اقتضائه ذلك ،
بل إنّما يتصور المعاوقة هنا في الحركة القسرية ، وهو إمّا الطبيعة أو هو النفس
اللتان هما مبدءا الميل الطباعي ، فإذن يلزم من ارتفاع هذين المعاوقين ، أعني :
الخارجي والداخلي ، ارتفاع السرعة والبطء من الحركة ، ويلزم منه انتفاء الحركة.
ولهذا استدل
الحكماء بأحوال هاتين الحركتين تارة على امتناع عدم معاوق خارجي ، فبيّنوا امتناع
وجود الخلاء ، وتارة على وجوب وجود معاوق داخلي فاثبتوا مبدأ ميل طبيعي في الأجسام
التي يجوز أن تتحرك قسرا.
ووجه الاستدلال في
المسألتين واحد ، وهو أنّ اختلاف المعاوقة لمّا كان مقتضيا لاختلاف السرعة والبطء كانت المعاوقة القليلة بإزاء السرعة
والكثيرة بإزاء البطء. وكانت نسبة المعاوقة إلى المعاوقة في القلة والكثرة ، كنسبة
المسافة إلى المسافة فيهما على التكافؤ ، أعني : القلة في إحداهما بإزاء الكثرة في
الأخرى ، وكنسبة الزمان إلى الزمان على التساوي ، أعني القلة بإزاء القلة والكثرة
بإزاء الكثرة.
وإذا ثبت هذا
فلنفرض متحركا عديم المعاوقة يقطع مسافة ما في زمان ، وآخر مع معاوقة ما يقطعها ،
ويكون لا محالة في زمان أكثر ، وثالثا مع معاوقة أقل من الأوّل على نسبة الزمانين
، فإنّه يقطعها في زمان مساو لزمان عديم المعاوقة ، ويلزم من ذلك الخلف ، لتساوي
وجود المعاوقة وعدمها. وقد تقدم الاستدلال بهذا في الخلاء وإثبات الميل معا مفصلا.
__________________
اعترض بأنّ نسبة أثر المؤثر الضعيف إلى أثر القوي ربما لا يكون
كنسبتهما ، ولا يكفي انقسام قوى الجسم بانقسامه ، لأنّ القوة المؤثرة إنّما تتحصّل
عند اجتماع الأجزاء ، ولا تتوزّع عليها ، بل تنعدم عند التجزئة.
وأيضا فإن دلّ ذلك
على احتياج الحركة القسرية إلى معاوق ، فقد دلّ على احتياج الطبيعيّة إليه يعني ما
ذكرتم وهو «أنّا نفرض الجسم يتحرك بطبعه مسافة ما من غير معاوقة خارجية ولا داخلية
، ثمّ نفرضه متحركا بطبعه مع معاوقة ما تلك المسافة بعينها ، فإنّه يتحركها في زمان أطول ، ثمّ نفرضه متحركا بطبعه مع
معاوقة أقل من الأوّل بنسبة الزمانين ، فتكون حركته مع المعاوقة القليلة كحركته مع
عديم المعاوقة». فيلزم أن يكون في الأجسام الطبيعيّة مبدءان لميلين متخالفين ،
يعوق كلّ واحد منهما الآخر. فإن قلتم : معاوقة القوام كافية هناك. قلنا : فلتكن
أيضا كافية في القسر.
وأيضا يلزم ممّا
ذكرتم من الدليل أن يكون في الفلك معاوق له لأنّه مستمر في الجميع.
أجاب أفضل
المحقّقين : بأنّ من القوى الجسمانية ما يحلّ في موادّها وينقسم بانقسامها ،
فيتساوى الجزء والكل فيها ، وهي كالصور والطبائع ، ومنها ما يحلّ في جملة منها ولا
ينقسم بانقسام الجملة كالقوة الحيوانية ، فإنّ الجزء من الحيوان لا يكون حيوانا ،
وما نحن فيه من الصنف الأوّل. والاعتراض بالممنوع عن التأثير بسبب الصغر غير وارد
، لأنّه بسبب مانع خارجي ، وقد اشترط في الفرض المذكور عدم الموانع الخارجية.
وأمّا الحركة الطبيعيّة فقد حكمنا باحتياجها إلى
__________________
معاوق ، ولا يلزم
من الحجة المذكورة أن يكون المعاوق داخل الجسم ، بل هو محال في الطبيعية كما مرّ ،
فهو هناك من خارجه. فإذن معاوقة القوام كافية هناك ، وأمّا القسريّة فلا؛ لأنّ
الحجّة بعينها قائمة مع فرض التساوي في القوام.
وأمّا الفلكيات
فلا يلزمها ذلك لما بيّنا من الفرق .
وفيه نظر ، لأنّا
نسلّم انقسامها بانقسام المحل ، لكن سيأتي عدم بقاء الصورة النوعية زمانا عند
تصغيره فكيف تكون مؤثرة. ولا يمكن هذا الشرط في هذه الصورة ؛ لأنّه مناف للفرض
الذي هو القسمة.
واحتياج الطبيعة
إلى المعاوق الذي هو الملاء غير ما نحن فيه ؛ لأنّا نفرض تساوي المسافتين في الملاء أو الخلاء ، ثمّ نفرض الحركة
تارة مع العائق وأخرى لا معه.
ولم يظهر الفرق
الذي ادّعاه في الفلك.
واعلم أنّ الإشكال
الوارد في الخلاء وارد هنا ، وهو أن يقال : إنّ الحركة بنفسها تستدعي زمانا ،
وبسبب المعاوقة زمانا آخر ، فتستجمعهما واجدة المعاوقة وتختصّ بأحدهما فاقدتها.
فإذن زمان نفس الحركة غير مختلف في جميع الأحوال ، إنّما يختلف زمان المعاوقة بحسب
قلّتها وكثرتها ، ويختلف زمان الحركة بعد انضياف ما يجب من ذلك إليه ، ولا يلزم
على ذلك الخلف ولا المحال المذكوران.
وجوابه ما تقدم ،
والإيراد عليه ما سبق .
__________________
المسألة العاشرة :
لمّا كان الميل هو
المحرك للجسم إلى تلك الجهة التي توخّاها بالحركة ، كان علّة الايصال. ومحال أن
يكون الموصل بعينه هو المدافع عنها ، والموصل واجب الحصول عند وجود الوصول ، لوجوب
وجود العلّة عند وجود معلولها. ولمّا كان الميل واجب الحصول عند الوصول إلى الجهة
، وهي غير منقسمة ، والوصول إلى حدّ غير منقسم إنّما يكون في الآن ، فإذن لا بدّ
من حصول الميل في الآن ، فهو مما يوجد دفعة لا في زمان.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع كونه علة فاعلية للايصال ، بل معدّة كالحركة ، ولأنّه قابل للشدّة والضعف ،
وتابع للحركة فيهما ، فيوجد في ما توجد فيه الحركة.
المسألة الحادية عشرة :
من المعلوم أنّ
الميل يقبل الشدة والضعف ، فإنّا نحس بممانعة شديدة وضعيفة. وكلّ تغير من شيء إلى
شيء فلا بدّ بينهما من التعاند ، فإن كان في الغاية فهما الضدان ، وإلّا فهما
متوسطان ، ومتى وجد المتوسطات فلا بدّ من وجود الأطراف.
وفيه نظر ، لأنّه
لا يلزم أن تكون الأطراف من جنس الوسائط ، كالحركة والزمان وشبههما. ثم الميل
الطبيعي يخالف الميل القسري في الشدة والضعف ، لأنّ
__________________
الميل الطبيعي
يشتد عند القرب من المطلوب ، والقسري يضعف عنده ، ويشتد في الوسط ، لأنّ الطبيعة
إذا خلت عن الضد والممانع أوجدت ذلك الميل الذي يقتضيه بعد الميل فلا يزال يتزايد الميل ، فلا تزال الحركة تقوى وتشتد ؛
لأنّ تأثير الطبيعة وحدها أضعف من تأثيرها مع الميول التي تقويها وتعضدها.
وأيضا يقل المعاوق
لها ، لأنّه في المسافة الطويلة أشد منه في القصيرة ، وإذا ضعف المعاوق اشتدّ
الأثر وقوى.
وأمّا القسرية ،
فلأنّ الميل القسري معاوق للطبيعة والمصاكات الخارجية ، وإذا تواتر أثرهما على
المقسور ضعف الميل القسري ، ثم لا يزال يأخذ في الضعف إلى أن تقاوم الطبيعة، ثم
تأخذ الطبيعة في إفنائه يسيرا يسيرا ، حتى يعدم بالكلّية لكنّه في الوسط يشتدّ ،
لأنّ المرمي يتحرك في المسافة الممنوّة بالعائق ، فتحصل له مصاكّة بالعائق فيتسخن
قليلا قليلا ، ويتكرر التسخن بتكرر الحكّ على المرمي ، ويكثر في وسط المسافة ،
والقوة القسرية تأخذ في الضعف ، إلّا أنّ التلطيف المستفاد بالتسخّن يكون متداركا
أو موفيا على المعنى الذي يفوت بالضعف ما دام في القوة ثبات ، فإذا ترادف الصّكّ
على القوة واسترخت ضعف أيضا الحك ، وبلغ مبلغا لا يفي بتدارك تأثير الصك .
وأيضا الوجدان دلّ
على ذلك ، فإنّ تأثير السهم المرمي إلى الجسم القريب يكون ضعيفا وكذا في البعيد ، وأمّا المتوسط
بينهما فإنّ تأثيره فيه يكون قويا جدا ، وذلك بقوة الميل القسري في الوسط.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
الطبيعة إذا اقتضت ميلا إلى جهة لم تقتض ميلا آخر مؤديا إلى تلك الجهة بعينها ،
لاستحالة اجتماع الأمثال. نعم يجوز أن يكون ذلك الميل أقوى وأشد ، لكن ليس سبب
الشدة والقوة تزايد الميل. فبطل الأوّل من الوجهين.
والجسم إذا تحرك
في مسافة ممنوة بالعائق لم يجب أن يكون العائق في آخر المسافة أقل، إلّا مع تساوي
نسبته رقة وغلظا مع ما تقدم ، لكنّ المساواة غير واجبة ، فلا تجب الشدة.
وأيضا إذا تساوت
في الرقة والغلظ لم يقاوم المتحرك سوى الموضع الذي يطلبه ، وهو المساوي له في
المقدار بحيث يحل بكلّيته ، ولا أثر لما وراءه في المنع وعدمه ، فلا سبب للشدّة في
الأخير باعتبار الوجه الثاني أيضا. وكون التسخّن موفيا أو مساويا في القسرية
لما ضعف غير معلوم ، فلا تجب الشدة المذكورة.
تذنيب : قيل : ليس
بين الثقل والخفة تفاعل ، لأنّ الثقل يوجب بالذات حركة الجسم إلى المركز ، والخفة
إيجابها بالذات حركة الجسم عنه ، وذلك يوجب تباعد كلّ واحد منهما عن الآخر ،
والوصفان الموجبان تباعد الجسمين يستحيل أن يوجبا التفاعل الذي لا يحصل إلّا
بالمقاربة .
وفيه نظر ، فإنّ
التفاعل إنّما يكون بين الأمور المتضادة ، والتضاد يوجب التباعد ، ولهذا كانت
الحرارة والبرودة متفاعلتين ، ولو صحّ ما ذكروه لم يكن كذلك ، فإنّ الحرارة توجب
الخفة ، والبرودة توجب الثقل.
__________________
البحث الثالث : في الكيفيات المبصرة
وفيه أبواب :
الباب الأوّل
في المبصرات
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في أعدادها
المبصرات إمّا
بالذات أو بالعرض ، ونعني بالمبصر بالعرض : هو الذي لا يبصر بالحقيقة ، بل يقترن
بالمبصر بالحقيقة ، مثل : انّا إذا أبصرنا شخصا هو أبو عمرو ، فإنّ المبصر هذا
الشخص ، وليس كونه أبا عمرو محسوسا أصلا ، ولا أيضا في أنفسنا منه خيال أو رسم
بوجه من الوجوه.
والمبصر بالذات :
إمّا أن يكون غير متوقف على إبصار شيء البتة ، ويسمى : المحسوس الأوّل ، وهو الضوء
واللون لا غير. وإمّا أن يتوقف ويسمى : المحسوس الثاني ، وهو ما عداهما كالأطراف ،
والحجم ، والبعد ، والوضع ، والشكل ، والتفرق ، والاتصال ، والعدد ، والحركة
، والسكون ، والملاسة والخشونة ، والشفيف والكثافة ، والظل ، والحسن والقبح ،
والتشابه والاختلاف ، والظلمة.
__________________
وهنا أمور أخر
راجعة إليها كالترتيب الداخل تحت الوضع ، والكتابة وغيرها من النقوش الداخلة تحت
الترتيب والشكل. وكالاستقامة والانحناء ، والتحدّب والتقعّر التي هي من الشكل.
والكثرة والقلة الداخلتين في العدد بوجه ما ، والتساوي والتفاضل الداخلين تحت
التشابه ، والضحك والبكاء الداخلين تحت الشكل والحركة ، والبشر والطلاقة والعبوس
والتقطيب الداخلة تحت الشكل والسكون ، وكالرطوبة واليبوسة ، فإنّ البصر إنّما يدرك الرطوبة من السيلان واليبس من التماسك. وليس
إذا لم يكن الشيء مبصرا إلّا بشرط إبصار غيره لا يكون مبصرا ، نعم لا يكون مبصرا
بانفراده. وعند هذا يظهر أنّ كلّ ما يقال له محسوس ، فإمّا أن يكون بحيث يحصل منه
عند الحس أثر أو لا يحصل ، فإن لم يحصل فهو المحسوس بالعرض.
المسألة الثانية : في أحكام المبصرات الحقيقية
وهي :
أوّلا
: قد عرفت أنّ
المبصر بالذات الأوّل هو الضوء واللون ، وهل يرى الواحد منهما منفردا؟
فيه نظر ، أقربه
العدم.
ثانيا
: لا شك أنّ بعض هذه
المبصرات متميّز عن بعض ، إمّا في الجنس كالضوء واللون ، أو في النوع كالسواد
والبياض ، أو في الشدة والضعف كبياض الثلج والعاج. وهذا التميز يدرك بالقوة العقليّة
لا بالحس.
__________________
ثالثا
: قيل : إدراك اللون
بما هو لون أقدم من إدراك اللون المخصوص ، ومن امتيازه عن غيره. أمّا الأقدمية في
الإدراك ، فلأنّ الأعمّ أعرف. ولأنّ الجسم الملوّن بالألوان المظلمة كالكحلى
والأغبر إذا وضع في موضع مظلم ، أدرك البصر لذلك الجسم لونا ، وإن لم تتميز له
ماهية ذلك اللون. وإذا لم يكن ذلك الموضع شديد الظلمة يرى ذلك اللون المخصوص ،
فعلمنا أنّ إدراك اللون بما هو لون أقدم من إدراك اللون المخصوص.
وأمّا الامتياز
فلأنّ امتيازه عن غيره حكم يدركه العقل بعد إبصار ذلك اللون المخصوص ، فيكون
متأخرا عنه.
وفيه نظر ؛ لأنّ
الإدراك إن عنى به الإبصار فهو لا يتناول إلّا الجزئي الشخصي دون الأعم ، فلا يمكن
أن يكون الأعم أعرف عنده ، وإن أراد به التعقّل منعنا أقدمية الأعم أيضا ؛ لأنّه
إنّما يعقل بواسطة الإحساس باللون الجزئي ، فتنتزع النفس حينئذ منه أمرا كليا.
فالجزئي سابق عند النفس من الكلّي. والأغبر وشبهه إنّما أدرك البصر لونا جزئيا مخصوصا بجسم ذي وضع مخصوص ، ولكن النفس لم تدرك
التميّز حيث لم يتأدّ من المبصر القدر الذي به يحصل التميّز على التمام.
رابعا
: قيل : اللون الخاص
إنّما يدركه المدرك في زمان ، فإنّ الدائرة إذا أخرج من مركزها إلى محيطها خطوط
كثيرة بألوان مختلفة ، ثم أديرت بسرعة شديدة فالناظر إليها في تلك الحالة يدرك لها
لونا واحدا مخالفا لجميع ألوان الخطوط ، وكأنّه يكون لونا مركبا من جميع الألوان ،
وما ذاك إلّا لأنّ كلّ نقطة منها لا تثبت في موضع واحد زمانا محسوسا ، فلا جرم لا
يقع الإحساس بها في مواضعها خاصة ، بل تختلط تلك الألوان. ولو لم يكن الزمان
المقدر معتبرا في الإبصار لم يكن الأمر كذلك.
__________________
وقيل إدراك اللون
بما هو لون ، والضوء بما هو ضوء ، لا يكون إلّا في زمان ، لأنّا إذا فتحنا الكوّة
، فإمّا أن نرى الضوء في الآن الذي هو أوّل زمان فتحها وهو محال ؛ لأنّ في الآن لا
يزول الساتر إلّا عن الخط والنقطة ، وهما لا يقبلان الضوء ، أو إن قبلاه لكن الضوء
واللون المختصين بهما غير محسوسين ، وإنّما نراه في زمان فتحها ، وذلك يوجب ما
ذكرناه.
خامسا
: المشهور أنّ القوة
الباصرة تتعلّق بالشخص من حيث إنّه شخص لا بالماهية الكلّية. وقيل عليه : إنّا إذا رأينا شيئين
متساويين مطلقا فإنّه يشتبه أحدهما بالآخر ، والاشتباه إنّما يكون لعدم الشعور بما
به يخالف أحدهما الآخر ، لكن كلّ واحد منهما يخالف صاحبه من حيث هو هو ، فلو كانت
القوّة الباصرة متعلقة به من حيث هو هو لما وقع الاشتباه ، لوجوب الشعور
بالامتياز. والتالي فاسد فالمقدم مثله.
وفيه نظر ، لأنّ
المميز بين المتشابهين القوة العقلية لا البصر ، ولمّا أدّى البصر صورتين جزئيتين
متساويتين ، عجزت القوة العقلية عن التمييز بينهما ، لا أنّ البصر تعلّق بأمر كلّي ، لأنّه إنّما يتعلّق بجزئي ذي
وضع.
سادسا
: قيل : الأطراف ـ وهي
النقطة والخط والسطح ـ مرئية ؛ لأنّا ندرك التفرقة بالحس بين العظيم والصغير ، وما
ذاك إلّا للإحساس بأنّ سطح أحدهما أعظم من سطح الآخر ، ولكنّ الإحساس بها مشروط
بالإحساس بالضوء واللون أوّلا ، ولهذا فإنّا لا نرى هذه الأشياء في الأجسام
الشفافة.
وفيه نظر ، فإنّ الحس
لا يدرك أنّ أحدهما أعظم ، فإنّ ذلك من أحكام العقل ، ومن أنكر وجودها أنكر
رؤيتها.
__________________
المسألة الثالثة : في المبصرات غير الحقيقية
قيل : لا شيء من
غير الثلاثة ـ أعني : الضوء واللون والطرف ـ بمرئي ، أمّا المقدار فلأنّ المحسوس
لنا من الجسم ، إمّا السطح الواحد أو السطوح المحيطة به.
وأمّا المقدار
الذي هو حشو ما بين السطوح ، فلا شك أنّه غير مرئي ، ولهذا فإنّ الحس لا يدل على
كونه مجوفا أو مصمتا.
وأمّا البعد فكذلك
أيضا ؛ لأنّا ما لم نشاهد بين المتباعدين جسما ملوّنا فنستدل بتوسطه بينهما على
تباعدهما لا نعرف تباعدهما ، ولذلك لمّا لم تتأت هذه الطريقة في الكواكب المتباعدة
لم نحس بتباعدها. ولو نظرنا إلى جدارين متباعدين بعيدين عنّا ولم نشاهد ما بينهما
من الأجسام الملونة فإنّا لا نحس ببعد أحدهما عن الآخر.
وأمّا الوضع
والاتصال ففيهما إشكال.
والشكل داخل في
الوضع.
والتفرّق عدمي.
والعدد إنّما يدرك في الأجسام بواسطة التفرّق.
والحركة لا شعور
بها إلّا عند اختلاف أوضاع الجسم المتحرك من الأجسام الملوّنة ، فإن لم يوجد ذلك لم يحصل الشعور بها ، فإنّا لو قدّرنا
سفينة تجري على وجه البحر بأسرع حركة ، وليس في وجه البحر ارتفاع وانخفاض ، ولا
رياح مضطربة متمانعة هناك ، بل يكون على نهج واحد ، فإنّ تلك الحركة مع كونها في
غاية السرعة لا تكون محسوسة ، حتى أنّ سكان السفينة يتوهمون أنّها ساكنة ، فكيف
تكون الحركة محسوسة بالبصر.
__________________
والسكون أمر عدمي
، وإنّما نشعر به للشعور ببقاء الوضع الواحد.
ويشبه أن يكون
إدراك الحركة والسكون إنّما يتأتى بالاستعانة بالعقل ، لأنّ الجسم المتحرك لا بدّ
وأن تختلف نسبته إلى أجسام أخرى ، مثل أن يصير قريبا من جسم كان بعيدا عنه وبالعكس
، أو يصير مفارقا لما كان ملاقيا له وبالعكس ، فإذا حصل الإحساس باختلاف نسبة ذلك
الجسم مع الأجسام الأخر حصل الشعور بكونه متحركا إذ لو لم يتحرك لم تختلف النسبة.
ولهذا فإنّ راكب البحر لمّا لم يشعر باختلاف أوضاع السفينة ونسبتها مع الأمور
الخارجة ، لم يشعر بالحركة. فإدراك الحركة والسكون إدراك ذهني وبمعاونة أحوال
ذهنية.
والملاسة والخشونة
داخلتان في الاتصال والوضع.
والشفيف والكثافة
ليسا مدركين بالحس ، بل الشعور بهما استدلالي ، لأنّ الجسم إن لم يحجب أبصارنا
عمّا وراه كان شفافا ، وإلّا فهو كثيف.
والظل بالحقيقة
ضوء ناقص ، وذلك النقصان عدمي ، أو هو أحد أنواع الظلمة.
والظلمة غير مرئية
بالحقيقة ، لأنّ الإنسان لا يفرّق بين أن يكون أعمى لا يبصر شيئا وبين كونه في
الظلمة الخالصة.
والحسن والقبح
حالتان حاصلتان من تركب اللون والشكل ، فيكون الحكم فيه تبعا للحكم في الشكل
والتشابه والاختلاف. فالمدرك للبصر من الجسمين ذي اللونين المختلفين ذات كلّ واحد
منهما فإمّا كون أحدهما مخالفا للآخر أو مشابها ، فإنّما تشعر به القوة العقلية.
والكتابة المرئي
منها لون كلّ واحد من الحروف وطوله وعرضه. والتمييز بينها وقياس بعضها إلى بعض
مستند إلى العقلية.
الباب الثاني
في اللون
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعريفه
اعلم أنّا قد
بيّنا فيما سبق : أنّ الأمور المحسوسة لا يجوز أن تنال معرفتها بحدّ أو رسم،
ومعلوم لنا بالضرورة أنّ اللون بأنواعه متصوّر لنا تصوّرا ضروريا . وما يقال : إنّ السواد كيفية قابضة للبصر ، والبياض كيفية
مفرّقة له ، إن قصد
__________________
بذلك التعريف فهو
خطأ ، لما تقدم ، ولأنّ العقلاء يدركون بهداية عقولهم المستندة إلى الحس التفرقة بين السواد والبياض ،
ولا يتوقفون في الفرق بينهما ، ولا في معرفتهما إلى كون أحدهما قابضا للبصر وكون
الآخر مفرقا. فلو حصل مفهومه لم يثبت ذلك إلّا بتدقيق النظر وبعد معرفة السواد
والبياض واستقراء أحوالهما ، فيلزم على الأوّل تعريف الشيء بالأخفى ، وعلى الثاني
الدور.
المسألة الثانية : في إثبات الألوان
ذهب جماعة من
قدماء الحكماء ، إلى أنّه لا حقيقة للألوان ، بل البياض إنّما يحصل من مخالطة
الهواء بالأجسام الشفافة المتصغّرة جدا. والسواد فإنّما يتخيل في غور الجسم وعمقه ؛ لعدم الضوء والإشفاف فيه ، فلما لم ينفذ الضوء في عمقه ولا الإشفاف ، تخيل أنّ هناك
لونا هو السواد ، وليس كذلك.
ومن هؤلاء من جعل
الماء سببا للسواد ، وقال : إذا شاهدنا الثياب مبتلة شاهدناها مائلة إلى السواد.
وأيضا فلأنّ الماء يخرج الهواء ، وليس إشفاف الماء كإشفاف الهواء حتى ينفذ فيه
الضوء إلى السطوح ، فلا جرم تبقى السطوح مظلمة ، وذلك هو السواد.
واحتج في البياض :
بأنّ زبد الماء أبيض ، ولا سبب لبياضه إلّا مخالطة الهواء لأجزائه الشفافة الصغيرة
جدا. وكذا الثلج أبيض ؛ لأنّ فيه أجزاء جمدية شفافة
__________________
خالطها الهواء
ونفذ فيها الضوء. والبلور المسحوق والزجاج الصافي المسحوق يرى أبيض ، ولا سبب لذلك
أيضا ، فإنّا نعلم أنّ أجزاءها الصلبة عند الاجتماع لم تنفعل بعضها عن بعض حتى
يقال حصل هناك لون. وأيضا الشفاف كالبلور إذا كان كبير الحجم وانشقّ رؤي ذلك
الموضع منه أبيض. وكذا الناطف يبيض لاحتقان الهواء فيه مع الإشفاف الذي في طبعه.
ومن هؤلاء من سلّم
كون السواد لونا حقيقيا ومنع من ذلك في البياض ، وفرّق بينهما بأنّ السواد لا
ينسلخ ، وأمّا الأبيض فإنّه قابل لجميع الألوان والقابل لجميع الألوان يجب أن يكون
عاريا عن كلّها.
والشيخ في الشفاء
سلّم في موضع منه أنّ البياض المحسوس قد يكون على الوجه الذي ذكروه ، وفي موضع آخر : أنّه لم يعلم هل يحدث البياض على غير ذلك
الوجه أم لا ؟
وقال في موضع آخر
منه : إنّه وإن كان قد يكون على ذلك الوجه ، لكنّا ندّعي أنّ البياض كيفية حقيقية
قائمة بالجسم ، واستدل عليه بوجوه أربعة :
الأوّل
: البيض إذا شوي
يصير بياضه الشفاف أبيض ، وليس يمكن أن يكون ذلك بسبب أنّ النار أفادته تخلخلا ،
أو حدث فيه هوائية ، لأنّه يصير بعد
__________________
الطبخ أثقل وذلك
لمفارقة الهوائية ، لأنّه لو دخلت فيه وبيّضته كان ذلك خثورة لا انعقادا على ما ستعلم.
الثاني
: الدواء المسمّى
بلبن العذراء يكون من خل طبخ فيه المردار سنج حتى انحلّ فيه ، ثم يصفى حتى يبقى الخل في غاية الإشفاف ،
وإذا خلط بماء طبخ فيه القلي وصفّي في الغاية حتى أشبه الدمع ، فإنّه إن وقع التقصير في
شيء من ذلك لم يلتئم المزاج المطلوب ، فكما يختلط هذان الماءان ينعقد فيه المنحل
الشفاف من المرتك كمعقد المردار سنج ويبيض في غاية البياض كاللبن الرائب ثم يجفّ. وليس ذلك لأنّه كان شفافا فانفرق ودخل الهواء فيه
، فإنّ ذلك كان متفرقا منحلا في الخل. ولا لأنّ تلك الأجزاء المتفرقة تقاربت حتّى
انعكس ضوء بعضها إلى البعض ، فإنّ حدّة ماء القلي أولى بالتفريق ، بل ذلك على
__________________
واحد من أجزائهما
شفافا خاليا عن اللون ، لعدم السطوح المختلفة في ذلك الواحد. وإذا عرض معها ما
يوجب التزاق بعضها ببعض صار جسما واحدا أبيض ، كما في بياض البيض المسلوق فانّه
قبل السلق كان له ضوء ، ولم يكن فيه قابل ضوء ، كما في الماء ، وبعد السلق تعاكس
الضوء بين ذي الضوء وبين قابله فحدث البياض.
والماء إذا كان
مائعا له سطح واحد كان له ضوء ولم يكن فيه قابل ضوء ، فلم يكن فيه تعاكس. أمّا إذا
تزبّد أو انجمد اجتمع فيه الأمران وحدث البياض. وفي بياض البيض المسلوق ما يوجب
فيه مع ذلك الالتزاق والتماسك ، فصار جسما واحدا أبيض ، ولم يمكن امتياز بعض
أجزائه من البعض ، فلا يظهر للمتأمل فيه سوى الجزء الواحد ، كما في الثلج والزجاج
، وهذا غير دافع للسؤال ، كما تقدم.
والذي ذكروه لا
نمنعه ، لكن ندعي أنّ البياض قد يحصل على وجه آخر ، وهو الاستحالة.
وأيضا فلا طريق
لنا إلى الجزم بأنّ بياض الناطف لمخالطة الهواء ، وكذلك ابيضاض الجصّ ليس لما
يفيده الطبخ من التخلخل وسهولة التفرق ، وإلّا لكان السحق والتصويل يفعلان فعل
الطبخ في الجص والنورة ، بل السبب فيه أنّ الطبخ يفيده مزاجا يوجب ذلك الابيضاض.
وقولهم : الأسود
غير قابل للبياض. إن عنوا به على سبيل الاستحالة بطل بالشيب والشباب . وإن عنوا به على سبيل الصبغ احتمل أن يكون ذلك ؛ لأنّ
الصبغ المسوّد لا بدّ وأن يكون منه قوّة قابضة يخالطه وينفذ فيه ، فإنّ السواد
يحصل من اندماج أجزاء الأجسام الكثيفة بعضها في بعض ، فإنّ الزاج في غاية النفوذ
بحدّته ، والعفص في غاية القبض وليس شيء منهما بأسود ، فإذا امتزجا نفذ الزاج
__________________
أمّا أوّلا :
فنقول : لمّا جوزت في اختلاط الهواء بالجسم الشفاف أن يكون سببا لأن يحس منه
بالبياض وإن لم تكن كيفية قائمة بالجسم ، فلم لا يجوز أن يكون في البيض المسلوق
نحس منه بالبياض وإن لم تكن فيه كيفية قائمة به؟
وقوله : لم يوجد
فيه اختلاط الهواء بالشفاف ، فيكون البياض كيفية قائمة به حقيقة ، ليس بلازم ،
لأنّ الاختلاط سبب خاص في إحساس البصر من الجسم بكيفية البياض وإن لم تكن تلك
الكيفية موجودة حقيقة. ولا يلزم من نفي هذا السبب انتفاء الحكم إلّا إذا بيّنتم
انحصار السبب فيه ، ولم يقيموا عليه شبهة فضلا عن حجة ، فجاز أن
يكون هنا سبب آخر أو أسباب لا نعرفها تقتضي الإحساس بكيفية البياض في البيض
المسلوق ولا تكون كيفية حقيقية قائمة به.
وبالجملة إذا
جوّزنا أن نبصر شيئا لا وجود له لم يبق الاستدلال بالإبصار على الوجود في غير ذلك
الموضع موثوقا به ، ولا يمكننا الاستدلال بعدم السبب الواحد على عدم هذا الإبصار
الكاذب ، لأنّ الحكم لا يزول بزوال العلّة الواحدة إذا استند إلى غيرها.
وكذا الكلام على
الثاني والثالث ، فإنّه يحتمل وجود أمور مختلفة لأجلها نحس بالكيفيات وإن لم يكن
لها وجود في الحقيقة ، كما يحتمل ذلك في اللون الواحد.
وكذا البحث على
الرابع ، قيل : البياض ، إنّما يتكون بتعاكس الضوء من سطوح أجسام مشفة. والجمد
والزجاج مشفان ، وباعتبار اشفافهما كان لهما ضوء ، ومتى كانا ذوي سطح واحد لم يمكن
تعاكس الضوء فيهما. أمّا إذا حصل فيهما سطوح متعددة ، إمّا بالكسر أو شبهه ، تعاكس
الضوء من بعضها إلى بعض وحدث البياض ، وإن لم يكن معهما ما يوجب التزاق بعضها ببعض
رؤى كلّ
__________________
سبيل الاستحالة.
ولا لأنّ الأجزاء الهوائية خالطت الأجزاء المائية ، لأنّه بعد الابيضاض يجفّ وقبله
لا يجفّ ، وذلك يدل على غلبة الأرضية بعد الابيضاض على ما قبله.
الثالث
: الجسم إذا أخذ في
الانتقال من البياض إلى السواد سلك أحد الطرق الثلاثة:
أ
: الطريق الساذج ،
وهو أن يأخذ إلى الغبرة ، ثم إلى العودية ، ثم إلى السواد. وكأنّه في أوّل الأمر
يأخذ من سواد ضعيف ، ولا يزال يشتدّ حتى ينتهي إلى الغاية.
ب : أن يأخذ إلى الحمرة ، ثمّ إلى القتمة ، ثمّ إلى السواد.
ج : أن يأخذ إلى الخضرة ، ثمّ إلى النيليّة ، ثمّ إلى السواد.
وإنّما تختلف هذه
الطرق لاختلاف ما تتركب عنه الألوان ، فإن لم يكن إلّا بياض وسواد ، وليس للبياض
حقيقة إلّا مخالطة الضوء للأجزاء الشفافة ، لم يكن في تركيب السواد والبياض إلّا
الأخذ في طريق واحد ، وهو ازدياد الأجزاء غير المشفة ، و لا يقع الاختلاف فيه إلّا بحسب التنقّص والاشتداد ، ولم
تكن الطرق مختلفة.
الرابع
: إذا انعكس الضوء
من جسم أسود إلى جسم لم يسودّ المنعكس إليه ، فلو كان اختلاف الألوان بسبب اختلاط
الشفاف بالمظلم ، والانعكاس إنّما يحصل من الشفاف لا غير ـ لا من الأسود ـ وجب أن
لا ينعكس من الأحمر والأخضر إلّا عن الأجزاء الشفافة التي فيهما ، وهي الأجزاء
البيض لا غير ، فكان يجب أن لا ينعكس إلّا البياض ، ولا ينعكس من الأجزاء السود ـ التي
في ضمن الأحمر والأخضر ـ شيء ، فكان يجب أن لا يصير المنعكس إليه أحمر أو أخضر. وهذه
الوجوه كلّها لا تفيد اليقين.
__________________
في المسامّ
الصغيرة من العفص وقبضه العفص بقوّة فاندمج بعضها في بعض ، وحصل السواد.
وأمّا المبيّضات
فإنّها غير نافذة ، فلهذا لا يمكنها النفوذ في الأبيض ؛ على أنّ أصحاب الإكسير
يبيّضون نحاسا كثيرا برصاص مكلّس وزرنيخ مصعّد ، وهذا يبطل ما قالوه في هذا الباب.
المسألة الثالثة : في الألوان المتوسطة
ذهب جماعة من
قدماء الحكماء إلى أنّ اللون الحقيقي ليس إلّا السواد والبياض ، وما عداهما يحصل من
تركيبهما ، لأنّهما الطرفان اللذان في غاية التباعد ، وهما كيفيتان حقيقيتان ،
والضوء أيضا كيفية حقيقية زائدة عليهما.
فالسواد والبياض
إذا اختلطا وحدهما حصلت الغبرة. وهل هي لون أم لا؟ وبتقدير كونه لونا فهل هي خالص
أم لا؟
فالحق في الأوّل
أن نقول : إنّها لون ، لأنّا ندرك الجسم معها على هيئة مخالفة لغيرها من الهيئات ،
فإمّا أن يكون المرجع بها إلى ذات الجسم ، وهو باطل ، وإلّا لكان أغبر حال كونه
أسود أو أبيض ، لأنّ ذاته موجودة حال كونه أسود وأبيض ، وأيضا كان تدرك الغبرة
باللمس كما يدرك الجسم به ، وهو محال. أو يكون المرجع بها إلى عدم اللون ، وهو
محال ، لأنّ العدم لا نحس به والغبرة محسوسة متميّزة في
__________________
الإبصار عن سائر
الألوان.
وأمّا الثاني ففيه
احتمال ، لأنّ الجص والرماد إذا سحقا حصلت الغبرة من امتزاجهما ، لكن حصولها من
هذا السبب لا يقتضي الانحصار فيه ، كما في البياض والسواد حيث حصلا بأسباب خاصة ،
مع أنّهما كيفيتان حقيقيتان في أنفسهما بسيطتان.
وإن خالط السواد
ضوء ، وكان مثل الغمامة التي تشرق عليها الشمس ، ومثل الدخان الأسود يخالطه النار
، فإن غلب السواد حصلت الحمرة ، وإن اشتدت الغلبة حصلت القتمة. وإن غلب الضوء حصلت
الصفرة. ثمّ الصفرة إن خالطها سواد مشرق حصلت الخضرة. ثمّ الخضرة إن انضمّ إليها
سواد حصلت الكرّاثية الشديدة. وإن انضم إليها بياض حصلت الزنجارية ، ثمّ الكراثية
إن اختلط بها سواد وقليل حمرة حصلت النيلية. ثمّ النيلية إن اختلط بها حمرة كانت
أرجوانية. وعلى هذا القياس.
ومنهم من زعم أنّ
الألوان الحقيقة خمسة : السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة ، وهو مذهب
المتكلمين أيضا ، وجعلوا البواقي مركّبة منها. وجعل الكعبي «الغبرة» لونا
آخر سادسا منفردا ، وجوز كونها مركّبة كما تقدم. ولا شك في أنّ الأجسام الملونة
بهذه الألوان الخمسة إذا سحقت جدا ثمّ خلطت فانّها يظهر منها بحسب مقادير
المختلطات ألوان مختلفة. فمن المحتمل أن يكون سائر الألوان حاصلا على هذا الوجه
لكنّ البصر لعجزه عن التمييز يظنها ألوانا منفردة ، ويحتمل أن يكون كلّ واحد منها
أو بعضها ألوانا مفردة حقيقية.
وقد جوّز
الجبائيان وجود الزائد عليها في قدرة الله تعالى.
__________________
وأمّا أنّ طبائع
الألوان هل هي متناهية أو غير متناهية؟ فذلك مشكوك فيه. وقد اختلف المتكلمون ،
فذهب بعضهم إلى أنّها غير متناهية لو وجدت كالألوان ، وآخرون إلى أنّها متناهية
كالمزيد عليه. وكلاهما ضعيفان.
المسألة الرابعة : في سبب شدة اللون وضعفه
ذكر القدماء له
ثلاثة أسباب ، واحد منها متفق عليه ، واثنان مختلف فيهما.
أمّا المتفق عليه
فهو اختلاط الأجزاء السود بالأجزاء البيض اختلاطا لا يتميز في الحس بعضها عن بعض ،
فترى هذا الأبيض أقل ابيضاضا من الأبيض الذي لا يكون كذلك. ولمّا كانت مراتب هذا
الاختلاط كثيرة كانت مراتب قوّة البياض وضعفه كثيرة.
وبعض الناس جوّز
أن يجتمع السواد والبياض في جسم واحد فتدرك على هيئة الغبرة ، وهو باطل ؛ لأنّ
السواد والبياض بعد اجتماعهما إن بقى كلّ منهما على صرافته كان الجسم يدرك فيه
غاية البياض وغاية السواد ، وهو محال. وإن لم يبق واحد منهما على صرافته لا يكون
واحد منهما موجودا ، بل الموجود لون متوسط ، وذلك غير اجتماع السواد والبياض.
وأمّا الوجهان اللّذان وقع فيهما الخلاف :
فالأوّل
: إذا اجتمع في المحل
الواحد بياضات كثيرة ، وذلك ممّا اتفقت الفلاسفة على استحالته ، لامتناع اجتماع
الأمثال عندهم.
والثاني
: البياض الضعيف نوع
آخر مخالف للبياض الشديد ، وأنّ الألوان المختلفة بالشدّة والضعف مختلفة بالنوع.
وهو أقرب الوجوه ، وهو قول محقّقي
__________________
الأوائل وأبي بكر
بن الإخشيد .
واعلم أنّ بعض
الألوان قد يمازجه ضوء ، وبعضها يمازجه ظلمة ، فيحصل في الأوّل صفاء وإشراق ، وفي
الثاني قتورة وظلمة. فالارجوانية والفيروزية والخضرة الناصعة ، ألوان مشرقة وقريبة
من طباع الضوء ، ولذلك تنعكس إلى غيرها كالأضواء.
والغبرة
والكرّاثية والعودية والسواد وشبهها ألوان مظلمة ، ولهذا لا تنعكس إلى غيرها.
المسألة الخامسة : في أنّ الضوء ليس شرطا في وجود اللون
ذهب الرئيس هنا مذهبا غريبا عجيبا ، وهو أنّ اللون لا يوجد في الجسم حال
كونه مظلما ، فشرط في وجود اللون ـ لا في رؤيته خاصة ـ وجود الضوء.
واحتج عليه بأنّ
ألوان الأجسام في الظلمة ليست مرئية ، فعدم رؤيتها إمّا أن يكون لعدمها في نفسها ،
أو لأجل أنّ الهواء المظلم عائق عن الإبصار ، والثاني باطل ، لأنّ الهواء المظلم
ليس فيه كيفية عائقة عن الإبصار والظلمة فيه ، فإنّك إذا
__________________
كنت في غار وفيه
هواء كلّه على الصّفة التي تظنّها أنت ظلمة ، فإذا صار الجسم مستنيرا رأيته أنت ،
ولم يمنعك الهواء الواقف بينك وبينه عن الإبصار ، ولو كان الهواء متكيفا بكيفية
مانعة عن الإبصار لم يكن كذلك.
والاعتراض : لو كان عدم الرؤية في اللون دليلا على عدمه لكان الجسم
غير المرئي معدوما ، فإن جعلتم شرط رؤيته اللون والضوء فليكن الضوء شرطا في رؤية
اللون لا في وجوده ، وهو الحق ؛ لأنّ اللون له ماهية في نفسه ، وله أنّه يصحّ
أن يكون مرئيا ، فالمتوقف على وجود الضوء هو هذا الحكم ، لا حصول تلك الماهية ،
كما تقول بعينه في الجسم أنّه في نفسه حقيقة وماهية ، وله أنّه يصحّ أن يكون مرئيا
، لكنّ الحكم بصحّة رؤيته مشروط بلونه أو ضوئه ، فلا يلزم من عدم الحكم عدم
الماهية ، لجواز أن يكون لعدم الشرط.
لا يقال : اللون
هو الكيفية التي يمكن رؤيتها ، فالموجود في الظلمة إذا لم يمكن رؤيته لم يكن لونا
، بل الجسم عند ما يكون مظلما له استعداد أن يحصل له اللون المبصر عند صيرورته
مضيئا.
لأنّا نقول :
استعداد الجسم لأن يكون له لون معيّن أمر ، ووجود ذلك اللون أمر آخر ، وكون ذلك
اللون بحيث يصحّ أن يرى أمر ثالث ، فجاز أن يكون المتوقف على وجود الضوء هذا الحكم
لا أصل وجود اللون.
تذنيب : من جعل
الضوء شرط وجود اللون لم يكن عمق الجسم ملونا ، لانتفاء الضوء عنه ، ونحن لمّا
أبطلنا ذلك أمكن وجود اللون فيه.
__________________
الباب الثالث
في الضوء والظل والظلمة
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في أن الضوء لا يحدّ
إنّ جماعة من
القدماء حدّوا جميع الأشياء حتى الضروريات ، فلزمهم المحال من تعريف الأشياء
الظاهرة بالأمور الخفية ، ومن استلزام الدور. وهؤلاء حدّوا الضوء بأنّه «كمال
لذاته للشفاف من حيث هو شفاف» ، فقولنا «كمال»
__________________
لأنّه هيئة وجودية
حصلت بعد أن لم تكن. وقولنا «لذاته للشفاف» احتراز من الكمالات الحاصلة للشفاف ،
لا من حيث إنّه شفاف ، فإنّها لا تكون ذاتية للشفاف. وقولنا «من حيث هو شفاف» لأنّ
كماليته له إنّما هو باعتبار الشفافية التي هي عدم الضوء.
وجماعة أخرى حدّوا
الضوء بأنّه «الكيفية التي لا يتوقف إبصارها على إبصار شيء آخر» ؛ لأنّ الشيء إن لم يتوقف صحّة كونه مرئيا على اعتبار
الغير فهو الضوء ، وإن توقف فهو اللون ؛ لأنّه لا يصحّ رؤيته إلّا بعد صيرورته
مستنيرا ، وكلّ ما يصحّ رؤيته فإنّه يمنع عن رؤية ما وراءه ، فإنّ النفس إذا شاهدت
في جهة شيئا استحال أن تبصر في تلك الحال في تلك الجهة شيئا آخر ، ولمّا كان
إبصاره للمتوسط يجب أن يقع أوّلا ، لا جرم صار ذلك مانعا من إبصار ما وراءه ، فثبت
أنّ اللون يمنع من إبصار ما وراءه. وكذا الضوء لوقوع الظل من المصباح عن المصباح ؛ لأنّ أحدهما يمنع أن يفعل الثاني في القابل ، وكذلك الإنسان لا يرى ما يتوسط بينه وبين ذلك الشيء.
فظهر أنّ الشفاف يجب أن لا يكون مبصرا. وفساد هذه التعريفات ظاهر ، وقد عرفت فيما
سلف أنّ المحسوسات لا يجوز تعريفها بحدّ ولا رسم.
المسألة الثانية : في مغايرة الضوء للحرارة واللون
ذهب قوم من قدماء
الحكماء أنّ الضوء من جنس الحرارة. كأنّهم لم يفرّقوا
__________________
بين الشيء ولازمه .
والحق خلاف ما
ذهبوا إليه ، فإنّ الشيء قد يكون حارا مظلما ، وباردا مضيئا. فلا يجوز أن تكون
الحرارة نفس الضوء ، بل سببها. وأيضا الحرارة ملموسة غير مبصرة ، والضوء مبصر غير
ملموس ، فتغايرا.
وذهب قوم منهم إلى
أنّ الضوء هو ظهور اللون ، وزعموا أنّ الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء المطلق هو
الظلمة ، والمتوسط بينهما هو الظّل ، وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن
الطرفين ، فإذا ألف الحس مرتبة من مراتب الخفاء ، ثمّ شاهد بعد ذلك ما هو أكثر
ظهورا منه ، ظن أنّ هناك بريقا وشعاعا ، وليس كذلك ، بل سبب ذلك ضعف الحس ؛ لأنّ
ظهور الأشياء اللامعة بالليل أقل من ظهور السراج الذي هو أقل من ظهور القمر الذي
هو أقل من ظهور الشمس ، فالحس إذا ضعف في الظلمة وكان لتلك الأشياء اللامعة قدر من
الظهور ليس لغيرها ظن ذلك الظهور كيفية زائدة.
ثمّ إذا تقوّى
البصر بنور السراج ونظر إلى تلك الأشياء لم ير لها لمعانا ، لزوال ضعف الحس ،
وكذلك لمعان السراج يذهب عند ضوء القمر ، ولمعان القمر يذهب عند النور الذي يكون
في البيوت المستنيرة نهارا عن الشمس ، ومع ذلك فالناس يرون لظهور القمر لمعانا ،
ولا يرون للنور الذي يكون في البيوت المستنيرة لمعانا ، والسبب فيه ما ذكرناه.
لا يقال : نحن
ندرك التفرقة بين اللون المستنير ، واللون المظلم.
لأنّا نقول : سبب
ذلك ظهور أحدهما وخفاء الآخر ، لا بسبب كيفية أخرى.
__________________
ومن هؤلاء من بالغ
حتّى قال : ضوء الشمس ليس إلّا الظهور التام للونها ، ولذلك تبهر البصر ، فحينئذ
يخفى اللون لعجز البصر ، لا لخفائه في نفسه ، كما أنّا نحس بالليل بلمعان اللوامع
؛ ولأنّ الحس لضعفه في الليل يبهره ظهور تلك الألوان ، فلا جرم لا نحس بها.
وهذا الذي ذكروه
ممكن ، فإنّه يجوز أن يكون لما قالوه تأثير في اختلاف أحوال الإدراكات بحسب اختلاف
الحس في القوّة والضعف ، لكن ندّعي مع ذلك أنّ الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات
اللون لوجوه :
الأوّل
: ظهور اللون إشارة
إلى تجدد أمر ، فذلك الأمر إمّا أن يكون هو اللون ، أو صفة غير نسبيّة ، أو صفة
نسبيّة. والأوّل باطل ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يجعل النور عبارة عن تجدد اللون ،
أو اللون المتجدد. والأوّل يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلّا في آن تجدّده.
والثاني يقتضي أن يكون الضوء هو نفس اللون ، فلا يبقى لقولهم : الضوء هو ظهور
اللون معنى. وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذلك اللون وسمّوه بالظهور كان
هو مطلوبنا ، ويصير النزاع لفظيا.
وإن زعموا أنّ ذلك
الظهور تجدّد حالة نسبيّة فهو باطل ؛ لأنّ الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن تفسيره
بالحالة النسبية.
الثاني
: البياض والسواد قد
يشتركان في الإضاءة والإشراق ، فإذن الضوء ثابت لهما جميعا ، فلو كان كون كلّ واحد
منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال ؛ لأنّ المقابل
للضوء ليس إلّا الظلمة.
الثالث
: انفكاك كلّ واحد
من الضوء واللون عن صاحبه يدل على المغايرة ، وبيان الانفكاك أنّ اللون قد يوجد من
غير ضوء ، فإنّ السواد قد لا يكون مضيئا ، وكذا باقي الألوان ، والضوء يوجد من دون
اللون ، كالماء والبلور إذا كانا في الظلمة
__________________
ووقع الضوء عليه
وحده فإنّه حينئذ يرى ضوؤه ، فذلك ضوء وليس بلون.
الرابع
: نفرض الكلام في
بعض الألوان المتوسطة بين السواد والبياض ، وليكن ذلك هو الحمرة ، فنقول : إمّا أن
يسلّموا أنّ لها حقيقة مخصوصة ، أو يزعموا أنّها عبارة عن اختلاف ظهورات بياضية
بخفاءات سوادية. فإن ذهبوا إلى الثاني فنقول : الجسم الأحمر إذا انعكس الضوء عنه
إلى جسم آخر احمرّ ذلك الجسم ، فإمّا أن ينعكس الظهور عن الأجزاء الظاهرة والخفاء
عن الخفية ، وهو محال ، لأنّ الأجزاء الخفية لا تفيد الخفاء للمقابل ، فإنّ الخفاء
لو كان خالصا لم يؤثر في المقابل. أو ينعكس الظهور خاصة دون الخفاء ، وهو باطل ؛
لأنّ الظاهرة لو فعلت إظهار ما يقابلها ـ والإظهار هو التبييض ـ وجب أن يزيد
ابيضاض المنعكس إليه ولا يحمرّ ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
وإن ذهبوا إلى
الأوّل ، وجعلوا الحمرة لونا حقيقيا في نفسه ، وزعموا أنّها إذا ظهرت فعلت فيما
يقابلها مثل نفسها. فنقول : إنّها إذا كانت قليلة الظهور أفادت للمقابل مجرّد
الضوء ، ولا تخفى لون المقابل ، فإذا قويت في الظهور أخفت لون المقابل ، فلو لم
يكن هناك إلّا اللون وحده ، لكان يفعل عند الضعف لونا ضعيفا مثل نفسه وعند اشتداده
يفعل لونا قويا مثل نفسه ، وليس كذلك ، فإنّه يفيد أوّلا ظهور لون المقابل إظهارا
شديدا ، ثمّ إذا صار أقوى أخذ في إبطال لون المقابل أو إخفائه ويفيده لونا مثل
نفسه ، فيكون أحد الفعلين لا محالة عن شيء غير ما عنه الآخر ، فيكون مصدر الإضاءة
هو الضوء الذي لو كان الجسم لا لون له ـ وله ضوء ـ لكان يفعل ذلك ، مثل البلورة
المضيئة ، والفعل الآخر يكون من لونه إذا اشتدّ ظهوره بسبب هذا الضوء حتى صار
متعديا إلى المقابل.
__________________
الخامس
: الجسم إذا اجتمع
فيه ضوء ولون ، فتارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره، وتارة ينعكسان منه معا إلى
الغير ، وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا حتى يحمرّ المنعكس إليه، فلو كان الضوء هو
ظهور اللون لاستحال أن يفيده لغيره بريقا ساذجا.
لا يقال : هذا
البريق عبارة عن إظهار لون ذلك المقابل.
لأنّا نقول : فلما
ذا إذا اشتدّ لون الجسم المنعكس منه ضوؤه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون
نفسه؟
واعلم أنّ الرجوع
في هذا المقام إلى الضرورة أولى ، فإنّا نعلم قطعا أنّا ندرك كيفيتين متغايرتين
هما اللون والضوء ، والحكم باتحادهما حكم بإبطال ما يشهد به الحس ، فلا يكون
مقبولا عند العقل.
المسألة الثالثة : في أنّ الضوء ليس بجسم
زعم بعض القدماء أنّ الضوء أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء.
وهذا باطل بوجوه :
الأوّل
: إمّا أن يجعلوا
الضوء نفس الجسمية ، أي المفهوم من أحدهما هو المفهوم من الآخر ، أو يجعلوا الضوء
عبارة عن أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل
__________________
عن المضيء وتتصل
بالمستضيء ، والأوّل باطل ؛ لأنّا نعلم بالضرورة التغاير بين الجسم والضوء في
المفهوم ، ويعقل جسم مظلم ، ولا يعقل ضوء مظلم. والثاني باطل أيضا ، لأنّ تلك
الأجسام الموصوفة بالكيفيات إن لم تكن محسوسة لم يكن الضوء محسوسا ، وإن كانت
محسوسة كانت ساترة لما تحتها ، فكلّما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا ، لكن الثاني
محال ، فإنّ الضوء كلّما ازداد قوة ازداد إظهارا.
وفيه نظر ، لمنع
الحصر في القسمة فجاز أن يكون الضوء عبارة عن جسم خاص ، ومنع [كون] كلّ محسوس
ساترا ، وإنّما يكون ساترا لو كان ذا كثافة وظلمة ولون.
الثاني
: لو كان الشعاع
جسما لكانت حركته الطبيعية إلى جهة واحدة ، لكن الضوء يقع على كلّ جسم في كلّ جهة .
وفيه نظر ، لأنّا
نقول : إنّه بالطبع يقع على المقابل.
الثالث
: الضوء إذا دخل من
الكوّة ثمّ سددناها دفعة ، فتلك الأجزاء النورانية إن عدمت ، لزم
أن يكون تخلّل جسم بين جسمين معدما لأحدهما وهو محال. وإن بقيت خارج
البيت وخرجت قبل السد فهو محال ؛ لأنّ القابل والفاعل للضوء موجودان ، فلا يمكن
عدم الضوء قبل السد ، ولا خروجه عن البيت. وإن بقيت في البيت وقد زالت النورية
والضوء عنها ، فهو مذهبنا ؛ لأنّ مقابلة المستنير سبب لحدوث تلك الكيفية ، وإذا
ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل.
وفيه نظر ، لإمكان
أن يكون الضوء عبارة عن أجسام خاصة لا تظهر رؤيتها
__________________
إلّا عند المقابلة
، وجاز عدمها لعدم الشرط ، لا للحيلولة.
الرابع
: إذا طلعت الشمس
أضاء وجه الأرض دفعة ، ومن المستبعد انتقال تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى جميع
وجه الأفق دفعة ، أو زمانا يسيرا جدا ، خصوصا والخرق على الفلك محال.
وفيه نظر ؛ لأنّ
الحركة قابلة للشدة القوية ، فجاز حدوثها في الزمن اليسير ، والمستبعد ليس بمحال ،
ونمنع استحالة الخرق.
سلّمناه ، لكنّه
غير لازم ، لإمكان حصولها عند المقابل لا عند الشمس. والحاصل أنّا ندعي كون الضوء
جسما خاصا كالنار ، لا مطلق الجسمية.
احتجوا : بأنّ
الشعاع متحرك ، وكلّ متحرك جسم ، فالشعاع جسم. والكبرى ظاهرة ، وأمّا الصغرى فلأنّ
الشعاع منحدر من عند الشمس أو النار ، وكلّ منحدر متحرك. ولأنّ الشعاع يتحرك بحركة
المضيء. ولأنّ الشعاع قد ينعكس عما يلقاه من الأجسام الصقيلة والانعكاس حركة.
والجواب : منع
الصغرى ، قولهم : «الشعاع منحدر من عند الشمس» ممنوع ، وإلّا لرأيناه في وسط
المسافة ، بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ، ولمّا كان حدوثه من موضع مرتفع
، يوهم أنّه ينزل ، وليس كذلك.
قولهم : «إنّه
يتحرك بحركة المضيء» ممنوع ، بل يعدم مع زوال المقابلة للجسم الأوّل ويحدث مع
المقابلة للثاني فيتوهّم أنّه يتحرك وليس كذلك ، كما في الظل ، فإنّه ينتقل
كانتقال الشعاع ، وليس بجسم.
قولهم : «إنّه
ينعكس» ممنوع ، بل المتوسط شرط لحدوث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم.
__________________
تذنيب
:
هنا ضوء ولمعان
ونور وشعاع وبريق ، وكأنّها شيء واحد لكنّها تختلف باختلاف الاعتبار والشدة
والضعف. فالضوء هو الكيفية المنبسطة المشاهدة على الأجسام ، فإنّ الأجسام الملونة
إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإنّ ذلك الظهور وهو الكيفية المنبسطة عليها مشاهد
مغاير للسواد والبياض وغيرهما من الألوان.
واللمعان هو الذي
يترقرق على الأجسام ويستر لونها ، وكأنّه شيء يفيض عنها. وكلّ واحد من هذين القسمين
، إمّا أن يكون له من ذاته ، أو من غيره ، فالظهور الذاتي هو المسمى بالضوء ، كما
للشمس والنار. والظهور الذي من الغير يسمى «نورا» . والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى «شعاعا» . والذي للشيء من غيره، كما للمرآة يسمى «بريقا» .
المسألة الرابعة : في أنّ المضيء لا يضيء إلّا المقابل
إذا كان المتوسط
بين المضيء والمقابل متشابه الشفيف ، وإضاءة المضيء لا بالانعكاس ، فإنّه لا يضيء
إلّا المقابل ، فإنّ ضوء الشمس إذا دخل من ثقب في
__________________
بيت مظلم ، وكان
الهواء كدرا بغبار أو دخان ، فإنّ الضوء يظهر مستقيما. وإن كان هذا البيت صافيا
أمكن اعتباره بوجوه أربعة :
الأوّل
: إذا أخذنا جسما
كثيفا وقطعنا به المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع المضيء من البيت ،
وجد الضوء ظاهرا على ذلك الكثيف ، ومنقطعا عن موضعه عن البيت. ولو اعتبر ذلك في
المسافات المنفرجة التي بين الثقب وبين الموضع المضيء من البيت ، لا يظهر ذلك
الضوء فيه.
الثاني
: إذا مددنا خطا
مستقيما من الثقب إلى موضع الضوء صار كله مضيئا.
الثالث
: إذا أخذنا جسما
كثيفا وثقبنا فيه ثقبا دقيقا وقابلنا به جرم الشمس وجدنا الضوء ينفذ منه على سمت
مستقيم ، ووجدنا الأبعاد التي بين المواضع المضيئة من البيت مساوية للأبعاد التي
بين ذلك الثقب ، أو مناسبة لها. وإذا اعتبرنا سائر الكواكب الدرية كالشعرى وغيرها
وجدنا ضوءه منتقلا بحسب انتقاله على الاستقامة.
الرابع
: استقامة الأظلال
تقتضي استقامة الأضواء.
المسألة الخامسة : في الضوء الأوّل والثاني
الضوء الأوّل : هو الضوء الحاصل من
المضيء لذاته.
والضوء الثاني : هو الضوء الحاصل من المضيء لغيره .
__________________
ومثال ذلك : أنّا
نجد الأرض في أوّل النهار قبل طلوع الشمس على الأفق ، وفي آخره بعد غروبها عن الأفق
، مضيئة ، والمواضع المستورة عن الشمس بالحيطان والسقوف مضيئة مع أنّ الشمس غير
مقابلة لوجه الأرض قبل حالتي الطلوع والغروب ، ولا في البيوت المستورة ، ولا علّة
لهذا إلّا ضوء الشمس ولا يناقض هذا ما قدّمناه في المسألة السابقة من أنّ المضيء
لا يضيء إلّا المقابل ؛ لأنّ المقابلة بين المضيء والمستضيء هنا حاصلة ؛ لأنّ
الهواء المقابل للشمس يصير مضيئا بسبب مقابلته للمضيء بذاته الذي هو الشمس ، وأنّه
مقابل لوجه الأرض ، فيصير ذلك الهواء مضيئا لوجه الأرض بسبب مقابلته للمضيء لغيره.
فالضوء الحاصل في
الهواء المقابل للشمس هو الضوء الأوّل ، والحاصل على وجه الأرض من المضيء لغيره ـ وهو
الهواء المقابل للشمس ـ هو الضوء الثاني. وما دام الضوء الذي في الجو ضعيفا كان
الذي يظهر منه ويفيض عنه على وجه الأرض خفيا جدا. فإذا ازداد الجو إضاءة ازداد وجه
الأرض إضاءة ، وكذا القول في ما بعد الغروب وفي أفنية الجدران.
وهذا التقرير
إنّما يتم بأمرين :
أ : قبول الهواء للتكيف بالضوء.
ب : المضيء لا لذاته يضيء غيره بواسطة ما اكتسبه من الضوء
الحاصل من غيره.
أمّا الأوّل فلأنّا نشاهد الجو الذي في أفق المشرق وقت الصباح مضيئا. ولأنّا
نرى الكواكب ليلا لا نهارا ، فلو لا تكيّف الهواء بالضوء لبقي على ما كان عليه في
الليل ، فيلزم أنّ الإنسان إذا نظر إلى الجانب المخالف للجانب الذي تكون الشمس فيه
من الفلك نرى ما فيه من الكواكب ، إذ الهواء لم يتكيّف
__________________
بالضوء ، بل بقي
على حاله في الليل ، ولمّا لم يكن كذلك علمنا تكيّف الهواء بالضوء في النهار فمنع
من رؤية الكواكب ؛ لأنّ الحس لا يشاهد الضعف حال وجود الضوء القوي.
وأمّا الثاني
فلأنّا نجد ضوء الشمس إذا أشرق على بعض الجدران ، وكان مقابل ذلك الجدار وبالقرب
منه مكان مظلم ، فإنّ ذلك المكان يضيء بعد أن كان مظلما ، ولو كان لذلك المكان
المظلم باب ، وكان مقابل الباب داخل ذلك البيت جدار ، فإنّ ذلك الجدار يكون أشدّ
إضاءة من بقية البيت. ثمّ إذا زالت الشمس وزال ضوؤها المشرق على ذلك الجدار عاد
الموضع مظلما ، فعلمنا أنّ المستضيء من غيره قد يضيء شيئا ثالثا.
المسألة السادسة : في أنّ حصول الضوء الثاني من الهواء
المضيء ليس على سبيل الانعكاس
اعلم أنّ المضيء
لغيره قد يضيء غيره على سبيل الانعكاس ، كالمرآة الصقيلة إذا وقع عليها الضوء ،
فإنّها تضيء غيرها ممّا يقابلها بأن ينعكس الضوء الأوّل منها إلى المقابل.
وقد يكون لا على
سبيل الانعكاس ، كالضوء الثاني المفروض على وجه الأرض وفي أفنية البيوت الحاصل من
الهواء المستضيء بمقابلة الشمس ، لأنّ هذا الضوء لو كان على سبيل الانعكاس من
الهواء إلى وجه الأرض لما كانت أجزاء ذلك الجو كلّها مضيئة ، كما في المرآة ،
فإنّها لمّا أضاءت بالانعكاس لم يكن جميع سطحها مضيئا ، إذ الانعكاس إنّما يكون عن
السطح الصقيل ، وعود الضوء منه إلى ما ينعكس إليه ، فلا ينفذ في عمق الجسم ذي
السطح الصقيل ، لكن الاعتبار دلّ على أنّ جميع الضوء المضيء مضيء في نفسه ، ويضيء
كلّ ما يقابله.
__________________
فإن قيل : جرم الهواء ، إمّا أن يتكيّف بكيفية الضوء أو لا ، فإن
تكيّف بكيفية الضوء وجب أن نحس بضوء الهواء كما نحس بضوء الجدار حال تكيّفه بالضوء
الواقع عليه من الشمس وشبهها ، لكنّا لا نحس بكون الهواء مضيئا كإضاءة الجدار. وإن
لم يتكيّف الهواء بكيفية الضوء لم يكن الهواء في ذاته مضيئا بذاته ولا لغيره ، فلا
يضيء غيره لانتفاء مطلق الضوء عنه.
لا يقال : لم لا
يجوز أن يكون للهواء لون ضعيف أضعف ممّا للماء والأحجار المشفّة كالبلور ، فيكون
قابلا للضوء باعتبار ما له من اللون الضعيف ، ويكون ذلك الضوء فيه ضعيفا جدا لضعف
لونه ، فلا نحس بضوئه لضعفه كما نحس بالضوء الموجود في الكثيف؟
سلّمنا أنّ الهواء
لا لون له ، لكن الهواء المحيط بالأرض ليس بسيطا بل خالطته أجزاء كثيفة أرضية
ومائية ، وهي تقبل الضوء من الشمس ثمّ يضيء وجه الأرض.
لأنّا نقول : أمّا
الأوّل فباطل ، لأنّ الضوء الذي في الهواء إن بلغ في الضعف إلى أن يصير بحيث لا
يرى كان الضوء الحاصل منه في وجه الأرض أولى بأن لا يرى ، والتالي كاذب فالمقدّم
مثله. وإن لم يبلغ إلى هذه النهاية كان ضوؤه مرئيا.
وأمّا الثاني
فلأنّه لو صحّ ما ذكرتموه من حصول الضوء للهواء بواسطة ما خالطه من الأجزاء
الكثيفة الأرضية أو المائية ، لوجب أن يكون الهواء كلّما كان أصفى وكان الغبار
والبخار فيه أقل ، وجب أن يكون الضوء أضعف فيكون الضوء قبل الطلوع وبعد الغروب وفي
أفنية الجدران أضعف ، لصفاء الهواء حينئذ ، ويكون كلّما كان البخار والغبار فيه
أكثر وجب أن يكون الضوء فيه حينئذ أشد وأصفى ، لكن التالي كاذب ، فالمقدّم مثله.
__________________
فالجواب : أنّ
الهواء له لون ضعيف لا باعتبار ذاته ، بل بواسطة امتزاجه بغيره من الأجزاء
البخارية ، فلأجل ذلك يتكيّف بضوء ضعيف لا يقع به الإحساس ، ونلتزم ما قالوه من :
أنّ الضوء الحاصل في الكثيف أولى بأن لا يرى ، لأنّا إذا نظرنا إلى الجدار الذي لا
تقابله الشمس فكأنّا لا نرى فيه إلّا اللون ، ولا نرى في البيت شيئا من الكيفية
الحاصلة فيه عند كونها في مقابلة الشمس.
تذنيبات :
أ
: ظاهر قول
الرياضيين : «إنّ الضوء ينفذ من المضيء إلى الشفاف فيسري في ذلك الهواء الشفاف» إنّما هو قول مجازي ، والمراد منه
حدوث كيفية الضوء في المقابل دفعة من غير أن يمرّ بالهواء.
ب : الظل : عبارة عن الضوء الثاني وهو قابل للشدة والضعف بحسب شدة
الضوء الأوّل الفائض منه إليه وقبول المقابل وقلّة الحجب من الحجاب ، وأضداد ذلك
في الضعف. وطرفاه اللّذان هما في غاية التباعد الضوء والظلمة.
ج : الظلمة : أمر عدمي وهو عدم الضوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئا وليست أمرا
ثبوتيا ، خلافا لجماعة من الأشاعرة ، حيث قطعوا بكونها ثبوتية ، وهو غلط لوجوه :
أوّلا
: إذا غمضنا العين
كان حالنا كما إذا فتحناها في الظلمة ، ولا نفرق بينهما البتة، فكما أنّا عند
التغميض لا ندرك شيئا ، فكذلك إذا فتحناها [في الظلمة]
__________________
وجب أن لا ندرك
كيفية من الجسم المظلم .
ثانيا
: إذا قدرنا خلو
الجسم عن الضوء من غير انضياف صفة أخرى إليه لم يكن حال ذلك الجسم إلّا هذه الظلمة
، ومتى كان كذلك لم تكن الظلمة أمرا وجوديا.
ثالثا
: إذا جلس إنسان في
غار مظلم ليلا لا ضوء فيه ، وجلس خارج الغار شخص أوقد نارا خارج الغار ، فإنّ الذي
في الغار يرى الجالس عند النار ويرى الهواء مستنيرا ، والجالس عند النار لا يرى من في الغار ويرى الهواء مظلما
، ولو كانت الظلمة كيفية وجودية لما اختلف حالها باختلاف الأشخاص.
احتج المخالف
بأنّه ليس جعل الظلمة عدم الضوء أولى من العكس ، فإمّا أن يكونا وجوديين أو عدميين
، والتالي باطل فتعيّن الأوّل.
وهذا الكلام في
غاية السقوط ، لأنّ الضوء كيفية مشاهدة محسوسة لا يمكن أن تكون عدمية. والظلمة قد
بيّنا أنّها ليست محسوسة ، ولا يزيد المظلم في ظلمته على عدم الضوء عنه.
رابعا
: توهّم بعض الناس أنّ إبصار بعض الأجسام يتوقف على الظلمة ، والظلمة شرط في
رؤيته ؛ لأنّ الجسم إمّا أن يرى بكيفية في غيره وهو الشفاف ، أو بكيفية فيه ،
فإمّا أن يكون إبصار هذا الثاني متوقفا على شرط ، أو لا ، فإن كان مرئيا لذاته غير
متوقف على شرط فهو المضيء ، وإن كانت صيرورته مرئيا يتوقف على شرط آخر ، فذلك
الشرط قد يكون ضوءا في الألوان ، وقد يكون ظلمة كالأشياء
__________________
التي تلمع ليلا.
وهو خطأ ، فإنّ
الظلمة لا يمكن أن تكون شرطا لصيرورة اللوامع مبصرة ؛ لأنّ المضيء مرئي سواء كان
الرّائي في الظلمة أو في الضوء ، كالنار يراها الإنسان سواء كان في الظلمة أو في
الضوء. وأمّا الشمس فإنّما لا يمكننا أن نراها في الظلمة ؛ لأنّها متى طلعت لم تبق
الظلمة.
فأمّا الكواكب
واللوامع ، فإنّما ترى في الظلمة دون النهار لغلبة ضوء الشمس على ضوئها ، وإذا
انفعل الحس عن الضوء القوي لم ينفعل عن الضعيف ، وفي الليل لا ضوء غالب فيه على
ضوئها فرؤيت.
وبالجملة
فصيرورتها مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة ، بل لأنّ الحس في الليل لمّا لم ينفعل
عن المحسوس القوي أمكنه إدراك الضعيف ، وبالنهار يصير الحال بالعكس من ذلك ، وهذا
كما أنّ الهباء الذي في الجو من جنس ما يمكن أن يرى في الضوء ، ومع ذلك
فإنّه لا يرى بسبب أنّ البصر إذا كان مغلوبا بضوء الشمس ، وهو محسوس قوي لا يقدر
على إدراكها ، فأمّا عند ما يكون في البيت لا منفعلا عن الضوء القوي يمكنه
إدراكها.
فظهر أنّ الظلمة
ليست شرطا في هذا الباب ، بل السبب ضعف البصر عن إدراك الضعيف إثر القوي.
والتحقيق أن نقول
: إن عنيت بكون الظلمة شرطا ، أن البصر لضعفه لا يتمكن من إدراك الضعيف الضوء
نهارا لغلبة ضوء الشمس عليه فهو مسلّم ؛ لأنّ البصر كما احتاج في إدراكه للأشياء
إلى الاستعانة بالضوء ، كذا يحتاج في إدراكه لبعضها إلى حدّ من الضوء متى تجاوزه
لم يحصل الإدراك ، ولا نعني بالشرط سوى ذلك. وإن عنيت به أنّ تلك الأشياء في نفسها
لا تكون مرئية في نفسها ، فهو
__________________
باطل.
خامسا
: قيل : النور خير
لأنّه وجودي ، والظلمة شر لأنّها عدمية. وسيأتي بيان أنّ الشر ليس إلّا عدم الكمال
عن مستحقه ، وهذا بحث خطابي.
__________________
البحث الرابع : في الكيفيات المسموعة
وهي الصوت والحرف.
فهنا بابان :
الباب الأوّل
في الصوت
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في ماهيته
الصوت : كيفية
محسوسة بحاسة السمع ، لا تحتاج إلى تعريف حدّي ولا رسمي ؛ لجلاء ماهيته. فإنّ
المحسوسات على ما تقدم لا يمكن تعريفها ، لأنّها أظهر من كلّ ما يعرّف به ، لكن قد
غلط جماعة في ماهيته ، فبعضهم جعله جسما ينقطع بالحركة نسمعه بانتقاله إلى الأذن ،
وهو مذهب إبراهيم النظام. وبعضهم
__________________
اشتبه عليه الصوت
بسببه ، فاعتقد أنّه التموّج الذي هو السبب القريب للصوت. وذهب بعضهم إلى أنّه نفس
القرع والقلع اللذين هما سببان بعيدان للصوت. وقيل : إنّه اصطكاك الأجسام الصلبة.
والكل باطل.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الأجسام مشتركة في الجسمية ، ومختلفة في الصوت ، وما به الاشتراك غير ما به
الاختلاف. وأيضا الأجسام ملموسة ومبصرة ، إمّا بالذات أو بالعرض ، وليس الصوت
بملموس ولا مبصر بالذات ولا بالعرض ، فليست الأصوات أجساما. ولأنّ الصوت مدرك
بالسمع والجسم ليس مدركا به فتغايرا. وأبطل أبو هاشم هذا القول المنسوب إلى النظام
بأنّ الصوت لو كان جسما لصحّ أن يبنى منه حائط أو دار ، والتالي باطل بالضرورة
فالمقدم مثله ، ولم يدل على الشرطية بشيء ، بل كأنّه أخذها مسلّمة مع أنّ لمنازع
أن ينازع فيها. وليس يصحّ في كلّ جسم ما ذكره ، بل من شرطه أن يكون كثيفا.
وأمّا إبطال
المذاهب الأخر فلأنّ التموّج حركة وهو مبصر ، والصوت غير مبصر. وأيضا التموّج
محسوس باللمس ؛ لأنّ الصوت الشديد ربّما ضرب الصماخ فأفسده. والاصطكاك والقرع
مماسة ، والقلع تفريق ، وكلّ ذلك محسوس بالبصر بتوسط اللون ، ولا شيء من الأصوات
يحس باللمس أو البصر ، فليس التموج والقرع والقلع بصوت.
وأيضا الشيء قد
يعلم منه أنّه تموج أو قرع أو قلع ، ويجهل كونه صوتا ، ويعلم كون الشيء صوتا ويجهل
كونه تموّجا ، أو قرعا ، أو قلعا. وكلّ ذلك يدل على التغاير بين الصوت وهذه
الأشياء .
__________________
المسألة الثانية : في سبب الصوت
للصوت سببان :
قريب ، وبعيد :
فالقريب : هو تموج
الهواء ، ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من هواء واحد بعينه ، بل حالة شبيهة
بتموج الماء ، فإنّه أمر يحصل بالتدارك بصدم بعد صدم مع سكون بعد سكون. وللتموج
سبب قريب هو السبب البعيد للصوت ، وهو إمّا قرع أو قلع. فالقرع إمساس أحد الجسمين
بالآخر بعنف ، والقلع تفريق أحد النصفين من الجسم من صاحبه بعنف ، كما تشق الخشبة
أو الثوب بعنف. وإنّما اعتبرنا العنف ؛ لأنّ مطلق القرع ومطلق القلع لا يوجبان
الصوت ، فإنّك لو قرعت جسما لينا كالصوف بقرع لين جدا لم يحدث صوت. وكذا لو شققت
جسما يسيرا يسيرا ، أو كان المشقوق لا صلابة فيه ، فإنّه لا يكون للقطع صوت.
وقيل : السبب
القريب للصوت هو القرع أو القلع ، وليس بجيد ، لأنّهما آنيان ، فإنّ القرع مماسة
والقلع لا مماسة ، والصوت زماني ، والآني لا يكون سببا للزماني. وينتقض بالميل
الذي هو سبب الحركة ، وبامكان كونهما معدّين . ونمنع كون القلع آنيا.
وقول من جعل
التموّج سببا قريبا يشعر بأنّا لو قدّرنا العالم خاليا لم يحصل الصوت من القرع
والقلع العنيفين. والذي أوهم إسناد الصوت إلى التموّج شيئان :
الأوّل
: متى رأيناه حاصلا
حصل الصوت ، فإنّ طنين الطست ينقطع عند تسكينه على حالة واحدة ، فلولا حاجة الصوت
إلى الحركة لم ينقطع طنينه عند سكونه.
__________________
الثاني
: نرى الصوت مستمرا
باستمرار حركة الهواء الخارج من الحلق ، والآلات الصناعية ، وسائر الأجسام
المصوّتة.
واعلم أنّ الدوران
لا يفيد القطع ولا دلالة قاطعة على أنّ المؤثّر في وجود الصوت هو القرع أو القلع
العنيفان أو التموّج. ولا دلالة قاطعة أيضا على إمكان حدوث الصوت بدونهما ، فمن
المحتمل أن يكون أحد هذه الأمور مؤثرا أو شرطا ، بل الظاهر ذلك.
واعلم أنّ تموّج
الهواء لازم من القرع والقلع ، لأنّ القارع للهواء يحوجه إلى أن ينقلب من المسافة
التي يسلكها القارع إلى جنبتيها بعنف شديد. وكذلك القالع يحوج الهواء إلى الانقلاب
المذكور. وفي الأمرين جميعا يلزم المتباعد من الهواء أن ينقاد للشكل والتموّج الواقعين هناك ، لكن
القرعي أشد انبساطا من القلعي.
المسألة الثالثة : في حقيقة القرع
اعلم أنّ القرع لا
بدّ فيه من حركتين إحداهما سابقة عليه ، والأخرى لاحقة به. أمّا السابقة فقد تكون
من أحد الجسمين ، بأن يتحرك وينتقل إلى الثاني ، ويكون الثاني ساكنا حافظا لموضعه
، ويصير المتحرك إليه بقوّة. وقد تكون الحركة منهما معا ، بأن يتحرك كلّ منهما إلى
صاحبه ، ولا بدّ من المعاوقة بينهما وقيام كلّ واحد منهما أو أحدهما في وجه الآخر
قياما مخصوصا ، فإنّه إن لم توجد تلك المماسة إلّا آنا أو زمانا يسيرا
جدا بحيث لا نحس به لم يكن صوت ، ولا تشترط الصلابة في ذلك القيام بأن يكون القائم
صلبا ، فقد يكون رطبا في الغاية ويحصل منه صوت ، وذلك بأن يحمل عليه بالقوّة ويطلب
خرقه خرقا كثيرا في زمان
__________________
قصير ، فربّما قام
في وجه الخارق وقاومه ومانعه عن النفوذ فيه وصدّه عن خرقه بسهولة ، فحينئذ يقوم في
وجه ذلك النافذ ، وتقوم تلك مقام الصلابة ، كما أنّك لو أمررت السّوط في الماء
برفق ، فإنّك يمكنك شقا سهلا لا يلزمك فيه مئونة ، ولو استعجلت استعصى وقاوم،
وكذلك الهواء. وقد يجوز أن يصير الهواء أجزاء : جزء منه قارع كالريح ، وجزء مقاوم
، وجزء منضغط فيما بينهما على هيئة من التموّج.
فظهر أنّه ليست
الصلابة والتكاثف علّة أوّلية لإحداث هذا التموّج ، وأنّهما يحدثان الصوت بسبب
حصول المقاومة ، لا باعتبار خصوصيتهما ، فإذا حصلت المقاومة مع عدم الصلابة
والتكاثف حصل الصوت ، لوجود علّته.
فالعلّة الأوّلية
إذن هي المقاومة ، والقارع والمقروع معا يفعلان الصوت ، لاحتياج المقاومة إليهما ،
لكن أولاهما به أصلبهما وأشدهما مقاومة.
وأمّا الحركة
اللاحقة فهي اضطراب الهواء وانقلابه من المسافة التي يسلكها القارع إلى جنبتيها
بعنف. ثمّ إنّ ذلك الهواء المنقلب يحصل له الانقياد إلى الشكل والموج الواقعين
هناك.
المسألة الرابعة : في أنّ الصوت هل يتوقف الإحساس به على وصول
الهواء الحامل له إلى الصماخ؟
ذهبت الفلاسفة إلى أنّ السماع لا يحصل إلّا عند تأدّى الهواء المنضغط بين
القارع والمقروع الحامل للصوت إلى سطح الصماخ. وهو مذهب النظام أيضا ،
__________________
خلافا لكافة
الأشاعرة . والظاهر أنّ النظام لمّا وافق الأوائل على توقف السمع على
وصول الهواء إلى سطح الصماخ ، والهواء جسم ، ظن الناقلون عنه أنّه ذهب إلى أنّ
الصوت جسم .
احتج الأوائل
بوجوه :
الأوّل
: نرى صوت المؤذن
على المنارة يميل من جانب إلى آخر عند هبوب الرياح ، ويتبع الرياح في الجريان إلى
الجهة التي تطلبها.
الثاني
: من أخذ انبوبة
طويلة ووضع أحد طرفيها على فمه وطرفها الآخر على سطح صماخ آخر ، وتكلم فيها بصوت
عال ، فإنّ ذلك الإنسان الآخر يسمع صوته دون الحاضرين. وليس ذلك إلّا لأنّ الهواء
المتموّج الحامل للصوت لم ينتقل إلّا إلى سطح صماخ الذي وضعت الانبوبة على صماخه ،
وانحصر في الانبوبة حتى تأدّى إليه خاصة دون الحاضرين ، فعلمنا أنّ الصوت محمول في
الهواء المتموّج.
الثالث
: إذا ضرب جسم على
جسم من قرب ، سمع الصوت حال القرع ، ولو بعدت المسافة لم يسمع إلّا بعد زمان ، كما
نشاهد في القصار إذا ضرب الثوب على الحجر ، فإنّه مع البعد يسمع الصوت بعد مشاهدة
القرع بزمان ، ولا سبب لذلك إلّا أنّ الصوت يحمله الهواء ويتموّج إلى أن يصل إلى
الأذن فيسمع بعد الحركة وانقضائها ، فساوى طول الزمان بعد المسافة.
الرابع
: لو انسدّ التجويف
الذي في الأذن لم يحصل السماع حيث لم يتأد التموّج إلى سطح الصماخ.
__________________
الخامس
: لو كان بين القارع
وبين السامع جسم كثيف تعذر السماع وصار عسرا لعسر التموّج للهواء. والصوت
الشديد قد يخرق سطح الصماخ ، وقد يبلغ في الشدة إلى أن يهدم الأبنية ويفصل الأحجار
، كالرعود القوية ، وهو يدل على أنّ الصوت لا يسمع إلّا بعد تأدّي الهواء الحامل
له إلى الصماخ.
واعترض بأنّ المرجع في هذه الوجوه إلى الدوران ، وهو ضعيف ؛ لعدم
إفادته اليقين.
واحتج الآخرون
بوجوه :
أ
: الحروف الصلبة
كالباء والتاء والدال والطاء ، هيئات تحدث في الآن الفاصل بين زمان حبس النفس
وزمان اطلاقه ، وذلك ممّا يمتنع بقاؤه ، فلا ثبوت لها إلّا آن حدوثها ونحن
نسمعها. فإذن قد
سمعناها قبل وصول الهواء الحامل لها إلى صماخنا.
ب
: حامل كلّ واحد من
الحروف المسموعة ، إمّا كلّ واحد من أجزاء الهواء أو مجموع الأجزاء ، والأوّل باطل
، لأنّه يقتضي أنّ الإنسان إذا تكلّم أن يسمع السامع كلامه مرارا متعددة عند ما
تصل إلى صماخه أعداد كثيرة من تلك الأجزاء. والثاني باطل ، لأنّه يقتضي أن لا يسمع
كلام الواحد إلّا واحد ، لأنّ جملة الهواء إنّما تتحرك إلى جهة واحدة فلا تصل إلّا
إلى صماخ واحد.
ج
:
إذا سمعنا الصوت
عرفنا جهته ، ولو أنّا أدركناه حال وصوله إلى صماخنا لما أدركنا الجهة التي منها
وصل إلينا ، كما أنّا لمّا لم ندرك الملموس إلّا حال وصوله إلينا ، لم ندرك باللمس
أنّ الملموس من أي جانب جاء.
__________________
د
: قد يسمع كلام
الغير من وراء الجدار ، فهنا قد حصل الإدراك من غير وصول ذلك الهواء إلى الصماخ.
لا يقال : يتأدّى
الهواء إلى الصماخ في الفرج الحاصلة في مسامّ الجدار.
لأنّا نقول : لا
شكّ أنّ الهواء لا يحمل الحروف المخصوصة ما لم يتشكل بأشكال مختلفة مخصوصة عند
وصوله إلى مخارج الحروف. ثمّ إنّ الهواء لطيف فكما يتشكل بالشكل المخصوص بسبب ما
عرض له من الحبس في مخارج الحروف ، فكذلك لا بدّ أن يتشكل بشكل آخر عند وصوله إلى
الجدار ، وحينئذ يزول الشكل الأوّل الذي بسببه حدثت الحروف المخصوصة ، وإذا بطل
ذلك الشكل بطل ذلك الحرف.
ه : لو كان وصول التموج شرطا لما حصل السماع للكلام المنتظم إلّا
نادرا ، إذ بقاء الشكل محفوظا في الهواء المتموج الذي يفرض له اختلاف الأوضاع في
أجزائه بسبب المصادمات والمصاكات له من خارج في غاية الندرة ، والتالي باطل
فالمقدم مثله.
واعترض
على ب
: بأنّ الحامل لكل
حرف كلّ جزء من أجزاء الهواء ، فأي جزء وصل إلى الصماخ حصل الشعور بما يحمله من
الصوت.
وعلى
ج : بأنّا نسلّم ،
أنّا ندرك الصوت الحاصل في تلك الجهة ، لكنّا لا ندرك كونه حاصلا في تلك الجهة ،
لأنّ كونه في تلك الجهة يستحيل أن يكون متعلّقا بالسمع ، وإذا كان كذلك لم يلزم من
إدراك الصوت قبل وصول حامله إلى الصماخ إدراك جهته.
وعلى
د : بأنّ الحائل الذي
لا منفذ فيه أصلا يمنع من السماع ، لأنّا ندرك أنّه كلما كانت المنافذ أقل كان
السمع أضعف ، فيلزم أنّه إذا لم توجد المنافذ أصلا ، أن
__________________
لا يوجد السمع.
وعلى
ه : بما مرّ من أنّ
الحرف إنّما يتكون بإطلاق الهواء بعد حبسه على جنس مخصوص فيكون التموّج الفاعل
للحرف ليس مخصوصا بكل الهواء دون أجزائه ، بل هو حاصل في كلّ جزء من أجزائه ، فأي
جزء وصل حصل الشعور بما فيه من الصوت.
قال أفضل
المحقّقين : القائلون بالتموّج لا يشترطون فيه بقاء الهواء على شكل ، والذي
يتمثّلون به من تموّج الماء ليس المراد منه حدوث الشكل المرئي فيه ، بل الكيفية
الحاصلة في نفس جرمه ، بسبب القرع ، وانبساط تلك الكيفية في الماء الذي يلي موضع
القرع ، فإنّ الشكل يختص بالسطح الظاهر ، والتموّج يحصل في عمق الماء والهواء.
وأيضا لا يقولون
بامتناع وجود التموّج في جسم غير الماء والهواء ، بل يجوّزونه في غيرهما ، كما
نحسّ به في الأواني الصفريّة وارتعاشها زمانا بسبب القرع ، وإحداثها الصوت بعد
القرع زمانا طويلا.
وأيضا إذا حدث
القرع على جسم مصمت لا مسامّ له أصلا ، فإنّ السامع يسمع الصوت من غير أن يصل من
موضع القرع هواء إلى صماخه ، بل يتأدّى التموّج من ذلك الجسم إلى الهواء الذي
يجاوره ، ومن الهواء إلى الصماخ. وإدراك الجهات بسبب هيئة تبقى في الهواء تفيد
الإحساس بجهة القرع.
وقال أبو البركات
البغدادي : كأنّ النفس تتبع الهواء المقروع في جهة القرع حتى تحسّ بذلك. وقياس السمع على اللمس لا يجدي بطائل .
وفيه نظر ، فإنّه
لو لا بقاء الشكل لم يبق الحرف مضبوطا ولا الكلام محفوظا.
__________________
وإدراك الجهة ليس
من السمع ، وكلام أبي البركات خطابي.
المسألة الخامسة : في استحالة البقاء على الصوت
اعلم أنّا قد
بيّنا الخلاف بين المتكلمين في بقاء الأعراض ، فالأشاعرة منعوا منه ، وقالوا هنا
إنّ الصوت عرض فلا يمكن بقاؤه.
وأمّا القائلون
ببقاء الأعراض فقد اختلفوا ، فذهبت الكرامية إلى بقائه وجعلوا إدراكه موقوفا على
حال الحدوث ، وكان عندهم أنّ الانتفاء محال أصلا ، وإن كان يدرك في حال دون أخرى ،
إلّا أنّ الحدوث لا حظّ له في إدراك ما يدرك ، وإن كان له حظ المنع. والحق عندنا خلاف ذلك ، فإنّ الضرورة قاضية بعدم بقائه.
وأيضا استدل
المانعون منه بأنّه لو بقي حتى اجتمعت حروف الكلمة الواحدة ، لم يكن «زيد» بأن
نسمع على هذه الهيئة أولى من أن نسمعه على سائر مقاليب الحروف الخمسة . ولأنّ العلم الضروري حاصل بأنّ الحروف الصلبة الآنيّة غير
باقية.
واعترض بجواز
بقائها وتضادها ، فإن كان الأوّل مخلفا بالثاني لزم فناؤه لوجود ضده ، وإن لم يكن
مخلفا به بقى. والأصل فيه أنّ البقاء وصحّة البقاء أمران متغايران ، فجاز أن يكون
كلّ واحد من الحروف يصحّ بقاؤه لو لم يحصل الحرف الآخر بعده ويستحيل بقاؤه عند
حصول الحرف الآخر ، ولا يلزم من امتناع بقاء الحروف الآنية امتناع بقاء كلّها ،
لأنّ الحروف مختلفة ، ولا يلزم أن يكون الشيء على حكم ما يخالفه ، ولهذا كانت هذه
الحروف الآنيّة لا يمكن تمديدها ، وباقي الحروف
__________________
يمكن تمديده.
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من امتناع بقاء الحروف امتناع بقاء الصوت لأنّهما متغايران.
المسألة السادسة : في إثبات الصوت في الخارج
قال الشيخ : لمعتقد أن يعتقد أنّ الصوت لا وجود له في الخارج ، بل
إنّما يحدث في الحس من ملامسة الهواء المتموّج. ثمّ احتج على بطلانه ، بأنّا إذا
سمعنا صوتا وأدركناه أدركنا معه جهته ، ومعلوم أنّ الجهة لا يبقى لها أثر في
التموّج عند بلوغه إلى الصماخ ، فكان يجب أن لا ندرك من الصوت جهته ، لأنّها من
حيث جاءت دخلت بحركتها تجويف الصماخ ، فيدركها الصماخ هناك. ولا يتميز بين الجهات
كما في اللمس ، فإنّ اليد تلمس ما تلقاه ولا تشعر به إلّا حيث يلمسه ، ولا تفرق
بين وروده من جهة وجهة ؛ لأنّ اليد لا تدرك الملموس حين ما كان في أوّل المسافة ،
بل حين انتهى إليها. ولمّا كان التمييز بين الجهات حاصلا ، وكان التمييز بين
القريب والبعيد من الأصوات حاصلا أيضا ، علمنا أنّا ندرك الأصوات الخارجية حيث هي
، ولا ندركها حيث هي إلّا وهي موجودة خارج الصماخ.
لا يقال : إنّما
ندرك الجهة لأنّ الهواء القارع إنّما توجه من تلك الجهة ، وإنّما نميّز بين القريب
والبعيد لقوّة الأثر الحاصل من القريب وضعفه عن البعيد.
لأنّا نقول : إنّ
المؤذن قد يكون على جهة اليمين من السامع مثلا ، ويسدّ
__________________
أذنه اليمنى ويسمع
الصوت بالأذن اليسرى ويشعر به ويكون المصوت على اليمين ، ومعلوم أنّه لا يصل
التموّج إلى الأذن اليسرى إلّا بعد أن ينعطف على اليمين.
وفيه نظر ؛ لأنّا
نمنع حينئذ إدراك الجهة. وفرقهم بين البعيد والقريب باطل ، وإلّا لكنّا لا ندرك
الفرق بين البعيد القوي والقريب الضعيف ، ولكنّا إذا سمعنا صوتين متساويين في
البعد ، مختلفين بالقوة والضعف ، يظن أنّ أحدهما قريب والآخر بعيد. وبالجملة : كان
يشتبه علينا القوة والضعف بالقرب والبعد ، ولمّا لم يكن كذلك بطل ما قالوه.
واعترض : بأنّا
نسلّم أنّا ندرك الصوت الحاصل في تلك الجهة ، لكن لا ندرك منه كونه في تلك الجهة ؛
لأنّ كونه في تلك الجهة معناه أنّه موجود في جسم حاصل في تلك الجهة ، والسمع لا
تعلّق له بذلك ، وإذا كان كذلك لم يكن لإثبات الصوت قبل وصوله إلى الصماخ منفعة في
إدراك جهته ، فالمعتمد في إبطال هذا الوهم ، ما تقدم من أنّا ندرك الصوت قبل وصول
الهواء إلى الصماخ.
وفيه نظر ، فإنّا
إنّما سعينا لإثبات الصوت في الخارج في تلك الجهة سواء كان ذلك مستفادا من الحسّ
أو العقل.
قال أبو البركات
في سبب إدراك الجهة : قد علمنا أنّ هذا الإدراك إنّما يحصل أوّلا بقرع الهواء
المتموّج لتجويف الصماخ ، ولهذا يصل من الأبعد في زمان أطول ، لكن بمجرّد إدراك
الصوت القائم بالهواء القارع لا يحصل الشعور بالجهة والقرب والبعد ، بل ذلك إنّما
يحصل بتتبّع الأثر الوارد من حيث ورد وما بقي منه في الهواء الذي هو في المسافة
التي منها ورد.
والحاصل : أن عند
غفلتنا يرد علينا هواء قارع ، فندركه عند الصماخ ، وذلك القدر لا يفيد إدراك الجهة
، بل إنّا بعد ذلك نتبعه بتأمّلنا ، فيتأدّى إدراكنا من
الذي وصل إلينا
إلى ما قبله من جهته ومبدأ وروده. فإن كان بقي منه شيء متأد أدركناه إلى حيث ينقطع ويفنى وحينئذ ندرك الوارد ومدده ،
وما بقي منه موجودا وجهته وبعد مورده وقربه وما بقي من قوّة أمواجه وضعفها ، ولذلك
ندرك البعيد ضعيفا ؛ لأنّه يضعف تموجه. وإن لم يبق في المسافة أمر ينتهي بنا إلى
المبتدأ لم نعلم من قدر البعد إلّا بقدر ما بقي ، فلا نفرق بين الرعد الواصل إلينا
من أعالي الجو وبين دويّ الرحى الذي أقرب منه إلينا. وإذا كان بقربنا رجلان بعد
أحدهما ذراع والآخر ذراعان ، وسمعنا كلامهما من غير أن نبصرهما عرفنا بالسمع قدر
المسافة من قرب أحدهما وبعد الآخر .
المسألة السابعة : في سبب اختلاف الصوت
اعلم أنّ الصوت
يختلف تارة بالجهارة والخفاءة ، وتارة بالثقل والحدّة.
أمّا سبب الأوّل :
فهي الأسباب الثلاثة المذكورة في اللون : من اختلاف القوي والضعيف بحيث لا يتميز
في الحس ، ومن اجتماع صوتين في الجهارة ، وحصول واحد في الخفاءة ، ومن الاختلاف
النوعي.
وأمّا سبب الحدّة
: فصلابة المقروع ، وملاسته في بعض الأجسام ، وقصر المنفذ ، وضيق منفذ الهواء ،
وشدة التوائه في بعضها. فيحدث عن هذه الأسباب تلزّز وقوة وملاسة سطح في الهواء
المتموّج ، وتراصّ أجزاء من الهواء المتموّج فيتأدّى على تلك الصورة إلى السمع.
وسبب الثقل فقدانها. وهذه الأسباب تقبل الشدة والضعف ، والزيادة والنقصان ، فإن
زادت الأسباب زادت المسببات على تناسب
__________________
واحد وبالعكس ،
فتكون نسبة الطول إلى الطول كنسبة النغمة إلى النغمة في الحدّة والثقل ، فتكون
نغمة نصف الطول نصف نعمة الكل في الثقل ، فلأجل ذلك اختلفت الأصوات في الحدّة
والثقل.
المسألة الثامنة : في الصّدى
أ : الصدى عبارة
عن «صوت يسمع عقيب صوت بزمان يسير جدا يحكيه بعينه». والسبب في حدوثه ، أنّ القارع أو القالع إذا فعلا قرعا أو
قلعا حصل من أثرهما تموج الهواء بين القارع والمقروع ، فإذا قاوم ذلك التموّج شيء
من الأجسام كجبل أو جدار أملس بحيث يردّ ذلك التموج ويصرفه إلى خلف ، ويكون شكله
شكل الأوّل وعلى هيئته ، كما يلزم من الكرة المرمي بها إلى الحائط حين تنبو ، لزم
أن يضطر الهواء إلى التموّج فيما بينهما ، وأن يرجع القهقرى فحينئذ يحدث من ذلك
صوت هو الصدى.
واعلم أنّ الفاعل
لهذا الصدى ليس هو الهواء المتموّج المتوجه إلى ما يقاومه أوّلا ثمّ الراجع ، بل
هذا الهواء المتموّج أوّلا يموج هواء آخر بينه وبين ذلك المقاوم. فهذا الصدى يحدث
من تموج الهواء الثاني المتموّج عن الهواء الأوّل ، لأنّ الهواء المتموج أوّلا إذا
صدمه ذلك الجسم الكثيف لم يبق على ذلك الشكل المخصوص ، فبعد رجوعه لا يكون حاملا
لذلك الصوت ، فوجب أن يكون حادثا عن تموج الهواء الثاني الراجع إلى مكان الأوّل
حين ذهاب الأوّل إلى ذلك الجبل ، ولهذا يكون على صفته وهيئته.
__________________
وكلّ صوت فإنّ له
صدى ؛ لأنّه متى تموّج عنه هواء لا بدّ وأن يتموج إليه حينئذ هواء آخر فيكون فاعلا
للصدى. لكنّ بعض الأصوات لا يسمع له صدى إمّا لأجل أنّ المسافة إذا كانت قريبة بين
المصوت وبين عاكس الصوت لم يسمع في زمانين بحيث يقوى الحس على تباينهما. وإذا بعدت
المسافة بينهما قوى الحس على إدراك التباين . وإذا كان العاكس صلبا أملس فهو لتواتر الانعكاس منه بسبب
قوة النبو يبقى زمانا كثيرا كما في الحمامات ، وهذا هو السبب في أن يكون صوت
المغنّي في الصحراء أضعف ، وتحت السقف أقوى ، لتضاعفه بالصدى المحسوس معه في
زمانين كالواحد ؛ لأنّ الزمانين المتقاربين في الحس كالواحد ، فالصوت الواقع فيهما
كصوت مضاعف في زمان واحد.
__________________
الباب الثاني
في الحرف
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في ماهيته
قال الرئيس : إنّه
«هيئة عارضة للصوت ، يتميّز بها عن صوت آخر مثله في الحدّة والثقل تميّزا في
المسموع» .
وهذا التعريف يبطل
طردا وعكسا. أمّا الطرد ، فلأنّ هنا هيئات عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله
في الحدة والثقل تميّزا في المسموع ، مع أنّه ليس شيء منها بحرف. وتلك الهيئات طول
الصوت وقصره ، وكونه مجهورا أو خفيا ، وطيبا وغير طيب ، وكذا كيفيات اخر بها يميز
الإنسان صوت شخص من صوت شخص آخر.
وأجيب : بأنّ كون الصوت طيبا أو غير طيب ليس بمسموع ؛ لأنّ الطيب
إنّما يحصل بتناسب أبعاض الصوت ، والتناسب غير مسموع ؛ لأنّه حين ما يسمع
__________________
أحد أجزاء الصوت
فالجزء الآخر غير حاصل ، فلا يكون مسموعا ، وكذا القول في الجزء الآخر. وإذا لم
يكن التناسب مسموعا لم يكن كونه طيبا أو غير طيب مسموعا ، بل ذلك أمر يحصل للنفس
عند اعتبار تناسب ما بقي في التخيل من تلك الأصوات ، وإذا لم يكن مسموعا لم يدخل
في الحدّ.
وأمّا طول الصوت
وقصره ، فالأمر فيه كذلك أيضا ؛ لأنّ المسموع أبدا هو الصوت الحاصل في ذلك الوقت
فأمّا إن حصلا قبل ذلك فهو العكس.
وأمّا الجهارة
والخفاء ، فلا نسلّم مغايرتهما للحدّة والثقل.
وأمّا العكس فهو
أنّ الحروف الصامتة البسيطة كالباء والتاء والدال والطاء آنية لا توجد إلّا في
الآن ـ الذي هو بداية زمان الصوت ـ فلا تكون هيئات عارضة للصوت ، لأنّها لو كانت
عارضة له ، لما وجدت إلّا مع وجوده ، لكنّ هذه الحروف لا توجد مع وجود الصوت ،
لأنّها إنّما توجد في الآن ـ الذي هو آخر زمان حبس النفس وأوّل زمان إطلاقه ـ ،
والصوت لا يوجد إلّا في زمان إرسال النفس. فإذن هذه الحروف موجودة قبل وجود الصوت
فلا يمكن أن يقال : إنّها هيئات عارضة للصوت.
قيل : للمانع أن
يمنع عدم عروض هذه الحروف للصوت ؛ لإمكان عروضها له كما يعرض الآن للزمان.
وفيه نظر ؛ لأنّ
الآن ليس موجودا بالفعل عندهم ، وهذه الحروف مسموعة فتكون موجودة قطعا لا بدّ لها
من محل موجود قطعا بالفعل ، والآن الذي هو طرف زمان الصوت ليس موجودا بالفعل. وفرق
بين هذه الأشياء وبين الأشياء الآنية ؛ لأنّ تلك موجودة في نفسها أو محالّ غير
الآن ، فلا يلزم من تحقّقها بالفعل تحقّق الآن بالفعل ، وهذه تحتاج إلى محل موجود
بالفعل ، وليس محلّها الأوّل الهواء ، بل عارضه وهو الصوت.
__________________
المسألة الثانية : في أقسام الحرف
اعلم أنّ الحروف
على قسمين :
أ : المصوتة .
ب : الصامتة.
فالمصوتة هي التي
تسمّى في لغة العرب : حروف المدّ واللين ، وهي ثلاثة لا غير : الألف والياء
والواو. ولا يمكن الابتداء بها. ولا شك في أنّها هيئات تعرض للأصوات يتميز بها
الصوت عن أصوات أخر تساويه في الحدة والثقل.
وأمّا الصامتة فهي
ما عداها ويمكن الابتداء بها ، وهي قسمان :
أ : ما لا يمكن
تمديده.
ب : ما يمكن.
فالأوّل : كالباء
والطاء والدال والتاء ، وهي إنّما توجد في الآن الذي هو آخر زمان حبس النفس وأوّل
زمان إرساله. ونسبة هذه الحروف إلى الصوت نسبة النقطة إلى الخط والآن إلى الزمان ،
وهي ليست من جنس الأصوات ، ولا من جنس الهيئات العارضة للأصوات ، إلّا على كونها
أطرافا لها ، كما يقال : الآن عارض للزمان.
وفيه نظر ، لأنّ
هذه الحروف مسموعة فتكون أصواتا.
__________________
ثمّ إنّ إطلاق اسم
الحرف على كلّ واحد من هذه الحروف أولى من إطلاقه على غيرها ؛ لأنّ الحرف هو الطرف
وهذه الحروف بالحقيقة هي الأطراف.
وأمّا ما يمكن
تمديده فعلى قسمين :
أ : منها ما الظن
الغالب أنّها آنية في الحقيقة ، وإن كانت زمانية في الحس.
ب : ما الظن
الغالب أنّها زمانية في الحس والحقيقة.
أمّا أ : فكالحاء
والخاء وشبههما ، لأنّ الحروف الآنية الموجودة منها ما لا تكون إلّا بعد حبس قويّ
للنفس ثمّ إرسال قوي ، ومثل هذا الحبس والإطلاق لا يقع إلّا في أزمنة يتميز بعضها
عن البعض في الحبس كالباء والتاء.
ومنها ما لا يحتاج
إلى ذلك ، بل يكتفى بكونه في حبس أو إرسال كيف اتفق ، ومثل هذا الحبس والإرسال
ممّا يمكن وقوعه في أزمنة صغيرة بحيث لا يقع الشعور بامتياز بعضها عن البعض لغاية
صغرها كالحاء والخاء ، فإنّه يغلب على الظن أنّ الحاء إنّما يمتد في الحس ، لا
لأنّه في نفسه يمتد ، بل لأنّه بتوالي منه أعداد كثيرة في أزمنة متقاربة جدا ، كلّ
واحد منها آني ، فلأجل ذلك يظن أنّه من الحروف الزمانية وأنّ المسموع منها حرف
واحد يمتد في الزمان وإن كان في التحقيق من الحروف الآنية.
وأمّا ب : فمثل
السين والشين فإنّها زمانية في الحس والحقيقة ، وهي هيئات عارضة للصوت عروضا ذاتيا
يستمر باستمراره. وهذا يقتضي قيام العرض بالعرض خلافا لما صار إليه الأشاعرة.
فهذا هو البحث
التام في ماهية الحرف. ولا حاجة له إلى التعريف ، لما سبق من أنّ الأمور المحسوسة
لا يجوز تعريفها ؛ لأنّه يشتمل على إضافات واعتبارات أخفى منها.
وقد بقي الكلام في
أحكام الحروف ، وهي إمّا في المفردات أو المركبات. والمفردات إمّا صوامت أو
مصوتات.
المسألة الثالثة : في أحكام الصوامت
وهي سبعة :
الأوّل
: اعلم أنّ الحروف
المستعملة في لغة العرب مشهورة معلومة وهي : حروف التهجّي. وهنا حروف أخر في لغات
غيرها ليست مشهورة لوجودها في بعض اللغات ، حتى أنّ من ولد على غير تلك اللغة يعسر
عليه النطق بها ، وحيث الأمر كذلك جاز أن تكون هنا حروف أخر لا نعرفها ، ولعل في
المقدور حروفا أخر غير المستعملة في لغات أهل زماننا ، فلا دليل قاطع على حصر
الحروف في عدد معين ، بل ولا على تناهيها ، فجاز أن تكون غير متناهية ، كما في
الألوان ؛ لأنّ معروضها قابل للشدة والضعف ، وهي تختلف باختلافه فيهما ، ومراتب
الشدة والضعف غير متناهية ، لكن لمّا لم ينطق بها ظن فيها التناهي من غير قطع.
الثاني
:
الحروف الصامتة ،
إمّا مختلفة أو متماثلة ، والمختلفة إمّا أن يكون اختلافها بالذات أو بالعرض. أمّا
الاختلاف الذاتي فكالحاء والجيم والتاء والدال. وبالجملة فكل ما يختلف مخرجه فإنّ
فيه اختلافا ذاتيا. وأمّا الاختلاف العرضي ، فذلك بأن يختلف الحرفان المتساويان في
الماهية بأمور عارضة ، وهي بالاستقراء ثلاثة :
أ ـ أن يكون
أحدهما متحركا والآخر ساكنا.
ب ـ أن يكونا
متحركين ، لكن حركة أحدهما مخالفة لحركة الآخر ، كالضمة مع الفتحة أو الكسرة.
ج ـ أن يختلفا
بالجهارة والخفوت. ومن ذهب إلى أنّ الاختلاف بالشدة والضعف اختلاف نوعي جعل هذا
الاختلاف من قبيل ما يختلف فيه الحرفان
__________________
بالذات ، وجعل
اختلاف الحرفين بالذات كالحاء والجيم اختلافا جنسيا.
الثالث
: اعلم أنّه لا
يمكننا النطق بحرفين من هذه الحروف دفعة واحدة من مخرج واحد. والحكم بذلك ضروري ،
لكن قد اختلف في أنّ هذا امتناع الاجتماع لذات الحرفين ، أو لفوات شرط ، أو لحضور
مانع. والوجه التوقف.
وقد ذهب جماعة من
المتكلمين أنّ الاختلاف بالجهارة والخفاءة راجع إلى كثرة أجزاء أحدهما دون الآخر ،
كما قالوا في الألوان ، وهو مبني على إمكان اجتماع المثلين.
وفي كلام أبي هاشم
أنّ الحرف المضموم مخالف للمفتوح ، وقياس قوله بتضاد المختلف من الحروف يقتضي
الحكم بتضاد هذين الحرفين المتساويين إذا اختلفا بالضم والفتح وما أشبههما.
وهذا غير صحيح ؛
لأنّ المضموم إنّما خالف المفتوح باقتران حرفين مختلفين به ، فإنّ الضمة حرف زائد
، وكذا الفتحة ، ولهذا تصيران واوا والفا عند الإشباع.
الرابع
:
في تضاد الحروف.
اختلف الجبائيان على تضاد الحروف المختلفة بالذات كالحاء والجيم مثلا. وهو ظاهر
قول الكعبي. وتوقف أبو عبد الله البصري في تضادهما ، وهو الذي قال به قاضي القضاة
في أكثر كتبه. وقال في شرح كشف الأعراض أنّها غير متضادة.
احتج الشيخان
بأنّه يستحيل منّا إيجاد حرفين في محل واحد لا لشيء سوى التضاد ، وهو ممنوع لجواز
استناد الاستحالة إلى الاحتياج إلى آلة أو غير ذلك.
واعلم أنّه لا
يتأتّى على رأي الأوائل الحكم بتضاد الحروف المختلفة لعدم
__________________
اتحاد موضوعهما.
فإنّ كلّ حرف له مخرج خاص لا يتأتى نطق الآخر منه ، وشرط التضاد عندهم التعاقب على
موضوع واحد بالإمكان.
واحتج من نفى
التضاد بأنّ ذلك لو ثبت لكان حكما من الأحكام ، فلا بدّ فيه من دلالة يدل عليه ،
فلمّا انتفت الدلالة وجب القطع على نفي التضاد ، كما أنّا [لمّا] فقدنا هذه
الطريقة في المعاني نفيناها.
وليس بجيد لأنّه
لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. على أنّ الحكم إنّما يعدم عندهم عند عدم
الدليل إذا كان الحكم موجبا عن الذات لا يقف على اختيار مختار ، أو أن يكون متى لم
تثبت الدلالة قدح في حكم الحكيم. وأمّا عند فقد هذين فلا يجب عند عدم الدلالة
القطع على نفي الحكم عندهم. قالوا : وإذا لم تتضاد الحروف بعضها مع بعض لم يكن لها
ضد من غير هذا القبيل ، وإنّما يشتبه الحال فيه مع الخرس والسكوت ، أمّا الخرس
فإنّه فساد يلحق آلة الكلام ، إمّا من رطوبة مفرطة أو جفاف مفرط ، والأشياء
المختلفة لا تنفي شيئا واحدا ، لأنّ ضد الواحد واحد ، فإن جعل الخرس عجزا كان
المضاد له القدرة ، فكيف يضاد الكلام مع اختلافهما.
وأيضا لو كان
الخرس ضدا للكلام لم يصحّ وصف القديم تعالى بالقدرة على خلق الكلام في لسان
الأخرس. وعلى هذه الطريقة صحّ أن يتكلّم الواحد بما في الصدى مع وجود الخرس في تلك
الحال.
وأمّا السكوت فلا
يضاد الكلام أيضا ؛ لأنّه يصحّ أن يكون ساكتا في حال هو متكلم بما في الصدى.
والوجه أنّ الخرس والسكوت عدم الكلام عما من شأنه أن يكون متكلما ، لكن يفترقان
بأنّ العدم في أحدهما لآفة والآخر لا لآفة.
الخامس
: إذا قلنا في حرف :
إنّه متحرك أو ساكن ، لم نشر بذلك إلى وجود حركة في الحرف أو سكون فيه ؛ لأنّ
الحركة والسكون من صفات الأجسام
فيستحيل عروضها
للهيئات العارضة للصوت أو لطرفه ، بل المراد منه أنّه يوجد عقيب الحرف الصامت حرف
مصوت مخصوص.
السادس
:
الصامت إنّما يصفو
عن الشوائب ويظهر ظهورا جليا عند الإسكان ، أمّا عند الحركة فإنّه يمتزج بحركة شيء
ممّا بعده ، للتجربة.
لا يقال : إنّه
عند الإسكان يمتزج به شيء ممّا قبله.
لأنّا نقول : جرس
الحرف بعده لا قبله ، فلا يمتزج بذلك الجرس الحرف الذي قبله ، بل الذي بعده.
السابع
: الابتداء بالصامت
الساكن محال للاستقراء. ومنهم من جوزه ، وإلّا لزم توقف الشيء على تقدم ما يوجد
بعده ، وهو محال.
بيان الشرطية :
أنّ حركة الحرف عبارة عن تحرك الصوت بعده ، فلو توقف النطق بالصامت على الحركة
التي هي حرف مصوت متأخر عنه لزم تقدم المصوت على الصامت المتقدم عليه ، هذا خلف.
المسألة الرابعة : في أحكام المصوتات :
وهي :
أوّلا
: أوسع المصوتات
الألف ثمّ الياء ثمّ الواو ؛ لأنّ ذلك معتبر بمقدار انفتاح الفم.
ثانيا
: أثقل الحركات
الضمة ، لأنّ حصولها إنّما يكون بفعل العضلتين الصلبتين الواصلتين إلى طرفي
الشفتين. ثمّ الكسرة ؛ لأنّه يكفي فيها العضلة
__________________
الجاذبة الواحدة ،
ثمّ الفتحة التي يكفي فيها عمل ضعيف لهذه العضلة. وقد يختلف ذلك بحسب الأمزجة
والأهوية.
ثالثا : الحركات أبعاض المصوتات ، فإنّ
الضمة جزء من الواو ، والفتحة جزء من الألف ، والكسرة جزء من الياء ، لوجهين :
أ : المصوتات
قابلة للزيادة والنقصان والشدة والضعف ، وكلّ ما كان كذلك فله طرفان ، وليس هنا
طرف في النقصان إلّا هذه الحركات ، بالاستقراء.
ب : لو لم تكن
الحركات أبعاضا من المصوتات لما حصلت المصوتات بتمديد هذه الحركات ، والتالي باطل
، فالمقدم مثله.
بيان
الشرطية : أنّ الحركة إذا
كانت مخالفة لهذه المصوتات ، فإذا ذكرت الحركة لم يمكنك أن تذكر المصوت ، إلّا
باستئناف حرف صامت آخر تجعله تبعا له ، وليس الأمر كذلك بشهادة الحس ، فالمقدم
مثله.
رابعا
: المصوتات ـ وهي
حروف المد واللين ـ ينتهي تمديدها إلى الهمزة بالاستقراء. ولميته. إنّ الصوت لا
يتولد من حركة الانبساط الحاصل باستدخال النسيم ، بل من حركة الانقباض الحاصل من
إخراج الهواء الدخاني ، ولذلك الانقباض حدّ معين ، إذ لا يمكن إخراج كلّ ما في
الرئة من الهواء ، وإلّا لخرج معه الروح. فإذا انتهى إخراج الهواء إلى حيث لا يمكن
الازدياد عليه وقفت الطبيعة وانقبض النفس وانقطع ، فهناك مخرج الهمزة ، فلا جرم
أنّ الهمزة تتولد.
خامسا
: الحرف الصامت
المتحرك سابق على الحركة ، لوجهين :
أ : الصامت البسيط
حقيقة وحسا آني ، فوجب أن يحدث في الآن الفاصل بين زماني الحبس والإطلاق ، والحركة
مصوت إنّما تحدث في زماني الحبس والإرسال. وما حدث في الآن الذي هو أوّل زمان وجود
الشيء يكون لا محالة سابقا على ما يحدث في ذلك الزمان.
ب : لو كانت
الحركة سابقة على الحرف لكان المتكلم بالحركة غنيا عن التكلم بالحرف ، لأنّ السابق
غني عن المسبوق ، لكن التكلم بالمصوت ابتداء محال ، فهو غير سابق.
واحتج ابن جنّي بوجهين آخرين :
الأوّل
: الحركة حالة في
الحرف ، والحالّ متأخر عن المحل.
الثاني
: لو كانت الحركة
سابقة على الحرف لصحّ الإدغام ، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان
الشرطية : أنّ الإدغام إنّما
يصحّ بحرفين أوّلهما ساكن والثاني متحرك ، فلو كانت حركة الحرف الثاني سابقة لكانت
تلك الحركة متخلّلة بينه وبين الأوّل ، فلا يقع الطرفان في آن واحد ، فلا يكون
الإدغام حاصلا ، لكن الإدغام حاصل بالحس.
واعترض
على
الأوّل : ببطلان الصغرى ؛
لأنّ الصامت البسيط آني والحركة زمانية حاصلة بعد مضي هذا الصامت ، فكيف يوجد فيه.
والكبرى ؛ لأنّ تقدم المحل على الحال تقدم عقلي لا زماني ، والمطلوب هنا التقدم
الزماني.
وعلى
الثاني : لا نسلّم أنّه لو
لم تقع الحركات في آن واحد لم يحصل الإدغام ؛ لأنّ حصول الحرفين المتماثلين في
المخرج الواحد دفعة واحدة جمع بين المثلين وهو محال ، ولا يجوز أن يتوقف عليه
الإدغام الذي ليس بمحال.
__________________
المسألة الخامسة : في أحكام المركبات
والنظر فيها يتعلق
بأمرين :
الأمر الأوّل : الكمية
اعلم أنّ أعدل
المركبات ، المركبة من ثلاثة أحرف ، لوجهين :
أ : الكلام إنّما
يتم بالحركة وهي إنّما تتم بأمور ثلاثة : المبدأ والوسط والنهاية ، وهذه الأشياء
حاصلة بالفعل في الثلاثيات ، أمّا الثنائيات فإنّها ناقصة ، وما فوق الثلاثة كثرة
زائدة.
ب : الحرف المبتدأ
به لا يكون إلّا متحركا ، والموقوف عليه لا يكون إلّا ساكنا ، وبين المتحرك
والساكن تنافر ، فلا بدّ من متوسط بينهما يكون معدلا بينما ، فإذن الاعتدال إنّما
يتم بهذه الثلاثة.
لا يقال : هذا المتوسط لا يخلو عن الحركة والسكون ، فإن كان متحركا
كان منافرا للثالث ، وإن كان ساكنا كان منافرا للأوّل ، فالذي فررتم منه وقعتم فيه
، والإشكال عائد عليكم.
لأنّا نقول :
الحركة الابتدائية أثقل من الحركة المتوسطة ، فالملائمة بين الحركة المتوسطة وبين
السكون أكثر منها بين الحركة الابتدائية والسكون.
وفيه نظر ، فإنّ
الحركة الثانية توجب كلال الآلة فتكون أثقل من الابتدائية ، بل المعتمد أنّ النطق
بحرفين متحركين يوجب الملال عن الحركة فيستلذ السكون أكثر ممّا يستلذ عقيب النطق
بالحركة الواحدة.
الأمر الثاني : الكيفية
اعلم أنّ البحث
هنا إمّا أن يتعلق بتركب الحروف ، أو الحركات ، أو
__________________
السكنات ، أو تركب
الحروف مع الحركات ، أو مع السكنات ، أو تركب الحركات مع السكنات. فالجميع ستة :
ثلاثة متفقة ، وثلاثة مختلفة.
أمّا تركب الحروف
، فقد يكون متنافرا ، وقد يكون متلائما. أمّا التنافر فسببه أمّا في الحروف
المتماثلة فكثرة الأفعال ؛ لأنّها تقتضي ضعف القوة الجسمانية ، فيحصل التنافر.
وأمّا المختلفة فأقسامها أربعة ؛ لأنّها إمّا أن تكون قوية أو ضعيفة ، وعلى
التقديرين فإمّا أن تكون متقاربة المخرج أو متباعدة المخرج.
الأوّل
: الصلبة المتقاربة
المخرج ، وهي أشدّ الأقسام تنافرا ، لأنّ الحروف المتقاربة المخرج يكون الفاعل
لحبس الهواء الفاعل لها عضلة واحدة. فإذا كانت الكلمة مركبة من أمثال هذه الحروف
لم يمكن التكلم إلّا بأن يتوارد على العضلة الواحدة أفعال كثيرة شاقة. وذلك يوجب
ضعفها وكلالها ، فلهذا يعسر التكلم بأمثال هذه الكلمات.
لا يقال : فكان
ينبغي أن يكون التكلم بالحرف الواحد مرارا كثيرة في المشقة أكثر من التكلم بهذه الحروف المتنافرة.
لأنّا نقول :
الفرق بينهما ظاهر فإنّ التكلم بالحرف الواحد مرارا كثيرة سبب لكلال الآلة ، لكنّه
سبب لحصول ملكة التكلم به ، لأنّ تكرار الفعل مرة أخرى سبب لحصول الملكات فتعارضت
علة اليسر والسهولة ، وعلة العسر والتنافر. وأمّا التكلم بالحروف المختلفة
المتقاربة المخرج فقد اجتمع فيه سبب الكلال الموجب لضعف الآلة ، ولم يحصل تداركه
بحصول الملكة ، فكان حصول التنافر والصعوبة فيه أكثر.
الثاني
: ما يقابله وهو
الحروف الرخوة المتباعدة المخرج ، وهو يقتضي سهولة النطق بها من الوجهين : الرخاوة
والتباعد. فأمّا السهولة باعتبار حصول الملكة ، فلا.
__________________
الثالث
: السهلة المتقاربة.
الرابع
: الصلبة المتباعدة.
ويشبه أن يكون هذا أصعب من الأوّل.
وهذا التقسيم بحسب
التلاؤم والتنافر إنّما هو بحسب النظر إلى حال الحروف من حيث هي هي ، وقد يتغير
عما قلناه بسبب اختلاف الأمزجة والأهوية.
أمّا تركّب
الحركات ، فإنّ ثقله وخفته تابعان لثقل الحركة وخفتها ، فكلما كانت الحركات أثقل
كان تركّبها أثقل ، وكلّما كانت أخف كان تركّبها أخف. والحكم في الممتزج من الثقال
والخفاف تابع للأغلب.
وأمّا تركب
السكنات ، فقد اختلف فيه ، فالجمهور منعوا منه ؛ لأنّه لو صحّ لزم الابتداء
بالساكن وهو متعذر ، فالمؤدّي إليه مثله.
واحتج المجوزون
لوقوعه بأنّ الحروف الممتدة مع المدغم يجتمع فيها ساكنان.
وأجيب : بأنّ
الأمر وإن كان كذلك إلّا أنّ الأوّل مصوت والثاني صامت ولا نزاع فيه ، لأنّ الخط
يبتدئ من نقطة فلا محالة ينتهي إليها ، إنّما الممتنع توالي الصامتين.
لا يقال : إنّا قد
نقف على الثلاثي ساكن العين وحينئذ يلزم اجتماع الساكنين الصامتين.
لأنّا نقول :
ذكروا أنّ الصامت الأخير تشوبه حركة مختلسة ، ثمّ إذا جوّزنا اجتماع الساكنين فلا
شكّ أنّ اجتماعهما مع الحروف الممتدة أقرب منها مع غيرها.
وأمّا تركّب
الحروف مع الحركات ، فإنّها بالنسبة إلى الكل على السواء. وكذا تركّب الحروف مع
السكون.
وأمّا تركّب
الحركة بالنسبة إلى السكون ، فلا شك في أنّ الحركة كلّما كانت أخف كانت أقرب إلى
السكون.
البحث الخامس : في الكيفيات المذوقة والمشمومة
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الطعوم
الجسم إمّا أن
يكون عديم الطعم ، وهو التفه المسيخ ، أو يكون ذا طعم.
والأوّل إمّا أن
يكون عادما للطعم حقيقة ، أو عادما له في الحس فقط وهو الذي يكون له في نفسه طعم ،
إلّا أنّه لشدة تكاثفه لا يتحلل منه شيء يخالط اللسان فيدركه ، فإن احتيل في تحليل
أجزائه وتلطيفها أحسّ بطعمه كالنحاس والحديد ، فإنّ اللسان لا يدرك منهما طعما
لأنّه لا يتحلل من جرمهما شيء يصير إلى الرطوبة المبثوثة في اللسان التي هي واسطة
في حس الذوق ، ولو احتيل في قسمته أجزاء صغارا لظهر له طعم قوي.
والثاني الذي يكون
ذا طعم ، فإمّا أن يكون طعمه بسيطا أو مركبا ، وبسائط
__________________
الطعوم ثمانية
تحصل من التفاعل الجاري بين أحد الثلاثة ، أعني : اللطيف ، والكثيف ، والمعتدل ؛
لأنّ الجسم الحامل للطعم لا ينفك عن أحد هذه الثلاثة ، وبين أحد الثلاثة ، أعني :
الحار ، والبارد ، والمعتدل.
فثلاثة تحدث من
تفاعل الحار مع الكثيف واللطيف والمعتدل ، فإنّ الحار إن فعل في الكثيف حدثت
المرارة ، وإن فعل في اللطيف حدثت الحرافة ، وإن فعل في المعتدل حدثت الملوحة.
وثلاثة تحصل من
تفاعل البارد مع الكثيف واللطيف والمعتدل ، فالبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة
، وإن فعل في اللطيف حدثت الحموضة ، وإن فعل في المعتدل حدث القبض.
وثلاثة تحصل من
تفاعل المعتدل مع اللطيف والكثيف والمعتدل ، فإنّ المعتدل إن فعل في اللطيف حدثت
الدّسومة ، وإن فعل في الكثيف حدثت الحلاوة ، وإن فعل في المعتدل حدثت التفاهة
الغير البسيطة . فالحرافة أسخن
__________________
الطعوم ، ثمّ
المرارة ، ثمّ الملوحة ؛ لأنّ الحرّيف أقوى على التحليل من المرّ ، فكان أسخن منه.
وإنّما أخرت
الملوحة عن المرارة أمّا بالإنّية ، فلأنّ الملح المرّ والبورق أكثر تسخينا من الملح المأكول. وأمّا باللّمية ، فلأنّ
الملوحة إنّما تتولد من مخالطة أجزاء أرضية محترقة يابسة المزاج مرّة الطعم بأجزاء
مائية قليلة الطعم أو عديمة الطعم مخالطة باعتدال ، فإنّها إن كثرت أمرّت ، وهذه
الأجزاء المائية غير معتبرة في المرارة ، ومن هذا تتولد الأملاح وتملح المياه. وقد
يصنع من الرماد والقلي والنورة وغير ذلك ، بأن يطبخ في الماء ويصفى ويغلى ذلك
الماء حتى ينعقد ملحا ، أو يترك فينعقد بنفسه.
والعفوصة أبردها
ثمّ القبض ثمّ الحموضة ، ولهذا فإنّ الفواكه التي تحلو تكون فيها أوّلا عفوصة
شديدة التبريد ، فإذا اعتدلت يسيرا بإسخان الشمس المنضج مالت أولا إلى القبض ، ثمّ
إلى الحموضة مثل الحصرم ، وفيما بين ذلك تكون إلى قبض يسير ليس بعفوصة ، ثمّ تنتقل
إلى الحلاوة إذا عملت فيها الحرارة المنضجة. وقد تنتقل من العفوصة إلى الحلاوة من
غير تحميض ، لكن الحامض وإن كان أقلّ بردا من العفص فهو في الأكثر أكثر تبريدا منه
، للطافته ونفوذه في الظاهر والباطن وشدة غوصه.
__________________
والعفص يقارب
القابض في الطعم ، لكن القابض يقبض ظاهر اللسان ، والعفص يقبض الظاهر والباطن معا.
المسألة الثانية : في اجتماع الطعوم
اعلم أنّ بسائط
الطعوم عند الأوائل هي التسعة المذكورة ، وعند معتزلة البصرة أنّ الطعوم الخالصة خمسة : الحلاوة
والحموضة والمرارة والملوحة والحرافة ، وما عداها يجوز أن تكون بسيطة ويجوز أن
تكون مركبة.
وقد يجتمع طعمان
في جرم واحد مثل اجتماع المرارة والقبض في الحضض ، ويسمى البشاعة. ومثل اجتماع المرارة والملوحة في السّبخة
، ويسمى الزّعوقة . ومثل اجتماع الحلاوة والحرافة في العسل المطبوخ. ومثل
اجتماع المرارة والحرافة والقبض في الباذنجان. ومثل اجتماع المرارة والتفاهة في
الهندباء . ويشبه أن تكون هذه الطعوم إنّما تكون بسبب أنّها مع ما
تحدث ذوقا يحدث بعضها لمسا
__________________
فيتركب من الكيفية
الطعمية ومن التأثير اللمسي شيء واحد لا يتميز في الحس ، فيصير ذلك الواحد كطعم
واحد متميز ، فإنّه يشبه أن يكون طعم من الطعوم المتوسطة بين الأطراف يصحبه تفريق
وإسخان يسمى ذلك كلّه حرافة ، وآخر يصحبه طعم وتفريق من غير إسخان وهو الحموضة ،
وآخر يصحبه مع الطعم تكثيف وتجفيف ، وهو العفوصة. ولا شك أنّ الحرافة تفعل تفريقا
والعفوصة قبضا ، فالمدرك بحس الذوق كلّه طعم أو شيء مركب من الطعم ومن تفريق
الحاسة؟ فيه احتمال.
قال أفضل المحققين
في حصر الطعوم في التسعة : إنّ العفوصة والقبض مختلفان بالشدة والضعف ، وهما لا
يوجبان الاختلاف النوعي ، إذ لو أوجب الشدة والضعف الاختلاف نوعا ، لكان كلّ واحد
من هذه الأنواع نوعين ، بل الطعوم فيها اختلافات كثيرة كما بين حلاوة العسل
وحلاوة السكر وحلاوة الدبس وغيرها. وأيضا المركبات لا حدّ لها .
المسألة الثالثة : في الروائح
وهي كيفيات محسوسة
بحاسة الشم ، لم يوضع لأنواعها أسماء لخصوصياتها ، بل وضعوا لها من طريق الموافقة
والمخالفة ، بأن يقال : رائحة طيبة أو منتنة ، وهذا كما يقال في الطعم إنّه طيب أو
غير طيب ، من غير تصور فصل يخص الطيب من غيره. أو من طريق الاشتقاق ، بأن يشتق لها
من الطعوم المقاربة لها أسماء فيقال : رائحة حلوة ورائحة حامضة ، كأنّ تلك الروائح
التي اعتيد
__________________
مقارنتها للطعوم
تنسب إليها ، وتعرّف بها .
خاتمة
:
هذه الكيفيات
المحسوسة أعراض لا جواهر ، وقد نازع في ذلك قوم غير محققين فقالوا : الكيفيات
المحسوسة جواهر تخالط الأجسام ، فالسواد جوهر وكذا البياض وغيرهما من الألوان ،
والحرارة جوهر وكذا البرودة وغيرها من الكيفيات المذكورة.
وهذا خطأ فإنّها
لو كانت جواهر ، فإمّا أن تكون أجساما أو لا. والأوّل باطل ، وإلّا لكان لها طول
وعرض وعمق هو لون ، ومعنى أنّه طول وعرض وعمق ليس معنى أنّه لون ، فإنّه يمكن زوال
اللون مع بقاء هذه الأبعاد بعينها ، فإمّا أن يكون للّون طول وعرض وعمق غير هذا أو
لا يكون له إلّا هذا ، فإن كان له مقدار غير هذا تداخل البعدان ، وهو محال. وإن لم
يكن له بعد سوى هذا فليس لذات اللون إذن مقدار ، بل إنّما يتقدر بما يحله ، ولا
امتناع فيه.
وأمّا الثاني : وهو
أن تكون هذه الأشياء جواهر غير أجسام ، فإمّا أن تكون بحيث يحصل من تركّبها أجسام
أو لا ، فإن كان الأوّل لزم أن يكون ما لا قدر له يجتمع منه ما له قدر ، وهو إنّما
يصحّ لو قلنا بالجوهر الفرد وسيأتي البحث فيه.
وإن لم يكن فإمّا
أن يكون بحيث يصحّ أن يفارق الجسم الذي هو فيه أو لا ، فإن صحّ فإمّا أن يمكن أن
لا يبقى في جسم أصلا أو لا يمكن ، فإن أمكن فإمّا أن يكون مشارا إليه أو لا ، فإن
كان مشارا إليه ، كان جسما لاستحالة الخلاء فيمتنع
__________________
وجود اللون في جهة
لا جسم فيها. ولأنّ الوضع المعين إنّما يستحقه ذو الوضع بواسطة المادة المعينة
فيمتنع أن لا يكون في مادة. وإن لم يكن مشارا إليه لم يكن محسوسا ، فلا يكون هو
البياض الذي نبحث عنه مثلا ، لأنّا إنّما نطلق البياض على اللّون الذي من شأنه أن
يفعل تفريقا في البصر ، فما لا يكون كذلك لا يكون بياضا.
وأمّا إن امتنع أن
يوجد إلّا في جسم فحينئذ يكون محتاجا إلى المحل لذاته ، وقد عرفت أنّ المحتاج إلى
المحل يمتنع انتقاله عنه. فإذن هذه الكيفيات أمور وجودية لا يعقل قيامها إلّا في
الأجسام ، ولا معنى للعرض سوى ذلك.
اعترض : بإمكان
كونها أجساما ، ونسلّم أنّ مفهوم الطول والعرض والعمق مغاير لمفهوم اللون ، ولكن
هذه الأبعاد غير الجسم ، فلا يلزم من مغايرة هذه الأبعاد للّون مغايرة الجسم له ،
بل هذه الأبعاد أعراض من باب الكم ، والجسم هو الأمر الذي تفرض فيه هذه الأبعاد ،
فلم لا يجوز أن يكون ذلك الأمر هو نفس اللون؟
لا يقال : الجسمية
عبارة عن قبول هذه الأبعاد ، والمفهوم من قبول هذه الأبعاد غير المفهوم من اللون.
لأنّا نقول : ليست
الجسمية عبارة عن نفس هذه القابلية ، لأنّ القابلية أمر نسبي إضافي ، والصورة
الجسمية ليست مجرد نسبة وإضافة ، بل الصورة الجسمية ماهية تلزمها قابلية هذه
الأبعاد ، فلم لا يجوز أن تكون تلك الماهية هي نفس اللون؟
فالحاصل : أن
كلامهم هنا إنّما يتمشى إذا جعلوا ماهية الجسم الأمر الذي تلزمه هذه القابلية ، ثم
يمكنهم أن يثبتوا كون تلك الماهية مغايرة في المفهوم لمفهوم كونه لونا .
__________________
سلّمنا أنّ اللون
ليس جسما ، فلم لا يجوز أن يكون جزءا منه؟
قولهم : يستحيل أن
يتألف الجسم من اجتماع ما لا قدر له.
فنقول : الهيولى
والصورة لا مقدار لأحدهما في خاص ذاته مع تركّب الجسم منهما ، فجار أن يكون اللون
عديم المقدار في ذاته ويكون جزءا للجسم؟
بل الطريق أن نقول
: إذا شاهدنا جسما أسود فإمّا أن يكون السواد نفس الجسمية أو داخلا فيها أو خارجا
عنها. والأوّل باطل ؛ لأنّ مفهوم الجسمية مشترك بين الجسم الأسود والأبيض ، وهما
متباينان في مفهوم الأسودية والأبيضية.
ولأنّ الجسم يصحّ
وصفه بالأسودية والأبيضية ، ونفس الأسودية لا يصحّ وصفها بالأسودية ولا بالأبيضية.
ولأنّ السواد يضاد
البياض ، والجسم لا يضاده.
والثاني أيضا باطل
؛ لأنّه لو كان السواد جزءا من الجسمية المشتركة لكان مشتركا ؛ لأنّ جزء المشترك
إمّا مساو له أو أعمّ منه ؛ لاستحالة أن يكون أخص ، فيلزم أن يكون السواد مشتركا
كاشتراك الجسمية ، فكل ما صدق عليه الجسمية صدق عليه أنّه أسود ، فلا يكون الأبيض
وغيره جسما ، هذا خلف.
وأيضا فإمّا أن
يكون كلّ واحد من السواد والبياض جزءا للجسم فكل جسم أسود وأبيض معا ، وهو باطل
بالضرورة.
وأمّا خروجهما معا
عن الجزئية فيكونان عارضين له ، وهو المطلوب. أو جعل أحدهما جزءا دون الآخر من غير
أولوية ، وهو محال.
فوجب أن يكون
السواد خارجا عن مفهوم الجسم ، فإمّا أن يصحّ وجوده مفارقا عن الجسم أو لا.
والأوّل محال إذ لا خلاء في العالم حتى يوجد ذلك اللون فيه. ولأنّه لو وجدت الجهة
الفارغة وفرضنا حصول السواد فيها كان لذلك السواد
امتداد في تلك
الجهة ، ومفهوم الامتداد مغاير لمفهوم السوادية ، فيكون ذلك للسواد مقدارا ، والمقدار إنّما يوجد في المادة ، فالسواد موجود في
المادة.
وأمّا أن يفرض غير
مشار إليه فنقول : تلك الحقيقة التي كان يمكننا أن نشير إليها بالحس ما بقيت ، بل
الباقي شيء آخر ، وليس كلامنا فيه ، فإنّ وقوع اسم السواد عليه وعلى هذا المشار
إليه باشتراك الاسم لتغايرهما في الحقيقة. فثبت أنّ السواد والبياض وسائر الكيفيات
أمور مقارنة للجسم خارجة عن ماهيته ممتنعة المفارقة عنه. ومعلوم أنّها غير مفهوم
الجسم لزوال السواد عنه وحصول البياض له مع بقاء ماهيته في الحالين غير مختلفة.
فعلمنا أنّ جميع
أنواع الكيف موصوف بجميع صفات الأعراض وخواصّها ، فيكون عرضا.
وفيه نظر ؛ لإمكان
أن يكون السواد والبياض وغيرهما من الكيفيات صورا نوعية للأجسام كالنارية والمائية
وشبههما.
والحاصل أنّا نقول
: إنّ الكيف خارج عن مفهوم الجسمية خروج الصور النوعية عنها ، وغير مفارقة للجسمية
عدم مفارقة الصور النوعية لها ، فلا يلزم من هذا أن يكون اعراضا للجسمية كما لا
يلزم من الصور النوعية.
__________________
الفصل الثالث :
في القسم الثاني من الكيف وهو :
الكيفيات الاستعدادية
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في أنواعه
اعلم أنّ أقسام
الاستعداد ثلاثة :
أ : الاستعداد
الشديد على أن ينفعل كالممراضية واللين ، وهذا يسمّى اللاقوّة.
ب : الاستعداد
الشديد على أن لا ينفعل كالصلابة والمصحاحية .
ج : الاستعداد
الشديد على أن يفعل كالمصارعيّة. وهذان القسمان يندرجان تحت اسم القوّة.
__________________
وهذا أولى من
تقسيم بعضهم هذا النوع من الكيفيات إلى التهيؤ للدفع ، وهو القوّة ، أو التأثر وهو
اللاقوة ، فإنّه ليس اسم القوة للدفع فقط ، فإنّ الصلابة قوّة ، وهي تهيؤ لأن لا
ينفعل بسرعة ، والبطء لا قوّة ، وليس بمتأثّر عن شيء ، بل هو ما تقطع الحركة بسببه
مسافة قليلة. فالقوة اسم لاستعداد بسببه يفعل الشيء بسهولة ، أو ينفعل بعسر ،
واللاقوة اسم لاستعداد بسببه يفعل بعسر أو ينفعل بسهولة.
واعلم أنّا إذا
أردنا قسمة الكيف إلى أنواعه الأربعة وإدخال هذه الأقسام الثلاثة تحت نوع واحد
احتجنا إلى ذكر معنى محصل مشترك بين الثلاثة بحيث يجعل نوعا للكيف وجنسا للأقسام
الثلاثة ، فنقول : إنّه المبدأ الجسماني الذي به يتم حدوث أمر حادث على أنّ حدوثه
مرتجع به ، أو استعداد جسماني حامل نحو أمر من خارج.
والأوّل أجود ،
لأنّ الاستعداد إضافي فلا يكون نوعا للكيف . وهذا الرسم يتناول الأقسام الثلاثة ، فإنّ الفاعل
والمنفعل يشتركان في أنّ حدوث الحادث إنّما يتم بهما. ثمّ إنّ القوة على الانفعال
يترجح بها حدوث ذلك الانفعال ، والقوة على المقاومة يترجح بها حدوث المقاومة ،
والقوة على الفعل يترجح بها حدوث الفعل ، والأقسام الثلاثة مشتركة في أنّها مبادئ
جسمانية لحوادث مترجحة بها.
ولا خلاف في دخول
القوّة على الانفعال ، والقوّة على اللاانفعال تحت هذا النوع ، وأمّا القوّة على
الفعل فقد أخرجها الشيخ منه . فنذكر في تحديد القدر المشترك بين القوّتين الأوليين : «إنّه
الذي يترجح به القابل في أحد جانبي قبوله ولا قبوله».
__________________
المسألة الثانية : في أنّ القوّة على الفعل غير داخلة في
هذا النوع
زعم القدماء أنّ
القوّة على المصارعية داخلة في هذا النوع. وفي التحقيق ليس كذلك ، لأنّ المصارعية
تتعلق بأمور ثلاثة :
الأوّل
: العلم بتلك
الصناعة.
الثاني
: القوّة القوية على
تلك الأفعال.
وهذان من باب
الحال والملكة ، فلا يدخلان تحت هذا النوع ؛ لامتناع دخول حقيقة واحدة
تحت مقولتين.
الثالث
: كون الأعضاء في
خلقتها الطبيعية بحيث يعسر عطفها ونقلها. وهو في التحقيق عبارة عن القوة على
المقاومة واللاانفعال ، وهو أحد القسمين المذكورين.
لا يقال : القدرة
على تلك الأفعال لها اعتبار من حيث إنّها قدرة ، وهي من باب الحال والملكة ،
واعتبار آخر من حيث إنّها قدرة شديدة ، أو من حيث إنّها فاعلة بسهولة ، وهي بهذا
الاعتبار من هذا الباب.
لأنّا نقول : الذي
فيه قوّة الانصراع أشد ، ففيه أيضا قوّة الصرع ، لكنّها ضعيفة. والذي فيه قوّة
الصرع ففيه قوّة الانصراع حاصلة ، لكنّها ضعيفة ، ففي كلّ منهما قوّة الأمرين ،
لكنّها في أحدهما أقوى ، وفي الآخر أضعف.
فهذا الاختلاف إن
كان في الماهية وجب أن لا تكون شدة القوّة خارجة عن ذات القوّة ، فإنّ الشيء لا
يختلف باختلاف ما ينضم إليه من خارج ، وإذا لم تكن الشدة موجودا آخر ، بل القوّة
القوية موجود واحد يخالف بماهيته الوحدانية القوّة الضعيفة ، ودخلت تلك الحقيقة في
أحد الجنسين امتنع دخولها في الجنس الآخر.
وإن كان الاختلاف
في العوارض فهو محال ؛ لأنّه يلزم أن تكون هناك قوة واحدة باقية وتعرض لها الشدة
لا لقوة أخرى انضافت إليها ، بل كيفية غير القوّة
__________________
قارنت القوّة
فصارت بها أشد تأثيرا وفعلا ، وهو باطل. ومع بطلانه فالمقصود حاصل ؛ لأنّ القوّة
القوية إذا كانت من نوع القوّة الضعيفة ، والقوّة الضعيفة غير داخلة في هذا القسم
من الكيفية فالقوّة القوية أيضا غير داخلة ، لأنّ أحد المثلين إذا لم يدخل تحت
جنس لم يكن الآخر داخلا تحته.
وأيضا الحرارة لها
قوّة شديدة على الإحراق ، فلو دخلت تحت جنس الانفعاليات والانفعالات لزم تقوّمها
بجنسين ، وهو محال. فإذن القوّة الشديدة لا تدخل تحت هذا الجنس.
المسألة الثالثة : في أنّ الصلابة واللين وجوديان أم لا؟
قد سبق فيما تقدم
في الكيفيات الملموسة أنّ الصلابة هي الاستعداد الطبيعي نحو اللاانفعال ، وأنّ
اللين هو الاستعداد الطبيعي نحو الانفعال ، فليس جعل أحدهما عدما للآخر أولى من
العكس. فإذن ليس التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فهما إذن كيفيتان وجوديتان.
إلّا أنّ لقائل أن
يقول : الاستعداد الطبيعي تلزمه أمور ثلاثة :
الأوّل
: اللاانغمار وهو
عدمي.
الثاني
: المقاومة
المحسوسة.
الثالث
: بقاء الشكل على ما
كان ، وهما وجوديان.
وذلك الاستعداد لا
يجوز أن يكون عدميا ، لأنّه علّة لأمرين وجوديين ، وعلّة الموجود موجودة ، فذلك
الاستعداد أمر وجودي.
وأيضا الانغمار ـ كما
حققناه ـ حركة حاصلة في سطح الجسم مقارنة لحدوث شكل مخصوص فيه واستعداده لقبول
الحركة ، لأنّه جسم طبيعي ، واستعداده لقبول ذلك الشكل لأنّه متكمّم . وإذا كان كونه جسما طبيعيا
__________________
ذا كم هو العلّة لهذه القابلية استحال أن تكون هناك كيفية أخرى
تفيد هذه القابلية ، لأنّ ما ثبت لذات الشيء استحال احتياجه في إثباته له إلى شيء
آخر.
وإذا ثبت أنّ
استعداد الانفعال ليس بكيفية زائدة وجب أن يكون الاستعداد نحو اللاانفعال لعلّة
وجودية لاستحالة أن يكون سببه نفس المادة التي هي علّة الاستعداد ، ولا أيضا زوال
وصف عن المادة ، إذ ليس الاستعداد للانفعال علّة وجوديّة حتى يكون زوالها علّة
الاستعداد للاانفعال.
فإذن علّة استعداد
اللاانفعال أمر وجودي ، وهذا يوجب الظن بأنّ التقابل بين الصلابة واللين تقابل
العدم والملكة.
وفيه نظر ؛ فإنّه
لا يلزم من كون الوجودي لازما لأمر أن يكون ذلك الأمر وجوديا. والاستعداد لقبول
الانغمار وإن كان حاصلا للمادة ، لكن الاستعداد لعدم قبوله أيضا حاصل للمادة ، ولا
يكفي الاستعداد والقبول في الحصول.
قال الشيخ : «وأمّا
الرطوبة واليبوسة والصلابة واللين ففي أمرها نظر ، فإنّها إمّا أن تكون ماهيتها هي
أنّها استكمال استعداد في أن ينغمر ويتشكل بسهولة ، وفي أن لا ينغمر ولا يتشكل
بسهولة. أو يكون أمرا آخر هو في نفسه موجود محصل ، وتلزمه هذه الكيفية ، ويكون
إنّما يحس من جهة الأمر الآخر حتى تكون هذه الكيفية دليلا على ذلك الوجود الآخر.
وهذا يتبيّن بأن يتأمل حاله في دخوله في الحس ، أهو له من حيث ينغمر ، أو لا ينغمر
، أو من جهة شيء آخر؟
أمّا أنّه لا
ينغمر فعدمي ، إنّما يجب أن يحسّه الحس على سبيل تعطله كما يتعطل عند الظلمة.
وإبصارنا للظلمة هو أن لا نبصر شيئا. ثمّ الصلب يشبه أن يكون إدراكنا له باللمس
كالإدراك الوجودي ، واللين كغير الوجودي ، الذي لا يحسّ معه بممانعة أصلا.
__________________
وأمّا الانغمار
الذي في اللين فهو قبول حركة على هيئة ، والحركة مع الهيئة غير محسوسة إلّا بواسطة
، فقد يحس الانغمار أيضا بالبصر دون اللمس ، وكذا سرعة الحركة إلى الشكل وبطؤها ،
فلا يكون ذلك دليلا على أنّ الصلابة واللين أو الرطوبة أو اليبوسة قد أحسّتا
بالبصر.
فإذن ليس ما يلمس
هو الانغمار وعدمه ، ولا أيضا الاستعداد ، فإنّ الاستعدادات من حيث هي استعدادات
معان تعقل ، وكذلك فإنّ قوّة المصارعي لا يحسها مصارعه ، بل يحس هناك صلابة
المقاومة. وكذا الزق المنفوخ فيه الهواء ، فإنّ الهواء الذي فيه لم يصلب بوجه أصلا
، بل هو في طبيعته كما كان ، لكن الحس يحسه كما يحس الصلب. وكذا الرياح فإنّ الأمر
الذي نحس من المقاومة هو غير الاستعداد الطبيعي الذي في الشيء الموجود ، فإنّ
الهواء لم ينعقد في طبعه صلبا وإن انحصر في الزق ، ولا بأن صار ريحا ، بل
الاستعداد الطبيعي موجود فيه ولا يحس به ، فإذن المعنى الذي يحس بذاته إن كان لا
بدّ من معنى يحسّ بذاته هو غير ذلك الاستعداد ، وإن كان يقارنه ويصحبه وغير نفس
حركة الانغمار وغير الانغمار ، فأحد هذه عدم والآخر من باب الحركة لا من باب الكيف
، والثالث من جنس الكيفيات التي في الكميات حتى دون الكيفيات الانفعالية
والانفعالات. والذي يقع من هذا الجنس في المعنيين المعتبرين في الرطوبة واليبوسة
هو ما يحس منهما ، والذي يقع في الباب الآخر ، أعني باب القوة واللاقوة ، هو ما لا
يحس منهما وهما متلازمان».
واعلم أنّ الشيخ
جعل الصلابة واللين في الإشارات من الكيفيات الانفعالية. وقسّم الانفعال إلى
السريع والبطيء ، لئلا يحصل الشك في الصلابة وأشباهها في كونها انفعالية ؛ لأنّها
ليست ممّا لا ينفعل موضوعها ، بل هي ممّا ينفعل موضوعها بطيئا .
__________________
الفصل الرابع :
في القسم الثالث من الكيف وهو :
الكيفيات المختصة بالكميات
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في حقيقة هذا القسم
قيل في تعريفه :
إنّه الكيفية التي تعرض أوّلا للكمية ، وبواسطتها للجسم ، فإنّ الشكل يعرض أوّلا
للمقدار ، وكذا الاستقامة والانحناء.
اعترض : بأنّ الخلقة مجموع اللون والشكل ، وهي تعرض أوّلا للجسم
الطبيعي فإنّه ما لم يحصل جسم طبيعي لم تحصل خلقة.
فنقول : الأمور
العارضة للكمية : منها ما يعرض لها بسبب أنّها كمية ، ومنها ما يعرض بسبب أنّها
كمية شيء مخصوص ، وفي كلا القسمين العارض إنّما عرض للكمية أولا.
__________________
ثمّ اللون حامله
الأوّل السطح. والجسم بنفسه غير ملوّن ، بل معنى كون الجسم ملوّنا أنّ سطحه ملوّن.
وليست القوّة
واللاقوّة حاملهما العمق وبتوسط الجسم ، بل يحملهما الجسم بمادته وصورته.
فالخلقة ملتئمة من
الشكل وحامله السطح بذاته ، ومن اللون وحامله السطح لكونه نهاية لجسم طبيعي.
فالحامل الأوّل للخلقة هو الكم. لكن يشكل بلزوم دخول اللون والضوء فيه ، لأنّ
حاملهما الأوّل السطح مع أنّهما داخلان في الانفعالات والانفعاليات. ووجود حقيقة
واحدة في جنسين محال.
واعلم أنّ التعريف
الذي ذكرناه أوّلا يدخل فيه ما يكون عارضا للشيء بواسطة الكمية بتمام ماهيته
كالاستقامة والانحناء ، أو ببعض أجزائه كالخلقة المركبة من الشكل واللون ، وكونها
من هذا الباب بما فيه من الشكل.
المسألة الثانية : في أقسامه
اعلم أنّ المشهور
عند جماعة الحكماء من أقسام هذا النوع من الكيف أنواع ثلاثة : ١ ـ الشكل. ٢ ـ وما
ليس بشكل. ٣ ـ وما هو حاصل من شكل وغير شكل. وجعلوا الشكل على ما هو المشهور من
أمره أنّه : ما أحاط به حدّ كالكرة والدائرة ، أو حدود كالمربع والمكعب. وما ليس
بشكل كالاستقامة والانحناء للخط وكالتقعير والتحديب والتسطيح للسطح. والذي يحصل من
شكل وغير شكل هو المسمى صورة وخلقة ، وهو الشكل من حيث هو محسوس في جسم طبيعي أو
صناعي وخصوصا بالبصر. وذلك بأن يكون له لون ما فيكون الشكل الملون خلقة وصورة.
فلما ذكرت هذه
الوجوه الثلاثة ، قيل : ويشبه أن يكون للكيفية نوع رابع.
فتذبذب الشرّاح ،
فقال بعضهم : إنّه نعني به الأمور التي تسمّى في الفلسفة الأولى : كيفيات ، التي
هي الأمور المفارقة أصلا كالمثل المظنونة والتعليميات ، أو كالعقول التي لا تلابس
المادة. ولم يشعروا بأنّ إطلاق اسم الكيفية على ذلك ، وعلى هذه المعدودات إنّما هو
بالاشتراك اللفظي. وليس حدّ الكيفية في جميعها واحدا فلا يكون ما يجمع تلك الأشياء
نوعا من أنواع الكيفية زائدا على أنواع الكيفية المذكورة.
وقال آخرون : إنّ
ذلك هو الثقل والخفة ، مع أنّهما عند الكل من جملة ما سلف ذكره ، ومع ذلك فإنّهم
بأجمعهم جزموا تربيع الأقسام ولم يجعلوا للكيفية نوعا خارجا عن الأجناس الأربعة.
والحق أنّ هذا
القسم الرابع لا بدّ منه ، لكن ليس هو ما ذكروه ، بل الكيفيات العارضة للكميات
المنفصلة كالزوجية والفردية فإنّه خواص هذه الأعداد ليست أعدادا ولا فصولا لها ،
بل هي عوارض تعرض لأنواعها لازمة. وليست من مقولة المضاف ولا باقي المقولات فهي من
الكيفيات. وليست من الحالات والملكات ، ولا قوّة ، ولا عجز ، ولا كيفيات محسوسة ،
فهذا هو النوع الذي أهملوه. ولمّا كانت هذه صعبة لم يمثل في قاطيغورياس بها ، بل
بما تقدم ؛ لأنّه وضع للمبتدئين.
وطريق تمييز هذه
الأقسام بعضها عن بعض أن نقول : الكيفية المختصة بالكمية إمّا أن تكون مختصّة
بالمنفصل كالزوجية والفردية ، أو بالمتصل وأقسامه أربعة : الزمان ، والجسم ،
والسطح ، والخط.
أمّا الزمان
والجسم فلم يدل دليل على اختصاصهما بكيفية لا توجد في الجسم الطبيعي إلّا
بواسطتهما. وأمّا السطح والخط ، فالعارض للخط هو الاستدارة والاستقامة. وأمّا
العارض للسطح فإمّا أن يعرض له لأجل كونه محاطا بالخط ، أو ليس لأجل ذلك ، فالأوّل
الشكل والثاني اللون ومجموعهما الخلقة.
المسألة الثالثة : في الاستقامة والاستدارة
رسم اقليدس الخط المستقيم بأنّه «الموضوع على مقابلة أي النقط كانت
عليه بعضها لبعض» ؛ فإنّ الخط المستقيم إذا فرض عليه نقط متعددة كم كانت فإنّها
بأجمعها تكون على سمت واحد ، بحيث لا يكون بعضها أرفع من بعض ، بل يكون وضع جميعها
بالإضافة إلى الخط وضعا واحدا.
ورسم أرشميدس بأنّه «أقصر خط يصل بين نقطتين» ؛ لأنّ كلّ نقطتين فرضتا
أمكن أن يوصل بينهما بخطوط كثيرة مقوسة ، وخط واحد مستقيم هو
__________________
أقصرها.
وهذا التعريف ليس
بصواب ، لأنّ المستدير يمتنع أن يصير مستقيما ، فلا يمكن انطباقه عليه ، فلا يوصف بأنّه
أقصر أو أطول أو مساو.
وبهذا يظهر فساد
قول من قال : كلّ قوس فهي أعظم من وترها ؛ فإنّ ذلك يقال على سبيل التخيّل الكاذب.
ورسم أيضا بأنّه «الذي
تتطابق أجزاؤه بعضها بعضا على جميع الأوضاع» ؛ فإنّ المستقيم إذا قسمته أمكن أن
يطابق بين أحد القسمين والآخر على جميع الأوضاع. بخلاف المنحني ، فإنّك إذا فصلت
منه جزءا ثمّ انطبق ذلك الجزء على باقي الخط المنحني ، فربما ينطبق عليه بوضع واحد
، بأن يجعل محدّب أحدهما في مقعّر الآخر. فإن جعل مقعره على مقعره لم يتطابقا.
ورسم أيضا بأنّه «الذي
إذا أثبت نهاياته وأدير كما يدر المحور لم يتغيّر عن وضعه». وأمّا المنحني فإنّه
عند الفتل تتغير الجهة المحدبة إلى غير وضعها.
ورسم أيضا بأنّه «الذي
يستر وسطه طرفيه».
وأمّا السطح
المستوي فالرسوم الثلاثة الأول جارية فيه ، فإنّه يصدق عليه أنّه «إذا خطّ فيه
خطوط كثيرة لم يكن بعضها أرفع وبعضها أخفض». وأنّه «أصغر السطوح التي نهاياتها
واحدة». وأنّه «الذي تطابق أجزاؤه بعضها بعضا على كلّ الأوضاع».
__________________
المسألة الرابعة : في إثبات الدائرة
نعني بالدائرة : «السطح المستوي الذي يحيط به خط واحد في داخله نقطة كل
الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية» وقد اتفق الجميع من المتكلّمين
والفلاسفة على إثبات الخط المستقيم. وأمّا الدائرة فقد أنكرها مثبتوا الجزء الذي
لا يتجزأ من الحكماء والمتكلمين ، وأثبتها النافون له منهم.
واحتج مثبتوا
الدائرة بوجوه :
الأوّل
: الجسم إمّا بسيط
أو مركب ، والبسيط لا بدّ منه ، وإلّا لزم نفي المركب ، فيلزم نفي الأجسام بأسرها
، وهو محال. والشكل الطبيعي للبسيط إنّما هو الكرة ، لأنّ طبيعته واحدة ، والواحد
لا تتكرر آثاره الطبيعية ، وغير الكرى من الأشكال كثير ، فلا يصدر عن البسيط إلّا
الكرة ، ويحصل من قطعها بنصفين دائرتان عليهما.
وفيه نظر بمنع
استناد الشكل إلى الطبيعة ، كيف وأنّه لازم للجسم بسبب التناهي الذي ليس لازما
للماهية.
الثاني
: إذا تخيّلنا سطحا
مستويا وتخيلنا خطا مستقيما مرسوما في ذلك البسيط ، وأثبتنا أحد طرفيه على ذلك
السطح ، ثمّ حرّكنا ذلك الخط على ذلك
__________________
البسيط حول ذلك
الطرف الثابت إلى أن يعود إلى موضعه الذي ابتدأت منه الحركة ، حدث من هذه الحركة
دائرة ؛ لأنّ الطرف المتحرك من الخط تحرك على مسافة ، والنقطة لا مساحة لها.
فالمسافة التي تحركت عليها النقطة ليس لها عرض فهي خط مستقيم ، هي في وسط هذا
السطح المستدير. وكلّ الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية ؛ لأنّ
كلها مساو للخط المتحرك ، والخطوط المساوية للخط الواحد متساوية ، فثبتت الدائرة.
ولا بدّ من إقامة
الدلالة على ثبات أحد طرفي هذا الخط حال حركة الآخر ، ولأنّ هذه الدائرة وهمية لا
حقيقية.
الثالث
: لنفرض جسما قائما
على سطح معتدل قياما معتدلا ، فالطرف المماس للسطح يلاقي بنقطة منه نقطة من السطح
، فإذا أميل ذلك الجسم حتى سقط ، فإن ثبتت تلك النقطة في موضعها فقد فعل كلّ واحدة
من النقط المفروضة في رأس المتحرك ربع دائرة. وإن لم تثبت فإمّا أن يكون عند
انحدار أحد الرأسين إلى السفل يصعد الآخر إلى العلو أو لا ، بل يتحرك على السطح.
ويلزم من الأوّل
أن يكون كلّ من الطرفين قد فعل نصف دائرة ومركزها النقطة المتجددة بين الصاعد والهابط.
والثاني محال ؛
لأنّ ذلك الانحدار ليس طبيعيا ولا قسريا ، لأنّ القاسر ليس إلّا أنّ الطرف العالي
لمّا نزل وتعذر انعطاف ذلك الجسم ليبسه واتصاله ، اضطر العالي إلى تحريك السافل ،
لكن هذه الضرورة تندفع باشالة السافل ، فيكون المحرك منقسما إلى قسمين : أحدهما
مائل إلى فوق بالقسر ، والآخر إلى السفل بالطبع ، وبينهما مركز هو حدّ الحركتين.
فظاهر أنّه إن لزم عن انحدار الطرف الفوقاني إلى السفل حركة الطرف الأسفل إلى فوق
وجبت الدائرة ، وإن لم يلزم فوجود الدائرة أظهر.
__________________
وهذا أيضا وهمي لا
حقيقي ، لكن الشيخ سلك نهجا آخر ألزم فيه القائلين بثبوت الجزء إثبات الدائرة ، وهو أنّه
لا شكّ أنّ هنا دائرة محسوسة ، فإن كانت حقيقية فالمطلوب ، وإن لم يكن في الحقيقة
كذلك فإنّما يكون بسبب تضريس على بسيطها وتقعير و لا يكون لها مركز في الحقيقة ، بل في الحس.
فنقول : إذا وضعنا
طرف خط ـ مركب من أجزاء لا تتجزأ ـ على ما هو مركز في الحس ، ووضعنا الطرف الآخر
من ذلك الخط على جزء من المحيط ، ثمّ نزيله عنه ونضعه على الجزء الذي يلاصق الجزء
الأوّل من المحيط ، فإن لم ينطبق عليه ، فذلك يكون إمّا بزيادة أو نقصان ، فإن
كانت الزيادة والنقصان بمقدار جزء ، أمكن إلحاقه به أو حذفه عنه حتى تتم الدائرة.
وإن كان أقل من جزء لزم انقسام الجزء. وإن انطبق عليه ، فإن كان بين هذا الجزء
والجزء الأوّل فرجة ، فإن لم تتسع للجزء فقد وجد ما هو أصغر من الجزء ، وذلك يوجب
التجزئة ، وإن اتّسعت ملئت به. وإن لم تكن بينهما فرجة ، فقد وجد في المحيط جزءان
متصلان لا انفراج بينهما ، ويكون الخط الخارج مما فرض مركزا ممكن الانطباق عليهما.
وإذا أمكن في جزءين نقلنا البحث منه إلى ثالث ورابع ، وهكذا حتى يأتي على جميع
أجزاء الدائرة.
واعلم أنّ هذا
مبني على إمكان ثبات الطرف من الخط الذي عند المركز وهو ممنوع.
المسألة الخامسة : في أنّ المستقيم يخالف المستدير بالنوع
إنّه من المعلوم
أنّ بين الخط المستقيم والخط المستدير مخالفة ، ولا شك في أنّ
__________________
المتصف بهما هو
الخط. وذلك الخط الموصوف بالاستقامة لا يجوز بقاؤه عند زوال الاستقامة، لأنّه عارض
للسطح العارض للجسم ، فما لم يتغير حال الجسم استحال تغير حال الخط. ومتى تغير حال
الجسم في امتداداته فقد عدم الزائل ، وحدث الطارئ.
فإذن يستحيل أن
يبقى الخط المستقيم بعينه عند زوال وصف الاستقامة. فإذن الاستقامة تكون فصلا أو
لازمة للفصل ، وكيفما كان وجب أن يكون مخالفا للمستدير بالنوع.
وأيضا فقد عرفت
أنّه ما لم يعرض للجسم تغيّر لم يتغيّر حال الخط. ثمّ إنّ الجسم إذا انحنى بعد ما
لم يكن كذلك ، فذلك إمّا لأنّه تفرق اتصال خطّه ، ولو كان كذلك لكان ذلك الخط قد انقسم إلى خطوط ، وكلّ
واحد منها مستقيم. وإمّا أن يكون لأنّ ذلك الخط بعينه قد امتدّ ، وهو باطل ؛ لأنّ
الخط الواحد لا يكون بعينه موضوعا لتوارد الطول والقصر عليه ، لأنّ الخط هو نفس
الطول فكيف يكون موردا للطول ، وإذا استحال ذلك امتنع انتقال أحدهما إلى الآخر.
ولأنّه لا معنى
للخط المستقيم إلّا تلك النهاية المخصوصة ، فإذا وجد المستدير لم تبق النهاية
الأولى ، فلم يبق الخط الذي كان مستقيما.
واعلم أنّ الضرورة
تدفع ذلك ، فإنّا نعلم أنّ الغصن الرطب المستقيم يقبل الانحناء ، ولا يعدم حال
انحنائه.
تذنيبان
:
الأوّل
: الدوائر المختلفة
بالصّغر والكبر مختلفة بالنوع ، لأنّه لمّا استحال انتقال الخط الواحد من محدب خاص
إلى محدب أقل أو أكثر كان ذلك دليلا على
__________________
أنّ ذلك المحدب
فصل أو لازم للفصل ، وزوال الفصل يستلزم عدم الحقيقة.
الثاني
: الخط المستدير
والمستقيم لا يتضادان ، لوجوب وحدة الموضوع في المتضادين ، وامتناع تحقّقه هنا.
وأيضا لو ضاد مطلق المستقيم مطلق المستدير تضاد الواحد بالشخص من أحدهما الواحد
بالشخص من الآخر ؛ لأنّ ضد الواحد بالشخص واحد بالشخص ، كما أنّ ضد الواحد بالنوع
والعموم واحد بالنوع والعموم. والتالي [باطل] ؛ لأنّ كلّ خط شخصي يمكن أن يكون
وترا لقسي غير متشابهة لا نهاية لها ، وليس بعضها بالضدية له أولى من الآخر ، بل
كلما كان أشد تقعيرا كان أقرب إلى الضدية من الأبعد ، لكن تلك الشدة غير متناهية ،
فلا يتحقّق الطرف الذي هو الضد الآخر.
المسألة السادسة : في عدم تناسب المستدير والمستقيم
اعلم أنّ المستدير
لمّا امتنع أن يصير مستقيما ، امتنع أن ينطبق عليه فيمتنع وصفه بأنّه مساو له أو
أزيد أو أنقص ، لأنّ وصفه بذلك إنّما يكون مع مطابقته إيّاه.
لا يقال : إنّا
نعلم بالضرورة أنّ القوس أعظم من الوتر ، وأنّ الوتر أصغر من القوس.
لأنّا نقول : قد
سلّم بعضهم امكان وصف المستدير بأنّه أزيد من المستقيم أو أنقص منه ، لكن يستحيل
وصفه بالمساواة له.
وزعم أنّ الشيئين
قد تكون بينهما مناسبة بالزيادة أو النقصان مع استحالة
__________________
وقوع المناسبة
بينهما بالمساواة ، للعلم بأنّ زاوية مستقيمة الخطين ـ حادة ـ أعظم من زاوية حاصلة
من قوس ومستقيم ، وأصغر من أخرى مع امتناع أن تكون بين زاوية مستقيمة الخطين ،
وزاوية من قوس ومستقيم مساواة.
وإنّما قلنا إنّ
الحادة المستقيمة الخطين أعظم من الزاوية الحادثة من القوس والمستقيم ؛ لأنّ
القوسية توجد بالفعل في تلك وزيادة.
وإنّما كانت
الأخرى أصغر من القوسية ، لأنّ المستقيمة الخطين [لا] توجد فيها تلك وزيادة.
ومنع آخرون من كون
القوس أعظم من الوتر ، وظاهر أنّه ليس كذلك ؛ لأنّ الأعظم يوجد فيه ما وجد في
الأصغر وزيادة ، وليس يمكن أن يوجد في القوس مثل الوتر. نعم هذا الحكم إنّما هو
بحسب الوهم بمعنى أنّ المستدير لو صار مستقيما لكان أعظم من الوتر حيث يوجد فيه
الوتر بعد استقامته وزيادة ، فيكون اعتبار ذلك التفاوت بحسب وهم غير ممكن الوجود.
المسألة السابعة : في حقيقة الشكل
اعلم أنّ الشكل
وإن قيل في حده في المشهور على ما حده اقليدس : إنّه «ما أحاط به حدّ واحد أو حدود»
أمّا الحد الواحد فكالدائرة والكرة. وأمّا الحدود فكالمضلعات كالمثلث والمربع.
لكنّه إذا حقّق كانت ماهيته من الكيفيات
__________________
المختصة بالكميات
وهو «هيئة إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالجسم» فإنّ المربع مثلا حقيقته مركبة من
سطح وحدود أربعة محيطة به ، وهيئة مخصوصة ـ هي هيئة إحاطة تلك الحدود به ـ وهذه
الهيئة مغايرة للسطح والأضلاع التي هي الحدود ، ولهذا لا يصح أن يقال: التربيع ما
تحيط به الحدود الأربعة ، بل هو هيئة إحاطة الحدود الأربعة بذلك السطح.
فإذن المربع عبارة
عن سطح أحاطت به حدود أربعة ، ولا شك أنّ السطح لا يخرج عن كونه سطحا لو أخذ مع أي
وصف اتفق. ولا شك في أنّ الشكل المأخوذ بالمعنى الذي حده اقليدس ليس من الكيف ، بل
الذي يمكن جعله من الكيف إنّما هو هيئة احاطة الحدّ الواحد أو الحدود بذلك السطح.
والشكل الذي عرّفه المهندسون إنّما هو لما يستعملونه شكلا في اصطلاحهم وكأنّهم
يشيرون بذلك إلى المقدار ذي الشكل ، ولهذا لا يقنعون بوصف الشكل بالمساواة لشكل آخر وعدمها عدم الملكة ،
وينسبونه إليه بالنصفية والثلثية وغيرهما ، ويعنون بذلك مقدارا مشكلا ، والشكل الذي
هو كيف مغاير لذلك ؛ لأنّ الشيء الذي تحيط به الحدود بالذات هو المحدود ، والمحدود
بالذات هو المقدار ، والمقدار بالذات هو كم ، والشكل كيف ، والكيف ليس بكم.
فإذن الشكل الذي
هو من باب الكيف عبارة عن هيئة الإحاطة.
واعلم أنّ الشيخ
نقل عمّن تقدمه ، أنّ الشكل من الكيفيات العارضة لظاهر الجسم دون باطنه ، ونسب
قائله إلى البلاهة والغفلة ، لأنّ الأشكال المجسمة إنّما وجودها من حيث هي مجسمة
بأن تكون سارية في الجسم كلّه ، فإنّ الشكل إن كان ما أحاط به حدّ أو حدود، فإنّما
تحيط الحدود بالسطوح والسطوح بالعمق.
__________________
ثمّ شرع في تحقيق
ذلك بأنّ هنا حدودا وشيئا ذا حدود وهيئة بسبب الحدود ، فالحدود ليست أشكالا ، بل
هي أطراف. ولا يجوز أن يقال لشيء منها : إنّه في ظاهر المحدود ، حتى يقال : إنّ
السطح في ظاهر الجسم ، أو الخط في ظاهر السطح ؛ لأنّ الظاهر غير الذي في الظاهر.
وليس السطح إلّا نفس ظاهر الجسم ، والخط ليس في ظاهر السطح بل نفس ظاهره. فأمّا إن
عنوا الشيء المتحدد ، فهو مقدار لا كيفية. وإن عنوا الهيئة الحاصلة من التحدد
فإنّما يكون في الظاهر منها ما يوجد في السطح وحده من الهيئات ، إمّا شكلا
كالتربيع ، أو هيئة غير شكل كالتسطيح والتقبيب والتقعير. وأمّا المجسمات من
الأشكال ، فليست هيئات توجد في الحدود ، بل هي هيئات توجد في جملة المحدود بالحدود
، وفي الحدود وجود إنّيتها بالشركة ، ليست نسبتها إلى الحدود أولى من نسبتها إلى
المحدود. فلو كانت الكرية في نفس السطح لكانت تقبيبا أو تقعيرا لا كرية ، كما لو
كانت الدائرة في نفس الخط لكانت استدارة وتقويسا لا دائرة. وكما أنّ شكل الدائرة
موضوعها السطح لا نفس الخط ، كذلك شكل الكرة موضوعه الجسم لا ظاهره الذي هو السطح
، وإن كان شكل الدائرة لا يتم إلّا بالانعطاف للخط ، وكان شكل الكرة لا يتم [إلّا]
بتقبيب السطح. وهذه الأشكال وإن كانت تحدث للمحدودات بالحدود ، فليست هي الحدود ،
وإن كانت الحدود عللا لها ، فليست عللا لها في أنفسها بل في شيء آخر يتحدد بها.
واعلم أنّ الحدود
أنفسها لا يقال إنّها موجودة إلّا في المحدود نفسه جملته ، فإنّ الخط نهاية للسطح
الذي هو خطه على أنّه نهاية لجملته فهو موجود بأنّه نهاية في جملته وجود الصفة في
الموصوف ، وليس موجودا في طرف منه ، ولا في جزء منه دون سائر أجزائه بالقوّة.
فكذلك الشكل المجسّم هو صفة للجسم كلّه ليست
__________________
موجودة في السطح
الذي هو الطرف فقط ، ومع ذلك جعلوه شكلا.
وفي هذا نظر ،
فإنّهم إذا جعلوا الشكل هيئة إحاطة الحدّ الواحد أو الحدود بالجسم ، كان متعلّقا
بالحدّ أو بالحدود ، كما إذا قالوا اللون هيئة عارضة للسطح ، فإنّا نعلم تعلّقه
بالسطح ونشك في ثبوته للجسم.
المسألة الثامنة : في أنّ الشكل من الكيف أو الوضع؟
المشهور أنّ الشكل
من باب الكيف ، ونقل عن ثابت [بن قرة] أنّه من باب الوضع ؛ لأنّ الوضع ـ بمعنى المقولة ـ هيئة تعرض للشيء بسبب نسبة
أجزائه بعضها إلى بعض ، والتربيع والتثليث كذلك ، لأنّها هيئات تحصل للمربع
والمثلث بسبب أطرافهما وحدودهما ، فهي من الوضع.
وهو خطأ ، فإنّ
الوضع بمعنى المقولة يشترط فيه نسبة أخرى هي نسبة أجزائه إلى أمور خارجة عنها.
والأشكال ليست كذلك ، لأنّها هيئة تحصل بسبب نسبة الأطراف والحدود ، وأطراف الشيء
ليست أجزاء للشيء. ولأنّ الوضع هيئة حاصلة بسبب نسبة أجزاء الشيء إلى الأمور
الخارجة عنه مع نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ، فإنّ المنتكس لا تتغير نسبة أجزائه
بعضها إلى بعض ، مع أنّ وضعه متغيّر لتغيّر نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجة.
والأشكال هيئات تعرض بسبب نسبة الأجزاء فقط بعضها إلى بعض ، ولا يعتبر النسبة إلى
الأمور الخارجة ، ولذلك فإنّ المربع لا تختلف مربّعيته عند اختلاف نسبة حدوده إلى
الخارجيات عنه. فلما توقف الوضع على النسبتين دون الشكل علم أنّه ليس منه.
__________________
اعترض بأنّكم
جعلتم الكيف ما لا يوجب تصوّره تصوّر غيره ، وهيئة التربيع يوجب تصوّرها تصوّر
غيرها ، فإنّ تلك الهيئة لا يمكن أن تتصوّر إلّا عند تصوّر النسب التي بين أطراف
المربع التي لا تعقل إلّا بعد تعقل أطراف السطح التي لا تعقل إلّا بعد تعقل السطح
، فتعقل هيئة التربيع يتوقف على تعقل هذه الأمور ، فكيف تدخل في مقولة الكيف.
ثمّ قولكم «الوضع
إنّما يحصل بسبب نسبة الأجزاء ، والشكل إنّما يحصل بسبب نسبة الأطراف ، والأطراف
ليست أجزاء» ضعيف ، لأنّا إذا قلنا : الوضع هو الهيئة الحاصلة للجسم بسبب نسب الأمور
المتباينة الجهة التي هي فيه ، دخل فيه الشكل ؛ لأنّ الأمور المتباينة الجهة التي
في الجسم قد تكون أجزاء للجسم ، وقد تكون أطرافا له. فإذن الهيئة الحاصلة بسبب
نسبة الحدود داخلة في الوضع.
وقولهم : «الوضع
هو الذي يتوقف على حصول النسب التي بين أجزاء الشيء ، وبين أمور خارجية منها» ،
فنقول : كل ما يتوقف تحققه على حصول نسب بين أجزاء الشيء وبين أطرافه فذلك من
الوضع. وهو على قسمين : منه ما يكفي في تحققه النسب التي بين أجزائه كالتربيع
والتثليث. ومنه ما لا بدّ مع ذلك من اعتبار النسب التي بين تلك الأجزاء والأمور
الخارجة عنها كالجلوس والسجود ، فإذن الشكل من باب الوضع.
وفيه نظر ، فإنّه
كما أنّ من الكيفيات المحسوسة ما هو بسيط كالسواد والبياض والحرارة والبرودة ، وما
هو مركب كالغبرة والقتورة ، كذا من الأشكال ما هو بسيط كالكرية ، ومركب كالتربيع ،
فإنّ هيئة التربيع لمّا توقف تعريفها على معرفة الحدود الأربعة التي تركبت هيئة
التربيع من هيئاتها ، وجب أخذ محالها في تعقلها قائمة بها ، ولم يخرجها ذلك عن
مقولتها المندرجة تحتها. وهيئة التربيع إنّما يتوقف تصوّرها على تصوّر محلها لا
غير. وتبديل الأجزاء في الوضع بالأمور المتباينة الجهة يخرج الوضع المصطلح عليه ـ الذي
يقع البحث فيه ـ عن حقيقته ويبقى
البحث في شيء آخر
لم يتعرض له. ولا يكفي في الوضع النسبة التي بين أجزاء الشيء وبين أطرافه ، حتى
يلزم أن يكون الشكل من مقولة الوضع.
قال الشيخ : من
قال «الشكل من الوضع ، لأنّ الشكل متعلّق بحدود بينها تجاور خاص يوضع بعضها عند
بعض» ، فلقد غلط من وجوه :
الأوّل
: أخذ الحدود مكان
الأجزاء ، وإنّما الاعتبار في الوضع بالأجزاء ، وفي الشكل بالحدود.
الثاني
: حسب أنّ هذا الوضع
من المقولة الخاصة ، ولم يعرف أنّ هذا من المضاف. وإنّما الوضع الذي من المقولة ،
هو وضع أجزاء الشيء عند خارج مباين ، لا وضع أجزاء الشيء في نفسه.
الثالث
: ظن أنّ تعلّق
الشيء بمقولة يوجب أن يكون منها ، فإنّ الشكل وإن كان لا يحصل إلّا بالإضافة بين
الحدود أو وضع أيضا ، فليس يجب أن يكون الشكل وضعا فإنّ المربع أيضا لا يحصل إلّا
بعدد من الحدود ، وليس يجب أن يكون المربع عددا. ألا ترى أنّه لا يقال : إنّ
المربع هو عدد الحدود ، ولا أنّ المربع وضع الحدود عند حد ، فليس يقال عليه هذان ،
فكذا لا يقال : إنّه داخل في مقولتهما ، بل يقال : إنّ المربع حاصل عن وضع كذا وعن
حدّ كذا.
المسألة التاسعة : الزاوية
اختلف الحكماء في
الزاوية ، من أي مقولة هي؟ فقال بعضهم : إنّها من
__________________
مقولة الكم ؛
لأنّها تقبل المساواة واللامساواة ، وتقبل التجزئة ، فتكون كمّا. وقد أبطله ابن الهيثم : بأنّ حقيقة الزاوية تبطل بالتضعيف مرة أو مرارا ، فإنّ
القائمة تبطل إذا ضوعفت مرة ، ولا تبقى حقيقتها ، والحادة قد تضاعفت مرارا فتبطل ،
ولا تبقى زاوية البتة، ولا شيء من المقدار تبطل حقيقته بالتضعيف.
وقال آخرون :
إنّها من الكيف ، لأنّها تقبل المشابهة واللامشابهة. وليس ذلك بسبب موضوعها الذي
هو كم ، فهو لذاتها ، فتكون كيفا. وأمّا قبولها للمساواة والمفاوتة فبسبب موضوعها
الذي هو الكم ، كما أنّ الأشكال تقبل ذلك بسبب موضوعاتها التي هي كم.
اعترض : ويشكل
بجواز كون المشابهة مقولة عليها بالعرض لا بسبب محلّها ، بل بسبب ما يحل فيها ،
فإنّ الشيء كما يوصف بوصف محلّه بالعرض ، كذا يوصف بوصف حالّه بالعرض ، وهم لم
يبطلوه.
وقال آخرون :
إنّها من مقولة المضاف ، لأنّ اقليدس حدّها بأنّها تماس خطين. وقول اقليدس ليس حجة
، وبطلانه ظاهر ؛ لأنّ كلّ زاوية توصف بأنّها كبرى أو صغرى ، ولا شيء من التماس
كذلك ، ولأنّ التماس محمول على الخطين بالشركة ، والزاوية ليست كذلك.
وقال آخرون :
الزاوية المسطّحة مقدار متوسط بين الخط والسطح.
قال الشيخ : لا ينبغي أن يلتفت إلى ما قاله بعض المتكلّفين لما لا
يعنيه :
__________________
إنّ الزاوية «جنس
آخر من الكم بين الخط والسطح» ظانا أنّ قولهم «الخط له طول فقط ، وأنّ السطح له طول وعرض»
، هو أن يكون له طول وعرض هما حدّان قائمان أحدهما على الآخر ، حاسبا أنّ الخط
يتكوّن عن حركة نقطة ، ثمّ السطح عن حركة الخط بكليته لا إلى جهة امتداده ، بل على
عمود عرضا حتى يكون إذا ثبت طرف وتحرّك طرف بحيث تكون إحدى نقطتيه ساكنة والأخرى
متحركة ، لم يكن السطح تاما ، بل فعل شيئا بين السطح والخط. وكذا الزاوية المجسمة
مقدار متوسط بين السطح والجسم ؛ لأنّ الجسم إنّما يحدث بحركة السطح ، لا في جهة
امتداده ، فإذا فرض أحد طرفيه ساكنا لم يكن الحادث جسما تاما.
فإنّ هذا لمّا
أخطأ في معرفة الطول والعرض تمادى به الخطأ إلى أن تهوش وجهل ماهية السطح والجسم ،
وظن أنّ السطح لا يكون ذا عرض إلّا إذا كان محاطا بحدود أربعة. والجسم لا يكون ذا
عمق إلّا إذا كان محاطا بحدود ستة. ولم يعرف معنى قول القدماء : السطح ذو طول وعرض
، والجسم ذو طول وعرض وعمق.
بل الزاوية
المسطحة سطح ، ولذلك يمكن أن يفرض فيها بعد ، ويفرض آخر قائما عليه ، والزاوية
المجسمة جسم لمثل ذلك ، أعني : إذا عنينا بالزاوية المقدار الذي له هذا النوع من
التحدد ، فأمّا إذا ذهبنا إلى الهيئة فإنّ الزاوية كيفية.
ومن جعل الزاوية
من الكم رسمها تارة بأنّها «سطح أو جسم ينتهي إلى نقطة».
__________________
وأورد عليه : بأنّ
السطح لا ينتهي بالذات إلى النقطة ، فإنّ نهايته الخط ، فإن أراد به أنّه ينتهي
إلى الخط المنتهي إلى النقطة ، فلا بدّ فيه من إضمار هذه الزيادة .
وقد صرّح بعضهم
بها فقال : إنّها «سطح يحيط به خطان اثنان بالفعل ينتهيان إلى نهاية واحدة».
وربّما قيل : «سطح تحيط به نهايتان متماستان». وربّما قيل : «سطح تحيط به نهايتان
إلى نهاية».
ثم قيل : إنّ هذه
الرسوم لا تميّز الزاوية عن الشكل ، فإنّ الشكل ينتهي في زواياه إلى النقطة ، وليس
لأحد أن يقول انتهاء الشكل إلى النقطة بسبب زواياه ، فذلك للشكل بالعرض ، وللزاوية
بالذات ، لأنّ الشكل موصوف في ذاته وحقيقته بهذه الخاصية. فهب أنّ ذلك بسبب
الزاوية حتى تكون محمولة أوّلا على الزاوية ، وعلى الشكل ثانيا ، ولكن لما
اشترك الشكل والزاوية فيها فلا بدّ من مميّز هو فصل يفصل أحدهما عن الآخر. على أنّ
الحق أنّه ليس انتهاء المثلث إلى النقطة بسبب كونه ذا زاوية ، بل كونه ذا زاوية
بسبب انتهائه إلى النقطة.
وأيضا فإنّ هذا
الحدّ لا يتناول المجسمة لأنّها لا تنتهي إلى نقطة ، بل إلى خط.
وقيل : الزاوية «سطح
يحيط به خط واحد ينعطف على نقطة». وفرق بينه وبين الأوّل ـ وهو أنّه السطح الذي
يحيط به خطان يتحدان على نقطة ـ فإنّ قائل الأوّل اعتقد أنّ الخطين المحيطين
بالزاوية خط واحد ، وهو باطل ؛ لأنّ كونه منعطفا على نقطة إنّما يتحقق لو كانت
النقطة موجودة بالفعل ، وإذا وجدت بالفعل تميز كلّ من قسمي الخط في ذاته عن الآخر
، فهما بحال لو لم يفرض
__________________
اتصالهما أو
تماسهما على تلك النقطة لم يتعلّق أحدهما بصاحبه وكان الخطان اثنين بالفعل ، لكن
قد عرض لهما تلك النقطة المشتركة فحصل بينهما اتحاد.
فاذن الزاوية
متقوّمة بالخطين من حيث لهما اتحاد ، وذلك الاتحاد عرضي ، والذاتي متقدم ، لأنّ
العارض يعرض لما هو ذاتي ، فليس بواجب أن يوضع أوّلا في الحد خط واحد، ثمّ يجعل له
اثنينية الانعطاف ، بل يوضع الخطان ، ثمّ يجعل لهما وحدة بالاتحاد.
فقول من قال : «الزاوية
المسطحة هي السطح الذي يحيط به خطان يتحدان على نقطة» ، أولى من قول : «إنّها
السطح الذي يحيط به خط واحد ينعطف على نقطة».
واعلم أنّ القول
المحقق في الزاوية أن نقول : لا يمكن تصوّر الزاوية إلّا عند الاعتبار للمقدار
مقرونا بهيئة ما ، كما أنّ الشكل لا يمكن اعتباره إلّا مع اعتبار مقدار مقرون
بهيئة ما ؛ وذلك لأنّ الزاوية إنّما تتصوّر عند اعتبار كون المقدار متحددا بين
حدين يلتقيان بحدّ. فالمسطّحة هي السطح الذي يتحدد بخطين يلتقيان بنقطة. والمجسمة
هي الجسم المحدد بسطحين يلتقيان بخط.
أمّا المسطحة
فالخطان المحيطان بها ، إمّا أن يكون السطح بينهما يحيط به مع الخطين غيرهما أو لا
، فإن لم يحط معهما حدّ ثالث ، فإما أن يلتقي الحدّان عند آخر مشترك لهما أو لا ،
واللذان لا يلتقيان فإمّا أن يكونا بحيث لو مدّا التقيا أو لا ، بل يذهبان إلى غير
النهاية، فإن التقيا كانا كخطين أحاطا بقطعة دائرة ، أو بشكل هلالي أو عدسي.
ثمّ هذا القسم
سواء لم يوجد له الحدّ الثالث أو وجد لكن لم يلتفت إليه بل اعتبر تحدده بحدين فقط
، فاعتباره من حيث هو كذلك هو اعتبار الزاوية ، وأمّا اعتباره من حيث التحدد بحد
ثالث فهو اعتبار الشكل.
والحاصل أنّ
اعتبار تحدد السطح بحدين فقط هو الزاوية. واعتبار تحدده بأكثر من حدين هو الشكل.
وكما أنّ الشكل حقيقته ملتئمة من سطح وحدود وهيئة إحاطة الحدود ، كذا الزاوية
المسطحة تلتئم حقيقتها من السطح والخطين المتلاقيين على حدّ واحد وهيئة إحاطة
الحدين بذلك السطح.
وكما أنّ للشكل اعتبار أنّه كمية ، لأنّه مقدار له حدود محيطة به وهيئة ،
كذا للزاوية اعتبار أنّها كمية ، لأنّها سطح محاط بحدين وهيئة. وكما أنّ المهندسين
يعنون بالشكل المقدار المشكل ، كذا يعنون بالزاوية المقدار ذا الزاوية ، ولهذا
يصفون الزاوية بالتنصيف والمساواة ، والعظم والصغر. وكما أنّ هيئة إحاطة الحدود
بالسطح في الشكل هي الكيف أو الوضع ، كذا هيئة إحاطة الحدين بالسطح كيف أو وضع.
واعلم أنّ الزاوية
تنقسم بالقسمة الأوّلية إلى مسطّحة ومجسّمة. والمسطّحة إمّا أن تحدث من خطّين
مستقيمين أو مستديرين أو أحدهما مستقيم والآخر مستدير.
والأوّل
: لا يخلو إمّا أن
يكون ميل الخط المتصل بالثاني إلى الجانبين على السواء ، فتكون الزاويتان قائمتين
، أو لا على السواء ، فالمائل إليها وهي الأصغر من القائمة تسمّى حادة ، والمائل
عنها الأكبر من القائمة تسمّى منفرجة ، فالقائمة نوعها في شخصها بخلاف قسيميها.
والثاني
: إمّا أن يكون
المحيط بها حدبتا القوسين أو مقعراهما أو حدبة أحدهما ومقعر الآخر.
والثالث
: إمّا أن يكون
المحيط بها مع المستقيم حدبة الدائرة أو قعرها.
وأمّا المجسمة ،
فإمّا أن يكون المحيط بها بسيطا واحدا كما في رأس المخروط ، أو سطحا وبسيطا وهي
الزاوية التي على رأس نصف المخروط ، أو سطوحا
__________________
متعددة كما في
المضلعات.
تذنيبان
: الأوّل
:
إذا أخذنا نصف
دائرة ، ثمّ تخيّلنا محورا ثابتا ، وأثبتنا أحد طرفيها وذلك المحور الذي هو القطر
، وحركناها ـ إلى أن عاد الشكل الأوّل ـ حول ذلك المحور بحيث صار إلى الموضع الذي
بدأ منه ، فإنّه تحدث من تلك الحركة كرة. وإن أخذنا أقل من النصف وعملنا به العمل
المذكور حدث الشكل البيضي. وإن أخذنا أكثر من النصف حدث (السطح ، وهو) الشكل العدسي.
وأمّا الأسطوانة ،
فإنّها تحدث بأن تتحرك الدائرة حركة يلزم فيها مركزها خطا مستقيما ، طرفه مركز تلك
الدائرة لزوما على الاستقامة. أو نأخذ سطحا متوازي الأضلاع ، ونثبته على أحد
أضلاعه ونحرّكه إلى أن يعود إلى وضعه الأوّل ، فإنّه تحدث منه الاسطوانة.
وأمّا المخروط
فيحدث بأن نثبت المثلث القائم الزاوية على واحد من الخطين المحيطين بالقائمة ، ثمّ
نحرّكه على ذلك الخط ـ حركة تحيط بطرف ذلك الضلع ـ مركز الدائرة دائرا بالضلع
الباقي على محيط الدائرة. وإثبات باقي الأشكال في علم الهندسة.
الثاني
: لا تضاد في
الأشكال ، لاستحالة صيرورة السطح المحدب مستقيما وبالعكس ، ومحل هذه الأعراض هي
السطوح على ما عرفت ، فلا اتحاد لموضوعها ، فلا تضاد بينها. وكذا لا تقبل الشدة
والضعف ، وهو ظاهر. فسقط بذلك ظن من اعتقد في الأمور السماوية تضادا في أشكالها
وحركاتها ، كالتقبيب والتقعير لتغاير موضوعيهما وامتناع اتصاف أحدهما بما اتصف به
الآخر.
وسيأتي بيان
امتناع تضاد حركاتها.
__________________
المسألة العاشرة : في الخلقة
الخلقة يقال
للهيئة العارضة للجسم بسبب اللون والشكل ، وينسب إلى الكيفيات المختصة بالكميات ،
وهي إنّما تحصل من اجتماع اللون والشكل ، وباعتبارهما يوصف الشخص بالحسن والقبح.
قال الشيخ : «لقائل
أن يقول : كيف تكون الخلقة كيفية واحدة وشيئا واحدا وهي مجموع لون وشكل؟ وهب أنّكم
جوّزتم تركّب أنواع الجواهر من جواهر ، لكنّكم أصررتم على امتناع تركّب أنواع
الأعراض ، وإن كان لحدودها تركّب من جنس وفصل. وهذه الخلقة نوع واحد عندكم في باب
العرض ينقسم إلى شيئين : الشكل واللون يحصل منهما وجود الخلقة.
وأجاب : بأنّا لا
نمنع من تركب الأعراض من الأعراض ، فإنّ العشرة عرض لأنّها عدد فهي كم ، وهي مركبة
من خمسة وخمسة. والمربع عرض ، وإنّما يلتئم من محدود وحدود أربعة ، بل نعني أنّ
الجواهر قد يوجد منها ما يناسب طبيعة جنسها ، وما يناسب طبيعة فصلها أجزأ متغايرة
، وإن لم يكن أحدهما طبيعة الجنس ولا الآخر طبيعة الفصل. والأعراض لا يوجد فيها
ذلك ، وإن وجدت لها أجزاء ، فلا يكون جزء منها مدلولا عليها بوجه من الوجوه.
فطبيعة الجنس
كالكيف هاهنا لهذا المركب وجزء آخر مدلول عليه بطبيعة الفصل ،
وإنّها تنتهي لا محالة إلى بسائط لا يوجد فيها أحد وجهي القسمة إلّا بحدودها. ولا
يجب أن تكون أجزاء الحد أجزاء المحدود. فالشكل إذا قارن
__________________
اللون اجتمع لذلك
شيء واحد جملة ، به يقال للشيء : إنّه حسن الصورة أو رديئها. ولو خلا كلّ من اللون
والشكل عن صاحبه لم يكن ذلك الحسن ولا ذلك القبح ، بل حسن وقبح آخرين.
فإذن للصورة من
حيث هي مجتمعة من الشكل واللون خاصية حال الاجتماع ، ليست تلك خاصية أحد جزئيها ،
ولا هي مجموع الخاصيتين من حيث هما معا فقط ، بل إذا كان حسن اللون من حيث هو حسن
اللون وحسن الشكل من حيث هو حسن الشكل ولم تكن مناسبة الحسنين مناسبة محدودة ، لم
يكن الحسن الذي يعتبر لجملة الصورة ، بل ربما أخرج الحسن الذي للجملة إلى أن لا يكون الحسنان الخاصان على ما
ينبغي في الخصوص ، بل كان الحسن لا يقال على المعنى الذي على سبيل الاجتماع منهما
، وعلى المعنى الذي على سبيل الخصوص ، إلّا باشتراك الاسم».
واعترض أيضا ، بأنّ الخلقة عبارة عن مجموع اللون والشكل ، وكل واحد
منهما داخل تحت جنس آخر ، فلو جعلتم لكل شيئين يجتمعان نوعية على حدة تضاعفت
الأنواع إلى غير النهاية ، لا مرة واحدة ، بل مرارا غير متناهية.
وأجيب : بأنّ
الشكل إذا قارن اللون حصلت كيفية باعتبارها يصحّ أن يقال للشيء: إنّه حسن الصورة
أو قبيحها ، والحسن والقبح الحاصلان للشكل وحده أو اللون وحده غير الحسن والقبح
الأوّلين ، فلما حصل للمجتمع من اللون والشكل خاصية لم يحصل لواحد منهما عرفنا حصول هيئة مخصوصة عند اجتماعهما
، فلهذا جعلنا الخلقة كيفية منفردة.
__________________
تذنيب
: الخلق الظاهر دليل
على الخلق الباطن ؛ لأنّ الأفعال الإنسانية ما هو بحسب الطبائع ، ومنها ما هو بحسب
التكلّف ، فإنّ الإنسان لا يفعل كل شيء يميل طبعه إليه ، وحينئذ يتعذّر الاستدلال
بفعل الإنسان على خلقه ، لجواز أن يكون ذلك الفعل الصادر عنه تكلّفيا.
أمّا الحيوانات ما
عداه فإنّ أفعالها في الأكثر صادرة عنها بحسب طباعها ، حيث ليس لها عقل دافع ولا
حياء مانع ، إلّا في النادر. فأمكن الاستدلال بأفعالها على أخلاقها ، فإذا عرفت
أخلاقها تتبعوا تلك الأشكال المقارنة لتلك الأخلاق ؛ لأنّ المقتضي للخلق
والأخلاق هو القوّة المزاجية.
فقلت على ظنّهم :
إنّ الخلقة الفلانية يقارنها الخلق الفلاني ، فإذا رأوا في الإنسان تلك الخلقة
استدلوا بها على خلقه ، وهذا هو مبدأ علم الفراسة.
المسألة الحادية عشرة : في خواص العدد
العلم المشتمل على
شرح ذلك بالاستقصاء ، وذكر رسومها هو علم «الأرتماطيقي»، لكن هنا بحثان :
الأوّل
: الزوجية والفردية
ليستا فصلين ذاتيين للأعداد لوجهين :
أ
: يتصوّر العدد
الكثير الذي هو زوج ، ويغفل عن كونه زوجا ، ويتصوّر
__________________
العد الذي هو فرد
ويغفل عن كونه فردا ، ولا شيء من المقوّمات كذلك ، فلا شيء من الزوجية والفردية
بذاتي.
ب : الزوجية والفردية يقالان على الأعداد المختلفة بالنوع ، فلو
كانتا ذاتيتين لبعض ما يدخل فيهما لكانتا ذاتيتين لجميع ما يدخل فيهما ، إذ لا
مزية للبعض على البعض ، لكن ماهية كل عدد متحقق متحصلة في الأذهان وموجودة في
الأعيان ، من دون هذين الوصفين ، فلا يكونان ذاتيين.
الثاني
: الزوجية والفردية
متقابلان ، وليس بينهما إلّا تقابل العدم والملكة ، لأنّ ذلك معلوم من مفهوميهما ،
فإنّ مفهوم الزوجية «الانقسام بمتساويين في العدد» ، ومفهوم الفردية «عدم الانقسام
بمتساويين» ، وهذا أمر عدمي.
وقد توهم بعضهم
أنّ التقابل بينهما تقابل التضاد. فإن عنى ذلك ومفهوم الفردية ما قلناه فهو سهو.
وإن عنى ذلك ، ومفهوم الفردية أنّها كيفية ثبوتية باعتبارها يمتنع الشيء من قبول
الانقسام بمتساويين ، كان تكلّفا لا دليل عليه.
وأيضا فإنّا إنّما
نسمّي مثل هذا الشيء فردا لا باعتبار كيفيته المانعة من الانقسام ، بل باعتبار عدم
قبول الانقسام بمتساويين ؛ لأنّ الناس يسمّون الثلاثة فردا ، وإن لم يخطر ببالهم
تلك الكيفية ، بل باعتبار أنّها لا تنقسم بمتساويين.
بقي هنا اشكال ،
وهو أنّ الزوجية اذا جعلت انقساما بمتساويين ، كانت من باب الانفعال ، فكيف جعلت
كيفية أخرى مقابلة لها. وكذا الفردية إذا كانت عدم الانقسام بمتساويين كيف تجعل
كيفية للعدد ، والأعدام ليست كيفيات وجودية.
تمّ الجزء الأوّل
من كتاب «نهاية المرام في علم الكلام» بحمد الله تعالى ومنّه ويتلوه في الجزء
الثاني بعون الله تعالى وتوفيقه الفصل الخامس في القسم الرابع من الكيفيات وهي «الكيفيات
النفسانية» على يد مصنّفه العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن يوسف المطهر الحلّي
، في الرابع عشر من شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتي عشرة وسبعمائة بالسلطانية كتابة وتصنيفا ،
والحمد لله وحده وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد النبي وآله الطاهرين.
__________________
فهرس محتويات الكتاب
المقدمة
، وتشتمل على فصول.................................................. ٣
الأوّل
: في بيان شرف هذا العلم.............................................. ٦
الثاني : في علة تسميته بالكلام............................................... ٨
الثالث : في موضوعه........................................................ ٩
الرابع : في غايته............................................................ ٢
الخامس : في مرتبته ونسبته إلى سائر
العلوم................................... ١٣
السادس : في وجوب معرفته................................................ ١٣
القاعدة الأولى
في تقسيم المعلومات
وفيها مقاصد.................................................................. ١٥
المقصد الأوّل : في التقسيم إلى الموجود
والمعدوم ، وفيه فصول................... ١٧
الفصل الأوّل : في مباحث الوجود ، وفيه
مباحث............................... ١٧
البحث الأوّل : في أنّ تصور الوجود
بديهي ، وفيه ثلاثة مقامات.................. ١٧
المقام الأوّل : في الاستدلال على أنّه
بديهي................................... ١٧
المقام الثاني : في أنّ تصوّره أوّل
الأوائل....................................... ٢١
المقام الثالث : في كلام الخصم في هذا
الباب.................................. ٢٢
البحث الثاني : في تحقيق ماهيته ، وفيه
مقامان.................................. ٢٦
المقام الأوّل : في أنّه بسيط البسيط.......................................... ٢٦
المقام الثاني : في أنّ الوجود نفس
الكون في الأعيان............................ ٢٧
البحث الثالث : في أنّ الوجود مشترك......................................... ٣٠
البحث الرابع : في كيفية اشتراكه.............................................. ٣٥
البحث الخامس : في أنّ الوجود زائد على
الماهية................................. ٣٧
البحث السادس : في الوجود الذهني........................................... ٤٥
البحث السابع : في أنّ الوجود هل يقبل
الشدّة والضعف أم لا؟................... ٥٠
الفصل الثاني : في مباحث العدم.............................................. ٥٢
البحث الأوّل : في أنّ تصوّره بديهي........................................... ٥٢
البحث الثاني : في أنّ المعدوم ليس بشيء....................................... ٥٣
البحث الثالث : في تفصيل قول المعتزلة في هذا
الباب......................... ٦٦
البحث الرابع : في كيفية العلم
بالمعدومات.................................... ٧٧
البحث الخامس : في حصر قسمة المعلوم إلى
الموجود والمعدوم.................... ٧٩
المقصد الثاني :
في التقسيم بالنسبة إلى الوجوب والإمكان والامتناع ، وفيه فصول.... ٨٧
الفصل الأوّل : في أنّ تصور هذه الأشياء
ضروري............................. ٨٧
الفصل الثاني : في مباحث الوجوب ، وفيه
مباحث............................ ٨٩
البحث الأوّل : في تفصيله................................................. ٨٩
البحث الثاني : في أنّ الوجوب ثبوتي أو
لا؟................................... ٩٠
البحث الثالث : في تقسيم الواجب......................................... ٩٥
البحث الرابع : في خواص الواجب لذاته..................................... ٩٩
cs الفصل الثالث : في مباحث الإمكان ................................... ١٠٩
البحث الأوّل : الممكن له أمران........................................... ١٠٩
البحث الثاني : في أقسامه................................................ ١١٠
البحث الثالث : في أنّ الإمكان العام
سلبي................................. ١١١
البحث الرابع : في أنّ الإمكان الخاص
سلبي................................. ١١٢
البحث الخامس : في كيفية عروض الإمكان................................. ١٢٢
البحث السادس : في أنّ الممكن محتاج إلى
المؤثر............................. ١٢٩
البحث السابع : في أنّه هل يعقل أن يكون
أحد طرفي الممكن أولى به لذاته وإن لم ينته إلى
حدّ التعيّن؟............................................................. ١٤٦
البحث الثامن : في أنّ الممكن ما لم يجب
لم يوجد........................... ١٥٠
البحث التاسع : في علّة احتياج الأثر
إلى المؤثر.............................. ١٥٣
البحث العاشر : في أنّ الممكن الموجود ،
هل يحتاج في بقائه إلى السبب أم لا؟.. ١٥٧
المقصد الثالث :
في التقسيم بالنسبة إلى الماهية والجزءوالخارج والكلي والجزئي ، وفيه فصول ١٦١
الفصل الأوّل : في مباحث الماهية.......................................... ١٦١
البحث الأوّل : في تحقيق الماهية........................................... ١٦١
البحث الثاني : في تقسيم الماهية........................................... ١٦٦
البحث الثالث : في أنّ البسائط هل هي
مجعولة أم لا؟....................... ١٦٨
البحث الرابع : في الفرق بين الجزء
وغيره.................................... ١٧١
البحث الخامس : في الفرق بين التركيب
الذهني والخارجي..................... ١٧٤
البحث السادس : في التشخص........................................... ١٧٧
البحث السابع : في كيفية تشخص الماهية.................................. ١٨٣
الفصل الثاني : في مباحث الجزء........................................... ١٨٥
البحث الأوّل : في أقسامه................................................ ١٨٥
البحث الثاني : في تقسيم الجزء باعتبار
آخر................................. ١٨٦
البحث الثالث : فيما وجد من الأقسام
المذكورة في الجواهر والأعراض........... ١٨٨
البحث الرابع : في طريق معرفة تركّب
الماهية من الجنس والفصل................ ١٨٩
البحث الخامس : في الفرق بين الطبيعة
الجنسية والطبيعية النوعية............... ١٩١
البحث السادس : في التناسب بين الحدّ
والمحدود............................. ١٩٢
البحث السابع : في النسبة بين الجنس
والفصل.............................. ١٩٤
البحث الثامن : في الفصل................................................ ١٩٧
البحث التاسع : في ترتب الأجناس في
الحمل................................ ٢٠١
الفصل الثالث : في الخارج عن الماهية...................................... ٢٠٣
الفصل الرابع : في الكلي والجزئي.......................................... ٢٠٧
القاعدة
الثانية
في
تقسيم الموجودات
وفيها
نوعان................................................................. ٢١٥
النوع الأوّل : في
التقسيم على رأي المتكلمين ، وفيه فصول..................... ٢١٧
الفصل الأوّل : في القدم والحدوث ، وفيه
مباحث............................ ٢١٧
البحث الأوّل : في تحقيقهما.............................................. ٢١٧
البحث الثاني : في التفسير على رأي
الحكماء الأوائل......................... ٢٢٠
البحث الثالث : في أنّ الحدوث والقدم هل
هما ثبوتيان أم لا؟................. ٢٢١
الفصل الثاني : في خواص القديم ، وفيه
مباحث............................. ٢٢٥
البحث الأوّل : في أنّ القديم هل يصحّ
اسناده إلى الفاعل أم لا؟.............. ٢٢٥
البحث الثاني : في أنّ القديم لا يجوز
عليه العدم............................. ٢٣٢
البحث الثالث : في أنّ القديم واحد........................................ ٢٣٨
الفصل الثالث : في خواص المحدث ، وفيه
مباحث............................. ٢٤١
البحث الأوّل : في أنّه لا يجوز في
المحدث سبق المادة عليه....................... ٢٤١
البحث الثاني : في أنّه لا يجب في
المحدث سبق المدة عليه........................ ٢٤٣
البحث الثالث : في أنّ كلّ محدث فإنّه
ممكن.................................. ٢٥٠
الفصل الرابع : في المتقدم والمتأخر
والمع ، وفيه مباحث........................ ٢٥٣
البحث الأوّل : في أقسام هذه الأنواع........................................ ٢٥٣
الأوّل : التقدم بالعلية.................................................... ٢٥٣
الثاني : التقدم بالذات.................................................... ٢٥٦
الثالث : التقدم بالزمان................................................... ٢٥٧
الرابع : التقدم بالرتبة..................................................... ٢٥٨
الخامس : التقدم بالشرف................................................. ٢٥٨
البحث الثاني : في الحصر................................................... ٢٥٩
البحث الثالث : في أنّ مقولية التقدم
على أنواعه بأي معنى هو؟................. ٢٦٠
النوع الثاني : في
التقسيم على رأي الأوائل ، وفيه فصول........................ ٢٦٥
الفصل الأوّل : في الجوهر ، وفيه مباحث................................... ٢٦٦
البحث الأوّل : في رسمه.................................................. ٢٦٦
البحث الثاني : في أنّ الجوهر هل هو جنس
أم لا؟........................... ٢٦٧
البحث الثالث : في أنّ كليات الجواهر
جواهر............................... ٢٧٢
البحث الرابع : في أنّ الجزئيات أولى
بالجوهرية من الكليات.................... ٢٧٤
البحث الخامس : في أنّ الجوهر مقصود
إليه بالإشارة......................... ٢٧٦
البحث السادس : في أنّ الجوهر هو القابل
للأضداد على سبيل الاستقلال...... ٢٧٧
البحث السابع : في أنّ الجوهر لا ضدّ له................................... ٢٧٨
الفصل الثاني : في العرض ، وفيه مباحث................................... ٢٧٩
البحث الأوّل : في تعريفه................................................. ٢٧٩
البحث الثاني : في أنّ العرض ليس بجنس................................... ٢٨٣
البحث الثالث : في استحالة الانتقال على
الأعراض......................... ٢٨٥
البحث الرابع : في أنّ العرض هل يصحّ أن
يقوم بعرض آخر أم لا؟............ ٢٩٢
البحث الخامس : في امتناع قيام العرض
الواحد بمحلين........................ ٢٩٥
البحث السادس : في جواز بقاء الأعراض................................... ٢٩٩
البحث السابع : في انقسام العرض بانقسام
محله............................. ٣٠٥
البحث الثامن : في امتناع كون الشيء
الواحد جوهرا وعرضا................... ٣٠٨
الفصل الثالث : في أقسام الأعراض على
رأي الأوائل......................... ٣١٣
وفيه مقدمة ومقالات..................................................... ٣١٣
المقالة الأولى : في الكم ، وفيها مباحث....................................... ٣١٧
البحث الأوّل : في تعريفه................................................. ٣١٧
البحث الثاني : في الفرق بين المقدار
والجسمية............................... ٣٢٠
البحث الثالث : في أقسام الكم........................................... ٣٢٣
البحث الرابع : في الكم المتصل القار
بالذات................................ ٣٢٦
البحث الخامس : في ماهية الزمان.......................................... ٣٢٩
البحث السادس : في أنّ الزمان هل هو
موجود أم لا؟........................ ٣٣٧
البحث السابع : في أنّ الكم المنفصل هل
هو ثبوتي أم لا؟.................... ٣٤٣
البحث الثامن : في المسائل المتفرعة على
وجود الكم عند الأوائل وهي.......... ٣٤٨
المسألة الأولى : في أنّ الكم لا ضدّ له
..................................... ٣٤٨
المسألة الثانية : في أنّ الكم لا يقبل
الشدة والضعف......................... ٣٥١
المسألة الثالثة : في الكم بالعرض.......................................... ٣٥١
المسألة الرابعة : في أنّ الثقل والخفة
ليسا من الكم............................ ٣٥٤
المسألة الخامسة : في الطول والعرض
والعمق................................. ٣٥٥
البحث التاسع : في تناهي الأبعاد............................................ ٣٥٦
البحث العاشر : في المسائل المتعلقة بما
لا يتناهى وهي عشر..................... ٣٧١
البحث الحادي عشر : في بقايا مسائل الكم
، وفيه ثلاث مسائل................ ٣٧٨
البحث الثاني عشر : في المكان ، وفيه
مسألتان................................ ٣٨٣
البحث الثالث عشر : في الخلاء ، وفيه
مسألتان............................... ٤٠١
البحث الرابع عشر : في بقايا مسائل
المكان................................... ٤٣٣
المسألة الأولى : في أنّ لكلّ جسم حيزا
طبيعيا............................... ٤٣٣
المسألة الثانية : في امتناع تعدّد
المكان الطبيعي البسيط........................ ٤٤٠
المسألة الثالثة : في أنّ المكان الواحد
لا يستحقه جسمان مختلفان بالطبع........ ٤٤١
المسألة الرابعة : في المكان الطبيعي
للمركب.................................. ٤٤٢
المسألة الخامسة : في أنّ لكلّ جسم شكلا
طبيعيا............................ ٤٤٤
البحث الخامس عشر : في الجهات ، وفيه
مسائل.............................. ٤٥٠
المسألة الأولى : في تحقيق الجهة............................................ ٤٥٠
المسألة الثانية : في أنّ الجهة موجودة........................................ ٤٥١
المسألة الثالثة : في عدد الجهات........................................... ٤٥٢
المسألة الرابعة : في تحدّد الجهات........................................... ٤٥٦
المقالة الثانية :
في الكيف ، وفيها فصول...................................... ٤٦١
الفصل الأوّل : في المقدمات.............................................. ٤٦١
المقدمة الأولى : في تعريف الماهيات
البسيطة................................. ٤٦١
المقدمة الثانية : في تقسيم الكيف.......................................... ٤٦٦
الفصل الثاني في القسم الأوّل :
الكيفيات الفعلية والانفعالية ، وفيه مباحث....... ٤٦٩
البحث الأوّل : في أمور كلية لهذا القسم.................................... ٤٦٩
البحث الثاني : في الكيفيات الملموسة ،
وفيه أبواب.......................... ٤٧٤
الباب الأوّل : في الحرارة والبرودة ،
وفيه مسائل.............................. ٤٧٥
المسألة الأولى : في حدّ الحرارة
والبرودة...................................... ٤٧٥
المسألة الثانية : في إثبات البرودة
والحرارة.................................... ٤٧٩
المسألة الثالثة : في تعديد أصناف الحار
والبارد............................... ٤٨١
المسألة الرابعة : في خواص الحرارة
والبرودة .................................. ٤٨٢
المسألة الخامسة : في الحرارة الغريزية......................................... ٤٨٤
المسألة السادسة : في بقايا أحكامهما
على رأي المتكلمين..................... ٤٨٦
الباب الثاني : في الرطوبة واليبوسة ،
وفيه مسائل............................... ٤٨٩
المسألة الأولى : في تعريفهما............................................... ٤٨٩
المسألة الثانية : في إثبات الرطوبة
واليبوسة .................................. ٤٩٤
المسألة الثالثة : في سبب كون الحرارة
والبرودة فعليين.......................... ٤٩٦
المسألة الرابعة : في بقايا مباحث
الرطوبة واليبوسة............................ ٤٩٨
الباب الثالث : في
اللطافة والكثافة ، واللزوجة ، والهشاشة ، والصلابة واللين....... ٤٩٩
المسألة الأولى : في اللطافة والكثافة......................................... ٤٩٩
المسألة الثانية : في اللزوجة والهشاشة
والبلّة والجفاف.......................... ٥٠١
المسألة الثالثة : في الصلابة واللين
والخشونة والملاسة.......................... ٥٠٢
الباب الرابع : في الثقل والخفة وفيه
مسائل..................................... ٥٠٥
المسألة الأولى : في مغايرتهما للحركة
وللقوة المحركة............................ ٥٠٥
المسألة الثانية : في أنّ الميل هل هو
نفس هذه
المدافعة أو علتها؟ ....................................................... ٥٠٦
المسألة الثالثة : في تعريفهما............................................... ٥٠٦
المسألة الرابعة : في الحاجة إلى الميل......................................... ٥٠٨
المسألة الخامسة : في أقسام الميل........................................... ٥٠٩
المسألة السادسة : في الميل الطبيعي........................................ ٥١١
المسألة السابعة : اضطراب كلام الشيخ في
الشفاء............................ ٥١٢
المسألة الثامنة : في اجتماع الميلين مع
اتحاد الجهة............................. ٥١٦
المسألة التاسعة : في إثبات الميل........................................... ٥١٧
المسألة العاشرة : الميل هو المحرك
للجسم.................................... ٥٢٢
المسألة الحادية عشرة : الميل يقبل
الشدة والضعف............................ ٥٢٢
البحث الثالث : في
الكيفيات المبصرة وفيه أبواب.............................. ٥٢٥
الباب الأوّل : في المبصرات ، وفيه
مسائل................................... ٥٢٥
المسألة الأولى : في أعدادها............................................... ٥٢٥
المسألة الثانية : في أحكام المبصرات
الحقيقية................................. ٥٢٦
المسألة الثالثة : في المبصرات غير
الحقيقية................................... ٥٢٩
الباب الثاني : في اللون وفيه مسائل........................................ ٥٣١
المسألة الأولى : في تعريفه................................................. ٥٣١
المسألة الثانية : في إثبات الألوان........................................... ٥٣٢
المسألة الثالثة : في الألوان المتوسطة........................................ ٥٣٨
المسألة الرابعة : في سبب شدة اللون
وضعفه................................ ٥٤٠
المسألة الخامسة : في أنّ الضوء ليس
شرطا في وجود اللون..................... ٥٤١
الباب الثالث : في
الضوء والظل والظلمة وفيه مسائل........................... ٥٤٣
المسألة الأولى : في أنّ الضوء لا يحدّ........................................ ٥٤٣
المسألة الثانية : في مغايرة الضوء
للحرارة واللون............................... ٥٤٤
المسألة الثالثة : في أنّ الضوء ليس بجسم
................................... ٥٤٨
المسألة الرابعة : في أنّ المضيء لا
يضيء.................................... ٥٥١
المسألة الخامسة : في الضوء الأوّل
والثاني.................................... ٥٥٢
المسألة السادسة : حصول الضوء الثاني من
الهواء............................ ٥٥٤
البحث الرابع : في
الكيفيات المسموعة ، وفيه أبواب ........................... ٥٦٠
الباب الأوّل : في الصوت ، وفيه مسائل.................................... ٥٦٠
المسألة الأولى : في ماهيته................................................. ٥٦٠
المسألة الثانية : في سبب الصوت.......................................... ٥٦٢
المسألة الثالثة : في حقيقة القرع............................................ ٥٦٣
المسألة الرابعة : هل يتوقف الصوت على
الإحساس؟......................... ٥٦٤
المسألة الخامسة : استحالة البقاء على
الصوت............................... ٥٦٩
المسألة السادسة : في إثبات الصوت في
الخارج.............................. ٥٧٠
المسألة السابعة : في سبب اختلاف الصوت................................ ٥٧٢
المسألة الثامنة : في الصدى............................................... ٥٧٣
الباب الثاني : في
الحرف ، وفيه مسائل....................................... ٥٧٥
المسألة الأولى : في ماهيته................................................. ٥٧٥
المسألة الثانية : في أقسام الحرف........................................... ٥٧٧
المسألة الثالثة : في أحكام الصوامت....................................... ٥٧٩
المسألة الرابعة : في أحكام المصوتات....................................... ٥٨٢
المسألة الخامسة : في أحكام المركبات....................................... ٥٨٥
البحث الخامس : في
الكيفيات المذوقة والمشمومة ، وفيه مسائل.................. ٥٨٨
المسألة الأولى : في الطعوم................................................ ٥٨٨
المسألة الثانية : في اجتماع الطعوم......................................... ٥٩١
المسألة الثالثة : في الروائح................................................ ٥٩٢
الفصل الثالث : في
القسم الثاني من الكيف ، وفيه مسائل...................... ٥٩٧
المسألة الأولى : في أنواعه................................................. ٥٩٧
المسألة الثانية : في أنّ القوة على
الفعل غير داخلة في هذا النوع ............... ٥٩٩
المسألة الثالثة : في أنّ الصلابة
واللين وجوديان أم لا؟........................ ٦٠٠
الفصل الرابع : في
القسم الثالث من الكيف ، وفيه مسائل...................... ٦٠٣
المسألة الأولى : في حقيقة هذا القسم....................................... ٦٠٣
المسألة الثانية : في أقسامه................................................ ٦٠٤
المسألة الثالثة : في الاستقامة
والاستدارة.................................... ٦٠٦
المسألة الرابعة : في إثبات الدائرة........................................... ٦٠٨
المسألة الخامسة : في أنّ المستقيم
يخالف المستدير............................ ٦١٠
المسألة السادسة : في عدم تناسب
المستقيم والمستدير........................ ٦١٢
المسألة السابعة : في حقيقة الشكل........................................ ٦١٣
المسألة الثامنة : في أنّ الشكل من
الكيف أو الوضع......................... ٦١٦
المسألة التاسعة : الزاوية.................................................. ٦١٨
المسألة العاشرة : الخلقة................................................... ٦٢٥
المسألة الحادية عشرة : في خواص العدد.................................... ٦٢٧
فهرس المحتويات............................................................ ٦٣١
|