سورة النّساء

مدنيّة كلّها وقيل سوى آية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا) ، وآية

(يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) لمّا كان تلك الحكاية وأمثالها من مرموزات الأوائل من الأنبياء والأولياء والحكماء التّابعين لهم وحملها العوامّ من النّاس على ظواهرها اختلف الاخبار في تصديقها وتقريرها وتكذيبها وتوهينها فانّ في كيفيّة خلقة آدم (ع) وحوّاء (ع) وتناسلهما وتناكحهما وتناكح أولادهما ، وكذا في قصّة هاروت وماروت وقصّة داود (ع) وغير ذلك اختلافا كثيرا في الاخبار واضطرابا شديدا بحيث يورث التحيّر والاضطراب لمن لا خبرة له ، حتّى يكاد يخرج من الدّين ولكنّ الرّاسخين في العلم يعلمون انّ كلّا من معادن النبوّة ومحالّ الوحي صدر ولا اختلاف فيها ولا اضطراب ؛ جعلنا الله منهم والله ولىّ التّوفيق ، ولمّا كان المقصود الوصاية في امر الأيتام والاهتمام بهم وبأموالهم اكّد الأمر بالتّقوى بالتّكرير فقال تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) وعلّقه اوّلا على وصف الرّبوبيّة المقتضيّة للتّقوى عن مخالفته ووصفه أيضا بما يقتضي التّقوى وعلّقه ثانيا على وصف الإلهيّة ووصفه بما يقتضي تعظيمه وقرن الأرحام به بالعطف على الضّمير المجرور أو على الله مبالغة في حفظ الأرحام وتمهيدا لإظهار المقصود من حفظ الأيتام فانّ الحافظ للأيتام في الأغلب ذوو الأرحام ومحافظة الرّحم وتعظيمه ممّا يحكم به العقل والعرف وورد في الشّريعة ما لا يحصى في الاهتمام به.

اعلم انّ الله تعالى شأنه خلق الإنسان ذا نشأتين وبحسب كلّ نشأة جعل له أصولا وفروعا ويسمّى أصوله وفروعه ومن انتهى معه الى أصل واحدا رحاما لانتهائهم الى رحم واحد والتّفاضل بين أرحامه الجسمانيّة وأرحامه الرّوحانيّة كالتّفاضل بين الرّوح والجسم ، وفضل صلة الأرحام الرّوحانيّة على الجسمانيّة كفضل الرّوح على الجسم لا يقال : من انتسب الى الشّيطان كان نسبته الرّوحانيّة الى الشّيطان وكان المنتسب الى الشّيطان رحما له فيلزم له مراعاته وصلته مع انّه مأمور بمباغضته وقطيعته لانّا نقول : كما اسّس الله تعالى لصحّة النّسبة الجسمانيّة في كلّ ملّة وشريعة ما تبتنى عليه ومن لم تكن نسبته مبتنية على ما اسّسه كان لغيّة وحاله مع أصوله وفروع أصوله كحال الاجنبىّ من غير فرق ومن لم يكن رحما لهم كما لم يكونوا أرحاما له كذلك اسّس الله تعالى


لصحّة النّسبة الرّوحانيّة ما تبتنى عليه ومن لم تكن نسبته مبتنية على ما اسّسه كان لغيّة ولا اعتبار بنسبته ، لا يقال : على هذا يلزم ان يكون من انتسب الى الأنبياء (ع) من غير الابتناء على ما اسّسه الله تعالى لغيّة نعوذ بالله من هذا القول ، لانّا نقول : الانتساب إليهم (ع) من غير الابتناء على ما به الانتساب محال ، لانّ من لم يكن له امام من الله يأتمّ به وانتحل الانتساب إليهم كان داخل النّسب وكان الايتمار بشريعتهم نحلة لا ملّة ولذا ورد في الاخبار المعصوميّة : من أصبح من هذه الامّة لا امام له من الله ظاهر عادل أصبح ضاّلا تائها ، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق أعاذنا الله ، وبهذا المضمون منهم روايات كثيرة وكما انّ داخل النّسب في النّسبة الجسمانيّة ملعون كذلك من لم تكن نسبته الى من انتسب اليه بحسب الرّوحانيّة مبتنية على ما يصححّها كان داخل النّسب وكان ملعونا ونسبة اللغيّة الى اللغيّة ونسبة داخل النّسب الى داخل النّسب كنسبة الرّوح الى الجسد (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ايّها المأمورون بالتّقوى ومراعاة الأرحام وحفظ اموال الأيتام فيطّلع على خيانتكم سرّا وعلانية (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) بعد الحفظ وانس الرّشد منهم (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) الرّدىّ من أموالكم (بِالطَّيِّبِ) الجيّد من أموالهم أو الحرام من أموالهم بالحلال المقدّر لكم فانّ من ارتزق بالحرام حرم المقدّر له من الحلال لكنّ الاوّل هو المراد لانّ قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) يفيد الثّانى.

اعلم انّ اليتيم كالرّحم روحانىّ وجسمانىّ فالجسمانيّ من انقطع في صغره عن أبيه الجسمانىّ ، والرّوحانىّ من انقطع عن إمامه الّذى هو أبوه الرّوحانىّ كما ورد تصريحا واشارة واليتيم عن الامام امّا بغيبته عن شهود حسّه بموت وغيره أو بغيبته عن شهود بصيرته بعدم استعداد الحضور وعدم حصول الفكر الّذى هو مصطلح الصّوفيّة ، فانّ من لم يتمثّل مثال الشّيخ في صدره ولم يشاهد صورته المثاليّة بعين بصيرته كان منقطعا عن إمامه وحقّه الخدمة والمواساة والمحبّة والنّصيحة الّتى يعطون الميثاق عليها ؛ هذا هو اليتيم الرّوحانىّ في العالم الكبير ، وامّا في العالم الصّغير فالقوى الحيوانيّة والبشريّة ما لم تبلغ في التبعيّة للنّفس الى مقام التّمتّع والالتذاذ بشهود النّفس لشيخها تكون يتامى ومالها وحقّها التلذّذ بمشتهياتها ومقتضياتها في الحلال فانّ التلذّذ في الحلال جعل قسيما لتزوّد المعاد في الاخبار ، ولمّا كان منع اليتامى باىّ معنى كان عن حقّهم ظلما على المظلوم الّذى كان مستحقّا للتّرحّم عظّم تعالى ذنبه فقال تعالى (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) اى ذنبا عظيما (وَإِنْ خِفْتُمْ) ايّها النّاظرون في امر اليتامى إذا أردتم نكاحهنّ ضنّة بأموالهنّ (أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) بالتّقصير في حقّهنّ «ف» دعوا نكاحهنّ و (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وعن أمير المؤمنين (ع) في جواب مسائل الزّنديق الّذى سأل عن أشياء انّه أسقط بين طرفي تلك الآية أكثر من ثلث القرآن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) تخيير بين الواحدة الى اربع وأيضا تخيير في الاستبدال فانّ في هذا الوزن دلالة على التّكرير (فَإِنْ خِفْتُمْ) ايّها الرّاغبون في النّكاح (أَلَّا تَعْدِلُوا) بينهنّ إذا كنّ أكثر من الواحدة «ف» انكحوا (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ان خفتم التّقصير في حقّ الحرّة (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) اى لا تميلوا عن الحقّ أو لا تمونوا فتعسروا فانّ خفّة العيال أحد اليسارين كما في الخير (وَآتُوا النِّساءَ) ايّها الأزواج (صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) منكم لهنّ اى عطيّة وفيه تنشيطا لهم فانّ استرداد العطيّة في غاية القبح وان كان الخطاب لأولياء النّكاح لانّهم كانوا يأخذون الصّداق لأنفسهم كما هو الآن كذلك في بعض الاعراب والأكراد فالمعنى آتوهنّ صدقاتهنّ ايّها الأولياء فانّها عطيّة لهنّ


فليس لكم ان تأخذوها (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) اى من الصّداق (نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً).

اعلم انّ الإنسان ذو نشأة محسوسة وذو نشأة غير محسوسة وله بحسب كلّ نشأة ما ينفعه وما يضرّه وكلّ من ميّز بين النّافع والضّارّ وقدر على جلب النّافع ودفع الضّارّ يسمّى عاقلا ورشيدا ، ومن لم يميّز أو لم يقدر يسمّى سفيها لكن لا ملازمة بين سفاهة الدّنيا وسفاهة الآخرة ؛ فكم من سفيه في الدّنيا عاقل في الآخرة ، وكم من عاقل في الدّنيا سفيه في الآخرة فمعاوية مع كونه ملقّبا بأعقل زمانه سفيه ، والبهلول مع كونه مجنونا عاقل ، واختلاف الاخبار في تفسير السّفيه بمن لم يكن تصرّفه في ماله على وجه يرتضيه العقل وبمن لم يعرف الحقّ وبشارب الخمر وبمن لم يدخل في هذا الأمر بحسب اختلاف النّشأتين ، فانّ العاقل بحسب النّشأة الآخرة من عرف إمامه ودخل على الوجه المقرّر في ولايته وبايعه بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخل الايمان في قلبه ولذلك نسبوا الى شيعتهم العقل والعلم والتّعلّم والعرفان وغير ذلك ممّا يدلّ على كونهم عاقلين مع انّ أكثرهم لم يكونوا من أهل العلوم الرّسميّة والعقول الدّنيويّة بل كانوا في نظر أهل الدّنيا مجانين وسفهاء كما (قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) ، وقالوا : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ، وكما انّ الشّرع والعقل حاكمان بقبح إعطاء المال الدّنيوىّ للسّفيه من الأولاد والأزواج أو الأيتام الّذين في تربيتكم أو غيرهم ممّن يضيّع المال أو من لا يعرف الحقّ كذلك حاكمان بقبح إعطاء المال الاخروىّ من العلم والحكمة لمن لم يكن اهله ولم يعرف الحقّ فانّ الله يأمركم ان تؤدّوا الأمانات الى أهلها يعنى لا تمنعوها أهلها فتظلموهم ولا تعطوها غير أهلها فتظلموها وتكونوا كمن علّق الدرّ على أعناق الخنازير (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) بان تمكّنوهم فيها لتحصيل رزقهم وكسوتهم منها بالعمل فيها بحيث لم ينقص من أصل المال شيء سواء زاد فيها بعملهم أو لا ، وانّما قال في الآية الآتية : وارزقوهم منها لان المعطى هناك من أصل المال (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) لا ازدراء فيه ولا لوم (وَ) امّا اموال اليتامى ف (ابْتَلُوا الْيَتامى) باختبار أحوالهم من أوان تميزهم وزمان صغرهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) وعدم تضييع للمال (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) عن الصّادق (ع) اشارة الى وجه من وجوه التّأويل في هذه انّه قال : إذا رأيتموهم يحبّون آل محمّد (ص) فادفعوهم درجة يعنى وابتلوا يتامى آل محمّد (ص) وراقبوا في تربيتهم ايّها المربّون ليتامى آل محمّد (ص) حتّى إذا بلغوا مقام الزّواج بالشّواهد الإلهيّة والواردات الغيبيّة فان آنستم منهم رشدا وثباتا في المحبّة وعدم إفشاء الأسرار بهوى النّفس فادفعوهم عن مقامهم الدّانى درجة كما هو شأن الائمّة (ع) والمشايخ في تربية أطفال الطّريق وأيتام السّلوك (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) تجاوزا عن حدّ المعروف (وَبِداراً) اى مسرعين في الأكل خوف (أَنْ يَكْبَرُوا) أو مبادرين كبرهم (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا) عن أموالهم بعدم اشتغاله بها عن معيشته أو بعدم حاجته إليها لغنائه في نفسه (فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً) لأجل اشتغاله عن مرمّة معيشته بواسطة إصلاح أموالهم أو كان فقيرا في نفسه (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) اى بقدر اجرة اشتغاله بها فانّ الأكل بالمعروف عند الشّرع والعقل ما كان بقدر اجرة اشتغاله عن إصلاح معيشته لا إصلاح معيشته عن أموالهم وان كان أضعاف عمله وبما فسّرنا يمكن الجمع بين المتخالفات من الاخبار في هذا المقام ولمّا كان السّورة المباركة أكثرها في آداب المعاشرة وتدبير


المنزل وسياسة المدن ، ومن جملة الحزم في المعاشرة ان تكون بريئا من المخاصمة متّقيا عن مواضع التّهمة حافظا لعرضك عن أفواه النّاس مجتنبا عمّا فيه الملامة وذلك بان يكون معاملتك مع الغير سالما عن الشّبهة والادّعاء الباطل ولا يمكن السّلامة الّا بان يكون ثالث بينك وبين من تعامله حتّى يكون مانعا لادّعائه باطلا ومطّلعا حتّى يرفع الشّبهة إذا وقعت ، علّم الله تعالى عباده ذلك فقال تعالى (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) ولا تخونوا فيما لم يطّلع هو ولا غيره عليه لانّ الله تعالى شاهد عليكم ويحاسبكم بدقيق ما عندكم وجليله (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) هذا بحسب التّنزيل وامّا بحسب التّأويل فيقال : إذا دفعتم الى يتامى آل محمّد (ص) بعد الاستحقاق ما يستحقّونه من رفع درجة فأشهدوا الله وملائكته عليهم حتّى يكونوا بمرأى من الله وملائكته ويكون اعطاؤكم بإذن من الله بل بمرأى منه بل بيده حتّى لا يكون أنفسكم واسطة بينهم وبين الله ويكون المحاسب هو الله وكفى بالله حسيبا (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) بيان لآداب التّوارث ونهى عن رسوم الجاهليّة من منع النّساء عن الإرث (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) من غير الورّاث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) من غير اولى القربى (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) تصدّقا عليهم وتطييبا لنفوسهم فانّه مورث لترويح المورّث وبركة الوارث ولا تؤذوهم بأيديكم وألسنتكم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) باستقلال العطيّة والاعتذار عنه والاحترام لهم أكثر من سائر الأوقات ولمّا كان الأمر بظاهره مفيدا للوجوب والمقصود الاستحباب لا الوجوب اختلف الاخبار في انّها منسوخة أو باقية فما أفاد نسخها خوطب بها من فهم الوجوب ، وما أفاد بقاءها خوطب بها من فهم الاستحباب ، ولمّا كانت النّفوس متفاوتة في التّناهى عن المنهيّات لانّ تناهيها امّا لخوف الافتضاح بين النّاس ، أو اطّلاع الغير عليها ، أو تسلّط الظّالم ، أو رفع البركة ، أو تضييع أولادها بالمكافاة ، أو سوء العاقبة والعذاب في الآخرة ذكر الله تعالى في مقام التّأكيد في امر اليتامى والتّهديد عن الخيانة والتّوانى عن المحافظة بعضا منها فقال تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) فانّ الدّار دار مكافاة وليعلموا انّ ما يدينون به في يتامى الغير يدانون به في يتاماهم (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في الخيانة في حقّهم والتّوانى في تربيتهم والخشونة في القول معهم (وَلْيَقُولُوا) لهم (قَوْلاً سَدِيداً) لا يجرئهم على عدم الانقياد ولا يزجرهم زائدا على قدر تربيتهم ، هذا تهديد عن المكافاة في حقّ الأولاد (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ) اى يدخلون بأكل اموال اليتامى (فِي بُطُونِهِمْ ناراً) اى ما يؤدّى الى أكل النّار أو دخول النّار (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) هذا تهديد عن سوء العاقبة والعذاب في الآخرة (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي) ميراث (أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لوجوه كثيرة ذكرت في الاخبار وغيرها (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ممّا ترك (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) هذا أحد مواضع الحجب ولا يحجب الامّ عن نصيبها الا على الّا متعدّد اقلّه اثنان


ولفظ الاخوة أيضا يدلّ عليه فانّه لا يطلق على الواحد والأختان بمنزلة أخ واحد (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فتتصرّفون في أموالكم بأهويتكم وتعطون البعض وتحرمون البعض بل النّافع لكم ان تنقادوا لقسمة الله وتكلوا الى حكم الله فانّه أنفع لكم ولآبائكم وأولادكم اعتراض مؤكّد لتسليم القسمة الى حكم الله تعالى ، يوصيكم بهذه القسمة وصيّة (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أو فرض هذه القسمة فريضة من الله فلا تجاوزوا وصيّته وحكمه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلا ينبغي للجاهل العاجز ان يخالفه ويغيّر ما امره (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) والمراد بها هنا الاخوة والأخوات من جهة الامّ خاصّة وللآية وجوه عديدة بحسب الاعراب والمعنى لا يتغيّر المقصود بها (أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) بالزّيادة على الثّلث أو بقصد الإضرار بالإقرار على الوارث يوصيكم (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ) فلا تخالفوه (حَلِيمٌ) فلا تغتّروا بعدم تعجيل مؤاخذته واحذروا في العاقبة من معاقبته (تِلْكَ) الّتى أمرناكم بها من آداب المعاشرة في حقّ اليتامى والأزواج والتّوارث (حُدُودُ اللهِ) الّتى من تجاوز عنها افترسه الغيلان ومن دخل فيها كان آمنا (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في المحافظة على حدوده صار من خواصّ الله ، ومن صار من خواصّ الله (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) آية الفروض والأنصباء وان كانت مجملة غير وافية بتمام الفروض ولا ببيان الزّيادة على الفروض ولا النّقيصة عنها لكن أهل الكتاب الّذين نزل فيهم بيّنوه لنا فلا حاجة لنا الى ما قاسته عقولنا النّاقصة ومسئلة العول والتّعصيب الّتى هي من أمّهات ما تخالف العامّة والخاصّة فيها نشأت من الاعراض عن أهل الكتاب والاتّكال على العقول النّاقصة في كلّ باب (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) هذه الآية في كيفيّة سياسة الخارجين من الحدود (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) فاطلبوا من القاذف اربعة رجال من المؤمنين (فَإِنْ شَهِدُوا) بالكيفيّة المعتبرة في الشّهادة على الزّنا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) لمّا كان هذه الآية في ابتداء تأسيس السّياسات لم يشدّد في السّياسة ، ولمّا تمّ الإسلام وقوى أنزلت سورة النّور والحدّو الرّجم للزّانى والزّانية ولذا قالوا نسخت هذه الاية بما في سورة النّور والسّبيل هو الحدّ والرّجم (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) بزجر الرّجل وحبس المرأة (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) وخلّوا سبيلهما (إِنَّ اللهَ كانَ


تَوَّاباً رَحِيماً) يتوب على من تاب ويرحم على من ندم ، ولمّا أوهم من نسبة وصف التّوبة والرّحمة اليه تعالى انّه يتوب على العاصي اىّ عاص كان استدركه فقال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) يعنى انّ التوبة حالكونها واجبة على الله بمقتضى وعده وإيجابه ليست الّا (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ويجوز ان يكون على الله خبرا.

تحقيق كون السّيّئات تماما بجهالة

اعلم انّه تعالى خلق اوّل ما خلق عالم العقول الكلّيّة الّتى يعبّر عنها بالقلم والملائكة المقرّبين والكتاب المبين وغير ذلك من الأسماء اللائقة المطلقة عليها ، ثمّ عالم العقول العرضيّة الّتى تسمّى في لسان الحكماء بأرباب الأنواع وأرباب الطّلسمات وبالأرواح والصّافّات صفّا ، ثمّ عالم النّفوس الكلّيّة الّتى تسمّى باللّوح المحفوظ والمدبّرات امرا ، ثمّ عالم النّفوس الجزئيّة الّتى تسمّى بالملائكة ذوي الاجنحة وبالقدر العلمىّ ولوح المحو والإثبات وبعالم الملكوت العليا وبعالم المثال والأشباح النّوريّة ، ثمّ عالم الأجسام علويّة كانت أو سفليّة من العناصر ومواليدها وتسمّى بالأشباح الظّلمانيّة والقدر العينىّ ، ثمّ عالم الأرواح الخبيثة الّتى هي الشّياطين والجنّة والأرواح البشريّة الّتى تلحق بها وتسمّى بعالم الملكوت السّفلىّ وهذا العالم بحسب رتبة الوجود تحت عالم الطّبع كما انّ عالم المثال النّورىّ فوق عالم الطّبع ، وهذا العالم أنكره كثير من الحكماء القائلين بالأشباح النّوريّة والأجسام المجرّدة الّتى تسمّى عندهم بعالم المثال وهم اتباع صاحب الاشراق ، والمشّاؤن أنكروا المثال النّورىّ فضلا عن الظّلمانىّ وقالوا : انّ الموجود الممكن امّا مجرّد صرف أو مادّىّ صرف وامّا المتقدّر المجرّد عن المادّة فلا وجود له ، وامّا المتكلّمون والفقهاء فليس شأنهم البحث عن أمثال هذا من حيث اشتغالهم بالفقه والكلام فانّ موضوع الفقه افعال العباد من حيث الصّحّة والفساد الشّرعىّ ، وموضوع الكلام العقائد الدّينيّة المأخوذة عن المسلّميّات ، والدّليل على وجود العالمين شهود أهل الشّهود لهذين العالمين ومنامات عامّة الخلق ورؤيتهم في المنام الملذّات والموذيات ومطابقة رؤياهم للواقع في بعض الأوقات ، ولو لا شهودهم لتينك في عالم محقّق مطابق لما في هذا العالم محيط به لما طابق الواقع وخلوّ المثال النّورىّ عمّا يؤذى دليل على المثال الظّلمانىّ ، وتصرّفات أهل الشرّ في هذا العالم مثل تصرّفات أهل الخير شاهد على وجود المثال الظّلمانىّ واحاطته بهذا العالم ، واطّلاع أهل الشّرّ على المغيبات واشرافهم على الخواطر كاطّلاع أهل الخير يشهد بذلك ، وإشارات الكتاب وشواهد السّنّة على وجود هذا العالم كثيرة ، فتح الله عيوننا بها ، ولمّا كانت العوالم تجلّياته تعالى شأنه وأسماؤه اللّطفيّة سابقة على أسمائه القهريّة كان خلق العوالم النّوريّة بأرواحها وأشباحها من تجليّاته اللّطفيّة الخالصة ، ولمّا تمّ تجليّاته النّوريّة الخالصة في عالم المثال النّورىّ تجلّى بأسمائه اللّطفيّة والقهريّة فصار عالم الطّبع موجودا ، ثمّ تجلّى بأسمائه القهريّة بحيث كان اللّطف مقهورا تحت القهر فصار عالم المثال السّفلىّ موجودا ، وبوجه آخر لمّا انتهى تجلّياته تعالى الى عالم الطّبع وقفت وما نفذت عنه لكثافته واظلامه فانعكست تلك التّجليّات كانعكاس الضّوء عن المرآة فصار ذلك العكس مثالا لهذا العالم ، نوريّا صاعدا بإزاء المثال النّورىّ النّازل وحصل من كثافة هذا العالم ظلّ ظلمانىّ تحته فصار مثالا ظلمانيّا وهذا المثال الظّلمانىّ محلّ للّشياطين وأبالستها والجنّة وعفاريتها ، وبهذا العالم يصحّح الجحيم ودركاتها وحميمها وحيّاتها وجميع موذياتها وبه يتمّ الأرض وطبقاتها ، ولا حاجة لنا الى تأويل شيء ممّا ورد في الشّريعة المطهّرة من أمثال ما ورد في المعاد الجسمانىّ والجنّة والشّياطين وغير ذلك كما فعله المشّاؤن والاشراقيّون من الحكماء ، ولا الاكتفاء بمحض التّقليد والسّماع عن صادق من غير تحقيق وتفتيش عن حقيقة ما ورد ، كما قنع به الشّيخ الرّئيس في المعاد الجسمانىّ لإنكاره العالمين ، وكما قنع به المقلّدون


الّذين ليس شأنهم التّفتيش والتّحقيق بل نقول : هذا باب من العلم ينفتح منه الف باب لأهل التّحقيق والبصيرة ، وأهل الله من أهل المكاشفة اكتفوا في بيان هذا الباب بالاشارات من غير كشف حجاب اقتفاء لسنّة السنّة وسيرة الكتاب ولم يأت أحد منهم بما فيه تحقيق وتفصيل اتّباعا لأصحاب الوحي والتّنزيل ، ولأهل العالم السّفلىّ كاهل العالم العلوىّ لتجرّدهم عن المادّة قدرة وتصرّف في أجزاء العناصر والعنصريّات اىّ تصرّف شاؤا ، وللعنصريّات بواسطة مادّتها جهة قبول عنهم من غير إباء وامتناع ، ومن هنا وهم الثّنويّة لمّا كاشف رؤساؤهم هذين العالمين وشاهدوا تصرّف أهلهما في عالم العناصر فقالوا : انّ للعالم مبدئين نورا وظلمة أو يزدان واهريمن ، ومن هنا وهم الزّنادقة من الهنود لمّا كاشف رؤساؤهم العالم السّفلى من الملكوت وشاهدوا تصرّف اهله في عالم العناصر ولم يفرّقوا بين الأرواح الخبيثة والطيّبة ، لانّ للأرواح الخبيثة كالارواح الطيّبة نورانيّة عرضيّة مانعة عن ظهور ظلمتها لمن لا يشاهد الأرواح الطيّبة ، فقالوا انّ طريق الاتّصال بعالم الأرواح متعدّد ، طريق الأنبياء والرّياضة بالأعمال الشّرعيّة وهذا ابعد الطّرق ، وطريق الرّياضة بالمخالفة للشّرائع الإلهيّة وهذا أقرب الطّرق ، فيرون انّ أعظم الأعمال في هذا الباب سفك الدّماء وشربها وخصوصا دم الإنسان والزّنا وخصوصا مع المحارم فيسفكون الدّماء ويجعلونها في الدّنان ويشربون منها ويشربون من يدخلونه في طريقهم منها ويزنون مع النّساء المحصنات في حضور الأزواج ، ويهتكون الكتب السّماويّة بتعليقها في المزابل وغير ذلك من الشنائع وهم صادقون في انّها أعظم الأعمال في الوصول الى الأرواح ، لكنّهم مغالطون بين الأرواح الخبيثة والأرواح الطيّبة ويقصرون الأرواح في الأرواح الخبيثة ولا يدرون انّ الاتّصال بها اصطلاء في النّار ودخول في الجحيم مع الأشرار. وأمثال هذه المغالطات لأصحاب الملل والأديان أيضا كثيرة فيرون أقبح ما يأتونه حسنا عصمنا الله من العمه والعمى وحفظنا من السّفه والرّدىّ. والحاكم في العالم العلوىّ هو العقل الّذى هو حقيقة متحقّقة حقيقته عين التعقّل والإدراك ، والحاكم في العالم السّفلىّ هو إبليس الّذى هو حقيقة متحقّقة حقيقته عين الجهل ، وحديث العقل وجنوده والجهل وجنوده المروىّ عن الصّادق (ع) في الكافي اشارة الى هاتين لا الجهل الّذى هو عدم ملكة لا حقيقة له ، واخبار خلقة الإنسان من امتزاج الطينتين اشارة الى أنموذج العالمين وحيثيّة قبوله لتصرّف الطّرفين فكلّ من عمل سوء فبجهته الظّلمانيّة وحكومة إبليس الّذى هو الجهل وتسخيره ، وكلّ من عمل خيرا فبجهته النّوريّة وحكومة العقل فلا شرّ الّا بالجهل ولا خير الّا بالعقل فقوله تعالى : بجهالة بيان لانّه لا يكون السّوء الّا بجهالة يعنى الّا بتسخّر عامله للجهل لا تقييد لفعل السّوء ، وعن مولينا ومقتدانا ومن هو كالرّوح في أبداننا وعن أنفاسه القدسيّة أوراق أرواحنا جعفر الصّادق (ع) كلّ ذنب عمله العبد وان كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه (الى آخر الحديث) وفي إيراد لفظ السّوء مفردا غير مبالغة والتّقييد بالجهالة إشارات لطيفة الى انّ من له استعداد التّوبة بعدم ابطال الفطرة ، مساويه وان كانت كثيرة فهي قليلة مفردة في جنب ما يمحوها من الفطرة ، وانّها وان كانت بالغة في القبح فهي ضعيفة غير بالغة ، لأنّ مصدرها الجهالة العرضيّة وانّ مصدرها وان كان نفس هذا الإنسان لكن سببها الجهل الّذى هو مغاير لها بخلاف ذلك كلّه من لم يكن له استعداد التّوبة كما يأتى في الآية الآتية (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) اى من غير بعد عن دار العلم ومقامه الاصلىّ بالتمكّن في دار الجهل والتّجوهر به بابطال الفطرة سواء كان مع القرب الزّمانىّ أو مع البعد الزّمانىّ حتّى لا ينافي الاخبار في سعة زمان التّوبة ولا يبقى بين من ذكر في الآيتين واسطة (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) في وضع المظهر موضع المضمر وادائه باسم الاشارة وتقديمه على المسند وتكرار لفظة الله من تفخيم شأنهم وتأكيد


الحكم ما لا يخفى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) عطف فيه تعليل لانّ اقتضاء حكمته الّتى هي مراقبة الأمور الدّقيقة وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه جليلا كان أو حقيرا مع العلم باستعداد العباد واستحقاقهم حين توبة العبد وقربه من داره الاصليّة واستحقاقه للقبول والوصول الى داره قبول توبته (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) بيان وتأكيد لمفهوم الآية الاولى كأنّه تعالى قال : انّما التّوبة لهؤلاء لا لغيرهم ، وفي إيراد السّيّئات بالصّيغة الّتى فيها شوب مبالغة مجموعة محلّاة باللام من غير تقييد بالجهل اشارة الى انّ المسوّفين للتّوبة أبطلوا الفطرة ومن أبطلوا الفطرة صاروا متجوهرين بالجهل فلم يبق ميز واثنينيّة بين الجهل وذواتهم وانّ مساويهم لتجوهرهم بالجهل وان كانت قليلة القبح فهي بالغة في القبح ، وانّهم عاملون لجميع السّيّئات لتجوهرهم بالجهل الّذى هو مصدر الجميع ، وكلّ من تجوهر بالجهل كلّ ما عمل فهو سيّئة فكأنّه قال : ليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات جميعها (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) يعنى عاين الموت كما في الاخبار (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وفي هذه الآية من التّحقير والتّأكيد ما لا يخفى وهذه الآية كأنّها معترضة بين آيات الآداب لاستطراد ذكر التّوبة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) كانوا في الجاهليّة يرثون نكاح أزواج مورّثهم بالصّداق الّذى أصدقه المورّث فنهوا عنه (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) لا تمنعوهنّ عن النّكاح ضرارا (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) كما هو شائع في زماننا هذا (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ما يؤدّى الى الشّقاق مع الأزواج فانّه يحلّ لهم حينئذ الافتداء من المهر وغيره وخلعهنّ (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) حسن العشرة بما يستحسنه العقل والشّرع ممدوح مع كلّ أحد خصوصا مع من كان تحت اليد ولا سيّما الحرّة الّتى صارت مملوكة لك بسبب المهر (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) قيل كان الرّجل إذا أراد جديدة بهّت الّتى تحته ليفتدي منها ويصرفه في الجديدة فمنعوا منه (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ) مائه (إِلى بَعْضٍ) واستحلّ رحمه بما أعطاه (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) هو الكلمة الّتى جعلها الله ميثاقا اكيدا بين الأزواج ورتّب عليها احكاما كثيرة غليظة هي الأحكام الّتى للزّوج على الزّوجة وللزّوجة على الزّوج (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) وان علوا فتستحقّوا عليه العقوبة (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فانّه لا عقوبة عليه وذكر من النّساء بيان لا تقييد (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) لانّ ذوي مروّاتهم كانوا يسمّونه نكاح المقت والولد منه المقتىّ (وَساءَ سَبِيلاً) فانّه سبيل أهل الجهل ويؤدّى الى النّار في العاقبة ولم يجعلها الله تعالى في عداد المحرّمات الآتية فانّه حيث قال : وحلائل أبنائكم ينبغي ان يقول وخلائل آبائكم لانّ نكاح سائر المحرّمات لم يكن شائعا بينهم كشيوعه فكان توكيد تحريمه وافراده بالّذكر مطلوبا لشيوعه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) اى نكاحهنّ بقرينة الحال والمقام (وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ


الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) تعميم الامّهات للجدّات والبنات للاحفاد ممّا يفيده ظاهر اللّفظ ولا خلاف بين الفريقين في حرمتهما وان علون ونزلن وكذا العمّات والخالات وان علون وهذا بيان المحرّمات بالنّسب والملاك هو انّ اصولك وفروعك تماما واوّل فرع من اصولك والفروع الّتى نشأت من اوّل اصولك محرّمة بالنّسب والمحرّمات بالسّبب امّا بالرّضاع وامّا بالمصاهرة وامّا بالمانع فبيّنها تعالى شأنه بقوله تعالى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) بيان المحرّمات بالرّضاع مجملة بيّنها لنا أهل الكتاب (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) شروع في بيان المحرّمات بالمصاهرة.

اعلم انّ الأحكام تابعة للعنوانات والعنوانات لمصاديقها العرفيّة فكلّ من صدق عليها عرفا انّها امرأة فلان فامّها محرّمة عليه ، ومن لم يصدق عليها عرفا انّها امرأة فلان فظاهر الآية انّ أمّها لا تكون محرّمة النّكاح ولا محلّلة النّظر للرّجل ، وصدق هذه الاضافة امّا بان يكون للمرء يد عليها بعد العقد المحلّل أو خلطة وخدمة من الطّرفين أو تمتّع أو مجامعة أو غير ذلك من أسباب صدق هذه الاضافة ، امّا بمحض العقد متعة ففي صدق تلك الاضافة إشكال إذا كانت المعقودة صغيرة غير قابلة للاستتماع ، وحمل ما ورد في الاخبار من الاحتياج الى الدّخول مع منافاتها لظاهر الآية على ما ذكرنا من تصحيح صدق هذه النّسبة اولى من حملها على التّقيّة حتّى يلزم منه تحريم الفرج الحلال وتحليل النّظر الحرام كأنّهم (ع) قالوا : لا بدّ في التّحريم من صدق هذه النّسبة ، والدّخول أحد أسباب هذا الصّدق فما شاع عندهم من تمتيع الصّغائر لتحليل النّظر الى الامّهات فيه إشكال عظيم والاحتياط هو طريق السّداد وهو ان يجتنب من النّظر الى غير المواضع المستثناة من امّ المعقودة الصّغيرة وان يجتنب من تحليل بعضها أيضا أو لا يحوم حول مثل هذه الشّبهات.

تحقيق حرمة منظورة الأب والابن على الآخر

(وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ذكر في حجور كم لبيان علّة الحرمة لا انّه تقييد (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) تقييد للنّساء ولذا لم يكتف به وبيّن مفهومه فقال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) وان نزلوا لا الّذين سمّاهم النّاس أبناءكم ، وحليلة الرّجل تصدق على المرأة بمحض العقد المحلّل وامّا ملك اليمين فهي وان كانت محلّلة بمحض عقد الملك لكنّها لا تحرم بمحض هذا العقد من الابن أو الأب على الآخر ، لانّ عقد الملك قد يقع لمحض الخدمة وقد يقع لمحض التمتّع وقد يقع لهما فاذا وقع عقد الملك فان ظهر أمارات التّمتّع في هذا العقد من لمس وتقبيل ونظر بشهوة فهو بمنزلة عقد النّكاح يحرّم مملوكة الابن على الأب وبالعكس ، وان لم يظهر تلك الأمارات فهي كسائر المملوكات وله التّصرّف فيها باىّ نحو شاء ولا تصير محرّمة كحرمة المصاهرة فمنظورة الأب وملموسته بشهوة ان كانت مملوكة له فهي محرّمة على الابن وبالعكس ، وامّا الحرّة فإلحاقها بالمملوكة قياس مع الفارق وليس عليها نصّ منهم عليهم‌السلام (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فانّه لا عقوبة عليكم فيما مضى وكان بجهالة منكم وهذا شروع في بيان المانع (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يغفر ما يقع عن جهل (رَحِيماً) لا يؤاخذ من لا يعمّد في مخالفته.


الجزء الخامس

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) لكون بضعهنّ مملوكا للغير (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) كالمسبيّات اللّاتي لهنّ أزواج كفّار فانهنّ محلّلة وكالاماء اللّاتي تحت العبيد فانّ أمرهم بالاعتزال وكذا بيعهنّ بمنزلة الطّلاق (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) اى كتب الله تلك الأحكام كتابا عليكم (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) هذا أيضا مجمل بيّنه لنا اهله فانّ سائر المحرّمات بالرّضاع والجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها بغير إذنهما غير مذكورة في الآية السّابقة وغير محلّلة (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) حافظين لأنفسكم بالنّكاح الشّرعىّ غير زانين (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) اى فالنّساء اللّاتي استمتعتم بهنّ من جملة النّساء فآتوهنّ اجورهنّ أو فالمال الّذى استمتعتم به من النّساء فاتوه ايّاهنّ ، ووضع الأجور على هذا موضع الضّمير وفي لفظ الاستمتاع وذكر الأجور وذكر الأجل على قراءة الى أجل دلالة واضحة على تحليل المتعة (فَرِيضَةً) فرضت فريضة أو حالكونها مفروضة عليكم بالعقد (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من إعطاء الزّيادة على الفريضة أو استقاطهنّ شيئا من الفريضة (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) وفيه اشعار بكون الأجر من أركان عقد التّمتّع كما عليه من قال به ، وروى عن الباقر (ع) لا بأس بان تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما تقول : استحللتك بأجل آخر برضى منهما ولا تحلّ لغيرك حتّى تنقضي عدّتها وعدّتها حيضتان (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فحلّل المتعة عن علم ولغايات منوطة بالمصالح والحكم (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) فانّ في نكاحهنّ تكاليف شاقّة من النّفقة والكسوة والمسكن والقسامة «ف» لينكح (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فاكتفوا بظاهر الايمان فانّ الله هو العالم بالسّرائر فربّ امة كانت أفضل في الايمان من الحرّة والامة بحسب المعاش اخفّ عليكم (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في النّسبة الى آدم (ع) والى الإسلام (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) فانّه بدون الاذن زنا (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ) عفايف (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) زانيات (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) اخلّاء في السّرّ (فَإِذا أُحْصِنَ) بالتّزويج (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) زنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) يعنى انّ العبيد والإماء يضربون نصف الحدّ فان عادوا الى ثماني مرّات هكذا يحدّون وفي الثّامنة يقتلون ، وعن الصّادق (ع) انّما صار يقتل في الثّامنة لانّ الله رحمه ان يجمع عليه ربق الرّقّ وحدّ الحرّ ، وعن الباقر (ع) في امة تزني قال تجلد نصف حدّ الحرّ كان لها زوج أو لم يكن لها زوج ، وفي رواية لا ترجم ولا تنفى (ذلِكَ) اى ترخيص نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) اى التّعب والأذى من العزوبة (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء بالتّعفّف (خَيْرٌ لَكُمْ) لانّهنّ في الأغلب غير اصيلة غليظة الطّبع والمضاجعة معهنّ مؤثّرة فتؤثّر في نفوسكم وامزجتكم وأولادهنّ يصيرون مثلهنّ ولا ينبغي لنطفكم ان تقع في ارحامهنّ فيتولّد لكم منهنّ ما لا يليق بكم (وَاللهُ غَفُورٌ) للسّوءة اللّازمة من نكاحهنّ (رَحِيمٌ)


بالتّرخيص لكم في نكاحهنّ حين العنت وترجيح التّعفّف عنهنّ مهما أمكن حتّى لا يرد عليكم من مضاجعتهنّ سوءة (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما هو صلاحكم في معاشكم ومعادكم بتلك الأحكام من تحريم المحرّمات وتحليل المحلّلات وتسنين الاستمتاع بالنّساء والتّرخيص في المكروهات من نكاح الإماء وقت مساس الحاجة والتّعفّف عنهنّ مهما أمكن (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء لتقتدوابهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) بخروجكم عن مشتهى أنفسكم ودخولكم تحت امره بامتثال أوامره ونواهيه (وَاللهُ عَلِيمٌ) فيعلم ما هو أصلح بحالكم (حَكِيمٌ) فلا يأمركم بما ليس فيه صلاحكم (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) كرّره تأكيدا وتصويرا للمقابلة ترغيبا في اتّباع أوامره واجتناب مخالفتها (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) كمن يمنع عن الاستمتاع بالنّساء (أَنْ تَمِيلُوا) عن الطّريق المؤدّى الى نجاتكم (مَيْلاً عَظِيماً) فهو حقيق بالاتّباع وهو احقّاء بالاجتناب (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) بتشريع المتعة وترخيص نكاح الإماء حتّى لا يثقل عليكم العزوبة ، وفي الآية تعريض بمن يمنع عن المتعة وانّه من الّذين يتّبعون الشّهوات ويريد إخراجكم من سنن الأنبياء وان يثقل عليكم العزوبة حتّى تدخلوا في الزّنا (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) فلا يمكنه مقاومة الشّهوة والصّبر عنها حتّى يدخل فيما يضرّه من الزّنا ولذا رخّص له المتعة ونكاح الإماء وقت خوف العنت ورجّح له التّعفّف عن الإماء مع الإمكان حتّى لا يجانسهنّ بالمضاجعة لضعفه.

تحقيق تعميم الاكل والبطلان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تأديب في الأموال والأنفس.

اعلم انّ الألفاظ كما سبق موضوعة للحقائق باعتبار عناوينها المرسلة من غير اعتبار خصوصيّة من خصوصيّات المصاديق فيها كلّيّة كانت أم جزئيّة ، فانّ لفظة زيد مثلا موضوعة للذّات المخصوصة من غير اعتبار حالة وخصوصيّة من حالاتها وخصوصيّاتها ، فانّه في حال الصّبا زيد وفي حال الشّيخوخة أيضا زيد وكذا بحسب تجسّمه وتجرّده فانّه في حالكونه مع المادّة زيد وفي حالكونه فارغا من المادّة زيد متقدّرا زيد ومجرّدا عن التقدّر زيد ، فلا شيء من خصوصيّات الأحوال ولا من خصوصيّات النّشئات معتبرا في وضعه ولا في إطلاقه ، واستغراب من لا يتجاوز إدراكه عن عوالم الحسّ وحصرهم المفاهيم على المصاديق الحسيّة حجّة لهم لا لنا ، فانّهم بحسب نشأتهم لا يدركون مصاديق سائر النّشئات فلا يمكنهم تعميم المفاهيم وفي الاخبار نصوص وإشارات الى ما ذكرنا ، بصّرنا الله تعالى بها. فالأكل غير معتبر فيه خصوصيّات الاكل الحيوانىّ من إدخال شيء في الفم الحسّىّ ومضغه بالأسنان وبلعه وإدخاله في البطن ولا خصوصيّات الاكل ولا خصوصيّات المأكول ولا خصوصيّات شيء من النّشئات فهو اسم لفعل ما به قوام الفاعل وقوّته وازدياده باىّ نحو كان وفي اىّ نشأة وقع فلعب الأطفال أكل لهم بحسب أكل هو الخيال الحيوانىّ اللّعبى ، وتجارة التّجار وزراعة الزرّاع ونكاح النّكّاح أكل لهم بحسب قوّة من قواهم بل فعل كلّ فاعل في اىّ نشأة كان أكل له ، والمال اسم للمملوك فكلّما كان الملك فيه أقوى كان بصدق اسم المال اولى ، فالاعراض الدّنيويّة الّتى لا حيثيّة مملوكيّة لها الّا ما اعتبره الشّارع أو ما اعتبره العرف حيث يعدّون ما تحت يد الرّجل ماله ومملوكه مال والقوى النّفسانيّة الّتى تحت تصرّف النّفس ولا حيثيّة لها الّا حيثيّة المملوكيّة للنّفس اولى بصدق المال ، وكذا العلوم والصّنائع الّتى


صارت ملكة أو غير ملكة لكن كانت ثابتة في خزانة العقل مال ، والخطاب في بينكم لجماعة الّذكور سواء كانوا في العالم الكبير أو في العالم الصّغير الانسانىّ في نشأة الطّبع أو في غيرها والنّساء مرادة أيضا تغليبا ، والباطل يقال لفعل لا غاية له أو لا غاية عقلانيّة أو عرفيّة له ، ولفعل لم يصل الى غايته ، ولسنّة وطريقة لم تبتن على أساس مستحكم ، ولسنّة لم تبتن على أساس الهىّ ، ويقال لما لا حقيقة له أصلا كالاعدام ، ولما لا حقيقة له في نفس الأمر كالسّراب ، ولما لا تحقّق له بالذّات بل بالعرض كالماهيّات ، ولما لا تحقّق له بنفسه بل بالعلّة كالوجودات الامكانيّة ، ولما اختفى تحقّقه بحيث يكون الغالب عليه الاعدام كالملكوت السّفلى فانّها باطلة لغلبة الاعدام عليها وان كان يصدق عليها أيضا بسائر معانيه ، فالآية الشّريفة بحسب مصاديقها لها وجوه عديدة بعضها فوق بعض : فاوّل مصاديقها ما هو أقرب الى فهم العوام من الاكل المعروف بالمضغ والبلع ومعناها لا تأكلوا بالمضغ اعراضكم الدّنيويّة بينكم بالطّريق الباطل الّذى لم يسنّه الشّارع ولم يبحه ، أو بالمبدء الباطل الّذى هو النّفس والشّيطان فانّ الحاكم والمحرّك للفعل امّا النّفس والشّيطان أو العقل والرّحمن وقد علمت انّ الشّيطان باطل لغلبة الاعدام عليه ، وثانيها لا تصرفوا أموالكم الدّنيويّة بينكم بالباطل بمعنييه وهو أيضا قريب من فهم العامّة ، وثالثها لا تفعلوا أفعالكم بينكم بالباطل بمعنييه ، ورابعها لا تفعلوا أفعالكم التّكليفيّة القالبيّة النّبويّة بالمبدء الباطل أو بالغرض الباطل ، وخامسها لا تفعلوا أفعالكم التّكليفيّة القلبيّة الولويّة بينكم بالباطل بمعنييه ، وسادسها لا تصرفوا قواكم بينكم بالباطل ، وسابعها لا تصرفوا ولا تأخذوا علومكم ، وثامنها لا تصرفوا مدد حيوتكم ومادّة حيوتكم ، وتاسعها لا تأخذوا مشاهداتكم ومشهوداتكم (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) بما سبق يمكن التّعميم (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) امّا مربوط بالمعطوف عليه لانّ صرف الأموال من غير معيار مورث لقتل الأنفس والنّهى عنه كالعلّة للنّهى عنه أو حكم مستقلّ وتعميمه لا يخفى (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) علّة لنهيه تعالى عن صرف الأموال بالباطل وقتل الأنفس فانّ رحمته داعية الى هذا النّهى كسائر التّكاليف (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الصّرف والقتل (عُدْواناً) لعدوان أو فعل عدوان أو عدى عدوانا أو حالكونه عاديا أو يفعل عدوانه ذلك على ان يكون تميزا يعنى من يفعل ذلك عن عمد وتجاوز عن حدود الله أو عن عداوة من نفسه (وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) كأنّه قيل : وايّنا يخلو من صرف المال بالباطل خصوصا على ما فسّر؟ ـ فقال : تسلية وتطييبا ان تجتنبوا (الى آخر الآية) وقد اختلف الاخبار والأقوال في بيان الكبيرة ففي بعض هي سبع وفي بعض أكثر مع اختلاف في بيان أنواعها فلا بدّ من ميزان به يوزن الأعمال ويجمع بين الاخبار والأقوال.

تحقيق الكبير والصّغير

فنقول : الأفعال من حيث انّها حركات وسكنات لا توصف بالحسن والقبح لاشتراكها في تلك الحيثيّة ولا من حيث نسبتها الى الإنسان لاشتراكها فيها أيضا ، ولا من حيث أنواعها المخصوصة كالصّوم والصّلوة والجهاد والقتل والنّهب والفساد لاتّصافها بالحسن تارة والقبح اخرى ، بل الحسن والقبح يلحقان الأعمال من حيث نسبتها الى العقل والجهل فكلّ عمل يصدر عن الإنسان بحكومة العقل وطاعته خصوصا عقل الأنبياء والأولياء الّذين هم العقول الكلّيّة المحيطة في اىّ صورة كان العمل فهو حسنة وبحسب درجات الطّاعة وقبول الحكومة بالشّدّة والضّعف تتفاوت درجات الحسنة بالشّدّة والضّعف والصّغر والكبر ، وكلّما صدر عن حكومة الجهل وطاعته خصوصا الجهل الكلّى الّذى هو


الشّيطان فهو سيّئة في اىّ صورة كان وبحسب تفاوت درجات الطّاعة وقبول الحكومة تتفاوت درجات السّيّئة بالشّدّة والضّعف والصّغر والكبر ، فمن أراد طاعة الله ومتابعة أوامره فكلّما صدر عنه بحسب هذه الارادة فهو حسنة لكنّها ضعيفة وإذا علم انّ أوامر العقل الّتى هي أوامر الله لا تتميّز عنده عن أوامر الجهل الّتى هي أوامر الشّيطان بل لا بدّ من بصير نقّاد وذي قلب وقّاد اتّصل بالعقل وأخذ من الله حتّى يبيّن له أوامر العقل من أوامر الشّيطان وذلك النّقّاد هو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) وعزم على الوصول اليه والأخذ منه ، فكلّما صدر عنه بحسب هذا العزم فهو حسنة أقوى من الاولى فاذا اتّصل بهذا العالم وعاهد معه وبايع على يده وانقاد له وأخذ الأحكام القالبيّة منه وهذا الأخذ والبيعة هو الإسلام فكلّما صدر عنه بحسب هذا الانقياد وهذا الأخذ فهو حسنة أقوى من سابقتها. وإذا علم انّ الإسلام واحكام القالب قوالب لأحكام الباطن ولا يمكن له الوصول الى حضرة العقل الّا من طريق الباطن ولا يمكن السّلوك من طريق الباطن الى تلك الحضرة الّا برفع المانع منه وارتكاب الباعث عليه وعلم انّه لا يمكنه معرفة المانع والباعث الّا بالأخذ من بصير حكيم وعزم على الوصول اليه والأخذ منه ففعله من جهة هذا العزم حسنة أقوى ، وإذا وصل الى هذا الحكيم وبايع معه على قبول احكام الباطن وأخذ احكام الباطن منه وذلك الأخذ والبيعة هو الايمان صار مؤمنا وصار أفعاله من هذه الجهة حسنات أقوى ممّا قبلها ، وللايمان بعد ذلك درجات حتّى وصل الى العقل وتحقّق به وحينئذ يصير أصل الحسنات وفرعها واوّلها وآخرها ؛ ان ذكر الخير كنتم أصله وفرعه واوّله وآخره ، وبالعكس من ذلك من تحقّق بالجهل فهو أصل السّيّئة وفرعها واوّلها وآخرها ومن تحقّق من افراد البشر بالجهل كان أقوى في السّوء من الجهل نفسه كما انّ المتحقّق بالعقل أقوى من العقل ، ولذا كان علىّ (ع) مقدّما على العقل وجبريل وعدوّه مقدّما على الشّيطان وكلّ ذي سوء حتّى يحمل عليه معصية كلّ ذي معصية ، ومن تمكّن في طاعة الجهل بحيث لم يبق عليه اثر من طاعة العقل فكلّما فعل فهو معصية كبيرة ومن لم يتمكّن في طاعة الجهل بل بقي عليه اثر من طاعة العقل أو ارادة طاعة العقل فما فعل من جهة طاعة الجهل فهو سيّئة مغفورة ان شاء الله ، ومن غلب عليه طاعة العقل أو ارادة طاعة العقل ويطرء عليه طاعة الجهل حينا فما فعل من جهة طريان طاعة الجهل فهو لمّة ممحوّة ان شاء الله ، وبين المراتب المذكورة في الحسنات والسّيّئات درجات غير محصورة بحسب الشّدّة والضّعف والمذكورة أمّهاتها ، هذا بحسب نسبة الحسنة والسيّئة الى الفاعل ؛ وبهذا الاعتبار يصير شرب دعبل صغيرة وصلوة النّاصبين كبيرة ولذلك ورد : لا صغيرة مع الإصرار ، اى مع التّمكّن في طاعة الجهل بحيث كلّما تمكّن من تلك المعصية وقع فيها : ولا كبيرة مع الاستغفار ، اى مع بقاء طاعة العقل بحيث يحمله على الاستغفار وقد تعتبر النّسبة بين أنواع الحسنات والسّيّئات مع قطع النّظر عن الفاعل أو مع اعتبارها الى فاعل واحد من جهة واحدة فيعدّ بعضها أحسن من بعض في الحسنات وبعضها اغلظ من بعض في السّيّئات ؛ كالوطى الحرام إذا اعتبر من فاعل واحد فانّه مع المحصنة والّذكران اغلظ من الوطي مع غير المحصنة ، والوطي مع امرأة غير محصنة اغلظ من الوطي مع البهائم ، والوطي الحرام اغلظ من النّظر الحرام ، فمعنى الآية ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه باجتناب التّمكّن في طاعة الجهل نكفّر عنكم سيّئاتكم الّتى تصدر عنكم بطاعة الجهل ونمحو لمّاتكم الّتى تعرض عليكم (وَ) بعد تكفير اثر الجهل الّذى يمنعكم من الدّخول في دار كرامتي ومحوه (نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) إدخالا أو مكانا كريما (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) التّمنّى طلب امر محال أو طلب شيء من غير تهيّة أسباب وصوله ويجوز ان يراد كلّ من المعنيين والمراد بما فضّل الله امّا النّعم الصّورية من سعة العيش والأمن والصحّة والقوّة والعظمة في الجسم


والجاه والمسكن والزّوج والقوى والجوارح وغيرها أو النّعم الباطنة من الأخلاق والعلم والحكمة وحسن التّدبير والالفة والزّهد والطّاعة وغيرها ، والتّعبير عن النّعم بما فضّل الله للاشارة الى علّة النّهى عن التمنّى والأمر بالسّؤال من فضله ولمّا كان النّهى واردا على التمنّى اى الطّلب من دون حصول الأسباب مقيّدا بكون المطلوب النّعم المتفضّل بها الله على البعض كان المراد النّهى عن كلّ من التمنّى وقيده كأنّه قال : لا تطلبوا شيئا بدون أسباب حصوله لانّه (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فتوسّلوا بالأسباب ولا تطلبوا نعم بعضكم لانّها من فضل الله عليه فتوجّهوا الى الله (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) فاشار الى علّة النهيين ومفهوم مخالفتهما مع إيجاز ، والسّؤال امّا بلسان القال ولا اعتداد به فانّ الاجابة والإفضال بقدر الاستعداد ، أو بلسان الاستعداد والحال سواء كان مقترنا بلسان القال أو لم يكن فانّه لا يخفى على الله قدر الاستعداد وخفايا الاستحقاق (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فكيف يخفى عليه قدر استحقاقكم ولمّا أشار في هذه الآية الى توقّف الإفضال على الاستعداد والاستحقاق بالكسب وتوجّه ان يقال انّ الله تعالى قد يتفضّل على عباده بمال مورّثهم ولا استعداد بالكسب لهم هنا أشار تعالى الى الاستعداد والكسب هناك أيضا فانّ الاستعداد والكسب اعمّ من ان يكونا بالاختيار أو بالتّكوين فانّ التّوارث لا يكون الّا بين متناسبين بالنّسبة الجسمانيّة وبهذه النّسبة يكتسب كلّ من المتوارثين كيفيّة من الآخر وسنخيّة له بها يستحقّ إفضال الله بمال أحدهما على الآخر وأيضا كلّ منهما لحمة من الآخر أو كاللّحمة فكسب أحدهما اختيارا كأنّه كسب الآخر أو بين متناسبين بالنّسبة الكسبيّة الاختياريّة كعقد الملك في مولى المعتق وعقد ضمان الجريرة في ضامن الجريرة وعقد الإسلام والايمان في النّبىّ (ص) أو الامام (ع) فقال (وَ) ليس للرّجال والنّساء ان يرثهم كلّ أحد منتسبا أو غير منتسب بل (لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) مخصوصة في الإرث اى أقارب مخصوصة أو ذوي نسب مخصوصة نتفضّل عليهم باستحقاق نسبة القرابة أو نسبة العقد يرثون (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) عقد الملك أو عقد ضمان الجريرة أو عقد الإسلام والايمان يعنى إذا لم يكن قريب نسبىّ فالمولى المعتق بالتّفصيل الّذى ذكر في الفقه ، فان لم يوجد فضامن الجريرة ، فان لم يوجد فالنّبىّ (ص) أو الامام (ع) ، وعلى ما بيّناه فلا حاجة الى القول بالنّسخ في الآية كما قيل انّه كان الرّجل يعاقد الرّجل بنحو عقد ضمان الجريرة فيكون للحليف السّدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم اولى ببعض (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) المقرّر فانّ لهم استحقاقا وكسبا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) فيشهد دقائق الاستحقاق بحسب النّسب وأتى هنا بشهيدا وهناك بعليما لدقّة الكيفيّة الحاصلة من النّسب كأنّها لا يمكن تمييزها الّا بالمشاهدة فانّ العلم في الأغلب يستعمل في كلّيّات الأمور وفي العلم الحصولىّ والشّهود في جزئيّات الأمور والعلم الحضورىّ (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) قائمون عليهنّ قيام الولاة على رعيّتهم مراقبون احوالهنّ مقيمون اعوجاجهنّ كأنّ المنظور كان بيان وجه استحقاق التّوارث بينهما فانّه وان كان مستفادا من ذكر عقد الايمان لكن لظهور عقد الايمان في الثّلاثة السّابقة كان يمكن اختفاء هذا ثمّ اتبعه ببيان آداب المعاشرة بين الأزواج (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بتفضيله الرّجال في الجثّة والقوّة والإدراك وحسن التّدبير وكمال العقل (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) يعنى لهم فضيلة ذاتيّة وفضيلة عرضيّة بكلّ يستحقّون التّفضيل والتّسلّط فعليهم مراقبتهنّ


وسدّ فاقتهنّ وقضاء حاجتهنّ وعليهنّ الانقياد وقبول نصحهم وحفظ غيبهم (فَالصَّالِحاتُ) منهنّ لا يخرجن ممّا هو شأنهنّ وحكمهنّ بل هنّ (قانِتاتٌ حافِظاتٌ) لانفسهنّ واموال أزواجهنّ (لِلْغَيْبِ) اى في غيبهنّ عن الأزواج أو غيب الأزواج عنهنّ على ان يكون اللّام بمعنى في أو حافظات للأشياء الغائبة عن نظر أزواجهنّ من أموالهم وانفسهنّ (بِما حَفِظَ اللهُ) نسب الحفظ هنا والتّفضيل هناك الى نفسه اشارة الى انّ كلّ من اتّصف بصفة كمال انّما هو من الله لا من نفسه (وَ) امّا غير الصّالحات (اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) خروجهنّ عن طاعتكم فآداب المعاشرة معهنّ مداراة بالنّصح وان لم يكففن فبالمهاجرة قليلا بحيث لا تنافي قسامتهنّ فان لم تنجع فيضربهنّ بحيث لم يقطع لحما ولم يكسر عظما (فَعِظُوهُنَ) بالقول (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) بالاستدبار عنهنّ (وَاضْرِبُوهُنَ) فبين الإفراد ترتيب (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بالإيذاء والتّحكّم بما لم يرخّصه الشّارع (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فلا تغفلوا في اعلائكم على النّساء عن علوّ الله عليكم فيورثكم الغفلة التّعدّى عليهنّ (وَإِنْ خِفْتُمْ) يا أولياء الزّوجين أو ايّها الحكّام (شِقاقَ بَيْنِهِما) اى الاختلاف والنّزاع فانّ كلّا من المتنازعين في شقّ غير شقّ الآخر «ف» أصلحوا بينهما فانّه من لوازم الايمان والقرابة والحكومة ولا تكلوهما الى أنفسهما ف (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) يكونان بحسب القرابة شفيقين لهما مريدين للإصلاح ويكون ارادتهما للإصلاح مؤثّرة فيهما فانّه كما يكون امزجة الأقرباء متناسبة في الصّحّة والمرض سريعة التّأثّر من أحوالهم في الأغلب كذلك يكون نفوسهم متناسبة في الأغلب سريعة التّأثّر فالحكمان من الأقرباء (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) بينهما يؤثّر ارادتهما في نفوس الزّوجين ويستعدّان بذلك التأثّر لافاضة التّوافق من الله بينهما وان يستعدّا لذلك (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما به يستعدّان للتّوافق فيأمركم به (خَبِيراً) بكيفيّة التّوافق وهو أهل خبرة الإصلاح (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) لمّا أراد أن يبيّن آداب حسن النّسبة مع الاحقّاء ببذل المحبّة وحسن الصّحبة قدّم نفسه لانّه احقّ الاحقّاء بحسن النّسبة وبذل الخدمة وبيّن طريق حسن النّسبة معه بإخلاص العبوديّة ونفى الشّركة في العبوديّة لانحصاره فيهما وأطلق طريق حسن النّسبة مع غيره لعدم انحصاره في امر مخصوص ورتّب المستحقّين للخدمة بحسب ترتّبهم في الاستحقاق ولتعميم الوالدين للرّوحانيّين واستحقاقهما التّفرّد في النّظر وعدم الإشراك بهما ولذلك فسّر الكفر والشّرك في الآيات في تفاسير المعصومين (ع) بالكفر والإشراك بعلىّ (ع) أو بالولاية قرنهما بنفسه ، وأسقط الفعل وأخّر المصدر ليوهم انّ قوله بالوالدين عطف على الجارّ والمجرور وانّ المعنى (وَ) لا تشركوا (بِالْوالِدَيْنِ) أحسنوا (إِحْساناً) بهما (وَبِذِي الْقُرْبى).

تحقيق الوالدين وسائر الأقرباء وتعميمهم

والوالدان هما اللّذان باعدادهما وحركاتهما المخصوصة أو جد الله نطفتك وأصل مادّتك وهذه السّببيّة كلّما كانت في شيء أقوى كان باسم الوالد أحرى وان كان العامّة العمياء يخصّون هذا الاسم بالمعدّ لنطفتك الجسمانيّة غافلين عن كيفيّة تولّدك الرّوحانىّ فالأفلاك والعناصر آباء للمواليد ، والعقل والنّفس الكليّان والدان لعالم الطّبع ، إذ بإلقاء الأفلاك بحركاتها الدوريّة وكواكبها الّتى هي كالقوى الانسانيّة الآثار على العناصر وقبول العناصر لها كتأثّر


النّساء عن الرّجال وقبول ارحامهنّ لنطفهم يتولّد المواليد وتنمو وتبقى وهي في بقائها ونمائها أيضا محتاجة الى تلك الآباء بخلاف حاجة الحيوان الى آبائها الجسمانيّة فانّها بعد حصول مادّتها وحصول قوام ما لمادّتها مدّة كونها في الرّحم غير محتاجة الى آبائها ، وبإلقاء العقل الكلّىّ نقوش العالم على لوح النّفس الكلّيّة الّتى هي كالبذور يوجد عالم الطّبع وعالم الطّبع في بقائه محتاج الى ذينك الوالدين ، هذا في العالم الكبير وامّا في العالم الصّغير الانسانىّ فبعد تسويته يوجد آدم الصّغير وحوّاء الصّغرى بازدواج العقل والنّفس وبازدواجهما يولد بنو آدم وذرّيّتهما ، وبازدواج الشّيطان والنّفس الامّارة يولد بنو الجانّ وذرّيّة الشّيطان ؛ هذا بحسب التّكوين في العالمين ، وامّا بحسب الاختيار والتّكليف وهو مختصّ بالإنسان الضّعيف فقد جرت السّنّة الإلهيّة ان يكون توليد المواليد الاختياريّة من القلب ومراتبه وجنوده الخلقيّة والعلميّة والعيانيّة بتعاضد نفسين مأذونتين من الله وايصالهما اثر الأمر الإلهيّ الى المكلّف بتعاضدهما لتطابق التّكليف والتّكوين فانّ الأوامر التّكليفيّة متسبّبة عن الأوامر التّكوينيّة وموافقة لها ، وان لم ندرك في بعضها كيفيّة التّوافق لعدم العلم بالتّكوين وتلك السّنّة كانت جارية من لدن آدم (ع) الى زماننا هذا وتكون باقيّة الى انقراض العالم ، وان لم يبق لها اثر ولا بين العامّة منها ذكر ولا خبر. فانّ صحّة الإسلام في الصّدر ودخول الايمان في القلب ما كان الّا بتعاضد شخصين يكون أحدهما مظهرا للعقل الكلّىّ والآخر مظهرا للنّفس الكلّيّة وأخذ هما البيعة العامّة النّبويّة أو البيعة الخاصّة الولويّة بالكيفيّة المخصوصة والميثاق المخصوص : انا وعلىّ (ع) أبوا هذه الامّة يهديك ؛ كلّ نفس معها سائق وشهيد يشهد لك ، (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) يكفيك فمحمّد (ص) وعلىّ (ع) مظهرا العقل والنّفس الكلّيّين وبالبيعة على أيديهما يتولّد جنود العقل الاختياريّة ، واعداؤهما مظاهر الجهل والنّفس الامّارة الكلّيّين وبالبيعة على أيديهم يتولّد جنود الجهل الاختياريّة ، وقد فسّر المعصومون (ع) الوالدين في القرآن بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) وفسّروا ان جاهداك على ان تشرك بى ما ليس لك به علم بالجبت والطّاغوت ، ويسمّى الصّوفيّة مظهر العقل بالمرشد ومظهر النّفس بالدّليل وبلسان الفرس «پير إرشاد وپير دليل» وبحسب تفاوت مظهريّتهما وتصرّفهما يكون أحدهما مظهرا لاسم الله أو الرّحيم والآخر مظهرا لاسم الرّحمن وباعتبار هذه المظهريّة والاثنينيّة قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) فانّ التّخيير والتّرديد ليس باعتبار اللّفظين فانّهما آلتا الدّعوة وليسا مدعوّين ولا مفهومى اللّفظين فانّهما أيضا عنوانا المدعوّين والمدعوّ لا محالة امر حقيقىّ لا امر ذهنىّ ، والذّات الاحديّة الّتى هي مصداق ذينك اللّفظين لا تكثّر فيه فلا بدّ وان يكون المدعوّ أمرين يكونان مظهرين لمفهومى هذين الاسمين حتّى يصحّ هذا التّرديد لا يقال : المراد ادعوا الذّات الاحديّة بلفظ الله أو بلفظ الرّحمن لانّه يقال : ظاهر اللّفظ غير هذا والحذف والإيصال في مثل هذا شاذّ ينافي الفصاحة وتكرار ادعوا ينافيه وجعل ادعوا بمعنى سمّوا أيضا بعيد ، فالمراد ادعوا مظهر اسم الله أو ادعوا مظهر اسم الرّحمن ، والدّعوة هي طلب المدعوّ للورود على الدّاعى والحضور عنده امّا لانّ المطلوب منه حضور ذاته عنده أو أمر غير ذاته يحصل من حضور ذاته وليس معناها مسئلة شيء من المدعوّ حاضرا كان أم غائبا وبهذا وأمثاله استشهد الصّوفيّة على انّ المطلوب من دعاء الله أو دعاء مظاهره هو حضور المدعوّ عند الدّاعى ويسمّونه حضورا وفكرا.

تحقيق تمثّل صورة الشّيخ عند السّالك

وبعضهم يقولون : لا بدّ ان يجعل السّالك صورة الشّيخ نصب عينيه ويسمّون هذا الجعل والتّصوير حضورا ويستشهدون بمثل ما ورد من قوله (ع): وقت تكبيرة الإحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينيك ؛ ولكنّه بعيد عن الطّريق المستقيم


فانّ الحضور هو الاتّصال بروحانيّة الشّيخ وظهور مثاله لديك لا تصوير صورة مثل صورته وجعلها نصب العين فانّها مردودة إليك ونوع كفر وشرك وبعد ما يقال انّه كفر يقولون هو كفر فوق الكفر والايمان كما قال المولوىّقدس‌سره:

چون خليل آمد خيال يار من

ظاهرش بت معنى أو بت شكن

لكن نقول : تصوير صورة الشّيخ بالاختيار وتقييد الخيال به من قبيل عبادة الاسم دون المسمّى وتشبّه بعبدة الأصنام وجحيم عاجلة ينبغي للعاقل العبور عنها كما قال المولوىّ قدس‌سره :

جمله دانسته كه اين هستى فخ است

ذكر وفكر اختياري دوزخ است

لكن لا بدّ للسّالك من العبور عليها. وأحسنوا بذي القربى بعد الله والوالدين فانّ اولى الاحقّاء بالإحسان ذوو القربى سواء كانوا جسمانيّين أم روحانيّين في العالم الكبير أو الصّغير (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) قد مضى تفسيرهما وتعميمهما (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) النّسبيّة وتأخيره بلحاظ الجوار لا القرابة أو المكانيّة (وَالْجارِ الْجُنُبِ) البعيد النّسبىّ أو المكانىّ وحقّ الجوار كما في الاخبار الى أربعين دارا من الجوانب الاربعة أو من كلّ جانب (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) كالرّفيق في تعلّم أو حرفة أو سفر (وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) العبيد والإماء والأهل والخادم والخادمة وكلّ من كان تحت أيديكم في الكبير أو الصّغير فلا تتأنّفوا عن تعهّد حالهم والتّوجّه والإحسان إليهم ان كنتم تريدون محبّة الله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) استيناف في موضع التّعليل والمختال من يتأنّف عن التّوجّه الى الغير حتّى الوالدين الرّوحانيّين ولا ينقاد لأحد حتّى الوالدين الرّوحانيّين ومن تأنّف عن الانقياد للوالدين الرّوحانيّين تأنّف عن كلّ من سواه ، ومن انقاد وتواضع للوالدين الرّوحانيّين تواضع لمن سواهما فالمختال الحقيقىّ من لم يتواضع لوالديه الرّوحانيّين (فَخُوراً) إذا التفت الى غيره عظّم نفسه وحقّر غيره حتّى والديه الرّوحانيّين ، ومن افتخر على والديه الرّوحانيّين افتخر على كلّ من سواه الّا إذا رأى حظّ نفسه ممّن سواه فانّه حينئذ يتملّق له وان كان يظنّ انّه يتواضع ، ولمّا كانت الولاية أصل الخيرات والقرابات ، والتّواضع لها أصل التّواضعات ، والاختيال والفخر عليها أصل الاختيالات والفخرات ومادّتها ، وعلىّ (ع) أصل الولايات وعدوّه أصل الشّرور والاختيالات صحّ ان يقال : انّ المنظور اوّلا من الآية اختيال العدوّ وفخره على علىّ (ع) ثمّ اختيال غيره بالنّسبة الى الولاية والى غيرها ، ولمّا كان المتكبّر المعجب بنفسه لا يعدّ غيره الّا أسباب انتفاعه كأنّه لم يخلق غيره الّا لأجل انتفاعه ولو بهلاكته وكان لا ينفق ممّا في يده على غيره لانّه خلاف حسبانه ويمنع غيره الّذى يراه في مرتبة من الإنفاق على غيره حتّى انّه يمنع نفسه وغيره من إنفاق القوى والمدارك والانانيّات في طريق إمامه وولاية ولىّ امره ويكتم من الغير نعمه الّتى لا يرى في إظهارها صيتا ومدحا وجلب حظّ لنفسه ولو أنفق أو أظهر لم يكن ذلك الّا بملاحظة حظّ لنفسه فسّر المختال الفخور بالوصف البيانىّ فقال تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) صفة أو بدل من ، من كان مختالا أو بدل من مختالا أو عطف بيان لواحد منهما أو خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبر محذوف ، أو مفعول فعل محذوف.

تحقيق معنى البخل والتّقتير والتّبذير

والبخل سجيّة تمنع الإنسان من إخراج ما تحت يده ورفع يده عنه سواء كان من الحقوق الإلهيّة كالزّكاة والخمس أو الخلقيّة كالنّفقات الواجبة والدّيون الحالّة المفروضة كما ذكر أو مسنونة كالزّكاة وسائر الصّدقات المستحبّة والصّنائع المعروفة وكالانفاقات


المستحبّة لنفسه وعياله وأقاربه وجيرانه ، ولذلك ورد عن رسول الله (ص) ليس البخيل من ادّى الزّكاة المفروضة من ماله واعطى البائنة في قومه انّما البخيل حقّ البخيل من لم يؤدّ الزّكاة المفروضة من ماله ولم يعط البائنة في قومه وهو يبذّر فيما سوى ذلك ، وانّما سمّى المال المنفق بالبائنة لانّه كلّما ينسب الى الإنسان حتّى وجوده من شأنه البينونة والمفارقة عنه الّا وجه الله الباقي فانّه ان كان من اعراض الدّنيا فهو بائن في نفسه وتبين وتنقطع نسبته أيضا عن الإنسان بالموت أو بالانتقالات الشّرعيّة أو بصروف الدّهر ، وان كان من قبيل القوى والجوارح والاعراض والجاه فهو أيضا يبين عن الإنسان بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ أو بالحوادث الطّارئة.

فان تكن الأموال للتّرك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل

اعلم انّ السخاء فريضة متوسّطة بين طرفي الإفراط والتّفريط اللّذين هما التّبذير والتّقتير ، وللتّقتير مراتب عديدة بعضها يسمّى بخلا وهو إمساك ما في يد الإنسان وعدم قدرته على صرفه في الوجوه المفروضة والمندوبة والمباحة ، وبعضها يسمّى شحّا وهو إمساك ما في يده وتمنّى ان يكون ما في يد غيره في يده كما ورد عن الصّادق (ع): انّ البخيل بخيل بما في يده والشّحيح يشحّ بما في أيدى النّاس ، وعلى ما في يديه حتّى لا يرى في أيدي النّاس شيئا الّا تمنّى ان يكون له بالحلّ والحرام ولا يقنع بما رزقه الله ، وللتّبذير أيضا مراتب ولمّا كان الظّاهر من الإنسان من أفعاله وأقواله وأخلاقه وأحواله من المتشابهات الّتى لا يعلم تأويلها الّا الله والرّاسخون في العلم كان التّميز بين السّخاء والتّبذير والتّقتير وبين مراتبها بحسب المعرفة وتشخيص جزئيّاتها الصّادرة عن الإنسان في غاية الخفاء حتّى على نفس الفاعل وان كانت بحسب العلم وكلّيّاتها جليّة قد فصّلها علماء الأخلاق وبيّنوها بمراتبها فانّ الإنفاق بحسب قصد المنفق والغاية المترتّبة عليه والوجه المصروف فيه والشّخص الموصول اليه يختلف حاله واسمه ؛ فربّ إمساك كان خيرا من الإنفاق الحسن وربّ إنفاق كان وبالا على المنفق ، ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

منفق وممسك محل بين به بود

چون محل باشد مؤثّر مى شود

اى بسا إمساك كز إنفاق به

مال حقّ را جز بأمر حقّ مده

مال را كز بهر حق باشى حمول

نعم مال صالح گفت آن رسول

ولمّا كان أصل كلّ ما ينسب الى الإنسان انانيّته الّتى هي نسبة الوجود الى نفسه ، وأصل كلّ الانفاقات وغايتها وعلّتها الغائيّة الإنفاق من الانانيّة ، وأصل جميع ما ينفق عليه الولاية فمن أنفق انانيّته في طريق الولاية بان يسلّمها لولىّ امره بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة فان أنفق من سائر ما ينسب اليه من حيث انتسابه الى الولاية على نفسه وعلى من تحت يده وعلى غيره بطريق الفرض أو النّدب أو الاباحة كان إنفاقه سخاء ، وان أمسك من هذه الجهة كان إمساكه ممدوحا ولم يكن بخلا ، ومن بخل بانانيّته ولم ينفقها في طريق الولاية فان أمسك كان إمساكه بخلا وان أنفق كان إنفاقه تبذيرا الّا إذا كان الإمساك أو الإنفاق في طلب الولاية فانّهما حينئذ يخرجان من اسم البخل والتّبذير فعلى هذا صحّ ان يقال : انّ المختالين الّذين يبخلون بصرف انانيّاتهم في طريق ولاية علىّ (ع) (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) والامتناع من صرف انانيّاتهم في طريق الولاية يعنى الّذين يعرضون عن الولاية ويصدّون النّاس عنها ، وصحّ ان يقال انّ الآية تعريض برؤساء منافقي الامّة حيث كانوا يعرضون بعد محمّد (ص) عن علىّ (ع) ويمنعون النّاس عن الرّجوع اليه (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعنى يعتذرون عن امساكهم بانّه ليس لهم ما ينفقون ويكتمون ما كان لهم من النّعم الظّاهره والباطنة


من قوّة قواهم وحشمتهم وجاههم وعلومهم ومعارفهم ولمّا كان أشرف النّعم الظّاهرة والباطنة ما يطرء للإنسان من الأحوال والأخلاق الإلهيّة الّتى تجعل الإنسان في حال طروّها في راحة وانبساط ولذّة ، وأصل الكلّ نعمة الولاية ومعرفتها وكان أقبح أقسام الكتمان كتمان تلك الأحوال وهذه المعرفة عن نفسه بان يصير الإنسان غافلا عن معرفته وعن لذّة أحواله أو مغمضا عنهما وكان تلك ادلّ دليل على نبوّة من اتّصف وامر بها وولايته صحّ تفسير الآية بكتمان ما آتاهم الله من ادلّة نبوّة محمّد (ص) أو ادلّة ولاية علىّ (ع) ممّا عرفوه من كتبهم واخبار أنبيائهم ومن القرآن واخبار محمّد (ص) وممّا وجدوه في نفوسهم من الأخلاق الاخرويّة الّتى هي أنموذج أخلاقهما وأحوالهما (وَأَعْتَدْنا) التفت من الغيبة الى التّكلّم تنشيطا للسّامع (لِلْكافِرِينَ) اى الكاتمين لنعم الله غير شاكرين لها بإظهارها فانّ إظهار النّعمة أحد أقسام الشّكر كما انّ كتمانها أحد أقسام كفرانها ، ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بانّ الكاتمين لنعم الله معدودون من الكفرة (عَذاباً مُهِيناً) كما انّهم أهانوا نعمنا بالكتمان وعدم الإظهار فانّ الله إذا أنعم على عبد بنعمة احبّ ان يراها عليه وابتذال النّعم وتحديثها بالفعال خير من ابتذالها بالمقال ، ومن كتم علما ألجمه الله بلجام من النّار (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) يعنى انّ المختال جامع بين طرفي السّخاء اى التّقتير والتّبذير لامتناعهم من أداء الحقوق المفروضة والمسنونة وصرفهم أموالهم فيما يتصوّرون انتفاعهم في الدّنيا به من مثل صيت وتعظيم من النّاس وغير ذلك ، والاوّل بخل مذموم والثّانى تبذير ملعون (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) من قبيل عطف العلّة على المعلول فانّ عدم الايمان علّة للإنفاق في سبيل الشّيطان ولعدم الإنفاق في سبيل الله يعنى البخل (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ) عطف على انّ الله لا يحبّ من كان مختالا فخورا ، أو جملة حاليّة والمقصود التّنبيه على انّ المرائى في الإنفاق مبذّر والمبذّر قرين الشّيطان ومن يكن الشّيطان (لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) لأداء اقترانه الى السّجن والسّجّين وملك الشّياطين فهو اشارة الى قياسات ثلاثة.

اعلم انّ الإنسان خلق مفطورا على التّعلّق والايتمار ومحلّا لتصرّف العقل والشّيطان ، ولمّا كان في بدو خلقته ضعيفا غير متجاوز عن المحسوسات ، والمحسوسات شبائك الشّيطان كان تصرّف الشّيطان فيه أقوى وأتمّ فما لم يساعده التّوفيق ولم يصل الى شيخ من الله مرشد له الى طريق نجاته تمكّن الشّيطان منه بحيث لم يبق له طريق الى حكومة العقل ولا للعقل طريق الى الحكومة عليه ، ولذلك قال ابو جعفر الاوّل (ع) في حديث : من أصبح من هذه الامّة لا امام له من الله عزوجل ظاهرا عادلا أصبح ضاّلا تائها ؛ وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق ، وفي الآيات نصوص وإشارات على وجوب الايتمار والايتمام بإمام منصوص من الله ، وفي الرّوايات عليه تصريحات ولكن كان على سمعهم وأبصارهم غشاوة فيرجّحون المفضول على الفاضل ولذا كان علىّ (ع) يرى الصّبر اجحى (وَما ذا عَلَيْهِمْ) استفهام إنكارىّ يعنى البتّة ليس عليهم كلفة دنيويّة ولا عقوبة اخرويّة (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعنى بالمبدأ والمعاد حتّى أيقنوا انّ النّعمة من الله وانّ خزائنه لا تنفد بالإنفاق وانّ اعماله يجزى بها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) قدّم الايمان هاهنا على الإنفاق وأخّر عدم الايمان في الآية السّابقة عن الإنفاق الرّيائىّ لكون الايمان بالله سببا للإنفاق في سبيل الله لعلم المؤمن بالله انّ الكلّ من الله وانّ الإنفاق لا يفنيه والإمساك لا يبقيه فلذلك ولتشريفهم قال هاهنا ممّا رزقهم الله ولكون عدم الإنفاق في سبيل الله


دليلا على عدم الايمان بالله ، ولمّا كان الإمساك والتّبذير دليلا على كفران كون النّعمة من الله قال : والّذين ينفقون أموالهم بإضافة الأموال إليهم (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) حال وعدم الإتيان بقد لعدم قصد المضىّ أو هو بتقدير قد أو عطف على قصد التّعليل يعنى علم الله بهم وهم في طريق رضاه يستدعى عدم الوزر عليهم (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) مقدار ذرّة هي أصغر النّمل أو جزء من أجزاء الهباء (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) قرئ بالنّصب والرّفع بتقدير تك ناقصة وتامّة (يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) قوله (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) (الى آخر الآية) مستأنف أو حال في مقام التّعليل لقوله : (ما ذا عَلَيْهِمْ) لانّه يستعمل في مثل المقام لنفى الوزر والعقوبة وللتّعريض بالأجر فكأنّه قال : لا وزر ولا عقوبة عليهم بل لهم الأجر لو آمنوا بالله لانّ الله لا يظلم حتّى يعاقب المحسن ويضاعف الأجر للمحسن بحسب استحقاقه للأجر ويؤت المحسن من لدنه اجرا عظيما من غير استحقاق ، وتسمية ما يعطيه من غير استحقاق اجرا لاستتباع الأجر له ، أو المراد انّ الله يضاعف نفس الحسنة باعتبار جهتي النّفس العمّالة والعلّامة في النّفس ويؤت من لدنه اجرا اخرويّا خارج النّفس على ما سبق من تحقيق تجسّم الأعمال واستتباع تجسّم الأعمال في النّفس الأجر الاخروىّ (فَكَيْفَ) يكون حال هؤلاء المختالين الموصوفين بالأوصاف السّابقة من شدّة الخوف والعقوبة (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من أمم الأنبياء (بِشَهِيدٍ) هو نبيّهم أو من كلّ فرقة من فرق أمّتك بشهيد هو امامهم في عصرهم أو من كلّ أمّة من أمم الأنبياء ومن كلّ فرقة من فرق أمم الأنبياء ومن فرق أمّتك بشهيد هو نبيّهم أو وصىّ نبيّهم وامامهم وقد أشير الى الكلّ في الاخبار لكن لمّا كان المقصود منه تحذير المنافقين من الامّة المرحومة عن مخالفة علىّ (ع) والأوصياء من بعده ورد عن الصّادق (ع) انّها نزلت في أمّة محمّد (ص) خاصّة بطريق الحصر (وَجِئْنا بِكَ) يا محمّد (ص) (عَلى هؤُلاءِ) الأمم والفرق ، أو على هؤلاء الشّهداء أو على هؤلاء الأمم والفرق والشّهداء (شَهِيداً) تشهد لهم وعليهم أو تشهد لبعض وهم الأنبياء والأوصياء ومن أقرّ بهم ، وعلى بعض وهم المنكرون لهم الغير المقرّين بهم (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو بالرّسل أو بأوصيائهم وولايات أوصيائهم لكن لمّا كان المقصود تحذير منافقي الامّة كان المقصود يودّ الّذين كفروا بعلىّ (ع) وولايته (وَعَصَوُا الرَّسُولَ) في امره بولاية علىّ (ع) في غدير خمّ وغيره (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) قرئ بفتح التّاء وتخفيف السّين من التّفعّل ماضيا أو مضارعا محذوف التّاء ، وقرئ بفتح التّاء مشدّد السّين من التّفعّل مدغم التّاء في السّين ، وقرئ بضمّ التّاء من التّفعيل مبنيّا للمفعول واستوت به الأرض وتسوّت وسويّت مبنيّا للمفعول اى هلك ، ولفظة لو مصدريّة أو للتمنّى والباء للتّعديّة والمعنى يودّون في ذلك اليوم مساواتهم للأرض بان كانوا يدفنون في ذلك اليوم أو يوم غصب الخلافة أو لم يبعثوا أو كانوا ترابا ولم يخلقوا ، أو جعلوا قابلا محضا ولم يكن لهم فعليّة أصلا (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) عطف على يودّ والمعنى يومئذ لا يكتمون الله حديثا كما كانوا يكتمونه من خلفائه في الدّنيا ، أو عطف على تسوّى والمعنى يودّون لو لا يكتمون الله حديثا في الدّنيا ، وعلى ما بيّنا انّ المقصود منهم منافقوا الامّة فهم يتمنّون انّ الأرض تبلعهم في اليوم الّذى غصبوا الخلافة ولا يكتمون في ذلك اليوم حديث الرّسول (ص) في حقّ علىّ (ع) وقد أشير الى كلّ منهما في الاخبار ، ولمّا أفاد في السّابق لزوم الايمان بالله ولزوم طاعة الرّسول (ص) ولزوم اتّباع الشّهداء في كلّ زمان ولكلّ فرقة أراد أن يبيّن كيفيّة المعاشرة مع الرّسول والشّهداء ومع نفسه في عباداته وخصوصا أعظم العبادات


الّتى هي الصّلوة المسنونة من الأركان والاذكار المخصوصة أو من سائر أقسامها وناداهم تلطّفا بهم وجبرا لكلفة النّهى بلذّة النّداء فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أذعنوا بالله وبمحمّد (ص) ، أو أرادوا الايمان بالله على يد محمّد (ص) ، أو آمنوا على يد محمّد (ص) بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة ، أو آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) الصّلوة تطلق لغة على الدّعاء والرّحمة والاستغفار وشرعا على الأفعال والاذكار الموضوعة في الشّريعة ، وتطلق حقيقة أو مجازا على المواضع المقرّرة للصّلوة الشّرعيّة ، وعلى الذّكر القلبىّ المأخوذ من صاحب اجازة الهيّة ، وعلى صاحب الاجازة الإلهيّة ، وعلى الصّورة المثاليّة الحاضرة في قلب السّالك من صاحب الاجازة ، وعلى كلّ من مراتبه البشريّة والمثاليّة والقلبيّة والروحيّة بمراتب الرّوحيّة وذلك لانّ الأسماء وضعت للمسميّات من غير اعتبار خصوصيّة من خصوصيّات المراتب فيها ؛ فالصّلاة وضعت لما به يتوجّه الى الله ويسلك اليه بتسنين واذن من الله كما انّ الزّكاة اسم لما به ينصرف عن غير الله بتسنين واذن من الله ، ويدلّ على ذلك انّ الصّلوة كانت في كلّ شريعة ولم تكن بتلك الهيئة المخصوصة وقوله: (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) يدلّ على العموم لعدم إمكان ادامة الصّلوة القالبيّة وكذا قوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ ،) وكذا قول علىّ (ع) في بعض ما قال : انا الصّلوة ، فقلب علىّ (ع) وولايته هي الصّلوة الّتى هي عمود الدّين ، وان قبلت قبل ما سواها ، وهي معراج المؤمن وهي بيت الله الّذى اذن الله ان يرفع ، وهي الكعبة ، وهي المسجد الّذى قال تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، وقال: (أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ،) وما يدخل من نفخة علىّ (ع) في القلب وهو الايمان الدّاخل في القلب ، وما يؤخذ من صاحب الاجازة الالهيّة من الذّكر الجلىّ والخفيّ ، وما يؤخذ من صاحب الاجازة من الصّلوة القالبيّة كلّها صلوة ، وما يبيّنه صاحب القلب الّذى صار قلبه متّصفا بالصّلوة من حيث ذلك الاتّصاف كالمساجد هو أيضا صلوة كما انّه بيت الله ، فمن أخذ الصّلوة القالبيّة من أمثاله واقرانه أو آبائه ومعلّميه من غير تقليد عالم مجاز لم يكن عمله مقبولا ولو كان موافقا ، وهكذا حال من تسرّع الى الاذكار والأوراد ومن تسرّع الى الذّكر القلبىّ من غير اذن واجازة من شيخ مجاز لم ينتفع به ولم يكن صلوته صلوة حقيقة ولا عبادته عبادة ، وقد ورد اخبار كثيرة في انّ العبادة بدون الولاية غير مقبولة ومردودة والولاية وقبولها عبارة عمّا يحصل بسببه الاجازة في العبادة وكأنّه تعالى أراد بالصّلوة جميع معانيها بمثل عموم المجاز والاشتراك ولذلك قال : (لا تَقْرَبُوا) ؛ ليناسب جميع معانيها دون لا تدخلوا لئلا يتوهّم ارادة بعض المعاني الدّانية منه والنّهى اعمّ من الحرمة والكراهة والنّزاهة ولا اختصاص له بشيء منها واستعماله في الموارد المخصوصة بحسب القرائن في الحرمة أو الكراهة لا ينافي عموم مفهومه.

تحقيق معنى السّكر

(وَأَنْتُمْ سُكارى) قرئ بضمّ السّين وفتحها جمعا وكهلكى جمعا أو مفردا على ان يكون صفة لجماعة مقدّرة وكحبلى مفردا ، والسّكر من السّكر بمعنى السدّ ويسمّى الحالة الحاصلة من استعمال شيء من المسكرات سكرا لسدّها طرق تصرّف العقل في القوى وطرق انقياد القوى للعقل ، ولا اختصاص لها بالخمر العنبيّة المعروفة بل كلّ ما يحصل منه تلك الحالة شربا أو اكلا أو تدخينا أو غير ذلك فهو خمر النّفس سواء حصل منه السّكر المعروف كالفقّاع والعصيرات المتّخذة من غير العنب وكالبنج والجرس والأفيون أو لا كالحرص والأمل والحبّ والشّهوة والغضب والحسد والبخل


والغمّ والفرح والنّعاس والكسل الغالبة بحيث يغلب مقتضاها على مقتضى العقل بل الحالة الحاصلة المانعة من نفاذ حكم العقل وتدبيره سكر النّفس من اىّ شيء كانت ومن أىّ سبب حصلت ، وقد أشير في الاخبار الى تعميم السّكر ففي خبر في بيان الآية : لا تقم الى الصّلوة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا فانّها من خلال النّفاق ، وفي خبر منه سكر النّوم ، ومنها سكر الشّهوة الغالبة الّتى لا يفيق صاحبها عنه الّا بقضائها ، ويسمّى الحالة الحاصلة بعد قضاء الشّهوة من تدنّس النّفس بدنس الشّهوة وتكدّرها بكدورات الحيوانيّة ، وتوغّلها في صفات البهائم جنابة ، ولا اختصاص لتلك الحالة بشهوة خاصّة بل كلّما يدنّس الإنسان ويوغّلها في الحيوانيّة البهيميّة أو السّبعيّة فهو جنابة النّفس (حَتَّى) تفيقوا من سكركم و (تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) لفظة ما استفهاميّة أو موصولة أو موصوفة يعنى حتّى تعلموا الّذى تقولون فلا تحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا تغيّروه عن الصّورة الّتى نزل عليها كما قيل : انّها نزلت حين قرأ بعض الصّحابة في الصّلوة حالة السّكر ، اعبد ما تعبدون ولمّا كان المتبادر من السّكر سكر الخمر والمستفاد من الآية جواز هذا السّكر وعدم جواز الدّخول في الصّلوة معه ورد انّها نسخت من حيث هذا الجواز المستفاد ، ولمّا كان محض الافاقة من سكر النّفس من دون رفع اثر التّدنّس منها غير مبيحة للقرب من الصّلوة أضاف اليه قوله تعالى (وَلا جُنُباً) يعنى لا تقربوا المساجد بالدّخول فيها حرمة أو كراهة ، ولا تدخلوا في الصّلوة القالبيّة بمعنى انّها لا تنعقد منكم ولا تقربوا الصّلوة الحقيقيّة الّتى هي اذكاركم القلبيّة وافكاركم المثاليّة الّتى هي مثل مشايخكم ولا تقربوا قلوبكم وعقولكم الّتى هي قربانكم وصلوتكم ان كان لكم قلب وعقل ولا تقربوا الصّلوات الحقيقيّة الّتى هي خلفاء الله في أرضه جنبا يعنى في حالة تدنّسكم بادناس شهوات النّفوس وغضباتها وفي حالة توغّلكم في عقباتها حتّى لا تدنّسوا الصّلوات بادناس نفوسكم (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) مطلقا في المسجد الصّورىّ أو بشرط التيمّم للدّخول في الصّلوة القالبيّة أو بشرط التيمّم المعنوىّ للدّخول في الصّلوات المعنويّة (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) بان تغمسوا أبدانكم في الماء حتّى تزيلوا ادناس ظواهر أبدانكم الّتى حصل عليها من الأبخرة الغليظة الرّديّة العفنة الّتى حصلت في بشرتكم وسدّت مسامّ أبدانكم الّتى بسببها ترويح أرواحكم الحيوانيّة وفي بقائها على أبدانكم احتمال امراض عديدة وحتّى تتنبّهوا من الاغتسال الظّاهر وتنتقلوا الى لزوم اغتسال نفوسكم من ادناس رذائلكم بماء التّوبة والانابة الى ربّكم فتغمسوا أنفسكم في الماء الطّهور الّذى يجرى عليكم من عين الولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) بعد ما علم تعميم السّكر من الاخبار سهل تعميم الجنابة ، وبعد تعميم الجنابة سهل تعميم الفقرات المذكورة في هذه الآية ، وجملة الشّرط والجزاء معطوفة باعتبار المعنى فانّ المعنى يا ايّها الّذين آمنوا ان كنتم سكارى فلا تقربوا الصّلوة حتّى تعلموا ما تقولون ، وان كنتم جنبا فلا تقربوها حتّى تغتسلوا ، وان كنتم مرضى يعنى حين ارادة قرب الصّلوة أو حين الجنابة وارادة الاغتسال والأخير هو المتبادر من سوق العبارة وهذا المتبادر يدلّ على قصد العموم من الفقرات كما انّ عدم التّقييد بشيء منهما يدلّ أيضا على قصد العموم وانّ المراد ان كنتم مبتلين بالامراض البدنيّة المانعة من استعمال الماء الصّورى أو من طلبه وتحصيله ، أو بالامراض النّفسانيّة المانعة من الغسل بماء الولاية أو من طلبه وتحصيله فتيمّموا واقصدوا تراب الذّلّة والمسكنة عند الله الّذى هو أطيب من كلّ طيب بعد ماء الولاية ، واقصدوا ترابا من وجه الأرض طاهرا وأظهروا اثر تراب الذّلّ على وجوهكم المعنويّة بإظهار تضرّعكم وخشوعكم وتبصبصكم عند ربّكم ، واثر تراب الأرض الصّوريّة على مقاديم أبدانكم (أَوْ) ان كنتم (عَلى سَفَرٍ)


يتعذّر عليكم فيه استعمال الماء أو تحصيله سواء كان سفركم في الأرض الصّوريّة أو في طرق النّفس للخروج من ديار الشّرك الّتى هي ديار النّفس فانّكم ما دمتم متحيّرين في طرق النّفس امّا لا تتذكّرون بماء الولاية ولا تتمكّنون من تحصيله أو لا يليق بكم الاغتسال بعد فيه لتضرّركم به (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط المنخفضة من الأرض كانوا يقصدونها للنجو فكنّى به عنه ولم يقل أو على الغائط ليكون أوفق بسابقه واخصر لانّ من كان على الغائط لم يصحّ منه صلوة أصلا ولا يرد الصّلوة ولم يقل ، أو على المجيء من الغائط لانّه داخل في قوله على السّفر بلحاظ التّأويل ، ولم يقل أو جئتم من الغائط ليوافق السّابق واللاحق في المرفوع لارادة العموم البدلىّ من أحد حتّى يصحّ الحكم بحسب التّنزيل وللاشارة الى انّ كلّ واحد منكم جماعة وإذا وقع واحد منكم أو من قواكم وجنودكم في سفل النّفس ووهدتها فما دام هو في تلك الوهدة كان حالكم حال السّكران الّذى لا يليق به قرب الصّلوة أصلا ، وإذا انصرف من جهنّام النّفس كان حالكم حال الجنب المفيق من شهوة الفرج لكن لا يليق بكم استعمال ماء الولاية أو لا تصلون اليه وإذا أريد تصحيح ظاهر التّنزيل يجعل أو هاهنا بمعنى الواو حتّى لا يلزم جعل ما هو جزء الشّرط قسيما له (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كناية عن المجامعة يعنى ان جامعتموهنّ وخالطتم نفوسكم باتّباع مقتضياتها فلا يليق بكم استعمال الماء أو لا تصلون اليه (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) للاستعمال بان لم تجدوه أو تجدوه ولا تتمكّنوا من استعماله ، أو المراد عدم وجدان الماء ويكون تعذّر استعمال الماء غير مذكور مثل سائر مجملات القرآن (فَتَيَمَّمُوا) يمّ وامّ بمعنى قصد اى فاقصدوا (صَعِيداً) اى ترابا أو وجه ارض على خلاف في معناه اللّغوىّ (طَيِّباً) اى طاهرا أو مباحا وعلى اختلاف تفسير الصّعيد اختلفوا في جواز التّيمّم على الحجر والوحل ، وان كان المراد بالصّعيد مطلق وجه الأرض فالآية الآتية في سورة المائدة تدلّ على عدم جواز التّيمّم بما ليس فيه غبار مثل الحجر الصّلد والوحل حيث قال تعالى هناك : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) والاخبار تدلّ على جواز التّيمّم بالتّراب ثمّ بما فيه غبار من اللّبد وعرف الفرس وغيرهما ، ثمّ بالوحل ثمّ بالحجر لكن تدلّ على انّ التيمّم بغير التّراب انّما هو من باب الاضطرار (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) اى بعض وجوهكم وهذا من المجملات الّتى بيّنوها لنا (وَأَيْدِيكُمْ) عطف على وجوهكم اى بعض أيديكم وقد بيّنوها لنا ولم يدعونا حيارى لا ندري اىّ شيء الممسوح ، ولا حاجة لنا الى ان يقول كلّ منا بقول وان نجعل هوانا إلهنا والحمد لله ربّ العالمين (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) يعنى رخّص الله لكم القرب من الصّلوة مع تدنّسكم بادناس الطّبيعة والنّفوس من دون اغتسال أبدانكم بالماء الصّورىّ ومن دون اغتسال نفوسكم بالماء المعنوىّ بشرط ظهور تراب الذّلّ والمسكنة على مقاديم أبدانكم ومقاديم نفوسكم لانّه كان عفوّا كثير العفو عن عباده وتقصيراتهم وقصوراتهم ، فلا يؤاخذكم بتدنّسكم بادناس النّفس والطّبع والهوى (غَفُوراً) يستر عليكم ما يبقى عليكم من اثر دنس الهوى فلا يطردكم عن حضرته بسبب ذنوبكم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) حظّا يسيرا (مِنَ الْكِتابِ) اى كتاب النّبوّة بان دخلوا في شريعة وقبلوا دعوة نبىّ دعوته الظّاهرة مثل اليهود والنّصارى والمسلمين الّذين بايعوا محمّدا (ص) بالبيعة العامّة النّبويّة بان لا يخالفوا قوله ويطيعوا امره ونهيه وان كان نزول الآية في أحبار اليهود فالمقصود منافقوا الامّة تعريضا الّذين انحرفوا عن طريق الولاية ومنعوا غيرهم والآية تعجيب من حالهم الّتى كانوا عليها لانّ النصيب من الكتاب يقتضي الاهتداء الى أصحاب الكتاب والبيعة


معهم وقبول ولايتهم لانّ الإسلام طريق الى الايمان وبه يهتدى اليه ولذلك قال تعالى (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) والخروج من طريق الولاية وطريق القلب بالهدى الّذى يحصل لهم من ظاهر إسلامهم لانّه بضاعتهم المكتسبة من إسلامهم وبالهدى الّذى هو فطرتهم ولا يقنعون به (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) ايّها المؤمنون عن (السَّبِيلَ) الّذى أنتم عليه من ولاية علىّ (ع) (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِأَعْدائِكُمْ) فلا تتّخذوا كلّ من أظهر بلسانه محبّتكم وولايتكم أولياء بل اكتفوا بولاية الله في مظاهر أوليائه الّذين أمركم الله بولايتهم (وَكَفى بِاللهِ) في مظاهره (وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) فلا تطلبوا الولاية والنّصرة من غير من أمركم الله ورسوله (ص) بقبول ولايته وهو علىّ (ع) واصرفوا وجوه قلوبكم عمّن أمركم بالصّرف عنه (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) من بيانيّة والظّرف حال عن الّذين أوتوا نصيبا من الكتاب أو من تبعيضيّة والظّرف بنفسه مبتدأ لقوّة معنى البعضيّة في من التبعيضيّة سواء جعلت اسما أو حرفا ، أو الظّرف قائم مقام الموصوف المحذوف الّذى هو مبتدأ (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) بتبديل كلمة مكان كلمة ، أو بإسقاط بعض من الكلم ، أو بصرفه عن مصاديقه الى غيرها بتمويه انّ ذلك الغير مصاديقه أو بصرفه عن مقاصده المرادة بتمويه انّ غيرها مقصود من الكلم سواء كان ذلك عن علم بالمصداق والمقصود أو عن جهل وهو تعريض بمنافقى الامّة وبفعلهم بكلم الكتاب والسّنّة حيث كتموا بعضه وبدّلوا بعضه وصرفوا بعضه عن مصداقه وبعضه عن مقصوده وهو يجرى أيضا فيمن اقام نفسه مقام بيان الكلم وصرفه عن مصداقه ومقصوده جهلا بهما كأكثر العامّة (وَ) بيان التّحريف انّهم (يَقُولُونَ سَمِعْنا) بلسانهم (وَعَصَيْنا) في أنفسهم لانّهم لا يصرّحون بالعصيان (وَ) يقولون (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) بتبديل غير مسمع عن مقصوده الّذى هو معنى غير مسمع مكروها الى معنى غير مسمع بالصّمم أو الموت (وَ) يقولون (راعِنا) بصرف راعنا عن معناه ومفهومه العربىّ الى معناه الّذى هو سبّ في لغتهم (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) التواء للحروف بألسنتهم من غير القصد الى معناه المعروف أو التواء للكلم عن معناه المعروف المدحىّ الى المعنى الغير المعروف السبّىّ (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) استهزاء بالدّين بسبب ما يضمرونه من خلاف المعروف وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله أو مفعول له أو حال وكذلك ليّا (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) بتبديل راعنا به أو بقصد هذا المعنى من راعنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) واعدل (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ) ابعدهم عن الخير والصّلاح (بِكُفْرِهِمْ) بك (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ايمانا قليلا وهو الايمان ببعض ما يؤمن به من آيات الكتاب والرّسل أو الّا قليلا منهم على ان يكون المستثنى في الكلام المنفىّ التّامّ منصوبا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنّصارى ويكون تعريضا بامّة محمّد (ص) وتهديدا لهم أو من أمّة محمّد (ص) على ان يكون الخطاب لهم ابتداء والاوّل أظهر (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) من القرآن أو من ولاية علىّ (ع) (مُصَدِّقاً) ومثبتا «ل» صدق (لِما مَعَكُمْ) من التّوراة والإنجيل أو مخرجا عن الاعوجاج والانحناء لما معكم من احكام النّبوّة وقبول طاعة النّبىّ (ص) ، وان كان المراد من ظاهر اللّفظ اليهود والنّصارى فامّة محمّد (ص) مقصودة تعريضا (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) بمحو محاسنها وأشكالها الفطريّة والكسبيّة (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ) بتغيير صور تمام أعضائهم


فنمسخهم (كَما لَعَنَّا) ومسخنا (أَصْحابَ السَّبْتِ).

اعلم انّ الإنسان خلق باطنه كظاهره مستوى القامة مشتملا على أحسن هيئة يمكن له الانتقال ، رجلاه منفصلتان من الأرض لا كالنّبات الغائر أصله في الأرض لا يمكنه الانتقال من مكانه ، مستقيما قامته ورأسه مجرّدا بشرته محسّنا صورته بأنواع المحاسن الفطريّة قابلة لانواع المحاسن الكسبيّة فكلّما بالغ في تصفيتها وتزيينها زاد حسنها وبهاؤها وحسن صورة بدنه بخطوطها وأشكالها ووضع كلّ من محالّ قواها في موضعه اللّائق به وصفائها وبهائها وطراوتها وتزيينها بتصفيتها من الدّرن (١) اللّاحق بها والحاق ما يزيّنها بها وحسن صورة باطنه ببياضها بنور الإسلام واستنارتها بنور الايمان وتوجّهها الى عالم النّور وانفصالها عن عالم الزّور وتزيينها بتصفيتها وازدياد عملها وتحسين أخلاقها بمتابعة من كان أخلاقه أخلاق الرّوحانيّين فاذا اعرض الإنسان عن الولاية عن غفلة أو عن جهل لم يحصل لها تزيّنها ، وإذا اعرض عن علم كان كمن توجّه الى قفاه ، وإذا تمكّن في هذا الاعراض صار وجهه المحاذي لمقاديم بدنه منصرفا الى قفاه كأنّه مخلوق عليه ، وإذا استحكم في التّمكّن صار ممسوخا بالمسخ الملكوتىّ ، وإذا استحكم هذا المسخ الملكوتىّ حتّى غلب على الملك صار صورته الملكيّة أيضا مسخا وعدّ بعض الفلاسفة المسخ الملكىّ من المحالات ، وتأويل ما ورد منه في الشّرعيّات ليس في محلّه (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) لا مانع من نفاذه فاحذروا ما اوعدتم ، ولمّا كان المقصود من الآية السّابقة تعريضا أو اصالة أمّة محمّد (ص) وقد أمرهم بالايمان بما نزّله وقد كان المراد ممّا نزّل ولاية علىّ (ع) كما سبق علّلها بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) باعتبار أتمّ مظاهره الّذى هو علىّ (ع) وقد فسّر بالشّرك والكفر بولاية علىّ (ع) لانّ الله لا يعرف ولا يدرك الّا في مظاهره فالشّرك بمظاهره شرك به فكأنّه قال : يا أمّة محمّد (ص) آمنوا بولاية علىّ (ع) الّتى نزّلناها مصدّقة لما معكم من احكام الإسلام واحذروا في مخالفته عن عقوبتي فانّى لا اغفر لمن يشرك بولاية علىّ (ع) فضلا عمّن كفر بولايته (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) الشّرك كائنا ما كان كبيرا أو صغيرا (لِمَنْ يَشاءُ) من شيعة علىّ (ع) وفي الاخبار تصريح بما ذكر من تفسير الآيات بمنافقى الامّة وولاية علىّ (ع) مع انّ عمومات الاخبار واشاراتها تكفى في تفسيرها بذلك ، فعن الصّادق (ع) في تفسير ما دون ذلك انّه قال : الكبائر فما سواها ، وفي حديث عن رسول الله (ص): لو انّ المؤمن خرج من الدّنيا وعليه مثل ذنوب أهل الأرض لكان الموت كفّارة لتلك الّذنوب ، والمراد بالمؤمن من قبل الولاية وفي آخر هذا الحديث : انّ الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لشيعتك ومحبّيك يا علىّ (ع) وعن الباقر (ع) يعنى انّه لا يغفر لمن يكفر بولاية علىّ (ع) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يعنى لمن والى عليّا (ع) وعن علىّ (ع) ما في القرآن آية احبّ الىّ من هذه الآية (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) باعتبار الشّرك بأتمّ مظاهره (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) عطف في معنى التّعليل ، والافتراء يكون بالقول وبالفعل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) تعجيب من تزكيتهم أنفسهم بعد ما سبق من حالهم وتهديد لهم والتّزكية امّا بمعنى نسبة الطّهارة الى الأنفس وعدّها زاكيات طاهرات أو بمعنى ازالة الدّرن عن الأنفس بأفعالهم وأذكارهم وكلّ واحد امّا بالقول مثل ان قال انّى لم أعص ، وأصوم كذا ، وأصلّي كذا ، وأنفق كذا ، وغير ذلك ، أو مثل ان داوم على ذكر اللّسان بنفسه من دون اذن واجازة قصدا الى تحصيل كمال النّفس وتطهيرها من نقائصها من غير مراياة ، وامّا بالفعل مثل ان فعل الأفعال الحسنة مراءاة وإظهارا للنّاس انّه زاهد راغب في الآخرة ، أو مثل ان اشتغل بالافعال الحسنة والرّياضات من قبل نفسه من غير مراءاة

__________________

(١) ـ الدّرن الوسخ أو تلطخه.


بل لتحصيل كمال النّفس وطهارتها ظنّا منه انّ أفعاله تزكّى نفسه والكلّ خيال باطل فانّ المراءاة فعلا أو قولا من أعظم المعاصي والعمل من قبل النّفس لتزكيتها لا يزيد الّا في شقائها (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) يظهر طهارة من يشاء من دون حاجة الى اظهارهم ، أو يطهّر من الأدناس والرّذائل من يشاء لا من أراد أن يزكّى نفسه بعمله لانّها فضل من الله لا يمكن اكتسابه بالعمل بل العمل ان كان بأمر خلفائه يعدّ النّفس لقبول ذلك الفضل ، والآية ان كانت نازلة في اليهود والنّصارى لقولهم : نحن أبناء الله ، ولن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى فالتّعريض بمنافقى الامّة الّذين في أقوالهم وأفعالهم مراءاة في نسبة الطّهارة الى أنفسهم قولا وفي رياضاتهم وعباداتهم الشّاقّة من قبل أنفسهم قصدا للتّفوّق في الكمال على اقرانهم ، ولمّا توهّم من هذا انّ العمل لا ينجع في طهارة النّفس فمن شاء الله زكّاه ومن لم يشأ لم يزكّه رفع هذا الوهم فقال تعالى (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) بنقص أجر العامل أو بعقوبته إذا وقع العمل على وجهه ولا بزيادة عقوبة العاصي (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في نسبة الطّهارة الى أنفسهم أو في تحصيل الطّهارة بفعلهم ظنّا منهم انّ في فعلهم رضى الله واذنه ولمّا كان الافتراء على الله المندرج في تزكيتهم أنفسهم غير ظاهر على كلّ راء ومدرك أتى بلفظ انظر الدّالّ على التّأمّل والتّعمّل في الإدراك بخلاف تزكيتهم وايمانهم بالجبت والطّاغوت حيث يراهما كلّ راء (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كمنافقى أمّتك وان كان نزوله في أهل الكتاب فالتّعريض بهم يتركون وصيّك و (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ) اسم صنم ثمّ استعمل في كلّ ما عبد من دون الله (وَالطَّاغُوتِ) مقلوب طيغوت مبالغة في الطّاغى سمّى به الشّيطان ثمّ كلّ من بالغ في الطّغيان (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) اى في حقّهم (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أصلهم علىّ (ع) ثمّ الائمّة من بعدهم ثمّ شيعتهم (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) بطردهم عن بابه وصرفهم عن الولاية والمتابعة لمن هو بمنزلته (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ) عن باب الولاية (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) لانّ النّصرة هي الاعانة للمنصور في جلب منفعة أو دفع مضرّة على سبيل التّرحّم عليه وهي موقوفة على معرفة المنافع والمضارّ ومعرفة الرّحمة ومحلّها فمن أعان رجلا على قتل محبوبه أو شرب سمّ وترحم عليه في ذلك لم يكن ذلك نصرة ولا ترحّمه ترحّما بل عداوة وسخطا وان سمّاه المحجوبون عن ادراك الأشياء كما هي نصرة ، والعارف بحقائق الأشياء هم الأنبياء والأولياء (ع) ومن طرد عنهم لم يكن له ناصر في الأرض ولا في السّماء والنّاصرون له من هذه الجهة أعداء له حقيقة ولذلك يظهر يوم القيامة انّ الاخلّاء بعضهم كان لبعض عدوّا الّا الّذين آمنوا فانّ خلّتهم ونصرتهم من جهة ايمانهم توجب قربهم الى باب الولاية ثمّ صرف القول عن التّابعين الى المتبوعين فقال تعالى (أَمْ لَهُمْ) اى للمتبوعين (نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) حتّى يستحقّوا بذلك الاتّباع وان فرض انّ لهم نصيبا من الملك (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ) الّذين هم المتحقّقون بالانسانيّة وهم الأولياء وأصلهم علىّ (ع) فكيف بأشباه النّاس والنّسناس (نَقِيراً) والنّقير النّقطة الّتى في وسط النّواة يمثّل به في الحقارة والمعنى انّهم ليس لهم نصيب من الملك حتّى يطمعوا فيه فيتّبعوهم وحالهم ان لو كان لهم نصيب من الملك لما أتوا النّاس شيئا حقيرا منه فكيف بهم وهم نسناس فلا ملكهم يقتضي الاتّباع ولا حالهم ثمّ صرف القول الى الاتباع والمتبوعين جميعا فقال تعالى


(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) يعنى هؤلاء الاتباع في اتّباعهم لغير النّاس الّذين هم رؤساء الضّلالة والمتبوعون في ترك اتّباعهم للأولياء والأصل فيهم علىّ (ع) وادّعاء المتبوعيّة لأنفسهم يريدون زوال فضل الله عن النّاس والمقصود تقرير حسدهم والأصل في النّاس بعد محمّد (ص) علىّ (ع) وخلفاؤه (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الامامة والخلافة (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) على رغم أنوفهم وعمى عيونهم ، وآل إبراهيم (ع) محمّد (ص) وعلىّ (ع) وخلفاؤه صلوات الله وسلامه عليهم وأضافهم الى إبراهيم (ع) للاشارة الى منقبة اخرى لهم حتّى يزدادوا غيظا (الْكِتابَ) اى النّبوّة فانّ مرتبة النّبوّة من جهة انّها قابلة لنقوش الأحكام الإلهيّة من مرتبة الولاية يعبّر عنها بالكتاب كما انّ مرتبة الرّسالة أيضا كذلك ، لكن سيأتى انّها المرادة بالملك العظيم وقد سبق في اوّل الكتاب تعميم اطلاق الكتاب فيراد منه في كلّ مقام معنى بحسب اقتضاء ذلك المقام.

تحقيق معنى الحكمة

(وَالْحِكْمَةَ) الحكمة قوّة بها يقتدر الإنسان على ادراك دقائق لأمور وخفايا المصنوع وعلى الإتيان بالمصنوع المشتمل على دقائق الصّنع فهي باعتبار متعلّقه مركّبة من جزئين جزء علمىّ ويسمّى حكمة نظريّة وجزء علمىّ ويسمّى حكمة عمليّة ويعبّر عنهما بلسان الفرس «بخرده بيني وخرده كارى» وقد يعبّر عن الحكمة بالإتقان في العمل للاشارة الى أحد جزئيها وقد يعبّر عنها بالكمال في العلم والإتقان فيه للاشارة الى الجزء الآخر ، وقد تفسّر بالإتقان في العلم والعمل للاشارة الى كلا جزئيها والحكمة الّتى تذكر في مقابلة الجربزة هي القوام في تدبير المعيشة علما وعملا والجربزة افراطه ، وهذه الحكمة هي من نتائج مرتبة الولاية فانّ الولىّ بتجرّده يقتدر على معرفة دقائق الأشياء لعدم احتجاب شيء منه إذا أراد معرفته وعلى صنع دقائق المصنوعات لعدم تأبّى شيء منه ، والحكيم المطلق هو الله تعالى ثمّ الأنبياء (ع) والرّسل (ع) بجهة ولايتهم ثمّ خلفاؤهم ثمّ الأمثل فالأمثل. واوّل مراتب الحكمة ان تدرك دقائق صنع الله في نفسك وبدنك وانّك خلقت برزخا بين العالمين السّفلىّ والعلوىّ وانّ نفسك خلقت قابلة صرفة لتصرّف الملكوتين لا تأبّى لها من تصرّفهما ، وان تصرّف السّفلىّ يؤدّيها الى السّجن والسّجّين ، وتصرّف العلوىّ يجذبها الى قرب الملأ الأعلى ، كلّ ذلك على سبيل المعرفة لا على طريق العلم ، والمظنّة كما هو طريق حكماء الأخلاق فانّهم يقنعون بالعلم الكلّىّ غافلين عن نفوسهم الجزئيّة فلا ينتفعون بعلمهم ثمّ تقدر على دقائق العمل لسدّ طرق تصرّف الملكوت السّفلىّ وفتح طرق تصرّف الملكوت العلوىّ كقدرة علىّ عليه‌السلام في الغزاة على ترك الضّرب حين ظفر بالعدوّ ورفع السّيف للضّرب فتفل في وجه علىّ (ع) فترك الضّرب لهيجان النّفس للضّرب. فاذا عرف الإنسان بما ذكر وقدر وعمل ارتقى لا محالة الى مقام العبوديّة وهو مقام الفناء ومقام الولاية ثمّ إذا علم الله فيه استعداد إصلاح الغير ردّه الى بشريّته بخلعة النّبوّة والرّسالة أو الخلافة وبصّره دقائق الصّنع في الملك والملكوت وأقدره على دقائق التّصرّف في الأشياء وأخدمه جميع الموجودات وهو آخر مراتب الحكمة. والمراد بالحكمة هاهنا الولاية لانّها من نتائجها وهذا بيان الحكمة ، وتحقيقها والتّفسيرات المختلفة الّتى وقعت في كلماتهم راجعة اليه مثل ان قيل : هي معرفة حقائق الأشياء كما هي ، أو : هي العلم الحسن والعمل الصّالح ، أو : هي الإتيان بالفعل الّذى له عاقبة محمودة ، أو : هي الاقتداء بالخالق بقدر الطّاقة البشريّة ، أو : هي التّشبّه بالإله في العلم والعمل بقدر الطّاقة البشريّة (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) الملك اسم مصدر بمعنى ما يملك ، ويطلق على كلّ مملوك وعلى عالم الطّبع خاصّة لانّه لا جهة فيه الّا المملوكيّة بخلاف الملكوت الّتى هي مبالغة في المالكيّة فانّها وان كانت


مملوكة من وجه لكن لها مالكيّة للملك كمالكيّة الجبروت لما دونها واللّاهوت لما سواها ، والمراد بالملك العظيم هاهنا مقابلا للكتاب والحكمة هو الرّسالة وخلافة الرّسالة فانّها لجمعها بين الوحدة والكثرة بنحو الكمال ملك لا أعظم منها وقد فسّر في الخبر بالطّاعة المفروضة اللّازمة لها ، وبطاعة جميع الموجودات تكوينا اللّازمة للولاية ، وبملك القلوب. وتكرار آتينا للاشارة الى استقلاله بالامتنان والانعام (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه تعالى قال بعد ارادة علىّ (ع) من النّاس المحسودين ، وذكر إعطائه من فضله تصريحا والكتاب والحكمة والملك العظيم تعريضا ينبغي ان يؤمنوا به ولا يخرجوا من طاعته لكنّهم تفرّقوا واختلفوا ، أو عطف على محذوف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما فعلوا به؟ ـ فقال : اختلفوا فيه فمنهم من آمن به كسلمان واقرانه (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) اعرض أو منع غيره (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) يعنى ان لم نعاقبهم في الدّنيا فكفاهم جهنّم في الآخرة والجملة عطف على (مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) من قبيل عطف الإنشاء على الخبر أو باعتبار لازم معناه كأنّه قال : ومنهم من صدّ عنه وهم المعاقبون في النّار (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) تفصيل لحال المؤمنين به والصّادّين عنه وتقديم حال الصّادّين لقصد كون الافتتاح والاختتام بحال المؤمنين كأنّه قال : امّا الّذين صدّوا عنه وامّا الّذين آمنوا به ؛ لكن ادّاه هكذا اشارة الى تعليل قوله كفى بجهنّم سعيرا والى كونهم كافرين وانّ عليّا (ع) أعظم الآيات وانّ الكافر به كافر بجميع الآيات (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) اختلف كلمات الحكماء والصّوفيّة في كيفيّة خلود أهل النّار وعذابهم الدّائمىّ وأصحاب الشّرائع مطبقون على خلودهم وانّ المحكوم بكونه أهل السّجيّن لا نجاة له من داره وانّ لكلّ دار عمّارا هم أهلها لا يخرجون منها أبدا ، وتبديل جلودهم يكون بحسب ملكاتهم الرّديّة وعقائدهم الفاسدة وأخلاقهم الكاسدة فانّها من فروع الشّجرة الخبيثة ، والّتى اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار ، والمراد بالجلود امّا جلود الأبدان أو جلود الأرواح وهي أبدانهم الخبيثة ، والسّؤال بانّ المعاقب يصير غير المذنب ساقط من أصله لا جواب له (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) لا مانع له من حكمه وعقوبته (حَكِيماً) لا يعاقب من غير استحقاق (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بعلىّ (ع) (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) حتّى كسبوا في ايمانهم خيرا (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) ثمّ صرف القول الى النّاس المحسودين بالخطاب لهم فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) ايّها النّاس المحسودون الّذين أتاكم الله من فضله وأتاكم الكتاب والحكمة والملك العظيم (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) شكرا لما أنعم به عليكم اى : لا تعطوها غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، والخطاب خاصّ بهم لكن يعمّ الأمر غيرهم أيضا لكونهم مأمورين بالتّأسّى بهم ولذلك عمّموا الآية في الاخبار.

تحقيق معنى الأمانات

والامانة ما يودع عند الأمين قصدا الى حفظه ونمائه ان كان له نماء ، وأمانات الله عند الإنسان كثيرة منها الامانة الّتى عرضها الله على السّماوات والأرض وهي أصلها وأساسها وأشرفها وأنماها وهي اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة الّتى لا جوهر أشرف منها في خزائنه تعالى ، ولمّا أراد إخراجها من خزائنه وكان لها لنفاستها أعداء كثيرة طلب لها مأمنا من سماوات الأرواح فلم يكن فيها مأمن لا يداعها ، ثمّ عرضها على أراضي الأشباح من الملكوتين وجملة عالم الطّبع فلم يجد لها مأمنا ، ثمّ عرضها على


المواليد الجماد والنّبات والحيوان فلم تكن لها باهل ، ثمّ عرضها على عالم الإنسان فوجده أهلا لها فأودعها فيه وقبلها الإنسان ؛ فلمّا أودعها الإنسان وكانت لشرافتها ونفاستها كثيرة الطّلاب والسّراق من أهل العالم السّفلىّ ولم يمكنه المدافعة من دون إمداد من صاحب الامانة جعل الله تعالى له جنودا من أهل العالم العلوىّ وامره بحفظها وانمائها حتّى إذا طالبها سلّمها سالما ناميا زاكيا ، فمن امتثل امره تعالى وجاهد مع طلّابها وسرّاقها وحفظها عن أيدي السّراق وأنماها وزكّاها صار مستحقّا للخلع الفاخرة البهيّة والمنصب العالي الولاية والنّبوّة والرّسالة والخلافة والجلوس في مقعد الصّدق عند المليك المقتدر ، ومن أهمل رعايتها حتّى اختطفها سرّاقها صار مستحقّا للسّجن والعقوبات ، ثمّ بعد تلك الامانة الأمانات الّتى أودعها الله الإنسان لحفظ تلك الامانة سوى الجنود العلويّة الّتى عدّها لامداد الإنسان في حفظها وهي المدارك والقوى والأعضاء الظّاهرة والباطنة وامره بحفظها لانّ لها أيضا طلّابا وسرّاقا من العالم السّفلىّ ، وامره بان يؤدّيها إلى أهلها الّذى هو العقل ثمّ قوّة قبول التّكاليف وامره ان يؤدّيها الى أهلها الّذى هو العقل في مظاهره البشريّة بان عرضها عليه وسلّمها لأمره ونهيه ثمّ التّكاليف القالبيّة النّبويّة الحاصلة له بالبيعة العامّة ، وامره ان يؤدّيها بعد حفظها واستنمائها الى أهلها الّذى هو صاحب التّكاليف القلبيّة بان عرضها عليه سالمة نامية ، ثمّ التّكاليف القلبيّة الباطنة الّتى أخذها من صاحب الدّعوة الباطنة بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الخاصّة ، وامره ان يؤدّيها الى أهلها الّذى هو صاحب الدّعوة التّامّة والولاية المطلقة اعنى عليّا (ع) فاذا استكمل له هذه الأمانات وحفظها وأنماها وسلّمها الى أهلها وارتضاها منه ورضى عنه أودعها أمانات شريفة نفيسة هي ودائع الخلافة الإلهيّة في العالم الكبير في لباس النّبوّة أو الرّسالة أو الخلافة أو الامامة وتلك أشرف الأمانات بعد الامانة الاولى ؛ وهي مختلفة فمنها ما هي من قبيل التّكاليف ولها أهل وهم المستعدّون لقبولها والعمل بها ، وبعضها من قبيل الخلافة ولها أهل وهم المستعدّون لاصلاح الخلق والتّبليغ لهم كالمشايخ والنوّاب الّذين كانوا خلفاء الأنبياء (ع) والأولياء (ع) ، وبعضها هو أصل الخلافة الإلهيّة ولها أهل وهم الّذين يقومون مقام الأنبياء (ع) والأولياء (ع) بعد رحلتهم ويصدق على أمانات النّاس الّتى هي من الاعراض الدّنيويّة أيضا انّها أمانات ولها أهل وهم صاحبو الأمانات (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) يعنى لم يكن الحكومة حتما عليكم وأنتم فيها بالخيار لكن إذا حكمتم يأمركم ان تحكموا بالعدل اى بسبب العدل الّذى في أيديكم ممّا نزل على محمّد (ص) من السّياسات ، أو بآلة العدل الّتى هو السّياسات الإلهيّة أو متلبّسين بالعدل والتّسوية بين الخصمين أو بالعدل والاستقامة خارجين عن الاعوجاج الّذى هو من مداخلة الشّيطان أو حالكون حكمكم متلبّسا بالعدل والتّسوية ، والعدل بين الخصمين هو التّسوية بينهما في المجلس والتّخاطب والشّروع في الخطاب والتّوجّه والبشر بل في ميل القلب ، فانّ التّسوية في ذلك خروج عن الاعوجاج إذا كانا مسلمين فانّهما ان كانا مسلمين وما سوّيت بينهما كنت جائرا ، وكذا إذا لم تسوّ بينهما في الميل القلبىّ من جهة الحكومة كنت معوّجا بتصرّف الشّيطان (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) فتقبّلوا عظته ، هذه جملة معترضة (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) تعليل لأداء الامانة الى أهلها والحكم بالعدل وتحذير عن المخالفة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) فيما انزل ولا سيّما عمدة ما انزل وهي ما به صلاحكم ورفع نزاعكم وردّ خلافكم وهو تعيين من ترجعون اليه في جملة أموركم الدّنيويّة والاخرويّة وفيما اشتبه عليكم وهي قوله انّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا (الى آخرها) فانّه لا خلاف بينهم انّه في علىّ (ع) (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما آتاكم وفيما نهاكم


عنه ف (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ولا سيّما عمدة ما آتاكم وهي قوله بعد ما قال : الست اولى بكم من أنفسكم ، الا ومن كنت مولاه فهذا علىّ (ع) مولاه ؛ ولا خلاف بينهم انّه من الرّسول (ص).

تحقيق معنى اولى الأمر

(وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) لم يكرّر أطيعوا اشارة الى تعيين اولى الأمر وانّ اولى الأمر من كان شأنه شأن الرّسول وامره امره وطاعته طاعته حتّى لا يكون لكلّ طاعة غير طاعة الآخر ، وتفسير اولى الأمر بامراء السّرايا والسّلاطين الصّوريّة الاسلاميّة نقض لصدر الآية أو التزام نسخ له أو التزام اجتماع النّقيضين لانّه لا نزاع في وجوب طاعتهم في امر الدّنيا أو لمحض التّقيّة ؛ انّما النّزاع في طاعتهم في امر الدّين من غير تقيّة ويلزم منه ما ذكر ، لانّ واو العطف للجمع والسّلاطين بعضهم فسّاق وقد يكون أمرهم خلاف امر الله وامر رسوله (ص) فلا يمكن الجمع بين الطّاعات الثّلاث فوجوب طاعتهم امّا ناقض لوجوب طاعة الرّسول (ص) أو ناسخ له أو التزام لاجتماع النّقيضين ، فانّ السّلاطين الجائرة يكون أمرهم بقتل النّفس المحرّمة مناقضا لنهيه تعالى عنه وكذا حال أمرهم بشرب الخمر لندمائهم مع نهيه تعالى عنه ، وتقريره انّه إذا كان المراد بأولى الأمر السّلاطين على ما زعموا يلزم وجوب طاعتهم في جميع ما أمروا ونهوا بصريح الآية وعدم ما يخصّصه ، لا يقال : المخصّص هو صدر الآية فانّ الأمر بطاعة الله والرّسول (ص) مقدّما على طاعة السّلطان يفيد وجوب طاعة السّلطان فيما لا ينافي طاعتهما ، لانّا نقول : يكون الأمر بطاعة السّلطان حينئذ لغوا لانّ امره ان كان مطابقا لأمر هما فالأمر بطاعة الاوّلين كاف عن ذلك الأمر ، وان كان منافيا فوجوب طاعتهما يفيد عدم وجوب طاعته ، وان كان غير معلوم مطابقته وعدمها فامّا ان نكون مأمورين بتشخيص المطابقة وعدمها ثمّ بالطّاعة وعدمها فبعد التّشخيص يأتى الشّقّان ، أو لم نكن مأمورين بتشخيص المطابقة فامّا ان نلتزم انّ امره مبيّن لأمر الله ورسوله ومطابق له فهو خلاف الفرض والتزام لمذهب الخصم ، أو لا نلتزم ذلك فيلزم حينئذ من الأمر بطاعته الإغراء بالحرام من الله والتّوالى باطلة ، وكلّما وجب طاعة السّلاطين في جميع ما أمروا ونهوا يلزم وجوب طاعتهم فيما يخالف امر الله ونهيه ويناقضهما ؛ فامّا ان يكون وجوب طاعتهم مقدما على وجوب طاعة الله مع بقاء وجوبها فيكون نقضا أو رافعا لوجوب طاعته وبيانا لانتهاء أمد وجوبها فيكون نسخا أو نلتزم بقاء الوجوبين فجواز اجتماع النّقيضين ، فان تعلّق الأمر والنّهى بقضيّة واحدة في زمان واحد مستلزم لجواز إيجاب تلك القضيّة وسلبها وهو التّناقض. فالحاصل انّ ارادة السّلاطين من اولى الأمر مناقضة مع صدر الآية بخلاف ما لو أريد بأولى الأمر من كان شأنه شأن النّبىّ وامره امره وعلمه علمه وكان معصوما من الخطاء والزّلل ، فانّ امره حينئذ يكون موافقا ومبيّنا لأمر الرّسول (ص) ولو لم يكن سوى هذه الآية في إثبات مدّعى الشّيعة لكفت هذه ولا حاجة لهم الى غيرها مع انّ عليه ادلّة عديدة عقليّة ونقليّة دوّنها القوم في تداوينهم ، وتوسّلهم بالإجماع وحديث لا تجتمع أمّتي على خطأ ؛ يدفعه آية الخيرة ، وحديث الغدير في مشهد جمّ غفير بحيث ما أمكن لهم إنكاره على انّ الإجماع محض ادّعاء وافتراء لخروج بعض الصّحابة عن البيعة وعدم حضور كثير في السّقيفة وردّ جمع على ابى بكر الخلافة وتوسّلهم بصلوته بالامّة في حال حياة الرّسول (ص) حجّة عليهم ، لانّ النّبىّ (ص) بعد ما أفاق وعلم انّ أبا بكر امّ بالقوم خرج مع ضعفه وازاله عن مقامه قبل إتمام صلوته وامّ بنفسه ، وهو دليل على انّه لم يؤمّ القوم به بأمره وانّه لا ينبغي له الامامة والّا كان تقريره عليها في حال حياته واجبا ، وحديث : سيّدا كهول أهل الجنّة ؛ يدفعه العقل والنّقل لانّ أهل الجنّة على أشرف الأحوال وهي حال الشّباب كما ورد انّ أهل الجنّة جرد مرد ، وحديث : لو لم ابعث لبعث عمر ؛ يكذّبه قول النّبىّ (ص) في حقّ من تخلّف عن جيش اسامة وردّه عليه في أمره بإحضار


القلم والدّواة لرفع النّزاع ، وقوله : انّ الرّجل ليهجر ؛ وخلافة ابى بكر بلا فصل بزعمهم ، ومواخاته (ص) مع علىّ (ع) دونه ، ووصايته بأداء ديونه وإنجاز عداته (ص) الى علىّ وأنت منّى بمنزلة هارون من موسى (ع) وكون علىّ (ع) بمنزلة نفسه تحت الكساء ، والمستحقّ للبعثة اولى بكلّ ذلك ، وتأسّى جبرئيل بأبى بكر في لبس الصّوف واسترضاء الله منه ؛ يكذّبه انّ التأسّى بالنّبىّ (ص) اولى واسترضاء النّبىّ (ص) أجدر مع انّه سوّف استرضاء النّبىّ (ص) فقال : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، وفرار الشّيطان من هيبة عمر ؛ يكذّبه فراره من الغزاء في أحد ، وآية : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) في الفارّين في أحد. والحاصل انّ مقدّماتهم الّتى نظموها شاعرين أو غير شاعرين مختلّة ، فانّهم حالا وقالا يقولون : انّ أبا بكر لم يكن معصوما وكلّ من لم يكن معصوما يمكن ان يكون خليفة للرّسول (ص) ، فأبو بكر يمكن ان يكون خليفة للرّسول ، وكلّ من يمكن ان يكون خليفة واجمع الامّة على خلافته فهو خليفة ، فأبوبكر خليفة ؛ فنقول : الصّغرى في القياس الثّانى وهي انّ أبا بكر يمكن ان يكون خليفة واجمع عليه الامّة باطلة بحسب إمكان خلافته كما يجيء وبحسب إجماع الامّة كما عرفت ، والكبرى فيه أيضا باطلة بآية الخيرة ، والصّغرى في القياس الاوّل مسلّمة بل نقول : انّ أبا بكر مثل عمر تخلّف عن جيش اسامة فضلا عن ان لم يكن معصوما ، وامّا الكبرى فيه فهي فاسدة ، لانّ الرّسول (ص) كان له الرّسالة والخلافة الالهيّة وهي تقتضي ان يكون صاحبها كالآلة ناظرا الى كلّ في مقامه ومعطيا لكلّ حقّه بحسب استعداده ولسان استحقاقه حافظا لكلّ بأسباب حفظه ، والّا لم يكن خليفة الله وكان له السّلطنة على كلّ من دخل تحت يده وهذه تقتضي التّسلّط عليهم بحسب الدّنيا والتّصرّف فيهم بأىّ نحو شاء فان كان المراد بخليفته وإمكان عدم عصمته هو خليفته في السّلطنة والغلبة في الدّنيا ، فمسلّم انّه لا يجب عصمته بل يجوز فسقه ؛ لكنّ الكلام في خلافة الرّسالة والسّياسة الالهيّة وهذا الوصف يقتضي كون صاحبه كالرّسول (ص) بصيرا ناقدا عالما بمرتبة كلّ واستحقاقه ولسان استعداده برزخا واسطة بين الخلق والحقّ موصلا كلّا الى غايته والّا كان مفسدا في الأرض ومهلكا للحرث والنّسل ، على انّه ان لم يصدّق الخلق بأنّه بصير من الله عالم بخفيّات الموجودات وجليّاتها قادر على حفظ كلّ في مرتبته وعلى إعطاء كلّ حقّه لا يقع منهم أطاعته عن صميم القلب فلم ينقادوا له باطنا فلم ينتفعوا منه بحسب الآخرة ، فان علموا انّه غير معصوم ويجوز له الخطاء فيما القى إليهم فكيف يسلّمون له وهذا هو الّذى اقتضى النّصّ في حقّه فانّ العصمة والبصيرة والعلم ببواطن الأمور امر ليس في ظاهر البشرة فيدرك بالأبصار حتّى يمكن معرفته للخلق ، بل أمر خفىّ لا يدركه الّا من كان محيطا به عالما بسرائره وخفيّاته فمن لم يكن عليه نصّ لا يمكن خلافته وفي آيات توقّف الشّفاعة على اذن الله اشارة الى هذا التّوقّف ولذلك قالت الصّوفيّة : توقّف الرّياسة الإلهيّة على الاذن والاجازة من ضروريّات المذهب أو قريب منها وكان سلسلة اجازتهم منضبطة يدا بيد ونفسا بنفس الى المعصوم ، والفقهاء رضوان الله عليهم قائلون به وكان سلسلة اجازتهم مضبوطة بل كانوا في الصّدر الاوّل إذا لم يحصل لأحد منهم الاجازة في الكلام مع الخصوم والرّواية عن المعصوم لم يتكلّم مع أحد في امر الدّين ولم يرو حديثا من أحاديث المعصومين ، ومشايخ اجازة الرّواية معروفة فمن ادّعى الخلافة ونيابة الرّسالة من غير اذن واجازة لم يكن كالصّدر الاوّل من العذاب بمفازة. ولمّا كان الرّسول (ص) مؤسّسا للاحكام السّياسيّة والعبادات القالبيّة أخذا للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمّى اخذه للبيعة من هذه الجهة إسلاما ، وكان هاديا من جهة القلب ومصلحا لاحوال الباطن ومبيّنا للآداب القلبيّة أخذا للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمّى ايمانا كان خليفته امّا خليفة له من الجهتين كعلىّ (ع) وأولاده المعصومين (ع) وكلّ من كان جامعا


للطّرفين حافظا للجانبين. وامّا خليفة له من الجهة الاولى وهم الفقهاء وعلماء الشّريعة رضوان الله عليهم الّذين تصدّوا للاحكام الظّاهرة وآداب السّياسة ، وامّا خليفة له من الجهة الاخرى كالصّوفيّة الصّافية الطّويّة من الشّيعة الّذين كان تمام اهتمامهم بأحوال الباطن وأحكام القلب والنّزاع بين الفريقين بإنكار كلّ طريقة الاخرى ناش من الجهل بحقيقة الرّسالة والغفلة عن كيفيّة النّيابة ، فانّ كلّا إذا حصل له الاذن والاجازة كان نائبا في مرتبته مأجورا في شغله مفروضا طاعته إماما في مرحلته محكوما على الخلق بالرّجوع اليه والأخذ منه ، وكلّ منهما إذا لم يحصل له الاجازة كان نسناسا بل خنّاسا وشيطانا مردودا ، فالنّزاع ليس في محلّه بل الحقّ ان يبدل النّفاق بالوفاق ويرجع كلّ الى صاحبه فيما هو من شأنه ويأخذ منه فيتصالحا ، فانّ الظّاهر غير غنىّ عن الباطن والباطن لا يستكمل بدون الظّاهر ، وقصّة اتّباع موسى (ع) للخضر (ع) مع كونه أفضل وأعلى من الخضر بمراتب عديدة برهان على جواز رجوع الأفضل في جهة الى من كان أفضل منه في جهة اخرى ، فلا بدّ ان يرجع صاحب الباطن الى عالم الشّرع في الأحكام الظّاهرة وصاحب الشّرع الى عالم الطّريقة في الأحكام الباطنة فاذا تصالحا وتوافقا فالأحسن ان يتظاهرا ويدفعا كلّ منافق كذّاب من مدّعى الفتيا والسّلوك عن ادّعائه ويظهرا بطلانه ويحفظا الدّين عن غوائل الشّياطين من الكذّابين وتلبّس بعض الزّنادقة بلباس الصّوفيّة ، وكذا تلبّس المتصوّفة من العامّة بلباسهم وصدور ما ينافي الشّريعة عنهم قولا وفعلا لا يصير سببا لطعن صوفيّة الشّيعة ؛ فانّهم مراقبون كمال المراقبة في ان لا يصدر عنهم ما يخالف الشّريعة قولا وفعلا بل يقولون ترك القيد في ان يتقيّد الإنسان بالشّريعة ويراقبون ان لا يجرى على لسانهم غير ما جرى على لسان الشّريعة فكيف بفعلهم واعتقادهم (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) يسير فكيف بالخطير خصوصا النّبأ العظيم الّذى هو الخلافة (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) لم يقل والى اولى الأمر لانّ المقصود الاصلىّ انّه إذا وقع التّنازع بينكم في تعيين ولىّ الأمر فردّوه إليهما فاذا عينّاه لكم فردّوا جميع أموركم اليه ، وفي بعض الاخبار انّ الآية هكذا فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والى الرّسول والى اولى الأمر منكم يعنى ردّوا جميع ما خفتم التّنازع فيه الى قولهما فانّهما بيّنا جميع ما تحتاجون اليه ببيانه في الكتاب والسّنّة وبتعيين من عنده علم الكتاب فانّ قول الله (أَطِيعُوا اللهَ) (الى آخر الآية) وقوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) (الى آخر الآية) في علىّ (ع) وقول محمّد (ص) : من كنت مولاه (الحديث) بيّنا انّ الاولى بكم من أنفسكم وأحرى بالرّجوع اليه والأخذ منه والتّسليم له هو علىّ (ع) فان رددتم كلّما خفتم التّنازع فيه الى علىّ (ع) بعد ما رددتم النّزاع الكلّىّ الى الكتاب والرّسول (ص) وأخذتم بقولهما فيه لم يبق لكم ريب ونزاع في شيء من الأشياء وان حكّمتم الرّجال دون الكتاب وقول الرّسول (ص) خرجتم من الرّشاد وطريق السّداد الى الحيرة والارتياب ؛ هذا في الكبير ، وأمّا في العالم الصّغير فانّ تنازع النّفس وهواها والطّبيعة وقواها معكم في شيء من الأشياء فاعرضوه على الرّوح والعقل فكلّما ارتضاه العقل وصدّقه الرّوح فخذوه وكلّما لم يصدّقه العقل وان كان النّفس ارتضته فاتركوه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعنى انّ الايمان بهما يقتضي ردّ كلّ ما اشتبه عليكم الى الكتاب والسّنّة ومن عنده علمهما ، وترك الرّجوع الى الكتاب والسّنّة ومبيّنهما دليل عدم الايمان بهما (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) من تحريفكم اولى الأمر من معناه الى السّلاطين ووليّكم الى المحبّ ومولاه الى المحبّ حتّى يستقيم لكم رأيكم الباطل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) اى الخارج من حكومة العقل الّذى هو


علىّ (ع) البالغ في الطّغيان عليه (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) اى بمن خرج عن حكومة العقل وحكم الله (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) بعد ما بيّن وجوب طاعة الله فيما انزل وطاعة الرّسول فيما حكم وطاعة ولىّ الأمر يعنى صاحب الامارة الباطنة وصاحب عالم الأمر مقابل الخلق وبيّن وجوب الرّدّ الى كتاب الله والى الرّسول (ص) وقد عيّن في الكتاب وبيّن الرّسول من هو ولىّ الأمر وترجمان الكتاب والسّنّة وقد لزم منه انّ من خرج عن طاعة الله وطاعة الرّسول (ص) ونبذ قولهما في تعيين ولىّ الأمر وراء ظهره لم يكن مؤمنا وظهر ذلك بحيث لا خفاء فيه خاطب رسوله على سبيل التّعجيب من بلادة من اتّبع الشّيطان بإضلال الطّاغوت فانّ القضيّة وان لم تكن بعد لكنّها مشهودة لمحمّد (ص) فالآية ان كانت نازلة في الزّبير بن العوّام ورجل من اليهود كما ورد انّ الزّبير نازع يهوديّا في حديقة فقال الزّبير : نرضى بابن شيبة اليهوديّ وقال اليهوديّ : نرضى بمحمّد (ص) فنزلت حرمة المحاكمة الى الطّاغوت وسلاطين الجور وقضاتهم ، وحرمة ما أخذ بحكمهم قد وردت عن ائمّتنا المعصومين ، فعن الصّادق (ع) للاشارة الى تعميم الآية : ايّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ فدعاه الى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى الّا ان يرافعه الى هؤلاء كان بمنزلة الّذين قال الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) (الآية) ، وعنه (ع) انّه سئل عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السّلطان أو الى القضاة ؛ أيحلّ ذلك؟ ـ فقال : من تحاكم الى الطّاغوت فحكم له فانّما يأخذ سحتا وان كان حقّه ثابتا لانّه أخذ بحكم الطّاغوت وقد امر الله ان يكفر به ، قيل : كيف يصنعان؟ ـ قال : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فانّى قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فانّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله.

تحقيق حديث انظروا الى من كان منكم

وقد روى هذا الخبر في الكافي بتغيير يسير وقوله : الى من كان منكم مقصوده من كان قد دخل في هذا الأمر وعرف ولايتنا وقبل الدّعوة الباطنة وبايع معنا البيعة الخاصّة الولويّة لا من انتحل الإسلام كأكثر العامّة أو بايع على يد من لا يجوز البيعة على يده كخلفاء الزّور ، وقوله : قد روى حديثنا ، مراده انّ العارف لهذا الأمر لا ينصب نفسه لرواية الحديث الّا ان يؤذن له بحسب استعداده واستحقاقه وقوله : نظر في حلالنا وحرامنا يعنى به انّ الدّاخل في هذا الأمر ما لم يستعدّ للنّظر في حلالنا وحرامنا بخروجه من حكومة النّفس والشّيطان وبإصلاح نفسه بقدر استعداده من تخليته عن الرّذائل وتحليته بالفضائل لا يؤذن له في النّظر الى ما هو خارج عن نفسه بل يلقى اليه ما هو تكليفه ويؤمر بالعمل به حتّى يخلص من غوائل نفسه فاذا خلص يؤذن له في النّظر الى ما هو خارج عن نفسه ، وقوله : عرف أحكامنا ، يعنى بسماع اشخاصها منّا أو بسماع كلّياتها بحيث تنطبق على الجزئيّات لانّ المعرفة تستعمل في العلوم الجزئيّة الحاصلة من المدارك الجزئيّة وقوله : فارضوا به حكما ، يعنى انّ الأوصاف المذكورة تدلّ على انّه منصوب منّا مأذون من قبلنا وكلّ من كان منصوبا منّا لا بدّ من الرّضا بحكومته لانّ حكومته بإذننا هي حكومتنا ، وقوله : فانّى قد جعلته عليكم حاكما ، مؤكّدا بانّ واسمّية الجملة وتكرار النّسبة بتقديم المسند اليه قرينا بقد وماضويّة المسند يدلّ مثل سابقه على انّ الجعل والنّصب قد وقع منه سابقا ؛ فالحديث دليل على الاذن الخاصّ الحاصل للموصوف بهذه الأوصاف وعلى انّ هذه الأوصاف أمارات هذا الاذن. هذا في الكبير ، وامّا في الصّغير فالمراد بالتّحاكم الى الطّاغوت التّحاكم الى الخيال وقبول حكومته بإضلال شيطان الوهم وحيلته وهما مظهر الطّاغوت


والشّيطان في الصّغير ، فمن أكل ولبس ونكح وجمع المال بحكومة الخيال فهو آكل السّحت ، (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) ، اشارة اليه ، وقد أمروا ان يكفروا بحكومته الخيال ويرجعوا الى كتاب القلب ورسول العقل ؛ وعلىّ الرّوح ، فمن رجع الى حكومة علىّ الرّوح الجارية على لسان رسول العقل الثّابتة في كتاب القلب فكلّ ما فعل فهو حلال وان كان يرى صورته خلافا ، وكلّ ما فعل بحكومة الخيال فهو حرام وان كان يرى صورته وفاقا ، فالصّوم والصّلوة والحجّ والجهاد من اتباع الشّيطان سحت وعصيان ، والنّوم والنّكاح والاكل والمزاح من اتباع علىّ (ع) طاعة وإحسان. ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

مشورت با نفس خود گر ميكنى

هر چه گويد كن خلاف آن دنى

گر نماز وروزه مى فرمايدت

نفس مكّار است مكري زايدت

وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ، وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ) عليه ، اشارة الى هذا ، وقد قال المولوىّ روّح الله روحه :

هر چه گيرد علّتى علّت شود

كفر گيرد كاملى ملّت شود

از سموم نفس چون با علّتى

هر چه گيرى تو مرض را آلتى

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) يعنى انّا أريناك القضايا الآتية والمنازعات المستقبلة ممّا سيقع بين علىّ (ع) وأصحابه وبين المنافقين وأحزابهم من المحاجّات والمنازعات ومن دعائهم الى كتاب الله والى ما قلت في حقّه فكلّما قيل لهم تعالوا نجعل الكتاب وسنّة الرّسول حكما (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) صدّ عنه صدودا بمعنى اعرض وصدّ عنه صدّا بمعنى منع ، والمقصود انّهم يعرضون عن علىّ (ع) وأتى به خطابا لمحمّد (ص) امّا تعريضا بعلىّ (ع) أو للاشارة الى انّ الصدّ عن علىّ (ع) صدّ عنه لانّه ظهوره بعده وبمنزلة نفسه كما دلّ عليه آية أنفسنا ، وفي الخبر اليه اشارة (فَكَيْفَ) حالك معهم (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) عقوبة من الله (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ) للاعتذار كذبا (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً) بك وبامّتك (وَتَوْفِيقاً) بينهم (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النّفاق ويستر عليهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) اى عن تفضيحهم ولا تعاقبهم ودارهم فانّ في مداراتهم مصلحة كلّيّة لنظام الكلّ (وَعِظْهُمْ) إتماما للحجّة وتقليلا لاظهارهم نفاقهم (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) في شأن علىّ (ع) فانّه نفسيّة كلّ ذي نفس أو في الخلوة أو في شأن أنفسهم (قَوْلاً بَلِيغاً) يؤثّر فيهم ويمنعهم من إظهار نفاقهم حتّى لا يوافقهم كثير من أمّتك فانّ أكثرهم بسبب قتل علىّ (ع) منهم أقاربهم يعادونه وإذا رأوا من يعانده وينافقه يوافقونه ، والمداراة مع هؤلاء المنافقين وموعظتهم وتخويفهم بحيث لا يجترءون على إظهار نفاقهم مع غيرهم أصلح لحفظ أمّتك عن النّفاق (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) عطف على قوله : (إِذا قِيلَ لَهُمْ) ، وتنبيه على غاية شقاوتهم في الآباء عن الرّجوع اليه (ص) (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالمعاهدة على معاندة علىّ (ع) والاتّفاق على غصب حقّه تابوا وندموا و (جاؤُكَ) يعنى جاؤا عليّا (ع) تعريضا أو لانّه مظهره (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) مخلصين عند علىّ (ع) (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) اى نفس الرّسول (ص) وهو علىّ (ع)


(لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) فانّه جعل عليّا (ع) بابه ومظهر رحمته فمن تاب عنده فاز بتوبة الله ورحمته (لا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصيرون متّصفين بالإسلام والايمان العامّ (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أو يحكّموا عليّا (ع) (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) اى فيما تنازعوا فيه من ، شجر الأمر بينهم ، بمعنى تنازعوا فيه (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) أنت أو علىّ (ع) (وَيُسَلِّمُوا) أنفسهم لك أو لعلىّ (ع) (تَسْلِيماً) في الكافي عن الباقر (ع) لقد خاطب الله أمير المؤمنين (ع) في كتابه في قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا) وتلا الى قوله (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) قال فيما تعاقدوا عليه لئن أمات الله محمّدا (ص) لا يردّوا هذا الأمر في بنى هاشم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت عليهم من القتل أو العفو ويسلّموا تسليما ، وأمثال هذا من اسرار الكتاب الّتى لا يعلمها الا من خوطب به والرّاسخون في العلم يقولون كلّ من عند ربّنا ولقد بيّنا وجه صحّته مع كون الخطاب ظاهرا لمحمّد (ص) (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) فرضنا (عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كفّارة لذنوبكم كما كتبنا على بنى إسرائيل بعد عبادتهم للعجل (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) بالجلاء (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) تفضيح بليغ لهم ببيان انّ حالهم في اتّخاذهم العجل بإغواء سامريّهم أقبح وأقوى في الشّقاء من قوم موسى (ع) فانّهم ندموا وتابوا وبعد ندمهم كتبنا عليهم القتل ففعلوا وهؤلاء لا يندمون ولو ندموا لا يفعلون ما كتب عليهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من الرّجوع الى الكتاب والى قولك في علىّ (ع) ومن الرّجوع اليه والرّضا بحكومته والتّسليم له بعد التّندّم وطلب الاستغفار منه (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لاقدامهم على الإسلام (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) لانّه باب رحمتنا فلا يردّ من أتاه خائبا (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) فانّ النّدم عن خلافهم معه وطلب المغفرة منه يوجب شمول رحمتنا لهم ، وبشمول رحمتنا يستحقّون الايمان والتّوبة الخاصّة على يده ، وحينئذ يقبلهم ويتوب عليهم ويأخذ منهم البيعة الخاصّة الولويّة ، ويفتح لهم بابا الى الصّراط المستقيم الّذى هو صراط القلب بل الطّريق الى الحضور عنده الّذى هو الحضور عند الله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) بقبول أمرهما في علىّ (ع) ، فاذا قبل ما قالا في علىّ (ع) رجع اليه والتجأ اليه ، ومن التجأ اليه عن صدق صار مقبولا عنده ، ومن صار مقبولا عنده رحمه وأخذ البيعة وميثاق الله منه وادخله في ولايته ، ومن ادخله علىّ (ع) في ولايته (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) فانّ النّعمة الحقيقيّة هو علىّ (ع) وولايته فما بلغ من بلغ النّبوّة وكمالاتها الّا بولاية علىّ (ع) ، وما ابتلى من ابتلى منهم الّا بالوقوف في ولاية علىّ (ع) (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) والنّبىّ هو إنسان اوحى اليه بشيء ، والصّدّيق هو الّذى خرج عن الاعوجاج قولا وفعلا وعقيدة وخلقا بحيث لا يبقى فيه اعوجاج ويخرج غيره أيضا عن الاعوجاج فانّ المبالغة تقتضي ذلك والمراد بهم الأوصياء الّذين صاروا كاملين في أنفسهم مكمّلين لغيرهم ، والشّهداء هم الّذين شهدوا الغيب بالسّلوك أو بالجذب ووصلوا الى مقام القلب وحضروا عند ربّهم في الولاية الّذى هو علىّ (ع) ، أو المراد بهم الّذين استشهدوا في الجهاد ، والصّالحين هاهنا هم الّذين توسّلوا بالولاية ولم يبلغوا مقاما فيها لكن سلكوا عن صدق (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) ترغيب للنّاس وتحريص لهم على الولاية ، وبشارة للمؤمنين بانّ الفضل الّذى ينبغي


ان يتنافس فيه ولا فضل سواه هو ذلك التّرافق فمن طلب الفضل فليتولّ عليّا (ع) وليدخل في ولايته بالبيعة له (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بمقدار استحقاقكم وسلوككم في طريق ولايته فيتفضّل عليكم بقدر طاعتكم وسلوككم فلا يكتف من بايع عليّا (ع) بالبيعة الولويّة بمحض البيعة وليطلب زيادة الفضل والدّرجة العليا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) بعد ما ذكر المنافقين وحالهم ومآلهم والموافقين وحالهم ومآلهم ، نادى المؤمنين شفقة بهم وحذّرهم عن صدّ المنافقين ايّاهم فأمرهم بأخذ الحذر وهو التّيقّظ والتّهيّؤ للعدوّ وقد يستعمل في السّلاح وهو ما به التّيقّظ والاستعداد ، فان كان المراد بالمؤمنين الّذين بايعوا البيعة العامّة الّتى هي الإسلام فالمراد بالحذر الظّاهر الاسلحة للجهاد الصّورىّ وبالحذر الباطن التّمسّك بقول محمّد (ص) في علىّ (ع) والتّذكّر له مداما كما قال (ص) في خطبته قبل إلقاء ولاية علىّ (ع) عليهم توصية لهم : رحم الله امرء سمع فوعى فوصّاهم بالحفظ وان كان المراد بهم الّذين بايعوا عليّا (ع) وتابوا على يده ودخل بنفخته الايمان في قلوبهم وهو الايمان حقيقة فالمراد بالحذر الصّورىّ الاسلحة أيضا والمراد بالحذر الباطنىّ الصّلوة الّتى علّمها ايّاهم فانّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وانّها السّلاح الّذى تردع الشّياطين الجنّيّة والانسيّة عن باب الله الّذى هو الولاية (فَانْفِرُوا) الى الجهاد الصّورىّ الجلىّ مع الكفرة أو الصّورىّ الخفىّ مع المنافقين المبطّئين ، أو الى الجهاد الباطنىّ مع أعدائكم الباطنيّة المبطئين لكم عن سلوككم ورجوعكم الى باب القلب والحضور عند علىّ (ع) في بيت القلب (ثُباتٍ) جمع الثّبة بضمّ الثّاء بمعنى الجماعة والمعنى انفروا متدرّجين كما هو شأن الحازمين في الغزو الظّاهرىّ وشأن السّالكين في الغزو الباطنىّ (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) مجتمعين كما هو شأن المتجلّدين المتجرّئين في الغزو الصّورىّ وشأن المجذوبين في النّفور الباطنىّ ولمّا كان المناسب بيان حالهم من السّلوك والتّرغيب فيه والتّبطئة منه قال تعالى في ذلك : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) عطفا على محذوف هو قسيمه اى انّ منكم لمن يسرع في النّفر أو يبطئ فيقتل أو يقتل واكتفى عنه بقوله : ومن يقاتل في سبيل الله وفصّل أحوال المبطّئين (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) ظاهره كالقتل والهزيمة والجراحة أو باطنه كالرّياضات والابتلاءات الّتى تكون في الطّريق (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) فيرى السّلامة في دار البلاء عن الابتلاء في طريق دار الرّاحة نعمة والحال انّها نقمة إذا لم تكن في طريق الآخرة ، أو مع الانصراف عن الولاية ، فعن الصّادق (ع) لو قال هذه الكلمة أهل الشّرق والغرب لكانوا بها خارجين من الايمان ولكنّ الله قد سمّاهم مؤمنين بإقرارهم ، وفي رواية : وليسوا بمؤمنين ولا كرامة ، والسّرّ فيه ، انّه ما لم يختر الدّنيا وهوى النّفس لا يرى السّلامة فيها نعمة ، ومن اختارها لم يكن له حظّ من الايمان ، وباسم الايمان لا يحصل له كرامة بل الكرامة بالايمان الّذى هو قبول الدّعوة الباطنة والبيعة مع صاحبها بشرائطها وبكسب الخير فيه الّذى يؤدّى الى إيثار الآخرة على الدّنيا (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) ظاهرا أو باطنا ولمّا كان القضيّة الاولى كأنّها مع من هو خالي الّذهن عن الحكم وسؤاله وإنكاره حسن خلوّها عن التّأكيد وهذه لمّا كانت بعد الاولى وصار المخاطب بذكر قسيمها مستعدّا للسّؤال عن القسيم الآخر اكّدها باللّام الموطّئة والقسم ولام القسم ونون التّأكيد استحسانا (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) يعنى انّ الوصلة الايمانية تقتضي السّرور بتنعّمكم والحزن بمصيبتكم فالسّرور حين أصابتكم بسلامته والتّحسّر حين التّفضّل عليكم بعدم وصول الفضل اليه دليل على


مباينته لكم وان كان موافقا لكم بظاهر قوله ولذلك أتى بالجملة المعترضة بين القول ومقوله ، وإذا كان حال المبطّئين على ما ذكر (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) المؤمنون (الَّذِينَ يَشْرُونَ) اى يبيعون (الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) اى الّذين باعوا على يد محمّد (ص) أو علىّ (ع) أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة فصار حالهم ان يعطوا تدريجا من المبيع ويأخذوا على حسبه من الثّمن (وَمَنْ يُقاتِلْ) عطف على محذوف جواب لسؤال مقدّر تقديره : من لم يقاتل فهو ملحق بالمبطّئين أو حال عن الّذين يشرون (فِي سَبِيلِ اللهِ) اى حالكونه في سبيل الله أو في حفظ سبيل الله (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) يعنى كلاهما له فلا ينبغي ان يطلب بجهاده الغلبة بل إعزاز نفسه بامتثال الأمر وإعزاز الدّين ببذل نفسه أو غلبته ، روى عن النّبىّ (ص) انّه قال : للشّهيد سبع خصال من الله ، اوّل قطرة مغفور له كلّ ذنب ، والثّانية يقع رأسه في حجر زوجيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه ، الى ان قال : والثّالثة يكسى من كسوة الجنّة ، والرّابعة يبتدر خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة ايّهم يأخذه منه ، والخامسة ان يرى منزله ، والسّادسة يقال لروحه : أسرع في الجنّة حيث شئت ، والسّابعة ان ينظر في وجه الله وانّها الرّاحة لكلّ نبىّ وشهيد (وَما لَكُمْ) اىّ منفعة لكم أو اىّ مانع لكم والجملة عطف على قوله ليقاتل أو حال أو معطوف على مقدّر تقديره : إذا كان القتال لكم مطلقا فما لكم لا ترغبون؟ فيه وما لكم (لا تُقاتِلُونَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر أو حال عن المجرور (فِي) تقوية (سَبِيلِ اللهِ) أو حفظها وهي الولاية فانّها سبيل الله حقيقة وكلّما انشعب منها أو اتّصل بها فهو سبيل الله بتبعها (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على الله أو على سبيل الله سواء كان المراد بهم الائمّة واتباعهم وأولادهم الّذين عدّهم أشباه النّاس ضعفاء أو جعلوهم ضعفاء بمنع فيئهم وقتل أنصارهم أم كان المراد بهم ضعفاء العقول من الشّيعة أو غيرهم ، والمعنى ما لكم لا تقاتلون الأعداء الظّاهرة للولاية في تقوية الولاية واعلائها واعلانها بأيديكم وألسنتكم وأموالكم ببذلها للأعداء في اسكاتهم أو ببذلها لمن يدافعهم ويسكتهم والأعداء الباطنة لها بألسنتكم بأذكارها وبجوارحكم بأعمالها وبقواكم الّتى هي أموالكم الباطنة ببذلها حتّى تدفعوا أعداءها عنها وفي تقوية الّذين عدّهم الأعداء أو جعلوهم ضعفاء من الائمّة واتباعهم وفي نصرتهم ، أو تقوية المعدودين من الضّعفاء بدفع الشّبه الواردة عليهم من الأعداء وهم شيعة ائمّة الهدى (ع) ، أو في تقوية الضّعفاء من جنود وجودك الّتى عدّهم الشّيطان وجنوده أو جعلوهم ضعفاء ، أو في حفظ المعدودين من ضعفاء العقول عن الهلاك والضّياع (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ) لا قوّة لهم على مدافعة الأعداء و (يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) ان كان النّزول في ضعفاء مكّة فلا اختصاص لها بهم كما في الخبر فالقرية مكّة وكلّ قرية لا يجد الشّيعة فيها وليّا من الامام ومشايخهم وكلّ قرية وقع بها الائمّة بين منافقي الامّة وقرية النّفس الحيوانيّة الّتى لا يجد الجنود الانسانيّة فيها وليّا ويطلبون الخروج منها الى قرية الصّدر ومدينة القلب ويسألون الحضور عند امامهم أو مشايخهم في بيت القلب خاليا عن مزاحمة الأغيار بقولهم (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) تكرار اجعل لانّ مقام التّضرّع والابتهال يناسبه التّطويل والإلحاح في السّؤال ولانّ المسؤل ليس شخصا واحدا ولو كان واحدا لم يكن مسئولا من جهة واحدة بل المسؤل محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، أو المسؤل محمّد (ص) من جهة هدايته ومن جهة نصرته ، أو علىّ (ع) كذلك وقد بقي بين الصّوفيّة ان يكون التّعليم والتّلقين بتعاضد نفسين متوافقتين يسمّى أحد ـ


الشّخصين هاديا والآخر دليلا ، والشّيخ الهادي له الهداية وتولّى أمور السّالك فيما ينفعه ويجذبه والشّيخ الدّليل ينصره لمدافعة الأعداء ويخرجه من الجهل والرّدى بدلالته طريق التّوسّل الى شيخ الهدى ، وفي الآية اشارة الى انّ السّالك ينبغي له ان يطلب دائما حضوره عند شيخة بحسب مقام نورانيّته ومقام صدره وهو معنى انتظار ظهور الشّيخ في عالمه الصّغير وامّا ظهور الشّيخ بحسب بشريّته على بشريّة السّالك فلا يصدق عليه انّه من لدن الله وإذا ظهر الشّيخ بحسب النّورانيّة كان وليّا من لدن الله ونصيرا من لدنه (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال أو مستأنف في مقام التّعليل والمعنى لا ينبغي لكم ترك المقاتلة لانّ الإنسان لا يخلو عن المقاتلة واكتفى عن نسبة المقاتلة بطريق العموم والاستمرار الى الإنسان بنسبة المقاتلة الى الفريقين والإتيان بالمضارع الدالّ على الاستمرار التّجدّدىّ ولانّ المؤمنين يقاتلون في سبيل الله وقد مضى انّه من يقاتل في سبيل الله فالعاقبة له سواء غلب أو غلب (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) ومن يقاتل في سبيل الطّاغوت لا تجد له نصيرا كما مضى انّ المؤمنين بالجبت والطّاغوت لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ولا تجد له ظهيرا ، لانّ الشّيطان يعدهم وما يعدهم الّا غرورا وبعد ما يوقعهم فيما يريد يفرّ عنهم.

اعلم انّ نفس المقاتلة والمعارضة مع الأعداء لا تكون الّا عن قوّة القلب الّتى هي مبدء كثير من الخيرات كالشّجاعة والسّخاوة والعفّة والجرأة والشّهامة وغيرها وتورث قوّة للقلب ، وإذا كان بإذن وامر من الله يورث توكّلا تامّا وعاقبة محمودة ويوجد للمجاهد ناصر ومظاهر من الله ولذلك ورد التّأكيد في امر الجهاد ومدح المجاهدين وذمّ القاعدين من غير عذر (فَقاتِلُوا) الجملة جزاء شرط محذوف مستفاد من السّابق تقديره : إذا كان المؤمنون يقاتلون في سبيل الله والكافرون يقاتلون في سبيل الشّيطان فقاتلوا ايّها المؤمنون (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) أبدل من الكافرين أولياء الشّيطان اشعارا بذمّ آخر لهم (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) ترغيب وتجرئة للمؤمنين (أَلَمْ تَرَ) الخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب والمقصود التّنبيه على حال القاعدين وانّهم كالنّساء في الجبن وضعف القلب حتّى يكون ترغيبا في الجهاد وتحذيرا عن القعود كأنّه قال : انظر (إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) عن القتال وألسنتكم عن الجدال كما أشير اليه في الخبر (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) حتّى تعلم فضيلة الجهاد وانّ الّذين يقعدون عن القتال مع الأعداء الظّاهرة أو الباطنة لا تمكّن لهم في شيء من صفات الرّجال بل يكون حالهم كحال النّساء في ابتغائهنّ الرّاحة والبقاء وخوفهنّ عن مجاهرة الأعداء ، وان كان الخطاب للنّبىّ (ص) فالتّعريض بالامّة ، ونزولها ان كان في مؤمني مكّة قبل هجرة الرّسول أو قبل هجرتهم بعد هجرة الرّسول فهي جارية في كلّ زمان وزمان كلّ امام ، فعن الباقر (ع) أنتم والله أهل هذه الآية ، وعن الصّادق (ع: كفّوا أيديكم يعنى كفّوا ألسنتكم ، وعن الباقر (ع): كفّوا أيديكم مع الحسن (ع) كتب عليهم القتال مع الحسين (ع) الى أجل قريب الى خروج القائم عجّل الله فرجه فانّ معه الظّفر (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لعدم تدرّبهم الجهاد وعدم تمكّنهم في صفات الرّجال (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا) لضيق صدورهم عن مجاهرة الأعداء (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) زمان دولة المؤمنين وتلك الأحوال قد تعرض للسّالك فيؤمر بالعزلة عن الخلق والصّمت عن المجادلة والمكالمة من غير ضرورة ثمّ يؤمر بالمعاشرة والمدافعة عن إخوانه وقضاء


حوائجهم فيضيق صدره عن ذلك ولا يتمالك نفسه حتّى يصدر عنه مثل هذه المقالات ، وصدور مثل هذه المقالات عن الكافّين دليل فضيلة المقاتلة وشرف المعاشرة (قُلْ) لهم (مَتاعُ الدُّنْيا) تمتّعها أو أعراضها الّتى هي مرغوبة للنّساء (قَلِيلٌ) بحسب المقدار والكيفيّة والبقاء (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) عن التّعلّق بمتاع ـ الدّنيا وتسارع الى قتال الأعداء (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) حتّى تخافوا ان لا توجروا على متاعبكم فان كنتم تخافون الموت وفراق الدّنيا كالنّساء فاعلموا انّ الآخرة الّتى تفرّون منها خير لكم وان تسألوا انّ الفرار من القتال هل يورث البقاء؟ ـ فيقال في الجواب (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) قصور مرتفعة ، فالجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر من الله أو مقول قول الرّسول (ص) ثمّ صرف الخطاب عنهم الى محمّد (ص) فقال لكن ان تعظهم بكلّ عظة لا يفقهوا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) مثل قولهم (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) (الى آخر الآية) (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فانّ الفاعل في كلّ موجود هو الله وليس منكم الّا استعداد القبول والسّيّئة والحسنة منسوبة إليكم نسبة الشّيء الى القابل ومنسوبة الى الله نسبة الشّيء الى الفاعل ، لكنّ السيّئات اى الاعدام أو الموجبات للاعدام لمّا كان الوجود فيها ضعيفا بحيث عدّها بعضهم اعداما صرفة تكون نسبتها الى الفاعل ضعيفة لضعف الوجود فيها والنّسبة الى الفاعل لا تكون الّا من حيث الوجود ، وتكون نسبتها الى القابل أقوى لتبعيّتها لاعدام القابل فيكون القابل اولى بها ، والحسنات لمّا كان الوجود فيها قويّا تكون نسبتها الى الفاعل أقوى فيكون الفاعل اولى بها (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فيتخالطون في الكلام كتخاليط النّساء (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) جواب لسؤال نشأ من قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) كأنّ قائلا يقول : فلا نسبة لها إليهم ولا تفاوت في نسبة الجميع الى الله فقال : ما أصابك من حسنة (فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) والخطاب امّا لغير معيّن أو لمحمّد (ص) من قبيل : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، والسرّ في اختلاف النّسبتين ما عرفت (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) لا فاعلا للخير والشّرّ فلا وجه للتطيّر بك (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) فما يضرّك عدم إقرارهم برسالتك (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) وضع المظهر موضع المضمر اشارة الى التّعليل (فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) في قوله أطيعوا الرّسول ، أو لانّه مبلّغ والآمر والنّاهى هو الله ، أو لانّ الرّسول (ص) لمّا فنى من نفسه وبقي بالله ونسبته الى الله أقوى من نسبته الى بشريّته ، وظهور الله فيه أتمّ من بشريّته كما قال : من راني فقد رأى الحقّ ، فمن أطاعه من حيث ظهور بشريّته يعلم انّه أطاع الله قبل حيثيّة بشريّته ولذلك أتى بالماضي مصدّرا بقد للدلالة على مضيّه لتقدّم نسبته الى الله وظهوره فيه على نسبته الى بشريّته (وَمَنْ تَوَلَّى) الإتيان بالماضي مع كون الفعل في المعطوف عليه مستقبلا لكون الاطاعة امرا يحدث بعد ما لم يكن على سبيل التّجدّد والتّولّى امر مفطور عليه لا تجدّد فيه سوى البقاء عليه فقد تولّى عن الله فلا تتحسّر عليهم لتولّيهم عنك (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) حتّى تتحسّر على عدم حفظك ايّاهم (وَيَقُولُونَ) بألسنتهم شأننا (طاعَةٌ) لك في علىّ (ع) كأنّه قال لكنّهم يطيعون بألسنتهم ويتولّون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم شأننا طاعة (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) ودبّروا ليلا (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أنت في علىّ (ع) أو تلك الطّائفة من الطّاعة لك في علىّ (ع) فيقولون


ويتعاقدون على ان يمنعوا عليّا (ع) من الخلافة (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) تسلية للرّسول (ص) وتهديد لهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تؤاخذهم فانّه أصلح لك لعدم افتتان سائر أمّتك (وَتَوَكَّلْ) في جملة أمورك خصوصا فيما تهتمّ به من خلافة علىّ (ع) (عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فانّه لا حاجة له الى معاون في إمضاء امر ولا الى مشاور في استعلام امر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وانّه من عند الله حتّى يعلموا صدقك ورسالتك فلا يبيّتوا خلاف طاعتك ، والتّدبّر كالتّفكّر (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) عطف على القرآن باعتبار انّ التّدبّر يتعلّق بنسبة الجملة لكنّ الفعل معلّق بالواو الجملة حاليّة (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) لانّ فيه بصورته تخالفا وتناقضا لكنّه لمّا كان من عند الله وله بحسب العوالم العديدة بطون وجهات كان كلّ من المتخالفات منزّلا على عالم أو على جهة أو المعنى انّه لو كان من عند غير الله كما قالوا انّما يعلّمه بشر ، وانّه افتراء لوقع فيه التّخالف لانّ الكذب لعدم ابتنائه على أصل أو شهود لا يقع بين اجزائه توافق ولكن ليس فيه تخالف حقيقة (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) عطف على مجموع إذا برزوا من عندك ، أو على جزائه اعنى بيّت طائفة ، أو عطف على لا يتدّبرون القرآن ، أو على مجموع أفلا يتدّبرون القرآن باعتبار المقصود ، أو حال يعنى إذا جاءهم خبر من سراياك أو من جانب العدوّ أو من قولك بوعد الفتح أو الوعيد من العدوّ أذاعوه لعدم توكّلهم وعدم ثباتهم في الايمان ، وكذا إذا جاءهم امر في باطنهم من المنامات أو الحالات أو الخيالات والخطرات المبشّرة أو المخوّفة أذاعوه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) اى وكلوه إليهم ولا يتكلّموا فيه بشيء أو اظهروه عليهم لا على غيرهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) امّا من قبيل وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بانّهم أهل الاستنباط ، أو المراد بأولى الأمر اعمّ من أمراء السّرايا ، والمستنبطون هم الرّسول (ص) وأوصياؤه (ع) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) خاطبهم تفضّلا وتطفّلا لمحمّد (ص) وعلىّ (ع) بعد ما ذمّهم على ضعف عقيدتهم وسوء صنيعتهم ، وفضل الله هو الرّسالة ، ولمّا كان الرّسالة من شؤن الرّسول وسعة صدره ومتّحدة معه صحّ تفسيره بالرّسول وهو هاهنا محمّد (ص) ورحمته هي الولاية والولاية أيضا متّحدة مع الولىّ فصحّ تفسيرها به وهو هاهنا علىّ (ع) ولذلك فسّرا بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) في أخبارنا ، ولمّا كان محمّد (ص) أصلا في الولاية وان كانت الرّسالة فيه أظهر وعلىّ (ع) خليفة في الرّسالة وان كانت الولاية فيه أظهر صحّ تفسير الفضل بعلىّ (ع) والرّحمة بمحمّد (ص) كما في الخبر ، يعنى انّا لا نخذلكم مع سوء صنيعكم بواسطة محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، ولو لا محمّد (ص) وعلىّ (ع) قائما عليكم حافظا لكم (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعنى إذا علمت حال قومك من الجبن والفشل والتّبيت بخلاف طاعتك وعدم حفظهم لما سمعوا من الاخبار وتوكّلت على الله وعلمت كفايته لك فقاتل في حفظ سبيل الله واعلائه ، أو حالكونك في سبيل الله ، أو في ولاية علىّ (ع) فانّها سبيل الله وعلىّ (ع) بنفسه أيضا سبيل الله ولا تبال بإعانة قومك وعدمها (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) اى الّا فعل نفسك أو إصلاحها أو إصلاح علىّ (ع) لانّه نفسك والجملة حال أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل أو في مقام بيان الحال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) لانّك ان لم تحتج إليهم فانّهم محتاجون إليك في إصلاحك لهم والمقاتلة إصلاح لهم لانّها تورث التّشجّع والتّمكّن والثّبات والتّوكّل


(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى قريشا على ما روى انّها نزلت في موعد بدر الصّغرى وتثبّط القوم عن الخروج فخرج (ص) وما معه الّا سبعون رجلا (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) اى تعذيبا من الكفّار عطف على ما يستفاد من ذكر بأس الكفّار يعنى لهم بأس والله اشدّ بأسا أو حال عن الله أو عن الّذين كفروا ، ولمّا قال حرّض المؤمنين بعد الاشارة الى استغنائه عن الغير وكفاية الله له وامره بالقتال وحده صار المقام مناسبا لان يقال : ولم أمرت بتحريض المؤمنين؟ ـ أو صار المقام مقام ان يقال : الا ادلّ الكفار على الخير والا أنصحهم وكيف حال من نصحهم وما ينبغي ان يفعل المؤمنون بمن نصحهم؟ ـ فقال جوابا لذلك (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) فهو استيناف جواب لسؤال مقدّر واقع موقع التّعليل أو موقع بيان الحال ومعناه من ضمّ عملا حسنا الى عمل حسن آخر ، أو من ينضمّ الى صاحبه ويشاركه في عمل حسن ، أو من يصلح بين اثنين أو من يطلب ويسأل من غيره لصاحبه خيرا أو دفع ضرّا وترك عقوبة سواء كان ذلك من الخلق أو من الله أو من يدعو لصاحبه بخير من «شفع» إذا دعا له أو دعا عليه ، أو من يدعو صاحبه الى خير أو من يعين صاحبه على خير أو من يدلّ صاحبه على خير والكلّ يمكن ان يستفاد من هذه العبارة والكلّ صحيح (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) النّصيب والكفل الحظّ وما يعطى من القسمة لكن استعمال النّصيب فيما فيه حظّ صاحبه أكثر من استعماله فيما فيه تعبه والكفل بالعكس من ذلك (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) توصيف الشّفاعة بالحسن والسّوئة باعتبار متعلّقها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) مقتدرا أو حافظا لا يفوته شفاعة شفيع ولا كيفيّتها ولا قدرها (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) عطف على من يشفع الى آخر الآية وجواب آخر للسّؤال السّابق وهو ما يفعل المؤمنون بمن نصحهم وان كان هو في نفسه من الآداب المهمّة المحتاجة الى البيان لكن ادّاه بحيث يكون مرتبطا بسابقه ليفيد تأكيدا بتقدير السّؤال ، والتّحيّة في العرف هي التّسليم لكنّ المراد منها معنى اعمّ من التّسليم وهو إيصال الخير الى الغير بنحو الشّفقة والتّعظيم من تسليم ودعاء وثناء وتعظيم وهديّة ، وكتابة فيها تعظيم وشفقة وزيارة وغير ذلك ممّا يدلّ على عظمة المحيىّ في قلب المحيىّ ومحبوبيّته له ، لكن إذا كان لمحض الشّفقة والمحبّة لا للأغراض الّتى فشت بين أهل الرّسوم حتّى يتأنّف العالي ظاهرا عن التّسليم على الدّانى وينتظر تسليمه ويتأنّف عن زيارته بدوا الّا عوضا عن زيارته ، وهكذا الحال في غيرهما فما اشتهر بين الفرس من قولهم «ديد مستحبّ ؛ بازديد واجب» صحيح ان لم يكن مشوبا بالأغراض الفاسدة وان كان مشوبا فالزّيارة مذمومة وعوضها أيضا مذموم ، ولذلك ورد من زار أخاه المؤمن في بيته من غير عوض ولا غرض كان كمن زار الله في عرشه ، وخلوص اعمال أهل الدّنيا من الأغراض الفاسدة محال والمخالطة معهم مؤثّرة في النّفوس الضّعيفة ، فالاولى للسّالك مهما أمكن ترك مخالطتهم حفظا لنفسه عن استراق الأغراض منهم ، الّا ان تكون تقيّة لحفظ عرض أو مال أو نفس أو شفقة لاصلاح حال ، فانّها حينئذ تكون واجبة وان احتمل استراق النّفس. والمراد بردّها ليس ردّ عينها ان كانت من الاعراض الدّنيويّة فانّه لا يردّ الإحسان الّا الحمار بل ردّ مثلها مثلا إذا قال : سلام عليك ، فقال : سلام عليك فهو ردّها ، وان قال : سلام عليك ورحمة الله فهو أحسن ، واحسنيّتها اعمّ من ان تكون بالزّيادة عليها أو بتغيير هيئتها الى أحسن منها ، كما قال إبراهيم (ع) سلام في جواب الملائكة حين قالوا سلاما ، عدولا من النّصب الى الرّفع للدّلالة على الدّوام ، ويختلج ببالي ان أدون الرّسوم العاديّة والآداب المستحبّة ان وفّقني الله ان شاء الله ليكون السّالكون على بصيرة منها ، وإذا ارتكبوها لا يكون عن عمى وعادة


صرفة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحاسبكم على تحيّاتكم وقدرها ويحاسبكم أيضا على اغراضكم فيها فلا تخالطوها بالأغراض (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) استيناف مشير الى التّعليل للسّابق وتمهيد للّاحق (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) في الجمع أو في اليوم ، استيناف أو حال عن اليوم (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) استفهام إنكارىّ والجملة معطوفة على جملة القسم والمقسم عليها أو حاليّة وتمهيد للإنكار الآتي (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) حال من الضّمير المجرور يعنى لا ينبغي لكم ان تتفرّقوا فرقتين فيمن حكم الله بكفرهم عن الباقر (ع) انّها نزلت في قوم قدموا من مكّة وأظهروا الإسلام ثمّ رجعوا إليها فأظهروا الشّرك ثمّ سافروا الى اليمامة فاختلف المسلمون في غزوهم لاختلافهم في إسلامهم وشركهم (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) ردّهم في الكفر (بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) كما هو ديدن النّاس فانّ كلّ ذي مذهب وطريق خاصّ يودّ أن يكون كلّ النّاس على طريقه والآية جارية في الإنسان الصّغير أيضا وتعريض بمنافقى الامّة المرتدّين بعد محمّد (ص) بإنكار قوله في علىّ (ع) وعدم هجرتهم من دار شركهم النّفسانيّة الى دار الإسلام والايمان العلويّة الولويّة ان لم يكن تنزيلها فيهم (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) بعد حكمه تعالى عليهم بالضّلالة (حَتَّى يُهاجِرُوا) عن أوطان المشركين إليكم (فِي سَبِيلِ اللهِ) ظرف ليهاجروا أو حال عن الفاعل يعنى يهاجروا بنيّات صادقة لا بنيّات منحرفة الى الشّيطان أو يهاجروا عن دار شركهم في ولاية علىّ (ع) الى علىّ (ع) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن المهاجرة الصّحيحة صورة إليك أو باطنا الى علىّ (ع) (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) كما فعل محمّد (ص) بالمرتدّين في زمانه وعلىّ (ع) بالمرتدّين في زمانه كأصحاب الجمل والصّفين والنّهروان (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ظاهرا ولا باطنا اى لا تبايعوهم بالبيعة العامّة المحمّديّة ولا الخاصّة العلويّة ، أو لا تتّخذوا منهم حبيبا ولا تستنصروا بهم (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فلا تتّخذوهم أولياء ولا تقتلوهم حفظا للميثاق من جميع الوجوه (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) فلا يكونوا عليكم (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) فلا يكونوا معكم فانّهم لحصر صدورهم عن مقاتلتكم يستحقّون الرّفق لا الأخذ والقتل ، ونزول الآية مذكور في التّفاسير وتعميمها سهل على البصير (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) بالأخذ والقتل (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) استيناف وتنبيه على حال المختدعين وبيان لحكمهم (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) خدعة (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) وفاقا حالكونهم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) اى القتال معكم فالجملة حال أو استيناف جواب سؤال مقدّر (أُرْكِسُوا فِيها) انقلبوا عن إظهار الوفاق الى القتال معكم (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) عطف على المنفىّ (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) تسلّطا ويدا أو حجّة لغدرهم (وَما كانَ


لِمُؤْمِنٍ) ما صحّ وما لاق بحاله (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حقّ (إِلَّا خَطَأً) استثناء من لازمه اى فيعذّب على كلّ حال الّا خطأ (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) «ف» عليه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كفّارة له (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) لئلّا يهدر دم امرء مسلم (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يتصدّقوا بالعفو فانّ التّصدّق يطلق على كلّ معروف (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) من عطف التّفصيل على الإجمال «ف» عليه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) من غير دية لعدم السّبيل للكافر على المسلم (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) «ف» عليه (دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) حفظا للميثاق (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قدّم الدّية هاهنا للاهتمام ببيانها فانّه يتراءى ان لا يكون لهم كفّارا عليه دية مسلّما ، واخّرها في الآية السّابقة لانّها حقّ النّاس والتّحرير حقّ الله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة ولا ثمنها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) سبب توبة من الله (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بوضع الأحكام (حَكِيماً) يضعها على غايات محكمة (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) تهديد بما لم يهدّد به أحدا من أصحاب الكبائر ، والتّعمّد المورث للوعيد الشّديد كما في الاخبار ان يقتله من جهة ايمانه عالما به لا ان يقتله لغضب أو جدل أو حقد له من جهة اخرى فانّه وان كان عمدا فهو من وجه خفي مشوب بالخطإ ، ومن قتل مؤمنا من جهة ايمانه كان كمن قتل صاحبه ومن قتل صاحبه وهو الامام لا خلاص له من النّار ولا توبة له ، أو لا يوفّق للتّوبة كما في الاخبار ، ولذلك ورد انّ غيبة المؤمن اشدّ من الزّنية ، أو من سبعين زنية ، أو من سبعين زنية تحت الكعبة ، وفي بعض الاخبار مع المحارم ، والسّرّ ما ذكرنا ، فانّ ذكر المؤمن بالسّوء من جهة ايمانه ذكر صاحبه بالسّوء وذكر الامام بالسّوء من أكبر الكبائر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ) بأرجلكم الأرض (فِي سَبِيلِ اللهِ) اى سافرتم في الجهاد تأديب للمجاهدين بإصلاح النّيّة في الجهاد حتّى لا يغلب الهوى على امر الله (فَتَبَيَّنُوا) فبالغوا في طلب ظهور الأمر من الكفر والايمان ممّن تلاقونه وقرئ فتثبّتوا بمعنى التأنّى والتّأمّل والمقصود واحد يعنى لا تعجلوا في القتل قبل التيقّن بكفرهم (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) وقرئ السّلم يعنى الانقياد والتّسليم أو تحيّة الإسلام إظهارا لإسلامه بشعار الإسلام (لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) اى لا تنكروا إسلامه لابتغاء ماله بقتله بل تبيّنوا أمره فان ظهر اثر الصّدق فلا تقتلوه (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) اى لا تقولوا ذلك ولا تقتلوه فانّكم ان لا تقولوا تستحقّوا مغانم أكثر من غنيمته من الله فعند الله مغانم كثيرة مبذولة لمن امتثل امره ونهيه فأقيم السّبب مقام الجواب (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) كافرين ومتزلزلين ومظهرين للإسلام بألسنتكم من غير علم بمواطاة القلوب (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالتّحقّق بالايمان والاشتهار به (فَتَبَيَّنُوا) كرّره للتّأكيد وللاشارة الى انّ امتثال امر الله يقتضي التّبيّن والمقايسة الى أنفسكم أيضا تقتضي التبيّن (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فاحتاطوا في أفعالكم وفي نيّاتكم ، والآية ان وردت في اسامة بن زيد وقتله يهوديّا وعدم اعتنائه بإظهاره الشّهادتين فهو عامّ لا اختصاص له بالقتل ولا بالسّفر (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر ناش من التّهديد على قتل المؤمن متعمّدا والدّية والكفّارة على قتله خطأ ومن الأمر بالتبيّن عند لقاء من لا يعلم حاله وممّا كان معلوما من مورد


نزول الآية وهو قتل اسامة بن زيد يهوديّا فدكيّا جمع عياله وماله وساق غنمه وانحاز الى ناحية جبل وكان قد أسلم فقال بعد ما لقى عسكر اسامة : السّلام عليكم لا اله الّا الله ؛ محمّد رسول الله ، فبدر اليه اسامة فقتله فلمّا رجع قال له رسول الله (ص): أفلا شققت الغطاء عن قبله ، لا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت ، ونزلت الآية فحلف اسامة بعد ذلك ان لا يقتل أحدا قال لا اله الّا الله ، وبهذا العذر تخلّف عن علىّ (ع) وقيل : نزلت في رجل آخر كان في سريّة لقى رجلا كان بينهما إحنة (١) فحيّاه الرّجل بتحيّة الإسلام فقتله وجاء الى رسول الله (ص) وقال : استغفر لي ، فقال رسول الله (ص) لا غفر الله لك ، وعلى اىّ تقدير صار المقام مقام ان يقال : هل القعود أفضل من الجهاد ان كان في الجهاد هذه الآفات؟ ـ فقال تعالى : لا يستوي القاعدون عن الحرب (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الّذين قبلوا الدّعوة الظّاهرة سواء كانوا قبلوا الدّعوة الباطنة وبايعوا البيعة الخاصّة أم كانوا واقفين على الدّعوة الظّاهرة وعلى قبول البيعة العامّة الاسلاميّة ، والظّرف مستقرّ حال عن القاعدون أو عن المستتر فيه (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرئ برفع غير صفة للقاعدون لانّ الغير وان كان لا يتعرّف بالاضافة لغاية إبهامه لكنّه إذا أضيف الى معرّف يقع صفة للمعرفة إذا كانت المعرفة معرفة باللّام الجنسيّة أو موصولة لابهامهما مثل غير ، أو كان غير واقعا بين النّقيضين ، وقرئ بالنّصب حالا عن القاعدون أو عن المستتر فيه أو منصوبا على الاستثناء ، وقرئ بالجرّ صفة للمؤمنين ، قيل : نزلت الآية في جمع تخلّفوا عن غزوة تبوك ولم يكن فيها غير اولى الضّرر فجاء ابن امّ مكتوم وكان أعمى وهو يبكى فقال : يا رسول الله (ص) كيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشيه الوحي ثانيا ثمّ سرّى عنه فقال اقرء غير اولى الضّرر فألحقها والّذى نفسي بيده لكأنّى انظر الى ملحقها عند صدع في الكتف (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ) ببذلها على المجاهدين وصرفها في سبيل الخيرات وإنفاقها على أنفسهم في الجهاد وصرف قواهم الّتى هي أموالهم الحقيقيّة وكذلك نسبة أفعالهم واوصافهم الى أنفسهم (وَأَنْفُسِهِمْ) باتعابها في الجهاد واجهادها في الخيرات والرّياضات وهذا تهييج للمجاهد في جهاده وترغيب للقاعد عن قعوده (فَضَّلَ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما الفرق بينهما؟ ـ فقال : فضّل الله (الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ) أظهر المجاهدين والقاعدين اشعارا بعلّة الحكم وتكرارا لوصفها الدّاعى الى التّفضيل تهييجا وترغيبا لهما ، وأظهر الأموال والأنفس لانّه تعالى أراد أن يعلّق حكم التّفضيل بدرجة واحدة على حالة بقاء نسبة الأموال والأنفس إليهم حتّى يظهر الفرق بين هؤلاء المجاهدين والمجاهدين الآتين ، لانّه ذكر هناك تفضيلهم على القاعدين بدرجات وما أمكن الاشارة الى بقاء نسبة الأموال والأنفس الّا بالتّصريح بهما واضافتهما إليهم ، وقدّم الأموال على الأنفس لانّ المجاهد يقدّم الأموال في الجهاد دون نفسه ولانّه ما لم تكن نسبة الأموال اوّلا لم تكن نسبة الأنفس ، وقدّم القاعدين اوّلا واخّرهم ثانيا لانّ السّؤال كأنّه كان عن حال القاعدين وانّهم هل يبلغون درجة المجاهدين أم لا؟ بخلاف المجاهدين فانّ فضلهم كان معلوما.

واعلم انّه لا فرق بين القاعد والمجاهد بالأموال والأنفس الّا بدرجة لانّهما في نسبة الأموال والأنفس إليهما متساويان لكنّ القاعد لم يترك الرّاحة بالأموال والأنفس والمجاهد ارتفع عنه درجة من حيث انّه ترك الرّاحة بالأموال والأنفس وهما بخلاف المجاهدين في الآية الآتية ولذلك قيّد هاهنا التّفضيل بقوله تعالى (دَرَجَةً) وأطلقه في الآية الآتية (وَكُلًّا) منهما (وَعَدَ اللهُ) المثوبة (الْحُسْنى) إذا لم يكن القعود عن عذر ،

__________________

(١) ـ الإحنة : بالكسر الحقد.


ولا اختصاص للآية بالقاعد والمجاهد الصّورىّ بل تجري في المؤمن القاعد في نواحي دار إسلامه أو الواصل الى دار إسلامه الّتى هي الصّدر والواقف فيها ، وفي المؤمن المجاهد في سبيل الله حالكونه في حدود النّفس باقيا عليه نسبة المال والنّفس وحالكونه بلغ الى القلب وطرح نسبة المال والنّفس عن نفسه وجاهد حتّى طرح نسبة المال والنّفس عن نفسه وقتل في حضور الامام بفنائه في شيخة فلا يرى في ممالك وجوده غير شيخة وللمجاهد في فنائه مراتب ودرجات ، رزقنا الله وجميع المؤمنين ذلك (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) المجرّدين عن نسبة الأموال والأنفس بطرح تلك النّسبة والفناء عن نسبة الأموال والصّفات والأنفس (عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) لا يحدّ بحدّ لانّ هؤلاء المجاهدين قد خرجوا عن الحدود (دَرَجاتٍ) عظيمة (مِنْهُ وَمَغْفِرَةً) عظيمة بستر نسبة الأفعال والصّفات والأنفس عنهم (وَرَحْمَةً) عظيمة لانّهم خرجوا عن دار السّخط ودخلوا في دار الرّحمة وصاروا رحمة بأنفسهم وقد علم وجه عدم الإتيان بالأموال والأنفس هاهنا (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يعنى انّ شيمته المغفرة والرّحمة فلا اختصاص لمغفرته ورحمته بالمجاهدين المستحقّين لهما بل تشملان القاعد الغير المستحقّ وفيه تهييج واطماع للقاعدين (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر كأنّ السّامع لمّا سمع المغفرة والرّحمة للقاعد توهّم انّ القاعد بجميع اقسامه مرحوم وسأل ذلك كأنّه منكر لعذاب القاعد فقال تعالى مؤكّدا بانّ واسميّة الجملة دفعا لهذا الوهم : انّ الّذين توفّاهم الملائكة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بعدم الخروج من دار الشّرك الّتى هي نفوسهم الحيوانيّة مقصّرين كانوا كالّذين توعّدهم بكونهم أصحاب الجحيم ، أو قاصرين كالّذين استثناهم الله.

اعلم انّه تعالى أراد أن يبيّن أقسام العباد في العبوديّة وعدمها بعد ما ذكر القاعدين والمجاهدين فانّهم امّا واقفون في دار الشّرك الّتى هي نفوسهم الامّارة سواء كانوا في دار الشّرك الصّوريّة أم في دار الإسلام الصّوريّة وقد أشار إليهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (الآية) أو خارجون من بيوتهم الّتى هي بيوت طبائعهم ونفوسهم الامّارة في طلب من أسلموا على يده ومن قبلوا الأحكام القالبيّة منه وأشار إليهم بقوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً) ، الآية ، ولمّا كان المقصود ممّن يخرج من بيته الطّالب للإسلام لم يأت بقوله : في سبيل الله ، لانّه لم يكن بعد علىّ سبيل الله وأتى بقوله الى الله ورسوله لعدم وصوله الى الرّسول (ص) بعد أو مهاجرون على سبيل الله الى مراتب الايمان بالتّوسّل بالولاية بعد ما كانوا قد خرجوا عن نفوسهم الامّارة بقبول الدّعوة الظّاهرة وقبول الإسلام بالبيعة العامّة النّبويّة ، وهؤلاء امّا مجاهدون أو قاعدون عن الجهاد وقد أشار إليهما بقوله سابقا : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) ، وأشار إليهم بقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، ولم يقل : من يخرج لانّ المفروض انّهم قد خرجوا بقبول الإسلام ، ولم يقل الى الله ورسوله لانّ المفروض انّهم قد خرجوا الى الله ورسوله وقبلوا الدّعوة الظّاهرة وقال في سبيل الله لانّهم بقبولهم الإسلام كانوا في سبيل الله لانّ الإسلام طريق الى الايمان.

تحقيق توفّى الله وتوفّى الملائكة والرّسل

ووجه الجمع بين الآيات المختلفة في توفّى الأنفس بتوفّى الله وملك الموت والملائكة والرّسل لا يخفى على البصير فانّ العقل في العالم الصّغير كالحقّ في العالم الكبير ، وإذا لوحظ انّ للعقل جنودا وأعوانا ومدارك وقوى لا يعصون ما أمرهم العقل وهم بأمره يعملون وانّ امره للقوى والمشاعر امتثالها من غير تراخ وتأبىّ ، وفعلها كما انّه منسوب إليها حقيقة منسوب الى العقل أيضا حقيقة من غير مجاز لإحدى النّسبتين أو اثنينيّة وتعدّد للنّسبة بل فعل القوى فعل


العقل من حيث كونه فعل القوى من غير تعدّد في الحيثيّة أيضا فالرّؤية مثلا فعل الباصرة وهي من حيث انّها فعل الباصرة فعل العقل لكن في مرتبة الباصرة لا في مرتبته العالية ، بل فعله الخاصّ به في مرتبته العالية هو التّعقّل اعنى درك الأشياء مجرّدة عن غواشي المادّة والتّقدّر والتّحدّد والتّشكّل ، علم انّ الفاعل في كلّ فعل دانيا كان أو عاليا هو الله سبحانه ، لكن لكلّ مباشر خاصّ ينسب الفعل اليه والى الله باعتبار تشأّنه وظهوره بفاعله الخاصّ وله باعتبار مرتبته المخصوصة فعل خاصّ به لا ينسب الى غيره ، فالعقل مظهر لله سبحانه في مرتبته الخاصّة والنّفس مظهر لملك الموت ، والقوى والمشاعر مظاهر للملائكة والرّسل ، فالباصرة كالملك تباشر نزع الصّور عن الموادّ ، والنّفس كملك الموت تنزع عن الصّور المجرّدة عن الموادّ الصّور المجرّدة عن التّحدّدات والتّشكّلات المخصوصة مع تقدّرها ، والعقل كالله ينزع الكلّيّات عن الصّور مع انّ نزع الاوّل أيضا فعل العقل بواسطة الباصرة والنّزع الأخير فعله بلا واسطة فاختلاف الآيات والاخبار باعتبار اختلاف المباشر واختلاف المراتب مع صحة الانحصار في قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) ، واختلاف المباشر باعتبار اختلاف النّفوس مثل مباشر نزع النّفوس النباتيّة والحيوانيّة والانسانيّة ، وفي النّفوس الانسانيّة أيضا مراتب فنفس يقبضها الله بلا واسطة ، ونفس يقبضها ملك الموت ، ونفس يقبضها الملائكة والرّسل ، ومقبوض الملائكة مقبوض لملك الموت ولله ، ومقبوض ملك الموت مقبوض الله ، والمراد بظلم النّفس هاهنا غير ما ذكر في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) لانّ الظّالمين لأنفسهم هنا محكوم عليهم بالجحيم وهناك بالجنّة ، فالمراد بظالمى أنفسهم هاهنا من لزم دار شركه ولم يخرج من بيت شركه الى الله ورسوله ، وهناك من خرج من بيت شركه الى الله ورسوله ولكن وقف ولم يهاجر في سبيل الله ، فانّه محكوم عليه بالقعود عن الجهاد وعن الهجرة. وبعبارة أخرى الظّالم هاهنا في العالم الصّغير من لزم بيت نفسه الامّارة ولم يخرج منه الى مدينة صدره ليصل الى الرّسول وقبول الإسلام فهو مخلّد في جحيم طبعه وبعد الموت في جحيم الآخرة ، وهناك من خرج من بيت نفسه الامّارة الى مدينة صدره ووصل الى الرّسول وقبل الإسلام وبدليل ايراثه الكتاب اى كتاب النّبوّة بقبول احكام الرّسالة ولم يهاجر من مدينة صدره الى الجهاد الأكبر في تحصيل الولاية فهو محكوم عليه بدخول الجنّة لكن ليس له درجة المجاهدين في تحصيل الولاية. وما روى عن الصّادق (ع) في تفسير الظّالم لنفسه هناك من انّه : يحوم حول نفسه ؛ يشعر بما ذكر (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) بهذه الأدناس والارجاس اى في اىّ حال كنتم حتّى خرجتم بهذه الارجاس ولم ما طهّرتم نفوسكم في حيوتكم؟ ـ (قالُوا) اعتذارا (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) غلب علينا أهل الشّرك بحيث لا يمكننا تغيير حالنا (قالُوا) ردّا لاعتذارهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) اى فان تهاجروا أو فلم تهاجروا يعنى ان لم يمكنكم التّغيير في أرضكم لا مكنكم المهاجرة عنها ، والأرض اعمّ من ارض العالم الكبير وارض العالم الصّغير وارض كتب الأنبياء وسير أحوالهم وارض احكام الملل المختلفة وتمييز المستقيم منها عن السّقيم (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) لا منافاة بين خصوصيّة النّزول والتّعميم الّذى ذكرنا على وفق ما أشير اليه في الاخبار (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) استثناء منقطع ان خصّص ظالمو أنفسهم بالمقصّرين وان عمّ المقصّرين والقاصرين فمتّصل فانّ المقيم في دار شرك النّفس امّا متمكّن من الخروج بحسب القوّة النّظريّة والعمليّة أو غير متمكّن والاوّل مقصّر والثّانى قاصر ، والمستضعف من لا قدرة له بحسب القوّة العمليّة على الأعمال الّتى تطهّر قلبه عمّا يحجبه عن إفاضات


الحقّ تعالى ولا بحسب القوّة النّظريّة على التميز بين الحقّ والباطل ولذلك فسّر المستضعفين بقوله تعالى (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) بحسب العمل (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) بحسب النّظر وقد يفسّر المستضعف بمن لم يسمع دينا ومذهبا سوى عاديّاتة وهو راجع الى الاوّل لانّ العجز امّا من جهة أصل الفطرة أو من جهة عدم المنبّه (فَأُولئِكَ) مع عدم خروجهم عن دار شركهم (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) عن إقامتهم في دار الشّرك (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) من قبيل عطف العلّة (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لمّا فرغ من بيان حال المقصّر والقاصر المتوطّن في دار الشّرك أراد أن يبيّن حال الخارج من بيت الشّرك وهو امّا يخرج في الظّاهر من بيت وطنه الصّورىّ أو في الباطن من بيت نفسه الامّارة في طلب الإسلام وليس له جهاد لانّ الجهاد بعد قبول الإسلام ومعرفة الأعداء بإذن النّبىّ أو الامام ، أو يهاجر في سبيل الله بعد إسلامه في طلب الايمان من بيته الصّورىّ أو المعنوىّ ولهذا المهاجر يتصوّر الجهاد بمراتبه امّا بالأموال والأنفس ، أو فانيا عن الأموال والأنفس بمحض الأمر من غير تعلّق الخاطر بغير الأمر ، أو بالله بالفناء عن الأمر أيضا ولم يذكر الخارج من دار إسلامه أو دار ايمانه الى دار الشّرك لعدم الاعتناء به ولاستفادته من مفهوم المخالفة وأشار الى المهاجر بعد الإسلام في سبيل الله بقوله : ومن يهاجر في سبيل الله (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ) بمعانيها (مُراغَماً كَثِيراً) من الرّغام وهو التّراب بمعنى المذهب والمهرب والمغضب والمراد به محلّ تفرّج وتنزّه من الأرض بحيث يرغم الأعداء (وَسَعَةً) في الأرض أو في نفسه أو في معيشته أو في سيره ظاهرا أو باطنا ، وقدّم بيان حال المهاجر بعد الإسلام على الخارج الى الإسلام لشرفه وان كان مؤخّرا برتبته ، وأشار الى الخارج الى الإسلام بقوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) ظاهرا وباطنا (مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) ذكر الى الله للاشارة الى انّ الخارج من بيت الشّرك ذاهبا الى الرّسالة في طلب الإسلام ذاهب الى الله لانتهائه الى الله ، ولانّ الرّسول مظهر الآلهة ولذا لم يكرّر لفظ الى (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) اختيارا بالجذبة الإلهيّة أو اضطرارا في السّبيل الظّاهرىّ أو الباطنىّ (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) اى لا ينبغي ان يتكفّل أداء اجره غيره وفيه بشارة تامّة لهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فيغفر مساويه الغير الزّائلة عنه ويرحمه بإعطاء اجره بلا واسطة ان كان نزول الآية في جندب بن ضمرة حين خرج من مكّة الى المدينة فمات ، أو النّجاشىّ حين خرج الى المدينة فمات ؛ لا ينافي تعميمها ، ولمّا ذكر المجاهدين والمهاجرين أراد أن يبيّن حكمهم في العبادات فقال تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) شرائط القصر وكيفيّته غير محتاجة الى البيان ، ونفى الجناح لا ينافي وجوب القصر لانّه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفيّة وآداب الملوك من نفى البأس والحرج عن الشّيء وارادة الأمر به ، وبعد ما علمت انّ الصّلوة هي ما به يتوجّه الى الله والأصل فيه محمّد (ص) وولايته ثمّ علىّ (ع) وخلافته ، ثمّ الأعمال القلبيّة والقالبيّة المأخوذة منهما الّتى تصير سببا للتّوجّه اليه تعالى أمكنك تعميم السّفر وتعميم الصّلوة والقصر (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) اشارة الى الحكمة في تشريع القصر لا انّه تقييد للحكم فلا ينافي وجوب القصر في حال الا من على انّ حجّيّة مفهوم الشّرط غير مسلّم بل هو بحسب المفهوم كسائر المجملات ، واعتباره وعدم اعتباره محتاج الى القرينة ، ويحتمل ان يكون المراد صلوة الخوف وقصرها ويكون قصر مطلق الصّلوة في السّفر من قبيل المجملات


الّتى بيّنوها لنا بدليل بيان صلوة الخوف بعدها (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) استيناف في موضع التّعليل (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) حين المسافرة والخوف (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بان تؤمّهم (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) للصّلوة (مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) اى الطّائفة الغازية المستفادة التزاما أو الطّائفة المصليّة (فَإِذا سَجَدُوا) اى الطّائفة المصليّة (فَلْيَكُونُوا) اى الطّائفة الغازية (مِنْ وَرائِكُمْ) ايّتها الطّائفة المصليّة (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) بعد ما انتظرتهم في القيام الثّانى وأتمّ الطّائفة المصلّون معك صلوتهم وذهبوا الى مواقفهم (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) بان يأتّموا بك في القيام وتنتظرهم في القعود حتّى يتّموا صلوتهم بالإتيان بالرّكعة الاخرى ثمّ تسلّم عليهم بعد لحوقهم بك في القعود (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ) اى الطّائفة الّذين صلّوا ووقفوا مواقف غير المصلّين أو الطّائفة المشغولة بالصّلوة (وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) استيناف في موضع التّعليل (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) لثقل الاسلحة (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) فتضعفوا عن الحمل (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) لمّا بالغ في التّيقّظ والحذر وأخذ الاسلحة في كلّ حال أوهم ان لا يجوز وضع الاسلحة بحال فرفعه (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لكن مع ذلك لا تخرجوا من طريق الحزم (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) على أيديكم ولذا يأمركم بالحزم وأخذ السّلاح حتّى لا تستأصلوا فيعذّبهم بكم وعلى هذا صحّ إخراجه مخرج التّعليل ، وان كان نزول الآية في غزوة الحديبية أو ذات الرّقاع فلا ينافي عموم حكمها (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) يعنى إذا ادّيتم الصّلوة فلا تغفلوا عن ذكر الله ولا تراقبوا حين الغزو أدبا للّذكر بل اذكروا الله في جميع أحوالكم ، أو فاذا أردتم أداء الصّلوة وقت شدّة الخوف وعدم تمكّنكم من الصّلوة على ما قرّر فصلّوا على اىّ حال وقع منكم وتمكّنتم منها بقرينة قوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) عن شدّة الخوف (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) اى فاتمّوها بشرائطها وآدابها المقرّرة لها في السّفر ، أو فاذا اطمأننتم في أوطانكم أو دار اقامتكم فأتمّوها بإتمام ركعاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) تأكيد كتابا لانّ الموقوت بمعنى المفروض في الأوقات والمعنى فرضا مفروضا يعنى انّا بالغنا في حفظ الصّلوة وعدم تركها في حال من الأحوال لانّها بالغة حدّ الكمال في الوجوب (وَلا تَهِنُوا) عطف باعتبار ما يفهم من تأكيد فرض الصّلوة اى فحافظوا عليها ولا تهنوا (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) حتّى تقتلوهم وتأسروهم أو يسلّموا (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) استيناف واقع موقع التّعليل للنّهى وتشجيع لهم على القتال بسبب انّ المهمّ لا يزيد على الم القوم وانّهم يزيدون عليهم برجاء أجر المجاهدين من الله (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فيعلم انّ الأصلح بحالكم وثباتكم على الايمان وعدم تعلّقكم بالدّنيا كالنّسوان هو الجهاد ويرغّبكم فيه على وفق حكمته وعلمه بدقائق المصالح الّتى لا تظهر عليكم وتدبيره بأدقّ وجه واتقن صنع لتمكينكم في أكثر الكمالات (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة الّذى ظهوره بالقرآن


استيناف لتأديب الامّة بالخطاب لمحمّد (ص) أو لتأديب محمّد (ص) اصالة ولامّته تبعا (بِالْحَقِ) الحقّ المطلق هو الله جلّ شأنه والحقّ المضاف هو مشيّته المسمّاة بالحقّ المخلوق به والاضافة الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة وهو الولاية المطلقة وهي علويّة علىّ (ع) ومعروفيّة الله وظهوره ، خلقت الخلق بالمشيّة والمشيّة بنفسها ، اشارة اليه ، ولمّا كان النّبوّة ظهور الولاية ، وكتاب التّدوين ظهور النّبوّة والرّسالة ، وظهور الظّهور ، ظهور للظّاهر الاوّل كان إنزال الكتاب بتوسّط الحقّ المضاف صحيحا ومتلبّسا بالحقّ المضاف أيضا صحيحا لانّ حقّية كلّ حقّ وحقيقة كلّ ذي حقيقة هي هذا ، ومع الحقّ أيضا جائز (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) المراد من الحكم الحكومة المعروفة من قطع المنازعات ، أو ما هو اعمّ منها ومن تأسيس السّياسات والعبادات ، أو ما هو اعمّ منها ومن إصلاحهم بالنّصائح والآداب ، أو ما هو اعمّ منها ومن إصلاحهم وتكميلاتهم في الباطن بلسان السّرّ (بِما أَراكَ اللهُ) من رؤية البصر ، لانّ ظهور الولاية بالنّبوّة لا يكون الّا مع فتح باب من الملكوت فيرى صاحبه بعين البصيرة دقائق أمور العباد وخفايا أحوالهم فيمكن له الحكم والإصلاح بما يرى ، أو من الرّأى يعنى بما جعلك الله ذا رأى لا تحتاج فيه الى رأى الغير لفتح بصيرتك أيضا بانزال الكتاب ، وفي الخبر اشارة الى المعنى الأخير وانّ التّفويض الى الرّأى خاصّ به (ص) وليس لغيره ثمّ التّفويض بعده لاوصيائه ، فاذا كان إنزال الكتاب لحكومتك برأيك فاحكم بينهم برأيك أو رؤيتك (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) على خصمائهم برأى غيرك (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) ممّا هممت به أو فعلت من الخصومة عن قبل الخائنين (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وقد نقل في نزولها ، انّ ثلاثة اخوة من بنى أبيرق نقبوا على عمّ قتادة بن النّعمان واخرجوا طعاما وسيفا ودرعا فشكا قتادة الى رسول الله (ص) وقال بنو أبيرق : هذا عمل لبيد ، وكان لبيد رجلا مؤمنا ، فمشى بنو أبيرق الى أسيد بن عروة من رهطهم وكان منطيقا ، فمشى الى رسول الله (ص) وقال : انّ قتادة رمى أهل بيت منّا أهل شرف وحسب ونسب بالسّرقة ، فاغتمّ رسول الله (ص) وجاء اليه قتادة فقال له رسول الله : رميت أهل بيت شرف وحسب ونسب بالسّرقة؟! وعاتبه فاغتمّ قتادة لذلك فأنزل الله في ذلك : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) (الى آخر الآيات) فنقول : لو سلّم انّ نزولها كان كذا مع انّه شبيه بموضوعات العامّة فالتّعريض بالامّة كأنّه قال : يا أمّة محمّد (ص) لا تغفلوا عمّا قال لكم محمّد (ص) وأعلمكم الله به من ولاية علىّ (ع) وسائر الأحكام فاذا حكمتم بحكم فليكن مطابقا لحكم الله ولتميّزوا بين الخائن وغيره ولا تكونوا للخائنين خصيما مع الصّالحين يعنى إذا توفّى محمّد (ص) ووقع النّزاع بينكم فاحكموا بما أعلمكم الله وبيّنه لكم رسوله (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) باقتراف المعاصي ولو فسّر أنفسهم بعلىّ (ع) والائمّة (ع) لم يكن بعيدا لما سبق من انّ الولاية المطلقة حقيقة كلّ ذي حقيقة ونفسيّة كلّ ذي نفس (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) هما للمبالغة والجملة في موضع التّعليل ، ونفى المحبّة في مثل المقام يفيد البغض اى انّ الله يبغض من كان خوّانا أثيما (يَسْتَخْفُونَ) خبر بعد خبر أو صفة بعد صفة أو استيناف جواب لسؤال مقدّر أو حال ، وجمعيّة الضّمير باعتبار معنى من يعنى يستترون (مِنَ النَّاسِ) للحياء أو للخوف منهم حين تبييتهم ما لا يرضى الله من القول (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) بيان لخيانتهم وكفى به خيانة مع الله ومع أنفسهم وقواهم ومع الرّسول (ص) (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبّرون


(ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) والقول هنا اعمّ من الفعل لانّ فعل الأعضاء أقوالها كما انّ قول اللّسان فعله وهو عبارة عن تدبير هم لمنع علىّ (ع) عن حقّه أو عن تدبيرهم لنسبة السّرقة الى غير السّارق على ما ذكر من التّنزيل (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) فلا يشذّ عنه خفيّات أعمالهم وأقوالهم تهديد لهم (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ) ها حرف تنبيه تنبيه على حمقهم ، وأنتم مبتدأ ، وهؤلاء اسم اشارة خبره أو بدله أو منادى ، وجادلتم خبر بعد خبر أو مستأنف أو حال على الاوّل وخبر على الأخيرين ، أو هؤلاء موصول خبر أنتم وجادلتم (عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) صلته ، وخطاب الجمع للمحامين عن السّارقين مثل أسيد بن عروة بناء على نزول الآية في بنى أبيرق ومحاماة أسيد بن عروة عنهم (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعنى انّ المجادلة هذه تكون عند النّبىّ (ص) ويوم القيامة تكون عند الله (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) الوكيل من كان مراقبا لأمور الموكّل وحافظا لها ، وتعديته بعلى لتضمين معنى المراقبة وهذا غاية تهديد للمجادلين والمجادلين عنهم جميعا (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) بارتكاب ما لا يرضاه العقل والشّرع (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بترك ارتكاب ما يرضاه العقل والشّرع فانّ المراد بعامل السّوء من يرتكب القبائح الّتى يبعده عن حضرة العقل والرّبّ ، وبظالم النّفس من يقف عمّا يقرّبه الى حضرة العقل ، وقد فسّر في الخبر الظّالم لنفسه بمن يحوم حول نفسه من دون الحركة الى حول القلب (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) وعد للخائن والمجادل عنه بقبول توبته ان تاب ، والمغفرة ستر الّذنوب وترك العقاب عليها ، والرّحمة التّفضّل عليه زائدا على ترك العقاب (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بإثمه (حَكِيماً) لا يفعل لغوا حتّى يمكن ان يرجع وبال إثمه على الغير فرمى الغير به لا ينفعه بل يضرّه (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) الخطيئة كاللّمة ما صدر عن الشّخص مع انزجار النّفس كأنّه لم يقصده ، والإثم ما كان بدون انزجار (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) بسبب نسبة السّوء الى من هو بريء منه (وَإِثْماً مُبِيناً) زائدا على إثمه الاوّل بسبب تنزيه النّفس الخاطئة أو الآثمة منه ورمى البريء به (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) النّبوّة والرّسالة بالنّسبة الى النّبىّ المخاطب به ولو لا النّبىّ والرّسول بالنّسبة الى المعرّض به (عَلَيْكَ) واردا أو حافظا عليك (وَرَحْمَتُهُ) الولاية أو علىّ (ع) بالنّسبتين (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعنى انّ هيبة الفضل والرّحمة مانعة من همّتهم أو من تأثير همّتهم على تضمين اثّرت (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن رأيك الصّواب أو عن رؤيتك الصّواب وعلى ما بيّنا فالمعنى لو لا النّبىّ (ص) وعلىّ (ع) حافظا عليكم لهمّ منافقوا الامّة ان يضلّوكم عن نهج الصّواب والطّريق المدلول عليه بالإسلام من ولاية علىّ (ع) (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بهمّتهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) على فرض الهمّة منهم (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) اى النّبوّة (وَالْحِكْمَةَ) اى الولاية (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) بانزال الولاية من دقائق الكثرات ودقائق أحكامها الّتى هي لازمة الرّسالة (وَكانَ فَضْلُ اللهِ) اى الرّسالة أو مطلق نعم الله (عَلَيْكَ عَظِيماً) وفي وصل هذا الامتنان اشارة الى تعليل عدم الإضرار (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) من تبعيضيّة أو بيانيّة وما بعدها بيان لكثير ، أو من ابتدائيّة


أو تعليليّة والمعنى لا خير في كثير من النّاس ناشئا من نجواهم أو ليس لهم خير لأجل نجواهم وحينئذ يكون من نجويهم قيدا للنّفى أو للمنفىّ مرفوعا بالنّفى ، وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) استثناء من كثير بتقدير نجوى من امر بصدقة على الاوّل ، وبدون التّقدير على الأخيرين ، أو الاستثناء منقطع على الوجه الاوّل (أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وفسّر المعروف بالقرض فمن امر بالصّدقة في نجواه من حيث انّه امر بالصّدقة كان النّجوى خيرا له وللمأمور وللمأمور له سواء كان نجواه مع غيره والمأمور غيره ، أو كان نجواه مع نفسه بالخطرات والخيالات وكان المأمور نفسه وقد جاء عنهم قراءة قوله تعالى انّما النّجوى من الشّيطان (الى آخر الآية) عند المنامات المشوّشة اشارة الى انّها نجوى الشّيطان ، وروى عن الصّادق (ع) انّ الله تعالى فرض التّجمّل في القرآن فسئل وما التّجمّل؟ ـ قال : ان يكون وجهك اعرض من وجه أخيك لتحمل له وهو قوله تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) (الآية) (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال كأنّه قال : ومن يفعل ذلك فله أجر عظيم ، ومن يشاقق الرّسول بنجواه فله عذاب عظيم ومن لم يأمر بالصّدقة ولم يشاقق الرّسول فلا أجر كاملا له ولا عذاب فمن يفعل النّجوى (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) خالصا عن شوب رياء وسمعة وعظمة ورفعة بالنّسبة الى المأمور أو المأمور له أو غيرهما (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) لصرف عرضه أو لتحمّل تعب الإصلاح (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) بان يناجي بخلافه ولا يرضى بقوله وينهى عمّا يأمر به كمن تحالفوا في مكّة ان لا يتركوا هذا الأمر في بنى هاشم ومثل من تخلّف عن جيش اسامة (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) الرّشاد أو حقيقة الهدى وهي الولاية فانّها تبيّنت بقول الله وقول رسوله (ص) (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) بالبيعة الخاصّة الولويّة كسبيل سلمان وابى ذرّ واقرانهما أو غير سبيل المسلمين من حيث إسلامهم فانّ سبيلهم من حيث الإسلام هي السّبيل المنتهية الى الولاية (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نوجّهه تكوينا ما توجّه اليه باختياره من سبيل الجحيم (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) لانتهاء سبيله إليها (وَساءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) باعتبار مظهره الّذى هو علىّ (ع) استيناف في موضع التّعليل تعليلا للحكم وإظهارا لانّ مشاقّة الرّسول (ص) في علىّ (ع) والشّرك به شرك بالله (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قد مضى الآية بتمام اجزائها سابقا (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) باعتبار الشّرك بالولاية (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) وصف الضّلال بالبعد باعتبار بعد صاحبه مبالغة (إِنْ يَدْعُونَ) هؤلاء المشركون بالله أو بعلىّ (ع) (مِنْ دُونِهِ) اى من دون الله أو من دون علىّ (ع) (إِلَّا إِناثاً) لانّهم يسمّون أصنامهم إناثا ويقولون : أنثى بنى فلان وأنثى بنى فلان ، أو لانّهم يعبدون نفوسهم الامّارة وهي إناث العالم الصّغير وهي الّتى تمكّن فيها الشّيطان ويأمر وينهى الإنسان ، أو لأنّهم يطيعون ائمّة الضّلالة ؛ وائمّة الضّلالة لكون فعليّاتهم فعليّات النّفوس الامّارة ما بقي لهم جهة رجوليّة لا بالفعل ولا بالقوّة (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) الشّيطان الخارجىّ أو الظّاهر بنفوسهم الامّارة ، والمريد والمارد الخارج عن الطّاعة الّذى لا خير فيه (لَعَنَهُ اللهُ) دعاء عليه أو اخبار بحاله مستأنفا أو صفة أو حالا (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ) اى من كلّ فرد من عبادك أو من مجموع عبادك ، والإتيان بلام القسم ونون التّأكيد للتّأكيد والمبالغة في وقوعه (نَصِيباً


مَفْرُوضاً) قسطا معيّنا فرض لي أو عيّن لي وهو الجزء السجّينىّ من كلّ عبد أو أهل السّجّين من العباد ، روى انّ من بنى آدم تسعة وتسعين في النّار وواحدا في الجنّة ، وروى من كلّ الف واحد لله وسائرهم للنّار ولا بليس (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن طريق الهدى (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بالامانىّ الباطلة كطول العمر والرّفعة والحشمة وكثرة الأموال وغير ذلك (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالباطل (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) اى ليقطعنّها من أصلها ، وقيل كانوا يشقّون آذان الانعام إذا ولدت خمسة أبطن والخامس ذكر وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها ، وهذا أحد موارد التّبتيك (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) تغيير خلق الله بتغيير صورته الظّاهرة من غير اذن من الله كقطع الاذن من الحيوان والإنسان واخصائهما وكلّ مثلة ، أو بتغيير صفته الظّاهرة من غير اذن من الله ، أو بتغيير صورته الباطنة كتغيير صورته الانسانيّة عن الاستقامة الى الانحناء والنّكس وتبديل صورهم الانسانيّة بصور القردة والخنازير بإغوائهم ، أو بتغيير صفته كتغيير استقامته على الطّريق الالهىّ الى الاعوجاج ، وتغيير دينه المستقيم الى الأديان المنحرفة ، وتغيير فطرته على الإسلام الى فطرة الكفّار ، ويلزمه تغيير أوامر الله ونواهيه فصحّ ما في الخبر من تفسيره بدين الله وأمره ونهيه (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ) الجنّىّ أو الانسىّ (وَلِيًّا) محبّا أو أميرا (مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) بإتلاف رأس ماله الّذى هو اللّطيفة الانسانيّة (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) استيناف في موضع التّعليل (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) الجنّىّ (إِلَّا غُرُوراً) مصدر غرّه إذا خدعه وأطمعه بالباطل والمراد به ما يغترّ به فيكون مفعولا به ، أو معنى الخديعة والأطماع فيكون قائما مقام المفعول المطلق ، أو مفعولا مطلقا من غير لفظ الفعل (أُولئِكَ) المتمكّن منهم الشّيطان (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) مهربا وذلك لانّهم تمكّنوا في طريق العالم السّفلىّ ودار الشّياطين بحيث لا يمكن لهم الرّجوع عنه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة فليكن قوله تعالى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اشارة الى الايمان الخاصّ الولوىّ لانّ العمل ما لم يكن عن ايمان قلبيّ وميثاق علوىّ لا يصير صالحا ، أو المراد الّذين آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة وعملوا الصّالحات بكسب الخيرات فيه حتّى يتمكّن في الايمان ، فانّ الايمان ما لم يتمكّن الإنسان فيه كان مستودعا محتملا للزّوال (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لانّ طريقهم طريق القلب وطريق الولاية الموصلة الى العالم العلوىّ وفيه الجنّات (خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ) وعد الله وعدا (حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) فلا خلف لوعده ، اكّده بتأكيدات عديدة ثمّ صرف الكلام عن بيان حال المؤمنين الى الخطاب مع المنافقين التّابعين للشّيطان فقال تعالى (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) يعنى أنتم وأهل الكتاب بانتسابكم وانتحالكم النّسبة الى نبىّ وكتاب تتمنّون ان يغفر الله لكم ذنوبكم كائنة ما كانت ، وان يعامل الله معكم معاملة الوالد مع اعزّ أولاده ، وليس الأمر منوطا بامانيّكم ولا امانىّ أهل الكتاب بل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) يعنى لستم ممّن يغفر أو يمحى أو يبدّل سيّئاتكم لانّ هذه لمن كان له نبىّ وامام يعنى نصير وولىّ ، وأنتم انحرفتم عن النّبوّة والولاية ولا ينفعكم انتحال احكام النّبوّة فمن يعمل منكم سوء يجز به (وَلا يَجِدْ لَهُ) لنفسه (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون مظاهره (وَلِيًّا) يلي أموره من امام منصوب من الله صاحب ولاية (وَلا نَصِيراً) من نبىّ بحقّ ينصره


عمّا يضرّه ، روى انّ اسمعيل (ع) قال للصّادق (ع) : يا أبتاه ما تقول في المذنب منّا ومن غيرنا؟ ـ فقال : ليس بامانيّكم ولا امانىّ أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به وهو يشير الى تعميم الحكم ولا ينافي تخصيص الخطاب بالمنافقين المنتحلين (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لانّ شرط قبول العمل هو الايمان الخاصّ والبيعة على يد علىّ (ع) يعنى انّ العمل الصّالح يصير صالحا إذا كان ناشئا من الايمان وراجعا اليه والّا لم يكن صالحا وان كان صورته صورة العمل الصّالح ، لانّ الصّلاح أصله هو الولاية لعلىّ (ع) فكلّ ما صدر عن الوجهة الولويّة فهو صالح كائنا ما كان ، وكلّ ما لم يصدر عن الوجهة الولويّة فهو فاسد (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) شيئا قليلا والنّقير النّقطة في وسط النّواة ، ووجه الاختلاف بين القرينتين بالإجمال في الشّرط والإتيان بالجزاء مضارعا مجرّدا عن الفاء في الاولى ، والتّفصيل في الشّرط والإتيان بالجزاء جملة اسميّة مصدّرة بالفاء في الثّانى ما هو من عادة صاحبي الحياء والكرم من الإجمال والإغماض في جانب الوعيد والتّفصيل والتّأكيد في جانب الوعد (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) استفهام إنكارىّ فيه معنى التّعجّب عطف على من يعمل من الصّالحات باعتبار لازمه الّذى هو معنى لا أحد أحسن دينا منه ، واشارة الى علّة الحكم والى وصف آخر لهم مشعر بالمدح ، فانّ المراد بمن أسلم وجهه لله هو المؤمن ، والمراد بالمحسن من يعمل من الصّالحات ، فانّ الايمان هو انقياد وجهك الباطنىّ وإخلاصه لمن بايعت على يده ، ولمّا كان من بايعت على يده بيعة حقّة واسطة بينك وبين الله كان إخلاص الوجه له إخلاصا لله وهو علىّ (ع) أو خلفاؤه ، والإحسان هو ان يكون العمل صادرا عن امر من هو أصل في الحسن ، وهو علىّ (ع) وخلفاؤه (ع) كما سبق في بيان العمل الصّالح كأنّه قال : ولا أحد أحسن دينا منهم لانّ حسن الدّين امّا بالعمل وهو ان يكون صادرا عن امر الحسن الحقيقي ، وامّا بالاعتقاد والعمل الجنانىّ وهو ان يكون عارفا لإمام زمانه مسلما وجهه له بالبيعة على يده وهو الحسن الحقيقىّ ، وهؤلاء متّصفون بوصف العمل الصّادر عن امر الحسن الحقيقىّ والانقياد اعتقادا للحسن الحقيقىّ ، وفي النّبوىّ المشهور اشارة الى ما ذكرنا من تفسير المحسن فانّه (ص) قال : الإحسان ان تعبد الله كأنّك تراه فان لم تكن تراه فانّه يراك ، يعنى انّ الإحسان يصدق إذا كان العمل بمشاهدة الله يعنى بمشاهدة امره حتّى يكون المصدر هو امره ، وتقديم العمل الصّالح في المعلول لكون العنوان الأعمال وجزاءها ، وتأخير الإحسان الّذى هو بمعناه في العلّة لتقدّم الايمان على العمل الصّالح ذاتا (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فيه اشارة الى انّ المراد بالمحسن العامل بالأعمال القلبيّة الولويّة المخليّة للنّفس عن الرّذائل والهواجس والوساوس المحليّة لها بالخصائل والإلهامات والتّحديثات والمشاهدات والمعاينات ، والمراد بالتّابع لملّة إبراهيم (ع) هو العامل بالأعمال القالبيّة والأحكام النّبويّة من المفروضات والمسنونات وترك المنهيّات ، فانّ من تاب على يد علىّ (ع) وتلقّى منه آداب السّلوك واحكام القلب لا بدّ له من العمل بأحكام القالب فانّها كالقشر لأحكام القلب فما لم يحفظ القشر لم يحفظ اللّبّ ، وحنيفا حال عن التّابع أو الملّة أو إبراهيم (ع) وعدم مراعاة التّأنيث امّا لتشبيه الحنيف بالفعيل بمعنى المفعول ، أو لكسب الملّة التّذكير من المضاف اليه لصحّة حذفه ، والحنيف بمعنى الخالص أو المائل عن الأديان الاخر ، أو الرّاغب الى الإسلام الثّابت عليه (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) عطف مشعر بالتّعليل أو حال بتقدير قد أو بدون التّقدير على خلاف


فيه ، في الخبر عن الصّادقين (ع) انّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل ان يتّخذه نبيّا ، وانّ الله اتّخذه نبيّا قبل ان يتّخذه رسولا ، وانّ الله اتّخذه رسولا قبل ان يتّخذه خليلا ، وانّ الله اتّخذه خليلا قبل ان يتّخذه إماما ، وقد أشار بعد الاشارة الى انتهاء العبوديّة الى المراتب الأربع الكلّيّة الّتى هي أمّهات مراتب الخلافة الالهيّة ، وتحت كلّ مرتبة منها مراتب جزئيّة الى غير النّهاية ، وشرحها على سبيل الإجمال بحيث لا يشمئزّ منه طباع الرّجال ولا يصير سببا للشّين والجدال ان يقال : انّ الإنسان من بدو خلقته الى آخر مراتب وجوده الّتى لا نهاية لها يطرو عليه الأحوال المختلفة ويتشأّن بشؤن متضادّة كأنّه كلّ يوم هو في شأن : فاوّل خلقته نطفة في قرار مكين ، ثمّ يتدرّج في أطوار الجماديّة الى ان وصل الى مرتبة النّبات متدرّجا فيه ، الى ان ينفخ فيه الرّوح الحيوانيّة متدرّجا الى ان ينفخ فيه الرّوح الدّماغيّة ، ثمّ بعد استحكام أعضائه وبشرته بحيث يستعدّ لمباشرة الهواء يتولّد وفيه المدارك الحيوانيّة الظّاهرة بالفعل متدرّجا الى ان صار مداركه الباطنة بالفعل وفيه العقل بالقوّة ويسمّى العقل الهيولانىّ ، وغذاءه في الرّحم دم منضوج يصلح لان يكون غذاءه ، وبعد التّولّد أيضا دم مستحيل الى اللّبن ليكون موافقا لبدنه ، وبعد استحكام أعضائه وشدّة عظمه وغلظه بحيث لا يستضرّ بغير اللّبن يفطم من اللّبن ويغتذي بلذائذ الاغذية ، ولا يعرف الّا ما يشتهيه الى ان يصل الى أوان المراهقة ويميز بين الخير والشّرّ في الجملة متدرّجا فيه الى زمان الرّشد واستعداد التّميز بين الخير والشّرّ الباطنين ، وحينئذ يصير عقله بالفعل ويستعدّ لان يدرك الأوامر والنّواهى التّكليفيّة. فان وفّقه الله لطلب من يأمره وينهاه من الله وطلب بصدق يصل بفضله تعالى لا محالة الى رسول من الله أو خليفة الرّسول ويقبل رسالته أو خلافته ، فاذا قبله علّمه آداب الوصل والمبايعة والمعاهدة وبايع وعاهد وبعد البيعة والميثاق لقّنه أحكام القالب وحذّره من الانس بالنّفس الامّارة وينهاه من الاهوية الكاسدة وأوحشه منها ، فاذا توحّش وفطم عن لبنها طلب من يأنس به ويغذو من غذائه ، فاذا طلب بصدق وصل لا محالة الى رسول من الله أو خليفته ثانيا وقبل ولايته فاذا قبل ولايته وتسلّطه الباطنىّ علّمه آداب الوصل والمبايعة الخاصّة والميثاق الخاصّ وبايعه وعاهده بالبيعة الولويّة الباطنة القلبيّة الخاصّة ولقّنه احكام القلب وآنسه بأبيه العقل بعد فطمه من أمّه النّفس وأطعمه من غذاء أبيه ؛ والمبايعة الاولى تسمّى إسلاما والثّانية تسمّى ايمانا. ولا يمكن للمسلم ان يسلك الى الله ولا الى الطّريق من حيث إسلامه ، فانّ المسلم قبل إسلامه بمنزلة من ضلّ في بيداء عميقة لا يظهر فيها آثار الطّريق وتكون كثيرة السّباع وفيها قطّاع الطّريق وهو غافل عن ضلالته وعن سباعها ويظنّ انّه في الطّريق أو في موطنه ومحلّ قراره آمنا من كلّ ما يوذيه ، والرّسول أو خليفته بمنزلة من ينبّهه عن غفلته ويخبره بضلالته وبكثرة السّباع والموذيات فيتوحّش ويطلب طريقا ينجيه ودليلا يهديه فيسلّم قوله ويلتمس منه الدّلالة على آثار الطّريق فيقول : انّما انا منذر عن المخاوف ومنبّه عن الغفلة وللطّريق هاد فيبيّن علامة من هو هاد ويقول : من كنت مولاه فعلىّ (ع) مولاه مثلا ، ولذا كان شأن النّبىّ (ص) منحصرا في الإنذار والهداية موكولة الى من عيّنه لاولى الأبصار (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ، فاذا عيّن النّبىّ (ص) أو خليفته من كان يدلّه على الطّريق يتسرّع لا محالة اليه ويلتمس منه آثار الطّريق فيأخذ منه المواثيق الاكيدة بالمبايعة والمعاقدة ثمّ يعلّمه آثار الطّريق وهو الايمان ، فاذا امن وعلم آثار الطّريق فان تسرّع بآثاره وعلائمه يكن حينئذ سالكا الى الطّريق خائفا من السّباع والموذيات ، ومن عدم الوصول فيتعب نفسه في السّير والحركة اليه وكثيرا ما يعارضه الغيلان والسّباع وقطّاع الطّريق والموذيات فيدافع ويدفع عن نفسه بالسّلاح الّذى أعطاه المنذر اوّلا والهادي ثانيا فينجو منهم بقوّة السّلاح ان شاء الله ، فيصل الى الطّريق الّذى هو علىّ (ع) ويحصل


له الحضور عنده ويسمّى عندهم تلك المرتبة بالفكر والحضور ، ويحصل له الرّاحة بعد التّعب والسّرور بعد الحزن والبشارة بعد الخوف واللّذّة بعد الألم ، ويصير سالكا بعد ذلك الى الله. فانّه بعد الإنذار متحيّر متوحّش خائف ، وبعد الدّلالة على الطّريق سألك الى الطّريق خاثف راج متعب نفسه ، وبعد الوصول الى الطريق الموصل الى الله سألك الى الله راج خائف ، لكن خوفه ليس عن المهلك والموذي ولا خوف النّفس الامّارة المسمّى بالخوف ولا خوف النّفس العالمة بالله المسمّى بالخشية بل خوف القلب المسمّى بالهيبة ، والسّالك في هذه الحالة قد يفنى عن نسبة الأفعال الى نفسه ويرى الأفعال من علىّ (ع) وقد يشارك عليّا (ع) في الأفعال وقد يتّحد معه في ذلك ويسمّى فناؤه عن الأفعال بالفناء الفعلىّ ، فاذا سار وسلك وارتفع درجة حتّى لا ينسب الصّفات الى نفسه بل يرى الصّفات أيضا من علىّ (ع) صارت الاثنينيّة ضعيفة والمعاينة قويّة بحيث كاد أن لا يرى نفسه ويسمّى بالفناء عن الصّفات ، لكن له رجاء وخوف بقدر شعوره بنفسه وان كان ذاهلا عن الشّعور بالخوف والرّجاء وخوفه يسمّى سطوة ، فاذا سار معه الى ان لا يرى نفسه ويغيب في حضوره عنده عن نفسه صارت الاثنينيّة مرتفعة ولم يكن له حينئذ نفسيّة حتّى يكون له رجاء وخوف ، ويصير حينئذ مصداقا لقوله (ع): إذا وصلوا اتّصلوا فلا يكون فرق بينه وبين حبيبه ، ويسمّى بالفناء الذّاتيّ ؛ ويسمّى الفناءات بالمحو والمحق والطّمس وهو قبل الإسلام يسمّى ضالّا تائها وبعده يسمّى مسلما وطالبا. فان لم يطلب من يهديه الى الطّريق ووقف خصوصا بعد الانقطاع عمّن أسلم على يده يسمّى أيضا ضالّا ولذلك ورد : من أصبح من هذه الامّة لا امام له من الله تعالى أصبح ضالّا تائها ، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. وبعد الوصول الى إمامه وولىّ امره والمبايعة معه وإعطاء الميثاق له يسمّى سالكا وسائرا الى الطّريق لا الى الله بلا واسطة ، وان كان سيره الى الطّريق سيرا الى الله ويسمّى سيره هذا سفرا من الخلق الى الحقّ ، وبعد وصوله الى الطّريق يصير سالكا الى الله ويسمّى سيره هذا سفرا من الحقّ بالحقّ الى الحقّ ، فاذا وصل وفنى عن أفعاله وصفاته وسار بالوصال في فناء ذاته يسمّى سائرا في الله ويسمّى سيره هذا سفرا بالحقّ في الحقّ ، وبهذا السّير يتمّ له العبوديّة والفناء ولا يبقى منه ذات ولا اثر ويصير وصاله اتّصالا وينتقل بعد ذلك عبوديّته الى الرّبوبيّة وفناؤه الى البقاء. وما قالوا : من انّ الفقر إذا تمّ فهو الله ، اشارة الى هذا فانّه بعد صحوه يصير موجودا بوجود الله وباقيا ببقاء الله وحاكما بحكم الله وخليفة لله ، لانّه إذا صار عبدا لله وعلم الله صدق عبوديّته ردّه الى ما عاد منه ووكله بأمور بيته الّذى هو قلبه وشرّفه بشرافة خلافة البيت فاذا وجده في إصلاح البيت بصيرا أمينا كاملا وكله بأمور مملكته وشرّفه بشرافة خلافة المملكة ويسمّى هذا العود بعد الأوب سفرا من الحقّ الى الخلق بالحقّ ، فاذا وجده في إصلاح المملكة وتعمير بلادها وتكثير عبادها بصيرا أمينا بالغا دعاه ثانيا الى مقام الانس وآنسه بنفسه ، لكن هذا الحضور غير الحضور الاوّل ؛ فانّ الاوّل دهشة وحيرة وفقر وفاقة وهذا انس وحشمة وغناء لكن بأنس الله وحشمته وغنائه. فاذا آنسه وارتضاه فوّض اليه جميع أموره من عباده وجنوده وسجنه وسجّينه وأضيافه ومضيفه وإعطائه ومنعه فمن شاء يسجنه ومن شاء يضفه ، ومن شاء يعطه ومن شاء يمنعه فله التّسلّط والتّصرّف فيمن شاء كيف شاء ويسمّى هذا في الحضور الاوّل والفناء التّامّ عبدا ، وفي حال إصلاح البيت نبيّا ، وفي حال إصلاح المملكة رسولا ، وفي الحضور الثّانى خليلا ، وفي حال التّفويض إماما ؛ وهذه الامامة غير ما يطلق على ائمّة الجور ، وغير ما يطلق على ائمّة الجماعة ، وغير ما يطلق على الأولياء الجزئيّة بل هي مرتبة لا يتصوّر فوقها مرتبة. ولا يلزم ممّا ذكرنا ان يكون كلّ من بايع النّبىّ (ص) بالبيعة العامّة وصل الى مقام البيعة الخاصّة كأكثر العامّة ، ولا كلّ من بايع البيعة الخاصّة وصل الى الطّريق كأكثر الشّيعة ، ولا كلّ من وصل الى الطّريق وصل الى الحقّ ، ولا كلّ من


وصل الى الحقّ صار عبدا ، ولا كلّ من صار عبدا صار نبيّا ، ولا كلّ نبىّ رسولا ، ولا كلّ رسول خليلا ، ولا كلّ خليل إماما ؛ ولمّا كانت الامامة بهذا المعنى خلافة مطلقة كلّيّة ونهاية لجميع المراتب واستشعر الخليل (ع) بأنّها آخر مراتب الكمالات الانسانيّة صار مبتهجا ومن ابتهاجه قال : ومن ذرّيّتى (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) اللّام للاختصاص وقد يستعمل باعتبار المبدأ وقد يستعمل باعتبار الغاية وقد يستعمل باعتبار المملوكيّة كما يقال : هذا البيت لفلان يعنى بانيه ومصدر بنائه فلان لا غير ، أو هذا البيت لسكنى الشّتاء أو لسكنى الصّيف باعتبار غايته ، أو هذا البيت لفلان يعنى فلان مالكه من غير شراكة الغير ، والمراد في هذا الموضع وأمثاله معنى عامّ يشمل المعاني الثّلاثة ، يعنى لله ما فيهما بدوا وغاية وملكا وهو عطف أو حال فيه اشعار بالتّعليل وكذا قوله تعالى (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) كأنّه قال : لا أحد أحسن حالا ممّن أسلم وجهه لله واتّبع خليله ، لانّ كلّ ما في السّماوات والأرض مملوك له وله العلم بكلّ شيء فيعلم من أسلم وجهه له ويعلم مرتبته وقدر استحقاقه فلا يمسك عنه ما هو مستحقّ له (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) اى في حكم نسائهم من الالفة والفرقة بقرينة (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) الآية) أو في حكم مطلق النّساء من الإرث بقرينة (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أو في حكم النّساء بحسب الإرث من الأزواج كما مضى حكمه ، أو من الأرحام كما مضى أيضا ، أو بحسب المعاشرة كما يأتى (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) وفي نسبة الإفتاء الى الله في الجواب اشارة الى انّ ما يقوله (ص) ليس منه برأى واجتهاد وظنّ وتخمين كما سيحدّثونه ، بل هو فتيا الله على لسانه امّا لفنائه من نفسه أو لوحى منه (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) عطف على الله أو على المستتر في يفتيكم وسوّغه الفصل ، أو هو بتقدير فعل هو يبيّن أو ما نافية والجملة معطوفة على جملة (اللهُ يُفْتِيكُمْ) أو حاليّة بتقدير مبتدء والمعنى ما يتلى افتاؤه بعد عليكم (فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) متعلّق بيتلى أو بدل من قوله فيهنّ (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) وبذكر (ما كُتِبَ لَهُنَ) أشار الى انّ لهنّ ميراثا مفروضا وقد بيّن في اوّل السّورة ما لهنّ بحسب الإرث من الأزواج ومن الأرحام كانوا في الجاهليّة لا يورثون الصّغير ولا المرأة ويقولون : الإرث لمن تمكّن عن المقاتلة والمدافعة عن الحريم وحيازة الغنيمة (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) إذا لم يكنّ ذوات جمال ولا يكون لهنّ اموال أيضا فترغبون عنهنّ لعدم المال والجمال (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على يتامى النّساء (مِنَ الْوِلْدانِ) جمع الوليد وقد مضى حكمهم بحسب الإرث والحفظ والمال جميعا في اوّل السّورة (وَ) يفتيكم أيضا في (أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) عطف على يستفتونك أو على الله يفتيكم على ان يكون من جملة مقول القول يعنى قل لهم ما تفعلوا من خير في ارث النّساء وقسامتهنّ وفي حفظ اليتامى وأموالهم لا يضع عملكم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) سوء عشرة معها ومنعها من حقوقها لمّا قدّم ذكر خوف نشوز المرأة ذكر هاهنا خوف نشوز المرء (أَوْ إِعْراضاً) تجافيا وعدم توجّه إليها مع اعطائها حقوقها من النّفقة والكسوة والقسامة فانّ النشوز عدم القيام بما يجب عليه والاعراض لما ذكر في مقابله يكون غيره (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) قرئ يصلحا من باب الأفعال وحينئذ يجوز ان يكون صلحا مفعولا به اى يوقعا صلحا وان يكون بينهما مجرّدا عن الظّرفيّة مفعولا به ، وان يكون المفعول به محذوفا وقرئ يصّالحا ويصّلحا بتشديد الصّاد


من تصالح واصطلح والمقصود نفى الجناح من ان يصطلحا على إعطاء المرأة شيئا من مهرها أو غيره ، أو على تحمّل خدمة له لاستمالته ، أو على اقساط قسامتها وسائر حقوقها ، فعن الصّادق (ع) هي المرأة تكون عند الرّجل فيكرهها فيقول لها : أريد ان اطلّقك فتقول له : لا تفعل انّى اكره ان يشمت بى ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك ودعني على حالتي وهو قوله تعالى : فلا جناح عليهما ان يصلحا ولا اختصاص له بإسقاط المرأة حقّها بلا عوض ، فيجوز ان يجعل بدل إسقاط الحقّ عوضا (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة والطّلاق وسوء العشرة (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) لانّها مطبوعة على جذب خيرها وعدم إخراجه من أيديها كأنّها أجبرت على الحضور عند الشّح فكأنّ نفوس الرّجال لا يمكنها إمساك النّساء مع كراهتهنّ ولا القيام بحقوقهنّ ولا نفوس النّساء يمكنها إسقاط حقّها وترك حظّها والجملة الاولى للتّرغيب على الصّلح والثّانية لتمهيد العذر لمماكسة الطّرفين عن الصّلح (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في العشرة (وَتَتَّقُوا) عن نقص حقوقهنّ أو عن الفرقة وفتح باب الشماتة لهنّ وتمسكوهنّ مع كراهتهنّ كان الله يجزيكم بالإحسان الإحسان وبالتّقوى الغفران (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فأقيم السّبب مقام الجزاء (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) لفظة لن للتّأبيد اشارة الى انّه كالمحال (أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) فانّ العدل التّسوية بينهنّ وهي ان كانت ممكنة بحسب الظّاهر فليست بمقدورة بحسب ميل القلب (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل بينهنّ ، عن النّبىّ (ص) انّه كان يقسم بين نسائه ويقول : اللهمّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) بسراية ميل الباطن الى احديهنّ وكراهة الاخرى الى الظّاهر فتجعلوا قسامتهنّ وغير قسامتهنّ مطابقة لميلكم الباطنىّ بهنّ (فَتَذَرُوها) اى المكروهة (الْمُعَلَّقَةِ) الّتى لا بعل لها ولا اختيار لها لنفسها ، روى انّ عليّا (ع) كان له امرأتان وكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّأ في بيت الاخرى ، فوا حسرتاه على العدول الّذين في زماننا وقسامتهم بين أزواجهم كسائر موارد عدلهم.! (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أنفسكم بتقليل تفاوت الميل القلبىّ بقدر ما يمكن وتسوية التّرحّم عليهنّ باتّصافكم بالرّحمة الّتى هي من صفات الله (وَتَتَّقُوا) عن الانزجار القلبىّ عمّن تكرهونهنّ بالإغضاء عن نقائصهنّ ومعايبهنّ الّذى هو المغفرة لهنّ صرتم متخلّقين بأخلاق الله ومستحقّين لرحمته ومغفرته لتخلّقكم بهما (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فأقيم السّبب مقام المسبّب ، أو المعنى ان تصلحوا ما أفسدتم بالميل الكلّىّ وتتّقوا عن الإفساد فيما يأتى صرتم احقّاء برحمته ومغفرته ، أو المعنى وان توقّعوا الصّلح وتتّقوا عن الفرقة بالتّرحّم عليهنّ والمغفرة لهنّ صرتم مستحقّين لرحمته بقرينة مقابلته لقوله تعالى (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) بعد عدم الرّضا بالصّلح وعدم إحسان الأزواج (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) بالأزواج للرّجال والأزواج للنّساء ، أو بصفات الملائكة وخصالهم فيسلو كلّ من الزّوج بانساء الطّبيعة عن المضاجعة وتقليل شهوة النّكاح أو بالأموال الدّنيويّة فيعطى كلّا ما يغنيه ، وحديث امر الصّادق (ع) شاكيا من الفقر بالنّكاح واشتداد الفقر عليه بعد النّكاح وامره ثانيا بالفرقة وحصول الغناء له يدلّ على الأخير ولا ينافي التّعميم (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) عطف فيه معنى التّعليل يعنى يقدر على التّوسعة في الأزواج أو في الخصال أو في الأموال على فرض التّفرّق لانّه واسع بحسب كلّ شيء ويأمركم بالإحسان والإغضاء لانّه حكيم وفيما يأمركم به صلاحكم (وَلِلَّهِ) صدورا ورجوعا


وملكا (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيه أيضا معنى التّعليل (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) فيه تأكيد أكيد للتّقوى اشعارا بانّ ما ذكر على طريق المداراة معكم من التّقوى عن سوء العشرة وعن الفرقة فهو وصيّة قديمة وجديدة فما لكم لا تتّقون عن سوء العشرة وتنتهون في امر أزواجكم الى الفرقة ولقد جمع الله في هذه الوصيّة على سبيل الإجمال جميع ما ينبغي ان يوصى به فانّ تقوى الله عمّا لا يرضى ملاك ترك كلّ حرام ومكروه ومناط فعل كلّ واجب ومندوب (وَإِنْ تَكْفُرُوا) وتخرجوا من السّماء الّتى هي محلّ الطّاعة الى الأرض الّتى هي محلّ الشّرك والمعصية فلا تخرجوا من مملكته حتّى ينقص فيها شيء ولا حاجة له الى طاعتكم وتقويكم حتّى لا يقضى بترككم حاجته ، ولا يلحقه ذمّ بواسطة كفركم حتّى يحتاج في رفعه الى طاعتكم ، ولا حاجة له الى حفظكم لنفسه ومملكته حتّى تكونا بترككم الطّاعة غير محفوظتين (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) فأقيم السّبب مقام الجزاء (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تأكيد للسّابق وتمهيد وتعليل لكونه وكيلا على كلّ شيء ومقتدرا على التّصرّف في كلّ شيء بأىّ نحو شاء (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فلا حاجة له في الحفظ الى طاعتكم (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) فلا تخرجوا بكفركم عن تحت قدرته وتصرّفه (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) روى انّه لمّا نزلت هذه الآية ضرب النّبىّ (ص) يده على ظهر سلمان (ره) وقال : هم قوم هذا يعنى عجم الفرس ، والمراد انّه شاء ذلك ويأتى لا محالة بآخرين وهم قوم هذا (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) بترك التّقوى والكفر بالله فليطلبه بالتّقوى وطاعة الله حتّى يحصل له ثواب الدّنيا مع ثواب الآخرة فانّ من كانت الآخرة همّته كفاه الله همّته من الدّنيا (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فهو جواب لما عسى ان يقال : انّ تارك التّقوى لا يلتفت في طاعته وتركه الى حاجة لله اليه في شيء ممّا ذكر بل يريد ثواب الدّنيا ويظنّ انّه لا يحصل بالتّقوى ولذا أتى به مفصولا لا موصولا بالعطف (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فاذا أطاعوا واتّقوا وطلبوا قالا أو حالا يسمعهم ويجيبهم ، وإذا لم يطلبوا وكان غرضهم ذلك أو لم يكن غرضهم ذلك ولكن كان حاجتهم اليه يبصر أغراضهم ومقدار حاجاتهم فيعطيهم من ثواب الدّنيا أيضا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) على يد محمّد (ص) بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة (كُونُوا قَوَّامِينَ) اثبتوا على هذا الوصف فانّ تخليل الكون للدّلالة على الثّبات والدّوام ، والقوّام الخارج عن الاعوجاج والمخرج نفسه وقواه وغيره عنه فانّه يستفاد من المبالغة السّراية الى الغير كما في الظّهور أو هو مأخوذ من قام عليه وبأمره إذا أصلحه (بِالْقِسْطِ) اى بالعدل فانّه بسبب التّسوية بين طرفي الإفراط والتّفريط في النّفس وبسبب تساوى طرفي النّزاع عند النّفس في النّزاع الخارجىّ يمكن الخروج والإخراج عن الاعوجاج ويجوز تعلّقه بقوله تعالى (شُهَداءَ) متحمّلين ومؤدّين للشّهادة خبر بعد خبر تفسير للاوّل أو حال كذلك (لِلَّهِ) لطلب رضا الله أو في شهادات الحسبة لانّ فيها صاحب الحقّ هو الله ، أو لله باعتبار مظاهره وخلفائه ولا سيّما أتمّ مظاهره الّذى هو علىّ (ع) والآية عامّة لكنّ المقصود والعمدة هو هذا فانّها توصية وتوطئة لتحمّل الشّهادة لعلىّ (ع) حين التمسه النّبىّ (ص) منهم بقوله : رحم الله امرء سمع فوعى ، ولأداء الشّهادة


لعلىّ (ع) حين التمسه عنهم بقوله ، الا فليبلغ الشّاهد منكم الغائب ، وحين التمس علىّ (ع) عنهم بعد النّبىّ (ص) ان يؤدّوا ما سمعوا عنه ، ولكن ما وفوا بهذه الوصيّة وما ادّوا (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) مضرّا عليها فانّها احبّ الأشياء عليكم (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فانّهم بعد الأنفس احبّ الأغيار (إِنْ يَكُنْ) كلّ واحد من الطّرفين (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) فلا تخرجوا عن الاستقامة بملاحظة انّ الفقير اولى بالانتفاع وعدم التّضرّر والغنىّ لا يتضرّر على فرض عدم وصول ماله اليه أو ينتفع الغير بما له على فرض الشّهادة عليه زورا ، أو بخيال انتفاعكم عن الغنىّ وعدم تضرّركم منه وعدم مبالاتكم بالفقير (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) فامتثلوا امره ولا تبالوا بتضرّر الفقير وعدم تضرّر الغنىّ (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) اى في العدول عن الحقّ أو بسبب العدول أو لكراهة العدل في الشّهادة (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم بالشّهادة حين الأداء بان تغيّروها بألسنتكم وقرئ تلوا من ولى بمعنى توجّه (أَوْ تُعْرِضُوا) بكتمانها يجازكم الله بحسبه (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فأقيم السّبب مقام الجزاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ والبيعة على يد محمّد (ص) وقبول دعوته الظّاهرة (آمَنُوا) بالايمان الخاصّ والبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، فانّ الإسلام وهو البيعة العامّة النّبويّة وأخذ الميثاق على إعطاء الأحكام القالبيّة والتّوبة على يد محمّد (ص) قد يسمّى ايمانا ، لانّه طريق اليه وسبب لحصوله ، والايمان حقيقة هو البيعة الولويّة والتّوبة على يد علىّ (ع) أو على يد محمّد (ص) من حيث ولويته وأخذ الميثاق على إعطاء الأحكام القلبيّة وإدخال الايمان في القلب ، ولذلك قال في انكار ايمان المدّعين للايمان : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ؛ فعلى هذا لا حاجة الى التّكلّفات البعيدة الّتى ارتكبها المفسّرون (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) يعنى انّ الايمان بمحمّد (ص) بقبول دعوته الظّاهرة إسلام وانقياد له وتقليد محض لا معرفة فيه ولا تحقيق ، وانّما يحصل المعرفة من طريق القلب فآمنوا بعلىّ (ع) بقبول دعوته الباطنة حتّى يدخل الايمان في قلوبكم ويفتح أبواب قلوبكم الى الملكوت فتعرفوا الله ورسوله (ص) وكتابه الجامع الّذى هو النّبوّة ، وكاملة في محمّد (ص) وصورته القرآن وناقصه كان في الأنبياء السّلف وصورته التّوراة والإنجيل والصّحف والزّبور وغيرها ، وللاشارة الى الفرق بين نبوّة محمّد (ص) ونبوّة غيره بالكمال والضّعف قال في الاوّل نزّل بالتّفعيل الّذى فيه تعمّل وفي الثّانى انزل خاليا منه وقرئ فيهما بالبناء للمفعول (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ذكرهم بالتّرتيب من المبدء الى المنتهى ، فانّ المراد بالملائكة العقول وبالكتب النّبوّات وأحكامها فانّها نزولا بعد الملائكة والرّسالة بعد النّبوّة ، والكفر بها مسبّب عن الكفر بالولاية وعدم قبول الدّعوة الباطنة ، فانّه ما لم يدخل الايمان بالبيعة على يد علىّ (ع) في القلب لا ينفتح بابه ، وما لم ينفتح بابه الى الملكوت لم يعرف شيء منها كما عرفت ولذلك أتى به بعد الأمر بالايمان بعلىّ (ع) (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) وصف بحال المتعلّق وتهديد بليغ للمنحرفين عن الولاية وعن قبول الايمان على يد علىّ (ع) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) مفهوم الآية عامّ وتنزيلها خاصّ ، فانّ المراد بها المنافقون الّذين آمنوا بمحمّد (ص) يعنى أسلموا (ثُمَّ كَفَرُوا) بتعاهدهم على خلافه في مكّة (ثُمَّ آمَنُوا) حين قبلوا قوله في الغدير وبايعوا مع علىّ (ع) بالخلافة


(ثُمَّ كَفَرُوا) بتخلّفهم عن جيش اسامة حال حيوته (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بتشديدهم لآل محمّد (ص) (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) لانّهم ارتدّوا عن الفطرة بقطعهم الفطرة الانسانيّة فلا رجوع لهم بالتّوبة ولا سبيل لهم الى دار الرّاحة ، فانّ الفطرة الانسانيّة هي السّبيل الى دار الرّاحة فلا يتصوّر لهم مغفرة ولا هداية ، لانّ المرتدّ الفطرىّ لا توبة له كما قالوا بالفارسىّ «مردود شيخي را اگر تمام مشايخ عالم جمع شوند نتوانند إصلاح نمايند» لانّه مرتدّ فطريّ قاطع لفطرته (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) الآية الاولى بيان حال المتبوعين وهذه بيان حال الاتباع مع إمكان التّعميم (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) استعمال البشارة في العذاب للتّهكّم (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ) الّذين سبق ذكرهم من أعداء آل محمّد (ص) (أَوْلِياءَ) باتّباعهم وقبول دعوتهم والبيعة معهم (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) علىّ (ع) واتباعه (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) استفهام إنكارىّ للتّوبيخ يعنى لا ينبغي ان يبتغوا عندهم العزّة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) مجتمعة عنده فما لهم يخالفون امره ولا يتّبعون أولياءه ويبتغون من غيره العزّة (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) حال من فاعل يتّخذون وجملة أيبتغون اعتراض أو عن فاعل يبتغون أو عن الله المجرور باللّام والمراد بالكتاب امّا احكام النّبوّة أو القرآن أو هما (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) ان تفسيريّة أو مخفّفة (آياتِ اللهِ) وأعظمها علىّ (ع) (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) فضلا عن موالاتهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) غاية للنّهى عن القعود معهم أو غاية لترك تعظيمهم ولاستهزائهم المستفادين من النّهى عن القعود اى لا تقعدوا معهم لينفعلوا ولا يعودوا لمثله (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) بمحض القعود معهم فضلا عن موالاتهم والمماثلة معهم امّا في الكفر ، ان ترضوا بقولهم ، أو في الإثم ، ان لم ترضوا ، (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ) الّذين كانوا مع محمّد (ص) ظاهرا ثمّ اتّبعوا أعداءه (وَالْكافِرِينَ) المتبوعين (فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) اى ينتظرون بسببكم يعنى وقوع امر من خير أو شرّ لكم كأنّ وجودكم صار سببا لانتظارهم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يعنى انّهم كانوا طالبين للدّنيا أينما وجدوها تملّقوا لها لا تعلّق لهم بكفر ولا ايمان (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) سمّى الاوّل فتحا والثّانى نصيبا اشارة الى انّ المؤمنين مقصودهم محض الفتح لاعزاز الدّين ، والكافرين لا قصد لهم الّا حظّهم ونصيبهم من الدّنيا (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) ألم نستول (عَلَيْكُمْ) ونتمكّن منكم فتركنا القتال معكم فوافقونا ولا تعادونا ، والاستحواذ من الكلمات الّتى جاءت على الأصل ولم يعلّ (وَنَمْنَعْكُمْ) ألم نمنعكم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يتراءى ان يقال ولم نمنع المؤمنين منكم ولكن يقال منعته من الأسد إذا حفظه من افتراسه كأنّ المانع يمنعه من التّعرّض للأسد (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) دعاء عليهم أو اخبار ولا يخلو عن تهديد والمقصود بينكم وبينهم بتقدير بينهم أو بكون الخطاب للمؤمنين والكافرين جميعا (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) تسلّطا دعاء أو اخبار والمراد انّه لا سبيل لهم في الآخرة أو بالحجّة أو في الدّنيا بالغلبة من حيث انّهم مؤمنون فانّ قتل الكافرين للمؤمنين واسرهم ونهب أموالهم انّما هي بالنّسبة الى أبدانهم الّتى هي بمنزلة السّجن لهم لا بالنّسبة


الى لطيفة ايمانهم وهذا ردّ لتربّصهم نصيب الكافرين (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) جواب لما يتراءى ان يسأل عنه من حال المنافقين مع الله وفي عبادة الله ولذلك لم يأت بالوصل ، والمراد بمخادعتهم لله خدعته باعتبار مظاهره واتمّها محمّد (ص) وعلىّ (ع) أو يخادعون الله باعتبار ما يذكرون بألسنتهم انّ لنا مبدء وامرا ونهيا منه والّا فلا معرفة لهم بالله حتّى يخادعوه ، ونسبة الخدعة الى الله على سبيل المشاكلة ، أو لانّه باستدراجه لهم يفعل فعل المخادع ، وإتيان الفعل من باب المفاعلة للاشارة الى انّهم كأنّهم يغالبون الله في المخادعة وهو يغلبهم فيها (وَ) طريق عبادتهم انّهم (إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ) بيان لمخادعتهم الله يعنى لبس في وجودهم داع وشوق للعبادة كأنّهم مكرهون وقيامهم الى الصّلوة ليس لعبادة الله بل لمحض الخدعة مع الله واراءة النّاس (وَ) لذلك (لا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) اى ذكرا قليلا أو جمعا قليلا منهم ، عن أمير المؤمنين (ع) من ذكر الله في السّرّ فقد ذكر الله كثيرا انّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية فلا يذكرونه في السّرّ فقال الله عزوجل : يراؤن النّاس ولا يذكرون الله الّا قليلا (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) الأمر من الايمان والكفر ، من الّذبذبة بمعنى جعل الشّيء مضطربا وأصله الّذبّ وقرئ على صيغة الفاعل بمعنى مذبذبين قلوبهم (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) كالنّسوان والأطفال لا يستقيم رأيهم على امر واحد لضعف عقلهم وتسلّط وهمهم فانّهم اضلّهم الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) حتّى يستقيم عليه ولمّا ذكر حال البالغين في الكفر والنّفاق من هذه الامّة وذكر حال النّازلين عنهم وهم المنافقون التّابعون للكافرين نادى المؤمنين على سبيل التّلطّف بهم ونهاهم عن طريق المنافقين وهدّدهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) كالمنافقين (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) فانّ اتّخاذ البالغين في الكفر والنّفاق وهم أعداء آل محمّد (ص) أولياء مع تصريح الله وتصريح نبيّه (ص) بمن هو وليّكم وعداوة هؤلاء لمن صرّحا بولايته يوجب حجّة ظاهرة لله عليكم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) استيناف في موضع التّعليل للنّهى ، وللعالم السّفلىّ كالعالم العلوىّ مراتب وكلّيّاتها سبع مراتب والأراضي السّبع اشارة إليها وتسمّى طبقات ودركات ، ولمّا كان كفر النّفاق أسوء أقسام الكفر وأقبحها كان سببا لانجرار صاحبه الى الدّرك الأسفل من النّار (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) لم يقل لن تجد لهم وليّا ولا نصيرا للاشارة الى انّ المنافقين وقعوا في الدّرك الأسفل في الدّنيا ، والولىّ لا يكون الّا من ولاية محمّد (ص) الّتى تفتح باب رحمة الله على العباد ولا يتصوّر فتح باب الرّحمة لمن كان في الدّرك الأسفل حتّى يحتاج الى التّصريح بنفيه عنهم ، بخلاف النّصير فانّه من رسالة محمّد (ص) والرّسالة لمّا كانت ظهور رحمة الله الرّحمانيّة يتصوّر تعلّقها بكلّ أحد ومع ذلك لا يكون له نصير ، وما بقي بين الصّوفيّة من تعاضد نفسين حين التّوبة والتّلقين ، انّما هو باعتبار مظهريّة الرّسالة والولاية وباعتبار النّصرة والولاية (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من نفاقهم (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بنفاقهم بنصرة الرّسالة والرّسول أو مظهره (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) اى بمظهره الّذى هو شيخ الإرشاد وهو علىّ (ع) (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) الدّين هو الولاية ، وإخلاصها بان لا تكون باشراك ولاية من ليس لها باهل وبان لا تكون مشوبة بالأغراض الكاسدة (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) لانّهم بتوبتهم على يد علىّ (ع) واعتصامهم ببيعتهم الخاصّة الولويّة صاروا


مؤمنين بعد نفاقهم وطهروا عن دنسه بالتّوبة ولذلك قبلهم علىّ (ع) (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) فيساهمونهم (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) قد يفسّر الشّكر بتعظيم المنعم لأجل النّعمة وعلى هذا فالمراد هاهنا تعظيم الله لأجل النّعمة الّتى هي علىّ (ع) فانّه أصل النّعم بل فرعها أيضا ، فلا نعمة غيره وقرينة التّخصيص تعقيبه بقوله تعالى (وَآمَنْتُمْ) فانّه قد علمت انّ الايمان لا يحصل الّا بالبيعة الخاصّة الولويّة على يد علىّ (ع) على انّ الكلام في آل محمّد (ص) وأعدائهم ، وقد يفسّر الشّكر بصرف النّعمة فيما خلقت لأجله ، وعلى هذا فالمراد بالنّعمة المأخوذة في الشّكر استعداد قبول الولاية والبيعة الولويّة والتهيّؤ للعروج الى الملكوت ، ولا نعمة أعظم منها في العالم الصّغير ، كما انّه لا نعمة أعظم من علىّ (ع) في العالم الكبير ، وصرف تلك النّعمة في وجهها بان يسلّمها الى علىّ (ع) حتّى يعطيه ما يستحقّه والقرينة أيضا قوله تعالى : وآمنتم وتقديم الشّكر لتقدّمة على حصول الايمان فانّ البيعة وقبول الولاية لا تكون الّا بعد التّعظيم والتّسليم ، وتعميم الآية لكلّ شكر ونعمة غير مخفىّ على ذوي الدّراية (وَكانَ اللهُ شاكِراً) يجزى الشّكر زيادة في النّعمة فكيف يعذّب الشّاكر (عَلِيماً) لا يفوت عنه شكر كم فيعذّبكم لعدم العلم بشكركم.

الجزء السّادس

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) استثناء من المفعول بتقدير الّا جهر من ظلم أو استثناء مفرّغ بتقدير لا يحبّ الله الجهر بالسّوء من أحد الّا ممّن ظلم وعليهما يكون الجهر بالسّوء من المظلوم محبوبا لكن هو محبوب من كلّ المظلومين أو من بعضهم ، وفي كلّ أقسام الظّلم أو بعضها ، وبكلّ سوء أو بسوء مخصوص مجمل محتاج الى البيان ، أو المستثنى منقطع والتّقدير لا يحبّ الله الجهر بالسّوء لكن من ظلم يجهر بالسّوء أو يباح له الجهر بالسّوء ، وهذا أوفق بقراءة ظلم مبنيّا للفاعل وبيان نظم الآية بحيث يظهر القيود فيها هكذا لا يحبّ الله الشّيء المقول المجهور السّوء ، يعنى لا الشّيء الصّادر من غير اللّسان من الأعضاء ولا الشّيء الصّادر من اللّسان غير المجهور كالمخفت ولا الشّيء الصّادر من اللّسان المجهور غير السّيّء ، ولمّا لم يكن مفهوم المخالفة من الوصف والقيد معتبرا لا يلزم ان يكون هذه محبوبة بل مسكوتا عنها ، وبيانها بالآيات الاخر واخبار الأحكام وهذه الآية في بيان حكم القول الجهر السّوء من احكام القالب واحكام ظاهر الشّريعة ، وامّا الخطرات والخيالات فانّها وان كانت أقوال النّفس وسيّئها سيّء وحسنها حسن لكن لا مؤاخذة عليها في الشّريعة ورفعت عن الامّة المرحومة وكانت عليها مؤاخذة في الطّريقة كما أشاروا إليها بقولهم ، في جواب من سئل عن الخطرات ، هل ريح المنتن وريح الطيّب سواء ، يعنى لطيّبها مجازاة وعلى منتنها مؤاخذة ، وسوء القول اعمّ من كونه كذبا وافتراء ، أو صدقا وغيبة بما لا يجوز ، أو صدقا وغيبة بما يجوز ، أو صدقا من غير اسماع لغير من ينسب السّوء اليه حتّى لا يكون غيبة أو مع اسماع الغير في حضور من ينسب السّوء اليه والكلّ غير محبوب لله الّا قول الجهر السّوء ممّن ظلم ، لكن هذا مجمل محتاج الى البيان لانّه لا يجوز بجميع شقوقه قطعا فبيّنوا المجوّز منه لنا مثل موارد جواز الغيبة ومثل ذكر الضّيف مساوي مضيفه في ضيافته إذا لم يحسن ضيافته ، ومثل تكذيب من يمدحك بما ليس فيك. وقد نسب الى علىّ (ع) انّه قال أستاههم الحفر وقال لخالد : انّما يفعل ذلك من كان استه أضيق من استك ، لكن بقي هل هو محبوب كما هو ظاهر الاستثناء أو ليس بمذموم فنقول : انّه ليس بمحبوب لله على


الإطلاق فانّه علّق محبّته على الإحسان في مقابل الاساءة في قوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ويدلّ عليه الآيات الأخر الآمرة بالصّبر عند الاساءة بل يكون محبوبا أو غير مبغوض على بعض الوجوه. فانّ للإنسان من اوّل إسلامه الى كمال ايمانه مراتب ودرجات ولكلّ مرتبة حكم ليس لما فوقها ولا لما دونها فلا يجرى حكم مرتبة في مرتبة اخرى ، وهذا أحد معنيي النّسخ في الآيات والاخبار ، فصاحب المرتبة الاولى من الإسلام الّذى لا يقنع نفسه من الاساءة الواحدة بالعشرة ولا يكسر سورة غضبه الّا بالمائة فاذا ائتمر بأمر الله واكتفى من الواحدة بالواحدة كان ذلك منه محبوبا ولصاحب هذه المرتبة قال الله تعالى ، (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، ولكن هذا من صاحب الدّرجة الثّانية مذموم وهكذا ، ولذلك ورد : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، والصّبر وكظم الغيظ لصاحب الدّرجة الثّانية ، والعفو وتطهير القلب لصاحب الدّرجة الثّالثة ، والإحسان الى المسيء للمنتهى في الايمان ، ويمكن جعل الاستثناء من لازم الآية وهو ما يستفاد من نفى المحبوبيّة من القول الجهر السّوء كأنّه قيل : كلّ أحد هذا منه مذموم الّا من ظلم (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) فكلوا امر من ظلمكم اليه ولا تجهروا بالقول السّوء اتّكالا على الله وحياء منه ، أو المراد ردع المظلوم عن الزّيادة على قدر الظّلم يعنى فلا تتجاوزا قدر الظّلم فتصيروا ظالمين فانّ الله سميع يسمع قول الظّالم وقول المظلوم عليم بقدر كلّ (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) بالنّسبة الى من ظلمكم (أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) ان لم يتيسّر لكم الاوّلان فانّه مقام لا مقام فوقه ، والمراد من العفو هاهنا اعمّ من الصّفح الّذى هو تطهير القلب عن الحقد على المسيء ولذلك لم يذكره فان تفعلوا ذلك تتخلّقوا بأخلاق الله وتتّصفوا بصفاته فتستحقّوا عفوه وإحسانه (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) على الإحسان فأقيم السّبب مقام الجزاء وقدّم الإحسان هاهنا واخّره في آية كظم الغيظ لانّه ابدأه هاهنا بصورة الشّرط والفرض فيناسبه التّرتيب من الأعلى الى الأدنى بخلافه هناك فانّه ذكر هناك على سبيل تحقّق مراتب الرّجال كما انّ قوله (عَفُوًّا قَدِيراً) ، كان على سبيل ترتيب الصّفات ، فانّ المراد من القدرة القدرة على الإحسان الى المسيء ، والإحسان الى المسيء بعد العفو عن إساءته ويجوز ان يراد بها القدرة على الانتقام وحينئذ يكون المعنى انّه عفوّ مع كونه قديرا على الانتقام ليكون ترغيبا في العفو (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) بعد ما ذكر أدبا من الآداب جدّد ذكر محبوبه وأعداء محبوبه :

از هر چه مى رود سخن دوست خوشتر است

وورّاه بأدائه بطريق العموم كما هو ديدنه تعالى ، كما قيل :

خوشتر آن باشد كه سرّ دلبران

گفته آيد در حديث ديگران

فقال تعالى : انّ الّذين يكفرون (بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بان آمنوا بالله وكفروا بالرّسول (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) كالله (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كالرّسل (ع) ، أو نؤمن ببعض الرّسل كمحمّد (ص) ونكفر ببعض كاوصيائه (ع) (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) اى الايمان بمحمّد (ص) والكفر باوصياءه (ع) (سَبِيلاً) ويجوز ان يكون المراد مظاهره كعلىّ (ع) لانّ عليّا (ع) بعلويّته مرتبته مرتبة المشيّة وهي ظهور الله على العباد ومقام معروفيّته وتجلّيه باسمه العلىّ ، غاية الأمر انّ عليّا اسم لتلك المرتبة باعتبار اضافتها الى الخلق ، وفي تفسير القمى : هم الّذين اقرّوا برسول الله (ص) وأنكروا أمير المؤمنين (ع) (أُولئِكَ


هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) لانّهم الكاملون في الكفر حيث ضمّوا النّفاق الى كفرهم وبإظهارهم الإسلام صدّوا كثيرا عن الايمان (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كسلمان واقرانه (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) قرئ بالتّكلّم وبالغيبة يعنى انّا نعطيهم أجورهم بحسب عملهم ونغفر زلاتهم ونتفضّل عليهم بالرّحمة الخاصّة بحسب شأننا من المغفرة والرّحمة ، ولذا قال تعالى بعد ذكر إعطاء أجورهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) استيناف منقطع لفظا ومعنى عن سابقه ولذا لم يأت بالوصل ، روى انّ كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا : يا محمّد (ص) ان كنت نبيّا فأتنا بكتاب من السّماء جملة كما أتى موسى بالتّوراة جملة ، فنزلت ، وقال تعالى تسلية لرسوله : لا تعجب من سؤالهم ولا تعظمنّه فانّ هذا دينهم (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) يعنى سأل آباؤهم الّذين هم من اسناخهم (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) عيانا (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) وهو سؤالهم ما ليس لهم بحقّ وتجاوزهم عن حدّهم (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) معبودا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) اى المعجزات من موسى (ع) (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) بمحض رحمتنا (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) حجّة واضحة أو موضحة لصدقه ، أو تسلّطا في الظّاهر بحيث ما كان يمكن لهم التّخلّف عنه ويكون قوله تعالى (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) بيانا للّسلطان باىّ معنى كان (بِمِيثاقِهِمْ) بسبب تحصيل ميثاقهم (وَقُلْنا لَهُمُ) على لسان مظهرنا وخليفتنا موسى (ع) (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) يعنى باب حطّة (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) يعنى جعلنا السّبت محترما لهم ومنعناهم فيه عن بعض ما أبحناه لهم في غيره كالصيّد (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) على ذلك ، ولمّا كان مقصوده تعالى من كلّ قصّة وحكاية ذكر علىّ (ع) والتّرغيب في الولاية عرّض بذكره بعد هذه الحكاية فكأنّه قال : يا أمّة محمّد (ص) قد أخذنا عليكم الميثاق بالولاية فتذكّروا أمّة موسى (ع) حتّى لا تصيروا بسبب نقض هذا الميثاق معاقبا مثلهم (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) فعلنا بهم ما هو مثل على ألسنتكم ومشهور بينكم بحيث لا حاجة الى ذكره من مسخهم وعقوباتهم الاخر (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) فتنبّهوا حتّى لا تكفروا بعلىّ (ع) (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) فاحذروا ان تقتلوا عليّا (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) فانّ شأنهم شأن الأنبياء بل أرفع كما حدّثكم به نبيّكم (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) اوعية للعلوم استكبارا وارتضاء بأنفسهم ، أو في اكنّة استهزاء بالأنبياء فاحذروا ان تستبدّوا بآرائكم في مقابلهم (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) اضراب وابطال لما قالوا وإثبات لضدّه ، يعنى ليس في قلوبهم علم أو ليس قلوبهم في اكنّة بل طبع الله عليها بكفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) ايمانا (قَلِيلاً) وهو الايمان العامّ النّبوىّ (ص) أو الّا قليلا منهم (وَبِكُفْرِهِمْ) بعيسى (ع) (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) فاحذروا ان لا تبهتوا على مريم هذه الامّة ولا تضعوا حديثا ولا تأخذوا فدك منها (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) ذكروا رسول الله استهزاء والا فما كان لهم اعتقاد برسالته يعنى بتجرّيهم على انتحال قتله وقولهم هذا لعنّاهم وعاقبناهم


فاحذروا ان تقتلوا مسيح هذه الامّة وان تفعلوا ما قال أمّة عيسى (ع) في حقّه ولم يفعلوه من ادّعاء قتله (وَما قَتَلُوهُ) عطف باعتبار المعنى أو حال (وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) قد مضى في سورة آل عمران عند قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) قصّة عيسى (ع) وقتله وصلبه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) عطف على ما قتلوه أو على شبّه لهم أو حال من الضّمير المجرور أو من فاعل ما قتلوه قيل بعد وقوع تلك الواقعة اختلف اليهود والنّصارى فقال بعضهم : كان عيسى (ع) كاذبا وقتلناه ، وقال بعضهم : لو كان المقتول عيسى (ع) فأين صاحبنا؟ ـ وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى (ع) والبدن بدن صاحبنا ، وقال بعضهم : رفع الى السّماء لما أخبر عيسى (ع) برفعه الى السّماء ، وقال بعضهم : رفع الملكوت وصلب النّاسوت ، وقيل القى شبهه على جميع الحواريّين وكانوا سبعة عشر في بيت فلمّا أحاط اليهود بهم رأوا كلّهم على مثال عيسى (ع) وقالوا : سحرتمونا فليخرج إلينا عيسى (ع) والّا نقتل كلّكم فأخذوا واحدا وقالوا : هذا عيسى (ع) واشتبه الحال عليهم فاختلفوا ، وقيل : انّ رؤساء اليهود أخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه في موضع عال ولم يمكّنوا أحدا منه حتّى تغيّر حليته فقالوا : قتلنا المسيح ليشتبه الأمر على العوامّ لانّهم لمّا أحاطوا بالبيت ورفع الله عيسى (ع) خافوا ان يؤمن به عامّتهم (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) استثناء منقطع (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) مفعول مطلق مؤكّد لغيره اى يقن عدم القتل يقينا ، وامّا جعله حالا أو مضافا اليه لمفعول مطلق محذوف تقديره قتل يقين فبعيد معنى لافادته تقييد نفى القتل بحال اليقين وإثباته مع الشّكّ وليس هذا مقصودا (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) اختلاف اليهود والنّصارى في مولد عيسى (ع) وفي قتله وصلبه ورفعه الى السّماء ونزوله منها علاوة على ما ذكر هاهنا وعلى ما ذكر في سورة آل عمران معروف مسطور في التّواريخ ، ولا غرابة في رفعه ببدنه العنصرىّ لغلبة الملكوت على الملك ، وانكار الفلسفىّ والطّبيعىّ غير مسموع في مقابل المشهود ، والتّأويل بأنّ المقتول والمصلوب هو بدنه الدّنيوىّ وهو بما هو ليس بعيسى (ع) بل متشبّه به ، والمرفوع هو بدنه الملكوتىّ وروحه عنهم معروف ، ولكن بعد إمكان غلبة ـ الملكوت على الملك بحيث يعطى الملك حكمه لا حاجة لنا الى هذا التّأويل بل نقف على ظاهر ما ورد في التّنزيل والاخبار (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب فيقتل نبيّه (ع) على خلاف إرادته ، أو لا يغلب في مظاهر خلفائه ، وما يتراءى من القتل والأذى لهم انّما هو بالنّسبة الى بدنهم العنصرىّ وهو سجن لهم ولباس لأنفسهم ، وقوله تعالى (حَكِيماً) اشارة اليه يعنى ان وقع على سجنهم ولباسهم تصرّف من الأعداء فهو أيضا بحكمه (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) يعنى ما أحد من أهل الكتاب الّا ليؤمننّ بعيسى (ع) قبل موته حين احتضاره أو قبل موت عيسى (ع) أو قبل موته حين نزول عيسى (ع) من السّماء مع مهدىّ هذه الامّة ، لكن نقول في بيان ما هو المقصود انّه صرف الكلام عن حكاية حال أهل الكتاب متوجّها الى المقصود مخاطبا لحبيبه محمّد (ص) في حبيبه علىّ (ع) تسلية له (ص) فقال : ان فعلوا كلّ ما فعلوا فلا تحزن فانّهم وجميع أهل الأرض يؤمنون به قبل موتهم فانّه ما من أحد يموت الّا ويرى عليّا (ع) حين موته ويكون رؤيته راحة لهم أو نقمة لهم ، ونسب اليه عليه‌السلام :

يا حار همدان من يمت يرنى

من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني طرفه وأعرفه

بعينه واسمه وما فعلا

والسّرّ فيه انّ حال الاحتضار يرتفع الحجاب ويشاهد المحتضر الملكوت ، واوّل ما يظهر من الملكوت


هو الولاية السّارية المقوّمة لكلّ الأشياء والأصل فيها علىّ (ع) وكلّ الأنبياء والأولياء من السّلف والخلف أظلاله فاوّل ما يظهر هو الولاية المطلقة فيؤمن الكلّ بها ، والاخبار في انّ المعنى ما من كتابىّ الّا ليؤمننّ قبل موته بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) كثيرة ، وفي خبر : هذه نزلت فينا خاصّة ، وحاصل ذلك الخبر انّه ما من ولد فاطمة أحد يموت حتّى يقرّ للإمام بإمامته ، وما ورد في تفسيره من الايمان بمحمّد (ص) أو بعيسى (ع) أو بالمهدىّ (ع) كلّها راجع الى الايمان بعلىّ (ع) فانّ الكلّ ظهور الولاية الكلّيّة وهو المتحقّق بها (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يعنى عيسى (ع) أو المنظور منه تسلية اخرى لمحمّد (ص) بأنّ عليّا (ع) يكون يوم القيامة شاهدا على أهل الكتاب وعلى منافقي أمّته فيشهد عليهم بما فعلوا (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) اى طيّبات الرّزق الصّورىّ أو طيّبات عظيمة هي رزق الرّوح الانسانىّ من العلوم الكسبيّة أو اللدنّيّة والمشاهدات والمعاينات ، والآية بتمام اجزائها تعريض بمنافقى الامّة المعرضين الصّادّين عن الولاية وآكلى الرّبا وآكلى الرّشى وغيرهم يعنى إذا علمت انّ كلّما أصاب الّذين هادوا كان بشنائع أعمالهم علمت انّ تحريم الطّيّبات المحلّلة عليهم أيضا كان بواحد منها ، يعنى فاحذروا عن مثل أفعالهم أو علمت انّه كان بظلم عظيم من أنواع ظلمهم وهو اعراضهم عن الولاية بقرينة قوله تعالى (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وسبيل الله هو الامام الّذى يفتح باب القلب فيسير السّالك بالتّوسّل به الى الله وكلّ عمل يدلّك على هذا الامام أيضا سبيل الله لانّ سبيل السّبيل سبيل (كَثِيراً) صدّا كثيرا أو جمعا كثيرا (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) قد سبق معنى الباطل والحقّ الّذى في مقابله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) لا التّائبين ولا المذنبين المعترفين (عَذاباً أَلِيماً) لمّا توهّم من نسبة سؤال الكتاب والنّقض والصّدّ وغير ذلك إليهم عموما انّ الكلّ كانوا مخالفين له (ص) غير مؤمنين به استدركه بقوله تعالى (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ) اى منهم فالمعنى والمنقادون المسلمون بأنبيائهم وخلفاء أنبيائهم أو المؤمنون من أمّتك فالمعنى والمنقادون المسلمون بك من أمّتك أو منهم ومن أمّتك (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) عموما ومنه الولاية أو بما انزل إليك من ولاية علىّ (ع) خصوصا فانّها منظورة من كلّما ذكر (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) في علىّ (ع) أو عموما (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ويؤمنون بالمقيمين الصّلوة ولمّا وسم عليّا (ع) باسم مقيم الصّلوة ومؤتى الزّكاة بقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ورّى عنه بالمقيمين الصّلوة وأتى بالمؤتون الزّكاة بالرّفع ليكون تورية اخرى حتّى لا يسقطوه كسائر موارد التّصريح به وعلى هذا فقوله تعالى (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) خبر مبتدء محذوف كأنّه قال : وهم المعهودون بإيتاء الزّكاة في الرّكوع وقد بيّن العامّة وجوها لاعراب الآية لا فائدة في إيرادها وان كانت محتملة بحسب اللّفظ (وَ) هم (الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ) الرّاسخون المؤمنون (سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) لايمانهم بما انزل إليك في علىّ (ع) (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) استيناف لتشييد رسالته حتّى يستفاد منه صدقه في الولاية أو لتشييد الوحي اليه في الولاية ولذا لم يأت بأداة الوصل ، وتقديم المسند اليه مضمرا مصدّرا بانّ لتقوية الحكم مع اشارة ما الى الحصر ، فان كان المقصود نفس تقرير الوحي اليه من غير نظر الى الوحي به فالمعنى لابدع في الوحي إليك حتّى


تستوحش من عدم قبولهم ويستوحشوا من ادّعائك فلا تبال بردّهم وقبولهم ، وان كان المقصود تقرير الوحي بالخلافة فالمعنى انّا أوحينا إليك بالخلافة ، ويؤيّده انّه لو كان المراد تقرير الرّسالة لكان أرسلنا مقام أوحينا أوقع ، وأيضا لو كان المراد ذلك لما ذكر بعد الرّسل في قوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) لانّ معناه حينئذ بعد إرسال الرّسل ، وهذا المعنى يستفاد من كون اللّام غاية لارسال الرّسل بخلاف ما إذا كان غاية للوحى بالخلافة ، فانّ معناه حينئذ لئلّا يكون الأرض بعد مضىّ الرّسل خالية عن الحجّة (كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) بالخلافة فلم يكن الوحي بالخلافة بدعا حتّى يستوحشوا منه فلا تبال بهم (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) عطف على المشبّه أو المشبّه به وذكر هؤلاء مخصوصا بعد ذكرهم عموما في النّبيّين لشرافتهم والاهتمام بهم (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً) امّا من باب الاشتغال أو بتقدير أرسلنا (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) اليوم أو من قبل هذه السّورة (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) فكيف بالوحي (رُسُلاً) حال موطّئة (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) بعد إرسال الرّسل وقد مضى انّ هذا المعنى يستفاد من اللّام ، أو أوحينا بالخلافة لئلّا يكون للنّاس على الله حجّة بعد مضىّ الرّسل بان قالوا : كنّا في زمان لم يكن فيه رسول ولا من يعلّمنا معالم ديننا (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا مانع له من إرسال الرّسل ولا من نصب الخليفة لهم (حَكِيماً) يكون إرسال الرّسل منه ونصب الخليفة لمصالح كلّيّة وغايات متقنة (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) استدراك عن جواب سؤال يناسب المقام كأنّ سائلا يسأل : هل يشهد الامّة بذلك؟ ـ فأجيب لا يشهدون لكن الله يشهد (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) فلا حاجة الى غيره ، وورد عنهم (ع) انّه أنزل لكن الله يشهد بما انزل إليك في علىّ (ع) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) استيناف كأنّ السّامع سئل وطلب بيان حال الكافر بما أنزل اليه مع انّ الله يشهد به ولذا اكّده والمراد بهذا الكفر ، الكفر بما انزل اليه في علىّ (ع) أو الكفر بسبيل الله على سبيل التّنازع (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن ولاية علىّ عليه‌السلام (قَدْ ضَلُّوا) عن الطّريق (ضَلالاً بَعِيداً) لانّك قد علمت انّ الطّريق هو علىّ (ع) ولا يحصل الّا بدلالة علىّ (ع) وانّهم كفروا به وصدّوا الغير عنه ، ولمّا ذكر حالهم في أنفسهم كأنّ السّامع طلب حالهم مع الله ونسبة مغفرته وهدايته لهم فقال جوابا لهم : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بوضع المظهر موضع المضمر إظهارا لشناعة حالهم وذكرا لذمّ آخر لهم بذكر ظلمهم وإبرازا للسّبب في عدم المغفرة (وَظَلَمُوا) آل محمّد (ص) هكذا ورد عنهم (ع) (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) لانّ ما به المغفرة هو الولاية ولانّ الهداية الى طريق الجنّة قد عرفت انّها مخصوصة بالولاية لانّ شأن النّبوّة الإنذار (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) ثمّ نادى النّاس تلطّفا بهم وتنبيها لهم بعد ما اكّد امر الولاية وهدّد الكافرين بها أبلغ تهديد فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِ) اى بولاية علىّ (ع) فانّها الحقّ وكلّ ما سواها حقّ بها كما مضى (مِنْ رَبِّكُمْ) فلا تبالوا بمن كفر به ولا تتّبعوه (فَآمِنُوا) بهذا الحقّ


أو بالرّسول فيما قال في حقّ هذا الحقّ واتّبعوا (خَيْراً لَكُمْ) أو ايمانا خيرا لكم أو حالكونه خيرا لكم أو يكن خيرا لكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا) بهذا الحقّ لا تخرجوا من حيطة قدرته وتصرّفه ولا يهملكم من غير عقوبة وجزاء (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) لا يهملكم بل يجزيكم بما يقتضي حكمته (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) بحطّ عيسى (ع) عن مرتبته وجعله لغير رشده ورفعه عن مرتبته بجعله آلها أو ابنا والغلوّ وان كان في الإفراط أظهر لكن صاحب التّفريط في حقّ عيسى (ع) من اليهود باعتبار انّه مجاوز للحدّ في حطّه (ع) عن مرتبة ولد الرّشدة الى اللّغيّة وباعتبار انه مجاوز في حقّ دينه بعد النّسخ الى ابقائه غال وهو تعريض بالمفرط والمفرّط في علىّ (ع) من هذه الامّة (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) لا تقولوا والدا أو ثالث ثلاثة (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وليس لغيّة كما زعمته اليهود ولا ابنا أو آلها كما زعمته النّصارى (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا) الأقانيم (١) (ثَلاثَةٌ) الله والمسيح (ع) ومريم (ع) وهذا قول بعضهم كما أشار اليه تعالى بقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) اثنين ، والّا فأكثرهم لا يقولون ذلك وسيجيء تحقيقه في سورة المائدة (انْتَهُوا) عن التّثليث (خَيْراً لَكُمْ) مضى نظيره (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له في الآلهة كما توهّمتم يظنّ انّ المناسب لنفى القول بانّ الآلهة ثلاثة ان يقال انّما الإله واحد لكنّه تعالى عدل الى هذا لافادة هذا المعنى منه مع شيء زائد هو تعيين ذلك الواحد لانّه قد يقال : هذا واحد مقابل الاثنين وبهذا المعنى كلّ ذات واحدة وقد يقال : هذا واحد ويراد نفى الشّريك والنّظير والقرين عنه وهذا هو المراد فانّ المقصود انّ الله اله واحد لا شريك له في الآلهة ولا نظير ولا قرين ، وهذا يفيد انّ جنس الإله واحد وذلك الواحد هو الله (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلّ له مملوك لا يماثله شيء ولا يساويه حتّى يكون له ولد (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يعنى انّه غنىّ عن أخذ الوكيل فلا يحتاج الى ولد يكون وكيلا له (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) جواب آخر للنّصارى في افراطهم وتوطئة للتّعريض بالمستنكفين من أمّة محمّد (ص) عن عبادة الله في امره بولاية علىّ (ع) (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) الاستنكاف التّرفّع على الشّيء بتصوّر نقصان فيه والاستكبار التّرفّع عليه بتصوّر المستكبر رفعة في نفسه (فَسَيَحْشُرُهُمْ) اى العابدين والمستنكفين (إِلَيْهِ جَمِيعاً) وفيه تعريض بالمستنكفين عن قول الله في ولاية علىّ (ع) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالبيعة الخاصّة والأعمال المتعلّقة بها ، أو آمنوا بالبيعة الخاصّة وعملوا الأعمال المتعلّقة بها ، وقد عرفت انّ الصّالح أصلا هو الولاية وكلّ ما تعلّق بها فهو صالح من باب الفرعيّة وكلّ ما لم يتعلّق بها فليس بصالح وان كان بصورة الصّالح (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) التّوفية الإعطاء بالتّمام (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً

__________________

(١) ـ الاقنوم بالضم الأصل ، لغة رومية.


وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) قد مضى انّ النصير هو النّبوّة والنّبىّ وانّ الولىّ هو الولاية والولىّ ويقوم مقامهما خلفاؤهما (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) برهان الشّيء ما يدلّ عليه ، والنّور ما به يرى الأشياء ، وقد سبق انّ الرّسالة تنبّه عن الغفلة والجهالة وتدلّ على من يهدى الى الطّريق ، والولاية بها يرى الطّريق فالبرهان محمّد (ص) من حيث الرّسالة والنّور علىّ (ع) من حيث الولاية إذا تحقّقت هذا فلا اعتناء بما قيل في تفسير الآية خصوصا بعد ما فسّره الائمّة الّذين هم أهل ـ الكتاب بما ذكرنا ، والمبين بمعنى الظّاهر أو المظهر وفي ذكر جاء ومن ربّكم في جانب البرهان والانزال مع ضمير المتكلّم في جانب النّور اشارة الى شرافة الولاية بالنّسبة الى الرّسالة ، لا أقول ولاية علىّ (ع) أشرف من ولاية محمّد (ص) ورسالته حتّى يتوهّم متوهّم بل أقول : ولاية محمّد (ص) أشرف من رسالته (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) لمّا كان ذكر الايمان هاهنا بعد البرهان والنّور فالاولى ان يكون اشارة الى البيعتين فقوله آمنوا بالله اشارة الى البيعة العامّة على يد محمّد (ص) (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) اشارة الى البيعة الخاصّة على يد علىّ (ع) (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) هي موائد الولاية (وَفَضْلٍ) موائد الرّسالة لما مضى انّ الرّحمة هي الولاية والفضل هو الرّسالة (وَيَهْدِيهِمْ) يذهبهم (إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) اى درجات الولاية ولمّا كانت البيعة العامّة متقدّمة على البيعة الخاصّة قدّم الايمان بالله على الاعتصام بعلىّ (ع) ولمّا كان ثمرة الولاية وهي الفناء متقدّمة على حاصل الرّسالة وهو البقاء بعد الفناء عكس في الجزاء وقدّم الإدخال في الرّحمة على الإدخال في الفضل واخّر الهداية الى الصّراط المستقيم لانّها تكون بمجموع الفناء والبقاء و (يَسْتَفْتُونَكَ) اى في الكلالة والأخوّة وميراثها فانّ المراد بالكلالة هنا الأخوّة (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها) تمام مالها (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) اى الوارث بالأخوّة (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) عن الباقر (ع): إذا مات الرّجل وله أخت تأخذ نصف الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت والنّصف الباقي يردّ عليها بالرّحم إذا لم يكن للميّت وارث أقرب منها ، فان كان موضع الاخت أخ أخذ الميراث كلّه بالآية لقول الله وهو يرثها ان لم يكن لها ولد ، فان كانتا أختين أخذتا الثّلثين بالآية والثّلث الباقي بالرّحم ، وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللّذكر مثل حظّ الأنثيين وذلك كلّه إذا لم يكن للميّت ولد وأبوان أو زوجة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) كراهة (أَنْ تَضِلُّوا) أو يبيّن الله ضلالكم ، أو يبيّن الله لئلّا تضلّوا ، أو يبيّن الله لضلالكم الحاصل فانّه الدّاعى الى البيان حتّى يرتفع (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيشرع لكم بحسب مصالحكم.


سورة المائدة

وهي مدنيّة كلّها وقيل سوى قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)

لانّها نزلت في حجّة الوداع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ايمانا عامّا أو خاصّا أو بمعنى اعمّ منهما لانّ الخطاب لعامّة الامّة للتّحريص على امر الولاية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) اعلم انّ سورة النّساء وهذه السّورة نزلتا في خلافة علىّ (ع) والتّرغيب فيها والتّهديد على خلافها ، فكلّما ذكر فيهما من امر ونهى وحلال وحرام وأجر وعقاب وقصّة وحكاية عموما وخصوصا مطلقا ومقيّدا فالمقصود منه الاشارة الى الولاية سواء قلنا ان ذكر علىّ (ع) كان مصرّحا فأسقطوه أو مورّى فلم يفهموه ، وفي أخبارنا تصريحات بانّ ذكره (ع) كان مصرّحا في كثير من المواضع فأسقطوه ، والايمان عامّا كان أو خاصّا قد علمت سابقا انّه ما كان يحصل الّا بالبيعة على يد النّبىّ (ص) أو الامام (ع) أو خلفائهما (ع) وكانت في تلك البيعة معاهدات ومواثقات وشروط تؤاخذ على البائع ، لكن في كلّ من البيعة العامّة والخاصّة بكيفيّة مخصوصة بها غير كيفيّة الاخرى ، وقد أشير الى بعض الشّروط في آية مبايعة النّساء وكان من جملة شروط البيعة العامّة عدم مخالفة المشترى وطاعته في امره ونهيه وكانت البيعة لا تحصل الّا بعقد يمين البائع على يمين المشترى كما هو المعهود اليوم بينهم في المعاملات ، ولذا يسمّى مطلق المبايعة وسائر المعاملات الّتى فيها إيجاب وقبول عقودا للاهتمام بعقد اليد فيها. والوفاء بالعقد عبارة عن الإتيان بمقتضى أصل العقد والإتيان بشرائطه ومعاهداته تماما فالمعنى يا ايّها الّذين بايعوا مع محمّد (ص) أو مع علىّ (ع) أوفوا بجملة العقود من المعاملات بينكم والمبايعة مع الله ولا تدعوا شيئا من شرائطها وعهودها ، وسوق هذا الكلام من ذكر عقد خاصّ في ضمن آمنوا وتعقيبه بذكر جملة العقود عموما والأمر بالوفاء بها يقتضي ان يكون المقصود الوفاء بهذا العقد الخاصّ ، كأنّه قال : يا ايّها الّذين عقّدتم البيعة مع محمّد (ص) أوفوا بجملة العقود خصوصا بهذا العقد أو أوفوا بهذا العقد لكنّه جمع العقود باعتبار تعدّد العاقدين أو باعتبار تعدّد وقوع هذا العقد في عشرة مواطن أو في ثلاثة مواطن ، فالمقصود لا تخلعوا بيعتكم عن رقابكم بالارتداد عن الإسلام أو الايمان ولا تتركوا شرائطها بمخالفة قول النّبىّ (ص) في الأمر بالولاية وروى عن الجواد (ع) انّ رسول الله (ص) عقد عليهم لعلىّ (ع) بالخلافة في عشرة مواطن ، ثمّ انزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الّتى عقدت عليكم لأمير المؤمنين (ع) وعلى هذا كان المراد بالآية ، الأمر بالوفاء بعقود الولاية


بحسب المنطوق وعلى ما ذكر سابقا في وجهها الاوّل كان المراد بها الأمر بالوفاء بعقد الولاية التزاما (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) لمّا كان من جملة شرائط البيعة الاسلاميّة والايمانيّة ترك أذى الحيوان صار المقام مظنّة ان يسأل عن ذبح البهائم الّذى كان شائعا فيهم مسلمين وجاهلين خصوصا مع ملاحظة ما كان مشهورا من اتباع العجم من حرمة ذبح الحيوان واكله فأجاب تعالى بانّ ذبح البهائم وأكلها أحلّ لكم ، في القاموس : البهيمة كلّ ذات اربع قوائم ولو في الماء ، أو كلّ حىّ لا يميّز ، والبهيمة أولاد الضّأن والمعز والبقر ، وعلى هذا فالاضافة من قبيل اضافة العامّ الى الخاصّ والانعام الأزواج الثّمانية وفي الاخبار فسّر بهيمة الانعام بالأجنّة من الانعام ولا ينافي التّعميم ، لانّ المراد بذلك التّفسير بيان الفرد الخفىّ والمصداق الّذى لا يكاد يطلق اسم البهيمة عليه ، أو المقصود من هذا التّفسير انّه أحد وجوه الآية بتصوير انّ بهيمة الحيوان ما لا نطق له ولا تميز وبهيمة الانعام ما يكون عدم نطقه وعدم تميزه بالنّسبة الى الانعام وما لا تميز له بالنّسبة الى الانعام هو جنينها ، واعلم انّ ما ذكر من جعل قوله تعالى (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) مستأنفا جوابا لسؤال مقدّر انّما هو بحسب احتمال ظاهر اللّفظ وبحسب ظاهر الشّريعة المطهّرة ، والّا فالمقصود تعليق إحلال البهيمة على الوفاء بعقد الولاية كما صرّح بهذا التّعليق في قوله تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) كما سيجيء وكما يستفاد من إشارات الآيات وتصريحات الاخبار ، انّ إحلال كلّ حلال معلّق على قبول الولاية ، وانّ من لم يقبل الولاية ولم يعرض عنها لا يحكم عليه بحليّة شيء ولا بحرمته ومن اعرض عنها يحكم عليه بحرمة كلّ شيء عليه ، ومن قبل الولاية ووفى بعقدها حكم عليه بحليّة المحلّلات ؛ ولىّ علىّ (ع) لا يأكل الّا الحلال وعدوّ علىّ (ع) لا يأكل الّا الحرام.

گر بگيرد خون جهانرا مال مال

كى خورد مرد خدا الّا حلال

فعلى هذا كان احلّت في هذه الآية جوابا للأمر وفي محلّ الجزم وادّاه بالماضي لئلّا يكون تصريحا بتعليق إحلال البهائم على الوفاء بعقد الولاية حتّى لا يسقطوه مثل سائر ما صرّح به من مناقب علىّ (ع) (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ممّا يأتى في الآية الآتية (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال عن المجرور في لكم والمعنى احلّت لكم بهيمة الانعام حالكونكم غير معتقدين حليّة الصّيد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عن المستتر في محلّى الصّيد يعنى ان اعتقدتم حلّيّة الصّيد وقت الإحرام كانت المحلّلات حراما عليكم لانّكم ما وفّيتم بشروط عقدكم ، والحرم جمع الحرام بمعنى المحرم للحجّ أو العمرة سواء كان وصفا أو مصدرا في الأصل كالحلال بمعنى الخارج من الإحرام (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) فلا تتعجّبوا من تعليق إحلال المحلّلات على الوفاء بعقد الولاية ولا تتحرّجوا من ذبح البهائم وأكلها بشبهة سبقت الى أوهامكم من الأعاجم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كرّره تلطّفا بهم وتذكيرا لعلّة النّهى تهييجا على الامتثال والمراد بالايمان كالسّابق امّا الايمان العامّ أو الخاصّ أو اعمّ منهما (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) يستعمل الإحلال المتعلّق بالأمور ذوي الخطر في ترك حرمتها وفي اعتقاد حلّيّة ترك حرمتها والمعاملة معها بخلاف شأنها فالمعنى لا تتركوا حرمة شعائر الله ولا تعتقدوا حلّيّة ترك حرمتها فتتهاونوا بها ، والشّعائر جمع الشّعيرة أو الشّعارة أو الشّعار بمعنى العلامة ، ولمّا كان كلّ من العبادات علامة لدين الإسلام وللعبوديّة وقبول آلهة الله سميّت شعائر الدّين وشعائر الإسلام وشعائر الله ، ولمّا كان أعظم شعائر الإسلام هي الولاية لانّها أعظم أركانها الخمسة وأسناها وكان المقصود من الوفاء بالعقود الوفاء بعقد الولاية كما علمت كان المقصود هاهنا أيضا


النّهى عن إحلال حرمة الولاية ، ولمّا كانت الولاية من شؤن الولىّ وكان علىّ (ع) هو الأصل في ذلك كان المقصود لا تتهاونوا بعلىّ (ع) (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ لانّ الشّهر الحرام من حيث حرمته من شعائر الله ، وعن علىّ (ع) انا الأعوام والدّهور وانا الايّام والشّهور ، ونزول الآية كما في الخبر في رجل من بنى ربيعة قدم حاجّا وأراد المسلمون قتله في الأشهر الحرم لكفره ولانّه كان قد استاق سرح المدينة (وَلَا الْهَدْيَ) ما أهدي به الى البيت (وَلَا الْقَلائِدَ) ذوات القلائد جمع القلادة ما أشعر به الهدى من نعل صلّى فيه أو لحاء شجر أو غيره أعلاما بانّه هدى البيت لئلّا يتعرّض له أو المراد النّهى عن إحلال القلائد أنفسها ، وعلى الاوّل يكون من عطف الخاصّ على العامّ (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) قاصدين البيت لزيارته بقرينة قوله تعالى (يَبْتَغُونَ) بزيارتهم (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) من سعة العيش في الدّنيا (وَرِضْواناً) رضا ربّهم في الآخرة ، وبعد ما علمت انّ البيت الحقيقىّ لله هو القلب في العالم الصّغير وصاحب القلب في العالم الكبير وانّ البيت الّذى بناه إبراهيم (ع) صورة هذا البيت وظهور القلب الّذى هو بيت حقيقىّ لله ولذا سمّى بيتا لله ، وكونه بحذاء البيت المعمور وانّه في السّماء الرّابعة يدلّ على هذا ، فاعلم انّ جميع ما سنّ الله تعالى من مناسكه ومواقفه صورة ما سنّه تعالى تكوينا وتكليفا من مناسك الحجّ الحقيقىّ في الصّغير والكبير ، فاوّل بيت وضع للنّاس في ملك الصّغير هو القلب فانّه اوّل عضو يتكوّن ومن تحته دحو ارض البدن ، واوّل بيت وضع للنّاس في ملكوت الصّغير هو القلب الملكوتىّ ، واوّل بيت وضع للنّاس في الكبير هو خليفة الله في أرضه ، ولمّا كان بيت الأحجار ظهور قلب ذلك الخليفة فكلّما يتأتّى في القلب يجرى بعينه في هذا البيت وتفصيله قد مضى في آل عمران عند قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) ، فالقلب هو بيت الله والصّدر المستنير بنور القلب مسجد وحرم وشهر حرام بتفاوت الاعتبارات ، وصاحب هذا الصّدر المأذون في التّكلّم مع الخلق ونقل أخبارهم وبيان أحكامهم أيضا شهر حرام وحرم ومن بيوت الأنبياء (ع) ومسجد المحلّة ومن القرى الظّاهرة الواسطة بين الخلق وبين القرى المباركة ، والبهيمة والهدى وذوات القلائد في الصّغير القوى الغير الشاردة الابيّة المتوقّفة عن حضرة القلب أو المتحرّكة إليها بتبعيّة اللّطيفة الانسانيّة غير المستنيرة بنور القلب ، أو المستنيرة المتقلّدة بقلادة نور القلب وفي الكبير افراد الإنسان الّتى لا تأبّى لها عن الطّاعة ولا تهيّج لها للحركة الى بيت الله الامام ، أو المتحرّكة مع قاصد البيت من غير تعلّم شيء من علامات الدّين الّذى هو قلادتها واشعارها ، أو مع تعلّم شيء منها وتقلّدها بقلادتها ، والصّيد هو الشّارد الابىّ من القوى ومن افراد الإنسان ، ولا يجوز للمحرم لحضرة القلب ما لم يطف به ولم يتمكّن من مناسكه التّعرّض له ، فانّه خلاف قصده ومضرّا حرامه لانّه شاغل له عن الحركة اليه ، فاذا تمكّن من طواف القلب وعاد بعد الهجرة الى مقام الصّدر واستنار صدره بنور القلب بحيث لا ينطفى ولا يختفى ذلك النّور باشتغاله بأمر الصّيد فله التّعرّض بقتل وقيد وأسر ، والفضل استنارة الصّدر بنور القلب ، والرّضوان استنارة القلب بنور الرّوح ، وما لم تشتدّا كانتا للإنسان قبولا وصاحبهما قابلا وتابعا ومقلّدا ، وإذا اشتدّتا وتجوهر الصّدر والقلب بهما وكان صاحبهما محتاجا الى الاستمداد من الواسطة بينه وبين الله صارتا خلافة للرّسالة أو للولاية ، وإذا استغنتا عن الواسطة واستمدّتا من الله بلا واسطة صارتا رسالة وولاية وهما كما علمت من شؤن الرّسول والولىّ ومتحدتان معهما ، والأصل في الرّسل والأولياء محمّد (ص) وعلىّ (ع) فصحّ تفسيرهما بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) وحصرهما فيهما. ولمّا أجمل ذكر الصّيد في قوله : غير محلّى الصّيد ؛ ولم يتعرّض له في جملة المنهيّة عن التّهاون بها ناسب المقام السّؤال عن حاله والجواب عنه فقال تعالى جوابا وبيانا (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) امر في معنى الاباحة بحسب التّكاليف القالبيّة وفي معنى الرّجحان


بحسب التّأويل (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يكسبنّكم أو لا يحملنّكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) بغضاؤكم لقوم أو بغضاء قوم لكم قرء شنأن قوم بفتح النّون مصدرا أو بسكون النّون مصدرا أو وصفا (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قرئ بفتح الهمزة بتقدير اللّام أو الباء أو على ويجوز ان يكون بتقدير في وان يكون بدلا من شنأن قوم بدل الاشتمال أو مفعولا ثانيا ليجرمنّكم وقرئ بكسر الهمزة (أَنْ تَعْتَدُوا) مفعول ثان ليجرمنّكم أو بتقدير اللّام أو الباء أو على أو في أو بدل من شنأن قوم أو من ان صدّوكم نحو بدل الاشتمال ، اى لا يحملنّكم بغضاء قوم على الاعتداء بالخروج عمّا رخّص الله لكم في شريعتكم وعمّا حدّه لكم في طريقتكم من التّنزّل عن مقام الصّدر المنشرح بالإسلام الى مقام النّفس الامّارة والايتمار بأمرها وقمع القوى المانعة لكم من الحضور لدى القلب وقتل من يمنعكم من الحضور عند صاحب القلب ، بل عليكم بالملاينة والمرافقة والمداراة أو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه في مقامه (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) البرّ هاهنا الإحسان الى خلق الله وهو من احكام الرّسالة ولوازمها كما قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ؛ والتّقوى حفظ النّفس عن ضرّ الغير وعن اضرارها للغير وهو من آثار الولاية ولوازمها لانّ الرّسالة رجوع الى الخلق بصفات الحقّ من عموم الرّحمة ، وقبول الولاية انزجار ورجوع من الخلق الى الحقّ ، وصاحب الولاية شأنه إرجاع النّاس من الكثرات الى الوحدة وهما متّحدان مع الرّسالة والولاية وهما متّحدتان مع الرّسول (ص) والولىّ (ع) فصحّ تفسيرهما بمحمّد (ص) وبعلىّ (ع) وحصرهما فيهما (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الإثم الاساءة الغير المتعدّية والعدوان الاساءة المتعدّية وهما متّحدان مع الآثم والعادي يعنى لا تعاونوا على الاساءتين (وَاتَّقُوا اللهَ) في الاعتداء والتّعاون عليهما (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) استيناف لبيان المستثنى المقدّم كأنّ السّامع يطلب ويسأل بيانه وينتظر ذكره ولذا لم يأت بأداة الوصل (وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) اى رفع الصّوت لغير الله به والمراد تنزيلا الّذبيحة الّتى ذكر غير اسم الله عليه وتأويلا كلّ فعل رفع صوت النّفس بالأمر به ، فانّ صوتها لغير الله لا محالة كما انّ قوله (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) اشارة الى كلّ فعل امر العقل به فانّ امره لا محالة لله (وَالْمُنْخَنِقَةُ) كانوا يخنقون البقر أو الغنم فاذا انخنق أكلوه (وَالْمَوْقُوذَةُ) كانوا يشدّون أرجل الانعام ويضربونها حتّى تموت فيأكلونها (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) كانوا يشدّون أعينها ويلقونها من السّطح ثمّ يأكلونها (وَالنَّطِيحَةُ) كانوا يناطحون بالكباش فاذا ماتت أكلوها (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) كانوا يأكلون فريسة السّبع (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) كانوا يذبحون لبيوت النّيران وكانوا يعبدون الشّجر والصّخر والأصنام فيذبحون لها (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) جمع الزلم محرّكة أو كصرد قدح يتقامر به كانوا يعمدون الى الجزور فيقوّمونه بينهم ثمّ يسهمون عشرة أسهم سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها ويجعلون ثمن الجزور على الثّلاثة الّتى لا أنصباء لها ثمّ يخرجون السّهام فمن خرج باسمه الثّلاثة الّتى لا أنصباء لها ألزموهم ثمنها والسّبعة الّتى لها أنصباء يأخذون لحم الجزور بلا ثمن فحرّم ذلك كلّه وقال تعالى (ذلِكُمْ) اشارة الى المجموع أو الى الاستقسام بالأزلام (فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) اشارة الى يوم نصب علىّ (ع) بالخلافة يعنى كان الكافرون والمنافقون يترقّبون


لموت النّبىّ (ص) أو قتله (ص) وتفرّق كلمتكم والغلبة على دينكم وبعد نصب أمير لكم يئس الكفّار من الغلبة وتفرّق الكلمة ويئس المنافقون بنصب علىّ (ع) عن الغلبة على دينكم وترويج باطلهم وإظهار نفاقهم فاذا يئس الكفّار (فَلا تَخْشَوْهُمْ) ولمّا لم يستكمل ايمانكم فلا تأمنوا من عقوبتي (وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ) يوم نصب علىّ (ع) بغدير خمّ (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الإكمال قد يستعمل في إتمام ذات الشّيء كإكمال النّوع بالفصل والبيت بأركانه وسقفه ، وقد يستعمل في إتمام الشّيء بمحسّناته ومتمّماته الزّائدة على ذاته كإكمال الإنسان بمهارته في العلوم والصّنائع ، والبيت بزخرفته وفروشه ، والمراد بالدّين هنا هو الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الأحكام النّبويّة والمراد بالإكمال هو إتمامه في ذاته ، لانّ الإسلام بنى على خمسة أركان والرّكن الأخير هو الولاية اعنى البيعة مع علىّ (ع) بالامامة لانّ الولاية بمعنى المحبّة أو اعتقاد الولاية لعلىّ (ع) خارجة عن الأعمال القالبيّة الاسلاميّة فلا تكون من أركان الإسلام ومتمّمات احكام القالب وإتمامه في خارج ذاته باعتبار ، فانّ الإسلام كالمادّة للولاية بالمعنى الحاصل بالولاية الّتى هي من أركان الإسلام وهو الايمان الدّاخل في القلب وبه الحركة والسّير الى الله وهو بمنزلة الصّورة للإسلام والصّورة وان كانت محصّلة للمادّة وما به قوام المادّة وبقاؤها لكنّها خارجة عن ذاتها (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فانّ الإسلام نعمة من الله لكنّه مركّب من الأركان الخمسة ولا يتمّ المجموع الّا بتمام اجزائه وأيضا هو مادّة للولاية بالمعنى الآخر ولا بقاء ولا قوام للمادّة الّا بالصّورة فبالولاية تتمّ نعمة الإسلام (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فانّه لنقصان أركانه وعدم تحصّله كان غير مرضىّ وعن الصّادقين (ع) انّما نزل بعد ان نصب النّبىّ (ص) عليّا (ع) علما للأنام يوم غدير خمّ عند منصرفه عن حجّة الوداع ، قالا : وهي آخر فريضة أنزلها الله ثمّ لم تنزل بعدها فريضة ، وورد عنهم (ع) اخبار كثيرة قريبة من هذا (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) المخمصة هي المجاعة لكن تستعمل في كلّ شدّة وضيق ، في تفاسير العامّة انّه مربوط بذكر المحرّمات وما بينهما اعتراض ، ولمّا علّق وقيّد يأس الكفّار عن الدّين وإكمال الدّين وإتمام النّعمة وارتضاء الإسلام منهم بيوم مخصوص ووقت معيّن ، علم انّه لا يكون الّا لوقوع امر عظيم فيه هو يقطع طمع الكفّار ويصير سببا لا كمال الدّين والّا لم يكن للتّقييد به وجه وما ذاك الّا سدّ خلل الدّين بعد النّبىّ (ص) بنصب من يحميه ويحفظ أهله من الاختلاف والافتراق فانّه لا امر أعظم منه فضلا عمّا بيّنوا لنا من انّ نزولها بغدير خمّ بعد نصب علىّ (ع) علما للنّاس ، وإذا علم ذلك تيسّر ربط هذه الآية بما قبلها تماما من تحريم المحرّمات وتتميم الدّين بنصب علىّ (ع) والتّرغيب فيه كأنّهم سألوا فما لنا ان اضطررنا الى أكل المحرّمات أو الى ترك التّوسّل بعلىّ (ع) والتبعيّة له؟ ـ فقال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) بيانا لوجه الاضطرار حالكونه (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) اى غير مائل اليه أو غير متجاوز عن قدر الضّرورة كما في قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ، ولمّا كان المقصود هو الاضطرار الى اتّباع معاوية وترك اتّباع علىّ (ع) فلا ضير أن يفسّر الإثم بمعاوية ، اى غير مائل في الباطن الى معاوية ، فانّه لا يؤاخذ إذا كان أكل الحرام أو اتّباع غير علىّ (ع) عن اضطرار من غير ميل قلبيّ (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) اى اىّ شيء أو ما الّذى أحلّ لهم سألوا عن المحلّلات بعد ذكر المحرّمات (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) لا اختصاص لها بالاغذية الغير المستخبثة كما فسّره المفسّرون ، بل أصل الطيّبات هو علىّ (ع) ثمّ ولايته بالبيعة الولويّة ثمّ العمل بما دخل منه (ع) في القلب ثمّ العمل بما أخذ عليه في ميثاقه ثمّ


أخذ العلم منه ثمّ العمل به ثمّ المباحات من الاغذية والاشربة والالبسة والأزواج والمساكن واثاثها والمراكب وجملة الاعراض الدّنيويّة الّتى حصلت في اليد من الوجه الحلال (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) اى نفس ما علّمتم من حيث التّعليم يعنى أحلّ حصلت في اليد من الوجه الحلال (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) اى نفس ما علّمتم من حيث التّعليم يعنى أحلّ لكم تعليم الكلاب الاصطياد ، وحلّيّة مقتولها تستفاد ممّا يأتى أو صيد ما علّمتم ويجوز ان يكون ما شرطيّة ، وقوله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) جزاؤه ، ولمّا كان مقتول الكلاب مظنّة الاستخباث أفرده بالّذكر (مُكَلِّبِينَ) تقييد للإحلال بتعليم الكلاب أو بمقتول الكلب المعلّم لا غيره من السّباع المعلّمة فانّ المكلّب بصيغة اسم الفاعل هو المعلّم للكلب ومشتقّ منه (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) تكوينا أو تحصيلا بتوسّط بشر أخر من آداب الاصطياد والانقياد في الإرسال والزّجر وضبط الصّيد على صاحبهنّ (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) لمّا لم يكن الواو للتّرتيب لم يكن تأخير الأمر بذكر اسم الله في اللّفظ منافيا لوجوب تقديم الذكّر عند الإرسال (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما لم يحلّ لكم (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب على الدّقيق والجليل (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) في تقييد إحلال الطّيبات بعد ذكره مطلقا باليوم الخاصّ الّذى هو يوم نصب علىّ (ع) بالخلافة ، اشارة لطيفة الى انّ حلّيّة الطيّبات موقوفة على الولاية ولولاها لكانت محرّمة وإن كانت طيّبة حاصلة من كسب اليد والوجه الحلال ، غاية الأمر أن يكون المراد بالحلّيّة هاهنا الحلّيّة في نفس الأمر وبحسب الطّريقة لا بحسب ظاهر الشّريعة (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) قد اختلف الاخبار في طهارة أهل الكتاب ونجاستهم ، وأكثرها يشعر بأنّ نجاستهم عرضيّة بواسطة عدم اجتنابهم عن الخمر ولحم الخنزير ، وانّ في انيتهم الخمر ولحم الخنزير وقد فسّر الطّعام بالحبوب دون ذبائحهم لانّهم غير مأمونين على تسمية الله عليها فنقول : ليس المراد بطعام الّذين أوتوا الكتاب طعامهم المصنوع لهم حتّى كانت حلّيّة منافية لنجاستهم ان قلنا بنجاستهم كالمشركين ، بل المراد نفى الحرج عن طعامهم المنسوب إليهم من حيث انّه منسوب إليهم يعنى لا حرج عليكم في طعامهم من حيث تلك النّسبة فانّ النّسبة لا تستخبث الطّعام إذا لم يكن فيه خباثة من وجه أخر ، ولذلك كان طعامكم حلّا لهم يعنى انّ نسبة الطّعام إليكم لا تورث حرجا عليكم إذا أطعتموه أهل الكتاب ولا تجعلهم ممنوعين من الاكل ولمّا كان طعامهم مظنّة الخباثة ذكره بعد إحلال الطيّبات ، وأيضا لما ندب على ولاية علىّ (ع) وقيّد إحلال الطيّبات بزمان نصب علىّ (ع) للاشارة الى تقييد الحلّيّة بالولاية ولم يكن لأهل الكتاب ولاية صار المقام مظنّة لحرمة المخالطة معهم وعدم حلّيّة طعامهم وإطعامهم فنفى هذا الوهم ، لانّهم بانتحال ملّة إلهيّة وقبول الدّعوة الظّاهرة كانوا مسلمين ولم يخرجوا بحسب الظّاهر عن الإسلام ، وبمخالطتهم وأكل طعامهم وإطعامهم يستعدّون للهداية ولمّا كان حلّيّة طعامهم وإطعامهم بحسب الظّاهر وحلّيّة الطيّبات المتوقّفة على الولاية بحسب نفس الأمر غيّر الأسلوب وأتى بالجملة الاسميّة عطفا على مجموع القيد والمقيّد حتّى لا يتقيّد بالولاية (وَالْمُحْصَناتُ) اللّائى احصنّ انفسهنّ عمّا لا ينبغي عطف على الطيّبات المتقيّد إحلالها بولاية علىّ (ع) ولذا قيّد هنّ بوصف الإحسان والايمان ، يعنى اليوم احلّت لكم حلالا واقعيّا المحصنات (مِنَ الْمُؤْمِناتِ) ولا ينبغي لكم غير هنّ فانّ غيرهنّ من الإماء والمتجريّات على ما لا ينبغي وان كنّ حلالا بحسب ظاهر الإسلام ، لكنّهنّ غير محلّلات بحسب نسبة الايمان وفي نفس الأمر (وَالْمُحْصَناتُ) اللّائي احصنّ انفسهنّ عمّا لا ينبغي (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قد اختلف


الاخبار والأقوال في نكاح النّساء من أهل الكتاب ، وكذا في انّ هذه الآية منسوخة بآية حرمة نكاح المشركات وحرمة الأخذ بعصم الكوافر أو ناسخة ، وكذا في الدّوام والتّمتّع بهنّ وقول النّبىّ (ص): انّ سورة المائدة آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها ، ينفى كونها منسوخة ، وقوله تعالى (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) مشعر بتقييد الحلّيّة بحال التّمتّع بهنّ فانّ استعمال الأجور في مهور المتمتّعات أكثر وأشهر (مُحْصِنِينَ) حالكونكم حافظين أنفسكم من السّفاح علانية وسرّا ، امّا بيان لوجه الإحلال أو تقييد له باعتبار الواقع لا باعتبار ظاهر الإسلام (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال بعد حال يعنى غير متجاهرين بالزّنا (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) ولا مسرين لهنّ جمع الخدن وهو الصّديق يقع على الذكّر والأنثى ، ولمّا ندب على الولاية وعلّق إكمال الدّين وإحلال الطيّبات عليها ناسب المقام ان يذكر حال مخالف الولاية فقال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) اى بقبول ولاية علىّ (ع) والبيعة الخاصّة الولويّة معه ، وما ورد في الاخبار من التّفسير بترك الصّلوة ، أو ترك العمل الّذى اقرّ به في بيعته ، أو ترك العمل اجمع ، أو التّبدّد بأمر هو خلاف الحقّ فانّما هو تفسير لفروع الولاية ، ولا ينافي كون المقصود هو الولاية كما في بعض الاخبار (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الّذى عمله في الإسلام فانّ ما به القبول هو الولاية (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لصرف بضاعته فيما لا قدر له (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عامّا أو خاصّا (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) اى إذا قمتم من النّوم كما في الخبر ، أو إذا أردتم القيام (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وبعد ما مضى في سورة النّساء لا يتعسّر عليك تعميم الصّلوة ولا تعميم الغسل ولا تعميم سائر أجزاء الآية ، والوجه ما يواجه به وهو من قصاص الشّعر الى الّذقن وما دارت منه الإبهام والوسطى عليه وما زاد فليس بوجه ، وعدم وجوب تخليل الشّعر يمكن استنباطه من عنوان الوجه فانّ ما به التّوجّه هو ظاهر الشّعر لا البشرة المستورة تحته ، واليد اسم للعضو المخصوص تطلق على ما دون المنكب وعلى ما دون المرفق وعلى ما دون الزّند فاحتاجت الى التّحديد والبيان ، فحدّده بقوله الى المرافق فلفظ الى لانتهاء المغسول لا الغسل فالتّمسّك بها مع احتمال كونها لانتهاء المغسول في الاستدلال على انتهاء الغسل كما فعلوا خارج عن طريق الاستدلال ، والباء للتّبعيض كما وصل إلينا من أهل الكتاب واثبت التّبعيض لها كثير منهم وأرجلكم بالجرّ عطف على رؤسكم وبالنّصب على محلّ رؤسكم ، وعطفه على وجوهكم مع جواز العطف على رؤوسكم في غاية البعد ، غاية الأمر انّها في هذا العطف محتملة مجملة كسائر أجزاء الآية محتاجة الى البيان ولم يكن رأينا مبيّنا للقرآن لاستلزامه التّرجيح بلا مرجّح ، بل المبيّن من نصّ الله ورسوله عليه لا من نصبوه لبيانه فانّ نصب شخص انسانىّ لبيان القرآن وخلافة الرّحمن ليس باقلّ من نصب الأصنام لعبادة الأنام ، أو العجل المصنوع للعوام ، وتفصيل الوضوء وكيفيّته قد وصل إلينا مفصّلا مبيّنا عن ائمّتنا المنصوصين من الله ورسوله وقد فصّله الفقهاء رضوان الله عليهم فلا حاجة الى التّفصيل هاهنا (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) اى من الصّعيد وقد مضى شرح الآية مفصّلا في سورة النّساء فلا حاجة الى التّكرار (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ) في الدّين (مِنْ حَرَجٍ) مفعول يريد محذوف اى ما يريد الأمر


بالغسل أو التّيمم ليجعل عليكم حرجا أو لام ليجعل للتّقوية وما بعده مفعول وهو استيناف لبيان وجه تشريع التّيمم (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بغسل الأعضاء الباطنة بالتّوبّة عند اهله وبغسل الأعضاء الظّاهرة بالماء ، فان لم يتيسّر لكم فباظهار الّذلّ والمسكنة والعجز وإعلاء تراب الّذلّ على مقاديم نفوسكم وأبدانكم وليعدّكم لقبول التّوبة والبيعة الولويّة الّتى هي تمام نعمة الإسلام كما مضى (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ) الّتى هي الإسلام (عَلَيْكُمْ) بمتمّمه الّذى هو الولاية والبيعة مع علىّ (ع) (لَعَلَّكُمْ) بعد تمام النّعمة عليكم (تَشْكُرُونَ) المنعم بصرف النّعمة الّتى هي احكام الإسلام القالبيّة واحكام الايمان القلبيّة في وجهها من صدورها من حضرة العقل ورجوعها إليها ، فانّ شكر النّعمة وصرفها في وجهها لا يحصل الّا بدخول الايمان في القلب وفتح بابه الى الملكوت (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) عطف على تيمّموا يعنى حين تطهّركم تذكّروا محمّدا (ص) أو الإسلام الّذى هو البيعة مع محمّد (ص) ، أو الإسلام الحاصل بالبيعة مع محمّد (ص) حتّى يكون شروطها في ذكركم من عدم المخالفة واتّباع قوله في كلّ ما يأمر وينهى ، هذا ان كان المراد بالميثاق الميثاق الّذى أخذ عليهم بغدير خمّ ، وان كان المراد بالميثاق المبايعة مع محمّد (ص) فالمراد بالنّعمة هو الإسلام الحاصل بالبيعة ، أو محمّد (ص) فانّه أصل نعمة الإسلام كما انّ عليّا (ع) أصل نعمة الايمان (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) عاهدكم عهدا وثيقا به لعلىّ (ع) في غدير خمّ حتّى لا تنسوه فتخالفوا عليّا (ع) أو عهدا وثيقا بان لا تخالفوا قوله حتّى لا تنسوه فتخالفوا قوله في علىّ (ع) والاوّل هو المروىّ (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا) قولك في علىّ (ع) على الاوّل ، أو شرطك علينا بعدم المخالفة على الثّانى (وَأَطَعْنا) عليّا (ع) أو أطعناك (وَاتَّقُوا اللهَ) في نسيان نعمته ونقض ميثاقه بالمخالفة لعلىّ (ع) (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم نيّاتكم واغراضكم فكيف بأفعالكم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) توصية لهم بالاستقامة وتقويم الغير عن الاعوجاج كما مضى حين تحمّل الشّهادة خصوصا وقت توصية محمّد (ص) بحملها وحفظها ، وحين أداء الشّهادة خصوصا وقت سؤال علىّ (ع) عنهم الشّهادة فانّ المقصود هو هذا (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) بغضاءكم لقوم أو بغضاء قوم لكم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) في أداء شهاداتكم بتغييرها أو كتمانها خوفا من مخالفي علىّ (ع) أو بغضا لموافقى علىّ (ع) (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ) في الشّهادات ولا تكتموها ولا تغيّروها (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بحسبه (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) الجملة في محلّ المفعول لوعد لانّه بمعنى القول والمراد بالايمان هو الحاصل بالبيعة مع محمّد (ص) ، وبالعمل الصّالح البيعة مع علىّ (ع) ، أو المراد بالايمان البيعة مع علىّ (ع) وبالعمل الصّالح العمل على طبق البيعة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ببيعة علىّ (ع) أو ببيعة محمّد (ص) (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) وأصلها علىّ (ع) (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) جمع بين الوعد والوعيد كما هو شأنه وللاشارة الى انّ المغفرة والأجر للمؤمن المستقيم مقصودة بالّذات وجزاء المسيء مقضىّ بالعرض غيّر الأسلوب وأتى بالجملة الاسميّة الدّالّة على انّ الجزاء لهم كأنّه من لوازم ذواتهم المسيئة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام من مدد الملائكة وجنود لم تروها


أو من قوّة علىّ (ع) وسيفه (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) بدل من نعمة الله أو ظرف لها باعتبار الانعام (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بمكّة قبل الهجرة أو ببدر أو بأحد أو بخندق (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) بسبب إسلامكم أو بعلىّ (ع) فتذكّروا شرف الإسلام حتّى لا تخالفوه بترك قول محمّد (ص) في علىّ (ع) ، أو تذكّروا شأن علىّ (ع) فلا تخالفوه بعد وفاة محمّد (ص) (وَاتَّقُوا اللهَ) في نسيان النّعمة ومخالفة علىّ (ع) ولا تخافوا غيره (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فلا يعتمدوا على غيره ولا يخافوا الّا منه ، وضع المظهر موضع المضمر التفاتا من الخطاب الى الغيبة بيانا لما به التّوكّل (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) تعريض بامّة محمّد (ص) لاخذ ميثاقهم لنقيبهم الّذى هو علىّ (ع) (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) يأمرونهم وينهونهم (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) فأشاهد منكم ما تفعلون (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) بوصلها الى النّقباء (ع) (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) من كلّ شيء حتّى من ميل قواكم الى مخالفة النّقباء (ع) (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) الّذين منهم النّقباء (ع) (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم وقوّيتموهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) من أصل المال بإنفاقه في سبيل الله ، وأصل القوى باضعافها بالعبادات والرّياضات ، فانّ الزّكاة هي فضول المال الّتى هي حقّ الغير والقرض من أصل المال (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) بزكوتكم وقرضكم (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بصلوتكم وايمانكم وتعزيركم (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق للنّقباء (ع) والوعد عليه (مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) فتذكّروا يا أمّة محمّد (ص) وأوفوا بميثاقكم لعلىّ (ع) ولا تكفروا بعد الميثاق (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) فتذكّروا ميثاقكم ولا تنقضوه (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) لا تتأثّر بالمواعظ (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) حال أو جواب سؤال مقدّر كما ستحرّفونه يا أمّة محمّد (ص) بعد بتأويلات فضيحة للتّمويه على من لا عقل له (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) من الميثاق والوعد عليه عطف على يحرّفون ، والاختلاف بالمضىّ والمضارعة للاشارة الى انّ الثاني وقع منهم فصار سببا لاستمرارهم على الاوّل (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) بواسطة نقض الميثاق الّذى هو أصل الخيانات كما انّ الوفاء به هو أصل الوفاء بالأمانات ، والخائنة مصدر أو وصف بمعنى فرقة خائنة ، أو نفس خائنة ، أو شخص خائن على ان يكون التّاء للمبالغة (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) استثناء من مفهومه كأنّه قال كلّهم خائنون الّا قليلا منهم ، ويحتمل الاستثناء من قلوبهم أو من المضاف اليه في قلوبهم أو من فاعل يحرّفون أو من فاعل نسوا ، ويمكن جعل الّا بمعنى غير صفة لخائنة منهم ، ويحتمل كون الكلام منصرفا عن بيان حال بنى إسرائيل الى بيان حال منافقي الامّة ولذا خاطب محمّدا (ص) ، ويحتمل ان يكون المراد بيان حال بنى إسرائيل ويكون التّعريض بالامّة كما هو طريقة جملة القصص والحكايات وقوله تعالى (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) يؤيّد المعنى الاوّل ، والعفو ترك الانتقام ، والصّفح ترك تذكّر المساوى والإخراج من القلب ، وقد يستعمل كلّ في كلّ وكلّ في كلا المعنيين ، ولا تقف على العفو والصّفح وأحسن إليهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) لم يقل ومن النّصارى لانّ التّنصّر انّما يحصل بالبيعة مع


أوصياء عيسى (ع) وهؤلاء انتحلوا التّنصّر لا انّهم بايعوا على النّصرانيّة (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) بعد بيان حال اليهود بيّن حال النّصارى للتّعريض بامّة محمّد (ص) يعنى أخذنا ميثاق أسلافهم لاوصياء عيسى (ع) (فَنَسُوا) كاليهود (حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) فصار النّسيان سببا لاختلافهم (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) بالافعال (وَالْبَغْضاءَ) بالقلوب وكان ذلك خزيهم في الدّنيا (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) يعنى ينبّئهم في الآخرة فيعذّبهم عليه فاحذروا ان تكونوا مثلهم في نسيان الميثاق لعلىّ (ع) يا أمّة محمّد (ص) فيقع بينكم العداوة والبغضاء في الدّنيا ويؤاخذكم الله عليه في الآخرة (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) كتاب النّبوّة بصورة التّوراة والإنجيل تعريض بامّة محمّد (ص) واخفائهم بعده كثيرا من الكتاب وبتبيين علىّ (ع) لهم ما يخفون ، وقد ذكر في نزول الآية انّه كان في زان وزانية محصنين من أشراف اليهود وكرهوا رجمهما فسألوا محمّدا (ص) عن ذلك فقال (ص): حكمهما الرّجم ، فأبوا ورضوا بابن صوريا وكان أعلم اليهود فسأله محمّد (ص) عن ذلك فقال (ص) : نعم هو الرّجم فأمر بهما النّبىّ فرجما عند باب مسجده (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) يعرض عنه ولا يظهره (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) تأكيد للجملة الاولى ولذا لم يأت بالعطف ، وكونه تأكيدا إذا كان المراد بالنّور الولاية وبالكتاب النّبوّة ظاهر ، فانّ الرّسول صاحب الولاية والنّبوّة ، وإذا كان المراد بالنّور أمير المؤمنين (ع) وبالكتاب القرآن أيضا ظاهر ، لانّ الرّسالة تستلزم ما به الرّسالة وما لأجله الرّسالة والاوّل الكتاب والثّانى الولاية ، وعلمت سابقا انّها من شؤن الولىّ ومتّحدة مع علىّ (ع) (يَهْدِي بِهِ اللهُ) توحيد الضّمير ان كان راجعا الى الكتاب أو النّور ظاهر ، وان كان راجعا إليهما كان باعتبار انّ الكتاب ليس الّا ظهور النّور (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) هو ولاية علىّ (ع) والبيعة له كما أشير اليه في قوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعنى يهدى بالكتاب من بايع عليّا (ع) بالبيعة الولويّة (سُبُلَ السَّلامِ) طرق الله أو طرق السّلامة (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) المتراكمة الّتى في مرتبة النّفس (إِلَى) عالم (النُّورِ) وهو فسحة عالم الرّوح (بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو المراتب النّورانيّة لعلىّ (ع) الّتى معرفتها معرفة الله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) قيل انّهم فرقة منهم وهم اليعقوبيّة يقولون باتّحاده تعالى مع عيسى (ع) لكن نقول : اعتقاد النّصارى انّ عيسى (ع) فيه جوهر الهىّ وجوهر آدمىّ وباعتباره الإلهيّ يقولون هو الله ومرادهم تأكيد اتّحاده مع عيسى (ع) باعتبار جوهره الإلهيّ ويقولون : هو باعتبار جوهره الآدميّ ابن ومولود وجسم ومقتول ومصلوب ، هذا اعتقاد محقّقيهم ، وامّا اتباعهم فلا يعرفون منه الّا مقام بشريّته ويقولون : هو الله ومقصودهم مقام بشريّته (قُلْ) يا محمّد (ص) للردّ عليهم ان كان الأمر كما تقولون (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) مفعول يملك ومن الله حال منه مقدّم عليه ، والمعنى لا يقدر أحد على شيء ممّا يملكه الله بتغييره أو دفعه فانّ الملك عبارة عن قدرة التّصرّف في المملوك ، وان كان في عيسى (ع) جوهر الهىّ كان قادرا على التّغيير والدّفع (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بيان لحال النّصارى وقالهم وتوهين لهم وتعريض بالغالى من أمّة محمّد (ص) وبالقائلين منهم بالاتّحاد


والحلول وحقّ العبارة ان يقال : لو أراد أن يهلك المسيح وأمّه لانّ المسيح وأمّه كانا قد مضيا لكنّه تعالى ادّاه بصورة الشّرط المستقبل لفرض الحال الماضية حاضرة ، أو لاعتقادهم انّ عيسى (ع) حىّ في السّماء قاعد على يمين أبيه وكذلك أمّه ، أو للاشارة الى انّه حىّ بحيوته الطّبيعيّة في السّماء الرّابعة (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) استيناف أو حال لبيان عدم المانع له من إرادته ونفاذ أمره وللدّلالة على انّ المسيح مملوك له والمملوك لا يكون إلها ولا ولدا للمالك (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فلا غروان يخلق عيسى (ع) من أنثى بلا ذكر ولا دلالة فيه على كونه إلها أو ابنا كما تمسّكوا به ، بل فيه دلالة على آلهة الخالق الّذى خلقه بلا ذكر نقضا لما قاله الطّبيعىّ (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على خلق الإنسان بلا أب وعلى إهلاك من في الأرض جميعا ، وخلق عيسى (ع) بلا أب يدلّ على عموم قدرته لا على آلهة عيسى (ع) (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) بيان لحال الفريقين ومقالتهم الفضيحة ، ووجه هذا الادّعاء انّهم قالوا من اقرّ به تعالى وتقرّب لديه فهو ابنه الرّوحانىّ وقيل : مقصودهم من هذا انّهم أشياع ابنيه المسيح (ع) وعزير (ع) وهو بعيد (قُلْ) ردّا لهم (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) في الدّنيا بالمغلوبيّة وفي الآخرة بالنّار دائما أو ايّاما قلائل على زعمكم (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) منكم (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) منكم على حسب اختلاف استعدادكم (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بيان لتسويتهم مع غيرهم في النّسبة اليه ، وتكراره هاهنا وفي غير هذا الموضع لتمكينه في قلب السّامع ولأنّ كلا يقتضيه المقام المخصوص (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) بيان لمساواتهم مع غيرهم في الانتهاء اليه (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) أضاف الرّسول الى نفسه في الموضعين تشريفا له وتهويلا لمخالفيه (يُبَيِّنُ لَكُمْ) ما تحتاجون اليه أو المفعول منسىّ (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) حال من رسولنا أو من المستتر في يبيّن ، أو من الضّمير في لكم أو متعلّق بجاءكم أو بيبيّن على تضمين معنى يورد والمراد فتور احكام الرّسل (ع) لعدم ظهورهم واختفاء أوصيائهم لا انقطاع الوحي وانقطاع الحجّة كما هو مذهب العامّة فانّه كان بين عيسى (ع) ومحمّد (ص) أنبياء (ع) وأوصياء (ع) كان أكثرهم مغمورين غير ظاهرين وكان دينه في نهاية الخفاء وان كانت ملّته ظاهرة غالبة وقيل : كان بين ميلاد عيسى (ع) ومحمّد (ص) خمسمائة وتسع وستّون سنة وكان من تلك المدّة مائة واربع وثلثون زمان ظهور الرّسل والباقي زمان الفترة وهذا أحد الأقوال ، وقيل : مدّة الفترة كانت ستّمائة سنة وقيل : خمسمائة وستّين ، وقيل : اربع مائة وبضعا وستّين وقيل : خمسمائة وشيئا (أَنْ تَقُولُوا) كراهة ان تقولوا أو لئلّا تقولوا (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ) الفاء للسّببيّة فانّ التّقدير لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم (بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على إرسال الرّسول حين الفترة ، أو يقدر على إنطاق جوارحكم ان تنكروا مجيء الرّسول وتبليغه ، أو يقدر على عذابكم ان تنكروا رسوله ولا تقرّوا به (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) عطف على مقدّر هو لا تعتذروا المقدّر السّابق الى لا تعتذروا واذكروا ما قال موسى (ع) لقومه حتّى تذكروا نعمة وجود الرّسول (ص) فيكم ولا تخالفوا قوله والمقصود التّعريض بامّة محمّد (ص) بتذكير حال أمّة موسى (ع) والنّعم الّتى أنعم الله بها عليهم وإبائهم عن امر موسى (ع) وضلالتهم في التّيه أربعين سنة حتّى يتنبّهوا للنّعم الّتى أنعم الله بها عليهم ولا يخالفوا قوله ولا يخرجوا من امره في علىّ (ع)


فلا يضلّوا كما ضلّ قوم موسى (ع) (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسّلوى وغير ذلك (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) يعنى الشّام (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ان تكون مسكنا لكم فخالفوا وحرموا ودخلها أبناء أبنائهم كذا نقل (وَلا تَرْتَدُّوا) من طريق الأرض المقدّسة الّتى هي الشّام أو ارض القلب (عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) كما قال نبيّنا (ص) لامّته هذه المقالة في علىّ (ع) فأبوا الّا الارتداد و (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) لعدم طاقتنا لمقاومتهم (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ) يوشع بن نون وكالب بن يوفّنا ابنا عمّه وقيل : رجلان من أهل الشّام أسلما بموسى (ع) (مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) يتّصفون بالخوف أو يخافون سخط الله (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) معترضة أو حال (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) يعنى باغتوهم حتّى لا يتمكّنوا من الإصحار أو قوّوا قلوبكم ولا تنظروا الى عظم جثّتهم فانّهم أجسام خالية عن الجرأة (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى انّ الايمان يقتضي التّوكّل عليه فهو شرط للتّهييج (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) هذا الكلام منهم لغاية حماقتهم واعتقادهم انّ الله هو واحد مثلهم لكنّه يقدر على ما لا يقدرون فقالوا خوفا من الجبابرة : اذهب أنت وربّك ، وقيل : هذا القول منهم كان استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) امّا المراد بأخى هرون أو المراد كلّ من كان منقادا له ومواخيا معه على ان يكون المفرد المضاف كالمعرّف باللّام للعموم ، وأخي في موضع الرّفع معطوفا على محلّ اسم انّ أو على المستتر في لا أملك وسوّغه الفصل ، أو في موضع النّصب معطوفا على اسم انّ ، أو على نفسي ، أو في موضع الجرّ معطوفا على الياء مضاف إليها النّفس من دون اعادة الجارّ على ضعف (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) قاله دعاء عليهم وتحسّرا (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) عقوبة لهم فلا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم (أَرْبَعِينَ سَنَةً) ظرف لمحرّمة أو لقوله تعالى (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ومعنى يتيهون يتحيّرون لا يرون طريقا للخروج (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) كأنّه كان نادما عن دعائه عليهم متحسّرا لهم ، عن الباقر (ع) عن رسول الله (ص) والّذى نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النّعل بالنّعل والقّذة بالقّذة حتّى لا تخطؤا طريقهم ولا تخطأكم سنّة بنى إسرائيل ثمّ قال الباقر (ع): قال موسى (ع) لقومه : يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة الّتى كتب الله لكم ، فرّدوا عليه وكانوا ستّمائة الف فقالوا : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ...) (الآيات) ، قال فعصى أربعون ألفا وسلم هرون وابناه ويوشع بن نون وكالب بن يوفنّا ، فسمّاهم الله فاسقين فقال : لا تأس على القوم الفاسقين فتاهوا أربعين سنة لانّهم عصوا وكانوا حذو النّعل بالنّعل انّ رسول الله (ص) لمّا قبض لم يكن على امر الله الّا علىّ والحسن (ع) والحسين (ع) وسلمان (ره) والمقداد (ره) وأبو ذرّ (ره) فمكثوا أربعين حتّى قام علىّ (ع) فقاتل من خالفه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ


نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) قابيل وهابيل (بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) أظهر كلّ منهما وعرض قربانا على الله ، والقربان ما يتقرّب به من ذبيحة أو غيرها (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) لانّه خرج من نفسه وهواها وأتى بالقربان بأمر مولاه وعمد الى أحسن ما عنده (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) لسخطه حكم الله وكون قربانه من قبل النّفس وهواها وإتيانه بأخسّ ما عنده وهو قابيل (قالَ) قابيل لهابيل (لَأَقْتُلَنَّكَ) توعّده بالقتل لفرط حسده عليه لقبول قربانه (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) لا من المعتدين المقدمين على قتل النّفس المحترمة يعنى قبول القربان انّما يحصل بالتّقوى عن النّفس وهواها لا بالحسد على الغير وقتله لتقواه (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) في الدّنيا والآخرة روى انّه لمّا أراد قتله لم يدر كيف يقتله فجاء إبليس فعلّمه ولم يدر بعد القتل ما يصنع به (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) نقل انّه جاء غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الاخر فوارى جثّة المقتول في الأرض (لِيُرِيَهُ) اى الله أو الغراب (كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) السّوأة الفرج وما يستقبح وانّما قال سوأة أخيه لانّ جثّة المقتول يستقبح ويستقذر (قالَ يا وَيْلَتى) الالف بدل من ياء التّكلّم والويل حلول الشّرّ أو نفس الشّرّ وبهاء الفضيحة وهو كلمة تفجّع وندبة (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) ندم النّفس الّذى هو عقوبة وحسرة لا ندم العقل الّذى هو منجاة وتوبة لقطعه مادّة التّوبة.

اعلم انّ أمثال حكاية خلق آدم (ع) وحوّاء (ع) وإسكانهما جنّة الدّنيا ونهيهما من شجرة الحنطة أو العنب أو العنّابه أو الحسد أو العلم أو غير ذلك ، ووسوسة الشّيطان لهما وأكلهما من الشّجرة المنهيّة ونزع لباسهما عنهما وظهور سوأتهما وهبوطهما الى الأرض ، وافتراقهما سنين وحزنهما وبكاءهما على الفراق ، ثمّ مواصلتهما وحمل حوّاء (ع) في كلّ بطن غلاما وجارية ، وتولّد قابيل وتوأمته إقليما في اوّل بطن ، وتولّد هابيل وتوأمته ليوذا في بطن آخر ، وامر الله لآدم (ع) ان ينكح من قابيل أخت هابيل ومن هابيل أخت قابيل ، وحسد قابيل على هابيل لكون أخته أجمل من أخت هابيل ، وعدم رضاه وامر آدم (ع) لهما ان يقرّبا قربانا وقبول قربان هابيل وعدم قبول قربان قابيل ، واشتداد حسده على هابيل وقتله ايّاه ؛ من مرموزات السّابقين كما مرّ. وهكذا الحال في حكاية سليمان (ع) وخاتمه وجلوس شيطان على كرسيّه بعد سرقة خاتمة ، وحكاية داود (ع) وتصوّر الشّيطان له بصورة طير أحسن ما يكون من الطيّور ، وكون داود (ع) في الصّلوة وقطعه الصّلوة في طلب الطّير وصعود السّطح واشرافه على دار أوريا وتعشّقه بزوجته وكتابته لأمير الجندان يقدّمه امام التّابوت حتّى يقتل ، وحكاية هاروت وماروت ونزولهما الى الأرض وتعشّقهما بامرأة وابتلائهما بشرب الخمر وسجدة الوثن وقتل النّفس ، وغير ذلك ممّا فيها ما لا يوافق شأن الأنبياء والملئكة فانّهم أرادوا بها التّنبيه على المعاني الغيبيّة المشهودة لهم الغائبة عن الانظار ، وكانت العوامّ تداولوها بنحو الأسمار ولم يدركوا منها سوى معانيها الظّاهرة المدركة بالمدارك الحيوانيّة ونسبوا بذلك الى الأنبياء والملائكة ما يقتضي عصمتهم تطهير ساحتهم عن أمثالها ؛ ولبطلانها بظواهرها وصحّتها بمعانيها المقصودة


للأنبياء (ع) والحكماء (ره) ورد في أخبارنا إنكارها وتعيير القائلين بها وتقريرها والتّصديق بها من هاتين الجهتين.

ثمّ اعلم ، انّه كلّ ما كان في العالم الكبير كان أنموذجه في العالم الصّغير بل التّحقيق انّه أنموذج لما في العالم الصّغير خصوصا ان كان من قبيل الأفعال الاختياريّة أو الحوادث اليوميّة ، وما ورد في الاخبار من بركة الأموال والأولاد والاعمار بصلة الأرحام وحسن الجوار ، وحبس الأمطار بمنع الزّكاة ، وانتشار الوباء بكثرة الزّنا يدلّ على ذلك ، وكما انّ آدم أبا البشر وحوّاء امّ البشر خلقا في العالم الكبير وهبطا الى الأرض ، آدم على الصّفا جبل قرب المسجد الحرام ويشاهد منه البيت من باب المسجد المحاذي للصّفا ، وحوّاء على المروة الّتى هي ابعد من المسجد الحرام والبيت ولا يشاهد البيت منها ، واوّل بطن من حوّاء كان قابيل مع توأمته وثانية كان هابيل مع توأمته ، وأشير في بعض الاخبار الى انّه لم يكن لآدم أولاد غير اثنين ونزلت لأحدهما حوريّة من الجنّة وأتى لآخر بجنّية وكثر نسل آدم منهما. كذلك كان هبوط آدم (ع) وحوّاء (ع) في العالم الصّغير هبط أحدهما على صفا النّفس وأعلاها وأصفى أطرافها وأقربها من بيت الله الحقيقىّ ، والاخرى على مروة النّفس وأدناها واكدر أطرافها وأبعدها من القلب ، ولذلك سمّى آدم (ع) بآدم (ع) لادمته باختلاط على النّفس وصافيها وحوّاء بحوّاء لحوّته باختلاط ادانى النّفس ، لانّ الحوّة خضرة الى السّواد أو حمرة الى السّواد. واوّل بطن من حوّاء بعد ازدواجهما كان قابيل النّوعىّ الّذى كان الغالب عليه صفات النّفس من الانانيّة والبخل والحسد والحقد والعداوة وحبّ الجاه والكبرياء بغلبة النّفس وقوّة صفاتها حينئذ ، وثانى بطن منها كان هابيل الّذى كان الغالب عليه صفات العقل لاستكمال النّفس بمجاورة آدم (ع) وحوّاء وضعف صفاتها وغلبة صفات العقل ، وكان كلّ منهما توأما لاخت له وأراد آدم النّوعىّ جذب قابيل وأخته الى قرب العقل وتبديل صفاتهما النّفسانيّة بالصّفات العقلانيّة ، فأراد تزويج أخته لهابيل وتزويج أخت هابيل له حتّى يتبدّل صفاتهما بذلك ، وابى قابيل عن التّبديل وعن الصّعود الى مقام العقل وحسد أخاه واستبدّ برأيه فقتله فأصبح من الخاسرين لابطاله وافنائه بضاعته الّتى هي استعداده للصّعود الى مقام العقل ، وبقتل هابيل ينقطع الانسانيّة من العالم الصّغير ويفنى النّاس في هذا العالم كلّهم لانّ النّاس كلّهم في هذا العالم كانوا من نسل هابيل وكان اناسىّ هذا العالم أبناء العقل الّذى هو إسرائيل النّوعىّ اى عبد الله وصفوة الله ، كما كان قابيل وذرّيّته هم الجنّة والشّياطين في هذا العالم ، وما لم يقتل هابيل العالم الصّغير كان الحكم جاريا عليهم والتّكليف باقيا لهم والخطاب من الله متوجّها إليهم ، وإذا قتل هابيل وانقطع الاناسىّ لم يكن من الله حكم وخطاب وتكليف وكان الزّنا والصّلوة متساويين لهم ؛ فمن قتل في ملكه قابيل وجوده هابيل وجوده قتل النّاس كلّهم في وجوده ولم يتوجّه إليهم بعد خطاب وتكليف. فقوله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) معناه من أجل قتل قابيل العالم الكبير هابيله الّذى هو دليل قتل قابيل العالم الصّغير هابيله (كَتَبْنا) اى اثبتنا والزمنا تكوينا (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) اى على من بقي في وجوده الانسانيّة وهم بنوا العقل الّذى هو إسرائيل ، ولمّا كان بنو إسرائيل الشّخصىّ في العالم الكبير كلّهم أو أكثرهم على طريق الحقّ وكان كثير منهم أنبياء (ع) وكان هذا الحكم أكثر ظهورا فيهم كان التّفسير ببني يعقوب صحيحا (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ) في العالم الكبير (نَفْساً) بإزهاق روحه الحيوانىّ أو قطع روحه الانسانىّ بدعوته الى الضّلالة وصدّه عن طريق الهداية بمباشرته أو بتسبيبه (بِغَيْرِ) قصاص (نَفْسٍ أَوْ) بغير (فَسادٍ) من المقتول (فِي الْأَرْضِ) بقطع طريق ونهب مال واخافة للمسلمين بان يشهر السّيف أو يحمله باللّيل الّا ان لا يكون من أهل الرّيبة (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لانّه ما لم يقتل قابيل وجوده هابيل وجوده


ولم يقطع الانسانيّة ولم يفن اناسىّ وجوده لم يرض بقتل نفس ، فالقاتل قتل النّاس جميعا في وجوده وقتل نفسا بعده في الخارج ، ومن قتل النّاس جميعا في وجوده كان كمن قتل النّاس جميعا في الخارج ، وأيضا من قتل نفسا كان قد قتل وقطع ربّ النّوع في وجوده ، ومن قتل ربّ النّوع كان كمن قتل النّاس جميعا ، وأشير في الخبر الى وجه آخر ، وهو انّ في جهنّم لواديا من قتل نفسا واحدة ينتهى اليه ، ومن قتل جميع النّاس لا يتجاوزه (وَمَنْ أَحْياها) بانجائها من الهلاك الطّبيعىّ أو دعوتها الى هداية وإحيائها بالحيوة الانسانيّة الايمانيّة (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) لانّ احياء النّاس لا يكون الّا إذا صار قابيل وجوده مبدلا في وجوده وصار جميع جنوده احياء بحيوة العقل (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) اى المعجزات أو احكام الشّريعة القالبيّة أو الدّلائل الدّالّة السمعيّة والعقليّة على هذا الحكم والتّغليظ فيه (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) من بنى إسرائيل (بَعْدَ ذلِكَ) اى بعد مجيء الرّسل بالبيّنات أو بعد هذا الحكم أو بعد هما (فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الصّغير أو الكبير (لَمُسْرِفُونَ) متجاوزون عن حدود الله بسفك الدّماء واستحلال المحارم وغيرها كما في الخبر ولمّا ذكر القتل وبالغ في ذمّ من ارتكبه صار المقام مقام ان يسأل : ما حال من حارب أولياء الله (ع)؟ ـ فقال تعالى جوابا لهذا السّؤال (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) بمحاربة أوليائه وعباده المؤمنين (وَرَسُولَهُ) بمحاربة نفسه أو خليفته أو المؤمنين أو بقطع طريقهم أو قطع طريق من يريد الرّسول (ص) أو الامام (ع) واقلّه ان يشهر السّيف لاخافة مؤمن ويحمل السّيف باللّيل الّا ان لا يكون من أهل الرّيبة (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) مفعول مطلق ليسعون من غير فعله أو بتقدير مصدر من السّعى ، والإفساد في الأرض بقطع طريق ونهب مال وقتل نفس (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) وقد اختلف الاخبار في انّ العقوبات مخيّرة أو منوطة برأى الامام كيف شاء ، أو منوطة برأيه لكن بملاحظة الجناية ومقدارها واختياره العقوبة على قدر الجناية ، وكذا في النّفى من الأرض بأنّه إخراج من المصر الّذى هو فيه الى مصر آخر ، مع انّه يكتب الى ذلك المصر بانّه منفىّ فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه الى سنة ، أو بأنّه إغراق في البحر ، أو بأنّه إيداع في الحبس (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ليس المراد بهذه التّوبة هي الّتى بين الله وبين العبد من النّدم على المعصية واجراء لفظ التّوبة على اللّسان ، فانّه لا تعلم الّا بإقرار التّائب وإقرار الشّخص غير نافذ فيما هو له ، بل فيما هو عليه بل المراد هي الّتى تكون مناط الإسلام أو الايمان بقبول الدّعوة الظّاهرة أو الدّعوة الباطنة فانّها ليست امرا بين الله وبين العبد فقط ، بل لا بدّ فيها من قبول الرّسول (ص) أو الامام (ع) توبته والاستغفار له وأخذ الميثاق منه ، ومن استغفر الرّسول (ص) أو الامام له وقبل توبته فهو مغفور له مقبول توبته ومشهود له بالتّوبة ، لانّ الإسلام يجبّ ما قبله ، ولمّا ذكر حال المحاربين والمفسدين وانّ عقوبتهم في الدّنيا وفي الآخرة اشدّ عقوبة وانّ من تاب على يد الرّسول (ص) أو الامام (ع) وتوسّل بهما الى الله يسقط منه تلك العقوبة العظيمة ، صار المقام مناسبا لان ينادى التّائبين على يد محمّد (ص) ويحذّرهم عمّا يوجب تلك العقوبة ويرغّبهم فيما يسقطها فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة (اتَّقُوا اللهَ) عمّا يوجب تلك العقوبة (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)


الّتى تسقط تلك العقوبة ، ولمّا كان الخطاب للمؤمنين كان المراد بالوسيلة المعرفة باللّام من يقبل التّوبة بعد الايمان بالرّسول (ص) والتّوبة على يده ، وليس الّا الامام الّذى يدعو بالدّعوة الباطنة الولويّة ولذلك فسّروها بأنفسهم (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) كأنّ فيه اشعارا بانّ المجاهدة تكون بعد التّوسّل بالوسيلة ، وامّا قبل الوسيلة فلا سبيل له حتّى يجاهد فيه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بهذه الوسيلة وهو في موضع تعليل لابتغاء الوسيلة (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تمثيل للزوم العذاب وشدّته وانّ من ابتلى به لا خلاص له (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) لانّ طريق الخروج من النّار منحصر في التّوسّل الى الوسيلة المذكورة ومن كفر به فلا طريق له الى الخروج (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لمّا ذكر حكم المحارب والمفسد في الأرض والكافر ، ذكر حكم السّارق الّذى هو أيضا مفسد لكن لا الى حدّ القتل وشرائط السّرقة المؤدّية الى الحدّ من كونها من حرز وبلوغ المسروق الى ربع دينار وفي غير المجاعة ، وشرائط القطع من الابتداء باليد وانّه لا يقطع الّا الأصابع الاربعة من اليد اليمنى من أصولها ويترك الإبهام ، وانّ الرّجل اليسرى تقطع من دون العقب مذكورة في الكتب الفقهيّة مفصّلة وليس هاهنا مقام تحقيقها وتفصيلها (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) عقوبة منه (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) بالتّوبة الخاصّة النّبويّة أو الولويّة من قبل قدرة الامام بقرينة السّابق وببيان المعصومين (ع) (وَأَصْلَحَ) بردّ المسروق الى صاحبه فلا حدّ عليه كالمحارب (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لما قبله (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لمّا صار المقام مظنّة خطور انّه لا ينبغي ان يسقط الحدّ الّذى ثبت عليه بمحاربته أو سرقته بمحض توبته أجاب عنه بقوله ، (أَلَمْ تَعْلَمْ) ، والخطاب امّا عامّ لمن يتأتّى منه الخطاب أو خاصّ بمحمّد (ص) من قبيل ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) لمّا ذكر حال المحارب والمفسد في العالم الكبير والعالم الصّغير ، وذكر حال السّارق في العالمين وعقوبتهم وما يسقط العقوبة عنهم من الوسيلة ، صار الرّسول (ص) لكونه رحمة للعالمين محزونا على منافقي أمّته الّذين انصرفوا من الوسيلة وكفروا به ، كأنّهم سارقون صورة الإسلام وسارقون الكلم عن مواضعه وعلى اليهود الّذين سرقوا القول للحكاية لقوم آخرين وسرقوا الكلم عن مواضعه ، على انّ الكلّ بوجه مفسدون في الأرض فناداه تسلية له (ص) بقوله تعالى (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) بالوسيلة (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) كأنّهم سرقوا الإسلام وأظهروه بلسانهم (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) بكثرة ما يقولون الكذب ، فانّ التفوّه بالكذب مستلزم لسماعه أو سمّاعون لقولك ليكذبوا عليك ؛ أو سمّاعون للكذب لا الصّدق لسنخيّتهم للكذب (سَمَّاعُونَ) كلامك لينقلوه (لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) تكبّرا ومناعة أو حنقا وغيظا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) استيناف جواب سؤال مقدّر لبيان حال المسارعين في الكفر واليهود السمّاعين للكذب ، أو صفة لقوم آخرين لكنّ الاوّل أوفق واشمل والمراد بتحريف


الكلم ، امّا تغييره في اللّفظ بزيادة أو نقصان كما روى في كثير من الآيات ، وامّا صرفه عن مفهومه ، وامّا صرفه عن مصداقه الّذى وضعه الله أو الرّسول (ص) فيه ، والمعنى يحرّفون الكلم عن مواضعه من بعد ثبوته في مواضعه وكأنّ المنظور بهذا اللّفظ الاشارة الى كلم ولاية العهد من الله من قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) (الآية) فانّه لم يكن خلاف في انّ موضعه علىّ (ع) ، ومن الرّسول (ص) بقوله : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، فانّه لم يكن خلاف في انّه ولاية العهد ولعلىّ (ع) (يَقُولُونَ) اى المسارعون في الكفر أو القوم الآخرون (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) يعنى ان أوتيتم ايّها الموافقون في طريقتنا هذا الّذى قلناه فخذوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل أوتيتم غيره (فَاحْذَرُوا) من قبوله ، وقد ذكر في سبب نزولها انّها نزلت في محاكمة يهود خيبر الى النّبىّ (ص) ومحاكمة ابن صوريا للنّبىّ (ص) وقد ذكر أيضا انّه كان بين بنى قريظة وبنى النّضير كتاب وعهد على انّه إذا قتل رجل من بنى قريظة رجلا من بنى النّضير ادّوا القاتل إليهم ليقتل ، والدية كاملة لانّ بنى النّضير كانوا أقوى حالا وأكثر مالا من بنى قريظة ، وإذا قتل رجل من بنى النّضير رجلا من بنى قريظة ادّوا القاتل إليهم ليركبوه على جمل ويولّى وجهه الى ذنبه ويلطخ وجهه بالحمأة ويدفع نصف الدّية إليهم ، فقتل بعد مقدم النّبىّ (ص) رجل من بنى قريظة رجلا من بنى النّضير فطلبوا القاتل والدّية على العهد الّذى كان بينهم ، فأبى بنو قريظة وقالوا : هذا محمّد (ص) بيننا وبينكم فهلّموا نتحاكم اليه ، فمشوا الى عبد الله بن ابىّ وكان حليفا لبني النّضير وقالوا له : سل محمّدا (ص) ان لا ينقض عهدنا على بنى قريظة ، فذهب عبد الله بن ابىّ اليه وقال له مثل ما قالوا ، فنزل جبرئيل وقال : يحرّفون الكلم الّذى في التّوراة من بعد مواضعه ، الآية (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) حتّى تقدر على منع فتنته وإصلاحه (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من الارجاس الّتى هي سبب الكفر والعقوبة (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) بالقتل والأسر والجزية والاجلاء وإظهار نفاق المنافق وتفضيحه وخوفهم جميعا من المؤمنين (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) تكرار السّماع للكذب لابداء العلّة في الخزي والعذاب ، والسّحت كلّ حرام من الرّشى في الحكم وكلّ ما لم يأذن الله في طريق تحصيله من ثمن الميتة والخمر وأجر البغيّة وأجر الكهانة وأكل مال اليتيم والرّبا بعد البيّنة وفي بعض الاخبار وامّا الرّشى في الحكم فانّ ذلك الكفر بالله العظيم ، وفي بعض الاخبار من ذلك قبول هديّة على قضاء حاجة أخيه المؤمن ، وفي بعض الاخبار عدّما أخذ من حقّ بمحاكمة الطّاغوت سحتا (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) يعنى إذا جاءك اليهود للمحاكمة فأنت مخيّر بين قبول محاكمتهم والاعراض عنهم (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) يعنى ان حكمت بينهم فلا يكن محاكمتك عن خوف منهم واستمالة لهم لانّك ان تعرض عنهم فلن يضرّوك شيئا حتّى يكون إقبالك عليهم من خوف ضرر منهم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) يعنى ينبغي ان يكون حكمك بما أمرك الله به من القسط لا بما هم عليه من الكفر وعدم الحرمة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) في المؤمن والكافر (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) يعنى انّهم ان رضوا بحكم الله لا يلجأوا الى حكمك لانّهم أهل كتاب الله (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التّحكيم عن حكمك لعدم موافقته لرأيهم وان كان موافقا لحكمهم ، أو ثمّ يتولّون عن التّوراة


وعن حكم الله الّذى فيه (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم وبك ، وفيه تعريض بالمنحرفين عن حكمه (ص) في علىّ (ع) (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) يهدى به للحقّ (وَنُورٌ) يكشف به المبهمات ، تعليل لعدم ايمانهم وتعريض بمن يعرض عن القرآن الّذى فيه بيان الحقّ وكشفه من ولاية علىّ (ع) (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة لبيان حالهم وتعريض بانّ من لم يرض بحكم القرآن لم يكن مسلما منقادا لله (لِلَّذِينَ هادُوا وَ) يحكم بها (الرَّبَّانِيُّونَ) الّذين طلبوا الحقّ بالرّياضات والمجاهدات (وَالْأَحْبارُ) الّذين طلبوه بالعلم وطريق البحث (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) استحفظه طلب منه حفظ شيء أو جعله حافظا لشيء ، ولفظة ما موصولة أو مصدريّة وفيه اشارة الى انّهم كانوا حافظين لكتاب الله من التّغيير أو حافظين له في صدورهم (مِنْ كِتابِ اللهِ) التّدوينىّ أو احكام النّبوّة (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) يشهدون له على من يغيّره ، وعنهم (ع) في بيان التّعريض : هذه الآية فينا نزلت ، والرّبانيّون الائمّة دون الأنبياء الّذين يربّون النّاس بعلمهم ، والأحبار هم العلماء يعنى انّ المقصود التّعريض بامّة محمّد (ص) وإنزال القرآن وانّ الحاكم به هم الائمّة (ع) ومشايخهم الّذين أجازوا لهم الحكم به (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) في حكوماتكم ولا تعرضوا عمّا قرّرناه من الأحكام ، والخطاب لمحمّد (ص) ولمّا كان التّعريض بأمّته جمع أمّته معه في الخطاب (وَاخْشَوْنِ) فانّى احقّ بالخشية (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) التّدوينيّة بان تغيّروها وتبدّلوها ، ولا بآياتي التّكوينيّة من النّبىّ (ص) وقوله (ص) ومن الائمّة الهداة (ثَمَناً قَلِيلاً) من الاعراض الدّنيويّة وأغراضها ، وقد مضى في اوّل البقرة في نظير الآية تفصيل تامّ لاشتراء الثّمن القليل بالآيات (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) اعلم ، انّ الآيات الثّلاثة مذكورة هاهنا بهذه الصّورة من ترتّب الكفر والظّلم والفسق على عدم الحكم بما انزل الله ، ويلزم منه ان يكون كلّ فرد من افراد الإنسان حاكما بما انزل الله تعالى حتّى لا يكون داخلا تحت الآيات ، والحال انّ أكثرهم لا يعلمون حكم الله وليس كلّ من يعلم حكم الله يؤذن له في الحكم بين النّاس ، ولذلك فسّروه بمن يحكم بغير ما انزل الله وهو اخصّ من الاوّل ، لانّ عدم الحكم بما انزل الله امّا بان لا يحكم أصلا أو بان يحكم بغير ما انزل الله والتّحقيق في هذا المقام ان يقال : انّ ما انزل الله غير مختصّ بالتّدوينىّ بل هو اعمّ من التّدوينىّ الّذى أتى به الأنبياء (ع) مسطورا في الصّحائف والألواح ومن التّكوينىّ في العالم الكبير من النّبوّات وأحكامها الّتى نزلت من مقام الرّوح الى قلوب الأنبياء (ع) ومنها الى صدورهم ، ومنها الى الخلق من السّياسات والعبادات القالبيّة ، ومن التّكوينىّ في العالم الصّغير من الأحكام العقليّة النّازلة من مقام العقل أو انّ البلوغ الى صدور الخلق فكلّ إنسان له زاجر الهىّ وشيطان يغويه وكلّ إنسان له الحكومة لا محالة ، امّا في وجوده وعالمه الصّغير لانّه لا محالة لا يخلو عن حركة وسكون ولو في الاكل والشّرب وسائر الضّروريّات ، وان كان له عيال ودار ففي أهل داره أيضا وان كان له خدم وحشم واموال ففيها أيضا ، ولا بدّ لحركته وسكونه الاختياريّين من محرّك وباعث فالباعث ان كان الهيّا فهو حاكم في حركته وسكونه بما انزل الله من حكم العقل على صدره ، وان كان شيطانيّا فهو حاكم بغير ما انزل الله وهذا الحاكم بين الخلق ان كان الباعث له على الحكومة الهيّا كان حاكما بما انزل الله ، وان كان شيطانيّا كان حاكما بغير ما انزل الله ولم يحكم بما انزل الله ، وان كان صورة الحكم صورة ما انزل الله فانّه إذا حكم من لم يكن مأذونا من الله بلا واسطة كالأنبياء (ع) أو بالواسطة كأوصيائهم (ع) وكان حكمه بصورة


ما انزل الله في التّدوين أو في النّبوّات كان حكمه بغير ما انزل الله وكان طاغوتا ، وما ورد في الاخبار من انّ هذا مجلس لا يجلس فيه الّا نبىّ أو وصىّ أو شقىّ ؛ يدلّ على هذا ، لانّ من جلس بغير الوصاية لم يكن جلوسه وحكمه بما أنزل الله بل بغير ما أنزل الله وبحكم الشّيطان ولذلك علّق الشّفاعة الّتى هي والحكومة توأمان على الاذن في عدّة من الآيات. وممّا ذكرنا ظهر انّ عدم الحكم بما أنزل الله لازم مساو للحكم بغير ما أنزل الله لا انّه أعمّ منه لانّ الإنسان لا يخلو من حكومة ما ، ومن لم يكن خاليا من الحكومة فكلّما لم يحكم بما أنزل الله كان حاكما بغير ما أنزل الله لما عرفت من التّلازم فصحّ ما ورد من تفسيره في الاخبار بالحكم بغير ما أنزل الله ؛ روى عن أمير المؤمنين (ع) انّ الحكم حكمان ؛ حكم الله وحكم الجاهليّة فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهليّة وهو دليل على ما قلنا (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) اى في التّوراة وهو تقرير لعدم رضاهم بحكم الله وانّهم رضوا بمحمّد (ص) ليفرّوا من حكم التّوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) مجمل محتاج الى البيان يعنى نفس المرء بالمرء والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى أو كان حكم التّوراة عامّا (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) ذات قصاص والفقرات محتاجة الى تقدير آخر أيضا وهو انّ النّفس تقتل بالنّفس والعين تفقأ بالعين وهكذا (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) اى بالقصاص اى عفا عنه (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) من ذنوبه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كرّره ثلاث مرّات لكمال الاهتمام به ، لانّه كما علمت معيار تمام الحركات والسّكنات ومصحّح العبادات والسّياسات وبه قوام المعاش والمعاد ، ولانّ الاوّل ناظر الى أمّة محمّد (ص) لانّ الخطاب في قوله (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) (الى آخره) كان لهم والثّانى ناظر الى احكام التّوراة وأهلها ، والثّالث ناظر الى احكام الإنجيل وأهلها (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) اى آثار النبيّين والرّبانيّين والأحبار الّذين كانوا يحكمون بالتّوراة (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً) عطف على جملة فيه هدى ونور لانّها حال ومنصوب محلّا وكرّره لانّ الاوّل حال من عيسى (ع) والثّانى من الإنجيل (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً) كرّره لانّ الاوّل باعتبار اجزائه وهذا باعتبار المجموع ، وأيضا الاوّل وصف باعتبار معانيه والثّانى للفظه وان كان باعتبار المعاني والتّأكيد مطلوب أيضا (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) لانّ الوعظ اضافة بين الواعظ والمتّعظ ومن لم يتّعظ لم يكن الوعظ وعظا له ، والمتّقون هم الّذين يكون الوعظ وعظا لهم (وَلْيَحْكُمْ) قرئ بالأمر وبكسر اللّام وفتح الميم (أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وصفهم بالكفر تارة وهو عدم الإقرار بالله أو بدينه ، وبالظّلم اخرى وهو إعطاء الحقّ لغير المستحقّ ومنع الحقّ عن المستحقّ ، وبالفسق اخرى وهو الخروج عن طريق الشّرع والعقل لاتّصافهم بالأوصاف الثّلاثة ولتفضيحهم غاية التّفضيح ولانّ الاوّل بالنّسبة الى أمّة محمّد (ص) ولمّا كان رسالته وكتابه واحكامه أشرف سمّى المنحرف عن احكامه ، والحاكم بغيرها كافرا اشعارا بانّ المنحرف عن احكامه لشرافتها أسوء حالا من الكلّ والثّانى بالنّسبة الى اليهود ، ولمّا كان الكثرة فيهم غالبة كان الظّلم وهو الاضافة الى الغير فيهم أظهر والثّالث بالنّسبة الى النّصارى ولمّا كان الوحدة فيهم أظهر كان الخروج عن طريق الوحدة وهو الفسق انسب بحالهم


واعلم ، انّه ليس المراد بالحكم بالتّوراة والحكم بالإنجيل الحكم في مطلق السّياسات والعبادات فانّهما منسوختان بمحمّد (ص) وكتابه ، بل المقصود الحكم بهما باعتبار ما ثبت فيهما من بعثة النّبىّ (ص) وآثاره وعلاماته ، والمقصود الاهمّ التّعريض بالامّة في الحكم بالقرآن في خلافة علىّ (ع) فلا تغفل (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) بسبب الحقّ أو متلبّسا بالحقّ أو مع الحقّ ، وقد سبق انّ الحقّ في أمثال المقام هو الولاية الكبرى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) من جنس الكتب المنزلة والنّبوّات الماضية (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) رقيبا على ذلك الكتاب بحفظه عن التّغيير وإظهار ما كتموه منه وتصديقه وتصديق النّبوّات الماضية ، والمهيمن من أسمائه تعالى بمعنى الرّقيب والحافظ والمؤتمن والأمين والشّاهد (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بين أمّتك أو بين أهل الكتاب ان اخترت الحكم بينهم والمقصود التّعريض بالامّة وحكمهم (بِما أَنْزَلَ اللهُ) في علىّ (ع) (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) وهو الكتاب والنّبوّة فانّهما صورتا الحقّ الّذى هو الولاية (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً) اى لكلّ فرقة وأمّة منكم جعلنا شريعة بحسب القالب وتأخير منكم للاشارة الى انّ الشّرعة الخاصّة بكلّ أمّة انّما نشأت من اختلاف استعدادهم (وَمِنْهاجاً) طريقا واضحا بحسب القلب ، والشّرعة الطّريقة الى الماء الّتى يرد عليها جميع الخلق بالسّويّة والأحكام القالبيّة في كلّ أمّة وشريعة طريقة الى ماء الحيوة ويستوي فيها جميع الامّة ، والمنهاج من نهج الأمر إذا وضح والمراد الطّريق الواضح من القلب الى الحقّ وهو بمنزلة التّعليل لسابقه يعنى لا تتجاوز عن شرعتك الخاصّة بواسطة شرائعهم ، فانّ شرائعهم كانت خاصّة بهم ولك شرعة خاصّة بك (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) متّفقة على طريقة واحدة من غير نسخ شريعة وتجديد اخرى (وَلكِنْ) جعلكم امما مختلفة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من الشّرائع الجديدة لانّ قبول المألوف المعتاد أسهل على النّفس ولا يظهر صدق الايمان به بخلاف غير المألوف ، فانّ قبوله لا يكون الّا عن صدق الايمان بمن أتى به (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) يعنى إذا علمتم انّ الاختلاف امتحان لكم فاستبقوا الخيرات الّتى هي ما أمر الله به على لسان نبيّه (ص) لا العادات الّتى اخذتموها من اسلافكم ، يعنى خذوا الخيرات سابقين على نفوسكم فانّها تأمركم بالعادات أو سابقين على اقرانكم حيازة لقصب السّبق (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) السّابق واللّاحق والأخذ بالأمر والأخذ بالعادة وهو تعليل لقوله فاستبقوا ووعد ووعيد للفريقين (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الحقّ والباطل والأمر والعادة وهذا أيضا تعريض بالولاية واختلافهم فيها بعد الرّسول (ص) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) قيل عطف على الكتاب أو على الحقّ بجعل ان مصدريّة ودخول ان المصدريّة على الأمر نادر وغير فصيح ، بل هي في الأغلب تكون مفسّرة إذا وقع بعد ما فيه معنى القول والعطف على المعنى كثير شائع في كلام الفصحاء ، فهو امّا عطف على مصدّقا باعتبار المعنى اى أنزلنا عليك الكتاب ان صدّق لما بين يديك وان احكم فيكون تفسيرا للانزال الّذى فيه معنى القول فانّ الانزال إذا نسب الى اللّفظ كان في معنى القول ، ويحتمل ان يكون بتقدير أمرنا عطفا على أنزلنا ويكون ان تفسيريّة أيضا وتكرار الأمر بالحكم بما انزل الله للتّأكيد ، أو لكون أحدهما في زنا المحصنين والآخر في قتل وقع بينهم ، كما روى عن الباقر (ع) انّما كرّر الأمر بالحكم بينهم لانّهما حكمان امر بهما جميعا لانّهم احتكموا اليه في زنا المحصنين


ثمّ احتكموا اليه في قتل كان بينهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) يصرفوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) يعنى فاعلم انّ لهم ذنوبا كثيرة والإقبال عليك مسقط لعقوبتها والتّولّى عنك دليل على ارادة الله لعقوبتهم ببعض منها (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) خارجون عن طريق الحقّ وهو تعريض بالامّة حيث تولّوا عنه في امره بولاية علىّ (ع) ان كان نزوله في أهل الكتاب وتسلية للرّسول (ص) بان لا يعظّم تولّيهم ولا يحزن عليهم لتولّيهم (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) وهذا مؤيّد لوجه التّعريض ، فانّ توبيخ الامّة بعد تصديق الرّسول (ص) على طلب حكم الجاهليّة له موقع دون توبيخ غير المصدّقين (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) اللّام لام اختصاص والظّرف متعلّق بحكما أو بأحسن ، والاستفهام للإنكار يعنى لا أحسن من الله حكما لقوم يوقنون والمقصود انّ الله أحسن حكما فانّه وان كان بحسب المفهوم اعمّ ، لكن استعماله في مثل هذا المقام لاثبات الاحسنيّة للمفضّل عليه ونفيها من غيره والتّعبير عنه بحيث يظهر تعلّق اللّام هكذا الله يحسن حكومته لقوم يوقنون اشدّ حسن ، أو حكومة الله تحسن لقوم يوقنون ، وتخصيص احسنيّة الحكومة بالموقنين لظهورها عليهم ولموافقتها لهم دون غيرهم من أصحاب الأهواء والظّنون ، وقيل : اللّام بمعنى عند ويكون حينئذ متعلّقا بأحسن ، وقيل : اللّام للبيان اى لبيان متعلّق الاستفهام اى هذا الاستفهام لقوم لا يوقنون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) احبّاء تعاشرونهم معاشرة الأحباب وتتوقّعون منهم النّصرة في البلايا (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فلا تتوقّعوا منهم الولاية فانّهم لكونهم على دين واحد متوادّون وان كانوا متنازعين من جهة اخرى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) لانّ التّولّى والتّودّد لا يكون الّا من سنخيّة بين المتوادّين والسّنخيّة تقتضي الدّخول في الاسناخ ، عن الصّادق (ع) من تولّى آل محمّد (ص) وقدّمهم على جميع النّاس بما قدّمهم من قرابة رسول الله (ص) فهو من آل محمّد (ص) بمنزلة آل محمّد (ص) لانّه من القوم بأعيانهم وانّما هو منهم بتولّيه إليهم واتّباعه ايّاهم وكذلك حكم الله في كتابه ومن يتولّهم منكم فانّه منهم ، وقول إبراهيم (ع) فمن تبعني فانّه منّى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) يعنى لا تتّخذوا منهم أولياء لانّهم ظالمون بعدم قبول الإسلام وانّ الله لا يهدى القوم الظّالمين ، أو لا تتّخذوا منهم أولياء فتصيروا ظالمين بتولّيهم وعدم تولّى المؤمنين فلا يهديكم الله الى الحقّ لانّ الله لا يهدى القوم الظّالمين (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كابن ابىّ وأضرابه (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) في موالاتهم (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) اعتذار من تودّدهم ، والدّائرة عبارة عن نوائب الدّهر تدور على الخلق ، روى ان عبادة بن الصّامت قال لرسول الله (ص): انّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم وانّى أبرء الى الله ورسوله (ص) من ولايتهم وأوالي الله ورسوله (ص) فقال ابن ابىّ : انّى رجل أخاف الدّوائر لا أبرء من ولاية مواليّ فنزلت (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) لرسوله (ص) وللمؤمنين (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) دون الفتح من غنيمة أو إهلاك عدّو أو إهلاك القائلين يكون فيه إعزاز المؤمنين ويظهر به ذلّة الكافرين والموالين لهم (فَيُصْبِحُوا) اى هؤلاء المنافقون في الدّنيا أو في الآخرة (عَلى ما أَسَرُّوا


فِي أَنْفُسِهِمْ) من نفاق المؤمنين وموالاة الكافرين (نادِمِينَ) ورد في الاخبار انّ تأويله في بنى أميّة فنقول ان كان نزوله في عبد الله بن ابىّ وأصحابه فالتّعريض بمخالفى علىّ (ع) ويجرى في كلّ من خالف الائمّة (ع) ومنهم بنو أميّة الى ظهور القائم عجّل الله فرجه (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) في الدّنيا بعد انقلاب الأمر على الكفّار أو على المنافقين بعد ما رأوا المنافقين في زمرة الكافرين أو في الآخرة بعد ما رأوهم في طريق الكافرين ، وقرئ بنصب يقول عطفا على يأتى أو يصبحوا (أَهؤُلاءِ) اشارة الى المنافقين يعنى يقول المؤمنون في حقّ المنافقين بعد ما رأوهم في زمرة الكافرين ورأوا حسن حال المؤمنين تبجّحا وسرورا بما للمؤمنين أهؤلاء (الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) اغلظ ايمانهم (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) فيه معنى التّعجّب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) فلن يضرّ دين الله شيئا (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) والمقصود الارتداد عن قول محمّد (ص) في ولاية علىّ (ع) والمراد بقوم يحبّهم أصحاب علىّ (ع) فانّ هذا الوصف لهم مأخوذ من سيّدهم علىّ (ع) لقول النّبىّ (ص) في خيبر : لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ولا خلاف انّ الرّجل كان عليّا (ع) ولمّا كانت الآية جارية الى يوم القيامة فكلّ من أصحاب الائمّة (ع) داخل تحتها الى المهدىّ عجّل الله فرجه ، وقد فسّرت بعلىّ (ع) وأصحابه وبأصحاب علىّ (ع) وقال علىّ (ع) يوم الجمل : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم ، وعن الصّادق (ع): هم أمير المؤمنين وأصحابه حين قاتل من قاتله من النّاكثين والقاسطين والمارقين (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) من الّذلّ بالكسر بمعنى اللّين أو من الّذلّ بالضمّ بمعنى الهوان بمعنى انّهم يعدّون أنفسهم أذلّاء عند المؤمنين بتحقير أنفسهم وتبجيل المؤمنين لانّ المؤمنين يعدّونهم أذلّاء (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) غلاظ شداد والمقصود انّهم ذو مناعة وعزّة على الكافرين لا يعدّونهم في شيء (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لا في سبيل النّفس والشّيطان (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فيما يفعلون بأمر الله يعنى انّهم ناظرون الى أمر الله لا الى مدح مادح ولوم لائم (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الإتيان باسم الاشارة البعيدة غاية تعظيم لما ذكر لهم من الصّفات وكذا اضافة الفضل الى الله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) قد ورد من طريق العامّة والخاصّة انّ الآية نازلة في علىّ (ع) حين تصدّق في المسجد في ركوع الصّلوة بخاتمه أو بحلّته الّتى كان قيمتها الف دينار ، ومفسّروا العامّة لا ينكرون الاخبار في كونها نازلة في أمير المؤمنين (ع) وقد نقلوا بطرق عديدة من رواتهم انّها نزلت في علىّ (ع) ومع ذلك يقولون في تفسيرها انّ الآية لمّا نزلت بعد النّهى عن اتّخاذ أهل الكتاب أولياء ، ولا شكّ انّ المراد بالأولياء هناك أولياء المعاشرة لا أولياء التّصرّف كان المراد بالأولياء هاهنا أيضا أولياء المعاشرة بقرينة المقابلة وبقرينة جمع المؤمنين ، ولو كان المراد أمير المؤمنين (ع) وبالولاية ولاية التّصرّف ، لصرّح باسمه أو لقال والّذى آمن بالافراد ؛ وهم غافلون عن انّه لو صرّح باسمه أو أفرد المؤمن مع الاتّفاق في انّها نازلة في أمير المؤمنين (ع) لأسقطوه تمويها على مخالفي علىّ (ع) فنقول : نسبة الولاية اوّلا الى الله ثمّ الى رسوله (ص) ثمّ الى الّذين آمنوا تدلّ على انّ المراد بالولاية ولاية التّصرّف الّتى في قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لانّ ولاية الله ليست ولاية المعاشرة


ولا ولاية الرّسول (ص) بقرينة العطف وبما هو معلوم من الخارج ، فكذلك ولاية الّذين آمنوا بقرينة العطف وبقرينة عدم تكرار الولىّ ، فانّ المراد انّ الولاية هاهنا امر واحد مترتّب في الظّهور ، فانّ ولاية الرّسول (ص) ليست شيئا سوى ولاية الله وولاية الله تتحقّق بولاية الرّسول (ص) فهكذا ولاية الّذين آمنوا فانّها ولاية الرّسول (ص) تظهر في ولاية الّذين آمنوا على ما قاله الشّيعة ، ولو كان المراد ولاية المعاشرة كان اولياؤكم بلفظ الجمع اولى ، وتقييد الّذين آمنوا بإقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة في حال الرّكوع يدلّ على انّها ليست ولاية المعاشرة والّا لكان جملة المؤمنين فيها سواء ، وليس كذلك المؤمنين متّصفين بالصّفات المذكورة على انّه لا خلاف معتّدا به في انّها نزلت في علىّ (ع) وصورة الأوصاف خاصّة به ، وقوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بالمضارع اشارة الى انّ هذا الوصف مستمرّ لهم يعنى حالهم استمرار اقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة في حال الخضوع لله لا في حال بجهة النّفس ، لانّهم يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة انّهم الى ربّهم راجعون ، بخلاف الفاعل من قبل النّفس فانّ شأنه الارتضاء بفعله وتوقّع المدح من الغير على فعله ، لانّ كلّ حزب من أحزاب النّفس بما لديهم فرحون ويحبّون ان يحمدوا على ما لم يفعلوا فضلا عمّا فعلوا ، واستمرار الصّفات بحسب المعنى لعلىّ (ع) وأولاده المعصومين (ع) بشهادة أعدائهم وبحسب الصّورة ما كان أحد مصداقها الّا علىّ (ع) نقلا عن طريق العامّة والخاصّة وقد وقع صدور الزّكاة في الرّكوع من كلّ من الائمّة (ع) كما ورد عن طريق الخاصّة ، وفي نسبة الولاية الى الله دون المخاطبين والإتيان بأداة الحصر دلالة تامّة على انّ المراد بها ولاية التّصرّف فانّها امر ثابتة لله ذاتا ولرسوله (ص) ولخلفاء رسوله (ص) باعتبار كونهما مظهرين لله وليس لأحد شراكة فيها وليس المراد بها ولاية المعاشرة الّتى تكون بالمواضعة والاتّخاذ ، والّا لم يكن للحصر وجه وكان اقتضاء المقابلة ان يقول بل أنتم أولياء الله (الى آخرها) أو بل اتّخذوا الله ورسوله والمؤمنين أولياء ولانّ المراد بها ولاية التّصرّف الّتى كانت بالّذات لله قال في عكسه (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) اشعارا بانّ الولاية السّابقة هي ولاية التّصرّف وليست لغير الله وخلفائه الّا قبولها ومن قبلها منهم باستعداده لظهورها فيه صار مرتبطا بالله وخلفائه ، ومن صار مرتبطا بالله صار من حزب الله ، ومن صار من حزب الله كان غالبا (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) ولو كان المراد بها ولاية المعاشرة لكان الاولى ان يقول ومن يتّخذ الله أو من صار وليّا لله ، والحاصل انّ في لفظ الآية دلالات واضحة على انّ المراد بالولاية ولاية التّصرّف وانّها بعد الرّسول (ص) ليست لجملة المؤمنين بل لمن اتّصف بصفات خاصّة كائنا من كان متعدّدا أو منفردا سواء قلنا نزلت في علىّ (ع) أو لم نقل ، لكن باتّفاق الفريقين لم توجد الأوصاف الّا فيه (ع) ونزلت الآية في حقّه (ع) والمراد بالّذين آمنوا هاهنا هم الموصوفون في الآية السّابقة لما تقرّر عندهم انّ المعرفة إذا تكرّرت كانت عين الاولى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ) بولاية من أمرتم بولايته بقرينة كونها بعد آية ولاية الله وقبول ولايته والتّعليق على هذا الوصف للاشعار بعلّة النّهى (أَوْلِياءَ) لانّهم في شقاق معكم فلا ينبغي لكم تولّيهم (وَاتَّقُوا اللهَ) في اتّخاذ المذكورين أولياء (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فانّ الايمان يقتضي المجانبة لا المجانسة معهم (وَإِذا نادَيْتُمْ) عطف على قوله (اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) أو حال (إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فانّ العقل يقتضي تعظيم الحقّ وعباداته لا الاستهزاء بها (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ


تَنْقِمُونَ) تكافؤن أو تكرهون أو تعاقبون (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) المستثنى بتقدير اللّام أو الباء أو مفعول به بلا واسطة حرف (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) تعريض بمنافقى الامّة في النّقمة من علىّ (ع) وأولاده المعصومين (ع) وأصحابهم التّابعين لهم (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طريق الحقّ والعقل وهو عطف على ان آمنّا أو على الله يعنى الّا لان آمنّا بانّ أكثركم فاسقون (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) الايمان الّذى تنقمون لأجله أو من ذلك الفسق أو من ذلك النّقم يعنى ان كان هذا شرّا باعتقادكم أو في الواقع فهل انبّئكم بشرّ منه (مَثُوبَةً) جزاء (عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) هو خبر مبتدء محذوف تقديره صاحب ذلك الشّرّ من لعنه الله أو ذلك الشّرّ صفة من لعنه الله أو بدل بتقدير مضاف ، تقديره بصفة من لعنه الله وهو مبتدء وجملة (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) خبره (وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فيه قراءات ، قرئ فعلا مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول بتقدير فيهم وعابد الطّاغوت وعبدة الطّاغوت وعبد الطّاغوت جمعا كخدم وعبد الطّاغوت بضمّ الباء وصفا ، وعطفه على القراءات واضح وقد مضى تفسير الطّاغوت (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) من قبيل اضافة الصّفة الى الموصوف اى السّبيل السّواء غير مائل الى أحد الطّرفين من الإفراط والتّفريط للنّصارى واليهود والمراد بالتّفضيل امّا الزيادة مطلقا لا بالاضافة الى المؤمنين أو بالاضافة الى النّاقمين أو الى الفاسقين ، أو الى المؤمنين على اعتقادهم أو بالاضافة الى المؤمنين على سبيل التّهكّم بهم (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) تأديب للمؤمنين بان يراقبوا حالهم وتعريض بالمنافقين من أمّة محمّد (ص) (وَقَدْ دَخَلُوا) في مجلسك أو في دينك (بِالْكُفْرِ) يعنى لم يكن دخولهم خلوصا من الكفر بل انقيادا لسلطنتك (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) من عندك أو من دينك من غير تأثير لكلامك فيهم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) تهديد لهم (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ) الّذنب الغير المتعدّى الى الغير (وَالْعُدْوانِ) الاساءة الى الغير فان كان المراد أهل الكتاب فالتّعريض بهم (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ذمّ على فعلهم (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) قد مضى انّ الاوّل هم المرتاضون والثّانى العلماء (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) القول اعمّ من الفعل كما مضى تحقيقه (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) والتّعبير هاهنا بيصنعون للاشارة الى انّهم أبلغ ذمّا من السّابقين ، لانّهم بجهلهم يعملون وهؤلاء عن علم يتركون لانّ استعمال الصّنع في الأغلب فيما إذا تمكّن وتعمّل في العمل ، عن ابن عبّاس انّها اشدّ آية في القرآن (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) غلّ اليد كناية عن الإمساك والبخل وبسطها كناية عن الجود. اعلم ، انّ لليهود مذاهب مختلفة وعقائد متشتّتة وآراء مبتدعة فمنها اعتقادهم انّ الله جسم وانّه خلق السّماوات والأرض وما فيها من المواليد في ستّة ايّام ، وآخر المخلوقات في اليوم الآخر كان آدم (ع) وخلق له من ضلعه الا يسر حوّاء وأسكنه جنّة خلق له في عدن ومنعه من أكل شجرة ، وأكلت حوّاء بإغواء الشّيطان والحيّة من تلك الشّجرة وحملت آدم (ع) على الاكل وانّ الله ندم من خلق آدم (ع) وبنى آدم ، وانّ الله فرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السّبت وهو مستريح فارغ من الأمر ، فنقل تعالى قولهم الباطل وردّ عليهم ودعا عليهم بقوله (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا


بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) واليد كما سبق في أمثالها غير مختصّة بالعضو المخصوص الّذى لذوي الحيوة الحيوانيّة ، بل هي اسم لمعنى عامّ له مصاديق كثيرة مترتّبة بعضها فوق بعض ، وهو معنى ما به التّصرّف بالحركة في الجذب والدّفع والدّخل والخرج ، وما به القدرة في الإنفاق والإمساك والإيجاد والاعدام وغير ذلك من لوازم التّصرّف ، وهي في الحيوان آلة مخصوصة مركّبة من أجسام مختلفة ، وفي الإنسان الملكىّ آلة اخرى وفي الإنسان الملكوتىّ أيضا آلة محسوسة غير ما للإنسان الملكىّ ، وفي الجبروتىّ ليست آلة محسوسة بل امر معقول مجرّد عن المادّة ولوازم المادّة وعن التّقدّر والتّشكّل ، والحقّ تعالى شأنه لمّا كان احدىّ الّذات لا كثرة لذاته بوجه من وجوه الكثرة ولا تركيب فيه بوجه من وجوه التّركيب ، بل انيّته وجود صرف محيط بكلّ الكثرات بحيث لا يشذّ عن وجوده شيء منها والّا كان محدودا مركّبا ، فهو بذاته الاحديّة مصداق لجميع الأسماء والصّفات المتقابلة بحيث لا يلزم منه تكثير ولا تركيب ولا تحديد ، فانّ من حدّه بشيء فقد عدّه واثبت له ثانيا ، ومن عدّه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّاه ، ومن جزّاه فقد جهله ، فمن وجوب وجوده يستدلّ على عدم تركّبه ، ومنه على عدم تحدّده ، ومنه على احاطته فهو بكلّ شيء محيط. وهذا أتمّ البراهين الّتى أقامها الحكماء على احاطته بل هو أصل للكلّ والكلّ راجع اليه فهو بأحديّته مصداق الصّفات الحقيقيّة المحضة ومصداق الصّفات الحقيقيّة ذات الاضافة ، ومصداق الإضافات والسّلوب تماما فهو الحىّ العليم السّميع البصير المدرك القادر المريد المتكلّم الرّحمن الرّحيم الخالق الرّازق المبدء المعيد المتصرّف الهادي المفضل المضلّ المنتقم السّبّوح القدّوس ، لكن هذه الأسماء غير ظاهرة في مرتبته الاحديّة فانّها الغيب الّذى لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر بل هي ظاهرة في مقام المعروفيّة المسمّاة بنفس الرّحمن والحقيقة المحمّديّة والاضافة الاشراقيّة وعرش الرّحمن والولاية المطلقة والمشيّة والحقّ المخلوق به وغير ذلك من أسمائها ، سوى الف الف اسم الله تعالى شأنه هي مصداقها في مقام الظّهور وهي باعتبار نفسها من غير اعتبار حيثيّته وحيثيّة يد الله وباعتبار وجهها الى الله ووجهها الى الخلق ، وباعتبار انضيافها الى الملكوت العليا والسّفلى ، وباعتبار ظهور اللّطف والقهر فيها يد ان لله وكلتا يديه يمين وباسط اليدين بالرّحمة في هذا المقام ، وباعتبار انضيافها الى المهيّات والأعيان الثّابتات تظهر فيها الأسماء المتقابلات من اللّطيف والقاهر والرّحيم والمنتقم ولكلّ صنف من أسمائه تعالى عالم هو محلّ ظهوره فعالم الأرواح والأشباح النّوريّة الّتى هي عالم المثال والفلكيّات تماما مظاهر أسمائه اللّطفية. والعالم السفلىّ الّذى هو عالم الشّياطين والجنّة ومقرّ الأرواح الخبيثة وفيه الجحيم ونيرانها مظاهر أسمائه القهريّة ، وعالم العناصر بمواليدها مظاهر اللّطف والقهر تماما فأسماءه تعالى اللّطفيّة والقهريّة يداه تعالى وبهذا الاعتبار أيضا كلتا يديه يمين ومظاهر الأسماء اللّطفيّة من عالم الأرواح والسّماوات يمينه ، والسّموات مطويّات بيمينه والطّاوى والمطوىّ باعتبار الظّاهر والمظهر ، والّا فالسّماوات يمين والظّاهر فيه أيضا يمين والظّاهر السّفلىّ شمال وأصحاب اليمين وأصحاب الشّمال اشارة الى أهل هذين العالمين ، لكن كونهما يمينا وشمالا باعتبار هما في أنفسهما لا بالاضافة اليه تعالى فانّ كلّا منهما بالاضافة اليه تعالى يمين ، ولذلك لم يرد في كلامه تعالى شمال الله ، بل أصحاب الشّمال وأصحاب المشئمة بدون الاضافة ، ولم يقل تعالى والأرض جميعا في شماله مع انّ المناسب في مقابل (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ان يقول والأرض مقبوضة بشماله بل قال قبضته لا باسم اليمين ولا باسم الشّمال فبإضافة العالمين اليه كلتا يديه يمين أيضا ، وإذا أريد بالرّحمة ، الرّحمة الرّحمانيّة فهو باسط اليدين بالرّحمة في هذين العالمين أيضا ، وإذا أريد إظهار الاضافة اللازمة لليمين والشّمال يقال يمين العالم وشمال العالم. إذا علمت


ذلك فاعلم ، انّه تعالى قيّوم ومعنى قيّوميّته انّ به تحصّل الأشياء وبقاءها ومعنى به بقاؤها ان لا بقاء لها في أنفسها الّا بمبقيها ايّها النّاس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغنى ، مثالها في بقائها بمبقيها وفنائها في أنفسها ، مثال ضوء الشّمس المنبسط على السّطوح فانّه من حيث إضافته الى السّطوح آنا فانا في الفناء بحيث لا يبقى ضوء على سطح آنين ، إذا أردت معرفة ذلك من طريق الحسّ فانظر الى ضوء منبسط على سطح من كوّة يكون بينها وبين ذلك السّطح مسافة بعيدة ، فاذا انسدّ تلك الكوّة فنى ذلك الضوء من السّطح من غير تراخ ولو لا فناؤه في نفسه وبقاؤه بمبقيه الّذى هو الشّمس لبقي آنا ما بعد سدّ الكوّة ، وإذا كان حال الأشياء بالنّسبة الى الله تعالى حال الضّوء بالنّسبة الى الشّمس فلو لم يجد بإفاضة الضّوء الحقيقىّ على سطوح المهيّات آنا ، لفنت الأشياء فهو تعالى أبدا في الافاضة والخلق والإبداء ، فيداه بمعانيهما الّتى عرفت مبسطوطتان بالإنفاق وكيفيّة إنفاقه منوطة بمشيّته فمن قال قد فرغ من الأمر جهل الأمر وكذب على الله ولعن من باب معرفته وغلّت يداه العلمىّ والعملىّ الى عنقه. هذا في العالم الكبير وكلّ ما في العالم الكبير فهو بعينه في العالم الصّغير من غير تفاوت الّا بالكبر والصّغر ما دام الصّغير صغيرا فالنّفس الامّارة كالعالم السّفلىّ واللّوامة وبدنه كعالم العناصر والمطمئنّة كالسّماوات والقلب كالإنسان واقع بين السّفلىّ والعلوىّ والرّوح والعقل كعالم الأرواح ؛ قلب المؤمن بين إصبعي الرّحمن ، اشارة الى السّفل والعلو كاليدين في الكبير ولكونه صغيرا عبّر عنهما بالاصبعين (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) اللّام موطّئة ويزيدنّ جواب القسم ، والسّرّ فيه انّهم لمّا تمكّنوا في الكفر فكلّما قرع الحقّ سمعهم ازدادوا تنفّرا واشمئزازا منك ومن الحقّ لعدم السنخيّة فازدادوا حنقا وكفرا (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) في القلوب (وَالْبَغْضاءَ) في الأفعال لانّ ما به الاتّفاق والمحبّة هو الايمان والتّوجّه الى عالم الوفاق والوداد وهم بريئون منه (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) لعدم وفاقهم فأجسادهم عظيمة مجتمعة وقلوبهم ضعيفة شتّى (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) مفعول مطلق من غير لفظ الفعل ان كان السّعاية بمعنى الإفساد والّا فمفعول له ، وافسادهم في ارض عالمهم الصّغير بترك إصلاح اهله وصدّهم عن طريق القلب وفي الكبير بصدّ اهله عن طريق الايمان قيل : بإفسادهم سلّط الله عليهم بخت نصّر فاستأصلهم ثمّ فطرس الرّومىّ ثمّ المجوس ثمّ المسلمين (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فلا قدر لهم عنده (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) بنبيّهم وكتابهم (وَاتَّقَوْا) مخالفة كتابهم ومخالفة ما فيه من الأحكام ومن وصف محمّد (ص) حتّى يؤمنوا به وهذا وان كان لأهل الكتاب من اليهود والنّصارى لكنّ التّعريض باهل الكتاب من أمّة محمّد (ص) (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الّتى لزمت نفوسهم حاصلة من افعال جوارحهم والّتى صارت سببا لافعال جوارحهم (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) لانّ الايمان يعدّ لدخول الجنّة والتّقوى لازالة السّيّئات (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) يعنى لو انّ أمّة محمّد (ص) أقاموا القرآن لانّه تعريض بهم والمعرّض به هو المقصود في الكلام ، واقامة الكتاب بالايتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه وحفظ ما نزل فيه (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) قد فسّر في الخبر بالولاية مناسبا للتّعريض وامّا بالنّسبة الى المعرّض عنهم فالمراد سائر ما وصل إليهم من أنبيائهم (ع) الآخرين أو ما وصّاهم انبياؤهم أو أوصياؤهم من المحافظة على الكتابين وحدودهما (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) من الأرزاق السّماويّة الاخرويّة الرّوحيّة (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)


من الأرزاق الارضيّة الدّنيويّة البدنيّة ، أو المراد بكليهما أكل الرّوح فانّ المؤمن بالبيعة الولويّة وقبول الولاية يفتح له باب القلب ، فاذا انفتح باب القلب فكلّما حصل له من الأرزاق النّباتيّة والعلوم الحسيّة والكسبيّة الّتى هي من السّفل وكذا العلوم الحاصلة له بمحض الافاضة الالهيّة المسمّاة بالعلوم اللّدنيّة تكون غذاء روحه لا غذاء نفسه وشيطانه ، لما مرّ سابقا انّ أسماء الأشياء أسماء لفعليّاتها الاخيرة ، ومن اقام التّوراة والإنجيل اقرّ بمحمّد (ص) ومن اقرّ بمحمّد (ص) اقرّ بالولاية ومن اقرّ بالولاية صار فعليّته الاخيرة فعليّة الولاية ، ومن صار فعليّته الاخيرة فعليّة الولاية صار جميع ما حصل له من العلوم والأعمال غذاء لفعليّة الولاية (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) خارجة عن تفريط اليهود وافراط النّصارى وداخلة في الطّريق المقتصد المحمّدىّ (ص) (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) لخروجهم عن الاقتصار الى أحد طرفيه (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) عنهم (ع) كان هناك : في علىّ ؛ فأسقطوه (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) خوفا من افتتان أمّتك وفتنتك بهم (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) لانّ الولاية غاية الرّسالة فان لم تحصل كانت الرّسالة كأن لم تحصل (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلا يكن خوف فتنتك منهم مانعا من التّبليغ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الى مرادهم من السّوء بك يعنى لا يخلّى بينهم وبين مرادهم. هذه الآية وآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قد روى من طريق الخاصّة بطرق كثيرة انّهما في ولاية علىّ (ع) ونزولهما كان في حجّة الوداع قبل منصرفه (ص) أو بعده (ص) الى غدير خمّ ، وهذه السّورة بتمام آيها آخر ما نزلت ولم ينزل بعدها شيء من القرآن ، والخطب الّتى خطب النّبىّ (ص) بها في مكّة ومسجد الخيف وغدير خمّ مذكورة من طريقهم في المفصّلات من التّفاسير وغيرها ، ومتأخّروا مفسّرى العامّة اكتفوا في تفسير هذه الآية بظاهر اللّفظ وفسّروها هكذا يا ايّها الرّسول بلّغ جميع ما انزل إليك من ربّك وان لم تفعل اى تبليغ الجميع فما بلّغت شيئا من رسالته على قراءة رسالته بالافراد أو ما بلّغت جميع رسالاته على قراءة رسالاته بالجمع ، ونزول الآية لو كان في اوّل التّبليغ كان لهذا التّفسير وجه ، ولمّا كان نزول الآية في آخر التّبليغ كما عليه الشّيعة أو بعد الهجرة كما عليه الكلّ لم يكن لهذا التّفسير موقع ، لانّه قبل نزول الآية كان قد بلّغ أكثر التّكاليف وبقي بعضها فان كان الباقي مثل ما بلّغ سابقا من احكام القالب لم يكن يخاف من التّبليغ ولا يتأمّل فيه حتّى يصير معاتبا بتركه ، لانّه كان قد بلّغ أكثر الأحكام حين الانغمار وغلبة المشركين ولم يخف منهم فكيف يخاف حين ظهور سلطانه وقبول احكامه ، فينبغي ان يكون خوفه من أمّته وافتتان اتباعه ولا يكون الّا إذا كان الأمر المأمور هو بتبليغه امرا عظيما ثقيلا على اسماع الامّة ، حتّى يخاف (ص) من عدم قبولهم وارتدادهم ويخاف على نفسه أيضا من الأذى والقتل ، ويتأمّل في التّبليغ ويتردّد فيه فيصحّ من الله مجيء العزيمة والأمر البتّى (١) فيه والعتاب والتّهديد على تركه ووعد العصمة من النّاس في تبليغه ، ومن أنصف من نفسه علم انّ هذا الأمر لا يكون من جنس الصّوم والصّلوة ولا الحجّ والزّكاة ولا الخمس والجهاد ولا سائر العقود والمعاملات بل امرا خارجا من جنس تلك الأحكام ولا يتصوّر الّا ان يكون ذلك الأمر نصب شخص للامارة عليهم بعده وادخالهم تحت حكمه مع كونه مبغوضا لهم ، وما ادّعى هذا لأحد الّا لعلىّ (ع) وقد قال (ص) باتّفاق الفريقين : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، وتأويلهم هذا بالمحبّ كما أوّلوه بعيد عن الإنصاف غاية البعد ، وكلامنا مع المنصف لا مع المتعصّب المنحرف فانّه لا كلام لنا معه ولا كتاب والله المتفضّل بالتّوفيق والصّواب. هذا مع قطع النّظر عمّا ثبت وورد بطريق الخاصّة والعامّة في حقّه (ع) ممّا يدلّ على استحقاقه (ع) خلافة النّبىّ (ص)

__________________

(١) بتّ الأمر أمضاه وبتّ النيّة جزمها.


دون غيره من كونه لم يشرك بالله طرفة عين ولم يعبد وثنا بخلاف غيره ومن دعاء الرّسول (ص) له الى الإسلام وتكليفه (ص) البيعة معه واجابته (ع) له (ص) حين كونه (ع) ابن تسع سنين ، فانّه ان كان في ذلك الزّمان مستعدّا لتعلّق التّكليف به ومستحقّا لدعوة الرّسول وقابلا للتّوبة على يده والبيعة معه ، كفى به شرفا لانّه لا خلاف في انّه اوّل من بايع الرّسول (ص) وانّه كان حين بايع ابن تسع سنين ، وان لم يكن أهلا للدّعوة والبيعة ومع ذلك دعاه محمّد (ص) وبايعه كان مرتكبا للّغو وهو بحكمته الكاملة اجلّ من ان يفعل اللّغو. ومن مبيته على فراش الرّسول (ص) وفداءه بنفسه ليلة المبيت ، ومن استخلافه له بمكّة في اهله ، وفي ردّ أمانات النّاس ، ومن حمله الفواطم ومنهنّ فاطمة بنت رسول الله (ص) بعده الى المدينة ، ومن كونه بمنزله نفسه (ص) كما سبق في آية المباهلة ، ونقلنا هناك اتّفاق الخاصّة والعامّة على انّه لم يكن معه (ص) حين الخروج الى المباهلة أحد من الصّحابة سوى الحسنين وفاطمة وعلىّ (ع) ونقلنا هناك عن بعض مفسّريهم ورواتهم انّه قال : لم يكن معه غير هؤلاء ، وهو يدلّ على انّه لم يكن اعزّ عليه من هؤلاء ؛ والفضل ما شهدت به الأعداء. ومن كونه قتّال ابطال العرب لحماية الدّين ولطاعة سيّد المرسلين (ص) وكفى به فضلا وشرفا ، حيث بذل نفسه وأهلك انانيّته لا مر ربّه وأقدم على ما لم يقدم عليه أحد من اقرانه الّذين أرادوا بالدّين وبالبيعة مع سيّد المرسلين (ص) إبقاء انانيّاتهم وجذب الخير لأنفسهم ، ومن قوله (ص) في حقّه (ع) : لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ومن قوله (ص): انّى تارك فيكم الثّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ، ولم يدّع أحد من مدّعى الخلافة كونه من أهل بيته ومن عترته ، ومن قوله (ص): انا مدينة العلم وعلىّ بابها ، ومن كونه اعلم الصّحابة وأقضاهم وأشجعهم واغزاهم ، ومن رجوع الخلفاء اليه في معضلاتهم وقولهم : قضيّة ولا بأحسن لها ، صار مثلا بينهم وقد تيمنّت بما ذكرت والّا فمناقبه المشهورة المذكورة بين العامّة والخاصّة قد بلغت من الوضوح مبلغ الشّمس في رابعة النّهار غنيّة عن الوصف والإظهار ، ومن الكثرة بحيث ملأت الخافقين لا يمكن احصاؤها مع انّ أعداءه كتموها حسدا وبغيا واحبّاؤه ضنّة وخوفا. وقد اغنى ابن ابى الحديد الشّيعة عن ذكر مناقبه بما ذكر في شرحه لنهج البلاغة ، وان كان مع اطرائه لم يبلغ قطرة من بحار مناقبه وقد ذكر صريحا وتلويحا مثالبهم في ضمن اوصافهم ، وكان ابن ابى الحديد من مشايخهم وعلمائهم وذكر في شرح نهج البلاغة ما مضمونه : انّ رجلا من أهل البصرة كان يوم الغدير بمشهد علىّ (ع) وسمع من الرّفضة رفض الخلفاء وبعض الصّحابة وسبّهم ومثالبهم ، فرجع الى البصرة ودخل على قاضيها وقال للقاضي رأيت العجب في مشهد علىّ قال : ما رأيت؟ ـ قال : رأيت الشّيعة يسبّون الخلفاء ، قال القاضي : هذا ما علّمهم صاحب القبر ، قال : فما لنا نحبّه ونحبّهم؟! فقام القاضي وخرج من الباب الّذى يلي داره وقال : لعن الله الفاعل ابن الفاعلة ان كان يعلم جواب هذى المسئلة ، فان كان علىّ بإقرارهم علّم شيعته سبّ الخلفاء كان مبغضا لهم فان كنت محبّا له فاقتضاء محبّته ان تبغض الخلفاء وان كنت محبّا لهم فاقتضاء محبّتهم ان تبغض عليّا فما لك تحبّه وتحبّهم ، فاخرج من عصبيّتك وانظر الى آثار كبار ملّتك وخذ من دنياك لآخرتك. وللتيمّن بقوله (ص) في خلافة خليفته (ع) نذكر شطرا من الخطب الّتى خطب بها في حجّة الوداع ، فنقول : نسب الى ابن عبّاس والثّعلبىّ وغيرهما من العامّة انّهم قالوا : انّ الله امر نبيّه ان ينصب عليّا علما للنّاس ويخبرهم بولايته ، فتخوّف ان يقولوا حابى ابن عمّه وان يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه ، فنزلت هذه الآية فأخذ بيده يوم غدير خمّ وقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، وقرأ الآية ، ونسب الى الباقر (ع) انّه قال : قد حجّ رسول الله (ص) من المدينة وقد بلّغ جميع الشّرائع قومه غير الحجّ والولاية ، فأتاه جبرئيل فقال له يا محمّد


انّ الله عزوجل يقرئك السّلام ويقول لك : انّى لم اقبض نبيّا من انبيائى ولا رسولا من رسلي الّا بعد إكمال ديني وتأكيد حجّتى ، وقد بقي عليك من ذلك فريضتان ممّا يحتاج ان تبلّغهما قومك فريضة الحجّ وفريضة الولاية والخلافة من بعدك ، فانّى لم اخل ارضى من حجّتى ولن أخليها أبدا ، فانّ الله يأمرك ان تبلّغ قومك الحجّ ، تحجّ ويحجّ معك كلّ من استطاع اليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف والاعراب وتعلّمهم من حجّهم مثل ما علّمتهم من صلوتهم وزكوتهم وصيامهم ، وتوقّفهم من ذلك على مثال الّذى أوقفتهم عليه من جميع ما بلّغتهم من الشّرائع ، فنادى منادى رسول الله (ص) في النّاس الا انّ رسول الله (ص) يريد الحجّ وان يعلّمكم من ذلك مثل الّذى علّمكم من شرائع دينكم ويوقفكم من ذلك على ما أوقفكم عليه من غيره ، فخرج رسول الله (ص) وخرج معه النّاس واصغوا اليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله ، فحجّ بهم وبلغ من حجّ مع رسول الله (ص) من أهل المدينة وأهل الأطراف والاعراب سبعين الف إنسان أو يزيدون ، على نحو عدد أصحاب موسى (ع) سبعين ألفا الّذين أخذ عليهم بيعة هارون (ع) فنكثوا واتّبعوا العجل والسّامرىّ ، وكذلك رسول الله (ص) أخذ البيعة لعلىّ بن أبى طالب (ع) بالخلافة على عدد أصحاب موسى (ع) فنكثوا البيعة واتّبعوا العجل سنّة بسنّة ومثلا بمثل ، واتّصلت التبلية ما بين مكّة والمدينة فلمّا وقف بالموقف أتاه جبرئيل عن الله تعالى فقال : يا محمّد ، انّ الله تعالى يقرئك السّلام ويقول لك : انّه قد دنا أجلك ومدّتك ، وانا مستقدمك على ما لا بدّ منه ولا عنه محيص فاعهد عهدك وقدّم وصيّتك واعمد الى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك ، والسّلاح والتّابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء ، فسلّمها الى وصيّتك وخليفتك من بعدك حجّتى البالغة على خلقي علىّ بن أبى طالب ، فأقمه للنّاس علما وجدّد عهده وميثاقه وبيعته وذكّرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الّذى واثقتهم به وعهدي الّذى عهدت إليهم من ولاية ولييّ ومولاهم ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة علىّ بن أبى طالب. فانّى لم اقبض نبيّا من الأنبياء الّا من بعد إكمال ديني وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي ، وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتّباع ولييّ وطاعته ، وذلك انّى لا أترك ارضى بغير قيّم ليكون حجّة لي على خلقي ، ف (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (الآية) بولاية ولييّ ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة علىّ عبدي ووصىّ نبيّي والخليفة من بعده وحجّتى البالغة على خلقي مقرون طاعته بطاعة محمّد نبيّي ومقرون طاعته محمّد بطاعتي ، من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني ، جعلته علما بيني وبين خلقي من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ، ومن أشرك ببيعته كان مشركا ، ومن لقيني بولايته دخل الجنّة ، ومن لقيني بعداوته دخل النّار ؛ فأقم يا محمّد عليّا علما وخذ عليهم البيعة وجدّد عليهم عهدي وميثاقي لهم الّذى واثقتهم عليه ، فانّى قابضك الىّ ومستقدمك علىّ. فخشي رسول الله (ص) قومه وأهل النّفاق والشّقاق ان يتفرّقوا ويرجعوا جاهليّة لما عرف من عداوتهم ، ولما ينطوي عليه أنفسهم لعلىّ من البغضة ، وسأل جبرئيل ، ان يسأل ربّه العصمة من النّاس وانتظر ان يأتيه (ص) جبرئيل بالعصمة من النّاس من الله جلّ اسمه فأخرّ ذلك الى ان بلغ مسجد الخيف ، فأتاه جبرئيل في مسجد الخيف فأمره ان يعهد عهده ويقيم عليّا (ع) للنّاس ولم يأته بالعصمة من الله جلّ جلاله الّذى أراد ، حتّى أتى كراع الغميم بين مكّة والمدينة فأتاه جبرئيل وأمره بالّذى أتاه من قبل ولم يأته بالعصمة ، فقال (ص) : يا جبرئيل انّى أخشى قومي ان يكذّبونى ولا يقبلوا قولي في علىّ ، فرحل فلمّا بلغ غدير خمّ قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرئيل على خمس ساعات مضت من النّهار بالزّجر والانتهار والعصمة من النّاس ، يا محمّد ، انّ الله تعالى يقرئك السّلام ويقول لك : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ


بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من ربّك في علىّ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، وكان اوائلهم قربت من الجحفة فأمره بان يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ليقيم عليّا للنّاس ويبلّغهم ما انزل الله تعالى في علىّ وأخبره بانّ الله عزوجل قد عصمه من النّاس ، فأمر رسول الله عند ما جاءته العصمة مناديا ينادى في النّاس بالصّلوة جامعة ، ويردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر فتنحّى عن يمين الطّريق الى جنب مسجد الغدير امره بذلك جبرئيل عن الله عزوجل ، وفي الموضع سلمان فأمر رسول الله (ص) ان يقمّ ما تحتهنّ وينصب له أحجار كهيئة المنبر ليشرف على النّاس ، فتراجع النّاس واحتبس أواخرهم في ذلك المكان لا يزالون فقام رسول الله (ص) فوق تلك الأحجار ، ثمّ حمد الله تعالى وأثنى عليه بما أثنى (الى ان قال) وأو من به وبملائكته وكتبه ورسله ، اسمع أمره وأطيع وأبادر الى كلّ ما يرضاه واستسلم لقضائه رغبة في طاعته وخوفا من عقوبته ، اقرّ له على نفسي بالعبوديّة واشهد له بالرّبوبيّة وأودّى ما أوحى الىّ حذرا من ان لا افعل فتحلّ بى منه قارعة لا يدفعها عنّى أحد وان عظمت حيلته ، لا اله الّا هو لانّه قد أعلمنى انّى ان لم ابلّغ ما أنزل الىّ فما بلّغت رسالته ، فقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة وهو الله الكافي الكريم ، فأوحى الىّ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علىّ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ؛ معاشر النّاس ، ما قصّرت في تبليغ ما أنزله وانا مبيّن لكم سبب هذه الآية انّ جبرئيل هبط الىّ مرارا ثلاثا يأمرني عن السّلام ربّى وهو السّلام ان أقوم في هذا المشهد ، فأعلم كلّ أبيض وأسود انّ علىّ بن أبى طالب أخى ووصيّي وخليفتي والامام من بعدي الّذى محلّه منّى محلّ هارون من موسى الّا انّه لا نبىّ بعدي وهو وليّكم بعد الله ورسوله وقد أنزل الله تعالى علىّ بذلك آية من كتابه (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ،) وعلىّ بن أبى طالب أقام الصّلوة وآتى الزّكاة وهو راكع يريد الله عزوجل في كلّ حال وسألت جبرئيل ان يستعفينى عن تبليغ ذلك إليكم ايّها النّاس ، لعلمي بقلّة المتّقين وكثرة المنافقين وإدغال الآثمين وحيل المستهزئين بالإسلام ، الّذين وصفهم الله في كتابه ، بأنّهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويحسبونه هيّنا هو عند الله عظيم ، وكثرة أذاهم لي غير مرّة حتّى سمّونى إذنا وزعموا انّى كذلك لكثرة ملازمته ايّاى وإقبالي عليه ، حتّى انزل الله عزوجل في ذلك : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ) على الّذين يزعمون انّه اذن (خَيْرٍ لَكُمْ) (الآية) ولو شئت ان اسمىّ بأسمائهم لسميّت وان أومي إليهم بأعيانهم لاومأت وان ادلّ عليهم لدللّت ، ولكنّى والله في أمورهم قد تكرّمت وكلّ ذلك لا يرضى الله منّى الّا ان ابلّغ ما انزل الىّ ثمّ تلا : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علىّ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، فاعلموا ، معاشر النّاس ، انّ الله قد نصبه لكم وليّا وإماما مفترضا طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التّابعين لهم بإحسان وعلى البادي والحاضر وعلى الاعجمىّ والعربىّ والحرّ والمملوك والصّغير والكبير وعلى الأبيض والأسود وعلى كلّ موجود ماض حكمه جائز قوله نافذ امره ، ملعون من خالفه مرحوم من تبعه ، ومن صدّقه فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له ، معاشر النّاس انّه آخر مقام أقومه في هذا المشهد ، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر ربّكم ، فانّ الله عزوجل هو ربّكم ووليّكم وإلهكم ، ثمّ من دونه رسوله محمّد وليّكم القائم المخاطب لكم ، ثمّ من بعدي علىّ وليّكم وإمامكم بأمر الله ربّكم ، ثمّ الامامة في ذرّيّتى من ولده الى يوم القيامة يوم يلقون الله ورسوله ، لا حلال الّا ما أحلّه الله ولا حرام الّا ما حرّمه الله ، عرّفنى الحلال والحرام وانا أفضيت بما علّمنى ربّى من كتابه وحلاله وحرامه اليه.


معاشر النّاس ، ما من علم الّا وقد أحصاه الله فيّ وكلّ علم علّمته فقد أحصيته في علىّ امام المتّقين ما من علم الّا وقد علّمته عليّا وهو الامام المبين ، معاشر النّاس ، لا تضلّوا عنه ولا تنفروا منه ولا تستنكفوا من ولايته فهو الّذى يهدى الى الحقّ ويعمل به ويزهق الباطل وينهى عنه ولا تأخذه في الله لومة لائم ، انّه اوّل من آمن بالله ورسوله ، والّذى فدى رسول الله بنفسه ، والّذى كان مع رسول الله ولا أحد يعبد الله مع رسوله من الرّجال غيره ، معاشر النّاس ، فضّلوه فقد فضّله الله واقبلوه فقد نصبه الله ، معاشر النّاس ، انّه امام من الله ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته ولن يغفر الله له حتما على الله ان يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه وان يعذّبه عذابا نكرا أبد الآباد ودهر الدّهور ، فاحذروا ان تخالفوه فتصلوا نارا (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ،) ايّها النّاس ، بى والله بشّر الاوّلون من النّبيّين والمرسلين وانا خاتم الأنبياء والمرسلين والحجّة على جميع ـ المخلوقين من أهل السّماوات والأرضين ، فمن شكّ في ذلك فهو كافر كفر الجاهليّة الاولى ومن شكّ في شيء من قولي هذا فقد شكّ في الكلّ منه والشّاكّ في الكلّ فله النّار ، معاشر النّاس ، حباني الله بهذه الفضيلة منّا منه علىّ وإحسانا منه الىّ ، ولا اله الّا هو له الحمد منّى أبد الآبدين ودهر الدّاهرين على كلّ حال ، معاشر النّاس ، فضّلوا عليّا فانّه أفضل النّاس بعدي من ذكر وأنثى ، بنا انزل الله الرّزق وبقي الخلق ، ملعون ملعون مغضوب مغضوب من ردّ قولي هذا وان لم يوافقه ، الا انّ جبرئيل خبّرنى عن الله تعالى بذلك ويقول : من عادى عليّا ولم يتولّه فعليه لعنتي وغضبى ، فلتنظر نفس ما قدّمت لغد واتّقوا الله ان تخالفوه فتزلّ قدم بعد ثبوتها انّ الله خبير بما تعملون ، معاشر النّاس ، انّه جنب الله نزل في كتابه : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) ، معاشر النّاس ، تدبّروا القرآن وافهموا آياته وانظروا الى محكماته ولا تتّبعوا متشابهه فو الله لن يبيّن لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره الّا الّذى انا آخذ بيده ومصعده الىّ وشائل بعضده ، ومعلّمكم انّ من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه وهو علىّ بن أبى طالب ، أخي ووصيّي ، وموالاته من الله عزوجل أنزلها علىّ ، معاشر الناس ، انّ عليّا والطّيّبين من ولدي هم الثّقل الأصغر والقرآن هو الثّقل الأكبر فكلّ واحد منبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ، أمناء الله في خلقه وحكّامه في أرضه الا وقد أدّيت ، الا وقد بلّغت ، الا وقد أسمعت ، الا وقد أوضحت ، الا وانّ الله عزوجل قال وانا قلته عن الله عزوجل ، الا انّه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا ولا تحلّ إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره. ثمّ ضرب بيده الى عضده فرفعه وكان منذ اوّل ما صعد رسول الله شال عليّا حتّى صار رجله مع ركبة رسول الله ثمّ قال : معاشر النّاس ، هذا علىّ أخي ووصيّي وواعى علمي وخليفتي على أمّتي وعلىّ تفسير كتاب الله والدّاعى اليه ، والعامل بما يرضيه ، والمحارب لاعدائه ، والموالي على طاعته والنّاهى عن معصيته خليفة رسول الله وأمير المؤمنين والامام الهادي وقاتل النّاكثين والقاسطين والمارقين ، بأمر الله أقول ما يبدّل القول لدىّ ، بأمر الله ربّى أقول : اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، والعن من أنكره واغضب على من جحد حقّه ، اللهمّ انّك أنزلت علىّ انّ الامامة لعلىّ وليّك عند تبياني ذلك ونصبي ايّاه ، بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم نعمتك ورضيت لهم الإسلام دينا. فقلت : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللهمّ انّى أشهدك انّى قد بلّغت ، معاشر النّاس ، انّما الله عزوجل أكمل دينكم بإمامته فمن لم يأتمّ به وبمن يقوم مقامه من ولدي من صلبه الى يوم القيامة ، والعرض على الله عزوجل فأولئك الّذين حبطت أعمالهم وفي النّار هم خالدون لا يخفّف الله عنهم العذاب ولا هم ينظرون ، معاشر النّاس ، هذا علىّ أنصركم لي ، واحقّكم بى ، وأقربكم الىّ وأعزّكم علىّ


والله عزوجل وانا عنه راضيان وما نزلت آية رضى الّا فيه ، وما خاطب الله الّذين آمنوا الّا بدء به ، ولا نزلت آية مدح في القرآن الّا فيه ، ولا شهد الله بالجنّة في (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) الّا وله ولا أنزلها في سواه ولا مدح بها غيره ، معاشر النّاس ، هو ناصر دين الله ، والمجادل عن رسول الله ، والتّقىّ النّقىّ الهادي المهدىّ نبيّكم خير نبىّ ووصيّكم خير وصىّ ، وبنوه خير الأوصياء ، معاشر النّاس ، ذرّيّة كلّ نبىّ من صلبه وذرّيّتى من صلب علىّ ، معاشر النّاس ، انّ إبليس أخرج آدم من الجنّة بالحسد فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزلّ أقدامكم ؛ فانّ آدم اهبط الى الأرض بخطيئة واحدة وهو صفوة الله عزوجل فكيف بكم وأنتم أنتم ومنكم أعداء الله ، الا انّه لا يبغض عليّا الّا شقىّ ولا يتولّى عليّا الّا تقىّ ولا يؤمن به الّا مؤمن مخلص ، وفي علىّ والله انزل سورة العصر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ) الى آخره ، معاشر النّاس قد استشهدت الله وبلّغتكم رسالتي (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، معاشر النّاس ، اتّقوا الله حقّ تقاته فلا تموتنّ الّا وأنتم مسلمون ، معاشر النّاس ، آمنوا بالله ورسوله والنّور الّذى انزل معه من قبل ان نطمس وجوها فنردّها على ادبارها ، معاشر النّاس ، النّور من الله عزوجل فيّ ، ثمّ مسلوك في علىّ ، ثمّ في النّسل منه الى القائم المهدىّ الّذى يأخذ بحقّ الله وبكلّ حقّ ، هو لنا لانّ الله عزوجل قد جعلنا حجّة على المقصّرين والمعاندين والمخالفين والخائبين والآثمين والظّالمين من جميع العالمين. معاشر النّاس ، انّى أنذركم انّى رسول الله إليكم قد خلت من قبلي الرّسل أفإن متّ أو قتلت (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ، الا وانّ عليّا الموصوف بالصّبر والشّكر ثمّ من بعده ولدي من صلبه ، معاشر النّاس ، لا تمنّوا على الله إسلامكم فيسخط عليكم ويصيبكم بعذاب من عنده انّه لبالمرصاد ، معاشر النّاس ، سيكون من بعدي ائمّة يدعون الى النّار ويوم القيامة لا ينصرون ، معاشر النّاس ، انّ الله وانا بريئان منهم ، معاشر النّاس ، انّهم وأشياعهم واتباعهم وأنصارهم في الدّرك الأسفل من النّار ولبئس مثوى المتكبّرين ، الا انّهم أصحاب الصّحيفة فلينظر أحدكم في صحيفته (قال : فذهب على النّاس الّا شر ذمة امر الصّحيفة) معاشر النّاس ، انّى ادعها إمامة ووراثة في عقبى الى يوم القيامة ، وقد بلّغت ما أمرت بتبليغه حجّة على كلّ حاضر وغائب وعلى كلّ أحد ممّن شهد أو لم يشهد ولد أو لم يولد ، فليبلغ الحاضر الغائب والوالد الولد الى يوم القيامة وسيجعلونها ملكا اغتصابا ، الا لعن الله الغاصبين والمغتصبين وعندها (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) ف (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) ، معاشر النّاس ، انّ الله عزوجل لم يكن يذركم على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطيّب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ، معاشر النّاس ، انّه ما من قرية الّا والله مهلكها بتكذيبها وكذلك يهلك القرى وهي ظالمة كما ذكر الله تعالى ، وهذا إمامكم ووليّكم وهو مواعيد الله والله يصدق ما وعده ، معاشر النّاس ، قد ضلّ قبلكم أكثر الاوّلين والله لقد أهلك الاوّلين وهو مهلك الآخرين ، معاشر النّاس ، انّ الله قد أمرنى ونهاني وقد أمرت عليّا ونهيته فعلم الأمر والنّهى من ربّه عزوجل فاسمعوا لأمره تسلموا ، وأطيعوه تهتدوا ، وانتهوا لنهيه ترشدوا ، وصيروا الى مراده ولا يتفرّق بكم السّبل عن سبيله ، انا صراط الله المستقيم الّذى أمركم باتّباعه ثمّ علىّ من بعدي ثمّ ولدي من صلبه ائمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون. ثمّ قرأ (ص) (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الى آخرها) وقال ، فيّ نزلت وفيهم نزلت ولهم عمّت وايّاهم خصّت ، أولئك (أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الا (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) ، الا انّ أعداء علىّ هم أهل الشّقاق العادون ، واخوان الشّياطين


الّذين يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ، الا انّ أولياء الله هم المؤمنون الّذين ذكرهم الله في كتابه فقال عزوجل : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ،) (الى آخر الآية) الا انّ أولياء الله هم الّذين وصفهم الله عزوجل فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، الا انّ أولياء الله هم الّذين يدخلون الجنّة آمنين وتتلقّاهم الملائكة بالتّسليم ان طبتم فادخلوها خالدين ، الا انّ أولياء الله هم الّذين قال الله عزوجل : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) ، الا انّ أعداءهم الّذين يصلون سعيرا ، الا انّ أعداءهم الّذين قال الله عزوجل (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ) (الآية) ، الا انّ أولياء الله هم الّذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ، معاشر النّاس ، شتّان ما بين السّعير والجنّة ، عدوّنا من ذمّه الله ولعنه ووليّنا من أحبّه الله ومدحه ، الا وانّى منذر وعلىّ هاد ، معاشر النّاس ، انّى نبىّ وعلىّ وصيّي الا وانّ خاتم الائمّة منّا القائم المهدىّ ، الا انّه الظّاهر على الدّين ، الا انّه المنتقم من الظّالمين ، الا انّه فاتح الحصون وهادمها ، الا انّه قاتل كلّ قبيلة من أهل الشّرك ، الا انّه مدرك كلّ ثأر لأولياء الله عزوجل ، الا انّه ناصر دين الله عزوجل ، الا انّه الغرّاف من بحر عميق ، الا انّه يسمّ كلّ ذي فضل بفضله وكلّ ذي جهل بجهله ، الا انّه خيرة الله ومختاره ، الا انّه وارث كلّ علم والمحيط به ، الا انّه المخبر عن ربّه عزوجل المنبّه بأمر ايمانه ، الا انّه الرّشيد السّديد ، الا انّه المفوّض اليه ، الا انّه قد بشّر به من سلف بين يديه ، الا انّه الباقي حجّة ولا حجّة بعده ولا حقّ الّا معه ولا نور الّا عنده ، الا انّه لا غالب له ولا منصور عليه ، الا انّه ولىّ الله في أرضه ، وحكمه في خلقه ، وأمينه في سرّه وعلانيته. معاشر النّاس ، قد بيّنت لكم وأفهمتكم وهذا علىّ يفهمكم بعدي ، الا وانّ عند انقضاء خطبتي أدعوكم الى مصافقتي على بيعته والإقرار به ثمّ مصافقته من بعدي ، الا وانّى قد بايعت الله وعلىّ قد بايعنى وانا آخذكم بالبيعة له عن الله عزوجل ، و (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (الآية). معاشر النّاس ، انّ الحجّ والصّفا والمروة والعمرة (مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) (الآية) ، معاشر النّاس ، حجّوا البيت فما ورده أهل بيت الّا استغنوا ولا تخلّفوا عنه الّا افتقروا ، معاشر النّاس ، ما وقف بالموقف مؤمن الّا غفر الله له ما سلف من ذنبه الى وقته ذلك ، فاذا انقضت حجّته استأنف عمله ، معاشر النّاس ، الحجّاج معانون ونفقاتهم مخلّفة والله لا يضيع أجر المحسنين ، معاشر النّاس ، حجّوا البيت بكمال الدّين والتّفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد الّا بتوبة وإقلاع ، معاشر النّاس ، أقيموا الصّلوة وآتوا الزّكاة كما أمركم الله عزوجل لئن طال عليكم الأمد فقصّرتم أو نسيتم فعلىّ وليّكم ومبيّن لكم ، الّذى نصبه الله عزوجل بعدي ومن خلّفه الله منّى ومنه يخبركم بما تسألون منه ويبيّن لكم ما لا تعلمون ، الا انّ الحلال والحرام أكثر من أحصيهما واعرّفهما ، فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد فأمرت ان أخذ البيعة عليكم والصّفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عزوجل في علىّ أمير المؤمنين ، والائمّة من بعده الّذين هم منّى ومنه أمّة قائمة ومنهم المهدىّ الى يوم القيامة الّذى يقضى بالحقّ ، معاشر النّاس ، وكلّ حلال دللتكم عليه وكلّ حرام نهيتكم عنه فانّى لم ارجع عن ذلك ولم ـ ابدّل ، الا فاذكروا ذلك واحفظوه وتواصوا به ولا تبدّلوه ولا تغيّروه ، الا وانّى اجدّد القول ، الا فأقيموا الصّلوة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، الا وانّ رأس الأمر بالمعروف ان تنتهوا الى قولي وتبلّغوه من لم يحضره وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته فانّه امر من الله عزوجل ومنّى ، ولا امر بمعروف ولا نهى عن منكر الّا مع امام ، معاشر النّاس ، القرآن يعرّفكم انّ الائمّة من بعده ولده وعرّفتكم انّهم منّى ومنه


حيث يقول الله وجعلها كلمة باقية في عقبه وقلت : لن تضلّوا ما ان تمسّكتم بهما ، معاشر النّاس ، التّقوى التّقوى احذروا السّاعة كما قال الله تعالى ، (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، اذكروا الممات والحساب والموازين والمحاسبة بين يدي ربّ العالمين ، والثّواب والعقاب فمن جاء بالحسنة أثيب ، ومن جاء بالسيّئة فليس له في الجنان نصيب ، معاشر النّاس ، انّكم أكثر من ان تصافقوني بكفّ واحدة وأمرني الله عزوجل ان أخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعلىّ من إمرة المؤمنين ومن جاء بعده من الائمّة منّى ومنه على ما أعلمتكم انّ ذرّيّتى من صلبه فقولوا بأجمعكم انّا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلّغت عن ربّنا وربّك في امر علىّ وامر ولده من صلبه من الائمّة نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا ، على ذلك نحيى ونموت ونبعث ولا نغيّر ولا نبدّل ولا نشكّ ولا نرتاب ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق ونطيع الله ونطيعك وعليّا أمير المؤمنين وولده الائمّة الّذين ذكرتهم من ذرّيّتك من صلبه بعد الحسن والحسين ، الّذين قد عرّفتكم مكانهما منّى ومحلّهما عندي ومنزلتهما من ربّى عزوجل ، فقد ادّيت ذلك إليكم وانّهما سيّدا شباب أهل الجنّة وانّهما الامامان بعد أبيهما علىّ وانا أبوهما قبله وقولوا أطعنا الله بذلك وإياك وعليّا والحسن والحسين والائمّة الّذين ذكرت عهدا وميثاقا مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما واقرّ بهما بلسانه لا نبتغي بذلك بدلا ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا ، أشهدنا الله وكفى به شهيدا وأنت علينا به شهيد ، وكلّ من أطاع ممّن ظهر واستتر وملائكة الله وجنوده وعبيده والله أكبر من كلّ شهيد. معاشر النّاس ، ما تقولون فانّ الله يعلم كلّ صوت وخافية كلّ نفس فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فانّما يضلّ عليها ومن بايع فانّما يبايع الله عزوجل ، يد الله فوق أيديهم ، معاشر النّاس ، فاتّقوا الله وبايعوا عليّا أمير المؤمنين والحسن والحسين والائمّة كلمة باقية يهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، الآية ، معاشر النّاس ، قولوا الّذى قلت لكم وسلّموا على علىّ بامرة المؤمنين وقولوا (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ،) وقولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) ، معاشر النّاس ، انّ فضائل علىّ بن ابى طالب عند الله عزوجل وقد أنزلها علىّ في القرآن أكثر من ان أحصيها في مكان واحد فمن أنبأكم بها وعرّفها فصدّقوه ، معاشر النّاس ، من يطع الله ورسوله وعليّا والائمّة الّذين ذكرتهم فقد فاز فوزا مبينا ، معاشر النّاس ، السّابقون الى مبايعته وموالاته والتّسليم عليه بامرة المؤمنين أولئك هم الفائزون في جنّات النّعيم ، معاشر النّاس ، قولوا ما يرضى الله به عنكم من القول فان تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فلن يضرّ الله شيئا ، اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات واغضب على الكافرين والكافرات والحمد لله ربّ العالمين. فناداه القوم ، نعم سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا وتداكّوا على رسول الله (ص) وعلى علىّ (ع) وصافقوا بأيديهم فكان اوّل من صافق رسول الله (ص) الاوّل والثّانى والثّالث والرّابع والخامس وباقي المهاجرين والأنصار وباقي النّاس على طبقاتهم وقدر منازلهم الى ان صلّيت العشاء والعتمة في وقت واحد ، وواصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا ورسول الله يقول كلّما بايع قوم : الحمد لله الّذى فضّلنا على جميع العالمين وصارت المصافقة سنّة ورسما يستعملها من ليس له حقّ فيها (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من الدّين يعتنى به ويسمّى شيئا امّا تعريض بالامّة أو خطاب على سبيل العموم لهم ولأهل الكتاب والمقصود خطاب الامّة بإقامتهم ما انزل إليهم في الولاية (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بإقامة أوامرهما ونواهيهما (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من القرآن


بإقامة حدوده ومن جملة حدوده الأمر بالولاية وهي العمدة ، أو ما انزل إليكم من ربّكم في الولاية كما في أخبارنا على وجه التّعريض ، ويمكن ان يقال : وما أنزل إليكم من ربّكم على السنة انبيائكم وأوصيائهم من أخذ الميثاق وانتظار الفرج بمحمّد (ص) (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علىّ أو مطلقا لكن يكون المقصود ما انزل في الولاية بنحو التّعريض (طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فانّهم لانحرافهم عن باب الولاية لم يبق فيهم ما يتأسّف به عليهم ولا يضرّونك ولا عليّا (ع) أيضا بانحرافهم حتّى تتأسّف على ذلك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمّد (ص) بقبول الدّعوة الظّاهرة وبالبيعة العامّة النّبويّة (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) عطف على محلّ اسم انّ على ضعف أو على محلّ ان واسمها (وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ) بقبول الدّعوة الباطنة والبيعة مع علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة ودخول الايمان في قلوبهم ، فانّ به فتح باب القلب ، وبفتحه رفع الخوف والحزن والإيقان باليوم الآخر ، وبه يعمل العمل الصّالح (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) الأعمال المرتبطة بالايمان الدّاخل في القلب الّذى هو أصل كلّ صالح ، وغيره بتوسّطه يصير صالحا (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لانّ الخوف والحزن من صفات النّفس وهؤلاء قد خرجوا من دار النّفس ودخلوا في حدود دار القلب فتبدّل خوفهم خشية وحزنهم قبضا ، ولا ينافي هذا ما ورد كثيرا من نسبة الخوف والحزن الى المؤمن الخاصّ في الآيات والاخبار ، لانّ اطلاق الخوف والحزن على ما للمؤمن الخاصّ انّما هو باعتبار معناهما العامّ وقد عدّ الفرح من جنود العقل والحزن من جنود الجهل ، وما ورد من انّ المؤمن خوفه ورجاءه متساويان ككفّتى الميزان فانّما يراد بالخوف معناه الاعمّ ، وورد انّ المراد نفى الخوف والحزن في الآخرة (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعنى كما أخذنا ميثاقكم بولاية علىّ (ع) فاحذروا ان تكونوا مثلهم فتكذّبوا فريقا وتقتلوا فريقا كما فعلوا بعلىّ (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) الإتيان بالاستقبال لاستحضار الحال الماضية تفضيحا لهم بإحضار اشنع أحوالهم وللمحافظة على رؤس الآي (وَحَسِبُوا) من تماديهم في الغفلة والاعراض (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) عذاب وابتلاء من الله بسبب هذا التّكذيب والقتل استصغارا للّذنب العظيم (فَعَمُوا) عن الاعتبار بمن مضى (وَصَمُّوا) عن استماع حكاياتهم وعن استماع الحقّ (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بتوبتهم وقبول نصح الأنبياء وأوصيائهم (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرّة اخرى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل بعض من الكلّ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) وقد وقع هذا في أمّة محمّد (ص) والمقصود بالآية التّعريض بهم ، في الكافي عن الصّادق (ع) في بيان وجه التّعريض وحسبوا ان لا تكون فتنة قال حيث كان النّبىّ (ص) بين أظهرهم فعموا وصمّوا حيث قبض رسول الله (ص) ثمّ تاب الله عليهم حيث قام أمير المؤمنين (ع) ثمّ عموا وصمّوا الى السّاعة ، ويمكن بيان التّعريض بوجه آخر وهو ان يقال : حسبوا ان لا تكون فتنة حيث تعاهدوا في مكّة فعموا وصمّوا عن دلائل صدق محمّد (ص) ثمّ تاب الله عليهم حيث بايعوا عليّا (ع) بالخلافة ثمّ عموا وصمّوا حيث نقضوا بيعته (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) حيث قالوا بآلهة عيسى (ع) وحصروها فيه امّا بالاتّحاد كما هو زعم بعض أو بالحلول كما هو زعم بعض ، أو بالفناء من نفسه والبقاء بالله وظهور الله فيه كما هو


زعم آخرين ، وبطلان الاتّحاد والحلول لمن ذاق من رحيق التّوحيد لا يحتاج الى مؤنة فانّهما مستلزمان للاثنينيّة والثّانى للحقّ تعالى وهو محال وقد قيل :

حلول واتّحاد اينجا محال است

كه در وحدت دوئى عين ضلال است

وبطلان الثّالث أيضا لا يحتاج الى مؤنة باعتبار الحصر ولمّا كان أتباع ملّة النّصارى تفوّهوا بهذا القول من غير تحقيق وتعمّق وذهبوا الى التّجسّم المتوهّم من ظاهره ، حكم تعالى عليهم بالكفر وهذا كما مضى مذهب طائفة منهم تسمّى باليعقوبيّة ، ومضى انّ محقّقيهم قالوا بانّ فيه جوهرا الهيّا وجوهرا آدميّا وليس هاهنا مقام تفصيل هذا المطلب وتحقيقه (وَقالَ الْمَسِيحُ) الأنسب ان يكون الجملة حالا بتقدير قد ليكون أبلغ في تفضيحهم وليكون احتجاجا عليهم بقوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) يعنى انّى مربوب مثلكم فاعبدوا من هو ربّى كما انّه ربّكم (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) شيئا كائنا ما كان وهو مقول قول عيسى (ع) أو ابتداء كلام من الله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) لانّه أخطأ طريقها وهو التّوحيد (وَمَأْواهُ النَّارُ) لانّ من أخطأ طريق الجنّة سلك طريق النّار لا محالة لعدم الواسطة ولكونه متحرّكا الى جهة من الجهات وخارجا من القوى الى الفعليّات (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بظلمه وبعلّة الحكم فانّ الظّالم كما لا يتصوّر له ولىّ يتولىّ أموره ويربّيه كذلك لا يتصوّر له ناصر ينصره من عذاب الله فانّ النّصير والولىّ هما النّبىّ (ص) والولىّ (ع) وخلفاؤهما ، والظّلم عبارة عن الانصراف والاعراض عنهما وعن التّوحيد ، والمعرض لا يستحقّ القبول لانّه لا إكراه في الدّين ومن لم يكن مقبولا لم يكن له نصرة ولا ولاية ، واكتفى بذكر الأنصار لانّه إذا لم يكن له ناصر لم يكن له ولىّ بطريق اولى ، أو لانّه يستعمل كلّ من النّصير والولىّ في الاعمّ منهما إذا انفرد ، أو هذا كان تعريضا بمن قال بعد ذلك في الائمّة (ع) مثل ما قالوه في المسيح (ع) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) اعلم ، انّ للنّصارى كاليهود وكالمسلمين مذاهب مختلفة في فروعهم وأصولهم ، فمنهم من قال بالأقانيم الثّلاثة ، الأب والابن وروح القدس ، والاقنوم بمعنى الأصل وهؤلاء معظم النّصارى يقولون : انّ الإله ذات واحدة لا كثرة فيه وانّه تشأّن بشؤن ثلاثة بشأنى الابوّة والبنوّة وبشأن روح القدس ، ولا ينفصم وحدته بتشأنّه ويمنعون من القول بانّ الآلهة ثلاثة وبانّ الله ثالث ثلاثة وقيل بالفارسيّة.

در سه آئينه شاهد أزلي

پرتو از روى تابناك افكند

سه نگردد بريشم ار أو را

پرنيان لإخوانى وحرير وپرند

لكنّ الاتباع لعدم تجاوز هم عن المحسوسات والكثرات إذا تفوّهوا بمثل هذه المقالة لا يدركون منها غير الآلهة الثّلاثة ، وانّ الله الّذى هو أب باعتقادهم واحد من الثّلاثة ولا يدركون منها ما يريد منها محقّقوهم من انّه تعالى حقيقة واحدة مقوّمة لكلّ ممكن متجليّة في كلّ مظهر ، واختصاص بعض المظاهر بالمظهريّة انّما هو لشدّة ظهوره تعالى فيه ، وانّ عيسى (ع) وروح القدس لمّا كان كلّ واحد منهما أتمّ مظهر له تعالى وكذا ما سمّى بالأب سمّوهم باسم الأقانيم فردّ الله تعالى عليهم مقالتهم الّتى يلزمها التّحديد والتّشبيه لله تعالى ، وما ورد في الآيات والاخبار من انّه تعالى رابع ثلاثة انّما هو للاشارة الى قيّوميّته تعالى لكلّ الأشياء وظهوره بكلّ مظهر ودخوله في كلّ الأشياء لا بالممازجة ولا كدخول شيء في شيء (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) هو الحقيقة الغيبيّة الظّاهرة في كلّ المظاهر (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) حتّى يقول الاتباع بتقليد المتبوعين بالالهة الثّلاثة فيكفروا من


حيث لا يعلمون (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) اى الّذين قالوا انّ الله هو المسيح والّذين قالوا انّ الله ثالث ثلاثة (عَذابٌ أَلِيمٌ) يعنى انّهم بقولهم على الله ما لا يجوز في حقّه ممتازون بالعذاب الأليم ، وامّا رؤساؤهم الّذين ما قالوا على الله ما لا يجوز في حقّه ولم يكفروا مثل الاتباع من هذه الجهة فلهم عذاب أيضا بانكارهم نبوّة محمّد (ص) وإلقاء كلمة لا يدرك الاتباع المقصود منها (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) بعد ما علموا انّ هذه الكلمة كفر وإغواء للغير (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حال للتّعليل (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) لا اله كما قال الفرقة الاولى ولا واحد الآلهة كما قال الفرقة الثّانية (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) صدقت عن الاعوجاج قولا وفعلا وحالا ، وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه ورسله والدّليل على انّهما ليسا الهين انّهما (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) فيشتركان معكم في اخسّ أحوالكم وهو الاحتياج الى الاكل ، وهو كناية عن الاحتياج الى التخلّى ومن كان محتاجا مبتلى بأخسّ الأحوال لا يصير إلها في ارفع المقام (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) يعنى انظر الى بياننا العجيب لآيات القرآن في بيان حال عيسى (ع) وأمّه مناسبا لفهمهم وشأنهم بحيث لا يمكن لهم إنكاره ، أو انظر الى بياننا لآياتنا الّتى منها عيسى (ع) وأمّه (ع) بحيث يدركه كلّ أحد ولا يبقى له ريب (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) تخليل ثمّ للتّفاوت بين التّعجّبين يعنى انصرافهم عن الحقّ في عيسى (ع) وأمّه (ع) بعد هذا البيان أو بعد ما رأوا منهم وعلموا هذه الحالة الخسيسة أعجب من كلّ عجيب (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) يعنى المسيح (ع) فانّه بعد ما علم احتياجه الى اخسّ الأحوال وعدم مالكيّته لدفع ضرّ تلك الحاجة عن نفسه يعلم انّه لم يكن مالكا للضرّ والنّفع لغيره فلم يكن أهلا لان يعبد والمقصود التّعريض بالامّة في طاعة من لا يدفع ضرّا عن نفسه (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) يعنى والحال انّ سماع الحاجات وقضائها منحصر فيه ليس لغيره (الْعَلِيمُ) والعلم بمقدار الحاجات وكيفيّة دفع المضارّ وجلب المنافع أيضا منحصر فيه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) غلوّا غير الحقّ وهو القول والاعتقاد في الأنبياء (ع) زائدا على مرتبة فهمكم أو زائدا على مرتبتهم هذا للمتبوعين (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) اى من قبلكم باستبدادهم في الرّأى من المبتدعين الماضين أو الحاضرين وهذا للاتباع المقلّدين (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) باستتباعهم ايّاهم في رأيهم (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) السّبيل المستوى الى طرفي الإفراط والتّفريط والتّكرار باعتبار انّ الاوّل الضّلال عن احكام النّبوّة القالبيّة والثّانى الضّلال عن احكام الولاية القلبيّة وهذا تعريض بالامّة في ضلالهم عن احكام محمّد (ص) وأقواله وضلالهم عن ولاية علىّ (ع) واتباعه (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) استيناف واقع موقع التّعليل ، في المجمع عن الباقر (ع): امّا داود (ع) فانّه لعن أهل ايلة لمّا اعتدوا في سبتهم وكان اعتداؤهم في زمانه فقال : اللهمّ البسهم اللّعنة مثل الرّداء على المنكبين ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة ، وامّا عيسى (ع) فانّه لعن الّذين أنزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك فصاروا خنازير (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) فلا تعصوا أنتم ولا تعتدوا واسمعوا يا أمّة محمّد (ص) (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) يعنى لا ينهى بعضهم بعضا أو لا يرعوون


وعن علىّ (ع) لمّا وقع التّقصير في بنى إسرائيل جعل الرّجل يرى أخاه في الّذنب فينهاه فلا ينتهى فلا يمنعه ذلك من ان يكون أكيله وجليسه وشريبه حتّى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ونزل فيهم القرآن حيث يقول جلّ وعزّ : لعن الّذين كفروا (الآية) وفيه دلالة على ذمّ المؤانسة مع أهل المعصية (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) من عدم نهى بعضهم بعضا قولا وفعلا وقلبا ، أو من عدم ارعوائهم عن الشّرّ (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) امّا بيان حال الامّة أو بيان حال أهل الكتاب والتّعريض بالامّة والخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) المخصوص بالّذمّ محذوف اى تولّيهم (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بتقدير اللّام أو الباء أو هو مخصوص (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) بسبب ذلك التّولّى ، عن الباقر (ع) يتولّون الملوك الجبّارين ويزيّنون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) الحاضر اعنى محمّدا (ص) على ان يكون بيان حال الامّة أو نبيّهم على ان يكون بيان حال أهل الكتاب لكنّ الاوّل اولى لافراده (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) يعنى في علىّ (ع) أو مطلقا والمقصود ما انزل في علىّ (ع) (مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) لمجانبة الايمان للكفر والتّولّى يقتضي المجانسة (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الحقّ الّذى هو الايمان.

الجزء السّابع

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) لانّهم لتوغّلهم في الدّنيا وعدم توجّههم الى الآخرة بسبب بعد زمان نبيّهم واندراس شريعته واستبدال احكامه صارت أحوالهم بعيدة عن أحوال المؤمنين لتوجّههم الى الآخرة وتلبّسهم الأحكام الشّرعيّة فلم يبق مجانسة بينهما بوجه من الوجوه ، والعداوة ناشئة من عدم المجانسة كما انّ المحبّة ناشئة من المجانسة (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) وضع الظّاهر موضع المضمر ليكون تصريحا بانّ ملاك عداوة أولئك ومحبّة هؤلاء هو الايمان لا غير (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) لم يقل النّصارى لانّ هذا الاسم لاشتقاقه من النّصرة يدلّ على انّهم أنصار الله ولو كانوا أنصار الله لكانوا تابعي محمّد (ص) كذا قيل ، أو لانّ التّنصّر يكون بالتّدّين بدين عيسى (ع) على شرائطها من البيعة مع خلفائه وأخذ الميثاق منهم وهؤلاء انتحلوا التّنصّر كانتحال التّشيّع لاكثر الشّيعة من غير القائلين بالأئمّة الاثنى عشر ، وامّا اسم اليهود فانّه يطلق عليهم لكونهم من نسل يهود ابن يعقوب أو من اتباع أولاده الّذين فيهم النّبوّة وان كان اتّفق تديّنهم بدين موسى (ع) (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) العلماء الّذين يأمرونهم بأحكام الإنجيل من العقائد والأحكام الفرعية (وَرُهْباناً) الزّهّاد الّذين تركوا الدّنيا واشتغلوا بالعبادة وتحصيل العقبى ، اعلم انّ كلّ شريعة من لدن آدم (ع) كانت مشتملة على السّياسات والعبادات القالبيّة وعلى العبادات والتّهذيبات القلبيّة ولكلّ منهما كان أهل ورؤساء يبيّنها لمن أراد التّوسّل بها واتباع يعمل بها ويسمّى رؤساء كلّ منهما في كلّ ملّة باسم خاصّ كالاحبار والرّهبان في ملّة النّصارى والموبد والهربد في ملّة العجم ، والمجتهد والصّوفى ، أو العالم والعارف ، أو العالم والتّقى في ملّة الإسلام ، والمقصود انّ النّصارى بواسطة عدم بعد زمان نبيّهم وعدم اندراس أحكامهم وعدم انقطاع علمائهم الّذين يأمرونهم بطلب الآخرة قالا وعدم انقطاع مرتاضيهم الّذين يأمرونهم حالا طالبون للآخرة ومجانسون للمؤمنين فهم محبّون لهم لمجانستهم (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن انقياد الحقّ (وَإِذا سَمِعُوا


ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) لانّهم كانوا طالبين للحقّ فأينما وجدوه عرفوه (يَقُولُونَ) انقيادا للحقّ (رَبَّنا آمَنَّا) بما انزل الى الرّسول (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) بحقيّته (وَ) يقولون (ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) بعد معرفة الحقّ وطلبه (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) وقد كنّا طالبين له ووجدناه (وَ) الحال انّا (نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) جنّته أو محضره (مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) بلسان القال والحال أو بلسان القال قرينا بالاعتقاد فانّه عبادة لسانيّة وكمال الايمان بإقرار اللسّان منبئا عن الجنان (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) وقد نقل انّ نزول الآية في النّجاشىّ وبكائه حين قرأ جعفر بن أبى طالب (ع) وقت هجرته الى الحبشة عليه آيا من القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال فالّذين آمنوا وصدّقوا بآياتنا أولئك أصحاب الجنّة والّذين كفروا الى آخرها وهو لبيان حال منافقي الامّة أو للتّعريض بهم فانّ عليّا (ع) أعظم الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة الولويّة على ان يكون النّظر الى من نزلت فيه ، فانّهم كانوا ثلاثة منهم أمير المؤمنين (ع) ولا يكون مرافقة علىّ (ع) في الارتياض الّا لمن كان مثله داخلا في قلبه الايمان سالكا الى الله رفيقا له في الطّريق ، أو بالبيعة العامّة النّبويّة على ان يكون النّظر الى التّعميم وان كان النّزول خاصّا لانّ النّهى عامّ للمسلمين (لا تُحَرِّمُوا) على أنفسكم (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) اعلم ، انّ الإنسان ذو مراتب عديدة بعضها فوق بعض الى ما لا نهاية له ، والتّكاليف الالهيّة الواردة عليه ليست لمرتبة خاصّة منه بل كما عرفت سابقا للمفاهيم الواردة في التّكاليف مصاديق متعدّدة بتعدّد مراتب الإنسان بعضها فوق بعض ، فكلّما ورد في الشّريعة المطهّرة من الألفاظ فهي مقصودة من حيث مفاهيمها العامّة باعتبار جميع مصاديقها بحيث لا يشذّ عنها مصداق من المصاديق فالإنسان بحسب مرتبته النّباتيّة له محلّلات الهيّة ، وبحسب مرتبته الحيوانيّة اخرى ، وبحسب الصّدر اخرى ، وبحسب القلب اخرى ، وبحسب الرّوح اخرى ، والتّحريم الالهىّ في كلّ مرتبة بحسبه ، وكذا تحريم الإنسان على نفسه فالمحلّلات بحسب مرتبته الحيوانيّة والنّباتيّة ما أباح الله له من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمنكوح والمسكن والمنظور ، وبحسب الصّدر ما أباح الله له من الأفعال الاراديّة والأعمال الشّرعيّة والتّدبيرات المعاديّة والمعاشيّة والأخلاق الجميلة والمكاشفات الصّوريّة ، وبحسب القلب ما أباح الله له من الأعمال القلبيّة والواردات الالهيّة والعلوم اللّدنيّة والمشاهدات المعنويّة الكلّيّة ، وهكذا في سائر المراتب ، والطّيّبات من ذلك في كلّ مرتبة ما تستلذّه المدارك المختصّة بتلك المرتبة ، ومطلق المباح في كلّ مرتبة طيّب بالنّسبة الى مباح المرتبة الدّانيّة منه ، وانّ الله تعالى يحبّ ان يؤخذ برخصة كما يحبّ ان يؤخذ بعزائمه ، ولا يحبّ الشّره والاعتداء في رخصه بحيث يؤدّى الى الانتقال الى ما هو حرام محظور بأصل الشّرع ، أو بحيث يؤدّى الى صيرورة المباح حراما بعرض التّجاوز عن حدّ التّرخيص بالإكثار فيه كما لا يحبّ الامتناع عن رخصه ، فمعنى الآية يا ايّها الّذين آمنوا لا تمتنعوا من الرّخص ولا تحرّموا بقسم وشبهة ولا بكسل ونحوه على أنفسكم ما تستلذّه المدارك بحسب كلّ مرتبة وقوّة ممّا أباحه الله لكم ، لانّ الله يحبّ ان يرى عبده مستلذّا بما أباحه له كما يحبّ ان يراه مستلذا بعباداته ومناجاته ، ولا تمتنعوا بالاكتفاء بمستلذّات المرتبة الدّانية عن مستلذّات المرتبة العالية ، فانّه يحبّ ان يرى عبده


مصرّا على طلب مستلذّات المرتبة العالية كما يحبّ ان يراه في هذه الحالة معرضا عن مباحات المرتبة الدّانية مكتفيا بضروريّاتها وراجحاتها ، ولا تعتدوا عمّا أباح الله الى ما حظره أو في المباح الى حدّ الحظر ، والآية اشارة الى التّوسّط بين التّفريط والإفراط في كلّ الأمور من الأفعال والطّاعات والأخلاق والعقائد والسّير الى الله فانّ المطلوب من السّائر الى الله ان يكون واقعا بين افراط الجذب وتفريط السّلوك (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) في كلّ مرتبة (وَاتَّقُوا اللهَ) في الاعتداء عن حدّ الرّخصة الى مرتبة الحظر على ان يكون الفقرتان مطابقتين للففرتين السّابقتين أو في الاعتداء وفي تحريم رخصه على ان يكون متعلّق التّقوى اعمّ من التّحريم والاعتداء (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) توصيفه تعالى بهذا الوصف للتّهييج.

حكاية علىّ (ع) وبلال وعثمان بن مظعون عند قوله (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً)

روى عن الصّادق (ع) انّ هذه الآية نزلت في مولانا أمير المؤمنين (ع) وبلال وعثمان بن مظعون ، فامّا أمير المؤمنين (ع) فحلف ان لا ينام باللّيل ، وامّا بلال فانّه حلف ان لا يفطر بالنّهار أبدا ، ونقل انّه حلف ان لا يناجي ربّه ، وامّا عثمان بن مظعون فانّه حلف ان لا ينكح أبدا ، ومضى عليه مدّة على ما نقل فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة : ما لي أراك متعطّلة؟ ـ فقالت : ولمن اتزيّن؟ ـ فو الله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا ، فانّه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدّنيا ، فلمّا دخل رسول الله (ص) أخبرته عائشة بذلك ، فخرج فنادى الصّلوة جامعة فاجتمع النّاس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطّيّبات انّى أنام باللّيل وانكح وأفطر بالنّهار فمن رغب عن سنّتى فليس منّى ، فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله (ص) فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله آيات الحلف الآتية ، والاشكال اوّلا بانّ أمثال هذه المعاتبات ونسبة التّحريم والاعتداء والتّقوى ولغو الايمان غير مناسبة لمقام علىّ (ع) وثانيا بانّه (ع) امّا كان عالما بأنّ تحريم الحلال ان كان بالاستبداد والرّأى كان من البدع والظّلال ، وان كان بالنّذر وشبهه كما دلّ عليه الخبر كان مرجوحا غير مرضىّ لله تعالى ومع ذلك حرّمه على نفسه ، أو كان جاهلا بذلك ، وكلا الوجهين غير لائق بمقامه (ع) منقوض بقوله تعالى في حقّ رسوله (ص) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) والجواب الحلّىّ لطالبي الآخرة والسّالكين الى الله الّذين بايعوا عليّا (ع) بالولاية وتابعوه بقدم صدق واستشمّوا نفحات نشأته حال سلوكه ان يقال : انّ السّالك الى الله يتمّ سلوكه باستجماعه بين نشأتى الجذب والسّلوك بمعنى توسّطه بين تفريط السّلوك الصّرف وافراط الجذب الصّرف ، فانّه ان كان في نشأة السّلوك فقط جمد طبعه ببرودة السّلوك حتّى يقف عن السّير ، وان كان في نشأة الجذب فقط فنى بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته بحيث لا يبقى منه اثر ولا خبر ، وهو وان كان في روح وراحة لكنّه ناقص كمال النّقص من حيث انّ المطلوب منه حضوره بالعود لدى ربّه مع جنوده وخدمه واتباعه وحشمه وهو طرح الكلّ وتسارع بوحدته ، فالسّالك الى الله تكميله مربوط بان يكون في الجذب والسّلوك منكسرا برودة سلوكه بحرارة جذبه فالجذب والسّلوك كاللّيل والنّهار أو كالصّيف والشّتاء من حيث انّهما يربّيان المواليد بتضادّهما فهما مع كونهما متنازعين متألّفان متوافقان ، إذا علمت ذلك فاعلم ، انّ السّالك إذا وقع في نشأة الجذب وشرب من شراب الشّوق الزّنجبيلىّ سكر وطرب ووجد بحيث لا يبقى في نظره سوى الخدمة للمحبوب وكلّما رآه منافيا للخدمة رآه ثقلا ووبالا على نفسه ومكروها لمولاه فيصمّم في طرحه ويعزم على ترك الاشتغال به وهو من كمال الطّاعة لا انّه


ترك الطّاعة كما يظنّ ، فلا ضير ان يكون أمير المؤمنين (ع) حال سلوكه وقع في تلك النّشأة وحرّم على نفسه كلّما يشغله عن الخدمة لكمال الاهتمام بالطّاعة ، ولمّا لم يكن تحصيل الكمال التامّ الّا بالجمع بين النّشأتين أسقاه محمّد (ص) من شراب السّلوك الكافورىّ وردّه الى نشأة السّلوك لانّه كان مكمّلا مربّيا له ولغيره ولذا قالوا : لا بدّ ان يكون للسّالك شيخ والّا فيوشك ان يقع في الورطات المهلكة ، ولا منقصة في أمثال هذه المعاتبات على الأحباب بل فيها من اللّطف والتّرغيب في الخدمة ما لا يخفى ، وعلىّ (ع) كان عالما بانّ الكمال لا يحصل الّا بالنّشأتين لكنّه يرى حين الجذب انّ كلّما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب ومرجوح عنده فحلف على ترك المرجوح ، أو يقال : انّ عليّا (ع) لمّا كان شريكا للرّسول (ص) في تكميل السّلّاك لقوله : أنت منّى بمنزلة هارون من موسى (ع) ، وكان له شأن الدّلالة ولمحمّد (ص) شأن الإرشاد ، والمرشد بنشأته النّبويّة شأنه تكميل السّالك بحسب نشأة السّلوك وان كان بنشأته الولويّة وشأن الإرشاد شأنه التّكميل بحسب الجذب ، والدّليل بنشأته الولويّة شأنه التّكميل بحسب نشأة الجذب وان كان بنشأته النّبويّة ، وشأن الدّلالة شأن التّكميل بحسب السّلوك فالدّليل بولايته يقرّب السّالك الى الحضور ويعلّمه آداب الحضور وطريق العبوديّة من عدم الالتفات الى ما سوى المعبود وطرح جميع العوائق من طريقه ، والمرشد بنبوّته يبعّده عن الحضور ويقرّبه الى السّلوك ويرغّبه فيه فهما في فعلهما كالنّشأتين متضادّان متوافقان ، فأمير المؤمنين (ع) لمّا رأى بلال وعثمان مستعدّين لنشأة الجذب رغّبهما الى تلك كالنّشأة بطرح المستلذّات وترك المألوفات وشاركهما في ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتمّ جذبهما ، ولمّا مضى مدّة ورأى الرّسول (ص) انّ عودهما الى السّلوك أوفق وأنفع لهما ردّهما الى نشأة السّلوك وعاتبهما بألطف عتاب ، ولا يرد نقص على أمير المؤمنين (ع) ، ولمّا قالوا بعد عتابه (ص) قد حلفنا نزل (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وهو الّذى يؤتى به للتّأكيد في الكلام كما هو عادة العوامّ (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) ما مصدرية وهو الموافق لقوله باللّغو في ايمانكم أو موصولة والمعنى بالّذى عقّدتم الايمان عليه من الأمور المحلوف عليها من حيث الحلف عليها إذا حنثتم حذف لانّه معلوم ولكن جعل الله لكم لرفع المؤاخذة كفّارة يسيرة ترحّما عليكم (فَكَفَّارَتُهُ) اى ما يستر إثمه أو يزيله (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) فاذا اطعمتم عشرة من المساكين الّذين هم عيالي جبرتم نقصان تعظيم اسمى واستحققتم رحمتي (أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) بان لا يملك طعاما وكسوة ورقبة ولا ثمنا لها (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) لانّ الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) بعدم بذلها لكلّ امر بتعظيم اسم الله وبعدم الحنث إذا بذلتموها وبالكفّارة إذا حنثتم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) اى آيات حدوده وشرائعه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة التّعليم والتّسهيل ، اعلم انّ اليمين امّا من المؤكّدات في الكلام وهي المسمّاة باللّغو وامّا مع قصد ونيّة لليمين فهي امّا على ترك برّ أو فعل شرّ ، وهي أيضا لغو لكفّارتها فعل البرّ وترك الشرّ ، أو على فعل برّ وترك شرّ وهي عزم يحفظ على متعلّقها ، وإذا حنثت يكفّر عنها بما ذكر ، وامّا يمين غموس وهي الّتى تقع على منع حقّ امرء مسلم أو أخذ حقّه بغير حقّ وهي الّتى توجب النّار ، وامّا اليمين على دفع الادّعاء الباطل أو احقاق الحقّ فهي مشروعة لقطع الخصومات لكن كراهتها والاهتمام بعدم الإتيان بها تستنبط من الاخبار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا


إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) كلّ ما تقومر به (وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) قد سبقا في اوّل السّورة (رِجْسٌ) قذر تستكرهه العقول (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أكّد الحرمة بأداة الحصر ، واطلاق الرّجس عليها وكونها من عمل الشّيطان والأمر بالاجتناب فانّه يفيد التّأكيد بالنّسبة الى النّهى عن الفعل والمقصود هاهنا النّهى عن الخمر والميسر ، وقرنهما بالانصاب والأزلام مبالغة في حرمتهما ولذلك لم يذكر في بيان الغاية سواهما ، وذكر غايتهما والمفسدة الّتى تترتّب عليها مبالغة اخرى في حرمتهما فقال (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) هذا بحسب الدّنيا (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) وهذا بحسب الآخرة ، وذكر الصّلوة بعد الذّكر من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاشارة الى انّهما صادّان عمّا هو عماد الدّين ليكون أبلغ في المنع (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أداء الأمر بصورة الاستفهام لا الحكم تلطّف بهم يعنى بعد ما ذكر من المفاسد والأوصاف في الخمر والميسر ينبغي لكم ان تنتهوا ان تأمّلتم فيها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في خصوص النّهى عن الاربعة المذكورة أو في كلّ ما أمرتم ونهيتم عنه ، والعمدة في الكلّ وغايته الأمر بالولاية أو في الأمر بالولاية مخصوصا فانّ الاطاعة فيه غاية جميع الطّاعات ومستلزم لجميع الطّاعات (وَاحْذَرُوا) عن عقوبة مخالفتهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عنهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فلا يرد من تولّيكم منقصة عليه وقد بلّغ ما امر بتبليغه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذه الجمل في مقام التّعليل للأمر بالاجتناب والطّاعة ، اعلم انّ للإنسان من اوّل تميزه الى آخر مراتبه تطوّرات ونشأت ، وبحسب كلّ نشأة له اعمال وإرادات وشرور وخيرات وللسّالك الى الله من بدو سلوكه الى آخر مراتبه الغير المتناهية مقامات ومراحل واسفار ومنازل ، والتّقوى تارة تطلق على التّحفّظ عن كلّ ما يضرّ للإنسان في الحال أو في المآل وهو معناها اللّغوىّ ، وبهذا المعنى تكون قبل الإسلام وقبل الايمان ومعهما وبعدهما ، وتارة تطلق على التّحفّظ عمّا يصرفه عن توجّهه الى الايمان ، وبهذا المعنى تكون مع الإسلام وقبل الايمان ومع الايمان لكن في مرتبة الإسلام فانّه ما لم يسلم لم يتصّور له توجّه واهتداء الى الايمان حتّى يتصوّر صارف له عن الايمان وحفظ عن ذلك الصّارف ، والتّقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفّظ النّفس عن جملة المخالفات الشّرعيّة ، وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطّريق الموصل له الى غايته ويدخله في الطّريق الموصلة الى الجحيم ، وبهذا المعنى لا تكون قبل الايمان لانّه لم يكن حينئذ في الطّريق بل تكون مع الايمان الخاصّ الّذى به يكون الوصول الى الطّريق ، والايمان قد يطلق على الإذعان وهو معناه اللّغوى وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامّة وهو الايمان العامّ المسمّى بالإسلام ، وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وهو الايمان الحقيقىّ ، وقد يطلق على شهود ما كان موقنا به وهو الايمان الشّهودىّ وقد سبق في اوّل سورة البقرة تحقيق وتفصيل للايمان ، والتّقوى وصلاح العمل بخروج الإنسان من امر نفسه في العمل ودخوله تحت امر آمر الهىّ ، وفساده بدخوله تحت امر نفسه ، والجناح بمعنى الحرج والإثم ، والطّعم كما يطلق على الاكل والشّرب الظّاهرين يطلق على مطلق الفعل ومطلق الإدراك من الجزئيّة والكلّيّة ففعل القوى المحرّكة أكلها ،


وادراك المدارك الجزئيّة والكلّيّة أكلها ، وكذلك تصرّفات القوى العلّامة لتهيّؤ القوى العمّالة أكلها ، والإنسان من اوّل تميّزه نشأته نشأة الحيوان لا يدرى خيرا الّا ما اقتضته القوى الحيوانيّة ولا شرّا الّا ما استكرهته ولا يتصوّر له التّقوى سوى التّقوى اللّغويّة ، فاذا بلغ مقام المراهقة حصل له في الجملة تميز الخير والشّرّ الانسانيّين وتعلّق به زاجرا الهىّ باطنيّ بحيت يستعدّ لقبول الأمر والنّهى من زاجر بشرىّ ، لكن لا يكلّف لضعفه ويمرّن لوجود الاستعداد والزّاجر الباطنىّ ويتصوّر له التّقوى بالمعنى الاوّل والثّانى في هذا المقام بمقدار تميزه الخير والشّرّ الانسانيّين ، فاذا بلغ أو ان التّكليف وقوى التميز والاستعداد والزّاجر الهىّ تعلّق به التّكليف من الله بواسطة النّذر ، وبقبوله التّكليف بالبيعة والميثاق يحصل له الإسلام ويتصوّر له التّقوى أيضا بالمعنى الاوّل والثّانى ، ولا يتصوّر له التّقوى بالمعنى الثّالث لعدم وصوله الى الطّريق بعد ، وفي هذا المقام يكلّفه المكلّف الالهىّ بالتّكاليف القالبيّة وينبّهه على انّ للإنسان طريقا الى الغيب وله بحسب هذا الطّريق تكاليف أخر ويدلّه على من يريه الطّريق ويكلّفه التّكليفات الاخر اشارة أو تصريحا ، أو يريه بنفسه الطّريق فاذا ساعده التّوفيق وتمسّك بصاحب الطّريق حتّى قبله وكلّفه بالبيعة والميثاق التّكليفات القلبيّة صار مؤمنا بالايمان الخاصّ ومتمسّكا بالطّريق متّقيا بالمعنى الثّالث وسالكا الى الله وله في سلوكه مراحل ومقامات وزكوة وصوم وصلوة وتروك وفناءات. ففي المرتبة الاولى يرى من نفسه الفعل والتّرك وجملة صفاته فاذا ترقّى وطرح بعض ما ليس له ويرى الفعل من الله ولا حول ولا قوّة الّا بالله صار فانيا من فعله باقيا بفعل الحقّ ، فاذا ترقّى وطرح بعضا آخر بحيث لا يرى من نفسه صفة صار فانيا من صفته باقيا بصفة الله ، فاذا ترقّى وطرح الكلّ بحيث لا يرى نفسه في البين صار فانيا من ذاته وفي هذا المقام ان أبقاه الله صار باقيا بعد الفناء ببقاء الله وتمّ له السّلوك وصار جامعا بين الفرق والجمع والوحدة والكثرة ، وجعل العرفاء الشّامخون بحسب الامّهات أسفار السّالك وسيره اربعة وسمّوها أسفارا اربعة : السّفر الاوّل السّير من النّفس الى حدود القلب وهو سيره في الإسلام وعلى غير الطّريق ويسمّونه السّفر من الخلق الى الحقّ ، والثّانى سيره من حدود القلب الى الله وهو سيره في الايمان وعلى الطّريق وبدلالة الشّيخ المرشد وفي هذا السّير يحصل الفناءات الثّلاثة ويسمّونه السّفر من الحقّ في الحقّ الى الحقّ ، والثّالث سيره بعد الفناء في المراتب الالهيّة من غير ذات وشعور بذات ويسمّونه السّفر بالحقّ في الحقّ الى الحقّ ، والرّابع سيره بالحقّ في الخلق بعد صحوه وبقائه بالله ويسمّونه السّفر بالحقّ في الخلق ، إذا علمت ذلك فنقول : معنى الآية انّه ليس على الّذين بايعوا بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهره وأسلموا بقبول الأحكام القالبيّة وتوجّهوا من ديار الإسلام الّتى هي صدورهم الى ديار الايمان الّتى هي قلوبهم وعملوا الأعمال الّتى أخذوها من صاحب إسلامهم جناح فيما فعلوا وحصّلوا من الأفعال والعلوم ، ولمّا كان المراد بالتّقوى في لسان الشّارع هو المعنى الثّانى والثّالث دون الاوّل لم يقل تعالى شأنه : ليس على الّذين اتّقوا وآمنوا في تلك المرتبة واقتصر على الايمان والعمل الصّالح ، لكن نفى الجناح بشرط ان اتّقوا صوارفهم عن التّوجّه الى الايمان والترحّل الى السّفر الثّانى والوصول الى الطّريق ، وجملة المخالفات الشّرعيّة صوارفه عن هذا التّوجّه ، وآمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة وعملوا الصّالحات الّتى أخذوها من صاحب الطّريق ثمّ اتّقوا نسبة الأفعال والصّفات الى أنفسهم وآمنوا شهودا بما آمنوا به غيابا ، وفي هذا المقام يقع السّالك وفي ورطات الحلول والاتّحاد والإلحاد وسائر أنواع الزّندقة من الثّنويّة وعبادة الشّيطان والرّياضة بخلاف الشّرائع الالهيّة ومغلطة الأرواح الخبيثة بالأرواح الطّيّبة فانّه مقام تحته مراتب غير متناهية وورطات غير محصورة وأكثر ما فشا في القلندريّة من العقائد والأعمال نشأ من هذا المقام ، والسّالك في هذه المرتبة لا يرى صفة ولا فعلا من نفسه ولذلك


أسقط العمل الصّالح ولم يذكره ثمّ اتّقوا من رؤية ذواتهم وهذا هو الفناء التامّ والفناء الذّاتيّ ، وفي هذا المقام لا يكون لهم ذات بعد التّقوى حتّى يتصوّر لهم ايمان أو عمل ، والسّالك في هذا السّفر لا نهاية لسيره ولا تعيّن لوجوده ولا نفسيّة له ويظهر منه الشّطحيّات الّتى لا تصحّ من غيره كما تظهر منه في المقام السّابق أيضا وكما لا يرى السّالك في هذا المقام لنفسه عينا ولا أثرا لا يرى لغيره أيضا عينا ولا أثرا ، ومن هذا المقام ومن سابقه نشأت الوحدة الممنوعة وما يترتّب عليها من العقائد الباطلة والأعمال الكاسدة فان أدركته العناية وأفاق من فنائه وصار باقيا ببقاء الله صار محسنا بحسب الّذات والصّفات والأفعال ، ولذلك قال تعالى بعد ذكر التّقوى وأحسنوا وأسقط الايمان والعمل جميعا ، لانّه بعد فنائه الذّاتىّ وبقائه بالله صار ذاته وصفته وفعله حسنا وإحسانا حقيقيّا ، وامّا قبل ذلك فانّه لا يخلو من شوب سوئة واسائة بقدر بقاء نسبة الوجود الى نفسه قبل فنائه ، وأيضا قبل الفناء بقدر نسبة الوجود الى نفسه يكون مبغوضا لا محبوبا على الإطلاق وبعد الفناء وقبل البقاء بالله لا موضوع له حتّى يحكم عليه بالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، وبعد البقاء بالله يصير محبوبا على الإطلاق ولذلك قال : والله يحبّ المحسنين ، في آخر الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بقبول الدّعوة الظّاهرة اى أسلموا (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) يعنى في إحرامكم قيل : نزلت في غزوة الحديبية جمع الله عليهم الصّيد ، وعن الصّادق (ع) حشر عليهم الصّيد في كلّ مكان حتّى دنا منهم (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) بترك الصّيد مع سهولته بمحض النّهى (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) الابتلاء والنّهى (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عن الصّادق (ع) إذا أحرمت فاتّق قتل الدّوابّ كلّها الّا الأفعى والعقرب والفأرة ، وذكر الوجه لكلّ وتفصيل ذلك موكول الى الفقه ، والحرم جمع الحرام بمعنى المحرم أو جمع الحرم بكسر الحاء وسكون الرّاء أو جمع الحريم بمعنى المحرم بالحجّ أو العمرة وبمعنى الدّاخل في الحرم وكلا الوجهين صحيح لفظا ومعنى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) في اخبار كثيرة انّ المراد ذو عدل وهو العدل الالهىّ من الرّسول (ص) والامام وتثنية ذوا عدل خطأ من الكتّاب ولفظ الكتاب ذو عدل بدون الالف ، ولمّا لم يرخّص في الشّريعة الالهيّة لشيء من القياس كان هذه الكلمة ذا عدل بالافراد وكان ذا عدل مختصّا بالحاكم الالهىّ حتّى يسدّ باب القياس بالكلّيّة ، وان لم يكن كذلك جاز لمجوّز القياس التّمسّك به في جواز قياسه (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) كيفيّة بلوغه الكعبة موكولة الى الفقه (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) كما فصّل في الفقه (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) وثقل هتكه لحرمة الحرم (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) على زمان الحكم بحرمة قتل الصّيد (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) عن الصّادق (ع) في محرم أصاب صيدا؟ ـ قال : عليه الكفّارة ، قيل فان أصاب آخر؟ ـ قال : فان أصاب آخر فليس عليه كفّارة وهو ممّن قال الله تعالى: (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ) ، وفي معناه اخبار أخر ، وعنه إذا أصاب المحرم الصّيد خطأ فعليه الكفّارة فان أصاب ثانية خطأ فعليه الكفّارة أبدا إذا كان خطأ ، فان اصابه متعمّدا كان عليه الكفّارة ، فان اصابه ثانية متعمّدا فهو ممّن ينتقم الله منه ولم يكن عليه الكفّارة ، وعلى هذا فمعنى عفا الله عمّا سلف عفا عن الدّفعة الاولى السّابقة على الثّانية (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) مطلقا حال الإحرام وغيره والضّمير في طعامه للصّيد أو للبحر (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)


في مخالفة أمره ونهيه لانّ حشركم يكون اليه (جَعَلَ اللهُ) جملة مستأنفة في مقام التّعليل لتحريم صيد البرّحين الإحرام لزيارة البيت أو حين دخول الحرم الّذى هو حريم البيت ، وجعل بمعنى صيّر أو بمعنى خلق (الْكَعْبَةَ) سمّى الكعبة كعبة لتكعّبه والعرب تسمّى كلّ مربّع ونأت كعبا وكعبة (الْبَيْتَ الْحَرامَ) مفعول ثان أو بدل من الكعبة والتّوصيف بالحرام لحرمة هتكه بأخذ الصّيد من حواليه واقتصاص الملتجى الى حريمه الّذى هو الحرم (قِياماً لِلنَّاسِ) مفعول ثان أو حال من قام إذا اعتدل اى جعلها سبب اعتدال للنّاس أو جعلها معتدلة لانتفاع النّاس ، أو من قام المرأة إذا قام بشأنها وكفى أمرها والمعنى جعلها كافية للنّاس أو بمعنى القوام الّذى هو ما يعاش به أو بمعنى ملاك الأمر وعماده يعنى جعلها عماد جملة الأمور للنّاس في معادهم ومعاشهم (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) اى جنس الشّهر الحرام وافراده اربعة ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب أو الشّهر الحرام المعهود اى شهر الحجّ وهو عطف على الكعبة سواء قدّر توصيفه بكونه قياما للنّاس أو لم يقدر (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) اى ذوات القلائد أو القلائد أنفسها وقد مضى ذكرها في اوّل السّورة ، اعلم ، انّ جعل كعبة القلب بيت الله الحرام وسبب اعتدال للنّاس في العالم الصّغير وكافية لأمورهم وما به تعيشهم وملاك أمرهم وعمادهم واضح وكذلك كون الشّهر الحرام الّذى هو الصّدر وهدى القوى وقلائدها أو ذوات القلائد منها ، وكون صاحب القلب وصاحب الصّدر والطّالبين للوصول إليهما قياما للنّاس لا خفاء فيه ، وقد مضى في اوّل السّورة اشارة الى التّأويل فيها وعند قوله : من دخله كان آمنا في سورة آل عمران وكون كعبة الأحجار قياما للنّاس يظهر ممّا سبق منّا من انّها ظهور القلب ويجرى فيها كلّ ما يجرى في القلب على انّها يربح فيها تاجروها ويرزق ساكنوها ويؤمن ملتجئوها ويخلّف نفقات زائريها ويستجاب دعاء الدّاعين فيها لمعاشهم ومعادهم ، وبقاء أهل الأرض تماما ببقائها فيهم وزيارة بعضهم لها كما أشير اليه في الخبر ، وكون الشّهر الحرام قياما لما سبق من انّه مظهر الصّدر ومظهر صاحب الصّدر وكلّما يجرى فيه يجرى فيه على انّه شهر فراغة عن القتال وشهر اشتغال بمرمّة المعاش والمعاد ، وكون الهدى والقلائد قياما للنّاس لانّهما مظاهر لطالبي العلم وهم بركات لأهل الأرض على انّه ينتفع بايعوها بثمنها وأكلوها بلحومها واهبها (ذلِكَ) يعنى جعل الكعبة الّتى هي في بلد خال من الزّراعات وأسباب التّجارات من سائر منافع البرّ والبحر وخال نواحيه القريبة والبعيدة من الزّراعات والتّجارات سبب تعيّش النّاس وأرباحهم الدّنيويّة والمنافع الغير المترقّبة وهو مبتدء خبره قوله تعالى (لِتَعْلَمُوا) بذلك (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) من الأسباب الغيبيّة الرّوحانيّة والأسباب السّماويّة العلويّة البعيدة (وَ) يعلم (ما فِي الْأَرْضِ) من الأسباب الطّبيعيّة الحسّيّة القريبة لانّكم بعد ما رأيتم ارتزاق أهل هذا البلد الخالي من كلّ ما ينتفع به مع انتفاعهم وأرباحهم الكثيرة ، علمتم انّه ليس الّا بتسبيبات الهيّة من دون استقلال الأسباب الطّبيعيّة ، بخلاف ما إذا كان الكعبة في البلاد المعمورة الكثيرة الزّراعات والتّجارات فانّه لا يعلم حينئذ انّ أرزاق أهلها بأسباب الهيّة أو أسباب طبيعيّة ، بل يعتقد انّها بأسباب طبيعيّة كما عليه أصحاب الحسّ والطّبيعيّون والدّهريّون ، إذا علمتم انّ أرزاق الخلق وأرباحهم ليست الّا بأسباب الهيّة علمتم انّه تعالى يعلم جميع الأسباب القريبة والبعيدة والرّوحانيّة والجسمانيّة والعلويّة والسّفليّة وانّه تعالى يقدر على توجيه الأسباب نحو هذا المسبّب ، ولم يقل لتعلموا انّ الله يقدر لانّ القدرة سبب قريب من المسبّب بخلاف العلم فكأنّها تستفاد من حصول المسبّب (وَ) لتعلموا (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)


لانّ من علم الأسباب الخفيّة الرّوحانيّة والجليّة الجسمانيّة وتوجيه تلك الأسباب نحو مسبّب بعيد الحصول كان عالما بكلّ شيء من الجليل والحقير وهو تأكيد وتعميم بعد اطلاق وتخصيص (اعْلَمُوا) بعد ما ذكر شمول علمه لكلّ شيء اقتضى المقام ترغيب المنحرفين عن علىّ (ع) الى التّوبة والرّجوع اليه بسبب شمول غفرانه ورحمته وترهيب المنحرفين عنه بشدّة عقابه واطّلاعه على سرائرهم فقال إذا علمتم انّه بكلّ شيء عليم من الإعلان والأسرار والضّمائر فاعلموا (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن تهاون في حرمات الله وأضمر في حقّ علىّ (ع) خلاف ما قلت لهم (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر زلّات من تهاون في الحرمات وزلّات من خالف عليّا (ع) إذا تاب وعاد الى ما تهاون به والى علىّ (ع) (رَحِيمٌ) يتفضّل عليه بسبب رحمته (ما عَلَى الرَّسُولِ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : اما يقدر الرّسول (ص) الّذى بين أظهرنا على دفع العقاب؟ أو قيل : اما يقدر الرّسول (ص) على ان يحملنا على الطّاعة واستحقاق الرّحمة فقال : ما على الرّسول (إِلَّا الْبَلاغُ) لا الحفظ من العقاب ولا الحمل على الطّاعة وقد بلّغ ما كن عليه تبليغه وأعظمها وأشرفها وأساسها الولاية وقد بلّغها على رؤس الاشهاد في محضر نحو من سبعين ألفا (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) من الأقوال والأفعال من الطّاعة والمخالفة وتولّى علىّ (ع) والتولّى عنه (وَما تَكْتُمُونَ) من مكمونات نفوسكم الّتى لا تعلمونها ولا تستشعرون بها ومن عقائدكم ونيّاتكم وعزماتكم الّتى لا يعلمها غير كم ، ومن أقوالكم وأفعالكم الّتى تخفونها عن إنسان آخر أو تخفونها عن غير رفقائكم فاحذروا ان تقولوا أو تفعلوا أو تضمروا خلاف ما قال لكم محمّد (ص) في امر دينكم ، أو ما قاله في حقّ علىّ (ع) (قُلْ) يا محمّد (ص) لامّتك (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) يعنى ذكّرهم بهذه الكبرى الكلّيّة البديهيّة حتّى يكونوا على ذكر منها وعلى الحذر من الخبيث والرّغبة في الطّيّب حين عراهم خبيث أو طيّب من الأعمال والأخلاق والأوصاف والحيوان والإنسان بان يقولوا هذا خبيث أو طيّب وكلّ خبيث مكروه وكلّ طيّب مرغوب فيه ، والمنظور هو المقصود من كلّ مقصود وهو ولاية علىّ (ع) وولاية أعدائه فانّ طيبوبة علىّ (ع) لا ينكره أحد (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) كلام من الله والخطاب لمحمّد (ص) يعنى يا محمّد (ص) قل لهم لا يستويان لو لم يعجبك ولو أعجبك (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أو جزء مفعول للقول والخطاب حينئذ لغير معيّن يعنى قل لهم لا يستويان ولو أعجبكم كثرة الخبيث فانّ السّنخيّة الغالبة في وجود الأكثر مع الخبيث تقتضي اتّباع الخبيث وكثرته ، وعدم السّنخيّة بين الخلق والطّيّب يقتضي عدم اتّباعه وكون القلّة في جانبه «ف» لا تنظروا الى الكثرة ولا تغفلوا عن الطّيبوبة و (فَاتَّقُوا اللهَ) في ترك الطّيّب واتّخاذ الخبيث (يا أُولِي الْأَلْبابِ) فانّكم المخاطبون المعتنى بكم لا غيركم فانّهم ليس لهم تميز الطّيّب من الخبيث حتّى يستحقّوا الخطاب بترك الخبيث (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعنى ان تسألوا لا محالة عنها فحين ينزّل القرآن نظهره عليكم فقوله حين ينزّل القرآن متعلّق بتبد ، عن أمير المؤمنين (ع) خطب رسول الله (ص) فقال : انّ الله كتب عليكم الحجّ فقال عكاشة بن محصن وروى سراقة بن مالك : أفي كلّ عام يا رسول الله (ص) فاعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا فقال رسول الله : ويحك وما يؤمنك ان أقول : نعم والله لو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم كفرتم فاتركوني ما تركتم


فانّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، فالمراد بالسّؤال عن أشياء ان تبدلكم تسؤكم كثرة السّؤال والمداقّة فيما كلّفوا به وقد ورد ، انّ بنى إسرائيل شدّدوا على أنفسهم بكثرة السّؤال والمداقّة عن البقرة الّتى أمروا بذبحها فشدّد الله عليهم ، وروى انّ صفيّة بنت عبد المطّلب مات ابن لها فأقبلت فقال عمر غطّى قرطك فانّ قرابتك من رسول الله (ص) لا تنفعك شيئا فقالت : هل رأيت قرطا يا ابن اللّخناء ، ثمّ دخلت على رسول الله (ص) وبكت وشكت فخرج رسول الله (ص) فنادى : الصّلوة جامعة فاجتمع النّاس ، فقال : ما بال أقوام يزعمون انّ قرابتي لا تنفع لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في خارجكم ، لا يسألني اليوم أحد من أبوه الّا أخبرته ، فقام اليه رجل فقال من ابى يا رسول الله؟ ـ فقال : أبوك غير الّذى تدعى له ، أبوك فلان بن فلان ، فقام آخر فقال : من ابى يا رسول الله؟ ـ قال : أبوك الّذى تدعى له ثمّ قال رسول الله (ص) ما بال الّذى يزعم انّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه ، فقام اليه عمر فقال له أعوذ بالله يا رسول الله (ص) من غضب الله وغضب رسول الله اعف عنّى عفا الله عنك ، فأنزل الله الآية وعلى هذا فالمعنى لا تسألوا عن أشياء سترها الله عليكم من انسابكم ان تبدلكم تسؤكم ، ويمكن التّعميم لكلّ ما كان ظهوره سبب الاساءة من التّكاليف والأنساب والأخلاق والأوصاف والأعمال من السّائل ومن غيره (عَفَا اللهُ عَنْها) صفة اخرى لاشياء اى لا تسألوا عن أشياء تركها الله ولم يبيّنها لكم أو استيناف لإظهار العفو عن المسئلة الّتى سبقت (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) اى الأشياء الّتى في ظهورها الاساءة لكم (مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) حيث كرهوها فكفروا بها ولم يقبلوها أو كفروا برسلهم (ع) بسببها (ما جَعَلَ اللهُ) استيناف لبيان حال الكفّار في سننهم الرّديّة يعنى ما شرع الله وما سنّ (مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) عن الصّادق (ع) انّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت النّاقة ولدين في بطن واحد قالوا وصلت فلا يستحلّون ذبحها ولا أكلها ، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة ولا يستحلّون ظهرها ولا أكلها ، والحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلّونه وروى انّ البحيرة النّاقة إذا نتجت خمسة ابطن فان كان الخامس ذكرا نحروها فأكله الرّجال والنّساء وان كان الخامس أنثى بحروا اذنها اى شقّوها وكانت حراما على النّساء ، فأنزل الله عزوجل انّه لم يحرّم شيئا من ذلك وذكر غير ذلك في تفسيرها (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بنسبة التّحريم اليه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) يعنى انّ الاتباع المقلّدين لا يعقلون شيئا من الصحّة والفساد ولا من الافتراء وغيره حتّى يتنبّهوا انّ هذا افتراء على الله فلا يقلّدوهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) من حدود الشّرع (قالُوا) اكتفاء بما اعتادوه وقلّدوه من غير تعقّل (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعنى لا حجّة لهم سوى فعل آبائهم وهو افضح من الاسناد الى علمائهم (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) عليكم اسم فعل بمعنى الزموا وقرئ برفع أنفسكم فهو ظرف خبره والمعنى الزموا أنفسكم لا تتجاوزوها الى غيركم ما لم تصلحوها ، فانّ الاشتغال بالغير قبل إصلاح النّفس سفاهة ويصير سببا لفساد أخر مقتبس من الغير وسببا لاستحكام الفساد الحاصل فيصير ظلمات النّفس مستحكمة متراكمة ، فما دام الإنسان يكون مبتلى في نفسه بالفساد والمرض ينبغي ان يطلب من يطّلع على امراضه ومفاسده فاذا وجده فليتعلّم منه ما يصلح به فساده ويعالج به امراضه ، فاذا تعلّم ذلك فينبغي ان يشتغل عن كلّ شيء بنفسه ولا يفارق إصلاحها


ما بقي الفساد فيها ، وذلك الشّخص امّا نبىّ فيكون آمنوا بمعنى بايعوا على يد محمّد (ص) أو ولىّ فيكون بمعنى بايعوا على يد علىّ (ع) ، ويحتمل ان يكون اعمّ من النّبىّ (ص) والولىّ (ع) فيكون آمنوا أيضا عامّا ، ولمّا علمت سابقا انّ الولاية هي حقيقة كلّ ذي حقيقة ونفسيّة كلّ ذي نفس وهذا المعنى يظهر لمن آمن بعلىّ (ع) واتّصل بملكوت وليّه ، فانّه يرى انّ ملكوت وليّه مع انّها انزل مراتب الولاية كانت حقيقته ونفسه وانّه كان مظهرا لها تيسّر لك تفسيرها بان تقول : عليكم إمامكم ويكون آمنوا بمعنى آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة ، فانّ البيعة العامّة لا تجعل البائع متوجّها الى قلبه ونفسه لعدم اتّصالها بالقلب وما لم يتوجّه الى قلبه لا يتيسّر له الحضور عند إمامه ، وما لم يمكن له الحضور لم يؤمر بالملازمة ، وبالملازمة يحصل له جميع الخيرات الدّنيويّة والاخرويّة ، ولذا أمروا بتلك الملازمة والاعراض عن الكلّ ، وما روى في المجمع يشير الى هذا المعنى ، فانّه روى فيه انّ أبا تغلبة سأل رسول الله (ص) عن هذه الآية فقال : ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحّا مطاعا وهوى متّبعا وإعجاب كلّ ذي رأى برأيه فعليك بخويّصّة نفسك وذر عوامّهم ، فانّه ليس المراد بهذه الخصوصيّة خصوصيّة النّسب الصّوريّة بل النّسب الرّوحانيّة ولا شكّ انّ إمامه اخصّ هؤلاء الخواصّ (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) يعنى إذا لم تهتدوا يضرّكم ضلال من ضلّ لسنخيّتكم لهم واقتباسكم الفساد منهم (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فمن يلازم امامه أو نفسه فله جزاء ومن يراقب النّاس وينظر الى مساويهم فله جزاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا فانّ الحكم الآتي من احكام الإسلام (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) من حيث التحمّل (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) اى شهادة اثنين (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ايّها المسلمون (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الكتاب (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) قاربكم الأجل ولم تجدوا منكم من يتحمّل الشّهادة (تَحْبِسُونَهُما) وقت الأداء اى تقفونهما (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) لتغليظ اليمين بشرف الوقت ولخوفهما من الافتضاح بين النّاس ان حرّفوا لاجتماع النّاس حين الصّلوة (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) اى الآخران من غيركم وذلك الحبس والحلف (إِنِ ارْتَبْتُمْ) والّا فلا ، وهو جملة معترضة بين القسم والمقسم عليه ويجوز ان تكون من قول الحالفين ومن قبيل ترادف القسم والشّرط وان يكون الجواب للقسم لتقدّمه ولذلك لم يجزم (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) عرضا من الدّنيا (وَلَوْ كانَ) المقسم له (ذا قُرْبى) لنا (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ) اى اطّلع (عَلى أَنَّهُمَا) اى الشّاهدين من غيركم (اسْتَحَقَّا) استوجبا (إِثْماً) بتحريف وخيانة (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) بأمر الورثة الّذين هم المشهود عليهم وقوله تعالى (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) بيان لهذه المعنى اى من جانب الّذين جنى باستحقاق الإثم عليهم الاحقّان بالشّهادة لكونهما اوّل من شهدا (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذلِكَ) التّحليف الغليظ وقت احتمال الافتضاح بإقامة آخرين مقامهما (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) اى ترجع ايمان على شهود الورثة وتقبل ايمان شهود الورثة وتكذّب


ايمانهم فيفتضحوا بتكذيب ايمانهم ، ونسبة الخيانة إليهم وجمع الضّمائر ليعمّ الشّهود وقد ذكر في تفسير الآية ونزولها اخبار في الصّافى وغيره (وَاتَّقُوا اللهَ) ايّها الشّهود في تحريف الشّهادة والمشهود عليهم في ردّها بلا خيانة (وَاسْمَعُوا) ما توعظون به سمع اجابة وقبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين من امر الله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف لقوله لا يهدى أو لا ذكر أو ذكّر مقدّر أو المقصود التّعريض بمن لم يجب محمّدا (ص) في ولاية أمير المؤمنين (ع) (فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) في دعوتكم العامّة أو في دعوتكم الخاصّة الى خلفائكم وفسّرت في الخبرية ، فعن الباقر (ع) انّ لهذا تأويلا يقول : ماذا أجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتموهم على أممكم فيقولون لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا وقوله تعالى (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يشير الى هذا لانّ نفى العلم بعد رحلتهم صحيح وفي زمان حيوتهم علموا من أجاب ومن لم يجب وكيف أجابوا (إِذْ قالَ اللهُ) اذكر أو ذكّر أو هو بدل من يوم يجمع الله (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) يعنى في جميع أحوالك (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) اى النّبوّة (وَالْحِكْمَةَ) اى الولاية (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) صورتي النّبوّة (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) تكرار بإذني لرفع توهّم الآلهة فانّ ذلك ليس الّا من جهة الالهيّة (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ) وحي الهام لا وحي إرسال (إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) لمّا كان المقصود تنبيه الامّة على ما لا ينبغي لهم من مطالبة الآيات من الرّسول (ص) أو من أمير المؤمنين (ع) وكان ما ذكر سابقا من نعم عيسى (ع) توطئة لهذا المقصد واشارة الى انّهم محض هوى النّفس سألوا المائدة والّا كان فيما أنعم الله به على عيسى (ع) غنية عن غيرها من الآيات غيّر الأسلوب وأتى به من غير عطف حتّى لا يتوهّم انّه كسابقه من النّعم وقد سألوا رسول الله (ص) الآيات وبعد ما أتاهم بها كفروا وسألوا عليّا (ع) وكفروا بها بعد الإتيان بها كما في التّواريخ والاخبار (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) كأنّ السّؤال كان قبل ان يعرفوا معرفة تامّة أو المقصود الاستطاعة المطابقة للحكمة وقرئ هل تستطيع بالخطاب اى هل تستطيع سؤال ربّك (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) المائدة الخوان عليه الطّعام من ماد إذا تحرّك أو من مادة إذا أعطاه (قالَ اتَّقُوا اللهَ) من الاقتراح على الله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) به وبقدرته (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) تمهيد عذر للّسؤال (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) لا كطلب إبراهيم (ع) اطمينان القلب بقرينة (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في ادّعاء النّبوّة من قادر بليغ القدرة أو كان مرادهم الاطمينان بالشّهود مثل إبراهيم (ع) بعد اليقين العلمىّ ويكون المقصود من قوله ونعلم ان قد صدقتنا العلم الشّهودىّ (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) للغياب منّا أو من الحاضرين للأكل (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا) تكرار النّداء حين الدّعاء وظيفة الدّعاة (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً) اى يكون يوم نزولها يوم


عيد ، أو تكون لنا سرورا لانّ السّرور يعود وقتا بعد وقت (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل تفصيلىّ يعنى للحاضرين ولمن لم يأت الى يوم القيامة أو لجميعنا (وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) من وسائط الرّزق من افراد الإنسان ومن الأسباب العلويّة والارضيّة ومن القوى النّباتيّة الّتى هي أقرب الوسائط للرّزق الصورىّ ومن افراد الإنسان من الأعداء والأحباب الّذين كانوا أسباب كمال للعباد بالقهر واللّطف ومن معلّمى الحرف والصّناعات ومن مكمّلى النّفوس بالتّعليم الحقيقي الرّوحانىّ ومن المدارك الظّاهرة والباطنة الحيوانيّة والانسانيّة للرّزق الحقيقىّ الرّوحانىّ (قالَ اللهُ) مجيبا لهم (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) نزول الآية وكيفيّة المائدة وكيفيّة كلهم مذكورة في المفصّلات باختلاف في الرّوايات من أراد فليرجع إليها (وَإِذْ قالَ اللهُ) أتى بالماضي لتحقّق وقوعه أو لانّه كان بالنّسبة الى الرّسول المخاطب ماضيا بحسب المقام (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) الخطاب لعيسى (ع) والمقصود تقريع أمّته وتبكيتهم والمنظور التّعريض بامّة محمّد (ص) الّذين قالوا بالهيّة الائمّة (مِنْ دُونِ اللهِ) والسّرّ في هذا التّقييد في كثير من أمثال هذه الآية انّ جعل الخلفاء مظاهر الهيّته والهة بالهيّته كما ورد عنهم في قوله : (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) انّه كناية عن تسلّط خلفائه لا ضير فيه ولا عقاب على قائليه وجعلهم أو غيرهم الهة مقابلة لله ومغايرة له كفر باعث للعتاب على قائليه (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي) ما ينبغي لي والتّعبير بالمضارع للاشارة الى انّه بعد كونه على أشرف الأحوال لا يليق بحاله التّفوّه بمثل هذا المقال فكيف قال وهو في اخسّ الأحوال ، كأنّه قال لا يليق بحالي وإقراري بعبوديّتك والخلوص في طاعتك في هذه الحالة (أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) فكيف قلته في اخسّ الأحوال (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) لانّك (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) هو من باب المشاكلة أو المعنى ما في ذاتك أو هذه الكلمة كناية عمّا يخفى الإنسان عن الغير من غير ملاحظة نفس وروح (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تعليل للجملتين بمنطوقه ومفهومه (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ان تفسيريّة بمنزلة اى تفسير للقول بجعل القول بمعنى الأمر أو تفسير لامرتنى بتقدير امر من القول بعد ان ، والتّقدير ما قلت لهم الّا ما أمرتني به ان قل اعبدوا الله وحينئذ لا حاجة الى تكلّف في ذكر ربّى وربّكم بعد اعبدوا الله ، أو مصدريّة بدلا أو بيانا لما والقول بمعنى الأمر أو للضّمير المجرور ولا يلزم في البدل جواز طرح المبدل منه حتّى يقال : يلزم منه بقاء الموصول بدون العائد ، أو ان تفسيريّة تفسير لامرتنى من دون تقدير ويكون ذكر ربّى وربّكم حكاية لما قال لهم من عند نفسه منضمّا الى المحكيّ اشعارا بانّه حين أمرهم بالعبادة اقرّ لنفسه بالعبوديّة وانّ إقرارهم بالرّبوبيّة له كان لاتّباع الهوى لا بشبهة نشأت من قوله ويجوز ان يكون خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) مراقبا لهم على أعمالهم (ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تعميم بعد تخصيص دفعا لتوهّم التّخصيص (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) تفعل بهم ما تشاء شروع في الشّفاعة بأحسن وجه (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) لا مانع لك


من المغفرة (الْحَكِيمُ) تعلم بلطف علمك استحقاقهم لها وقدر استحقاقهم (قالَ اللهُ) انّى اغفر للصّادق منهم في قوله غير متجاوز من حدّه وحدّ عيسى (ع) لانّ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وفي تقدّم رضا العبد على رضا الله أو رضا الله على رضا العبد ما مرّ عند قوله (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وعند قوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) من سورة البقرة (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : كان القرآن ينسخ بعضها بعضا وانّما يؤخذ من امر رسول الله (ص) بآخره وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء ، ولقد نزلت عليه وهو على بغلة شهباء وثقل عليه الوحي حتّى وقفت وتدلّى بطنها حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض وأغمى على رسول الله (ص) حتّى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب ، ثمّ رفع ذلك عن رسول الله (ص) فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول الله (ص) وعملنا. وعن الصّادق (ع): نزلت المائدة كملا ونزلت معها سبعون الف الف ملك.


سورة الانعام

مكّيّة غير ستّ آيات ؛ ثلاث منها من قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الى آخر ثلاث

آيات) وثلاث من قوله : (قُلْ تَعالَوْا) (الى آخر ثلاث آيات) أو غير الثّلاث الاخيرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) قد مضى (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الخلق قد يطلق على مطلق الإيجاد سواء كان مسبوقا بمدّة ومادّة وهو الخلق بالمعنى الاخصّ كالمواليد أو مسبوقا بمادّة دون المدّة وهو الاختراع كالأفلاك وما في جوفها من العناصر ، أو لم يكن مسبوقا بشيء منهما مع التعلّق بالمادّة وهو الإنشاء كالنّفوس ، أو بدونه وهو الإبداع كالعقول ، والجعل المتعدّى لواحد بمعنى الخلق لكنّ الأغلب استعماله فيما له تعلّق بمحلّ أو شيء آخر عرضا كان أو جوهرا كقوله (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لما فيه من شوب معنى التّصيير ، ولمّا كان النّور والظّلمة العرضيّان متعلّقين بالمحلّ ذكر الخلق بالمعنى الاعمّ في إيجاد السّماوات والأرض والجعل في إيجاد النّور والظّلمة ، والسّماء اسم لما له ارتفاع وتأثير فيما دونه والأفلاك الطّبيعيّة أحد مصاديقها ، فانّ العقول الطّوليّة يعنى الملائكة المقرّبين والّذين هم قيام لا ينظرون والعقول العرضيّة يعنى الملائكة الصّافات صفّا والنّفوس الكلّيّة المدبّرات امرا والنّفوس الجزئيّة الرّكّع والسّجّد والأشباح المثاليّة ذوات الاجنحة كلّها سماوات ، والأرض اسم لما فيه تسفّل وقبول عن الغير فالأرض الغبراء وعالم الطّبع بسمائها وأرضها والأشباح الظّلمانيّة يعنى عالم الجنّة والشّياطين بل الأشباح النّوريّة كلّها ارض بالنّسبة الى عالم الأرواح لتسفّلها وتأثّرها عنه ، والمادّة الاولى المسمّاة بالهيولى والثّانية المسمّاة بالجسم والثّالثة المسمّاة بالعنصر والرّابعة المسمّاة بالجماد والخامسة المسمّاة بالنّبات والسّادسة المسمّاة بالحيوان والسّابعة المسمّاة بالبشر كلّها أراض بالنّسبة الى الصّور والنّفوس وكلّها طبقات متراكمة ودركات متلاحمة في وجود الإنسان ، والأرض الغبراء ارض بالنّسبة الى الأفلاك ودركات العالم الظّلمانى السّفلىّ الّذى فيه الجنّة والشّياطين ودركات الجحيم ودار المعذّبين أراض بالنّسبة الى عالم المثال ، ومن الأرض مثلهنّ اشارة الى ما ذكر من مراتب العالم السّلفىّ أو مراتب الموادّ وقد أطلق في الاخبار السّماء والأرض على غير ما ذكر من الصّفات والأخلاق وطبقات السّماء باعتبار محيطيّتها ومحاطيّتها والكلّ راجع الى ما ذكر لهما من المفهوم وقد قيل بالفارسيّة :

آسمانهاست در ولايت جان

كارفرماى آسمان جهان


بيان السعادة

وفي الاخبار ما يدلّ على تعدّد السّماوات في عالم الأرواح ولتقدّم السّماوات شرفا ووجودا ورتبة وعلّيّة من حيث النّزول قدّمها على الأرض ، وجمع السّماوات وافراد الأرض هاهنا وفي أكثر الآيات للاشارة الى كثرة السّماوات وقلّة الأرض وانّ الأرض مع تعدّدها وكثرتها من حيث محاطيّتها امر واحد وانّ طبقاتها متراكمة بحيث انّ الدّانيّة فانية في العالية ومتّحدة معها ، وليست السّماوات كذلك فانّها كثيرة محيطة مستقلّة غير متراكمة ، بين كلّ سماء وسماء مسافة بعيدة ، والنّور اسم للظّاهر بذاته والمظهر لغيره وهذا المعنى حقيقة حقّ حقيقة الوجود الّتى هي حقيقة الحقّ الاوّل تعالى شأنه ، فانّه ظاهر بذاته من غير علّة وفاعل يظهره ومظهر لغيره من الأنوار الحقيقيّة والعرضيّة وظلمات المهيّات والحدود ونقائص الاعدام وطلسمات عالم الطّبع وعالم الجنّة والشّياطين فالحقّ الاوّل تعالى أحد مصاديق النّور والمقصود هاهنا غيره تعالى لتعلّق الجعل به وليس الاوّل تعالى مجعولا والاولى بالنّوريّة بعد الحقّ الاوّل تعالى الحقّ المضاف الّذى هو فعل الاوّل تعالى وكلمته وإضافته الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة (ص) والمشيّة الّتى خلق الأشياء بها وهو أيضا حقيقة واحدة بوحدة الحقّ الاوّل وهو ظهوره وتجلّيه الفعلىّ واسمه الأعظم وهو تجلّيه تعالى على الأشياء. ولمّا كان الحقّ المضاف لا بشرط واللّابشرط يجتمع مع الف شرط كان متّحدا مع الأشياء الّتى ظهر هو فيها ومقوّما لها ومعها وليست الأشياء سواها والحقّ الاوّل من حيث فاعليّته هو الحقّ المضاف ، فانّ الفاعليّة هي نفس الفعل ولولا الفعل لما كان الفاعليّة والفعل بوحدته عين المنفعلات من حيث انّها منفعلات فصحّ ما قيل انّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء يعنى من حيث الفعل وصحّ ما نسب الى الفتوحات وهو قوله : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ، يعنى بحسب الفعل ومثال ذلك النّفس حيث انّها بوحدتها كلّ القوى فانّها في البصر عين البصر ، وفي السّمع عين السّمع ، وهكذا في غيرها ومع ذلك ما انثلم وحدتها وما تنزّلت عن مرتبتها العالية الغيبيّة ولولا هذا الاتّحاد والعينيّة لما صحّ نسبة فعل القوى إليها حقيقة كما انّه لو لا عينيّة الحقّ الاوّل مع الأشياء لما صح نسبة افعالها اليه حقيقة وكان قول القدريّة صحيحا وقول الثنويّة حقّا ، وهذا النّور حقيقة واحدة ظلّيّة مضيئة لسطوح المهيّات والحدود والكثرة المترائاة انّما هي بعرض المهيّات ولا ينثلم بها وحدتها الّذاتيّة كما انّ النّور العرضىّ الشّمسىّ حقيقة واحدة وتكثّره بتكثّر السّطوح لا ينثلم به وحدته ، والظّلمة عبارة عن عدم النّور فهي خافية في نفسها مخفية لغيرها وهذا شأن المهيّات والحدود والاعدام الّتى نشأت من تنزّل الوجود وضعفه ، وكلّما زاد التنزّل والضّعف ازدادت الحدود والمهيّات والخفاء والإخفاء حتّى إذا وصل الى عالم الطّبع الّذى اختفى فيه صفات الوجود ، وقد علمت انّ الكثرة بالّذات للحدود وبالحدود يتميّز الوجود كما انّ بالسّطوح تميّز النّور العرضىّ ولولاها لما ظهر ، ولذلك قدّم الظّلمات مجموعا واخّر النّور مفردا عكس الاوّل فقال تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ولمّا كان الدّهريّة والطّبيعيّة والقائلون بالبخت والاتّفاق والقائلون بالاجزاء الّتى لا تتجزّى وغيرهم من الفرق الملحدة قائلين بقدم العالم بصورته ومادّته أو بمادّته فقط كانت الفقرة الاولى منعا لدعواهم ، ولمّا كان أكثر الثّنويّة قائلين بقدم النّور والظّلمة وانّها مبدءان للعالم وقد مضى وجه مغالطتهم في اوّل سورة النّساء عند قوله انّما التّوبة على الله للّذين يعملون السّوء بجهالة ، كانت الفقرة الثّانية منعا لدعواهم (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فيه معنى التّعجّب ، وتخلّل ثمّ للاشارة الى استبعاد التّسوية مع كونه خالقا للسّماوات والأرض والظّلمات والنّور ، ولمّا كان الايمان به ينفتح باب القلب وبانفتاحه يوقن بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله ، وبدون ذلك الانفتاح لا يمكن الايمان بالله ولذا اختصّ الايمان بمن بايع عليّا (ع)


وخلفائه ودخل البيعة في قلبه ما به ينفتح بابه الى الملكوت كان الكفر هو ستر باب القلب وعدم انفتاحه بتلك البيعة فالكافر من لم يبايع عليّا (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة ، ولذلك فسّر الكفر في أكثر الآيات بالكفر بالولاية والكفر بعلىّ (ع) والرّبّ المضاف كما ورد عنهم في تفسير (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) هو الرّبّ في الولاية والرّبّ المطلق هو ربّ الأرباب ، والوجه في ذلك انّ الولاية هي اضافة الله الاشراقيّة الى الخلق فمعنى الآية بحسب المقصود ثمّ الّذين كفروا بعلىّ (ع) بستر وجه القلب بترك بيعة علىّ (ع) وعدم دخول الايمان في قلوبهم بعلىّ (ع) يسوّون سائر افراد البشر ويمكن تعلّق بربّهم بكفروا وكون يعدلون بمعنى يسوّون أو بمعنى يخرجون من الحقّ وبحسب التّنزيل ثمّ الّذين كفروا بالله بترك بيعة محمّد (ص) وعدم قبول الإسلام أو ثمّ الّذين كفروا بالله بترك الإقرار بالله أو بوحدانيّته بربّهم الّذى هو ربّ الأرباب يسوّون الأصنام ، وهذه الفقرة ردّ بحسب الظّاهر على مشركي العرب وغيرهم من عابدى الوثن والعجل وغيرهما ، وبحسب التّأويل ردّ على كلّ من انحرف عن الولاية (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) باعتبار مادّتكم الاولى منع لمن ادّعى الالهيّة لنفسه أو لغيره من افراد البشر (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) اى حتم أجلا لا تخلّف عنه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) لا يطلع عليه أحدا من ملائكته ورسله فانّه علم استأثره لنفسه يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، وامّا العلم الّذى يطلع عليه ملائكته ورسله فانّه محتوم لا يكذب ملائكته ورسله والبداء والمحو والإثبات في ذلك الأجل المسمّى عنده ، وتحقيق مسئلة البداء والمحو والإثبات والحكمة المودعة فيه من التّرغيب في الصّلات والدّعوات والتضرّعات والصّدقات وسائر العبادات ، وسرّ استجابة الدّعوات مع عدم تأثّر العالي عن الدّانى موكول الى محلّ آخر من هذا الكتاب (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) فيه معنى التّعجّب واستبعاد الامتراء بالنّسبة الى الخالق (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) اعلم ، انّ الله فيه معنى الآلهة والتّصرّف بل جميع الإضافات الممكنة من الخالق بالنّسبة الى المخلوق فانّه الاسم الجامع وامام ائمّة الأسماء فاعتبر فيه معنى الوصف ولذلك جاز تعلّق الظّرف به ، وبيان اعراب الآية انّ لفظ هو مبتدء والله بدله أو خبره وفي السّماوات ظرف لغو متعلّق بالله أو بيعلم أو ظرف مستقرّ خبر أو خبر بعد خبر أو حال ، ويعلم الآتي خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو مستأنف ، وجملة هو الله عطف على جملة هو الّذى خلقكم أو حال وبعد ما علم معنى معيّته تعالى وقيّوميّته واحاطته بالأشياء يظهر معنى كونه إلها في السّماء وفي الأرض ، وهذا ردّ على من أشرك معه غيره كبعض الثّنويّة القائل بانّ أهرمن أو الظّلمة مخلوق الله لكنّه شريك له في الإيجاد والشّرور كلّها منسوبة اليه ، وكجمهور الهنود القائلين بانّ الأمور موكولة الى الملائكة ويسمّونهم بأسماء ، وكبعض الصّابئين القائل بانّ الكواكب مخلوقة لله لكنّها مدبّرة للعالم دون الله ، وكبعض المشركين القائل بانّ العجل والوثن (وغيرهما) شفعاء عند الله ولها التّدبير والتّصرّف (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) من السّجايا والنّيّات والعقائد وجملة المكمونات الّتى لم تظهر بعد في وجودكم ولم تشعروا بها (وَجَهْرَكُمْ) من الأقوال والأحوال والألوان والاشكال والنّسب والأموال (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) لأنفسكم من تبعة أعمالكم الّتى تعملونها بجوار حكم تقرير لالهيّته ووعد ووعيد للمحسن والمسيء منهم (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) عطف على (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) على ان يكون مستأنفا أو حالا أو هو حال ابتداء كأنّه قيل : ما حاله مع الخلق؟ ـ وما حال الخلق معه؟ ـ أو عطف على أنتم تمترون وعلى اىّ تقدير ففيه التفات من الخطاب الى الغيبة ، وأعظم الآيات أمير المؤمنين (ع) والمقصود من الآيات هاهنا


اعمّ من الآيات التّكوينيّة والتّدوينيّة والآفاقيّة والانفسيّة (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) الّذى هو أعظم آياته وهو الولاية كما سبق وتكذيبهم للحقّ لتمرّنهم على تكذيب مطلق الآيات (لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من الولاية (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) فاتّكلوا على حياتهم الدّاثرة الفانية واستبدّوا بآرائهم الكاسدة وأعرضوا عن آياتنا ، والقرن برهة كثيرة من الزّمان أو هو مدّة عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستّين أو سبعين أو ثمانين سنة ، أو مائة أو مائة وعشرين سنة ، أو أهل زمان واحد أو أمّة بعد أمّة ، أو كلّ أمّة هلكت فلم يبق منهم أحد (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بالصّحّة والقوّه في الأجسام والسّعة في الأموال والأولاد (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) اى المطر والسّحاب (عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) يعنى هيّئنا لهم أسباب التّرفّه والسّعة والتّنزّه علاوة على تمكينهم في الأرض (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) يعنى ما صار تمكّنهم حافظا لهم عن بأسنا ولا امدادنا لهم واستدراجنا ايّاهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) تهديد بليغ لهم (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) مكتفين بالرّؤية لئلّا يقولوا سكّرت أبصارنا (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو بك (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لنهاية عتوّهم وتمرّنهم على الجحود (وَقالُوا) عنادا ولجاجا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ان كان رسولا (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) امر حيوتهم أو الأمر بقبض أرواحهم يعنى انّهم ضعفاء الأبصار ليس لهم قوّة الجمع بين الطّرفين ، والملك لا يدركه الّا بصيرة باطنة اخرويّة لا البصر الظّاهر الدّنيوىّ فلو أنزلنا ملكا حتّى يروه لا نسلخوا من ظواهرهم البشريّة ولا نقلب الدّنيا آخرة والحيوة مماة فلقصورهم وضعفهم لم ننزّل ملكا بحيث يرونه ، ولا ينافي هذا نزول الملك على الرّسل (ع) لجمعهم بين الدّنيا والآخرة كما مضى تحقيقه وكيفيّة مشاهدة الملك في المنام واليقظة للرّسل وسماع قوله للأنبياء والمحدّثين عند قوله (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) من سورة البقرة (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) جواب ثان أو جواب لاقتراح ثان فانّهم تارة قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، وتارة قالوا : لو أراد الله ان يبعث إلينا رسولا لأنزل ملكا (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) يعنى لو أنزلنا ملكا امّا جعلناه بصورة ملك ولم يقووا على إدراكه ، أو جعلناه بصورة رجل ولو جعلناه بصورة رجل لا وقعنا عليهم الالتباس والامتراء حتّى يقولوا فيه ما قالوا في الرّسول البشرىّ ، فالآية اشارة الى قياس استثنائى منفصل التّالى مرفوعة بكلا شقّيه ان كانت جوابا بكلا شقّيه لسؤال واحد ، أو اشارة الى قياسين استثنائيّين ان كانت جوابين لسؤالين منهم (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له (ص) (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعنى أحاط بهم العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن ، أو وبال القوى الّذى كانوا بسببه يستهزؤن (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى سيروا في الأرض الظّاهرة باقدامكم وفي ارض القرآن وتواريخ الأمم الماضية بابصاركم ، وفي ارض العالم الصّغير ببصائركم (ثُمَّ انْظُرُوا) اى تفكّروا ، وتخليل ثمّ لانّ التّفكّر هو ترتيب المقدّمات والانتقال منها الى النّتائج وبالسّير يحصل المقدّمات وبعد حصول المقدّمات يمكن التّفكّر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) بالرّسل (ع) في شأن أنفسهم أو في شأن أوصيائهم


أو عاقبة المكذّبين بأوصيائهم (قُلْ) للمكذّبين والمقترحين (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلزاما لهم على الإقرار حتّى يتنبّهوا ان ليس لهم الاقتراح على المالك وانّه يفعل ما يشاء ويرسل من يشاء (قُلْ) أنت من قبلهم ولا تنتظر جوابهم فانّه لا جواب لهم سواه (لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فبرحمته لا يهملكم ويرسل إليكم الرّسل ويرغّبكم في طاعته ويحذّركم من مخالفته ويمهلكم في معصيته (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) قرنا بعد قرن الجملة الاولى وهذه امّا جزء مقول القول أو استيناف من الله ، ويحتمل ان يكون هذه مستأنفة والاولى مقولة القول ، ويحتمل ان يكون هذه بدلا من الرّحمة لجواز تعلّق الكتب بالجملة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) قد مضى نظيره (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) مستأنف لاستدراك ما يتوهّم من انّه لا ينبغي لأحد ان يبقى على الكفر بعد وضوح الأمر كأنّه قال لكنّ الّذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون ، ودخول الفاء في الخبر وتخلّل الضّمير للدّلالة على السّببيّة والحصر والتّأكيد ، وقيل موضع الّذين نصب على الّذمّ أو رفع على الخبريّة اى أنتم الّذين خسروا أنفسهم (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) هذا أيضا يحتمل كونه مقولا للقول ومستأنفا يعنى قل لهم بعد ما قلت انّ له ما سكن في الأمكنة له ما سكن في الازمنة ، وسكن من السّكنى أو السّكون ، ولمّا كان التّجدّد والانطباق على الزّمان من خواصّ الطّبيعيّات الّتى هي المتحيّزات كان ما سكن في اللّيل والنّهار يعنى ما دخل تحت الزّمان بعينه هو ما سكن في السّماوات والأرض اى ما انطبق على المكان وان عمّم السّماوات والأرض بين مطلق الأرواح والأشباح فاللّيل والنّهار يعمّان ، ولمّا كان مملوكيّة الأشياء له مهتمّا بها اكّد الاوّل بالثّانى بتغيير العبارة ليتمكّن في نفوسهم (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لا سمع الّا بسمعه ولا علم الّا بعلمه (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) بعد انّه مالك الكلّ (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) التّوصيف به للاشعار بالعلّة (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) علّة اخرى للحكم (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لا يسبقني أحد في ظاهر الإسلام ولا في باطنه لانّى أمرت تكوينا وتكليفا ان أكون خاتم الرّسل وسابق الكلّ (وَ) قيل لي (لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أو هو عطف على قل (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تعريض بهم فانّه أبلغ في الإنصاف والمقصود قطع اطماعهم عن إضلاله ، عن الصّادق (ع) ما ترك رسول الله (ص) انّى أخاف ان عصيت ربّى عذاب يوم عظيم ، حتّى نزلت سورة الفتح فلم يعد الى ذلك الكلام (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) عن النّبىّ (ص) والّذى نفسي بيده ما من النّاس أحد يدخل الجنّة بعمله ، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ ـ قال (ص) : ولا انا الّا ان تغمّدنى الله برحمة منه وفضل (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) مقول القول أو مستأنف من الله (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) عطف على قوله من يصرف (الى آخره) كأنّه قال ان يصرف الله العذاب عنك يؤمئذ فقد رحمك (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من اقامة السّبب مقام الجزاء يعنى فلا مانع له (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) كيفيّة قهره للعباد بفناء الكلّ تحت سطوته يستفاد ممّا مضى (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في فعاله لا يفعل ما يفعل الّا بحكمة (الْخَبِيرُ) بما يقتضي اختلاف التّدبير وأنواع التّصرّف فيهم (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) توطئة لاشهاد الله يعنى انّهم يقرّون بأنّ الله أعظم وأصدق من كلّ شهيد فنبّههم


على ذلك ثمّ قال (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ويحتمل ان يكون الله مبتدء محذوف الخبر جوابا من قبلهم وشهيدا خبرا محذوف المبتدأ مستأنفا لبيان المقصود (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) في اىّ مكان كان وفي اىّ زمان الى يوم القيامة يعنى لأنذركم وانذر من بلغه القرآن أو من صار بالغا مبلغ الرّجال وروى انّ من بلغ معطوف على المستتر في أنذركم وترك التأكيد بالضّمير المنفصل للفصل والمعنى لا نذركم انا ومن بلغ من آل محمّد (ص) ان يكون إماما كقوله تعالى ، و (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ) بعد ما وبّخهم على شهادتهم انّ مع الله الهة اخرى (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) من اليهود والنّصارى (يَعْرِفُونَهُ) اى رسول الله (ص) بما ذكر لهم في كتبهم من أوصافه أو الّذين آتيناهم الكتاب من أمّة محمّد (ص) يعرفون محمّدا (ص) بالصّدق في امر الولاية أو يعرفون عليّا (ع) بما شاهدوا منه من فضله وعلمه وصدقه وأمانته (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) مبالغة في إثبات معرفتهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر أو استدراك توهّم متصوّر كأنّه قيل أفأمنوا به أو توهّم انّه ما بقي منهم كافر وتكرار الموصول لانّ كلّا جواب أو استدراك لما نشأ من امر غير منشأ الآخر ، ويحتمل كون الثّانى بدلا أو مفعولا لمحذوف أو خبرا لمبتدء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بادّعاء خلافة الله لنفسه أو بنسبة ما قاسه برأيه الى الله ، أو بتوهّم انّ الرّسوم والعادات من الله ، أو بادّعاء النّيابة من الامام من غير اذن واجازة غفلة عن انّ النّيابة من الامام شفاعة عند الله للخلق ولا تكون الّا بإذن الله ، أو بكتابة كتاب النّبوّة بأيديهم ونسبته الى الله ، أو بكتب صورة القرآن بأيديهم ونسبته الى الله (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) التّدوينيّة والتّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة وأعظم الكلّ بل أصل الكلّ وحقيقته الإنسان الكامل والأصل فيه علىّ (ع) أمير المؤمنين ، ولفظ أو هاهنا لمنع الخلوّ فانّ أكثرهم جامعون بين الوصفين مع انّه لو لم يكن لهم الّا واحد منهما كفى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كأنّه قيل : فما حال الظّالم حتّى يكون من هو أظلم اشدّ فيها؟ فقال جوابا : انّه لا يفلح الظّالمون ولذا اكّده استحسانا (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) واذكر أو ذكّرهم (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله في الآلهة أو أشركوا بولاية علىّ (ع) ولاية غيره كذا ورد عنهم (ع) هاهنا وفي أكثر موارد ذكر الشّرك والكفر ، والسّرّ في ذلك كما سبق مرارا انّ معرفة الله وصفاته والايمان به لمّا كان موقوفا على فتح باب القلب وفتحه يتوقّف على الولاية والبيعة الولويّة الّتى هي الايمان وبها يدخل الايمان في القلب وينفتح بابه ، ولذا ورد بنا عرف الله ، ومعرفة الله ان تعرف امام زمانك وغير ذلك بطريق الحصر كان الكفر والشّرك هو عدم فتح باب القلب أو عدم معرفة الامام أو الكفر والإشراك بالإمام والكفر بالرّسالة يكون كفرا على كفر (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) من أصنامكم وغيرها الّتى جعلتموها بالمواضعة شركاء لله ويقال هذا تهكّما بهم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) انّهم شركاء لله أو شركاء لعلىّ (ع) (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) اى عذرهم للخلاص كما في الخبر من : فتنت الّذهب إذا أخلصته (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يحلفون على كذبهم لله كما كانوا يحلفون في الدّنيا للنّاس (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من آلهتهم أو من شركائهم في الولاية ، مضىّ الفعلين لتحقّق وقوعهما كأنّهما


وقعا سواء كان الخطاب عامّا أو خاصّا أو بالنّظر الى المخاطب المخصوص اعنى محمّدا (ص) فانّه ينظر ويرى ما لم يجيء في سلسلة الزّمان (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تتلو عليهم آيات الكتاب أو مناقب وصيّك (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) جمع الكنان وهو ما يستر الشّيء كراهة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أو لئلّا يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ) اى أذان قلوبهم (وَقْراً) كراهة ان يسمعوه فان تتل عليهم كلّ آية في رسالتك أو خلافة وصيّك لا يسمعوا (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) من آياتنا العظمى ومعجزاتك (لا يُؤْمِنُوا بِها) بسبب ازدياد قسوتهم وعنادهم فكيف يؤمنون بك أو بوصيّك وازدادت قسوتهم (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) في نبوّتك أو خلافة وصيّك (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك أو بوصيّك (إِنْ هذا) القول الّذى تسميّه قول الله أو ان هذا الّذى تقوله في ابن عمّك (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) جمع اسطار جمع سطر أو جمع اسطورة كناية عن اسمارهم وخرافاتهم (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) عن هذا أو عنك بطريق الالتفات أو عن علىّ (ع) بطريق التّورية (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) يعنى يمنعون النّاس عنه ويتباعدون عنه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بالتّباعد عنه (وَما يَشْعُرُونَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) قرئ ببناء المفعول والفاعل من وقف إذا قام أو اقام أو اطّلع يعنى لو ترى إذ أقيموا أو اطّلعوا على النّار لرأيت عجيبا فظيعا بحذف الجواب (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) لما رأوا من مقامك أو مقام أوصيائك (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بمحمّد (ص) أو بأمير المؤمنين (ع) وهذا الكلام والتّمنّى منهم يكون لدهشة الخوف لا لقائد الشّوق والّا لخلصوا وما أجيبوا بكلّا وانّها كلمة هو قائلها وأمثال ذلك كما في قوله تعالى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) يعنى ان كانوا يريدون الخروج منها من شوق لم يعيدوا فيها وقوله تعالى (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) دليل عليه فانّ المعنى ما حصل لهم حبّ وشوق الى علىّ (ع) لانّ فطرتهم فطرة البغض له بل بدا لهم وبال نفاقهم فخافوا غاية الخوف فتمنّوا الخلاص من الخوف لا الوصال من الشّوق (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) لانّه ذاتىّ والذّاتيّ لا يتخلّف بل قد يختفى بعارض فاذا زال العارض ظهر (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ما يقولون من انّهم ان ردّوا لا يكذبوا ويؤمنوا لما عرفت انّه ليس هذا التّمنّى من شوق ذاتىّ بل من امر عرضىّ يزول بزواله (وَقالُوا) عطف على عادوا أو عطف على (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والاختلاف بالمضىّ للاشارة الى انّ ذلك قولهم قديما وجديدا ، أو استيناف لذمّ أخر وبيان عقوبة اخرى وهو انسب بما بعده من قوله (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) يعنى تكذيبهم بالبعث يقتضي إحضارهم عند الله بأفضح حال وتكذيبهم بالآيات يقتضي دخولهم في النّار بأشدّ عذاب (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) كما يوقف العبد الجاني على مولاه للمؤاخذة والرّبّ المضاف هو ربّهم في الولاية وهو أمير المؤمنين (ع) وقد قال في بعض كلامه (ع): وإياب الخلق الىّ وحسابهم علىّ ، وقد مضى في مطاوى ما سبق بيان عدم تجاوز الخلق عن المشيّة الّتى هي الولاية وانّها مبدء الكلّ ومنتهاه (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) تعييرا لهم على تكذيب البعث (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) لظهوره ولذا اكّدوا الجواب بالقسم تأكيدا للازم الحكم الّذى هو علمهم بالحكم (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بربّكم الّذى هو علىّ (ع)


(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) في مظاهره الولويّة فانّ لقاءه تعالى اضافة بينه وبين عبده وحقيقة إضافاته تعالى هي إضافته الاشراقيّة الّتى هي الولاية المطلقة وهي علىّ (ع) بعلويّته (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) ساعة الموت أو ساعة القيامة أو ظهور القائم (ع) يعنى ظهور الامام عند حضور السّاعة وقد فسّرت في الاخبار بكلّ والكلّ راجع الى معنى واحد والتّفاوت اعتبارىّ (بَغْتَةً) ولقوا الله بظهور علىّ (ع) أو ظهور القائم (ع) (قالُوا يا حَسْرَتَنا) جيئي فهذا أو ان حضورك (عَلى ما فَرَّطْنا) وقصّرنا (فِيها) في السّاعة ولقاء الرّبّ عندها (وَهُمْ) حينئذ (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) أثقالهم الّتى كسبوها في الدّنيا (عَلى ظُهُورِهِمْ) لانّه لا يزر اليوم وازر وزر آخر (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا يليق بالحكيم ان يجعل مثلها غاية لفعله ، واللّعب ما كان له غاية خياليّة ، واللهو ما لم يكن له غاية ، وهو عطف على (قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، أو على (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) ، أو على (بَلى وَرَبِّنا) ، أو على (فَذُوقُوا الْعَذابَ) ، أو على (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) ، أو على (يا حَسْرَتَنا) ، أو على (هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) ، أو حال متعلّق بواحدة من الجمل السّابقة (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وامّا الّذين لا يتّقون فهي اشدّ دار لهم عذابا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) انّه لا يليق بالحكيم جعل الاولى غاية ويليق به جعل الثّانية غاية فاطلبوها (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) في حقّك بانّه ساحر أو مجنون أو غير ذلك أو في حقّ خليفتك بان لا يردّوا هذا الأمر اليه وهو استيناف وتسلية للرّسول (ص) ولا ينبغي لك ان تتحزّن (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) من حيث انّك بشر مثلهم فقد لبثت فيهم وما قالوا فيك الّا خيرا وكنت معروفا فيهم بالصّدق والامانة حتّى لقّبت بمحمّد الأمين (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بتكذيب الآخرة ولقاء ربّهم (بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) يعنى انّك بعد ما صرت رسولا وآية لنا كذّبوك من هذه الحيثيّة ويرجع التّكذيب من هذه الحيثيّة الى الله لا إليك ، أو انّهم لا يكذّبونك من حيث أنت رسول من الله ولكنّهم يكذّبون عليّا (ع) وتكذيبك فيما قلت في حقّه راجع الى تكذيب علىّ (ع) ، وقرئ لا يكذبونك من : أكذبه إذا وجده كاذبا ، أو نسبه الى الكذب أو صيّره كاذبا ، اى لا يجدونك كاذبا أو لا يأتون بأمر يجعل صدقك كذبا ؛ هكذا روى عنهم (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) فتأسّ بهم واصبر ولا تحزن (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) عطف باعتبار المعنى أو جملة حاليّة كأنّه قال : لا مانع من نصر الله ولا مبدّل لكلمات الله اى مواعيده وآياته العظمى من الرّسل وأوصيائهم (ع) ، أو آياته القهريّة من مظاهر الشّرور فانّه لا يقدر أحد على تبديلهم عمّاهم عليه (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) واقوامهم وانّ الغلبة بالأخرة لهم على اقوامهم لا لاقوامهم عليهم (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) عنك أو عن علىّ (ع) (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً) جحرا أو منفذا (فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) من تحت الأرض أو من السّماء وجوابه محذوف اى فافعل والمقصود التّعريض بمنافقى أمّته والعتاب لهم وإظهار انّه (ص) محزون على تولّى القوم عنه وعن علىّ (ع) ، أو المقصود التّعريض بمن هو حريص على إتيان الآية للمقترحين من موافقي أمّته (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى


الْهُدى) يعنى انّ هداهم وضلالهم بمشيّة الله وما كان بمشيّة الله فالرّضا به اولى من الحزن عليه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) انّ الكلّ بمشيّة الله ولمّا توهّم من هذا انّهم مجبورون في أفعالهم ولا دخل لهم في ضلالهم وهديهم رفع ذلك بانّ استعدادهم واستحقاقهم يقتضي تلك المشيّة فقال تعالى (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يعنى الّذين يستعدّون للقبول فبقدر سببيّة القابل في الفعل لهم سببيّة في ضلالهم وهديهم ولمّا توهّم من انّ المستعدّ يجيب وغير المستعدّ لا يجيب انّه لا ينبغي لغير المستعدّ دعوة ولا امر ولا نهى ولا يلزم عليه ذمّ ولوم فأجاب عنه وقال (وَالْمَوْتى) الّذين لا استعداد لهم والمتوقّفون في مراقد طبعهم إذا جاهدوا (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) من مراقد طبعهم (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيسمعون بعد التّوجّه اليه ويجيبون بعد السّماع ليس الموت للموتى حتما ولا الحيوة للأحياء حتما (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولا يشعرون قدرة الله على ذلك ولا يشعرون الآيات وانّ الله اجلّ من ان يقترح عليه شيء وعدم علمهم لكونهم موتى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) توصيفه بوصف الجنس وكذا ما بعده للاشارة الى ارادة الجنس (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) مخلوق مرزوق مدبّر والتّناسخيّة يتوسّلون بأمثال هذا في رواج مذهبهم والمقصود ذمّهم على عدم العلم وانّ الحيوانات العجم مثلكم في كلّ جهة وتميزكم عنها بالعلم والاشتداد فيه فاذا لم تكونوا تعلمون فلا تميز بينكم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) اى في اللّوح المحفوظ الّذى هذا القرآن صورته التّامّة فما فرّط فيه أيضا من شيء وسائر الكتب صورته النّاقصة ولذا كان مهيمنا على الكلّ ناسخا له ، وهو من فرّط الشّيء بمعنى ضيّعه وأهمله لا من فرّط في الشّيء بمعناه حتّى يكون في الكتاب مفعوله ومن شيء مفعولا مطلقا بل في الكتاب ظرف ومن شيء مفعول به ، لانّ المقصود عدم إهمال شيء في الكتاب بترك ثبته فيه وهو يستفاد صريحا إذا جعل من شيء مفعولا به ، وامّا إذا جعل مفعولا مطلقا فلا يستفاد الّا التزاما والمقصود انّا كما احصيناكم في الكتاب وأحصينا أرزاقكم وآجالكم كذلك احصيناهم لا فرق بينكم الّا بالعلم وعدمه (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) كما تحشرون (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) عطف على محذوف اى فالّذين آمنوا بآياتنا وصدّقوها خارجون من صمم الحيوانات وبكمها وظلماتها بامتيازهم بالعلم عنها ، والّذين كذّبوا بآياتنا التّدوينيّة والتّكوينيّة الآفاقيّة وعلىّ (ع) أعظمها والانفسيّة والعقل أعظمها وهو مظهر علىّ (ع) (صُمٌّ وَبُكْمٌ) مثل سائر الدّوابّ وليس الفرق بينهم الّا بالايمان والعلم (فِي الظُّلُماتِ) زائدا على سائر الدّوابّ فانّها غير خارجة من أنوار نفوسها الضّعيفة بخلاف الكافر بالولاية فانّه يخرج من نوره القوىّ الّذى هو نور النّفس الانسانيّة وهو جهة العلم والايمان الى ظلمات الجهل السّاذج ثمّ ظلمات الجهل المركّب ثمّ ظلمات الاهوية الفاسدة ثمّ ظلمات الطّبع ثمّ استدرك توهّم انّ في ملكه ، ما ليس بمشيّته بقوله تعالى (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) ويجعله اصمّ وابكم وفي الظّلمات (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الصّراط المستقيم كما سبق هو طريق الولاية وطريق القلب الى الله وهو الولاية التّكوينيّة وصاحب الولاية طريق أيضا بمراتبه المنتهية الى الله والأصل في صاحبي الولاية علىّ (ع) وطريق القلب وطريق


الولاية وصاحب الولاية متّحدة والتغاير اعتبارىّ فصحّ تفسير الطّريق المستقيم بالولاية وبعلىّ (ع) كلّما وقع كما فسّروه لنا ، فالمعنى من يشأ الله يضلله عن الولاية ومن يشأ يجعله على ولاية علىّ (ع) (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) هذه اللّفظة لكثرة استعمالها صارت كالمثل فلا يتغيّر الضّمير المرفوع بحسب حال المخاطب وقد يلحق صورة الضّمير المنصوب بها وقد لا تلحق وإذا لحقت يلحظ فيها كثيرا حال المخاطب وهي حرف خطاب أو ضمير نصب تأكيد للضّمير المرفوع أو مفعول اوّل لرأيت وإذا كانت حرفا للخطاب أو تأكيدا للضّمير المرفوع فمفعولا رأيت كانا محذوفين ، أو جملة الشّرط والجزاء قائمة مقامهما معلّقا عنها رأيت ، أو جملة غير الله تدعون معلّقا عنها وإذا كانت مفعولا اوّلا فالمفعول الثّانى محذوف أو هو جملة الشّرط والجزاء أو جملة غير الله تدعون معلّقا عنها وإذا كانت ولمّا كان الاستفهام استخبارا وكانت هذه الكلمة غير باقية على صورتها ومعناها الاصيلين صار المقصود الاستخبار من مضمون ما بعدها من غير نظر الى مضمون نفسها فكأنّه قال أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) في الدّنيا أو الآخرة أو المنظور منه عذاب الدّنيا فقط لاشعار السّاعة بعذاب الآخرة (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) فسّرت السّاعة بساعة الموت وساعة ظهور القائم عجّل الله فرجه وبساعة القيامة والكلّ صحيح إذ المقصود إتيان حالة لا يثبت فيه الخيال ويفرّ الهوى والآمال وهذه الحالة تكون في كلّ من هذه (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) يعنى لا تدعون في هذه الحال الّا الله المتعال لانّ كلّ ما سواه ممّا هو متشبّث الخيال ومعتمد الهوى والآمال ينسى ولا يبقى في تلك الحالة الّا الفطرة الانسانيّة المفطورة على دعاء الله وجواب الشّرط محذوف أو هو جملة أغير الله بحذف الفاء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في اشراك الأصنام أو الكواكب في الآلهة والجملة معترضة وجواب الشّرط محذوف والتّقدير ان كنتم صادقين فادعوا غير الله في تلك الحال (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) تصريح بمفهوم مخالفه قوله أغير الله تدعون (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) يعنى ليس إجابتكم حتما (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) يظنّ انّه كان المناسب ان يقدّم النّسيان لكنّه أخّر النّسيان وحذف مفعول تدعون للاشعار بانّ نسيان الشّركاء كان بمرتبة كأنّه نسي نسيانهم أيضا ولم يكن نسيانهم في ذكر المتكلّم وكان اهتمامهم بكشف الضرّ بحيث لم يبق في نظرهم الله الّذى يدعونه اليه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية للرّسول (ص) وتهديد للامّة (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) البأساء الدّاهية سواء كانت في الحرب أو في غيرها (وَالضَّرَّاءِ) النّقص في الأنفس والأموال ، يعنى في بدو ارسالهم ليتكسّر سورة خيالهم وقوّة اهويتهم حتّى يقبلوهم بسهولة أو بعد تكذيبهم وشدّة تعاندهم حتّى يرجعوا ويتوبوا (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) ويلتجئون الى رسلهم ، اعلم ، انّ الإنسان وقت الا من والصّحّة وسعة العيش خصوصا حين تشبّب القوى الحيوانيّة يعدّ نفسه من اعزّ الخلق ولا يعدّ غيره في شيء ، ويظنّ انّه أحسن الخلق رأيا ويفرّق نفسه على الاهوية والآمال ، فاذا ابتلى ببلاء في نفسه أو اهله أو ماله انكسر سورة انانيّته وتضرّع الى ربّه والتجأ الى من يظنّ انّه من قبل ربّه ، ولذلك كان تعالى إذا أرسل رسولا الى قوم ابتلاهم ببليّة ليلتجؤا الى الرّسل ويقبلوا منهم (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) اى فلو لا تضرّعوا إذ جاءهم بأسنا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) استدراك باعتبار المعنى يعنى لا عذر لهم حينئذ في ترك التّضرّع ولكن قست قلوبهم (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) من البأساء والضّرّاء بترك الاتّعاظ بها (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)


من المأمولات والمهويّات استدراجا لهم وامهالا (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) ممّا يرونهم نعمة (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الإبلاس اليأس والتّحيّر وقيل منه إبليس وقيل انّه أعجميّ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بالعلّة (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) جملة لانشاء الحمد والشّكر ، أو عطف على دابر القوم ، أو على قطع بمعنى بقي الحمد لله (رَبِّ الْعالَمِينَ) وفسّرت الآية في الخبر هكذا فلمّا نسوا ما ذكّروا به من ولاية أمير المؤمنين (ع) وورد أيضا انّه في ولد عبّاس (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) فيسلب تميزكم كالمجانين (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) آيات قدرتنا وشواهدها (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) يعرضون ولا يتأمّلون فيها (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) من غير تقدّم امارة (أَوْ جَهْرَةً) مع تقدّم أمارته (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بشأنهم الولوىّ (وَمُنْذِرِينَ) بشأنهم النّبوىّ (فَمَنْ آمَنَ) بالايمان العامّ (وَأَصْلَحَ) بالايمان الخاصّ ، أو من آمن بالبيعة على يد علىّ (ع) وأصلح نفسه بالوفاء بالشّروط الّتى أخذت عليه كما عرفت انّ الإصلاح لا يمكن الّا بدخول الايمان في القلب وهو مسبّب عن الايمان الخاصّ (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لما سبق انّ الخوف والحزن من صفات النّفس والمؤمن المصلح قد سافر من حدود النّفس ودخل حدود القلب الّذى من دخل فيه كان آمنا ، ويتبدّل خوفه بالخشية وحزنه بالاشتياق الّذى يعبّر عنه بالفارسيّة «بدرد» كما قيل :

قدسيانرا عشق هست ودرد نيست

درد را جز آدمي در خورد نيست

وغيّر الأسلوب لانّ الخوف منشأه امر خارج فكأنّه من طوارى النّفس والحزن منشأه القلب فهو من صفات النّفس ولملاحظة توافق رؤس الآي وقد مضى تحقيق وتفصيل لهذه الآية في اوّل البقرة (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) بلسان الحال أو لسان القال (بِآياتِنا) وأعظمها الولاية ومن تكذيبها يسرى التّكذيب الى غيرها من الآيات (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بالخروج عن حكم العقل ومظهره الّذى هو النّبىّ (ص) أو الوصىّ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) يعنى تنزّل الى مقام البشريّة ودارهم بحسب بشريّتك وأظهر ما هو لازمها حتّى يروك مثلهم فلا ينفروا عنك فقل : ليس عندي خزائن الله فتطالبوني بمال كثير (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فتطالبوني بالاخبار المغيبات (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) فتطالبوني بما يقدر الملك عليه من الصّعود في السّماء وإتيان كتاب منه وأمثال ذلك (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) في كلّ باب من الأحكام والآيات الّتى يظهرها الله على يدي والاخبار بالمغيبات (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) عن النّبوّات وكيفيّتها (وَالْبَصِيرُ) بها وبانّ النّبىّ لا يجوز ان يكون غير البشر ويجرى عليه كلّ ما يجرى على سائر افراده ، الّا انّه يعلم بتعليم الله ما لا يعلمه غيره ويوحى اليه ولا يوحى الى غيره (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في عدم التّسوية حتّى تخرجوا من ظلمة العمى الى نور البصر (وَأَنْذِرْ بِهِ) اى بالله أو بالقرآن أو بعلىّ (ع) أو بما يوحى إليك (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ)


المضاف الّذى هو ربّهم في الولاية (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) الولىّ هو الشّيخ في الولاية والشّفيع كالنّصير هو الشّيخ في الدّلالة ، وبعبارة اخرى الولىّ هو معلّم احكام القلب والشّفيع هو معلّم احكام القالب والاوّل شأن الولاية والثّانى شأن النّبوّة ولمّا كان النّبوّة صورة الولاية وكلّ نبىّ له ولاية لا محالة وكذا كلّ ولىّ له خلافة للنّبوّة ، فكلّ من النّبىّ والولىّ يصحّ ان يكون شفيعا ووليّا معا والضّمير في من دونه راجع الى ربّهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) عمّا يصرفهم عن ربّهم ، اعلم ، انّ الإنسان فطريّ التّعلّق وكلّما انزجر ممّا تعلّق به من الدّنيا وأهلها طلب التّعلّق بمن يطمئنّ اليه ويسلم له من جهة الآخرة ، وكلّما طلب ذلك التّعلّق والارادة والتّقليد هيّج شياطينه الجنيّة والانسيّة لتحذيره عن هذا الأمر وتخويفه وصدّه فكلّما هيّج الشّوق عزمه للطّلب صدّه الشّياطين عنه وخوفّوه وقيل بالفارسيّة :

تو چو عزم دين كنى با اجتهاد

ديو بانگت بر زند اندر نهاد

كه مرو زينسو بينديش اى غوى

كه أسير رنج ودرويشى شوى

سألها أو را ببانگى بنده

كار أو اينست تا تو زنده

فمعنى الآية على هذا انذر بالقرآن الّذى هو صورة الولاية الّتى أصلها والمتحقّق بها أمير المؤمنين (ع) الّذين يريدون ويطلبون الحضور عند ربّهم الّذى هو علىّ (ع) أو خليفته ويريدون التّعلّق به والتّقليد له بان يحشرهم الشّيخ الدّليل الّذى هو كالنّبىّ بالآداب المسنونة اليه ، ويخافون بتخويفات الشّياطين الانسيّة والجنّيّة عن الحضور لديه والتّعلّق به ، فانّهم بكيد الشّيطان قاعدون وبمحض إنذارك يرتفع كيد الشّيطان فانّ كيده كان ضعيفا ، وانذرهم بأنّه ليس لهم من دونه ولىّ يتولّى أمورهم ولا شفيع يشفع جرائمهم عند الله يعنى انذرهم بانّ ربّهم في الولاية له شأن النّبوّة والشّفاعة وشأن الولاية والتّربية ، فهو حقيق بان يخاف من التولّى عنه ولا يخاف من التّوجّه اليه لعلّهم يتّقون تخويفات الشّياطين ولا يبالون بتهديداتهم ويقطعون سلاسل تهديداتهم ويحضرون عنده كالعاشق الّذى لا يبالي بما قيل فيه وما عرض له (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في الولاية يعنى ادع الطّالب للدّين ولا تطرد الدّاخل في الدّين بقبول ولاية علىّ (ع) والبيعة الولويّة معه فانّك بعثت لدعوة الخلق اليه لا لطردهم عنه أو لا تطرد عن نفسك الّذين يدعون ربّهم في الولاية (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) يعنى يدعون ذاته ويريدون الاتّصال بملكوته بعد الاتّصال بملكه ، فانّ الدّعاء قد يستعمل في دعاء الشّيء لأمر أخر من نصرته واعانته وغيرهما وقد يستعمل في دعاء ذات الشّيء طلبا له من غير ارادة امر آخر منه وهذا هو معناه إذا استعمل مطلقا وهو المراد هاهنا لا طلاقه ولقوله بيانا لهذا المرام (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) يعنى لا يريدون من دعاء ربّهم غير وجه الرّبّ ووجه كلّ شيء هو ما به يتوجّه الى شيء آخر ، ولمّا كان الكلّ متوجّها بحسب التّكوين الى الله فما به توجّههم الى الله هو ملكوتهم المثاليّة أو ما فوقها بحسب مرتبة الدّاعى وهذا في المربوب وامّا الرّبّ فلمّا كان متوجّها الى الخلق للتّكميل كان وجهه الى الخلق ما به يتوجّه إليهم وما به يتوجّه الى الخلق هو ملكوته أيضا ، وفي هذا دليل على ما قالت العرفاء العظام من انّ السّالك ينبغي ان يكون دائم الذكّر ، فانّ المراد بالغداة والعشىّ استغراق الازمنة ولذا لم يكتف الله تعالى في الذكّر بالإطلاق بل قيّده بالكثرة في أكثر ما وقع وينبغي ان يكون دائم الفكر ودائم الحضور ، فانّ الفكر والحضور في لسانهم هو التّفكّر في ملكوت الرّبّ والحضور عنده وغاية تلقين الشّيخ الذكّر للمريد ودعاء المريد بالّذكر المأخوذ هي حصول وجه الرّبّ له والى هذا المعنى


أشارت الآية فتذكّر ، وقد نقل عن الصّادق (ع) وقت تكبيرة الإحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينيك ، ولهم على مرامهم شواهد كثيرة نقليّة وعقليّة وما كان قصدنا الى بيان مقصدهم (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) من حيث شأن نبوّتك بل حسابهم على ربّهم (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) عطف على تطردهم أو جواب للنّهى كما انّ تطردهم جواب للنّفى ، يعنى انّ حساب من دخل في الولاية وطردهم وابقاءهم انّما هو على شأنك الولوىّ لا على شأنك النّبوىّ فلا تطردهم بشأنك النّبوىّ الّذى يراعى الكثرة ويربّى كلّا في مرتبته ويحفظ لكلّ ذي شأن شأنه عن ارادة شهود الرّبّ والاتّصال بوجهه ، ولا تطردهم أيضا بحسب الصّورة بشأنك الحافظ للصّورة عن مجلسك بطلب القوم طردهم فانّ شأنك النّبوىّ يستدعى ان لا تقرّب الفقراء الّذين لا شأن لهم في انظار أهل الدّنيا إليك ، وان لا تحضرهم في المجلس العامّ النّبوىّ ، وقد ذكر في شأن نزول الآية انّها نزلت في قوم من المسلمين مثل صهيب وخبّاب وبلال وعمّار وغيرهم كانوا عند رسول الله (ص) فمرّ بهم ملأ من قريش فقالوا : يا محمّد (ص) أرضيت بهؤلاء من قومك؟! أفنحن نكون تبعا لهم؟! أهؤلاء الّذين منّ الله عليهم؟! اطردهم عنك فلعلّك ان طردتهم اتّبعناك ، وقيل انّه (ص) قبل منهم ان يطردهم من عنده حين وفود القوم عليه وأراد ان يكتب لهم كتاب عهد بذلك ، فنزلت الآية ونحّى الكتاب وذكر غير ذلك في المفصّلات (وَكَذلِكَ) اى مثل ابتلاء أغنياء قومك بفقرائهم (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) حالا وقالا اى الّذين لا استحقاق لهم للدّين وأردنا ان نصرفهم عنك أو عن الولاية (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) استهزاء بهم وتنفّرا عنهم حتّى لا يرغبوا في الإسلام أو في الولاية ولا يؤذوا صاحب الدّين بتزاحمهم بالأغراض الدّنيويّة له ، فاللّام للغاية لا لمحض العاقبة كما قيل (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فما بالك تطردهم وما بالهم يستهزؤن ويطلبون طردهم والله تعالى يذكرهم بالشّكر الّذى هو ابتغاء وجه ربّهم ثمّ بعد نهيه عن طردهم امره بتقريبهم والتّلطّف بهم بالتحيّة عليهم وبشارتهم بالغفران والرّحمة فقال (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) يعنى يؤمنون بالايمان الخاصّ الولوىّ فانّ من بايع عليّا (ع) بالبيعة الولويّة يؤمن بجملة الآيات وهم الّذين يدعون ربّهم في جميع الأوقات والّذين هم على صلوتهم دائمون وهم الّذين لا يبتغون في دعائهم الّا الاتّصال بملكوت ربّهم والحضور عنده ولقاء وجهه (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحيّة لهم وتلطّفا بهم وقل لهم (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) بشارة لهم وتطييبا لنفوسهم وتأنيسا لهم الى ربّهم (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) بيان لمنشأ السّوء لا تقييد له ، يعنى من عمل منكم سوء بالتّنزّل عن دار العلم الى دار الجهل وقبول حكومة الجهل فانّ الواقع لا يكون الّا هكذا (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) عن دار الجهل (وَأَصْلَحَ) نفسه بالدّخول في دار العلم (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اى يغفر له ويرحمه لانّه غفور رحيم فهو من اقامة السّبب مقام الجزاء (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) آيات الكتاب التّدوينىّ في بيان أحوال الخلق وأصنافهم وآيات الكتاب التّكوينىّ من الأولياء والأشقياء واتباعهم بآيات الكتاب التّدوينىّ لتستبين سبيل المطيعين حذفه لادّعاء ظهوره كأنّه لا حاجة له الى البيان من حيث انّه المقصود من كلّ الأحكام (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) تنبيه على


انّ منشأ عبادتهم اهويتهم وقطع لاطماعهم وتأكيد لضلالتهم (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) إذ اتّبعت أهواءكم وعبدت مدعوّاتكم (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) تسفيها لرأيهم وتعريضا بهم وانّهم على اهويتهم وتقليدهم ولا بيّنة لهم والعاقل ينبغي ان يكون في طريقه ودينه وجملة أفعاله على بيّنة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) بالقرآن أو بعلىّ (ع) (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) قيل اشارة الى ما قيل فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب اليم عند نصب علىّ (ع) بالخلافة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وليس لي حكم فيما تستعجلون به (يَقُصُّ الْحَقَ) يفصّل الولاية كيف ما يقتضيه الحكمة والحكم لما سبق انّ الولاية هي الحقّ وانّ كلّ ما سواها فحقّ بحقّيّتها (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) بين الحقّ ومن اتّصل به والباطل ومن اتّصل به (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لرفع النّزاع بيني وبينكم باهلاكى ايّاكم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فيه معنى الاستدراك يعنى لكنّ الأمر الى الله وهو اعلم بالظّالمين ، روى عنهم (ع) انّ ورود الآيات في الولاية (وَعِنْدَهُ) ابتداء كلام من الله أو جزؤ مفعول القول حالا كان أو عطفا (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) جمع مفتح بالفتح بمعنى المخزن أو مفتح بالكسر بمعنى المفتاح ولمّا نفى عن نفسه علم الغيب والقدرة على ما يستعجلون به اثبت مخازن الغيب أو أسباب العلم به والتّصرّف فيه لله تعالى بطريق الحصر وعلى الاوّل فقوله (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) يكون تأسيسا وعلى الثّانى يكون تأكيدا ، ولمّا حصر علم الغيب فيه تعالى عمّم علمه بجملة المحسوسات الخارجة عن حدّ الإحصاء فقال (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أوراق شجرة الجسم أو من أوراق شجرة العلم أو من أوراق شجرة الولاية أو من أوراق الشّجرة الانسانيّة من النّطف الّتى تقع في الرّحم ثمّ تسقط قبل ان تستهلّ (إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) وقد عمّمت الحبّة في الخبر ويسهل عليك تعميمها (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) إثبات المعلوميّة دون الثّبوت بالنّسبة الى الورقة السّاقطة ، ونسبة الثّبوت في الكتاب الى الأشياء الثّابتة للاشعار بانّ السّاقط ساقط عن الكتاب والثّابت ثابت في الكتاب ، والكتاب المبين هو اللّوح المحفوظ وصورته النّبوّة وصورتها القرآن الّذى أعطاه محمّدا (ص) والكلّ صورة الولاية الّتى أصلها وصاحبها أمير المؤمنين (ع) فعنده علم الكتاب الّذى لا رطب ولا يابس الّا فيه (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) التّوفّى أخذ الشّيء بتمام اجزائه والمراد منه هنا مطلق الأخذ وبعد ذكر احاطة علمه أراد أن يذكر احاطة الهيّته وربوبيّته (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) ما كسبتم (بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) من نومكم (فِيهِ) في النّهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ليمضى مدّة عمركم أو الى ان يقضى ويختم غاية عمركم (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) يحكم فيهم ما يشاء بلا مانع ولا يكتفى بقهره وتسلّطه واحاطته (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يحفظونكم من مردة الشّياطين وهو امّ الأرض وسائر الآفات ويحفظون أعمالكم بالكتب والثّبت (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وقد مضى بيان توفّى الله والرّسل والملائكة وملك الموت في سورة النّساء (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) فلا يشذّ عنهم شيء من


قواه وجنوده وهو تأكيد لمفهوم توفّته بحسب المعنى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) كما جاؤا منه (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ أو مطلقا (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يعنى الزمهم الإقرار (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً) جهرا (وَخُفْيَةً) سرّا قائلين (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ) تهديدا لهم (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كما بعث على قوم لوط بامطار الأحجار (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كغرق فرعون وقومه وخسف قارون (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) يخلطكم (شِيَعاً) فرقا مختلفي المسلك متخالفى الأهواء كلّ فرقة مشايعة لإمام (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالمقاتلة والمدافعة والسّرقة وقطع الطّريق (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) آيات قدرتنا على التّفضّل على المؤمنين والانتقام من الكافرين عن الصّادق (ع) من فوقكم من السّلاطين الظّلمة ومن تحت أرجلكم العبيد السّوء ومن لا خير فيه ، ويلبسكم شيعا يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبيّة ويذيق بعضكم بأس بعض هو سوء الجوار ، وأمثال هذا الخبر تريك طريق التّعميم في الآيات وفي الألفاظ بما أمكن ووسع اللّفظ (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) اى بكونه قادرا أو بعلىّ (ع) أو بالعذاب أو بالقرآن الّذى فيه ذكره (وَهُوَ الْحَقُ) المتحقّق (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) حتّى أمنعكم من التّكذيب وانّما علىّ التّبليغ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) يعنى لكلّ خبر وقت وهو كالمثل في العرب (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أو ان وقوعه (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) الخوض الإمعان في السّير في البرّ كان أو في البحر والأكثر استعماله في الماء والمراد به هاهنا الإمعان في سير النّظر (فِي آياتِنا) التّدوينيّة والتّكوينيّة وأعظمها الولاية ، وعن الباقر (ع) في هذه الآية قال : الكلام في الله والجدال في القرآن قال منه القصّاص (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) النّهى عن القعود معهم (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) اشارة الى انّ من يخوض في الآيات يشتغل عن نفسه ومن اشتغل عن نفسه فهو ظالم على انّ خوضه دليل عدم انقياده وهو ظلم آخر (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) الخوض في الآيات وان اتّفق جلوسهم نسيانا معهم (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ممّا يحاسبون عليه من قبائح أعمالهم (وَلكِنْ ذِكْرى) ولكن عليهم ان يذكّروهم قبح الخوض ويمنعوهم منه بقدر ما يمكنهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الخوض ، فلا يذكروا الآيات بما فيه ازدراء ولا يقعوا في ضلالته وعقوبته ، عن الباقر (ع) فلمّا نزلت (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال المسلمون : كيف نصنع ان كان كلّما استهزء المشركون قمنا وتركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام ..!؟ فأنزل الله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) امر بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) اللّعب ما لم يكن له غاية عقليّة ولكن كان له غاية خياليّة كلعب الأطفال ، واللهو ما لم يكن له غاية عقليّة ولا خياليّة وان كان له غاية خفيّة كامضاء عادة مثلا ، والمقصود عدم التّعرّض لمن أخذ دينه بخياله ولا يتصوّر له غاية سوى الغايات الخياليّة الدّنيويّة من الجاه والمناصب أو الصحّة والسّعة أو التّوافق مع الإقران أو التّفوّق على الأمثال أو التّنعّم في الآخرة


والنّجاة من العقوبة فيها ، أو القرب من الأنبياء والائمّة في الجنّة ، أو القرب من الله والاختصاص من بين الأمثال بذلك القرب لانّهم أخذوا صورة الدّين للدّنيا وجعلوا آلة الدّين شركا للدّنيا ، وقوله تعالى (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) اشارة الى هذا (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) وذكّرهم الولاية بالقرآن أو ذكّرهم بولاء علىّ (ع) أو بعلىّ (ع) كراهة ان تمنع نفس من موائد الآخرة بما كسبت من أعمالها لانّ كلّ نفس بما كسبت رهينة الّا الّذين تولّوا أمير المؤمنين (ع) (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) صفة بيانيّة لنفس ، أو استيناف في موضع التّعليل ، والولىّ والشّفيع قد مضى بيانهما (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) وان تفد كلّ فداء (لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ) المتّخذون دينهم لعبا ولهوا (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) استيناف في موضع التّعليل (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) تعريضا بهم ومداراة معهم (ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) الى طريقه المستقيم الّذى هو الولاية (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أذهبته الجنّة على غير طريق (فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) لا يدرى اين يذهب واين يذهب به (لَهُ أَصْحابٌ) لهذا المستهوى رفقة يرحمونه و (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) الى الطّريق قائلين (ائْتِنا) ترحّما عليه وهو لا يجيب لما خولط من مسيس الجنّ (قُلْ) لهم انّ مثلكم مثل هذا المستهوى فانّ الشّياطين قد غلبت عليكم وسلبتكم عقولكم وانا وأصحابي كرفقاء المستهوى ندعوكم الى الطّريق المستقيم الّذى هو ولاية علىّ (ع) ونقول لكم : انّ ولاية علىّ (ع) هو هدى الله و (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) لا هدى سواه (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) من جملة المقول يعنى قل أمرنا لنسلم لربّ العالمين اعراضا عنهم بعد إتمام الحجّة عليهم أو إنصافا لهم في إظهار الدّعوى (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) عطف على لنسلم وان تفسيريّة ، وقيل : عطف على نسلم بتقدير دخول اللّام عليه وان مصدريّة لكن دخول ان المصدريّة على الإنشاء قليل والخطاب في قوله أقيموا يمنعه (وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جملة حاليّة أو معطوفة على جملة انّ هدى الله هو الهدى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) سماوات الأرواح والأرض الأشباح بسبب الحقّ الّذى هو المشيّة الّتى هي ولاية علىّ (ع) كما سبق تحقيقه أو متلبّسا بالحقّ ، فانّ الولاية مع الكلّ ومتقوّم بها الكلّ ولا يخلو منها الكلّ (وَيَوْمَ يَقُولُ) عطف على منصوب اتّقوه أو على السّماوات أو على (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) بتقدير اذكر أو ذكّر ، أو خبر لقوله الحقّ والجملة عطف على جملة (هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، أو ظرف متعلّق بالحقّ أو بعالم الغيب والمعنى قوله الحقّ أو عالم الغيب يوم يقول للشّيء الّذى يريد إيجاده وانّما حذفه لقصد التّعميم مع الإيجاز (كُنْ) ذلك الشّيء (فَيَكُونُ) ويوجد ذلك الشّيء بلا تأبّ ولا تأنّ ، اعلم ، انّ اليوم كما يطلق على يوم عالم الطّبع مقابل ليله كذلك يطلق على كلّ من مراتب العالم ، فانّ كلّا بالنّسبة الى المرتبة الّتى دونها يوم والمرتبة الدّانية ليل بالنّسبة إليها ، ولمّا كان عالم الطّبع عالم الأسباب بمعنى انّ سنّته تعالى جرت بان يوجد الأشياء فيه بالأسباب ، كان موجوداته كأنّها تتأبّى عن الوجود بمحض قوله من دون تهيّة أسبابه والمكلّفون فيه أيضا يتأبّون عن قوله ، ولمّا كان مراتب الآخرة بتمام موجوداتها غير مسبوقة بمادّة ومدّة وسائر الأسباب كان موجوداتها قائمة


بمحض قوله موجودة بنفس امره فكان يوم يقول : كن ؛ فيكون مختصّا بايّام الآخرة (قَوْلُهُ الْحَقُ) فاعل يكون والحقّ صفة القول أو مبتدء وخبر أو مبتدء ويوم يقول خبره والمعنى قوله الحقّ الّذى هو المشيّة فانّها جملة إضافاته الى الخلق أو قوله حقيقة ثابتة هي عين فعله وليس صوتا يقرع ولا لفظا يسمع (وَلَهُ الْمُلْكُ) الملك يطلق تارة على عالم الطّبع مقابل الملكوت والجبروت ، وتارة على ما يعمّ جملة الموجودات الّتى هي مملوكة له تعالى وهذا هو المراد هاهنا ، أو أريد الاوّل على ان يكون المراد بقوله : له الملك ؛ انّ الملك يوم ينفخ في الصّور خالص له وفي غير ذلك يظنّ انّ غيره له تصرّف فيه ولذلك وهم الثّنويّة فقالوا : انّ الظّلمة مقابلة للنّور ، أو أهرمن ليزدان ، ولكلّ منهما تصرّف في الملك (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من يوم يقول ، أو ظرف مستقرّ خبر لقوله الحقّ ، أو خبر بعد خبر لقوله ، أو لغو متعلّق بقوله ، أو بالحقّ أو بالظّرف في قوله له الملك أو بعالم الغيب ، والصّور القرن الّذى ينفخ فيه من صار بمعنى صوّت (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) كالنّتيجة للسّابق (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قيل ليس بين النّسابين اختلاف في انّ اسم ابى إبراهيم تارخ وهو موافق لما عليه الشّيعة من انّ آباء الأنبياء (ع) مطهّرون من الشّرك وانّ آزر كان جدّه لامّه أو عمّه (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى مثل إرائتنا إبراهيم بطلان الأصنام وضلالة قومه أريناه ملكوت السّماوات والتّعبير بالمستقبل لإحضاره لكونه من الأمور الغريبة ، والملكوت مبالغة في المالك كالجبروت في الجابر ، والطّاغوت في الطّاغى ، ولمّا كان عالم الطّبع لا جهة مالكيّة له بل ليس فيه الّا المملوكيّة الصّرفة لم يسمّ ملكوتا بل ملكا ، وباطن عالم الطّبع من عالم المثال فما فوقه يسمّى ملكوتا لمالكيّته وتصرّفه بالنّسبة الى ما دونه ، وقد يطلق الملك على ما سوى الله وعلى المثال وعلى الرّسالة وغير ذلك باعتبار مملوكيّتها للحقّ الاوّل تعالى ، والمراد بالملكوت هاهنا عالم المثال أو هو وما فوقه ان كان المراد بالإراءة اعمّ من الكشف الصورىّ ، والمراد بالسّماوات والأرض هما الطّبيعيّان (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) اى ليأنس ويقرب منّا وليكون من الموقنين ، والقمى عن الصّادق (ع) كشط عن الأرض ومن عليها وعن السّماء ومن فيها ، والملك الّذى يحملها والعرش ومن عليه ، وهو يدلّ على انّه لم يكن كشفا صوريّا فقط (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) ستره بظلامه (رَأى كَوْكَباً) هو الزّهرة كما في الخبر (قالَ هذا رَبِّي) هذا الكلام منه يحتمل ان يكون على سبيل المماشاة مع القوم بإظهاره الدّخول في دينهم ثمّ الاستدلال بالأفول والزّوال على عدم تربيته بالاستقلال ليكون أقرب الى الدّعوة والإنصاف وابعد عن الشّغب والاعتساف ، ولا يلزم منه الكذب المحرّم لانّه كان في مقام الإصلاح ، أو قصد تربيته بنحو تربية الكواكب للمواليد بإذن الله وورّى بحيث يظنّ انّه أراد المعبود ، أو قصد الإنكار وانّه لا يصحّ ان يكون ربّا لكنّه ورّى بصورة الاخبار وكان المقدّر في نفسه الاستفهام الانكارىّ ، ويحتمل ان يكون على سبيل الاستفهام الانكارىّ للإنكار على قومه لانّهم كانوا ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزّهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشّمس ، فأنكر على الثّلاثة عبادتهم ، ويحتمل ان يكون على سبيل الاخبار الاحتمالىّ الّذى يصحّ لكلّ مستدلّ ان يخبر على سبيل الاحتمال عمّا أدّى اليه دليله في بادي الأمر لانّه كان في اوّل خروجه من السّرب الّذى أخفته فيه أمّه ولمّا ظهر له بعد إمعان النّظر انّ ما ادّى اليه دليله في بادي النّظر لم يكن نتيجة صحيحة أنكره وقال : ليس هذا مؤدّى الدّليل الصّحيح ، ومثل


هذا ممدوح لكلّ من أراد التّحقيق والخروج عن التّقليد ولا يكون هذا شركا ، وكلّ هذه مروىّ عنهم (ع) لانّ القرآن ذو وجوه والحمل على جملة الوجوه ما لم يؤدّ الى فساد ورد عنهم (ع) هذا ما يقتضيه التّنزيل ، وامّا بحسب التّأويل فنقول : انّ السّالك ما دام يكون في سرب نفسه المظلم ولم يخرج بالولادة الثّانية الى فسحة عالم الملكوت يكون متحيّرا لا يدرى من اين والى اين وفي اين ، ثمّ إذا أدركته العناية الالهيّة وخرج يسيرا من قعر سربه يطرؤ وعليه حالات وأطوار وظلمات وأنوار ومنيرات فربّما يرى أنوارا عجيبة متلوّنة بألوان مختلفة ، وربّما يرى كواكب واقمارا وشموسا ويذهل عن التّفكّر واستعمال المقدّمات فيظنّ في بادي رؤيته كوكبا أو قمرا أو شمسا انّه هو ، فيصيح به جبرئيل العقل ويفيق من محوه وينظر الى افول المرئىّ وتغيّره فيعلم انّه ليس به ، ولا ضير أن يكون حال إبراهيم (ع) في بادي خروجه من سربه حال سائر السّلاك فيحسب في بادي رؤيته الكوكب انّه هو ، ثمّ ينظر بعقله الى زواله وتغيّره فيرى انّه ليس به ولا يلزم منه شرك ولا كفر لانّ تلك الأنوار ظهورات نور الأنوار ، وقد يغلب حكم الظّاهر على المظهر بحيث يظنّ انّ المظهر هو الظّاهر (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لمّا لم يجد في نفسه داعيا قويّا على التّبرّى ونفى الرّبوبيّة وكان غرضه المماشاة مع القوم بإظهار الإنصاف من نفسه حتّى يدخل في المجادلة الحسنة ، نفى حبّ الآفل عن نفسه كناية خفيّة عن نفى الرّبوبيّة ولذلك لم يؤكّده بشيء من المؤكّدات (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) لمّا قوى الدّاعى لنفى الرّبوبيّة في نفسه ونبّه القوم بالكناية الخفيّة على نفى ربوبيّة مثل هذا كنّى كناية أظهر من الاولى بنسبة الضّلال الى نفسه اوّلا ليكون أقرب الى الإنصاف بالكناية بقوله (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، ونسبة التّمكّن في الضّلال صريحا ثانيا بقوله (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) واكّد الحكم بمؤكّدات عديدة (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) تذكير الاشارة باعتبار الخبر ولتنزيه الرّبّ عن سمة التّأنيث (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بعد ما قوى الدّاعى وتمّ الحجّة نادى القوم صريحا وأظهر التّبرّى ونفى الرّبوبيّة صريحا واكّد الحكم بانّ واسميّة الجملة ثمّ لم يكتف به وأظهر ربوبيّة الله الّذى هو خالق الكلّ بإخلاص الوجه له وصرّح بنفي الإشراك به مؤكّدا فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) خالصا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) فلا ينبغي لكم ان تحاجّونّى لانّى على هداية وبيّنة وأنتم على عمى وضلالة (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) كأنّهم كانوا يحاجّونه بالتّخويف من الهتهم وبما أراهم الشّيطان منهم من بعض ما لا يعتاد (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) وحينئذ لا يكون خوفي منهم بل من ربّى (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا أخاف ان يصيبني مكروه من غير علم ربّى به (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بما أقول لكم من انّ ربّى خالق الهتكم وانّ علمه محيط بالكلّ ولا قدرة ولا علم لآلهتكم كما انّ ربّى له القدرة الكاملة والعلم الكامل (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) يعنى لا ينبغي لي ان أخاف ما أشركتم به بعد ما بان انّ الشّركاء عاجزون جاهلون وانّ ربّى قادر عالم (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) يعنى انّ هذا امر عجيب اى تخويفى من العاجز الجاهل مع عدم خوفكم من اشراككم الجاهل العاجز بالعالم القادر (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً)


بيان لحال الشّركاء لا انّه قيد للاشراك أو تقييد للاشراك باعتبار انّ الشّخص ما لم يخرج من بيت نفسه وسجن طبعه لا يمكنه الخروج عن الشّرك بل ليس طاعته وتبعيّته للأنبياء والأولياء الّا الإشراك بالله ورؤية الثّانى له لكن هذا الإشراك ممّا نزّل الله به سلطانا وحجّة وهو طريق الى التّوحيد ومجاز وقنطرة الى الحقيقة وقد سبق تحقيق ذلك (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نبّه على غباوتهم بانّ من له علم يميّز بين الأمن وغيره ، وعدم تميز هم لعدم شعورهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ) كرّر المسند اليه باسم الاشارة البعيدة إحضارا لهم في الذّهن واشعارا بعظم شأنهم وتأكيدا للحكم وتمييزا لهم بحصر الأمن والاهتداء فيهم (لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) عن أمير المؤمنين (ع) انّه من تمام قول إبراهيم (ع) ويحتمل بحسب اللّفظ ان يكون مستأنفا من الله ، ونقل عن رسول الله (ص) انّ المراد بالظّلم ما قاله العبد الصّالح يا بنىّ لا تشرك بالله انّ الشّرك لظلم عظيم ويستفاد من هذا الخبر انّ المراد بالايمان الايمان الخاصّ الولوىّ الحاصل بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة وانّ تنكير الظّلم للتّفخيم ، والنّفى وارد على تفخيمه وليس من قبيل النّكرة في سياق النّفى ليفيد العموم (وَتِلْكَ) الّتى ذكرناها من استدلال إبراهيم (ع) بالزّوال والدّثور وعدم القدرة والشّعور على بطلان معبوداتهم وبعكسها على حقّيّة معبوده (حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ألهمناها باستعداده وقوّة نفسه وقدسه (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) ولمّا توهّم انّه يرفع درجات من يشاء سواء كان باستحقاق أو بعدم استحقاق رفع ذلك الوهم حتّى يتنزّه عن ارادة جزافيّة غير مسبوقة بحكمة ومصلحة بقوله (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) لا يفعل الّا عن حكمة وإتقان للفعل (عَلِيمٌ) بقدر استحقاق كلّ وكيفيّته وما يقتضيه (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) تعظيم له ببيان ما منّ به عليه (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) عن الباقر (ع) في بيان اتّصال الوصيّة من لدن آدم (ع) الى زمانه (ع) هديناهم لنجعل الوصيّة في أهل بيتهم ، وفيه اشعار بانّ هدايتهم امتنان من الله على محمّد (ص) وأهل بيته لانّهم آباؤهم كما أولاد آبائهم كما انّ هداية نوح (ع) امتنان من الله على إبراهيم (ع) لكونه جدّه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) عطف على إبراهيم والتّقدير تلك حجّتنا آتيناها إبراهيم (ع) وآتيناها بعضا من ذرّيّته أو عطف على اسحق أو يعقوب ، أو عطف على نوحا ، أو عطف على وهبنا ، أو هدينا ، بتقدير أرسلنا وهذا على ان يكون من التّبعيضيّة واقعا موقع الاسم الخالص لقوّة معنى البعضيّة فيها ويكون داود وسليمان (الى الآخر) بدلا تفصيليّا والّا فهو حال من داود وسليمان ويجرى حينئذ في داود وسليمان الوجوه المذكورة في عطف من ذرّيّته والضّمير المضاف اليه لإبراهيم أو لإسحاق أو ليعقوب ، وعلى هذا كان المعدودون في الآية الثّالثة عطفا على نوحا لانّ لوطا ليس من ذرّيّة إبراهيم (ع) وكذلك من ذكر في الآية الثّانيّة على ان يكون الياس هو إدريس جدّ نوح (ع) وعلى هذا لو كان الضّمير لنوح (ع) لم يكن من في الآية الثّانية عطفا على داود ، ويحتمل ان يكون الضّمير لنوح (ع) لانّه أقرب والامتنان بهداية ذرّيّته على إبراهيم (ع) لانّ أكثرهم كانوا ذرّيّة إبراهيم (ع) ومن لم يكن ذرّيّة كان ذرّيّة آبائه (داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ) بن اموص من أسباط عيصا بن إسحاق كذا قيل (وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) لم يراع في ذكر الأنبياء التّرتيب الوجودىّ ولا التّرتيب الشّر فيّ (وَكَذلِكَ) الجزاء الّذى جزينا إبراهيم (ع) من إيتاء الحجّة ورفع الدّرجات وجعل الأنبياء من ذرّيّته ومن


فروع آبائه وهداية كثير من آبائه وذرّيّاته (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يعنى انّ جزاءنا إبراهيم (ع) بما جزينا انّما هو لكونه محسنا فكلّ من اتّصف بصفة الإحسان نجزيه مثله (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ) قيل : هو إدريس ؛ وقيل : هو من أسباط هرون أخي موسى (ع) (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) استيناف واشارة الى استعدادهم واستحقاقهم وانّ هداية الله منوطة بالاستعداد من قبل القابل لا انّ له ارادة جزافيّة (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) بن اخطوب علم أعجميّ ادخل عليه اللّام كما يدخل في بعض الاعلام (وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) في زمانهم (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) عطف على كلّا أو نوحا وجعلت من التّبعيضيّة لقوّة معنى البعض فيها موقع الاسم (وَاجْتَبَيْناهُمْ) عطف على فضّلنا أو هدينا (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تكرار هديناهم لتعيين المهدىّ اليه ، أو المراد بالاوّل الاراءة وبالثّانى الإيصال أو الاوّل هداية طريق النّبوّة والثّانى هداية طريق الولاية والصّراط المستقيم قد يراد به الولاية مطلقا سواء كانت قبولا أم تحقّقا ، وقد يراد به الولاية الجامعة بين الكثرة والوحدة والجمع والفرق وهو المراد هاهنا والأصل في الكلّ ولاية علىّ (ع) وهي متّحدة مع علىّ (ع) ولذلك فسّر قوله تعالى (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) بشيعة علىّ (ع) مع رجوع الضّمير ظاهرا الى نوح (ع) (ذلِكَ) المذكور من الهداية الى الصّراط المستقيم الجامع بين طرفي الكثرة والوحدة (هُدَى اللهِ) واسم الاشارة البعيدة واضافة الهدى الى الله اشعارا بتعظيمه أو ذلك الّذى هؤلاء الأنبياء عليه هدى الله لا هدى غير الله (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) اى هؤلاء مع علوّ شأنهم (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فيزول بسببه ما تفضّلنا به عليهم فكيف بكم ان تشركوا بولاية علىّ (ع) (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قد يراد به النّبوّة فانّها انتقاش القلب بالاحكام الالهيّة وقد يراد به الرّسالة فانّها انتقاش الصّدر بالاحكام الالهيّة والكتاب التّدوينىّ صورة ذلك والمراد به هنا المعنى الثّانى (وَالْحُكْمَ) بمعنى الحكمة الّتى هي الدّقّة في العلم والكتاب للاتقان في العمل وهي مسبّبة عن الولاية والمراد بها هنا الولاية (وَالنُّبُوَّةَ) يعنى انّا تفضّلنا عليهم بالمراتب الثّلاث الّتى لا كمال أتمّ منها (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) اى بالمراتب الثّلاث (هؤُلاءِ) يعنى انّهم مقرّون بالمذكورين فان كان إقرارهم لأجل اتّصافهم بتلك المراتب فينبغي ان يقرّوا بك أيضا لاتّصافك بها ، وان كان إقرارهم لاشخاصهم البشريّة مع كفرهم بتلك المراتب ولذا كفروا بك فلا يضرّونها شيئا (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم أهل بيت محمّد (ص) واتباعهم وقد قيل : انّهم أبناء الفرس (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الهاء للسّكت ، امره تعالى مع كمال مرتبته وجلالة قدره بالاقتداء تعظيما لشأن الاقتداء وترغيبا للامّة عليه فانّه لا يمكن خروج نفس من ظلمات اهويتها ومضيق سجنها الّا بالاقتداء والارادة الّتى هي التّولّى وقبول الولاية والانقياد لولىّ الأمر ولذلك ورد : لو انّ عبدا عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولىّ امره (وفي خبر) ولاية علىّ بن ابى طالب لاكبّه الله على منخريه في النّار ، ونقل عن الصّادق (ع): لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء لانّه المنهج الأوضح والمقصد الاصحّ ، قال الله تعالى لا عزّ خلقه محمّد (ص): (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء


لندب أولياءه وأنبياءه اليه ، ويجوز ان يكون الخطاب عامّا لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (قُلْ) لهؤلاء الكافرين برسالتك (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) اى على التّبليغ (أَجْراً) حتّى يثقل عليكم فتكفروا برسالتي (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى) عظة (لِلْعالَمِينَ) فمن شاء اتّعظ ومن شاء كفر لكنّهم لا يتّعظون وجهلوا الله وقيّوميّته (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حتّى يعلموا سعة رحمته وكمال حكمته ورأفته بخلقه وانّ الرّسالة غاية لطف منه بالخلق (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وأنكروا لطفه وحكمته في إرسال الرّسول (قُلْ) لهم نقضا عليهم (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) تجزّئونه (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) يعنى انّهم يبدون ما لا يظهر فيه رسالتك ويخفون ما فيه رسالتك ، وكذا يبدون ما يوافق اهويتهم ويخفون ما لا يوافقها ، وهو تعريض بأمّته (ص) حيث يبدون بعده من الكتاب ما يوافق أهويتهم ويخفون ما لا يوافقها (وَعُلِّمْتُمْ) بذلك الكتاب (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) من احكام الشّرع وآداب المعاش والمعاد (قُلِ اللهُ) ان لم يجيبوا لك وبهتوا لانّهم لا جواب لهم سواه ، ويحتمل ان يكون هذا مستأنفا غير مرتبط بالسّؤال ويكون المقصود امره (ص) بالمداومة على ذكر الله حالا وقالا والاعراض عنهم (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ) في ظلمات اهويتهم ولجج آمالهم بحيث لم يتمكّنوا من تصديقك وداموا على تكذيبك (يَلْعَبُونَ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) مثل كتاب موسى (ع) (مُبارَكٌ) جعل فيه البركة لمن تعلّمه وعمل به ودام على قراءته (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب الّتى قبله لتذكّر به (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) مكّة والصّدر وصاحب الصّدر (وَمَنْ حَوْلَها) من أهل الشّرق والغرب في الصّغير والكبير ولمّا كان المراد بمن حولها من سكن الدّنيا بالنّسبة الى الملكوتين السّفلى والعليا صحّ تفسيره بمن في الأرض (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) اى مذعنون بها (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعنى يذعنون بالكتاب وانّه من الله وحقّ وصدق لانّه صورة الآخرة ومن أذعن بالآخرة اشتاق إليها ، ومن اشتاق إليها أذعن وصدّق بكلّ ما فيه ذكرها ، وليس في الكتاب الّا ذكرها ، ومن أذعن بالآخرة والكتاب آمن بعلىّ (ع) لانّ الآخرة والكتاب صورتا علىّ (ع) كما انّ بشريّته صورته ، ومن آمن به صار مصلّيا حقيقة ومن صار مصلّيا حقيقة شغله لّذة الصّلوة عن كلّ لّذة فهم لا يفارقونها (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) اضافه الصّلوة إليهم للاشارة الى انّه كان لكلّ صلوة مخصوصة هي روح صلوتهم القالبيّة المشتركة بين الكلّ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) نزول الآية مشهور وفي التّفاسير مسطور ، من انّها في عبد الله بن ابى سرح وانّه قدم المدينة وأسلم وكان له خطّ حسن وكان إذا نزل الوحي على رسول الله (ص) دعاه فيكتب ما يمليه رسول الله (ص) وكان يبدّل الكلمة مكان كلمة بمعناها وكان رسول الله (ص) يقول هو واحد فارتدّ كافرا ولحقّ بمكّة وهدر رسول الله (ص) يوم فتح مكّة دمه وعثمان التمس العفو منه (ص) فصار من الطّلقاء ، لكن المقصود والتّأويل في أعداء علىّ (ع) حيث ادّعوا الخلافة لأنفسهم ويجرى في من نصب نفسه للمحاكمة بين الخلق أو للفتيا وبيان أحكامهم من غير نصّ واجازة من الرّسول (ص) بلا واسطة أو بواسطة ، فانّ حكم مثله وفتياه افتراء على الله ولو أصاب الحقّ فقد أخطأ وليتّبوأ


مقعده من النّار وليست الاجازة الالهيّة باقلّ من الاجازة الشّيطانيّة الّتى عليها مدار تأثيرات مناطرهم ونفخاتهم ولذلك ورد عنهم (ع): هذا مجلس لا يجلس فيه الّا نبىّ أو وصىّ أو شقىّ ، اشارة الى مجلس القضاء وليس الوصىّ الّا من نصّ المنصوص عليه على وصايته ، وكانت سلسلة الاجازة بين الفقهاء كثّر الله أمثالهم والعرفاء رضوان الله عليهم مضبوطة محفوظة وكان لهم كثير اهتمام بالإجازة وحفظها ، حتّى انّهم كانوا لا يتكلّمون بشيء من الأحكام ولا يحكمون على أحد بل لا يقرءون شيئا من الادعية والأوراد من غير اجازة ، وقد نقل العيّاشى عن الباقر (ع) في تفسير الآية انّه قال : من ادّعى الامامة دون الامام (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) للإمام أو لأنفسهم بالافتراء على الله بقرينة ما يأتى من قوله (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) ، اشارة الى الافتراء وبقرينة (كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) اشارة الى الانحراف عن الأوصياء والظّلم لهم ، فالمعنى لو ترى إذا الظّالمون للإمام أو لاتباعه أو لأنفسهم أو للخلق بادّعاء الامامة أو الحكومة بين النّاس والفتيا لهم من غير اجازة (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) وشدائدها الّتى تغمر عقولهم وتدهشهم بحيث يغشى عليهم (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم قائلين (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) غيظا عليهم (الْيَوْمَ) متعلّق باخرجوا أو بتجزون والجملة جزؤ مقول الملائكة أو استيناف من الله كأنّه صرف الخطاب عن الرّسول (ص) وخاطبهم بنفسه وقال اليوم (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فالويل لمن اعرض عن المنصوصين وادّعى الرّأى والفتيا لنفسه من غير نصّ من المنصوصين (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) هو أيضا امّا جزء قول الملائكة أو من قول الله سواء جعل الجملة الاولى من الله أو من الملائكة ، والمراد بالفرادى الفرادى عن كلّ ما يظنّ انّه له من العيال والأموال ومن القوى والفعليّات وعن كلّ ما يظنّ انّه شفيعه عند الله ممّا جعله شركاء الله أو شركاء خلفائه (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فرادى عن كلّ ذلك وهذا يدلّ على ما قاله العرفاء من تجدّد الأمثال فانّه يدلّ على تعدّد الخلق (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) في الدّنيا من الأموال والعيال والقوى والفعليّات (وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) من الأصنام والكواكب وغيرها من المعبودات الباطلة وممّن ادّعى الخلافة من دون اذن واجازة وممّن ادّعى الرّياسة والحكومة والفتيا من غير اجازة (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) لله أو لعلىّ (ع) (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) اى وصلكم على قراءة الرّفع والبين من الاضداد وعلى قراءة النّصب فالفاعل مضمر والبين ظرف (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) انّهم شركاء الولاية والخلافة أو شركاء الله عن الصّادق (ع): نزلت هذه الآية في بنى أميّة وشركاؤهم ائمّتهم ثمّ لمّا ذكر حال المنحرفين وظلمهم وعقوبتهم ذكر كيفيّة تدبيره للعالم وآيات قدرته وعلمه ليكون كالعلّة للزوم كون الخلافة من الله المشار اليه بقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) (الآية) وحجّة على المنحرفين عنها فقال (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بالنّجم والشّجر أو الإسلام من طينة طيّبة والايمان من الإسلام والكفر من طينة خبيثة أو الصّدر المنشرح بالإسلام من طينة طيّبة والقلب من ذلك الصّدر والمنشرح بالكفر من طينة خبيثة ، أو طينة المؤمن ممّا يطرؤ عليها من السّجّين وطينة الكافر ممّا يعرضها من العلّيّين ، أو العلم من العلماء والجهل من الجهلاء ، أو النّور من المستنير والظّلمة من المظلم فانّ الكلّ يسمّى حبّا ونوى باعتبار محبوبيّته وبعده من الخير كما أشير اليه في الاخبار (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)


خبر بعد خبر وأسقط العاطف هاهنا وفي قوله فالق الإصباح وأتى به في قسيم كلّ وكذا في قوله والنّوى للاشارة الى انّ كلّا مع قسيمه كاف في الدّلالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته وتدبيره لعباده ، لانّ كلّا من قوله يخرج الحىّ وفالق الإصباح كأنّه كلام مستأنف غير مربوط بسابقه والمراد بالحىّ النّامى من النّبات والحيوان أو ذو الحسّ والحركة من الحيوان وبالميّت غيره ، أو المراد به المسلم والمؤمن والعالم ومقابلوهم ، والعدول عن الاسم الى الفعل المضارع للاشارة الى قلّة الحىّ كأنّه قلّما يحصل إخراجه من الميّت بخلاف الميّت فانّه بكثرته كأنّه مستمرّ إخراجه (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ) أتى باسم الاشارة البعيدة للاشارة الى عظمة من كان هذه صفته (اللهَ) اى المستحقّ للالهيّة لا ما تجعلونه إلها (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون وجملة ذلكم الله معترضة ان كان قوله (فالِقُ الْإِصْباحِ) خبرا بعد خبر لانّ ، أو مستأنفة ان كان مستأنفا ، أو خبرا بعد خبر لذلكم (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) وقت راحة من سكن اليه إذا انس به واطمأنّ أو وقت سكون عن الحركة وقرئ جاعل اللّيل وعلى قراءة جعل فالاختلاف بالاسم والفعل ، كأنّه للاشارة الى انّ اقتضاء اللّيل السّكون امر ذاتىّ له لا عرضىّ محتاج الى تجديد الجعل بتجدّد اللّيل ، بل جعله سكنا لازم لخلقته اوّلا بخلاف فلق الإصباح ، واللّيل اعمّ من ليل اليوم وليل عالم الطّبع وليل عالم الجنّة وليل صروف الدّهر من القحط والزّلازل وكثرة القتل والنّهب وكثرة الأمراض وغيرها ، وكلّ مرتبة من مراتب العالم الكبير أو الصّغير جهتها الدّانية ليل بالنّسبة الى جهتها العالية ، هذا في العالم الكبير وليل الطّبع والنّفس والجهل والشّهوات والأمراض والبلايا والأحزان في الصّغير (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) سببى حسبان للأوقات لتجاراتكم وزراعاتكم وديونكم ومواعيدكم وقد يعبّر عن الولاية والنّبوّة وعن الولىّ والنّبىّ بالشّمس والقمر ، والحسبان حينئذ يكون بمعنى المحاسب أو ميزان الحساب فانّهما شاهدان ومحاسبان على الجليل والقليل وهما اللّذان يعبّر عنهما الصّوفيّة بالشّيخ المرشد والشّيخ الدّليل فانّهما في اصطلاحهم اعمّ من الولىّ والنّبىّ وخلفائهما والنّبوّة كالقمر تكسب النّور من الولاية كالدّليل من المرشد وقد يعبّر بهما عن العقل الكلّىّ والنّفس الكلّيّة وقد يعبّر عن العقل الجزوىّ والنّفس الجزويّة أو العقل الجزوىّ والقلب أو آدم وحوّاء ، كلّ ذلك في العالم الصّغير وعلى كلّ التّقادير ، فالحسبان بمعنى المحاسب أو ميزان الحساب (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) لمّا كان المراد من هذه المقدّمات تصوير تدبيره لمعاش الخلق بحيث لم يشذّ شيء ممّا يحتاجون اليه في المعاش حتّى يكون برهانا قاطعا على عدم إهمالهم فيما يحتاجون اليه في امر المعاد المشار اليه بقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) وأحضره باسم الاشارة وصرّح بأنّه تقديره ليكون كالمشاهد للسّامع فيصير قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) غنيّا عن الحجّة ، والنّجوم ان كانت اعمّ من الشّمس والقمر فذكرهما هناك لشأن الحسبان وهاهنا لشأن الاهتداء بهما ، والنّجوم في عالم الكون معلوم وفي الصّغير القوى والمدارك الجزئيّة والواردات الغيبيّة والإلهامات القلبيّة والاذكار السنيّة وفي الكبير الائمّة (ع) وخلفاؤهم والمراد بالظّلمات الظّلمات الصّوريّة والمعنويّة من ظلمات النّفس وشبهاتها وزّلاتها وضلالاتها وقد فسّرت النّجوم بآل محمّد (ص) (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) آيات علمنا وقدرتنا وتدبيرنا للأشياء على طبق حكمتنا بنصب رئيس في كلّ من مراتب العالم الكبير والصّغير في الكتاب التّدوينىّ والتّكوينىّ الآفاقىّ والانفسى ، ليدلّ على وجوب رئيس منّا في أشرف أجزاء العالم الكبير


وهو الإنسان وليس تفصيلنا للآيات لكلّ ذي شعور بل للإنسان ولا لكلّ فرقة منهم بل (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فانّ غيرهم لا ينجع فيه تفصيل الآيات (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)، والعلم قد يطلق بمعنى مطلق الإدراك تصوّرا كان أو تصديقا ، وقد يطلق بمعنى العرفان وهو التّصوّر الجزئىّ وقد يطلق بمعنى ادراك النّسبة وهما كان أو شكّا أو ظنّا أو علما عاديّا أو تقليديّا أو يقينا تحقيقيّا ، وقد يطلق على الاعتقاد الرّاجح ظنّا كان أو علما عاديّا ، أو تقليدا ، أو يقينا ، وقد يطلق على ما يقابل الظّنّ من هذه الثّلاثة وهذه ليست بمرادة وهو واضح ، وقد يطلق على اليقين واليقين ان كان متعلّقا بالأمور المعاشيّة من غير توجّه وارتباط بالآخرة كما قال تعالى ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ،) فليس تفصيل الآيات لهذا العالم لانّه لغفلته لا يدرك ذا الآية من الآيات بل ينفى عنه العلم وان كان متعلّقا بالأمور الاخرويّة من العقائد العقليّة والأعمال القلبيّة والأخلاق النّفسيّة والعبادات القالبيّة والأعمال المعاشيّة المؤدّية الى إصلاح المعاد فامّا ان لا يقارن العمل ولا يستخدم الخيال بل يستخدمه الخيال في مآربه الكاسدة ومقاصده الفاسدة ويجعل آلة الدّين شركاء للدّنيا سواء قارن صورة العمل كما في المتعبّدين المرائين أو لا ، كما في المتهتّكين الّذين لا يبالون بما عملوا ولا بما قيل فيهم أو قالوا ، فهذا لا يسمّى أيضا علما عند أهل الله لما فيه من عدم الاشتداد بل من عدم التّوجّه الى المعلوم ، الا ترى الى قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) كيف اثبت لهم هذا العلم ثمّ نفاه عنهم لمّا لم يعملوا بمقتضاه ، وامّا ان يقارن العمل فيما له تعلّق بالعمل ويقارن الاشتداد فيه وفيما لا تعلّق له بالعمل بان يستخدم الخيال ويستتبع المدارك والقوى ثمّ الأعضاء في مآربة العقليّة ، ويترقّى القوى والأعضاء من حضيض التأبّى الى أوج الانقياد والتّسليم والعقل من مقام حصول صورة المعلوم عنده الى مقام حضوره ، فانّ العلم يقتضي العمل فاذا قارن مقتضاه اشتدّ ولم يقف حتّى يتحقّق العالم بالمعلوم ويتّحد العلم والعالم والمعلوم ، فهذا العالم هو الّذى يرى قدرة الله وعلمه وحكمته في كلّ مقدور ولذا جعل تفصيل الآيات من فلق الحبّ الى جعل النّجوم سببا للهداية لهذا العالم ، وقد مضى تحقيق العلم ومراتبه في سورة البقرة عند قوله تعالى (لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) نفس آدم (ع) بحسب الجسم أو نفس النّبىّ (ص) بحسب الإسلام أو نفس الولىّ (ع) بحسب الايمان أو نفس الكلّ أو ربّ النّوع بحسب الحيوة الحيوانيّة وبحسب الحيوة الانسانيّة (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) هذه الكلمة مجملة متشابهة من حيث اللّفظ والمعنى والاعراب ، قرئ مستقرّ بفتح القاف اسم مفعول من استقرّه إذا وجده قارّا ساكنا ، أو من استقرّ إذا قرّ وسكن بمعنى مستقرّ فيه ، أو اسم مكان أو مصدرا ميميّا وهكذا الحال في المستودع ، وقرئ بكسر القاف اسم فاعل من استقرّ بمعنى قرّ والمعنى هو الّذى انشأكم فمنكم قارّ ومنكم غير قارّ ، أو محلّ قرار ومحلّ عدم قرار ، أو لكم استقرار وعدم استقرار ، أو محلّ قرار وعدم قرار ، أو فيكم استقرار وعدم استقرار أو محلّ قرار وعدم قرار أو قارّ وغير قارّ ، والأصلاب والأرحام والأبدان والدّنيا والبرازخ بوجه محلّ قرار وبوجه محلّ عدم قرار للنّطف والنّفوس والأبدان ، وبعد القيامة محلّ قرار على الإطلاق ، والأبدان والنّفوس والصّدور والقلوب محلّ قرار للحيوة الحيوانيّة والانسانيّة والإسلام والايمان والعلوم بوجه ، ومحلّ عدم قرار بوجه (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) ولمّا كان الاستدلال بالانشاء من نفس والاستقرار والاستيداع على تدبيره وحكمته محتاجا الى استعمال نوع فطنة فوق العلم ذكر الفقه معه (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ


مِنَ السَّماءِ) سماء الطّبع وسماء الأرواح والنّبوّة والولاية (ماءً فَأَخْرَجْنا) التفات اشعارا بانّ نزول الماء من السّماء كأنّه يكفيه الأسباب الطّبيعيّة ولا حاجة له الى مباشر قريب سواها بخلاف إخراج النّبات الأخضر الطّرىّ من الحبّ الجماد اليابس فانّ له مباشرا قريبا مدبّرا حكيما قديرا الهيّا سوى الأسباب الطّبيعيّة (بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) من أنواع النّبات أو نموّ كلّ شيء من أنواع الحيوان بمعنى سبب نموّه أو نباتا مناسبا لكلّ نوع من أنواع الحيوان ولرفع كلّ حاجة من أنواع الحاجات (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) اى من النّبات ورقا وغصنا (خَضِراً) وصف مثل أخضر أو من أجل الماء زرعا ونباتا خضرا وعلى هذا يكون من عطف التّفصيل على الإجمال (نُخْرِجُ مِنْهُ) اى من النّبات أو من الخضر أو من أجل الماء (حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ) خبر مقدّم (مِنْ طَلْعِها) بدل أو من الّنخل عطف على نبات كلّ شيء بإقامة من التّبعيضيّة مقام الاسم أو عطف على منه ومن طلعها خبر مقدّم والجملة حال أو مستأنفة (قِنْوانٌ) أعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو (دانِيَةٌ) قريبة التّناول (وَ) أخرجنا به أو منه أو نخرج منه (جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً) في الشّكل والطّعم واللّون (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) اى ثمر كلّ واحد (إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) اى نضجه حتّى تعلموا انّ لها مدبّرا حكيما قديرا وانّ حالكم حالها (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالايمان العامّ أو الخاصّ فانّ الايمان بوحدته كاف في الاستدلال بالمذكورات وان لم يكن علم وفقه (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) بدل من شركاء أو مفعول اوّل ولله حال من شركاء وذلك لانّ بعضهم يجعلون إبليس ذا الهة ، وبعضهم قائلون بالظّلمة كناية عن دار الجنّة والشّياطين ، وبعضهم يعبدون الأرواح الخبيثة الّتى هي الجنّة والشّياطين زعما منهم انّ تلك الأرواح هي الأرواح الّتى كانت واسطة بين الله وبين الخلق وجميع المشركين سواء صرّحوا بانّ معبوديهم الشّياطين والجنّة أو لم يصرّحوا بل عبدوا الشّجر والصّنم والكوكب وغيرها لا يعبدون الّا الجنّ في عبادتهم المعبودات الباطلة كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) والسّرّ في ذلك انّ الجنّ من اتباع إبليس تزيّن لهم المعبودات الباطلة فيطيعونهم في ذلك فيعبدون الجنّ من حيث لا يشعرون (وَخَلَقَهُمْ) جملة حاليّة بتقدير قد أو لا حاجة لها الى قد لو ورد الماضي حالا كثيرا وفصيحا بدون قد يعنى خلق الله الجنّ والمخلوق لا يكون معبودا كالخالق ، ويحتمل إرجاع الضّمير الى الجاعلين يعنى والخالق لهم لا يكون كغير الخالق لهم (وَخَرَقُوا لَهُ) جعلوا لله من عند أنفسهم من غير حقيقة وبرهان (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقالوا نحن أبناء الله والمسيح ابن الله وعزيرٌ ابن الله والملئكة بنات الله وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منهم بذلك (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما من غير سبق مادّة ومدّة لا من أصل خلق ولا على مثال سبق بدعه انشأه كابتدعه والبديع الحادث لازم ومتعدّ فسماوات الأرواح وأراضى الأشباح كلّها مخلوقة (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) كيف يجوز ان يكون له ولد (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) على مثاله شريكة له غير مخلوقة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فلم يكن شيء صاحبته ولا ولده بل الكلّ مخلوق له (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)


فلا يحتاج الى ولد وكيل في استعلام حال بعض الأشياء (ذلِكُمُ) الموصوف بالأوصاف المذكورة من قوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِ) الى هاهنا والإتيان باسم الاشارة البعيدة المشيرة الى الموصوف بتلك الأوصاف للتّعظيم ولإحضارها في الّذهن وليكون اشارة الى علّة انّيّته تعالى بطريق برهان الإنّ والتّكرار مع سابقه للتّمكّن في الأذهان (اللهُ) اى المسمّى بالله الدّائر على ألسنتكم والموصوف بهذه الأوصاف حقيقة وجوديّة فالمسمّى بالله حقيقة متحقّقة (رَبُّكُمْ) اشارة الى قيّوميّته وربوبيّته لخصوص نوع الإنسان (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفى للشّريك له في الآلهة (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) نفى للثّانى عنه تعالى ، فانّ كلّ ما يسمّى شيئا فهو مخلوق له تعالى متعلّق الوجود به تعالى وليس ثانيا له (فَاعْبُدُوهُ) يعنى بعد ما ثبت انّيّته وربوبيّته ، وان لا ثانى له فينبغي العبادة له فاعبدوه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) حافظ لا حاجة له في تدبير الأشياء الى وكيل وواسطة من ولد وغيره لإحاطته بالكلّ ، ولمّا صار المقام مظنّة ان يقال هل يدرك مع احاطته؟ ـ فقال جوابا : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لا ابصار العيون ولا ابصار القلوب لإحاطته وقصور المحاط عن ادراك المحيط ، ولكن تدركه القلوب بحقيقة الايمان (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) لانّ شأن المحيط ادراك المحاط (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لطفا يقصر عن إدراكه الأبصار لقصورها (الْخَبِيرُ) بالأشياء ومنها الأبصار ومثل هذا يسمّى في البديع بتشابه الأطراف (قَدْ جاءَكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا لم يدركه الأبصار فهل يمكن إدراكه؟ ـ فقال : قد جاءكم (بَصائِرُ) جمع البصيرة كالابصار جمع البصر والبصيرة للقلب كالبصر للبدن تطلق على قوّة بها يدرك المعقولات وعلى إدراكها وعلى الحجج الّتى بها يكون ذلك الإدراك وهذه هي المرادة بالبصائر هاهنا ، وهي اعمّ من الأنبياء والأولياء ومعجزاتهم وكراماتهم وسيرهم وأخلاقهم وكتبهم وشرائعهم ، ومن البلايا والواردات والعبر والآيات الّتى تكون لخصوص الإفراد أو لعموم العباد ، هذا في الآفاق ، وامّا في الأنفس فهي عبارة عن العقول والزّواجر والنّفوس والخواطر والإلهامات والمنامات خصوصا الصّادقات منها ، فانّها ادّل دليل في العالم الصّغير على وجود الآخرة وبقائها ووجود كلّ جزء من أجزاء عالم الطّبع فيها ماضياتها وآتياتها ، وهذا هو الدّليل الوافي لكلّ ذي بصيرة على بقاء الأنفس بعد فناء الأبدان فكلّ هذه بصائر (مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ) بها من أسماء الله وصفاته ومن أمور الآخرة (فَلِنَفْسِهِ) ابصر (وَمَنْ عَمِيَ) عنها (فَعَلَيْها) عمى (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) هذه حكاية قول النّبىّ (ص) بتقدير القول أو هي من الله لكنّها اشارة الى انّ حفظه تعالى وتدبيره للعباد موكول الى سبق الاستحقاق والاستعداد حتّى لا يحتجّ عليه العباد (وَكَذلِكَ) التّصريف الّذى صرّفنا الآيات والحجج في الألفاظ السّهلة التّناول بحسب المعنى (نُصَرِّفُ) متتاليات (الْآياتِ) الآفاقيّة والانفسيّة في العالم وفي النّفوس وفي الألفاظ ليعمى فرقة وليبصر فرقة اخرى (وَلِيَقُولُوا) اى الفرقة العامّيّة واللّام للعاقبة (دَرَسْتَ) قرئ درست ودارست معلوما بتاء الخطاب بمعنى قرأت وذاكرت وتعلّمت ، وقرئ درست بتاء التّأنيث بفتح الرّاء وصضمّها ودارست بتاء التّأنيث ودرست ببناء المجهول وتاء التّأنيث ودر سن بنون جمع المؤنّث ودارسات بجمع اسم الفاعل والكلّ من الدّروس بمعنى الاندراس ، ويجوز ان يكون درست مجهولا بمعنى قرئت ، وقرئ درس معلوما بالغيبة بمعنى تعلّم محمّد هذه الآيات ودرس بكلّ من معنييه لازم ومتعدّ (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)


لا أهواء المشركين (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان للموحى أو اعتراض للتّعليل (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تبال بهم ولا تتّبع أهواءهم ولا تحزن عليهم لشركهم والمقصود العمدة المشركون بالولاية (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) حتّى تحزن عليهم وانّما أنت منذر (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) عائد الموصول محذوف وفاعل يدعون راجع الى المشركين ، والمقصود منه لا تسبّوا الّذين يدعوهم المنحرفون عن علىّ (ع) ممّن نصبوه إماما لهم حالكونهم بعضا من غير الله ، وهذا النّهى جار للمؤمنين الى انقراض العالم ، أو العائد فاعل يدعون ومفعوله محذوف ، أو من التّبعيضيّة قائمة مقام المفعول (فَيَسُبُّوا اللهَ) اى يسبّوا عليّا (ع) فانّه مظهر الله وسبّه سبّ الله وسبّ الله لا يتصوّر الّا في مظاهره (عَدْواً) ظلما لعلىّ (ع) أو تجاوزا عن الحقّ في سبّ علىّ (ع) (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منهم انّه مظهر الله ونقل عن الصّادق (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال : أرأيت أحدا يسبّ الله؟ ـ فقيل : لا وكيف؟ ـ قال : من سبّ ولىّ الله فقد سبّ الله ، وقد ورد عنهم بهذا المضمون اخبار كثيرة ، وما ذكرنا كان خلاصة المقصود ولا يخفى التّعميم لكلّ مشرك ومدعوّ غير الله ولكلّ نبىّ (ع) ووصىّ (ع) ولكلّ مؤمن (كَذلِكَ) مثل ارتضاء كلّ منكم ما تدعونه وعدم ارتضاء ما يدعوه غيرهم (زَيَّنَّا) من لدن آدم (ع) (لِكُلِّ أُمَّةٍ) فرقة من الفرق المختلفة المحقّة والمبطلة (عَمَلَهُمْ) وقد سبق عند قوله تعالى ، (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، انّ الفاعل في الوجود مطلقا هو الحقّ تعالى وليس من الموجودات سوى الاستعداد والقبول وانّ فعله تعالى امّا بلا واسطة أو بوسائط وانّ مظاهر قهره تعالى من جملة وسائطه وانّ الشّيطان من مظاهر قهره فصحّ نسبة التّزيين اليه تعالى في الأعمال السّيّئة والى الشّيطان لانّه المباشر القريب والى القوابل نحو نسبة الشّيء الى القابل (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) قد سبق انّ الرّبّ المضاف هو الولاية المطلقة وانّ مظهره الاتمّ علىّ (ع) وانّ رجوع الكلّ الى الولاية الّتى هي فعله تعالى وظهوره لا الى الغيب المطلق فانّه لا راجع هناك ولا رجوع (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من خير وشرّ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) ممّا اقترحوا (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) اى ليذعننّ بالآية الجائية وانّها من الله أو ليؤمننّ بمحمّد (ص) بسبب تلك الآية وهذا حكاية قولهم الكاسد النّاشى من تحمّلات النّفس فانّها كالمرأة الخبيثة تكون دائمة في الاعذار الفاسدة والفرار من قبول حكم الأزواج واتّهام غيرها بمأثمها (قُلْ) يا محمّد (ص) لهم أو للمؤمنين الطّامعين في ايمانهم الطّالبين منك الإتيان بمقترحاتهم (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) يا محمّد (ص) لهم وباختياري (وَما يُشْعِرُكُمْ) ما استفهاميّة للاستفهام الانكارىّ والخطاب للمؤمنين الطّالبين للإتيان بمقترحاتهم حرصا على ايمانهم ، أو للكافرين المقسمين بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب ، أو ما نافية وفاعل يشعركم ضمير راجع الى الله وهو عطف على انّما الآيات ، أو حال معمول لعند الله ومن جملة مقول القول ، أو عطف على أقسموا ، أو حال معمول لا قسموا ومن قول الله (أَنَّها إِذا جاءَتْ) قرئ بفتح همزة انّ معمولة مع ما بعدها ليشعركم بلا واسطة حرف ، أو بتقدير الباء أو هي بمعنى لعلّ وقرئ بكسر الهمزة فتكون مستأنفة (لا يُؤْمِنُونَ) قرئ بالغيبة وبالخطاب ولفظة لا زائدة أو اصليّة (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) عطف على لا يؤمنون عطف السّبب


على المسبّب أو عطف المسبّب على السّبب ، والفؤاد يطلق على القلب اللّحمانىّ وعلى النّفس الانسانيّة وعلى اللّطيفة السيّارة الانسانيّة وعلى القلب الّذى هو مرتبة من مراتب الإنسان وعلى الجهة الرّوحانيّة من الإنسان إذا علمت ذلك ، فاعلم ، انّ روحانيّة الإنسان اى قلبه كبدنه خلق مستوى القامة رأسه من فوق وتقليبه عبارة عن تعلّقه بمشتهيات الحيوان واستقامته عبارة عن تعلّقه بما اقتضته انسانيّة الإنسان ، واستقامة الأبصار عبارة عن ادراك ما يوافق الآخرة من كلّ ما يدركه البصر أو البصيرة ، وتقليبها سبب لادراك مقتضيات الحيوان والاحتجاب عن الاعتبار بالمدركات (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) اى بما انزل من الآيات أو بالقرآن أو بالنّبىّ (ص) (أَوَّلَ مَرَّةٍ) اى قبل اقتراحهم ، أو اوّل مرّة نزول الآية أو في عالم الّذرّ أو اوّل الدّعوة (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) متعلّق بنذرهم أو بقوله (يَعْمَهُونَ) اى يتردّدون في الضّلال ويتحيّرون ، قرئ نقلّب ونذرهم بالتّكلّم وبالغيبة وقرئ تقلّب مبنيّا للمفعول بتاء التّأنيث.

الجزء الثّامن

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) ردّ لاقتراحاتهم وردع للرّسول (ص) وللمؤمنين عن ارادة الإتيان بشيء منها فانّهم كما نقل قالوا يا محمّد (ص) كان للأنبياء الماضين آيات ، فقال : اىّ شيء تحبّون منها ان آتيكم به؟ ـ فقالوا : اجعل لنا الصّفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا نسألهم عنك ، وأرنا الملائكة يشهدون لك ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، وسأل المسلمون الرّسول (ص) ان يأتى لهم ، فأراد الرّسول (ص) ان يجيبهم فنزل جبرئيل (ع) وقال : ان سألت أجبت ولكن ان لم يؤمنوا عذّبتهم وان شئت تركتهم حتّى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله (ص) بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله تعالى (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) في رسالتك (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) جمع القبيل بمعنى الكفيل أو جمع قبيل هو جمع القبيلة بمعنى الجماعة من النّاس أو هو مصدر بمعنى المعاينة والمقابلة والمعنى انّا لو جمعنا عليهم كلّ آية معاينة ومقابلة لهم ، أو لو جمعنا كلّ شيء من الله والملائكة وغيرهم كفلاء بما بشّروا وانذروا أو جماعات وحمل الجمع على كلّ شيء باعتبار عمومه (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ردّ لسببيّة الأسباب الظّاهرة للايمان وإثبات بسببيّة المشيّة له وردع للمشركين والمؤمنين من نظرهم الى الواسطة وغفلتهم عن سببيّة المشيّة واقتراحهم وتمنّيهم للآية ، بانّ الوسائط ليست أسبابا ، بل هي مظاهر لمشيّته والسّبب لكلّ مسبّب هو المشيّة ، فلو شاء الله لاتى كلّ نفس هديها من غير واسطة ولو لم يشأ لم تهتد وان كان لها كلّ واسطة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أكثر المؤمنين أو المشركين أو الجميع (يَجْهَلُونَ) انّ المشيّة هي السّبب للايمان لا الآية المقترحة والمتمنّاة ، ولذا يقترحون ويتمنّون أو الفعل منسىّ المفعول والمعنى أكثرهم جهلاء (وَكَذلِكَ) اى كما جعلنا لك عدوّا من قومك (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) يعنى لا تحزن على معاداة قومك فانّ سنّتنا على وفق حكمتنا جرت بجعل العدوّ لكلّ نبىّ ليكون تكميلا لهم وإصلاحا لامّتهم وسببا لامتياز المنافق منهم عن الموافق وإظهارا لفضائلهم على السنة حسّادهم ، فانّ فضل المحسود كثيرا يظهر على لسان الحاسد واحتجاجا على طالبي الدّين بمعاداة المعاندين ، فانّ معاند الأنبياء لا يظهر بمعاداته الّا اتّباعه الهوى وارادة الدّنيا وإدباره عن الآخرة ، لانّ الأنبياء لا يعارضون أحدا


في أمور الدّنيا بل يدعون النّاس في كمال الشّفقة الى الآخرة ، وهذا تسلية للرّسول (ص) وسائر المؤمنين ، والعدوّ ضدّ الصّديق يستوي فيه الواحد والكثير والمذكّر والمؤنّث ولذا أبدل عنه الجمع (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) اعلم ، انّ الإنسان وجملة عالم الطّبع واقع بين العالمين العلوىّ والسّفلىّ كما سبق ولأهل كلّ من العالمين جهة تسلّط وتصرّف في الإنسان ، وعالم الطّبع والعالم السّفلىّ مهوى الشّياطين والجنّ ودار الأشقياء وجحيمهم ، والعالم العلوىّ القريب من عالم الطّبع مقرّ الملائكة ذوي الاجنحة دون المقرّبين ، فان عالمهم أعلى من ذلك والإنسان قابل لتصرّف أهل العالمين وله إمكان التّوجّه الى كليهما ، فمن توجّه بسوء اختياره الى السّفلىّ وقبل تصرّف الشّياطين والجنّة وتمكّن في ذلك القبول ولم يبق له جهة استعداد قبول تصرّف الملائكة صار مظهرا للشّياطين ومتحقّقا بهم بحيث لم يكن في وجوده الّا الشّيطان وكان فعله فعله وامره امره وخلقه خلقه وقوله قوله كما قيل بالفارسىّ :

چون پرى غالب شود بر آدمي

گم شود از مرد وصف مردمى

هر چه گويد أو پرى گفته بود

زين سرى نه زان سرى گفته بود

وان كان مع ذلك باقيا عليه بعض أوصاف الإنسان كان شيطان الانس وان لم يكن كان شيطان الجنّ ، ويحتمل ان يكون المراد بشياطين الجنّ ، الجنّة الّتى تؤذي من طريق الباطن وعلى اىّ تقدير فالمقصود التّعريض بالحبتر والزّريق كما في الخبر ، ومن توجّه بتوفيق الله الى العالم العلوىّ وقبل تصرّف اهله وتمكّن في ذلك بحيث لم يبق له استعداد تصرّف الشّيطان صار مظهرا للملائكة بل لله وكان فعله وقوله وخلقه ظهور افعال الملائكة وأقوالهم وأخلاقهم كما قيل :

چون پرى را اين دم وقانون بود

كردگار آن پرى خود چون بود

پس خداوند پرى وآدمي

از پرى كى باشدش آخر كمى

وعن الصّادق (ع): من لم يجعله الله من أهل صفة الحقّ فأولئك شياطين الانس والجنّ (يُوحِي) اى يلقى أو يوحى من طريق الباطن شياطين الجنّ الى شياطين الانس (بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) حسن القول الكاذب بتمويهه (غُرُوراً) وحي غرور أو للغرور أو غارّا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) فلا تبتئس بما فعلوا فانّه بمشيّتنا وفيه مصالح وحكم لكم (فَذَرْهُمْ) من غير تعرّض لهم بالرّدّ والقبول (وَما يَفْتَرُونَ) ليقولوا ما يريدون حتّى يجرى حكمنا ومصالحنا (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) عطف على محذوف كما ذكرنا أو عطف على غرورا (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا) يكتسبوا (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) حتّى يتميّزوا من المؤمنين ويخلصوا ايمان المؤمنين بايذائهم ايّاهم (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) بتقدير قل أو بتقدير قال أو يقول أو يقال جوابا لسؤال مقدّر (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) القرآن والنّبوّة (مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) يعنى الّذين آتيناهم النّبوّة بتسليم أحكامها وقبولها وآتيناهم كتاب النّبوّة في صورة كتاب سماوىّ كأهل الكتابين يعلمون انّ القرآن أو كتاب نبوّتك أو ولايتك فانّهما روح القرآن منزّل من ربّك (بِالْحَقِ) متلبّسا بالحقّ الّذى هو الولاية أو بسببه أو معه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)


وهو من قبيل ايّاك أعنى واسمعي يا جارة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) كلمة الرّبّ هي المشيّة الّتى هي الولاية المطلقة ، وتماميّتها بظهورها بنحو الإطلاق في هذا العالم ، وظهورها كذلك ما كان الّا بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) فانّ سائر الأنبياء والأولياء ولا يتهم مقيّدة جزئيّة مقتبسة من ولاية علىّ (ع) الّتى هي المطلقة الكلّيّة (صِدْقاً) من حيث الصّدق أو صادقة فانّ الولاية ما لم تخرج من التّقيّد والتّحدّد لم يتمّ صدقها (وَعَدْلاً) العدل ضدّ الجور وهو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه كما انّ الجور منع المستحقّ من حقّه وبمعنى الاستقامة ضدّ الاعوجاج وبمعنى التّوسّط في الأمور ويصحّ اعتباره بكلّ من معانيه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) فلا تبال بما يقولون ولا تبتئس بما يكذبون (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون في علىّ (ع) والقادر على منعهم من إمضاء ما يقولون وإظهار ما يريدون (الْعَلِيمُ) بحال كلّ واستحقاقه (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لانّ الأكثر منكوسوا الرّؤس منحرفون عن الولاية الّتى هي سبيل الله الى عالم السّفل الّذى هو عالم الشّياطين والأرواح الخبيثة واطاعتهم تؤدّى الى الانحراف الى ما توجّهوا اليه ، وهو تعريض بالامّة وانّما قال أكثر من في الأرض لانّ الإنسان ثلاثة أصناف : صنف عرجوا من ارض الطّبع الى سماء الأرواح ، وشأنهم الطّاعة والانقياد لصاحب الرّسالة والولاية الكلّيّة لا الاستقلال والمطاعيّة ، وصنف وقفوا في ارض الطّبع لكن لهم التّهيّؤ والاستعداد للعروج الى عالم الأرواح فهم وان كانوا في ارض الطّبع لكن موافقتهم لا تصير سببا للضّلال عن التّوجّه الى عالم الأرواح ، وصنف واقفون في ارض الطّبع منكوسون الى السّفل متوجّهون الى عالم الشّياطين وهم أكثر من في الأرض ، وطاعتهم وموافقتهم توجب الانحراف عن الولاية (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) الظّنّ من صفات النّفس فانّ علومها وان كانت يقينّيّة وإدراكاتها غير ظنّيّة فهي ظنون وليست بعلوم لما مضى مرارا انّ العلم هو الّذى يكون وجهه الى العلوّ ويكون في الاشتداد وعلم النّفس الغير المطيعة يكون وجهه الى السّفل ويكون في التّنزّل ، فالمعنى ما يتّبعون الّا الإدراكات النّفسانيّة الّتى هي مبادي الآراء الرّديّة والأهواء الخبيثة ، وأيضا لمّا كان علوم النّفوس مغايرة لمعلوماتها وجائزة الانفكاك عنها كان حكمها حكم الظّنون في مغايرتها لمظنوناتها وجواز انفكاكها عنها (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الخرص التّقدير والكذب والظّنّ وهو المراد هنا يعنى لا يتّبعون الّا الظّنّ وليس لهم علم أصلا حتّى يتصوّر منهم إمكان متابعة العلم ، لانّهم في مرتبة النّفس المنكوسة لا يتجاوزون عنها فلا يكون لهم علم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فالمتّبع هو ما قاله الرّبّ لا ما قالوه من نسبة الضّلال والاهتداء الى النّاس بظنونهم فلا تبالوا بما قالوا ولا بما حرّموا واحلّوا وائتمروا بأمور ربّكم (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ولا تبالوا بما قالوا من انّكم تأكلون ما قتلتم بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله من الانعام ، وبعد ما علمت انّ الاكل أعمّ من فعل القوى والأعضاء وصفات النّفس وادراك المدارك الظّاهرة والباطنة والعقائد العقلانيّة ، وانّ الأصل في اسم الله هو الولاية وانّها الاسم الأعظم وان لا اسم الّا وهو ظلّ لذلك الاسم الأعظم ، وانّ عليّا (ع) هو مظهره الاتمّ ولذا ورد عنه : لا اسم أعظم منّى ، أمكنك تعميم الاكل في كلّ فعل وقول وأكل وشرب وادراك وخاطر وعلم ومعرفة واعتقاد وكشف وشهود وعيان ، فانّ الكلّ أكل بالنّسبة الى القوى الّتى هي مبدأه ، وكذا أمكنك تعميم اسم الله في الاسم القولىّ والقلبىّ المتّصلين بصورته الملكوتيّة الّتى تسمّى فكرا وسكينة وحضورا وذكرا حقيقيّا في لسانهم ، فكلّ ما فعل مع الحضور عند الاسم


الأعظم وتذكّره بصورته الملكوتيّة فهو حلال ولا وزر معه ولا وبال ، ومع تذكّر الاسم الأعظم بما قلنا لا يقع منه ما هو مكروه الاسم الأعظم ومكروهه مكروه الله فلا يقع منه حرام خارج عن السّنّة ولذا قيل :

«كفر گيرد ملّتى ملّت شود»

ومع عدم ذكر الله لا بالقول ولا بالقلب ولا بالفكر كلّما فعل وان كان مباحا كان حراما كما قيل :

«هر چه گيرد علّتى علّت شود»

وعن الصّادق (ع) في حديث ذكر الأنهار انّه قال : فما سقت واستقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا ، وليس لعدوّنا منه شيء الّا ما غصب عليه ، وانّ وليّنا لفي أوسع فيما بين ذه وذه مشيرا الى السّماء والأرض ثمّ تلا : قل هي للّذين آمنوا في الحيوة الدّنيا المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب ، وقد ورد : ولىّ علىّ (ع) لا يأكل الّا الحلال كما قيل :

گر بگيرد خون جهان را مال مال

كى خورد مرد خدا الّا حلال

(إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) وأعظم الآيات محمّد (ص) وعلىّ (ع) وهو شرط تهييج على نفى التحرّج عن فعل ذكر اسم الله عليه وعدم الاعتناء بقول أصحاب التّخمين والظّنّ ، أو تقييد لا باحة ما ذكر اسم الله عليه (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) اى فائدة لكم في ان لا تأكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه (وَقَدْ) أباحه لكم (فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) بالّذات ممّا سبق في اوّل سورة المائدة في آية تحريم الدّم والميتة (الى آخرها) وما حرّم عليكم بالعرض من الصّيد حين الإحرام وما لم يذكر اسم الله عليه وما ذكر اسم غير الله عليه ، وقرئ فصّل بالبناء للفاعل وحرّم بالبناء للمفعول ، وقرئ فيهما بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) استثناء من المستتر في حرّم أو من المقدّر بعده عائد للموصول (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) عطف على ما حرّم باعتبار جواز تعليق الفعل الغير القلبىّ أو بتضمين فصّل معنى اعلم أو حال متعلّق باجزاء جملة (ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) (الى آخرها) أو باجزاء جملة قد فصّل (الى آخرها) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) استيناف جواب للسّؤال عن علمه تعالى بهم ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بأنّهم في اضلالهم معتدون وانّه تعالى كما يعلمهم يعلم اعتداءهم وتجاوزهم عن حدود الله وقد أخبركم بتجاوزهم فلا تبالوا بما قالوا في حرمة الّذبيحة والميتة وحلّيّتهما وائتمروا بأمر الله (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) من قبيل اضافة الصّنف الى النّوع أو اضافة جهتي الشّيء الواحد اليه أو جزئي الشّيء المركّب اليه.

اعلم ، انّ الإنسان اعنى اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة واقع بين عالمي النّور والظّلمة والإطلاق والتّقييد والوحدة والكثرة والملائكة والجنّة ، ووجوده يكون دائما في الخروج من القوّة الى الفعل مثل سائر الكائنات ، وهذا معنى قولهم : الكون في التّرقّى فاذا كان أفعاله وأقواله وعلومه وعقائده وخطراته وخيالاته ناشئة من توجّهه الى عالم النّور ، أو قرينة لذلك التّوجّه كان خروجه من القوّة الى فعليّة النّور ومن التّقييد الى الإطلاق ومن الظّلمة الى النّور وكانت هذه منه طاعة ومرضيّة وعبادة ، وإذا كانت تلك ناشئة من توجّهه الى عالم الظّلمة أو قرينة لغفلته عن الله تعالى وعن عالم النّور كان خروجه من القوّة الى فعليّة الظّلمة ومن الإطلاق الى التّقييد ومن النّور الى الظّلمة ، وكانت هذه منه إثما وذنبا ومعصية سواء كانت بصورة الطّاعات أو لم تكن ، والى هذا


أشار الصّادق (ع) بقوله : من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ومن كان غافلا عنه فهو عاص ، والطّاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضّلالة وأصلهما من الذكّر والغفلة وقوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (الى آخر الآية) اشارة الى انّ الايمان يقتضي التّوجّه الى عالم النّور ، وذلك التّوجّه يقتضي الخروج من القوّة الى فعليّة النّور ، والكفر بعكس ذلك ، وانّ الإنسان إذا تمكّن في التّوجّه الى عالم الظّلمة صار متجوهرا بالظّلمة وأصلا لكلّ الظّلمات ومتحقّقا بالإثم وأصلا لكلّ الآثام ، وإذا تمكّن في التّوجّه الى عالم النّور صار متجوهرا بالنّور وأصلا لكلّ الأنوار بعد نور الأنوار ، ولذلك كان محمّد (ص) وعلىّ (ع) أصلا لكلّ حسن وإليهما يرجع حسن كلّ حسن ، وإذا لم يتمكّن في شيء منهما فامّا ان ينضّم توجّهه الفطرىّ الى التّوجّه الاختيارىّ بالبيعة العامّة أو الخاصّة الصّحيحة أو الفاسدة أو لا ينضمّ ، وكلّ من الثّلاثة ما صدر منه من حيث التّوجّه الفطرىّ أو الاختيارىّ الى عالم النّور كان حسنا وصوابا ، وما صدر منه من حيث التّوجّه الى عالم الظّلمة كان إثما وذنبا ، إذا عرفت هذا ، فصحّ تفسير ظاهر الإثم بمخالفة علىّ (ع) وباطنه بالنّفاق معه وبالزّنا الظّاهر والزّنا الخفىّ وبنكاح زوجة الأب والزّنا وبأعمال الجوارح السّيّئة والعقائد والرّذائل والخيالات والخطرات والعزمات والنّيّات ، وباتّباع مخالفي علىّ (ع) والمنافقين معه وبالسّيّئات الشّرعيّة وصور الحسنات الشّرعيّة الفاسدة ، والمقصود منه النّهى عن متابعة المخالفين والمنافقين وعن ارتكاب ما ينشأ عن متابعتهما كائنا ما كان كما انّ المقصود ممّا يأتى الأمر بمتابعة محمّد (ص) وعلىّ (ع) المشار اليه بقوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (الآية) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) يحصّلون ما ينشأ من متابعتهما (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) الاقتراف الاكتساب أو فعل الإثم وهو في موضع تعليل للاوّل (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) تصريح بالمفهوم تسجيلا وتأكيدا (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) يعنى ما لم يذكر اسم الله عليه خارج عن الحقّ كائنا ما كان وهو عطف على محذوف ، والتّقدير انّه اثم أو حرام أو مثل ذلك وانّه لفسق أو حال (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من الكفّار (لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في قولهم انّكم تأكلون ما تقتلون بأنفسكم ولا تأكلون ما قتله الله وان أطعتموهم مطلقا في هذا أو غيره (إِنَّكُمْ) بتقدير الفاء وانّما حسن حذفه لكون الشّرط ماضيا مضعفا لحكم الشّرط (لَمُشْرِكُونَ) فانّ الإشراك هو طاعة غير من نصبه الله للطّاعة ، والمقصود انّ شياطين الجنّ ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم في علىّ (ع) ، أو شياطين الانس ليوحون الى اتباعهم ليجادلوكم في علىّ (ع) بإظهار ما يرى انّها مثالب لعلىّ (ع) وان أطعتموهم صرتم مشركين بالله بواسطة الإشراك في الولاية (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) عن الحيوة الانسانيّة وان كان حيّا بالحيوة الحيوانيّة (فَأَحْيَيْناهُ) بالحيوة الانسانيّة بقبول الدّعوة النّبويّة والبيعة العامّة أو باستعداد قبول الولاية واستحقاق البيعة الخاصّة (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) إماما أو ايتماما بإمام منّا (يَمْشِي بِهِ) بسببه أو معه (فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ) المثل بالتّحريك والمثل بالكسر والمثيل كأمير الشّبيه ، والمثل بالتّحريك الحجّة والحديث والصّفة والمعنى كمن هو شبيه من أحييناه حالكونه (فِي الظُّلُماتِ) أو كمن شبيهه ثابت في الظّلمات أو كمن حديثه أو صفته ثابتة في الظّلمات ، أو كمن صفته البقاء في الظّلمات سواء كان حيّا بالحيوة الانسانيّة وقبول الدّعوة النّبويّة ولم يكن له نور أو لم يكن حيّا فضلا عن النّور (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) عن الباقر (ع) الميت الّذى لا يعرف هذا الشّأن يعنى هذا الأمر ، وأقول : المراد به الولاية اى الدّعوة


الباطنة وقبولها والبيعة لها وقال (ع) جعلنا له نورا إماما يأتمّ به يعنى علىّ بن ابى طالب (ع) كمن مثله في الظّلمات قال (ع) بيده هذا الخلق الّذين لا يعرفون شيئا ، وبهذا المضمون اخبار كثيرة ، ويستفاد من هذا الخبر انّ المراد بالميّت غير العارف بأمر الولاية سواء كان عارفا بأمر النّبوّة أو لم يكن ، والحيوة معرفة امر الولاية بقبول الدّعوة الباطنة فانّه لا يتصوّر معرفة هذا الأمر الّا بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الولويّة ، والمراد بالنّور امّا نفس قبول الدّعوة والبيعة أو الامام الظّاهر عليه بشريّته ، أو المراد بالنّور الأمر الدّاخل في القلب بالبيعة الخاصّة أو المراد به ملكوت الامام الظّاهر على السّالك فانّه به يحصل معرفة الامام بالنّورانيّة (كَذلِكَ) التّزيين الّذى زيّنّا لمن مثله في الظّلمات (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في ظلمات جهالاتهم محجوبين عن امر الولاية وضالّين عنه (وَكَذلِكَ) اى مثل ما جعلنا في قريتك أكابر مجرميها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) لتخليص المؤمنين وتميز المنافقين عنهم (وَما يَمْكُرُونَ) في مكر الأنبياء والمؤمنين (إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لانّهم في مكرهم يخرجون اوّلا أنفسهم من حدّ الاعتدال والتّوجّه الى كمالها الى حدّ التّفريط والتّوجّه الى نقصانها (وَما يَشْعُرُونَ) انّ المكر في الحقيقة بأنفسهم (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) بيان لمكرهم أو تعنّت آخر لهم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وهذا ردّ عليهم بانّ الرّسالة ليست بالآية ولا بالنّسب والحسب والمال بل بعلم الله بمحلّه وصلاح محلّه وبمشيّته وحيث مفعول به ليعلم المقدّر ، أو بتقدير افعل التّفضّل بمعنى اسم الفاعل لعدم جواز تعدية اسم التّفضيل الى المفعول به (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ) في الدّنيا اى ذلّة وهو ان كما أصابهم يوم بدر ويوم فتح مكّة (عِنْدَ اللهِ) اى عند مظاهره أو في الآخرة عنده (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) الى الرّسالة الّتى جعلها حيث يشاء (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الصّدر محلّ الإسلام ومحلّ قبول الرّسالة وأحكامها باعتبار وجهه الى القلب كما انّه محلّ الكفر وقبول احكام الشّيطان باعتبار وجهه الى الحيوانيّة والطّبع ، وشرحه عبارة عن استعداده لقبول احكام كلّ من الطّرفين بجهتيه فشرحه للإسلام كمال استعداده لقبول ما يرد عليه ممّا يوجّهه الى القلب ، وشرحه للكفر عبارة عن كمال استعداده لقبول ما يرد عليه ممّا يوجّهه الى الشّيطان والى اهويتها ، وارادة الله للهداية والإضلال مسبوقة بحسن استعداد العبد واختياره أو سوء استعداده واختياره فلا جبر كما انّه لا تفويض ، وقد سبق تحقيق هذا المطلب في سورة البقرة عند قوله (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ولمّا كان شرح الصّدر للإسلام عبارة عن توجّه النّفس الى القلب وانصرافها عن جهة الدّنيا ورد عن النّبىّ (ص) حين سئل : هل لذلك من امارة يعرف بها؟ ـ انّه قال : نعم ، الانابة الى دار الخلود ، والتّجافى عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) عن قبول ما يوجّهه الى جهة القلب ، والضّيق الّذى بقي له منفذ والحرج وقرء بكسر الحاء الّذى لا منفذ فيه كما في الخبر (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) في قبول الرّسالة والإسلام (ذلِكَ) كما يجعل الشّكّ والضّيق على من يريد ان يضلّه (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) بكسر الرّاء وفتحها وكسر الجيم وبالتّحريك القذر والمأثم وكلّ ما استقذر من العمل والشّكّ والعقاب (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهذا) الّذى ذكر من جعل صدر بعض منشرحا


للإسلام وبعض ضيّقا (صِراطُ رَبِّكَ) سنّة ربّك (مُسْتَقِيماً) غير منحرف في الإرادتين عن ميزان الاستعدادين فانّ الإرادتين بقدر استعدادهما واستحقاقهما ، أو هذا الّذى أنت عليه من الولاية الّتى هي روح نبوّتك ورسالتك صراط ربّك مستقيما فانّه لا افراط فيها ولا تفريط (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) التّدوينيّة في بيان الآيات التّكوينيّة الواردة في صدور النّاس بحسب استعداداتهم المختلفة أو الآيات التّكوينيّة مطلقة بالآيات التّدوينيّة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يتذكّرون إشارة إلى انّ الّذاكر باللّسان فقط لا يتنبّه لتلك الآيات بل الّذاكر باللّسان والرّاجع الى الجنان يتنبّه لها فانّ الإنسان ما لم يرجع الى باطنه ولم ينظر ببصيرته الى حالاته الواردة عليه لا يميّز بين ضيق الصّدر وشرحه أو بين مطلق الآيات العلويّة والسّفليّة ، والرّاجع الى نفسه يميّز بين الواردات فيتوب عمّا يؤذيه وينيب الى ما ينفعه فيكون (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اى دار السّلامة عن الآفات أو دار الله الّتى أعطاها ايّاهم (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) لما انقطعوا عن غيره وتوسّلوا به (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الفرار عمّا يبّعدهم والعمل بما يقرّبهم (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) بتقدير اذكر أو ذكّر أو نقول والضّمير للثّقلين (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) استكثره الماء أراد منه ماء كثيرا واستكثر من الشّيء رغب في الكثير منه والمعنى طلبتم كثيرا منهم أو رغبتم في الكثير منهم فجعلتموهم من سنخكم أو اتباعكم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) استمتاع الانس من الجنّ باتّباعهم في الالتذاذ بالشّهوات واستمتاع الجنّ من الانس بحصول مرادهم منهم من اغوائهم وتمكّنهم منهم في الأمر والنّهى قالوها تحسّرا واعترافا (بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) من القيامة أو من أمد الحياة (قالَ) الله لهم (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قبل دخول النّار حتّى لا ينافي مادّة العامل في الاستثناء أو الّا ما شاء لمن يشاء بناء على خروج بعض من النّار ، وبعض من قال بانقطاع العذاب لكلّ أحد تمسّك بأمثال هذه الآية من النّقليّات بعد التّوسّل بالعقليّات (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في عقوبة المعاقب لا يظلم أحدا (عَلِيمٌ) بقدر استحقاقه (وَكَذلِكَ) مثل ما نولّى بعض الانس بعض الجنّ في الدّنيا أو في القيامة (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بالسّنخيّة الّتى يكسبونها بأعمالهم السّيّئة اى نصرف وجوه بعض الى بعض ونتركهم ونصرف وجوههم عن أوليائي ، أو المعنى نولّى بعض الظّالمين بعضا للانتقام منهم كما أشير اليه في الخبر (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) بتقدير القول حالا أو مستأنفا (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من وجودكم في عالمكم الصّغير أو من سنخكم في العالم الكبير وهو توبيخ لهم ، وقد ورد انّ الله قد بعث من الجنّ رسولا إليهم ، ورسالة رسولنا (ص) كان الى الانس والجنّ كما ورد في الاخبار (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا) اعترافا بتقصيرهم (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) لمّا لم يجدوا مفرّا اقرّوا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) عطف على قالوا (ذلِكَ) اى إرسال الرّسل وقصّ الآيات والإنذار من يوم القيامة (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) منه من دون إتمام الحجّة أو بظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم (وَأَهْلُها غافِلُونَ) غير متذكّرين لثواب وعقاب (وَلِكُلٍ) من افراد الجنّ والانس محسنا كان أو مسيئا أو من


أصناف المحسن والمسيء أو من جنس المحسن وجنس المسيء (دَرَجاتٌ) في العلوّ والعالم العلوىّ وفي النّزول والعالم السّفلىّ ، والدّرجة بالضمّ والسّكون وبالتّحريك وكهمزة المرقاة وإذا اعتبر فيها الارتقاء كان تسمية دركات المسيء بالدّرجات من باب التّغليب أو باعتبارها من الأسفل فانّ الأسفل بالنّسبة الى ما فوقه درجة (مِمَّا عَمِلُوا) اى هي عبارة ممّا عملوا على تجسّم الأعمال أو ناشئة ممّا عملوا ، وما موصولة أو موصوفة أو مصدريّة (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرئ بالخطاب وبالغيبة والمقصود انّ درجات اعمال العباد ظاهرة عنده وهو غير غافل عنها فيرفع كلّا وينزل بقدر درجات اعماله ودركاتها (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) جمع بين المتقابلين من صفاته من القهر واللّطف والتّنزيه والتّشبيه وعدا ووعيدا (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) باقتضاء غناه وعدم حاجته لكن يبقيكم مدّة لتستكملوا فيها باقتضاء رحمته (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) الإتيان بما للاشارة الى كمال قدرته بحيث لو أراد أن يستخلف منكم غير ذوي العقول كان قادرا فضلا عمّن هو من سنخكم وباعدادكم نطفهم ومادّتهم لقبول صورة الإنسان (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) في زيادة الّذريّة اشارة الى انّ هذا كان مستمرّا (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) لمّا لم يقتض الشّرط وضع المقدّم صار المقام مظنّة السّؤال عن وقوع المقدّم فأجاب بانّ ما توعدون من مشيّة الاذهاب والاستخلاف واقع (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) له عن الاذهاب (قُلْ) تهديدا لهم (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) قرئ مكاناتكم حيثما وقع اى حالكونكم ثابتين على مقامكم ومكانكم في الكفر أو مشتملين على غاية تمكّنكم فانّ المكانة كالمكان بمعنى المقام أو من التّمكّن بمعنى الاستطاعة (إِنِّي عامِلٌ) على مرتبتي في التّوحيد والإسلام (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) امّا استفهام علّق الفعل عنه ، أو استفهام منقطع عن سابقه ، أو موصول مفعول لتعلمون وعلى اىّ تقدير فالمقصود بقرينة المقام انّكم سوف تعلمون انّ لنا عاقبة الدّار ولذا علّله بقوله (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كأنّه قال لانّكم ظالمون ولا عاقبة محمودة للظّالم أو هو من قول الله تعليلا للأمر اى قل لهم ذلك لانّهم ظالمون والظّالم لا يفلح بحجّة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) بيان لظلمهم وعطف باعتبار المعنى اى انّهم ظلموا أو جعلوا لله (مِمَّا ذَرَأَ) اى خلق (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) من غير حجّة وسلطان (وَهذا لِشُرَكائِنا) يعنى أصنامهم (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) لانّ الوصول الى الله لا يكون الّا إذا كان الصّدور أيضا من الله وليس لهم لطيفة الهيّة تصير سببا لان يكون الصّدور من الله (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) لما ذكر (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بتشريك المخلوق للخالق وجعل النّصيب من المخلوق للخالق من غير امر منه ، روى انّهم كانوا يعيّنون شيئا من حرث ونتاج لله ويصرفونه الى الصّبيان والمساكين وشيئا منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون عندها ، ثمّ ان رأوا ما عيّنوا لله ازكى بدّلوه بما لآلهتهم ، وان رأوا ما لآلهتهم ازكى تركوه لها حبّا لآلهتهم واعتلّوا لذلك بانّ الله غنىّ. اعلم ، انّ في الإنسان لطيفة الهيّة تسمّى عقلا وعقل المعاش طليعة منه وهو المتصرّف والحاكم من الله في وجوده ، ولطيفة شيطانيّة تتصرّف فيه وتحكم عليه والاوّل هو الإله في العالم الصّغير والثّانى هو الشّيطان في العالم الصّغير ، والإنسان واقع بين الحاكمين


والغرض من تكليف الإنسان بالأعمال الشّرعيّة خلاصه من حكومة الشّيطان ودخوله تحت حكومة الله وخلوص حكومته ، فمن أخلص نفسه لقبول حكومة الله فهو مؤمن موحّد ومن أخلص نفسه لحكومة الشّيطان فهو كافر بل هو شيطان مريد ، ومن أشرك بين الحكومتين فهو مشرك موزّع لجملة اعماله ومكاسبه عليهما ، ولمّا كان الله تعالى شأنه أغنى الشّركاء فما كان لشريكه فلا يصل الى الله ، وما كان لله فهو يصل الى شريكه ، لانّ الشّيطان ما دام له حكومة ما في وجود الإنسان فكلّما عمل لله يداخله الشّيطان قبل العمل أو حينه أو بعده من مداخل خفيّة ، حتّى يجعل نفسه شريكا للّطيفة الإلهيّة ، ولمّا كان الله اغنى الشّركاء يترك ما جعل ما بشراكة غيره الى الشّريك فما كان خالصا للشّريك كان له وما كان لله يدعه الله للشّريك ، وفي لفظ ذرأ اشارة الى كمال سفاهتهم حيث جعلوا لله ممّا خلقه نصيبا له والخالق أقوى مالك لمخلوقه (وَكَذلِكَ) اى مثل تزيين جعل النّصيب لله من مخلوقاته (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) وهم الّذين كانوا يرتكبون قتل أولادهم أو وأدهم للعار أو لخوف العلية أو للأصنام وقرئ زيّن مجهولا وقتل بالرّفع وأولادهم بالنّصب وشركاؤهم بالجرّ بناء على توسّط المفعول بين المضاف والمضاف اليه ، وقرئ زيّن مجهولا وقتل بالرّفع وأولادهم بالجرّ وشركاؤهم بالرّفع على ان يكون شركاؤهم فاعل القتل ، وقرئ زيّن معلوما وقتل بالنّصب وأولادهم بالجرّ وشركاؤهم بالرّفع ، وحينئذ يكون فاعل زيّن ضميرا راجعا الى الله وشركاؤهم فاعلا للمصدر أو شركاؤهم فاعل زيّن وفاعل المصدر محذوف يعنى المشركين أو شركاؤهم متنازع فيه لزيّن وللمصدر ، وتعميم القتل والأولاد والشّركاء لما في الكبير والصّغير يناسب كون شركاؤهم فاعلا للمصدر أو متنازعا فيه (لِيُرْدُوهُمْ) ليهلكوهم بالإغواء عن الحيوة الانسانيّة (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ) ليخلطوا عليهم (دِينَهُمْ) الفطرىّ الّذى كانوا عليه بحسب الفطرة من التّوجّه الى الآخرة والتّوحيد أو طريقتهم الّتى كانوا عليها ، الهيّة كانت أو شيطانيّة حتّى لا يستقيموا على تلك الطّريقة الّتى يسمّونها دينا (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) تسلية للرّسول (ص) بصرف نظره عن صورة أفعالهم الى السّبب الاصلىّ لها ، حتّى لا يضيق صدره بما فعلوا ولا يتحسّر عليهم (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) تسكين له (ص) عن تعب الدّعوة والاهتمام بمنعهم من شنائع أعمالهم (وَقالُوا) بيان لظلم آخر منهم (هذِهِ) الانعام والحرث (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) الحجر بتثليث الحاء المنع والحرام (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) يعنى من نشاء بالمواضعة الّتى بيننا وفيه تعيير لهم ، بانّ حكمهم ليس الّا بمقتضى اهويتهم كانوا يمنعون غير خدّام الأصنام من أكلها (بِزَعْمِهِمْ) متعلّق بقالوا يعنى قالوه بزعمهم من غير حجّة من الله (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) يعنى البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام (وَأَنْعامٌ) عطف على انعام اى قالوا هذه انعام لا ينبغي ان يذكر اسم الله عليها ، أو ابتداء كلام من الله والجملة معطوفة على قالوا اى لهم انعام أو انعام أخر (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) في الذّبح والنّحر أو لا يحجّون عليها يحرّمون ذكر اسم الله بالتلبية عليها (افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا) وجه آخر لظلمهم وانحرافهم عن الحقّ واستبدادهم برأيهم من غير حجّة (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ) قرئ بالتّأنيث والتّذكير مرفوعا ومنصوبا في كلا الحالين ، والتّأنيث باعتبار معنى ما ، وهي الاجنّة ، أو التّاء فيه للمبالغة أو هو مصدر كالعافية (لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) كانوا يحرّمون


الجنين الّذى يخرجونه من بطون الانعام المفصّلة السّابقة حيّا على النّساء فاذا كان ميتا يأكله الرّجال والنّساء على السّواء ، وقيل : المراد بما في بطونها ألبانها ، وقيل : المراد الألبان والاجنّة كلتاهما (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) اى جزاء وصفهم هذا أو نفس وصفهم على تجسّم الأعمال (إِنَّهُ حَكِيمٌ) يعطى حقّ كلّ ذي حقّ من الخير والشّرّ (عَلِيمٌ) بمقادير استحقاقاتهم (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) تصريح بخسرانهم وضلالهم بعد التّلويح تأكيدا وتفضيحا ، قيل : كانوا يقتلون الأولاد للأصنام ويقتلون بناتهم مخافة العار والسبي والعيلة (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) بانّ الله رازق لأولادهم وانّه خالقهم لمصلحة النّظام (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) من الانعام السّالفة على أنفسهم أو على غيرهم من النّساء أو حرّموا ما رزقهم الله من الأولاد فانّهم نعمة أيضا رزقهم الله (افْتِراءً عَلَى اللهِ) صرّح هنا بالافتراء تأكيدا لما سلف (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) الى امر الحقّ تعالى وابتغاء رضاه (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) مشتملات على الأشجار المثمرة من الكروم وغيرها (مَعْرُوشاتٍ) مرفوعات على أصولها كالأشجار الّتى لها أصول أو على ما يحملها كالكروم الّتى تحمل على غيرها (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) كالّتى تلقى على وجه الأرض من الكروم (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أكل ذلك المذكور من الاثمار والحبوب والبقول في الشّكل واللّون والطّعم والرّائحة والنّوع والجنس مع اتّفاقها في الأرض والماء (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) في المذكورات (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) قائلا (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) على ألسنة الأنبياء (ع) والأولياء (ع) ترخيصا لكم في التّصرّف قبل إخراج حقوقه أو قائلا بلسان الحال حيث أباحه لكم (إِذا أَثْمَرَ) والمراد بالثّمر مطلق ما يحصل منها من المنافع حتّى يدخل فيه ثمر الزّرع (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) اى حقّه المفروض بناء على وجوب الأداء اوّل وقت الإمكان أو حقّه المسنون من التّصدّقات على السّائلين وهكذا فسّرت في الاخبار ، فعن الصّادق : (ع) في الزّرع حقّان حقّ تؤخذ به وحقّ تعطيه ، امّا الّذى تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وامّا الّذى تعطيه فقول الله تعالى عزوجل : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فالضّغث تعطيه ثمّ الضّغث حتّى تفرغ ويؤيّد كون المراد هو الحقّ المسنون قوله تعالى (وَلا تُسْرِفُوا) فانّ المفروض لا يتصوّر السّرف فيه بخلاف المسنون (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) عن الرّضا (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال كان ابى يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ ان يتصدّق الرّجل بكيفيّة جميعا ، وكان ابى إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق بكفيّه صاح به : أعط بيد واحدة (وَ) انشأ (مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) ما يحمل الأثقال (وَفَرْشاً) من شعرها وصوفها ووبرها قائلا (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من لحومها وألبانها ولا تحرّموا شيئا ممّا أباحه الله لكم منها (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالإسراف فيما أباحه الله لكم والتّجاوز الى تحريم ما احلّه الله وتحليل ما حرّمه منها وقد سبق في سورة البقرة تحقيق وتفصيل لخطوات الشّيطان والآية تكون كسابقها اشارة الى التّوسّط بين الإفراط والتّفريط (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الاهلىّ والوحشىّ (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) كذلك (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ) من الجنسين (حَرَّمَ) الله (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) من الجنسين (أَمَّا


اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) اى الجنين من الجنسين ذكرا كان أو أنثى (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) لا بظنّ وهوى وخديعة من النّفس أو بما به يحصل العلم بانّ الله حرّم شيئا من ذلك أو بأمر معلوم مقطوع به لكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعويكم حرمة شيء من ذلك (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) العراب والبخاتي (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) الاهلىّ والوحشىّ (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) والمقصود انكار تحريم شيء منها وإلزامهم انّ قولهم بحرمة الذكّور منها تارة والإناث اخرى والاجنّة اخرى كما سبق ليس عن علم وحجّة بل محض تخمين وظنّ من أنفسهم (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) حاضرين (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) يعنى أمثال ذلك امّا ان يعلم ببرهان فيمكن أعلام الغير بذلك البرهان ، أو يعلم بشهود وسماع حتّى يكون عن علم وان لم يكن أعلام الغير به ، ولمّا لم يكن لكم برهان ولا شهود لم يكن حكمكم هذا الّا محض افتراء على الله فلفظة أم وان كانت منقطعة لكنّها معادلة لقوله نبّئونى بعلم باعتبار المعنى يعنى الكم برهان أم كنتم شهداء (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تقريع على ما تقدّم باعتبار ثبوت الافتراء أو جزاء لشرط مقدّر بهذا الاعتبار ، يعنى إذا لم يكن لكم برهان وعلم كما دلّ عليه (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) ولم تكونوا شهداء كما دلّ عليه قوله (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) فأنتم مفترون ولا أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) فهو اشارة الى نتيجة قياس مستفاد من سابقه والى قياس أخر منتج اى أنتم لا علم لكم ولا شهود ، وكلّ من لا علم له ولا شهود في قوله فهو مفتر ، وكلّ مفتر لا أظلم منه فأنتم لا أظلم منكم (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهذا الّذى ذكر من تفسير الأزواج بما ذكر هو الّذى ورد في الاخبار ولمّا امر الله تعالى نبيّه (ص) بالسّؤال عن حرمة شيء من الأزواج وعن البرهان عليها أو الشّهود بها امره ان يجيب ، بانّ طريق العلم امّا برهان أو شهود وهما منتفيان عنكم كما سبق وامّا وحي بتوسّط سفراء الله وملائكته أو تقليد لصاحب الوحي وأنتم اهله وانا أهل ذلك الوحي ومدّع له ، لا أنتم لعدم ادّعائكم ذلك واعترافكم بانّكم لستم أهلا للوحى فقال (قُلْ) لهم (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) من هذه الأزواج كما تزعمون انّ بعضها محرّم على بعض كما سبق (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) وبهذا التّفسير يندفع عن هذه الآية الاشكال بانّ المحرّمات كثيرة وما ذكر هنا اقلّ قليل منها ، وامّا ما ذكر في البقرة فقد سبق هناك ما يندفع به الاشكال عن الآيتين (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) اى الّا في حال ان يكون الطّعام (مَيْتَةً) خرج عنها مقتول الكلاب المعلّمة والمقتول بآلة الصّيد على ما فصّل في الفقه لانّه في حكم المذبوح (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) مصبوبا لا البقيّة الّتى تبقى في لحوم الّذبائح وهو مجمل تفصيله موكول الى بيانهم وقد فصّل في الفقه (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) بيّن وجه الحرمة فيه لانّ كونه رجسا مخفىّ على آكليه بخلاف سابقيه أو الضّمير راجع الى المجموع باعتبار المذكور (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) سمّى المذبوح للأصنام فسقا مبالغة وقوله اهلّ لغير الله به بيان لعلة كونه فسقا (فَمَنِ اضْطُرَّ) الى أكل شيء من ذلك (غَيْرَ باغٍ) على الامام (وَلا عادٍ) حدّ الرخصة وقد مضى في سورة البقرة تفصيل لهذه الآية (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه ويرحمه بترخصه في الاكل حفظا لنفسه (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) من الدّوابّ والطّيور ذكر التّحريم على اليهود بطريق


الحصر عقيب هذه الآية وتعقيبه بكونه جزاء لبغيهم للمنّ على أمّة محمّد (ص) ولتهديدهم يؤيّد الاشكال بلزوم حلّيّة ذبيحة كلّ نوع من الحيوان (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا) اى ما تعلّق بالأمعاء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ) التّحريم (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في الاخبار (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) لانّه لا مانع له من إنفاذه (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) جمع بين شأنى اللّطف والقهر والارجاء والتّخويف والوعد والوعيد تعليما لمحمّد (ص) وأوصيائه (ع) طريق الدّعوة وتكميلا له فيها وتثبيتا له في الدّعوة بين جهتي الرّضا والسّخط ، فانّه لا يتمّ الدّعوة الّا بهما ، فالمعنى فان كذّبوك فلا تخرج عن التّوسّط وعدهم رحمة الرّبّ بإضافة الرّبّ إليهم إظهارا للّطف بهم وقل ربّكم ذو رحمة واسعة فيرحمكم ولا يؤاخذكم بجهالاتكم ، ولكن إذا أراد مؤاخذتكم فلا رادّ لمؤاخذته فاحذروها (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) لرفع القبح عن اشراكهم بل لتحسينه بعد ان عجزوا عن الحجّة (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) كما هو ديدن النّفس والمرأة الفاحشة فانّهما لا ترضيان بنسبة السّوء الى أنفسهما بل تحسّنان القبيح بما أمكن ، فاذا عجزتا عن ذلك تنسبانه بالتّسبيب الى غيرهما من الشّيطان والقرين ومشيّة الله وهو كذب محض ، فانّ الشّيطان والقرين ليس لهما الّا الاعداد ، والمشيّة وان كانت فاعلة أو سببا للفعل لكنّ الفاعل ما دام يرى نفسه في البين ليس له نسبة الفعل الى المشيّة أو تعليقه عليها ولو نسب لا ينبغي الغفلة عن استعداد القابل وبهذا يرتفع التناقض المترائى بين تكذيبهم في قولهم هذا وبين تعليق ذلك على المشيّة في قوله ولو شاء الله لهديكم (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) اى مثل تكذيبهم ايّاك بتعليق الإشراك والتّحريم على المشيّة دون نسبة الى أنفسهم كذّب الّذين من قبلهم أنبياءهم (ع) (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) يعنى ليس عندكم برهان على دعويكم يمكنكم الاحتجاج به على الغير ، واطلاق العلم على البرهان من قبيل اطلاق المسبّب على السّبب ، أو لانّ البرهان هو العلم الّذى يحصل به علم أخر ولمّا كان البرهان هو الّذى يمكن أعلام الغير به قال فتخرجوه لنا فنفى بهذا عنهم البرهان وبقوله (إِنْ تَتَّبِعُونَ) (الى آخره) نفى علمهم مطلقا ، يعنى لا برهان لكم ولا شهود ولا سماع عن صادق أو وحي وبقوله (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) نفى صحّة تقليدهم لانّ التحدّى بمثل هذا يدلّ على عدم شاهد لهم يصحّ الاعتماد عليه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) يعنى لا علم لكم في أنفسكم بمدّعاكم كما لا برهان لكم لا علام غيركم ، ذمّهم اوّلا على اتّباع الظّنّ في أعمالهم ، وثانيا على انّ شأنهم الخرص والتّخمين لا العلم واليقين ، والعاقل لا يقف على الظّنّ والتّخمين بل يتعمّل في تحصيل العلم واليقين وما لم يحصل اليقين يقف عن العمل الّا إذا اضطرّ فيحتاط لا انّه يتّبع الظّنّ فيعمل ويفتي بظنّه من غير اذن واجازة ولا يحصل اليقين الّا بالبيان والبرهان ، أو بإدراك مدارك الحيوان ، أو بالوحي والعيان ، أو بتقليد صاحب الوحي وخليفة الرّحمن ، فمن ظنّ انّ الظّنّ مطلقا والاستحسان طريق حكم الله أو المخطئ له أجر والمصيب له أجران فقد أخطأ طريق الجنان وسلك طريق النّيران فمن فسّر القرآن برأيه واحكام الله نزول القرآن فليتبوّأ مقعده من النّيران ، وامّا الخاصّة فظنونهم قائمة مقام العلم بل نقول ظنونهم أشرف وأعلى من العلم فقد حقّقنا سابقا انّ اجازة المجيز إذا كانت الاجازة الصّحيحة بلغت الى المجاز تجعل ظنّ المجاز أشرف من علم غيره لانّ العلم بدون الاجازة


لا اثر في قول قائله والظّنّ مع الاجازة يؤثّر وليس الاجازة الالهيّة بأقلّ من الاجازة الشّيطانيّة ، والحال انّ المرتاضين بالأعمال الشّيطانيّة ان تعلّموا تعلّما صحيحا مع تصحيح الألفاظ جميع المناطر لم يؤثّر شيء منها ما لم يجزه صاحب الاجازة ، وإذا اجازة صاحب الاجازة يؤثّر قوله ولو كان مغلوطا ، فالاجازة تجعل المغلوط أشرف من الصّحيح وهكذا الحال في الاجازة الالهيّة ولمّا نفى البرهان عنهم في تعليق الإشراك والتّحريم على مشيّة الله المفهوم من مفهوم الشّرط ، فانّ المراد بقرينة المقام من هذا الشّرط الدّلالة على تعلّق الإشراك بمشيّة الله وان كان بحسب اللّغة أعمّ ، ونسب تكذيب النّبىّ (ص) إليهم بذلك التّعليق مشعرا بذمّهم فيه وأوهم ذلك نفى تعليق الأفعال على المشيّة امر نبيّه (ص) بان يقول لهم : انّ البرهان منحصر في الله وفيمن أخذ عن الله تمهيدا لتعليق الأفعال على مشيّة الله رفعا لتوهّم عدم سببيّة المشيّة النّاشى عمّا سبق فقال تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) في كلّ ما قال وما فعل (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فله الحجّة في صدق هذا القول وقد أظهرها لي يعنى لي الحجّة في تعليق اشراككم وتحريمكم على مشيّة المفهوم من مفهوم قولكم لو شاء الله ما أشركنا لا لكم وله الحجّة في ترك تلك المشيّة ومشيّة ضدّه ، اعلم ، انّ مشيّة الله وهي إضافته الاشراقيّة الّتى بها وجود كلّ ذي وجود كالرّحمة والارادة عامّة وهي الّتى بها وجود كلّ ذي وجود امكانىّ بكمالاته الاولويّة والثّانويّة في سلسلة النّزول والصّعود مثل الرّحمة الرّحمانيّة وخاصّة ، وهي الّتى بها وجود الكمالات الثّانويّة للمكلّفين في سلسلة الصّعود مثل الرّحمة الرّحيميّة وتسمّى بالرّضا والمحبّة (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ، و (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) اشارة إليها فالمشيّة العامّة لها السّببيّة لكلّ ذات وفعل وصفة لكنّ الفاعل ما لم يخرج عن حدّ نفسه ولم ينظر الى مشيّة الله بنور بصيرته ويرى نفسه فاعل فعله كما يشعر به قولهم ما أشركنا بنسبة الإشراك الى أنفسهم ما صحّ له نسبة الفعل أو تعليقه على المشيّة وكان مذموما كاذبا في نسبة فعله الى المشيّة ، وبهذا أيضا يصحّ ذمّهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا بتعليق عدم الإشراك اى الاهتداء على المشيّة مع إثبات هذا التّعليق بقوله (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) وكذلك المشيّة الخاصّة لها السّببيّة في الأفعال التّكليفيّة الصّالحة ، فلو أرادوا تلك المشيّة فالجمع بين ذمّهم على قولهم وإثبات قولهم بمثل ما ذكر في المشيّة العامّة ولمّا أبطل قولهم ذلك بعدم البرهان وعدم علمهم في أنفسهم أراد ان يبطل علمهم التّقليدىّ أيضا باستحضار الرّؤساء الّذين قلّدوهم وإلزامهم جهلهم وضلالتهم حتّى يتبيّن لهم انّ تقليدهم فاسد ، وانّ التّقليد يصحّ إذا كان تقليدا لمن نصبه الله للتّقليد كالأنبياء وأوصيائهم وغيرهم كائنا من كان لا ينفكّ عن الهوى وتقليده اتّباع للهوى فقال (قُلْ) لهم ايّها العاجزون عن البرهان والقاصرون عن العلم (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) اى رؤساءكم الّذين تقلّدونهم (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) حتّى أظهر لكم جهلهم واتّباعهم للهوى (فَإِنْ شَهِدُوا) بذلك (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وضع الظّاهر موضع المضمر للدّلالة على انّ شهادتهم ناشئة عن اتّباع الهوى لانّهم موصوفون بتكذيب آيات الله والمكّذبون بآيات الله لا يكونون الّا صاحبي الاهوية النفسانيّة (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وصف آخر باعث لاتّباع الهوى (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) اى يسوّون غيره به وصفهم بأوصاف ثلاثة كلّ واحد منها يكفى في ردّ شهادتهم (قُلْ) بعد عجزهم عن العلم واقامة البرهان وإلزامهم فساد تقليدهم لرؤسائهم (تَعالَوْا) الىّ فانّي منصوب من الله (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حتّى تقلّدونى تقليدا صحيحا (أَلَّا تُشْرِكُوا


بِهِ شَيْئاً) اعراب أجزاء الآية انّ ما فيما حرّم مصدريّة أو موصوفة أو موصولة أو استفهاميّة وعليكم ظرف متعلّق بحرّم أو باتل أو بهما أو ابتداء كلام ، وان في ان لا تشركوا مصدريّة ولا نافية أو ناهية والنّهى أوفق بما يأتى من عطف الأمر عليه ، وهو امّا بتقدير اللّام أو خبر مبتدء محذوف اى المتلوّ أو المحرّم ان لا تشركوا وإذا قدّر المحرّم مبتدء كان لا زائدة أو هو مفعول فعل محذوف ، اى اعنى ان لا تشركوا أو عليكم خبر مقدّم وان لا تشركوا مبتدأ ، أو عليكم اسم فعل والّا تشركوا منصوب به ، أو ان لا تشركوا مفعول اتل على ان يكون ما في ما حرّم مصدريّة أو هو بدل ممّا وإبداله ممّا باعتبار حرمة الإشراك ، أو يكون لا زائدة أو لفظة ان تفسيريّة والجملة تفسير لاتل أو لحرّم وتفسيره لحرّم باعتبار الإشراك ، أو ان لا تشركوا مفعول لوصاكم الله وهذا أوفق بقوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وعلى الوجوه السّابقة فالتّقدير أحسنوا بالوالدين وللاهتمام بالوالدين أسقط الفعل إيهاما لعطفه على الجارّ والمجرور ليتوهّم انّ المعنى ان لا تشركوا بالوالدين إحسانا ، وأتى بالمصدر للاشعار بانّ المقدّر أحسنوا وأتى به موضع لا تسيئوا فانّه الموافق لسابقه ولاحقه للدّلالة على الاهتمام بالإحسان إليهما وعدم الاكتفاء بترك الاساءة ، والوالدان اعمّ من الصّورىّ والرّوحانىّ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) بالوءد وغيره (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فلا تخشوا الفقر (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) ما استقبحه العقل واستكرهه الشّرع (ما ظَهَرَ مِنْها) كالّتى شاعت وصارت سيرة بينكم ، كنكاح زوجة الأب وعبادة الأصنام وغيرها من السّنن الرّذيلة الّتى لا يرتضيها العقل ولم ـ تثبت في شريعة الهيّة ، والنّهى عن القرب مبالغة في النّهى عن الفعل (وَما بَطَنَ) كالزّنا وكلّ ما لم يصر شائعا وسيرة بينكم من المستقبحات العقليّة والشّرعيّة أو المراد بما ظهر قبحه كالزّنا واللّواط لا ما ظهر ذاته كنكاح زوجة الأب وبما بطن ما بطن قبحه كنكاح زوجة الأب ، أو المراد بما ظهر ما ظهر منها على الأعضاء وبما بطن ما بطن في النّفوس كالرّذائل النّفسانيّة والخطرات السّيّئة والخيالات الفاسدة والعقائد الكاذبة ، أو المراد بالفواحش الزّنا فقط أو اعمّ منه وممّا كان مثله في القبح في الانظار كاللّواط وهذا أوفق بترتيب المعاصي كما لا يخفى على من تأمّل في الفقرات الثّلاث ، ولذا ورد تفسيرها في الاخبار بالزّنا ومثله ، اعلم ، انّ ظلم الإنسان وعصيانه امّا ظلم لنفسه أو ظلم لغيره ، وظلم الغير امّا مسر الى ذات الغير أو الى ماله ، وأعظم مراتب ظلم النّفس الزّنا ، وأعظم مراتب ظلم ذات الغير إزهاق روحه ، وأعظم مراتب ظلم مال الغير أخذ مال اليتيم عدوانا ، وبالفقرات الثّلاث المصدّرة بأداة النّهى أشار تعالى شأنه الى هذه الثّلاثة (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) ذكر خاصّ بعد العامّ للاهتمام به كما انّ ما سبق على ذكر الفواحش كان ذكر خاصّ قبل العامّ لذلك بناء على تعميم الفواحش ، وامّا إذا كان الفواحش خاصّة بالزّنا واللّواط كان ذكر قتل الأولاد مقدّما على الكلّ ، وعدم الاكتفاء بذكر قتل النّفس للاهتمام بوأد الأولاد وقتلهم وللتّشديد في حرمته (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قبحه وسوء عاقبته فتتركونه (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) اى بالنّيّة الّتى هي أحسن وهي نيّة حفظ ماله ونفسه وانما ماله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) جمع الشّدّ بالفتح كفلس وأفلس أو الشّدّة كالنّعمة والانعم أو مفرد ، وعلى جمعيّته فالمقصود الاشارة الى قوّة جميع قواه البدنيّة والنّفسانيّة وهو البلوغ الشّرعىّ الّذى فيه قوّة قواه البدنيّة والنّفسانيّة بكمال تميزه ودركه الخير والشّرّ البدنيّين والنّفسانيّين


(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) المراد بهما المعروفان وقد مضى في بيان الميزان ما يمكنك التّعميم به وكذا في سائر فقرات الآية ، والتّقييد بالقسط امّا للتّأكيد أو للمنع من إعطاء الزّيادة على قدر الاستحباب فانّه كالتّبذير الممنوع أو مورث لجهالة المكيل والموزون المفسدة للمعاملة ولذا جاء بقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) معترضا فانّ القسط الحقيقىّ في الإيفاء هو أداء تمام ما حقّه ان يؤدّى بحيث لا يزيد ولا ينقص حبّة وهو أمر ليس في وسع البشر (وَإِذا قُلْتُمْ) في حكومة إذا حكّمكم النّاس أو في شهادة أو إصلاح أو نصح أو ترحّم أو سخط أو معاش أو معاد أو واجب أو مباح بألسنتكم أو بسائر اعضائكم أو بقواكم العلّامة أو العمّالة (فَاعْدِلُوا) توسّطوا بين الإفراط والتّفريط في الأقوال والأحوال والأفعال ، والتّأدية بصورة الشّرط وبلفظ إذا والمضىّ للاشارة الى انّ القول غير مأمور به لكنّ الإنسان لا يخلو عن قول ما خصوصا على التّعميم المذكور ويكون مأمورا بالتّوسّط في القول (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) جسمانيّا أو روحانيّا في العالم الكبير أو الصّغير (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) تقديم المعمول للاهتمام به ولشرافته ولإبراز العلّة للأمر قبل الإتيان به لا لقصد الحصر أو للحصر أيضا بناء على انّ الوفاء بسائر العهود من شرائط عهد الله ، اعلم ، انّ العهد والعقد والميثاق والبيعة مع الله في عرف أهل الله إذا أطلقت يراد بها البيعة العامّة النّبويّة أو البيعة الخاصّة الولويّة ، وبالأولى يحصل الإسلام وبالثّانية يحصل الايمان وتسمّى تلك البيعة بيعة ومبايعة ، لانّ البائع بتلك البيعة يبيع نفسه وماله بثمن هو الجنّة كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) وتسمّى عهدا ومعاهدة لتعهّد البائع والمشترى القيام بما عليهما وعقدا لانعقاد يد البائع على يد المشترى وميثاقا لاستحكام ذلك العهد بتقبّل الشّروط من الطّرفين ووثوق كلّ بالآخر بذلك العقد ، ولمّا كان المشترى منصوبا من الله ووكيلا منه في تلك المبايعة صحّ نسبتها الى الله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) ، (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ،) وغير ذلك من الآيات والاخبار الدّالّة على نسبة هذه الى الله (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) التّذكّر هو الالتفات الى المعلوم والاستشعار به بعد الغفلة عنه أو مطلقا وهو من صفات العقل كما انّ الغفلة من صفات النّفس ولذا اخّره عن قوله تعقلون وكرّر ذلك للاشارة الى مراتب المعاصي وانّ بعضها لا يصدر عن العاقل ، وبعضها لا يصدر عن المتذكّر وان كان قد يصدر عن العاقل الغافل ، وبعضها لا يصدر عن المتّقى وان كان قد يصدر عن العاقل المتذكّر والمراد بالتّقوى في قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، هو التّقوى الحقيقيّة الّتى هي الرّجوع عن طرق النّفس المعوّجة واتّباع ائمّة الجور الى طريق القلب واتّباع الامام الحقّ ، والعاقل المتذكّر ما لم يصل الى الامام الحقّ لا يمكنه الرّجوع الى طريق القلب ولذا اقتصر هناك على اتّباع الصّراط المستقيم (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) قرئ بفتح همزة انّ وتشديد النّون أو تخفيفه مخفّفة من المثقّلة وحينئذ تكون مع بعدها عطفا على ان لا تشركوا واعتبار الحرمة فيه باعتبار ترك المتابعة ، أو تكون بتقدير اللّام متعلّقا بقوله اتّبعوه وقرئ بكسر همزة انّ فتكون عطفا على تعالوا ، وقرئ صراط ربّك وصراط ربّكم وهذا اشارة الى المستفاد ممّا ذكر من قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا


الى أخر الآيات وهو التّوسّط بين الإفراط والتّفريط في الفعل والقول وهو صراط الولاية ، أو هو اشارة اوّلا الى طريق الولاية الّذى كان معهودا عنده (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أصله تتفرّق حذف تاء المضارعة والفعل منصوب بان بعد الفاء والباء للتّعدية والمعنى لا تتّبعوا السّبل فان تتفرّق بكم اى تفرّقكم وتزيل اجتماعكم واتّحادكم في الصّراط ، ولمّا كان التّوسّط بين الإفراط والتّفريط لا يحصل الّا بالولاية بل كان هو الولاية والولاية من شؤن الولىّ بل هي الولىّ صحّ تفسيره بالولاية وبمحمّد (ص) وبعلىّ (ع) كما ورد في الاخبار ، ولمّا كان الانحراف عن التّوسّط والميل الى الإفراط والتّفريط لا يحصل الّا باتّباع الهوى بل هو اتّباع الهوى والهوى ليس الّا من شؤن أعداء أهل البيت صحّ تفسير اتّباع السّبل بمحبّة أعدائهم (ذلِكُمْ) التّوسّط (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) السّبل المتفرقّة فانّ التّقوى الحقيقيّة هي الاحتراز عن الطّرق المنحرفة والثّبات على الصّراط المستقيم (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كتاب النّبوّة أو التّوراة الّتى هي صورة النّبوّة والعطف باعتبار المعنى كأنّه قال هذا ما آتينا محمّدا (ص) ثمّ آتينا موسى الكتاب والعطف بثمّ باعتبار الاخبارين والاعلامين أو باعتبار تفاوت الخبرين في الشّرف باعتبار موضوعيهما ويحتمل العطف على جملة ذلكم وصيّكم به لكنّه بعيد عن الفصاحة لعدم المناسبة بينهما ، وامّا العطف على وصيّكم كما قيل فبعيد غاية البعد لعدم ظهور الرّابط لمبتدء المعطوف عليه (تَماماً) من غير نقص فيه أو تماما للنّعمة وهو حال أو مفعول مطلق أو تعليل (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) صار ذا حسن أو جعل عمله حسنا وبأحد هذين المعنيين ورد تفسيره بان تعبد الله كأنّك تراه أو أحسن الى الغير ومنع إساءته عنهم ، اعلم ، انّ الحسن المطلق منحصر في الولاية المطلقة الّتى صاحبها علىّ (ع) بعد محمّد (ص) وحسن غيرها من الّذوات والصّفات والأفعال باعتبار اتّصاله بها ، وتفاوت الحسن في الأشياء باعتبار تفاوتها في القرب والبعد عنها ، فالطّالب للولاية يكون في نفسه حسنا وأفعاله الّتى تصدر عن طلبه تكون حسنة ، والقابل لها يكون أحسن وأفعاله الّتى تصدر عن جهة ذلك القبول أحسن من افعال الطّالب ، والقابل المشاهد لصورة الولىّ والنّاظر الى ملكوته أحسن من القابل الغائب عن المشاهدة ، وتلك المشاهدة هي الّتى تسمّى عند الصّوفيّة بالفكر وتمثّل صورة الشّيخ والنّظر الى صورته أحسن من جميع أفعاله والمتحقّق بحقيقة الولاية وأفعاله أحسن من القابل المشاهد وأفعاله (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) اعلم ، انّه تعالى وصف كتاب موسى (ع) بكونه تماما وتفصيلا لكلّ شيء هاهنا وقال في سورة الأعراف : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) وهذا يدلّ على انّه تعالى جعل في كتاب رسالته كلّ شيء مشتملا على كلّ شيء وكلّ شيء مظهرا تامّا ومرآة كاملة لكلّ شيء ، وقد قال بعض الصّوفيّة : كلّ شيء في كلّ شيء لكن ليس لكلّ أحد ان ينظر كلّ شيء في كلّ شيء ، ولهذا قال : وكتبنا لموسى وما كان لغيره ذلك ، ولمّا كان موسى (ع) بعد نبيّنا (ص) وبعد إبراهيم (ع) أوسع نظرا من حيث النّظر الى الكثرات ومراتب كلّ ومباديه وغاياته ، وصف كتابه المنزل عليه بأنّه كتب له فيه من كلّ شيء تفصيلا لكلّ شيء ، بمعنى انّه تعالى جعل لوح صدر موسى (ع) بحيث إذا انتقش فيه شيء من الأشياء انتقش فيه جميع مباديه الى مبدء المبادى وجميع غاياته الى غاية الغايات ، وانتقش جميع لوازم المبادى والغايات ، وإذا انتقش جميع المبادى والغايات ولوازمها في شيء لم يبق شيء الّا انتقش ، فيه لانّ الموجودات كلّها متلازمات إذ الكلّ معاليل علّة واحدة (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ) اى


بنى إسرائيل (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) ان كان المراد بربّهم الرّبّ المطلق فالمراد باللّقاء لقاء جزائه وحسابه وحسّابه ، وان كان المراد به الرّبّ المضاف وهو ربّهم في الولاية فالمراد باللّقاء لقاء ملكوت ذلك الرّبّ وهو ادنى مراتب اللّقاء والمعرفة بالنّورانيّة وفوقه لقاء جبروته بمراتبها ، يعنى آتينا موسى الكتاب للدّعوة الظّاهره حتّى يستعدّوا بقبول تلك الدّعوة لقبول الدّعوة الباطنة ، ويستعدّوا بقبول تلك الدّعوة لفتح باب القلب ويشاهدوا بفتح باب القلب صورة ولىّ الأمر بملكوته ، وهو لقاء ربّهم الّذى هو ولىّ أمرهم وبهذا اللّقاء يحصل الفوز بالرّوح والرّاحة والأمن والامان والسّلامة من حوادث الزّمان والنّجاة من مضيق المكان ؛ والى هذا اللّقاء أشار من قال :

كرد شهنشاه عشق در حرم دل ظهور

قد ز ميان برفراشت رأيت الله نور

وقد فسّر السّكينة في الاخبار بما يدلّ على ظهور ملكوت ولىّ الأمر في القلب حيث ورد ، انّها ريح تفوح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، فانّ الملكوت من الجنّة ، وكونها ذات وجه كوجه الإنسان يدلّ على انّها من الّذوات الجوهريّة الملكوتيّة لكونها من الجنّة لا ما يفهم من لفظ الرّيح ، ويسمّى في عرف الصّوفيّة ظهور ملكوت ولىّ الأمر على قلب الإنسان بالسّكينة كما يسمّى بالفكر والحضور ، وهذا اللّقاء هو المراد بما يقولون : لا بدّ للسّالك ان يجعل صورة المرشد نصب عينيه ، يعنى ينبغي ان يصفو نفسه بالعبادات حتّى يظهر في قلبه ولىّ امره فيكون مع الصّادق معيّة حقيقيّة لا ما يتوهّم من ظاهر اللّفظ من انّه لا بدّ ان يتعمّل ويتصوّر صورة مخلوقة له مردودة اليه ، وقد ورد منهم ، وقت تكبيرة الإحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينيك ؛ وعلى هذا كان المراد بالايمان هاهنا الايمان الشّهودىّ لا الايمان بالغيب (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) كثير الخير والنّفع لانّ البركة الزّيادة والنّماء في الخير وهو كلمة جامعة لكلّ ما ذكر في وصف كتاب موسى (ع) مع شيء زائد وهو تعميم البركة لكلّ ما يتصوّر فيه البركة ، وفي لفظ أنزلنا دون آتينا دلالة على شرافة هذا الكتاب كأنّ كتاب موسى (ع) كان من سنخ هذا العالم فآتاه الله ، والقرآن كان في مقام أعلى من هذا العالم فأنزل الله الى هذا العالم السّفلىّ وآتاه محمّدا (ص) (فَاتَّبِعُوهُ) حتّى تفوزوا من اتّباعه بولىّ أمركم واتّباعه فانّ فيه حجّته وباتّباعه تفوزون بفتح باب القلب وبفتحه نزول الرّحمة من الله وادنى مراتب حقيقة الرّحمة هو ملكوت ولىّ الأمر (وَاتَّقُوا) مخالفة ما فيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بلقاء ملكوت ولىّ أمركم فانّ دار الشّياطين هي حقيقة سخط الله والدّنيا هي مظهر رحمته وسخطه معا والملكوت العليا هي حقيقة رحمته المتجوهرة وكذا الجبروت والمشيّة ، وفي الاقتصار على لفظ ترحمون هنا والإتيان بقوله (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) هناك دلالة على شرافة هذا الكتاب كما لا يخفى (أَنْ تَقُولُوا) يعنى أنزلنا الكتاب كراهة ان تقولوا بعد ذلك أو في القيامة أو لئلّا تقولوا كذلك أو كراهة هذا القول الواقع منكم على سبيل الاستمرار. اعلم ، انّ مثل هذه العبارة كثيرة في الكتاب والسنّة وجارية على السنة العرف والمقصود من مثلها انّ هذا القول كان واقعا منكم وصار وقوع هذا القول سببا لانزال الكتاب لكراهتنا وقوع هذا القول منكم ولئلّا يصدر مثله بعد منكم ، ولمّا كان صدور هذا القول سببا لكراهته ، وكراهته لهذا القول الصّادر سببا لانزال الكتاب ، وإنزال الكتاب سببا لمنع هذا القول صحّ تفسيره بكراهة ان تقولوا ، وبقولهم لئلّا تقولوا ، ولكن لا حاجة الى تقدير الكراهة أو تقدير لا وعلى هذا كان المعنى أنزلنا الكتاب لكثرة ما كنتم تقولون إظهارا للعذر في تقصير كم في العبادات وتحسّرا على كونكم أمّيّين (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ


مِنْ قَبْلِنا) والإتيان بأداة القصر لشهرة الكتابين وأهلهما عندهم كأنّهم كانوا لا يعرفون أهل ملّة وكتاب غيرهما (وَإِنْ كُنَّا) ان مخفّفة من المثقّلة (عَنْ دِراسَتِهِمْ) قراءتهم وبيانهم للكتابين (لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا) أو للتّوزيع يعنى كان بعضهم يقولون ذلك وبعضهم هذا (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لانّا احدّ ذهنا وادقّ فهما ، وهذا هو ديدن النّسوان لانّهنّ لا يرضين بنسبة النّقص الى انفسهنّ ويعتذرون بالاعذار الكاذبة ويفتخرن باستعداد الكمالات وقواها حين فقدانها على المتّصف بها ويتحسّرن على الفانية بالتّمنّيات والتّعليق على الفائتات (فَقَدْ جاءَكُمْ) جواب لشرط مقدّر ، اى ان كنتم صادقين فقد جاءكم (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كتاب هو حجّة واضحة على كلّ شيء من صدق النّبىّ (ص) ونبوّته والأحكام الّتى هي معالم الهداية (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) التّدوينيّة والتّكوينيّة وأعظمها علىّ (ع) فانّ الآيات التّدوينيّة تدلّ على التّكوينيّة وتكذيبها مؤدّ الى تكذيبها ، وهو تعريض بانّهم كذّبوا بآيات الله بعد وضوحها ولا أظلم منهم (وَصَدَفَ عَنْها) اعرض أو منع لكنّ الثّانى اولى للتّأسيس يعنى ضلّ واضلّ (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم أو لعذابهم حين الموت (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) في الولاية وهو علويّة محمّد (ص) ووجهة ولايته كما قال (ع): يا حار همدان من يمت يرنى (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) كأشياع علىّ (ع) الّذين هم آياته تعالى ، وتفسير الآيات في الاخبار بالعذاب في دار الدّنيا لا ينافي كونها عند الموت قبل الارتحال من الدّنيا ولا ينافي التّفسير بأشياع علىّ (ع) لانّ العذاب آية علىّ (ع) النّازلة وأشياعه آياته العالية (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يعنى حين معاينة الموت (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) هو اشدّ آية على أهل الايمان خصوصا على من لا يراقب جهة ايمانه الّذى هو ذكره وفكره ، وقد فسّرت الآيات في هذه الآية بالأئمّة (ع) وبطلوع الشّمس من مغربها وبخروج الدّجّال وبظهور القائم (ع) وبخروج دابّة الأرض ، ولا ينافي ما ذكرنا (قُلِ انْتَظِرُوا) احدى الثّلاث (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) لها فانّ لنا بذلك الفوز ولكم الويل (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الدّين يقال لكلّ سيره وسنّة ، النّاس على دين ملوكهم ، وعلى السّيرة الشّرعيّة الالهيّة ، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وللجزاء (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، ويطلق على الإسلام والعادة والعبادة والطّاعة والّذلّ والحساب والقهر والاستعلاء والملك والحكم والتّدبير والتّوحيد وجميع ما يتعبّد الله به ، والملّة والخدمة والإحسان وعلى غير ذلك من المعاني ، والتّحقيق انّ حقيقة الدّين هي الطّريق من القلب الى الله والسّير الى ذلك الطّريق أو عليه ويسمّى بالطّريقة وهما الولاية التّكوينيّة المعبّر عنها بالحبل من الله ، والولاية التّكليفيّة المعبّر عنها بالحبل من النّاس وبالولاية التّكليفيّة ينفتح باب ذلك الطّريق وصاحب الولاية المطلقة هو علىّ (ع) وهو متّحد مع الولاية المطلقة ، والولايات المقيّدة اظلال من هذه الولاية ولذلك صار علىّ (ع) خاتم الولاية وكلّ الأنبياء (ع) والأولياء (ع) يكونون تحت لوائه ، وكلّما يسمّى دينا من الشّرائع الالهيّة فانّما يسمّى دينا لاتّصاله بالولاية وارتباطه بحقيقة الدّين ، وتسمية السّيرة الغير الالهيّة بالدّين من باب المشاكلة مع السّيرة الالهيّة


فعلى قراءة فرّقوا ، فالمعنى انّ الّذين فرّقوا دينهم الّذى هو ما وصل إليهم من طريق القلب بالولاية التّكوينيّة من فيض العقل على الاهوية الفاسدة أو ما وصل إليهم من هذا الطّريق بالولاية التّكليفيّة من الايمان الّذى دخل في قلوبهم على الأغراض الكاسدة والمهامّ المتبدّدة ، فانّ الإنسان إذا صار مقبلا على النّفس والدّنيا كان يفرّق كلّما يصل اليه من جهة الآخرة على جهات النّفس ونعم ما قيل :

أنصتوا يعنى كه آبت را بلاغ

هين تلف كم كن كه لب خشك است باغ

أو المعنى فرّقوا دينهم وبعّضوه بان آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، أو المعنى افترقوا في دينهم بان اختار كلّ منهم دينا غير دين الآخر ، كما ورد من افتراق الامّة على ثلاث وسبعين فرقة ، وقرئ فارقوا دينهم اى فارقوا ولايتهم التّكوينيّة من الغفلة التامّة عن طريق القلب أو فارقوا ولايتهم التّكليفيّة بالهجرة والغفلة عن ذكرهم الّذى دخل في قلوبهم أو فارقوا عليّا (ع) كما علمت ، وكما ورد في الخبر انّ الآية فارقوا دينهم وانّ المراد المفارقة عن علىّ (ع) (وَكانُوا شِيَعاً) متفرّقة يشيع كلّ منهم هوى أو غرضا أو إماما باطلا أو يصير كلّ منهم مشايعا لا هوية عديدة أو أغراض عديدة أو ائمّة عديدة بجعل كلّ واحد كأنّه فرق مختلفة كما قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) وكما قيل بالفارسية : «ترا يكدل دادم كه در ان يك دلبر گيرى نه آنكه آن يكدل را صد پاره كنى وهر پاره را دنبال مهمّى آواره» (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) اى لست متمكّنا منهم في شيء من التّمكّن فانّ تمكّنك امّا بتمكّن صورتك الملكوتيّة في قلوبهم ، أو بتمكّن الذّكر الّذى أخذوا منك بالولاية التّكليفيّة في قلوبهم ، أو بتمكّن الانقياد الّذى أخذوه منك بالبيعة العامّة في صدورهم فانّ الكلّ من شؤنك ونازلتك ، أو لست من شفاعتهم في شيء ، أو لست من مسائلتهم ومحاسبتهم أو عذابهم في شيء ، أو لست من مجانستهم في شيء ومرجع الكلّ الى تمكّنه (ص) في قلوبهم بأحد الوجوه المذكورة ، ولفظة منهم خبر لست أو حال مقّدم من شيء ، وكلمة من بيانيّة أو ابتدائية أو تبعيضيّة (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) لانّك لست ولىّ أمرهم بانحرافهم عنك فأمرهم وحكمهم مفوّض أو راجع الى الله (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) في تفرّقهم فيجازيهم على حسبه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) الحسنة وصف من الحسن والتّاء فيه للنّقل من الوصفيّة الى الاسميّة ، فانّها صارت اسما لأشياء مخصوصة ورد عن الشّريعة حسنها أو للتّأنيث في الأصل بتقدير الخصلة الحسنة ، وحقيقة الحسن هي الولاية المطلقة وهي علىّ (ع) بعلويّته والنّبوّات وأحكامها القالبيّة والولايات الجزئيّة وأحكامها القلبيّة اظلال الولاية المطلقة وقبول النّبوّات والولايات أيضا ظلّها ، وكلّ فعل وقول وخلق كان من جهة الولاية كان حسنا بحسنها لكونه ظلّها أيضا ، ويعلم السّيّئة بالمقايسة الى الحسنة فاصل السّيّئة اتّباع النّفس المعبّر عنه بولاية أعداء آل محمّد ومخالفيهم. واعلم ، انّ الإنسان مفطور على السّير الى الآخرة ودار النّعيم وحيازة درجاتها ، فاذا فرض عمل يعينه على سيره وعمل آخر مثل هذا العمل يقسره على الحركة الى الجحيم والى خلاف فطرته ، فاذا كان تحريك العمل الى جهة خلاف الفطرة درجة مثلا كان تحريك العمل الموافق للفطرة أزيد من تحريك العمل المخالف للفطرة بمراتب عديدة ، واقلّها عشر درجات وأكثرها لا حدّ لها بتفاوت استعداد الأشخاص وهذا نظير تحريك الحجر هابطا وصاعدا بقوّة واحدة ، فانّ الهابط يكون أسرع حركة من الصّاعد (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ) اى المحسنون والمسيئون (لا يُظْلَمُونَ) بنقص


الجزاء وتضعيف العقاب (قُلْ) لهم موادعة وتعريضا بنصحهم با بلغ وجه (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) فلا حاجة لي إليكم ولا تعرّض لي بكم فأنتم وشأنكم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو صراط القلب وهو الولاية التّكوينيّة وبالولاية التّكليفيّة الحاصلة بالبيعة الخاصّة الولويّة ينفتح صراط القلب ، وهما ظهور الولاية المطلقة ونازلتها والولاية المطلقّة متّحدة مع علىّ (ع) وعلويّته ، فصحّ تفسير الصّراط بالولاية تارة وبعلىّ (ع) اخرى (دِيناً قِيَماً) الدّين قد مضى قبيل هذا تحقيقه ، والقيّم الدّين الّذى لا اعوجاج له (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) إظهار لنصحهم بانّ دينه دين إبراهيم الّذى لا اختلاف لهم في حقيّته (حَنِيفاً) الحنيف المستقيم والصّحيح الميل الى الإسلام الثّابت عليه وكلّ من حجّ أو كان على دين إبراهيم (ع) وهو حال من مفعول هداني أو صفة دينا أو حال منه أو من المستتر في قيما أو من ملّة إبراهيم (ع) ، والتّذكير باعتبار معنى الملّة وهو الدّين أو من إبراهيم على ضعف جعل الحال من المضاف اليه من دون كون المضاف عاملا ، أو في حكم السّقوط (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على حنيفا أو حال من المستتر فيه أو حال بعد حال بناء على انّ حنيفا حال من إبراهيم (ع) وهو تعريض بانّهم مخالفون لإبراهيم (ع) في شركهم فهم مبطلون لانّ إبراهيم (ع) كان محقّا بالاتّفاق (قُلْ) بعد نفى الشّرك الصّورىّ عن نفسك نفيا للشّرك المعنوىّ تأكيدا لنفى الشّرك الصّورىّ (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) تعميم بعد تخصيص اهتماما بالخاصّ فانّه عمود الدّين وأصل كلّ نسك (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) يعنى انّ أفعالي التّكليفيّة الاختياريّة وأوصافي التّكوينيّة الالهيّة خالصة من شوب مداخلة النّفس والشّيطان (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) تعميم بعد تخصيص وتأكيد لما يفهم التزاما فانّه إذا لم يكن في أفعاله وأوصافه شريك لله لم يكن في وجوده شريك لله ، وإذا لم يكن في وجوده شريك لله لم ير في العالم شريكا لله ، لانّ رؤية الشّريك في العالم يقتضي السّنخيّة بين الرّائى والمرئىّ الّذى هو العالم الّذى فيه شريك ، والسّنخيّة تقتضي الشّريك لله في وجوده وكون الشّريك في وجوده يقتضي الشّريك في صفاته (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) تعريض بهم بانّ شركهم غير مبتن على امر (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لانّ كلّ من أخلص ذاته وصفاته وأفعاله وجميع ماله لله تعالى ، فهو مقدّم على الكلّ وخاتم سلسلة الصّعود وأقرب الصّاعدين الي ، وهو اوّل من اقرّ في الّذرّ بالوحدانيّة كما ورد في الخبر ولانّه اوّل من اتّصف بدين الإسلام (قُلْ) لهم إنكارا لابتغاء غير الله ربّا مع اقامة الدّليل على ذلك الإنكار بانّ غيره مربوب تعريضا بمن أخذ غيره ربّا (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) وغيره مربوب فما حالكم إذا انحرفتم عن الرّبّ وجعلتم المربوب ربّا (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) هذا ممّا استعمل فيه سلب الإيجاب الكلّىّ في السّلب الكلّىّ ومثله كثير في الآيات والاخبار واستعمال العرب ، والمقصود انّ ابتغاء غير الله ربّا مع كونه مربوبا وبال لا محالة ولا يمكنني طرح هذا الوبال على غيري ، لأنّه لا تكسب كلّ نفس ما تكسب ممّا هو وبال الّا عليها يعنى كسبكم الوبال باتّخاذ غير الرّبّ ربّا وبال عليكم (وَ) لا يمكن غيري ان يحمل وبالي عنّى لانّه (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) هذه مجادلة بالّتى هي أحسن بحيث لا يورث شغبا (١) ولجاجا للخصم حيث نسب ابتغاء غير الله

__________________

(١) ـ الشّغب بالسّكون وقد يحرّك وقيل لا يحرّك ـ أصل تهييج الشرّ.


ربّا الى نفسه وذكر مفاسده وعرّض بهم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) يوم القيامة نسب الرّجوع إليهم دون نفسه تنبيها على التّعريض بحيث لا يمكنهم ردّه (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وهو الدّين الّذى فرّقتموه على اهويتكم أو اختلفتم في بطلانه وحقّيّته ، وفيه تعريض بالامّة كأنّه قال فتنبّهوا يا أمّة محمّد (ص) فلا تختلفوا بعده في الدّين الّذى أتمّه بولاية علىّ (ع) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) عطف على قوله هو ربّ كلّ شيء أو حال معمول لواحدة من الجمل السّابقة وتعليل آخر لانكار ابتغاء غيره ربّا وبيان لكيفيّة ربوبيّته بما فيه غاية الانعام على طريق الحصر ، يعنى هو الّذى جعلكم خلائف الأرض لا غيره الّذى هو مربوب والمقصود انّه جعلكم خلائفه في ارض العالم الكبير بان أعطاكم قوّة التّميز والتّصرّف فيها باىّ نحو شئتم وأباح لكم التّصرّف فيها ، وفي ارض العالم الصّغير بان مكّنكم فيها وجعل لكم فيها كلّ ما جعل لنفسه من الجنود والحشم وسخّرها لكم مثل تسخّرها لنفسه ، وهذه هي غاية الانعام حيث خلقكم على مثاله (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ) ايّها المرفوعون (فِي ما آتاكُمْ) من جاهكم ومالكم وقواكم وبسطكم واحتياج غير المرفوعين إليكم كيف تعاملون مع أنفسكم ومع الله بأداء الشّكر وصرف النّعمة في وجهها ومع المحتاجين بإيصال حقوقهم إليهم ، فعلى هذا كان الخطاب للمرفوعين ، أو يكون الخطاب للمرفوعين وغيرهم جميعا ، فانّ المحتاج مبتلى بحاجته كما انّ المرفوع مبتلى بالمحتاج (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) استيناف من الله وخطاب لمحمّد (ص) أو خطاب عامّ وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يريد بالابتلاء؟ ـ فقال : يريد عقوبة المسيء ورحمة المحسن منهم لانّ ربّك سريع العقاب ، وتقديم العقاب لقصد ختم السّورة بالرّحمة رحمة بهم (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) عن الصّادق (ع) انّ سورة الانعام نزلت جملة واحدة شيّعها سبعون الف ملك حتّى نزلت على محمّد (ص) فعظّموها وبجّلوها فانّ اسم الله فيها في سبعين موضعا ، ولو يعلم النّاس ما في قراءتها ما تركوها وكفى به فضلا.


سورة الأعراف

مكّيّة وروى انّها مكّيّة غير قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) (الى قوله) (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص) قد مضى في اوّل البقرة ، انّه في حال المحو والغشي وانقلاب الدّنيا الى الآخرة يرى الإنسان ويشاهد من الحقائق فيعبّر له عمّا يشاهده بالحروف المقطّعة ويفهم من تلك ما يشاهد من الحقائق ، ثمّ بعد الافاقة لا يمكنه إلقاء تلك الحقائق على الغير وأفهامها ايّاه فضلا عن التعبير عنها بتلك الحروف وأفهامها بها ، وإذا القى تلك الحروف على غيره مشيرا الى تلك الحقائق لا يمكن له تفسيرها الّا بما يناسبها كالمنامات وتعبيراتها ، فانّ المناسبات الّتى تذكر للغير كالمناسبات الّتى يراها النّائم من الحقائق في المنام ، فانّ حال الخلق بالنّسبة الى الحقائق كحال النّائم بالنّسبة إليها من غير فرق ، لانّ الخلق نائمون عن الحقائق ولذلك اختلف الاخبار في تفاسيرها وتحيّر الخلق في فهمها والتّعبير عنها وقد ذكر في تفسيرها وجوه عديدة متخالفة متناسبة في الاخبار والتّفاسير ؛ والكلّ راجع الى ما ذكرنا من التّعبير عن تلك الحقائق بما يناسبها وتفسيرها بحسب صورة تلك الحروف من حيث الخواصّ والاعداد والفوائد المترتّبة عليها والإشارات المستنبطة منها ، كقيام قائم من ولد هاشم عند انقضاء مدّة مقطّعات اوّل كلّ سورة منها ، وانقضاء ملك بنى أميّة عند انقضاء المص كما ورد في الاخبار لا ينافي ما ذكرنا ، فانّها ممّا يستنبط من اعتبار حروفها ولا ينافي ذلك اعتبار حقائقها (كِتابٌ) قد عرفت الفرق بين الكتاب والكلام وانّ العالم بوجه كتابه وبوجه كلامه تعالى ، وانّ الإنسان مختصر من هذا الكتاب ، والقرآن ظهوره بصورة الحروف والأصوات ونزوله في لباس النّقوش والكتاب ترحّما على العباد ، فانّ الإنسان لمّا تنزّل الى مقام التّجسّم واحتاج في إدراكه الى مدارك الحيوان أنعم الله عليه بتنزيل تلك الحقائق في صورة الحروف والعبارة ، أو النّقوش والكتابة لتناسب مداركه النّازلة ونعم ما قيل :

چون نهاد آن آب وگل بر سر كلاه

گشت آن أسماء جانى روسياه

كه نقاب حرف دم در خود كشيد

تا شود بر آب وگل معنى پديد

وانّ الرّسالة والنّبوّة ليست الّا التّحقّق بحقائق العالم فهما أيضا مراتب العالم وقد عرفت أيضا انّ الكلّ ظهور الولاية الّتى هي فعل الحقّ وتجلّيه الفعلىّ وانّها مبدء الكلّ وصورته وغايته ، فان كانت فواتح


السّور عبارة عن مراتب العالم الصّغير أو الكبير أو مراتب النّبوّة أو الرّسالة أو الولاية أو مراتب وجوده (ص) كما ورد ، انّها أسماء للنّبىّ (ص) أو كان المراد بها القرآن أو السّور المفتتحة بها ، كما فصّل ذلك في اوّل البقرة فلفظ كتاب خبر عن المص أو خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف ، أو مبتدء موصوف متضمّن لمعنى الشّرط وخبره قوله فلا يكن أو لتنذر ويجرى فيه وجوه أخر كما سبق (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة لكتاب ، أو خبر بعد خبر ، أو استيناف لبيان الغرض منه ولمّا كان المقصود ترتّب النّهى عن وجود الحرج على نزول الكتاب المعلوم الّذى هو أصل كلّ النّعم وحقيقتها قال تعالى (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) قبل تمام الكلام بذكر الغاية ولو اخّره لا وهم ترتّبه على غايته وهي الإنذار (لِتُنْذِرَ بِهِ) المنحرفين والكفّار بالله أو بالولاية أو بما في الكتاب (وَذِكْرى) لتذكّر تذكيرا فانّه اسم للتّذكير وقائم مقام الفعل وعطف على لتنذر أو على تنذر أو هو بنفسه عطف على تنذر لانّه بتأويل الإنذار أو على كتاب أو على انزل بتأويل معنى الوصف ، أو خبر مبتدء محذوف (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله بالايمان العامّ الّذى هو البيعة على يدك وهو الايمان بك ، أو بالايمان الخاصّ الّذى هو البيعة الولويّة وهو الايمان بالولاية ، ثمّ صرف الخطاب عنه (ص) إلى قومه (ص) فقال (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من الكتاب الّذى هو صورة الولاية الّتى كانت متّحدة مع علىّ (ع) بقرينة قوله (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) اى من دون ما انزل فانّه ظاهر اللّفظ (أَوْلِياءَ) من شياطين الانس الّذين ما نزل إليكم من ربّكم فيهم شيء (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) تحسّر عليهم لقلّة تذكّرهم (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال أو بتقدير أردنا اهلاكها (بَياتاً) وقت غفلة وراحة (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) في النّهار وهو أيضا وقت دعة وراحة (فَما كانَ دَعْواهُمْ) اى استغاثتهم أو ادّعاؤهم حين نزول العذاب على سبيل التّهكّم يعنى انّ دعواهم قبل ذلك انّ آلهتهم شفعاءهم وانّ الآلهة تدفع عنهم الضّرّ وتجلب إليهم النّفع فيتبدّل تلك الدّعوى وما كان دعواهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) الّا الاعتراف بالظّلم (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) من أمم الأنبياء عن كيفيّة تبليغ الرّسل واجابتهم لهم واطاعتهم ايّاهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عن تبليغهم وكيفيّة اجابة أممهم (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) على الرّسل والمرسل إليهم (بِعِلْمٍ) يعنى انّ المقصود من سؤالهم تذكيرهم بما وقع منهم وتبكيت المخالف منهم ، والّا فنحن نعلم جميع ذلك ونقصّ عليهم تمام ما وقع منهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم حين فعلوا ما فعلوا ، أتى بما يوافق مقام التّهديد متدرّجا من الأدنى الى الأعلى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) الوزن تعيين قدر الشّيء ووزن كلّ شيء بحسبه وكذا ميزانه ، وتبادر تحديد الأجسام الثّقيلة من لفظ الوزن وما به يوزن الأجسام الثّقيلة من الميزان بسبب شيوعه بين العامّة والّا فلا اختصاص له بها فميزان الأجسام الثّقيلة هو ذو الكفّتين والقبّان والكيل وميزان المتكمّمات القارّة الشّبر والّذرع والفرسخ ، وميزان الغير القارّة السّاعات والايّام والشّهور والأعوام ، وميزان المغشوش من الفلزّات وغيره المحكّ والنّار ، وميزان الأعمال صحيحها وسقيمها العقل ، ولا سيّما العقل الكامل اعنى النبىّ (ص) والولىّ (ع) ، وما أسّسنا لتحديد الأفعال والأقوال والأحوال والعقائد وسائر العلوم فميزان الأعمال القالبيّة المعاشيّة هو العقل الجزئى المدبّر لدفع الضّرّ وجلب النّفع ، وميزان المعاديّة منها هو الاتّصال بالنّبىّ (ص) بالكيفيّة المخصوصة


المقرّرة عندهم بالبيعة العامّة النّبويّة وصدورها من جهة ذلك الاتّصال لا من تصرّفات الخيال والشّيطان ، وثقل هذا الميزان باتّصال الأعمال بالنّبىّ (ص) أو خليفته وجذبها ايّاه الى جهة عاملها أو جذبها عاملها الى النّبىّ (ص) أو خليفته وخفّتها بانقطاعها عن هذا الميزان وعدم جذبها ايّاه الى عاملها ، ولمّا كان لكلّ من صفحتي النّفس العمّالة والعلّامة جهتان سفليّة وعلويّة ، شيطانيّة وملكيّة فلا فرو في ظهورهما يوم العرض بصورة ذي الكفّتين ويظهر مثل تلك في الآخرة ، لانّه كما سبق كلّ ما وجد في النّفس والعالم الصّغير يظهر مثله في العالم الكبير في الآخرة فلا وجه لانكار بعض ظهور ذي الكفّتين ووزن الأعمال به ، وكذلك ميزان الأعمال القلبيّة هو الاتّصال بالإمام بالكيفيّة المقرّرة والبيعة الخاصّة الولويّة وصدورها من جهة ذلك الاتّصال وثقلها باتّصالها وخفّتها بانقطاعها مطلقا أو حين العمل بالغفلة عن الاتّصال ، وبتفاوت الاتّصال بالشّدّة والضّعف يتفاوت الأعمال في الثّقل فالمتّصل بالصّورة البشريّة اقلّ ثقلا ، والمتّصل بملكوت الامام تعمّلا أكثر ثقلا ، والمتّصل بملكوته من غير تعمّل أكثر ثقلا ، والمتّصل بجبروته بمراتبها أكثر ثقلا ، والمتحقّق به هو الثّقيل المطلق ، فلكلّ عمل موازين عديدة من بشريّة النّبىّ (ص) أو الامام (ع) ، وقوله وفعله وملكوته وجبروته ، ولكلّ مراتب عديدة ، وكلّ مرتبة ميزان الأعمال المتّصل بتلك المرتبة ، هذا إذا أريد بالحقّ معناه الوصفىّ اللّغوىّ اى الثّابت المحقّق ، وامّا إذا أريد معناه العرفىّ اى الحقّ المضاف والولاية المطلقة ولذا جيء به معرّفا باللّام مشيرا الى الحقّ المعهود ، فالمعنى انّ الوزن يعنى الميزان يومئذ الولاية ولمّا كان للولاية مراتب كما انّ لعلىّ (ع) مراتب بحسب بشريّته وملكوته وجبروته وحقّيّته ، وكما انّ للعالم مراتب بحسب ملكوته السّفلىّ وملكه وملكوته العليا وجبروته بمراتب كلّ منها ، وكلّ مرتبة منها ميزان لما يناسبها ويوافقها قال تعالى (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بصيغة الجمع ووجه الثّقل والخفّة قد عرفت (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فانّ الفلاح بالانجذاب الى العلو والمتّصل منجذب الى العلو بخلاف المنقطع فانّه قد ينجذب الى السّفل وهو الجحيم (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإهمال قوّة الاتّصال والاستعداد له الّتى أعطاها الله تعالى بضاعة لهم (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) بعدم الاتّصال بالآيات القرآنيّة والنّبويّة والولويّة بمراتبها والانفسيّة وظلمها عبارة عن جحودها كما في الخبر يعنى عدم الاتّصال بها بالكيفيّة المخصوصة وعدم التّوجّه إليها وعدم السّير إليها ، فانّ الظلم منع الحقّ عن المستحقّ وقوّة قبول الولاية والتّوجّه إليها والسّير إليها والحضور عند صاحبها والفناء فيه حقّ الامام ، وبما ذكرنا في كيفيّة الوزن والميزان يرتفع الاختلاف عن الاخبار مع غاية اختلافها (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) الطّبيعيّة أو ارض البدن أو ارض القرآن والسّير والاخبار لان تؤدّوا الحقوق الى مستحقّيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) لأبدانكم وأرواحكم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) بأداء الحقّ الّذى هو استعداد الاتّصال والقبول من عقل أو نبىّ أو وصىّ اليه (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) تعداد للنّعم وقبح الكفران بها (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) يعنى خلقنا أباكم آدم (ع) بجمع ترابه الّذى هو بمنزلة النّطفة ، ثمّ صوّرناه بعد أربعين صباحا كذا قيل ، أو خلقناكم بإلقاء نطفكم في الأرحام ، ثمّ بعد مضىّ زمان صوّرناكم بالصّورة الجسمانيّة من امتياز العين والأنف واليد والرّجل والحسن والقبيح والقصير والطّويل وغير ذلك ، وبالصّورة الرّوحانيّة من الأخلاق الحسنة والسّيّئة والسّعادة والشّقاوة ، والى هذا أشير في الخبر ولا ينافي ذلك قوله تعالى (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فانّ ذراري


آدم (ع) بعد نزول اللّطيفة الآدميّة الى ارض البدن وهبوطها على صفا نفسها وهبوط حوّاء على مروتها اللّتين هما جهتا النّفس العليا والسّفلى ، يصيرون مثل آدم ابى البشر ويؤمر الملائكة الّذين هم موكّلون عليهم بالسّجود لتلك اللّطيفة ، فيسجدون وينقادون لها غير إبليس الواهمة فانّه ما لم يكسر سورة كبريائه واستعلائه بالرّياضات الشّرعيّة والعبادات القالبيّة والقلبيّة لا يسلّم لآدم (ع) ولا ينقاد له ، وشيطاني أسلم على يدي ، اشارة الى ما ذكرنا (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) لم يقل لم يسجد اشارة الى انّ فطرته كانت فطرة العتوّ والاستكبار وانّه لم يكن من سنخ السّاجدين ولا يمكنه السّجود الّا بتبديلها ، ولذا ورد ، انّه لم يكن من المأمورين بالسّجود وأدخل نفسه في المأمورين (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) اى ما منعك مضطّرا الى ان لا تسجد أو لا زائدة وتزاد لا للتّأكيد خصوصا بعد المنع (إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) يعنى حملني على ترك السّجدة كوني خيرا منه وخيّرتنى منه بخيريّة مادّتى لانّك (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) والنّار علويّة شفيفة سريعة الأثر منيرة مبدلة كلّ ما اتّصل إليها بسرعة ، والطّين خلافها ، وفي خبر : انّ اوّل من قاس إبليس ، وفي خبر : انّ اوّل معصية ظهرت الانانيّة من إبليس اللّعين ، وأقسم بعزّته لا يقيس أحد في دينه الّا قرنه مع عدوّه إبليس في أسفل درك من النّار ، وفي خبر آخر : كذب إبليس ما خلقه الله الّا من طين قال الله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) ، قد خلقه الله من تلك النّار ومن تلك الشّجرة والشّجرة أصلها من طين (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) من السّماء (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) فانّ المحلّ الرّفيع لمن تواضع لله (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الاذلّاء (قالَ) بعد ما علم انّه لا يعود الى السّماء ومحلّه أسفل السّافلين (أَنْظِرْنِي) أمهلنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فلا تعجل في عقوبتي وإماتتي (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أنظره ابتلاء لعباده وتمييزا للطّيّب منهم عن الخبيث (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) نسب الإغواء الى الله كما هو عادة المتأنّفين من نسبة القبيح الى أنفسهم والغالب في ذلك هي النّسوان (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) مترصّدا لاغوائهم كما يترصّد قطّاع الطّريق للفرصة من المارّة ، والصّراط المستقيم هو صراط القلب وهو الولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من جهة تزيين المشتهيات الاخرويّة واتعابهم في العمل لأجلها (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من جهة المشتهيات الدّنيويّة (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) بتزيين الأعمال الدّينيّة بحيث يستلذّها ويعجب بها فيفسدها (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بتزيين الأعمال القبيحة بحيث يعدّون قبائحهم حسنات ويباهون بمعاصيهم وملاهيهم ومقصوده منه ، تصوير المخاصمة معهم بكلّ ما يتصوّر المخاصمة به من الخصمين من المباغتة من كلّ جهة ولذلك لم يذكر من فوقهم ومن تحتهم ، فانّه لا يتصوّر للعدوّ الصّورىّ الإتيان منهما ولانّ جهة الفوق جهة الرّحمة الالهيّة ولا يتصوّر نزول الشّيطان منها ، وجهة التحت هي جهة الموادّ من العنصريّة والجماديّة والنّباتيّة والحيوانيّة يعنى مقام الحيوان الخارج عن حدّ الإنسان ، لا المشتهيات الحيوانيّة الّتى هي تحت الانسانيّة ومتّحدة معها والإنسان بالطّبع نافر منها كلّ النّفرة متوحّش كلّ التوحّش لا يمكن اغواؤه من تلك الجهة ، والإتيان في الاوّلين بحرف الابتداء وفي الأخيرين بحرف المجاوزة لتصوير تلك المخاصمة بصورة المخاصمة الصّوريّة ، فانّ الخصم الآتي من القدّام متوجّه الى خصمه غير متجاوز عن جهة قدّامه ، وكذا الآتي من الخلف يباغت الخصم من خلفه لكنّ


الآتي من أحد الجانبين يتجاوز عنه ويباغته ، أو ينصرف المأتىّ اليه بوجهه الى الآتي من أحد جانبيه في الأغلب (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) لغفلتهم عن الانعام وابتهاجهم بنفس النّعمة أو بصرف النّعمة الّتى أنعمت عليهم في غير وجهها بتلبيسى عليهم وجهها (قالَ اخْرُجْ مِنْها) من السّماء (مَذْؤُماً) مذموما (مَدْحُوراً) مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أقسم مقابلة لقسمه وتأكيدا (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَيا آدَمُ) قال يا آدم (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) قد سبق في سورة البقرة (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) فعل الوسوسة وهي الصّوت الخفىّ في الأصل ثمّ غلب على ما يلقى الشّيطان في النّفوس من الخواطر الخفيّة السّيّئة أو المؤدّية الى السّوء ، وان كان المراد ظاهر ما ورد في الاخبار من انّه اختفى بين لحيتي الحيّة وأظهر النّصح لهما بلسان ظاهرىّ وسمعاه بالسّمع الظّاهر ، فالمقصود انّه أظهر النّصح لهما بصوت خفىّ إظهارا لهما انّه محض التّرحّم والشّفقة لهما مبالغة في الغرور ، فانّ الرّحمة والشّفقة تقتضيان إخفاء الصّوت لا الإجهار به ، والإتيان باللّام للاشارة الى انّه نصح نافع لهما (لِيُبْدِيَ لَهُما) اللّام للعاقبة أو للغاية على انّه كان عالما بانّ قرب الشّجر مورث لان يبدي لهما (ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) وقد ورد انّ المراد كان بالسوأة هو العورة وكانت قبل ذلك مختفية غير ظاهرة على أنفسهما ولا على غيرهما ولكن إذا أريد بالشّجرة شجرة النّفس فانّها مجمع تمام الرّذائل والخصائل ، وبه يجمع بين ما ورد في تفسيرها مع اختلافها وتضادّها كما سبق ، وبآدم الرّوح المنفوخة في جسده الّتى هي طليعة العقل ، وبحوّاء جهتها السّفلىّ الّتى خلقت من جانبها الأيسر ، كان المراد بوسوسة الشّيطان الخطرات الّتى تقرّب الإنسان الى المشتهيات النّفسانيّة وبسوآتهما الرّذائل المكمونة والأهواء الفاسدة والآراء الكاسدة الّتى تظهر بعد الاختلاط بالنّفس ومشتهياتها ، والمراد من ورق الجنّة ما اقتضاه العقل من الحياء والتّقوى فانّهما من أوراق الجنّة ، وبهما وبسائر صفات العقل يستر المساوى ولا يتجاهر الإنسان بها الّا ان يهلك العقل ويخرج من الجنّة وحكومة العقل ، ونداء الرّبّ عبارة عن نداء العقل في وجود الإنسان بالتّوبيخ على ما يصدر عنه ممّا فيه نقصه (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما) عطف على وسوس وتفصيل لها (عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) كأنّهما استشعرا ان ليس في جبلّتهما ما في الملك ولا ما يقتضي الخلود واستشعرا ما في الملكيّة والخلود من الكمال بالنّسبة الى المخلوق المركّب من طباع العناصر ، فاشتاقا الى الوصفين فقال لهما : انّ الاكل من الشّجرة مورث للوصفين وانّ الله كرّه لكما الوصفين ولذلك نهاكما عن الاكل (وَقاسَمَهُما) كأنّهما لم يعتمدا على قوله وطلبا منه البيّنة والقسم وعهدا قبول قوله ولذا أتى بلفظ قاسم (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُما) اى أهبطهما مع تعلّق منهما بمقامها العلوىّ (بِغُرُورٍ) بمعنى المصدر أو بمعنى ما يغرّ به من القسم الكذب وغيره (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قد مضى البيان (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) تقريع وتوبيخ لهما على ارتكاب النّهى والاغترار بقول العدوّ حتّى يتنبّها على نقصهما ويستدركاه بالتّوبة ولذلك ابتدرا بالاعتراف والاستغفار (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ


الْخاسِرِينَ قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) قد سبق الآية في سورة البقرة (قالَ فِيها) في ارض العالم الكبير أو الصّغير (تَحْيَوْنَ) بالحيوة الحيوانيّة أو بالحيوة الانسانيّة (وَفِيها تَمُوتُونَ) بالموتين (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) فانّ السّعادة والشّقاوة تحصلان في الدّنيا وفي غلاف الطّبع وليس خروج الإنسان وانتقاله الى الجنان أو النّيران ، الّا من جهة المادّة والقوّة الّتى هي ارضيّة الدّنيا والطّبع لا من جهة الصّورة وفعليّتها الّتى هي سماويّتهما بوجه (يا بَنِي آدَمَ) خطاب منه تعالى لبني آدم (ع) اعتناء بهم وتعدادا لنعمهم (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) يعنى خلقنا لكم ما يستر بشرتكم ويقيكم من الحرّ والبرد وما يستر عوراتكم البشريّة عن الانظار ، وما تتجمّلون به من الملبوس الفاخر فانّ الرّيش هو ما يتجمّل به ، وريش الطّائر جماله والوصفان قد يجتمعان في واحد ، ويطلق الرّيش على متاع البيت وعلى ما يعيش الإنسان به وعلى سعته ومكنته ونزولهما بحسب نزول أسباب مادّتهما من الأمطار والآثار من تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك ، ونزول أسباب تحصيل صورتهما من التّميز وقوّة التّدبير ، وإذا أريد باللّباس ما يستر العورات المعنويّة من الأفعال الحميدة والصّفات الجميلة ويؤيّده قوله (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) فنزوله واضح ، واضافة اللّباس الى التّقوى من قبيل اضافة العامّ الى الخاصّ ، أو اضافة المسبّب الى السّبب ، أو اضافة المشبّه به الى المشبّه ، فانّ التّقوى وان كان مفهومها راجعا الى العدم لكن لها حقيقة وجوديّة بها يحصل التّنزّه عن الرّذائل من الأفعال والأوصاف وبالتّنزّه تحصل الخصائص الّتى بها تستر العورات المعنويّة والنّقائص النّفسانيّة ويحصل التّجمّلات الانسانيّة ، وفي الخبر : وامّا لباس التّقوى فالعفاف انّ العفيف لا يبدو له عورة وان كان عاريا من الثّوب ، والفاجر بادي العورة وان كان كاسيا من الثّياب ، وتخلّل اسم الاشارة بين المبتدء والخبر للاهتمام بذلك اللبّاس وتصوير الأمر المعنوىّ متمثّلا حاضرا وقرئ لباس التّقوى بالنّصب عطفا على لباسا (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) اى إنزال اللّباس مع شدّة حاجتكم اليه ، أو كون لباس التّقوى خيرا بحيث لا يخفى عليكم أو لباس التّقوى ، فانّ ذلك كلّه من آيات علمه وحكمته وقدرته (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) صرف الخطاب عنهم بطريق الالتفات وهو غاية لانزال اللّباس أو لجعل ذلك من آياته (يا بَنِي آدَمَ) نداء آخر لهم بعد ذكر نعمة ستر عوراتهم لنهيهم عمّا يزيل تلك النّعمة (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) بتزيين شجرة النّفس وثمرة مشتهياتها وايلاعكم بها فيزيل عنكم تلك النّعمة من ، فتن الى النّساء ، على صيغة المفعول إذا اولع بهنّ وأراد الفجور (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) بالافتتان بشجرة النّفس (مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) لانّهم من أهل الملكوت السّفلى ولا يراهم البشر ببصره الملكىّ بل ببصيرته الملكوتيّة والجملة تعليل للتّحذير والتّذكير المستفاد من النّهى تأكيدا له ، ولمّا كان هناك مظنّة سؤال ان لا يمكن الخلاص لأحد من فتنته لعداوته وخفائه وخفاء مخايل عداوته فلم يكن فائدة للنّهى والتّحذير عنه ، قال تعالى جوابا انّ وجه الخلاص منه الايمان بالآخرة والخروج من الرّسوم والعادة ، لانّا لم نجعل للشّياطين تصرّفا وتسلّطا على من هذه صفته (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لتخليتنا بينهم وبينهم بعدم محافظة الملائكة (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا) لسانا أو حالا (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) يعنى اعتمدوا


واطمأنّوا على ما اعتادوه ، ونسبوا عاداتهم الى الله كما هو شأن عامّة النّاس (وَ) قالوا (اللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ) ردّا لهم في نسبة العادات الى الله (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ليس المراد بالفحشاء ما يستقبحه العقل والشّرع بحسب الصّورة ، بل المراد ما صدر عن النّفس لغايات نفسانيّة سواء كان صورته صورة ما قرّره الشّرع أو نهى عنه ، فالصّلاة رياء أو لقصد الجاه أو المال أو حفظ مال أو عرض أو دم فاحشة (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) في الخبر انّه لا يزعم أحد انّ الله يأمر بالزّنا وشرب الخمر وشيء من هذه المحارم ، بل هذا في ائمّة الجور ادّعوا انّ الله أمرهم بالايتمام بقوم لم يأمرهم الله بالايتمام بهم ، وهو يؤيّد ما ذكرنا من تفسير الفحشاء وكذا يؤيّده قوله (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) فانّ القسط هو توسّط النّفس في الأفعال والأقوال والأحوال والأخلاق والعقائد بين تفريط النّفس عن الأغراض العقليّة وافراطها فيها بحيث يؤدّى الى ما نهى عنه كالاغراض الدّنيويّة (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وهذا يؤيّد ما ذكر في الخبر من تفسير الفحشاء ، واقامة الوجه صرفه عن الانحراف الى ما ينبغي ان يتوجّه اليه من قبلته ، وقبلة وجه البدن أشرف بقاع الأرض ، وقبلة وجه النّفس القلب ، وقبلة وجه القلب الرّوح ، وقبلة الرّوح هي الولاية المطلقة ، وقبلة الكلّ هي خليفة الله ، والمسجد أيضا يعمّ المساجد الطّينيّة والمساجد الرّوحانيّة من القلب والرّوح والولاية المطلقة والأيّام المتبرّكة والسّاعات الشّريفة من كلّ يوم ، والمساجد الحقيقيّة البشريّة الّذين هم خلفاء الله في أرضه وبيوته لخلقه وأصل الكلّ هو خليفة الله الأعظم اعنى عليّا (ع) ، وجمع الوجوه بجمع الكثرة مضافا مفيدا للاستغراق والإتيان بكلمة كلّ في جانب المسجد للاشارة الى تعميم الوجه والمسجد وقد فسّر المسجد هاهنا في الخبر بالأئمّة (ع) (وَادْعُوهُ) اى ادعوا ربّى أو ادعوا المسجد وهو عطف على أقيموا كما انّ أقيموا عطف على امر ربّى ليكون مقولا لقل ، أو عطف على امر بتقدير قال ليكون مقولا لقول الله تعالى والمعنى ، ادعوا ربّى أو المسجد بتصفية بيوت قلوبكم عمّا يمنعه من دخولها واستيلائه عليها ثمّ باستدعاء دخوله بالسنّة قالكم وحالكم واستعدادكم ، فانّ قلب المؤمن عرش الرّحمن وبيت الله الّذى اذن ان يرفع كما قيل :

هر كه خواهد همنشينى با خدا

گو نشيند در حضور اوليا

وكما قيل :

مسجدي كو اندرون اولياست

سجده گاه جمله است آنجا خداست

لكن لا يدخله الّا بعد تصفيته عمّا لا يليق به تعالى وقد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) (الى آخرها) تحقيق للمسجد (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اى طريق الدّعوة من الأغراض والأهواء خارجين من ارادتكم واختياراتكم كالميّت بين يدي الغسّال مؤتمرين بأمر ؛ موتوا قبل ان تموتوا : فانّه (كَما بَدَأَكُمْ) من غير ارادة منكم واختيار وغرض وهوى (تَعُودُونَ) فمن أراد العود اليه فليخرج من جميع ما ينسب الى نفسه والّا فسيعيده الملائكة الغلاظ كاعادة العبد الجاني الآبق الى مولاه للمؤاخذة ، أو المعنى ادعوه متضرّعين منتظرين للورود عليه مخلصين له الطّاعة والعبادة لانّه كما بدأكم تعودون اليه فيجازيكم على طاعاتكم وعلى اىّ تقدير يكون قوله كما بدأكم تعودون في مقام التّعليل (فَرِيقاً هَدى) جملة حاليّة أو مستأنفة لبيان


حال العباد حين العود كما في الخبر أو مطلقا ترغيبا وتحذيرا (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعليل لحقّيّة الضّلالة والمراد بالشّياطين شياطين الجنّ في تزيين الأهواء والمشتهيات وشياطين الانس في تزيين باطلهم بصورة الحقّ من ائمّة الجور واظلالهم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) في اتّباع العادات والأهواء واستنباط احكام الله بالآراء والاستبداد بالظّنون المستنبطة من الاقيسة والاستحسانات ، وأخذ احكام الله ممّن لم يؤمروا بالأخذ منهم والايتمام بهم ، والتّحاكم الى من أمر الله ان يكفروا به والعمل بما لم يأخذوا ممّن أمروا ان يأخذوا منه ممّن نصّ الله ورسوله (ع) عليه ، وبالجملة كلّ من لم يكن منصوصا من الله ولا من رسوله (ص) ولا أوصيائه (ع) خصوصا ولا عموما ولا آخذا من المنصوص عليه كذلك فقوله وفعله وحاله كلّها ضلالة ، سواء استبدّ برأيه أو أخذ من غير المنصوص عليه سواء كان ذلك الغير من ائمّة الجور والمستبدّين بالآراء أو من المتقلّدين للعلماء والآباء ، وسواء كان المأخوذ موافقا لصور احكام الله اولا ، وسواء كان من العادات والرسوم أو لا ، ثمّ بعد التّنبيه على وجوب اقامة الوجوه عند كلّ مسجد وإخلاص الدّين لله صرف الخطاب عنه (ص) الى الخلق فقال : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) ما به جمالكم من طهارة الأبدان من الاخباث والاحداث والثّياب الجميلة الطيّبة وتحسين شعور رؤوسكم ولحاكم بالمشط ، وغيره ممّا يتزيّن به من الادهان والخضاب ، ومن الأفعال الحميدة والأقوال الفصيحة المفصحة عن أمور الآخرة ومن محبّة ذوي القربى والعقائد الصّحيحة ، ومن الأحوال والأخلاق الجميلة والمكاشفات الصّحيحة والمشاهدات القلبيّة والمعاينات الرّوحيّة (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقد سبق بيان المسجد ووجه دخول لفظ العموم عليه وانّ أصل الكلّ هو خليفة الله في الأرض ، وقد فسّر الزّينة والمسجد في هذه الآية وفي غيرها بما ذكرنا من أراد الاطّلاع على ما ورد عن المعصومين (ع) فليرجع الى الكافي والصّافى وغيرهما (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) فانّ التّزيّن والاكل والشّرب مباحة لكم ولا تنافي اقامة الوجوه عند المساجد بل تقويكم على ذلك ، ولا يخفى تعميم الاكل والشّرب كالزّينة (وَ) لكن (لا تُسْرِفُوا) بالإفراط في التّزيّن بحيث يمنعكم من اقامة الوجوه لاشتغال نفوسكم بتحصيلها وتحصيل ثمنها وحفظها عن التدنّس وبالإفراط في الاكل والشّرب وفي طيبوبة المأكول والمشروب لتضرّركم بالزّيادة على قدر اشتهائكم في أبدانكم ونفوسكم وكسالتكم واشتغالكم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) في اىّ شيء كان لانّ الإسراف يجرى في جملة الأفعال والأقوال والأحوال ، كما ورد في جواب من قال : أفي الوضوء إسراف؟ ـ من قوله (ع) : نعم في الوضوء إسراف ولو كنت على نهر ، فانّ استعمال القوى والأعضاء في كلّ فعل زائدا على تحصيل حقيقة ذلك الفعل واجبا كان أم مندوبا أم مباحا وزائدا على تحصيل كمالاته إسراف ، هذا بحسب التّنزيل ، وامّا بحسب التّأويل والباطن فالإسراف في الاكل والشّرب واللّبس بانّه يكون كلّ منها بغلبة النّفس على العقل والغفلة عن الأمر والنّهى ، فانّه إسراف استحصال النّفس في مشتهياتها حتّى تصير غالبة على العقل والأمر الالهىّ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) كأنّهم كانوا يعدّون ترك التّزيّن وترك الطّيّب من المأكول والمشروب من لوازم العبادة وطلب الآخرة ، فأمرهم اوّلا بالتّزيّن والاكل والشّرب ، وثانيا بإنكار تحريمه تأكيدا ، والتّوصيف بالإخراج لعباده اشارة الى انّ الزّينة اوّلا وبالّذات لمن صار عبدا له ، ولغيره بتبعيّته لا انّه حرام


عليه لعبادته (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) البدنىّ النّباتىّ والحيوانىّ والانسانىّ ومن الرّزق الرّوحانىّ من أرزاق النّفوس والقلوب والأرواح (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) اعلم ، انّ الدّنيا والآخرة خلقتا لخليفة الله بالّذات وهذا أحد وجوه قوله : لولاك لما خلقت الأفلاك ، فمن اتّصل به بالاتّصال التّقليدىّ الّذى هو قبول الدّعوة الظّاهرة وقبول ما أخذ عليه بالبيعة العامّة وعقيدة على يد الخليفة بالمعاهدة الاسلاميّة ، أو اتّصل به بالاتّصال الايتمامىّ الّذى هو قبول الدّعوة الباطنة وقبول ما أخذ عليه بالبيعة الخاصّة وعقد يده على يد الخليفة بالمعاهدة الايمانيّة ، فدخل الايمان الّذى هو صورة نازلة من الخليفة في نازل مراتب قلبه الّذى هو الصّدر ، ثمّ دخل صورة اخرى له ملكوتيّة في مرتبة اخرى من قلبه هي أعلى من تلك المرتبة ، وهكذا الى ان يتحقّق بحقيقة الخليفة فهما كانتا له بقدر اتّصاله ويرث من الخليفة بحسبه ، ومن لم يتّصل به بشيء من الاتّصال فهما عليه حرامان وإذا ملك شيئا من الدّنيا ممّا غلب عليه كان مغصوبا في يده ، ولذلك قال : هي للّذين آمنوا في الحيوة الدّنيا ، من غير تقييد بالخلوص من يد الغير يعنى سواء غلب عليها غيرهم أو لم يغلب عليها ، ولمّا لم يمكن غلبة الغير عليها في الآخرة قال (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) قرئ خالصة بالرّفع وبالنّصب واعراب الآية ان هي مبتدء وللّذين آمنوا خبره ، أو حال وفي الحيوة الدّنيا خبر ، أو خبر بعد خبر ، أو حال عن فاعل آمنوا ، أو عن المستتر في الظّرف ، أو ظرف لغو متعلّق بآمنوا ، أو بقوله للّذين آمنوا ، أو بعامل من افعال الخصوص حال ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء اى مغصوب عليها في الحيوة الدّنيا ، وخالصة على قراءة الرّفع خبر هي ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدء محذوف ، وعلى قراءة النّصب حال من واحد من العوامل السّابقة ، وعن الصّادق (ع) بعد ان ذكر أنهار الأرض فما سقت واستقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدوّنا منه شيء الّا ما غصب ، وانّ وليّنا لفي أوسع ممّا بين ذه وذه ، يعنى ممّا بين السّماء والأرض ثمّ تلا هذه الآية : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب ، وفي قوله تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) بعد قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) وبعد قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) اشارة الى ذلك (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) اى الآيات التّكوينيّة من استحقاق كلّ لما يحقّ له وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه بالآيات التّدوينيّة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يشتدّون في السّلوك الى الآخرة ويزدادون في علمهم ، فانّ العلم هو ما كان متعلّقا بالآخرة مع ازدياد واشتداد وكلّ ادراك لم يتعلّق بالآخرة أو كان متعلّقا بها لكن لم يكن له اشتداد بل كان واقفا أو منكوسا بواسطة الأغراض الدّنيويّة لا يسمّى علما عند أهل الله بل جهلا ، وإذا أطلق عليه اسم العلم من باب المشاكلة والموافقة لمخاطباتهم ، فقلّما ينفكّ عمّا يشعر بذمّه أو ينفى اسم العلم عنه (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، وقد سمّاه أشباه النّاس عالما (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ،) ولذلك سمّوا شيعتهم الّذين بايعوهم بالبيعة الخاصّة الولويّة الّذين دخل الايمان في قلوبهم علماء وعرفاء : شيعتنا العلماء ، شيعتنا العرفاء ، بطريق الحصر ، فمن لم يكن سالكا الى الآخرة وسائرا الى الله بقدم الايتمام بإمام حقّ منصوص من الله وان بلغ ما بلغ في علومه الحكميّة وظنونه الفرعيّة لا يسمّى عالما


وهو لا ينتفع بتفصيل الآيات ، لانّ نظره الى الآيات من حيث أنفسها ، أو من حيث جهاتها الدّنيويّة لا من حيث انّها آيات دالّات على الله وعلى أمور الآخرة ، كما نقل عن الصّادق (ع) انّه قال لأبي حنيفة في جملة كلامه : وما أراك تعرف من كتابه حرفا ، ومن توسّل بهم بالايتمام بالبيعة الولويّة وان لم يكن قرأ حروف التّهجّى فهو عالم عارف وهو المنتفع بالآيات وتفصيلها ، لانّ نظره الى الأشياء الآفاقيّة والانفسيّة من حيث صدورها عن الله ودلالتها عليه ، ولمّا أباح لهم الاكل والشّرب واكّد ذلك باختصاص الزّينة وطيّبات الرّزق بهم أراد ان يأمر نبيّه (ص) ببيان المحرّمات بالّذات والموجبات لحرمة المباحات بالعرض ، ليتبيّن الطّيّب من غير الطّيّب فقال تعالى (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فذكر تعالى بطريق الحصر خمسة أشياء راجعة الى ثلاثة هي أصول المحرّمات ، اعلم ، انّ الله خلق الإنسان من نطفة ضعيفة غير حافظة لصورتها وأودع فيها لطيفة سيّارة سالكة الى الله بقدم الصّدق على الطّريق المستوى والخطّ المستقيم عن الجماديّة الّتى هي انزل مراتب المواليد الى النّباتيّة ثمّ منها الى الحيوانيّة ، ثمّ الى البشريّة الّتى هي ملكوت بين الملكوتين السّفليّة الّتى هي دار الشّياطين والجنّة وسجن المتكبّرين والمعّذبين من الآدميّين ، والعلويّة الّتى هي دار الملائكة ذوي الاجنحة ودار السّعداء وأصحاب اليمين ، فاذا استحكم علمه بعلمه وشعوره بشعوره وتقوّى إرادته واختياره وتميّزه بين الخير والشّرّ الحقيقيّين ، استعدّ لقبول التّكليف والدّعوة النّبويّة ، فان ساعده التّوفيق وتداركه الدّعوة النّبويّة وقبل تلك الدّعوة وانقاد تحت حكم الدّاعى صار مسلما ومشرفا على التّوحيد الحقيقىّ والايمان وقبول الدّعوة الباطنة الولويّة ، ويسمّى حينئذ مؤمنا وموحّدا باعتبار اشرافه على الايمان والتّوحيد ، وان لم يتداركه الدّعوة العامّة أو لم يقبلها أو لم يعمل على مقتضاها حتّى أبطل استعداده القريب للدّعوة الخاصّة واختفى طريق القلب وأماراته وطريق التّوحيد وعلاماته ، أو لم يبطل استعداده القريب لقبول الدّعوة الخاصّة وبقي له استعداد قريب لذلك لكن لم يخرج تلك القوّة والاستعداد الى الفعل بعد وتوجّه تارة الى ما اقتضاه استعداده وطلب ما يدلّه على طريق القلب ويخرجه من القوّة الى الفعل ، وتارة الى ما اقتضته نفسه واهويتها من مشتهيات الحيوانيّة لم يكن حينئذ مؤمنا موحّدا لا حقيقة ولا مجازا ، بل كان كافرا إذا لم يبق له استعداد قريب ، سواء أقرّ بدين وكتاب ونبىّ وسمّى مسلما ومؤمنا أم لم يقرّ وسمّى كافرا ، أو كان مشركا إذا بقي له استعداد سواء أشرك بالله في الظّاهر صنما وكوكبا وغيرهما أم لا ، وسواء اقرّ بدين ونبىّ أم لا ، وسواء بايع نبيّا أو وليّا بالبيعة العامّة أو الخاصّة أم لا ، وسواء اتّصل أو اعتقد بأئمّة الجور ومظاهر الشّياطين أم لا ، وبهذا المعنى فسّر الكفر والشّرك في الآيات بالكفر بالولاية والشّرك بالولاية وهذان غير الكفر والشّرك الظّاهرين لجواز اتّصاف المسلم والمؤمن بهما ، والكافر بهذا المعنى مطيع للنّفس والشّيطان ، وأفعاله ليست الّا من طاعتهما وهكذا أخلاقه ، وهي امّا متناهية في القبح بحيث يعدّها الشّرع والعقل والعرف قبيحة ، كالزّنا واللّواط والسّبعيّة المفرطة والشّرّه المفرط ممّا يستقبحه كلّ أحد ويستخفى فاعله حين الفعل من النّاس حتّى من أمثاله وتسمّى بالفواحش ، وافعال الجوارح الّتى كانت كذلك هي الفواحش الظّاهرة ورذائل النّفس هي الفواحش الباطنة ، وقد يسمّى بعض افعال الجوارح بالباطنة إذا صارت عادة بحيث لا يستخفى فاعلها عن الخلق ، كنكاح زوجة الأب الّذى كان في الجاهليّة وكنكاح المحارم الّذى كان بين الهنود ، وكالتّجسّس والغيبة والتّهمة والتّنابز بالألقاب مع انّها اشدّ من نكاح المحارم الّتى شاعت بين المسلمين ، لانّ كونها فاحشة مختف عن انظار أمثال فاعلها ، وقد يفسّر الفاحشة الباطنة بالّتى


يستخفى فاعلها كالزّنا واللّواط والظّاهرة بالّتى لا يستخفى كنكاح زوجة الأب عكس ما ذكر وله وجه ، أو غير متناهية في القبح بحيث لا يعدّها العقول الجزئيّة من أمثاله قبيحة ولا يستخفى فاعلها من أمثاله وهو الإثم كشرب الخمر والنّبيذ ، أو بحيث يعدّها العقول الجزئيّة من أمثاله خيرا ومدحا لفاعله ويباهي فاعلها باعلانها كالحكومات والقضاوات الغير الشّرعيّة الّتى هي مثال القضاوات الشّرعيّة وسائر المناصب الشّيطانيّة الّتى يتمنّاها أمثاله من الجهلة ، وبعبارة اخرى امّا تظهر أفعاله وأخلاقه بصورة افعال النّساء أو بصورة افعال الخناثى أو بصورة افعال الرّجال ، وبعبارة اخرى فاعلها في الانظار الجزئيّة المخطئة امّا ذو انوثة أو ذو خنوثة أو ذو ذكورة ، والى هذه الثّلاثة أشير بالفواحش والإثم والبغي وحاصل الحصر ، انّ الإنسان امّا كافر أو مشرك بالكفر والشّرك الحقيقيّين أو مؤمن ، والكافر جميع ما يصدر عنه محرّم عليه قولا أو فعلا أو خلقا لانّها تابعة للكفر المحرّم وهي تنقسم الى ثلاثة أقسام واكتفى عن ذكر الكفر بما ذكر لاستلزامها ايّاه وشمولها المحرّمات المشرك والمؤمن من حيث الكفر ، والمشرك له جهة كفر وجهة ايمان ، وآثاره من حيث الكفر ملحقة بآثار الكفر ومن حيث الايمان بالايمان ، والمؤمن آثاره من حيث الايمان حلال له الّا نسبة القول الى الله من غير علم على التّفصيل الآتي ، ولمّا كان المراد بالبغي مطلق التّبسّط والحكومة والرّياسة ، قيّده تعالى بقوله بغير الحقّ من : بغى بغيا ، استطال ولا حاجة الى جعل القيد بيانيّا خلافا للظّاهر وقيد الإشراك بما لم ينزّل به سلطانا ، اشارة الى انّ المراد بالشّرك بالله الشّرك بالولاية والشّرك بالولاية التّكوينيّة امّا بمرّمة المعاش أو تلّذذ النّفس وهما ان كانا من جهة امر الهىّ لم يكونا اشراكا بالله ما لم ينزّل به سلطانا ، والشّرك بالولاية التّكليفيّة ان كان باشراك من امر الامام (ع) باتّباعه لم يكن اشراكا بالله ما لم ينزّل به سلطانا ، وليس الشّرك بالله حالا وشهودا الّا الإشراك بالولايتين ، فالتّقييد هناك أيضا في محلّه ولا حاجة الى التّكلّفات الّتى ارتكبوها ، والموحّد الحقيقىّ أو المشرف على التّوحيد امّا يكون قوله وفعله وخلقه واعتقاده من حيث توحيده أو لم تكن من حيث توحيده وايمانه فما كان من حيث الايمان فهو حلال :

كفر گيرد ملّتى ملّت شود

وما لم يكن من حيث الايمان فهو ملحق بأفعال الكافر وأخلاقه لكنّ المؤمن قد يجرى على لسانه بقوّة محبّته ، أو لوجدانه وشهوده ، أو لاعتياده السّابق من سهولة الخطب في القول ما لم يأخذه من عالم وقته ولم يتيقّنه من شهوده ووجدانه ، أو تيقّنه لكن لم يكن موافقا لحاله ، أو لم يكن موافقا لحال السّامع بحسب الوقت والمكان فنهى الله تعالى عن ذلك ، وان كان من حيث ايمانه فعلى هذا كان تقدير قوله تعالى : (ما لا تَعْلَمُونَ) ما لا تعلمون عينه أو وقته أو مستمعه أو موافقته لحاكم ، ولمّا كانت ائمّة الجور متحقّقة بتلك المحرّمات وصارت تلك المحرّمات ذاتيّة لهم صحّ تفسيرها بأئمّة الجور وفسّر في بعض الاخبار بالسّلاطين من بنى أميّة وسائر ولاة الجور ، ونقل عن الصّادق (ع) ، انّ القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظّاهر والباطن من ذلك ائمّة الجور ، وجميع ما أحلّ الله في الكتاب هو الظّاهر والباطن من ذلك ائمّة الحقّ. والسّرّ في ذلك ما قلنا من انّ ائمّة الجور هم المتحقّقون المتجوهرون بجميع المحرّمات ، وائمّة الحقّ (ع) هم المتحقّقون المتجوهرون بجميع المحلّلات ، وعنه (ع) في بيان (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) : ايّاك وخصلتين فيهما هلك من هلك ؛ ايّاك ان تفتي النّاس برأيك وتدين بما لا تعلم ، وفي رواية ان تدين الله بالباطل وتفتي النّاس بما لا تعلم. والغرض انّ الاعتقاد والفتيا إذا لم يكونا بوحي أو تحديث ولا بتقليد صاحب وحي وتحديث فهما قول على الله بما لا يعلم ، فالويل ثمّ الويل لمن استبدّ برأيه في دينه من غير أخذ من اهله ولمن افتى النّاس من غير


علم وأخذ من صاحب وحي وتحديث حيث قرنه الله بالكافر والمشرك (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) كأنّه قال فكلّ من المؤمنين ومرتكبي الفواحش والإثم والبغي والمشرك والقائل على الله ما لا يعلم أمّة قاصدة جهة من جهات الآخرة وليس لواحدة منهم البقاء فلا يتّكلوا على قلائل ايّامهم لانّ لكلّ أمّة أجلا (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) اى إذا قدّر وعيّن مجيئ أخر وقتهم للموت أو مدّة عمر هم لا يتأخّرون اقصر وقت ولا يتقدّمون لخروج ذلك عن اختيارهم ، أو لا يطلبون التّأخّر والتّقدّم لعدم علمهم بذلك الوقت ، أو لعلمهم بانّه خارج عن اختيارهم أو إذا قارن مجيئ أجلهم لا يطلبون ذلك لدهشتهم وهو وعيد وتمهيد لقوله تعالى (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) التّكوينيّة بالآيات التّدوينيّة (فَمَنِ اتَّقى) مخالفة الآيات التّدوينيّة بترك العمل بها ومخالفة الآيات التّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة بترك الاتّعاظ بها والاعراض عنها والآيات العظيمة الّذين هم الأنبياء (ع) والأولياء (ع) بترك اتّباعهم وتكذيبهم والاستهزاء بهم (وَأَصْلَحَ) بالاتّصال بالآيات العظمى بالبيعة العامّة والخاصّة بالاتّعاظ بالآيات الصّغرى (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى هذه الآية في اوّل البقرة وفي سورة الانعام مفصّلا (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) بترك امتثالها والاتّعاظ بها والاتّصال بها بإحدى البيعتين (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقد اختلف القرينتان في لفظ الموصول ودخول الفاء وعدمه والنّفى وعدمه وتكرار المبتدأ باسم الاشارة وعدمه ، والوجه في ذلك الاشارة الى اتّحاد نفوس المتّقين والاختلاف والفرقة في المكّذبين والاشارة الى لزوم الخبر للصّلة في الاولى دون الثّانية لعدم تخلّف وعده تعالى دون وعيده ، ولو جعل من شرطيّة كان أبلغ في ذلك المعنى ولذلك أتى في الاولى بمن المشتركة بين الشّرط والموصول وإحضار المبتدأ بوصفه المذكور له تفظيعا لحال المكّذبين وتحذيرا عن مثل حالهم مع قصد حصر صحابة النّار فيهم بخلاف الاولى ، فانّه لم يقصد فيها حصر لما سبق من جواز تخلّف الوعيد ودخول المكّذبين الجنان ورفع الخوف والحزن عنهم ، ووجه الاختلاف بنفي ضدّ المستحقّ في الاولى وإثبات المستحقّ في الثّانية كون المقام مقام الوعيد والإنذار ، فانّ ذكر المحرّمات توعيد لمرتكبيها لا وعد لتاركيها لانّ الفضل لمن امتثل الأمر لا لمن ترك المنهىّ ولذا لم يكتف بقوله فمن اتّقى وأضاف اليه أصلح في جانب الوعد ، وكذا الاخبار بانقضاء الأمد وفناء البسطة وإتيان الرّسل بعد تلك الإنذارات توعيد للمكّذبين ، ولكون المقام للانذار بسط في جانب الوعيد دون الوعد والمناسب لمقام الوعيد نفى الخوف والحزن عن غير المستحقّ وإثبات العقوبات للمستحقّ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أتى بفاء التّفريع والاستفهام الانكارىّ اشارة الى استنباطه ممّا سبق وتأكيدا لا ظلميّة المفترى ، فانّ مفهومه وان كان لنفى اظلميّة الغير من المفترى لكنّ المقصود إثبات اظلميّة المفضّل عليه والمراد بالمفترى ائمّة الجور ورؤساء الضّلالة الّذين لم يكونوا أهلا للرّياسة ويدّعون الخلافة وهم اشدّ ظلما ممّن كذّب بآياته فقط ، والقائل على الله ما لا يعلم أخفّ ظلما منهما فانّه لا ينافي تصديق الآيات كما سبق (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) لانّه قد سبق انّه المستحقّ لصحابة النّار والمراد بالمكذّب بالآيات تابع ائمّة الجور والمقصود من الآيات أعظمها وغايتها الّتى هي الولاية ومن المفترين والمكذّبين منافقوا الامّة الّذين قبلوا الدّعوة الظّاهرة


وبايعوا محمّدا (ص) بيعة اسلاميّة بقرينة قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) لانّ المراد بالكتاب الكتاب المعهود المفسّر بكتاب النّبوّة ، ولمّا كان لقبول الدّعوة الظّاهرة والأحكام القالبيّة الاسلاميّة شرافة واثر فمن قبل وعمل ولم يكن له نصيب من الآخرة يناله اثر ذلك العمل والحظّ الموعود في الدّنيا حتّى يخرج من الدّنيا وليس له حقّ على الله ، من كان يريد ثواب الدّنيا بإسلامه وقبول احكامه يؤته منها وماله في الآخرة نصيب (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) بقبض أرواحهم حال من الفاعل أو المفعول أو كليهما أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر ، أو هي جواب إذا وقوله و (قالُوا) حال أو مستأنف ، أو عطف على جاءتهم أو يتوفّونهم يعنى قال الرّسل تقريعا لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالاعراض عن خلفائه ومظاهره الولويّة ودعوة غيرهم من مظاهر قهره وأعوان أعدائه ممّن ادّعى الخلافة في مقابل أوصياء أنبيائه (ع) (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) قالوا ذلك لانّهم كانوا أصحاب الخيال والكثرات ودعوتهم لائمّة الجور كانت من جهة الحدود والتّعيّنات وحين المحاسبة وظهور الوحدة لا يبقى حدّ وتعيّن ويرون انّهم كانوا ساترين في تلك الدّعوة جهة الوحدة والولاية (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) لوجهة القلب والولاية (قالَ) الله (ادْخُلُوا) بعد عودهم عن الوحدة الى مقرّ الكثرة حالكونكم (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الّذين كانوا من سنخكم داعين لمن لم يؤذنوا في دعوتهم (فِي النَّارِ) ظرف الدّخول ، ويحتمل ان يكون في أمم ظرف الدّخول وفي النّار بدلا منه بدل الاشتمال ، أو حالا من سابقه (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) امّا المتألّفون والمتحابّون منهم فلظهور انّ مجالسة بعضهم بعضا ومؤانسته ومحادثته منعتهم من الايمان بخلفاء الله واتّباع أوليائه ، وامّا الأجانب وغير المعروفين فلاستحقاقهم اللّعن مثلهم وهذا بعينه ديدن أهل الدّنيا فانّهم وقت الدعة والرّاحة احبّاء ، ووقت الشّدّة والبلاء أعداء ، ويلعن بعضهم بعضا خصوصا النّسوان ومن كان على طباعهنّ من الرّجال ، والجملة امّا حال من فاعل ادخلوا أو من أمم أو من فاعل خلت أو الجنّ والانس أو من النّار والكلّ بتقدير العائد أو معترضة ذمّا للأمم (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) يعنى لحق التّابعون للمتبوعين في الدّرك الأسفل (قالَتْ أُخْراهُمْ) التّابعون اللّاحقون (لِأُولاهُمْ) المتبوعين يعنى في حقّهم (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) لضلالهم واضلالهم (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) باعتبار قوّتى العلّامة والعمّالة أو باعتبار تجسّم العمل في النّفس واستتباعه لمثله في الجحيم أو باعتبار الضّلالة وإهمال التميّز ، أو باعتبار صفحتي كلّ من العلّامة والعمّالة (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) انّ لكلّ ضعفا لخفائه وخفائه سببه عليكم (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) مخاطبين لهم (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) لاستحقاقكم الضّعف جاؤا بالفاء تفريعا لقولهم على قول الله لاثبات قولهم (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) امّا من قول الله تقريعا وتهكّما ، أو من قول الرّؤساء (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) قد مضى تفصيل في مثلها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) سماء الأرواح لانّ بابها القلب وفتحه بالولاية التّكليفيّة وقد كذّبوا بها (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) تعليق على ما لا يكون ، أو المراد انّ انانيّاتهم مانعة من دخول الجنّة


فلا يدخلونها ما دام جمل انانيّاتهم باقية فاذا ذاب انانيّاتهم دخلوها (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) امّا من قبيل وضع الظّاهر موضع المضمر إبداء لوصف آخر لهم مشعر بالّذمّ وإظهارا لاستحقاق العقاب من جهة اخرى ، أو المراد بالمجرمين غير المكذّبين وهكذا الحال في قوله نجزى الظّالمين (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) حال أو استيناف لبيان حالهم ، والغواشي جمع الغاشى بمعنى المغمى ، أو جمع الغاشية بمعنى الغطاء أو الإغماء ، وفي لفظ مهاد وغواش بمعنى الأستار تهكّم بهم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قد مضى مثله ، وانّ المراد بالايمان ان كان الإسلام الحاصل بالبيعة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة فالمراد بعمل الصّالحات الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب وتوابعه من الأعمال القلبيّة المستتبعة للأعمال القالبيّة ، وان كان المراد به الايمان الخاصّ فالمراد بعمل الصّالحات مستتبعات هذا الايمان ، ولمّا جاء بالصّالحات معرّفة بلام الاستغراق وأو هم الإتيان بجميع الصّالحات وليس في وسع افراد البشر الإتيان بجميع الصّالحات استدركه بقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) معترضا بين المبتدء وخبره (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تكرار المبتدء باسم الاشارة اوّلا وبالضّمير ثانيا لتأكيد الحكم وإحضار المبتدء بوصفه المذكور وتفخيما لشأنهم بالاشارة البعيدة وتثبيتا لهم في الأذهان بالتّكرار (وَنَزَعْنا) في الدّنيا أو في الجنّة (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الغلّ بالكسر الحقد وتشبيه الغلّ بالثّوب واستعمال النّزع فيه استعارة تخييليّة وترشيح للاستعارة ، والمقصود انّه تعالى يطهّر صدور المؤمنين من موجبات الغلّ من الكدورات الدّنيويّة والصّفات الرّذيلة النّفسانيّة حتّى تصفو صدورهم من الحقد والحسد ، خصوصا بالنّسبة الى إخوانهم المؤمنين وكذا من العجب والرّياء والشّكّ والشّرك الخفىّ فلا يبقى في صدورهم الّا الودّ الخالص والصّدق التّامّ (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الجملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر أو خبر بعد خبر (وَ) بعد ما صارت صدورهم مصفّاة ممّا يوذيهم ومقامهم مأمنا عمّا لا يلائمهم ومجالسوهم فارغين ممّا يسوؤهم (قالُوا) تبجّحا وشكرا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) المقام أو هذا الفضل والمراد بالهداية الإيصال الى المطلوب أو الى طريق المطلوب مع تهيّة أسباب سلوكه (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) قالوا ذلك لانّهم كانوا مؤمنين بالغيب غير مشاهدين فلمّا شاهدوا ما آمنوا به فرحوا بما شاهدوا واظهروه لغاية السّرور (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعنى ما كنتم تعملون سبب من طرف القابل لا انّه سبب فاعلىّ. اعلم ، انّ الإنسان بانسانيّته له قوّة الوصول الى الجنان وبفطرته له النّسبة الى العقل الكلّىّ ومظهره الّذى هو النّبىّ (ص) والولىّ (ع) وبتلك النّسبة يصحّ نسبة الابوّة والبنوّة بينهما تكوينا ويصحّ نسبة الأخوّة بين كلّ الاناسىّ تكوينا ، فاذا اتّصل هذه النّسبة بالنّسبة التّكليفيّة بالبيعة العامّة النّبويّة أو الخاصّة الولويّة تقوى تلك النّسبة وظهرت بحيث يصير الولد والدا والوالد ولدا ، وبتلك النّسبة وقدر ظهورها يرث الولد من والده بعضا من ملكه أو جميع ممالكه وإذا لم يتّصل النّسبة التّكوينيّة بالنّسبة التّكليفيّة لا بالبيعة ولا حال الاحتضار انقطعت لا محالة ، وإذا انقطعت نسبته عن الوالد الّذى هو العقل الكلّىّ ومظهره لم يرث منه شيئا وورثه ما كان ينبغي ان يرثه هو اخوه المناسب له في بعض الجهات


فصحّ ان يقال أورثتموها من الله أو من العقل أو من مظهر العقل ، وصحّ ان يقال أورثتموها من أهل الجحيم كما يصحّ ان يقال : أهل الجحيم أورثوا منازل أهل الجنّة من الجحيم وقد مضى تحقيق الايراث وكيفيّته (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) إظهارا للنّعمة تبجّحا وتقريعا لأصحاب النّار (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) من الله (بَيْنَهُمْ) والمؤذّن هو صاحب مرتبة الجمع وهو الّذى على الأعراف ولذا فسّر بأمير المؤمنين (ع) وقال : انا ذلك المؤذّن (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ولمّا كان الظّلم الحقيقىّ هو ستر وجهة القلب الّتى هي الولاية التّكوينيّة ، ثمّ الاباء عن الولاية التّكليفيّة الّتى بها يفتح باب القلب ويوضح طريقه الى الله ، وبهذين الظّلمين ينسدّ طريق القوى المستعدّة للاتّصال الى صاحب الولاية وهي باتّصالها بصاحب الولاية تصير من عترة الرّسول تكوينا ، فسدّ طريقها ظلم عليها وظلم على العترة بوجه وظلم على صاحب الولاية بوجه ، ثمّ جحود الولاية ثمّ الاستهزاء بصاحب الولاية ثمّ سدّ طريق العباد عن الولاية وذلك أيضا ظلم على عترة محمّد (ص) بالوجوه السّابقة ، فسّر الظّلم في الكتاب بالظّلم على آل محمّد (ص) ووصف الظّالمين بقوله (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) اى يعرضون أو يمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تفسيرا للظّلم (وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) فانّ سبيل الله هو وجهة القلب تكوينا وولاية الامام الّذى هو المتحقّق بتلك الوجهة تكليفا ، والكفر بالآخرة هو الكفر بالولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة أو مسبّب عنه (وَبَيْنَهُما) اى الفريقين أو الجنّة والنّار (حِجابٌ) والمراد بالحجاب البرزخ الاخروىّ الّذى هو واسطة بين الملكوتين ولا بدّ لأهل كلّ من العبور عليه ، كما انّ المراد بالسّور في قوله (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) هو هذا البرزخ ، وتحقيق كون الدّنيا برزخا والبرزخ الاخروىّ واسطة بين الملكوتين وكون الملكوت السّفلى ظلّا ظلمانيّا للدّنيا والملكوت العليا عكسا نورانيّا لها ، وبعد الخلاص من عالم الطّبع لا بدّ من عبور كلّ على البرزخ الاخروىّ الّذى هو بوجه جهنّم ، كما انّ عالم الطّبع أيضا بوجه جهنّم ، والبرزخ الاخروىّ هو الحجاب الّذى ظاهره يلي الملكوت السّفلىّ من قبله عذاب الملكوت السّفلى وباطنه الّذى يلي الملكوت العليا فيه الرّحمة الّتى هي نعم الجنان الصّوريّة ثمّ نعم الجنان المجرّدة عن الصّورة والتّقدّر قد مضى اجمالا وسيجيء في سورة الحديد (وَعَلَى الْأَعْرافِ) اى اعراف الحجاب جمع العرف وهو ما ارتفع من الأرض ومنه عرف الدّيك وعرف الفرس والمعنى على اعالى الحجاب (رِجالٌ) مخصوصون وهم الّذين أدركوا البقاء بعد الفناء ووصلوا الى مقام الجمع وردّوا من الحضور الى الخلق لتكميلهم وهم الأنبياء (ع) والأولياء (ع) ، فانّهم بعد ردّهم يقفون بملكوتهم على البرزخ لكن على جهاته الّتى فيها الرّحمة وهي أعاليه حتّى يمكنهم الاحاطة والاتّصال بالملك والملكوتين ، لانّهم بشأنهم الجبروتىّ اجلّ شأنا من ان يراقبوا الكثرة لانّ العالي لا التفات له الى الدّانى بالذّات وبشأنهم الملكىّ لا سعة لهم ولا احاطة حتّى يتيسّر لهم المراقبة وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، بل بشأنهم الملكوتي الّذى يتنزّلون به عن الملكوت العليا الى اعالى البرزخ فيراقبون أهل الملك والملكوت العليا والسّفلى ويعطون كلّا حقّه ، ولمّا كان النّبوّات والولايات الجزئيّة اظلالا من الولاية الكلّيّة وكان المتحقّق بالولاية الكلّيّة عليّا وأولاده الطّاهرين ، صحّ تفسير الرّجال بهم وحصرهم فيهم ولمّا كان البرزخ مرتبة من مراتبهم وشأنا من شؤنهم قال علىّ (ع): نحن الأعراف ولمّا كان جهة البرزخ العليا


جهة يعرف بها كلّ من عليها غيره من أهل الملك والملكوتين وكانت سبيل معرفة الله لغير من عليها صحّ قولهم (ع): نحن على الأعراف ، نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الّذين لا يعرف الله عزوجل الّا بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف يوقفنا الله عزوجل يوم القيامة على الصّراط فلا يدخل الجنّة الّا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النّار الّا من أنكرنا وأنكرناه ، ولمّا كان المراد بالاعراف اعالى البرزخ صحّ تفسير أصحاب الأعراف بالّذين هم أصحاب البرزخ من الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فانّهم أصحاب البرزخ وكون صحابتهم للاعراف غير كون صحابة الّذين على الأعراف فانّهم مالكون للاعراف بوجه ومتحقّقون بها بوجه ، بخلاف الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم فانّهم (ع) واقفون في البرزخ وتحت الأعراف للحساب (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنّة والنّار (بِسِيماهُمْ) بالعلامة الّتى هي على ظواهرهم من سرائرهم ، فالضّمير راجع الى كلّا لا الى الرّجال (وَنادَوْا) الضّمير راجع الى أصحاب الأعراف من شيعة علىّ (ع) الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم كأنّهم ذكروا بالالتزام ذكر الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) الّذين تجاوزوا البرزخ وصحبوا الجنّة (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحيّة لهم ورجاء للوصول إليهم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) الدّخول (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) كان أبصارهم وانظارهم بالاصالة الى أصحاب الجنّة (قالُوا) تعوّذا والتجاء الى علىّ (ع) (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) الّذين هم على الأعراف (رِجالاً) من أهل النّار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ) يعنى ما اغنى الله عن عذابكم هذا بحسب مفهومه اللّغوىّ والمقصود ما دفع عنكم العذاب (جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) ما موصولة أو مصدريّة (أَهؤُلاءِ) اشارة الى أصحابهم الّذين معهم في الأعراف الّذين يطمعون دخول الجنّة ولم يدخلوها بعد لاختلاطهم السّيّئات بالحسنات (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) في الدّنيا (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) قالوها تقريعا وشماتة ثمّ صرفوا الخطاب عن أصحاب النّار الى أصحابهم الّذين معهم في الأعراف وقالوا لهم في حال شهود أصحاب النّار لازدياد تحسّرهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وبما ذكرنا يمكن الجمع بين جميع ما ورد في الاخبار في بيان الأعراف وأصحاب الأعراف وكيفيّة وقوفهم على الأعراف مع كثرتها واختلافها (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) لانّ الحجاب الّذى بينهما مانع من الوصول لا من الرّؤية إذا شاء الله (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) السّاترين وجهة القلب الّتى هي الطّريق الى الله (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الّذى أخذوها من صاحب الدّين اى الإسلام الّذى أخذوها من النّبىّ (ص) بالبيعة والميثاق أو صورة الإسلام الّتى انتحلوها من دون أخذها من صاحبها والوقوف على شرائعها (لَهْواً وَلَعِباً) غير مغيى بغاية أو مغيى بغاية خياليّة نفسانيّة راجعة الى دنياهم لانّهم سدّوا الطّريق الى الله وأبطلوا استعداد سيرهم بواسطة الإسلام الى الطّريق فلا غاية لاسلامهم أو لنحلتهم الإسلام سوى ما تصوّروه من الغاياب الرّاجعة الى الدّنيا ولذا قال تعالى (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) تعليلا لاخذ دينهم لهوا ولعبا (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) يعنى لا نلتفت إليهم وهذا على طريقة مخاطباتهم حيث يقولون نسينا فلان يعنى لا يلتفت


إلينا ولا يذكرنا بعطيّة (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) وكما كانوا (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) اى كتاب النّبوّة (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) متعلّق بجئنا أو بفصّلناه أو متنازع فيه لهما على أخذ مثل معنى الإيراد في المجيء والتّفصيل اى أوردناه على علمهم بحقّيّة الكتاب أو الرّسول (ص) ، أو هو حال عن فاعل جئنا أو فصّلنا أو عن مفعول جئناهم أو عن كتاب (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالايمان العامّ لتوجّهم الى وجهة القلب وتهيّؤهم لقبول الولاية التّكليفيّة أو بالايمان الخاصّ لكونهم على الطّريق وإنارة كتاب النّبوّة الّذى كان الكتاب التّدوينىّ صورته طريقهم فيسرعون في السّير أو المراد بكتاب فصّلناه مكتوب مفروض عظيم وهو الولاية الّتى هي غاية النّبوّة ، لانّ جميع النّبوّات والكتب التّدوينيّة لتنبيه الخلق عليها واعدادهم لقبولها ولذلك جاء به مفردا منكّرا مشيرا الى عظمته (هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينظرون (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) ما يئول الكتاب اليه أو تأويلنا وارجاعنا ذلك الكتاب الى حقيقته الّتى هي مقام الولاية الّتى هي روحه وأصله ومرجعه (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) ضمير المفعول راجع الى دينهم أو الى لقاء يومهم هذا أو الى كتاب فصّلناه أو الى تأويله ومآل الكلّ واحد والمعنى يقول الّذين نسوا حقيقة الدّين أو الكتاب يعنى تركوها مع الاستشعار بها ، فانّ النّسيان قد يستعمل في التّرك ، أو غفلوا عنها بعد الاستشعار والتّذكّر بها أو لم يستشعروا بها ولم يتذكّروا بها فانّها كانت معلومة مشهودة وبعد تنزّل الإنسان الى هذا البنيان صارت منسيّة وجميع الشّرائع والعبادات والرّياضات لان يتذكّروا ما نسوه من حقيقة الدّين واتّخذوا صورته للأغراض الدّنيويّة (مِنْ قَبْلُ) من قبل إتيان التّأويل تحسّرا وإقرارا بحقّيّته (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وبالولاية الّتى كانت حقّا أو بالرّسالة الحقّة وقد أعرضنا عنه ظلما على أنفسنا (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) اليوم (فَيَشْفَعُوا لَنا) عند ربّنا في الولاية الّذى هو ولىّ أمرنا أو عند ربّ الأرباب (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف دينهم الّذى هو أعظم بضاعة لهم في الأغراض الفانية (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) اشراكه بالله وشفاعته عند الله من الأصنام والكواكب ورؤساء الضّلالة ، والمنظور هو العجل وسامريّة ووجه ضلال مفترياتهم انّهم كانوا ينظرون إليها من حيث حدودها وتعيّناتها ، لانّهم كانوا جعلوها مسمّيات ويفنى كلّ شيء حينئذ من حيث الحدود من حيث كونه مسمّى لفناء التعيّنات والحدود حين ظهور الولاية الّتى هي الوحدة الحقّة الظّليّة كما سبق (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) اعلم ، انّ فعل الله تعالى لا يتقيّد بالزّمان وقد قالوا : انّ الأفعال المنسوبة الى الله منسلخة عن الزّمان فانّ المحيط كما لا يحاط ذاته بالزّمان لا يحاط فعله بالزّمان ، وانّ ايّام الله محيطة بالايّام الزّمانيّة ومقادير ايّام الله متفاوتة بحسب تفاوت مراتب فعله فقد تتقدّر بألف سنة وقد تتقدّر بخمسين الف سنة ، وانّ السّماوات في عرف أهل الله عبارة عن عوالم الأرواح المجرّدة عن المادّة وعن التّقدّر ، والأرض عبارة عن عوالم الأشباح مادّيّة كانت أو مجرّدة عن المادّة كعالمى المثال ومنها سماوات عالم الطّبع لتقدّرها وتعلّقها بالمادّة ، وانّ مراتب الممكنات الّتى هي مخلوقات الله وفيها تتحقّق السّماوات والأرض بوجه ستّ وبوجه ثلاث صائرة بحسب النّزول والصّعود ستّا وهي مرتبة المقرّبين المهيمين الّذين هم قيام لا ينظرون ، ومرتبة الصّافّات صفّا ويعبّر عن الصّنفين بالعقول الطّوليّة والعقول العرضيّة المسمّاة


بأرباب الأنواع في لسان حكماء الفرس ، ومرتبة المدبّرات امرا ومرتبة الرّكّع والسّجّد ، ومرتبة المتقدّرات المجرّدة عن المادّة ، ومرتبة المادّيّات وخلقة السّماوات والأرض وتماميّتها في تلك المراتب السّتّ ، وإذا أريد بالسّماوات والأرض سماوات عالم الطّبع وأرضه فخلقتها بوجودها الطّبيعىّ وان كانت في عالم الطّبع لكنّها بوجودها العلمىّ موجودة في المراتب العالية عليه وهذه هي الايّام الستّة الرّبوبيّة الّتى خلقت السّماوات والأرض فيها ، وتلك المراتب مع المشيّة الّتى هي عرش الرّحمن بوجه وكرسيّه بوجه تصير سبعا نزولا ، وباعتبار صعودها تصير مثاني وهذه هي السّبع المثاني الّتى أعطاها الله محمّدا (ص) ، ولمّا كان المتحقّق بتلك المراتب نزولا وصعودا منحصرا في الائمّة (ع) ، لانّهم المتحقّقون بها على الإطلاق وغيرهم متحقّقون بها بتحقّقهم قالوا : نحن السّبع المثاني الّتى أعطاها محمّدا (ص) بطريق الحصر ، ثمّ لمّا كان عرش الرّحمن الّذى هو المشيّة الّتى هي الحقّ المخلوق به إضافته الاشراقيّة المأخوذة لا بشرط وكان بهذا الاعتبار متّحدا مع جميع الأشياء ، بل كان حقيقة كلّ ذي حقيقة وكان باعتبار كونه اضافة ومأخوذا لا بشرط لا تحقّق له الّا بتحقّق جميع ما ينضاف اليه ولا يتمّ الّا بما ينضاف اليه ، قال بعد ذكر خلق السّماوات والأرض الّتى هي جملة الأشياء (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) معطوفا بكلمة التّراخى ، لانّ الاستواء في العرف هو الجلوس على العرش ولا يتمّ هذا المعنى الّا بتماميّة العرش وليس تماميّة العرش الّا بتماميّة السّماوات والأرض ، ولذا فسّروا الاستواء لنا باستواء نسبته الى الجليل والدّقيق ، ولمّا كانت المشيّة إضافته الحقيقيّة الى الأشياء كانت ذات جهتين جهة الى المضاف وجهة الى المضاف اليه ، وباعتبار جهتها الى المضاف تسمّى عرشا ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الله ، وباعتبار جهتها الى المضاف اليه تسمّى كرسيّا ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الأشياء وسع كرسيّه السّماوات والأرض ، وورد ان جميع الأشياء في الكرسىّ والكرسىّ في العرش ، ووجه كون الكرسىّ في العرش انّ الجهة المنسوبة الى المضاف محيطة بالجهة المنسوبة الى المضاف اليه ، وقد يسمّى عقل الكلّ بالعرش ونفس الكلّ بالكرسىّ لكونهما مظهري الجهتين ، وقد يسمّى الفلك المحيط عرشا والفلك المكوكب كرسيّا لكونهما مظهري هذين المظهرين (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يغطّى بليل الزّمان نهار الزّمان ، وبليل عالم الطّبع نهار عالم الأرواح ، وبليل الملكوت السّفلىّ نهار الملكوت العليا ، وبليل طبع الإنسان نهار روحه ، وبليل جهله نهار علمه ، وبليل شهواته وسخطاته نهار رغباته ومرضاته ، وبليل رذائله نهار خصائله ، وبليل اسقامه نهار صحّته ، وبليل ضعفه نهار قوّته وهكذا (يَطْلُبُهُ) يتعقّبه كالطّالب له (حَثِيثاً) وفي استعمال الطّلب والحثّ هناك دليل على التّعميم وكان المناسب ان يقول : ويكشف النّهار اللّيل أو يغشى النّهار اللّيل ، ولكنّه تعالى تركه اشارة الى اصالة النّهار وعرضيّة اللّيل ولو قال ذلك لأوهم اصالتها وانّ تقابلهما تقابل الوجوديّين (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) قرئ بنصب الشّمس والقمر والنّجوم ومسخّرات ، وقرئ برفعها فهي معطوفة على السّماوات على قراءة النّصب فيها ، أو على خلق بتقدير جعل ، أو على يغشى بتقدير يجعل وعلى قراءة الرّفع فيها فهي مبتدء وخبر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فذلكة لما سبق ولذا أتى بأداة التّنبيه فانّه لمّا ذكر انّه خالق سماوات الأرواح وأراضي الأشباح وانّه المستوى القاهر على العرش الّذى هو جملة عالمي الأمر والخلق ، ثمّ ذكر تدبيره للعوالم باغشاء اللّيل النّهار على وفق حكمته البالغة ، فانّه بهذا الاغشاء يتمّ تربية المواليد ولا سيّما غايتها الّتى هي الإنسان ، فانّ الإنسان بقالبه وقلبه تستكمل بتضادّ اللّيل والنّهار وتعاقبهما بجميع معانيهما وتسخير الشّمس


والقمر والنّجوم الّذى به يتمّ نظام العالم وينتظم معاش بنى آدم ، استفيد منه مبدئيّته لعالمى الخلق والأمر ومالكيّته لهما فنبّه على المستفاد وأتى باللّام الدّالّة على المبدئيّة والمالكيّة والمنتهائيّة ، مشيرا الى الاختصاص المؤكّد بتقديم الظّرف ثمّ مدح نفسه بكثرة الخيرات مؤكّدا بربوبيّة العالم بقوله (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ثمّ فرّع عليه الأمر بالدّعاء والتّضرّع ، فانّ من لا شأن له سوى المخلوقيّة والمربوبيّة لا ينبغي له الخروج عن التّعلّق والدّعاء والتّضرّع عند ربّه الّذى هو مالك الكلّ وصاحب الخيرات الكثيرة بقوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ) كأنّه قال إذا كنتم كذلك فادعوا ربّكم ، والدّعاء يستعمل في طلب ذات المدعوّ وفي طلب امر آخر منه كأنّ المدعوّ في الحقيقة هو ذلك الأمر ، والمدعوّ مطلوب من باب المقدّمة وكلّما أطلق الدّعاء كان المطلوب ذات المدعوّ لا امرا غيره الّا إذا قامت قرينة على انّ المطلوب غيره ، والمطلوب هناك ذات المدعوّ كأنّه قال انّه حاضر عليكم في تدبير أموركم وأنتم غائبون عنه فادعوه الى بيوت قلوبكم حتّى تحضروا عنده بخروجكم عن غيبتكم ؛ وهو مشعر بما قالت الصّوفيّة من الفكر والحضور (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) مصدران لا دعوا من غير مادّته فانّ التّضرّع والخفية عبارة عن نوعي الدّعاء ما يظهر على اللّسان وما لا يظهر ، فانّ التّضرّع ملازم للظّهور على اللّسان أو ما يجهر به وما لا يجهر به فانّ التّضرّع قلّما يخلو عن جهر أو بتقدير المصدر اى دعاء تضرّع وخفية ، أو حالان بكون المصدر بمعنى المشتقّ أو بتقدير مضاف الى ذوي تضرّع ، ولا استبعاد في ان يقال : المراد بالتّضرّع هو الدّعاء مع الشّعور به سواء كان بلسان القالب أو بلسان القلب ، وبالخفية هو الدّعاء بلسان الحال والاستعداد من غير استشعار به فانّ الخفية الحقيقيّة هي الّتى لا يستشعر الدّاعى بها ، وتعلّق الأمر والتّكليف بها باعتبار مقدّماتها الّتى هي بشعوره واختياره ، أو يقال : المراد بالتّضرّع هو الدّعاء بلسان القالب وبالخفية هو الدّعاء بلسان القلب شاعرا بهما ؛ وهما اللّذان يسمّيان في عرف الصّوفيّة بالّذكر الجلىّ والذكّر الخفىّ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتكبّرين المستنكفين عن الدّعاء المتجاوزين مرتبتهم وشأنهم ، لانّه من لا يدعو الله من العباد فقد تجاوز عن شأن عبوديّته ، أو المراد بالمعتدين المتجاوزون في الدّعاء حدّ الدعاء وشأن الدّاعى من التّضرّع والانكسار أو حدّ الوسط بالإجهار بالصّوت في الدّعاء ، أو حدّ الوسط بين التّرك والإصرار فانّه ورد : انّه ما زال المظلوم يدعو على الظّالم حتّى يصير ظالما (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) اعلم ، انّ الإنسان ما لم يبلغ حدّ الرّشد والتّكليف شأنه شأن البهائم في طلب المشتهيات بأىّ نحو اتّفق ودفع المولمات كذلك وليس له شأن الايتمار والانقياد الّا لمن يخاف منه على بدنه ، وليس له شأن الإصلاح في ارض العالم الصّغير ولا في ارض العالم الكبير ، فاذا بلغ وحصل له العقل حصل له شأنيّة الايتمار والإصلاح في ارضى العالمين في الجملة ، فان ساعده التّوفيق ودعاه الدعاة الالهيّون دعوة عامّة ظاهرة وقبل منهم وانقاد لهم بالبيعة العامّة النّبويّة وصار مسلما كمل له شأنيّة الإصلاح وحصل له الانقياد في الجملة ، فان زاد توفيقه ودعاه الدّعاة الالهيّون دعوة خاصّة باطنة وقبل منهم وبايع معهم البيعة الخاصّة الولويّة وتمّ له الانقياد ، فامّا ان يلتحق بملكوت الدّاعى ويحصل له حالة الحضور معه وهو المصلح الحقيقىّ في العالمين ، وامّا ان يطلب الالتحاق وشأنه دعاء ربّه والتّضرّع والالتجاء اليه في غيبته حتّى يلتحق به وهو المصلح في الجملة ، وان خذله الله بعد حصول العقل وشأنيّة الإصلاح ولم يطلب الإسلام ، أو طلب ودخل فيه ولم يطلب الايمان ، أو طلب ودخل فيه ولم يكن يدعو ربّه ولم يطلب الالتحاق بملكوته صار مفسدا في العالمين فكأنّه قال : ادعوا ربّكم ولا تتركوا الدّعاء فتفسدوا في الأرض (بَعْدَ إِصْلاحِها) بالقوّة


لحصول العقل أو بالفعل بالإسلام والايمان وهكذا في بواقى الأقسام فقوله : ولا تفسدوا في الأرض ، من قبيل اقامة المسبّب مقام السّبب كأنّه قال : لا تتركوا الدّعاء والالتجاء والتّضرّع عليه فتفسدوا في الأرضين بعد شأنيّة اصلاحهما أو بعد فعليّة اصلاحهما ولكون هذا الدّعاء هو غاية كلّ عبادة وطاعة كرّره بذكر جهة اخرى من جهات الدّعاء فقال (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) مصدران أو حالان كما سبق والمعنى خوفا من فراقه وعدم اجابته وطمعا في لقائه واجابته ، وسائر الوجوه المحتملة راجعة الى هذا ، أو ضعيفة بحسب مقام دعوة الرّبّ ؛ كخوف سخطه وخوف عقابه وخوف ردّه وخوف عدله وخوف ميزانه وخوف خذلانه والخوف من جلاله فانّ من استشعر في حضور الملوك جلالهم استشعر خوفا وهيبة في نفسه من غير استشعار بسبب لتلك الهيبة ، واستعمال الطّمع للاشارة الى انّ الإنسان لا بدّ وان يكون مترقّبا للقاء الرّبّ ورحمته من غير نظر الى حصول أسبابه من قبله أو من قبل الله فانّ فعل الله لا يناط بالأسباب ، لانّ الطّمع هو ترقّب حصول الشّيء من غير تهيّة سبب لحصوله بخلاف الرّجاء ولمّا أو هم ذكر الطّمع قرينة للخوف ترجيح جانب الرّجاء وعدم الاناطة بسبب وشرط واستواء نسبة الرّحمة الى الكلّ بحسب القابل كما هو كذلك بحسب الفاعل ، رفع ذلك بقوله (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) تعليلا للخوف والطّمع ، يعنى انّ رحمته من جهة الفاعل وان كانت مستوية النّسبة الى الكلّ غير موقوفة على سبب وشرط لكنّها من جهة القابل متفاوتة النّسبة فليخف غير المحسن ولا يتّكل على عموم رحمته واستواء نسبتها وليطمع المحسن وليجدّ في طلب لقائه ، وتذكير قريب بتأويل الرّحمة بالرّحم أو بتشبيهه بالفعيل بمعنى المفعول (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) قرء بالنّون وبالباء جمعا للنّشور والبشير وبالضمّتين على الأصل وبإسكان العين تخفيفا وبالفتح كالنّصر مصدرا وهو عطف على قوله ، انّ ربّكم الله الّذى خلق السّماوات ، وهو لبيان الاعادة بطريق التّمثيل كما انّ الاوّل لبيان الإبداء والتّدبير (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعنى المطر ، فانّه يسمّى بالرّحمة في العرف ولا يخفى تعميم الرّياح والرّحمة وان كان التّمثيل بحسب ظاهر التّنزيل (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) بالاجزاء الرشّية المائيّة ، جمع الوصف وافراد الضّمير في (سُقْناهُ) باعتبار معنى الجنس ولفظه (لِبَلَدٍ) اليه أو لسقيه أو لا حيائه (مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا) في ذلك البلد الميّت (بِهِ الْماءَ) اى بالسّحاب أو الضّمير راجع الى البلد والباء بمعنى في (فَأَخْرَجْنا بِهِ) بالماء أو بالسّحاب أو بالبلد (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ) اى كما ترون من نشر الرّياح وحمل السّحاب وسوقه الى البلد الميّت واحيائه بإخراج الثّمرات (نُخْرِجُ الْمَوْتى) عن الحيوة الحيوانيّة أو عن الحيوة الحقيقيّة الانسانيّة بنشر الرّياح المختلفة وسوق سحاب الرّحمة باعداد الرّياح المختلفة من الاستحالات والانقلابات والانتقالات والبلايا والامتحانات ، وتهييج الشّهوات وإيذاء السّخطات ووسوسة الشّياطين الجنّيّة والانسيّة ، وإذا هم الّذى عاهدناهم عليه بقولنا (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) حتّى ينزعجوا عن قبر الطّبع الجمادىّ أو النّفس النّباتيّة أو النّفس الحيوانيّة ويحيوا بالحيوة الانسانيّة ويخرج في ارض وجودهم كلّ الثّمرات الالهيّة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) غاية للممثّل به أو للمثل أو للتّمثيل (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) كأنّه استدراك لما توهّم من تساوى البلاد في خروج النّبات منها وتساوى الأموات في كيفيّة الأحياء وحالة الحيوة ، كأنّه قال ولكنّ البلد الطّيّب يخرج نباته بإذن ربّه يعنى يخرج جميع ما يمكن ان ينبت فيه ، فانّه المستفاد منه بحسب مخاطبات العرف خصوصا مع


اضافة النّبات المشعرة بالعموم ومع المقابلة مع قرينه وهو قوله (وَالَّذِي خَبُثَ) بالنّسبة الى الأراضي الصّالحة بسبب كونه سبخة (لا يَخْرُجُ) نباته (إِلَّا نَكِداً) قليل المقدار عديم النّفع (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمنا الظّاهرة والباطنة وان كان بصورة الرّياح المختلفة والابتلاءات والنّقمات ، فانّ تصريف أمثال هذه الآيات لمن عرف انّها نعم لا لمن رآها نقما ولا يشكر بل يكفر بسببها ، فانّ كفره وكفرانه ليس غاية لفعلنا بل هو مترتّب عليه بالعرض ، ونقل انّه قال عمرو بن العاص للحسين بن علىّ عليهما‌السلام : ما بال لحاكم أو فر من لحانا؟ فقرأ هذه الآية ، وأمثال هذا التّفسير للآيات تدلّ على جواز تعميمها في كلّ ما يمكن ان تصدق عليه حقيقة أو مجازا (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) بعد ذكر الإبداء والتّربية والتّدبير والاعادة بالتّمثيل ذكر تعالى إرسال الرّسل ليكونوا على ذكر منه فلا يستغربوا رسالة البشر ، وذكر قصصهم مع اقوامهم وما قالوا لهم وما فعل بالمقرّ والمنكر منهم تسلية للمؤمنين وتهديدا للمنكرين المكّذبين (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أمرهم بالتّوحيد وعبادة ذلك الواحد كما هو ديدن جميع الأنبياء (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ان تتركوا عبادته وتوحيده (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) اى المترفون والرّؤساء ، فانّ الاتّباع لا شأن لهم الّا القبول والتّقليد وعدم اتّباعهم للأنبياء لانّ نظرهم الى الدّنيا وكان المترفون في نظرهم اجلّ شأنا من الأنبياء (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لما رأوه مخالفا لسيرتهم المحبوبة الدّنيويّة الّتى يحسبونها أحسن ما يكون فانّ كلّ حزب بما لديهم فرحون ، ولذا اكّدوه بتأكيدات (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) داراهم بنفي معتقدهم ولذا لم يؤكّده مثل تأكيداتهم (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أتى باللّام اشارة الى خلوص النّصح عن شوب الخديعة (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) يعنى من صفاته وتدبيره أو بإفاضة الله (ما لا تَعْلَمُونَ) بلّغ اوّلا رسالته مع تعقيبه بالإنذار ولمّا كذّبوه بابداء اعتقاد ضدّ الرّسالة وهو الضّلالة نفى معتقدهم واثبت دعواه مع لازمها الّذى هو التّبليغ ، ثمّ عقّبها بما لا ينبغي ردّه من النّصح والعلم بما ليس لهم علم به مداراة معهم وإظهارا للرّأفة بهم (أَوَعَجِبْتُمْ) اى أكذّبتم وعجبتم يعنى لا ينبغي التّعجّب منكم (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) اى ما به تذكّر كم للآخرة (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أبدل الرّسالة الّتى فيها الشّقاق والعناد بلازمها الّذى فيه صلاحهم وهو تذكّرهم بعواقب أمورهم واضافه الى الرّبّ المضاف إليهم حتّى يكون أقرب الى النّصح والقبول ، ثمّ عقّبه بغايات ثلاث مترتّبة منسوبة الى الرّسول والمرسل إليهم والمرسل وفي الكلّ صلاحهم ونفعهم لابداء انّ دعواه الرّسالة ليست الّا محض نفعهم حتّى يكون ابعد من الشّغب ، فقال (لِيُنْذِرَكُمْ) عمّا أنتم عليه ممّا ليس فيه الّا الشّرّ والسّوء (وَلِتَتَّقُوا) عمّا فيه فسادكم بالتّوجّه والرّغبة فيما فيه صلاحكم (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) من ربّكم وهو حسن العاقبة (فَكَذَّبُوهُ) مع انّه لم يبق لهم عذر في تكذيبهم (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين (فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) ولم يبق لهم بصيرة حتّى نترقّب استبصارهم ولا نؤاخذهم (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) المراد اخوة العشيرة والقبيلة لا اخوة الدّين (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قالَ


الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) تسفيه العقل في الانظار أقبح من نسبة الضّلالة (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) كأنّه كان معروفا بينهم بالامانة ولذا توسّل به (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) ذكّرهم بنعم الله عليهم بعد تذكيرهم ضمنا بنقم الله على قوم نوح تخويفا لهم من زوالها بأحسن وجه (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تعميم بعد تخصيص تأكيدا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) عن الصّادق (ع) انّه قال : أتدري ما آلاء الله؟ ـ قيل: لا ، قال : هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) جعلوا لغاية سفههم مقلّدات آبائهم علوما قطعيّة ولذلك تحدّوا بما ذكر (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) اى عذاب أتى بقد والماضي تحقيقا لتحقّقه ، أو للاشارة الى انّ ما هم عليه من السّفاهة والضّلالة والمجادلة مع رسول الله (ص) عذاب اليم ، لكنّهم لا يدركون ألمه لكون مداركهم خدرة (وَغَضَبٌ) أخّر الغضب مع انّه بالتّقديم اولى لتقدّمه ذاتا وشرفا ، لانّه لا يظهر الّا بالرّجس المسبّب عنه فالرّجس أسبق ظهورا منه (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) اعلم ، انّ الاسم ما يدلّ على شيء آخر بحيث لا يكون حين الدّلالة على المسمّى منظورا اليه ومقصودا ومحكوما عليه بشيء ، سواء كان ذلك الدّالّ لفظا أو نقشا أو مفهوما ذهنيّا أو ذاتا خارجيّا مثل لفظ زيد ، فانّه اسم للّذات المعيّنة المخصوصة وإذا أريد دلالته على تلك الّذات في قولنا : جاء زيد ، لم يكن ذلك اللّفظ منظورا اليه ولا محكوما عليه بهذا الاعتبار ، بل النّظر والقصد الى تلك الّذات بحيث يكون اللّفظ مغفولا عنه ، وبهذا الاعتبار هو اسم للّذات ولا يحكم عليه بشيء من الأحكام ، وإذا اعتبر هذا اللّفظ من حيث اعتباره في نفسه مع قطع النّظر عن اعتبار دلالته على المسمّى بل من حيث انّه مركّب عن حروف ثلاثة متحرّك الاوّل ساكن الأوسط يصير حينئذ محكوما عليه ومنظورا اليه ومسمّى باسم اللّفظ والموضوع والاسم المقابل للفعل ، وهذان الاعتباران كما هما ثابتان للألفاظ الدّالّة والأسماء اللّفظيّة كذلك ثابتان لكلّ ما يدلّ على غيره من الّذوات ، ثمّ اعلم ، انّ جميع الأشياء من الّذوات النّوريّة الملكيّة والظّلمانيّة الطّبيعيّة والشّيطانيّة آثار صنعه تعالى ودوالّ وحدته وعلمه وقدرته ومظاهر جوده ولطفه وقهره ، وهي بهذا الاعتبار أسماؤه ولا حكم لها ولا اسم ولا رسم وليست مسمّيات وهي بهذا الاعتبار قضاؤه ؛ والرّضا بها واجب وعبادتها عبادة الله ومحبّتها محبّة الله لأنّها غير منظورات ولا مقصودات بهذا الاعتبار ، وإذا جعلت منظورا إليها ومحكوما عليها ومسمّيات بأسمائها الخاصّة كانت بهذا الاعتبار مقابلات له تعالى وثواني ولم تكن دوالّ ذاته وعلمه وقدرته بل كانت حينئذ مدلولات ومسمّيات ومقضيّات ، والنّظر إليها وعبادتها والرّضا بها كفر وشرك والنّاظر ملوم ومذموم ، وبهذا الاعتبار ورد : الرّضا بالكفر كفر. ثمّ اعلم ، انّ الإنسان ما لم يخرج من بيت نفسه ولم يهاجر الى رسول صدره ولم يتوجّه الى نبىّ قلبه بإعانة ولىّ امره لا يمكن له النّظر الى الأشياء من حيث انّها دوالّ ذاته تعالى بل لا يرى في الوجود الّا الأشياء المتكثّرة المقابلة للوحدة مستقلّات مدلولات مسمّيات وان كانت بحسب الواقع ونفس


الأمر متعلّقات صرفة غير مستقلّات لا حكم لها أصلا ، لكنّها في نظر هذا المتوطّن في بيت نفسه وبلد طبعه لا شأن لها الّا المباينة والاستقلال وعدم التّعلّق والدّلالة على شيء ، لكنّه لمّا كان مأمورا بالخروج من هذا البيت وحجّ بيت الله القلب والطّوف به بل الاقامة عنده ثمّ الوصول الى ربّه والحضور لديه ، ولا يمكنه الخروج الّا بإعانة معاون خارجىّ ورفاقة رفيق بشرىّ وكلّما فرض معاونا له ليس في نظره الّا محكوما عليه ومستقلّا ومسمّى غير دالّ على الله وغير اسم له ، جعل الله تعالى له معاونا يعينه على خروجه وامره باتّباعه ونصب له حجّة على جواز النّظر اليه والأخذ منه والتّضرّع لديه وان كان في نظره مسمّى ومحكوما عليه ومستقلّا ، فكونه مطاعا ومتبوعا ومعبودا عبادة الطّاعة مع كونه ثانيا لله ومقابلا ومسمّى ومحكوما عليه في نظره ممّا انزل الله به حجّة وسلطانا وليس النّاظر اليه مذموما وملوما ولا كافرا ومشركا ، إذا علمت ذلك فمعنى الآية لا ينبغي لكم المجادلة مع الرّسول في تصحيح أسماء لا حكم لها وليست مسمّيات ومستقلّات بل متعلّقات صرفة وروابط محضة جعلتموها أنتم وآباؤكم مسمّيات بمقتضى وقوفكم في رساتيق أنفسكم ، والحال انّها (ما نَزَّلَ اللهُ بِها) اى معها أو فيها أو بسببها (مِنْ سُلْطانٍ) اى سلطنة أو حجّة وبرهان من هذه الحيثيّة اى كونها مسمّيات ومنظورا حتّى يرفع اللّوم عنكم ويتبدّل شرككم بالنّظر الى حجّة بالتّوحيد بوجه ما (فَانْتَظِرُوا) امر الله في حقّكم وحقّى (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ) آمنوا (مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) التّقييد به تنبيه على انّه لا يجوز لأحد النّظر الى عمله والاتّكال عليه ، فانّ العمل ليس له الّا اعداد القابل للقبول وامّا فعل الفاعل فغير مسبّب عنه كما مرّ مرارا (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) تكليفا (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) تكوينا أو كلاهما عامّان أو خاصّان بمعنى واحد ، والثّانى تأكيد للاوّل ومعنى قطع الدّابر الاستيصال وعدم بقاء عقب لهم ، وورد انّ هودا (ع) وصالحا (ع) وشعيبا (ع) واسمعيل (ع) ونبيّنا (ص) كانوا يتكلّمون بالعربيّة (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) ثمود اسم قبيلة مسمّاة باسم أبيهم ثمود من أولاد سام بن نوح (ع) وصالح (ع) كان من أولاده ، أو ثمود اسم قرية صغيرة على ساحل البحر لا تكمل أربعين بيتا كما في الخبر (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) هذه ناقة الله مبتدء وخبر مستأنف لبيان البيّنة ولكم حال عن ناقة الله ، أو عن آية ، أو خبر بعد خبر ، وآية حال مترادفة ، أو متداخلة ، أو منفردة ، أو ناقة الله بدل من هذه ، أو عطف بيان ولكم خبر وآية حال من المستتر فيه (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا) تذكير للنّعم بعد التّهديد من النّقم (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ) الّتى هي خزنتها (بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تعميم بعد تخصيص (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) دينا أو مالا أو حالا أو جسما (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من قوله تعالى للّذين بدل الكلّ ان كان المراد الاستضعاف في الدّين والطّريقة ، أو بدل البعض ان كان المراد مطلق الاستضعاف (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) استهزؤا بهم (قالُوا) في جوابهم من غير مبالاة باستهزائهم زائدا على الجواب الّذى هو الإقرار برسالته بالانقياد لما أرسل به والطّاعة له (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا


بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) بتحريك بعضهم ورضا بعض وعقر بعض (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) على لسان صالح وهو قوله فذروها تأكل في ارض الله أو عن مطلق امره على لسان نبيّه ولم يطيعوه في شيء منه ، أو عن امر ربّهم الّذى هو العقل وحكمه فانّه امر تكوينىّ (وَقالُوا) تجرّيا على الرّبّ ورسوله (يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزّلزلة ولا ينافيها قوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) كما في سورتي هود والحجر لانّ الزّلزلة كانت مسبّبة عن الصّيحة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ملزقين بالأرض والجثوم اللّزوم بالمكان (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) بعد ما ابصرهم صرعى ، والإتيان بالمضارع في قوله (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) لتصوير المضىّ حالا إحضارا له واشارة الى انّ هذا كان ديدنهم كأنّه لا ينفكّ عنهم حتّى بعد الموت ، أو المعنى فتولّى عنهم بعد إتمام الحجّة عليهم والإتيان به مصدّرا بالفاء بعد ذكر إهلاكهم لانّه تفصيل لسبب الإهلاك ومن قبيل عطف التّفصيل على الإجمال (وَقالَ) تحسّرا أو تبرّيا (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) قصّة صالح وناقته وكيفيّة خروجها باقتراحهم عن الجبل ومتاركته مع قومه وكيفيّة عقر النّاقة وإهلاكهم مذكورة في المفصّلات (وَلُوطاً) عطف على نوحا ولوط (ع) كان ابن خالة إبراهيم (ع) وكانت سارة زوجة إبراهيم (ع) أخت لوط وخرج إبراهيم (ع) من بلاد نمرود الى الشّام ومعه لوط وسارة وخلّف لوطا بأدنى الشّامات للدّعوة وذهب هو الى أعلى الشّامات (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) في الدّعوة والمعاشرة لا في النّسب والملّة (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) المعهودة وهي إتيان الرّجال والاعراض عن النّساء (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) صرّح بما كنّى عنه اوّلا تفضيحا وتوبيخا ولذلك أتى به مؤكّدا بتوكيدات توكيدا للتّوبيخ (مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) يعنى لستم عادلين بل أنتم قوم مسرفون ، فهو من قبيل العطف باعتبار المعنى (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) يعنى ما كان لهم جواب يصلح لمقابلة محاجّته ونصحه ولذا عدلوا عن المحاجّة اللّسانيّة الى المغالبة القالبيّة وعلّلوه بما هو دليل صحّة نصحه ، فقالوا (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) من الفواحش وأمثال أفعالنا (فَأَنْجَيْناهُ) بعد إتمام الحجّة عليهم (وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) فانّها كانت تسرّ الكفر وتوالى أهل القرية (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) عجيبا وهو امطار الحجر (فَانْظُرْ) يا محمّد (ص) أو يا من يمكن منه النّظر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) في الخبر انّ لوطا (ع) لبث في قومه ثلاثين سنة وكان نازلا فيهم ولم يكن منهم يدعوهم الى الله وينهاهم عن الفواحش ويحثّهم على الطّاعة ، فلم يجيبوه ولم يطيعوه وكانوا لا يتطهّرون من الجنابة بخلاء اشحّاء على الطّعام فاعقبهم البخل الدّاء الّذى لا دواء له في فروجهم ، وذلك انّهم كانوا على طريق السّيّارة الى الشّام ومصر وكان ينزل بهم الضّيفان فدعاهم البخل الى ان كانوا إذا نزل بهم الضّيف فضحوه ، وانّما فعلوا ذلك لينكل النّازلة عليهم من غير شهوة لهم الى ذلك فأوردهم البخل هذا الدّاء حتّى صاروا يطلبونه من الرّجال ويعطون عليه الجعل ، وكان لوط (ع) سخيّا كريما يقري الضّيف إذا نزل بهم فنهوه عن ذلك ، فقالوا لا تقر ضيفانا تنزل بك فانّك ان فعلت فضحنا ضيفك فكان لوط (ع) إذا نزل


به الضّيف كتم امره مخافة ان يفضحه قومه وذلك انّه لم يكن للوط (ع) عشيرة فيهم (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) نقل انّهم كانوا أولاد مدين بن إبراهيم (ع) وشعيب كان منهم وسمّوا باسم جدّهم وسمّيت قريتهم به أيضا وهي لا تكمل أربعين بيتا (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) والبيّنة هي محاجّته الواضحة الّتى لا يمكنهم ردّها لانّها كانت ممّا يرتضيها كلّ ذي شعور خال عن اللّجاج ، فانّ معرفة الرّسول برسالته اولى من معرفته بالمعجزة أو معجزة كانت له مثل معجزة صالح ولكن لم تذكر لنا (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) يعنى بعد إتيان البيّنة لا عذر لكم في عدم قبول قولي فتقبّلوه وأوفوا الكيل والميزان والإيفاء أداء تمام ما حقّه ان يؤدّى والمراد إيفاء ما يتقدّر بالكيل والوزن نسب إليهما لاستلزام نقصان المكيل نقصان الكيل وكذا الموزون وما يوزن به كما نسب النّقص إليهما في محلّ أخر ، ولا يخفى عليك تعميم الكيل والميزان للمحسوس منها وغيره من الأنبياء والأولياء وأخلاقهما وسننهما وآدابهما ومن الكتب السّماويّة والشّرائع الالهيّة ، وهكذا التّعميم في العالم الكبير والصّغير (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) امّا تأكيد لايفاء الكيل والميزان على ان يكون المراد بالأشياء هي المكيلات والموزونات أو يكون المراد بالمكيل والموزون هو مطلق الأشياء بناء على تعميم الكيل والميزان ، فانّه ما من شيء جسمانىّ أو غير جسمانىّ الّا يمكن فيه تحديد أو تعميم بعد تخصيص على ان يكون المراد بالمكيل والموزون المتقدّرين بالآلة المخصوصة ، أو تأسيس وتفصيل مع سابقه لكيفيّة المعاشرة على ان يكون المراد ببخس النّاس أشياءهم أخذ الزّيادة عن الحقّ منهم ، أو تخصيص بعد تعميم بناء على تعميم الكيل والوزن حتّى يكون اعمّ من المعاملة مع النّاس ومن المعاملة مع الله ويكون شاملا لجميع الأشياء وتخصيص البخس بالنّاس أو بينهما عموم من وجه بناء على تخصيص الكيل والميزان بما يتقدّر بهما سواء كان المعاملة مع الله أو مع النّاس وتعميم الأشياء وتخصيص البخس بالنّاس (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) تعميم بعد تخصيص كسابقه أو تأسيس على ان يكون المراد بالإفساد اهراق الدّماء وإلقاء العداوة بين العباد والأسر والنّهب والتّعدّى عليهم ومنع جميع الحقوق من أهلها واعطائها لغير أهلها ، أو على ان يكون المراد بالإفساد هو منع العباد من طريق الآخرة وهو طريق الولاية فيكون قوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) تفسيرا له ، والمراد بالأرض اعمّ من ارض العالم الصّغير والعالم الكبير (بَعْدَ إِصْلاحِها) بالعقل في الصّغير وبالأنبياء وأوصيائهم في الكبير ، والمراد بهذا القيد بيان انّ الواقع هكذا والاشعار بغاية قبح الإفساد لا التّقييد به (ذلِكُمْ) المذكور من الإيفاء وترك البخس والإفساد (خَيْرٌ لَكُمْ) ممّا تزعمونه خيرا من جلب النّفع بالتّطفيف والإفساد ، أو المراد مطلق الفضل لا التّفضيل فانّه كثيرا ما يستعمل من غير ارادة التّفضيل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معتقدين بالله والآخرة شرط تهييج بناء على كون ايمانهم بالله مقطوعا به للمتكلّم والمخاطب بحسب إقرارهم ، أو شرط تقييد بناء على كونه مشكوكا فيه أو منزّلا منزلة المشكوك سواء قدّر الجزاء موافقا لاوفوا (الى آخره) أو موافقا لقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) وعلى التّقييد يكون بمفهومه تهديدا لهم يعنى ان لم تكونوا مؤمنين فافعلوا ما شئتم أو فليس ذلكم خيرا لكم بل لم يكن حينئذ فرق بينه وبين ضدّه لكم (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) اخّره عن قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) اشارة الى عدم تسويته مع ما سبق في القبح وانّه لا يتصوّر فيه خير


نفسانىّ أيضا وانّه أقبح الأشياء للمؤمنين وغيره ، وقيل في نزوله : انّهم كانوا يقعدون في الطّريق يتوعّدون من أراد شعيبا ومن آمن به ويلقون الشّبهات على الخلق بإظهار اعوجاج دينه واختلال طريقه كما كان ديدن الخلق كذلك قديما وجديدا خصوصا في زماننا هذا ، أو المقصود نهيهم من القعود في طرق النّفوس كالشّيطان وصدّ سبيلهم الى الله والى خلفائه (وَتَصُدُّونَ) عطف على توعدون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) اى بالله يعنى تصدّون من أيقن بالله عن سبيل الله الّتى هي قبول النّبوّة بالبيعة العامّة أو تصدّون من آمن بالله بقبول الدّعوة العامّة وبالبيعة النّبويّة عن سبيل الله الّتى هي قبول الولاية بالبيعة الخاصّة (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) تطلبون لسبيل الله اعوجاجا حتّى تظهروه على الخلق وتصدّونهم عنها أو تبغونها من حيث عوجها أو تبغونها حالكونها معوجّة يعنى ان كانت معوّجة تطلبونها بخلاف ما إذا كانت مستقيمة لاعوجاجكم (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) بعد ما أمرهم ونهاهم بضدّ فعلهم ذكّرهم نعمة الله الّتى هم فيها من البركة في النّسل أو في المال ليكسر به سورة غضبهم حتّى يستعدّوا لقبول نصحه بتذكّر النّعمة وشكرها (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ذكّرهم النّعمة الّتى هي اثر رحمته تعالى والنّقمة اللّاحقة لأمثالهم بسبب الإفساد الّتى هي اثر غضبه جمعا بين اللّطف والقهر والتّبشير والإنذار كما هو وظيفة الدّعوة والنّصح (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) الإتيان بأداة الشّكّ امّا للتّجاهل أو لشكّ المخاطب (فَاصْبِرُوا) فانتظروا ، الخطاب لمجموع الطّائفتين وعدا للمؤمنين ووعيدا للكافرين (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) امّا في الدّنيا بنصرة المحقّ على المبطل أو في الآخرة بأنعام المحقّ والانتقام من المبطل.

الجزء التّاسع

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) بعد العجز عن المحاجّة والحجّة أجابوه بالتّخويف كما هو شأن أهل الزّمان من المبادرة الى التّهديد بالقتل ونحوه عند العجز عن الحجّة (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) لمّا كان اعتقادهم انّ شعيبا كان على ملّتهم ثمّ خرج منها وادّعى النّبوّة إعزازا لنفسه قالوا : لتعودنّ ، أو كان (ع) قبل التّكليف مستنّا بظاهر سننهم ثمّ خرج منها حين الرّشد أو حين إظهار النّبوّة أو غلّب جانب اتباعه في اطلاق العود ، عليه أو العود بمعنى الصيرورة من الأفعال النّاقصة ، وعلى اىّ تقدير لا يلزم منه ان يكون (ع) على ملّة باطلة حتّى يرد انّ الأنبياء (ع) معصومون عن الخطاء والشّرك (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) تعيدوننا في ملّتكم يعنى انّ الدّخول في الملّة حقيقة لا يكون الّا عن اعتقاد بصحّتها ، ولا يقع الاعتقاد بصحّة ملّة الّا من حجّة ، ولا حجّة لكم على صحّتها بل لي الحجّة على بطلانها فكيف يتصوّر لي الدّخول في ملّتكم مع كراهتي للدّخول فيها (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً) مصدر تأكيدىّ أو الكلام مبتن على تجريد الافتراء من مفهوم الكذب (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) يعنى ان عدنا في ملّتكم يلزمنا الافتراء على الله وهو الّذى افرّ منه واذمّكم عليه ، ولزوم الافتراء امّا باعتبار ادّعاء النّبوّة من الله ، أو باعتبار تصحيح ملّتهم مع انّها عند الله باطلة ، أو باعتبار ابطال ملّتهم قبل العود فانّه يلزم عند العود


فيها افتراء ابطالها ، أو باعتبار ابطال ملّته بعد الدّخول أو باعتبار الكلّ (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) وفي إتيان نجّينا دون أخرجنا دلالة على انّه (ع) لم يكن على ملّتهم ، ولمّا كان المفهوم من قولهم (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بحسب المقام تهديدهم بإجبار العود لم يكتف في الجواب بقوله (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) وأتى بما يدلّ على انّهم لا يقدرون على الإجبار الّا إذا شاء الله ليكون ردّا عليهم وإظهارا لدعوى التّوحيد بوجه آخر فقال (وَما يَكُونُ لَنا) يعنى ما يمكن لنا فلا يمكن لكم إجبارنا أيضا (أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) التّوصيف للاشارة الى انّ له التّصرّف والتّعريض بعدم جواز تصرّف الكفّار في وجودهم ليصير كالعلّة لتعلّق العود على المشيّة (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) كرّر ربّنا لازدياد تمكّن ربوبيّته والجملة امّا حال من الله أو مستأنفة جوابا لسؤال محتمل أو للمدح (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) وضع الظّاهر موضع المضمر تمكينا له بالالهيّة في النّفوس واشعارا بعلّة الحكم (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) التجأ الى الله واستغاث منه بعد ما حاجّ قومه وأجابهم بما أجابهم ولم ينجع فيهم ، والفتح بمعنى القضاء أو بمعنى الفصل أو من الفتح الّذى يستعمل في الأمور الصّعبة (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) في الدّنيا بعدم عزّتكم في الخلق وعدم حسن معاشرتهم معكم ، وفي الآخرة باستحقاقكم العذاب لضلالتكم وعدم شفيع لكم لانحرافكم عن الأصنام وأمثالها ، وعن السّيرة الّتى شاهدناها من آبائنا وكنّا عليها واعتدناها وما تضرّر نابها (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزّلزلة ولا ينافي هذا ما في سورة هود من قوله تعالى وأخذت الّذين ظلموا الصّيحة في حقّ قوم شعيب لانّ الزّلزلة قلّما تنفكّ عن الصّيحة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) جثم الإنسان من باب ضرب ونصر لزم مكانه فلم يبرح أو وقع على صدره أو تلبّد بالأرض (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) اى في الدّار سواء أريد منها القرية أو الدّور ، والمعنى المنزل ووضع الموصول موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وذمّا لهم بهذا الوصف وتمكينا له في الأذهان ليكون عبرة ولذلك كرّره وقال (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) وهو ردّ لقولهم (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ولكونه ردّا عليهم جاء بضمير الفصل للاشارة الى الحصر الاضافىّ (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) بعد إهلاكهم أو قبل إهلاكهم ، وإتيان الفاء للتّرتيب في الاخبار لا في التّحقّق (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) اى كيف احزن عليهم لهلاكهم مع كفرهم أو كيف أدعو لهم ولا ادعو عليهم (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ) البأساء الشّدّة والفقر والشدّة في الحرب (وَالضَّرَّاءِ) في الأموال والأنفس (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) اعلم ، انّ المانع من قبول النّبوّة والانقياد تحت احكام القالب وكذا من قبول الولاية والانقياد تحت احكام القلب هو استبداد الإنسان بالرّأى واستقلاله في الأمر وظنّ عدم احتياجه الى غيره ، وكلّ ذلك من صفات النّفس والخيال ، وهذه هي المانعة من ظهور حقّيّة المحقّ وبطلان المبطل ، ولمّا كان تماميّة الدّعوة بوجود الدّاعى ودعوته واستعداد القابل واستحقاقه وانتفاء المانع ومنعه فاذا أراد الله تعالى


هداية قوم ودعوتهم الى الحقّ ، سواء كان ذلك في العالم الكبير أو الصّغير بعث إليهم من يدعوهم اليه ليتحقّق الدّعوة وأخذ المدعوّين بالبأساء والضّراء ، ليستعدّوا بذلك ويرتفع المانع من قبول دعوة الدّاعى والحاجب من ظهور حقّيّته وليتضرّعوا ويلتجؤا بترك الاستبداد والانانيّة حتّى يستحقّوا بذلك رحمة الله وقبول دعوة الدّاعى (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) يعنى عادتنا الابتلاء تارة بالسّيّئات وتارة بالحسنات ليتمّ حجّتنا ودعوتنا ولم نجعلهم مسلوبي الاختيار في قبول الدّعوة فانّه في إجبارهم لا يحصل المطلوب من امتياز السّعيد عن الشّقىّ وعمارة الدّارين (حَتَّى عَفَوْا) محوا عن قلوبهم آثار البأساء والضّرّاء وألمهما أو محوا تضرّعهم والتجاءهم أو زادوا في المال والأولاد أو زادوا في العلم فبطروا (وَقالُوا) حالا أو قالا (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) يعنى انّ الضّرّاء والسّراء من عادة الدّهر قالوا ذلك للتّلويح بانّه لا ينبغي ترك التّمتّع ولا الالتجاء والتّضرّع (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) من غير تقديم أمارات (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لعدم تقدّم الأمارات (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) قرى العالم الكبير أو قرى العالم الصّغير (آمَنُوا) بالبيعة العامّة (وَاتَّقَوْا) بالبيعة الخاصّة فانّ التّقوى الحقيقيّة لا يمكن حصولها الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة ، لانّ حقيقة التّقوى كما سبق هي التّحرّز عن الطّريق الحقيقيّة لا يمكن حصولها الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة ، لانّ حقيقة التّقوى كما سبق هي التّحرّز عن الطّريق المعوجّة النّفس الّتى توصّل السّالك الى الملكوت السّفلى ، وبعبارة أخرى هي التّحرّز عن السّلوك الى الملكوت السّلفى ودار الجنّة ولا يمكن ذلك التّحرّز الّا بامتياز الطّريق المستقيم الّذى يوصل سالكه الى الملكوت العليا وسلوك ذلك الطّريق ، ولا يحصل الامتياز الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة لانّ بها انفتاح باب القلب الى الملكوت العليا وظهور طريقه إليها الّذى هو الطّريق المستقيم ، وللاشارة الى هذا المعنى أخّر التّقوى هاهنا عن الايمان وان كانت بمعنى آخر مقدّمة على الايمان ، أو المعنى ، لو انّ أهل القرى آمنوا بالايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة واتّقوا ما ينافي ايمانه الدّاخل في قلبه من الفعليّة الحاصلة في قلب المؤمن من قبول الولاية ومن الذّكر المأخوذ من صاحبه ومن الفكر الحاصل من مداومة الذكّر الّذى هو ملكوت الامام وصورته المثاليّة الّتى تظهر على قلب المؤمن السّالك ويشاهدها في مرآة صدره ؛ هذا في الكبير ، وامّا في الصّغير فالمعنى لو انّ أهل القرى آمنوا وأذعنوا بحكومة العقل ولا سيّما العقل المنقاد لولىّ الأمر وأطاعوه في حكومته واتّقوا من مخالفة احكامه (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) اعلم ، انّ الإنسان بحسب التّحليل الاوّل ينحلّ الى جزء روحانىّ سماوىّ وجزء جسمانىّ ارضىّ ، وله بحسب كلّ جزء حاجات وطلبات وملائمات ومنافرات وهما اللّتان يعبّر عنهما بالخيرات والشّرور ، والبركة هي الزّيادة والكثرة في الخيرات فاذا آمن الإنسان وانقاد لكثر خيراته الجسمانيّة الحاصلة من الأرض وخيراته الرّوحانيّة الحاصلة من السّماء ، وأيضا كثر خيراته الرّوحانيّة والجسمانيّة من اعتناق سماوات الطّبع مع ارض الطّبع ، ومن اعتناق سماوات الأرواح مع أراضي الأشباح النّوريّة والظّلمانيّة ذلك تقدير العزيز العليم (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرّسل (ع) وأوصياءهم (ع) والعقل وحكمه (فَأَخَذْناهُمْ) اى عاقبناهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من نتائج أعمالهم وتكذيبهم (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) امّا بتقدير معطوف بين الهمزة والفاء اى الم يؤمنوا بعد ذلك فأمنوا ، أو هو على التّقديم والتّأخير معطوف على أخذناهم بتقدير القول والتّقدير فيقال بعد ذلك : أأمن أهل القرى (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) والمقصود من أهل القرى المكّذبون لمحمّد (ص) والواقفون من الايمان به (أَوَأَمِنَ


أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) وقت ارتفاع الشّمس (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) لمّا كان المقام مقام التّهديد كرّر أهل القرى ولفظ بأسنا جريا على ما عليه العرف في المخاطبات فانّهم كثيرا ما يكرّرون الألفاظ من شدّة الغيظ أو لتمكين التّهديد (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) أتى بالفاء لتفاوت ما بين البأس حين الغفلة والمكر بخلاف بأس اللّيل وبأس الضّحى ، فانّ إتيان عذاب الله امّا مع تقدّم أمارات له أو من غير تقدّم أمارات وهو البأس بغتة حين النّوم أو حين اللّعب أو مع تقدّم أمارات ضدّه وهو المسمّى بالاستدراج والمكر لشباهته بمكر المخلوق (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) بنقص عقولهم الّتى هي بضاعتهم فانّ العاقل حين تجدّد النّعمة يحتمل النّقمة بالنّعمة فيخاف عاقبتها بخلاف الجاهل فانّ نظره الى صورة النّعمة لا يتجاوزها الى احتمال اندراج النّقمة فيها (أَوَلَمْ يَهْدِ) قرئ بالنّون وبالغيبة وعلى هذا القراءة فالفاعل ضمير المصدر اى الم يقع الهدى أو ضمير أخذ المكّذبين بما كانوا يكسبون ، أو الفاعل قوله ان لو نشاء أصبناهم يعنى الم يهد قدرتنا على الاصباة ان شئنا ، بمعنى علمهم بقدرتنا من ملاحظة حال الماضين (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) اللّام للتّقوية أو لتضمين يهد معنى يبيّن اى الم يبيّن للّذين يرثون الأرض (مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أو من بعد إهلاكنا أهل الأرض (أَنْ لَوْ نَشاءُ) اى انّه لو نشاء وهو مفعول ثان ليهد أو فاعل كما ذكر (أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كما سمعوا وشاهدوا من الماضين (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) عطف على أصبناهم أو على الم يهد فانّ الاستفهام التّوبيخيّ يقرّر ما بعده نفيا كان أو اثباتا كأنّه قيل: ما يهتدون الى طريق الآخرة والتّوحيد ونطبع أو هو مستأنف بمعنى ولكن نطبع على قلوبهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الخبر (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) بعض انبائها (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) استخدام في الضّمير أو المراد بالقرى أهلها مجازا (بِالْبَيِّناتِ) بأحكام الرّسالات أو الحجج والمعجزات الواضحات (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) دخول كان في مثله لتأكيد النّفى (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) من احكام العقل والنّبوّة التّكوينيّة ، فانّ من انقاد للعقل قبل ظهور دعوة النّبىّ يقبل دعوة النّبىّ ومن كذّب العقل يكّذب النّبىّ لا محالة لانّ النّبىّ عقل بوجه والعقل نبىّ بوجه ، أو بما كذّبوا في الّذرّ كما في الاخبار ، وبعد التّحقيق يرجع التّكذيب في الّذرّ والتّكذيب بالعقل الى امر واحد (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) يعنى كما طبع الله على قلوب أهل هذه القرى حتّى لا يؤمنوا مع ظهور الحقّ يطبع الله على قلوب جملة الكافرين (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) بمنزلة التّعليل للطّبع والمراد بالعهد هو العهد مع النّبىّ (ص) أو الولىّ وبعبارة اخرى هو عقد الإسلام أو الايمان ، أو المراد بالعهد هو الفعليّة الحاصلة من عقد البيعة يعنى ما عاهدوا أو عاهدوا وأبطلوا ؛ ولا ينافي ذلك ما ورد في الاخبار من تفسير العهد بوفاء العهد الحاصل في الّذرّ فانّ المراد بالوفاء بالعهد في الّذرّ هو قبول النّبوّة أو الولاية (وَإِنْ وَجَدْنا) انّه وجدنا (أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) خارجين من حكومة العقل ، فانّ الفسق هو الخروج من تحت حكم الله سواء كان على لسان النّبىّ الخارجىّ أو الباطنىّ وبعد تفسير العهد بما ذكر فالاولى تفسيره بالخروج من حكومة النّبىّ الباطنىّ موافقا لما سبق في تفسير قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا) التّسع (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ


فَظَلَمُوا بِها) يعنى ظلموها لانّهم وضعوا موضع الإقرار بما ينبغي الإقرار به لوضوحه وظهوره الكفر به ، ولذا بدلّ الكفر بالظّلم وعدّاه بالباء على تضمين معنى الكفر ، أو مثل معنى الإلصاق ، أو ظلموا موسى بسبب الآيات الّتى هي أسباب الطّاعة فيكون اشارة الى نهاية وقاحتهم وظلمهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من إغراق فرعون وملائه وإهلاك الأمم السّابقة بما اهلكوا به (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) إليكم (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) كان القياس ان يجعل ان لا أقول على الله الّا الحقّ مرفوعا بحقيق ويجعل مدخول على هو المتكلّم كما قرئ به ، لكنّه قلب مجازا للمبالغة في الصّدق كأنّه امر متجوهر والمتكلّم من أوصافه ، أو للاشارة الى ما هو حقيقة الأمر من اصالة الوجود واعتباريّة المهيّات فانّ الإنسان على المذهب الحقّ نحو من الوجود متحدّد بالحدود المتعيّنة ووصفات الوجود متّحدة معه والتّغاير في مفهومها فقط ، والحدود أمور اعتباريّة عدميّة لا حقيقة لها والوجودات الامكانيّة لا استقلال لها ولا انانيّة بل هي متعلّقات محضة وفقراء الى الله والله هو الغنىّ ، والانانيّة الّتى هي عبارة عن الاستقلال انّما هي باعتبار الحدود العدميّة فهي من اعتبارات الإنسان وتابعة لحقيقته لا انّها حقيقته فهي تابعة لصدقه الّذى هو حقيقته ، فصحّ ان يقال انا حقيق على الصّدق بهذا الاعتبار كما يصحّ ان يقال حقيق ان لا أقول على الله الّا الحقّ علىّ بتشديد الياء باعتبار ملاحظة مفهومى الانانيّة والصّدق وبهذا الاعتبار قيل : حقّ القضايا الّتى تنعقد بين الممكنات ان يجعل الموضوع نحوا من الوجود والمحمول مهيّة من المهيّات فيقال : الوجود إنسان مثلا ، لانّ الانسانيّة الّتى هي عبارة عن حدّ الوجود عرض تابع للوجود والوجود متبوع ، وقيل فيه بتضمين حقيق معنى حريص وكون على بمعنى الباء وغير ذلك من الوجوه ، وقرئ بوجوه أخر غير ما ذكر أيضا ، ولمّا كانت الدّعاوى العظيمة من شأنها ان لا يسامح فيها ولا تسمع الّا ببيّنة وشاهد بادر إليها قبل مطالبتها فقال (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فاقبلوا قولي ولا تخالفوا (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ولمّا كان صحّة الدّعوى وسقمها منوطة بالبيّنة طالبها منه ولم يتعرّض لغيرها (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) اى من خواصّهم خطابا للملأ الاخرى حوله من غير الخواصّ ولعلّ فرعون شاركهم في هذا القول بقرينة قوله (فَما ذا تَأْمُرُونَ) فلا ينافيه ما في الشّعراء من قوله تعالى : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) ويحتمل ان يكون قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) مستأنفا من فرعون وان يكون هذا مع ما في الشّعراء في مجلسين (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) وتشيرون (قالُوا) قالت الخواصّ أو الملأ حوله غير الخواصّ (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) من الارجاء بمعنى التّأخير يعنى أخّر أمرهما حتّى يمكن لك التّدبير ، قرئ ارجئه على الأصل بسكون الهمزة وضمّ الهاء ، وارجئه بسكون الهمزة وكسر الهاء على خلاف القياس ، وارجهى من أرجيت بكسر الهاء مع الإشباع ، وارجه بكسر الهاء بدون الإشباع وارجه بسكون الهاء مع الإشباع وارجه بكسر الهاء بدون الإشباع وارجه بسكون الهاء ، تشبيها له بالواو والياء الضّمير من كما قيل ، أو تشبيها لهاء الضّمير بهاء السّكت أو اجراء للوصل مجرى الوقف (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) يعنى فأرسل وحشروا


وجاؤا فرعون (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) وقرئ بهمز واحد على المعاهدة والميثاق (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) يعنى ابتداء (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) خيّروه إظهارا للأدب أو الجلادة وعدم المبالاة بما يقابل سحرهم ، لكن لرغبتهم في الإلقاء ابتداء غيّروا النّظم واكّدوا الجملة وان ذكروا القاءهم مؤخّرا جلادة أو مراعاة للأدب (قالَ أَلْقُوا) قدّمهم على نفسه كرما ومقابلة لادبهم بترجيحهم على نفسه وقلّة مبالاة بسحرهم (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) السّحر يقال لكلّ علم وعمل خفىّ مدركه ومأخذه سواء كان بتمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة أو بالتّصرّف في القوى الطّبيعيّة فقط ، ويقال لتمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة واحداث آثار خارجة عن مجرى العادة ومنه التّصرّف في المدارك البشريّة بحيث يرى ويسمع ما لا حقيقة له ، وكأنّهم سحروا بتسخير الرّوحانيات الخبيثة وتمزيجها مع القوى الطّبيعيّة واحداث آثار خارجة عن العادة ولذا قال سحروا أعين النّاس ، فما نقل : أنهم القوا حبالا وعصيّا مجوّفة مملّوة من الزيبق ؛ ان كان صحيحا كان أحد جزئي سحرهم من القوى الطّبيعيّة والّا لم يكن لنسبة السّحر الى أعين النّاس حينئذ وجه (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) نقل انّ السّاحة الّتى القوا سحرهم فيها كانت ميلا في ميل وملئوا الوادي من الحبال والخشب الطّوال المتحرّكة كأنّها أفاع عظيمة ولذلك أوجس في نفسه خيفة موسى (ع) (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ) حية (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) من الافك بمعنى الصّرف وقلب الشّيء عن وجهه نقل ، انّها لمّا تلقفت حبالهم وعصيّهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتّى هلك جمع كثير منهم ، ثمّ أخذها موسى (ع) فصارت عصا فأيقن السّحرة انّها لو لم تكن الهيّة لبقي حبالهم وعصيّهم واعترفوا برسالة موسى (ع) ونقل ، انّهم قبل الموعد آمنوا بموسى (ع) خفية وأظهروا ايمانهم يوم الموعد (فَوَقَعَ الْحَقُ) اى ثبت (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا) اى قوم فرعون والسّحرة جميعا أو قوم فرعون (هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) كأنّهم ألقاهم ملق من شدّة اضطرابهم كأنّه لم يبق لهم تماسك (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بيّنوا المجمل بالابدال منه (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) اى مدينة مصر (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) المالكين لها المتصرّفين فيها وهم القبطيّة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد لهم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اليد من جانب والرّجل من جانب آخر (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) تعذيبا وتفضيحا لكم وعبرة لغيركم توعيد وتغليظ (قالُوا) إظهارا لعدم مبالاتهم بتوعيده (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) فالموت والقتل كان خيرا لنا فتهديك بالقتل بشارة لنا لا تهديد كما زعمت ، وفي قولهم : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ؛ اشارة الى هذا ، أو المقصود انّا نحن وأنتم الى ربّنا منقلبون آخر الأمر فيجازى كلّا بحسب عمله وفي قولهم (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) اشعار بهذا المعنى يعنى نحن وأنتم راجعون الى الله والحال انّ انتقامكم منّا ليس الّا بسبب ايماننا بربّنا فأنتم اولى بالخوف منّا فيكون تهديدا لهم ، ولمّا أظهروا عدم مبالاتهم بتهديده خافوا من عدم ثباتهم وصبرهم على القطع والصّلب فتضرّعوا الى الله تعالى


واستغاثوا وقالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) عظيما ولذلك قالوا افرغ اشارة الى كثرته تشبيها له بالماء الكثير ونكرّوا صبرا (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) لنبيّك مسلمين لقضائك ، نقل انّه فعل بهم ما أوعدهم ونقل ، انّه لم يتيسّر له (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) بعد ظهور امر موسى (ع) وقوّته لفرعون (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ارض مصر بتغيير الخلق ودعائهم الى مخالفتك وترك دينك وترك العبادة لك (وَيَذَرَكَ) اى عبادتك أو سلطنتك (وَآلِهَتَكَ) أصنامك الّتى تعبدها أو الأصنام الّتى صنعتها لان يعبدوها ليتقرّبوا بها إليك كما قيل : انّه صنع لهم أصناما ليعبدوها للتّقرّب اليه ، وقرئ والهتك مصدرا بمعنى عبادتك (قالَ) جوابا لهم (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) قاله إظهارا لتسلّطه وتسكينا لقومه مع خوفه من موسى (ع) ولمّا وصل ذلك الخبر الى موسى (ع) وقومه ورأى فزعهم من تهديده (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) تسلية لهم ووعدا (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) بالتّضرّع عليه والالتجاء اليه (وَاصْبِرُوا) على يسير أذاه (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) في موضع التّعليل (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) لا لفرعون وقومه حتّى يفعلوا فيها ما يشاؤن فالتجئوا اليه واسئلوا منه وخافوا منه لا من غيره (وَالْعاقِبَةُ) الحسنى الّتى هي الآخرة ودار الكرامة (لِلْمُتَّقِينَ) الجزع عند الشّدائد ، وعد وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتسليطهم على مصرفى الدّنيا ومن الجنان في الآخرة (قالُوا) تضجّرا بوعده وعدم إنجازه (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) متسلّين بوعد مجيئك (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) فبم نتسلّى بعد مجيئك (قالَ) بعد تضجّرهم بوعده (عَسى رَبُّكُمْ) أتى بكلمة التّرجّى وصرّح بهم بعد ما وعدهم بالقطع وعرّض بهم خوفا من إنكارهم وردّهم وتسلية لهم تصريحا (أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ارض مصر (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) السّنة غلبت على عام القحط ولذا أطلق السّنين (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) بعاهات اخرى غير الجذب (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) انّ الخصب والسّعة بقدرة الله لا باختيارهم فيؤمنوا برسله ولا يجحدوه ، فانّ المانع من قبول الحقّ هو قوّة الخيال وجولانه في الخواطر وعند الشّدائد يضعف الخيال ولا يمنع من تذكّر الحقّ وقبوله (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) بيان لغاية سفاهتهم ووخامة رأيهم حيث عقّبوا ما غايته التّذكّر وقبول الحقّ بالتّأنّف وجحوده ، وفي الإتيان بإذا ومضىّ الفعل وتعريف الحسنة اشارة لطيفة الى كثرة الحسنة بحيث لا ينكر تحقّقها ومعهوديّتها لكثرة دورانها بخلاف قرينتها فانّها لندورها كأنّها مشكوك فيها ولم تتحقّق وان تحقّق فرد منها فكأنّها امر منكور غير معهود ولذلك أتى بان واستقبال الفعل وتنكير السّيّئة فقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) والمراد بالحسنة هاهنا ما يعدّونه أهل الحسّ حسنة من الصّحة والخصب وسعة المال وبالسّيّئة ما يقابلها (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) كانوا إذا استقبلهم طائر وقتما أرادوا مهمّا فان طار الى اليمين أو الى اليسار تفأّلوا وتشأمّوا كما قيل (وقيل : كانوا يتشأّمون بالبارح وهو الّذى يأتى من قبل الشّمال ويتبرّكون بالسّابح وهو الّذى يأتى


من قبل اليمن) والاسم منه الطّيرة والطّائر ثمّ غلب التّطيّر ، ومشتقّاته في التّشأّم كالتّفؤّل في التيمّن ، ثمّ استعمل التّطيّر في كلّما يتشأّم به وكان رؤساؤهم جعلوا ما به التّفأّل والتّشأّم من أمارات الخير والشّرّ ثمّ عدّه جهلاؤهم من أسبابهما ولذلك قال في الرّدّ عليهم (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) يعنى سبب خيرهم وشرّهم عند الله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) انّ سبب الخير والشّرّ عند الله وانّ الفاعل هو الله وان ليس للخلق الّا القبول وليس ما يعدّونه سبب الخير أو الشّرّ الّا أمارة ان كان من الأمارات (وَقالُوا) زيادة في الوقاحة (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) لتتصرّف فينا وتغيّرنا عمّا نحن عليه بتصرّفات خفيّة عنّا (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) ما يطوف بهم من الماء وفسّر بالطّاعون (وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ) هو صغار الجراد الّتى لا جناح لها أو صغار الذّرّ أو دويبة صغيرة لها جناح أحمر أو دوابّ كالقردان ، وتفسيره بقمّل النّاس بعيد لانّ قمّل النّاس مفتوح الفاء مخفّف العين كما قرئ به ، وحينئذ يكون المراد به القمّل المعروف (وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) واضحات أو منفصلات إذ كان بين كلّ آية وآية سنة ، وامتداد كلّ منها كان أسبوعا (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) العذاب فيكون عبارة عن الآيات المذكورة ويكون الكلام بيانا لوقاحة اخرى لهم وعدم ثباتهم على عهدهم ، أو المراد به الثّلج كما نسب الى الرّضا (ع) وكانوا لم يعهدوا مثله قبله (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) كما هو ديدن أرباب النّفوس الّتى هي كالخبيثات من النّساء (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) من عطف التّفصيل على الإجمال أو بتضمين انتقمنا معنى أردنا (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) من حيث انّها آيات ولذلك كذّبوا بها فيكون من العطف للتّعليل ، ورد في الخبر : انّ السّحرة لمّا سجدوا لموسى (ع) وآمن به النّاس قال هامان لفرعون : انّ النّاس قد آمنوا بموسى (ع) فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كلّ من آمن به من بنى إسرائيل فجاء اليه موسى (ع) فقال له : خلّ عن بنى إسرائيل ؛ فلم يفعل ، فأنزل الله عليهم في تلك السّنّة الطّوفان فخرّب دورهم ومساكنهم حتّى خرجوا الى البرّيّة وضربوا الخيام ، فقال فرعون لموسى (ع) : ادع حتّى يكفّ عنّا الطّوفان حتّى أخلّي عن بنى إسرائيل وأصحابك ، فدعا موسى (ع) ربّه فكفّ عنهم الطّوفان وهمّ فرعون ان يخلّى عن بنى إسرائيل فقال هامان : ان خلّيت عن بنى إسرائيل غلبك موسى (ع) وأزال ملكك فقبل منه ولم يخلّ عن بنى إسرائيل ، فانزل الله عليهم في السّنة الثّانية الجراد فجرّدت كلّ شيء كان لهم من النّبت والشّجر حتّى كانت تجرّد شعرهم ولحيتهم ، فجزع فرعون لذلك جزعا شديدا وقال : يا موسى ادع ربّك ان يكفّ عنّا الجراد حتّى أخلّي عن بنى إسرائيل وأصحابك ، فدعا موسى ربّه فكفّ عنهم الجراد فلم يدعه هامان ان يخلّى عن بنى إسرائيل ، فأنزل الله عليهم في السّنة الثّالثة القمّل فذهبت زروعهم وأصابتهم مجاعة شديدة ؛ فقال مقالته السّالفة فكشف عنهم القمّل وقال : اوّل ما خلق الله القمّل في ذلك الزّمان فأرسل عليهم بعد ذلك الضّفادع فكانت تكون في طعامهم وشرابهم ويقال : انّها تخرج من ادبارهم وآذانهم وآنافهم فجزعوا وقالوا مثل مقالتهم الاولى ولم يفوا ؛ فحوّل الله عليهم النّيل دما فكان القبطىّ رآه دما


والاسرائيلى ماء ، والقبطىّ يشربه دما والاسرائيلىّ ماء ، فيقول القبطىّ للاسرائيلىّ : خذ الماء في فمك وصبّه في فيّ فكان إذا صبّه في فمه يحول دما ، فجزعوا وقالوا كما قالوا ؛ ولم يفوا فأرسل الله تعالى عليهم الرّجز وهو الثّلج فماتوا وجزعوا وأصابهم ما لم يعهدوه فكشف عنهم الثّلج فخلّى عن بنى إسرائيل فاجتمعوا وخرج موسى (ع) من مصر واجتمع اليه من كان هرب من فرعون وبلغ فرعون ذلك فقال هامان : قد نهيتك ان تخلّى عن بنى إسرائيل فقد استجمعوا اليه فجزع فرعون وبعث في المدائن حاشرين وخرج في طلب موسى (ع) فغرق في اليمّ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) يعنى مشارق ملك مصر ومغاربها أو ملك مصر والشّام (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بكثرة النّعم من الحبوب والثّمار وغيرها (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) عدته الحسنى بإيراث الأرض بقوله تعالى : ونجعلهم الوارثين ، اعلم ، انّ الكلمة غير مختصّة بالحروف المركّبة الحاصلة من تقاطع الهواء التّنفّسىّ مع مخارج الحروف الموضوعة لمعنى من المعاني بل كلّ ما دلّ على غيره من الكلمات العينيّة فهو كلمة ، بل التّحقيق انّ الحقّ المضاف الّذى هو المشيّة الّتى هي نفس الرّحمن وإضافته الاشراقيّة والرّبّ المضاف باعتبار تعلّقه بالمخارج الحقيقيّة الّتى هي الأعيان الثّابتة والمهيّات الاعتباريّة كلمته تعالى باعتبار وحدته وكلماته باعتبار تعدّده فانّ له في نفسه وحدة حقيقيّة ظليّة وباعتبار المهيّات كثرة اعتباريّة ؛ ونحن الكلمات التّامّات ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام بهذا الاعتبار ، وتسمية المشيّة بنفس الرّحمن باعتبار تطابق العالم الصّغير والكبير وتلك الكلمة باعتبارها في نفسها تامّة ، وباعتبار ظهورها على غيرها توصف بالتّمام وعدمه ، وظهورها تامّة بان تظهر بصورة الولاية والنّبوّة والرّسالة ، وتماميّتها حينئذ كانت اضافيّة ، وتماميّتها الحقيقيّة إذا كانت بصورة الولاية المطلقة فيصير صاحبها خاتم الولاية ، وبصورة النّبوّة المطلقة والرّسالة المطلقة فيصير صاحبهما خاتم النّبوّة والرّسالة كما في محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، وتماميّة النّبوّة والرّسالة النّاقصة تماميّة اضافيّة ان تظهر بجميع ما من شأنه ان تظهر به من قبول أحكامها وإنجاز مواعيدها وترتّب فوائدها ، ومن جملة تماميّة نبوّة موسى (ع) ظهورها بإتمام مواعيدها ورفع موانع رواجها من منع فرعون وقومه ، والتّوصيف بالحسنى للاشارة الى انّ كلماته باعتبارها في أنفسها تتفاوت وتتّصف بالحسن والاحسنيّة وان كان كلّها باعتبار اضافتها اليه تعالى حسنة غير متّصفة بعدم الحسن ، وبعد ما عرفت انّ الرّبّ المضاف هو الولاية المتحقّق بمطلقها علىّ (ع) وانّ الرّسالات والنّبوّات والولايات الجزئيّة هي مراتب الولاية المطلقة وتنزّلاتها وانّ النّبوّة المطلقة والرّسالة المطلقة أيضا ظهور الولاية المطلقة وتحت تربيتها ، علمت جواز تفسير الرّبّ بعلىّ (ع) والكلمة بموسى (ع) أو برسالته ونبوّته (بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من الأصنام وعبادتها والصّنائع الدّقيقة وآلاتها والابنية الرّفيعة وزخارفها (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من كروم الجنان والقصور الرّفيعة ، وقوله دمّرنا عطف على تمّت أو على صبروا ، وكون التّدمير سببا لتماميّة الكلمة لما فيه من الدّلالة على القدرة والرّسالة والعبرة لسالكى الآخرة (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) بعد مهلك فرعون وايراث الأرض لدعوة العمالقة وقتالهم (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) اى على عبادتها (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) بيان لسفاهة رأيهم وانّهم لمّا استراحوا من فرعون وقومه تركوا الانقياد وأظهروا الاستبداد لغاية حمقهم وجهلهم (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ذمّهم اوّلا


على استبدادهم لجهلهم ثمّ بيّن لهم فساد عمل القوم وبطلانه فقال (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) من الأحوال والأخلاق والعقائد يعنى منكسر منقطع عمّا ينبغي الاتّصال به من النّبوّة والولاية المتّصلة بالآخرة الباقية (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فاسد لا اثر له ولا فائدة مترتّبة عليه (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) كرّر قال اهتماما بما بعده فانّه المقصود وغيره كان توطئة له فانّ انكار ابتغاء غير الله إلها كناية عن ابتغاء الله إلها لكون المقام مقام ابتغاء الإله (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) في زمانكم ببعثة الرّسل منكم وخلاصكم من أعدائكم وانقيادكم للرّسل (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) عطف على قوله أغير الله أبغيكم إلها بتقدير اذكروا اى قال موسى (ع) اذكروا إذ أنجيناكم ، ونسبة الإنجاء الى نفسه مع الله لكونه سببا أو عطف على أورثنا بتقدير قلنا اذكروا إذ أنجيناكم فيكون خطابا من الله معهم وتذكيرا لهم بالنّعمة العظيمة الّتى هي الخلاص من شدّة عذاب آل فرعون (يَسُومُونَكُمْ) يكلّفونكم (سُوءَ الْعَذابِ) والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر أو حال (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) بدل من الاولى بدل التّفصيل من الإجمال أو مستأنفة أو حال مترادفة ، أو متداخلة (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يستبقون بناتكم للاسترقاق أو يفتّشون حياء نساءكم اى فروجهنّ لتجسّس العيب كالاماء ، أو تجسّس الحمل وقد سبق في اوّل سورة البقرة تفصيله (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ) ابتلاء ومحنة (مِنْ رَبِّكُمْ) على أيدي أعدائه (عَظِيمٌ) وتفسير البلاء بالنّعمة وجعل الإنجاء مشارا اليه بعيد (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) وهي شهر ذي القعدة كما نقل لاعطاء كتاب فيه ببيان كلّ شيء (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) من ذي الحجّة لسواك استاك آخر الثّلاثين قبل الإفطار (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) لاعطاء الكتاب (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى) حين خرج من بين قومه للميقات (لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) التفات من التّكلّم الى الغيبة اشارة الى انّ التّكلّم صدر من مقام ظهوره الّذى هو الولاية المطلقة المتحقّق بها علىّ (ع) كما انّ المتكلّم مع محمّد (ص) ليلة المعراج كان عليّا (ع) ، ولمّا سمع موسى (ع) كلامه تعالى اشتدّ شوقه والتهب حرارة طلبه ولم يتمالك ، فطلب وسأل ما ليس له من الشّهود والرّؤية مع انّه كان بعد في الحدّ والغيبة وباقيا عليه الانانيّة وليس شأن المحدود ادراك المطلق ورؤيته ، فانّ من شرائط الرّؤية والإدراك صيرورة الرّائى سنخا للمرئىّ أو المرئىّ سنخا للرّائى والّا فلا يقع الرّؤية ولا يحصل المشاهدة ؛ الا ترى انّ النّفس في مشاهدة الأجسام محتاجة الى آلة جسمانيّة وقوّة جرمانيّة وتلك القوّة الجسمانيّة محتاجة الى تجريد الصّورة من المادّة لتجرّدها نحوا من التّجرّد ، فلمّا لم يتمالك (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) فانّك غير خارج من حدودك ولو شاهدتني بحدودك لفنيت فليس لك شأن رؤية المطلق (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) جبل الحجر أو جبل انانيّتك (فَإِنِ اسْتَقَرَّ) الجبل لتجلّى نور من أنوار المطلق (مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) مع جبل حدّك وانّيّتك (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) الّذى هو المطلق المضاف لا المطلق المطلق (لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ) الله أو الرّبّ أو التّجلّى (دَكًّا) متفتّتا متلاشيا (وَخَرَّ مُوسى) لاندكاك انّيّته (صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ) عن سؤالى عن مثلك ما ليس لي (تُبْتُ إِلَيْكَ) من سؤالى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنّك لا ترى لمثلي.


اعلم ، انّ الإدراك حقيقة مشكّكة ذات مراتب متفاوته في الشّدّة والضّعف ، ولكلّ مرتبة من مراتبه اسم خاصّ وشرائط خاصّة لحصولها مثلا ادراك زيد تصوّرا جزئيّا مرتبة منه إدراكه بالبصر ويسمّى رؤية ، ومرتبة منه إدراكه بالخيال ويسمّى تخيّلا ، ومرتبة منه إدراكه بالعين المثاليّة في المنام ويسمّى رؤيا ، ومرتبة إدراكه بالعين المثاليّة بالكشف الصّورىّ في عالم المثال ويسمّى كشفا صوريّا وشهودا ؛ والكلّ ادراك النّفس الانسانيّة لشخص زيد بحيث لا يمكن لأحد ان يقول : انّ زيدا بشخصه غير مدرك في مرتبة من تلك المراتب والتّفاضل بين تلك الإدراكات بديهىّ وجدانىّ ، فانّ ادراك الخيال أضعف أنواع الإدراك وأقواها الإدراك بالرّؤية والإدراك شهودا بالعين المثالىّ ، وكما يسمّى الإدراك البصرىّ رؤية يسمّى الإدراك الكشفىّ رؤية كما لا يخفى ، هذا في التّصوّرات والإدراكات الجزئيّة وهكذا الحال في التّصديقات والإدراكات الكلّيّة ، فانّ الحكم بكون الأمير في البلد قد يدرك توهّما ، وقد يدرك شكّا وظنّا ، وقد يدرك علما عاديّا وتقليديّا ويقينيّا برهانيّا ويقينيّا شهوديّا والتّفاضل بينها غير مخفىّ وأقواها وأتمّها واشدّها هو العلم الشّهودىّ ويسمّى هذا العلم الشّهودىّ في ذلك التّصديق الشّخصىّ رؤية باعتبار ، كما يسمّى علما وشهودا وعيانا وتصديقا باعتبارات أخر ، وعلم من ذلك انّ الرّؤية غير مختصّة بالرّؤية البصريّة المشروطة بمقابلة المرئىّ للرّائى أو بحكم المقابلة كالرّؤية في المرآة والماء وبتوسّط جسم مشفّ وعدم القرب المفرط والبعد المفرط وعدم آفة في العين وعمدتها التفات النّفس الى الآلة وفعلها ، فانّ الإدراك البصرىّ صفة النّفس لكن في مقامها النّازل ومرتبة الباصرة بل مقولة على ادراك عين الخيال في عالم المثال كرؤية المكاشفين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الصّادقة ، وعلى ادراك عين الخيال في عالم الخيال كرؤية المسرسمين والمبرسمين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الكاذبة ، فانّه لا يشكّ أحد من هؤلاء ولا ممّن اطّلع على عالمهم وكيفيّة ادراكهم انّ مدركاتهم مرئيّات حقيقة وانّه لا يصحّ سلب الرّؤية عنها. فالرّؤية في المدركات المتقدّرة الجزئيّة عبارة عن قوّه الإدراك وشدّته بحيث لا يتصوّر ادراك أتمّ وأقوى منه سواء كانت بالآلة المخصوصة أم بغيرها ، وسواء كان المدرك مصاحبا للمادّة أم غير مصاحب ، فصحّ اطلاق الرّؤية على المتقدّر المجرّد عن المادّة كما يصحّ إطلاقها على المتقدّر المادّىّ ولا اختصاص له بالمادّىّ ، وهذا التّفاضل يجرى في المدركات العقليّة المجرّدة عن المادّة والتّقدّر ، فانّ العقول الكلّيّة والملائكة المقرّبين قد يتوهّم وجودها ثمّ يشتدّ هذا التّوهّم فيصير شكّا ثمّ ظنّا ثمّ علما عاديّا وتقليديّا ثمّ علما يقينيّا برهانيّا ، فاذا اشتدّ هذا العلم بحيث يخلّص العالم من المادّة وغواشيها ويرفعه عن العالمين ويوصله الى المجرّدات حتّى يشاهدها ويلحق بها صار إدراكه اشدّ ما يتصوّر وعلمه عيانا ، فان شئت فسمّ هذا العلم العيانىّ رؤية فانّه لا مانع من اطلاق الرّؤية بهذا المعنى عليه بل حقيقة الرّؤية وهي الانكشاف التّامّ الّذى لا يتصوّر فوقه انكشاف ، وادراك هنا أتمّ وأقوى من الانكشاف بآلة البصر وقد عرفت ان لا مدخليّة لخصوص آلة البصر في الرّؤية ؛ وهكذا الحال في الحقّ الاوّل تعالى شأنه وصفاته. ثمّ اعلم انّ المعلوم المدرك في اىّ عالم كان لا بدّ وان يكون المدرك لذلك المعلوم بذاته أو بآلاته ، ووسائط دركه من سنخ ذلك العالم للزوم نحو من الاتّصال أو نحو من الاتّحاد بين المدرك والمدرك كما قرّر في الحكميّات والفلسفة الاولى ، الا ترى انّ المدركات المادّيّة الّتى هي من عالم المادّة لا تدرك الّا بآلات مادّيّة كالحواسّ الخمس الظّاهرة ، والمدركات الخياليّة والمثاليّة الّتى هي من سنخ عالم المثال لا تدرك الّا بالحواسّ الباطنة الّتى هي ارفع من عالم المادّة ، والمعقولات الّتى هي ارفع من العالمين لا تدرك الّا بقوّة ليست من سنخ عالم المادّة ولا من سنخ عالم المثال فاذا أريد ادراك العقول لا بدّ وان يرتفع المدرك عن العالمين ويصير عقلا مجرّدا عن المادّة والتقدّر أو يتنزّل العقول عن عالمها العقلىّ وتتمثّل بصور متقدّرة


حتّى تدرك بالمدارك المثاليّة كما في نزول الملائكة على الأنبياء ، فما لم يرتفع الدّانى أو لم يتنزّل العالي لا يمكن ادراك الدّانى للعالي ، فاذا سأل الدّانى في دنوّه بلسان حاله أو قاله رؤية العالي في علوّه فجوابه العتاب على هذا السّؤال والمنع من مسئوله والزّجر على مأموله لسؤاله ما ليس له ان يسأل. ثمّ اعلم انّ الإنسان من اوّل استقراره في الرّحم جماد بالفعل وله قوّة الانسانيّة ولمّا كان ضعيفا غير قابل لقبول اثر العقل جعل الباري تعالى نفس الامّ واسطة في فيضان نور العقل عليه حتّى إذا استكمل بحيث يستعدّ لقبول فيض العقل بلا واسطة يتولّد وليس له حينئذ من اثر العقل الّا فعليّة المدارك الحيوانيّة الظّاهرة فيتدرّج في الاستكمال بفيض العقل حتّى يتحقّق فيه طليعة ضعيفة من اشراق العقل ، فيدرك البديهيّات الاوّليّة الكلّيّة الّتى من شأنها ان يكون مدركها العقل فيتدرّج في الاستكمال ويتقوّى تلك الطّليعة حتّى يمكنه اكتساب الكلّيّات فيتدرّج في ذلك حتّى يعاين مكتسباته فيتدرّج حتّى يتحقّق بها وصار عالما علميّا مضاهيا للعالم العينىّ بل عالما غيبيّا محيطا بالعالم العينىّ ، وحينئذ يصير مطلقا عن قيوده خارجا من حجبه وحدوده وله استعداد شهود الحقّ الاوّل تعالى لكن اشتداده وترقيّه الى زمان البلوغ وهو زمان الاستبداد بالرّأى والاستقلال في الاختيار ، وبعبارة اخرى الى زمان يمكنه ادراك خيره وشرّه الاخرويّين كان على الصّراط المستقيم بأسباب الهيّة لا مدخل للعبد فيها ولا اختيار له ولذا : قيل كن مع الله كما كنت حتّى كان معك كما كان ، وإذا وصل الى مقام البلوغ وكله الله الى اختياره ونبّهه على خيره وشرّه على ألسنة خلفائه الظّاهرة والباطنة وأعانه على اختياره الخير وخذله في اختياره الشّرّ ، فان ساعده التّوفيق وتداركه جذبة من جذبات الرّحمن وهي خير من عبادة الثّقلين استراح من تعب السّلوك ورفع القلم عنه وصار من الشّيعة الّذين رفع القلم عنهم ، وان وكله الله الى نفسه وخذله باختياره الشّقاء التحق بالشّياطين ، وان وفّقه الله للسّلوك اليه باختياره الخير والتّقوى من الشّرّ ، فامّا ان يسلك بقدم نفسه ويتعب نفسه في السّلوك اليه ، وبعبارة اخرى امّا ان يعبد الله مع بقاء حكم النّفس عليه وفي قيود انانيّته ويسمّى تقرّبه حينئذ بقرب النّوافل وهذا وان أتعب نفسه في السّلوك والعبادة وجاهد غاية المجاهدة لم يكن له شأنيّة المشاهدة والمواصلة وليس له الّا الفرقة والمباعدة ، أو يسلك الى الله ويعبد الله من غير بقاء حكم النّفس وأثرها عليه ويسمّى تقرّبه بقرب الفرائض وهذا لخروجه من حدود نفسه وقيودها وارتفاعه عن حجاب انّيّته له شأنيّة المواصلة والمشاهدة بل يصير هو الشّاهد والمشهود في كلّ شاهد ومشهود ، والبصير والمبصر والسّميع والمسموع ، والاوّل وان كان مستريحا من تعب السّلوك ملتّذا بلّذة الشّهود والها في المحبوب ليس له كمال مقام الجمع والتجمّل بالأعوان والجنود ، والثّانى وان كان له جمعيّة وسعة وتجمّل ليست له لذّة المشاهدة والسّرور الاتمّ فهما ناقصان كلّ بوجه ، والثّالث له الكمال الاتمّ والسّرور الأبهى والجمال الاجمل لجمعه بين كمال الشّهود والتجمّل بالأعوان والجنود ، وله الخلافة الكبرى والرّياسة العظمى ، إذا عرفت ذلك فقس قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) ، الى قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) حتّى تعرف مقام محمّد (ص) في العبادة والسّلوك ومقام موسى (ع) وتعرف انّ موسى (ع) سلك بقدم نفسه لا بربّه ولذلك كان مستحقّا لجواب لن تراني ، وانّ محمّدا (ص) سار باسراء ربّه لا بسير نفسه ، وانّ محمّدا (ص) هو السّميع لكلّ مسموع في مرتبته والبصير لكلّ مبصر فضلا عن نعمة مشاهدة ربّه ورؤية آياته الكبرى كما هو الظّاهر من آخر الآية فانّ الظّاهر عدم الالتفات في آخر الآية وتطابق ضمير (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) مع ضمير (لِنُرِيَهُ). ولمّا كان المتبادر الى


فهم العامة من الرّؤية رؤية البصر وهي ممتنعة في حقّه تعالى وكان حقيقة الرّؤية في حقّه تعالى غير ممنوعة اختلف الاخبار في نفى الرّؤية عنه تعالى وإثباتها له وبما ذكرنا من التّحقيق يجمع بين متخالفات الاخبار في باب رؤية الحقّ تعالى وعدمها وفي تفسير هذه الآية ومن أراد الاطّلاع عليها فليرجع الى الكافي والصّافى (قالَ) الله تعالى بعد ما اندكّ جبل انّيّته ومات عن انانيّته ثمّ أحياه الله بحيوة اخرى غير الحيوة الاولى واستحقّ إعطاء كتاب النّبوّة (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي) يعنى بما به الرّسالة ولذا جمعه وهو اسفار التّوراة أو احكام التّوراة (وَبِكَلامِي) اى بشرافة كونك كليما لي (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) من التّوراة أو احكام الرّسالة أطلق الأخذ هنا وقيّده فيما بعد وفي قصّة يحيى وفي قصّة رفع الجبل فوق بنى إسرائيل بقوله بقوّة للاشارة الى عدم الحاجة إليها هنا لقوّة الآخذ وعدم حاجة المأخوذ الى قوّة وللاشارة الى قوّة المأخوذ وضعف الآخذ في قصّة يحيى وقصّة بنى إسرائيل (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) بصرفه لأهله ومنعه من غير اهله ، وروى انّ سؤال الرّؤية كان يوم عرفة وإعطاء التّوراة يوم النّحر (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ما يسمّى شيئا (مَوْعِظَةً) فانّ في كلّ شيء جهة وعظ ونصح للخير كما انّ فيه جهة كثرة وحجاب عن الخير فكتبنا من كلّ شيء جهة وعظ في ألواح التّوراة أو في ألواح نفسه النّبويّة (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) عطف على مجموع (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) لا على موعظة فقط أو هو عطف على موعظة ، والمعنى وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء تفصيلا لكلّ شيء ، فانّ البصير المرتفع عن عالم الطّبع بل عن عالم المثال يرى كلّ شيء في كلّ شيء لكون الكل في ذلك العالم مرائى متعاكسات يترائى كل شيء في ذلك العالم في كلّ شيء بل نقول : ظاهر الآية كون تفصيلا معطوفا على موعظة والقيود المتقدّمة على المعطوف عليه معتبرة في المعطوف بحكم العطف وقد اشتهر عن الصّوفيّة انّهم يقولون : كلّ شيء في كلّ شيء (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) اى قائلين فخذ الألواح الّتى فيها الموعظة وتفصيل كلّ شيء ، أو خذ الموعظة وتفصيل كلّ شيء ، أو مجموع الألواح والموعظة والتّفصيل ولاخذ تفصيل كلّ شيء من كلّ شيء هاهنا في المأخوذ أضاف قوله بقوة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) بأخذ الألواح والموعظة أو بأخذ أحسنها أو بأىّ امر كان (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) في حذف متعلّق الأمر وجزم الجواب إيهام سببيّة امره (ع) باىّ امر كان لاخذ قومه بأحسنها ، كأنّه بامره وتوجّهه إليهم يؤثّر فيهم أثرا يفتح بصيرتهم بحيث يميّزون بين الأحسن وغير الأحسن ، وكلّ إنسان مفطور على أخذ الأحسن إذا عرفه وفي أمثال قوله تعالى لنبيّنا (ص) : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) وقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) دلالة على قوّة نفس نبيّنا (ص) بالنّسبة الى موسى (ع) لا يهامه انّ محض تخاطبه (ص) مع المؤمنين امرا كان أو نهيا أو حكاية وقصّة يؤثّر فيهم بحيث يصير سببا لما ذكر بعده من أفعالهم الحسنة بخلاف موسى (ع) ، فانّه ان امر اثّر والّا فلا. ولمّا كان القوم غير جامعة لجملة المراتب لضيقهم وعدم سعتهم بل كلّ من كان منهم في مرتبة لم يكن يجرى عليه حكم المرتبة العالية أو الدّانية لضيقه وكان الحسن والأحسن في حقّه حكم تلك المرتبة وكان حكم المرتبة العالية أو الدّانية في حقّه قبيحا امره (ع) ان يأمر قومه ان يأخذوا أحسن العظة أو أحسن الألواح باعتبار ما فيها من الأحكام الّتى هي موعظته تعالى ، فانّ الأحكام فيها كالقرآن متكثّرة مترتّبة بحسب تكثّر المراتب كالانتقام وكظم الغيظ والعفو عن المسيء والإحسان اليه ، فانّ الأحكام الاربعة مذكورة في القرآن لكن هي مترتّبة حسب مراتب الإنسان ويختلف أحسنها بحسب اختلاف الأشخاص في مراتب العبوديّة ، فانّ الواقع في جهنّام


النّفس لا يرتضى من المسيء بالانتقام بمثل إساءته بل لا يرتضى باضعافها فالأحسن في حقّه الانتقام بمثل اعتدائه كما قال (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، ومن خرج من تلك الجهنّام فالأحسن في حقّه كظم الغيظ وترك الانتقام ولكن لا يتصوّر في حقّه الصّفح وإخراج رين الاساءة من صدره ، والأحسن في حقّ من خرج من حدود النّفس وتوجّه الى حدود القلب الصّفح وتطهير القلب من رين الاساءة ولا يتصوّر في حقّه الإحسان ، وفي حقّ الدّاخل في بيت الله الّذى (مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وهو القلب كان الأحسن الإحسان فالمراد بأحسنها أحسن ما يتصوّر ويمكن في حقّهم ، هذا إذا كان المراد بالأحسن الأحسن الاضافىّ وان أريد بالأحسن الأحسن المطلق فليخصّص قومه بخواصّه ، هذا على ظاهر مفهوم اللّفظ والّا فالمراد به الولاية فانّها العظة الحسنى والحكم الأحسن حقيقة والمعنى انّك لسعة وجودك واستقلالك في جميع المراتب مأمور بأخذ جميع الأحكام في جميع المراتب ، ولكنّ قومك لضيقهم وعدم استقلال رأيهم مأمورون بأخذ الأحسن منها وهي الولاية حتّى يحصل لهم بتبعيّة وليّهم سعة واستقلال في رأيهم فيستحقّوا بذلك الأمر بأخذ الجميع وبأحد المعنيين ورد قوله تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ولمّا صار المقام مظنّة ان يقال : ما لمن خرج من الانقياد ولم يأخذ حكم الألواح وعظة؟ ـ قال جوابا (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) وجزائهم والخطاب لموسى (ع) وقومه أو لمحمّد (ص) وقومه ، ثمّ صار المقام مظنّة ان يقال : ما سبب خروج الفاسق ومن المخرج له؟ أيخرج بنفسه أم يخرجه غيره؟ ـ فقال (سَأَصْرِفُ) البتّة على ان يكون السّين للتّأكيد أو سأظهر يوم القيامة انّ انصراف المنصرف كان بسبب تكبّره بغير الحقّ ، ولمّا كان الاهتمام ببيان سبب الانصراف لا الصّارف لم يقل : انا اصرف بتقديم المسند اليه تقوية للحكم أو حصرا (عَنْ آياتِيَ) التّدوينيّة الّتى هي احكام نظام المعاش وحسن المعاد وظهور الآيات التّكوينيّة أو عن الآيات التّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة وأعظمها الآيات العظمى أو عن الجميع (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) يظهرون الكبر أو ينتحلون الكبر (بِغَيْرِ الْحَقِ) فانّ التكبّر بأمره مع المتكبّر صدقة ، والتكبّر بكبريائه تعالى كبرياء الحقّ وهما لا يمنعان من انقياد الآيات (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) من عطف المسبّب على السّبب لتكبّرهم المانع من الإذعان بآياتي (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) لادبارهم بتكبّرهم عن سبيل الرّشد (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) لا قبالهم على الغىّ ، والمراد بسبيل الرّشد والغىّ الأعمال والأخلاق الموصلة إليهما بل نقول : للنّفس طريق الى العقل وهو الرّشد وطرق عديدة الى الجهل وهي الغىّ ، والنّفس برزخ واقع بينهما والأعمال والأخلاق الحسنة من لوازم طريقها الى العقل ، وضدّها من لوازم طرقها الى الجهل (ذلِكَ) التكبّر الّذى هو سبب الكلّ أو ذلك المذكور من الصّرف والتّكبّر وعدم الايمان بالآيات وعدم اتّخاذ سبيل الرّشد واتّخاذ سبيل الغىّ (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فانّ سبب الكلّ التّكذيب بآياتنا العظمى أو مطلق الآيات (وَكانُوا عَنْها) من حيث انّها آيات (غافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) عطف على مدخول انّ وهو على صورة قياس اقترانىّ من الشّكل الاوّل وصورته هكذا : ذلك بانّهم كذّبوا بآياتنا وكلّ من كذّب بآياتنا حبطت أعمالهم فلا ينتفعون بها حتّى يقرّبهم الى سبيل الرّشد والانقياد للآيات (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كأنّه قيل : حبط الأعمال لا يشبه


العدل ، فقال : ليس حبط الأعمال الّا جزاء أعمالهم (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) من بعد ذهابه الى الميقات تعريض بامّة محمّد (ص) يعنى لا تتّخذوا أنتم من بعد محمّد (ص) عجلا معبودا (مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً) وفي ابدال جسدا رفع إيهام انّه كان عجلا حقيقة (لَهُ خُوارٌ) روى عن الباقر (ع) انّ فيما ناجى موسى (ع) ربّه ان قال : يا ربّ هذا السّامرىّ صنع العجل فالخوار من صنعه؟ ـ قال : فأوحى الله اليه يا موسى (ع) انّ تلك فتنتي فلا تفحص عنها ، وعن الصّادق (ع) قال : يا ربّ ومن أخار الصّنم؟ فقال الله تعالى : يا موسى انا آخرته ، فقال موسى (ع): ان هي الّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدى من تشاء ، وعن النّبىّ (ص): رحم الله أخي موسى ليس المخبر كالمعاين الى قومه ورءاهم فغضب والقى الألواح (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) تقريع باعتبار ترك التّفكّر (اتَّخَذُوهُ) صفة سبيلا اى لا يهديهم سبيلا جعلوه سبيلا الى الله أو مستأنف اى اتّخذوا العجل آلها (وَكانُوا ظالِمِينَ) في ذلك الاتّخاذ أو من قبيل عطف السّبب (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) هذا مثل في العرب والعجم جميعا كناية عن غاية النّدم والتّحسّر والعجز عن دفع ما يتحسّر على وروده يعنى ندموا وعجزوا عن رفع بليّة عبادة العجل (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا) اعترافا بالّذنب وتضرّعا (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي) خلفه قام مقامه وعمل في خلفه ، وما نكرة موصوفة ، أو معرفة موصولة ، أو معرفة تامّة ، وإذا كانت معرفة تامّة كان خلفتموني حالا ، وعلى اىّ تقدير فالعائد محذوف والمعنى بئس الّذى خلفتموني فيه عبادة العجل فعبادة العجل مخصوصة بالّذم ومحذوفة ، ويجوز ان يكون ما مصدريّة ويكون المعنى : بئس الخلافة خلافتكم لي حيث عبدتم العجل وتركتم امر ربّكم ، ويجوز ان يكون الخطاب لهارون ولمن بقي معه ولم يعبد العجل ويكون المعنى : بئس الّذى خلفتموني فيه من السّكوت عن نهى العابدين والمعاشرة معهم (مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) اسبقتم امر ربّكم باتّباعى وانتظار الكتاب السّماوىّ وتركتموه ورائكم ، وتعدية عجلتم بنفسه لتضمين مثل معنى السّبق أو المعنى اسبقتم في عبادة العجل امر ربّكم فعبدتم العجل من دون امر منه أو المعنى اسبقتم امر الرّب بانتظار أربعين ليلة فما لبثتم انقضاء الوعد (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) من شدّة الغيظ لله فتكسّر بعضه ورفع بعضه وبقي بعضه كما روى (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) لانّه لم يفارقهم ولم يلحق بموسى (ع) بعد ما نهاهم فلم ينتهوا (قالَ ابْنَ أُمَ) نسبه الى الامّ استعطافا لانّ بنى امّ واحدة أقرب مودّة من بنى أب واحد وكان أخاه من أب وامّ وكان أكبر من موسى (ع) بثلاث سنين (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) اعتذر عن تقصيره المترائى في منع القوم من عبادة العجل (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) من غير تقصير لي (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) في نسبة التّقصير الىّ وجعلي مثلهم (قالَ) بعد الافاقة من غضبه (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) فيما فرّط منّى في حقّه ومنه في حقّ القوم (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ولمّا فرغ من الاستغفار وطلب الرّحمة صار المقام مقام ان يسأل الله : ما لمن عبد العجل؟ ـ فقال تعالى جوابا لسؤاله المقدّر : (إِنَّ الَّذِينَ


اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) معبودا (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) في الآخرة (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بقتلهم أنفسهم (وَكَذلِكَ) الجزاء من الغضب والّذلّة (نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) فتنبّهوا يا أمّة محمّد (ص) ولا تفتروا ولا تأخذوا العجل والسّامرىّ خليفة بعد محمّد (ص) والافتراء اعمّ ممّا وقع قولا أو فعلا أو حالا أو اعتقادا ، ولمّا توهّم انّ المفترى جزاؤه ما ذكر مطلقا وصار سببا ليأس أهل المعاصي سيّما على تعميم الافتراء استدركه بقوله (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) بالتّوبة العامّة النّبويّة والبيعة الظّاهرة ان لم يكونوا من أهل البيعة الظّاهرة أو بالتّوبة الخاصّة الولويّة والبيعة الباطنة ان كانوا من أهل البيعة الظّاهرة أو استغفروا بينهم وبين الله وندموا على معاصيهم (وَآمَنُوا) بقبول الميثاق العامّ واحكامه ، أو الميثاق الخاصّ واحكامه ، أو بالبيعة الخاصّة الولويّة ان كان المراد بالتّوبة التّوبة العامّة أو أذعنوا بالله ان كان المراد من التّوبة الاستغفار بينهم وبين الله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد السّيّئات أو التّوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) استعار السّكوت للسّكون أو شبّه الغضب بالأمر استعارة تخييليّة (أَخَذَ الْأَلْواحَ) الباقية بعد القائها وانكسار بعض وارتفاع بعض وبقاء بعض (وَفِي نُسْخَتِها) ما نسخ منها بالكسر والرّفع أو ما نسخ وكتب في الألواح الباقية (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) فانّهم المنتفعون بالمواعظ دون من استمعها سماع الأسمار (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) روى عن الرّضا (ع) انّه سئل : كيف يجوز ان يكون كليم الله موسى (ع) بن عمران لا يعلم انّ الله لا يجوز عليه الرّؤية حتّى يسئله هذا السّؤال؟ ـ فقال : انّ كليم الله علم انّ الله منزّه عن ان يرى بالأبصار ولكنّه لمّا كلّمه الله وقرّبه نجيّا رجع الى قومه فأخبرهم انّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعته وكان القوم سبعمائة الف فاختار منهم سبعين ألفا ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه ، فخرج الى طور سيناء فأقامهم في صفح الجبل وصعد موسى (ع) الى الطّور وسأل الله ان يكلّمه ويسمعهم كلامه وكلّمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وامام ، لانّ الله أحدثه في الشّجرة ثمّ جعله منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن بانّ هذا الّذى سمعناه كلام الله حتّى نرى الله جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة فاخذتهم الصّاعقة بظلمهم فماتوا ، فقال موسى (ع) : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا انّك ذهبت بهم فقتلهم لانّك لم تكن صادقا فيما ادّعيت من مناجاة الله ايّاك؟! فأحياهم وبعثهم معه ، فقالوا : انّك لو سألت الله ان يريك تنظر اليه لأجابك فتخبر كيف هو ونعرفه حقّ معرفته فقال موسى (ع) : يا قوم انّ الله لا يرى بالأبصار ولا كيفيّة له وانّما يعرف بآياته ويعلم باعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسأله فقال موسى (ع) يا ربّ انّك قد سمعت مقالة بنى إسرائيل وأنت اعلم بصلاحهم فأوحى الله اليه : يا موسى (ع) سلني ما سألوك فلم أؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى (ع): (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) وهو يهوى (فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ) إهلاكنا (أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) يعنى من قبل وعدي بنى إسرائيل بإسماع


كلامك واتيانى بهم الى ميقاتك حتّى لا يتّهمونى بالكذب وإهلاك من جئت بهم الى ميقاتك (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) من الجرأة على طلب الرّؤية (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ان العجل وخواره الّا فتنتك على ان يكون مقطوعا من سابقه على ما روى انّ الله أخبره بضلال قومه بالعجل ، فقال : يا ربّ ان كان السّامرىّ صنعه فمن أخاره؟ ـ فقال : انا ، فقال : ان هي الّا فتنتك ، أو على ان يكون السّبعون المختارون من عبدة العجل اختارهم لميقات التّوبة فاخذتهم الرّجفة لهيبة الله ، أو المعنى ان أسماعهم لكلامك حتّى طمعوا في سؤال الرّؤية الّا فتنتك أو ان الرّجفة منك الّا فتنتك ، وتأنيث الضّمير على الوجوه السّابقة لمراعاة الخبر (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا) المتصرّف في أمورنا (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) لمّا كان الحسن الحقيقىّ هو الولاية فكلّ ما كان مرتبطا بالولاية من علم وخلق وفعل فهو حسن بحسنها ، والسّير على طريق الولاية أيضا حسن بحسنها ، وتسهيل السّير بقوّة الولاية ورفع موانع السّير وقلّة الامتحانات في الطّريق والذّكر المأخوذ من الامام والاتّصال بملكوت الامام كلّها حسن بحسنها ، والتّاء في الحسنة للنّقل فتفسيرها بالولاية وبالطّاعة وبتوفيقها وبتسهيل السّير ورفع موانع السّير وتقليل الامتحانات ودوام الذّكر وتمثّل صورة الشّيخ كلّها صحيح (وَفِي الْآخِرَةِ) أيضا حسنة والحسنة في الآخرة هو شهود الحقّ تعالى في مظاهره بمراتبها : ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره بالفارسىّ في تفسير الحسنة في الدّنيا والآخرة :

راه را بر ما چو بستان كن لطيف

مقصد ما باش هم تو اى شريف

(إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) من هاد يهود إذا رجع (قالَ) جوابا له : انّ لي سخطا ورضى وعذابا ورحمة ولكلّ أهل ، فلي انّ اعذّب من كان أهلا للعذاب ، وارحم من كان أهلا للرّحمة (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ولمّا لم يكن المعصية سببا للعذاب على الإطلاق لم يقل من عصاني (وَرَحْمَتِي) الرّحمانيّة (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) لانّها صفة الوجود والوجود قد أحاط بكلّ موجود في الدّنيا والآخرة (فَسَأَكْتُبُها) اى الرّحمة الرّحيميّة بطريق الاستخدام (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) المحرّمات الّتى أصلها اتّباع ائمّة الجور الّذى أصله اتّباع أهواء النّفس (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) حقوق المال الحلال وفضول التّمتّعات المحلّة والالتذاذات المباحة المأمور بها بان يتمتّع ويلتّذ ويقلّل منها تدريجا وقوّة القوى العلّامة والعمّالة بصرفها في قضاء حقوق الاخوان وعبادة الرّحمن (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وهذه صفات مترتّبة فانّ التّقوى بهذا المعنى مقدّمة على الزّكاة ، والزّكاة الّتى هي تضعيف قوى النّفس مقدّمة على ادراك كون الآية التّدوينيّة أو التّكوينيّة آية ، والايمان بها بعد درك كونها آية وللاشارة الى انّ الايمان هو المقصد الأسنى كرّر الموصول (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ) أبدل عن الموصول الاوّل أو الثّانى للاشارة الى انّ الوصف الجامع للاوصاف الثّلاثة هو اتّباع الرّسول (الْأُمِّيَ) المنسوب الى امّ القرى كما في الرّوايات أو المنسوب الى الامّ لكونه لم يكتب ولم يقرأ ولم يحصّل شيئا من الكمالات الانسانيّة مثل زمان ولادته من أمّه (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) باسمه ونعته وأنصاره ومبعثه ومهاجره كما في الرّوايات ، فانّ الأنبياء (ع) ولا سيّما موسى (ع) وعيسى (ع) بشّروا به أممهم واثبتوا خبره في


كتبهم (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) حال من فاعل يجدونه أو مفعوله أو كليهما أو المستتر في مكتوبا بتضمين مثل معنى الاتّصاف اى حالكونه يتّصف بالأمر لهم بالمعروف أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر أو نائب فاعل لمكتوبا ، وأصل المعروف علىّ (ع) ثمّ ولايته ثمّ التّخلّق بأخلاقه ثمّ العلم المأخوذ منه ثمّ العمل بالمأخوذ ، ثمّ النّبىّ (ص) ثمّ اتّباعه ثمّ العلم المأخوذ منه ثمّ العمل بالمأخوذ وهكذا المنكر مقابلوا علىّ (ع) وهذا هو الدّليل التّام على صدق الرّسول (ص) في رسالته ، فانّ المعروف والمنكر معلوم اجمالا لكلّ أحد إذا خلّى وطبعه وترك الهوى واتّباعه كما في حديث ؛ اعرفوا الله بالله ، والرّسول بالرّسالة ، واولى الأمر بالأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أصل الطّيّبات علىّ (ع) الى ما تستطيبه الطّباع وتستلذّه ، وأصل الخباثات من كان مقابلا لعلىّ (ع) الى ما تستكرهه الطّباع وتستقذره ، ومعنى إحلال الطّيّبات وتحريم الخباثات إذا حملت على معانيها الظّاهرة ظاهر ، وإذا حملت على معانيها التّأويليّة فمعناهما تسهيل طريق أخذ الطّيّبات وسدّ طريق الوصول الى الخبائث (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) الإصر الثّقل والمراد منه ثقل التّكاليف ، فانّ للتّكاليف في بدو الأمر ثقلا عظيما بحيث لا يكاد يتحمّله المكلّف فاذا أخذها من الرّسول (ص) أو خلفائه يتبدّل ثقلها بالنّشاط والسّرور ، وكما يتبدّل ثقلها بالنّشاط يتبدّل ثقلها أيضا بالخفيف الّذى دون طاقة المكلّف في أمّة محمّد (ص) كما في الاخبار الّتى ورد في تنزيل الآية (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) النّاشئة من الاهوية المختلفة المتكثّرة المانعة لحركة المكلّف نحو ولىّ امره فانّ لكلّ سلسلة تمنعه من الحركة لكنّ الإنسان ما دام في الدّنيا لا يشاهدها الّا من فتح الله عينيه وصار من أهل الآخرة وهو بعد في الدّنيا (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة (وَعَزَّرُوهُ) عظّموه بمنع الأغيار من إيذائه وبمنع الاهوية الفاسدة والخيالات الكاسدة من الغلبة على اتّباعه وامتثال أو امره ونواهيه ، وبعبارة اخرى بالتّبرى عمّا يخالف امره ونهيه ، فانّ امر محمّد (ص) هو نازلة محمّد (ص) وظهوره في المرتبة النّازلة وتعظيم امره (ص) ومنع الاهوية المانعة من امتثاله تعظيم له ومنع عنه (وَنَصَرُوهُ) بنصرة امره ودوام الاتّصال به حتّى يلحقّ امره القالبىّ بأمر الولي الّذى هو وارد على القلب ، وبعبارة اخرى بالتّولّى له فانّ التّعزير كناية عن التبرّى والنّصرة عن التولّى الّذين يعبّر عنهما تارة بالزّكوة والصّلوة ، وتارة بالتّقوى والايمان ، وتارة بالتبرّى والتّولّى والمفاهيم الظّاهرة من تلك الألفاظ بحسب التّنزيل لا حاجة لها الى البيان (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) النّور هو الولاية ولذلك فسّر بعلىّ (ع) فانّه الأصل فيها ويعبّر عنها بالنّور لانّ النّور هو الظّاهر بالّذات والمظهر للغير ، والولاية هي الّتى يفتح بها عين القلب فيظهر به الصّحيح من الأعمال والأحوال والأخلاق والعقائد من سقيمها ، وبه أيضا يظهر دناءة الدّنيا وشرافة الآخرة ، واتّباع الولاية هو آخر مراتب التّكاليف القالبيّة وهو المقصود من البيعة العامّة النّبويّة الّتى يعبّر عنها بالإسلام وهو ما به ارتضاء الإسلام وما به تماميّة نعمة الإسلام وهو أسنى أركان الإسلام وأشرفها وهو الّذى ليس وراءه مطلب سواه ، فانّ جميع المراتب الّتى تتصوّر للإنسان في سلوكه مراتب الولاية والمراد بمعيّة النّور لمحمّد (ص) معيّته القيّوميّة ، فانّ الولاية روح النّبوّة وقوامها ولذلك قال (ص): يا علىّ كنت مع كلّ بنىّ سرّا ومعى جهرا (أُولئِكَ) تكرير المبتدء باسم الاشارة البعيدة تعظيم لهم وتصوير لهم باوصافهم الشّريفة الجليلة وحصر للفلاح الحقيقىّ فيهم (هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ) يعنى


بعد ما أظهرنا اوصافك وما به صدق رسالتك فأظهر رسالتك عليهم وقل (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) لا اختصاص لرسالتي بقوم دون قوم (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) ذكر أوصافا ثلاثة لله مشيرا الى مبدئيّته ومرجعيّته ومدبّريّته والى توحيد الهيّته والى انّه الفاعل للحيوة والممات ، ردّا بها على الدّهرية القائلة بانّ العالم لا مبدأ له ، والثّنويّة القائلة بانّ مدبّر العالم مبدءان قديمان مستقلّان ، النّور والظّلمة أو يزدان واهريمن ، والثّنويّة القائلة بانّ مبدء العالم هو الله واهريمن خلق من فكر سيّئ ليزدان ولكن خالق الخير ومنه الحيوة يزدان وخالق الشّرّ ومنه الموت اهريمن (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) مقول قول النّبىّ (ص) أو قول الله تعالى بصرف الخطاب الى النّاس والتّفريع على قول النّبىّ (ص) والمراد بالايمان هنا الايمان العامّ بقرينة قوله لعلّكم تهتدون (النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) التّكوينيّة والتّدوينيّة المعبّر عنه بالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله الّتى هي اشارة الى مراتب العالم من الملائكة المقرّبين (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) والملائكة الرّكّع والسّجّد وذوي الاجنحة مثنى وثلث ورباع الّتى مقامها الملكوت العليا وعالم الخلق والملكوت السّفلى الّتى هي دار الجنّة والشّياطين وسجن الأشقياء والمذنبين ؛ هذا بحسب النّزول ، وقد يعبّر عنها بمراتب الولاية والنّبوّة الّتى يعبّر عنها بمائة واربعة وعشرين الف نبىّ وبمائة واربعة وعشرين الف وصىّ كما في الاخبار وهذا بحسب الصّعود ، والمراد بإيمانه (ص) بكلمات الله ليس الايمان بالغيب ولا الايمان الشّهودىّ بل الايمان التّحقّقى المعبّر عنه بحقّ اليقين فانّه (ص) المتحقّق بجميع المراتب والكلمات (وَاتَّبِعُوهُ) بامتثال أو امره (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى الولاية جعل الايمان بالنّبىّ (ص) واتّباعه هداية الى الايمان بعلىّ (ع) وقبول ولايته (ع) كما في قوله تعالى : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) اى لولاية علىّ (ع) ، فانّ الايمان المقابل للإسلام هو ولاية علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة والميثاق المخصوص كما في أخبارنا ؛ انّ الايمان هو معرفة هذا الأمر أو ولاية علىّ (ع) أو الدّخول في أمرهم (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) قد عرفت انّ الحقّ الاضافىّ هو الولاية المطلقة والمتحقّق بها هو علىّ (ع) (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) من العدل مقابل الجور وقد ورد في الاخبار ، انّ هذه الامّة قوم من وراء الصّين بينهم وبين الصّين وادحار من الرّمل لم يغيّروا ولم يبدّلوا ليس لأحدهم مال دون صاحبه ، يمطّرون باللّيل ويضحون بالنّهار ويزرعون ، لا يصل إليهم منّا أحد ولا يصل منهم إلينا وهم على الحقّ (وَقَطَّعْناهُمُ) اى قوم موسى (ع) اى فرّقناهم فرقة فرقة (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) السّبط القبيلة من اليهود وولد الولد قيل لا يثنّى ولا يجمع وجمع بعد اثنتى عشرة لانّه جعله بدلا لا تميزا ، أو هو تميز بجعل كلّ واحدة من الفرق أسباطا ، أو بتقدير موصوف مفرد مثل الفرقة والقبيلة ويؤيّد جعله تميزا بأحد هذين الوجهين تأنيث اثنتى عشرة (أُمَماً) بدل أو صفة وسمّى أولاد يعقوب (ع) بالأسباط لانّهم كانوا اثنتى عشرة قبيلة كلّهم من أولاد ابنائه الّذين كانوا اثنى عشر ، كما سمّى أولاد اسمعيل قبائل (ع) (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) في التّيه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) فضرب (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد القبائل حتّى لا يقع بينهم نزاع في الورد (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) اى فرقة من الأسباط


(مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) المنّ التّرنجبين أو العسل ، والسّلوى طائر يسمّى بالسّمانى قائلين (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا) في مظاهرنا وخلفائنا بترك القناعة والاستبدال بالّذى هو ادنى (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ) عطف على إذا ستسقيه أو عطف على اضرب بعصاك أو على آمنوا أو على اتّبعوا بتقدير اذكر أو ذكّر أو اذكروا ، إذ قيل (لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدّس (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) على مغفرة الخطيئات (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) مضى الآيات وتفسيرها مفصّلا في اوّل البقرة (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) حتّى تذكّرهم سوء عاقبة أهلها لسوء صنيعتهم حتّى يكون نصب أعينهم وتذكّرة لقومك (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) هو بدل من القرية نحو بدل الاشتمال والمعنى اسئلهم عن حال أهل القرية عن وقت عدوهم والإتيان بالمضارع مع ارادة المضىّ للاشارة الى استمرارهم عليه كانوا يتجاوزون حدود الله في السّبت ، فانّ السّبت كان عيدهم وكان له حرمة عندهم وكان الأحد عيدا للنّصارى كما كان الجمعة عيدا لمحمّد (ص) ، ومن هذا ادّعى الصّابئون انّ أنبياء العرب كانوا يعبدون الكواكب ، فقالوا انّ محمّدا (ص) كان يعبد الزّهرة ولذا اختار من الدّنيا النّساء والطّيب لانّهما كانتا منسوبتين الى الزّهرة واختار من الايّام الجمعة لانّها منسوبة إليها ، وكان موسى (ع) يعبد الزّحل ولذا اختار السّبت ، وعيسى (ع) يعبد الشّمس ولذا اختار الأحد (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ) وكانوا منهيّين عن الصّيد يوم السّبت (شُرَّعاً) ظاهرة قريبة التّناول ابتلاء لهم (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) كانوا مشتاقين الى الصّيد منتظرين تمام الأسبوع ولم يتيسّر لهم فاذا كان يوم سبتهم وكانوا ممنوعين من الصّيد لحرمته وللعبادة فيه تأتيهم الحيتان ظاهرة قريبة بحيث لا يمكنهم الصّبر عن الصّيد ؛ أعاذنا الله من امتحانه وابتلائه (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) يعنى انّ هذا الابتلاء كان بسبب فسقهم وعصيانهم ، والإتيان بالمستقبل لاحضار الماضي أو المراد انّا كما بلوناهم سابقا نبلوهم فيما يأتى ، أو المراد كذلك نبلو أمّتك (وَإِذْ قالَتْ) عطف على إذ يعدون أو على إذ تأتيهم والمعنى إذ يعدون إذ قالت (أُمَّةٌ مِنْهُمْ) من النّاهين الواعظين أو من السّاكتين الغير الواعظين أو من العاصين قالوا استهزاء أو اعتقادا (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يعنى انّهم وان كانوا منهمكين في الفسوق والعصيان لكنّا نؤدّى في موعظتنا ما علينا من النّهى عن المنكر والتّرحّم على العباد باحتمال القبول وباحتمال نجاتهم من العذاب (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) تركوا ما ذكّرهم الواعظون من التّحذير من العذاب أو ما ذكّرهم الله من حرمة السّبت وحرمة الصّيد فيه (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) يعنى الواعظين لانّهم ما كانوا راضين بفعلهم ولا ساكتين عن نهيهم (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بترك ما عليهم وارتكاب ما ليس لهم في السّبت (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) شديد (بِما كانُوا


يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم الّذى هو سبب من جهة القابل لا الفاعل (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) من عطف التّفصيل على الإجمال (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) مطرودين عن كلّ خير ، عن علىّ بن الحسين (ع) انّه قال : كان هؤلاء قوم يسكنون على شاطئ بحر نهاهم الله تعالى وأنبياؤه (ع) عن اصطياد السّمك في يوم السّبت فتوصّلوا الى حيلة ليحلّوا بها لا نفسهم ما حرّم الله ، فخدّوا أخاديد وعملوا طرقا تؤدّى الى حياض يتهيّأ للحيتان الدّخول فيها من تلك الطّرق ولا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالخروج ، فجاءت الحيتان يوم السّبت جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد وحصلت في الحياض والغدران ، فلمّا كانت عشيّة اليوم همّت بالرّجوع منها الى اللّجج لتأمن من صائدها ، فرامت الرّجوع فلم تقدر وبقيت ليلها في مكان يتهيّأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، وكانوا يأخذون يوم الأحد ويقولون : ما اصطدنا في السّبت انّما اصطدنا في الأحد ، وكذب أعداء الله بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم الّتى عملوها يوم السّبت ، حتّى كثر من ذلك مالهم وثراهم وتلقّموا بالنّساء وغيرهنّ لاتّساع أيديهم به ، وكانوا في المدينة نيّفا وثمانين ألفا فعل هذا منهم سبعون ألفا وأنكر عليهم الباقون كما قصّ الله ، (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية وذلك انّ طائفة منهم وعظوهم وزجروهم ومن عذاب الله خوّفوهم ومن انتقامه وشدائد بأسه حذّروهم فأجابوهم من وعظهم : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) بذنوبهم هلاك الاصطلام (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) ، أجاب القائلون هذا (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) هذا القول منّا لهم معذرة الى ربّكم إذ كلّفنا الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم قالوا (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، ونعظهم أيضا لعلّهم ينجع فيهم المواعظ فيتّقوا هذه الموبقة ويحذروا عقوبتها ، قال الله تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا) حادوا واعرضوا وتكبّروا عن قبول الزّجر (عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) ، مبعدين من الخير مبغضين ، فلمّا نظر العشرة الآلاف والنّيف انّ السّبعين ألفا لا يقبلون لواعظهم ولا يخافون بتخويفهم ايّاهم وتحذيرهم لهم اعتزلوهم الى قرية اخرى وانتقلوا الى قرية من قراهم ، وقالوا نكره ان ينزل بهم عذاب الله ونحن في خلالهم ، فأمسوا ليلة فمسخهم الله كلّهم قردة وبقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منه أحد ولا يدخله أحد ، وتسامع بذلك أهل القرى فقصد وهم وسموا حيطان البلد فاطّلعوا عليهم فإذا هم كلّهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض ، يعرف هؤلاء النّاظرون معارفهم وقراباتهم وخلطائهم يقول المطّلع لبعضهم : أنت فلان وأنت فلانة فتدمع عينه ويومى برأسه أو بفمه بلا أو نعم ؛ فما زالوا كذلك ثلاثة ايّام ثمّ بعث الله تعالى مطرا وريحا فحرفهم الى البحر وما بقي مسخ بعد ثلاثة ايّام ، وانّما الّذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فانّما هي أشباهها لا هي بأعيانها ولا من نسلها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) عطف على إذ يعدون أو على إذ تأتيهم أو على إذ قالت أمّة أو عطف على اسئلهم بتقدير اذكر أو ذكّر وتأذن واذّن من باب التّفعيل واذنه من الثّلاثىّ المجرّد واذن به بمعنى اعلم وكثر استعمال اذن مخفّف العين بمعنى علم وأباح ورخّص وجاء تأذّن بمعنى اقسم (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) على العادين يوم السّبت أو على اليهود مطلقا بفعل العادين (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ) يكلّفهم (سُوءَ الْعَذابِ) بالقتل والاذلال بالجزية والاجلاء كما فعل بخت نصّر ومن بعده ومحمّد (ص) (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) فلا ينبغي الاغترار بحلمه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن ارعوى عن غيّه وتاب اليه (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) متفرّقين بحيث لا يخلو مملكة منهم والأغلب انّهم أذلّاء عند غير مذهبهم


(مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) جملة مستأنفة أو وصفيّة أو حاليّة ومنهم مبتدء سواء كان من اسما أو قائما مقام الموصوف المبتدء أو خبر مقدّم (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) منهم مبتدء كما سبق أو منهم خبر مقدّم والمبتدء محذوف اى منهم ناس دون ذلك اى منحطّون عن الصّلاح سواء لم يكونوا كافرين أو كانوا كافرين ، ويكون المراد بقوله فخلف من بعدهم خلف انّهم صاروا بعد جميعا كافرين أو المراد بمن دون ذلك من لم يبلغ درجة الكفر (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ) السّعة والدّعة والأمن والصّحة (وَالسَّيِّئاتِ) ضدّ ذلك المذكور (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من غيّهم كما هو ديدننا في هداية من أردنا هدايته (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) ذوو شرّ على ما قيل انّه بالتّسكين لذوي الشّرور وبالتّحريك لذوي الخيرات ، وهو تعريض بامّة محمّد (ص) حيث كانوا في عهده امّا صالحين وامّا دون ذلك وبعده صاروا آخذين بعرض الدّنيا مغترّين بغرور النّفس مع انّه (ص) أخذ عليهم الميثاق بان لا يستبدّوا بآرائهم ولا يقولوا على الله الّا الحقّ ولا يفارقوا الكتاب وعترته (ص) (وَرِثُوا الْكِتابَ) اى كتاب النّبوّة وأحكامها أو التّورية على تنزيله وظاهره (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) من الدنوّ أو الدّنائة يعنى العرض الّذى هو عبارة عن متاع الدّنيا فانّه عارض وزائل لا محالة والجملة امّا صفة بعد صفة والاختلاف مع الاولى للاشارة الى استمرارهم فيه ، أو حال من خلف لاختصاصه بالصّفة ، أو من فاعل ورثوا ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما فعلوا بوراثة الكتاب؟ ـ فقال : يأخذون وعلى اىّ تقدير فالمقصود ذمّهم على انّهم جعلوا الكتاب الّذى هو سبب لاخذ النّعيم الأبديّ والفوز بخير دار البقاء وسيلة لعرض الدّنيا الزّائل لحمقهم ، فانّ اسناد الأخذ الى الخلف المقيّد بوراثة الكتاب يشعر باعتبار الحيثيّة ؛ فالويل ثمّ الويل لمن انتحل الأحكام النّبويّة وجعلها وسيلة الى الاعراض الدّنيويّة كأكثر العامّة الّذين ادّعوا العلم والفقاهة وانتحلوا الشّرع والوراثة (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) فانّ النّفس في توسّلها الى مشتهياتها تستدعى وجها لاطمينانها فيها فتارة تقول : لا ثواب ولا عقاب ولا آخرة ان هي الّا حيوتنا الدّنيا ، وتارة تقول : انّ الله كريم ، وتارة تقول : ليس العذاب الّا ايّاما معدودة ، وتارة تقول : من انتسب الى نبىّ (ع) لا يعذّب ولو جاء بذنوب أهل الدّنيا ، وتارة تقول : محبّ علىّ (ع) لا يدخل النّار وحبّ علىّ (ع) حسنة لا تضر معها سيّئة ولا تدري انّها كلّها غرور وما توهّمته انتسابا الى نبىّ أو محبّة لعلىّ (ع) انتساب الى الشّيطان ومحبّة له ؛ أعاذنا الله من شبهات أنفسنا (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) يعنى ليس قولهم سيغفر لنا الّا عن غرور النّفس فانّ راجى المغفرة يرعوى عمّا ينافيها (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) يعنى انّ وراثة الكتاب تستدعى الخوف من الله لا الاغترار به فانّ ميثاق الكتاب اى العهود الّتى تؤخذ عليهم بالبيعة العامّة النّبويّة ان لا يغترّوا بالدّنيا ولا يقولوا على الله الّا الحقّ (وَدَرَسُوا) تعلّموا وتعاهدوا (ما فِيهِ) من الوعد والوعيد (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) يعنى انّ الافتتان باعراض الدّنيا يتصوّر لغفلتهم عن مفاسدها وسكوتنا عن بيانها وقد بيّناها ونبّهناهم عليها ، أو لرجحانها على متاع الآخرة وليس كذلك ، أو للحمق وعدم العقل واليه أشار بقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أو لانّ التّمسّك بأحكام الكتاب والاتّعاظ بمواعظها يصير ضائعا عندنا (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) اى كتاب النّبوّة بالبيعة الاسلاميّة (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بالبيعة الولويّة (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشارة الى انّ التّمسّك بالكتاب والولاية مصلح


لا محالة فعلى هذا قوله تعالى (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ) (الى آخرها) جملة حاليّة والّذين يمسّكون بالكتاب عطف عليه والاحتمالات الاخر في تركيبها بعيدة عن سوق الكلام (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) رفعناه بالقلع (فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) سقف يظلّلهم (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) استعمال الظّنّ مع انّهم كانوا متيقّنين لوقوعه لكونه معلّقا وليس من عادة الأثقال ان تقف معلّقة لانّهم كانوا أصحاب النّفس وليس من صفة النّفس الّا الظّنّ وان كان متيقنة أو لانّهم لمّا علموا انّه كان باعجاز احتملوا ان يقف باعجاز أيضا ولا يقع عليهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) على تقدير القول يعنى قائلين خذوا التّوراة وأحكامها بقوّة وعزم من قلوبكم وامتثلوا أحكامها بقوّة من أبدانكم (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من العبر والأحكام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) موبقات النّفس ، عن الصّادق (ع) لمّا انزل الله التّوراة على بنى إسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى (ع) ان لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه وطأطأوا رؤسهم وقد مضى في سورة البقرة (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وقرئ ذرّيّاتهم ، اعلم ، انّ آدم قد يقال على آدم ابى البشر وقد يقال على معنى موجود في كلّ بشر وقد يقال على معنى اعمّ منهما وبهذا المعنى يقال : آدم الملكىّ ، وآدم الملكوتىّ وآدم الجبروتىّ ، وآدم اللّاهوتيّ ، وبهذا المعنى ورد في بعض خطب مولانا أمير المؤمنين (ع): انا آدم الاوّل ، وذلك لانّ كلّ ما في عالم الطّبع وعالم الكثرة فله صورة ومثال بنحو الكثرة والتّفصيل في عالم المثال بحيث لو رآه راء لقال : هو هو بعينه من غير فرق وتميز وله حقيقة في عالم العقول العرضيّة وأرباب الأنواع وله حقائق في عوالم العقول الطّوليّة بنحو أتمّ وابسط ممّا في هذا العالم ويعبّر عمّا في تلك العوالم بالّذّر ، وكلّ ما وجد في ما فوق عالم الطّبع فكلّه علم وشعور وسمع وبصر ونطق ، بخلاف ما في هذا العالم فانّ شعوره وسمعه وبصره ونطقه بآلات متمايزة ليس في موضع السّمع بصر ولا في موضع البصر سمع ونطق. ثمّ اعلم ، انّ المراتب النّازلة كلّ بالنّسبة الى ما فوقه رقائق وذرار وظهور له بنحو الكثرة والتّفصيل لكنّه في عين التّفصيل أخفى منه وأضعف والعالي في عين اجماله أتمّ واشدّ وأظهر واحقّ بالاسم المطلق عليه ، فآدم اللّاهوتى الّذى يعبّر بالحقيقة المحمّديّة (ص) والحقّ المخلوق به والاضافة الاشراقيّة اشدّ ظهورا واحقّ باسم آدم من آدم الجبروتىّ وهكذا الى آدم النّاسوتىّ وبنو آدم في كلّ مقام هم المنتسبون اليه بلا واسطة مثلا بنو آدم اللّاهوتىّ ما في عالم العقول الطّوليّة من التعيّنات الآدميّة ، وبنو آدم الجبروتىّ ما في العقول العرضيّة وبنو آدم في تلك المرتبة الصّور المثاليّة ، وبنو آدم المثالىّ الملكوتىّ الصّور الملكيّة البشريّة ، وبنو آدم البشرىّ المنسوبون اليه بلا واسطة أو بواسطة ، وبنو آدم في العالم الصّغير المدارك والقوى البشريّة وذرّيّة بنى آدم في كلّ مرتبة ما يليق بتلك المرتبة كما لا يخفى على البصير ، والتّعبير بظهر بنى آدم دون ظهر آدم كما في الاخبار ، لانّ آدم اللّاهوتىّ لبساطته ووحدته له وحدة حقّة ظلّيّة لا يتصوّر فيه كثرة حتّى يتصوّر له ذرار ولا جهة وجهة حتّى يتصوّر له ظهر وبطن وأيضا الاقتصار على ظهر آدم يوهم الاختصاص بآدم ابى البشر ولمّا كان سلسلة النّزول بمنطوق صحيحة ما ورد : انّ الله خلق العقل ثمّ قال له : أقبل اى الى الدّنيا والدّار السّفلى ، فأقبل ، متوجّها عن الحقّ الاوّل تعالى الى العالم الأسفل كان المنظور اليه والمترائى فيه في كلّ مرتبة هو ظهرها ، وأيضا لمّا كان كلّ مرتبة بالنّسبة الى دانيها ظهوره بنحو أتمّ واشدّ قال : من ظهور بنى آدم بخلاف سلسلة الصّعود فانّها بحكم قوله ثمّ قال له : أدبر اى عن الدّنيا فأدبر كان المنظور فيه منها هو البطن منها ، وأيضا كلّ دان بالنّسبة الى العالي بطن ومحلّ اختفاء ولذا أطلق البطن في سلسلة الصّعود أخرجناكم من بطون


أمّهاتكم ؛ والسّعيد سعيد في بطن أمّه ، والتّعبير بأخذنا في النّزول وأخرجنا في الصّعود لا يخفى وجهه (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) وبعد ما علمت انّ الأشياء كلّها خصوصا ما فوق عالم الطّبع بالنّسبة الى الله تعالى كلّها علم وشعور وسمع وبصر ونطق لا يبقى لك التّأمّل في انّ الاشهاد والأسماع والإقرار كلّها على حقائقها اللّغويّة بل الاحقّ بحقائقها هو ما فيما فوق عالم الطّبع ولا حاجة لك الى تأويلات المفسّرين وتكلّفاتهم ومجازاتهم (أَنْ تَقُولُوا) كراهة ان تقولوا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) يعنى أشهدناكم وحملناكم على الإقرار هناك لكي تستقلّوا بالتّكليف وتتنبّهوا بالرّبوبيّة فلا تكونوا غافلين هاهنا ولا تابعين ولا معلّقين سوء فعالكم على غيركم (وَكَذلِكَ) التّفصيل بالقول وبالفعل (نُفَصِّلُ الْآياتِ) التّكوينيّة في مراتب التّكوين وفي كتاب التّدوين (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عطف على (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) وسوّغ عطف الإنشاء على الخبر تضمّنها للتّعليل كأنّه قال : لذلك ، تفصّل الآيات لرجوعهم (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) النّبويّة على لسان نبينّا (ص) ، أو آياتنا الولويّة على لسان خليفته ، أو آياتنا الآفاقيّة الغير النّبويّة والغير الولويّة ، أو آياتنا الانفسيّة الّتى شاهدها وادراك حيثيّة كونها آيات من الآيات المنذرة والمبشّرة الجارية على السنة خلفائنا والواردة عليه ممّا ليس بقدرته واختياره والواقعة في المنامات والواقعات والمنبّهة من اختلاف الحالات ، والغرض من التّلاوة عليهم تذكيرهم بسوء عاقبة المنسلخ حتّى يتذكّروا ويكونوا على حذر فلا ينسلخوا عن الآيات النّبويّة والأحكام الشّرعيّة ولا يعرضوا عن خليفته محمّد (ص) والمنصوب بعده لهدايتهم ، ونزول الآية في بلعم بن باعوار كما في أخبارنا أو أحد علماء بنى إسرائيل أو أميّة بن ابى الصّلت رجا لكثرة علمه واطّلاعه على الكتب السّماويّة ان يكون هو النّبىّ الموعود فلمّا بعث محمّد (ص) حسده وكفر به كما قيل (فَانْسَلَخَ مِنْها) بترك العمل بمقتضاها والغفلة عنها (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) جعله تابعا لنفسه بعد انسلاخه من الآيات الّتى هي الشّهب المتبعة للشّيطان والتّفسير بلحقه وأدركه أيضا مناسب لهذا المقام ، مثله في قوله تعالى فاتبعه شهاب ثاقب بمعنى لحقه وأدركه وقد جاء في اللّغة بمعنى جعله تابعا (فَكانَ) اى صار والتّعبير بكان للاشارة الى تمكّنه في الغواية كما انّ لفظة (مِنَ الْغاوِينَ) أيضا كذلك (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) بالآيات ولمّا توهّم من لفظة انسلخ منها ولفظة فأتبعه الشّيطان انّه لا دخل لله ومشيّته في الانسلاخ واتّباع الشّيطان استدرك ذلك الوهم وقال : ان مشيّتنا هي السّبب الفاعلىّ وما من قبله هو السّبب القابلىّ والسّبب الفاعلىّ وان كان تامّا لكنّه لم يقع جزافا بل بحسب استعداد القابل وما استعدّ المنسلخ للارتفاع (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ارض الطّبع وبعدها الى ارض الطّين لقضاء مشتهيات عنها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) من قبيل عطف السّبب على المسبّب فشئنا غوايته وضلاله فأضللناه (فَمَثَلُهُ) بعد ما اخلد الى الأرض في شدّة تعبه وكثرة حركته لتحصيل مأموله من الأرض لتسكين حرارة حرصه وعدم الانتفاع في تسكين الحرص (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) الّذى وقع في الحرّ الشّديد فلهث وأخرج لسانه وفتح فاه لكثرة التنفّس لتسكين حرارة القلب ولم ينفعه ذلك بل يضاعف حرارته لكثرة وصول


الهواء الحارّ الى قلبه فقوله (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) في موضع حال مقيّدة للكلب باخسّ أحواله ، روى عن الرّضا (ع) انّه اعطى بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجيب له ، فمال الى فرعون فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى (ع) وأصحابه قال لبلعم : ادع الله على موسى (ع) وأصحابه ليحبسه علينا ، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى (ع) فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عزوجل فقالت : ويلك على ماذا تضربني؟! أتريدان أجيء معك لتدعو على نبىّ لله وقوم مؤمنين! ـ فلم يزل يضربها حتّى قتلها وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه ، ونسب الى الرّواية انّ قومه سألوه ان يدعو على موسى (ع) ومن معه ، فقال : كيف ادعو على من معه الملائكة فألحوّا عليه حتّى دعا عليهم فبقوا في التّيه، ونقل انّه لمّا دعا على موسى (ع) خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) اشارة الى التّعميم فكلّ مكّذب بآيات الله هذا مثله (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) على اليهود وغيرهم كما عرفت انّ المقصود تنبيه أمّة محمّد (ص) (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في مآل أفعالهم وأحوالهم (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) التّكرار للمبالغة في ذمّهم وللتّطويل المناسب لمقام التّهديد (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) كأنّه توهّم متوهّم ممّا رأى من تشديد الله عليهم أنّهم ظلموا الآيات بالتّكذيب فقال : ما ظلموا (الآيات) ولكن (أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) وأسقط المعطوف عليه لاستفادته من الحصر المستفاد من تقديم المفعول (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) استدراك لما توهّم من نسبة الإخلاد الى الأرض واتّباع الهوى والتّكذيب إليهم من انّ الأفعال منسوبة إليهم ، نسبة الفعل الى الفاعل واختلاف القرينتين بالافراد والجمع وتكرار المبتدأ وعدمه لكون المقام مقام التّهديد ومناسب مقام التّهديد الاكتفاء في جانب الوعد والرّحمة بأقلّ ما يكتفى به ، وتعجيل الانتقال الى المهدّدين والتّغليظ والتّطويل فيهم وللاشارة الى اتّحاد المهتدين واختلاف الضّالّين (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ولرفع توهّم الجبر وتوهّم ان لا مدخل للعبد في ذلك كما يدلّ عليه ذرأنا قال : فعلنا ليس اجبارا منّا بل (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) فبعدم استعدادهم وعدم استحقاقهم أدخلناهم جهنّم ، ولمّا كان التّفقّه عبارة عن علم ديني يتوسّل به الى علم آخر كما مضى ولم يكن علومهم وان كانت كثيرة دقيقة باعثة لترقّيهم في طريق القلب والآخرة نفى الفقه عن قلوبهم (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) من الأشياء ما يدلّ على الله ومبدئيّته ومعاديّته في عين حدّتها (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) من الأشياء والأصوات ما ينفعهم في آخرتهم في عين حدّتها في سماع الأصوات ولا يسمعون أصوات الأشياء الّتى تنادي كلّا ليلا ونهارا ان : لا تقم في دار طبعك ، ولا تنم في مسبعك ، واستعدّ من يومك لغدك (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم التّفقّه واشتداد العلم وفي عدم ابصار ما ينبغي ان يبصر من المبصرات ، وعدم سماع ما ينبغي ان يسمع من المسموعات ، بل مداركهم موقوفة عي درك أسباب التّعيّش في الآجل وان كانت في أعلى مرتبة الدّرك كأكثر الفلاسفة المنكرين للرّسالة المعتقدين انّ الرّسول هو العقل واحكامه هي الشّريعة ، كما انّ مدارك الانعام موقوفة على درك النّافع والضّارّ في الآجل (بَلْ هُمْ أَضَلُ) لانّ ضلال الانعام بالنّسبة الى الإنسان ضلال والّا فهو بالنّسبة الى مقامها هداية فهي باقية على هدايتها التّكوينيّة ، وأيضا ضلالها لا يتخطّى بها عن مقامها الى ما يوذيها ويؤلمها (أُولئِكَ


هُمُ الْغافِلُونَ) تكرار اسم الاشارة البعيدة لتحقيرهم ولتطويل التّغليظ عليهم كما هو المناسب لمقام الّذمّ والجملة تأكيد للأولى باعتبار لازم معناها ولذا لم يأت بالعاطف وأتى بها مؤكّدة محصورة ، والمقصود انّ الغفلة محصورة على الغافل عن دلالة الأشياء على ما هي موضوعة بالوضع الالهىّ له لا الغافل عن الجهات الدّنيويّة ، ولا الغافل عن الشّعور بالشّعور حين مشاهدة شخص أو سماع لفظ مع عدم الالتفات الى الرّؤية والى مدلول المسموع فانّ هذا الغافل لا يستضرّ بغفلته وان استضرّ في جهة دنيويّته فليس ضررا يعتنى به بخلاف الغافل عن جهة دلالة الأشياء وجذبها الى الآخرة فانّه يتضرّر بها البتّة ضررا خارجا عن التّهديد (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الجملة حال من فاعل الأفعال الثّلاثة على سبيل التّنازع وقوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) معترضة جوابا لسؤال مقدّر أو إنشاء لذّمّهم بها ، والتّقييد بهذه الجملة للدّلالة على غاية مذمّتهم لانّ المعقول والمبصر والمسموع إذا لم يكن له جهة سوى المظهريّة والاسميّة لله ومع ذلك لم ير الرّائى منه ما هو مرئىّ فيه ومدلول له ، كان ذلك منه غاية العمى والغفلة بخلاف ما إذا كان ذا جهتين ، والمعنى لهم قلوب لا يفقهون من معقولاتهم ومدركاتهم المعقولات الاخر الاخرويّة الالهيّة ولا ينتقلون منها الى ما يتراءى فيها من الصّفات الالهيّة والحال انّ أكثرها وهي الأسماء الحسنى لا جهة لها سوى اراءة الله ، لانّها مختصّة بالله ليس فيها دلالة على غيره وهم يدركون بها غيره لغاية عماهم ، ثمّ اعلم ، انّه لا اختصاص لاسم الاسم بالأسماء اللّفظيّة ولا بالمفاهيم الذّهنيّة ولا بما دلّ بالمواضعة ، بل يطلق حقيقة على الموجودات العينيّة لانّ حقيقة الاسم ما يحكى عن الغير لفظيّا كان أو ذهنيّا أو عينيّا ، كما ورد عنهم : نحن الأسماء الحسنى ، وانا الاسم الأعظم ولا اسم لله أكبر منّى ، وحسن الاسم امّا بحسن دلالته أو بحسن مدلوله أو بحسنه في نفسه مع قطع النّظر عن حيثيّة اسميّته ودلالته ، كالمرآة فانّ حسنها قد يكون بحسن اراءتها أو بحسن المرئىّ منها أو بحسنها في نفسها فالموجودات العينيّة والمعقولات الذّهنيّة والأسماء اللّفظيّة كلّها أسماء لله كما قرّر في محلّه :

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على انّه واحد

وكلّها حسنة باعتبار دلالتها على الله لكنّها متفاوتة في الدّلالة وفي أنفسها وبهذا الاعتبار توصف بالأحسنيّة فالعقول الّتى هي بشراشرها تحكى عن الله وصفاته وأسمائه وهم الملائكة المقرّبون أحسن من النّفوس باعتبار دلالتها وباعتبارها في أنفسها ، والنّفوس الّتى يعبّر عنها بالمدبّرات امرا لتجرّدها عن المادّة والتّقدّر أحسن من الأشباح النّوريّة ، وهي لتجرّدها عن المادّة أحسن المادّيّات وهي أحسن من أهل الملكوت السّفلىّ الّتى هي دار الشّياطين والجنّة وفيها جحيم الأشقياء ، لكنّ المادّيّات والسّفليّات لاحتجابها بحجب المادّة ولوازمها وانظلامها بظلمة المادّة كأنّها لا دلالة لها على الله ولا حسن لها في أنفسها فلو سمّيتها بالأسماء الغير الحسنة أو الغير الحسنى ، لكان حقّا هذا بحسب سلسلة النّزول وامّا بحسب سلسلة الصّعود فخاتم الأنبياء (ص) اسم أحسن بالجهات الثّلاثة لا أحسن منه ثمّ خاتم الأولياء (ع) ثمّ سائر الأنبياء (ع) والأولياء (ع) على تفاوت مراتبهم ، فالمعنى ولله خاصّة الأسماء الّتى لا دلالة لها على غيره وهي أحسن من غيرها في أنفسها (فَادْعُوهُ بِها) ولمّا كان الأمر بدعائه تعالى مفروغا عنه مسلّما عندهم بحيث ما بقي لأحد شكّ في انّه مأمور بدعائه تعالى كان الغرض من تفريعه على تخصيص الأسماء الحسنى به تخصيصه بها اعتبارا لمفهوم القيد في مثل هذا المقام فكأنّه قال فادعو الله بالأسماء الحسنى لا بغيرها من الأسماء الّتى لا حسن فيها أو ليست بأحسن ، ولمّا كان الأسماء اللّفظيّة الالهيّة كلّها متساوية في أنفسها وفي دلالتها ، لانّ الدّلالة وضعيّة في كلّها والمدلول في الكلّ هو الله وأسماؤه وصفاته فلا يتصوّر فيها التّفاوت بالحسن وعدمه والاحسنيّة وعدمها فليست هي مقصودة منها ، والأسماء النّزوليّة


الّتى مقامها فوق مقام البشر ، لمّا لم يمكن التّوسّل بها للبشر لارتفاعها عن مقام البشر وعدم سنخيّة البشر لها فهي أيضا ليست مقصودة لعدم جواز الأمر من الله بالتّوسّل بغير الممكن ، فبقي ان يكون المقصود الأمر بدعائه بتوسّط الأسماء البشريّة الصّعوديّة فكأنّه قال تعالى بعد اعتبار مفهوم القيد : فادعوه بأسمائه الحسنى من افراد البشر الّتى هي ببشريّتها سنخكم ويمكن لكم التّوسّل بها من الأنبياء (ع) والأولياء (ع) وخاتم الكلّ والحاضر في زمانكم محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، فادعوه بهما كما فسّر قوله تعالى : (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) بهما ؛ ولا تدعوه بأسمائه الغير الحسنى من الأشقياء وائمّة الجور وخاتم الكلّ والحاضر في زمانكم مقابلوا محمّد (ص) وعلىّ (ع) وعلى هذا فقوله تعالى (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) كان بيانا لمفهوم القيد وتأكيدا له ان كان معناه واتركوا دعاء الله بالّذين يلحدون في أسمائه الحسنى ان جعل الاضافة للعهد أو في مطلق أسمائه ان جعلت للاستغراق ، وان كان معناه اعرضوا عن الّذين يلحدون في أسمائه ولا تنظروا إليهم والى الحادهم كان تأسيسا يعنى لا توسّلوا بهم حسب مفهوم القيد ولا تنظروا إليهم والى الحادهم بل اجعلوهم كالمعدومات ، والمراد بالإلحاد في الأسماء العدول عنها من حيث انّها أسماء والعدول بها عن اسميّتها لله وقوله (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يناسب المعنى الثّانى لقوله وذروا الّذين يلحدون (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) قد عرفت ممّا مضى انّ الحقّ المضاف هو الولاية والنّبوّة والرّسالة صورتها (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) من العدالة أو يسوّون الأشياء الغير المتعادلة من قوى أنفسهم في مملكة وجودهم أو من غيرها في خارج وجودهم وقد فسّر هذه الآية في اخبار عديدة بآل محمّد (ص) وأتباعهم وهو قرينة قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) وكان المناسب للمعادلة ان يقول وخلقنا للجنّة أمّة يهدون ، ولكن لمّا كان المقام مقام الوعيد دون الوعد ناسب تطويل الوعيد والإجمال في الوعد ولذا بسط في الوعيد بذكر الأوصاف العديدة لأصحاب جهنّم ، واكتفى بهذا القدر لأصحاب الجنّة وانتقل الى التّهديد والوعيد وهو معطوف على جملة ذرأنا باعتبار مناسبة المعنى كأنّه قال : وممّن خلقنا أمّة يستحقّون الجحيم ، وهذه المقابلة تدلّ على انّ قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) من متعلّقات الجمل السّابقة (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة والمراد به هنا الاستنزال ، عن الصّادق (ع) إذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا اتبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار ، وإذا أراد بعبد شرّا فأذنب ذنبا فاتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عزوجل : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) بالنّعم عند المعاصي (وَأُمْلِي لَهُمْ) من املى له أمهله ، أو من املاه الله متّعه فيكون دخول اللّام للتّقوية وللاشعار باختصاص الاملاء بهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) يعنى ما ظاهره الإحسان وباطنه الاستدراج والاساءة من الاناسىّ ضعيف ومنّى متين بحيث لا يعلم به أصلا (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أأنكروا محمّدا (ص) ولم يتفكّروا (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) كما يقولون انّه لمجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ظاهر أو مظهر ان إنذاره من الله (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) عطف على قوله أو لم يتفكّروا أو على مقدّر اى أوقفوا عن النّظر ولم ينظروا (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكوت كلّ شيء باطنه لانّ الملكوت مبالغة في المالكيّة وباطن كلّ شيء مالك لظاهره كباطن الإنسان المسخّر لظاهره بحيث لا يتمكّن من عدم طاعته ، وباطن السّماوات المسخّر لاجرامها في حركاتها


المتناسقة وملكوت الأرض مثالها في عالم المثال وهو عالم الملكوت الأعلى ، والمقصود من النّظر في ملكوتهما النّظر في دقائق الحكم المودعة في حركاتها المتناسقة المنتظمة المترتّب عليها كلّيّات نظام العالم وجزئيّاته الّتى لا يشكّ العاقل في انّها ليست من أجرامها من غير علم وشعور ، بل لها مسخّر عالم شاعر حكيم وإذا عرف الإنسان ذلك من السّماوات والأرض لم يتوقّف في معرفة الآخرة ومعرفة الله وصفاته ومعرفة المعاد ، وورد الأمر بالنّظر في السّماوات والأرض وآياتهما وآيات الآفاق والأنفس يؤدّى بالنّاظر الى مدبّرهما ومسخّرهما وملكوتهما (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ممّا يطلق عليه اسم الشّيء كائنا ما كان فانّ في كلّ شيء آية قدرته وحكمته (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أو لم ينظروا في انّه عسى ان يكون قد اقترب أجلهم فيستعدّوا له فيميزوا بين ما ينفعهم حين الأجل وبين ما يضرّهم ، فانّ تذكّر الموت يعين على التّميز بين الحقّ والباطل وعلى رفع الغشاوة والعمه عن البصيرة (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد الأجل (يُؤْمِنُونَ) ولا حديث بعده و (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) جواب لسؤال ناش ممّا سبق كأنّه قيل : فما بالهم لا يؤمنون بعد وضوح الحقّ ويتقّن الموت؟! (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يتحيّرون (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) قد فسّر السّاعة في رواياتنا بالقيامة وبظهور القائم عجّل الله فرجه وبوقت الموت والكلّ في العالم الصّغير راجع الى معنى واحد وهو اوّل وقت الموت ، فانّه من مات قامت قيامته ويظهر القائم من آل محمّد (ص) حين الموت على المؤمن والكافر وكذا في العالم الكبير ، فانّ الإنسان بعد طىّ البرازخ سعيدا كان أو شقيّا تقوم قيامته الكبرى وله إماتة اخرى ويظهر القائم حينئذ ظهورا أتمّ من الظّهور الاوّل ويحاسب النّاس ويدخل أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار ، وقوله تعالى : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ؛ اشارة الى هاتين الإماتتين وهذين الاحيائين ولذا قدّم أمّتنا والسّاعة بكلا معنييه من الأمور الّتى لم يطلع الله عليها أحدا من ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين (ع) وأوليائه الكمّلين ، فلا يعلمها الّا الله ويقدّم منها ما يشاء ويؤخّر فمن ادّعى علمها فهو كذّاب وقد ورد لعن الله الموقّتين ، بل التّحقيق انّ السّاعة خارجة من الوقت واقعة فوق الوقت ليس لها وقت زمانىّ بل هي من الملكوت والزّمان من الملك وتحديد الملكوت بالملك من غاية الجهل ولهذا نسب الله تعالى الى عدم العلم والجهل من سأل عنها (أَيَّانَ مُرْساها) وقوعها سؤال عن توقيت السّاعة (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) لأنّه استأثره لنفسه (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) لا يظهرها في وقتها (إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لانّ صغريها وكبراها ترفع الحدود والتّعيّنات وتميت الانّيّات وتظهر الحقّ وتبيد الباطل وليست السّماوات والأرض وأهلهما الّا التّعيّنات والانّيّات الباطلة ولا ثقل أثقل ممّا يرفع الشّيء ولا يبقى له أثرا (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) من غير تقدّم اثر وعلامة (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) يعنى يلحّون في السّؤال عنك كأنّك ملحّ علينا في السّؤال عنها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) تأكيد في الرّدّ عليهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) انّها ممّا ليس يبذلها الله لغيره وانّها فوق الوقت لا يمكن توقيتها بوقت (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فلا يكون لي الاطّلاع على الغيوب وهو تبرّء من الانانيّة وإقرار بالعجز والعبوديّة ، كما هو شأن العارف بالرّبوبيّة وكناية عن نفى علم الغيب عن نفسه مطلقا اشارة الى العجز في قوّته العمّالة والجهل في قوّته العلّامة بحسب التّنزّل


الى مقام البشريّة وما كان يظهر منه من القدرة والعلم بالغيوب ، فانّما هو بحسب جنبته الملكوتيّة الّتى هي من عالم الرّبوبيّة (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ان يملكني على ظاهره ويعلمني على معناه المكنّى (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) تصريح بالنّفى المكنّى تأكيدا وتحقيق له بالبرهان الحسّىّ على زعمهم فانّهم لا يرون خيرا الّا ما زعموه خيرا من الاعراض الدّنيويّة (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) السّعة في المال والصّحّة والسّلامة (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) الآفة في المال وفي الأنفس (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) للكافرين بقرينة المقابلة مع بشير ، وتقييده بالمؤمنين أو مطلقا كما هو ظاهره لكن للمؤمنين من الجهات النّفسانيّة الّتى تؤدّى الى الكفر وللكفّار من كفرهم (وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نفى لجملة الشّؤن عن نفسه وإثبات للانذار والتّبشير الّذين هما بأمر الله كأنّه قال : ليس لي شأن الّا امر الله وهو غاية التّوحيد فعلا وصفة ، ولمّا كان هذا منه (ص) توحيدا عقّبه تعالى شأنه باشراك آدم وحوّاء في مخلوقه الّذى لا ينبغي الإشراك فيه اشراكا في الآلهة ، وهو ينافي توحيد اله العالم الّذى هو دون توحيد الأفعال والصّفات إبداء لفضله (ص) وتقديما لذمّ أولادهما في الشّرك في العبوديّة الّذى هو أقبح من الشّرك في الآلهة ومستلزم له فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) منّا منه سبحانه بنعمة الوجود واثباتا لتوحيده في العبادة ولذا وبّخهم على الإشراك معلّلا بانّ ما جعلوه شريكا لا يخلق شيئا (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) إذا رءاها من سنخها ، وتذكير ضمير يسكن بلحاظ المعنى ويجوز ان يراد بنفس واحدة ، حوّاء ويكون معنى جعل منها زوجها جعل من سنخها زوجها وهما آدم (ع) وحوّاء (ع) في العالم الكبير والجهتان العقلانيّة والنّفسانيّة للإنسان اللّتان هما نازلتا العقل في العالم الصّغير (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) لا يظهر اثر ثقله (فَمَرَّتْ بِهِ) استمرّت مع الحمل (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) في النّفس والبدن (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) منّة اخرى عليهما (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) بدّلا النّعمة بالكفران والوعد بالخلف. اعلم ، انّ للاشراك بالله مراتب عديدة : الاوّل ، الإشراك به في وجوب وجوده كاشراك أكثر الثّنويّة القائلين بانّ للعالم مبدئين قديمين مسمّيين بالنّور والظّلمة أو يزدان واهريمن ، والثّانى ، الإشراك في الآلهة كاشراك بعض الثّنويّة القائل بانّ القديم والواجب الوجود واحد والظّلمة أو اهريمن مخلوق منه لكن له الآلهة في العالم وانّ الشّرور كلّها منه لا من الله ، والثّالث ، الإشراك في العبادة كاشراك أكثر الصّابئين واشراك الوثنيّين والعجليّين وغيرهم ممّن يعبد غير الله من مخلوقاته تقرّبا بها الى الله ، والرّابع ، الإشراك في الوجود كاشراك معظم النّاس الّا من شذّ الّذين لا يرون في الوجود الّا الموجودات المتكثّرة المتقابلة كلّ من الآخر والكلّ مع الله ، والخامس ، الإشراك في الطّاعة كاشراك من أشرك في طاعة الأنبياء (ع) والأولياء (ع) وخلفائهما طاعة غيرهم من ائمّة الجور وعلماء السّوء والسّلاطين والأمراء والحكّام ، والسّادس ، الإشراك في المحبّة كاشراك من أشرك في محبّة الله ومحبّة خلفائه محبّة غيره وكاشراك من أشرك في المحبّة بان كان مصدرها الهيّا ونفسانيّا أو غايتها الهيّا ونفسانيّة ، والسّابع ، الإشراك في الولاية وهي اشدّها وأعظمها بان أشرك مع ولىّ الأمر أو نبىّ الوقت غيره في البيعة الخاصّة الولويّة أو العامّة النّبويّة أو أذعن بنبوّة من ليس بنبىّ أو بولاية من ليس له الولاية ، فقوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ، المقصود منه أحد المعاني السّابقة غير الثّلاثة الاول وكلّ هذه المعاني غير الكفر بالله في كلّ مرتبة فانّه يقتضي قطع النّظر عن الله واستبداد النّظر الى غيره ، وما يجرى في أهل العالم


الكبير يجرى في أهل العالم الصّغير من غير فرق ، ومعاني الإشراك غير الثّلاثة الاول وغير المعنى الأخير يجوز اعتبارها هاهنا ان كان المراد انّ آدم وحوّاء حقيقة جعلا له شركاء كما في الخبر وانّما شركهما شرك طاعة وليسشرك عبادة ، وفي حديث : جعلا للحارث نصيبا في خلق الله ويناسب الشّرك في المحبّة بأحد معانيه وقوله تعالى : (شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) يناسب هذا الشّرك والشّرك في الطّاعة ، وان كان المراد انّ أولاد آدم (ع) جعلوا له شركاء فيما آتاهم والنّسبة الى آدم (ع) وحوّاء كانت مجازا كما في الخبر ، ويؤيّده قوله تعالى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بصيغة المجمع أمكن اعتبار جميع أقسام الشّرك ونسبة الشّرك الى أولادهما امّا بطريق المجاز في الحذف بان يكون فاعل جعلا أولادهما ، لكنّه حذف وأقيم المضاف اليه مقامه أو بطريق المجاز في الحكم بان يكون المحكوم عليه الأولاد لكنّه نسب إليهما باعتبار انّ الاتباع والأولاد كالاجزاء أو النّسبة الى الأولاد باعتبار ان يراد الجنس من لفظ صالحا وحينئذ يشمل الذكّور والإناث ، وضمير جعلا يرجع الى صالحا باعتبار الصّنفين كما في الخبر ، ولمّا علم من السّابق انّ الله خالق والخالق لا يساوى المخلوق أتى بالفاء الدّالّ على التّسبيب والتّفريع فقال (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن الّذى يشركونه أو عن اشراكهم (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) توبيخ بوجه آخر فانّ الاوّل باعتبار انّ الخالق المنعم شأنه ان يوحّد ولا ينظر معه الى غيره من غير اعتبار وصف للشّريك وهذا باعتبار انّ ما لا يخلق بل هو مخلوق لا ينبغي ان يجعل شريكا للخالق (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) ذكر أوصافه مترتّبة في الّذمّ من الاخسّ فالاخسّ كما هو طريقة المبالغة في الذّمّ وعلى هذا فمعنى ان تدعوهم الى الهدى الى ان تهدوهم أنتم فضلا عن انّهم يهدونكم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) يعنى ما يجعل شريكا للخالق ينبغي ان يكون خالقا فان لم يكن خالقا فلا اقلّ من ان يكون مخلوقا فان كان مخلوقا فلا اقلّ من ان يكون ناصرا لعابديهم ، فان لم ينصروا عابديهم فلينصروا أنفسهم فان لم ينصروا أنفسهم فليتّبعوكم في الدّعوة الى الهدى فان لم يتّبعوكم فليميّزوا بين الدّاعى وغيره ، فان انتفى ذلك كلّه فليس اشراكه الّا محض حمق المشرك وسفاهته (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) والمعبود لا اقلّ من ان لا يكون عبدا (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ولا اقلّ من السّماع والاستجابة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) ولا اقلّ من ان يمشى مثلكم (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ) بعد إتمام التّوبيخ والتّفضيح تحدّيا (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) فانّى لا أبالي بكم وبشركائكم بعد غاية ضعفكم وضعف شركائكم وقوّة ربّى وحفظه ونصرته (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) في موضع التّعليل والمراد بالكتاب كما عرفت الكتاب المعهود المعروف وهو كتاب النّبوّة والقرآن صورته (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) لمّا كان التّحدّى باعتبار قوّة الله وضعف الشّركاء علّله بهما فقوله الّذين تدعون من دونه عطف على مدخول ان (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) والتّكرار باعتبار التّعليل ومطلوبيّة التّكرار في مقام المبالغة في الّذمّ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) صرف الخطاب منهم الى محمّد (ص) اشعارا بانّهم بعد ما ظهر وقاحتهم


وسفاهتهم لا ينبغي التّخاطب معهم (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ خُذِ الْعَفْوَ) شبّه العفو بالوحشىّ الشّارد لتعسّر الاتّصاف به ثمّ استعمل الأخذ فيها استعارة تخييلية وترشيحا لها والمراد منه اعمّ من الصّفح فانّهما كالفقراء والمساكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ولمّا لم يكن النّظر الى خصوص المعفوّ عنه والمأمور بالمعروف أسقط المفعول بخلاف الاعراض فانّه مختصّ بالجاهل ولذا قيّده فقال (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وقد فسّر العفو في الخبر بالميسور من الأفعال والأخلاق وبالوسط من الأموال وهو من سعة وجوه القرآن ، اعلم انّ هذه الثّلاث أمّهات أخلاق المعاشرة ونتائج أمّهات الأخلاق الجميلة النّفسيّة فانّ المعاشرة امّا معاند مسيء ، وامّا محبّ مقبل ، وامّا جاهل غير معاند وغير مقبل ، وجميع آداب حسن المعاشرة مع المعاند مطويّة في ترك مقابلة إساءته بالانتقام وهو العفو وتخلية القلب من تذكّر سوء صنيعته وهو الصّفح وهما من نتائج الشّجاعة والعفّة والحكمة الّتى هي من أمّهات الخصائل ، فانّ الجبان لا يمكنه ترك الانتقام وان منع جبنه عن الانتقام فلا يمكنه الصّفح ، والمتهوّر لا يترك الانتقام البتّة والعفيف يمنعه عفّته عن مطاوعة النّفس بخلاف الشّره ، والحكيم يرى انّ في ترك الانتقام راحة في العاجل ودرجة في الآجل وكسرا لسورة عناد المعاند وجذبا للمحبّة والعدالة الّتى هي احدى أمّهات الخصائل أيضا تقتضي ذلك ، فانّ إجمال العدالة إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وحقّ النّفس مطاوعتها للعقل وحقّ المسيء إصلاحه حتّى يترك الاساءة لا انتقامه حتّى يزيد في الاساءة ، وآداب المعاشرة مع المقبل المحبّ مطويّة في ارادة خيره في كلّ حال وارادة خيره بان لا يتركه ونفسه بل يعرّفه معروفه ويأمره به وهو من نتائج الحكمة والعدالة ، وآداب المعاشرة مع الجاهل الغير القابل للخير عدم معارضته وترك محادثته بخيره وهو من نتائج الحكمة والعدالة أيضا وفي الخبر : امر الله نبيّه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية اجمع لمكارم الأخلاق منها (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ان يغريك أو يوسوسك من الشّيطان مغر أو موسوس أو إغراء أو وسوسة حتّى تحرّكك على انتقام المسيء وترك نصح المحبّ ومعارضة الجاهل (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ) لاستعاذتك أو لنزغ الشّيطان وان كان خفيّا في القلب (عَلِيمٌ) بعاقبة ما يأمرك به أو بكيفيّة دفع نزغ الشّيطان (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أرادوا التّقوى من نزغ الشّيطان أو اتّقوا موالاة الشّيطان أو اتّقوا تقوى حقيقيّة حاصلة بولاية علىّ (ع) والبيعة الخاصّة الولويّة وعلى اىّ معنى فهو في موضع تعليل للأمر بالاستعاذة (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) خطرة ووسوسة لانّ الإنسان قلّما ينفكّ منها فكأنّها طائفة بهم ودائرة معهم أو طائف وشيطان من قبل إبليس الابالسة أو خيال من الطّيف بمعنى الخيال (مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) أوامره تعالى ونواهيه ، أو تذكّروا سوء عاقبة الطّائف ، أو تذكّروا بالّذكر المأخوذ من ولىّ أمرهم ، أو تذكّروا بالفكر الحاصل من الذّكر المأخوذ الّذى هو مثال شيخة (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) سوء عاقبة الطّائف أو انّ الطّائف من الشّيطان أو جذب الطّائف الى السّفل السّجّين أو انّه شيطان يوسوسه من قبل إبليس (وَإِخْوانُهُمْ) اى والحال انّ اخوان الّذين اتّقوا أو اخوان الشّياطين من الانس (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) من المدّ بمعنى الجذب أو من المدد وقرئ يمدّونهم من الأمداد يعنى يغرونهم على مخالفة الأمر والمقصود الاشارة الى قوّة التّذكّر بحيث يمنع صاحبه من الغىّ وان كان شيطان الجنّ يغويه وشياطين الانس تجذبه أو تعينه في غيّه (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) لا يمسكون من الجذب أو الأمداد (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من مقترحاتهم أو بآية من


القرآن في أحكامهم عند مسألتهم (قالُوا) اى المقترحون أو المتّقون حرصا على اجابة الكفّار الى مقترحاتهم طمعا في ايمانهم (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) لو لا اخترت الآية المقترحة (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ولست اختار من قبل نفسي آية ومعجزة من مقترحاتكم أو آية في احكامكم (هذا) القرآن أو هذا المذكور من قوله واتل عليهم وهو من جملة المقول له (ص) أو مستأنف من الله (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) صفة للمجموع (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) يعنى إذا قرأ الامام الموثوق به في الصّلوة القرآن اى الحمد والسّورة وأنتم مؤتمّون به كما في بعض الاخبار ، أو إذا قرأ الامام موثوقا به أو غير موثوق به في الصّلوة وأنتم مؤتمّون به ، أو (إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) مطلقا سواء كان القارى إماما أو غير امام وسواء كنتم مؤتميّن أو غير مؤتميّن ، وسواء كان القارى مصلّيا أو غير مصلّ ، وسواء كنتم مصلّين أو غير مصلّين كما في بعض الاخبار ، ووجه الجمع بين الاخبار المبالغة في وجوب انصات المستمع في الصّلوة مؤتّما حالكون القارى إماما موثوقا به وعدم المبالغة في الوجوب في غير الصّورة المذكورة ، أو الوجوب في الصّورة المذكورة والاستحباب في غير الصّورة المذكورة كما عليه أصحاب الفتيا ، ووجه اختلاف الاخبار في باب من ائتمّ بالمخالف بالنّهى عن القراءة والأمر به اختلاف أحوال الأشخاص في إمكان إخفاء القراءة عن المخالفين وعدمه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ) المضاف أو المطلق عطف على قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ) ، أو مستأنف والأمر له (ص) بحيث يشمل أمّته أو الخطاب عامّ ويصحّ عطفه على استمعوا أو على (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ، أو على (خُذِ الْعَفْوَ)(فِي نَفْسِكَ) يعنى دون لسانك فانّه المتبادر ، ومقتضى المقابلة مع قوله (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) ، وهو اشارة الى الذّكر الخفىّ الّذى هو مصطلح الصّوفيّة ولذا قدّمه والمراد بالذّكر اعمّ من الذكّر النّقشىّ المثالىّ المأخوذ عن ولىّ الأمر ومن الذكّر التّمثالىّ المثالىّ الّذى يعبّر عنه بالفكر والحضور ، وهو تصوّر مثال الشّيخ عند الّذاكر وهو أبلغ في الذكّر من النّقشىّ المثالىّ وهو أبلغ من اللّسانىّ الغير المجهور وهو أبلغ من المجهور ، ويجوز ان يراد بالّذكر في النّفس مطلق تذكّر الرّبّ أو تذكّر امره ونهيه عند كلّ فعال ، وقد سبق تفصيل الذكّر واقسامه وفضيلة كلّ قسم منه في اوّل البقرة عند قوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) ذكر تضرّع أو مصدران من غير لفظ الفعل على ان يكون المراد من كلّ من التّضرّع والخفية أحد أنواع الذّكر أو متضرّعا وخائفا ، ويحتمل ان يكون قوله (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) مفعولا له حصوليّا أو تحصيليّا يعنى انّ الرّجاء والخوف من لوازم وجود الإنسان ، أو من لوازم وجودك وهما يستلزمان الذّكر أو الرّجاء والخوف بمنزلة جناحي المؤمن لا يمكنه السّير بدونهما وهما لا يحصلان الّا بذكر الرّبّ فاذكره لتحصيلهما والمقصود من التّضرّع الرّجاء بقرينة مقابلة الخوف فانّ التّضرّع والابتهال والالتجاء من متفرّعات الرّجاء والمقصود نفى الغرور بالله ونفى اليأس من رحمة الله والوقوع بين الخوف والرّجاء اللّذين هما من صفات المؤمنين (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) يعنى باللّسان من غير جهر وهو اشارة الى الذّكر الجلىّ الّذى هو من مصطلحات الصّوفيّة وامّا الذّكر اللّسانىّ المجهور كما هو شأن القرّاء والقصّاص والعوامّ فقد ورد مذمّته ولم يكن من سنّة الصّوفيّة الصّافيّة ، فقد ورد عن مولينا ومقتدانا ومن به رجاءنا في عاجلنا وآجلنا أمير المؤمنين (ع) ورغم أنف المعاندين ، من ذكر الله في السّرّ فقد ذكر الله كثيرا


انّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السّرّ فقال الله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في جملة أوقاتك فانّه قد يستعمل الغداة والعشىّ ومراد فاتهما في لسان العرب والعجم في استغراق الأوقات ، أو المراد هذان الوقتان لشرافتهما على سائر الأوقات وفراغة الإنسان من مشاغلة الدّنيويّة والضّروريّات البدنيّة والالتذاذات النّفسيّة غالبا في هذين الوقتين (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) المنمكين في الغفلة ولم يقل : ولا تغفل ، كما هو طريقة المشاكلة في المقابلة لانّ الإنسان قلّما ينفكّ عن حدوث الغفلة (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) في موضع التّعليل للأمر والنّهى والمراد من حصل له الحضور عنده من الأنبياء (ع) والرّسل (ع) وخلفائهم في سلسلة الصّعود والملائكة المقرّبين في سلسلة النّزول (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) على سبيل الاستمرار (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) استمرارا فان أردت اللّحوق بهم والاتّصاف بصفاتهم فلا تغفل عن ذكره.


سورة الأنفال

مدنيّة بأسرها وقيل مدنيّة غير سبع ايات فانّها نزلت بمكّة وهي قوله :

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) ، الى اخرهنّ وهي سبع أو ستّ أو خمس وسبعون اية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) جمع النّفل وهو الزّيادة وقد فسّرت في بعض الاخبار بما هو مختصّ بالرّسول (ص) والامام (ع) ممّا لا يوجف عليه بخيل ولا ركاب وبطون الاودية والآجام والأراضي الموات والمعادن وميراث من لا وارث له وغير ذلك ممّا لا شركة لغيره فيه ، وفسّرت في بعض آخر بالغنائم الّتى فيها الخمس للرّسول والبقيّة للمقاتلين ، وورد انّها نزلت في غنائم بدر حين اختلفوا فيها وتنازعوا وتشاجروا (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) لا شراكة لغير الرّسول فيها فان فسّرت بالغنائم فهي منسوخة بآية التّخميس وان فسّرت بغير الغنائم فهي ثابتة (فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تطمعوا فيها ولا تختلفوا ولا تشاجروا ولا تريدوا إصلاح امر الله ورسوله فانّهم كانوا يوم بدر ثلاثة أصناف : صنف أغاروا على الغنائم ، وصنف تخلّفوا عند رسول الله (ص) ، وصنف ذهبوا في طلب العدوّ ، وكان المال قليلا والنّاس كثيرا وبعضهم ضعفاء وبعضهم أقوياء وكانت اوّل غنيمة أخذوها فتكلّموا فيها وفي كيفيّة قسمتها وتنازعوا في ذلك (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) ما بينكم لا ما بين الله والرّسول (ص) وبينكم فانّه ليس إصلاحه إليكم وذات هي الّتى بمعنى الصّاحبة ثمّ استعملت في مثل ذات الصّدور وذات بينكم بمعنى ما في الصّدور وما بينكم لمصاحبة ما في الصّدور وكذا ما في البين لهما (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ولا تكلّموا فيما امره إليهما (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فانّ الايمان يقتضي تسليم أمر الله وتكلّمكم في امر الله ورسوله (ص) يورث الشّكّ في ايمانكم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) تعليل لما يفهم من الشّرط من الشّكّ في ايمانهم أو جواب لسؤال ناش من الشّرط كأنّه قال قائل : ان كان هؤلاء مشكوكا في ايمانهم فمن المؤمن الّذى لا يشكّ في ايمانه؟ ـ فقال : انّما المؤمنون (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) لذكره (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) لكون قلوبهم خالية عن رين الاهوية فيؤثّر ذكر الله وآياته فيها وقد مضى انّ الايمان له مراتب ودرجات


وانّه بزداد وينقص (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) عطف على جملة الشّرط والجزاء الواقعة صلة لعدم تقيّده بحين دون حين وللاشارة الى انّ التّوكّل لا بدّ وان يحصل آنا فآنا أتى بالمضارع دون الماضي (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) اشارة الى وصفي الايمان من التّولّى المعبّر عنه بالصّلوة والتّبرّى المعبّر عنه بالزّكوة ، والإنفاق وهما أساسا جملة الأعمال الصّالحة البدنيّة وهو بدل من الموصول أو مبتدء مستأنف وخبره الجملة الآتية أو هو خبر مبتدء محذوف جوابا لسؤال مقدّر (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر ، والإتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم بالأوصاف المذكورة ليكون كالتّعليل للحكم وتعظيما لهم (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ضمير الفصل وتعريف المسند للحصر والتّأكيد ، يعنى انّ هؤلاء الّذين قرنوا بين صورة الايمان العامّ الّتى هي البيعة مع النّبىّ (ص) بالبيعة العامّة وحقيقته الّتى تظهر بآثاره المذكورة الّتى هي تأثّر القلوب من آثار من آمنوا به وهو من لوازم المحبّة الّتى هي من لوازم صفاته الجماليّة والإقرار به وتفويض الأمور اليه الّذى هو من آثار صفاته الجلاليّة ، هم المؤمنون الّذين لا يشكّ في ايمانهم لا البائعون بالبيعة العامّة فقط من غير التّحقّق بحقيقته فانّ ايمانهم مشكوك فيه (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر بعد خبر أو حال أو استيناف جوابا لسؤال مقدّر (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ذكر أوصافا ثلاثة لهم هي أمّهات ما يطلبه الإنسان ، الاوّل سعة المقام ولوازمها وللاشارة الى انّ الدّرجات ليست مغايرة لذواتهم بل هي شؤنهم وسعة ذواتهم قال تعالى في آية اخرى ؛ (هُمْ دَرَجاتٌ) ، والثّانى ستر المساوى وما يلحقه منها ، والثّالث وجدان ما يحتاج اليه (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) بالغاية الحقّة الثّابتة وهو إعلاء الدّين وإعزاز المؤمنين وانهزام المشركين أو متلبّسا بالحقّ الّذى هو الولاية أو متسبّبا عن الحقّ الّذى هو الولاية وهو كلام مستأنف لبيان ضعف يقينهم كما انّ ما سبق أيضا كان لبيان ضعف يقينهم ، والمراد بالإخراج الإخراج من مكّة أو من المدينة لعير قريش وغز وبدر فانّهم كرهوا خروجه لعدم عدّتهم وهو متعلّق بقوله : (يُجادِلُونَكَ) يعنى كما كرهوا ان أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ يكرهون القتال مجادلين فيه كأنّما يساقون حين الّذهاب الى القتال الى الموت ، والاحتمالات الاخر في تركيبه بعيدة من سوق الكلام فانّه مسوق لتمثيل حالهم في كراهة القتال جهلا بعاقبته بحالهم في كراهة الخروج جهلا بعاقبته وفي الاخبار اشارة الى انّه منقطع عمّا قبله منزل وحده (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) الجملة حاليّة (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) الّذى يستتبع غاية حقّة متحقّقة وهو القتال الّذى به ارتفع امر المؤمنين وتقوّوا بالغلبة وأخذ الغنيمة وهو قتال البدر (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) الحقّ باعلام الرّسول انّ الغلبة لهم ومشاهدة صدق اخباره في موارد عديدة (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) اى الى الموت وذلك انّه أخبرهم الرّسول (ص) بعير قريش وانّ الله وعدهم عير قريش فخرجوا من المدينة ، ثمّ أخبرهم انّ قريشا خرجوا لحماية العير وانّ الله وعده النّصرة على قريش فكرهوا معارضة قريش لقلّة عددهم وعددهم فجادلوه في ذلك لضعف يقينهم (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) عطف على بعد ما تبيّن أو بتقدير اذكروا عطف على جملة (كَما أَخْرَجَكَ) (الى آخر الآية) فانّه في معنى اذكروا وقت خروجكم ومجادلتكم كأنّه قال : اذكروا إذ أخرج الله نبيّه (ص) من بيته وكراهتكم له والحال انّ فيما كرهتموه إعلاء كلمتكم واذكروا إذ يعدكم الله (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) وتكرهون قريشا (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ


ذاتِ الشَّوْكَةِ) السّلاح (تَكُونُ لَكُمْ) وهو العير فانّه لم يكن فيها كثرة عدد ولا كثرة سلاح بخلاف قريش فانّ عددهم كان قريبا من الالف وكلّهم كانوا شاكي السّلاح (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) يثبّته ويظهره (بِكَلِماتِهِ) بخلفائه واتباعهم (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) بالاستيصال بحيث لا يبقى منهم اثر ولا عقب (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) يعنى انّ نفس احقاق الحقّ هو المطلوب منه لا امر آخر فهو من قبيل ما كان الفعل مطلوبا لنفسه لا مقدّمة لأمر آخر فكأنّه قال : يريد الله ان يحقّ الحقّ لنفس احقاق الحقّ (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) ظرف لقوله (يُرِيدُ اللهُ) أو لقوله (كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أو بدل من قوله (إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) بدل الاشتمال فانّ الوعد كان في المدينة والاستغاثة حين القتال ومشاهدة قلّتهم وعدم عدّتهم وكثرة العدوّ عدّة وعدّة (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) بعضهم بعضا أو مردفين لكم من اردفه إذا تبعه (وَما جَعَلَهُ اللهُ) اى الأمداد (إِلَّا بُشْرى) اى لكم بإنجاز الوعد بالنّصر (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ولكنّكم لضعف يقينكم وتوكّلكم لا تنظرون الّا الى الأسباب ولذا اجرى النّصر بتوسّط الأسباب (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) ظرف لقوله استجاب أو لممدّكم أو لمردفين أو لجعله الله أو لتطمئنّ أو لقوله من عند الله على الانفراد أو على سبيل التّنازع ، ويحتمل إبداله من قوله إذ يعدكم وقوله إذ تستغيثون بدل اشتمال (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الحدث والخبث (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) الجنابة أو وسوسته وتخويفه عن العطش ، روى انّهم نزلوا في كئيب اعفر تسوخ فيه الاقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء فوسوس إليهم الشّيطان وقال : كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلّون محدثين وتزعمون انّكم أولياء الله وفيكم رسوله فأشفقوا ، فأنزل المطر فمطّروا ليلا حتّى جرى الوادي واتّخذوا الحياض على غدوته وسقوا الرّكاب واغتسلوا وتوضّأوا وتلبّد الرّمل الّذى بينهم وبين العدوّ حتّى ثبتت عليه الاقدام وزالت الوسوسة (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) لمّا كان ربط القلوب تنزيلا من أشرف خصائل الإنسان والمرابطة تأويلا من آخر مقامات السّلاك كرّر اللّام اشارة الى انّه مغاير مع سابقيه شرفا ورتبة والمعنى وليربط المحبّة على قلوبكم أو ليربط الولاية الحقيقيّة الّتى هي مثال النّبىّ أو الولىّ على قلوبكم (وَيُثَبِّتَ بِهِ) اى بالمطر تنزيلا وبالرّبط تأويلا (الْأَقْدامَ) البدنيّة على التّراب لتلبّده وعلى الدّين لوصولكم الى مطلوبكم (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) يجوز ان يكون ظرفا لكلّ من الأفعال المذكورة من قوله يغشّيكم الى قوله يثّبت به الاقدام منفردا أو على سبيل التّنازع ، ويجوز ان يكون بدلا من إذ الاولى ومن إذ الثّانية والثّالثة (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى لست مخالفكم في التّثبيت حتّى لا يتيسّر لكم التّثبيت (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) اعانة لكم في التّثبيت حتّى يتمّ لكم امره (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) حتّى اطرقوا رؤسهم أو فاقطعوا رؤسهم (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) رؤس الأصابع ، وتكرار اضربوا واضافة لفظة فوق من التّطويل المطلوب


في مقام اشتداد الغضب وتنزيل ضرب البنان واضح وتأويله عبارة عن ضرب بنان نفوسهم الخبيثة الّتى بها يثلمون دين الإسلام وعقائد ضعفاء المسلمين (ذلِكَ) التّشديد الشّديد عليهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ذلِكُمْ) ايّها الكافرون فهو التفات وهو من باب الاشتغال وتخلّل الفاء بتقدير امّا أو توهّمها وهو مبتدء محذوف الخبر اى ذلكم لكم أو مفعول فعل محذوف اى خذوا ذلكم أو هو اسم فعل بمعنى خذوا لغلبة استعماله بعد حذف الفعل في هذا المعنى (فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) شأن نزول الآية وقصّة بدر مذكور في الاخبار ويكفى منها للاطّلاع عليها ما في الصّافى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) كثيرا ، والزّحف العسكر لانّهم يزحفون اى يدبّون (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) يوم إذ لقيتم الّذين كفروا زحفا (دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) طالبا حرفا من محلّ القتال للتّمكّن من المقاتلة أو للاحتيال مع العدوّ ليتخيّل انّه انهزم ليكيد بالعدوّ (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) للاستغاثة بهم (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذه احدى الكبائر الّتى توعد عليها النّار وهو المسمّى بالفرار من الزّحف ، ولمّا ذكّر المؤمنين نصرة الملائكة ومعيّته تعالى للملائكة وامره لهم بالضّرب فوق الأعناق وضرب كلّ بنان وتوهّم انّ المؤمنين لا دخل لهم في القتال وفرارهم وثباتهم ومجاهدتهم وقعودهم متساوية استدرك ذلك التّوهّم ، بانّ فعل الملائكة لا يظهر الّا بالمظاهر البشريّة فأنتم وان لم تكونوا فاعلين حقيقة لكنّكم مظاهر فعل الملائكة فاذا لقيتم الّذين كفروا فلا تولّوهم الأدبار حتّى يجرى قدر الله وفعل الملائكة بتوسّطكم ثمّ اثبت مقتضى نصره بالملائكة وامره ايّاهم بالقتل والضّرب فقال : إذا كان القتل بالملائكة والنّصرة بهم «ف» أنتم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ثمّ صرف الخطاب الى نبيّه (ص) وقال (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) اعلم ، انّ حقّ هذه العبارة الّتى هي في مقام قصر القلب أو الإفراد ان يقال : فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما أنت رميت ولكنّ الله رمى ، ثمّ حقّ القرينتين ان تكونا متوافقتين وقد اختلفتا في اداة النّفى وذكر المفعول وحذفه ومضىّ الفعل ومضارعته وإثباته لمن نفى عنه وعدمه ؛ والوجه في ذلك انّ الإنسان له وجهة الهيّة بها فاعليّته ووجهة نفسيّة بها ينسب الأفعال الى نفسه وقد يرتفع عنه بالرّياضات والمجاهدات إذا كان سالكا الى الله وجهته النّفسيّة بحيث لا يرى من نفسه أثرا في البين ولا يرى في الوجود الّا الله ووجهته ، فحينئذ يصحّ سلب الأفعال عنه حقيقة وفي نظره أيضا لانّه لا يرى لنفسه وجودا ولا أثرا ، ويسمّى هذا المقام في اصطلاحهم مقام الفناء ، فاذا صحا من فنائه وغشوته صار باقيا بالله لا بنفسه يعنى يرى للوجود مراتب ولكن لا يرى للحدود وجودا فيرى وجوده مرتبة من وجود الله لا مباينا لوجود الله ، فحينئذ يرى لمرتبة نفسه وجودا هو وجود الله في تلك المرتبة وهو المسمّى بالبقاء بالله ، فيصحّ منه نسبة الوجود الى نفسه ونسبة اثر الوجود إليها حسب استشعاره لمراتب الوجود لكن نسبة اثر الوجود حينئذ غير النّسبة الّتى كانت قبل الفناء ، وان لم يصح من فنائه فلم يكن نسبة للفعل اليه في نظره لانّه لا يرى في الوجود الّا الله ولا يرى الفعل الّا من الله ، وقد يذهل عن وجهته النّفسيّة بأسباب خارجة وعوارض طارية كغلبة الخوف والغضب والفرح وغير ذلك ، وحينئذ لا يستشعر بنفسه ولا بفعل نفسه ولا يصحّ نسبة الفعل اليه في نظره كمن يرى في حال اشتغاله من كان في مقابله ولا يستشعر برؤيته بل ينفى الرّؤية عن نفسه ؛ إذا تقرّر هذا فنقول : انّ المؤمنين في حال القتال ذهلوا عن أنفسهم لغلبة الدّهشة عليهم بحيث لم يستشعروا


بأنفسهم ولا بفعل أنفسهم بل كانت الملائكة تقلّبهم وتوقع الحركة فيهم وتظهر صورة القتال على أيديهم فلو قال تعالى : أنتم لم تقتلوهم كان اثباتا لنفسيّة لهم ونفيا للفعل عنهم ، وكذا لو قال : إذ قتلتموهم كان اثباتا للفعل والنّفسيّة جميعا لهم ، والحال انّه لم يكن في نظرهم نفسيّة لأنفسهم ولا فعل وأيضا لو قال : ما قتلتموهم ، كان اشعارا بنفسيّة ما لهم حيث صرّح بالفاعل بخلاف لم تقتلوهم ، فانّ الواو وان كان ضميرا لكنّه مشترك بين الغائب والحاضر وحرف الاعراب فكأنّه غير مصرّح بالفاعل ، والرّسول (ص) لمّا كان له نفسيّة بنفسيّة الله وبقاء ببقاء الله أتى بالماضي المصرّح بالفاعل ثمّ اثبت له الفعل المنفىّ ولم يقدّم المسند اليه هاهنا لانّه يقتضي المقابلة لله أو المشاركة معه وكلاهما منتف في الواقع وفي نظره (ص) ، لانّ نفسيّته لم تكن الّا بنفسيّة الله ومنه يظهر وجه اختلاف اداتى النّفى أيضا. وامّا وجه الاختلاف بذكر المفعول وحذفه فهو انّ القتل ظهر على أيديهم وبحسب اقتضاء ظهوره في المظاهر البشريّة وصل الى المقتولين بخلاف الرّمى ، فانّه وان ظهر على يده (ص) إذ روى انّه (ص) أخذ كفّا من الحصا بوحي من الله وقرأ : شاهت الوجوه للحىّ القيّوم ، ورماه فلم يبق أحد الّا اشتغل بعينه لكنّ القوّة القسريّة المودعة في الحصاء من المظهر البشرىّ لم تقتض سعة كفّ من الحصا نحوا من الف رجل ولا انحرافها الى كلّ في كلّ ناحية ، فالرّمى كان منه بحسب مظهريّته والإيصال الى المشركين لم يكن منه لا حقيقة ولا بحسب مظهريّته فأسقط المفعول هنا اشعارا بانّ أصل الرّمى ظهر على يده ولكنّ الإيصال الى المشركين لم يجر على يده (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أتى بالعاطف مع انّ المقصود انّ الله قتل ورمى ليبلى المؤمنين لانّ المقصود من الاوّل نفى القتل والرّمى عنهم وإثباته لنفسه تعالى مع قطع النّظر عن السّبب والغاية ولو أتى بالقيد لأوهم انّ المراد نفى الفعل عنهم مقيّدا بالغاية المخصوصة وإثباته كذلك ، مع انّه لم يكن المقصود الّا نفى أصل الفعل وإثباته فهو معطوف على قوله (لكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ورماهم بتقدير قتلهم أو هو خبر مقدّم لقوله ذلكم والمعنى انّه قتلهم ورماهم لينعم على المؤمنين نعمة حسنة من الغنيمة وإعلاء الكلمة ، أو المعنى ليختبر المؤمنين من قبله اختبارا حسنا لا تعب فيه ولا انحراف عن الحقّ يعتبريه ابتلاهم بمجاهدة الأعداء مع قلّة عددهم وكثرة العدوّ ، وكونه اختبارا وامتحانا واضح ، وكونه حسنا لحسن عاقبته بحصول قوّة القلب لهم وقوّة الايمان مع الغلبة وإعلاء الكلمة والغنيمة الوافرة وفداء الأسرى ، ولعلّ هذا كان أوفق بسياق العبارة ومعاني اللّغة فانّ الإبلاء والبلاء بمعنى الاختبار كثير الاستعمال وبمعنى الانعام لم يذكره بعض اللّغويّين (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعاء النّبىّ (ص) واستغاثة المؤمنين (عَلِيمٌ) بما يصلحهم من الانعام وعدمه أو انّ الله سميع لمقالتهم للنّبىّ (ص) وكراهة المقاتلة عليم بما هو صلاحهم من الجهاد مع العدوّ ومعارضة العير والغارة عليهم (ذلِكُمْ) البلاء أو القتل والرّمى وهو مبتدأ مؤخّر أو خبر مبتدء محذوف (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) عطف على ليبلي أو على ذلكم (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) ايّها الكافرون على ان يكون الخطاب لمشركي مكّة كما قيل : انّهم وقت الخروج من مكّة لغزو بدر تعلّقوا بأستار الكعبة وطلبوا الفتح والنّصرة على محمّد (ص) ونقل أيضا انّ أبا جهل استفتح يوم بدر وطلب النّصرة من الله وقيل الخطاب للمؤمنين (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) تهكّما (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن معاداة الرّسول (ص) وجحوده (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) يعنى هو المختار وليس المقصود اعتبار التّفضيل ، أو التّفضيل مقصود بالنّسبة الى اعتقادهم (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) اى إغناء أو ضرّا كما لم تغن هذه الكثرة (وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الجملة حاليّة على قراءة انّ بالكسر ، وعلى قراءة انّ بالفتح فهي معطوفة


على شيئا يعنى لن تغني عنكم فئتكم ضرّا ولا كون الله مع المؤمنين الّذى هو سبب هزيمتكم وضرّكم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذكر معيّته للمؤمنين ونصرتهم بالملائكة ناداهم تلطّفا بهم وترغيبا لهم في طاعة الرّسول (ص) الّتى هي ملاك الايمان وتحذيرا عن مخالفته الّتى هي تنافي الايمان (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) تلك المواعظ ومعيّة الله ونصرته ، ولمّا كان طاعة الله بطاعة الرّسول (ص) لم يكرّر الفعل وأفرد الضّمير المجرور (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) سماع لفظ كالحيوان (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع المعنى كالإنسان (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُ) عن المقصود (الْبُكْمُ) عن التّنطّق بالحقّ المقصود من السّماع (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) المقصود من إشارات المسموع (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) هذه الشّرطيّة لانتفاء الثّانى لانتفاء الاوّل كما هو أكثر موارد استعمال لو لغة وليست لمحض بيان الملازمة بين التّالى والمقدّم كما هو طريقة استعمال المنطقيّين (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) هذه الشّرطيّة لبيان الملازمة بين التّالى والمقدّم الّذى هو ضدّ ملزوم التّالى مع الاشعار بتحقّق ملزومه الواقعىّ مبالغة في تحقّق التّالى مثل : لو لم يخف الله لم يعصه ، فليست القضيّتان على طريقة استعمال الشّرطيّات في المنطق واقيستها حيث يظنّ انهما صورة قياس اقترانىّ من الشّكل الاوّل ، ولو سلّم فالكبرى مهملة غير منتجة فالبحث بانّه قياس من الشّكل الاوّل وينتج : لو علم الله فيهم خيرا لتولّوا ، ساقط من أصله ، ولو سلّم صحّة القياس فالنتيجة صحيحة من قبيل : لو لم يخف الله لم يعصه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) بالحيوة الانسانيّة وهو الايمان الخاصّ الحاصل بالولاية الّتى هي سبب دخول الايمان في القلب الّذى هو سبب حيوة القلب ، فالمعنى إذا دعاكم الرّسول (ص) لولاية علىّ (ع) ودعاؤه دعاء الله فاستجيبوه ، وقد فسّر في الاخبار بولاية علىّ (ع) والسّرّ في ذلك انّ حيوة الإنسان بانفتاح باب قلبه الى دار الحيوان ووصول اثر الحيوة من تلك الدّار اليه وهو الايمان الدّاخل في القلب ، وانفتاح باب القلب ووصول اثر الحيوة اليه لا يتصوّر الّا بالولاية الّتى هي الاتّصال بولىّ الأمر الّذى هو الحىّ بالحيوة الاخرويّة وبإعطاء اثر الحيوة بنفخته في القلب بتلقين الذّكر الّذى هو سبب انفتاح بابه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) اى يصير حائلا بين المرء ونفسه فان أراد سعادة المرء يمنع من وصول اثر عصيانها اليه لئلّا يقوده الى النّار ، وان أراد شقاوته يمنع من وصول اثر طاعتها اليه لئلّا يقوده الى الجنّة ، أو يصير حائلا بين المرء وقلبه الّذى به خيراته وحيوته الحقيقيّة فيمنع ان شاء من وصول اثر الحيوة الانسانيّة اليه ، أو يصير حائلا بينه وبين النّفس لئلّا يعلم انّ الحقّ باطل والباطل حقّ ، أو يصير حائلا بين المرء حين اشتهى شيئا من مشتهياته وبين قلبه الّذى فطر على الحقّ حتّى لا يخرج المشتهيات المرء عن الحقّ الى الباطل أو يصير حائلا بين المرء ونفسه اى مشتهياتها ، فلا يدع المرء ان يتّبع مشتهيات النّفس أو يوقع الحالات بين المرء وقلبه يعنى بيده تسخير الأحوال أو يتردّد بين المرء وقلبه فيعلم خفيّات أحوالهما أو يتردّد بين المرء وقلبه فيوصل الحيوة الابديّة الى المستجيب ويمنعها من غير المستجيب ، والمقصود على كلّ المعاني التّحذير عن ترك الاستجابة والتّرغيب في الاستجابة ، وفي الاخبار تصريح بالبعض وتلويح الى البعض الآخر (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) لا تصيبنّ صفة لفتنة فانّ المقصود التّحذير عن فتنة مخصوصة مقيّدة لا فتنة ما ، ولا الفتنة المطلقة فانّ الاولى لا يتعلّق بها غرض والثّانية


يناسبها التّعريف باللّام ، ولا تصيبنّ منفىّ مؤكّد بالنّون يجبر شذوذ تأكيده بالنّون بمطلوبيّة المبالغة فيه أو منهىّ مقدّر بالقول ، وفيه وجوه أخر بعيدة عن اللّفظ غير متعلّق بها غرض معنوىّ. اعلم ، انّ الظّلم عبارة عن منع الحقّ عن المستحقّ وإيصاله الى غير المستحقّ وهذا المعنى لا اختصاص له بشيء دون شيء وشخص دون شخص وحقّ دون حقّ ، فمنع الأطفال والنّسوان والأراذل عن مشتهياتهم ظلم بوجه وان كان عدلا بوجه ولذا ورد ثلاثة ان لم تظلموهنّ ظلموك : النّساء والصّبيان والسّفلة ، ومنع الننفس وقواها عن مشتهياتها ظلم بوجه وبالنّسبة إليها وان كان بالنّسبة الى اللّطيفة الانسانيّة عدلا «ظلم بين كز عدلها گو مى برد» ومنع النّفس من حكومة العقل والانقياد تحت امره ظلم ، ومنعها من الانقياد تحت حكومة نبىّ الوقت بالبيعة العامّة ظلم ، وحقيقة الظّلم وأصله وملاكه هو منع اللّطيفة الانسانيّة من قبول الولاية وبواسطته يتحقّق حقيقة الظّلم في كلّ ظلم ، ولولاه لم يكن الظّلم ظلما ، وان كان بصورة الظّلم كقتل محمّد (ص) ونهبه واجلائه كثيرا من مخالفيه وكقتل علىّ (ع) النّاكثين والمارقين والقاسطين ولكونه بصورة الظّلم حملوه على الظّلم وقالوا فيه ما قالوا وفعلوا ما فعلوا حتّى قتلوه ، ولو لا الولاية لم يكن عدل وان كان الخالي عن الولاية بصورة العدل كفعل معاوية وعدله في الامّة ، والمقصود من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم الّذين كانوا من أمّة محمّد (ص) وبايعوا بالبيعة العامّة بقرينة قوله (مِنْكُمْ) خطابا للامّة وظلموا بمنع الإسلام عن حقّه الّذى هو الهداية الى الايمان وترك مودّة ذوي القربى الّتى هي غاية التّبليغ ، والبيعة كأنّ غيره من الخطايا لا تعدّ ظلما منهم وأيضا التّقييد بقوله (مِنْكُمْ) واعتبار حيثيّة القيد يشعر به ، فالظّلم الّذى هو بعد الدّخول تحت حكومة النّبىّ (ص) من حيث هو بعد الدّخول المذكور ليس الّا منع اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة عن الدّخول تحت حكم ولىّ الأمر بالبيعة الخاصّة الّتى بها يدخل الايمان في القلب وبها يتحقّق حقيقة العدل في كلّ عدل وبها ينفتح باب القلب الى الملكوت ، وبها يمكن السّير على الطّريق المستقيم الى الله ، والمراد بالفتنة المقيّدة هو الانحراف عن ولّى الوقت فانّ من كان واقفا على البيعة العامّه كان ظالما على اللّطيفة الانسانيّة والفتنة المصيبة لهم هو الوقوف والانحراف عن البيعة الخاصّة مع ولىّ الوقت الّذى هو علىّ (ع) وهي الفتنة المجاوزة عنهم الى المبتاعين بالبيعة الخاصّة مع محمّد (ص) بعد رحلته والمبتاعين بالبيعة الخاصّة مع علىّ (ع) بعد رحلته والى المبتاعين بالبيعة الخاصّة مع الحسن (ع) بعد رحلته وهكذا الى انقراض العالم. وتفسير الفتنة بما يصل اثره الى غير الفاعل كالغيبة والبدعة وغيرهما يناسب ظاهر التّنزيل واللّفظ لكن ليست هي المقصودة ؛ وقد ورد في الاخبار الاشعار بما ذكرنا غاية الأمر انّها داخلة تحت الآية من باب سعة وجوه القرآن (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فاتّقوا مطلق الفتنة خصوصا الفتنة المذكورة الّتى هي أصل كلّ الفتن (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) من حيث العدد أو من حيث المال ولفظ قليل قد يفرد وقد يجمع (مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) تذكير لهم بنعمه والمراد ضعفهم قبل المهاجرة (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) من قريش (فَآواكُمْ) الى المدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الغنائم وغيرها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وجعل الخطاب للعرب تماما وجعل ضعفهم ذلّتهم عند الرّوم والعجم بعيد جدّا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) ان كان نزوله في ابى لبابة بن عبد المنذر الانصارىّ في غزوة بنى قريظة ومشورتهم له في نزولهم على حكم سعد بن معاذ كما قرّره الرّسول (ص) وقوله لهم : ان تنزّلوا على حكمه


تقتلوا ، كما في الاخبار فالمقصود عامّ والمراد بخيانة الله والرّسول (ص) هو خلاف ما أظهر للرّسول (ص) في البيعة والميثاق من عدم مخالفته ظاهرا وباطنا وارادة خير المؤمنين كذلك ، والمراد بالأمانات امّا الأمانات التّكوينيّة الّتى أصلها واسّها وملاكها الامانة المعروضة على السّماوات والأرض ، الّتى هي اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة المستتبعة لتمام القوى الانسانيّة المستلزمة لتمام التّكاليف الشّرعيّة النّبويّة والاصليّة الولويّة الحاصلة منها تمام المراتب الانسانيّة ، أو الأمانات التّكليفيّة الولويّة القلبيّة من الذكر المأخوذ من ولىّ الأمر وسائر ما يؤخذ ، أو الأمانات التّكليفيّة النّبويّة المأخوذة من نبىّ الوقت من الأعمال القالبيّة الشّرعيّة ، وتخونوا امّا معطوف على المنهىّ فيكون كلّ نهيا مستقلّا أو بتقدير ان بعد الواو بمعنى مع فيكون مشعرا بمعيّة الثّانى للاوّل معيّة المسبّب للسّبب (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) اى تشعرون غير غافلين ووجه التّقييد بالحال الاشارة الى انّ الإنسان قلّما ينفكّ عن غفلة عمّا امر به وانّه خيانة بوجه ما ، لكنّه غير مضيّق عليه وغير مشدّد عليه مثل عدم الغفلة ، ولمّا كان الخيانة كثيرا ما تقع بسبب الأموال والأولاد فانّ الإنسان يدع دينه لأولاده عقّبه بذمّ الأموال والأولاد فقال (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) امتحان لكم من الله هل تشغلون بها عن أماناتكم أم تثبتون معها على أماناتكم فمن شغل بها خلص شقاوته ومن ثبت على أماناته استحقّ اجرا عظيما لخلوص سعادته (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن ثبت وخلص عن الفتنة سالما ، أو المعنى واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة وفساد لكم فلا تغترّوا بها وانّ الله عنده أجر عظيم فاطلبوه منه بترك الاشتغال بالأموال والأولاد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) في مخالفة الرّسول (ص) (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) نورا فارقا بين الحقّ والباطل وهو نور الولاية ، فالمراد بالتّقوى هي التّقوى المتقدّمة على الايمان الخاصّ ، أو ان تتّقوا الله في الانحراف عن الطّريق المستقيم الى الطّرق النّفسانيّة المعوجّة بالولاية والايمان الخاصّ الدّاخل في القلب بالبيعة الخاصّة الولويّة فانّ حقيقة التّقوى وهي التّحفّظ عن الانحراف الى الطّرق النّفسانيّة لا تحصل الّا بالوصول الى الطّريق الى الله بالولاية ، يجعل لكم فرقانا وتميزا بين الحقائق وحدودها واصيلها واعتباريّها فالمراد بالتّقوى التّقوى الحقيقيّة الحاصلة بالايمان الخاصّ. اعلم ، انّ حقيقة التّقوى وهي التّحفّظ عن اتّباع النّفس في الصّغير وعن اتّباع أصل الشّرور واظلاله في الكبير لا تحصل الّا باتّباع العقل في الصّغير وباتّباع علىّ (ع) في الكبير واتّباع العقل أيضا لا يحصل الّا باتّباع علىّ (ع) وقبول ولايته بالايمان الخاصّ ، لانّ الإنسان ما لم يدخل في الولاية ولم يدخل الايمان في قلبه لا ينفتح باب قلبه وكلّ ما فعل باعتقاده من آثار التّقوى كان صدوره من نفسه وغايته راجعة الى نفسه ، فما تصوّره انّه كان تقوى لم يكن تقوى ، وإذا قبل الولاية بشرائطها المقرّرة عندهم انفتح باب قلبه واقبل الى الوحدة وأدبر عن الكثرة وحصل له امتثال امر الله بالإقبال عن الكثرة ، فكلّما فعل من هذه الجهة كان تقوى من طرق النّفس والكثرة مغيّى بالوحدة ، فكلّما قرأ آية من آيات الايمان وهو القرآن رقى درجة من درجات الايمان وهي درجات الجنان ، وكلّما رقى درجة من درجات الايمان حصل له نور به يبصر الكثرات واعتباريّتها والوحدة واصالتها حتّى إذا وصل الى آخر مراتب التّقوى وهو الفناء الذّاتيّ والتّقوىّ الحقيقيّة حصل له آخر مراتب الفرقان وهو الحشر الى اسم الرّحمن والمالكيّة لما سوى الرّحمن وكأنّه للاشارة الى حصول الفرقان بتدريج الارتقاء أتى بالمضارع الدّالّ على الحصول بالتّدريج ، أو المراد ان تنتهوا في تقوى الله بالفناء من أنفسكم يجعل لكم فرقانا حاصلا بالحشر الى الرّحمن وهذا الفرقان هو النّبوّة أو الرّسالة أو الخلافة


(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الّتى تحتاج الى التّعمّل في الزّوال الّتى هي الحدود الظّلمانيّة والتّعيّنات الّتى هي مساوي الإنسان إذ بعد حصول الفرقان لا يرى الّا مراتب الوجود الّتى هي مراتب النّور لا حدوده الّتى هي مراتب الظّلمات الّتى بعضها فوق بعض (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) مساويكم الّتى لا تنفكّ عن الإنسان وهي تبعة المراتب ونقائصها (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) من قبيل اقامة السّبب مقام المسبّب اى ويتفضّل عليكم لانّ الله ذو الفضل العظيم ذكر أوصافا اربعة : النّور الفارق ، وتكفير المساوى ، وإزالتها بواسطة النّور وغفران الصّغائر ، والفضل العظيم الّذى لا يحدّ ولا يوصف (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) واذكر أو ذكّر إذ يمكر بك (الَّذِينَ كَفَرُوا) تذكير لما أنعم عليه من النّجاة مع غاية مكر قريش حين اجتمعوا وتشاوروا في دار النّدوة واجتمع رأيهم على قتله بالاتّفاق حتّى يكون من كلّ قبيلة رجل فيتفرّق دمه على القبائل ولا يتيسّر لبني هاشم القصاص ، وقصّتهم مذكورة في الصّافى وغيره (لِيُثْبِتُوكَ) بالحبس (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ) وإذ يمكرون بأىّ نحو يتصوّر فهو معطوف على يمكر أو هو عطف باعتبار المعنى كأنّه قيل : مكروا ومكر الله ويمكرون في الحال (وَيَمْكُرُ اللهُ) بأخذهم من حيث لا يعلمون أو هو استيناف (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) من حيث لا يمكن الاطّلاع على سبب اخذه لغاية خفائه ومن حيث لا يتخلّف المقصود من مكره (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) عطف على يمكرون (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) استهزاء (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) قيل قائله النّضر بن الحارث بن كلدة الّذى قتل يوم بدر بعد أسره على يد علىّ (ع) (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) اسمار الاوّلين فانّه يكنّى بالاساطير عنها (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قيل : قائله كان بمكّة قبل الهجرة حين ادّعى النّبىّ (ص) النّبوّة ووعد قريشا انّهم يملكون بتصديقه (ص) ملوك الأرض وقائله كان النّضر أو أبا جهل ، وقيل : قائله ابو جهل يوم بدر ، وقيل : قائله كان بغدير خمّ ، وقيل : بمدينة بعد غدير خمّ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يعنى انّ لهم امانين من عذاب الله أنت والاستغفار ، فما دمت فيهم لم يعذّبهم ، وما داموا استغفروا أيضا لم يعذّبهم ، وتكرار الفعل واختلافهما في الخبر للاشارة الى انّ كلا منهما أمان بالاستقلال والاوّل أتمّ وأقوى فانّ الإتيان بلام الجحود في خبر كان للمبالغة (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) يعنى انّ امهال الله ايّاهم ليس بسبب من أنفسهم بل ليس من قبل أنفسهم الّا استحقاق العذاب (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعنى يمنعون النّاس عن البقعة المخصوصة أو عن نبوّة النّبىّ (ص) ويمنعون النّاس في العالم الصّغير عن الدّخول في المسجد الحرام الّذى هو الصّدر المتّصل بالقلب أو يعرضون ، وعلى هذا ان كان النّزول خاصّا فالمقصود عامّ يشمل الامّة المنافقة المنحرفة الى انقراض العالم (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) كما يفتخرون بأنّهم أولياء البيت وكما افتخروا بأنّهم أولياء محمّد (ص) وغصبوا حقّ علىّ (ع) (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) بالتّقوى العامّة أو الخاصّة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) معنى ولاية البيت وانّ ولاية البيت مخصوصة بمن اتّقى عن الشّرك واتّباع النّفس وهواها (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء الصّفير ، والتّصدية التّصفيق كانوا يطوفون


بالبيت عراة يشبّكون بين أصابعهم ويصفرون ويصفّقون وكانوا يفعلون إذا قرأ رسول الله (ص) في صلوته يخلّطون عليه (فَذُوقُوا الْعَذابَ) بالقتل والأسر يوم بدر أو بالنّار في الآخرة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) يستمرّون على الإنفاق. اعلم ، انّه لا اختصاص للمال بالاعراض الدّنيويّة بل يعمّها والقوى البدنيّة والقوى النّفسانيّة بل هي اولى بكونها مالا من الاعراض لانّ نسبة المملوكيّة هنا حقيقيّة وهناك اعتباريّة صرفة لا حقيقة لها ، والإنسان ما لم يخرج من هذا البنيان شغله اكتساب المال الصّورىّ والمعنوىّ وإنفاقه ، فان كان متوجّها الى الله يصدق عليه انّه ينفق في سبيل الله اى حالكونه في سبيله أو في حفظ سبيله وتقويته وان كان متوجّها الى الملكوت السّفلى يصدق عليه انّه ينفق في سبيل الطّاغوت بمعنييه ويصدق عليه انّه ينفق لصدّ النّاس عن المسجد الحرام وعن سبيل الله صورة ومعنى ، ولصدّ القوى والمدارك عن التّوجّه الى القلب فالكافرون شغلهم الإنفاق مستمرّا (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اى سبيل الحجّ أو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) أو الصّدر المنشرح بالإسلام أو القلب (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) لعدم عوض للمنفق بل لنقصان ذواتهم بالإنفاق (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) ظاهرا وباطنا ان كان نزول الآية في قريش حين خروجهم لغزو بدر وإنفاقهم في ذلك كما ورد في الخبر فلا ينافي عمومها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) تكرار الموصول للتّفضيح والاشارة الى علّة الحكم (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) يعنى كما انّ شغلهم الإنفاق للصّدّ كذلك سلوكهم ليس الّا الى جهنّم ، لانّ شغلهم الإنفاق في سبيل الطّاغوت فسلوكهم على سبيل الطّاغوت وهو سبيل جهنّم ، وفعلنا ان نحشرهم آنا فآنا حشرا بعد حشر الى جهنّم وغاية هذا الفعل كراهة اختلاط المؤمن والكافر وتميز الكافر من المؤمن ، هذا في الكبير ، وامّا في الصّغير فالقوى الحيوانيّة البهيميّة والسّبعيّة والقوى الشّيطانيّة اللّاتى شأنها الكفر بالعقل تنفق قوّتها لصدّ سائر القوى عن سبيل العقل وهو سبيل الله وهي متوجّهة الى السّفل الّذى هو دار الشّياطين والجنّة ، وفيه جهنّم فتحشر الى جهنّم آنا فآنا وفي الخبر اشارة الى التّعميم وذلك الحشر (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) لضيق السّفل وعدم سعته (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) فيجعله متراكما متداقّا (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) بعد انتهاء حشره وتراكمه (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في موضع التّعليل والإتيان بالمسند اليه باسم الاشارة موضع الضّمير لاحضار حالهم الفظيعة اشعارا بعلّة الحكم ، وتعريف المسند وضمير الفصل للتّأكيد والحصر (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مخاطبا لهم قولي (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أو مضمون ان ينتهوا يغفر لهم أو قل في حقّهم فالعبارة على ما هو حقّها ، والمراد بالكفر الكفر بالله أو بالنّبىّ (ص) أو بالولىّ (ع) أو بالولاية التّكوينيّة الّتى هي وجهة القلب وطريق الآخرة ، ولذا ورد عن الباقر (ع) انّه قال له رجل : انّى كنت عاملا لبني أميّة فأصبت مالا كثيرا فظننت انّ ذلك لا يحلّ لي فسألت عن ذلك فقيل لي : انّ أهلك ومالك وكلّ شيء لك فهو حرام فقال (ع) : ليس كما قالوا لك ، قال فلي توبة؟ ـ قال (ع) : نعم ، توبتك في كتاب الله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) ما قد سلف ، فعدّه (ع) من الكافرين حيث كفر بالولاية التّكليفيّة أو التّكوينيّة (وَإِنْ يَعُودُوا) الى ما كانوا فيه من الكفر بأحد معانيه ولوازمه من معاداة الرّسول (ص) ومقاتلته مضت معاداتهم على نبيّنا (ص) ولم يبق عليه شينها وبقي عليهم عقوبتها (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الّذين


كفروا وعادوا أنبياءهم (ع) أو المعنى ان يعودوا الى ما هم فيه فليتوقّعوا عذابنا وانتقامنا كما انتقمنا عمّن سلف ولا اختفاء في انتقامنا عن السّالفين فقد مضت سنّة الاوّلين وصارت اسمارا بحيث لم يبق أحد الّا وقد سمعها (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فساد من الشّرك ولوازمه (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ولا يكون لكلّ دين أو أديان وكان بعضه للّشيطان كالاديان الباطلة وبعضه لله كدينك ، هذا في الصّغير ظاهر ، وامّا في الكبير فقد ورد انّه لم يجئ تأويل هذه الآية بعد انّ رسول الله (ص) رخّص لهم لحاجته وحاجة أصحابه فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم ولكنّهم يقتلون حتّى يوحّدوا الله وحتّى لا يكون شرك (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الانتهاء والإسلام (بَصِيرٌ) فيجازيهم على حسبه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) فلا تحزنوا ولا تضيّقوا صدرا من تولّيهم (نِعْمَ الْمَوْلى) المتولّى أموركم وتربيتكم (وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

الجزء العاشر

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) اسم الغنيمة قد غلبت على ما كان يؤخذ من الكفّار بالقهر والغلبة حين القتال والّا فهي اسم لكلّ ما استفاد الإنسان من اىّ وجه كان واىّ شيء كان ، فعن الصّادق (ع): هي والله الافادة يوما بيوم (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وقد فسّر ذوي القربى بالإمام من آل محمّد (ص) فانّه ذو القربى حقيقة وفسّر الثّلاثة الاخيرة بمن كان من قرابات الرّسول (ص) جعل ذلك لهم بدلا عن الزّكاة الّتى هي أوساخ النّاس تشريفا لهم (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) جزاؤه محذوف اى فأعطوا خمسه فانّه عبادة ماليّة هي أحد ركني العبادة الّذين هما الصّلوة والزّكاة (وَما أَنْزَلْنا) اى بما أنزلنا (عَلى عَبْدِنا) من احكام العبادات الماليّة والبدنيّة ومن جملتها حكم الخمس أو من الملائكة المنزلين (يَوْمَالْفُرْقانِ) يوم بدر لظهور الحقّ عن الباطل والفرق بينهما فيه وهو متعلّق بآمنتم أو بانزلنا (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) لظهور دلائل صدق النّبوّة بظهور نصرة الحقّ بالملائكة أو بظهور نزول الملائكة وجنود الله للنّصرة ولذا فسّر ما أنزلنا بانزال الملائكة والنّصرة في ذلك اليوم تذكيرا لهم بدلائل صدق النّبوّة وقدرة الله على نصرهم حتّى لا يشمئزّوا عن امره بإعطاء مالهم ثقة بامداده وإعطائه ولذا قال (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعميما بعد تخصيص وهو عطف على ما هو المقصود كأنّه قال فالله قادر على الأمداد ونصرة القليل على الكثير فلا تخافوا من كثرة العدوّ وقلّتكم والله على كلّ شيء قدير فلا تخافوا من قلّة ما في اليد والإنفاق فانّه قادر على اعطائكم (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) بدل من يوم الفرقان أو ظرف لا لتقى أو لقدير والعدوة مثلّثة شطّ الوادي (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) والمراد الدّنيا من المدينة والقصوى منها (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعنى عبر قريش والمراد تذكيرهم بقوّة المشركين وشدّة اهتمامهم بالقتال لحفظ العير واستظهارهم بمن كان في العير وهم ابو سفيان وأصحابه وكون مكانهم اثبت للاقدام ومكان المؤمنين يسوخ فيه الاقدام حتّى لا يبقى لهم شكّ في انّ غلبتهم لم تكن الّا بنصرة الله ولذا قيل : كان غزوة بدر من ادلّ الدّلائل على نبوّة نبيّنا (ص) (وَ) الحال


انّكم لغاية ضعفكم وقوّة أعداءكم (لَوْ تَواعَدْتُمْ) للقتال معهم (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ) ثبّتكم على القتال على هذه الحال ولم يدعكم حتّى تفرّوا (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) اى حقيقا بان يفعل أو مفعولا في الذّرّ من إعلاء كلمته وإعزاز دينه وإذلال أعدائه ، أو هلاك الهالك عن بيّنة أو إنزال الملائكة وإظهار دلائل النّبوّة (لِيَهْلِكَ) بدل عن قوله ليقضى الله على ان يكون المراد بالأمر المفعول إتمام الحجّة وإهلاك الهالك وحيوة الحىّ بعدها أو متعلّق بيقى والمراد الهلاك الصّورىّ أو المعنوىّ (مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) بعد بيّنة أو متجاوزا عن بيّنة هي إعزاز المؤمنين وغلبتهم في مقام لا يظنّ الّا ذلّتهم ومغلوبيّتهم ولم يكن ذلك الّا بنزول الملائكة وامدادهم بحيث لم يخف على أحد من الطّرفين (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لاستغاثتكم فيجيبكم (عَلِيمٌ) بصدوركم وخفّياتها من الخوف والاضطراب وما يصلحها من التّثبيت والأمداد أو لسميع بمقال الهالك والحىّ عليم بحاله ، عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : انّ الله يقضى أو انّ الله يهلك وانّ الله لسميع أو هو استيناف (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) لتخبر أصحابك بقلّتهم ليجترؤا على القتال وهو متعلّق بمتعلّق ليقضى أو بدل من ، إذ أنتم بالعدوة الدّنيا أو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلّق بعليم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) فأخبرت أصحابك (لَفَشِلْتُمْ) جبنتم (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) امر القتال لانحراف آراء أكثركم عن القتال (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) نفوسكم عن الفشل والتّنازع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بالخفيّات الّتى تصاحب الصّدور فيدبّر أمركم عن علم بما لا تعلمون ، نقل انّ المخاطبة للرّسول (ص) والمعنى لأصحابه يعنى أرى أصحابه المشركين قليلا في منامهم ، وعن الباقر (ع): كان إبليس يوم بدر يقلّل المسلمين في أعين الكفّار ويكثّر الكفّار في أعين النّاس فشدّ عليه جبرئيل (ع) بالسّيف فهرب منه (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) تصديقا لرؤيا الرّسول (ص) وتشجيعا لكم (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) لئلّا يفرّوا من القتال فيقع ما اراده الله من القتال ونصرة المؤمنين وإعلاء كلمتهم ، نقل عن ابن مسعود انّه قال : لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجل الى جنبي ، أتراهم سبعين؟ ـ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم؟ ـ قال : ألفا ، وقلّل المؤمنون في أعين الكفّار حتّى قال قائل منهم : انّما هم اكلة جزور ، هذا كان قبل المقاتلة وامّا حين المقاتلة فقد رأوا المؤمنين مثليهم رأى العين (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) كرّره تأكيدا واشعارا بان لا غرض من الأمر بالقتال وتدبير امر المقاتلين من رؤيا القلّة ورؤية القليل وتشجيع المؤمنين وتثبيتهم الّا قضاء ما في اللّوح وإمضاءه من إظهار دينه على الأديان (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كما انّ منه تدبيرها وصدورها ثمّ بعد ما أظهر انّ النّصر من عنده وانّ أسبابه الظّاهرة أيضا منه وشجّع المؤمنين وثبّتهم قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) من المشركين والكفّار للقتال فانّ اللّقاء غلّب في القتال (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ثقة بنصره واستظهارا بذكره فانّ القلب يطمئنّ عن الاضطراب والخوف بذكره (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالظّفر على الأعداء (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركم به في امر القتال وغيره (وَلا تَنازَعُوا) باختلاف الآراء (فَتَفْشَلُوا) تضعفوا عن القتال (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) عظمكم في نظر الأعداء شبّهت العظمة المعنويّة بالرّيح


الدّاخلة تحت الثّياب الّتى بها تعظم جثّة الإنسان ، أو بالانتفاخ والانتقاش الّذى يكون للسّباع حين ثوران الغضب وهو مثل دائر في العرب والعجم (وَاصْبِرُوا) على الجهاد (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعنى قريشا حين خرجوا مع آلات اللهو (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) ليثنوا عليهم بالشّجاعة والشّوكة فانّهم أخرجوا معهم القيان والخمور وآلات اللهو (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فلا يخفى عليه أعمالكم ولا نيّاتكم (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) عطف على (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ) أو (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) ، أو (إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) على جواز عطف عدّة معطوفات كلّا على سابقه (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) وكان تزيينه بإذن الله ليقضى الله امرا كان مفعولا (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) مجير لكم أو مجاور تمثّل لهم بصورة شخص بشرىّ يقال له سراقة كما في الخبر ، أو أوقع في روعهم ذلك ووسوس إليهم انّ الثّبات على الأصنام وحفظ دينهم امر الهىّ وهو مجيرهم ويحفظهم (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى وهو مثل يضرب لمن خاب من مأموله ورجع عن طلبه (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يعنى الملائكة (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) من كلامه أو من كلام الله عطفا على قال ، في الخبر : انّ إبليس كان في صفّ المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث : يا سراقة اتخذ لنا على هذه الحال؟ ـ فقال : انّى ارى ما لا ترون ، فقال : والله ما ترى الّا جواسيس يثرب ، فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم النّاس ، فلمّا قدموا مكّة قال النّاس : هزم سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتّى بلغني هزيمتكم فقالوا : انّك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلمّا أسلموا علموا انّ ذلك كان الشّيطان (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ممّن أسلم ظاهرا متعلّق بواحد من الأفعال السّابقة أو بدل من إذ زيّن لهم الشّيطان (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) عزّ وغلب (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغلب من يتوكّل عليه (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته ما هو صلاح عباده من تجرئة القليل على الكثير وغلبتهم ليظهر حقّيّة دينهم (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) لو للتمنّى لأنّه كثيرا ما يستعمل ليت في أمثال تلك القضايا ولا مانع من جعل لو بمعناها مع انّه غنىّ عن تقدير الجواب ولو جعل لو للّشرط فالجواب محذوف اى لرأيت امرا فظيعا والخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ والمراد توفّيهم يوم بدر أو عامّ (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) يعمّ الضّرب جميع أطرافهم أو المراد الوجوه والأستاه كما في الخبر لانّ الله حيي ويكنّى (وَ) يقولون (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أو يقول الله : ذوقوا عذاب الحريق في الدّنيا أو في الآخرة (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من قول الله أو الملائكة (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدّمت والمقصود نفى سببيّة ظلمه تعالى وحقّ العبارة حينئذ ان يقول لا بانّ الله ظلّام للعبيد لكنّها لمّا كانت موهمة لنسبة الظّلم اليه تعالى ونفى سببيّته للعقوبة ادّاه بصورة نفى الظّلم وسببيّة النّفى للعقوبة فانّه كثيرا ما يؤتى بأداة التّسبيب ويراد نفى السببيّة كما يقال : فلان بنفسه يفعل كذا ويراد لا بسبب فهو نفى لنسبة الظّلم اليه تعالى صريحا وبسببيّة الظّلم فحوى لا انّه


بيان لسببيّة عدم الظّلم خصوصا على قاعدة انّ الاعدام لا سببيّة لها لشيء أصلا وما يقال : عدم الشّرط سبب لعدم المشروط فهو بالمقايسة الى الملكات ، والظّلّام من صيغ النسب كتمّار لا من صيغ المبالغة (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) اى ما هم عليه من الكفر والمعاصي المستتبعة للعقوبة كدأب آل فرعون أو هو متعلّق بقوله يتوفّى والتشّبيه تمثيلىّ والدّأب الخصلة والسنّة الّتى اعتادها وداوم عليها صاحبها (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كاقوام الأنبياء (ع) السّلف (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) استيناف جوابا للسّؤال المقدّر عن دأبهم كأنّه قيل : ما كان دأبهم؟ وما فعل بهم؟ (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ذلِكَ) العقاب عقيب الكفر والعصيان بانّ عادة الله جرت بان يغيّر النّعمة عقيب تغيير صاحب النّعمة حاله فحقّ العبارة ان يقال بانّ الله يغيّر ما بقوم من نعمة بتغييرهم أحوالهم لكنّه قال (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) افادة للحصر مع هذا المعنى ونفى التّغيير عنه لا التّصريح بنسبة التّغيير اليه ابتداء (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيسمع مقالّتهم السّوءى ويعلم تغييرهم حسن أحوالهم فيجري عادته بتغيير نعمته (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) يعنى ذلك التّغيير المستتبع لتغييرنا النّعمة المنعمة كدأب آل فرعون والتّكرار للتّأكيد ومطلوبيّة التّكرار حين الغضب (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) ولكون التّكرار للمبالغة ولا بداء اشتداد الغضب بالغضب بالغ وبدّل كفروا بكذّبوا (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) وهذا من مطلوبيّة التّطويل والتّفضيح في مقام الغضب (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا أيضا من التّفضيح والتّغليط والتّطويل في مقام الغضب مثل ما بعده (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) قد فسّروا ببني قريظة فالمراد بالمعاهدة عهد المتاركة وفسّروا أيضا بمنافقى أصحابه فالمراد بالمعاهدة عهد البيعة والاولى التّعميم (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) سخط الله أو لا يتّقون بأسك وبأس المؤمنين (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) ان كان المراد منافقي الامّة فجريان الأمر على يد علىّ (ع) (فَشَرِّدْ بِهِمْ) بقتلهم والنّكاية فيهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) من سائر الكفّار بان يتسامعوا بشدّة بأسك بقتل المقاتلين فلا يطمعوا في مقاتلتك وهو امر بشدّة نكايتهم على أبلغ وجه (لَعَلَّهُمْ) اى من خلف المقاتلين (يَذَّكَّرُونَ) صدق نبوّتك وشدّة بأسك (وَإِمَّا تَخافَنَ) زيادة ما على اداة الشّرط هنا وفي سابقه ولحوق نون التّأكيد للمبالغة في لزوم الجزاء (مِنْ قَوْمٍ) معاهدين بقرينة قوله (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ خِيانَةً) في العهد بنقضه بان يلوح لك اثر المخالفة ونقض العهد ، نقل انّها نزلت في معاوية لمّا خان أمير المؤمنين (ع) وهو ممّا قلنا انّه ممّا جرى على يد علىّ (ع) (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) عهدهم ولا تراعه مشتملا (عَلى سَواءٍ) اى استواء معهم أو حالة مساوية لحالهم في نقض العهد فانّه منك غير مذموم بعد ابتدائهم بنقض العهد (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بنبذ العهد يعنى انّ الخائنين لا جهة محبّة لهم حتّى تراعيها ولا تنقض عهدك معهم (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وضع المظهر موضع المضمر تصريحا بكفرهم وتفظيعا لهم (سَبَقُوا) فاتوا عنّا أو غلبوا ولعلّه كان انسب لانّه لرفع الخوف


عنهم لمناقضة عهدهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) لا يفوتون أو لا يغلبون من أعجزه إذا فاته أو جعله عاجزا ، وقرء لا يحسبنّ بالغيبة وانّ بالفتح ووجوه الاعراب لا يخفى على البصير بالعربيّة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ممّا به قوّتكم وشوكتهم من الخيلاء بين الصّفّين فانّ التّكبّر ممدوح في القتال ومن سلاح وغيره ، وورد في الخبر انّ منها الخضاب بالسّواد (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) من عطف الخاصّ على العامّ إذ الرّباط مصدر بمعنى المربوط أو جمع ربيط غلب على الخيل الّتى تربط للجهاد (تُرْهِبُونَ بِهِ) بما استطعتم من القوّة (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) اى الّذين تخافون خيانتهم والإتيان بالمظهر للاشعار بالعلّة وذكر وصف آخر للتّفظيع (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) من دون من تخافون خيانتهم من الكفرة الّذين لا عهد بينهم وبينكم أو لا تخافون منهم نقض عندكم (لا تَعْلَمُونَهُمُ) خائنين كمنافقى الامّة الّذين أظهروا الإسلام وأخفوا النّفاق أو لا تعلمونهم بأعيانهم حيث غابوا عنكم كالعجم والرّوم والشّام (اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فلا تخافوا من الفقر وتهيّؤا بما استطعتم من القوّة في سبيل الله (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بنقص شيء ممّا أنفقتم (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) اى الصّلح والدّخول في الإسلام أو الدّخول في الايمان كما عن الصّادق (ع) انّه الدّخول في أمرنا (فَاجْنَحْ لَها) فانّ قتالك ليس الّا مقدّمة الصّلح والسّلم بمعنى الصّلح يؤنّث سماعا (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تخف من خديعتهم بالصّلح فانّ الله عاصمك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لكلّ ما قالوا فيك فيدبّر ما فيه صلاحك (الْعَلِيمُ) يعلم نيّاتهم وعاقبة أمرك وأمرهم فلا يفوته شيء ولا يسبقه شيء (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالصّلح بان أرادوا إطفاء نائرة القتال بالصّلح حتّى يتهيّئوا للقتال ويضع أصحابك اسلحة القتال فيباغتوكم فلا تخف (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) في موضع التّعليل على الاستيناف البيانىّ والمراد نصره بالملائكة (وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قلوب المؤمنين فيقدر ان يؤلّف بينكم وبين الخائنين ان أرادوا بالصّلح الخيانة (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فانّ تصريف القلوب بيده لا بيدك البشريّة ولا بيدك النّبويّة (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) قيل : نزلت في الأنصار فانّ الأوس والخزرج كان بينهم مقاتلة ودماء وتؤالفوا وتحابّوا بالإسلام (إِنَّهُ عَزِيزٌ) لا يمنعه من مراده شيء (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته ما فيه صلاح عباده (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كرّره مقدّمة للأمر بالتّحريض ولانّ التّكرار مرغوب فيه في مقام الامتنان وإظهار المحبّة والإحسان (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) لنصرة الله (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) فلا يثبتون ثبات من آمن بالله وعلم انّ النّصر بيد الله والظّفر من الله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) هذه الآية نزلت بعد ما كثر المؤمنون ولذا ورد انّها ناسخة لما قبلها (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) والمراد


بالضّعف الضّعف في القلوب لا في الأبدان حتّى ينافي كثرتهم (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) جواب لأصحابه (ص) حين سألوه ان لا يقتل الأسرى ويأخذ منهم الفداء والمقصود من الإثخان كثرة القتل من اثخن في العدوّ إذا غلب وأكثر الجرح فيهم (تُرِيدُونَ) بأخذ الفداء (عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) لكم بان يكون جهادكم غير مشوب بالأغراض الدّنيويّة بل خالصا للآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يخاف من ذلّة نبيّه على فرض أخذ الفداء من الأسرى فهو لاستدراك توهّم خوف الضّعف والمغلوبيّة (حَكِيمٌ) يأمر بالقتل لمصالح يعلمها (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) اى حكم سبق في اللّوح من إباحة الفداء وإعزاز المؤمنين أو ابقاءهم الى أجل موعود حتّى يعزّ دين الله بهم وهو تهديد وردع عن مثل ما فعلوا ببدر في باب أخذ الفداء من الأسرى واصرّوا على ذلك مع انكار الرّسول (ص) حتّى رضوا بقتل عدد الأسرى ومن يأخذون منه الفداء من المؤمنين في عام قابل (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من الفدية أو فيما فعلتم من الإصرار على أخذ الفدية (عَذابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا) اى إذا كان سبق كتاب في إباحة الفداء واعزازكم فكلوا (مِمَّا غَنِمْتُمْ) من الفداء فانّه غنيمة أو هو إباحة للغنيمة كأنّهم أمسكوا عنها وتردّدوا في إباحتها اى إذا كان سبق كتاب في إباحة الفداء واعزازكم وإعلاء كلمتكم فلا تتحرّجوا من الغنيمة وكلوا منها (حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ) في السّرف فيها ، أو في الخيانة فيها ، أو في مخالفته (ص) فيها وارضوا فيها بما أعطاكم الرّسول (ص) (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) إذ غفر تجرّيكم على الإصرار في الفدية (رَحِيمٌ) إذ رحمكم بإباحة الغنيمة والفدية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) اسرى بدر أو العبّاس وعقيل بن ابى طالب ونوفل بن الحارث خاصّة كما ورد في الخبر انّ الآية نزلت في العبّاس وعقيل ونوفل وقصّتهم وقصّة غزو بدر مسطورة في الصّافى مبسوطة (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) رغبة وميلا في الايمان (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الغنيمة في الغزو ومن الفداء بعد الأسر (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ) فيغفر لكم ما صدر منكم من معاداة الرّسول (ص) (رَحِيمٌ) فيؤتيكم خيرا ممّا أخذ منكم فحقّ العبارة ان يقول يغفر لكم ويؤتكم خيرا فانّ المغفرة وهي ستر المساوى مقدّمة على الرّحمة والانعام لكن لمّا كان المقام مقام الاهتمام بإتيان العوض لما فاتهم قدّمه (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) عطف من الله على مقول الرّسول باعتبار المعنى وملاحظة نفس المحكيّ مع قطع النّظر عن كونه حكاية ومثله كثير كأنّه قال : ان يعلم الله في قلوبهم خيرا يؤتهم خيرا ممّا أخذ منهم وان يريدوا خيانتك فلا غرو فيه (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) اى من قبل ارادة خيانتك بمخالفة حكم العقل الّذى هو رسولهم الباطنىّ فأمكن المؤمنين منهم فليحذروا من إمكان المؤمنين ثانيا منهم وقد فسّر هكذا وان يريدوا خيانتك في علىّ (ع) فلا غرو فيه فقد خانوا الله فيك من قبل (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) فلا تحزن لذلك فانّه يمكّن عليّا (ع) وأصحابه منهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بإرادة كلّ مريد (حَكِيمٌ) يدبّر أمرك وامر الخائنين على وفق حكمته (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ بقبول الدّعوة الظّاهرة والبيعة العامّة (وَهاجَرُوا) من دار الشّرك الى مدينة الرّسول (ص) (وَجاهَدُوا) مع أعداء الرّسول (ص) (بِأَمْوالِهِمْ)


ببذلها على أنفسهم وعلى المجاهدين في الجهاد (وَأَنْفُسِهِمْ) ببذلها بالقتل في سبيل الله حالكونهم (فِي سَبِيلِ اللهِ) أو في حفظ سبيل الله وهو النّبوّة أو في تحصيل سبيل الله وهو الولاية ، أو المعنى انّ الّذين آمنوا بالايمان العامّ من افراد الإنسان في العالم الكبير ومن أولاد آدم الّذين هم القوى الانسانيّة في العالم الصّغير وهاجروا من أوطان شركهم النّفسانيّة الى مدينة صدورهم الّتى هي مدينة رسولهم الباطنىّ ، وجاهدوا في سبيل الله الّذى هو سبيل القلب بأموالهم الحقيقيّة الّتى هي قواهم ومداركهم بتضعيفها بالرّياضات والمجاهدات ، أو المعنى انّ الّذين آمنوا بالايمان الخاصّ بالبيعة الخاصّة وهاجروا من أوطان شركهم الى مدن صدورهم وجاهدوا بأموالهم الحقيقيّة وأنفسهم حالكونهم في سبيل الله وهو طريق الولاية الموصلة لسالكها الى الفناء في الله أو في حفظ سبيل الله وكلّ المعاني لكونها مترتّبة متصاعدة طوليّة لا عرضيّة مرادة من غير لزوم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى كما مرّ مرارا (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) هم الأنصار الصّوريّة بحسب المعنى الاوّل وبحسب المعاني الاخر من يليق بها (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أولياء المحبّة ادّاه بصورة الخبر اشارة الى انّ ولاية المحبّة لازمة لهم أو أولياء الميراث كما ورد في الاخبار وورد انّها منسوخة بآية (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَلَمْ يُهاجِرُوا) من دار الشّرك الصّوريّة أو من دار الشّرك النّفسانيّة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لانّهم لم يقرنوا وصلهم الصّورىّ الحاصل بالبيعة الصّوريّة بالوصل المعنوىّ بالخروج في طريق الخليفة الصّوريّة أو الباطنيّة فلم يتّصلوا معنى بكم ولا بمن اتّصلتم به فلا ولاية ولا اتّصال بينكم وبينهم فلا توارث ولا موادّة بينكم وبينهم (حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) لا في الأمور الدّنيويّة اعتبارا لمفهوم القيد (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) لانّ وصلتهم الصّوريّة لها حرمة وعليكم بها حقّ لهم (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فانّ الميثاق وان كان حقّه وحرمته أدون من البيعة والإسلام لكن هو أيضا وصلة بنحو ولها حرمة ولا قوّة للوصلة الاسلاميّة من دون اقترانها بالوصلة المعنويّة بحيث تفوق تلك الوصلة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من موالاة من أمرتم بموالاته وترك موالاة من أمرتم بترك موالاته (بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بترك البيعة النّبويّة أو الولويّة (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بحكم السّنخيّة والمجانسة والّا فهم كالكلاب الضّارية يعضّ بعضها بعضا ، نعم إذا رأت غير جنسها اتّفقت وحملت مجتمعة عليه :

متّحد جانهاى شيران خداست

جان گرگان وسگان از هم جداست

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ) يعنى ما ذكرنا من الموالاة وتكرها انّما هو لصلاح نظام المعاش مؤدّيا الى نظام المعاد لانّه يورث الاتّحاد في الآراء ، وفي ترك موالاة المؤمنين المهاجرين وموالاة الكفّار وان كانوا أرحاما يحصل اختلاف الآراء وبه يحصل فساد نظام المعاش وفي فساده للنّاقصين فساد نظام المعاد فالمراد بالفتنة اختلاف الآراء المستتبع للفساد (فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الكبير وارض العالم الصّغير (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) لتجرّى الكفّار باختلاف آرائكم عليكم واطّلاعهم بموالاتكم على ما يمكنهم الغلبة به عليكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا


وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) كرّره بلفظه إحضارا لهم بمديحتهم واشعارا بعلّة الحكم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) علوىّ لا كالارزاق الارضيّة الّتى في تحصيلها كلفة ومشقّة وحال الارتزاق فيها زحمة وبعد الارتزاق حاجة الى المدافعة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) يعنى من بعد ايمانكم وهجرتكم (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) ويجب موالاتهم كموالاتكم (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) في مكتوبة في اللّوح وهو نسخ للتّوارث بالهجرة والنّصرة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيحكم تارة بالتّوارث بالهجرة وتارة بالرّحم لمصلحة يعلمها ويأمركم بموالاة أنفسكم وترك موالاة الكفّار أيضا لمصلحة.


سورة التوبة

مائة وتسع وعشرون آية وهي مدنيّة كلّها وقيل : غير آيتين وهما قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) (الى آخر السّورة) واسماؤها عشرة سورة براءة ، والتّوبة ، والفاضحة ، والمبعثرة لبحثها عن اسرار المنافقين ، والمقشقشة لتبرئتها من النّفاق ، والبحوث لبحثها عن اسرار المنافقين ، والمدمدمة اى المهلكة ، والحافرة من الحفر بمعنى التّنقية ، والمثيرة ، وسورة العذاب. عن أمير المؤمنين (ع) لم ينزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) على رأس سورة براءة لانّ بسم الله للأمان والرّحمة ونزلت براءة لدفع الامان والسّيف ، وعن الصّادق (ع) الأنفال وبراءة سورة واحدة ولذلك لم ينزل بينهما بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وقيل : كان النّبىّ (ص) ينزل عليه الآيات فيدعو بعض الكتّاب فيقول : ضع هذه الآيات في سورة كذا وكذا ، وكان الأنفال في اوّل ما نزلت في المدينة وبراءة في آخر ما نزلت وقبض رسول الله (ص) ولم يبيّن انّها منها فوضعناها عقيبها من دون بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذه من المصادر النّائبة عن افعالها وأصلها برء الله ورسوله براءة من الّذين عاهدتم ثمّ حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ووصل الفاعل بحرف الجرّ صفة له ، نظيره ما يقولون زعما منهم وخلافا لهم فانّهما أصلهما زعموا وخالفوا وأبدل لفظة من بلفظة الى اشعارا بتضمين معنى الوصول أو تقديره ، ثمّ عدل من نصب براءة الى الرّفع مبالغة وتأكيدا وقد قرئ بالنّصب على أصله وعلى هذا فهي مبتدء مخصّص بالصّفة وخبره الى الّذين عاهدتم ويحتمل ان يكون خبرا لمبتدء محذوف ومن الله والى الّذين عاهدتم صفتين له اى براءة ناشئة من الله واصلة الى الّذين عاهدتم ، أو هذه براءة وأصله من الله الى الّذين عاهدتم ونسب المعاهدة الى المسلمين لانّها مع كونها من رسول الله (ص) كانت لمصلحة المسلمين فكأنّها كانت منهم ، ونسب البراءة الى الله والرّسول مخاطبا للمسلمين اشارة الى وجوبها عليهم والّذين عاهدتهم وان كان عامّا لكنّه مخصّص بالنّاقضين بقرينة الاستثناء الآتي ، فالنّظر في انّه كيف يجوز نقض العهد من الرّسول (ص)؟ ساقط من أصله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أعلام وامهال نصفا ورجاء ان يتوبوا والمراد بأربعة أشهر عشرون من ذي الحجّة الى عاشر ربيع الثّانى ، ونقل انّ فتح مكّة كان في الثّامن من الهجرة ونزول سورة براءة في العام التّاسع وحجّة الوداع في العاشر واتّفق مفسّروا العامّة والخاصّة انّه بعث رسول الله (ص) أبا بكر أميرا على الموسم فقالت الخاصّة : بعثه بسورة براءة ثمّ نزل عليه الوحي ان لا يؤدّى عنك الّا رجل منك فبعث عليّا (ع) فلحق بأبى بكر وأخذ سورة براءة منه وقالت العامّة: نزل براءة بعد بعثه (ص) أبا بكر فبعث بعده عليّا (ع) فقيل له (ص) في ذلك فقال : لا يؤدّى الّا رجل منّى وتفصيل قصّته مذكورة في كتب الفريقين (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) تهديد لهم بانّ الامهال لا ينفعهم (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)


هذا نظير براءة من الله في نيابة المصدر عن الفعل والعدول الى الرّفع (إِلَى النَّاسِ) وهذا من التّكرار المطلوب في مقام التّهديد والغضب (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) سمّى يوم النّحر بالحجّ الأكبر في مقابل العمرة ، أو لانّ في يوم النّحر معظم افعال الحجّ ، أو لانّه كان سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) اى بانّ الله ورسوله عطف على المستتر في بريء وقرء بالنّصب عطفا على اسم انّ (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) هذا أيضا من التّكرير المطلوب في مقام التّهديد (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) من قبيل استعمال الضّدّ في الضّدّ تهكّما (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من المشركين لبيان بقاء عهد غير النّاكثين (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) فانّ نقض الشّروط ومظاهرة العدوّ نقض فعلىّ (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) من نقض العهد بلا سبب (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) هي أشهر السّياحة الّتى جعلها الله حرما لامان المشركين (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حلّ وحرم (وَخُذُوهُمْ) بالأسر (وَاحْصُرُوهُمْ) عن المسجد الحرام (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) لئلّا يبسطوا في البلاد (فَإِنْ تابُوا) بالتّوبة النّبويّة (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) بانقياد احكام الإسلام (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) لانّهم حينئذ يكونون أمثالكم ولهم مالكم وعليهم ما عليكم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ما صدر عنهم بالتّوبة (رَحِيمٌ) برحمهم بالإسلام واقامة احكامه (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) من شرّ المؤمنين أو من غيرهم طلبا للأمان في الدّنيا (فَأَجِرْهُ) فانّ التّوجّه إليك وان كان للدّنيا له حرمة فلا تهتكها كما انّ لنحلة الإسلام بواسطة التّشابه بالإسلام واقامة احكامه لها حرمة وغاية الاجارة سماع كلام الله وفيه حصول المقصود من ارسالك (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فانّ في سماع كلام الله كسرا لسورة عنادهم واستمالة لهم الى الحقّ ومقاتلتك ليست الّا لذلك (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) بعد ارادة العود الى وطنه بان لا يتعرّض أحد من المسلمين له حتّى يبلغ بأمان منك وحافظ من المسلمين ان احتاج اليه الى وطنه أو المكان الّذى هو مأمنه (ذلِكَ) الإلجاء حين الالتجاء وإبلاغ المأمن حفظا لحرمة التّوجّه إليك وان كان لأغراض دنيويّة وانتظار سماع كلام الله (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) لاشتداد جهلهم بحيث ستر جهة علمهم الّذى هم مفطورون عليها وبسماع كلام الله يضعف جهة جهلهم ويظهر جهة علمهم فيرجى منهم قبول قولك بعد ظهور جهة علمهم (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) استفهام إنكارىّ في معنى النّفى وفيه معنى التّعجّب اى لا يكون للمشركين عهد عند الله وهو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : كيف يصحّ الغدر ونقض العهد؟ ـ فقال ليس لهم عهد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) عن نقض العهد (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) تكرار كيف لمناسبة مقام الّذمّ والسّخط


(لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا) قرابة أو حلفا وعهدا (وَلا ذِمَّةً) عهدا على التّفسير الاوّل لإلّا أو حقّا في ذمّتهم على التّفسير الثّانى (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) عمّا يقولون بأفواههم (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن حكومة العقل وحكومة خليفة الله وذكر الأكثر لانّ بعض الكفّار لهم حالة انقياد لطاعة العقل ان نبّههم منبّه (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) استيناف في موضع التّعليل لفسقهم والآيات اعمّ من الآيات التّكوينيّة النّفسانيّة والآفاقيّة والتّدوينيّة (ثَمَناً قَلِيلاً) من الاعراض الدّنيويّة والأغراض الفاسدة والتّمتّعات الفانية (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) اعرضوا أو منعوا عن سبيله التّكوينىّ وهو سبيل العقل في العالم الصّغير أو عن سبيله التّكليفىّ وهو النّبوّة أو الولاية (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اشتراء الآيات والصّدّ عن السّبيل فانّ وباله لا يرجى غفرانه (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ) التّكرار باعتبار مطلوبيّة التّكرار في مقام الّذمّ والسّخط (إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) الكاملون في الاعتداء (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) التّكرار هنا أيضا من التّكرار المطلوب (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) التّكوينيّة بالآيات التّدوينيّة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) جمع اليمين بمعنى العهد لانّ العهد ينعقد باليمين أو لأنّ العهد شبيه باليمين بمعنى الحلف (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بوصف ذمّ لهم (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) فانّ الايمان إذا لم تقترن بالوفاء كان وجودها كالعدم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) عن الكفر والغدر في الايمان ، اعلم ، انّ تنزيل الآيات في المشركين بالله وتأويلها في المشركين بالولاية فانّ كلّ من بايع محمّدا (ص) أخذ عليه ان لا يخالف قوله فكلّ من خالف قوله في علىّ (ع) نكث عهده ويمينه كأصحاب السّامرىّ وعجله وكأصحاب الصّفّين وكلّ من بايع عليّا (ع) ثمّ خالفه كأصحاب الجمل والنّهروان فقد نكث عهده ويمينه لكنّ القتال ما وقع الّا مع أصحاب الجمل والصّفّين والنّهروان وفي الاخبار ورد تفسيرها بحسب التّأويل بالمشركين بالولاية (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) تحريص على القتال وتكرير للحكم بلفظ آخر لاقتضاء مقام الغضب له (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) قبل الايمان فانّ مشركي مكّة قبل المعاهدة والحلف مع الرّسول (ص) همّوا بإخراجه عام الهجرة فانّ المشاورة والهمّة بإخراجه كانت عام الهجرة قبل الهجرة كما مضى حكاية مشاورتهم في دار النّدوة والمعاهدة والايمان كانت عام الحديبية وعام فتح مكّة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالمعاداة ومقابلة البادي بالمقاتلة كان جزاء عمله لا تعدّى فيها (أَتَخْشَوْنَهُمْ) لا ينبغي لكم ان تخشوهم مع كونكم مؤمنين بالله مستظهرين به تجرئة لهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط تهييج فانّ ايمانهم العامّ محقّق وهو يقتضي الاستظهار به وعدم الخوف من غيره والخوف من سخطه (قاتِلُوهُمْ) تكرار باعتبار اقتضاء السّخط ولبيان العلل المختلفة والغايات المترتّبة فانّ قوله : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) ؛ معلّل بأنّهم لا ايمان لهم وقوله : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا) ؛ الّذى هو في معنى قاتلوا معلّل بنكث الايمان وهمّة إخراج الرّسول والبدأة في القتال ، وقوله (قاتِلُوهُمْ) مغيّى بتعذيبهم على أيدي المؤمنين


والعمدة مطلوبيّة التّكرار لاقتضاء مقام السّخط له (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) ذكر غايات خمس : الاوّل ـ تعذيبهم بالنّسبة الى من يقتل ويجرح ، ونسب التّعذيب الى أيدي المؤمنين للاشارة الى انّ أيديهم كما انّها أجزاء لهم ومنسوبة إليهم كذلك هي آلات لفعله تعالى وواسطة اثره ، والثّانى ـ اخزاؤهم بالاذلال وإتلاف المال بالنّسبة الى من سلم من القتل والجرح وهما راجعان الى الكفّار ، والثّالث ـ ظهور نصرته وغلبة المؤمنين عليهم فانّه لولا المقاتلة لم يظهر النّصرة ، والرّابع ـ شفاء صدور المؤمنين واستعمال الشّفاء والتّشفّى منتسبين الى الصّدر وباعتبار الألم الّذى يصل إليها من اعتداء المعتدى ، والخامس ـ اذهاب غيظ قلوبهم وغيظ القلوب عبارة عمّا يحمل الإنسان على ارادة الانتقام وهو ناش من الم القلوب ، وهذه الثّلاثة بالنّسبة الى المؤمنين ونسبة الشّفاء واذهاب غيظ القلوب الى قوم من المؤمنين للاشارة الى انّ بعض المؤمنين لا يتألّمون من اعتداء المشركين بل يرون اعتداءهم سائقا لهم الى ربّهم ، كما انّ مرافقه مولاهم قائدة لهم وقوله بالفارسيّة «در بلا هم مى چشم لذّات أو» اشارة الى هذا (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ادّاه مرفوعا بصورة الاستيناف للاشارة الى عدم لزومه للمقاتلة كسوابقه لكن أتى بأداة العطف مشعرا بانّه أيضا قد يترتّب على المقاتلة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالغايات المترتّبة على المقاتلة ولذا يأمركم بها (حَكِيمٌ) لا يأمركم الّا بما فيه صلاحكم وصلاح أعداءكم (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) على فراغكم ولا تؤمروا بالمقاتلة (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) اى جهاد المجاهدين فانّ في الإتيان بالموصول إيماء الى اعتبار حيثيّة الصّفة ولمّا كان لعلمه تعالى مراتب وبعض مراتبه مع الحادث وفي مرتبة الحادث وان كانت بالنّسبة اليه تعالى قديمة واجبة بقدمه ووجوبه تعالى صحّ نفى العلم عنه باعتبار نفى حدوث الحادث ، أو الفعل مضمّن معنى الظّهور اى ولمّا يظهر علمه بالّذين جاهدوا منكم ، أو نسبة نفى العلم اليه تعالى باعتبار مظاهره اى لمّا يعلم النّبىّ الّذى هو مظهر الله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) عطف على جاهدوا والوليجة الجماعة الّتى يكون الشّخص مراودا لهم ومستظهرا بهم وخاصّتك من الرّجال ومن تتّخذه معتمدا عليه من غير أهلك واللّصيق بالشّخص الّذى لا ينفكّ عنه ، والمراد بالمؤمنين الائمّة كما في الاخبار لانّهم الكاملون في الايمان ولانّهم الأصل فيه وايمان غيرهم فرع ايمانهم ، ولانّهم يجعلون النّاس في أمان الله بالبيعة معهم ويجيز الله أمانهم ، ويجوز تعميم المؤمنين ، وفسّر الوليجة في الاخبار بالبطانة وبمن يقام دون ولىّ الأمر (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيعلم المجاهد ، وآخذ الرّسول (ص) والمؤمنين وليجة ، ويعلم القاعد ، والآخذ غير الله ورسوله والمؤمنين وليجة ، وهو ترغيب في المجاهدة والاعتماد على الله وتهديد عن القعود والاعتماد على غير الله (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) استيناف لردّ مفاخرة المشركين بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ وحجابة البيت وفكّ العناة كما فسّر في الاخبار ، وفيه أيضا ردع للمؤمنين عمّا يتخاطروا به من عدم جواز مقاتلة المشركين مع كونهم مباشرين لتلك الأعمال السّنيّة والمناصب الشّريفة ، والمقصود انّه ليس الاعتبار بمشاكلة صورة اعمال الأبرار وان صدرت من الأشرار بل الاعتبار بمصدر الأعمال فتعميرهم في الحقيقة تخريب لمسجد القلب حيث يراؤن ويفتخرون به ، وسقايتهم صدّ متعطّشى مملكتهم عن ماء الحيوة حيث يعجبون به ، وحجابتهم حجابة الشّيطان لبيته الّذى هو بيت النّفس ،


وفكّ العناة أسر لاحرار قواهم وصدّ لهم عن الرّجوع الى مولاهم ، (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) يعنى بالايمان بالله ومساجد الله هي الصّدور المنشرحة بالإسلام والقلوب المستنيرة بنور الايمان وعمارتها بالإسلام والايمان ؛ ولذا قال اشارة الى هذا البيان (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) حالا حيث يعملون اعمال الكفر وقالا حيث يقولون ما يلزم الكفر من عدم الاعتقاد بالبعث والحساب وبإرسال الرّسول وإنزال الكتاب وغير ذلك ممّا يستلزم الكفر وعدم المعرفة بالله (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فلا يباهوا بصور أعمالهم ولا تنظروا ايّها المؤمنون الى صورها لانّها ساقطة بل هي كالاجساد الميتة الّتى توذي حاملها (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) لا غيرهم فهو تأكيد للنّفى السّابق بمفهومه ولمّا كان عمارة المساجد الصّوريّة مع الاتّصاف بالشّرك تخريبا للمساجد الحقيقيّة الّتى هي القلوب وأربابها وكان حكم التّخريب غالبا وحكم العمارة مغلوبا كأنّها لم تكن ، وكان الايمان بالله واليوم الآخر الّذى هو كمال القوّة النّظريّة في اعتقاد المبدء والمعاد وقد اندرج فيه جميع المعارف الرّاجعة الى المبدء والمعاد واقام الصّلوة وإيتاء الزّكاة اللّذان هما كمال القوّة العمليّة ، وهما أصلان لجميع النّسك والعبادات عمارة للمسجد الحقيقىّ الّذى هو القلب وصاحبه وصار حكمها غالبا بحيث تنسب الى المساجد الصّوريّة وان لم تكن فيها عمارة قال بطريق الحصر : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) آتيا بالجمع المضاف المفيد للعموم وبمن الموصولة المفيدة للعموم ، مع انّ أكثر المؤمنين لم يعمروا مسجدا قطّ ولو صححّ بتضمين يعمر معنى يصحّ فالتّأدية بهذه الصّورة للاشارة الى هذا المعنى (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) تعريض بالضّعفاء من المؤمنين (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ) اى كعمل من آمن أو هو بتقدير مضاف في جانب المسند اليه وهو خطاب للمشركين أو للمؤمنين أو للجميع (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو كمال العلم (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهو إجمال الصّلوة والزّكاة اللّتين هما كمال العمل ، والتّكرار باعتبار مطلوبيّته في مقام الّذمّ والمدح (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) بحسب العلم والعمل اى الحال الّتى هم عليه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فلا يستوون بحسب الغاية أيضا لانّ الله يهدى المؤمنين ، ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بذمّ لهم وبعلّة عدم هدايتهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) تكرار الأوصاف باعتبار اقتضاء مقام المدح (وَأُولئِكَ) الموصوفون بتلك الأوصاف العظيمة (هُمُ الْفائِزُونَ) لا غيرهم (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) تفصيل لفوزهم ، والرّحمة هنا محمّد (ص) ونبوّته لانّها صورة الولاية الّتى هي الرّحمة ، والرّضوان علىّ (ع) وولايته ، والتّنكير للتّفخيم (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) كأنّه استكثر ما ذكر فقال تعالى : هذا في جنب ما عند الله لهم قليل فهو استيناف جواب لسؤال مقدّر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) فانّ نسبة الايمان قطعت النّسبة الجسمانيّة فهي مقدّمة على نسبة القرابة الجسمانيّة ، ونقل عن الباقر (ع) انّ الكفر في الباطن في هذه الآية ولاية


مخالفي علىّ (ع) والايمان ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) ؛ وعلى هذا فليعمّ الايمان الايمان الخاصّ ، ومعلوم انّ احكام الايمان العامّ جارية في الايمان الخاصّ بل هو اولى بها من الايمان العامّ (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حيث وضع ولايته في غير موضعها وظلم نفسه بالصّرف عن جهة الايمان الى جهة الكفر (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) ذكر أصول مشتهيات النّفس (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) اعلم ، انّ الإنسان واقع بين النّفس والعقل ومقتضيات النّفس هي الاعراض الدّنيويّة المعدودة وأصولها في الآية ومقتضيات العقل الأمور الاخرويّة الباقية والانزجار عن الاعراض الفانيّة ورفضها الّا من باب المقدّمة ، والمبتلى بالنّفس ومقتضياتها واقع في جهنّامها ولا محالة يكون سبيله الى السّجّين ودار الشّياطين ، والمتنعّم بالعقل ومقتضياته واقع في طرف الآخرة ولا محالة يكون سبيله الى الجنان ونعيمها ، فمن غلب عليه حبّ الاعراض فليعالج نفسه وليتضرّع الى ربّه حتّى لا يكون ممّن أو عده الله بقوله (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) من إزهاق الرّوح وحضور الموت فانّه حينئذ ينكشف له انّه كان في جهنّام النّفس وسبيله الى السّجّين (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) يعنى انّ اختيار الاعراض الفانية على الأمور الباقية فسق والفاسق لا يهديه الله الى سبيل الجنان فوضع الظّاهر موضع المضمر للدّلالة على فسقهم وعلّة تهديدهم ، روى انّه لمّا آذن أمير المؤمنين (ع) بمكّة ان لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام جزعت قريش جزعا شديدا وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاع عيالنا وخربت دورنا فأنزل الله تعالى (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) (الآية) (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) فليرجّح طالب الاعراض الفانية محبّة الله ورسوله حتّى يحصل مأموله روى انّ المواطن كانت ثمانين وهي مواقع الحرب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ وسبب غزوة حنين وهو واد بين مكّة والطّائف انّ رسول الله (ص) حين خرج لفتح مكّة أظهر انّه يريد هوازن ، وبلغ الخبر إليهم فتهيّؤا وجمعوا أموالهم ونساءهم وذراريهم وحملوها معهم وقصدوا رسول الله (ص) ، فبلغ الخبر اليه (ص) فجمع القبائل ووعدهم النّصر والغنيمة فجمع اثنى عشر ألفا وخرج من مكّة يستقبلهم ، فقال ابو بكر معجبا لن نغلب اليوم فلمّا التقى الفريقان في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد انهزم المسلمون هزيمة فاحشة ثمّ نصرهم الله بالملائكة فأخذوا غنائم وافرة وأسارى كثيرة بلغ عدد الأسارى ستّة آلاف ، ولمّا لم يخف نصرة الله في ذلك اليوم على أحد حتّى على المشركين حيث قال بعض أساراهم : اين الخيل البلق؟! والرّجال عليهم ثياب بيض؟ ـ وكان الغنائم والأسارى أكثر ما يكون ؛ خصّه الله بالذّكر (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) قد مضى انّ المعجب كان ابو بكر وقد ساء مقالته رسول الله (ص) (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) من الإغناء أو شيئا من بأس الأعداء فانّ الكثرة إذا لم تكن قرينة للنّصرة لا تنفع ، والنّصرة هي المغنية سواء كانت قرينة للكثرة أو للقلّة (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) حين غلبتم وانهزمتم (بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) عن رسول الله (ص) وعن الجهاد (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يعنى بعد ما صرتم مغلوبين وعلمتم انّ الكثرة وتهيّة الأسباب لا تغني ولا تصير سببا للغلبة انزل الله سكينته الّتى هي سبب اطمينانكم وقوّة قلوبكم ، والسّكينة على ما فسّرت


في الاخبار من ، انّها ريح تفوح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، تناسب ما فسّرها به الصّوفيّة الصّافية من انّها صورة ملكوتيّة تظهر على صدر الإنسان متصوّرة للاتباع بصورة الشّيخ المرشد وللمتبوعين بصورة مناسبة لهم تسمّى بالملك أو بجبرئيل بحسب تفاوت مراتبهم ، وحين تمثّل صورة الشّيخ أو الملك يصير ملكوت المتمثّل له غالبة وملكه مغلوبا وحينئذ يكون له الغلبة على النّفس واهويتها وعلى الملك ومن وقع فيه ، لانّه مؤيّد بالّسكينة الّتى هي من سنخ الملك وجاذبة للملائكة ولذا قال بعد إنزال السّكينة (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وقد مضى تحقيق السّكينة في سورة البقرة عند قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر ونهب الأموال (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) تعريض بالامّة حيث كانوا يكفرون بعد محمّد (ص) بالولاية ، وقصّة حنين مذكورة في المفصّلات مفصّلة من أراد فليرجع إليها (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التّعذيب (عَلى مَنْ يَشاءُ) يعنى لا تنظروا إليهم بعد التّعذيب بنظر التّحقير لإمكان تدارك رحمته تعالى لهم لانّهم عباد الله وصنائعه (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قد يؤاخذ عباده إصلاحا لهم كما قد يؤاخذ نقمة لهم والّا فمغفرته ورحمته سابقة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) إبداء حكم آخر (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) بسبب قلّة تجارتكم لمنع المشركين عن التردّد الى بلدتكم فثقوا بالله وارجوا فضله (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) التّعليق على المشيّة لقطع الاغترار بالوعد ولانّه لم يكن لكلّهم وقد أنجز وعده بعد اجلاء المشركين بتبسّط أهل المدينة ومكّة على سائر البلاد وبعد ذلك بتوجّه أهل الشّرق والغرب إليها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بعواقب أو امره ونواهيه (حَكِيمٌ) لا يأمر ولا ينهى الّا لمصلحة وحكمة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) بعد ما أظهر حكم المشركين واجلاءهم ومقاتلتهم بتأكيد وتغليظ بيّن حكم أهل الكتاب ولم يصدّره بالنّداء اشارة الى التّفاوت بينهم وبين المشركين في التّغليظ (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) لفظ من للتّبعيض (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ما يقرّر ويقضى من جزى دينه إذا قضاه (عَنْ يَدٍ) عن قوّة وبطش منكم وهذا مثل سائر في العرب والعجم يقول العاجز الّذليل تحت يد غيره : افرّ عن يده ، كما يقول العجم «فرار كردم از دست فلان كس» وهذا المعنى هو المناسب للمقام ولتنكير لفظ اليد ، وقد ذكر له معان أخر مثل : منقادين ، وعن غنى ، وعن انعام ، وعن يدهم لا يد غيرهم (وَهُمْ صاغِرُونَ) أذلّاء وحكم الجزية وأهلها مذكور في المفصّلات من التّفاسير والكتب الفقهيّة (وَقالَتِ الْيَهُودُ) امّا استيناف على القول بمجيء الواو للاستيناف ، أو عطف باعتبار المعنى فانّ تعليق الأمر بالمقاتلة على الموصول للاشعار بعلّة الحكم فكأنّه قال : قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله من جهة انّهم لم يؤمنوا وقالوا (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ووضع الظّاهر موضع المضمر لارادة التّفصيل وتعيين قائل كلّ قول ، اعلم ، انّ القائلين عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ونحن أبناء الله ، لم يريدوا بتلك الكلمة ما يفهم منها بحسب الظّاهر من التّوليد والتّجسيم وإثبات الزّوج لله ، بل أرادوا بيان النّسبة الرّوحانيّة بهذه الكلمة وقالوا من حصل له القرب من الله بحيث يأخذ الأحكام والآداب منه تعالى بلا واسطة بشر فهو ابن الله ، وكذا من انتسب الى الله بواسطة الاتّصال بنبىّ أو ولىّ فهو ابن الله بيانا لشدّة القرب أو لصحّة


الانتساب ولا شكّ في صحّة هذا المعنى ، ولكنّها ممنوعة في حقّه تعالى لا يهامها معناها الظّاهر والتّجسيم والتّوليد كما حمل الاتباع هذه الكلمة على ظاهرها وقالوها بمعناها الظّاهر ، ولا شكّ انّ معناها الظّاهر كفر وفرية ، ولهذا حكاها تعالى شأنه عنهم ذمّا لهم (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) نقل انّه كان يقول : انّ ابى يقول كذا ، وثبت هذا المعنى في الإنجيل (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) لا اعتقاد لهم به بأىّ معنى كان فانّ الاعتقاد بهذا المعنى يقتضي العمل بمقتضاه وهو عدم التّخلّف عن قول من نسبوه بالنّبوّة الى الله وليس كذلك مثل قوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) اى يضاهئ قولهم قول الّذين كفروا ، بحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه ، والمضاهاة في عدم كون قول كلّ عن أصل وعدم موافقته للاعتقاد وكون كلّ ناشئا من محض التخيّل من غير حجّة عليه كقول المجنون ، والمراد بالّذين كفروا (مِنْ قَبْلُ) امّا اليهود على ان يكون المراد بهم النّصارى ، أو مطلق الكفّار (قاتَلَهُمُ اللهُ) باعدهم الله ولعنهم وكثيرا ما يستعمل في هذا المعنى في العرف ، ونقل عن علىّ (ع) انّه بمعنى لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) عن الحقّ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) قد مضى انّ الأحبار علماء الملّة والرّهبان علماء الدّين والطّريقة (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) يطلق الرّبّ على المطاع وهو الرّبّ في الطّاعة ، وعلى المعبود وهو الرّبّ في العبادة ، وعلى المدبّر في الوجود وهو الرّبّ في الوجود وبقائه ، وعلى الخالق وهو الرّبّ في الإيجاد والمقصود من الرّبّ هاهنا هو الرّبّ في الطّاعة حيث قالوا لهم : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا من التّوراة والإنجيل ، فسمعوا منهم من غير حجّة ، والنّاس غير العلماء الالهيّين منهم لا بدّ لهم من ربّ بشرىّ يطيعونه لعدم بصيرتهم بأمر دينهم وبأمر دنياهم على وجه لا يضرّهم في عقباهم وذلك الرّبّ المطاع امّا منصوب من الله فقوله قول من الله وقول الله ، وطاعته طاعة الله ، وربوبيّته ربوبيّة الله ، وامّا غير منصوب من الله فهو غير الله وهو ناش من غير الله وطاعته غير طاعة الله فقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) تقييد للارباب يعنى أربابا ناشين من دون الله من حيث ربوبيّتهم ، أو أربابا هم بعض من غير الله على ان يكون من للابتداء أو للتّبعيض (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) عطف على أحبارهم يعنى اتّخذوا المسيح بن مريم ربّا في العبادة ولذا جاء به بعد تمام حكم المعطوف عليه واخّره عن الأحبار ليكون ترقّيا الى الأبلغ في الّذمّ ، ان قلت : انّ المسيح منصوب من الله فهو ربّ من الله ولا ذمّ في اتّخاذه ربّا؟! فالجواب انّ ربوبيّته في الطّاعة من حيث انّه من الله ممدوحة وامّا ربوبيّته في العبادة كما تفهم من قولهم انّه اله أو انّه ابن الله ، أو انّه ثالث ثلاثة وكذا ربوبيّته في الطّاعة من حيث انّه مستقلّ في الرّبوبيّة فهي مذمومة واشراك بالله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) غير مركّب في ذاته وغير متعدّد في الوجود فطاعة الرّسل ان كانت من حيث انّهم رسل الله طاعة الله وطاعتهم لا من تلك الحيثيّة ليست طاعة الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة بعد صفة أو حال أو مستأنف والمقصود منه حصر الآلهة فيه كأنّه قال: ما أمروا الّا ليعبدوا إلها واحدا محصورا فيه الآلهة (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) في الطّاعة والولاية كاشراك الأحبار والرّهبان أو في الطّاعة والعبادة والآلهة جميعا كاشراك المسيح وهو تعريض بالامّة حيث أشركوا في الولاية والطّاعة من لم ينصبه الله وللاشارة الى التّعريض قال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) بالمضارع والّا فالمناسب لحال اليهود والنّصارى


ان يقول : أرادوا مثل اتّخذوا بالماضي والمراد بنور الله ولاية علىّ (ع) فانّها نور يظهر به الحقّ ويتميّز به السّعيد عن الشقىّ ، والمراد بالاطفاء بالأفواه إلقاء الشّبهات والأحاديث الموضوعات والتّحريف في الكتاب للتّدليس على الجهّال شبّه ذلك بالنّفخ في السّراج وفي الاخبار ما يدلّ على التّعريض المذكور (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بالله أو بالرّسالة بحسب التّنزيل أو بالولاية بحسب المراد (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) امّا استيناف منقطع عمّا سبق لابداء حكم آخر قطعا لاطماع المشركين في ابطال رسالة محمّد (ص) وعلى هذا فاضافة الرّسول للعهد ، وامّا استيناف في موضع التّعليل لقوله (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) اى رسالة رسوله وعلى هذا فاضافة الرّسول (ص) ، امّا لتعريف الجنس وتعميمه أو لتعريف العهد وفيه أيضا قطع لاطماع المشركين ، والمراد بالرّسول امّا معنى عامّ للرّسل (ع) وأوصيائهم (ع) فانّهم رسل من الله بواسطة الرّسل ، أو معنى خاصّ بالرّسل الاصطلاحيّة الّذين اوحى إليهم بشرع وتبليغه ، أو المراد محمّد (ص) وعلى التّقديرين الأخيرين فالمقصود سراية الحكم الى اتباعهم أو اتباعه ، امّا من باب الفرعيّة والتّبعيّة وامّا لانّهم أجزاء الرّسل بحسب سعتهم الولويّة وامّا لانّهم مظاهر الرّسل بحسب صدورهم وقلوبهم وعقولهم ، فيصحّ تفسير الآية بخروج القائم عجّل الله فرجه وانّها ممّا لم يأت تأويلها وانّه (ع) إذا ظهر ظهر على الأديان كلّها (بِالْهُدى) بما به الهدى وهو الأحكام القالبيّة الشّرعيّة كما أشير الى تسمية الإسلام وأحكامها بالهدى في قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ)(وَدِينِ الْحَقِ) دين الحقّ هو طريق الحقّ وهو الولاية والايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الباطنة الولويّة وبعبارة اخرى الهدى هو الإسلام ودين الحقّ هو الايمان وقد فسّر دين الحقّ بولاية علىّ (ع) في أخبارنا ، فعن الكاظم (ع) في هذه الآية والآية السّابقة : هو الّذى امر رسوله بالولاية لوصيّه والولاية هي دين الحقّ ليظهره على جميع الأديان عند قيام القائم (ع) والله متمّ ولاية القائم ولو كره الكافرون بولاية علىّ (ع) قيل : هذا تنزيل؟ ـ قال : نعم هذا الحرف تنزيل وامّا غيره فتأويل (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أتى بالمفرد المستغرق بقرينة التّأكيد بالكلّ دون الجمع روما للاختصار واشعارا بانّ الأديان الباطلة مع كثرتها ونهاية فرقتها متّحدة في الغاية وهي الانتهاء الى السّجّين والملكوت السّفلى (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) بالله أو بالرّسالة أو بالولاية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أتى بالنّداء ومؤكّدات الجملة من انّ واللّام واسميّة الجملة امّا للاشعار بأنّ شأنهم التّحفّظ عن اموال النّاس بحيث ينبغي ان ينكر هذا منهم أو يردّد في وقوعه منهم حتّى يكون أبلغ في الّذمّ والتّفضيح ، أو لتأكيد لازم الحكم الّذى هو المقصود منه من ذمّهم وتفضيحهم وتنفير النّاس منهم ومن أقوالهم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن النّبىّ (ص) أو عن الولىّ (ع) والمقصود التّعريض بأمّة محمّد (ص) ومن يأتى بعده بصورة الأحبار والرّهبان من المتسمّين بالعلماء والفقهاء وبالصّوفيّة والعرفاء الّذين لا فقه لهم سوى ما يحصل به الاعراض والأغراض ولا معرفة لهم ولا تصوّف سوى الدّلق والحلق (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) امّا عطف على (لَيَأْكُلُونَ) ووجه حسنه مع الاختلاف بالاسميّة والفعليّة الاشعار بانّ الّذين يكنزون الّذهب مشهور ذمّهم بحيث لا ينكر وانّ الأحبار والرّهبان هم الّذين يكنزون وقد اشتهر ذمّهم فلا تبالوا بقولهم ، وامّا عطف على اسم انّ عطف المفرد أو عطف على جملة انّ مع اسمها وخبرها بتقدير مبتدء أو بتقدير خبر أو مستأنف بجعل الّذين مبتدء وقوله


فبشّرهم خبرا له وقد مرّ انّ ما يسمّونه واو الاستيناف هو واو العطف بلحاظ المعنى (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) دخول الفاء في الخبر على كونه خبرا لكون المبتدء في معنى الشّرط (يَوْمَ يُحْمى) يوقد النّار (عَلَيْها) على الذّهب والفضّة وضمير المؤنّث باعتبار معنى الجمعيّة والكثرة فيهما (فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) ذكر تعالى أشرف الاجزاء وأقواها اشارة الى شمول الكىّ أو لانّهم أرادوا بالكنز الوجاهة ونعامة فراش الجنبين والظّهر مقولا لهم (هذا) الّذى تكوون به (ما كَنَزْتُمْ) أو هذا الكىّ غاية ما كنزتم وهو ضدّ ما أردتم (لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) اى وباله قد اختلف الاخبار في حقيقة الكنز وفي قدر يصدق عليه الكنز وفي مال يصدق عليه وقد ذكرت الاخبار في المفصّلات ، وتحقيق الحقّ فيه موافقا لاشارات الاخبار انّ الإنسان له مراتب كثيرة وحكمه وحاله في كلّ مرتبة مخالف لحاله في غيرها ، مثلا الواقع في جهنّام النّفس الّذى لا يرى الخير الّا ما اقتضته نفسه ولا يرى الّا الأسباب وكان محجوبا عن الله وتسبيبه ، فكلّما جمع مالا لا يكون ذلك منه الّا محض حبّ المال أو محض الاتّكال في المعاش عليه مع عدم الوثوق بالله والتّوكّل عليه ، وهذا المال منه كنز قليلا كان أو كثيرا تحت الأرض كان أو فوقها مؤدّى زكوته أو غير مؤدّى ، بل هو شرك بالله وكفر وصاحبه وثنّى وذلك المال صنمه ، وان توجّه من جهنّام النّفس الى الملكوت العليا ولا محالة يكون منزجرا عن النّفس وجهنّامها لكنّه ما لم يخرج منها يكون مقيّدا مبتلى بمقتضياتها وسلاسل شهواتها ، فان جمع في حال التّوجّه والانزجار متوكّلا به على الله مصداقا لما قيل في مضمون الصّحيحة النّبويّة : (مثنوى)

«با توكّل زانوى اشتر ببند»

معينا به على خروجه وعلى معيشته لم يكن كنزا ، لانّه حينئذ يؤدّى حقوقه الواجبة والمندوبة حيث يريد الخروج من تحت امر نفسه والدّخول تحت امر ربّه ، وان جمع في حال التّقييد بالنّفس ومشتهياتها ولا محالة يكون محجوبا من الله والتّوكّل عليه كان كنزا ادّى حقوقه أو لم يؤدّ ، وان خرج من تلك الجهنّام الى الجانب الأيمن من طور الصّدر كان له الحالتان أيضا لكن تقيّده بسلاسل شهواتها يكون أضعف ، وان خرج من بيت نفسه الخراب الى بيت قلبه المعمور فهو أيضا ذو وجهين وله الحالان ، وان دخل بيت قلبه فقد دخل دار الامان وفي حقّه قيل:

كفر گيرد ملّتى ملّت شود

فميزان الكنز وعدمه حال الإنسان لا حال المال وقدره ، فالفقير المحبّ للدّنيا مكتنز ، والغنىّ المنزجر غير مكتنز ، والكنز عبارة عن محبّة الدّنيا المدّخرة في بيت القلب اعتمادا عليها ووثوقا بها لا المال المكتنز تحت التّراب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) استيناف لا بداء ذمّ أخر للمشركين وعلّة اخرى لمقاتلتهم اعلم ، انّ الايّام والشّهور الزّمانيّة الّتى هاهنا صور للدّهر والدّهر صورة للسرمد ، والكلّ ظهور سير شمس الحقيقة في بروجها السّتّة النّزوليّة والسّتّة الصّعوديّة وغروبها في أفق كرة ارض الطّبع وطلوعها منه وظهور الكلّ علينا بهذا الزّمان الّذى يعبّر عنه باليوم واللّيل والشّهر والعام ، فهذه الايّام والأشهر لها حقائق متمايزة في مراتب الملكوت والجبروت وتلك الحقائق لها آثار وخواصّ ورقائق في هذه ، وما قاله الأنبياء (ع) وأصحاب الوحي والتّحديث من خواصّها وما جرّ به المجرّبون منها عشر من أعشار خواصّها ، وما يترتّب عليها مثل ما قالوا من خواصّ ايّام الأسبوع أو ايّام الشّهور ، ومثل ما قالوا من خواصّ الشّهور ولمّا جعل المشركون كالطّبيعيّين وأكثر العوامّ ما سمعوه منها كالاسمار ولم يستمعوه بسمع الحقيقة والاعتبار بل قالوا : انّ الايّام متشابهة والأشهر


متوافقة لا تمايز بينها في الحقيقة وانّ ما قيل فيها من التّمايز والخواصّ محض اعتبار لا حقيقة له قال تعالى ردّا عليهم ، انّ عدّة الشّهور عند الله كما انّها عندكم اثنى عشر شهرا يعنى ما عندكم من اثنى عشرا قمريّة في كلّ عام تقريبا وشمسيّة في كلّ عام حقيقة انّما هي رقائق للحقائق الّتى عندنا ، وكلّ منها مظهر لحقيقة من تلك الحقائق ولكلّ خواصّ وآثار ليست لغيره ولذا أتى بالتّميز التّأكيدىّ لاسم العدد تمكينا في القلوب ولم يكتف بقوله عند الله وقال (فِي كِتابِ اللهِ) اى مكتوب الله أو الكتاب المبين الّذى هو العقل أو اللّوح المحفوظ (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يعنى قبل استقرارها عندكم وبعد ما بيّن انّ حقائقها عند الله مؤكّدا هذا المعنى بالقيود الثّلاثة بيّن بعض خواصّها بقوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب ثمّ أكّد حرمتها بقوله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الّذى لا عوج فيه يعنى اعتقاد حرمتها والتّصديق بها هو الطّريق القويم الّذى كانت الأنبياء عليه فمن عدل عنه كان خارجا عن طريق الأنبياء (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بان يقتل بعضكم بعضا وينهب ويأسر ، أو فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم بالاعتداء فيهنّ بهتك حرمتها بالمقاتلة فيها وارتكاب سائر ما لا ينبغي (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) في غير تلك الأشهر لانّهم هتكوا حرمتها بالنسيء بقرينة انّما النّسيء زيادة في الكفر وفي تلك الأشهر حيث بدؤكم بالقتال فيها بقرينة (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) واتّقوا هتك حرمة تلك الأشهر (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) استيناف في موضع التّعليل للأمر بالمقاتلة والمراد بالنّسيء تأخير حرمة الشّهر الحرام الى شهر آخر وتحليل المقاتلة في ذلك الشّهر الحرام كانوا إذا جاء الشّهر الحرام ولم يريدوا ترك المقاتلة فيه يقولون : هذا الشّهر كسائر الأشهر فنقاتل فيه ونترك القتال في شهر آخر ، وكونه زيادة في الكفر لانّه بعد الكفر بالله بواسطة الكفر بالرّسول تبديل لأحكام الله المقرّرة عنده المكتوبة في كتبه العالية قبل خلق هذا العالم (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث يخرجون من الطّريق القويم المستقيم بالخروج منه (يُحِلُّونَهُ) اى النّسيء أو الشّهر الحرام المنسيّ (عاماً) بيان لضلالتهم (وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا) يوافقوا (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) عدد الأشهر الّتى حرّمها الله (فَيُحِلُّوا) بالنّسيء (ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) جواب لسؤال مقدّر (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الى الطّريق القويم ولذا احلّوا ما حرّم وحرّموا ما أحلّ وزيّن لهم القبائح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ أو بالايمان الخاصّ (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) اى الجهاد الصّورىّ أو في طلب الولاية أو في طريق القلب بالجهاد الباطنىّ والذّكر والفكر ورفض الهوى وترك مأمول النّفس (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ارض التّراب أو ارض الطّبع أو ارض النّفس ، ونزول الآية في غزوة تبوك ، وسبب غزوة تبوك على ما نقل انّ رسول الله (ص) كتب كتابا الى بعض حكّام ممالك الشّام وأرسل حارث بن عمر والازدىّ ، ولمّا وصل الحارث الى موتة من قرى بلقاء من اعمال الشّام ومنها الى بيت المقدس مرحلتان ، قتله شرحيل بن عمرو الغسّانىّ أحد أمراء القيصر فوصل الخبر الى رسول الله (ص) فهيّأ سريّة موتة وجعل زيد بن حارثة أميرا عليهم وقال حين الوداع : ان قتل زيد فالأمير جعفر بن أبى طالب ، وان قتل جعفر فالأمير عبد الله بن رواحة ، وان قتل عبد الله فالأمير من ارتضاه المسلمون ، وكان يهودىّ حاضرا فسمع مقالته فقال : يا أبا القاسم ان كنت صادقا في نبوّتك فكلّ من عيّنته للامارة فلا بدّ


من ان يقتل ، لانّ أنبياء بنى إسرائيل إذا وجّهوا عسكرا الى قتال الأعداء وعيّنوا جمعا للامارة هكذا قتلوا جميعا ، فتوجّه زيد مع العسكر الى المقصد وبعد المقابلة مع الأعداء والمقاتلة قتل الّذين سمّاهم الرّسول (ص) للامارة ، وروى انّه ما أفلت من أهل الإسلام الّا قليل ، وروى انّ كثيرا منهم بقوا وغيّروا بعد يوم المقاتلة أوضاعهم فتوهّم شرحيل وظنّ وصول المدد الى أهل الإسلام وارتحل وصار متحصّنا ، ورجع أهل الإسلام سالمين الى المدينة ، وكان ذلك في العام الثّامن من الهجرة وفي هذا العام كان فتح مكّة وغزوة حنين مع بنى هوازن ، ثمّ لمّا دخل العام التّاسع من الهجرة ورد عير الشّام المدينة وأشاعوا فيها انّ سلطان الرّوم جمع الجنود يريد غزو المدينة ، وانّ هرقل قد سار بجنود عظيمة وجلب معهم غسّان وجذام وبهراء وقد قدّم عساكره البلقاء ونزل هو حمص ، فأمر رسول الله (ص) أصحابه بالتهيّؤ الى تبوك وهي من بلاد البلقاء ، وبعث الى القبائل حوله والى مكّة والى كلّ من أسلم وحثّهم على الجهاد وامر أهل الجدة ان يعينوا من لا قوّة له على الخروج ، روى انّ أبا بكر عرض جميع أمواله ، وانّ عمر بذل نصف أمواله ، وانّ عثمان جهّز مائتي إبل ، وقيل : ثلاثمائة إبل ، وبذل ألف دينار وعبد الرّحمن بن عوف بذل أربعين وقّية من الذّهب وأربعة آلاف درهم ، وهكذا بذل كلّ بقدر همّته وسعته وبلغ عسكره (ص) الى ثلاثين ألفا ، وقيل : الى أربعين ألفا ، ولمّا كانت تلك الغزوة صعبة لبعد السّفر وشدّة القيظ وكثرة جنود الأعداء تقاعد بعض عن الحركة والغزو فنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) (الآيات) ، وسار الرّسول (ص) بالعسكر في غاية المحنة والمشقّة في شدّة حرارة الهواء وقلّة الماء حتّى نزل بعين تبوك وكانت عينه قليلة الماء فغسل (ص) يده ووجهه بمائها فنبع الماء منها بحيث أخذ جميع العسكر منه باعجازه (ص) ومكث (ص) في ذلك الموضع عدّة ايّام ، فصحّ عنده (ص) انّ خبر خروج عسكر الرّوم كان كذبا فشاور الاصحاب في الرّجوع ورجع من هناك ، وبعث (ص) خالد بن الوليد مع اربعمائة وعشرين فارسا ليغير على دومة الجندل ، وبعد وصولهم الى نواحي دومة الجندل في اللّيل وجدوا اكيد رحاكمها مع أخيه حسّان ومعدود من خدمه في طلب الصّيد فقاتلوهم وقتلوا حسّانا وأسروا أكيدر وانهزم قليل منهم ، ودخلوا الحصار وتحصّنوا مع أخيه الاخر مصاد فقال الخالد لأكيدر : لا أقتلك وأذهب بك الى رسول الله (ص) ان أمرت أخاك وأهل القلعة ان يفتحوا باب الحصار ويسلّموا إلينا الف إبل وسبعمائة برد واربعمائة سنان واشترط لك ان آخذ حكومة دومة الجندل لك من رسول الله (ص) ، فقبل أكيدر وصالح وأرسل الى أخيه مصاد ان : افتح باب الحصار وهيّئ مال الصّلح ، وبعد أخذ مال الصّلح رجع خالد ومعه أكيدر وأخوه مصاد ودخلوا المدينة سالمين غانمين (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) استفهام توبيخ (مِنَ الْآخِرَةِ) بدل الآخرة (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) الفاء للسّببيّة باعتبار انكار الرّضا بالحيوة الدّنيا (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) بعد إهلاككم تهديد ووعيد بعد توبيخ وتقريع (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) بهلاككم أو بتقاعدكم أو بمكركم وهو إظهار للغنى عنهم وعدم الحاجة إليهم ، والضّمير المفعول امّا لله أو للرّسول (ص) بقرينة المقام ولتوافق ضمير ان لا تنصروه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على نصرة رسوله بدون امدادكم وعلى إهلاككم واستبدالكم قوما غيركم (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) تذكير لهم بنصرته له (ص) حين لم يكن له معاون حتّى يتحقّق عندهم نصرته بدونهم استمالة لقلوبهم (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين شاوروا في امره بالاجلاء والحبس


والقتل في دار النّدوة كما سبق (ثانِيَ اثْنَيْنِ) يعنى لم يكن معه الّا رجل واحد وهو ابو بكر (إِذْ هُما فِي الْغارِ) غار ثور وهو جبل في يمنى مكّة على مسيرة ساعة (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) والإتيان بالمضارع للاشارة الى انّه كرّر هذا القول لعدم سكونه عن اضطرابه (إِنَّ اللهَ مَعَنا) ومن كان الله معه لا يغلب فلا تحزن من اطّلاع الأعداء وغلبتهم ، روى عن الباقر (ع) انّ رسول الله (ص) اقبل يقول لأبي بكر في الغار : اسكن فانّ الله معنا وقد أخذته الرّعدة وهو لا يسكن فلمّا رأى رسول الله (ص) حاله قال له : أتريد ان أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدّثون؟ وأريك جعفرا وأصحابه في البحر يغوصون؟ ـ قال : نعم فمسح رسول الله (ص) بيده على وجهه فنظر الى الأنصار يتحدّثون ، والى جعفر وأصحابه في البحر يغوصون ، فأضمر تلك السّاعة انّه ساحر (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) السّكينة كما في الخبر ريح تفوح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي كما مضى قبيل هذا وفي سورة البقرة على ما حقّقها الصّوفيّة صورة ملكوتيّة ملكيّة الهيّة تظهر بصورة احبّ الأشياء على صدر السّالك الى الله وأحبّ الأشياء الى السّالك هو شيخة المرشد ووليّه القائد ، وتسمّى عندهم بالسّكينة والفكر والحضور وهي السّلطان النّصير والطمأنينة وإليها أشير بقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ، وهي النّور في قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وبها يحصل معرفة علىّ (ع) بالنّورانيّة ، وهي ظهور القائم عجّل الله فرجه في العالم الصّغير وبها استنارة سماوات روحه وأراضي نفسه وطبعه كما قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، وهي الاسم الأعظم والكلمة الّتى هي أتمّ ، وهي حقيقة الرّحمة والهدى والفتح والنّصرة والصّراط المستقيم والطّريق القويم والسّبيل الى الله والفوز والنّجاح ، وغير ذلك من الأسماء الحسنى الّتى لا حدّ لها وأشير إليها في الآيات والاخبار ، ولذلك كان تمام اهتمام المشايخ في تلقين الذكّر الخفىّ القلبىّ أو الجلىّ اللّسانىّ بتحصيل هذا المقام للسّلّاك وكانوا يأمرونهم بالفكر الّذى هو هذا تعمّلا حتّى تظهر وتنزل تلك السّكينة من غير تعمّل ورويّة ، ولا مقام لبشريّة الإنسان نبيّا كان أو وليّا أو تابعا لهما أشرف من هذا المقام كما قال في مقام الامتنان في هذه السّورة : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في غزوة حنين الّتى كانت في الثّامن من الهجرة وحين كمال النّبوّة وتبليغ الرّسالة ، إذا عرفت هذا فاعلم ، انّ العامّة جعلوا هذه الآية دالّه على فضيلة أبى بكر حيث كان اوّل من هاجر وذكر بمصاحبته للرّسول (ص) ولا دلالة في الآية على فضيلة له ان لم يكن دلالة على ذمّه ، فانّ الصّحابة البشريّة قد كانت للمشركين والكفّار والمنافقين المرتدّين بل الفضيلة في الصّحابة الملكوتيّة الّتى هي ظهور ملكوت الصّاحب على ملكوت الصّاحب ، وفي الآية دلالة على عدمها حيث خاطبه (ص) ، بلا تحزن ، فانّ الصّحابة الملكوتيّة مانعة من الحزن باعثة على السّكون والوقار ، وأيضا هي دالّة على عدم حصولها له بعد هذا الخطاب حيث أفرد الضّمير المجرور فهو امّا راجع الى النّبىّ (ص) أو الى ابى بكر ، ورجوعه الى ابى بكر وان كان يتراءى انّه مناسب لاضطرابه ورعدته لكنّه يستلزم تفكيك الضّمير في قوله وايّده بجنود ويستلزم امّا عدم نزول السّكينة على النّبىّ (ص) وهو مستلزم لافضليّة ابى بكر أو عدم الاعتناء بذكر النّبىّ (ص) وهو أيضا كذلك أو عدم الحاجة الى ذكره وليس به ، لانّ الحاجة في مقام إظهار النّعمة على الأحباب ماسّة الى ذكر مثل هذه النّعمة العظيمة الّتى لا نعمة أعظم منها في مقام البشريّة كما سبق من ذكره (ص) بهذه النّعمة بعد الثّامن من الهجرة وكمال النّبوّة ، ولو سلّم صحّة رجوعه الى ابى بكر


كانت الآية من المتشابهات الّتى لا يستدلّ بها على منقبة تثبت بها الامامة ؛ هذا إذا كان عطفا على أخرجه ، وامّا إذا كان عطفا على قد نصره الله من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال فلا يحتمل عود الضّمير الى ابى بكر (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) اى لم تقووا على رؤيتها ان كان المراد بالجنود السّكينة ومحافظة الملائكة في الغار وإغماء الكفّار عنه بنسج العنكبوت وبيض الحمامة وإنبات الشّجر على فم الغار أو لم تقع رؤية منكم لها ان كان المراد مطلق جنود الملائكة في غزواته (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) الكلمة كما مرّ مرارا تشمل الكلمات اللّفظيّة والكلمات التّكوينيّة من العقول والأرواح وعالم المثال والقوى البشريّة والحيوانيّة والنّباتيّة والأخلاق والأحوال والأفعال في العالم الصّغير ، وهي ان كانت منتسبة الى الولاية الّتى هي كلمة الله الحقيقيّة بلا واسطة أو الى من انتسب الى الولاية فهي كلمات الله ، لانّ كلمة الله الحقيقيّة هي المشيّة الّتى يعبّر عنها بالحقّ المخلوق به ، والاضافة الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة وعلويّة علىّ (ع) وهي الولاية المطلقة ، وكلّما كان منتسبا إليها كان كلمة الله ، وكلّما كان كلمة الله كانت عليا بعلوّ الله وكان العلوّ ذاتيّا لها لا عرضيّا محتاجا الى الجعل والتّسبيب ، ولذا أتى بالجملة الثّانية مرفوعة المبتدأ مستأنفة أو معطوفة على الجملة الفعليّة أو حالا عن فاعل جعل أو مفعوله ، أو المستتر في السّفلى مؤكّدة باسميّة الجملة وضمير الفصل وتعريف المسند الدّالّ على الحصر الّذى هو تأكيد على تأكيد لا منصوبة عطفا على مدخول جعل ، وان لم تكن منتسبة الى الولاية فان كانت منتسبة الى الشّيطان بان كان صاحبها متمكّنا في تبعيّة الشّيطان بحيث لا يكون مدخل ومخرج في وجوده الّا للشّيطان ، فهي كلمات الشّيطان والسّفليّة ذاتيّة لها ، وان لم تكن كذلك بان لم يكن صاحبها متمكّنا في تبعيّة الشّيطان ولا منتسبا الى الله والولاية ، فهي ليست كلمات الله ولا كلمات الشّيطان بل هي منتسبة الى ما هو الغالب الظّاهر من أحوال صاحبه كالاسلام والايمان والمحبّة والرّضا والسّخط والشّرك والكفر ، وهي بذاتها لا سفلى ولا عليا بل محتاجة الى جعل في ذلك ، ولذلك أتى بالجعل في الجملة الاولى من غير التّأكيد بضمير الفصل (وَاللهُ عَزِيزٌ) لن يغلب حتّى يتصوّر السّفليّة لكلمته (حَكِيمٌ) لا يتطرّق الخلل الى ما كان منتسبا اليه حتّى يتصوّر طرّ والسّفليّة لكلمته فالعطف من قبيل عطف السّبب (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) شبّانا وشيوخا أو مجرّدين عن الخدم والحشم والسّلاح ومثقّلين بها أو ناشطين وغير ناشطين في العالم الكبير أو في العالم الصّغير أمرهم بالجهاد بعد التّوبيخ بقوله : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) ، وبقوله (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ، والتّهديد بقوله (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) الله ، والتّرغيب بتذكير نصرته لنبيّه (ص) وتأييده له (ص) حتّى يكون أوقع في القلوب وابعد من الإنكار (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأمور وعواقبها (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) غنيمة قريبة الوصول (وَسَفَراً قاصِداً) متوسّطا غير بعيد (لَاتَّبَعُوكَ) بيان لسبب تخلّفهم وتثبّطهم وانّ المانع لهم والباعث على العذر الكاذب هو بعد السّفر وكثرة المشقّة (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) الشّقّة بالضّمّ وبالكسر النّاحية يقصدها المسافر والسّفر البعيدة والمشقّة وتعدية بعدت بعلى لتضمينه معنى ثقلت (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) بعد رجوعكم إليهم (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) يعنى ما كان لنا استطاعة للخروج فلم نخرج ، أخبر نبيّه (ص) انّهم سيعتذرون بعدم الاستطاعة


كذبا وهو اخبار عن المستقبل (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) استيناف جوابا لسؤال مقدّر اى ما لهم في هذا العذر والمقصود ؛ انّهم بعد التخلّف ان اعترفوا بتقصيرهم وتابوا أحيوا أنفسهم لبقاء استعداد الحيوة لكنّهم بالعذر الكاذب أبطلوا استعدادهم للحيوة وأهلكوا أنفسهم من صورة الحيوة بالتّخلّف ، ومن استعدادها بعدم التّوبة والعذر الكاذب (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بالغ في تأكيد تكذيبهم بانّ واسميّة الجملة واللّام مبدوّا بعلم الله الّذى هو بمنزلة القسم (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) اى لمطلق المستأذنين في القعود (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) في الاعتذار وهذا في الحقيقة عتاب وتوبيخ للمستأذنين بغير عذر على طريقة: ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، وهذا من ألطف طرق مخاطبة ذوي الحظر يعاتبون مقرّبيهم ويريدون غيرهم تعريضا وإسقاطا لذلك الغير عن شأنيّة المخاطبة والمشافهة وبدء قبل التّوبيخ والمعاتبة بالعفو تلطّفا به (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا) عن ان يجاهدوا ، أو كراهة ان يجاهدوا ، أو في ان يجاهدوا فضلا عن ان يستأذنوك في التّخلّف عن ان يجاهدوا (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بانّ المؤمنين هم المتّقون وهو وعد لهم بانّ عملهم لا يعزب عنه (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) في تصديقهم بنبوّتك (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) يتحيّرون ويقفون عن السّير الى الله ، ولذا قال مولانا ومن به رجاؤنا في عاجلنا وآجلنا أمير المؤمنين (ع): من تردّد في الرّيب سبقه الاوّلون وأدركه الآخرون ووطئته سنابك الشّياطين (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) لأمكن لهم تهيّة عدّته وما يحتاج اليه ، أو هيّؤا له أسبابه تهيّة ، فعدّة امّا مفعول به أو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل وعلى التّقديرين يكون تكذيبا لنفيهم الاستطاعة عن أنفسهم (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) لمّا توهّم من اسناد الأفعال السّابقة إليهم انّهم مستقلّون في أفعالهم استدرك ذلك الوهم بسببيّة كراهته تعالى للخروج وانّ عدم خروجهم وعدم إرادتهم له مسبّب عن كراهته تعالى له لا انّهم مستقلّون (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) لمّا كان هذا القول من الله حقيقة وكان قائله ومن ظهر على لسانه ظاهرا وباطنا متعدّدا مختلفا ولم يكن لخصوصيّة الفاعل مدخليّة في المقصود من ذمّهم أسقط الفاعل فانّ هذا القول قد قاله باطنا ملائكة الله والشّياطين ، وظاهرا رسول الله (ص) حين اذن لهم في القعود ، وإخوانهم من الانس حين خوّفوهم عن قتال الرّوم وبعد السّفر وشدّة القيظ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) مستأنف جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ولم كره الله انبعاثهم؟ ـ فقال : لانّهم لو خرجوا ما زادوا على ما أنتم عليه الّا فسادا بالتّجبين والنّميمة والهرب من الزّحف حتّى يتقوّى قلوب أعداءكم بهربهم (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) وضع البعير وأوضع أسرع في السّير ، وأوضعه حمله على السّرعة فعلى الاوّل فالمعنى انّهم لو خرجوا فيكم أسرعوا خلالكم بالإفساد والنّميمة والتّخويف أو أسرعوا بالهرب ، وعلى الثّانى لو خرجوا فيكم حملوا ركائبهم على السّرعة بالإفساد والنّميمة والتّخويف خلالكم أو حملوا أمثالهم على السّرعة في الفرار (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) حال من فاعل اوضعوا أو مستأنف لتكرار الذّمّ الّذى هو مطلوب في المقام (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)


عطف على يبغونكم أو حال من فاعله أو مفعوله والمعنى انّ فيكم سمّاعين لأقوالهم الفاسدة المفسدة أو سمّاعين لأقوالكم لان ينقلوها إليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وضع الظّاهر موضع ضمير السمّاعين اشارة الى صفة ذمّ لهم ووعيدا لهم ، أو موضع ضمير المتقاعدين اشعارا بذمّ آخر لهم ووعيدا لهم ، واشارة الى انّ كراهته تعالى لانبعاثهم ليس جزافا وبلا سبب انّما هو بسبب ظلمهم ، فيكون استدراكا لوهم متوهّم يتوهّم انّ كراهته تعالى انبعاثهم يكون نحو إجبار لهم على القعود ، كما انّ قوله لكن كره الله انبعاثهم كان استدراكا لما يتوهّم من استقلالهم في أفعالهم فليسوا مستقلّين في الفعال ولا مجبورين فيها (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) قبل تلك الغزوة في غزوة أحد وغيرها من الغزوات من تجبين أصحابك وتدبير الفرار وتسليمك الى أعدائك (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أمور الغزو بان دبّروا خلاف ما أمرت ودبّرت (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) في كلّ ما دبّروا وهو تأييدك ونصرتك على وفق ما أمرت ودبّرت (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) اعلم ، انّ الحقّ المضاف هو المشيّة الّتى هي الحقّ المخلوق به وكلّ حقّ حقّ بالاتّصال به وكلّ باطل باطل بالانصراف عنه ، وانّ امر الله هو عالم المجرّدات الّذى ليس فيه الا امر الله لضعف الاثنينيّة بحيث لا يتصوّر هناك امر وآمر ومأمور وايتمار ، وكلّ من كان من افراد البشر متّصلا بهذا العالم متّحدا به فهو أيضا امر الله وكلّ ما صدر منه من هذه الحيثيّة فهو أيضا امر الله ، ولمّا كان خليفة الله نبيّا كان أم وليّا ذا وجهين ، وجه الى الله وبه يأخذ من الله ، ووجه الى الخلق وبه يوصل ما يأخذ من الله الى الخلق ؛ ويعبّر عن وجهه الى الله بالحقّ والوحدة والولاية ، وعن وجهه الى الخلق بالأمر والكثرة والخلق والنّبوّة والرّسالة ، والولاية بمعنى تدبير الخلق من جهة الباطن والخلافة بمعنى تدبيرهم من جهة الظّاهر فالولاية بالمعنى الاوّل روح الولاية بالمعنى الثّانى ، وكذا روح النّبوّة والرّسالة والخلافة فالفرق بين الحقّ والأمر كالفرق بين المطلق والمقيّد والرّوح والجسد والولاية والنّبوّة ، فالحقّ هو الولاية في العالم الكبير ومظهرها الاتمّ علىّ (ع) والأمر النّبوّة ومظهرها الاتمّ محمّد (ص) والنّبوّة عالم يغلب عليها الولاية والاتّصال بالوحدة لم يظهر غلبتها في العالم الكبير ، فمجيء الحقّ يعنى غلبة الولاية على النّبوّة سبب لغلبة النّبوّة على الكثرات ولذا قدّم مجيء الحقّ ، كما انّ اعانة علىّ (ع) ومجيئه في الغزوات كان سببا لغلة محمّد (ص) ، فالمعنى حتّى جاء الولاية وغلب الوحدة وظهر النّبوّة وغلبت (وَهُمْ) اى المقلّبون (كارِهُونَ) توهين لهم وتسلية للرّسول (ص) والمؤمنين على تخلّفهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) حكاية لقول بعضهم توهينا وذمّا له (وَلا تَفْتِنِّي) لا توقعني في الفساد والافتتان بنساء الرّوم كما روى انّه (ص) رغّب بعضا في الجهاد في غزوة تبوك فقال : يا رسول الله والله انّ قومي يعلمون انّه ليس فيهم اشدّ عجبا بالنّساء منّى وأخاف ان خرجت معك ان لا اصبر إذا رأيت بنات الرّوم فلا تفتنّى ، أو فلا تفتنّى بضياع المال والعيال ، أو فلا تفتنّى بالأمر بالخروج وتخلّفى عنك ومخالفتي لأمرك ، أو فلا تفتنّى بضياع البدن بالحركة في الحرّ (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) يعنى انّ رغبتهم عن الخروج وعن امتثال أمرك ومصاحبتك هي فتنة عظيمة لنفوسهم تهلكهم عن الحيوة الانسانيّة الابديّة وقد وقعوا فيها ولا يمكنهم الخروج عنها ، ولذلك أتى بأداة الاستفتاح وقدّم المجرور واستعمل السّقوط (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) حال عن فاعل سقطوا أو عطف على جملة في الفتنة سقطوا ، ولمّا كان هذا الحكم من شأنه ان ينكر في بادي النّظر أتى بالمؤكّدات الثّلاثة ووضع المظهر موضع المضمر اشارة الى علّة الحكمين


وإبداء لّذمّ آخر لهم ، اعلم ، انّ عالم الطّبع واقع بين العالمين الملكوت العليا والملكوت السّفلى ، والإنسان الّذى هو خلاصة عالم الطّبع أيضا واقع بين هاتين الملكوتين ولهما التّصرّف في هذا العالم وفي بنى آدم ، لكن تصرّف الملكوت العليا في الخيرات والوجودات والجذب الى عالم الخيرات ومعدن النّور ، وتصرّف الملكوت السّفلى في الشّرور والاعدام والجذب الى عالم الظّلمة ومعدن الشّرور ، والملكوت العليا عالم نورانىّ لا ظلمة فيها والملكوت السّفلى عالم ظلمانىّ لا نور فيها ؛ والحاكم في الاولى هو الله وفي الثّانيّة هو الشّيطان ومن هنا وهم الثّنويّة حيث انسلخ مرتاضوهم عن الطّبع واغشيته واتّصلوا بالمجرّدات فشاهدوا العالمين ، فقال من لم يشاهد حكومة الملكوت العليا على السّفلى : انّهما قديمان حاكمان على العالم ، وقال من شاهد إيجاد العليا للسّفلى : انّ السّفلى حادثة لكن لها التّصرّف والحكومة بالاستقلال على العالم ، وقال من شاهد انّ في كلّ من العالمين حاكما وله الحكومة على عالمه وعلى عالم الطّبع ، انّ للعالم الهين : يزدان واهريمن ، وقال بعض : انّ كلا قديم ، وقال بعض : انّ اهريمن مخلوق حادث والملكوت السّفلى دار الشّياطين وسجن أهل الشّقاء وفيها النّار والجحيم وكلّ ما ورد في الشّريعة من عذاب الأشقياء والكافرين ومن الحيّات والعقارب والزّقّوم والحميم ، والإنسان الواقع بين العالمين إذا توجّه الى تلك الملكوت باتّباع الشّياطين واختيار النّفس وشهواتها ، ما لم يتمكّن في هذا الاتّباع كان على شفير جهنّم وشفاجرف هذا الوادي ، وإذا تمكّن في هذا الاتّباع بحيث لم يبق له حالة رادعة صار داخلا في هذا العالم وواقعا في مقام يحيط به لهب جهنّم وكان جهنّم محيطة به باعتبار جمراتها ولهباتها كما قال تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) غنيمة وغلبة في تلك الغزوة (تَسُؤْهُمْ) استيناف في موضع التّعليل يعنى انّهم أحاط بهم الحسد الّذى هو من آثار السّجّين واشتعال نار الجحيم واحاطته دليل احاطة جهنّم بهم (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) قتل أو جرح أو انهزام (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) اى الأمر الّذى هو لائق بنا وبجودة رأينا من التّخلّف عمّا فيه الهلاك والاغترار بما لا حقيقة له من نصرة الله وملائكته (وَيَتَوَلَّوْا) عنك وعن المؤمنين (وَهُمْ فَرِحُونَ) بما أصابك لاقتضاء الحسد ذلك (قُلْ) لقومك تسلية لهم حين المصيبة عن المصيبة وعن شماتة القاعدين أو قل للمتخلّفين ردّا لهم في فرحهم بإصابة المصيبة وفي قولهم قد أخذنا أمرنا (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) وما كتب الّا ما فيه صلاحنا (هُوَ مَوْلانا) استيناف في موضع التّعليل (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) عطف على قل فهو من كلام الحقّ أو على ما بعده فهو مقول القول ، والفاء امّا على تقدير امّا أو توهّمه ، أو زائدة ، أو عاطفة على محذوف حذف وأقيم معمول ما بعده مقامه إصلاحا للّفظ ومثله في تقديم معمول ما بعد الفاء عليها لا صلاح اللّفظ قولك وامّا على الله فليتوكّلوا أو الأصل ليتذكّر المؤمنون فليتوكّلوا على الله وبعد حذف المعطوف عليه واقامة معمول ما بعد الفاء مقامه أظهر فاعل المعطوف لعدم تقدّم ذكر المرجع (قُلْ) تسلية لقومك وردعا للمتخلّفين الفرحين (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) الظّفر والغنيمة أو القتل والجنّة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) احدى السّوئتين (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بالقتل والبلايا الشّديدة من دون واسطة بشر (أَوْ بِأَيْدِينا) بالقتل والأسر والتّعذيب بأيدينا (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) في الخبر في تفسير الّا احدى الحسينين امّا موت في طاعة الله أو ادراك ظهور امام (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) تزييف لاعمالهم القالبيّة كما انّ سابقه تزييف


لخواطرهم القلبيّة النّاشئة عن رذائلهم النّفسيّة والمقصود التّهكّم بهم والتّسوية من الإنفاق بالطّوع والإنفاق بالإكراه وليس الأمر على حقيقته (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) استيناف في موضع التّعليل (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل لعدم القبول (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) عطف باعتبار المقصود ، فانّ المقصود من امره (ص) إظهار عدم قبول نفقاتهم فكأنّه تعالى قال لا يقبل منهم نفقاتهم الّتى أنفقوها طوعا أو كرها وما منعهم ان تقبل نفقاتهم (الى الآخر) يعنى انّ كفرهم بالله منعهم من قبول نفقاتهم فانّ الأعمال كلّها قبولها بالايمان بالله (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ) القالبيّة إظهارا لأحكام الإسلام (إِلَّا وَهُمْ كُسالى) لعدم نشاطهم بالأعمال الاخرويّة لكفرهم (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الخطاب للنّبىّ (ص) والمعنى على ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو الخطاب عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع تعليل للنّهى (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) الزّهوق الخروج بصعوبة ، اعلم ، انّ النّفوس البشريّة لمّا كانت سفليّة ترى الخير في الجهات الدّنيويّة وان لا خير سواها وهي محصورة فيما اقتضته قوّتاها الشّهويّة والغضبيّة ، وما اقتضته الشّهويّة امّا محبوب لها من غير شعور منها بغاية له أو محبوب لها لغيره ، والاوّل كالأولاد فانّ النّفوس مفطورة على محبّتهم غير شاعرة بغاية لتلك المحبّة ، والثّانى كالاموال فانّها محبوبة لغايات عديدة هي محبوبة لها بذاتها ، كالمأكول والمشروب والملبوس والمسكون والنكوحة والمركوب والحشمة والخدم والجاه والعرض وجذب القلوب والصّيت والثّناء وغير ذلك ، وقد يصير كثرة المال محبوبة لذاتها إذا غلب الحرص وأعمى صاحبه حتّى انّه يقترّ في ما اقتضته الشّهويّة حفظا للمال وحبّا له ، كما انّه قد يصير الأولاد محبوبة لغيرها ، وما اقتضته الغضبيّة هو التّبسّط في البلاد والتّسلّط على العباد وارادة الانتقام وسهولته وانقياد الخلق وطاعتهم وسياسة من خرج منهم من الطّاعة ويتولّد من هذه المذكورات جملة الرّذائل ويختفى بسببها جملة الخصائل ويتوسّل إليها كلّها بكثرة المال والأعوان وأقوى الأعوان الأولاد ، وامّا الشّيطنة فانّها في مقتضياتها خادمة للشّهويّة والغضبيّة بوجه فمن رأته صاحب كثرة الأموال والأولاد حسبته صاحب خيرات كثيرة واعجبتها كثرة أمواله وأولاده وتمنّت ان تكون لها هذه ، ولم تدر أنّها شاغلة له عن العلوّ والتّوجّه الى الله متعبة له في جمعها وحفظها مولمة له بخوف تلفها وحين تلفها ؛ ولذلك اقتصر على ذكر الأولاد والأموال ونهى نبيّه (ص) تعريضا بامّته عن الاعجاب بها كصاحب النّفوس السّفليّة معللا بعذاب الدّنيا والخروج الى الآخرة مع الكفر الموجب لعذاب الآخرة (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) عطف بلحاظ المعنى فانّ المقصود من السّابق انّهم خارجون عن المسلمين غير متّصفين بصفاتهم وكأنّه قال حين قال : وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم لم يكونوا على صفة المسلمين مقبولى النّفقات ويحلفون بالله (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) تكذيب لهم في حلفهم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) يخافونكم على أموالهم وأنفسهم (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) حصنا يتحصّنون فيه أو سلطانا يتقوّون به وهو جواب سؤال اقتضاه تكذيبهم (أَوْ مَغاراتٍ) في الجبال (أَوْ مُدَّخَلاً) أسرابا في الأرض (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) وأعرضوا عنكم وما انتحلوا صورة الإسلام (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون اليه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) يعيبك


(فِي الصَّدَقاتِ) في قسمتها وجمعها وحفظها للايصال الى مستحقّها (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) لاتّباعهم لك في الأغراض الفاسدة والاعراض الكاسدة لا لأمر الدّين والآخرة ، وقد ذكر شأن نزولها في الاخبار وانّها نزلت حين لمز الأغنياء رسول الله (ص) في تقسيم الصّدقات على الفقراء ، وورد انّ أهل هذه الآية أكثر من ثلثي النّاس ، والتّحقيق انّ كلّ من غلب حبّه للدّنيا على حبّه للآخرة فهو من أهل هذه الآية وأغلب النّاس ليس لهم حبّ للآخرة وأغلب من كان له حبّ الآخرة حبّه للدّنيا غالب على حبّه للآخرة (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ) من الغنى والفقر والأولاد والعقم والعزّة والّذلّة والصّحّة والسّقم والأمن والخوف وغير ذلك ممّا ليس بيد العبد ، أو المراد ما آتاهم الله من الصّدقات والغنائم على يد رسوله (ص) فانّ الكلام فيها فيكون ذكر الله اشارة الى انّ إعطاء محمّد (ص) إعطاء الله وانّه لا يفعل من عند نفسه وهو تعظيم لشأنه (ص) (وَرَسُولُهُ) من الغنائم والصّدقات فانّ الرّضا بقضاء الله إذا قضى ما لا يلائم يهوّن امره وإذا قضى ما يلائم يورث الشّكر ويجلب المزيد ، والرّضا بما أعطاه الرّسول (ص) قليلا كان أو كثيرا يورث المحبّة له والتّوجّه اليه والاتّباع له وفي الكلّ خير الدّنيا والآخرة وعدم الرّضا يورث أضدادها (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) منقطعين من الكلّ اليه متوكّلين عليه راجين من فضله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) في موضع التّعليل (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) المسكين كما مضى أسوء حالا من الفقير وهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، والفقر من لا يقدر بالفعل أو بالقوّة على قوت سنته (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) اجرة لعملهم (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) فانّهم معدّون لحفظ ثغور المسلمين أو مستمالون لاستماع آيات القرآن واحكام المسلمين حتّى يعرفوا انّ محمّدا (ص) رسول الله (وَفِي الرِّقابِ) العبيد تحت الشّدّة أو المكاتب العاجز عن أداء مال الكتابة أو ما يلزم المسلمين من الكفّارات ولم يقدروا على أدائها (وَالْغارِمِينَ) الّذين لم يستدينوا في ما لم يأذن به الله (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) الجهاد أو هو والحجّ أو كلّ سبيل خير (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر في سفر مباح لا يقدر بالفعل ولا بالقوّة ولو بالاستدانة على مؤنة سفره الى وطنه (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) فرض الله فريضة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بموارد الصّدقات (حَكِيمٌ) في تسنينها وتخصيص مواردها (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يقبل كلّ ما يسمع من اىّ قائل اتّفق (قُلْ) هو (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) يسمع كلّ ما فيه صلاحكم وان لم تعلموا انّ فيه صلاحكم (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) امّا مقول قوله (ص) أو مستأنف من الله والمقصود بيان حاله أو تعليل كونه اذن خير ، اعلم ، انّ للسّالك الى الله ايمانا بالله في مقام الوحدة والتّوجّه اليه عن الكثرة وفي هذا الايمان لا توجّه له الى الكثرة لا بخير ولا بشرّ ، وايمانا في مقام الكثرة والتّوجّه إليها بالله وفي هذا المقام له نحو تصرّف في الكثرة امّا بخير إذا كان المتوجّه اليه ممّن يقبل التّصرّف بالخير كجملة أجزاء العالم سوى الأشقياء من بنى آدم ، وامّا بشّر إذا كان المتوجّه اليه ممّن يصير الخير في وجوده شرّا ، لانّ الشّرّ ليس من المتصرّف في الكثرة بالّذات بل تصرّفه يصير بواسطة القابل شرّا ، فقوله يؤمن بالله اشارة الى الايمان الاوّل وقوله يؤمن للمؤمنين اشارة الى الايمان الثّانى ، والمعنى يؤمن بالله في مقام الكثرة يعنى يصدق الكلّ فانّ كلّا في مقامه مسخّر لله ومظهر له وما يظهر منه في الحقيقة ظهور فعل الله لكنّه بحسب المظاهر يصير


في بعض شرّا وفي بعض خيرا ولا ينتفع بهذا الايمان من محمّد (ص) الّا المؤمنون ، لانّه كان بحسب هذا الايمان نافعا للكلّ لكن يصير ذلك النّفع في بعض القوابل ضرّا وشرّا ، وبما ذكر يظهر صحّة الاخبار ووجه الجمع بينها والى ما ذكر أشار بقوله (وَرَحْمَةٌ) عطفا على اذن خير وما بينهما اعتراض (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بالايمان العامّ أو الخاصّ وكان ارادة الايمان الخاصّ انسب بالمقام ، لانّه أشير الى مطلق الانتفاع الّذى هو عامّ لجملة المسلمين الّذين بايعوه بالبيعة العامّة بقوله (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) وبقوله (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، ولانّ الخطاب كان لعامّة المسلمين والمؤمن منهم لا يكون الّا مؤمنا خاصّا ، ولانّ خصوص الرّحمة الرّحيميّة بقرينة ذكرها بعد الانتفاع المطلق الّذى هو مطلق الرّحمة الرّحيميّة مختصّ بالمبتاعين بالبيعة الخاصّة الولويّة الّتى هي الايمان حقيقة وكان الأنسب بالمقابلة ان يقول تعالى وسخط للّذين لم يؤمنوا وأوذوا رسول الله (ص) لكنّه عدل الى قوله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جملة معطوفة على الجملة السّابقة تبرئة له (ص) من نسبة السّوء والعذاب اليه لما عرفت ان ليس منه الّا الرّحمة والنّفع لكنّها بحسب القابل تصير ضرّا وشرّا (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) اى المؤذون يعنى إذا قال المؤمنون للمنافقين المؤذين لم تؤذون رسول الله (ص) وتلمزونه وتنمّون عليه يحلفون بالله لهم وهو استيناف لبيان حالهم ، وانّهم بعد إيذائهم يعتذرون بالمعاذير الكاذبة ويحلفون على كذبهم ومقصودهم ارضاؤكم لا إرضاء الله ورسوله ، فهم ينافقون بعد الإيذاء حيث يظهرون ما في قلوبهم مطويّة على خلافه ويكذبون ويحلفون على الكذب وينصرفون عن الله ورسوله (ص) فهم في هذا الاعتذار واقعون في رذائل اربع كلّ منها بوحدتها مهلكة (لِيُرْضُوكُمْ) لعدم ايمانهم بالله ورسوله (ص) بل لمحض المماشاة معكم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) توحيد الضّمير باعتبار بانّ رضى الله لا يظهر ولا يتيسّر الوصول اليه الّا برضى الرّسول (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) يعنى انّ الايمان يقتضي إرضاء الله ورسوله (ص) وان كان بسخط جميع الخلق (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) من يخاصم الله ورسوله (ص) (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) نزلت في المنافقين المتخلّفين عن غزوة تبوك حين تحدّثوا انّ محمّدا (ص) يزعم انّ حرب الرّوم كحرب غيرهم لا يرجع منهم أحد وقال بعضهم استهزاء : نحذر ان يخبر الله بذلك ، وورد انّها نزلت في أصحاب العقبة كمنواله في العقبة ليقتلوه وقالوا : ان فإن بنا قلنا انّما كنّا نخوض ونلعب وان لم يتفطّن قتلناه وقصّته مذكورة في المفصّلات (لا تَعْتَذِرُوا) بالاعذار الكاذبة استيناف من الله ردعا لهم (قَدْ كَفَرْتُمْ) صرتم كافرين (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) بالتّوبة على يد محمّد (ص) والبيعة معه بالبيعة العامّة (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ) بعد توبتها (نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) لعدم توبتهم أو لانجرار كفرهم الملّىّ الى الكفر الفطرىّ الّذى لا يقبل التّوبة معه وعلى قراءة يعف ويعذب بالغيبة يحتمل ان يكون من جملة قول الرّسول (ص) (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ليسوا منكم كما ادّعوا والجملة خبر عن المنافقون أو حال عن المنافقون


والمنافقات أو معترضة (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) قالا وحالا ووجودا في عالمهم الصّغير والعالم الكبير لانّهم متصوّرون بصور المنكرات وكلّ يعمل على شاكلته فكلّ امرء متصوّر بصورة المنكر يأمر على وفق صورته بالمنكر ولم يكن له شأن سوى الأمر بالمنكر لكون شاكلته المنكر وان كان صورة امره امرا بالمعروف ولذلك أتى بالمضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) لانّهم ينأون عنه والنّائى عن الشّيء الغير المتصوّر به ينهى عنه لا محالة (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) الظّاهرة عن الإنفاق ابتغاء رضى الله حرصا بالمال غير معتقد بالأجر والعوض من الله وعن البيعة مع النّبىّ (ص) والولىّ (ع) وأيديهم الباطنة عن التّوسّل بذيل النّبوّة والولاية ، وعن التّبتّل الى الله والتّضرّع عنده ، وعن الامتداد الى الخيرات الكثيرة الرّوحانيّة ، وعن إنفاق أموالهم الباطنة الّتى هي القوى البدنيّة والأخلاق النّفسيّة الرّذيلة الّتى في إنفاقها الوعد بالمائة الى سبعمائة والله يضاعف لمن يشاء (نَسُوا اللهَ) جواب لسؤال ناش عن ذكر اوصافهم الّذميمة الّتى تقتضي السّؤال عن علّتها أو عن وصف آخر ذميم لهم فهو في موضع التّعليل أو بيان حال آخر ذميم لهم والنّسيان هو الغفلة عن المعلوم بحيث يزول عن خزانته ويحتاج الى مشاهدة جديدة ان كان من المشاهدات ، أو كسب جديد ان كان من الكسبيّات بخلاف السّهو ، فانّه الغفلة عنه بحيث لا يزول عن الخزانة ولا يحتاج الى سبب جديد بل يستحضر بأدنى تأمّل فالفرق بينهما بالشّدّة والضّعف ، ولمّا كان معرفة الله فطريّة لكلّ أحد بل لكلّ موجود والإنسان بمجاهداته ورياضاته أو بأفكاره وانظاره يستكشف ذلك المعلوم الفطرىّ وبتدنّساته ومعاصيه يستر ذلك المعلوم الفطرىّ استعمل النّسيان ومن باب المشاكلة قال تعالى (فَنَسِيَهُمْ) مجازا اى تركهم وأسقطهم عن نظره وافاضة رحمته (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تعليل أو بيان ذمّ آخر ووضع المظهر موضع المضمر للتّكرار المطلوب في مقام السّخط ولذا غلظ عليهم بالتّأكيدات الاربعة ؛ انّ واسميّة الجملة وضمير الفصل وتعريف المسند ، وللتّفظيع وللاشارة الى علّة الحكم وأسقط المنافقات تغليبا ولعدم المبالاة بهنّ (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) وضع الظّاهر موضع المضمر لما مرّ والتّصريح بالمنافقات لدفع توهّم عدم كونهنّ محكوما عليهنّ بما ذكر ولمطلوبيّة التّطويل في مقام التّغليظ ولذلك بسط في الاخبار عن حالهم (وَالْكُفَّارَ) عطف للعامّ على الخاصّ ان جعل الكفر اعمّ من النّفاق والّا عطف للمغاير على المغاير (نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) عذابا وايلاما (وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) تالله لقد شدّد عليهم بذكر أوصاف سبعة ؛ وعد النّار واضافتها الى جهنّم والخلود فيها وكفايتها لهم يعنى لا يتصوّر فوقها عقوبة ولعنهم واختصاصهم بالعذاب واتّصاف العذاب بالدّوام (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حال من واحدة من الجمل السّابقة أو متعلّق بواحد من الأفعال السّابقة أو مستأنف خبر مبتدء محذوف اى أنتم مثل الّذين من قبلكم في نفاقهم واستمتاعهم وحبط أعمالهم وخسرانهم فهو التفات من الغيبة الى الخطاب وتفظيع آخر لهم بتشبيههم بمن هو مثل عندهم في الفظاعة ، والتّعنّت تنشيطا للسّامعين الى الاستماع (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) استيناف أو حال من الموصول أو من المستتر في الظّرف والمقصود بيان قوّة أسباب الخوض في الشّهوات فيهم ليكون غاية تفظيع لهم فانّ الخوض في الشّهوات من الفقير أقبح فاذا كانوا مع ضعفهم في أسباب الخوض في الشّهوات مثل السّابقين الّذين كانوا أقوى منهم


في أسباب الخوض في الشّهوات كانوا أقبح منهم (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) نصيبهم من الشّهوات (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ) مثلهم مع انّكم كنتم أضعف منهم وأقلّ مالا وأولادا ، ولمّا لم يعلم من السّابق انّ اللّاحقين استمتعوا مثل السّابقين صريحا وكان التّطويل مناسبا قال (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ) في الشّهوات والملاهي (كَالَّذِي خاضُوا) كالخوض الّذى خاضوا أو كالّذين خاضوا بجعل الّذى بمعنى الّذين لارادة الجنس منه (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) اشارة الى السّابقين وتعريض باللّاحقين بانّهم اولى منهم بحبط الأعمال لضعفهم في أسباب الشّهوات وخوضهم مع ذلك فيها مثلهم ، أو اشارة الى السّابقين واللّاحقين بصرف الخطاب الى محمّد (ص) ، أو اشارة الى اللّاحقين لانّ الكلام فيهم والإتيان باسم الاشارة البعيدة لتأكيد الحكم وتصويرهم باوصافهم الفظيعة وتبعيدهم عن مرتبة التّخاطب كما انّ تكراره في قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) والإتيان بضمير الفصل وتعريف المسند كان لذلك وللحصر (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استفهام إنكارىّ لتقريعهم على اشتغالهم بالملاهي مع وصول خبر السّابقين إليهم (قَوْمِ نُوحٍ) أغرقوا بالطّوفان (وَعادٍ) قوم هود (ع) اقتصر على اسمهم اختصارا اهلكوا بالرّيح (وَثَمُودَ) قوم صالح (ع) (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) ولمّا لم يكن لهم اسم خاصّ قال قوم إبراهيم (ع) اهلكوا بالبعوضة (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) قوم شعيب (ع) اهلكوا بالنار (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أهل المؤتفكات وهم قوم لوط سمّيت قراهم بالمؤتفكات اى المنقلبات لانقلابها بهم بجعل عاليها سافلها كذا في الخبر عن الصّادق (ع) (أَتَتْهُمْ) اى المذكورين كلّهم (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالأحكام الواضحات من احكام الرّسالة أو بالمعجزات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بالإهلاك بما ذكر لإتمامه الحجّة عليهم بالرّسل والبيّنات وتخلّل كان مع لام الجحود للمبالغة في نفى الظّلم عنه تعالى وقد مضى انّه لنفى المبالغة في الظّلم وهو اعمّ من المبالغة في نفى الظّلم لكنه في العرف يستعمل في المبالغة في نفى الظّلم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لانّهم بانصرافهم بعد وضوح الحجّة وتكذيبهم عرضوها للعقاب الدّائم وتقديم المفعول للحصر لتوهّم انّهم بتكذيبهم ظلموا الأنبياء (ع) وتخلّل كان للاشارة الى استمرار الظّلم بحيث كأنّه صار طبيعة لهم (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) هذا في مقابله قوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) (الآية) وغيّر الأسلوب تنشيطا للسّامع واشارة الى ان لا ولاية حقيقة بين الكفّار والمنافقين وما يتراءى بحسب الصّورة انّه ولاية فهو عداوة حقيقة الاخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ، والى انّ المنافقين من حيث نفاقهم ينشأ بعضهم من بعض ، بخلاف المؤمنين فانّهم من حيث ايمانهم ينشأون كلّهم من صاحب الايمان وهو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) وان كان ازدياد ايمانهم ناشئا لبعضهم من بعض (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) في مقابل يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) في مقابل يقبضون أيديهم ، ولمّا كان اليد اعمّ من اليد الصّوريّة والمعنويّة وقبضها اعمّ من القبض عن الإعطاء والقبض عن الابتهال وجذب الخيرات الاخرويّة والتّفضّلات الالهيّة ويعبّر عن ضدّ الاوّل بالإعطاء ، وإيتاء الزّكاة اعمّ من الإعطاء من الأموال والأبدان والقوى الشّهويّة


والغضبيّة والمحرّكة وعن ضدّ الأخير بالصّلوة بمراتبها ، أتى في مقابلة قبض اليد بالصّلوة والزّكاة جميعا افادة لبسط اليد مع تفصيله لإظهار مدائح المؤمنين (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في مقابل نسوا الله وضدّ نسيان الله تذكّر الله ولازمة المقصود منه أطاعته في أوامره ونواهيه وأطاعته في أوامره ونواهيه لا تتصوّر الّا بإطاعة رسوله (ص) فظهر وجه العدول عن يذكرون الله والاختلاف بالمضىّ والمضارعة للاشارة الى انّ النّسيان منهم قد وقع من غير تجدّد ، فانّ تجدّده يستلزم التّذكّر بخلاف الطّاعة من المؤمنين فانّها مستمرّة التّجدّد منهم (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) في مقابل : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ،) وظاهر المقابلة يقتضي ان يقول : انّ المؤمنين هم العادلون ، أو هم المرحومون ، أو يقول هناك : أولئك سيعذّبهم لكن لمّا كان السّورة والآية لتوعيد أهل الوعيد ووعد المؤمنين وكلّ ما ذكر فيها كان لتقريع أهل الوعيد ولزيادة حسرتهم والمناسب لمقام الغضب والوعيد التّسجيل بالوعيد والتّغليظ بالتّأكيد والتّطويل ، وكان النّفاق أصل جملة الشّرور والفسوق ومورث جملة العقوبات وكان نسبة الغضب الى الله بالعرض ونسبة الرّحمة اليه بالّذات ، وكان الناسب لمقام الوعد التّسامح فيه والإتيان بعسى ولعلّ واداة التّسويف ، والايمان وان كان أساس جملة الخيرات لكن قد ينفكّ الخيرات عنه كما قال (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أتى في الاوّل بجملة اسميّة مؤكّدة بالمؤكّدات الاربعة مفيدة للتّسجيل غير مصرّحة بنسبة الغضب اليه ، وفي الثّانى بجملة مصدّرة باسم الاشارة البعيدة تفخيما وإحضارا للاوصاف المذكورة للمؤمنين مختتمة بالجملة الفعليّة المصدّرة بأداة التّسويف المصرّحة بنسبة الرّحمة اليه تعالى (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجز عن إنجاز وعده ووعيده ولا يمنعه منه مانع (حَكِيمٌ) لا يعد الّا على وفق حكمته الّتى تقتضي الإعطاء والمنع بحسب القابليّات (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) في مقابل وعد الله المنافقين (الى آخرها) (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) اى جنّات الاقامة وهي منتهى مراتب الجنان الّتى لا يتجاوز عنها بخلاف سائر مراتبها ، فانّها يتجاوز عنها وهي مقام آل محمّد (ص) واتباعهم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) لمّا كان وعد الخير منبئا عن الرّضا فكأنّه قال : فلهم رضوان من الله ورضوان من الله أكبر من كلّ ذلك ، أو المقصود انّ هذا النّوع من الموعود أكبر من غير التفات الى التّفضيل (ذلِكَ) الرّضوان (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اعلم ، انّ أعلى مقامات السّالكين الى الله هو مقام الرّضا كما سبق ولذا لم يذكره تعالى في الأغلب الّا وعقّبه بما يدلّ على تفخيمه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالجهاد الصّورىّ والقتال بنفسك (وَالْمُنافِقِينَ) بمظاهرك وأوصيائك فانّه لم يقاتل المنافقين ومن هنا علم وجه تأخير المنافقين هنا مع انّ المقام للتّغليظ على المنافقين وذكر الكفّار لمحض بيان مساواة المنافقين لهم لذمّ آخر للمنافقين ، ولذا أخّر الكفّار في الآية السّابقة أو جاهد الكفّار والمنافقين في العالم الكبير وو الصّغير بنفسك أو باوصيائك أو باتباعك المؤمنين ، فانّ المؤمنين أيضا مأمورون بالجهاد مع كفّار وجودهم ومنافقيه بالقتال الصّورىّ والمعنوىّ وبالمحاجّة والمجادلة الحسنة وبالمداراة وحسن العشرة وبإدخالهم تحت سلطنتك وأخذ الجزية والزام الفرائض والحدود على منافقي أمّتك ، فما ورد في الاخبار في تفسير الآية مع اختلافها غير مختلف معنى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) امّا جملة دعائيّة أو ذمّيّة فلا إشكال في عطفها على الإنشاء ولا في عطف ما بعدها عليها أيضا ، أو جملة


خبريّة وحينئذ فالعطف امّا بتوهّم جملة معطوف عليها أو بتقديرها باعتبار المعنى ، فانّ الأمر بالقتال والغلظة مشعر بانّهم لا خير فيهم فكأنّه قال انّهم لا خير فيهم ومأواهم جهنّم والتّعاطف بين غير المتناسبين بحسب اللّفظ والمفهوم المطابقىّ بلحاظ المقصود ، والمعنى الالتزامىّ كثير شائع في كلامهم ، ومن جوّز عطف الإنشاء على الخبر وبالعكس نظر الى ظاهر ما ورد في الكتاب وظاهر ما رأى في كلامهم مع الغفلة عن اللّطائف المندرجة في العطف والقطع الملحوظة للفصحاء في كلامهم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ان كان الاولى ذميّة أو دعائيّة فلا إشكال في العطف وان كانت خبريّة فالعطف بلحاظ ذمّ مستفاد منها (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) قابل حلفهم بالحلف المستفاد من اللّام (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) نزلت في الّذين تحالفوا وتعاهدوا في مكّة بعد ان علموا انّ محمّدا (ص) يريد ان يجعل الخلافة لعلىّ (ع) على ان لا يردّوا هذا الأمر في بنى هاشم أو في الّذين قالوا بغدير خمّ : الا ترون عينيه كأنّهما عينا مجنون ، أو في الّذين تحالفوا على قتله في العقبة بعد رجوعهم من تبوك والكلّ مروىّ (وَما نَقَمُوا) اى ما كافئوا بالعقوبة أو ما كرهوا أو ما أنكروا (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ) مستثنى مفرّغ عن مفعول به عامّ أو علّة عامّة اى ما نقموا منهم لشيء الّا لا غناء الله لانّ الإنسان ليطغى ان رآه استغنى أو ما نقموا منهم شيئا الّا اغناءهم الله (وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) من قبيل قول الشّاعر :

ولا عيب فيهم غير انّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

(فَإِنْ يَتُوبُوا) عن النّفاق ولوازمه (يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) عن التّوبة أو عن الرّسول (ص) (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قد مضى مرارا انّ الولىّ هو النّبىّ (ص) أو خليفته أو المجاز منه بلا واسطة أو بواسطة من جهة تربية القلب وتعليم احكامه والنّصير كلّ واحد منهم من جهة الرّسالة وتربية القالب (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) نزولها في ثعلبة بن حاطب من أصحاب رسول الله (ص) كان محتاجا وسأل رسول الله (ص) ان يغنيه الله فقال له : يا ثعلبة قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه فقال : والّذى بعثك بالحقّ لئن رزقني لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه ، فدعا له فاتّخذ غنما وكثر غنمه حتّى ضاقت بها المدينة فنزل واديا وانقطع عن الجمعة والجماعة وخدمة الرّسول (ص) ، فبعث رسول الله (ص) المصدّق فأبى عن الصدقة وبخل ، لكنّها جارية في كلّ من كان مثله وهم أكثر أهل الأرض (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا) عن عهدهم (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الله ورسوله (ص) (فَأَعْقَبَهُمْ) البخل والتّولّى (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) لا في ألسنتهم وصدورهم فقط ، أو المراد بالقلوب نفوسهم (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) اعلم ، انّ الصّدق والكذب كالحقّ والباطل كما يجريان في الأقوال اللّسانيّة والعلوم النّفسانيّة يجريان في الأفعال والأخلاق والأحوال ، فكما انّ القول اخبار عن الواقع وصدقه باعتبار مطابقة نسبته للواقع وكذبه بعدم مطابقتها له كذلك فعل الإنسان الجاري على جوارحه باعتبار نسبته الى صورته ينبئ عن انّه صادر عن انسانيّته وغايته استكمال انسانيّته ، فكلّما كان هذا الاخبار مطابقا للواقع بمعنى كون الفعل صادرا عن الانسانيّة وراجعا الى استكمال الانسانيّة فالفعل صدق والفاعل صادق ، وكلّما لم يكن هذا الاخبار مطابقا للواقع بمعنى انّ الفعل الجاري


على صورة الإنسان لم يكن صادرا عن الانسانيّة ، بل عن البهيميّة أو السبعيّة أو الشّيطانيّة كان الفعل كذبا وفاعله كاذبا وهكذا الحال في الأخلاق والأحوال ، ويجرى أيضا هذا الاعتبار في الأقوال والعلوم فانّها ان كانت صادرة عن الانسانيّة وراجعة الى استكمالها فهي صادقة بهذا الاعتبار ، وان لم يكن كذلك فهي كاذبة وان كانت صادقة باعتبارها في أنفسها ، والمعتبر عند أهل الله في الصّدق والكذب في الأقوال والعلوم هو اعتبار المبدء والمرجع دون الواقع فقط ، ولذا ورد عنهم (ع): من فسّر القرآن برأيه يعنى بحيثيّة شيطانيّته لا بحيثيّة انسانيّته وأصاب الحقّ فقد أخطأ ، وورد نفى العلم عمّن لم يكن عمله متوجّها الى حيثيّة انسانيّته وآخرته من غير اعتبار مطابقته وعدم مطابقته كما قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فقد نفى العلم عنهم مع إثباته لهم مطابقا لما في نفس الأمر حيث كان الواقع كما علموا ، لكن لمّا لم يكن علمهم متوجّها الى جهة استكمال الانسانيّة نفاه عنهم واثبت الجهل لهم بنفي العلم عنهم ، إذا تقرّر هذا فاعلم ، انّ الإنسان له مراتب ولكلّ مرتبة منها درجات فهو ما دام في مرتبة نفسه فاذا كان في درجة النّفس الامّارة فكلّ ما يصدر عنه فهو كذب ، وإذا ترقّى من هذه الدّرجة ووقع في درجة النّفس اللّوامة فقد يكون ما يصدر عنه صادقا وقد يكون كاذبا ، وإذا ترقّى الى درجة النّفس المطمئنّة ولا يكون هذا التّرقّى الّا إذا تمكّن في مرتبة القلب فكلّ ما يصدر عنه يكون صادقا ، فالمنافق الواقع في درجة النّفس الامّارة لا يكون منه الّا الكذب ويصير الكذب سجيّة له ولذلك أتى بالماضي في قوله بما أخلفوا الله وبالمضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ في الكذب مع تخلّل كان الدّالّ على انّ مدخوله صار سجيّة (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) خفايا أمورهم من خطراتهم وخيالاتهم وأخلاقهم وأحوالهم (وَنَجْواهُمْ) ما يظهر على ألسنتهم بحيث يخفى على غيرهم ، أو المراد بالسّرّ الأخلاق والأحوال الموجودة ومكمونات النّفس الّتى لم توجد بالفعل بعد وبالنّجوى ما ظهر على اللّسان بطريق الخفيّة وما ظهر على النّفوس من الخطرات والخيالات شيطانيّة كانت أو رحمانيّة ، والاستفهام للتّوبيخ والتّقريع (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) من ذكر العامّ بعد الخاصّ تحقيقا للخاصّ وتأكيدا له (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) يعيبون (الْمُطَّوِّعِينَ) المعطين للصّدقات المستحبّة أو المعطين للصّدقات مطلقا المبالغين المعتنين بها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) متعلّق بيلمزون أو بالمطّوّعين أو بهما على سبيل التّنازع وهو امّا خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف ، أو مبتدء خبره فيسخرون أو سخر الله منهم أو قوله استغفر لهم أو قوله ان تستغفر لهم (الآية) أو بدل من قوله من عاهد الله وقوله تعالى الم يعلموا (الى آخر الآية) معترضة (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) الّا قدر تعبهم في التّحصيل والطّلب فيتصدّقون بما يتعبون أنفسهم في تحصيله ، وقد ذكر في نزوله انّ سالم بن عمير الأنصاري جاء بصاع من تمر فقال : يا رسول الله (ص) كنت أجرت نفسي ليلتي بصاعين من تمر فجئت بصاع إليك وتركت صاعا لعيالي ، وذكر في نزوله أيضا انّ عليّا آجر نفسه فأتى بأجرته الى النّبىّ (ص) فلمزه المنافقون (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) استعمال السّخريّة في الحقّ تعالى من باب المشاكلة اللّفظيّة والمشابهة المعنويّة وهي امّا دعائيّة فيكون عطف قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لكونه أيضا دعائيّا أو باعتبار الاخبار اللّازم لذلك الدّعاء كأنّه قال لهم سخط الله ولهم عذاب اليم ، أو خبريّة فلا إشكال في العطف


(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الأمر والنّهى هاهنا للتّسوية غير منظور منهما حقيقة الأمر والنّهى ، ولفظة أو للتّخيير على ما روى انّه (ص) قال في جواب من قال : اما نهاك ربّك عن الاستغفار للمنافقين؟ ـ حين صلّى على ميّت عبد الله بن أبىّ : انّ الله خيّرنى (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وهذا عتاب له بايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، وعتاب المقرّبين تعريضا بمن استحقّ العتاب في الحقيقة تقريب لهم واهانة بالمستحقّين حيث اسقطهم عن درجة الخطاب والعتاب ولذا لم يقل : لم يجب الله لك بل قال لن يغفر الله لهم حيث لم يتوجّه العتاب اليه (ص) والاشكال بانّ استغفاره (ص) مجاب لا محالة لانّ غيره إذا توسّل به الى الله أجابه فكيف إذا استغفر هو لم يجبه ولن يغفر للمستغفر له ؛ مدفوع بانّ المراد المبالغة في عدم استحقاقهم للمغفرة بحيث لو فرض استغفار الرّسول (ص) الّذى لا ينفكّ الاجابة عنه لهم لما غفر لهم ، ومثل هذا كثير في كلامهم حيث يعلّقون نفى الجزاء على امر مستلزم لتحقّق الجزاء مبالغة في عدم تحقّقه ، واستعمال السّبعين لاستعماله كثيرا في معنى الكثرة لكونه من مراتب الاعداد التّامّة كالسّبعة والسّبعمائة ولذا يأتون بالواو بعد السّبعة ويسمّونه وأو الثّمانية ، أو للاشارة الى مراتبة السّبعين مبالغة في عدم استحقاقهم للمغفرة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تدارك لما يتوهّم من عدم قبول مسئلته واستغفاره بانّ عدم المغفرة لهم ليس لعدم استحقاقك للاجابة بل لعدم استحقاقهم للمغفرة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشارة الى ذمّ آخر وعلّة الحكم (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) جواب سؤال عن حالهم أو عن علّة التّغليظ عليهم وعدم مغفرتهم ، وتدارك آخر لتوهّم عدم قبول استغفار الرّسول (ص) وخلاف رسول الله (ص) امّا ظرف لمقعدهم ان كان بمعنى العقب ، أو مفعول له لفرح أو المخلّفون ، أو مقعدهم ، على التّنازع أو على الانفراد (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) يعنى انّهم لغاية شقاوتهم جمعوا بين التّخلّف والفرح به وكراهة الجهاد ومنع غيرهم منه (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) فان كان الحرّ يتّقى فنار جهنّم احقّ ان تتّقى (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) لما اختاروا حرّ الآخرة على حرّ الدّنيا ، والفقه كما مرّ هو ادراك الأغراض والغايات خصوصا الغايات الالهيّة من الأشياء والأقوال لا ادراك المفاهيم من الألفاظ فقط كما ظنّ ، ولذا فسّر بأنّه طلب علم دينىّ يتوسّل به الى علم آخر ، وبعبارة اخرى الفقه هو الإدراك الّذى يحرّك الإنسان من حضيض نفسه الى أوج عقله ومن دنياه الى آخرته ، وتفسيره بالعلم بالمسائل الدّينيّة الفرعيّة عن ادلّتها التّفصيليّة محض مواضعة اصطلاحيّة ، وامّا في الشّريعة فهو باق على معناه وعدم تسمية علم الله والملائكة بالفقه لعدم تصوّر استعداد له تعالى ولا للملائكة حتّى يتصوّر التّرقّى ، بل كلّ ما كان هناك بالإمكان العامّ فهو بالفعل ، وعدم تسمية علوم الأنبياء بالفقه لتبدّل استعدادهم بالفعليّة لا لما قالوا من انّ علومهم ليست من ادلّتها التّفصيليّة والحاصل انّ الاشتداد والتدرّج في طريق الانسانيّة مأخوذ في مفهوم الفقه فكلّما كان الإدراك كذلك كان فقها وما لم يكن كذلك لم يكن فقها ، فلو فرض نبىّ يكون له حالة اشتداد في علمه كان علمه من هذه الجهة فقها (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) جواب شرط متوهّم أو مقدّر والأمر امّا على حقيقته والمراد منه الأمر بالتّوبة سواء كان الضّحك والبكاء على حقيقتهما أو مجازين عن السّرور والغمّ ، وحينئذ فذكر الضّحك للاشارة الى انّ الإنسان لا ينفكّ عن ضحك ما فليقلّ التّائب منه ، أو مجاز عن تحتّم ما يئول اليه أمرهم فهو أمر في معنى


والاخبار ، وذكر الضّحك للاشارة الى ما هم عليه في بقيّة عمرهم ولذا قدّمه وقيّده بالقلّة (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تداركا لاعمالهم السّيّئة على المعنى الاوّل وعقوبة عليها على المعنى الثّانى ، وقوله بما كانوا امّا متعلّق بجزاء أو بالأمر استقلالا أو على سبيل التّنازع (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) من غزو الرّوم (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) من المتخلّفين بلا عذر بان أبقاهم الله الى زمان رجوعك (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) الى غزو آخر (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) اخبار في معنى النّهى للاشعار بانّ سجيّتهم مقتضية لعدم الخروج (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعنى قبل ذلك والمراد القعود عن غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا) امر للتّهكّم (مَعَ الْخالِفِينَ) يعنى النّساء والصّبيان فانّكم صرتم مثلهم بتخلّفكم اوّلا فليس لكم شأنيّة الجهاد وقابليّة المعيّة مع المجاهدين (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) فانّ صلوتك سكن لهم وليس لهم استعداد صلوتك والمراد صلوة الأموات أو الاعمّ (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) للدّعاء عليه (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) نقل انّه (ص) عاد عبد الله بن ابىّ واستغفر له وشيّع جنازته وصلّى عليه وقام على قبره ؛ كلّ ذلك باستدعاء ابنه الّذى كان مؤمنا خالصا فأنكر عمر عليه (ص) وقال : أو لم ينهك ربّك عن ذلك؟ ـ وكره ذلك رسول الله (ص) وأجابه بما ظهر منه الكراهة (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) لا (أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) قد مرّ تفسيره ، وتكريره للتّأكيد ، لانّ كثرة الأموال والأولاد في انظار أهل الحسّ معجب لا محالة فالنّهى عنه مطلوب فيه التّأكيد ولانّ التّكرار مطلوب في مقام التّشديد (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) لعذر وهو ذمّ آخر لهم حيث انّهم لدناءتهم وتعلّق قلوبهم بدنياهم وزخارفها كالنّساء يستأذنوك للقعود ولذا قال (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جمع الخالفة يعنى انّهم لدناءتهم رضوا بان يعدّوا في النّساء ، واستعمال الخوالف في النّساء والمخلّفون في الرّجال لاستعدادهم للخروج وعدم استعدادهنّ له (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حيث لا يدركون إدراكا يؤدّى بهم الى الأغراض والغايات وان كانوا في غاية الفطانة والمداقّة في أمور الدّنيا والإدراكات الخياليّة بحيث يعدّون في انظار أهل الحسّ علماء حكماء ، والّا فليعلموا الغرض من الجهاد وانّ فيه خير الدّنيا والآخرة ، باستكمال النّفس في الدّنيا بالصّفات الحسنة من الشّجاعة والسّخاوة وعدم الاعتناء بالدّنيا وحيوتها ، وباستجماع الغنائم مع ما وعدوا من أجور الآخرة ، وليس في التّخلّف الّا الاتّصاف بصفات النّساء والرّكون الى الدّنيا وقطع الطّمع عن العقبى ولمّا ذمّ الأموال والأولاد توهّم انّها مذمومة على كلّ حال ، والحال انّ كثرة الأموال والأولاد تكون في المؤمنين ولمّا ذمّ القاعدين عن الجهاد توهّم انّه في المؤمنين يكون من يكره الخروج ويحبّ القعود فاستدرك ذلك بقوله (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الّذين هم أولوا الطّول الحقيقىّ (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ) العظماء (بِأَمْوالِهِمْ) خاصّة (الْخَيْراتُ) النّفسانيّة والبدنيّة من استكمال النّفوس بالخصائل وإخراجها من الرّذائل واستجماع الغنيمة مع النّصرة والطّول مع الأولاد والصّيت والثّناء (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)


تكرار اسم الاشارة للتمكين وتصويرهم باوصافهم المذكورة ليكون كالعلّة ولاختصاص كلّ من المسندين على حياله (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) جواب لسؤال عن حالهم و (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وكأنّه كان في الأصل بمعنى بالغ في إبداء العذر لأمر قصّر فيه ، أو من اعتذر إذا بالغ في إبداء العذر ولم يكن المبالغة في إبداء العذر الّا لأمر يتراءى التّقصير فيه وقرء المعذّرون من باب الأفعال بمعنى المعذّرون من باب التّفعيل (مِنَ الْأَعْرابِ) الاعراب الّذين لا يسكنون العمران ويعيشون في البادية جمع لا واحد له كما قيل ، أو جمع للعرب خصّص ببعض افراده والعرب بالضّمّ وبالتّحريك الّذين يسكنون العمران أو هو اعمّ (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في القعود حيث لا يتفقّهون معنى الايمان وانّه يقتضي التّسليم (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في البيعة الاسلاميّة حيث شرط عليهم ان لا يتخلّفوا قول الرّسول وان يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، فقبلوه ولم يطيعوا الرّسول (ص) بعد في امره ولم يوافقوا المسلمين فيما عليهم (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) لا الّذين بقوا على إسلامهم وتصديق الرّسول (ص) كبعض الاعراب حيث لم يكن استيذانهم وتخلّفهم لانكار الرّسالة بل لعدم تفقّه الغرض من الإسلام وكبعض القاعدين لطلب الرّاحة وعدم تحمّل التّعب لا لانكار الرّسالة (عَذابٌ أَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) جواب لسؤال اقتضاه السّابق كأنّه قيل : هل على المعذورين حرج في التّخلّف؟ ـ فانّ التّشديد والتّغليظ على المتخلّفين وكثرة ذمّهم يقتضي التّرديد في حال المعذورين والسّؤال عنها (وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) في تخلّفهم عن الغزو (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) خلصوا أو أظهروا خير غيرهم ورغّبوه فيه خالصا مترحّما (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) في موضع التّعليل يعنى انّ المتخلّف لعذر بشرط النّصح مجاهد ومحسن ، وما على المحسنين من سبيل للّوم والّذمّ والعتاب في الدّنيا (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن أساء فكيف بمن أحسن (رَحِيمٌ) فلا سبيل عليهم بالعقوبة في الآخرة (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) حيث يجدون ما ينفقون ويقوون في أبدانهم لكن لا طاقة لهم بالذّهاب معك راجلين ولا قدرة لهم على الحمولة ويسئلونك الحمولة (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) الدّمع واقع موقع التّميز والتّميز قد يجرّ بمن وقد ينصب ، أو في الكلام قلب والأصل والدّمع يفيض من أعينهم قلب للمبالغة في كثرة الدّمع ، أو من للتّعليل والمعنى على المبالغة كأنّ أعينهم من كثرة الدّمع تذاب وتفيض (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) بدنا ومالا (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) التّكرار لمطلوبيّة التّطويل والتّأكيد والتّكرير في مقام التّغليظ (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قد أخذ في مصداق العلم الاشتداد والتّأدية الى علم آخر اخروىّ كما أخذ ذلك في مفهوم الفقه ولذا يثبت وينفى عن موضوع واحد باعتبار مفهومه العرفىّ ومصداقه الحقيقىّ ، فالعلم والفقه مختلفان مفهوما متّحدان مصداقا فهذا أيضا تكرار لما ذكر.


الجزء الحادي عشر

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) يبالغون في إيتاء العذر إليكم وابدائه لكم من غير حصول عذر لهم بقرينة الرّدّ عليهم وان كان الاعتذار اعمّ من إبداء العذر من غير عذر أو مع عذر وهو اخبار بما سيقع (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من غزوتكم هذه وهي غزوة تبوك (قُلْ) في جوابهم بعد رجوعك واعتذارهم (لا تَعْتَذِرُوا) لا تبدوا العذر من غير حقيقة (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) اى لن نصدّقكم (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) ومنه اعتذاركم هذا بالكواذب ولمّا كان اعتذار هم للتّدليس على النّبىّ (ص) وأصحابه جميعا ضمّ أصحابه الى نفسه وأتى بلفظ المتكلّم مع الغير (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وضع الظّاهر موضع المضمر للتّهديد وانّه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم تأكيدا لما قبله (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) اخبار عنهم قبل وقوعه أيضا (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) ولا تخاطبوهم بما وقع منهم ولا تعاتبوهم بل تكونوا توافقونهم وترافقوهم كسائر المؤمنين (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) لا عن خطابهم وعتابهم فقط بل عن معاشرتهم وموافقتهم (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) بحسب أصل ذواتهم فلا يقبلون الطّهارة حتّى يؤذن لكم في عتابهم أو في مرافقتهم باحتمال إصلاحهم (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بدل من الاوّل نحو بدل الاشتمال ، أو تأكيد نحو التّأكيد المعنوىّ حيث انّ الغرض من الاعراض الاعراض عن المعاتبة والملامة المقارن للرّضا غالبا ، ولذا عقّب الأمر بالاعراض بقوله انّهم رجس للاشارة الى انّ الأمر ليس لما قصدوه من الرّضا وترك السّخط ، بل لعدم شأنيّتهم للمعاتبة والملامة (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) نهى عن الرّضا بألطف وجه وأبلغه كأنّه قال : فان ترضوا كان رضاكم مخالفا لرضا الله والايمان يقتضي ان يكون رضاكم تبعا لرضا الله فلا ترضوا عنهم لانّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ، ووضع الظّاهر موضع المضمر اشارة الى ذمّ آخر واشعارا بعلّة الحكم (الْأَعْرابُ) الاعراب في أهل البد وكالعرب بالضّمّ والتّحريك في أهل البلاد كما سبق لكنّهما قد يعتبران في العالم الصّغير فيطلق الاعراب على الواقف في تيه النّفس الامّارة والعرب على السّاكن في عمران النّفس المطمئنّة ومدينة القلب ، ولذا سمّوا في الاخبار أعداء أهل البيت اعرابيّين وان كانوا قرشيّين أو مكّيّين أو مدنيّين ؛ وسمّوا شيعتهم عربيّين وان كانوا من أهل البد وو أقصى بلاد الهند (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) لقسوة قلوبهم وغلظة نفوسهم وعدم سماعهم لما يقرّبهم الى الحقّ ويرغّبهم في الآخرة وعدم تفطّنهم بما خلقوا له (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) لعدم سماعهم لها وعدم تفطّنهم لمقصود المسموع وعدم اقتضاء حالهم لحفظ ما يتفطّنون به ، والمراد بالحدود امّا الأحكام من العبادات والمعاملات أو الغايات المقصودة من احكامه وآدابه وقصصه ومواعظه (وَاللهُ عَلِيمٌ


حَكِيمٌ) عطف على جملة (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) والجامع بين المتعاطفين هو تقابل مسنديهما فانّ المراد بالحكمة هنا هو الحكمة العمليّة الّتى هي الإتقان في العمل والمداقّة فيه المستلزمة للمداقّة في العلم ويعبّر عنها بالفارسيّة : به «خورده كارى ، وخورده بيني» والكفر والنّفاق ناش عن عدم المداقّة في العلم والعمل فبين ملزوم الكفر والحكمة تقابل السّلب والإيجاب وهو الجامع ، وبين العلم وعدمه أيضا كذلك ، والمعنى انّ الاعراب في طرف والله ومظاهره في طرف آخر ، فبينهما مباينة تامّة فلا يتفضّل الله عليهم ولا يتوجّهون اليه والمراد بالاعراب ظاهرا ما عرفت وتأويلا منافقوا الامّة فقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ذمّ آخر لهم حيث يشير الى بعدهم عن الله وكان الموافق تأخير الكفر والنّفاق أو تقديم الحكمة ليكون المتعاطفان على ترتيب واحد ، لكن لمّا كان الكفر والنّفاق سببا للجهل الخاصّ المأخوذ في المعطوف عليه وان كانا مسبّبين عن الجهل المطلق ، والحكمة بهذا المعنى مسبّبة عن العلم المطلق المأخوذ في المعطوف ، عكس التّرتيب مراعاة للترتيب بين مسندي كلّ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) في الجهاد وعلى فقراء المسلمين من الحقوق المفروضة أو الغير المفروضة (مَغْرَماً) خسرانا بلا عوض لعدم اعتقاده بالله وبالآخرة وبالأجر والعوض من الله (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) الحوادث المقلّبة عليكم الأمور ، سمّيت دوائر لدورانها على البشر لكن استعمالها فيما فيه شرّ (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) اخبار عن حالهم الّتى هم عليها في الآخرة لكن ادّاه بصورة الواقع لتحقّق وقوعه ، أو عن حالهم الّتى هم عليها في الدّنيا اشارة الى غرور الشّيطان ودواعي النّفس الّتى كلّها مهلكات ، أو دعاء عليهم ولمّا لم ينفكّ دعاء الله عن تحقّق المدعوّ به فهو مستلزم للأخبار والاضافة الى السّوء هنا دون الاوّل لحرمة المؤمنين واهانة المنافقين (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) والجامع هاهنا هو لازم المعطوف عليه ومتعلّق المعطوف المقدّر كأنّه قال : ومن الاعراب من يتّخذ ما ينفق مغرما فيقول قد وقعت في محذور مع محمّد (ص) ويتربّص بكم الدّوائر فيضمر هلاككم وخلاصه والله سميع لقوله عليم بنيّته وهو تهديد للأعراب وتسلية للمؤمنين (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) لمّا كان قوله الاعراب اشدّ كفرا مقدّمة للتّفصيل الّذى بعده حكم فيه على الجنس للاشعار بانّه سجيّتهم ولازمهم ، ليكون مذمومهم اشدّ ذمّا وممدوحهم أبلغ مدحا ، وكرّر لفظ الاعراب ليكون تصويرا لهم بما وصفوا به من السّجيّة الخبيثة ليكون في الّذمّ والمدح أبلغ (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) سبب دعواته لانّه (ص) كان يدعو للمصدّق بحسب الأمر الالهىّ بقوله: اللهمّ صلّ عليه (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) لمّا صار المقام مظنّة السّؤال عن انّها قربة أم لا؟ وهل يكون سببا لصلوات الرّسول (ص)؟ وهل يجاب الرّسول (ص) في حقّهم أم لا؟ أتى بالجملة المذكورة مقطوعة عن سابقها مؤكّدة مصدّرة بأداة الاستفتاح (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) تصديق بسببيّة إنفاقهم لدعاء الرّسول (ص) واجابة الله له (ص) في حقّهم ، والسّين امّا للتّأكيد أو للتّسويف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لتأكيد الوعد وتحقيقه (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) عطف على من يؤمن بالله اى ومن الاعراب السّابقون فضلا عن كون من يؤمن بالله منهم وعلى هذا فينبغي ان يراد بالاعراب الواقف في بيداء النّفس لا أهل البد وفقط ، حتّى يصحّ كون السّابقين بلام الاستغراق منهم ويكون الآية حينئذ


اشارة الى انّ من كان في تيه النّفس لا ينبغي ان ينظر اليه نظر الحقارة ، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم:

هيچ كافر را بخوارى منگريد

كه مسلمان مردنش باشد اميد

والتّوصيف للتّأكيد ورفع توهّم ارادة السّبق في صورة الإسلام أو الهجرة أو الاحتشام أو الجنود أو الغزو أو القتال فقط ، وللاشارة الى ارادة السّبق في السّلوك الى الله وفي مراتب عبوديّته فانّه السّبق حقيقة أو السّابقون الاوّلون مبتدء وخبر فيكون من عطف الجملة ، والمعنى انّ السّابقين هم الاوّلون في درجات القرب أو مبتدء خبره من المهاجرين أو رضى الله عنهم فيكون أيضا من عطف الجملة والتّوصيف بالاوّلون لما ذكر (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) الّذين هاجروا من مكّة الى المدينة لمحض خدمة الرّسول (ص) أو من مطلق أو أوطانهم إليها (وَالْأَنْصارِ) الّذين نصروه بعد الهجرة ، وقد ورد في الخبر ، انّ المهاجر من هجر السّيّئات ، وفي خبر : لا يقع اسم الهجرة الّا بمعرفة الحجّة ، وعلى هذا فالمراد بالمهاجر من هجر دار نفسه المشركة الى مدينة الرّسول الّتى هي القلب ، ولمّا كان الزّمان منطويا في مكان النّفس والقلب فلا اعتناء بالهجر المكانىّ ولا بسبقه الزّمانىّ فلا يلزم ان يكون كلّ مهاجر صحابىّ بمحض الهجرة المكانيّة وسبقه فيها مهاجرا فضلا عن ان يكون سابقا في الهجرة ، والمراد بالأنصار السّاكنون في مدينة القلب المتوجّهون الى عمران النّفس المطمئنّة واللّوامة المبلّغون النّاشرون احكام نبىّ القلب الى أهل بدو النّفس الامّارة وعمران النّفس المطمئنّة واللّوامة (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) عطف على السّابقون أو على الاوّلون أو على المهاجرين أو مبتدء وخبر والجملة عطف على السّابق والإحسان ضدّ الاساءة قد يعتبر بالنّسبة الى خارج وجود الفاعل فيقال أحسن الى الخلق أو الى زيد وقد يعتبر بالنّسبة الى ماله من الحال والفعل فيحذف المفعول فيقال : أحسن زيدا وهو محسن بمعنى صار في حاله أو فعله ذا حسن والحسن الحقيقىّ قد مرّ مرارا انّه الولاية ، وكلّ حال أو فعل ينسب إليها يكون حسنا وان لم ير ظاهره حسنا ، وكلّ ما لم يكن منسوبا إليها فهو قبيح وان كان ظاهره حسنا ، والمراد بالإحسان هنا هو جعل الحال والفعل متّصلا بالنّبوّة والولاية والمعنى والّذين اتّبعوهم بإسلام وايمان (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) قد مضى كيفيّة رضوان الله ورضا العباد في سورة البقرة في بيان توّابيّته تعالى (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) خبر مقدّم (مُنافِقُونَ) مبتدء مؤخّر والجملة عطف على جملة من الاعراب من يتّخذ والمعنى من الاعراب من دخل في الإسلام مكرها ويتّخذ ما ينفق (الى الآخر) ومنهم من دخل طوعا لكنّه أخذ الإسلام بهوى النّفس وأشار اليه بقوله ممّن حولكم فانّه يدلّ على انّه يتملّق لكم ويرضى عنكم أو ممّن حولكم مبتدء ومن الاعراب خبره ومنافقون خبر بعد خبر أو مستأنف أو حال بتقدير مبتدء ، أو منافقون خبر ومن الاعراب حال (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على ممّن حولكم أو على من الاعراب أو مبتدء وما بعده خبره والجملة عطف على سابقها (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) تمرّنوا عليه واعتادوه مستأنف أو خبر من أهل المدينة على جواز قيام من التّبعيضيّة مقام الاسم أو حال بتقدير قد (لا تَعْلَمُهُمْ) استيناف أو حال أو خبر وهو اخبار للمؤمنين بحال المنافقين بايّاك


أعنى واسمعي يا جارة ، حتّى يكونوا على حذر ممّن يحتملون نفاقه وأعلام لهم بمهارتهم في نفاقهم (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) خبر أو مستأنف أو حال متداخلة أو مترادفة (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرّة على كفرهم ومرّة على اظهارهم الإسلام نفاقا أو مرّة بنزعهم عن آمالهم ومتمنيّاتهم ومرّة بمشاهدة ما اعدّ لهم في الآخرة (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) في القيامة (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) عطف على مردوا أو على منافقون أو على من الاعراب أو على من يؤمن بالله أو آخرون مبتدء واعترفوا خبره والجملة عطف على سابقتها (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) نزولها في ابى لبابة بن عبد المنذر حين شاوره بنو قريظة في النّزول على حكم سعد بن معاذ وقد مضى عند قوله (لا تَخُونُوا اللهَ) من سورة الأنفال لكن معناها عامّ في كلّ مؤمن أحدث ذنبا في ايمانه واعترف به (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عسى من الله واجب وانّما يأتى تعالى شأنه بأدوات التّرجّى والتّسويف جريا على عادة الملوك والأكابر في مواعيدهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد ورد انّ وحشيّا منهم وورد أيضا انّهم قوم اجترحوا ذنوبا مثل قتل حمزة وجعفر الطّيّار ثمّ تابوا وذكر أيضا انّ من قتل مؤمنا لم يوفّق للتّوبة (خُذْ) بنفسك أو بعمّالك وهو جواب لما ينبغي ان يسأل عنه محمّد (ص) كأنّه قال : فما افعل بالمنافقين والّذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا؟ فقال تعالى : خذ (مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) والأمر هنا للوجوب كما ورد انّها وردت في فرض الزّكاة وقد نزلت في شهر رمضان وامر (ص) مناديه ان ينادى في النّاس بفرض الزّكاة ، ومنه يعلم انّ وجوب الأخذ عليه يستلزم وجوب الإعطاء عليهم ، وهل يجب عليهم الإيصال الى يده أو يد نائبه كما يستفاد ذلك أيضا من وجوب الأخذ عليه ، وورد بذلك الاخبار وافتى به بعضهم أو لا يجب بل لهم الاختيار في الإيصال اليه (ص) والإعطاء الى من شاؤا من المستحقّين؟ والحقّ ان ليس لهم الإعطاء الّا الى الرّسول (ص) أو نوّابه وخلفائه ، أو من أذنوا لهم من المستحقّين والتّفصيل موكول الى الكتب الفقهيّة (تُطَهِّرُهُمْ) صفة لصدقة أو مستأنف وهو امّا خطاب له (ص) أو مسند الى ضمير الصّدقة ، وعلى الاوّل يكون المجرور في قوله (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) متنازعا فيه ، والمراد بالتّزكية هنا الإنماء في المال والبركة لا التّطهير ليكون تأسيسا واشارة الى انّ الصّدقة توجب البركة في المال ليكون ترغيبا لهم فيها (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) وادع لهم بطلب الرّحمة عليهم حين الأخذ أو بلفظ الصّلوة كما ورد انّه إذا أتى النّبىّ (ص) قوم بصدقتهم قال : اللهمّ صلّ عليهم ، أو مطلقا حيث استحقّوا بتزكية المال دعاءك حين التّصدّق وبعده بأنواع الدّعاء للدّنيا والآخرة (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) سبب سكونهم واطمينانهم ونكرّ السّكن للاشارة الى انّه نوع سوى ما يعرفه النّاس ، فانّ الزّوج سكن والمال والمسكن والأولاد كلّها سكن وكذا ذكر الله سكن لكن كلّها لا يخلو عن نوع اضطراب ومداخلة للشّيطان بخلاف توجّهه (ص) وعنايته ودعائه ، فانّه يفرّ منه الشّيطان ولا يبقى له مداخلة فلا يبقى للسّاكن شيء من الاضطراب ، مثل السّكينة القلبيّة النّازلة من الله في قلب المؤمن (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف على مدخول انّ أو على انّ مع اسمها وخبرها وعلى كلا التّقديرين يستفاد منه التّعليل (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) ترغيب لهم في التّصدّق وذكر التّوبة لمشاركتها للصّدقة في قبوله تعالى على أيدي خلفائه ولانّها مقدّمة للصّدقة ولذا قدّمها فانّ من لم يتب الى الله لا يمكنه التّصدّق حقيقة. اعلم ، انّ التّوبة هي رجوع الشّخص عمّا لا ينبغي


الى الله سواء كان الرّجوع من جهة الباطن الى مظهر الله الباطنىّ الّذى هو القلب ، أو من جهة الظّاهر الى مظهره الّذى هو النّبىّ (ص) أو الامام (ع) أو خلفاؤهما ، ولهذا الرّجوع وقبول التّوبة بهذا المعنى اعمال ومواثيق مقرّرة كانت جارية بينهم من لدن آدم (ع) ، وان كانوا لشرافتها والضّنّة بها كتموها من غير أهلها ومحوا أثرها من صدور من اطّلع عليها ورجوع عنها لئلّا تبتذل كسائر رسوم الملّة ، والمستعمل في الكتاب والسّنّة في الأغلب هو التّوبة بهذا المعنى والقابل لهذه التّوبة هو النّبىّ (ص) أو خليفته كما انّ الآخذ للصّدقة أيضا هو النّبىّ (ص) أو خليفته (ع) ، لكنّه لمّا كان مظهرا لله وفانيا ببشريّته فيه خصوصا وقت قبول التّوبة وأخذ الصّدقة نسب قبول التّوبة وأخذ الصّدقة الى نفسه بطريق الحصر بمعنى عدم انفراد الغير ولا مشاركته له تعالى فيه ، هذا إذا كان الآخذ للصّدقة والقابل للتّوبة خلفاءه تعالى ، وامّا إذا كان الآخذ للصّدقة غيرهم كالفقراء السّائلين الآخذين للصّدقات المندوبة أو المفروضة فالأخذ وان لم يكن الهيّا لكنّ المتصدّق بنيّته الالهيّة الّتى هي شرط في اطلاق اسم الصّدقة على ما يعطى يصير الهيّا ومظهرا لله وبصيرورته مظهرا لله يجذب اللّطيفة الالهيّة في الآخذ وان لم يصر الآخذ شاعرا به ، ولذا ورد تقبيل يد الامام أو الآخذ أو السّائل وتقبيل المعطى يد نفسه وتقبيل الخير بعد الرّدّ من يد السّائل ووجه الكلّ قد علم ممّا ذكر (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير المراجعة على العباد بالعفو والتّوفيق وقبول توبتهم (الرَّحِيمُ) للعباد وقد مضى تحقيق التّوبة ومعنى توّابيّته في اوّل البقرة في مثل هذه الآية (وَقُلِ اعْمَلُوا) تهديد بعد ترغيب (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) الخالصون للايمان المتحقّقون به وهم خلفاء الله بعد رسوله (ص) والّا فأكثر المؤمنين النّاقصين لا اطّلاع لهم على اعمال الغير ، ولذلك ورد بطريق الحصر انّ المراد بالمؤمنون علىّ بن ابى طالب (ع) أو الائمّة (ع) ، فانّ اعمال العباد تعرض صباحا ومساء في الدّنيا على من جعله الله شهيدا على الخلق فاحذروا من ان يعرض منكم ما إذا شوهد يسؤكم وما إذا عرض على إمامكم يسؤه كما في الاخبار ، والسّين للتّأكيد لا للتّسويف أو للتّسويف بتضمين يرى معنى يظهر رؤية الله لا عمالهم (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجازيكم عليه ان خيرا فخير وان شرّا فشرّ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) عطف على آخرون اعترفوا أو على ما عطف عليه آخرون اعترفوا ، ولمّا كان نزول قوله آخرون اعترفوا في ابى لبابة بن عبد المنذر ، وكان بعد قبول توبته تصدّق بتمام ماله وابى رسول الله (ص) عن أخذ تمام ماله ، وقال يكفيك الثّلث ان تتصّدق به ، وكان نزول قوله خذ من أموالهم صدقة في أخذ صدقته جاء به معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه والارجاء التّأخير ، يعنى انّهم مؤخّرون من غير تنجيز بالمغفرة أو العذاب لكونهم واقعين بعد بين الملكوت العليا الّتى هي دار الرّحمة والملكوت السّفلى الّتى هي دار العذاب من غير حكم عليهم بكونهم من أهل احدى الملكوتين. اعلم ، انّ الإنسان بعد البلوغ امّا قادر بحسب قوّته العمّالة والعلّامة على طلب الدّين والاستشعار بخيره وشرّه الانسانيّين اولا ، والثّانى هو المستضعف والاوّل امّا متّصل بنبىّ (ص) أو امام (ع) بالبيعة العامّة أو الخاصّة اولا ، والثّانى امّا منكر لله أو لنبىّ وقته وهو الكافر المحكوم عليه بالعذاب ، أو متحيّر وافق وهو المرجى لأمر الله ، والاوّل امّا موافق اتّصاله ولسانه لجنانه بحسب قوّته العلّامة أو لا ، والثّانى هو المنافق المحكوم عليه بالعذاب سواء كان دخوله وبيعته اكراها أو طوعا ، والاوّل امّا موافق عمله لعلمه ولا يخالف بحسب قوّته العمّالة تبعيّته وعهده اولا ، والاوّل هو المؤمن المحكوم عليه بالرّحمة والثّانى هو الخالط للعمل السّيّئ بالعمل الصّالح الّذى على الله ان يعفو عنه ، فآخرون مرجون


(لِأَمْرِ اللهِ) اى لحكمه الّذى هو من عالم امره (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) حين خروجهم من الدّنيا بلحوقهم بدار العذاب بواسطة غلبة الحكم السّفلىّ عليهم (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) بلحوقهم بدار الرّحمة بواسطة غلبة الحكم العلوىّ عليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) باستعدادهم واستحقاقهم لكلّ من التّوبة والعذاب (حَكِيمٌ) لطيف في علمه لا يعزب عنه قدر شعر وشعيرة من استعدادهم واستحقاقهم متقن لطيف في عمله يجازى كلا بحسب عمله ولو كان بقدر شعيرة وشعرة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) عطف على منافقون أو كلّ من معطوفيه أو على مرجون من قبيل عطف أوصاف موصوف واحد ، أو عطف المتغايرين أو مبتدء خبر محذوف أو خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف ، روى انّ بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا وصلّى فيه رسول الله (ص) فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، فبنوا مسجد الضّرار وأرادوا ان يحتالوا بذلك فيفرّقوا المؤمنين ويوقعوا الشّكّ في قلوبهم ، بان يدعوا أبا عامر الرّاهب من الشّام ليعظهم ويذكر وهن دين الإسلام ليشكّ المسلمون ويضطربوا في دينهم ، فأخبر الله تعالى نبيّه (ص) بذلك ، فدعوا رسول الله (ص) ليصلّى في مسجدهم فأبى واعتذر بأنّى على جناح سفر حين ارادة غزوة تبوك ، وبعد ما رجع من تبوك امر بهدمه وإحراقه وجعله كناسة يلقى فيه الجيف وقصّته مذكورة بتفصيلها في المفصّلات وما في الصّافى يكفى للتّبصّر (ضِراراً وَكُفْراً) لحصول الكفر أو لتحصيل ازدياد الكفر (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً) ترقّبا (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنى أبا عامر الرّاهب ، نقل انّه كان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس المسوح فلمّا قدم النّبىّ (ص) المدينة حسده وحزّب عليه ثمّ هرب بعد فتح مكّة وخرج الى الرّوم وتنصّر ، وانّه كان يقاتل رسول الله (ص) في غزواته الى ان هرب الى الشّام ليأتى من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله (ص) ومات بقنّسرين (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) الّا الارادة الحسنى أو العاقبة الحسنى أو الخصلة الحسنى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) اى للصّلوة فانّ القيام لكثرة استعماله في القيام للصّلوة يتبادر منه الصّلوة (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) اعلم ، انّه كما انّ للبناء سقفا وأساسا ومقرّا يقوم الأساس عليه كذلك لكلّ عمل صورة وأساس ومقرّ يقوم الأساس عليه ، فسقف العمل هو صورته الّتى هو عليها ، وأساسه هو نيّة العامل ، ومقرّه هو شأنه الّذى يقتضي تلك النّيّة ، فبالنّيّة يوجد العمل ومن شأن العامل ينشأ النّيّة وعليه تستقرّ والعمل مبتن على النّية والنّيّة قائمة على شاكلة العامل (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) والعمل ظهور النّيّة والنّيّة ظهور الشّاكلة لكن يخفى ذلك الظّهور على العميان مع ظهوره لأصحاب البصائر ، والعلم بمبنى العمل أحد وجوه العلم بتأويل القرآن ، فمن كان شاكلته التّقوى من مقتضيات النّفس صارت نيّته الهيّة ومن كان كذلك كان عمله مبتنيا على نيّة الهيّة قائمة على شاكلة التّقوى ، وإذا كان العمل مبتنيا على نيّة الهيّة كان العمل الهيّا لظهور تلك النّيّة في العمل ولذلك أو لكون قلب عاملها الواقف لها بيت الله يسمّى المساجد بيوت الله مع شركتها لسائر الابنية في موادّها وصورها وبقاعها وعامل بنائها ، وقد مضى تحقيق معنى المسجد في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ)(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من ايّام تأسيسها يعنى مسجد قبا (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) للصّلوة من مسجد اسّس على النّفاق لانّه بمظهريّته لنيّة المتّقى مجانس لك (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الارجاس الباطنة والأنجاس الظّاهرة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) روى


عن النّبىّ (ص) انّه قال لأهل قبا : ماذا تفعلون في طهركم فانّ الله قد أحسن عليكم الثّناء؟ ـ قالوا نغسل اثر الغائط ، قال : فأنزل الله فيكم : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) بنيان وجوده (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) من الله عطف على محذوف مستفاد من سابقه والهمزة والفاء على التّقديم والتّأخير أو على تقدير المعطوف عليه بينهما تقديره أمسجد اسّس على التّقوى خير أم مسجد اسّس على النّفاق فامّن اسّس بنيانه أو فمن اسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ) الجرف جانب الوادي الّذى تجرفه السّيول وتذهب بتراب أصله فتنشقّ والشّفا شفيره (هارٍ) أصله هائر وهور وهو المنشقّ المشرف على السّقوط (فَانْهارَ بِهِ) اسقطه اى البنيان أو من اسّس البنيان (فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال فمن أسّس بنيانه على شفير جهنّم ظالم والله لا يهدى القوم الظّالمين. اعلم ، انّ النّفس الانسانيّة في اوّل الخلقة ليس لها الّا فعليّة الجماد ثمّ تتدرّج الى فعليّة النّبات ثمّ الى فعليّة مراتب الحيوان من مراتب الخراطين الى مراتب البهيميّة والسّبعيّة ، ثمّ الى فعليّة الشّيطانيّة ، ثمّ الى فعليّة الانسانيّة في الجملة ، وهي مقام تميزها للخير والشّرّ العقليّين في الجملة في اوّل مراتب البلوغ والتّكليف وحينئذ تقع برزخا بين عالم الجنّة والشّياطين وفيه جهنّم ونيرانها ، وبين عالم الملائكة بمراتبها وفيه الجنان ونعيمها وروحها وريحانها ، والإنسان في هذا المقام ليس الّا قابلا صرفا يتصرّف فيه الشّياطين ويجذبونه الى السّفل والى عالمهم ويتصرّف فيه الملائكة ويجذبونه الى العلو والى عالمهم وله القوّة والاستعداد للسير على تمام مراتب السّفل والاتّصاف بها وعلى تمام مراتب العلو والاتّصاف بها ، فان ساعده التّوفيق وأدرك ببصيرته شروره وانّ جذب الشّياطين له ليس الّا الى دار الشّرور واتّقى ذلك ولم ينصرف الى ما اقتضيه القوّة الشّيطانيّة والسّبعيّة والبهيميّة ، بل كان على حذر من ذلك وقام في مقام الانسانيّة متدرّجا في مراتبها فقد اسّس دار وجوده وتعيّشه على تقوى من لوازم سخط الله وهي مقتضيات القوى المذكورة ، وان أدركه خذلان الله العياذ بالله ، وانصرف عن مقام الانسانيّة وانجذب بوسوسة الشّيطان الى مقام القوى المذكورة وهو أقرب مقاماته الى العالم السّفلىّ الّذى فيه جهنّم وقام في هذا المقام الّذى هو أضعف مراتبه وأو هنها فقد اسّس دار وجوده وتعيّشه على أو هن مقاماته الّذى إذا انهدم سقط في جهنّم (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) يعنى أهل مسجد الضّرار (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) سبب شكّ (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) فلا يبقى منها اثر حتّى تتّصف بالرّيبة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعنى انّ بنيانهم سبب جهلهم وبلاهتهم والله عليم حكيم فيكون بنيانهم سبب بعدهم من الله فليهدم كما روى انّه (ص) امر بهدمه وإحراقه (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بعد ما ذكر أصناف المنافقين وأحوالهم ذكر أوصاف المؤمنين وما هم عليه وما لهم في الآخرة لازدياد حسرة المنافقين. اعلم ، انّ النّفوس البشريّة خلقت متعلّقة بمعنى انّ التّعلّق جزؤ جوهر ذواتها وفصل مميّز لها عن الجواهر المجرّدة الصّرفة لا انّ التّعلّق وصف خارج عن ذواتها عارض لها ، وهذا التّعلّق الفطرىّ هو الّذى يكون منشأ شوقها الّذى يعبّر عنه بالفارسيّة ب «درد» وهو يقتضي التّعلّق الاختيارىّ حين البلوغ فان ساعدها التّوفيق وتعلّقت اختيارا حسبما كلّفها الله بالعقول المجرّدة ومظاهرها البشريّة فازت بالحيوة الابديّة ، وان خذلها الله وتعلّقت بالشّيطان ومظاهره البشريّة أعاذنا الله منها ، هوت الى المظاهر القهريّة وهلكت ، ولمّا كان في بدو الأمر مداركها العقليّة ضعيفة ومداركها الحيوانيّة والشّيطانيّة قويّة بحيث لا تدرك الّا ما أدركته المدارك الظّاهرة والباطنة الحيوانيّة


أو ما اقتضته القوى الحيوانيّة والشّيطانيّة ، ولا يتيسّر لها ادراك العقول والتّعلّق بها بلا واسطة بشريّة مدركة بمداركها الحيوانيّة ، أمرهم الله تعالى شأنه بالتّعلّق بمظاهر العقول من الأنبياء وخلفاءهم والانقياد لهم واتباعهم ، ولتطابق العوالم وتوافق المراتب ولزوم سريان حكم كلّ عالم ومرتبته الى سائر العوالم والمراتب ، أمرهم الله تعالى بالبيعة الّتى هي مشتملة على التّعلّق الجسمانىّ بعقد يدي المتعلّق والمتعلّق به وتعلّق سمع كلّ بلسان الآخر وصوته ليكون التّعلّق النّفسانىّ موافقا للجسمانىّ وساريا الى المرتبة البشريّة ، وتلك البيعة كانت سنّة قائمة من لدن آدم (ع) الى زمان ظهور دولة الخاتم (ص) ، بحيث كان أهل كلّ دين لا يعدّون من أهل ذلك الدّين أحدا الّا بالبيعة مع صاحب ذلك الدّين أو مع من نصبه لاخذ البيعة من النّاس ولتلك كانت شرائط وآداب مقرّرة مكتومة عندهم ، ولشرافة تلك البيعة والضنّة بابتذالها عند من ليس لها باهل كانت تختفى في كلّ دين بعد قوّته ورحلة صاحبه واختيار العامّة له بأغراضهم الفاسدة على سبيل الرّسم والملّة ، وقوله (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) اشارة الى التّحقّق بالدّين بالدّخول فيه بما به تحقّقه من البيعة ، وقصر مشيد اشارة الى صورة الدّين المأخوذة على طريق الرّسم والملّة من دون التّحقّق به إذا تقرّر ذلك ، فاعلم ، انّ تلك البيعة لمّا لم تكن الّا مع المظاهر البشريّة لعدم إمكان الوصول الى الله والى العقول من غير توسّط تلك المظاهر وقد تحقّق انّ المظاهر يعنى الأنبياء وخلفاءهم (ع) لفنائهم في الله خصوصا وقت أخذ البيعة واشتراء الأنفس والأموال ، وجودهم وجود الله لا وجود أنفسهم لعدم نفسيّة لهم حينئذ وفعلهم فعل الله لا فعل أنفسهم ، وكان القاصرون لا يرون البيعة الّا مع الوسائط من غير نظر الى الظّاهر فيها ، قال الله تعالى بطريق حصر القلب أو التّعيين أو الإفراد انّ الله اشترى لا الوسائط البشريّة كما اعتقدوا لقصورهم وقد صرّح بالحصر في قوله (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) يعنى انّ المشترى هو الله لا أنت ، وهكذا قوله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) للحصر اعتبارا لمفهوم اضافة اليد الى الله يعنى يد الله لا يدك ، كما مضى عند قوله تعالى ألم يعلموا انّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده انّه اشارة الى تلك البيعة وانّه للحصر فانّ قبول التّوبة من أجزاء تلك البيعة ومقدّماته ، وقول المفسّرين انّ الآية وذكر الاشتراء تمثيل لاثابة الله ايّاهم على بذل الأنفس والأموال انّما هو بالنّظر الى المبايعة الماليّة لا المبايعة الاسلاميّة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال لبيان حالهم وما يشترط عليهم حين الاشتراء أو مستأنف جواب لسؤال عن حالهم وما اشترط عليهم. اعلم ، انّ الدّاخل في الإسلام بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة والدّاخل في الايمان بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة لا ينفكّ عن المقاتلة مع الأعداء الباطنة وجنود الشّيطان ، وان كان قد ينفكّ عن المقاتلة مع الأعداء الظّاهرة وأيضا لا ينفكّ عن قتل لشيء من جنود الجهل واتباع الشّيطان وعن مقتوليه بحسب مراتب جنود الحيوان ما لم يمت اختيارا أو اضطرارا ، ولذا أتى بالافعال الثّلاثة مضارعات دالّات على الاستمرار (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) قرئ الاوّل مبنيّا للفاعل والثّانى مبنيّا للمفعول وبالعكس (وَعْداً عَلَيْهِ) وعد المقاتلة بحسب الشّرط في البيعة أو وعد الجنّة بإزاء الأنفس والأموال وعدا ثابتا عليه (حَقًّا) صفة لوعدا أو حال منه أو مصدر لمحذوف اى ثبت ذلك الوعد ثبتا (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى) افعل التّفضيل أو فعل ماض (بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ) الله بتوسّط مظاهره (بِهِ) ان كان أو في افعل تفضيل ومن استفهاميّة فالفاء جواب شرط محذوف اى إذا لم يكن أحد أو في بعهده من الله فاستبشروا ، وان كان فعلا ماضيا ومن شرطيّة أو موصولة فالفاء جواب


الشرط المذكور إذا الموصولة في مثل هذا المقام متضمّنة لمعنى الشّرط لكن يقدّر حينئذ بعد الفاء القول اى فيقال لهم : استبشروا ، والوجه الاوّل اولى لتناسبه لقوله وعدا عليه حقّا (وَذلِكَ) البيع الّذى بايعتم على أيدي خلفائه أو ذلك الوعد (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ) هو على قراءة الرّفع مقطوع عن الصّفة للمدح أو مستأنف مقطوع عمّا قبله جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل : من المؤمنون المستبشرون؟ ـ فقال : التّائبون ، وعلى كلا التّقديرين فهو خبر مبتدء محذوف ، ونسب الى المعصومين (ع) انّهم قرءوه بالجرّ صفة للمؤمنين والمراد التّائبون بالتّوبة الخاصّة على أيدي خلفاء الله الّتى هي من أجزاء البيعة المذكورة (الْعابِدُونَ) الصّائرون عبيدا خارجين من رقّيّة أنفسهم داخلين في رقّيّة مولاهم أو فاعلين فعل العبيد يعنى كان فعلهم بأمر مولاهم لا بأمر أنفسهم (الْحامِدُونَ) المعتقدون المشاهدون كلّ كمال وجمال من الله فانّه الحمد حقيقة الّذاكرون الله بكماله وجماله بألسنتهم طبق اعتقادهم وشهودهم (السَّائِحُونَ) في أراضي العالم الصّغير والعالم الكبير وفي اخبار الأمم الماضية وفي شرائع الأنبياء ومواعظ الأولياء ونصائحهم وفي الكتب السّماويّة ولا سيّما القرآن المهيمن على الكلّ وقد أشير في الاخبار الى كلّ ، وفسّر أيضا بالصّائمين وقد ورد انّ سياحة أمّتي الصّيام وهو من قبيل التّفسير بالسّبب ، فانّ الصّيام وهو منع القوى الحيوانيّة عن مشتهياتها يضعّفها وبتضعيفها يرتفع الحجاب عن المدارك الانسانيّة وينفتح بصيرة القلب وينطلق رجل العقل فيسيح في أراضي وجوده ويسرى سياحتها الى أراضي سيرة الأنبياء (ع) والأولياء (ع) وكتبهم ، أو يسرى الى سياحة العالم الكبير بالنّظر في آياته والعبرة من تقليباته بأهله فانّه السّياحة حقيقة لا المشي في وجه الأرض خاليا من ذلك النّظر وتلك العبرة (الرَّاكِعُونَ) بالرّكوع المخصوص الّذى هو من أركان الصّلوة الصّوريّة أو بإظهار الخضوع والّذلّ لله ولخلفائه (السَّاجِدُونَ) بسجدة الصّلوة أو بمطلق السّجدة لله أو بغاية الخضوع والتّذلّل (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) لأهالى عوالمهم أو لأهل العالم الكبير بعد استكمال أهالي عوالمهم والفراغ منهم (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) هكذا ، والإتيان بالعاطف لتماميّة السّبعة والعرب في التّعداد إذا تمّ عدد السّبعة يأتى بالواو وتسمّى وأو الثّمانيّة وسرّه تماميّة العوالم الكلّيّة الالهيّة بالسّبع ، وقد مضى في اوّل سورة البقرة تحقيق للأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر عند قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) (الاية) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) بعد الفراغ من الأمر والنّهى بابقاء المأمورين والمنهيّين على الايتمار والانتهاء في العالم الصّغير والعالم الكبير والحافظون على حدود احكام الله من العبادات والمعاملات وغاياتها المقصودة منها ، مثل ان يحفظ في الصّلوة على الانقياد والخشوع والتّشبّه بالملائكة والشّخوص بين يدي الله والانصراف من التّوجّه الى عالم الطّبع والحيوان الى الله ، ومثل ان يحفظ في النّكاح على التّوالد وإبقاء النّسل وازدياد المودّة والرّحمة والاستيناس ، لا ان يكون نكاحه لمحض قضاء الشّهوة الحيوانيّة واللّذّة النّفسانيّة بل يكون حين اللّذّة حافظا لتلك الغايات ناظرا إليها ، وما ورد في تفسيره بالحفظ على الصّلوة بحفظ أوقاتها وركوعها وسجودها أو بحفظ احكام الله فهو مشير الى هذا المعنى.

أمّهات منازل السّالكين

اعلم ، انّ الآية الشّريفة جامعة لامّهات منازل السّالكين الى الله وأسفارهم مشيرة الى جميع مقامات السّائرين ، فانّ التّائبون اشارة الى منازلهم الحيوانيّة ومقاماتهم الخلقيّة لانّ التّوبة هي السّير من الخلق الى الحقّ وهو السّفر الاوّل من الاسفار الاربعة وللإنسان في هذا السّفر مقامات ومراحل عديدة وليس له الّا التّعب والكلفة ولا يوازى لذّته كلفته ، ولذا ترى أكثر السّالكين


واقفين في هذا السّفر حائرين لا يمكنهم الرّجوع ولا الوقوف على مقامهم الحيوانىّ ، لما أيقنوا من انّ ذلك المقام من مقامات الجحيم ولما رأوا لأنفسهم فيه من العذاب الأليم ولا يمكنهم التّجاوز والسّير الى ما فوقه لكثرة المتاعب وضعف يقينهم وقلّة التذاذهم بالمقامات الانسانيّة وضعف نفوسهم عن التحمّل وقوّة قويهم في طلب مقتضياتها ، والعابدون اشارة الى مقاماتهم الحقّيّة الخلقيّة ، لانّ العبوديّة هي السّير في المقامات الانسانيّة وعلى المراحل الرّوحانيّة الى الانتهاء الى حضرة الأسماء والصّفات ، وهو السّفر الثّانى من الاسفار الاربعة اى السّفر من الحقّ الى الحقّ ، و (الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) اشارة الى مقاماتهم الحقّيّة اى السّير في حضرة الأسماء والتّمكّن في التّحقّق بحقائق الصّفات الالهيّة ، وهو السّفر الثّالث اى السّفر بالحقّ في الحقّ ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) اشارة الى مقاماتهم الالهيّة ومراتبهم الرّبوبيّة اى السّير في المظاهر الالهيّة متّصفين بصفات الرّبوبيّة مبدّلين للخلقيّة بالحقّيّة ناظرين الى المظاهر الى كلّ في مرتبته معطين لكلّ ذي حقّ حقّه ، وهو آخر الاسفار الاربعة يعنى السّفر بالحقّ في الخلق. وبيان هذه الاسفار ومقاماتها وما يرد فيها وما يشاهد منها من الآيات ممّا يضيق عنه بيان البشر ولا يسعه هذا المختصر ، وإجمال القول فيها : انّ الإنسان في زمان الصّبا الى أوان البلوغ حيوان كالخراطين والدّيدان أو كالبهائم والسّباع لا يدرى من الخيرات الّا ما اقتضته القوى الحيوانيّة ولا من الشّرور الّا ما تستضرّ به ، وبعد بلوغ الاشدّ وظهور اللّطيفة الانسانيّة وتميز الخيرات والشّرور العقليّة الانسانيّة ، امّا يقف على الحيوانيّة باقيا فيه شيء من الانسانيّة ، أو يهوى عن الحيوانيّة الى أسفل السّافلين مهلكا للطّيفة الانسانيّة ، أو ينزجر عن الحيوانيّة ويرغب في الخيرات الانسانيّة متدرّجا فيه الى ان يطلب من يبيّن له طريق جلب خيراته ودفع شروره الانسانيّة ، لانّه خارج عن ادراك مداركه الحيوانيّة غير مدرك بمداركه العقليّة لضعفها ، وذلك التّدرّج في الانزجار وان كان توبة وانابة لغة لكنّه لا يسمّى عند أهل الله توبة ولا انابة ، لانّ التّوبة والانابة عندهم اسم للرّجوع عن الحيوانيّة الى الانسانيّة الالهيّة ولخفاء طريقها كثيرا ما يقع الرّاجع عن الحيوانيّة الى حيوانيّة أو شيطانيّة بتدليس الشّيطان وظنّه انّها خيرات انسانيّة فيقع فيما فرّ منه ، فما لم يظهر صحّة رجوعه عن الحيوانيّة الى الانسانيّة لم يطلق عليه اسم التّوبة وصحّة الرّجوع عن الحيوانيّة الى الانسانيّة لا تظهر الّا بقبوله من الله ، وقبوله من الله لا يظهر الّا بقبول خلفاءه وهم المظاهر الانسانيّة والكاملون الفارقون ببصيرتهم بينها وبين الحيوانيّة ، فاذا وصل الى نبىّ أو ولىّ وتاب هو عليه وهي توبة الله عليه واستغفر له في البيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة صدق على رجوعه التّوبة والانابة بجهتيه وصار تائبا ، وبتلك التّوبة لا يحصل له الّا خيراته القالبيّة المؤدّية الى خيراته الانسانيّة ولا يلتذّ بها بل لا يرى فيها الّا التّعب والكلفة ولا يسكن حرارة طلبه للخيرات الانسانيّة ولا يتمّ توبته ، فاذا طلب ووجد وتاب بالتّوبة الخاصّة في البيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب وهناك يتمّ صورة توبته فقد يلتذّ بانمودج خيراته الانسانيّة ، لكنّه ما لم يخرج من ملكه ولم يلج ملكوت السّماوات ولم يشاهد ملكوت شيخة كان تائبا ولم يخلص له اللّذّات الانسانيّة وكان بعد في تعب وكلفة وضيق لا يرضى بحال من أحواله ويتقلّب في الأحوال ، حتّى يشاهد ملكوت الشّيخ ويسكن الشّيخ في ارض صدره ويتمكّن له دينه الّذى ارتضاه له وحينئذ يتمّ سيره من الخلق الى الحقّ ، فانّ ملكوت الشّيخ هي الحقّ بحقّيّة الحقّ الاوّل ويصير حينئذ سالكا الى الله ، لانّه كان قبل ذلك سالكا الى الطّريق ويصير عبدا خارجا من رقّيّة نفسه داخلا في رقّيّة الله ويصير فعله أيضا فعل العبد حيث تمكّن الشّيخ في وجوده وصار بالنّسبة الى شيخة كالملائكة بالنّسبة الى الحقّ


الاوّل ، لا يعصى الشّيخ وهو بأمره يعمل لا بأمر نفسه ويصدق عليه انّه عبد وعابد ويصير مسافرا بالسّفر الثّانى من الحقّ الى الحقّ لانّ المبدأ ملكوت الشّيخ وهي الحقّ ، والمنتهى هو الحقّ المضاف ، ومراحل هذا السّفر ومقاماتها خارجة عن الحصر والعدّ ، والسّالك في هذا السّفر واله غير شاعر كالمجذوب فاذا وصل الى حضرة الأسماء والصّفات تمّت عبوديّته وفنى عن أفعاله وصفاته وذاته واتّصف بالرّبوبيّة إذا تمّ له هذا السّفر وصحا عن فنائه وصدق ما قالوا : الفقر إذا تمّ هو الله ، وانتهاء العبوديّة ابتداء الرّبوبيّة ، وفي هذا المقام يظهر بعض الشّطحيّات من السّالكين مثل : انا الحقّ ، وسبحاني ما أعظم شأني ، وليس في جبّتى سوى الله ، والسّالك حينئذ مسافر في الحقّ وهو السّفر الثّالث ولا انتهاء لمقامات هذا السّفر ، وفي هذا السّفر لا يرى في الوجود الّا الله ولا يرى جمالا وكمالا الّا لله فينسب تمام الكمال والجمال اليه تعالى من غير شعور بهذه النّسبة منه وهو حمده بل يتحقّق بالصّفات الجماليّة والأسماء الحسنى الالهيّة وهو حامديّته حقيقة ، ويصدق حينئذ عليه انّه سائح حيث انّ السّياحة هي السّير لمشاهدة غرائب صنع الله وهو في السّفر الاوّل لا يمكنه مشاهدة صنع الله بل لا يرى الّا المصنوع ، وفي السّفر الثّانى امّا لا يشعر بصنع ومصنوع بل لا يشعر الّا بشيخه أو لا يرى الّا المصنوع بحسب تقليباته ذات اليمين وذات الشّمال ، وفي هذا السّفر حين يفيق من جذبته يرى ويشاهد لكن لا يرى الّا صنع الله وغرائبه لخروجه من التّعيّنات الكونيّة فلا يرى في الوجود الّا صفاته وأسماءه تعالى ، وكلّ ما يشاهد يتذلّل ويخضع له وهو الرّكوع والسّجود بحسب تفاوت مراتب خضوعه ، فاذا تحقّق بأسمائه وصفاته وتمّ سفره هذا عاد الى ما منه رجع لا صلاح العباد وسافر بالحقّ في الخلق وامر بأمر الله ونهى بنهي الله وحفظ الأمر والنّهى على المأمورين والمنهيّين ، وكذا يحفظ غايات أو امره ونواهيه عليهم ، والمسافر بهذا السّفر امّا نبىّ أو رسول أو خليفة لهما ، ومقامات هذا السّفر أيضا غير متناهية بحسب عدم تناهي كلمات الله وبحسب مقاماته يتعدّد ويختلف مراتب الأنبياء والرّسل ، وما ورد من تحديد الأنبياء بمائة وعشرين ألفا أو بمائة واربعة وعشرين ألفا فهو امّا لمحض بيان الكثرة أو لتحديد أمّهات المقامات ؛ وما ورد عن المعصومين (ع) من تخصيص الأوصاف بأنفسهم قد علم وجهه حيث لا يوجد تلك الأوصاف بحقائقها الّا فيهم لكن إذا صحّ ايمان المؤمن وصدق في ايمانه توجد رقائقها وانموذجاتها فيه فليطلب المؤمن من نفسه فاذا لم يجد لم يكن صادقا في ايمانه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على الأمر السّابق وبينهما اعتراض لبيان حال المؤمنين ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للاشعار بعلّة الحكم ولتصويرهم بأوصافهم المذكورة حيث انّ اللّام للعهد الذكّرىّ والمذكور المؤمنون الموصوفون بالأوصاف المذكورة (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعنى ما صحّ (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) بلغ غاية الوضوح (لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) اعلم ، انّ الكافر ما لم ينقطع فطرته الّتى هي لطيفته الانسانيّة لا منع في الاستغفار والدّعاء بالخير له حيّا وميّتا ولا يجوز لعنه على الإطلاق بل يجوز من حيث كفره وشركه ، وللاشارة الى هذا المعنى قوله تعالى (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) ، و (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وإذا انقطع فطرته يجوز لعنه على الإطلاق ولا يجوز له الدّعاء بالخير ولا يعلم قطع الفطرة الّا بشهود مراتب وجوده أو بوحي من الله أو بسماع من صاحب الكشف أو الوحي ، وما ورد في الاخبار وافتى به العلماء (رض) أيضا من انّ المرتدّ الفطرىّ لا يقبل توبته ناظر الى هذا المعنى ، وما ذكروه من الفرق بين المرتدّ الملّىّ والفطرىّ كما في الاخبار انّما هو باعتبار انّ التّولّد على الإسلام والتّولّد على الكفر ثمّ الخروج عن الإسلام كاشف


عن الارتدادين وقد مضى تحقيق الارتداد في سورة آل عمران عند قوله ومن يبتغ غير الإسلام دينا ، وللاشارة الى ما ذكرنا قال تعالى من بعد ما تبيّن بالكشف والوحي أو بالسّماع من صاحب الكشف والوحي لهم : انّهم أصحاب الجحيم منقطعوا الفطرة غير مرجوّى النّجاة يعنى لا قبل هذا التبيّن (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) عطف لاستدراك ما يتوهّم من انّ إبراهيم (ع) كان نبيّا واستغفر لأبيه المشرك (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) يعنى كان استغفاره وفاء بوعده وهو خصلة حسنة وكان قبل ان تبيّن له انّه أصحاب الجحيم بقرينة قوله (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) اى فطرة بمعنى انقطاع جهة محبّته لله وهي اللّطيفة الانسانيّة (تَبَرَّأَ مِنْهُ) مع انّه كان أقرب قراباته وفسّر قوله تعالى الّا عن موعدة وعدها ايّاه بوعد آزر لابنه ان يسلم وهو يؤيّد ما ذكرنا لانّ وعد الإسلام لا يكون الّا عن فطرة الإنسان (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) الاوّاه الكثير التّأوّه وأكثر ما يكون التّأوّه إذا كان حزن على فراق محبوب وهو يستلزم كثرة الدّعاء والتّضرّع في الخلوات وحال العبادات فما ورد من تفسيره بالدّعّاء أو بالمتضرّع تفسير باللّازم وهو تعليل لاستغفاره (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) تكوينا بايصالهم الى مقام الانسانيّة الّتى بها يتميّز الخيرات والشّرور الانسانيّة أو تكليفا بايصالهم الى من يبايعهم بيعة عامّة أو بيعة خاصّة وتبيّن لهم خيراتهم وشرورهم التّكليفيّة (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ) تكوينا أو تكليفا (ما يَتَّقُونَ) ما ينبغي ان يتّقوه من شرورهم الانسانيّة لا تمام الحجّة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) جواب سؤال كأنّه قيل ما يعلم دقائق ما يضلّون ويهتدون به وما يتّقون (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابتداء كلام غير مرتبط بالسّابق أو تعليل لعلمه بكلّ شيء ، أو تعليل لنسبة الإضلال والهداية والتّبيين الى نفسه ، أو جواب لسؤال عن حالهم مع الله ونسبته تعالى إليهم (يُحْيِي) بالحيوة الحيوانيّة أو بالحيوة الانسانيّة (وَيُمِيتُ) هكذا (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموركم بجلب ما هو خيركم إليكم (وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنكم شروركم وقد مضى مرارا انّ النّبىّ (ص) بولايته هو الولىّ الّذى يتولّى أمور التّابع من إصلاح حاله في نفسه وبنبوّته ورسالته هو النّصير الّذى ينصر التّابع بدفع الشّرور عنه ، وهذا النّفى لدفع توهّم يرد على قلب المريد النّاقص حيث لا يرى من شيخة المرشد الّا بشريّته وكذا من شيخة الدّليل فيظنّ انّهما بحسب البشريّة أو بأنفسهما يتولّيان مستقلّين أو بالاشتراك مع الله تعليم المريد وإصلاحه ، فرفع هذا الوهم بحصر ذلك في نفسه بمعنى انّهما في تولّى أمور المريد ليسا الّا مظهرين والظّاهر المتولّى هو الله لا هما وحدهما ولا باشتراكهما مع الله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) وقرئ بالنّبى وعلى قراءة على النّبىّ فتوبته تعالى عليه باعتبار توبته على أمّته إعطاء لحكم الجزء للكلّ ، أو لحكم التّابع للمتبوع ، أو التّوبة بمعنى مطلق الرّجوع لانّهم وقعوا في غزوة تبوك في الشّدّة والقحط وشدّة الحرّ وقلّة الماء فرجع بالرّخاء والرّاحة وعدم الحاجة الى القتال والصّلح على الخراج بدون زحمة القتال (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) حيث تخلّف بعضهم وكره بعض آخر الخروج الى تلك الغزوة فلحق المتخلّفون ورغب الكارهون (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) حين خروجه على كراهة أو بعد خروجه بلحوقهم له (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) في زمان العسرة فانّ غزوة تبوك اتّفقت في شدّة الحرّ وزمان القحط مع بعد السّفر (مِنْ بَعْدِ ما كادَ


يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن اتّباعه واعتقاد رسالته وقيل : همّ قوم منهم ان ينصرفوا بعد الخروج بدون اذنه فعصمهم الله ، وروى انّ عدد العسكر في تلك الغزوة بلغ خمسة وعشرين ألفا سوى العبيد والاتباع ، وقيل : بلغ عدد جميعهم أربعين ألفا (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بعصمتهم عن الزّيغ (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الفرق بين الرّأفة والرّحمة كالفرق بين الأحوال والسّجايا فانّ الرّأفة عبارة عمّا يظهر من آثار الرّحمة من النّصح والحمل على الخير (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) استعمال الخوالف في النّساء والمخلّف في الرّجال للاشارة الى انّ التّخلّف شأنهنّ فتخلّفهنّ لا تعمّل فيه ، وامّا الرّجال فانّ شأنهم التّهييج للقتال وتخلّفهم كأنّه كان بتعمّل وقبول من غيرهم ، ولمّا فهم العامّة من ظاهره انّ رسول الله (ص) خلّفهم أنكر المعصومون (ع) قراءة خلّفوا وقرءوا خالفوا والّا فقد سبق استعمال المخلّف في المتخلّفين المخالفين عند قوله فرح المخلّفون والمعنى فرح الّذين حملهم الشّيطان على التّخلّف لا الرّسول (ص) ، والثّلاثة المخلّفون كانوا كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة كانوا تخلّفوا عن غزوة تبوك واستقبلوا رسول الله (ص) بعد مراجعته ، فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم الجواب وأمر أصحابه ان لا يسلّموا عليهم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ، فدخلوا المدينة ولا يكلّم معهم أحد ، ودخلوا المسجد فلا يسلّم عليهم أحد ، وجاءت نساؤهم الى رسول الله (ص) وقالت : بلغنا سخطك على أزواجنا ؛ أنعتزلهم؟ ـ فقال : لا تعتزلنهم ولكن لا يقاربو كنّ ، فلمّا رأوا ما حلّ بهم قالوا : ما يقعدنا بالمدينة فخرجوا الى الجبال وقالوا : لا نزال في هذه الجبال حتّى يتوب الله علينا ، وكان أهلوهم يأتونهم بالطّعام فيضعونه عندهم ولا يكلّمونهم فلمّا طال عليهم الأمر قال بعضهم : يا قوم سخط الله علينا ورسوله وإخواننا وأهلونا فلا يكلّمنا أحد فما لنا نجتمع ولا يسخط بعضنا بعضا ، فتفرّقوا وحلفوا ان لا يتكلّم أحد منهم أحدا حتّى يموتوا أو يتوب الله عليهم ، فبقوا على هذه الحال فأنزل الله توبتهم على رسوله حين اشتدّ الأمر عليهم (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) بعدم تكلّم رسول الله (ص) ولا أصحابه ولا أهليهم (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) بعدم اجتماعهم وعدم تكلّم بعضهم بعضا (وَظَنُّوا) اى علموا وأيقنوا واطلاق الظّنّ على العلم لما مرّ مرارا انّ علوم النّفس ان كانت يقينيّات فهي ظنون لتوجّهها الى السّفل وتخلّف المعلوم وغاياتها عنها بخلاف علوم العقل فانّ معلوماتها ثابتة وغاياتها غير متخلّفة ، وهؤلاء لمّا كانوا قبل قبول توبتهم واقعين في مرتبة النّفس كانت علومهم ظنونا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) رجع بالرّحمة والتّوفيق عليهم (لِيَتُوبُوا) صادقين الى الله فيقبل توبتهم (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير المراجعة على العباد بالرّحمة والتّوفيق سهل القبول لتوبتهم (الرَّحِيمُ) فلا يدعهم لرحمته ان يدوموا على العصيان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذمّ المتخلّفين عن رسول الله (ص) رغّب المؤمنين في طاعته وعدم التّخلّف عنه ليكون أوقع ولان يجمع بين الوعد والوعيد كما هو شأن النّاصح الحكيم (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اعلم ، انّ الايمان قد يطلق على الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة وانقياد النّفس والقالب تحت احكام القالب المأخوذة من نبىّ (ع) أو خليفته (ع) ، وقد يطلق على الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة وانقياد القلب تحت احكام القلب المأخوذة من صاحب أحكام القلب وهو الايمان حقيقة لصحّة سلب


اسم الايمان عن الإسلام كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ،) يعنى ما اعتقد تموه ايمانا ليس بإيمان بل هو إسلام ، والتّقوى من سخط الله وعذابه قد تطلق باعتبار مطلق الانزجار عن النّفس ومقتضياتها وهو مقدّم على الإسلام الحقيقىّ الّذى هو هداية للايمان ، وقد تطلق باعتبار الانصراف عن النّفس وطرقها الى طريق القلب والسّلوك اليه والتّقوى بهذا المعنى لا تحصل الّا بالايمان الخاصّ والبيعة الولويّة ، لانّ الإنسان ما لم يبايع بتلك البيعة لم يتّضح له طريق القلب فضلا عن التّوجّه اليه والسّلوك عليه ولم يدخل الايمان في قلبه ، فهذه التّقوى لا تحصل قبل الإسلام ولا قبل الايمان بل هي مع الايمان وتكون بعد الايمان الى ان تحصل التّقوى من ذاته من غير شعور بتقواه وهو الفناء التّامّ الّذى لا فناء بعده وبعده صحو وبقاء بالله واتّصاف بصفات الله الحقيقيّة والاضافيّة الّتى هي داخلة تحت اسم الرّحمن كما قال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) يعنى بعد انتهاء التّقوى لهم صحو واتّصاف بصفة الرّحمانيّة الّتى هي مجمع سائر الصّفات الاضافيّة وباعتبار هذا المعنى خصّصوا التّقوى بشيعتهم ، والصّدق لغة وعرفا مطابقة القول اللّفظىّ أو النّفسىّ للواقع ، وعند أهل الله النّاظرين الى الأشياء بما هي عليه الصّدق مطابقة الأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والعلوم لما ينبغي ان يكون الإنسان عليه ، ولما هو نفس الأمر لما ينتسب الى الإنسان بما هو إنسان ، فانّ اللّطيفة الانسانيّة مظهر للعقل ان لم تكن محجوبة باغشية الآراء النّفسيّة والكدورات الطّبيعيّة والعقل مظهر لله تعالى ومظهر المظهر مظهر ، وما ينسب الى مظهر شيء من حيث انّه مظهر ذلك الشّيء ينسب الى ذلك الشّيء حقيقة ويصحّ سلبه عن المظهر كما في قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) في عين انّ القتل كان بأيديهم فسلب نسبة القتل عنهم حيث انّهم لغاية الدّهشة ونزول السّكينة الّتى هي ظهور الحقّ تعالى كانوا مظاهر للسّكينة والسّكينة مظهر لله تعالى فسلب القتل عنهم واثبته للظّاهر فيهم وهو السّكينة اوّلا والحقّ الاوّل ثانيا فقال : (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) إسقاطا لحكم الظّاهر الاوّل أيضا وكذا قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فما هو نفس الأمر لما ينسب الى الإنسان ان يكون بحيث ينسب حقيقة الى الله ويصحّ سلبه عن الإنسان فما ينسب الى الإنسان إذا لم يصحّ نسبته الى الله تعالى أو لم يصحّ سلب نسبته عنه كان كذبا ، وكما انّ القول فعل اللّسان كذلك الأفعال والأحوال والأخلاق والعلوم قول الأركان والجنان ، وصيغة الصّادق لغة تطلق على من اتّصف بصدق ما من غير تعرّض لكونه سجيّة له أو عرضيّا لكنّه غلب في العرف على من صار الصّدق سجيّة له ، فعلى هذا كان الصّادق من تمكّن في الانسانيّة وصار كلّما صدر عنه موافقا لما اقتضته انسانيّته ، وهذا المعنى مخصوص بالإنسان الكامل ولذا حصروا الصّادقين في أنفسهم ، وصيغة الأمر من الكون تدلّ على الاستمرار إذا أطلقت خصوصا إذا كان بعدها ما يدلّ على المعيّة المشعرة بالاستمرار وان كان الأمر من غير الكون مطلقا عن التّقييد بالاستمرار وعدمه إذا أطلق ، والمعيّة تصدق على المصاحبة البدنيّة البشريّة لكن استمرار تلك المصاحبة غير ممكن لافراد البشر حيث تحتاج لبعض ضروريّاتها الى المفارقة البدنيّة على انّها لا تفيد فائدة اخرويّة يعتنى بها إذا لم تقترن بالمصاحبة النّفسيّة ، اما سمعت انّ أكثر المنافقين كانوا اشدّ مصاحبة للنّبىّ (ص) من سائر الصّحابة! وبعضهم سابقا في الهجرة ومذكورا في الكتاب بالمصاحبة! ولمّا كان مصاحبتهم محض المصاحبة البدنيّة لم تنفعهم في الآخرة ، وتصدق على المصاحبة النّفسيّة مع رقائق الصّادقين المأخوذة منهم من الفعليّة الحاصلة في نفوس التّابعين بسبب البيعة والاتّصال الصّورىّ ، وقبول الولاية الّتى هي بمنزلة الانفحة للبن الأعمال وبمنزلة البذر لزرع الآخرة ومن الذّكر


الّذى يلقّنهم الصّادقون قلبيّا كان أو لسانيّا ، فانّ الذّكر المأخوذ من ولىّ الأمر رقيقته ونازلته الّتى نزلت من مقامه العالي ولبست لباس الذّكر القلبىّ أو اللّسانىّ وتحقيق هذا المطلب قد مضى شطر منه ، وتصدق على المصاحبة النّفسيّة مع حقائقهم الملكوتيّة الّتى يعبّر عنها بصورة الشّيخ وبالسّكينة القلبيّة وبالفكر والرّحمة والنّعمة والآية الكبرى والاسم الأعظم وللاشارة الى تينك المعنيين قال تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) لانّ هذا الذّكر والفكر صلوة حقيقيّة والصّلوة القالبيّة صورة تلك الصّلوة وقالت الصّوفيّة : ينبغي للسّالك ان يكون دائم الذّكر والفكر وقيل بالفارسيّة : «خوشا آنان كه دائم در نمازند» واستمرار تلك المعيّة امر ممكن وان كان النّاقصون من السّلاك في تعسّر منه ، فمعنى الآية يا ايّها الّذين أسلموا بالبيعة العامّة النّبويّة اتّقوا الله بالبيعة الخاصّة الولويّة وداوموا على الذّكر المأخوذ من الصّادقين ان لم تكونوا من أهل الفكر ، أو على الذكّر والفكر ان كنتم من أهل الفكر ، أو يا ايّها الّذين آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة اتّقوا الله في الانصراف عن طريق القلب وداوموا على الذكّر والفكر (ما كانَ) استيناف لتعليل الأمر السّابق والمعنى ما ينبغي (لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) من أهل الشّرق والغرب فانّ ما حول المدينة بالنّسبة الى العوالم الاخر تمام الدّنيا وأهلها ما لم يدخلوا في الإسلام اعراب كلّهم وكذلك ما كان لأهل المدينة القلب والصّدر المنشرح بالإسلام ومن حولهما (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) الّذى هو أصل في الصّدق ، وصدق سائر الصّادقين فرع صدقه (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ) بسبب محبّة أنفسهم أو في أنفسهم أو لا يرغّبوا أنفسهم على ان يكون الباء للتّعدية (عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ) اى عدم جواز التّخلّف والرّغبة (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) مجاعة (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) من غلبة وقتل وأسر ونهب (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) يعنى سواء أصيبوا أو أصابوا أثيبوا ، وللفرق بين ما عليهم وما لهم أتى بقوله في سبيل الله بين المتعاطفين كما انّ توسّط الاستثناء وتعليله بين المتعاطفات كان لذلك وللتّأكيد بالتّكرير (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يعنى انّهم باتّباعهم لرسول الله (ص) محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ) ذلك (لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعنى يكتب كلّما عملوا لينظر إليها ويجزى كلّها بإزاء أحسنها وليس المراد انّه لا يجزى الّا أحسنها ، ويجوز ان يراد هنا انّهم يجزون بأحسن ممّا عملوا. اعلم ، انّ الإنسان كما يكون في الاستكمال بحسب بدنه من اوّل صباه يكون في الاستكمال بحسب نفسه وكلّ فعل يصدر منه خيرا كان أو شرّا يحصل منه فعليّة له ، ولمّا كان واقعا بين عالمي الملائكة والشّياطين ، فان لم يتمكّن في أحد العالمين لا يمكن الحكم عليه بكونه من أهل الرّحمة أو أهل العذاب من غير تقييد بشرط البقاء على الإسلام أو الكفر ، وكان بحسب العاقبة محكوما عليه بكونه مرجى لأمر الله وان لم يكن داخلا في صنفهم ، وان دخل في أحدهما وتمكّن فيه صار جميع الفعليّات الحاصلة له مسخّرة لحاكم ذلك العالم اى العقل أو الشّيطان وصارت محكومة بحكم أحسنها أو اسوئها ، فانّ أحسن الأعمال ما كان الفعليّة الحاصلة منه مسخّرة للعقل وأسوأها ما كان الفعليّة الحاصلة منه مسخّرة للشّيطان ، وغير هذين حسن وسيّئ باعتبار قربهما الى العقل والشّيطان فاذا صار الفعليّات كلّها مسخّرة للعقل بسبب تمكّن صاحبها في اتّباع الأخيار والانقياد لهم كان جزاء كلّ الأعمال سيّئها وحسنها وأحسنها


بجزاء أحسنها ، وإذا صارت مسخّرة للشّيطان كان الجزاء بالعكس ، وأيضا إذا صار الإنسان متمكّنا في اتّباع الأبرار صار محبوبا لله بمنطوق فاتّبعونى يحببكم الله وإذا صار محبوبا لله صار كلّ اعماله محبوبة سيّئها وحسنها كأحسنها فيجزى الكلّ بمثل أحسنها ، وإذا صار مبغوضا صار كلّ اعماله مبغوضة مثل أقبحها فيجزى بأسوء الّذى كان يعمل من اوّل عمره ، وقد حقّقنا في موضع آخر انّ أسماء الأشياء أسماء لفعليّاتها الاخيرة وأحكامها أيضا جارية على فعليّاتها الاخيرة فمن كان فعليّته الاخيرة فعليّة الولاية كان جزاء جميع فعليّاته جزاء فعليّته الاخيرة وجاريا عليها (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) جميعا عطف على ما كان لأهل المدينة واستدراك لما يتوهّم من الآية السّابقة من لزوم ملازمة النّبىّ (ص) لجميع المؤمنين وعدم جواز التّخلّف عنه في حال من الأحوال ، مع امتناعه عادة لاختلال معيشتهم وعدم كفاية ما في يد النّبىّ (ص) بحاجتهم وضيق محلّه عن سكناهم ، وكون الآية استدراكا مبتن على تلازم العلم والعمل وانّ الغاية من جميع الأعمال حصول العلم ، وحينئذ فوضع المؤمنين موضع ضمير أهل المدينة للاشارة الى انّ ملازمة خدمة النّبىّ (ص) واجبة لأهل الشّرق والغرب ما لم يحصّلوا الإسلام فاذا حصّلوا الإسلام فليس عليهم الّا خروج طائفة مستعدّة لتلك الملازمة حتّى يستكملوا بالعلم والعمل ويستحقّوا الاذن في إرشاد قومهم ، وامّا إذا جعل الآية الاولى في الجهاد والثّانية في تحصيل العلم فهي عطف من دون اعتبار استدراك (فَلَوْ لا نَفَرَ) الى الجهاد أو الى خدمة النّبىّ (ص) أو مشايخه لتحصيل العلم (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) مستعدّون لاستكمال القوّتين العلميّة والعمليّة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليطلبوا الفقاهة أو ليكمّلوها (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) بعد استكمالهم في القوّتين وإذنهم في الإرشاد وتعليم العباد. اعلم ، انّ الفقه كما مرّ علم دينىّ يتوسّل به الى علم آخر والمقصود العلوم العقليّة الانسانيّة فانّ العلم الدّينىّ هو العلم الانسانىّ العقلىّ عقليّا كان أو خياليّا ، لانّ الإنسان بانسانيّته طريق الى الآخرة وواقع في الطّريق وسائر عليه ، وحيث انّه بانسانيّته سألك على الطّريق يكون علمه في الاشتداد والازدياد دون العلم الخيالىّ الّذى يحصل بتصرّف الواهمة دون العقل سواء سمّى عقليّا أو خياليّا ، فانّه علم نفسىّ حيوانىّ موصل الى الملكوت السّفلى صاد عن طريق الآخرة وان كان صورته صورة علم الآخرة ، فالفقه كما في الصّحيحة النّبويّة امّا علم بالاحكام القالبيّة المسمّاة بالسّنّة القائمة ولا طريق إليها الّا الوحي الالهىّ لخفاء ارتباطها الى عالم الآخرة وخفاء كيفيّة إيصالها اليه ، واختلافها باختلاف درجات المكلّفين بها فهي لا تحصل الّا بالأخذ والتّقليد من نبىّ أو ممّن أخذها منه ، وامّا علم بالنّفس وأخلاقها وأحوالها وهي الفريضة العادلة ، وامّا علم بالعقائد الحقّة الدّينيّة وهي الآيات المحكمات لكون كلّ منها آية وعلامة من الحقّ تعالى ومبدئيّته ومرجعيّته ؛ هذا إذا جعل العقل ذلك وسيلة الى مقاصده الاخرويّة ، وامّا إذا جعله أولهم وسيلة الى آماله الدّنيويّة ومآربه الحيوانيّة فلم يكن فقها ولا علما وأشباه النّاس سمّوه فقها وعلما ، والمراد بالتّفقّه كمال الفقاهة سواء جعل الهيئة للمبالغة أو غيرها لانّه تعالى غيّاه بالإنذار والمراد بالإنذار ما يكون مؤثّرا في المنذر ، ولا يكون الإنذار مؤثّرا في المنذر الّا إذا كان المنذر كاملا في قوتيه العلميّة والعمليّة ، والّا فلفظ الإنذار كثيرا ما يجرى على لسان غير المتفقّه كانذار خلفاء الجور وعلماءهم وقصّاصهم ووعّاظهم ، الّذين كانوا يأمرون ولا يأتمرون وينهون ولا ينتهون ويعظون ولا يتّعظون ولم يحصل من ذلك الّا وبال إتمام الحجّة عليهم لا تأثّر المخاطبين ، ولخفاء كمال النّفس في هاتين القوّتين على المتفقّه وعلى غيره كانوا يحتاجون في الإنذار والأمر والنّهى الى الاذن والاجازة من الامام أو نائبه وكانت


سلسلة الاجازة منضبطة في سلسلة العلماء الظّاهرة والباطنة (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) موبقات أنفسهم وقد ورد في تفسير قول النّبىّ (ص): اختلاف أمّتي رحمة ؛ انّه اختلافهم من البلدان اليه (ص) أو الى خلفائه (ع) للتّفقّه لا اختلافهم في الدّين حتّى يكون اجتماعهم عذابا ، ويمكن تصحيح ظاهره بان يكون المراد اختلافهم في كيفيّة التّكليف حيث انّ كلّا مكلّف على قدر مرتبته كما قيل : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، وقد ورد في تعميم الآية انّه يجرى في النّفر بعد وفاة الامام (ع) لتعيين الامام الّذى يكون بعده ودرك خدمته وتجديد التّوبة والبيعة معه ، وقد فسّرت أيضا هكذا ، فلو لا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد واقام طائفة للتّفقّه ليتفقّه المقيمون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) اى يقربون منكم فانّ التجاوز عنهم الى الأباعد لا يرتضيه العقل لانّه إيقاع للأنفس بين الأعداء وترك للاحتياط بالنّسبة الى من خلّفتموه في أوطانكم (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) وشدّة بأس حتّى لا يجترءوا عليكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فاتّقوا أغراض النّفس في القتال من المراياة والصّيت والغنيمة تنصروا فهو تخصيص على التّقوى (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) عطف على مقدّر كأنّه قال لكن إذا أمروا بالقتال تثبّط بعضهم وإذا ما أنزلت سورة (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) استهزاء (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) جواب وردّ عليهم من الله (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها لانّهم يرونها نعمة لهم (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) تعريض بالمنافقين (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) شكّا ووسوسة الى شكّهم (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) فاستحقّوا الخلود (أَوَلا يَرَوْنَ) توبيخ لهم على عدم عبرتهم وعدم توبتهم (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) بالبلايا في أبدانهم وفي أنفسهم أو يمتحنون بجهاد الأعداء وظهور آثار صدق النّبوّة بغلبتهم مع عدم تهيّة أسباب الغلبة (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نفاقهم وكفرهم وخديعتهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) انّ الافتتان من الله وانّه قادر على عذابهم (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) ذمّ آخر يعنى أشاروا بأنظارهم استهزاء أو غيظا لما يرون فيها من عيوبهم قائلين (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) يعنى ان قمتم وصرفتم من هذا المجلس (ثُمَّ انْصَرَفُوا) قاموا من مجلس محمّد (ص) وانصرفوا عنه غيظا (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) استيناف ، دعاء عليهم أو اخبار عن حالهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يدركون إدراكا يوصلهم الى طريق الآخرة ويستعقب إدراكا آخر من امر الآخرة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم بشر أو عرب أو إنسان كامل على ان يكون الخطاب للائمّة ، وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء اى من أشرفكم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) عنتكم (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) على حفظكم وايمانكم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) التفات من الخطاب الى الغيبة ، ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم ، وعلى تخصيص الخطاب بالأئمّة فالتّصريح بالمؤمنين للتّعميم كما ورد عنهم انّ من أنفسكم فينا ، وعزيز عليه ما عنتّم فينا ، وحريص عليكم فينا ، وبالمؤمنين رؤف رحيم شركنا المؤمنون في هذه الرّابعة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عنك وعن الايمان بك (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) استظهارا به وبإعانته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفيا للغير فضلا عن الحاجة اليه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) من قبيل عطف العلّة.


سورة يونس

مائة وتسع آيات ، وقيل : عشر آيات وهي مكّية كلّها : وقيل : سوى ثلاث آيات (فَإِنْ كُنْتَ

فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) (الى آخرها) وقيل : الّا آية هي (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) (الاية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر) قد مضى في اوّل البقرة وفي مطاوى ما سبق انّ أمثال هذا من الرّموز الّتى يعبّر بها عمّا عاينه المنسلخ عن هذا العالم من مراتب الوجود وآياته العظمى فيلقّيها الملك بالوحي أو بالتّحديث مشارا بها الى تلك المراتب والآيات ، وإذا أريد التّعبير عن المقصود بها للراقدين في فراش الطّبع يعبّر بالمناسبات والتّمثيلات كما يظهر الحقائق للنّائم بالمناسبات والتّمثيلات فيحتاج الى تعبير من خبير بصير ، فما ورد في تفسيرها من كون الالف اشارة الى الله ، واللّام اشارة الى جبرئيل ، والميم أو الرّاء اشارة الى محمّد (ص) ، وكذا ما ورد من انّ معناه : انا الله الرّؤوف ، تمثيل محتاج الى التّعبير ، وما ورد انّ الحروف المقطّعة في القرآن حروف اسم الله الأعظم يؤلّفها الرّسول (ص) أو الامام فيدعو بها فيجاب فهو اشارة الى خواصّها الّتى تترتّب عليها بحسب اعدادها ونقوشها كما أشير اليه في الاخبار ، أو كناية عن اتّصافه بحقائقها (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) اشارة الى المراتب المشهورة المعبّر عنها بتلك الحروف ووجوه الاعراب في أمثاله والفرق بين الكلام والكتاب قد سبق في اوّل البقرة (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة في العلم والعمل لانّ المراد بالكتاب مراتب الوجود من العقول والنّفوس وهي ذات حكمة في العلم والعمل يعنى علمها وعملها مشتملان على الدّقائق أو المحكم الّذى لا نسخ فيه فانّ المتشابه هو جملة عالم الطّبع بحقائقها وآثارها ومنه الكتاب التّدوينىّ وعالم الطّبع من حيث ذاته متشابه وان كان من حيث انتسابه الى الله محكما (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) لمّا اعتقدوا انّ الرّسول لا بدّ وان يكون مناسبا للمرسل والمناسب لله هو الملك تعجّبوا من ادّعاء البشر لرسالة من الله واعتقدوا انّه فرية عظيمة وهذا حمق وسفاهة منهم ، فانّ الرّسول كما يكون مناسبا للمرسل ينبغي ان يكون مناسبا للمرسل إليهم ولا يكون الّا من كان ذا شأنين ؛ شأن الهىّ وشأن خلقىّ حتّى يناسب بشأنيّة الطّرفين فأنكر سبحانه تعجّبهم ووبّخهم على ذلك (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) وضع المظهر موضع المضمر لئلّا يتوهّم ارادة المتعجّبين منهم


(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) خصّ البشارة بالمؤمنين لانّ الإنذار عامّ لهم ولغيرهم والبشارة بنعم الآخرة لا تكون الّا للمؤمنين وقد يخصّ الإنذار بالكفّار لانّ إنذار المؤمنين لا يكون الّا من جهة غفلتهم وكفرهم الخفىّ (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) كما يكون سلوك البدن بالمركب أو الرّجلين كذلك سلوك النّفس ومركبها ورجلاها الصّدق ، فالصّدق بحسب الظّاهر استعارة تخييليّة وإثبات القدم له ترشيح وتنكير الصّدق وافراد القدم اشارة الى كفاية ثبات قدم واحدة لشيء من الصّدق (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لانّه يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فاذا ثبت لهم قدم واحدة من صدق ما فازوا بكلّما وعد الله المقرّبين ، وقد فسّر في الاخبار بالشّفاعة وبمحمّد (ص) وبالولاية والكلّ صحيح كما عرفت (قالَ الْكافِرُونَ) بيان لانكارهم الوحي المستفاد من تعجّبهم ولذا لم يأت بالعاطف وجعله جوابا للسّؤال عنهم (إِنَّ هذا) القرآن أو الادّعاء من محمّد (ص) أو تصرّفه في النّاس وصرفهم الى نفسه أو المجموع (لَساحِرٌ مُبِينٌ) كلّ فعل أو قول دقيق يؤثّر في النّفوس ولا يعلم سبب تأثيره يسمّى سحرا سواء كان بالتّصرّفات الملكوتيّة السّفليّة أو العلويّة أو امتزاجات القوى الرّوحانيّة مع القوى الطّبيعيّة أو بالتّصرّفات الطّبيعيّة المحضة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) صرف الخطاب إليهم بعد ما أنكر عليهم ووبّخهم مزجا للوعد والوعيد والرّحم والغضب كما هو عادته تعالى وعادة خلفائه في الوعظ والنّصح من الشّروع في الإنذار والوعيد والختم بالبشارة والوعد ، ولذلك ختم بوعد المؤمنين بأبسط وجه وللتّباين بينهما لم يأت بأداة الوصل ، وقد سبق تفسير الآية بتمام اجزائها في سورة الأعراف (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر أو حال عن فاعل خلق أو استوى منفردا أو على التّنازع ولمّا كان خلقة السّماوات والأرض وكذا استواؤه على العرش امرا قضى بحسب ظاهر الحسّ والتّدبير امرا يحتاج اليه المخلوق ما بقي ادّاه بالمضارع الدّالّ على التّجدّد ، والأمر يقال على كلّ فعل كما يقال : باىّ امر اشتغلت؟ وعلى حال الشّخص ، وعلى طلب الشّيء بحكومة ، وعلى فعل ذلك الطّلب ، وعلى المجرّدات الإله الخلق والأمر اشارة اليه ، وعلى المشيّة الّتى بها خلق الأشياء الّتى يعبّر عنها بوجه بالعرش وبوجه بالكرسىّ وهي الولاية المطلّقة والحقيقة المحمّدية (ص) ، والتّدبير عبارة عن النّظر في ادبار الأفعال والأحوال واختيار الأحسن غاية منها ، والمقصود انّ الّذى هو خالقكم غير غافل عنكم ينظر في أموركم وأحوالكم ويختار ما هو خير لكم بحسب دنياكم وآخرتكم ، ومنه إرسال رسول من جنسكم ، أو ينظر في الأمر الّذى هو عالم المجرّدات وكيفيّة تنزيله الى المادّيّات فينزلّه على وفق حكمته وما ننزّله الّا بقدر معلوم اقتضته قابليّاتكم اشارة اليه ، ومنه إرسال الملك فانّه لا يرسل الملك إليكم بلا واسطة بشر استعدّ لمشاهدته لانّه لو أرسل الى غير المستعدّ لاهلكه وهو خلاف التّدبير والنّظر في عاقبة الأمور وهكذا القول في بيانه ان فسّر الأمر بالمشيّة.

تحقيق تعلّق الشّفاعة ومنها الإفتاء للنّاس على الاجازة من الله

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) استيناف جواب لسؤال كأنّه قيل : أليس لأحد دخل في امر النّاس وحالهم؟ أو في تعلّق فعل الله وامره بعالم الطّبع؟ ولا شفاعة أصلا؟ ـ فقال : لا شفاعة الّا باذنه ودخل الشّفيع باذنه تدبيره تعالى لا غير ، أو حال متداخلة أو مترادفة ، والشّفاعة هاهنا بمعنى مسئلة العفو عن ذي سلطنة لغيره أو مسئلة الإحسان اليه وشاع استعماله


في سؤال العفو للغير والشّفاعة عند الله غير مختصّة بالآخرة كما يظنّ ، بل هي ثابتة في الدّنيا للأنبياء (ع) وأوصياءهم إذ استغفار هم للتّائبين البائعين على أيديهم شفاعة ، واستغفارهم بعد ذلك لهم شفاعة ، وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشّرّ ونصحهم ووعظهم كلّها نحو شفاعة ، فمن اجترأ على امر الخلق ونهيهم وبيان حلال الله وحرامه بالفتيا والوعظ الّذى جعلوه صنعة كسائر الصّنائع المعاشيّة والقضاء بين النّاس من غير اذن من الله بلا واسطة أو بواسطة فقد اجترأ على الله ، والاجتراء على الله نهاية الشّقاوة وهذا كسر عظيم على من دخل واجترأ على أخذ البيعة من النّاس من غير اذن من الله ، كما كان ديدن الخلفاء من بنى أميّة وبنى العبّاس ، وكما اجترأ المتشبّهة المبطلة بالصّوفيّة فدخلوا في ذلك من غير اذن من مشايخ المعصومين (ع) ، ولذلك كانت السّلف لم ينقلوا الحديث فضلا عن بيان احكام الله بالرّأى والظّنّ ما لم يجازوا من المعصوم (ع) أو ممّن نصبوه ، ومشايخ الاجازة واجازة الرّواية مشهورة مسطورة وسلسلة اجازتهم مضبوطة ، وكذا الصّوفيّة المحقّة كانوا لا يدخلون في الأمر والنّهى وبيان الأحكام والاستغفار للخلق وأخذ البيعة منهم الّا إذا أجيزوا وسلاسل إجازاتهم مضبوطة عندهم ، وذمّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر والاقدام على الفتيا والوعظ ممّن ليس له باهل خصوصا ممّن جعله وسيلة الى أغراضه الفاسدة ، من جمع المال والتّبسّط في البلاد والتّسلّط على العباد والصّيت وصرف وجوه النّاس اليه وإدخال محبّته في قلوبهم قد كثر وروده في الاخبار ، أعاذنا الله من هذا العار وحفظنا من شرّ أمثال هؤلاء الأشرار ، وقد ورد في وصف مجلس القضاء : هذا مجلس لا يجلس فيه الّا نبىّ أو وصىّ أو شقىّ ، ومعلوم انّ الوصاية اذن من النّبىّ (ص) في التّصرّف فيما له التّصرّف فيه من حيث نبوّته وماله التّصرّف فيه من حيث نبوّته هو الأحكام الالهيّة الّتى يبلّغها الى عباده وحديث : العلماء ورثة الأنبياء ، يشعر بما ذكرنا ، لانّ الوراثة ليست الّا بالولادة الجسمانيّة أو بالولادة الرّوحانيّة وليست الولادة الجسمانيّة مقصودة ، والولادة الرّوحانيّة لا تحصل بمحض الادّعاء بل هي نسبة خاصّة واتّصال مخصوص ووراثة المتّصل بالنّبىّ (ص) بقدر اتّصاله وقربه وبعده عن النّبىّ الّذى هو مورّثه ، ولا يحصل أصل اتّصال النّسبة الرّوحانيّة الّا بالعمل الصّورىّ والتّفاضل في الاتّصال بحسب التّفاضل في القرب الحاصل بمتابعته وقدر الإرث يختلف بحسب التّفاضل فمن كان له شأن الانوثة كان له قسط من الإرث ، ومن كان له شأن الذّكورة كان له قسطان ، والعارف لذلك التّفاضل لا يكون الّا النّبىّ (ص) أو خليفته فوراثته لا تكون الّا بايراثه وهو الاذن المذكور (ذلِكُمُ) الموصوف بالخالقيّة والاستواء على العرش الّذى هو جملة الأشياء وبتدبير أمركم في البقاء وعدم مداخلة أحد في أمركم الّا باذنه (اللهُ) خبر أو بدل أو صفة على تقدير اعتبار معنى الوصفيّة فيه (رَبَّكُمُ) خبر لذلكم أو صفة لله أو خبر بعد خبر (فَاعْبُدُوهُ) يعنى إذا كان الله الموصوف بتلك الصّفات ربّكم فافعلوا له فعل العبيد أو صيروا له عبيدا ، ولمّا كان المقصود ترغيبهم في عبادته لم يصرّح بحصر العبادة في نفسه ونفى استحقاق الغير (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الا تفكّرون فيه وفي أوصافه وفي آلهتكم الظّاهرة من الأصنام والكواكب وغير المستحقّين للنّيابة الالهيّة وفي آلهتكم الباطنة من اهويتكم الفاسدة واغراضكم الكاسدة فلا تذكّرون انّ الحقيق بالعبادة والاطاعة هو الله ومظاهره البشريّة النّائبة عنه لا آلهتكم الّتى لا جهة استحقاق عبادة فيهم (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) استيناف جواب لسؤال عن العلّة أو عن حاله مع خلقه وعلى الثّانى أيضا يستلزم التّعليل (وَعْدَ اللهِ) وعد الله وعدا (حَقًّا) مفعول مطلق تأكيد لنفسه ان جعل من قبيل له علىّ درهم حقّا ، أو تأكيد لغيره ان جعل من قبيل : إبني أنت حقّا ، أو حال من وعد الله ، والموعود امّا


إرجاع الكلّ اليه أو بدء الخلق واعادتهم للجزاء (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بيان للموعود ولذا لم يأت بأداة الوصل ، أو تعليل لرجوع الكلّ اليه ان جعل الموعود إرجاع الكلّ اليه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) بالعدل الّذى هو لائق به من جزاء كلّ أعمالهم بجزاء أحسنها ، أو ذكر القسط هنا تمهيد لوعيد الكفّار للاشارة الى انّه لا ظلم معهم وهو لا ينافي المعاملة معهم بالفضل بعد مراعاة القسط ، والحقّ انّ حقيقة القسط هي الولاية المطلقة المتحقّق بها علىّ (ع) ، وانّ كلّ قسط يوجد في العالم انّما هو من فروع تلك الولاية ، لكن لا يسمّى القسط قسطا شرعا الّا إذا اتّصل الولاية التّكوينيّة بالولاية التّكليفيّة بالبيعة العامّة النّبويّة أو بالبيعة الخاصّة الولويّة ، فالقسط شرعا يستلزم الإسلام أو الايمان والمنظور هاهنا هو ذلك اللّازم كأنّه قال ليجزي الّذين آمنوا بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة وعملوا الصّالحات بالبيعة الخاصّة وما يشترط فيها ، أو بامتثال شرائط البيعة الخاصّة بالإسلام أو بالايمان ويؤيّد هذا المعنى موافقته لقرينته في قوله تعالى : بما كانوا يكفرون ، ولم يعيّن الجزاء تفخيما له بإبهامه اشارة الى انّه جزاء لائق بإعطاءه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على الّذين آمنوا ، وعلى هذا فقوله (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) جملة مستأنفة بيان للجزاء أو عطف على (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أو على مقدّر مستفاد من قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) (الى الآخر) كأنّه قال : فالّذين آمنوا (الى آخر الآية) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) (الى آخر الآية) وعلى هذا فتغيير الأسلوب للاشارة الى انّ جزاء الكفّار من الغايات بالعرض وانّه ينسب الى أنفسهم لانّهم اولى بسيّئاتهم من الله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) استيناف في معرض التّعليل للبدءة والاعادة للجزاء أو للتّدبير أو في معرض البيان لتدبيره تعالى ، ولم يذكر منازل الشّمس ولا غاية إيجادها ومنافع سيرها لانّها كثيرة لا يحيط بها البيان ولانّ أكثرها مشهودة للعوامّ ولعدم شهرة منازل للشّمس بخلاف القمر (وَالْقَمَرَ نُوراً) الفرق بين النّور والضّياء بالعموم والخصوص وحمل الضّياء والنّور للمبالغة أو باعتبار ما يرى منهما من انّهما نوران متجوهران (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) قدّر له منازل أو قدّره ذا منازل أو سيّره منازل (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) فانّ الأعوام والشّهور في نظر العوامّ منوطة بدورات القمر دون الشّمس (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) بسبب الحقّ أو بالغاية الحقّة (يُفَصِّلُ الْآياتِ) قرئ بالغيبة والتّكلّم (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اى نفصّلها بالبيان وفي الوجود لقوم لهم صفة العلم.

اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار نطفته في الرّحم بل من اوّل تولّد مادّته من العناصر الى زمان بلوغه سألك على الطّريقة القويمة الانسانيّة بتسبيبات الهيّة ، ومدرك لخيراته بإدراك جمادىّ أو نباتىّ أو حيوانىّ لا بإدراك انسانىّ ، ولا يسمّى إدراكه ذلك علما كما لا يسمّى ادراك غير الإنسان من المواليد علما ، فاذا بلغ بهذا السّلوك أو ان بلوغه واستغلظ في بدنه ونفسه وحصل له العقل الّذى هو مدرك خيراته وشروره الانسانيّة ، فان كان إدراكه للأشياء بقدر مرتبته الدّانية وقوّته الضّعيفة من حيث انّها دوالّ قدرته تعالى وآيات حكمته وأسباب توجّهه وسلوكه الى الحقّ القديم سمّى إدراكه ذلك علما ، وان لم يكن إدراكه كذلك بل يدرك الأشياء مستقلّات في الوجود ولم يدركها من حيث انّها متعلّقات دالّات على صانعها لم يسمّ علما ، بل يسمّى جهلا مشابها للعلم ، مثل ان يرى أحد من بعيد ظلّا لشاخص ويظنّ انّ الظّل شاخص مستقل في الوجود ، وهذا كما يجرى في الآيات الجزئيّة الآفاقيّة والانفسيّة يجرى في الآيات


القرآنيّة والاخبار المعصوميّة والأحكام الشّرعيّة خصوصا في حقّ من جعلها وسائل للأغراض الدّنيويّة ، والحاصل انّ كلّ ادراك يكون سببا لسلوكه الفطرىّ على الطّريق الانسانىّ ولاشتداد مداركه الانسانيّة وازدياد إدراكاته الاخرويّة يسمّى علما ، وكلّ ادراك يكون سببا لوقوفه عن السّلوك أو لرجوعه عن الطّريق الى الطرق السّفلية الحيوانيّة يكون جهلا بل الجهل السّاذج يكون أفضل منه بمراتب ؛ إذا تقرّر هذا فتفصيل الآيات تكوينا وتدوينا لا يكون الغرض منه الّا ادراك من له صفة العلم لعدم انتفاع الغير به (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) جواب لسؤال ناش عن السّابق وهكذا الجمل المذكورة فيما بعد الّتى لا عاطف فيها (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) لمّا كان الشّمس والقمر من الآيات الظّاهرة علّق كونهما آية على صفة العلم الّتى هي اوّل مراتب الانسانيّة بخلاف سائر المخلوقات وبخلاف اختلاف اللّيل والنّهار ولذلك علّق كونهما آية على التّقوى الّتى مرتبتها فوق مرتبة أصل العلم فانّ التّقوى عمّا يتّقى بعد العلم بما يتقى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) جواب لسؤال ناش عن تعليق الآيات على العلم والتّقوى ، وعدم رجاء اللّقاء كناية عن عدم العلم فانّ العالم بالله طالب للقائه والطّالب راج كما انّ قوله (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) كناية عن عدم التّقوى لانّ الاطمينان بالحيوة الدّنيا مضرّ بالحيوة العليا ومفنيها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) من قبيل عطف المسبّب عن السّبب (أُولئِكَ) تكرار المسند اليه والتّعبير عنه باسم الاشارة لتصويرهم واستحضارهم بالأوصاف المذكورة (مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فانّ الغافل كلّما كسب كان جاذبا له الى السّفل والجحيم وان كان كسبه صورة الصّلوة والصّيام (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اى البيعة الخاصّة وشرائطها أو شرائط البيعة الخاصّة والأعمال الّتى كلّفوا بها فيها (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) المضاف الّذى هو ولىّ أمرهم الى ملكه وولايته على الاوّل والى ملكوته على الثّانى (بِإِيمانِهِمْ) بإسلامهم أو بايمانهم الخاصّ أو يهديهم في الآخرة الى الجنّة (تَجْرِي) حال أو مستأنف جواب سؤال (مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلّق بتجرى أو ظرف مستقرّ حال متداخلة أو مترادفة أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير مبتدء محذوف (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) مستأنف أو حال من جنّات النّعيم أو من المؤمنين على التّرادف أو التّداخل (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ان هي المخفّفة. اعلم ، انّ في الآية اشارة اجماليّة الى درجات المؤمنين ومقامات السّالكين فانّ ، آمنوا اشارة الى البيعة الاسلاميّة ، وعملوا الصّالحات الى البيعة الايمانيّة والأعمال القالبيّة والقلبيّة أو المجموع الى البيعة النّبويّة والأعمال القالبيّة ، ويهديهم الى البيعة الولويّة الايمانيّة والأعمال القلبيّة والسّلوك من مقام النّفس الى مرتبة القلب ، وتجري من تحتهم الأنهار اشارة الى سيرهم فوق مرتبة القلب في مراتب الرّوح والعقل ، ودعواهم فيها سبحانك اللهمّ اشارة الى انتهاء سيرهم وآخر مراتب فناءهم وهو فناؤهم عن ذواتهم وعن فنائها ، وتحيّتهم فيها سلام اشارة الى بقاءهم بالله في الله من غير صحو وبقاء فانّ فيه السّلامة على الإطلاق


(وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) اشارة الى حشرهم الى اسم الرّحمن وبقاءهم بالله في الخلق لتكميل الغير ، وبعبارة اخرى اشارة الى أسفارهم الاربعة اى السّفر من الخلق الى الحقّ بقوله : آمنوا وعملوا الصّالحات ، والسّفر من الحقّ الى الحقّ بقوله : يهديهم (الى) سبحانك اللهمّ ، والسّفر في الحقّ بقوله تحيّتهم فيها سلام ، والسّفر بالحقّ في الخلق بقوله وآخر دعواهم ، رزقنا الله وجميع المؤمنين (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) عطف على انّ الّذين لا يرجون لقاءنا وتخلّل انّ الّذين آمنوا غير مخلّ بالوصل والعطف لانّه جواب لسؤال ناش عن المعطوف عليه فكأنّه من متعلّقاته كأنّه قال : انّ الّذين لا يرجون لقائنا حالهم كذا مع انّ حال المؤمنين كذا ولو عجّلنا لهم الشّرّ الّذى استحقوه لم يبقوا في الدّنيا متمتّعين (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) تعجيلا مثل تعجيله لهم الخير فالباء للتعدية أو مثل حثّه وحمله ايّاهم على العجلة في الخير أو بالخير فالباء بمعنى في أو للسببيّة أو مثل عجلتهم في الخير أو بسبب الخير (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأقضي إليهم قضاء مدّتهم الّتى اجّلوا فيها أو لأقضي إليهم آخر عمرهم الّذى اجّلوا اليه (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) عطف على لو يعجّل الله باعتبار المعنى اى لم يعجّل فنذر الّذين لا يرجون أو جزاء شرط محذوف اى إذا لم نقض إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) حالكونه على جنبه فاللّام بمعنى على والمقصود مطلق إلقاء البدن على الأرض سواء كان على الجنب أو الظّهر أو الوجه ويعبّر بالإلقاء على الجنب عن مطلق أحوال الإلقاء كثيرا في العرب والعجم (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) اى في جملة الأحوال فلفظة أو لتفصيل الأحوال (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) كان المناسب ان يقول فاذا كشفنا حتّى يصحّ تعقيبه للشّرط المستقبل لكنّه ادّاه بالشّرط الماضي اشارة الى انّ مسيس الضّرّ والدّعاء عقيبه سجيّة للإنسان مستغرق للماضي والمستقبل كأنّه قال : إذا مسّ الإنسان الضّرّ دعانا وقد مسّه الضّرّ فدعانا فلمّا كشفنا عنه ضرّه (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) كناية عن اعراضه وعدم عنايته بشأن من كان محتاجا اليه ومتنعّما به وقد صار هذه العبارة مثلا في العرب والعجم في هذا المعنى إذا ذكر بعده ما يدلّ على تشبيه حال المحتاج بغير المحتاج (كَذلِكَ) اى مثل ما زيّن للمكشوفى الضّرّ أعمالهم حتّى لا يبالوا بمن دعوه لكشفه وغفلوا عنه (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اتّباع الشّهوات والانهماك فيها حتّى وقعوا في الغفلات (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم بالغفلة وعدم المبالاة بسخط الله ومكره وهو تهديد للغافلين (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فما اكترثوا بهم وببيّناتهم لغاية غفلتهم (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لغاية غفلتهم وانهماكهم في الشّهوات لتزيين الشّيطان لهم أعمالهم الشّهويّة (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ) اى خلائف لنا أو للاسلاف (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) وهم الواقعون في جهنّام النّفس والنّفس كالمرأة الخبيثة لا ترضى بوضع يحصل لها وتتمنّى دائما غير الوضع الّذى هو حاصل لها وهؤلاء باقتضاء فطرة النّفس سئلوا تبديل القرآن (أَوْ بَدِّلْهُ) يعنى اترك هذا القرآن وائت بمكانه قرآنا نرتضيه ، أو غيّره بتبديل ما لا نرتضيه


الى ما نرتضيه (قُلْ ما يَكُونُ) ما يصحّ (لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) اى اغيّره بترك أصله أو بتبديل آياته أو اقتصر على الامتناع عن التّبديل ليدلّ على انّ تركه أصلا اولى بالامتناع (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) بدون امر ربّى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) يعنى ليس لي نفسيّة وامر نفس واتّباع لأمر النّفس لانّ شأنى واتّباعى مقصور على امر ربّى (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) جواب سؤال عن العلّة وتعريض بهم حيث يعصون ولا يخافون (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) اى لا أعلمكم الله به على لساني يظنّ في بادي النّظر انّ حقّ العبارة ان يقال : لو لم يشأ الله ما تلوته حتّى يفيد ترتّب عدم التّلاوة على عدم المشيّة ويستفاد من مفهومه ترتّب التّلاوة على المشيّة ، ومفاد الآية ترتّب عدم التّلاوة على المشيّة واستلزامه بحسب المفهوم لترتّب التّلاوة على عدم المشيّة والحال انّ الوجودىّ يحتاج الى العلّة الوجوديّة والعدم لا علّة له ، وما قالوا : علّة العدم عدم ، فهو من باب المشاكلة ولو سلّم فيقتضى تعليق عدم التّلاوة على عدم المشيّة لا على نفس المشيّة ، والجواب انّه تعالى أراد أن يشير الى انّه لا شأن له (ص) عدميّا كان أو وجوديّا الّا وهو متعلّق بمشيّة الله والعدم الصّرف وان كان لا علّة له ولا تعلّق له بشيء ، لكنّ الاعدام الشّأنيّة اى اعدام الملكات كالوجوديّات تقتضي علّة وتعلّقا وإذا كان عدم تلاوته مع انّه عدميّ متعلّقا بمشيّته تعالى فتلاوته كانت متعلّقة بالطّريق الاولى ، لانّها حادثة وجوديّة مقتضيته للعلّة والتّعلّق ، ومفهوم الآية تعلّق التّلاوة بعدم مشيّة عدم التّلاوة وهو اعمّ من مشيّة التّلاوة أو عدم المشيّة مطلقا (فَقَدْ لَبِثْتُ) الفاء عاطفة على لو شاء الله ما تلوته بملاحظة المعنى مع اشعاره بالسببيّة للاثبات كأنّه قال : تلوته بمشيّة الله لا بمشيّتى وادّعائى ذلك بسبب لبثى فيكم وعدم ظهور مثل ذلك منّى ، كأنّه أشار بتلك السببيّة الى قياسين اقترانيّين من الشّكل الاوّل وقياس استثنائى مأخوذ من نتيجة القياس الثّانى واستثناء نقيض تاليه ترتيبه هكذا : لو لم يكن القرآن باتّباع الوحي ومشيّة الله لكان باختلاق من تلقاء نفسي وكلّما كان باختلاق من تلقاء نفسي ظهر مثل ذلك منّى قبل ذلك ؛ ينتج لو لم يكن بمشيّة الله لظهر مثله قبل ذلك وكلّما ظهر مثله قبل ذلك شاهدتموه وسمعتموه ولكن لم تشاهدوه منّى فقد لبثت (فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) قبل القرآن مدّة أربعين سنة لا يظهر عنّى أمثال ذلك ، وما سمعتم منّى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) لا تدركون بعقولكم أو لا تتصرّفون في مدركاتهم بعقولكم أو لا تصيرون عقلاء (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) تعريض بنفسه وبهم على سبيل التّرديد على طريقة الإنصاف مع الخصم بعد ما اثبت كونه غير مفتر كأنّه قال : ان كنت مفتريا على الله كما تكنون بذلك فانا أظلم النّاس وان كنت آتيا بآيات الله وتكذّبونها فأنتم أظلم النّاس ، أو تعريض بكلتا القرينتين بهم ويكون أو للتّفصيل لا للتّشكيك كأنّه قال بعد ما اثبت انّى غير مفتر : فأنتم أظلم النّاس من جهة افترائكم على الله بنصب الآلهة لأنفسكم وبتكذيب آياته (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) في موضع التّعليل (وَيَعْبُدُونَ) عطف بملاحظة المعنى المقصود بالتّعريض يعنى هم يفترون ويكّذبون ويجرمون ويعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) من الأصنام والكواكب عبادة العبيد ومن الاهوية والآراء والشّياطين عبادة اتّباعيّة ، ومن غير من نصبه الله من رؤساءهم الدّنيويّة أو رؤساءهم الدّينيّة بزعمهم عبادة طاعة ، والمقصود من نفى الضّرّ والنّفع نفى ما يتوهّمونه ضرّا ونفعا ممّا يئول الى دنياهم من غير نظر الى عبادتهم والّا فهي بعبادتهم


ايّاها تضرّهم غاية الضّرّ (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) كما يقول الوثنىّ : انّ أصنامنا شفعاؤنا عند الله ، وكما يقول أكثر الصّابئين : انّ الكواكب شفعاؤنا ، وبعض يقول : هي قديمة مستقلّة في الآلهة ، كما يقول الزّرداشتيّون : النّار تشفعنا عند الله ، وكما يقول المطيعون لمن يزعمونهم رؤساء الدّين : هؤلاء وسائط بيننا وبين الله ، وكما يقول المتّبعون للأهواء والشّياطين في صورة الأعمال الشّرعيّة الصّادرة من اتّباع النّفس والشّياطين : هي وسائل بيننا وبين الله وأسباب قربنا الى الله والحال انّها وسائل الشّيطان وأسباب القرب الى الجحيم والنّيران (قُلْ) استهزاء (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) بالشّفعاء من حيث شفاعتهم أو بشفاعتهم يعنى انّ ما في السّماوات والأرض معلوم له وما ليس معلوما له فيهما فلا يكون (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) يعنى قبل بعثة الرّسل البشريّة كانوا على مقتضيات شهوات النّفوس آمّة لها متوجّهة إليها وبعد بعثة الرّسل انصرف طائفة عنها الى ما دعتهم الرّسل اليه من الخيرات الاخرويّة الانسانيّة وابى طائفة (فَاخْتَلَفُوا) وقبل بعثة الرّسل الباطنة من العقول كانوا على مقتضيات النّفوس الحيوانيّة آمّة لها وبعد بعثة الرّسل الباطنة انصرف طائفة من قواهم الى ما دعتها الرّسل اليه وبقيت طائفة فاختلفوا وتنازعوا وتقاتلوا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) كلمة إمهالهم وآجالهم المؤخّرة المعيّنة سبقت فيما كتبه الملك المصوّر في أرحام أمّهاتهم أو سبق ثبتها في الألواح والأقلام العالية (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) لحكم بإظهار الحقّ والباطل وتميّز الحقّ عن المبطل (وَيَقُولُونَ) استهزاء أو استظهارا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) اى على محمّد (ص) (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ممّا اقترحناه أو ممّا يدلّ على رسالته (فَقُلْ) الفاء جواب شرط محذوف أو متوهّم اى إذا قالوا فقل (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) علم الغيب مختصّ به فلا اعلم انا ولا أنتم ما يترتّب على إنزال الآية من المفاسد والمصالح وهو يعلم فلا ينزل الآية لما فيها من المفاسد وفي تركها من المصالح أو عالم الغيب ملك الله ليس لي تصرّف فيه ولا تسلّط عليه حتّى أجيب مقترحكم أو انزل منه ما أريد ، فانا وأنتم سواء في ذلك (فَانْتَظِرُوا) نزول الآية والفاء مثل سابقه (إِنِّي) مثلكم (مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ويحتمل ان لا يكون قوله (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ) (الآية) مماشاة معهم بل يكون تهديدا لهم على استهزاءهم والمعنى انّ الغيب لله ينزّل منه ما يشاء من عذابكم وعذابي والرّحمة بكم وبى فانتظروا نزول عذابه انّى معكم من المنتظرين ويؤيّد هذا المعنى تهديدهم بالآية الآتية (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) سعة وصحّة وأمنا فانّها من آثار الرّحمة وان كانت قد تصير نقمة أو هي رحمة في انظارهم القاصرة عن ادراك الغايات (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) وهي ضدّ المذكورات (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) الكبرى البشريّة أو الصّغرى الآفاقيّة والانفسيّة والتّدوينيّة فانّ الإنسان ليطغى ان رآه استغنى ، والمكر في الآيات الكبرى بالإضرار بالحيل الخفيّة ، وفي الآيات الصّغرى في المعجزات بحملها على السّحر ونحوه من الوجوه الخفيّة ، وفي غيرها بإخفائها وتلبيسها على الغير أو تأويلها على مقتضى شهواتهم (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أنفذ مكرا وأسبق مكرا فانّ مكركم في الآيات في الحقيقة مكر الله فيكم فمكره أسبق من مكركم في كلّ حال ونسبة المكر الى الله من باب المشاكلة أو المشابهة والّا فالماكر يقال للعاجز عن إعلان المخاصمة المنصرف عنه الى اخفائها (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) تهديد لهم بظهور ما يظنّونه خافيا عليه بواسطة


الرّسل وصرف للخطاب عنه (ص) إليهم والتفات من الغيبة الى التّكلّم ليكون أبلغ في الإنذار على قراءة تمكرون بالخطاب وهو جواب سؤال ناش عن سابقه كأنّه قيل : هل الله يعلم ما نمكر حتّى يمكر بنا (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) بمنزلة التّأكيد والاضراب من غير الأبلغ الى الأبلغ في الجواب كأنّه قال : بل نعلم ما تمكرون بدون واسطة الرّسل وأنتم بحسب الفطرة تعلمون ذلك لانّا نحن الّذى نسيّركم ، والتّسيير يستلزم العلم بدقائق أحوال المسيّر والمسيّر فيه والمسيّر له وأنتم إذا رفع عنكم غشاوة الخيال تعلمون ذلك ، لانّكم تدعونه وقت انقطاع الوسائل وحيل الخيال عنكم فتعلمون انّه هو الّذى يعلم حالكم ودعاءكم ويقدر على إجابتكم ورفع البلاء عنكم فتدعونه مخلصين عن أغراض الخيال ، لكنّكم إذا رفع عنكم البلاء وتسلّط عليكم الخيال احتجب بأغراضكم الخياليّة واهويتكم النّفسانيّة معلومكم الّذى تكونون مفطورين عليه فتشركون به غيره ، فهو تأكيد للجواب وتفظيع لهم بالتّبع ، والمراد بتسييره تعالى تمكينه ايّاهم من السّير بتهيّة أسبابه الدّاخلة من قواهم العلّامة والعمّالة والخارجة من تسطيح الأرض وتسخير المراكب وجعل ما يحتاج اليه من المأكول والمشروب والملبوس ممّا يمكن نقله ، أو نقول لكلّ متحرّك محرّك لا محالة والمحرّك الاوّل في الحركات الاختياريّة هو النّفس المسخّر لها القوى والنّفس بالنّسبة الى الله تعالى مثل القوى بالنّسبة الى النّفس لا استقلال لها في شأن من شؤنها ، فكما انّ فعل القوى ينسب الى النّفس حقيقة بل النّفس اولى بنسبتها من القوى فكذلك فعل النّفس بالنّسبة الى الله تعالى فالمسيّر وان كان هي النّفس اوّلا لكنّه الحقّ الاوّل تعالى حقيقة والنّفس كالآلة له ؛ فصحّ نسبة التّسيير اليه تعالى بطريق الحصر (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) التفات من الخطاب الى الغيبة (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من امكنة البحر يعنى من جميع جوانب السّفن (وَظَنُّوا) أيقنوا لما مرّ مرارا انّ علوم النّفس ان كانت يقينيّة فهي ظنون ، أو المراد حقيقة الظّنّ لانّ ظاهر الأمواج وان كان مورثا ليقينهم لكن رجاءهم بالغيب المفطور على العلم به وبقدرته على انجائهم مورث لاحتمال الإنجاء (أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) اى اهلكوا والتّأدية بالماضي للاشارة الى تحقّقه كأنّه وقع وهذا يؤيّد كون الظّنّ بمعنى اليقين وهو صار مثلا في الهلاك ، وأصله من قولهم : أحاط به العدوّ فلا سبيل للخلاص له ولا مسلك للخروج (دَعَوُا اللهَ) بدل من ظنّوا بدل الاشتمال ، أو جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما فعلوا؟ (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) طريق الدّعاء أو طريق النّفس الى الله أو اعتقادهم التّوحيد وسائر عقائد الدّين أو ملّتهم الّتى أخذوها دينا من نبيّهم ووجه الإخلاص قد مضى من انّ تسلّط الخيال وتصرّفه يورث الشّرك الظّاهر والباطن وحين تراكم البلاء وتلاطم أمواجه ينقطع حيله ويفرّ ويقول كالشّيطان : انّى ارى ما لا ترون انّى أخاف الله ربّ العالمين فيبقى التّوحيد الفطرىّ بلا معارض ولا حجاب (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) تفسير للمدعوّ به المحذوف تقديره : دعوا الله بشيء لئن أنجيتنا ، أو مفعول لقول محذوف حالا (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) يعنى خرجوا من الشّكر ونكثوا حلفهم ونقضوا عهدهم لعود الخيال وحيله واغشيته إليهم بغى عليه عدا وظلم ، وبغى وعدل عن الحقّ واستطال وكذب ، وبغى في مشيه اختال وأسرع ، وبغاه طلبه والكلّ مناسب هاهنا (بِغَيْرِ الْحَقِ) تقييد للبغي فانّ البغي باىّ معنى كان قد يكون بالحقّ


مثل ما يرى من أهل الحقّ من التّجاوز عن الحدّ وصورة الظّلم والعدول عن الحقّ تقيّة والاستطالة والكذب في موقعه والاختيال في محلّه وطلب الدّنيا بأمر الرّبّ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بعد ما ذمّهم بالنّكث والبغي توجّه إليهم بالنّداء وذكر انّ وبال بغيهم راجع عليهم ليكون أردع (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) لا يتعدّاها في الحقيقة الى غيركم فانّ الإنسان ما لم يفسد قوى نفسه بصدّها عن مطاوعة العقل لا يفسد غيره ، وإفساده غيره وان كان إفسادا له ظاهرا لكنّه إصلاح له حقيقة ، فيبقى البغي إفسادا لنفس الباغي فقط وعلى هذا فعلى أنفسكم خبر عن بغيكم ويحتمل وجوها من الاعراب وهي كون بغيكم بمعنى أو بتضمين معنى يقتضي التّعلّق بعلى وكون الجارّ متعلّقا به و (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بالرّفع خبرا عنه أو على أنفسكم خبرا ومتاع الحيوة الدّنيا خبرا بعد خبر ، أو خبر مبتدء محذوف حالا من المستتر في الظّرف أو مستأنفا ، وعلى قراءة نصب متاع الحيوة الدّنيا فالخبر هو الظّرف ومتاع الحيوة الدّنيا نائب عن مصدر بغيكم ، أو مصدر لفعل محذوف حالا أو مستأنفا ، أو منصوب على الّذمّ اى اذمّ متاع الحيوة الدّنيا ، وعلى قراءة نصب المتاع يحتمل كونه مفعولا لبغيكم أيضا ، ويحتمل وجوها أخر بعيدة مثل كون الظّرف لغوا ومتاع الحيوة الدّنيا بالرّفع أو بالنّصب بوجوه كونه غير خبر والخبر محذوفا مثل محذور أو ثقل ووبال (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) جواب سؤال ناش عن ذمّ متاع الحيوة الدّنيا (كَماءٍ) كمثل ماه (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) اختلاط النّباتات كثرتها وتداخل أنواعها المختلفة بعضها خلال بعض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) ألوان نباتها فانّ زخرف الأرض ألوان نباتها (وَازَّيَّنَتْ) تزيّنت بأصناف النّبات وأزهارها واخضراها واختلاف ألوان رياحينها وأشكالها واختلاطها بحيث يعجب النّاظر إليها (وَظَنَّ أَهْلُها) أهل الأرض أو أهل الزّخرف فانّه باعتبار معناه الّذى هو ألوان النّبات إذا أضيف الى الأرض يجوز إرجاع ضمير المؤنّث اليه (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) على الأرض بإنباتها وانماء نباتها وابقائه الى ان انتفعوا به أو على الزّخرف بإنباتها وانمائها وابقائها وذلك لكمال غفلتهم واغترارهم بتدبيرهم (أَتاها) أتى الأرض أو الزّخرف (أَمْرُنا) بإهلاكها واستيصالها بالعاهات والآفات (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) اى الزّخرف (حَصِيداً) محصودة والفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المذكّر والمؤنّث وهو في اللّغة اسم لما حصده الإنسان بالحديد لكنّه صار مثلا في كلّ ما استوصل بحيث لم يبق منه شيء (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) لم تقم أو لم تكن (بِالْأَمْسِ) يعنى قبل ذلك الزّمان فهو أيضا صار مثلا في الزّمان القريب ، اعلم ، انّ هذه التّمثيل من أحسن اقسامه لتطابق جميع أجزاء الممثّل به والممثّل له في التّشبيه حيث انّ النّفس الانسانيّة النّازلة من سماء الأرواح كالماء النّازل من السّماء الدّنيا وبدن الإنسان كالأرض في استقرار النّفس والماء وقواه كنبات الأرض في اختلاف أنواعها واغترار الإنسان بقوّة قواه واشتدادها كاغترار أهل الأرض بزخرفها واستيصال قوى الإنسان بالأجل كاستيصال أصناف النّبات بالآفة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) آيات العالم الكبير والعالم الصّغير (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يستعملون قوّتهم المتصرّفة في معلوماتهم بالضّمّ والتّفريق الّتى تسمّى باعتبار استخدام العاقلة


لها مفكّرة وباعتبار استخدام الواهمة متخيّلة ، فانّه التّفكّر هو استعمال المفكّرة أو المتخيّلة في التّصرّف في المعلومات ، وأمثال هذه الآيات المتراكمة المتداخلة المتوافقة المتخالفة لا يدركها الّا من كان عالما متفكّرا (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) عطف على نفصّل الآيات أو على كذلك نفصّل الآيات ومقتضى المقام ان يقول وندعو الى دار السّلام ليتوافق المتعاطفان في الفعليّة وفي المسند اليه لكنّه عدل عن التّكلّم وعن الفعليّة الى الاسميّة ولذا يتراءى المنافرة بين المتعاطفين للاشارة الى علّة الحكم وانّ الالهيّة تقتضي ذلك ، وتقديم المسند اليه لتأكيد الحكم ولشرافته وللاشارة من اوّل الأمر الى علّة الحكم ، ودار السّلام دار الله لانّ السّلام من أسمائه تعالى ، أو دار السّلامة من جملة الآفات البدنيّة والنّفسانيّة ، ولمّا كان الدّعوة عامّة بخلاف الهداية الخاصّة أطلق هذه وقيّد الهداية (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والمراد بالدّعوة الدّعوة الظّاهرة الجارية على السنة الأنبياء ولذا كانت عامّة وبالهداية الهداية الخاصّة الى ولىّ الأمر وهو الصّراط المستقيم ولذا أتى بها بعد الدّعوة ، لانّ تلك الهداية تكون بعد قبول النّبوّة والبيعة العامّة النبويّة وقيّدها بمن يشاء لانّ الدّعوة الباطنة والبيعة الخاصّة خاصّة بمن شاء ان يتّخذ الى ربّه سبيلا (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما لمن انتفع بالآيات وقبل الدّعوة واهتدى؟ ـ فقال : للّذين أحسنوا منهم العاقبة الحسنى ، أو المثوبة الحسنى ، وأصل الإحسان قبول الولاية وكلّ قول وفعل وحال وخلق يكون للإنسان من جهة الولاية كان إحسانا لانّ الحسن الحقيقىّ هو الولاية المطلقة الّتى مظهرها علىّ (ع) ، والولايات الجزئيّة حسنة بحسنها وكلّ من اتّصل بالبيعة الخاصّة بعلىّ (ع) بلا واسطة أو بواسطة الأولياء الجزئيّة صار ذا حسن ، وهو المراد بالإحسان هنا ، ومن صار ذا حسن ولم ينقطع حبل اتّصاله ولا ينقطع الّا نادرا اتّصل اتّصاله البشرىّ بالاتّصال الملكوتىّ والجبروتىّ بملكوت علىّ (ع) وجبروته ، وهو العاقبة الحسنى والمثوبة الحسنى لا أحسن منها (وَزِيادَةٌ) هي لوازم الاتّصال بملكوت ولىّ الأمر من الرّاحة في الدّنيا والخلاص من آلامها والجنّة ونعيمها في الآخرة ، واختلاف الاخبار في تفسيرها يرفعه ما ذكرنا (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) لا يغشيها (قَتَرٌ) غبرة فيها سواد (وَلا ذِلَّةٌ) وهما كناية عمّا يعروها من اثر الحزن وشدّة الحاجة وذلك لما عرفت من انّ المتّصل بملكوت ولىّ الأمر ليس له الم حزن ولا حاجة (أُولئِكَ) التّأدية باسم الاشارة البعيدة للتّفخيم ولتصويرهم بما ذكر من الأوصاف (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) عطف على جملة للّذين أحسنوا الحسنى من قبيل عطف الجملة أو على الّذين أحسنوا الحسنى بتقدير اللّام من قبيل العطف على معمولى عاملين مختلفين عطف المفرد وهو اولى لموافقته لسياق الكلام ولسلامته عن الحذف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) قد سبق انّ السّيّئة لمّا كانت مخالفة لمقتضى الفطرة لا تقوى على تنزيل الإنسان زيادة على قدر قوّتها ، والحسنة لمّا كانت موافقة لفطرته ترفعه زائدا على قدر قوّتها عشر أمثالها الى سبعمائة والله يضاعف لمن يشاء (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ) من سخط الله أو من جانب الله (مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) لغاية الحزن وشدّة الألم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) يعنى المؤمنين والكافرين ، أو الكافرين وشركاءهم ، أو المؤمنين وأئمّتهم والكافرين وشركاءهم (جَمِيعاً) عطف على محذوف متعلّق بالجمل


السّابقة من قوله للّذين أحسنوا الى أغشيت وجوههم اى في الدّنيا أو يوم الموت أو يوم الرّجعة ويوم نحشرهم أو المعطوف والمعطوف عليه كلاهما محذوفان والتّقدير ذكّرهم بما ذكر وذكّرهم يوم نحشرهم أو متعلّق بزيّلنا على تقدير امّا أو توهّمه أو زيادة الفاء ، أو متعلّق بزيّلنا المذكور تفسيره (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله أو بالولاية (مَكانَكُمْ) الزموا ولا تبرحوا أو هو اسم فعل و (أَنْتُمْ) تأكيد للمستتر فيه تصحيحا للعطف عليه (وَشُرَكاؤُكُمْ) في الآلهة أو في العبادة أو في الولاية أو في الطّاعة أو في المحبّة أو في الوجود (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) اوقعنا التّفرقة بين المؤمنين والكفّار أو بين الكفّار وشركاءهم (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) بأحد الوجوه (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) المراد بالعبادة هاهنا اعمّ من العبادة المعروفة ، أو المراد بشركاؤهم الشّركاء في العبادة لانّهم في الحقيقة عبدوا أهواءهم ومن عبادة أهواءهم تولّد عبادة الشّركاء الظّاهرة (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) عطف على ما كنتم ولمّا كان مرتبة الاستشهاد بعد إبراز الدّعوى عطفه بالفاء واستشهد شركاءهم بالله على نفى عبادة المشركين لهم ، لانّه كان العالم بحقيقة الحال وانّهم بعبادة الشّركاء واطاعتهم ما كانوا عابدين الّا اهويتهم وما أرادوا بذلك الّا حصول مشتهياتهم فهم كانوا عابدين لأنفسهم الخبيثة مصدرا ومرجعا ، أعاذنا الله من ان بقول يوم العرض لنا : ما كنتم ايّاى تعبدون ، لانّ الدّاعى لعبادتكم كان اهويتكم لا أمري والمقصود كان حصول اغراضكم لا رضاي (إِنْ كُنَّا) ان هي المخفّفة (عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) نفوا دعوى المعبوديّة لأنفسهم كما نفوا عبادة المشركين لهم (هُنالِكَ) المقام أو الزّمان (تَبْلُوا) تختبر (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) فتعرف حقّها عن باطلها أو صحيحها عن سقيمها وجيّدها عن مغشوشها لحدّة بصرهم وصفاء ادراكهم فيدركون ايّها صدر عن النّفس الامّارة والشّيطان وايّها صدر عن العقل بشركة النّفس وايّها صدر عن العقل ثمّ طرء عليه أغراض النّفس (وَرُدُّوا) بعد ما عرفوا أعمالهم (إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) التّوصيف بالحقّ تعريض ببطلان معبوداتهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الشّركاء لكونها باطلة (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالرّزق الانسانىّ (وَالْأَرْضِ) بالرّزق الحيوانىّ أو بكليهما باعداد كليهما (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) اقتصر على المدارك الجزئيّة المحسوسة ومنها على أشرفها وأنفعها للإنسان اعنى السّمع والبصر افادة لمملوكيّة غيرها بالطّريق الاولى والمراد بمالكيّته تعالى لها كونها تحت قدرته بحيث لا مدخليّة لأحد غيره فيها فيعطى ويمنع ويأخذ ويبقى ويجعل سليما ومأوفا وقويّا وضعيفا ما يشاء منها لمن يشاء (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) والمراد بإخراج الحىّ اعمّ من إخراج الحيوان من مادّته الميتة وإنشاء النّفس الحيّة بالّذات من البدن الميتة وإخراجها منه بالموت أو بالنّوم وإخراج المؤمن من الّذى هو حىّ بالحيوة الانسانيّة من الكافر الّذى هو ميّت عنها وإخراج المثال الصّاعد من عالم الطّبع وهكذا إخراج الميّت من الحىّ (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قد مضى تفسير هذه الكلمة في اوّل السّورة (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) الفاء زائدة والجملة جواب لسؤال مقدّر أو الفاء جواب شرط محذوف أو خالصة للسببيّة (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) توبيخا لهم أو امرا لهم بالتّقوى بعد إقرارهم بكون الكلّ بقدرته (فَذلِكُمُ) الموصوف بما ذكر (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ)


تعريض ببطلان شركاءهم كما مرّ ، وفي اعرابه وجوه أحسنها ان يكون ذلكم مبتدء والله صفة أو بدلا منه وربّكم خبرا عنه والحقّ صفة له (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِ) بعد الانصراف عنه أو بعد الحقّيّة (إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) وليس انصرافكم الّا الى الضّلال لعدم الواسطة (كَذلِكَ) متعلّق بتصرفون و (حَقَّتْ) ابتداء كلام أو متعلّق بحقّت وعلى اىّ تقدير فالجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فلا ينبغي لأحد ان ينصرف عنه فقال كحقيّة الرّبوبيّة أو ككون الضّلال بعد الحقّ أو كانصرافهم عن الحقّ حقّت (كَلِمَةُ رَبِّكَ) اى الضّلال أو حكمه بالضّلال أو عدم ايمانهم (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) خرجوا عن الحقّ أو عن طاعة العقل أو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بتقدير الباء أو اللّام أو بدل من كلمة ربّك (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ذكر الاعادة في الإلزام امّا لكون المخاطبين معتقدين بالاعادة أو لوضوح برهانها أو للاكتفاء بالابداء في الإلزام وذكر الاعادة للتّنبيه والاستطراد ، أو المراد بالاعادة هو تكميل المواليد بالبلوغ الى كمالاتها المترقّبة منها ولمّا لم يكن لهم جواب سوى الاعتراف بانّ الله هو المبدأ والمعيد وليس هذا من فعل الشّركاء امر تعالى نبيّه (ص) ان يجيب عنهم فقال (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الى اين تصرفون عن الله بعد قدرته وعجز الشّركاء (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ولمّا كان هاهنا عدم تبادرهم الى الجواب متوقّعا لخفاء هداية الله عليهم أو لاحتمالهم هداية أصنامهم امره (ص) بالتّبادر الى الجواب من قبلهم فقال (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) مقول قوله (ص) أو استيناف كلام من الله (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) قرئ يهدّى بتشديد الدّالّ من اهتدى بابدال التّاء دالا وادغامها وقرئ حينئذ بكسر الهاء على قانون تحريك السّاكن بالكسرة وبفتحها على نقل حركة التّاء ، وقرئ في صورة كسر الهاء بفتح الياء على الأصل وبكسرها على اتّباعها ، وقرئ بتخفيف الدّال من الهدى بمعنى الرّشاد أو بمعنى الدّلالة (إِلَّا أَنْ يُهْدى) تنزيل الآيات في الإشراك بالإله وتأويلها في الإشراك بالولاية ولذا فسّر من يهدى بمحمّد (ص) وآله (ع) من بعده (ص) ، وعلى التّأويل يجوز تفسير الآية هكذا قل هل من شركاءكم من يهدى غيره أو يهتدى بنفسه الى الحقّ قل الله في مظاهره النبويّة أو الوليّة يهدى غيره أو يهتدى بنفسه الى الحقّ أفمن يهدى غيره أو يهتدى الى الحقّ احقّ ان يتّبع أم من لا يهدى غيره أو لا يهتدى على قراءة تخفيف الدّال ، أو أم من لا يهتدى فقط على قراءة تشديد الدّال ، وكأنّه للاشارة الى التّأويل أتى في الكلّ بلفظ من الّتى هي لذوي العقول (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) باىّ حكم تحكمون فتختارون ما ليس له جهة ادراك على من يملك المدارك كلّها (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) استيناف على ما قيل بإتيان الواو للاستيناف لكنّه بعيد لانّه ما لم يلاحظ ربط بين الجملتين لا يؤتى بالواو فان شئت فسمّ ذلك الرّبط بالعطف بجعل الجملة السّابقة في أمثال هذا معطوفا عليها بلحاظ المعنى أو بتقدير المعطوف عليه من معنى الجملة السّابقة ، مثل ان يلاحظ انّ معنى ما لكم أو معنى كيف تحكمون ليس لهم عقل أو علم أو يحكمون بالباطل ، أو يقدّر أمثال ذلك بقرينة السّابق ثمّ يعطف عليه وان شئت فسمّه بشبه العطف والتّقييد بالأكثر امّا لانّ بعضهم يتّبعون رؤساءهم من غير حصول اعتقاد لهم لعدم شأنيّتهم لاعتقاد شيء كالحيوان الّذى يتّبع صاحبه من غير شعور له بنفع أو ضرّ في ذلك الاتّباع ، أو لانّ بعضهم كان يعلم


بطلان ما يعبد لكنّه كان يعبد المعبودات الباطلة ويطيع رؤساء الضّلالة لمحض أغراض فاسدة دنيويّة ، وتنكير الظّنّ للاشارة الى انّ ظنّهم ظنّ سفلى مستند الى النّفس ردىّ مهلك والّا فالظّنّ العلوىّ المستند الى العقل قلّما ينفكّ الطّالب للآخرة عنه ما لم يدخل في الولاية ولم يصر عالما بواسطة اتّباعه للولاية وذلك الظّنّ يجذبه الى دار العلم ويكون ممدوحا (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي) من اغنى عنه بمعنى ناب عنه وكفى كفايته (مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) مفعول مطلق ومن الحقّ صلة يغني أو مفعول به ومن الحقّ حال منه ، وتعريف الظّنّ امّا للاشارة الى الظّنّ السّابق أو للجنس باعتبار انّ بعض افراد الظّنّ وان كان قد يدعوا لي دار العلم لكنّه لا يكفى كفاية الحقّ فلا ينبغي الوقوف عليه فالظّنون المستندة الى الكتاب والسّنّة ان كانت عقليّة علويّة فهي ممدوحة لكن لا ينبغي الوقوف عليها ما لم توصل الى العلم وان كانت نفسيّة دنيويّة سفليّة فهي مذمومة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) جواب سؤال ناش عن قوله وما يتّبع أكثرهم الّا ظنّا يعنى انّه عليم بصور أفعالهم ومصادرها وغاياتها (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) اى لان يفتري بتقدير اللّام اى لا يجوز كونه مفترى فكيف بفعليّته أو افتراء من قبيل زيد عدل (مِنْ دُونِ اللهِ) من غير الله (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السّماويّة حيث يطابقها في العقائد والأحكام ونصب التّصديق بالعطف على خبر كان أو بتقدير كان على خلاف في عطف المفرد الآتي بعد لكن مع الواو أو بكونه مفعولا له لانزله مقدّرا (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) كتاب النّبوّة وأحكامها وقد مرّ مرارا انّ الكتاب اشارة الى احكام النّبوّة كلّما ذكر مطلقا (لا رَيْبَ فِيهِ) حال أو مستأنف (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ظرف مستقرّ حال أو خبر مبتدء محذوف والجملة مستأنفة (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ) ان افتريته (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) فانّه ان كان كلام المخلوق وأنتم فصحاء الخلق ينبغي ان تقدروا على مثله (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) للاستعانة به على الإتيان (مِنْ دُونِ اللهِ) كما ادّعيتم انّه من غير الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعوى الافتراء (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أنكروا ما لم يعلموا شبّه العلم الكامل بالشّيء بشيء محاط من جميع جوانبه بحيث لم يشذّ عن المحيط شيء منه ، ففيه اشعار بانّ انكار ما لم يعلم بطلانه علما يقينيّا عيانيّا أو برهانيّا أو سماعيّا بتقليد من يعلم صدقه كذلك مذموم ، فإنكار بعض على من لم يروه موافقا لعاداتهم ورسومهم وتسميته حميّة للدّين وحفظا للإسلام وعقائد المسلمين ليس في محلّه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يعنى أنكروا ما لم يعلموا وما لم يعاينوا مصاديقه فيشاهدوا بطلانه فهو عطف على لم يحيطوا أو على كذّبوا أو حال ، ويجوز ان يكون المراد تهديدهم بإتيان مصاديق ما في القرآن أو ما في اخبار النّبىّ (ص) أو ما في الاخبار بولاية علىّ (ع) أو المراد بما لم يحيطوا بعلمه القرآن أو النّبوّة وبتأويله الولاية فانّها ما يئول اليه القرآن والنّبوّة لانّهما صورتاها (كَذلِكَ) التّكذيب من غير علم وعيان (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السّالفة المعاقبة في الدّنيا (فَانْظُرْ) بايّاك اعنى واسمعي يا جارة أو هو (ص) مقصود بالخطاب اصالة وغيره تبعا والغرض تسليته عن تكذيب قومه وتهديد القوم عن تكذيبه (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) اى عاقبتهم والتّعبير بالظّاهر لذمّ آخر (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) عطف على كذّبوا كأنّه قال : بل منهم من يعلم صدقه وينكر عنادا أو منهم من له استعداد التّصديق فيصدّق وينقاد بعد ذلك


وإنكاره هذا محض الجهل من غير خبث من ذاته (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) الجاحدين عن علم أو بالمفسدين الغير المتوقّعين لايمانهم ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بإفسادهم وذمّ أخر لهم (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ) اعراضا عن الجاهلين أو متاركة لهم (لِي عَمَلِي) نافعا كان أو ضارّا (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) كذلك (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) تأكيد للاوّل ولذا ترك العاطف وعكس التّرتيب لانّه تأكيد للمفهوم لا للمنطوق كأنّه قال : لي عملي لا لكم بحسب مفهوم الحصر ولكم عملكم لا لي (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ردّا واستهزاء ، أو لسماع المقصود منك (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) حال بتقدير القول أو جواب عن سؤال مقدّر كأنّه (ص) قال : فما شأنهم لا يسمعون المقصود منّى؟ ـ فقال : شأنهم ان يقال أفأنت تسمع الصّمّ يعنى انّ آذانهم الانسانيّة صمّ عن سماع ما يسمعه الإنسان ولا عقل لهم حتّى يمكن الافهام بالاشارة ونحوه فهم كالبهائم ولذا قال (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) ويشاهد منك بيّنات صدقك وصدق كتابك لكنّهم عمى عن مشاهدة آثار الصّدق ودلالة دوالّه (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) الى مشاهدة آثار الرّبوبيّة والآخرة (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ببصيرة عقليّة يعنى ان كان لهم بصيرة يمكن إفهام آثار الرّبوبيّة ولو لم يكن بصر لهم لكنّهم عمى وغير ذوي بصيرة والآية كالعلّة للاعراض والمتاركة (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) بمنع ما يستحقّونه منهم جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل فالله يمنعهم السّماع ويظلمهم (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بابطال فطرتهم وإفساد استحقاقهم وأنفسهم مفعول ليظلمون أو تأكيد للنّاس (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) عطف على محذوف والتّقدير لكنّ النّاس أنفسهم يظلمون في الدّنيا ويوم يحشرهم أو متعلّق با ذكر مقدّرا أو بيتعارفون أو بقد خسر (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) حال من مفعول يحشرهم أو صفة لمصدر محذوف بتقدير العائد اى حشرا كأن لم يلبثوا قبله أو متعلّق بيتعارفون والمقصود انّهم استقلّوا لبثهم في الدّنيا أو في القبر لتمثّل الحال الماضية بحيث انّها كأن لم تغب ولذا قيّد بالنّهار (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا لاستحضارهم الحال الماضية وتمثّلها عندهم (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) قالا كالدّهريّة والطّبيعيّة وكلّ من اقرّ بالمبدء دون المعاد ، وحالا كأكثر من اقرّ بلسانه ولم يساعده حاله وهو جواب سؤال كأنّه قيل : فما كان حال النّاس يومئذ؟ أو حال من فاعل يتعارفون بتقدير العائد ، أو متعلّق ليوم يحشرهم ، أو ابتداء كلام منقطع عمّا قبله والتّعبير بالماضي والحال انّ حقّه الإتيان بالمستقبل على غير الوجه الأخير لتحقّق وقوعه (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) ان نرك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب والانتقام (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل الاراءة (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) لا يفوتون عنّا فلا تحزن على تأخير الانتقام (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) وللتّفاوت بين الاخبارين في الغرض المسوق له الكلام وهو تسليته أيضا أتى بثمّ والتفت تجديدا لنشاط السّامع حتّى يتمكّن في قلبه واشارة الى علّة الحكم كأنّه قال : ان نرك أو نتوفّك فلا تحزن لانّ مرجعهم إلينا فنجازيهم على سوء أعمالهم على انّ الله شاهد بالفعل على أعمالهم ومحيط بهم (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية (رَسُولٌ) من الله اعمّ من الرّسول الموحى اليه أو وصيّه وعلى هذا فقوله (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) مبتن على تصوير الحال


الماضية حاضرة أو على كون إذا للزّمان الماضي وهذا على كون الآية تسلية للرّسول (ص) بتذكّره (ص) حال الأنبياء الماضين ، أو لكلّ أمّة من الأمم الماضية والآتية رسول من الله نبىّ أو خليفته فاذا جاء رسولهم فكّذبوه (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الرّسول والامّة أو بين أمّة الرّسول (ص) باهلاك الامّة وإنجاء الرّسول (ص) ، أو إهلاك المكّذبين وإنجاء الرّسول والمصدّقين ، أو إذا جاء رسولهم يحاكم بينهم بالحقّ ولم يهملوا كما كانوا من قبل مجيء الرّسول (ص) (بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) باهلاك المستحقّ للنّجاة وإنجاء المستحقّ للهلاك أو بالمحاكمة بينهم بهوى النّفس وأغراضها ، أو المعنى لكلّ أمّة رسول من الأنبياء أو خلفائهم هو شاهد عليهم فاذا جاء رسولهم يوم القيامة للشّهادة عليهم وشهد عليهم قضى بين الامّة بالقسط بإدخال من كان أهلا للجحيم فيها ومن كان أهلا للنّعيم في الجنّة ، وعن الباقر (ع) تفسيرها في الباطن انّ لكلّ قرن من هذه الامّة رسولا من آل محمّد (ص) (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) وعد مجيء الرّسول (ص) في القيامة أو وعد العذاب الّذى كان الرّسول يوعدهم به أو وعد القيامة الّتى كان الرّسول يذكرها لهم استبطأوا الموعود استهزاء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فكيف أملك لغيري اقامة القيامة أو الإتيان بالعذاب (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء من ضرّا ونفعا أو استثناء منقطع بمعنى لكن ما شاء الله يقع (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مقول لقوله (ص) أو ابتداء كلام من الله وعلى اىّ تقدير فهو جواب لسؤال مقدّر والمعنى لكلّ أمّة من أمم الرّسل (ع) مدّة لإمهالهم أو وقت معيّن لعذابهم (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) اى انقضى مدّتهم أو أتى وقت عذابهم بالإهلاك في الدّنيا أو بالعذاب في الآخرة وإذا جاء أجلهم على تضمين التّقدير حتّى لا ينافر مع قوله لا يستقدمون اى إذا قدّر مجيء أجلهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يتأخّرون ولا يتقدّمون على وقت الأجل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) من الرّأى بمعنى الاعتقاد (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) يترائى انّ التّقييد بهما تطويل حيث انّه يستفاد من الإتيان لكنّه أطناب مستحسن لانّه تكميل لسابقه ورفع لتوهّم اختصاص العذاب بالإتيان في وقت مخصوص فالمقصود من ذكر الظّرف اطلاق الحكم لا تقييده (ما ذا) اىّ شيء أو ما الّذى (يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) من العذاب (الْمُجْرِمُونَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة التّهويل والإنكار وتفضيحا لهم بذمّ آخر والاستفهام الاوّل على حقيقته للاستخبار بحسب أصل المعنى والّا فهو مع الفعل بمعنى أخبروني والاستفهام الثّانى للإنكار والتّهويل متعلّق بأرايتم والفعل معلّق بسبب الاستفهام والمعنى أخبروني بجواب هذا السّؤال وجملة الشّرط محذوفة الجواب معترضة بينهما وهذا انكار لاستعجالهم العذاب المستفاد من قولهم : متى هذا الوعد؟ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) الاستفهام مع العاطف على التّقديم والتّأخير والاستفهام للتّقرير والإتيان بثمّ للتّفاوت بين الاستفهامين فانّ الاوّل للإنكار والثّانى للحمل على الإقرار والمعنى اثمّ إذا ما وقع العذاب حين ظهور القائم (ع) في الكبير أو الصّغير أو حين الموت أو حين بأس علىّ (ع) بعد محمّد (ص) وقد أشير الى الكلّ في الاخبار (آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ) تؤمنون بتقدير القول الى يقال : آلآن جملة مستأنفة أو مقولا لهم آلآن مفردا حالا (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) استهزاء لعدم اعتقادكم به (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) العذاب


أو ولاء علىّ (ع) كما في الاخبار (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) جاعلين الله أو عليّا (ع) عاجزا عن نفاذ حكمه (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) في حقّ الله أو حقّ محمّد (ص) وآل محمّد (ص) (ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) عن نفسه من هول العذاب وشدّته (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) كراهة شماتة الأعداء كما في الخبر أو خوف اطّلاع ملائكة العذاب أو اطّلاع الله على ندامتهم النّاشئة عن اعترافهم بالظّلم فانّهم يحلفون لله كما يحلفون لكم على انكار الظّلم والذّنب (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين المؤمنين والمنافقين أو بين الظّالمين والمظلومين (بِالْقِسْطِ) بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وكلّ ذي عقوبة عقوبته (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بمنع الحقّ وعقوبة غير المستحقّ وبنقص الحقّ وزيادة العقوبة (أَلا إِنَّ لِلَّهِ) مبدء ومرجعا وملكا (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيفعل ما يشاء بمن يشاء من غير مانع من حكمه ولا رادّ من فعله (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالعذاب والثّواب (حَقٌ) لا خلف فيه من قبله كما لا مانع له من غيره ولمّا كان الجملتان لتسجيل عقوبة المنافقين وكان التّأكيد بعد ذمّهم مطلوبا أتى في الجملتين بأداة الاستفتاح ومؤكّدات الحكم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم صفة العلم ، فانّ العلم هو الإدراك الّذى يحرّك صاحبه من السّفل الى العلو ، وبعبارة اخرى هو الإدراك الّذى يحصل لصاحبه حالكونه في السّلوك الى الله ولا محالة يشتدّ كلّ يوم وكلّ آن ويستلزم ذلك الإدراك العمل بموجبه وحصول علم آخر له بآخرته ويحصل له ازدياد علم بالله وقدرته واحاطته ، وهذا العلم غير حاصل لمن أنكر الآخرة قالا كاهل بعض المذاهب أو حالا كأكثر المنتحلين للملل الحقّة فهم غير عالمين وان كانوا عالمين بجميع الفنون والصّناعات ، وللغفلة عن حقيقة العلم سمّى ادراكاتهم أشباه النّاس علوما ؛ وفي الخبر قد سمّاه أشباه النّاس عالما وقد حقّقنا ذلك في اوّل البقرة عند قوله : (لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وفي الرّسالة المسمّاة ب «سعادت نامه» وعلى هذا فالتّقييد بالأكثر للاشعار بانّ اقلّهم ما أبطلوا علمهم الفطرىّ الّذى أعطاهم الله وبقي فيهم شيء منه محجوبا احتجابا عرضيّا (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تأكيد لقوله انّ لله ما في السّماوات والأرض ولذا لم يأت بالعاطف أو جواب لسؤال مقدّر أو حال والأحياء والامانة اشارة الى مالكيّته والرّجوع اليه اشارة الى مرجعيّته (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) دعوة من الشّرور الى الخيرات (مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) من وساوس الشّيطان ولمّات النّفس واهويتها لمن استشفى به (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) والمراد القرآن فانّه موعظة وشفاء وهداية ورحمة أطلق الاوّلين لانّ الموعظة عامّة لمن اتّعظ ومن لم يتّعظ وكذا الشّفاء لكن لا ينتفع بهما الّا من اتّعظ واستشفى ، وقيّد الثّانيّين لاختصاصهما بالمؤمنين وعدم تعلّقهما بغيرهم وحقيقة الموعظة هي الرّسالة وأحكامها لتعلّقها بالقوالب والظّواهر وعمومها لكلّ الخلق ، وحقيقة الشّفاء النّبوّة لتعلّقها بالصّدور وعمومها أيضا وحقيقة الهدى والرّحمة الولاية لانّ الرّسالة والنّبوّة سبب لا يقاظ الخلق من الغفلة وتنبيههم على الحيرة والضّلالة ليس فيهما من حيث أنفسهما هداية ولا رحمة ، والولاية سبب لاراءة الطّريق وإيصال الضّالّ المتحيّر بعد تنبّهه بضلاله وتحيّره الى الطّريق ، وبعد الوصول الى الطّريق موجبة لنزول الرّحمة آنا فآنا عليه ، ولمّا كان القرآن صورة للكلّ صحّ جعل الأوصاف كلّها أو صافا له فصحّ التّفسير بالقرآن ، كما صحّ جعل الأوصاف لموصوفات متعدّدة كما ذكرنا والتّفسير بها


(قُلْ) تبجّحا وسرورا (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) قد مرّ مرارا انّ فضل الله هو الرّسالة والنّبوّة اللّتان هما صورة الولاية والرّحمة هي الولاية ، ولمّا كان النّبوّة والولاية من شؤن النّبىّ (ص) والولىّ (ع) ومتّحدتان معهما صحّ تفسيرهما بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) (فَبِذلِكَ) الفاء للعطف واسم الاشارة اشارة الى المذكور من الفضل والرّحمة ولمّا كان التّبجّح مقتضيا لتطويل ما يتبجّح به وتكريره والمبالغة فيه أتى بالفاء العاطفة لما بعدها على مغاير الدّالة على تعقيب ما بعدها لما قبلها بين المتّحدين اشارة الى انّ ما بعدها وان كان متّحدا مع ما قبلها لكنّه مغاير له باعتبار المبالغة والاشتداد في الدّاعى للكلام ، وهو التّبجّح أو الغرض المسوق له الكلام وهو أيضا فرح المبشّرين فكأنّه عطف مغايرا بالّذات ولذلك الاقتضاء كرّر الجارّ (فَلْيَفْرَحُوا) هذه الفاء امّا زائدة أو بتوهّم امّا أو بتقديره أو عاطفة على محذوف مفسّر بما بعدها وهو أبلغ كلام في الدّلالة على اشتداد تبجّح المتكلّم وعلى المبالغة في المقصود (هُوَ) اى المذكور من الفضل والرّحمة وأتى باسم الاشارة والضّمير مفردين للاشارة الى اتّحادهما حقيقة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من صورة القرآن فانّها ممّا يجمعونه بأيديهم ثمّ يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله لجمعهم ايّاها وتصرّفهم فيها بآرائهم الفاسدة بخلاف الفضل والرّحمة فانّهما لا قدرة لهم على التّصرّف فيهما لانّهما ممّا لا يمسّه الّا المطهّرون أو ممّا يجمعون من حطام الدّنيا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) ما استفهاميّة للتّعجيب اشارة الى شرافته وعظمته في نفسه ومن حيث انتسابه الى الله والى كثرته وتوطئة لذمّ التّصرّف فيه بالأهواء وحينئذ فأرأيتم استفهام واستخبار مستعمل بمعنى أخبروني كسابقه أو هو بمعنى أعلمتم والاستفهام للتّعجيب أو للإنكار أو للتّقرير وقوله الله اذن لكم يكون مستأنفا أو لفظة ما شرطيّة وقوله : فجعلتم جزاءه بتقدير قد على القول بلزوم قد في الجزاء إذا كان ماضيا لفظا ومعنى ولذا دخل الفاء وأرأيتم حينئذ بمعنى أخبروني أو للتّعجيب أو للإنكار التّوبيخىّ ، وعلى التّقادير فالفعل معلّق عن جملة ما انزل الله أو لفظة ما موصولة مفعولا اوّلا لرأيتم والمفعول الثّانى محذوف اى كذلك أوءالله اذن لكم والفعل معلّق عنه ولفظة قل تأكيد للفظ قل الاوّل ، والمراد بانزال الرّزق في الرّزق الصّورىّ النّباتىّ إنزال أسبابه وفي الرّزق المعنوىّ الانسانىّ إنزال حقيقته ، فانّ رزق الإنسان وهو العلوم والأخلاق الحسنة تنزل بحقائقها من سماوات الأرواح ولفظ لكم للاشعار بانّ الغرض انتفاعكم ومن الانتفاع يستنبط حلّيّته (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) بما اسّستم بجعلكم من حرمة بعض الانعام مطلقا وحرمة بعضها على بعض من افراد الإنسان وحرمة شيء من الحرث وغير ذلك وبما تقوّلتم من عند أنفسكم من حرمة علم أنتم جاهلوه لكونكم أعداء لما تجهلون ، كتحريم بعض المتشبّهين بالفقهاء ومنعه عن مثل علم الكلام والهيئة ، وكمنع المتفلسفة عن الحكمة الحقيقيّة والعلوم الشّرعيّة ما سوى اصطلاحاتهم واقيستهم المأخوذة من أسلافهم ، وكتحريم المتصوّفة ما سوى مأخوذاتهم من اقرانهم ، وامّا العالم الحقيقىّ فانّه لجامعيّته لا يقول بحرمة شيء من ذلك بل يقول بحلّيّة الجميع بشرط كون الأخذ على اتّباع وتقليد من الأنبياء (ع) وأوصيائهم ونوّابهم وكان الأخذ بإذن منهم فيقول : جملة العلوم إذا أخذت من أهلها وعلى وجهها فهي محلّلة وإذا لم تؤخذ من أهلها أو لا على وجهها فهي محرّمة ، ويقول الحلال ما احلّه الله والحرام ما حرّمه الله والمبيّن هو النّبىّ (ص) أو من كان مأذونا منه بلا واسطة أو بواسطة ، فانّ الاذن والاجازة كما يصحّح العمل


يصحّح العلم ويجعل الظّنّ قائما مقام العلم بل أشرف منه كما مضى ؛ ولذلك قال تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ) بلا واسطة أو بواسطة (لَكُمْ) في التّحليل والتّحريم باىّ نحو شئتم أو في خصوص تحليل أشياء خاصّة وتحريم أشياء خاصّة والاذن اعمّ من ان يكون بتكليم الله بلا واسطة أو بواسطة الملك وحيا أو تحديثا أو بواسطة خلفائه البشريّة (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في ادّعاء الاذن أو في نسبة التّحليل والتّحريم الى الله ، ولمّا كان الحلال ما احلّه الله والحرام ما حرّمه الله لا غير فمن قال بالتّحليل والتّحريم بإذن الله فحلاله حلال الله وحرامه حرام الله ، ومن لم يقل بإذن الله فتحليله وتحريمه افتراء على الله سواء ادّعى الاذن في ذلك وقال برأيه أو ادّعى نسبة ذلك الى الله وادّعى أنّه مبيّن لحكم الله أو لم يدّع شيئا من ذلك ، لانّه قال فيما هو مختصّ بالله والقول فيما هو مختصّ بالله لا يكون الّا من ادّعاء الاذن فيه أو ادّعاء نسبته اليه تعالى وانّه مبيّنه فالمنفصلة حقيقيّة ، فاذا كان عدم الاذن معلوما فالافتراء محقّق ولذا عقّبه بتهديد المفترين ، فمن ادّعى تبليغ الأحكام القالبيّة كما هو شأن علماء الشّريعة رضوان الله عليهم أو تبليغ الأحكام القلبيّة كما هو شأن علماء الطّريقة رضوان الله عليهم ولم يكن مأذونا من الله بواسطة خلفائه كان مفتريا ومصداقا لقوله تعالى : ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين ، ولذا كانت سلسلة الاجازة منضبطة متّصلة من لدن آدم (ع) الى الخاتم (ص) وبعده الى زماننا هذا بين الفقهاء خلفائه كان مفتريا ومصداقا لقوله تعالى : ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين ، ولذا كانت سلسلة الاجازة منضبطة متّصلة من لدن آدم (ع) الى الخاتم (ص) وبعده الى زماننا هذا بين الفقهاء رضوان الله عليهم ومشايخ الصّوفيّة (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف مستقرّ حال من لفظة ما فانّه مفعول للظّنّ معنى وفي معنى الحدث ، وامّا تعلّقه بالظّنّ فانّه يفيد خلاف المقصود لانّ المقصود تهديدهم على اعتقادهم الحاصل المستتبع لاعمال منافية لاعتقاد الجزاء يوم القيامة ، وتعلّقه بيفترون أيضا مفسد للمعنى والمعنى ، اىّ جزاء مظنون الّذين يفترون على الله حالكونه ثابتا يوم القيامة؟ أو ظرف لغو بتقدير في أو اللّام ومتعلّق بالظّنّ أو بيفترون والمعنى ، اىّ شيء ظنّ الّذين يفترون في حقّ يوم القيامة أو ليوم القيامة؟ وقرئ ظنّ بلفظ الماضي وهذه الكلمة في المبالغة والتّشديد في التّهديد صارت كالمثل في العرب والعجم ، ولمّا بالغ في التّهديد في المتصرّفين بآرائهم في احكام الله وقل من ينفكّ عن التّصرّف في احكام الله قالا أو حالا في الصّغير أو في الكبير وصار المقام قريبا من مقام اليأس والمطلوب مزج الخوف مع الرّجاء حتّى لا يترك العاصي الاستغفار ولا يغترّ الرّاجى ، فرض سؤالا عن فضله تعالى ورحمته فأجاب بقوله (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ما يتفضّل به عليهم وبعضهم يكفرون والاقلّ منهم يشكرون (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الشّأن عبارة عن مراتب الإنسان ومقاماته الحاصلة في الكامل والمكمونة في النّاقص والأحوال الطّارية له بحسب مقاماته (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) من الكتاب أو من الشّأن أو من الله (مِنْ قُرْآنٍ) تخصيص الخطاب في هاتين الفقرتين به (ص) لاختصاص تلاوة القرآن من الله أو من الشّأن واختصاص ابتداء التّلاوة من الكتاب واختصاص الاستشعار بالشّؤن والمراتب به بخلاف العمل (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) تشريك للخطاب أو صرف للخطاب عنه (ص) إليهم لانّ شهود اعماله الجليّة مستفاد من شهود شؤنه الخفيّة (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداًإِذْتُفِيضُونَ) تخوضون (فِيهِ وَما يَعْزُبُ) وما يفقد (عَنْ رَبِّكَ) عن تصرّفه أو عن علمه أو عن ذاته (مِنْ) ذات (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) على الاوّلين أو من علم مثقال ذرّة على الأخير ، والّذرّة النّملة الصّغيرة ومائة منها زنة حبّة من الشّعير (فِي الْأَرْضِ) تقديم الأرض لكونها اهمّ في مقام بيان سعة علمه لانّ الأرض ابعد الأشياء منه وما فيها أخفى الأشياء لانّ كلّا منها في الغيبة


بالنّسبة الى غيره بخلاف السّماء والسّماويّات سواء أريد بها سماء عالم الطّبع أو سماوات الأرواح (وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) لمّا كان المقام للمبالغة في سعة علمه كان التّأكيد والتّكرير مطلوبا ولذا اكّد مثقال ذرّة فانّه صار كالمثل إذا وقع بعد النّفى في المبالغة في الشّمول ولا أصغر مع ما بعده جملة معطوفة على جملة ما يعزب ولا لنفى الجنس مركّبة مع اسمها و (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) خبرها ومن قرأ بالرّفع فلا عاملة عمل ليس أو ملغاة عن العمل بالتّكرير ، ويحتمل العطف على لفظ مثقال على قراءة الفتح وعلى محلّه على قراءة الرّفع وحينئذ يكون الاستثناء منقطعا (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) جواب لما ينبغي ان يسأل عنه من انّه هل يبقى أحد بلا خطر (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى بيان الخوف والحزن ووجه انتفائهما عن الأولياء ووجه اختلاف المتعاطفين في طريق التّأدية (الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة والدّخول في امر الائمّة ودخول الايمان في قلوبهم لا من قبل الدّعوة الظّاهرة وبايع بالبيعة العامّة النّبويّة ودخل في الإسلام من دون الدّخول في الايمان (وَكانُوا يَتَّقُونَ) غيّر الأسلوب للاشارة الى انّ الايمان امر يحصل بمحض البيعة الولويّة وامّا التّقوى الخاصّة فهي لا بدّ منها الى تمام مراتب الفناء والحشر الى الرّحمن بحيث تصير للمؤمن كالسّجيّة والموصول امّا صفة بيانيّة لأولياء الله ولذا اخّره عن الخبر أو خبر لمبتدء محذوف أو منصوب بفعل محذوف أو مبتدء خبره (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) اعلم ، انّ الولىّ يطلق على معان منها المحبّ والصّديق والقريب بمعنى ذي القرابة والقريب ضدّ البعيد ومنها النّصير والولىّ في التّصرّف بمعنى الاولى بالتّصرّف والسّلطان والمالك ، وولىّ الله قد يطلق ويراد به من قبل الدّعوة الباطنة ودخل الايمان في قلبه بالبيعة الخاصّة الولويّة باعتبار الصّنف الاوّل من معانيه ، وقد يطلق ويراد به الولىّ من الله باعتبار الصّنف الثّانى من معانيه والأولياء بالإطلاق الثّانى هم الأنبياء وأوصياؤهم الكاملون المكمّلون ، وبالإطلاق الاوّل شيعتهم واتباعهم الّذين قبلوا ولايتهم ، ولهم مراتب من اوّل دخولهم في الايمان وتدرّجهم في مدارج التّقوى والإيقان الى ان انتهوا في التّقوى الى فنائهم من ذواتهم بحيث تحقّقوا في المحبّة وكانوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم وكلّما ازداد مراتب تقواهم ومحبّتهم كان اطلاق الأولياء عليهم اولى ، ولذلك اختلف الاخبار في تفسير أولياء الله وكذا في تفسير بشريهم في الدّنيا بانّها الرّؤيات الحسنة الّتى يراها المؤمن أو يراها غيره له وبأنّها تحديث الملائكة مطلقا أو تبشيرهم عند الموت أو تبشير محمّد (ص) وعلىّ (ع) لهم عند الموت (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) تأكيد لتحقّق البشرى لهم (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اى كونهم مبشّرين مع عدم تبدّله (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فيك وفي اتباعك وهو عطف على مقدّر تقديره إذا كان الأولياء (ع) يعنى أنت واتباعك حالهم هكذا فلا تبال بالمكّذبين ولا يحزنك قولهم (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) تعليل للنّهى (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) جواب سؤال كأنّه قيل : هل يسمع أقوالهم ويعلم أحوالهم؟ ـ فأجاب بالحصر (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) تأكيد لعزّته ولذا لم يأت بالعاطف واكّده وتمهيد بمنزلة التّعليل لقوله (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ) تأكيد للاوّل على ان يكون ما نافية وقوله (إِلَّا الظَّنَ) استثناء من ما يتّبع أو قوله ان يتّبعون مستأنف


والاستثناء منه وما في ما يتّبع استفهاميّة أو موصولة معطوفة على من في السّماوات أو نافية أو المفعول محذوف اى ما يتّبعون حجّة وبرهانا (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون أو يقولون بالظّنّ وعليه فالاوّل لبيان انّ فعلهم عن الظّنّ والثّانى لبيان انّه قولهم عن الظّنّ وقد مضى انّ ادراك النّفس للأشياء يسمّى ظنّا سواء كان شهودا أو يقينا أو ظنّا لكون معلومها مغاير لإدراكها كالظّنّ ، فانّه مغاير للمظنون على انّها لكونها سفليّة إدراكها للأشياء يكون على غير وجهها وعلى غير ما هي عليه ، فإدراكها لها امّا مخالف لما هو واقعها عند النّفوس فهو خرص وكذب أو موافق لما هو واقعها عندها لكن لا على وجهها وعلى ما هي عليه فهو ظنّ لانّ شأنه ان لا يكون إدراكا محاطا للمدرك على ما هو عليه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) لانتفاعكم (اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا) عن متاعب النّهار وكدّ طلب المعاش (فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) لتطلبوا أسباب معيشتكم وحقّ العبارة ان يقول والنّهار لتطلبوا فيه معايشكم بذكر ما هو غاية له مطابقا لذكر غاية اللّيل ، لكنّه اكتفى عن ذكر الغاية بذكر سببها افادة لها مع سببها وغيّر الأسلوب اشعارا بسببيّة النّهار للابصار ، لانّه أسنده الى النّهار بطريق المجاز العقلىّ فأفاد الغاية وسببها وسبب سببها بأوجز لفظ وهو مبصرا ، وتقديم اللّيل مع كون النّهار أشرف من وجوه عديدة لكونه عدميّا مقدّما بالطّبع على الوجودىّ الحادث ولكونه بحسب التّأويل مقدّما بالزّمان وبالطّبع في سلسلة الصّعود الّتى هي من مراتب وجود الإنسان ، ولانّ المقام مقام تعداد النّعم والاهتمام باللّيل في عدّة من النّعم أكثر لانّهم يعدّونه زوال النّعمة وبعد ما أسلفنا لك لا يعضل عليك تعميم اللّيل والنّهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) عظيمة حيث انّ مواليده عالم الطّبع موقوفة عليهما وعلى اختلافهما بالزّيادة والنّقيصة والبرودة والحرارة والظّلمة والاستنارة ففي خلقهما للمتدبّر آيات كثيرة دالّة على كمال قدرة الصّانع وعلمه وحكمته وفضله ورحمته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ينقادون فانّه يكفى في ادراك آياتهما الانقياد للنّبىّ (ص) أو الامام (ع) وان لم يحصل بعد للمنقاد قلب أو عقل ، واستعمال السّماع والاستماع في الانقياد كثير (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) بعد ما ذكر سعة ملكه وانّ الكلّ مملو كون له وانّ اللّيل والنّهار الّذين هما عمدة أسباب دوران العالم وتعيّش ما فيه مجعولان له غير قديمين ، كما يقوله الدّهريّة والطّبيعيّة وغير مجعولين لغيره ذكر قولهم النّاشى من غاية حمقهم ، من انّ الله لاتّخذ لنفسه ولدا تسفيها لرأيهم حيث انّ اتّخاذ الولد بنحو التّوالد كما زعموه لا يكون الّا من المحتاج المحاط بالزّمان والمكان وهو تعالى فوقهما وجاعلهما (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) تعليل لنفى الولد والإنكار قولهم المستفاد من التّسبيح (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تعليل للغنى (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) ما عندكم حجّة مع هذا القول أو ملصق بهذا القول بعد ما ردّ قولهم بعدم جواز الولد له سبحانه ردّه بعدم الحجّة لهم اشعارا بلزوم أمرين في صحّة القول بشيء أحدهما إمكان ذلك الشّيء في نفسه والثّانى وجود حجّة للقائل على قوله وبانتفاء كلّ من الأمرين يكون ذلك القول كذبا ، ولذا وبّخهم على محض قولهم من غير علم وحجّة من دون التّعرّض لعدم جواز هذا القول على الله بقوله (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قولا مخالفا للواقع أو قولا بلا حجّة سواء كان مخالفا أم موافقا (لا يُفْلِحُونَ) لانّ الافتراء لا يكون الّا عن حكومة النّفس والشّيطان ومحكومهما من حيث انّه محكومهما لا سبيل للنّجاة له غاية ما يترتّب على محكوميّته وافترائه انّه يتمتّع في الدّنيا بما زيّنه النّفس والشّيطان


له ولذلك قال ذلك الافتراء (مَتاعٌ) اى سبب تمتّع (فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) تمهيد للتّهديد (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) تذكيرا وتهديدا لهم وتسلية لنفسك في تكذيبهم (نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) بمعنى الاقامة أو القيام أو مكان القيام (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) والمقصود انّه ان كان كبر عليكم كوني فيكم بالدّعوة فتريدون اجلائى أو دفعى عن الدّعوة أو إهلاكي (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) أجمعت الأمر وعليه وجمعت عليه عزمت كأنّ الأمر قبل العزم كان متفرّقا وبالعزم تجمّعه وقرئ فاجمعوا من الثّلاثىّ المجرّد (وَشُرَكاءَكُمْ) قرئ بالضّمّ عطفا على ضمير الفاعل وقرئ بالنّصب عطفا على أمركم بلحاظ أصل معنى الجمع أو مفعولا معه أو مفعولا لمحذوف تقديره وادعوا شركاءكم وتحدّى معهم استظهارا بالله واطمينانا بنصرته (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) يعنى تدبّروا غاية التّدبّر في إجماع الأمر حتّى لا يبقى ضرّه ونفعه مستورا عليكم أو لا يصير عاقبته وبالا وغمّا لكم (ثُمَّ اقْضُوا) اقضوا الأمر المعزوم عليه (إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) بتضرّركم بدنياكم (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يعنى ان تولّيتم لكذبى وافترائى فقد تحديّت في غاية الاطمينان والكاذب لا يتحدّى كذلك وان تولّيتم لتضرّركم بدنياكم فما سألتكم من أجر فلا وجه لتولّيكم لا من جهة الدّنيا ولا من جهة الآخرة (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه (فَكَذَّبُوهُ) بعد إتمام الحجّة كما كذّبوه في اوّل الدّعوة (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) من أذى قومه أو من الغرق (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) في الأرض لنفسي أو للهالكين (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ) حتّى تتسلّى وتطمئنّ بنصرتنا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنا) عطف باعتبار المعنى ومفاد المحكىّ كأنّه قال : بعثنا نوحا الى قومه ثمّ بعثنا (مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الدّالّات على صدقهم أو احكام النّبوّة المتعلّقة بالقالب دون القلب فانّها تسمّى بالبيّنات كما انّ احكام القلب تسمّى بالزّبر (فَما كانُوا) ثابتين (لِيُؤْمِنُوا) يعنى ما كان في سجيّتهم قوّة الايمان فكيف بفعليّته (بِما كَذَّبُوا بِهِ) بالرّسالة الّتى كذّبوها (مِنْ قَبْلُ) اى من قبل ان يبلغوا أو ان الرّشد وجواز وصول دعوة الرّسالة إليهم ، أو من قبل هذا العالم في عالم الّذرّ ، أو من قبل زمانهم باعتبار تكذيب أسلافهم للرّسل (كَذلِكَ) الطّبع الّذى طبعناه على قلوبهم (نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) تهديد لمكّذبى قومه (ص) (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) التّسع (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) تفصيل لإجمال استكبارهم ولذلك عطف بالفاء (مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) انّه سحر بحذف المفعول أو أتعيبون الحقّ والاستفهام للإنكار (أَسِحْرٌ هذا) انكار لكونه سخرا (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) حال على جواز الواو في الحال المبدوّة بالمضارع المنفىّ بلا ، أو بتقدير مبتدء (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا


(عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) اى السّلطنة في ارض مصر (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) تصريح بما أشعروا به في ضمن انكار صرفهم وكبريائهما من عدم انقيادهم لهما (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) ماهر (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) وأمرهم فرعون بإتيان السّحر ودبّروا ما دبّروا وتهيّؤا لمعارضة موسى (ع) (قالَ لَهُمْ مُوسى) بعد ما خيّروه واختار موسى تقديمهم (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) ما مبتدأ وجئتم به صلته والسّحر خبره ، وقرئ السّحر بهمزة الاستفهام وحينئذ يكون ما استفهاميّة وجئتم به خبره والسّحر بدله والمعنى على الاوّل ما جئت به الهى وما جئتم به بشرى مبنىّ على الأعمال الدّقيقة الخفيّة أو شيطانىّ مبنىّ على تمزيج القوى الارضيّة مع الأرواح السّفليّة (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) التّكوينيّة من الآيات والمعجزات ولا سيّما الكلمات التّامّات من الأنبياء والأوصياء (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) اى جمع قليل من شبّان قوم موسى لقلّة مبالاتهم بتهديد فرعون أو من قوم فرعون بمقتضى شبابهم حالكون هؤلاء الشّبّان مع جرأتهم وعدم مبالاتهم مشتملين (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يعذّبهم بالبلايا بدل من فرعون وملائهم أو مفعول الخوف أو بتقدير لام التّعليل وجمع الضّمير في ملائهم امّا لتعظيم فرعون أو لانّ المراد من فرعون هو وخواصّة فانّه كثيرا ما يطلق اسم الرّئيس ويراد به الرّئيس واتباعه ، أو باعتبار رجوعه الى الذرّيّة سواء فسّر بذرّيّة من قوم موسى (ع) أو من قوم فرعون وعلى هذا يجوز ان يكون مفعول يفتنهم هو الملأ وعلى غير هذا الوجه فافراد الضّمير في يفتنهم للاشعار بانّ الخوف من ملأه كان بسببه وانّ الملأ كانوا لا حكم لهم بالاستقلال (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لقاهر غالب عطف باعتبار المعنى كأنّه قال انّه ليفتنهم وانّه لعال أو حال ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بعلّة العلوّ لانّ اسم فرعون كان من القاب ملك مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) اكتفى بالضّمير لانّ الإسراف لا يتوقّف على السّلطنة والمراد الإسراف في تعذيب قوم موسى (ع) (وَقالَ مُوسى) بعد ما رأى تعذيب فرعون لمن آمن به واضطرابهم من خوفه تسلية لهم وتقوية لقلوبهم بالتّوكّل على القادر القوىّ (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أتى بأداة الشّكّ اشعارا بانّ الخوف والاضطراب يورث الشّكّ في الايمان أو اداة الشّكّ للتّهييج (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) لانّ الايمان يقتضي معرفته بانّه عليم بصير قادر رحيم بالمؤمنين وذلك يقتضي التّوكّل (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) منقادين جزاؤه محذوف بقرينة السّابق والتّقدير ان كنتم منقادين فان كنتم مؤمنين بالبيعة العامّة أو الخاصّة فعليه توكّلوا يعنى انّ التّوكّل يقتضي أمرين الانقياد والايمان بالبيعة العامّة النّبويّة أو بالبيعة الخاصّة الولويّة (فَقالُوا) اجابة له (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) متضرّعين قائلين (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) سبب فتنة وشقاء (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بان يبلغوا باستعبادنا وتعذيبنا غاية الغرور والشّقاء يعنى لو أردت بلوغهم غاية الشّقاء فاجعل سببه غير عذابا ، أو المراد لا تجعلنا محلّا لفتنتهم وعذابهم لنا (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر


للاشعار بذمّهم بجمعهم بين الكفر والظّلم (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) ان اتّخذا لهم (بِمِصْرَ بُيُوتاً) مبوّء ومرجعا يرجعون وقت العبادة إليها (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) المبنيّة للعبادة (قِبْلَةً) تتوجّهون إليها وقت العبادة بإقامة عبادتكم فيها أو بتوجّهكم وقت عبادتكم نحوها (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها أو إليها ، وفي الاخبار ما يشعر بانّ البيوت المأمور باتّخاذها كانت مساجدهم وكانوا يجتمعون وقت العبادة إليها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بإجابة دعوتهم ونجاتهم ووراثتهم لملك مصرفى الدّنيا والجنّة في الآخرة ، في الخبر : انّ رسول الله (ص) خطب النّاس فقال ايّها النّاس انّ الله عزوجل امر موسى (ع) وهارون (ع) ان يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وأمرهما ان لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيها النّساء الّا هارون وذرّيّته ، وانّ عليّا (ع) منّى بمنزلة هارون من موسى فلا يحلّ لأحد ان يقرب النّساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنبا الّا علىّ (ع) وذرّيّته فمن ساءه ذلك ، فههنا ، وضرب بيده نحو الشّام (وَقالَ مُوسى) متبتّلا الى الله داعيا على فرعون وقومه (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) من الحلىّ والملابس والمساكن واثاثها والمراكب (وَأَمْوالاً) من الّذهب والفضّة والضّياع والخيل والبغال والغنم والجمال (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا) تكرار النّداء لاقتضاء التّضرّع وحالة الدّعاء والمحبّة ذلك (لِيُضِلُّوا) النّاس (عَنْ سَبِيلِكَ) بطموح نظرهم الى الاعراض الفانية واتّباع من وجودها في يده (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) حتّى لا يفتتن النّاس بها لهم والطّمس المحق والافناء أصلا (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أوثق حبال القساوة على قلوبهم (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) عند الاحتضار ولا يؤمنوا مجزوم بلا أو منصوب بان مقدّرة دعاء عليهم بشدّ القلوب وعدم الايمان بعد ما علم انّهم لا خير فيهم ويئس من ايمانهم (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) ورد انّه كان بين دعائه (ع) ووعد اجابته وبين أخذ فرعون وقومه أربعون سنة (فَاسْتَقِيما) فيما أنتما عليه من الدّعوة ولا تضطربا بتأخير الوعد كالجهلة ، والاستقامة في الأمر عبارة عن التّمكّن فيه بحيث لا يخرجه منه مخرج (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) سبيل الجهلة من عدم الثّبات على امر (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ) اتبع بمعنى تبع أو بمعنى جعل غيره تابعا اى تبعهم أو اخرج النّاس في عقبهم (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) بغى عليه بغيا عدا وظلم وعدل عن الحقّ واستطال وكذب ، وفي مشيه اختال ، وعدا ضدّ احبّ وعدا عليه ظلمه والاولى ان يكون الاوّل بمعنى الاستطالة والثّانى بمعنى الظّلم وتقدير الكلام اتبعهم فرعون اتباع بغى أو بغوا بغيا أو باغين وعادين أو للبغي والعدو (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) قرئ بفتح الهمزة بتقدير الباء أو اللّام وقرئ بكسر الهمزة على الاستيناف (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) اطنب في الكلام حرصا على القبول وإظهارا لشدّة الالتجاء حين الاضطرار (آلْآنَ) فقيل له : آلآن آمنت وقد اضطررت والقائل كان جبرئيل (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) حين الاختيار (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) من الماء لا بروحك من العذاب يعنى نخرجك ببدنك من غير روح على نجوة من الأرض ليشاهدوك ويروا ذلك (لِتَكُونَ لِمَنْ


خَلْفَكَ) من القبطىّ الباقي بعدك أو السّبطىّ الّذى عظم شأنك في نظره وشكّ في انّك عظيم من عظماء الخلق (آيَةً) على كذبك وذلّك وكمال قدرتنا وحكمتنا إذا رأوا انّا أخذناك من حيث لم يكونوا يحتسبون لانّ القبطىّ وبعض السّبطىّ يظنّون انّ له عظما وشرافة وانّه لا يفعل به ما ينقص شأنه بل لا يموت (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) اى فانّا مظهرون للآيات وانّ كثيرا فهو عطف على محذوف أو عطف بلحاظ المعنى أو استيناف شبيه بالعطف (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) محلّ صدق أو هو مصدر ميمىّ والمراد بمحلّ الصّدق منزل لا يتأتّى فيه الّا الصّدق كالقلب والصّدر المنشرح بالإسلام المتعلّق بالقلب ، ومحلّ لا ينبغي ان يتأتّى فيه الّا الصّدق كمحلّ يكون ما يحتاج اليه اهله موجودا سهل الوصول من غير مزاحمة أحد ، فلا يكون فيه عداوة وحقد وحسد وتدافع وبخل ، وإذا لم يكن فيه هذه لم يكن فيه كذب لا يراث هذه المذكورات الكذب وإذا لم يكن كذب لم يكن الّا الصّدق ، والمراد بمبوء الصّدق مصر لوفور النّعمة فيها وعدم المزاحمة بعد هلاك أعدائهم أو شام كما قيل (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الطّيّب من أرزاق الأبدان ما لا تبعة فيه من الأسقام وما لا تبعة فيه من الآثام مع كونه ملذّا للأنام ، ومن أرزاق الإنسان العلوم والأخلاق الّتى تكون مأخوذة من أهلها ومعتدلة بين الإفراط والتّفريط (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقّيّة موسى (ع) ودينه بالآيات الظّاهرات كما هو شأن أمّة كلّ نبىّ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) جواب سؤال مقدّر (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) برفع اغشية الخيال وظهور الحقّ والباطل ، والآية تعريض بأمّة محمّد (ص) في اختلافهم بعده وحين حيوته بعد ما أظهر وأعلى خلافة علىّ (ع) ، وعلى هذا فربط الآية الآتية بهذه الآية واضح لانّها مفسّرة بولاية علىّ (ع) (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) والمراد بما انزل خلافة علىّ (ع) أو ما اوحى اليه (ص) ليلة الإسراء من عظمة مقام علىّ (ع) كما في الخبر ولم يكن له شكّ لكنّه من باب ايّاك اعنى واسمعي يا جارة أو الخطاب عامّ (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) قد مرّ مرارا انّ الحقّ المضاف هو الولاية المطلقة ومظهرها علىّ (ع) وكلّ حقّ حقّ بحقّيّته (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) وأصل الآيات هي الآية الكبرى الّتى هي ولاية علىّ (ع) (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) لانفاقك في ردّ الآيات بضاعتك الّتى آتاك الله لتنفقه في تصديق الآيات (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) تعليل للسّابق والمعنى لا تكن من الممترين الغير المؤمنين لانّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك (لا يُؤْمِنُونَ) لا من هو مثلك وأصل الكلمات هي الولاية وهي واحدة كسائر صفاته تعالى وأفعاله وكلّ الكلمات من العقول والنّفوس والأشباح النّوريّة والأشباح الظّلمانيّة والعبارات والنّقوش الكتبيّة اظلال تلك الكلمة وتلك الكلمة تختلف بحسب القوابل ففي قابل تصير رضى ورحمة رحيميّة وفي قابل سخطا وكلّ منهما امّا تحقّ وترسخ للقابل أو عليه وامّا لا تحقّ ، والّذى حقّت له كلمة الرّضا لا ينصرف عن الايمان والّذى حقّت عليه كلمة السّخط لا ينصرف عن الكفر ، والمعنى لا يؤمنون بالله أو بالولاية أو بعظمة شأن علىّ (ع) أو بالرّسالة أو بك (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) من الآيات المقتضية للايمان (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ


الْأَلِيمَ) عند الاحتضار ولا ينفع حينئذ نفسا ايمانها (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) جزاء شرط مستفاد من تعقيب عدم الايمان بالعذاب الأليم كأنّه قال إذا كان عدم الايمان مستلزما لاليم العذاب فلو لا كانت قرية آمنت (فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء باعتبار معنى النّفى لا التّقريع (لَمَّا آمَنُوا) جواب سؤال كأنّه قيل: ما كان حال قوم يونس؟ وما فعل بهم؟ أو حال من قوم يونس (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) الخزي الفضيحة فالاضافة بتقدير اللّام أو البليّة فالاضافة بيانيّة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) حين آجالهم المقدّرة وقصّة قوم يونس (ع) وإنكارهم عليه ودعائه عليهم ومسألته نزول العذاب وعدم اجابة الله له ومراجعته في ذلك مرارا ، حتّى أجابه الى ذلك ومشورته بعد ذلك مع تنّوخا العابد وتصديقه وتحريصه له (ع) على ذلك ، لعدم علمه ومشورته مع روبيل الحكيم وعدم تصديقه له وسؤاله عند المراجعة في دفع العذاب وردّ تنّوخا عليه ، وفراره من القوم مع تنّوخا واقامة روبيل فيهم وترحّمه عليهم ودعائه لهم الى التّوبّة وتعليم طريق التّوبة لهم وكشف العذاب وفرار يونس بعد كشف العذاب وابتلائه ببطن الحوت وعوده الى قومه مذكورة في المفصّلات (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) مصدّقين لك أو للرّسالة أو لعلىّ (ع) أو للولاية أو لله أو مؤمنين بالايمان العامّ الحاصل بالبيعة العامّة النّبويّة أو بالايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة ، يعنى انّ الايمان بأىّ معنى كان لا يمكن إكراه البشر أحدا عليه لانّ إكراه البشر لا يتجاوز عن حدّ القالب والايمان امر قلبيّ ، فالاكراه يتحقّق في انقياد السّلطنة وصورة البيعة العامّة والدّخول في احكام الرّسالة يعنى من كان مسخّرا ومحيطا يمكنه إكراه المحاط لكن لا يسمّى ذلك اكراها بل تسخيرا ، وتقديم المسند اليه لافادة الحصر ان أريد انّ مثلك البشرىّ لا يمكنه الإكراه بخلاف الملكوتيّين أو لمحض افادة تقوىّ الحكم (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) الجملة حاليّة أو مستأنفة والاوّل أوفق بترتّب الإنكار على تعليق الايمان على المشيّة (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) حقّ المقابلة ان يقال ولا ان تكفر الّا بإذن الله لكن لمّا كان الايمان هو الدّخول في حريم قدسه تعالى كان موقوفا على اذنه ، والكفر لمّا كان عدم الدّخول لم يكن موقوفا على اذنه بحسب الظّاهر ولمّا كان تبعة الكفر بفعل الله جعل الرّجس الّذى هو تبعة الكفر الى نفسه (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات الدّالّة على كمال قدرته تعالى وحكمته حتّى توقنوا به وتؤمنوا والاستفهام للتّعجيب والتّفخيم (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) امّا من كلام الله أو محكىّ بالقول وعلى اىّ تقدير فما نافية والجملة معطوفة على محذوف مؤلّف معه قياس من الشّكل الاوّل تقديره لكنّهم قوم لا يؤمنون وكلّ قوم لا يؤمنون لا تغني الآيات والنّذر عنهم ، ويجوز ان يكون الجملة حاليّة عن فاعل قل أو عن فاعل انظروا أو مفعوله وتكون مشيرة الى القياس المذكور ويجوز ان يكون ما استفهاميّة معطوفة مع ما بعدها على ما ذا في السّموات أو تكون الجملة حاليّة بتقدير القول (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) مضوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) جواب شرط محذوف اى ان كانت الآيات لا تغني عنهم ، أو عطف على محذوف اى هل


يرجون الّا عقوبة الله ، أو عطف على ما تغني الآيات باعتبار انّ معناه ما ينتظرون ، أو بتقدير القول اى فيقال لهم هل ينتظرون ، أو باعتبار كون ما استفهاميّة (قُلْ فَانْتَظِرُوا) امر للتّهكّم (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) عطف على محذوف تعليل للأمر بالتّحدّى معهم تقديره فانّا ننزّل العذاب على المكذّبين ثمّ ننجّى رسلنا والّذين آمنوا (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا) كذلك متعلّق بالفعل الآتي وحقّا علينا مفعول مطلق لحقّ محذوفا معترض بينهما (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) لمّا كان المقام لتقريع المكذّبين والمقصود بالوعد زيادة حسرتهم وتجرئة نبيّه (ص) والمؤمنين في التّحدّى معهم صار التّأكيد والتّكرار مطلوبا ولذلك كرّر الإنجاء بالنّسبة الى المؤمنين مؤكّدا بحقّا (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعنى بعد ما بعثتك بالنّبوّة فأعلن دينك ولا تخف منهم ولا تخف دينك وان كنت قبل ذلك خائفا خافيا (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) التّعليق على التّوفّى المتعلّق بهم لتهديدهم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بكلّ من معاني الايمان (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) عطف على ان أكون وغيّر الأسلوب اشارة الى انّه مأمور بالثّبات في الايمان وادامته وامّا اقامة الوجه للدّين فانّ الثّبات والدّوام فيه للبشر غير مقدور لضرورة اشتغاله بالكثرات ، والاشتغال بالكثرات وان كان لمن لا يشغله شأن عن شأن غير مانع من اقامة الوجه للدّين لكنّه للاكثر مانع ولمن لا يشغله شأن عن شأن أيضا مانع من قوّة الاقامة وكمالها ، وان ، في ان أقم مصدريّة أو تفسيريّة وعلى المصدريّة فالإتيان بالأمر على حكاية حال الأمر والخطاب (حَنِيفاً) حال عن فاعل أقم أو عن الدّين (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بجملة أنواع الشّرك (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) من الأصنام والكواكب والأهواء والمهويّات ومن نصب دون الامام فانّ شيئا من هذه لا يقدر على نفع وضرّا الّا بإذن الله وإذا لم يتصوّر في المدعوّ نفع وضرّ كان دعاؤه لغوا وهذا على ايّاك أعنى واسمعي يا جارة ، أو صرف الخطاب عنه الى غير معيّن (فَإِنْ فَعَلْتَ) الفاء للسببيّة المحضة (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) حال أو عطف فيه معنى التّعليل (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) اختلاف القرينتين للدّلالة على تفاوتهما في الارادة كأنّ الضّرّ يمسّ الإنسان بفعله من غير ارادة الله وان كان الفاعل هو الله لانّه غير مراد بالّذات وانّ الخير بإرادة الله كما قال تعالى (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ووضع فضله موضع ضمير الخير للاشارة الى ما قلنا من انّ الشّرّ غير مراد بالّذات ويلحق العبد بعمله وانّ الخير مراد بالّذات كأنّه يلحق العبد بمحض الفضل من دون استحقاق بالعمل (يُصِيبُ بِهِ) بالخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) عطف على يصيب والمقصود انّه لا يمسّ الضّرّ أكثر المستحقّين لانّه هو الغفور الرّحيم فوضع موضع المعلول (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) قد مرّ مرارا انّ الحقّ هو الولاية وانّ كلّ حقّ حقّ بحقّيّته وانّ عليّا هو مظهرها التّامّ ، فالمراد جاءكم علىّ (ع) باعتبار


ولايته أو ولاية علىّ (ع) أو الولاية المطلقة ومظهرها علىّ (ع) ويدلّ على هذا قوله تعالى (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لانّ الاهتداء ليس الّا الى الولاية فانّ النّبوّة ما به الهداية كما قال الله تعالى (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) بالإسلام للايمان (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) حتّى أجبركم على الولاية وأمنعكم عن الضّلالة (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) جملة ما يوحى إليك ومنها الولاية أو ما يوحى إليك في امر الولاية بخصوصه واتّباع ما يوحى في امر الولاية امتثال بتبليغها وعدم الخوف من القوم ولذا أمره بالصّبر فقال (وَاصْبِرْ) على أذاهم ونفاقهم (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبين من نافق في امر علىّ (ع) (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).


سورة هود

مائة وثلاث وعشرون آية وهي مكّيّة كلّها وقيل : سوى آية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) ؛ فانّها مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر) قد سبق انّها اشارة الى مراتب العالم أو مراتب وجوده (ص) ولذلك ورد : انّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أسماؤه ، ومضى انّه في حال انسلاخه يشاهد من تلك الحروف ما لا يمكن التّعبير عنه الّا بالمناسبات وانّ مراتب العالم أو مراتب وجوده (ص) كتاب حقيقىّ تكوينىّ وانّ الكتاب التّدوينىّ صورة تلك الكتاب (كِتابٌ) خبر للحروف المقطّعة أو خبر مبتدء محذوف (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) في مقامه العالي من مراتب العقول المعبّر عنها بالأقلام وفي مراتب النّفوس الكلّيّة المعبّر عنها بالالواح العالية ، واللّوح المحفوظ واحكام الآيات في تلك المراتب عبارة عن عدم الخلل والبطلان والتّغيير والنّسخ فيها فانّه في تلك المراتب لا يمسّه الّا المطهّرون ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو في تلك المراتب محفوظ عن التّشابه بالباطل وبكلام غير الحقّ تعالى وهو فيها بنحو الإجمال من غير تفصيل (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بعد تلك المراتب في مراتب النّفوس الجزئيّة المعبّر عنها بالالواح الجزئيّة وكتاب المحو والإثبات ثمّ في مراتب الأعيان المعبّر عنها بكتاب المحو والإثبات العينىّ ثمّ في مرتبة الأصوات والحروف ثمّ في مرتبة الكتابة والنّقوش ، وليست آيات الكتاب في تلك المراتب محكمات لتطرّق المحو والإثبات والنّسخ والتّبديل إليها ويتشابه حقّها بباطلها لتشابه المظاهر الشّيطانيّة بالمظاهر الإلهيّة وتشابه الأعمال والأقوال والأحوال والأخلاق ، فانّ المظاهر الشّيطانيّة يعملون أعمالهم الشّيطانيّة بصور الأعمال الالهيّة ثمّ يقولون هي بأمر الله والحال انّها بأمر الشّيطان ويحسبون أنّهم يحسنون صنعا ، ويقرؤن الآيات القرآنيّة بألسنتهم وهي ألسنة الشّيطان ويكتبون الآيات التّدوينيّة بأيديهم وهي أيدى الشّيطان ثمّ يقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله ، بل من عند الشّيطان غاية ما فيه انّها مشابهة لما هو من عند الله صورة (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) كامل في العمل والعلم وذكر الوصفين للاشارة الى انّ كتابه التّكوينىّ والتّدوينىّ على كمال ما ينبغي فليس لأحد ان يردّ شيئا منهما أو يلوم أحدا كما ورد : لو اطّلعتم على سرّ القدر لا يلومنّ أحدكم أحدا ، ولدن الله وعند الله عبارة عن عالم المجرّدات وتفصيل الكتاب نشأ منها ولذا ورد ، انّ القرآن نزل جملة على البيت المعمور أو على قلب محمّد (ص) ثمّ نزل منه نجوما على صدره (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ان مصدريّة اى لان لا تعبدوا والفعل نفى أو نهى أو تفسيريّة والفعل نهى يعنى انّ خلاصة


الغرض من تفصيل الكتاب نهيكم عن عبادة غير الله وأمركم بالاستغفار والتّوبّة (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) امّا من كلام الله ولا إشكال أو من كلام الرّسول (ص) حكاه الله كأنّه قال : فبلّغه رسولنا (ص) فقالوا : ما أنت وذاك؟ ـ فقال : انّنى لكم من جانب الله نذير من موجبات سخطه وبشير برحمته (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) اعلم ، انّ اللّطيفة الانسانيّة السّيّارة الّتى يعبّر عنها بالرّوح خلق الله الأرواح قبل لا بدان بألفي عام وقد يعبّر عنها بالامانة عرضنا الامانة على السّماوات والأرض وقد يعبّر عنها بالإنسان وبفطرة الله وبقيّة الله وغير ذلك من الأسماء نزلت من عالم القدس ، ومقام الأسماء على الصّراط المستقيم الى عالم الطّبع فصارت جسما وعنصرا وجمادا ونباتا وحيوانا وإنسانا الى ان بلغ أو ان البلوغ وحدّ الانسانيّة ، وكان عوده الى ذلك المقام على الصّراط المستقيم بمحض تسبيبات الهيّة من غير مدخليّة لاختياره ، وفي هذا المقام يصير برزخا بين عالمي الجنّة والملائكة ويصير مختارا مريدا لخيراته نافرا عن شروره مميّزا لهما ، فان ساعده التّوفيق وصار اختياره موافقا لفطرته سلك باختياره على الصّراط المستقيم الى الله ، وان لم يساعده التّوفيق وصار اختياره مخالفا لفطرته وموافقا لمراد الشّيطان رجع عن الصّراط المستقيم الى دار الجنّة ومهوى الجحيم ، فان تنبّه وتذكّر ان سلوكه كان الى الجحيم وانّ كلّما فعله في هذا السّلوك كان موذيا للطيفته الانسانيّة صار حاله مثل من وقع في سجن ضيق مملوّ من العذرات والجيف المنتنة والحشرات الموذية مستدعيا من السّجّان ستر تلك ما لم يتخلّص من السّجن وهذا استغفاره من السّجّان ، فاذا وجد مهربا فرّ منه وهذا الفرار توبة عامّة اى التّوبة من المعصية ثمّ إذا وجد دليلا يدلّه على الطّريق أو على المقصد فرّ الى طريق المقصد أو الى المقصد وهذا الفرار توبة خاصّة الى التّوبة الى الله وهذه التّوبة لا تتصوّر الّا على يد نبىّ (ص) وتكون اسلاميّة ، أو على يد ولىّ وتكون ايمانيّة ، وللتّوبة الاسلاميّة الّتى يحصل بها الإسلام وكذا للتّوبة الايمانيّة الّتى يحصل بها الايمان شرائط وآداب وعهود ومواثيق كانت مقرّرة عندهم فقوله تعال : استغفروا ربّكم ؛ خطاب لمن وقع في سجن الطّبع يعنى اطلبوا ايّها الواقعون في سجن الطّبع من ربّكم ستر عذرات الهوى وجيف الشّبه وموذيات الغضبات والشّهوات ما لم تجدوا فرصة ومهربا من السّجن ، حتّى لا تفسد دماغكم بنتنها ولا تفسد فطرتكم الانسانيّة ثمّ فرّوا منه كلّما وجدتم فرصة ومهربا ثمّ فرّوا الى الله بالتّوبة على أيدي خلفائه والبيعة معهم بشرائطها إذا وصلتم إليهم فان تبتم اليه بشرائطها (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) ما دمتم في الطّريق (إِلى أَجَلٍ) وقت (مُسَمًّى) معيّن لخروجكم من الدّنيا ووصولكم الى موطنكم بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) في الطّريق بكثرة المجاهدة وكثرة جنوده الالهيّة في مملكته (فَضْلَهُ) عين فضله لانّ الفضل يتصوّر بصور حسناء خصوصا على ما قلنا من انّ الفضل لذي الفضل هو كثرة الجنود الالهيّة أو على القول بتجسّم الأعمال أو جزاء فضله كما فسّره المفسّرون (وَإِنْ تَوَلَّوْا) تتولّوا عن عبادة الله والاستغفار والتّوبة (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يوم القيامة الكبرى (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) تعليل أو حال (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ثنى الصّدر وثنى الظّهر كناية عن إخفاء الإنسان نفسه حتّى لا يراه أحد وهو إبداء ذمّ بأنّهم لحمقهم يثنون صدورهم (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) من الله مع انّه عالم بسرائرهم فكيف يستخفون منه بعلنهم بواسطة تثنية ظهورهم ، روى انّ المشركين كانوا إذا مرّوا برسول الله (ص) حول البيت طأطأ أحدهم ظهره ورأسه هكذا ، وغطّى رأسه


بثوبه حتّى لا يراه رسول الله (ص) فأنزل الله الآية ، ونقل انّه كناية عن انطواء قلوب المنافقين على بغض علىّ (ع) (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) حين دخولهم في خلواتهم واستغشائهم ثيابهم للمنام وهو أخفى حالاتهم أو حين يستغشون ثيابهم لئلّا يراهم الرّسول (ص) (يَعْلَمُ) الله (ما يُسِرُّونَ) من النّيّات فيعلم نبيّه (ص) والمؤمنين (وَما يُعْلِنُونَ) من الأفعال (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بمكمونات الصّدور الّتى لم تخرج من القوّة الى الفعل بعد ، ولا خبرة لهم بها فكيف بنيّاتها وخطراتها وحالاتها الّتى هي علانية بالنّسبة الى ذات الصّدور فانّ غير المكمونات لجواز زوالها عن الصّدور لا يصدق عليها انّها صاحبة للصّدور وهو تعليل لسابقه.

الجزء الثّانى عشر

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) عطف على انّه عليم بذات الصّدور أو حال من المستتر في عليم (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) فكيف لا يعلم حالها وما يوافقها وما يخالفها (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) محلّ قرارها من الدّنيا أو من الآخرة (وَمُسْتَوْدَعَها) محلّها الّذى ينتقل منها من أصلاب الآباء وأرحام الامّهات ومن منازل الدّنيا ومنازل الآخرة الى مستقرّها في الآخرة ، ويجوز ان يكونا اسمى زمان أو مصدرين ، ويجوز اعتبار الاستقرار بالاضافة وكذلك اعتبار الاستيداع وحينئذ يكون كلّ من منازل الدّنيا والآخرة مستقرّا ومستودعا باعتبارين سوى المنزل الأخير من الآخرة لانّه يكون مستقرّا على الإطلاق (كُلٌ) من الدّوابّ أو من المستقرّ والمستودع (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) هو القلم العالي أو اللّوح المحفوظ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) سماوات الأرواح وارض الأشباح الملكوتيّة النّورانيّة والملكيّة الظّلمانيّة والسّفليّة السّجّينيّة وسماوات عالم الطّبع وارض ذلك العالم (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قد مرّ تفسير الآية ووجه التّقييد بستّة ايّام في سورة الأعراف (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) عرض الرّحمن مشيّته الّتى وهي فعله وكلمته والحقّ المخلوق به والولاية المطلقة والحقيقية المحمّديّة (ص) وإضافته الاشراقيّة وهي اضافة الحقّ الى الخلق ، ولها وجه الى الحقّ المطلق وبهذا الوجه تسمّى عرشا ووجه الى الخلق وبهذا الوجه تسمّى كرسيّا ، وهي بوجهها الاوّل ظهوره تعالى بأسمائه وبوجهها الثّانى ظهوره تعالى بأفعاله وإذا اعتبرت اضافتها الى الخلق كان حاملها أقرب الممكنات إليها ، وهم اربعة في النّزول وإذا اعتبر الصّاعدون معها صاروا ثمانية ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية وإذا قطع النّظر عن اضافتها الى الخلق كان وجهها الخلقىّ وجودا صرفا ويعبّر عنه بالماء وكان الوجه الخلقىّ حاملا لها من حيث وجهها الحقّىّ فقبل اعتبار الخلق كان عرشه على الماء ، وما ورد في الاخبار من التّفاسير المختلفة راجع الى ما ذكرنا (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ليعلم بالاختيار ايّكم أحسن عملا ولهذا التّضمين علّق يبلوكم بأداة الاستفهام والمعنى انّا خلقنا السّماوات والأرض في المراتب السّتّ من مراتب العالم وخلقكم بين السّماوات والأرض وجعل لكم طريقا إليهما وسهّل لكم الصّعود الى السّماوات والنّزول الى الأرض ، وأودع فيكم أنموذجا من كلّ ليبلوكم بذلك ويظهر من كان منكم أحسن عملا ، وانّما اقتصر على ذكر حسن العمل وأتى بصيغة التّفضيل اشارة الى انّ الغاية هو الّذى يكون أحسن عملا والباقي منظور اليه بالتّبع وامّا قبح العمل فهو من الطّوارى فالآية اشارة الى شرافة الإنسان وترغيبه في محاسن الأعمال بألطف وجه (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ


لْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالمعاد سواء كفروا بالمبدء أم لا (إِنْ هذا) القول بالعود (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) السّحر يطلق على عدّة معان منها القول الباطل الّذى لا يعلم وجه صحّة له وقد ابرز بتمويهات وتخييلات مبرز الحقّ (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الّذى وعدناهم على لسانك (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الامّة هاهنا البرهة من الزّمان لكونها مقصودة متوجّها إليها والمعدودة القليلة ، أو المراد أصحاب القائم عجّل الله فرجه الثّلاثمائة وبضع عشر ؛ وقد أشير في الاخبار الى كليهما (لَيَقُولُنَ) استهزاء (ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) يوم ظهور القائم (ع) أو يوم الموت أو يوم عذاب الدّنيا أو يوم السّاعة (وَحاقَ بِهِمْ) قبل هذا الزّمان العذاب الموعود فانّ مادّته محيطة بهم وصورته مكمونة فيهم لكن لا يشعرون به لغشاوة أبصارهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) نعمة صحّة وسعة وولد (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) عن اعطائها لعدم صحّة اعتقاده بفضلنا (كَفُورٌ) لتعلّق قلبه بالنّعمة نفسها وبعد انتزاعها لا يبقى له حالة شكر على النّعمة لغفلته عن المنعم وانقطاعه بالزّوال عن النّعمة (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) كان حقّ العبارة ان يقول: ولئن أصبناه بضرّاء ثمّ كشفناها عنه حتّى يوافق قرينته لكنّه تعالى أراد أن يفتتح القرينتين بنسبة الانعام اليه ولا ينسب مسيس الضّرّ الى نفسه لانّه تابع لاعمال الإنسان (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) لانّ نظره كان مقصورا على صورة النّعمة غير متجاوز الى المنعم والى غاية النّعمة (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) جواب سؤال عن علّة القول اى يقول ذلك لانّ في جبلّته الفرح بالنّعمة والفخر على الخلق بها أو جواب سؤال عن حال القائل (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فانّهم لصبرهم وثباتهم على النّظر الى المنعم لا يخرجهم زوال النّعمة الى اليأس والكفران غفلة عن المنعم ولا تجرّهم النّعمة الى البطر والفخر لخوفهم عن الاستدراج وعن زوالها (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والمراد بالصّبر حقيقة هو الدّخول في الإسلام وتحت احكام النّبوّة ولقد فسّر الصّبر في قوله واستعينوا بالصّبر بمحمّد (ص) لنبوّته والمراد بعمل الصّالحات حقيقة هو الدّخول في الايمان وتحت احكام الولاية وقد فسّر الصّلوة في الآية المذكورة وهي أصل الأعمال الصّالحة بعلىّ (ع) لولايته (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) في فضيلة علىّ (ع) أو في ولايته كما روى انّه (ص) دعا لعلىّ (ع) فاستهزأ قومه أو انّه (ص) بعد ما نزل الوحي بولاية علىّ (ع) خاف من تكذيب قومه فنزل الآية أو بعض ما يوحى إليك مطلقا على ظاهره (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا) لان يقولوا أو كراهة ان يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ان كان صادقا في انّه ينزل عليه الوحي أو في انّه يجاب دعاؤه (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) فيعينه أو يصدّقه (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) تعليل للمقصود من قوله لعلّك تارك يعنى لا ينبغي لك التّرك لقولهم واستزهائهم لانّ شأنك الإنذار وليس عليك قبولهم وردّهم حتّى تترك شأنك لردّهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) لا أنت فعليه ترك الإنذار والإهمال حيثما استحقّوا ذلك والأمر بالإنذار والرّدع عن المساوى حيثما استحقّوا ذلك وعليه اثابة الفاعل وعقوبة المنكر فليس عليك الّا ما هو شأنك من الإنذار والتّبليغ ما لم تنه عنه من الله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ) متحدّيا معهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) فيما تدركون منه من حسن


النّظم وتناسق الحروف والكلمات وتأدية معان كثيرة بألفاظ قليلة والإتيان بحقّ ما يقتضيه كلّ مقام والتّأدية بأحسن ما يمكن التّأدية به بحسب كلّ مقام ، وامّا ما لا تدركونه منه ممّا يترتّب على حروفه من فوائد العلوم المنوطة بحروفه من علم الاعداد والحروف والطّلسمات ، وممّا يستنبط منه من المغيبات الّتى كلّها عند أهل القرآن وليس لأحد الوصول إليها الّا بتطهير قلبه من الاحداث والاخباث ودخوله في سلك المشاهدين أو المتحقّقين بحقيقة القرآن ، لانّ القرآن لا يمكن مسيسه الّا للمتطهّرين فلا كلام فيه معكم فانّكم متباعدون عن التّخاطب بأمثال هذه (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) من الشّياطين والجنّة الّتى يدعوها الكهنة ، ومن الكواكب والأصنام الّتى يدعوها المشركون ، ومن الفصحاء الّذين يظنّهم النّاس قادرين على الإتيان بمثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) انّه مفترى (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) اى ان لم يستجب الشّركاء لكم ايّها المنكرون أو ان لم يستجب المنكرون لكم ايّها المؤمنون الى ما تحدّيتم به ، ولمّا كان الغرض من هذا التّحدّى تسلية المؤمنين وتقوية ضعفاء المسلمين جعلهم شركاء له (ص) في الخطاب على هذا الوجه ، ويجوز ان يكون هذا ابتداء كلام ويجوز ان يكون مقول قوله (ص) (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ) القرآن (بِعِلْمِ اللهِ) اى باطّلاعه أو انّ الّذى انزل انزل باطّلاع الله لا بافتراء عليه (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يعنى انّ الّذين يدعونه من دون الله من الشّياطين والأصنام والكواكب لا تصرّف ولا تسلّط لهم على شيء ولا استحقاق للعبوديّة الّا له يعنى انّ عجزهم عن الإتيان دليل على صدق محمّد (ص) وعلى نفى استحقاق غيره للعبادة وعلى كذب المكذّبين في دعوى الآلهة لغيره تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون خالصون عن الرّيب ان كان الخطاب لضعفاء المسلمين أو فهل أنتم معتقدون لدين الإسلام داخلون فيه ان كان الخطاب للكّفار بصرف الخطاب عن المسلمين الى المشركين يعنى ان علمتم ايّها المؤمنون أو ان عجزتم وعلمتم عجز شركائكم ايّها المشركون فهل أنتم مسلمون (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) بأعماله الاسلاميّة وارتكاب صور الأعمال الحسنة وتحمّل المشّاق وإنفاق الأموال في حفظ الإسلام واعلائه كما فعل المنافقون من أصحاب الرّسول (ص) واظلالهم من اتباعهم الى يوم القيامة وكلّ من تحمّل المتاعب الشّديدة من متاعب الغربة والاسفار البعيدة والصّبر على الجوع والحرّ والبرد في تحصيل المسائل الدّينيّة لغرض الوصول الى المناصب الدّنيويّة داخل في مصداق الآية ويدلّ على هذا التّفسير قوله تعالى (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) لانّ توفية الأعمال في الدّنيا ليست الّا لمن عمل الأعمال الصّالحة صورة وذلك لان يخرجوا من الدّنيا ومالهم من صورة أعمالهم المشابهة لاعمال المؤمنين شيء (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) هذا بحسب حال الأغلب والّا فقد يريد الدّنيا ويتعب نفسه في تحصيلها وفي تحصيل العلم وارتكاب صور الأعمال الشّرعيّة لغرض من الأغراض الدّنيويّة ولا يصل إليها كما ترى من حرمان بعض عن أغراضهم فليس له الآخرة لانّها لم تكن مقصودة له ولا الدّنيا لحرمانها عنها فيشبه دنياه آخرة يزيد لعنه الله وآخرته دنيا ابى يزيد ولهذا قيّد الإتيان في آية اخرى بما يشاء لمن يشاء (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) اى في الدّنيا أو في الآخرة ظرف للصّنع أو للحبط (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لمّا توهّم من ذكر الحبط انّ أعمالهم لها شوب من الحقّيّة قال باطل اشارة الى انّه لا حقّيّة لها أصلا بل هي بالفعل باطلة لا انّها يطرؤها البطلان في الآخرة (أَفَمَنْ كانَ


عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الهمزة للإنكار والخبر محذوف اى كمن ليس له بيّنة في دعواه ويريد الدّنيا ، والمراد بالموصول محمّد (ص) أو علىّ (ع) أو جملة المؤمنين والمراد بالبيّنة الرّسول (ص) أو رسالته أو معجزاته أو كتابه أو احكام رسالته أو علىّ (ع) أو ولايته ، ويتلوه امّا من التّلاوة أو من التّلو وضمير المنصوب امّا للموصول أو للبيّنة والتّذكير باعتبار المعنى أو للقرآن بقرينة ذكره سابقا والشّاهد امّا محمّد (ص) أو علىّ (ع) أو القرآن أو البرهان الّذى يؤتيه الله المؤمن من الآيات الآفاقيّة والانفسيّة ، وضمير المجرور امّا للموصول أو للرّبّ أو للبيّنة ، وضمير من قبله راجع الى الموصول أو الى البيّنة أو الى الشّاهد ، ومن قبله كتاب موسى امّا جملة حاليّة أو معطوفة على خبر كان والجملة امّا ظرفيّة مكتفية بمرفوعها عن الخبر أو اسميّة وخبره مقدّم ، أو من قبله كتاب موسى (ع) عطف على شاهد عطف المفرد ، وإماما ورحمة امّا حال عن الموصول أو عن البيّنة أو عن الشّاهد أو عن كتاب موسى (ع) ، فهذه تسعة آلاف وسبعمائة وعشرون (٩٧٢٠) وجها حاصلة من ضرب بعض الوجوه في بعض هذا بالنّظر الى المعنى ، وامّا بالنّظر الى وجوه الاعراب واعتبارات النّحو مثل احتمال كونه إماما حالا من المستتر في كان أو في على بيّنة أو من مفعول يتلوه أو المجرور في منه أو المستتر في من قبله وكذلك احتمالات كون جملة من قبله كتاب موسى (ع) حالا من كلّ من المذكورات السّابقة ، فالوجوه والاحتمالات تصير أكثر من ذلك ويسقط بعض الاحتمالات لعدم صحّتها أو تكرّرها أو بعدها ويبقى الباقي صحيحا ، وقد أشير الى اجمالها في الاخبار وهذا من سعة وجوه القرآن وصحّة حمله على كلّ وجه ويستفاد من تفاسيرهم (ع) انّ أحسن الوجوه الّذى أمروا بالحمل عليه فيما نسب إليهم (ع) من مضمون : انّ القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه ؛ هو ما يوافق مقام البيان (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالقرآن أو الرّسول (ص) أو علىّ (ع) أو ما انزل من ولاية علىّ (ع) (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) من القرآن أو شأن رسالتك أو علىّ (ع) أو شأن ولاية علىّ (ع) ، هذا على ان يكون الخطاب لمحمّد (ص) وان كان الخطاب عامّا فالمعنى فلا تك يا من يتأتّى منه الخطاب في مرية من محمّد (ص) أو رسالته أو القرآن أو علىّ (ع) أو ولايته (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) صورة الآية عامّة في كلّ من ادّعى شيئا وادّعى انّه من الله ، مثل الوثنىّ والصّابئىّ وغيرهم من المشركين المدّعين انّ اشراكهم من الله ، ومثل المبتدعين من أصحاب الملل الالهيّة مع ادّعائهم انّ ابتداعهم من نبيّهم ومن دينهم ، ومثل المنحرفين من أهالي المذاهب المختلفة من أمّة محمّد (ص) ، ومثل أصحاب الفتاوى من العامّة ومثل أصحاب الفتاوى من أهل المذهب الحقّ من غير اذن واجازة من المعصوم (ع) عموما أو خصوصا بواسطة أو بلا واسطة ، ومثل المنتحلين للتّصوّف من غير اذن واجازة صحيحة من المشايخ الحقّة سواء كانوا مدّعين للشّيخوخة من غير اذن أو للسّلوك من غير أخذ ؛ لكنّ المقصود أصل الكاذبين الّذين نصبوا أنفسهم دون ولىّ الأمر (ع) وادّعوا انّه من الله ومن رسوله (ص) والاشهاد خلفاء الله الّذين يشهدون على اعمال أهل الأرض ويقبل الله منهم الشّهادة يوم القيامة على أهل عصرهم أو الملائكة الموكّلة عليهم (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) من قول الاشهاد ومن قول الله ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بأنّهم ظالمون وللاشارة الى انّ المراد مخالفوا آل محمّد (ص)


وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بيان للظّالمين يعنى انّ الظّالمين آل محمّد (ص) حقّهم هم الّذين يعرضون عن آل محمّد (ص) ويمنعون غيرهم عنهم ، وسبيل الله هو الامام وولايته في العالم الكبير والعقل أو اتباعه في العالم الصّغير ، والاعراض عن الامام (ع) لا يكون الّا بعد الاعراض عن العقل وكذا المنع بل هما متلازمان (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) اى يطلبون لها عوجا أو يطلبونها معوجّة يعنى ان كانت معوجّة يطلبونها لا إذا كانت مستقيمة امّا لانّ الإنسان عدوّ لما جهل أو لانّه بفطرته يطلب ان يكون كلّ طريق مثل طريقه أو المعنى كما في الخبر يحرّفونها عن أهلها الى غير أهلها أو يخلطونها على الضّعفاء بإظهار ما يظنّونه عيبا فيها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تكرير الضّمير لتأكيد الاختصاص (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) تهديد لهم وتسلية للرّسول (ص) (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) حتّى يمنعوهم من عقوبة الله ويصلحوا ما فسد من أمورهم ومن يظنّونهم أولياء ممّن نصبوهم دون ولىّ الأمر (ع) فهم لا يمنعون عن أنفسهم ولا يصلحون أنفسهم فكيف بغيرهم (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) جواب سؤال مقدّر عن حالهم أو عن حال الأولياء (ع) من دون الله كأنّه قيل : فما حال أوليائهم الّذين يتولّونهم من الأصنام والأحبار والرّهبان والرّؤساء الّذين يظنّون هم رؤساء الدّين والمقصود غاصبوا آل محمّد (ع) حقّهم ، فقال يضاعف لهم العذاب فكيف ينصرون غيرهم وهذا انسب بالمقام (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) حال من الضّمير المجرور أو استيناف أخر يعنى لشدّة العذاب لا قدرة لهم على استماع شيء أو كانوا لا قدرة لهم على سماع فضيلة علىّ (ع) في الدّنيا لبغضهم له (ع) ، واسم كان امّا ضمير الظّالمين أو الأولياء (ع) (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) بالوجهين (أُولئِكَ) الظّالمون أو الأولياء أو المجموع (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ممّا ادّعوا انتسابه الى الله من ادّعاء الخلافة والفتاوى الباطلة وادّعاء شفاعة الآلهة وشفاعة من يظنّونهم خلفاء الرّسول (ص) ورؤساء الدّين وشفعاء يوم القيامة (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) حيث بدّلوا بضاعتهم بما لم يبق منه عين ولا اثر وظنّوا انّه اجلّ عوض أخذوه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ايمانا عامّا بالبيعة العامّة النّبويّة أو ايمانا خاصّا بالبيعة الخاصّة الولويّة ودخول الايمان في قلوبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بعد الايمان العامّ بالدّخول في الايمان الخاصّ أو العمل بشرائط الايمان الخاصّ ممّا أخذ عليهم في الميثاق والبيعة الولويّة إذ مرّ مرارا انّ أصل الصّالحات هو الولاية ولا يكون عمل صالح الّا بقبول الولاية ودخول الايمان في القلب (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) الإخبات الاطمينان مع الخشوع من الخبت بمعنى المتّسع من الأرض المطمئنة والمعنى اطمأنّوا اليه بالخشوع والانقطاع عن غيره ، والرّبّ المضاف هو الولىّ الّذى بايعوا معه بيعة خاصّة ولويّة ولا يصدق الإخبات الّا بعد لقائه بالوصول الى ملكوته والحضور عنده ، فانّ تلك البيعة تورث المحبّة والمحبّة تورث الاضطراب وعدم الاطمينان دون الاتّصال بالمحبوب ولا يقنع المحبّ بالاتّصال البشرىّ حتّى يحصل له الاتّصال الملكوتىّ ويجد المحبوب في عالمه ويتّحد معه وهو الّذى يعبّر عنه بالفكر والحضور والسّكينة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) الصّادّين عن سبيل الله والمؤمنين به (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) كالّذي يعمى في انّه لا يبصر طريقه وموبقات طريقه ، وكالّذي


يصمّ في انّه لا يسمع من الصّوت ما هو مقصوده أو في انّه لا يسمع نداء منادى الله في العالم الكبير ولا في العالم الصّغير أو كالّذي يعمى ويصمّ ليكون تشبيها واحدا لا ان يكون التّشبيه تشبيهين (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) تقديم الكافرين لمراعاة اللّفّ (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ) بأنّى على قراءة فتح الهمزة : وقائلا انّى لكم (نَذِيرٌ مُبِينٌ) على قراءة كسر الهمزة ، أو هو مستأنف على هذه القراءة جوابا لسؤال مقدّر (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ان تفسيريّة وتفسير لأرسلنا أو لنذير أو لمبين على ان يكون بمعنى مظهر لإنذاري أو بمعنى ظاهر الإنذار على ان يكون النّهى عن عبادة غير الله بيانا للانذار من الله أو للافعال الثّلاثة شبه التّنازع وذلك لانّ ان التّفسيرية في الحقيقة تفسير لمتعلّق مجمل للفعل المفسّر بها ويجوز ان يكون تفسير واحد تفسيرا لعدّة أشياء مجملة كأنّه قيل : لقد أرسلنا نوحا بشيء انّى لكم نذير بشيء مبين إنذاري بشيء هو النّهى عن عبادة غير الله ، أو ان مصدريّة بدلا من انّى لكم نذير على قراءة فتح همزة انّى أو متعلّقا بأرسلنا بتقدير الباء أو اللّام على قراءة كسر همزة انّى أو متعلّقا بنذير أو مفعولا لمبين ويجوز تعلّقه بالثّلاثة على سبيل التّنازع ولا تعبدوا حينئذ يجوز ان يكون نفيا ونهيا (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) في موضع التّعليل (فَقالَ) اى فقال نوح لهم ما أرسلناه به فقال (الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) يعنى انّ المطاعيّة تقتضي ان يكون المطاع أفضل من المطيع والفضيلة امّا اضافيّة بالاضافة الى من ادّعى الانتساب اليه أو نفسيّة بكونه في نفسه أفضل من المطيع وكلاهما منتف عنك ، امّا الاوّل فلكونك بشرا مثلنا والبشر لا يكون مناسبا للخالق الّذى ادّعيت الانتساب اليه لكونك مادّيا سفليّا محدودا متحيّزا وكون الخالق بخلاف ذلك ولو فرض وجود بشر على خلاف ذلك فلست أنت ذلك لكونك مثلنا ، وامّا الثّانى فلكون اتباعك أراذل النّاس وبين التّابع والمتبوع يكون مناسبة فأنت أرذل النّاس (بادِيَ الرَّأْيِ) من بدا يبدو بمعنى ظهر أو من بدء بمعنى ابتدأ وهو منصوب على الظّرفيّة بتقدير مضاف اى وقت بادي الرّأى والاتّباع وقت اوّل الرّأى أو ظاهر الرّأى من غير تعمّق دليل على الارذليّة (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يعنى لا فضل سوى ما ذكر ولو فرض فضل سوى ما ذكر لم تكن أنت له باهل لانّا لا نرى لكم علينا شيئا من الفضل ، أشركوا اتباعه معه في نفى مطلق الفضل ليكون كالدّليل على نفى مطلق الفضل عنه لانّه ان كان للمتبوع فضل يسر ذلك الفضل الى التّابع وان خفي في بعض ظهر من بعض آخر ، ويجوز ان يكون قوله وما نرى لكم كالنّتيجة للأوليين يعنى ان لم يكن لك فضل نفسىّ ولا اضافىّ فلا فضل لكم علينا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) في دعوى الرّسالة وتصديقهم ايّاك ولمّا لم يكن مقدّماتهم يقينيّة بل كلّها كانت ظنّيّة خطابيّة صرّحوا بظنّهم أخيرا ، ولكن قياسهم يشبه ان يكون من القياسات الشّعريّة المركّبة من المقدّمات الوهميّة الممّوهة حيث أنكروا الرّسالة بقصر النّظر في الرّسول على بشريّته وانّها تنافي الرّسالة عن الخالق ولم ينظروا الى روحانيّته وانّها مناسبة للخالق وانّ الرّسول بوجهه الرّوحانىّ يأخذ من الله وبوجهه البشرىّ يبلّغ الى خلقه ، وانّه لو لم يكن ذا بشريّة لا يمكنه التّبليغ الى البشر ، وأنكروا فضل الاتباع أيضا بقصر النّظر على بشريّتهم وجهة دنياهم ولم ينظروا الى روحانيّتهم المناسبة لروحانيّة الرّسول المناسبة للأرواح المجرّدة ولو أدركوا روحانيّتهم ، وان لا روحانيّة لأنفسهم لعلموا انّ لاتباع النّبىّ (ص) فضلا


كثيرا جدّا عليهم (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) من الرّأى بمعنى الاعتقاد ولمّا كان حقيقة الاستفهام الاستخبار ومعنى الاستخبار طلب الاخبار عن اعتقاد المستخبر عنه استعملوا تلك الكلمة في معنى أخبروني مجرّدا عن الاعتقاد لئلّا يلزم التّكرار وقد مرّ نظيره (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) فعمّيت جواب الشّرط ، وجملة الشّرط والجزاء متعلّق أرأيتم وأ رأيتم معلّق عنها والحقّ انّ التّعليق كما يقع بأداة الاستفهام يقع بأداة الشّرط أيضا وحينئذ يكون جملة أنلزمكموها مستأنفة منقطعة عمّا قبلها أو الفاء عاطفة وعمّيت معطوف على الشّرط والجزاء محذوف بقرينة أرأيتم أو بقرينة أنلزمكموها وأ نلزمكموها مفعول أرأيتم معلّقا عنه بأداة الاستفهام ، والبيّنة قد مرّ مرارا انّها النّبوّة كما انّ الزّبر هي الولاية وإطلاقها على الرّسالة وأحكامها وعلى المعجزة المبيّنة لصدق الدّعوى وعلى الكتاب السّماوىّ لكونها صورة النّبوّة وظهورها ، والرّحمة هي الولاية والنّبوّة وتوابعها صورة الرّحمة ولذا وحدّ الضّمير في عمّيت ونلزمكموها ولتوحيد الضّمير وجوه أخر لا فائدة معتدّا بها في ذكرها (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) بعد ما أظهر الدّعوى وادّعى خفاء المدّعى عليهم تعرّض لجوابهم لانّهم عرّضوا بتكذيبه الى انّه (ص) طالب للدّنيا والرّياسة وبتحقير الاتباع الى طردهم عنه بل صرّحوا بطردهم كما نقل فقال : ان كنت طالبا لدنياكم ينبغي ان يظهر منّى التّعرّض لها حينا ما ، والحال انّى لا اسألكم عليه مالا (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) وان كان ازدراء المؤمنين في أعينكم سببا لتوهينى ومانعا من اتّباعكم لي فليس أمرهم الىّ (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بملاقاة خليفته ومظهره وبملاقاة ملكوت ربّهم المضاف في الدّنيا والآخرة ولذا أتى باسم الفاعل اشارة الى تحقّق الملاقاة في الحال (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) استدراك لما أوهم كلامهم واستدلالهم على تكذيبه من انّهم أهل علم وعقل ومقابلة لما قالوا له من قولهم ما نريك يعنى انّ تكذيبي وعدم اتّباعى ليس لما ذكرتم بل لوقوعكم في دار الجهل وبعدكم عن دار العلم والعقل (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) يعنى انّ ايمانهم بمشيّة الله ولا يجوز طردهم الّا بمشيّة الله فلو طردتهم بهواي أو باهويتكم سخط الله علىّ ومن ينصرني من سخطه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ذلك حتّى لا تسألونى طردهم (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) حتّى تكذّبونى واتباعى بفقرنا وفاقتنا (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) حتّى تكذّبونى بعدم اكثارى المال بالمكاسبات الرّابحة أو تكذّبونى بعدم إجابتكم في السّؤال عن المغيبات والجملة معطوفة على جملة عندي خزائن الله ولا زائدة لتأكيد النّفى والعدول الى الفعليّة لكون العلم وصفا للعالم دون الخزائن أو معطوفة على جملة لا أقول ولا نافية وعدم إدخاله في جملة القول للاشعار بانّ علم الغيب خاصّ بالله لا يوصف غيره به بخلاف الخزائن فانّه قد يوكّل الله بعض خواصّه عليها لكن لا يقول ذلك ولا يدّعيه (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتّى تكذّبونى بما ترون من بشريّتى (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) تعيبهم أعينكم افتعال للمبالغة من زرأه إذا عابه ونسبته الى الأعين للاشعار بانّ ازدرائهم انّما هو لأجل ما رأوه من ظاهر حالهم من الرّثاثة والحاجة من غير تبصّر بحالهم الواقعيّة (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) حتّى تطالبونى بطردهم وتكذّبونى بقبولهم (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي


أَنْفُسِهِمْ) تعليل (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) تعليل أخر وتعريض بهم حيث عابوهم (قالُوا) بعد عجزهم عن المحاجّة (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) وامللتنا بجدالك وكنت تعدنا العذاب من ربّك (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانّه لا ينفع فينا جدا لك (قالَ) لست بقادر على إتيان العذاب ووعده وانّما نسبتموه الىّ بجهلكم (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ) لا غيره (إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) فلا تجترئوا على التّحدّى (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) هذا الكلام منه تحسّر عليهم بانصرافهم عمّا يدعوهم اليه والإتيان بأداة الشّكّ وذكر الارادة مع انّه نصحهم وأكثر نصحهم للاشعار بانّهم لغاية بعدهم كأنّه لم ينصح ولا ينبغي ان يريد نصحهم (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) جزاء الشّرط الاوّل محذوف بقرينة لا ينفعكم نصحى وجزاء الشّرط الثّانى محذوف بقرينة مجموع الشّرط والجزاء الاوّل (هُوَ رَبُّكُمْ) تعليل لعدم النّفع مع ارادة الله الإغواء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعليل للتّهديد من العذاب (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) اى قال الله لنوح (ع) أم يقولون افتراه فهو حكاية قوله تعالى لنوح (ع) وضمير يقولون راجع الى قوم نوح أو قال الله لمحمّد (ص) فهو اعتراض من الله خطابا لمحمّد (ص) كأنّه بعد ما ذكر قصّة نوح (ع) مع قومه زعم بعض انّه افتراء من محمّد (ص) من غير وقوعه ومن غير وحي فأتى الله بتلك الجملة المعترضة بين قصّة نوح (ع) (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) بعد ما دعا نوح (ع) بأنّى مغلوب فانتصر (فَلا تَبْتَئِسْ) لا توقع نفسك في شدّة الحزن وضيق الغمّ (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) لمّا كان لغاية رحمته عليهم مغتمّا بصنائعهم القبيحة نهاه الله تعالى عن ذلك (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) اى بمحضرنا وفي مرآنا يقال : افعله في محضري لأمر يكون به اهتمام ، وجمع الأعين لكون المضاف اليه متكلّما مع الغير أو الأعين جمع العين بمعنى الدّيد بان والباء بمعنى في أو للسّببيّة ، ولمّا كان النّبىّ (ص) ذا شأنين وحين الاشتغال بالشّأن الخلقىّ لا يبقى له الحضور التّامّ كما انّه حين الاشتغال بالشّأن الالهىّ لا يبقى له الالتفات الى الكثرات لطروّ الغشي أو شبه الغشي عليه ويكون موصوفا بالحضور حينئذ امره بالقيام في مقام الحضور وعدم الاشتغال بالكثرات حين نجرّ السّفينة (وَوَحْيِنا) تعليمنا بواسطة الملك أو من لدنّا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) كأنّه (ع) من غاية رحمته كان يراجع الله تعالى في دفع العذاب عن قومه بعد ما أخبره بنزول العذاب وهكذا كان شأن أكثر الأنبياء (ع) خصوصا اولو العزم منهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) محكوم عليهم بالاغراق حتما (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) روى عن الباقر (ع) انّ نوحا (ع) لمّا غرس النّوى مرّ عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون قد قعد غرّاسا ، حتّى إذا طال النّخل وكان طوالا قطعه ثمّ نحته فقالوا قد قعد نجّارا ، ثمّ الّفه فجعله سفينة فمرّوا عليه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون قد قعد ملّاحا في فلاة من الأرض ، حتّى فرغ منها ، وكأنّه أشار الى إجمال سخريّتهم والّا فانّهم سخروا منه بأنواع ما يسخر به كما نقل (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) وهكذا كان شأن كلّ محقّ ومبطل لانّ كلّ من رأى غيره خارجا من طريقته يسخر منه لكن سخريّة المحقّ عقليّة وسخريّة المبطل خياليّة نفسيّة


(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) من استفهاميّة مفعول تعلمون والفعل معلّق عنها ويخزيه صفة عذاب (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) عطف على يأتيه أو موصولة مفعولا لتعلمون بمعنى تعرفون وباقي أجزاء الجملة كما ذكر أو موصولة مفعولا اوّلا لتعلمون ويخزيه مفعول ثان ويحلّ عطف على يخزيه أو موصولة مبتدء ويخزيه خبرها ويحلّ عطف عليه والجملة مستأنفة وتعلمون مطلق عن المفعول (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) غاية لقوله قال ان تسخروا الآية أو لقوله ويصنع الفلك (وَفارَ التَّنُّورُ) في التّنّور وموضعه وفورانه وموضعه أقوال والحمل على الظّاهر أظهر ، وموضع التّنور معروف في مسجد الكوفة اليوم وتفصيل نبع الماء وقصّة نوح (ع) وقومه والاختلاف في التّنور وموضعه ونبع الماء منه مذكورة في المفصّلات وإجمال الصّافى والمجمع يكفى للتّبصّر (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ومن سبق عليه القول هي امرأته الخائنة امّ كنعان كما قيل (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) قرئ كلاهما بضمّ الميم وفتح الرّاء والسّين وقرئ بفتح الميم وفتح الرّاء والسّين وقرئ الاوّل فقط بفتح الميم وكسر الرّاء وهما امّا منصوبان على الظّرفيّة سواء أريد بهما المكان أو الزّمان أو المعنى المصدرىّ أو مرفوعان فاعلين لقوله بسم الله أو مبتدئين وخبرهما بسم الله وبسم الله ظرف لغو متعلّق باركبوا ومجريها يكون منصوبا على الظّرفيّة أو مستقرّ حال من الضّمير المجرور ومجريها فاعله أو من فاعل اركبوا بتقدير لكم حتّى يتمّ الرّبط أو مستقرّ خبر لمجريها والجملة امّا حال من الضّمير الفاعل بتقدير لكم أو من الضّمير المجرور أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر عن حال السّفينة أو عن علّة الأمر بالرّكوب ، وورد انّهم كلّما أرادوا جريها قالوا بسم الله مجريها وكلّما أرادوا ارساءها قالوا بسم الله مرسيها ، وعلى هذا فالمناسب ان يكون جملة بسم الله مجريها محكيّا لقول محذوف والتّقدير اركبوا قائلين بسم الله سواء قدّر مجريها مبتدء أو منصوبا على الظّرفيّة (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن تلبّس باسمه أدركته مغفرته ورحمته (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) وورد في الاخبار انّه لم يكن ابنه انّما كان ابن امرأته وفي لغة طىّ يقال لابن المرأة ابنه بفتح الهاء وقد ورد قراءة علىّ (ع) والباقر (ع) والصّادق (ع) بفتح الهاء وروى ابنها والضّمير لامرأته (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) الّا من كان شأنه الرّحمة وهو الله أو من كان خليفة له أو الّا مكان من رحمة الله يعنى السّفينة أو العاصم بمنى المعصوم أو الاستثناء منقطع أو العامل والمستثنى منه محذوف اى فليس اليوم معصوم من امر الله الّا من رحمه‌الله (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ) فصار (مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) اختلف في تعيين الجودىّ فقيل : انّه بناحية آمل ، وقيل : بقرب جزيرة الموصل ، وقيل : بالشّام ، وفسّر بفرات الكوفة ، وقيل : انّه اسم لكلّ جبل وارض صلبة وكذلك اختلف في مدّة كون نوح (ع) في السّفينة ، فورد انّها كانت سبعة ايّام بلياليها ، وقيل : كانت مائة وخمسين يوما ، وقيل : اوّلها كان عاشر رجب وآخرها عاشر محرّم ، ولا يخفى حسن نظم الآية وقد ذكروا وجوها عديدة بيانيّة وبديعيّة


في الآية الشّريفة من أرادها فليرجع الى التّفاسير الاخر (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) باهلاك من لا يدخل السّفينة وإنجاء أهلي (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) بعد تضرّعه والتجائه ودعائه في حقّ ابنه تبرّى عن مشيّته وحكومته واقرّ بأنّه أحكم الحاكمين دفعا لتوهّم عدم رضائه بحكمه (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) وذلك لانّه على فرض صحّة ما اشتهر انّه كان ابنه كان نسبته جسمانيّة ونوح (ع) صار متحقّقا في الدّنيا بالرّوحانيّة والنّسب الجسمانيّة منقطعة في العالم الرّوحانىّ والنّسب الرّوحانيّة معتبرة هناك كالقيامة ولمّا لم يكن له نسبة روحانيّة واتّصال ملكوتىّ لم يكن من أهل نوح (ع) (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) حمل المصدر للمبالغة وهو تعليل للنّفى ومن قرأ انّه عمل غير صالح بالاضافة كما في بعض الاخبار نفيا لنسبته الجسمانيّة بجعله لغيّة العياذ بالله فقد أخطأ وقرئ انّه عمل غير صالح بالاضافة كما في بعض الاخبار نفيا لنسبته الجسمانيّة بجعله لغيّة العياذ بالله فقد أخطأ وقري انّه عمل غير صالح فعلا ماضيا وغير مفتوح الرّاء (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما لم تعرف حقيقة مسئولك حتّى تعرف صحّة سؤالك (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) حيث يسألون ما لا يعلمون (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) امتثالا لحكمك واتّعاظا بعظتك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) قاله تضرّعا واستكانة (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) بسلامة (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) من الأمم الّتى في السّفينة فانّهم كانوا جماعات مختلفة من أنواع الحيوان أو من أصناف الإنسان (وَأُمَمٌ) ممّن معك أو ممّن يولدون ممّن معك (سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) عن الصّادق (ع) فنزل نوح (ع) من السّفينة مع الثّمانين وبنوا مدينة الثّمانين وكانت لنوح ابنة ركبت معه في السّفينة فتناسل النّاس منها وذلك قول النّبىّ (ص) نوح (ع) أحد الأبوين (تِلْكَ) القصص (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ) الحسنى فانّها غلبت فيها (لِلْمُتَّقِينَ) عن الجزع والتّسرّع الى الدّعاء (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) وقد مضى في سورة الأعراف انّه كان أحدهم (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) في نسبة الآلهة الى الأصنام وجعلها شركاء الله وشفعاءكم عنده (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) دفع لما يتوهّمونه قياسا على أنفسهم من انّ ادّعاء الرّسالة للأغراض الدّنيويّة ولما يخافونه من تفويت ما لهم باتّباعه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تدركون إدراكا عقلانيّا غير مشوب بتصرّفات الخيال فتعلمون انّ من ادّعى امرا لغرض دنيوىّ يكون في الأغلب مطمح نظره المال (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) قد مضى في هذه السّورة تفسيره (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) درّ السّماء بالمطر سالت به والمدرار بمعنى كثير الدّر حال من السّماء وإرسال السّماء عبارة عن إرسال السّحاب أو المطر من جهة انّهما يجيئان من جهتها ، أو المراد بالسّماء هو السّحاب أو المطر من دون ملاحظة علاقة لاطلاقها على كلّ علوىّ (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) رغّبهم في الايمان بذكر ترتّب الغايات الدّنيويّة عليه لانّ حالهم كانت كحال الصّبيان لا يرون الخير الّا فيما


احسّوه خيرا من الاعراض الدّنيويّة وكان المناسب لحالهم وعدهم بما يظنّونه خيرا ، وقيل : لم يمطروا ثلاث سنين وكانوا قد اعقمت نساؤهم فكانوا طالبين للمطر وللأولاد والمراد بزيادة القوّد زيادة العدد (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) دالّة على صدقك قالوه عنادا (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) يعنى ما نقول وما نحتمل في حقّك شيئا الّا هذا القول وهو قولنا اعتريك اى أصابك بعض الهتنا بسوء فصرت مجنونا ، أو ما نقول معك الّا هذا القول يعنى لا تخاطب لنا معك لانّك مجنون بإصابة بعض آلهتنا.

اعلم ، انّ الشّياطين كانوا يظهرون حينا ما على هياكل الأصنام بعض الغرائب مثل التّكلّم على ألسنتهم ولذا كانوا مغترّين بها مع انّها جمادات بلا روح والّا فالعاقل لا ينسب الى الجماد ما يخوّف به الإنسان (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) أجابهم عن التّخويف بالأصنام بالتّحدّى وعدم المبالاة بها (فَكِيدُونِي) أنتم وآلهتكم (جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) كناية عن تسخيره تعالى وقهره لكلّ دابّة.

بيان في وحدة الوجود

اعلم ، انّ الأصل في التّحقّق هو الوجود كما سبق في اوّل البقرة وعليه معظم الحكماء والمشّائين والاشراقيّين ، وقرّره جميع أهل الّذوق من العرفاء والصّوفيّة الصّافيّة الطويّة رضوان الله عليهم وانّه حقيقة واحدة وسيعة ذات مراتب عديدة وبحسب تنزّلاتها وكثرة مراتبها يطرؤها الحدود الكثيرة ، وباعتبار الحدود ينتزع منها مهيّات عديدة متباينة ومتشاركة ، وبكثرة الحدود والمهيّات لا ينثلم وحدتها إذ وحدتها ليست اعتباريّة حتّى تنثلم باعتبار الكثرة ، ولا جنسيّة حتّى تنثلم بانضمام الفصول ، ولا نوعيّة ولا صنفيّة حتّى تنثلم بالمصنّفات والمشخّصات ، ولا عدديّة حتّى يتصوّر لها ثان ، ولا تركيبيّة ولا اتّصاليّة حتّى تنثلم بالتّحليل والتّقسيم بل لا تركيب فيها من جنس وفصل ولا نوع ومشخّص ولا مهيّة ووجود ولا وجود وحدّ وجود ، ولذا كانت لا اسم لها ولا رسم وكانت غيبا مطلقا لا خبر عنها ولا اثر والأسماء والرّسوم والكثرات المتراءات فيها انّما هي في مقام ظهورها فحقيقة الوجوب هي الظّاهرة في كلّ المظاهر وهي الغاية عن الكلّ ومن قال : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ؛ نظر الى تلك الحقيقة فانّها باعتبار مقام الغيب ومرتبة الوجوب خالق الكلّ ومظهرها ، وباعتبار مقام الظّهور عين الكلّ وحقائقها فانّه ليس في تلك العبارة اشعار بوحدة الوجود المؤدّية الى الاباحة والإلحاد فانّه نزّهه سبحانه اوّلا عن الاختلاط بالكثرات ثمّ أسند الإظهار اليه واثبت الأشياء فأشار الى الكثرات والى تنزّهه تعالى عن الكلّ وعلوّه على الكلّ ثمّ قال : انّه باعتبار حقيقة الوجود عين الكلّ والكلّ متحقّق به لا باعتبار مرتبة الوجوب والّا لزم التّناقض في كلامه وهو اجلّ شأنا من ان يأتى بالتّناقض في كلام واحد ، والى هذا المعنى أشير في الكلام الالهىّ بقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) اى الله باعتبار حقيقة الوجود لا باعتبار مقام الوجوب ، وما ورد من أمثال هذا في كلمات الكبار من الصّوفيّة فهو ناظر الى تلك الحقيقة لا الى مقام الوجوب حتّى يرد عليهم ما أوردوه مثل قولهم :

غيرتش غير در جهان نگذاشت

زان سبب عين جمله أشياء شد

كه يكى هست وهيچ نيست جز أو

وحده لا اله الّا هو

جنبشى كرد بحر قلزم عشق

صد هزاران حباب پيدا شد

ليس في الدّار غيره ديار


هر لحظة بشكلي بت عيار بر آمد دل برد ونهان شد

هر دم بلباس دگران يار بر آمد گه پير وجوان شد

الى آخر ما قاله المولوىّ من هذا القبيل ، فانّ الكلّ اثبتوا الكثرات ثمّ ذكروا تحقّقها بحقيقة الوجود لا بمقام الوجوب والّا لزم التّناقض في كلامهم وتلك الحقيقة من حيث هي منزّهة عن جملة الكثرات وتمام القيود والاعتبارات حتّى اعتبار الإطلاق وقيد اللّابشرطيّة ، ولذا صارت مقسما لجملة المقيّدات والمطلّقات لا كمقسميّة المفاهيم العامّة ولا كمقسميّة الأجناس والأنواع بل مقسميّته فوق ما ندركه مجهولة الكنه كنفس تلك الحقيقة ، فاذا اعتبرت بشرط لا كانت مقام الوجوب ، وإذا اعتبرت مطلقة مقيّدة بالإطلاق كانت مقام الفعل ومرتبة المشيّة والصّراط المستقيم بين الخلق والحقّ ، وإذا أخذت بشرط شيء كانت ممكنة ومخلوقة بمراتبها المتكثّرة ، فالحقيقة في الواجب وجود وفي مقام الفعل وجود وفي مقام الممكن وجود ولا يلزم من ذلك تشبيه ولا تشريك ، لانّ المخلوقيّة في الحقيقة راجعة الى المهيّات الّتى ما شمّت رائحة الوجود أبدا ووجود المخلوق هو خالقيّته تعالى وفعله الّذى هو إضافته الى الأشياء ولا حكم له على حياله بل هو باعتبار المهيّات محكوم عليه بالمخلوقيّة وباعتبار الفاعل بالوجوب فهو في الخارجيّات كالمعنى الحرفىّ في الذّهنيّات وهو ليس ايّاه وليس غيره بل هو هو بوجه وغيره بوجه ، فمن نظر الى وجود الممكنات من حيث تحدّدها وتعيّنها بالمهيّات فهو ناظر الى المصنوع مردود ملعون عن الله ، ومن نظر اليه من حيث انّه فعل الرّبّ وصنعه فهو مرحوم مكرم :

عاشق صنع خدا با فرّ بود

عاشق مصنوع أو كافر بود

ناظر الى ما ذكرنا والاشكال بانّ الرّضا بالقضاء واجب والرّضا بالكفر كفر مع انّ الكفر من القضاء مشهود ، مدفوع بما ذكر ، إذا تقرّر هذا فعلم ، انّ ناصية كلّ شيء ما به اوّل ظهوره وما به توجّهه الى ما يتوجّه اليه وهي في كلّ الممكنات جهة وجودها الّتى بها ظهورها وتحقّقها وبها توجّهها الى أصلها الّذى هو حقيقة الوجود والوجودات الامكانيّة اظلال الوجود المطلق الّذى هو ظلّ الحقّ تعالى ، والاظلال الوجوديّة كلّها محاطة مقهورة مسخّرة تحت الوجود المطلق ، والحقّ الاوّل تعالى شأنه محيط بفعله آخذ له قاهر عليه والوجود المطلق هو الصّراط المستقيم فقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ) اشارة الى جملة الممكنات بذكر أشرفها الّا هو اشارة الى مقام الوجوب آخذ اشارة الى الوجود المطلق بناصيتها اشارة الى الوجودات الامكانيّة ولذا علّله بقوله (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لانّه محيط بالوجود المطلق الّذى هو محيط بالوجودات الامكانيّة وباعتبار كثرة العوالم في العالم الكبير والعالم الصّغير تتكثّر مصاديق الآية الشّريفة ومظاهر مصداقها الحقيقي (فَإِنْ تَوَلَّوْا) اى تتولّوا (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) من الإنذار بالعذاب الدّائم والعذاب الدّنيوىّ ونصحت لكم وأتممت الحجّة عليكم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي) بعد إهلاككم بالعذاب المنذر به (قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتولّيكم وهلاككم بالعذاب فانّه يستخلف أمثالكم فلا ينقص في ملكه ولا في خلقه بهلاككم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) فيحفظ نوع الإنسان وجملة خلقه باستخلاف أمثال الموجودين من بعد هلاكهم (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) باهلاك القوم (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) عليهم لاستحقاقهم الرّحمة بايمانهم (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال والفائدة تأكيد الإنجاء ولذا كرّر نجّينا والتّصريح بما نجوا منه تهويلا لعذابهم لتهديد السّامعين ويمكن ان يراد بالثّانى الإنجاء من عذاب الآخرة (وَتِلْكَ عادٌ


جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بكفرانهم بهود (ع) ومعجزاته فكأنّهم جحدوا جميع الآيات وقد مرّ مرارا ان أمثال هذه تعريض بامّة محمّد (ص) وجحودهم بعلىّ (ع) وكفرهم به (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) بعصيان هود (ع) فانّ من أنكر واحدا أنكر الجميع أو بعصيان رسل زمانهم وبلادهم (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) لانّهم إذا اتّبعوا امر جبّار من الجبابرة والكلّ سنخ واحد فاتّبعوا امر كلّ جبّار أو باتّباع امر جبابرة بلادهم أو الإتيان بصيغة الجمع للاشارة الى جحود آيات العالم الصّغير وعصيان رسل ذلك العالم واتّباع كلّ جبّار فيه وهو تعريض بامّة محمّد (ص) كأنّه قال فلا تجحدوا يا أمّة محمّد (ص) بآيات ربّكم وخلفائه ولا تعصوا رسوله في مخالفة قوله في علىّ (ع) ولا تتّبعوا امر الجبّار الّذى يتجبّر على علىّ (ع) ويعانده (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) المضاف الّذى هو هود (ع) ثمّ بربّهم المطلق فلا تكفروا أنتم بعلىّ (ع) فيقال بعدا لكم كما يقال (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) وتكرير ألا وعادا والإبدال منه بقوم هود (ع) لكون المقام مقام السّخط والتّهديد والتّكرير والتّغليظ والتّطويل مطلوب في ذلك المقام (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) استبقاكم أو أعطاكم وعلّمكم ما به تعمرون البلاد (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) للخير لما رأينا عليك من الصّلاح والعقل والكفاية (قَبْلَ هذا) الزّمان الّذى أظهرت فيه ما ننكره وما لم نعرفه قبل ذلك من غيرك (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) الهمزة للتّعجّب (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) صفة شكّ من قبيل ظلّ ظليل سواء كان بمعنى موقع في الشّكّ أو بمعنى ذي ريبة (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي) ان اتّبعتمونى فيكون بمنزلة قوله تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وأبلغ منه (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) برجوعى اليه كما سألتمونيه (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) إيقاع الخسران علىّ أو نسبتي الى الخسران (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أجمل قصّته اتّكالا على سائر ما ورد في الكتاب من حكايته (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) تعيّشوا في منازلكم أو بلدكم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وعيد بالعذاب والإهلاك بعد الثّلاثة (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) باهلاكهم (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) عطف على محذوف اى نجّيناهم من ذلك العذاب ومن مسيس الخزي منه أيضا في يوم ذلك العذاب أو في يوم القيامة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ) يقوى على عذاب جمع وإنجاء جمع منهم (الْعَزِيزُ) غالب لا مانع له من مراده (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميّتين (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) يقيموا بها (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) قد مرّ مرارا انّ أمثال هذه تعريض بامّة محمّد (ص) (وَلَقَدْ جاءَتْ


رُسُلُنا) اى الملائكة وكانوا اربعة كما ورد في الخبر جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكرّوبيل (إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) ببشارة الولد اى إسماعيل من هاجر أو إسحاق من سارة باختلاف الاخبار (قالُوا سَلاماً) حيّوه بتلك التّحيّة (قالَ سَلامٌ) أجابهم بالبلغ من تحيّتهم حيث عدل عن النّصب الى الرّفع (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ) اى ما لبث زمانا معتدّا به الى ان جاء (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) يعنى أسرع في قراهم وفي طبخه والحنيذ المشوىّ النّضيج ، فقال كلوا ، فقالوا لا نأكل حتّى تخبرنا ما ثمنه؟ ـ قال إذا أكلتم فقولوا بسم الله وإذا فرغتم فقولوا الحمد لله ، فقال جبرئيل لأصحابه حقّ على الله ان يتّخذه خليلا (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) انكرهم وأضمر انّهم أعداء لا أضياف (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) احسّ وأضمر خوفا (قالُوا) بعد ما رأوا انّه خاف (لا تَخَفْ إِنَّا) ملائكة الله وأحبابك (أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) وليس شأننا الاكل (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) وهي سارة تسمع مكالمتهم (فَضَحِكَتْ) تعجّبت من مكالمتهم أو حاضت بعد ما ارتفع حيضها منذ دهر لانّها كانت حينئذ ابنة تسعين سنة وإبراهيم (ع) ابن عشرين ومائة سنة وقد فسّر ضحكت في الاخبار بكلّ من المعنيين وهذا من سعة وجوه القرآن (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ) الظّرف حال ممّا بعده (يَعْقُوبَ قالَتْ) بعد البشارة تعجّبا من الولد بعد سنّ اليأس منه (يا وَيْلَتى) كلمة تعجّب وان كان أصله ان يستعمل في الشّرّ (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) آئسة من الولد (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) لا يرجى منه الاستيلاد (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ) يفعل بمن استحقّ الإحسان فوق استحقاقه (مَجِيدٌ) لا ينظر في إحسانه الى استحقاق فكيف ولكم الاستحقاق ، وفي الخبر انّه اوحى الله تعالى الى إبراهيم (ع) انّه سيولد لك فقال لسارة فقالتء ألد وانا عجوز؟ ـ فأوحى الله اليه انّها ستلد ويعذّب أولادها اربعمائة سنة بردّها الكلام علىّ قال : فلمّا طال على بنى إسرائيل العذاب ضجّوا وبكوا الى الله أربعين صباحا فأوحى الله الى موسى (ع) وهارون (ع) نخلّصهم من فرعون فحطّ عنهم مائة وسبعين سنة وقال هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج الله عنّا فامّا إذا لم تكونوا فانّ الأمر ينتهى الى منتهاه (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) سكن الخوف بمعرفته ايّاهم (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) يعنى انّه بعد ما سكن الخوف وحصل له البسط ببشارة الولد وأخبره الملائكة بانّهم نزلوا لعذاب قوم لوط جادلنا يعنى بمجادلة رسلنا في دفع العذاب عن قوم لوط وهذا من كمال رحمته على خلق الله وسعة خلقه وكمال مرتبة نبوّته فانّ قوم لوط بشؤم أعمالهم استحقّوا سؤال العذاب منه وهو يجادل الله في دفع العذاب ، عكس ما روى عن بعض الأنبياء (ع) الجزويّة من سؤال العذاب بعد التّبليغ وتأبّيهم عن الانقياد من غير صبر على أذاهم فضلا عن طلب الرّحمة ودفع العذاب عنهم ، وصورة مجادلته الملائكة كما نقل انّه قال ان كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ ـ فقال جبرئيل : لا ، قال : فان كان فيها خمسون؟ ـ قال لا ، قال : فان كان فيها ثلاثون؟ ـ قال لا ، قال : فان كان فيها عشرون؟ ـ قال : لا ، قال : فان كان فيها عشرة؟ ـ قال : لا ، قال : فان كان فيها خمسة؟ ـ قال : لا ، قال : فان كان فيها واحد؟ ـ قال : لا ، قال : فانّ فيها لوطا ؛ قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجّينّه واهله ، وهذا من استكماله (ع) في نبوّته لانّه كما روى بعد ما أرى ملكوت السّماوات


والأرض رأى رجلا وامرأته على معصية الله فدعا عليهما فأهلكا وبعد كمال النّبوّة يجادل في قوم لوط مع انّه (ع) كان يراهم على معاصي الله وعلى اشدّها (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول على المسيء بالمؤاخذة وبالدّعاء عليه (أَوَّاهٌ) كثير الدّعاء (مُنِيبٌ) راجع الى الله في كلّ ما يرى (يا إِبْراهِيمُ) قلنا على السنة رسلنا أو قالت الملائكة يا إبراهيم (أَعْرِضْ عَنْ هذا) اى سؤال دفع العذاب والمجادلة فيهم (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) باهلاكهم ولا مردّ له (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فلا فائدة في جدالك (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) لانّهم أتوه بصور غلمان فخاف تفضيحهم لعلمه بسيرة قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) كناية عن العجز عن الحيل في دفع الشّدّة كأنّه لا يمكنه مدّ اليد الى شيء في دفعها (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد بليّته لعدم حياء قومي وعدم قدرتي على دفعهم وكمال اهتمامي في محافظة أضيافي (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ) يسرعون كأنّهم يدفعون لطلب الفاحشة من أضيافه (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) بحيث لم يبق لهم حياء وتجاهروا بفعلهم وطلبوا الفاحشة من أضيافه (قالَ يا قَوْمِ) يعنى قالوا أعطنا اضيافك فانّك شاركتنا في فعلنا فقال يا قوم (هؤُلاءِ بَناتِي) يريد التّزويج بهنّ أو مقصوده أزواجهم فانّهنّ كنّ بناته لكون كلّ نبىّ أبا أمّته ومقصوده كما في الخبر ان يأتوا من أدبارهنّ لانّه قد علم انّهم لا يريدون الفروج (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) من حيث الإثم أو من حيث الجسم ولذلك ورد عن الرّضا (ع) انّه قال احلّه آية من كتاب الله قول لوط (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وقد علم انّهم لم يريدوا الفروج (فَاتَّقُوا اللهَ) في هذا الفعل الشّنيع (وَلا تُخْزُونِ) لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء أو لا تفضحوني من الخزي (فِي ضَيْفِي) فانّ إخزاء ضيف الرّجل اخزاؤه (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يهتدى الى الحقّ ويرعوى عن القبيح (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) حاجة وميل (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من إتيان الذكّران (قالَ) بعد عجزه عن النّصح والمحاجّة متمنّيا ما ليس له الوصول اليه باعتقاده (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ) بمدافعتكم (قُوَّةً) بنفسي (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قوىّ على دفعكم حتّى أدفعكم به استعار لفظ الرّكن الّذى هو الجبل الّذى لا يمكن تحريكه أو قاعدة البيت الّتى هي كذلك للقوىّ الممتنع عن إزعاجه ، نقل انّه قال جبرئيل انّ ركنك لشديد افتح الباب ودعنا وايّاهم (قالُوا) اى الملائكة بعد ما رأوا عجزه عن دفعهم ونهاية تضجّره بهم تعريفا لا نفسهم تسكينا لا لاضطرابه (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) فلا تغتمّ (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بما يريدون (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) مظلما كذا روى عن علىّ (ع) (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) يعنى لا يتخلّف وعلى هذا فقوله (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من أحد أو لا ينظر الى وراءه وعلى هذا فهو استثناء من أهلك (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) تعليل (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) جواب سؤال مقدّر أو كان مذكورا فأسقطه تعالى ايجازا كأنّه قال استعجالا بالعذاب : متى كان موعد عذابهم؟ ـ فقال : انّ موعدهم الصّبح ، روى انّه قال : متى موعد إهلاكهم؟ ـ قالوا : الصّبح ، فقال : أريد أسرع من ذلك لضيق صدره بهم فقالوا (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) ومن هذا يظهر فضل مقام إبراهيم (ع) على مقام لوط (ع) مع انّه كان يراهم على الفاحشة


مثل لوط أو أزيد وأتمّ لانّه كان له رؤية الملكوت فيرى ما كان غائبا عن لوط (ع) ومع ذلك يجادل في دفع العذاب ولوط (ع) يستعجل بالعذاب (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) بان جعل جبرئيل جناحه في أسفلها ثمّ رفعها الى السّماء ثمّ قلبّها عليهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) معرّب «سنگ گل» اى الطّين المتحجّر (مَنْضُودٍ) نضد واعدّ لعذابهم أو متتابع في النّزول عليهم وألصق بعضه ببعض (مُسَوَّمَةً) معلّمة بالنّقاط للعذاب (عِنْدَ رَبِّكَ) متعلّق بمسوّمة أو ظرف مستقرّ حال من المستتر في مسوّمة (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) تعريض بأمّة محمّد (ص) والمراد مطلق من ظلم أو من ظلم مثل ظلمهم بإتيان الذّكور روى انّه من مات مصرّا على اللّواط لم يمت حتّى يرميه الله بحجر من تلك الأحجار فيكون فيه منيّته ولا يراه أحد وقصّة لوط (ع) وقومه وسوء فعلهم وخراب ديارهم مذكورة في المفصّلات (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) كانوا يعاملون بنقص الميزان إذا أعطوا واستيفائه إذا أخذوا ، فنهاهم عن سوء صنيعهم (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) ان تركتم البخس في المعاملة (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) بعذابه كلّ النّاس أو بجميع جوانب كلّ أحد أو محيط بجميع ايّام الدّنيا ، وعد ووعيد كما هو شأن الأنبياء (ع) في دعوتهم حيث يجمعون بين التّبشير والإنذار (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) تصريح بمفهوم النّهى تأكيدا ورفعا لتوهّم ان يريد بالنّهى عن النّقص الأمر بإعطاء الزّيادة فانّ مفهوم مخالفته اعمّ من الإيفاء وإعطاء الزّيادة ولذا قيّد الإيفاء بقوله (بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تعميم لمطلق الأشياء مكيلة كانت أو موزونة أو غيرها وتأكيد آخر فانّهم لمّا كانوا مصرّين على التّطفيف كان التّأكيد في النّهى عنه والأمر بالإيفاء مطلوبا (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) حال تأكيدىّ وتعميم آخر ونهى عن مطلق الإفساد. اعلم ، انّ الآية كما تجري في الاعراض الدّنيويّة تجري في الأوصاف النّفسانيّة من حسن المعاشرة وترك سوء الخلق مع المعاشرين والإنصاف معهم وترك طلب الإنصاف منهم وحسن الظّنّ بهم واتّهام نفسه فيهم وستر العيوب منهم ورؤية العيوب من نفسه والاعتذار لهم والملامة لنفسه ، وكما تجري في العالم الكبير تجري في العالم الصّغير والمعاملة مع أهل مملكته ، وكما تجري في المعاملة بين الشّخص وسائر الخلق تجري في المعاملة بينه وبين الله ، فلا تغفل عن تعميم الآية ، بل ينبغي للنّاظر المتدبّر في الآيات الالهيّة ان ينظر ويتدبّر اوّلا في مصداق كلّ آية في وجوده ومملكته ثمّ ينظر في مصاديقه الخارجيّة ولا يخصّص الآية بمن نزلت فيه ، مثلا إذا تلا آية فيها ذكر فرعون وموسى (ع) فلينظر اوّلا الى وجوده وفرعون مملكته الدّاعى للالهة والاستقلال والاستبداد ، وموسى وجوده الدّاعى لأهل مملكته وفرعونهم الى الإقرار بالله والانقياد له ، ثمّ لينظر الى حال موسى (ع) وفرعون ومالهما وما عليهما ليعتبر بذلك ويعين به موسى وجوده على دعوته ، ثمّ لينظر الى موسى زمانه وفرعونه ليعتبر بهما ويقيس حالهما الى من مضى وينزجر عن فرعونه ويطلب موساه ليعين أيضا بذلك موسى وجوده ويفرّ من فرعونه (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) يعنى ما يبقى لكم من مكاسبكم من دون ارتكاب البخس والتّطفيف والاضافة الى الله للاشارة الى انّ المعطى هو الله وانّ المكاسب وسائل إعطاء الله سترا على إعطائه لئلّا ينصرفوا عن المكاسب ، أو بقيّة الله من الفطرة الالهيّة واللّطفيّة السّيّارة الانسانيّة والعقل وجنوده


بعد احاطة النّفس وشهواتها والشّيطان واغوائه والجهل وجنوده بمملكتكم خير لكم من قضاء الشّهوات والآمال الّتى زيّنها الشّيطان ، أو بقيّة الله من خلفائه في أرضه الدّاعين لكم اليه خير لكم من رؤسائكم في ضلالتكم وكان هذا القول منه تلويحا الى نفسه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقييد بالايمان فانّ بقيّة الله لغير المؤمن نقمة وعذاب أو شرط تهييجىّ لانّهم كانوا مدّعين انّهم مؤمنون بالله وأصنامهم شفعاؤهم عند الله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ضمّنه مثل معنى الوكالة والمراقبة فعدّاه بعلى اى ما انا وكيل عليكم بحفظكم من الشّيطان ومن شرور أنفسكم (قالُوا) في جوابه عن دعوته الى التّوحيد وترك الفساد في الأعمال (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) استهزءوا به بتحقير صلوته من حيث انّها كانت غريبة في انظارهم شبيهة بأفعال المجانين لانّهم ما رأوا مثلها من أمثالهم وبتعظيم عبادة أصنامهم متوسّلا في ذلك بانّها كانت فعل آبائهم وانّهم اعتادوها وأخذوها من أسلافهم (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) بالتّطفيف (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) من قبيل استعمال الضّدّ في الضّدّ تهكّما واستهزاء اى انّك ذو طيش سفيه أو تهييج له على ارتداعه عن دعواه وموافقته لهم يعنى انّك كنت رجلا حليما لا يرجى منك ما يظهر من أمثال الصّبيان ، رشيدا لا ينبغي ان يصدر منك افعال السّفهاء والمجانين (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) قد مضى بيان البيّنة (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) اشارة الى موائد الولاية فانّها الرّزق الحسن ، والجزاء محذوف اى انصرف عن دعواي؟ وأخف غير مولاي؟! (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يعنى ليس مطمح نظري دنياكم حتّى تكذّبونى بمنزلة ما أسألكم عليه مالا (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) لمّا نسب الارادة الى نفسه تبرّى عن استقلاله فقال (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يعنى لا انظر في فعلى ودعوتي الى نفسي وحولي وقوّتى ولا في غاية فعلى الى غير ربّى فالآية اشارة الى التّبرّى من حوله ومن النّظر الى غاية سوى مولاه (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) لا يكسبنّكم كسبا سيّئا (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) يعنى ان كان زمان الأمم السّالفة بعيدا منكم ولستم تعتبرون منهم لعدم مشاهدة آثار هلاكهم بعصيانهم فقوم لوط غير بعيد منكم تشاهدون آثارهم وتتسامعون أخبارهم فاعتبروا بهم واجتنبوا عن مثل أفعالهم في مخالفة نبيّهم وهو تهديد لهم بهلاك الامام الماضية بمخالفتهم رسولهم (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) قد مضى تفسيره في هذه السّورة (قالُوا) بعد ما لم يقدروا على الاحتجاج معه (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) استهزؤا بقوله وهدّدوه بقولهم (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) فيمنعنا عزّة وجودك علينا عن قتلك ورجمك (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) يعنى ترقبون في حقّى رهطي ولا ترقبون ربّى وربّى الّذى أرسلني إليكم اولى بالتّرقّب (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) الظّهرىّ من كان وراء الظّهر منسوب الى الظّهر بالفتح بتغيير هيئته أو منسوب الى الظّهر بالكسر لكنّه لم يستعمل في غير النّسبة وهو عطف بيان أو بدل أو حال تأكيدىّ أو مفعول


ثان ووراءكم حال حينئذ أو ظرف للظّهرىّ أو هو مفعول بعد مفعول كالخبر بعد الخبر لانّه كان في الأصل خبرا بعد خبر (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تعليل للإنكار والتّوبيخ المستفاد من الهمزة ، أو جواب للسّؤال عن حال الله معهم (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) منزلتكم عند الهتكم أو رزانتكم في أنفسكم وهو تهكّم بهم لكنّه أبرزه في صورة الإنصاف ولذا لم يقيّد قوله (إِنِّي عامِلٌ) بمكانتى (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) مضى مثله (وَارْتَقِبُوا) نصر آلهتكم وعذابي (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) نصر الهىّ وعذابكم (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) باهلاك قوم شعيب (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) الإتيان بالواو قبل لمّا هاهنا وفي قصّة هود (ع) وبالفاء في قصّتى صالح (ع) ولوط (ع) للتّصريح في قصّتى صالح ولوط (ع) بوعد العذاب المستعقب لإتيانه المسبّب منه دون قصّتى هود (ع) وشعيب (ع) (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) روى انّه صاح بهم جبرئيل صيحة فزهق روح كلّ منهم (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) الآيات هي الآيات التّسع الّتى بها ظهور رسالته وسلطان مبين هو الولاية الّتى لها السّلطنة على الكلّ ، ولمّا كان جعل عصاه الّتى كانت جمادا حيّة حيّة من ظهور سلطنة الولاية وبه صار سلطنته تامّة كان المراد به في الظّاهر هو عصاه (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) سبب رشد المأمور (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لانّه كان أصل ضلالتهم في الدّنيا فهكذا يصير يوم القيامة رئيسا لهم في الذّهاب الى النّار (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) لانّهم يتّبعونه في الذّهاب الى النّار والتّأدية بالمضىّ اشعار بتحقّقه تأكيدا (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) الدّنيا أو في هذه الخصلة (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) اى العطاء المعطى رفدهم واستعمال الورد والرّفد وتوصيفهما مبالغة في الّذمّ وتهكّم بهم (ذلِكَ) المذكور من أنباء قرى نوح (ع) وهود (ع) وصالح (ع) ولوط (ع) وشعيب (ع) وموسى (ع) شيء يسير (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) وللاشارة الى قلّتها أتى باسم الاشارة مفردا مذكّرا (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ) من اسم بمعنى البعض مضاف الى الضّمير مبتدأ وقائم خبره أو منها لقوّة معنى البعض في من قائم مقام موصوفه الّذى هو المبتدأ ومنها خبر مقدّم وقائم مبتدء مؤخّر والجملة حال ، أو مستأنفة ، أو منها حال معتمد على ذي الحال عامل عمل الوصف ومبتدء وصفّى وقائم مرفوعه ومغنى عن الخبر (وَحَصِيدٌ) والمراد بقيامها قيام أهلها وعدم ابادتهم أو قيام آثار القرى المهلكة وعدم انمحائها وهكذا الحصيد والحصاد هو القطع بالحديد لكن يقال للّذى استوصل بحيث لم يبق منه اثر حصيد ومحصود ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه قرئ فمنها قائما وحصيدا بلفظ الفاء قبل منها ونصب قائما وحصيدا فيكونان حينئذ خبرين لكان محذوفا أو مفعولين لنقصّ محذوفا والتّقدير فمنها كان قائما وحصيدا أو فمنها نقصّ قائما وحصيدا (وَما ظَلَمْناهُمْ) عطف لدفع توهّم انّ حصادهم واستيصالهم بالكلّيّة ظلم من الله (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب ما جلب عليهم العذاب من دعاء غير الله وشنائع الأعمال يظنّ انّ الأليق بسياق هذه العبارة ان يقال : وما نحن ظلمناهم ولكنّهم ظلموا أنفسهم لانّه إذا أريد نفى الفعل عن فاعل وإثباته لفاعل آخر يؤتى بالفاعل المنفىّ


عنه عقيب اداة النّفى وبالفاعل المثبت له عقيب اداة الاستدراك ، لكنّه تعالى أراد أن يشير الى انّه لم يكن في الاستيصال ظلم بل كان عدلا وانّما الظّلم كان أفعالهم الشّنيعة المؤدّية الى الاستيصال فنفى في الاوّل أصل الظّلم بواسطة الاستيصال واثبت ظلما آخر سوى الاستيصال لهم (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) ولا دفعت (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام السّفليّة والأجسام العلويّة والأشخاص البشريّة الّتى ما انزل الله بها من سلطان دون ولىّ الأمر (مِنْ شَيْءٍ) من العذاب (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب والإهلاك (وَما زادُوهُمْ) اى ما زادهم الآلهة (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) غير الإهلاك والتّخسير (وَكَذلِكَ) الأخذ بالحصاد والاستيصال بالكلّيّة (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) اى أهلها (وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ) في موضع التّعليل (أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وذلك انّه تعالى يمهل الظّالم الّذى انصرف عنه الى الشّيطان حتّى استتمّ جهات الغواية واستحقّ كمال العقوبة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الأخذ والإهلاك الواقع بالأمم الماضية الهالكة (لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) فانّه وان كان في الدّنيا لكنّه من تصرّف الغيب وأنموذج الآخرة (ذلِكَ) اليوم الّذى هو الآخرة والتّذكير باعتبار الخبر (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) لانّ المتعاقبين متلاحقون في ذلك اليوم (وَذلِكَ) تكرار اسم الاشارة للتّهويل (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يشهد فيه كلّ حاضر وغائب أو يقوم الاشهاد من الأنبياء (ع) وأوصيائهم (ع) بالشّهادة فيه أو يطلب منهم الشّهادة فيه (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ) اى الى وقت أو في وقت أو لانقضاء أمد (مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم على ان يكون الفاعل راجعا الى اليوم المضاف أو اليوم المشهود وقرئ يأتى بإثبات الياء وحذفها اجراء للوصل مجرى الوقف (لا تَكَلَّمُ) تتكلّم (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لظهور السّلطنة التّامّة والمالكيّة الكاملة بحيث يكون نسبة الكلّ اليه تعالى نسبة القوى والجوارح الى النّفس ، فكما انّ حركات القوى والجوارح إذا كانت سليمة باقية على طاعة النّفس ليست الّا بالاذن التّكوينىّ من النّفس الانسانيّة ، كذلك لا يكون حركات الموجودات تماما ومنها نطق الإنسان وتكلّمه في ذلك اليوم الّا بالاذن التّكوينىّ من الله تعالى ، ولا ينافيه قوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) ولا يؤذن لهم ، لانّ ذلك بالنّسبة الى العاصين أو بالنّسبة الى الاعتذار عن المعصية وهذا بالنّسبة الى المطيعين أو في غير الاعتذار عن المعصية أو ذلك في يوم وموقف وهذا في يوم وموقف آخر ؛ بل نقول ذلك أيضا يدلّ على توقف التّكلّم على الاذن موافقا لهذا (فَمِنْهُمْ) اى من النّاس المذكورين أو من صاحبي النّفوس المدلول عليهم بالنّفس المنكّرة الواقعة في سياق النّفى الدّالة على العموم أو من أهل المحشر المدلول عليهم التزاما أو من المتكلّمين وهو من عطف التّفصيل على الإجمال ولذا أتى بالفاء (شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) اى ومنهم سعيد فهو من عطف الأوصاف المتعدّدة لذوات متعدّدة لا لذات واحدة وإسقاط منهم للاشارة الى انّ القسمة غير مستوفاة امّا لانّ الضّمير راجع الى جملة المبعوثين من الحيوان والإنسان ولا يحكم على أكثرهم بالشّقاوة ولا بالسّعادة والإتيان بضمير ذوي العقول حينئذ للتّغليب أو لانّ أكثر النّاس من السّواقط لا اعتناء بهم حتّى يدخلوا في القسمة أو لانّ الأكثر مؤخّر حكمهم الى الفراغ من حساب الأشقياء والسّعداء ، وتقديم الشّقىّ امّا لانّ المقام للوعيد ، أو لكثرة الأشقياء بالنّسبة الى السّعداء ، ولان يختم الآية بذكر السّعداء والرّحمة (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) قرئ معلوما ومجهولا من شقاه بمعنى أشقاه (فَفِي النَّارِ) خبر الموصول (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الجملة حاليّة أو مستأنفة


جواب لسؤال عن حالهم ، وإذا كانت حالا فامّا حال عن فاعل شقوا أو عن المستتر في الظّرف أو عن النّار ، أو لهم حال عمّا سبق وزفير وشهيق فاعل للظّرف لاعتماده على ذي الحال وللآية وجوه أخر من الاعراب ، والزّفير إخراج النّفس بشدّة والشّهيق إدخاله كذلك ، أو شبّه صراخهم بنهيق الحمير فانّ الزّفير والشّهيق حالتا نهيق الحمير (خالِدِينَ فِيها) حال عن واحد ممّا سبق بطريق التّداخل أو التّرادف (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ظرف للخلود أو لكون الزّفير لهم أو لثبوتهم في النّار استقلالا أو على سبيل التّنازع (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من مدّة الخلود أو مدّة كونهم في النّار لا من مدّة زفيرهم وشهيقهم ليوافق قسيمه ولفظة ما نافية أو مصدريّة أو موصولة أو موصوفة ، ولمّا كان المتوهّم من استثناء مدّة عن مدّة ان يكون المستثناة آخر المدّة المستثنى منها أشكل الآية على القائلين بدوام العذاب والخلود في النّار واستدلّ القائلون بانقطاع العذاب أو خروج أهل النّار من النّار بأمثالها.

بيان في خلود أهل النّار وعدم خلودهم

اعلم ، انّ المتشرّعين من المتكلّمين والفقهاء رضوان الله عليهم قالوا بدوام العذاب وخلود أهل النّار الّذين لا يدركهم شفاعة الشّفعاء في النّار وفي العذاب واستدلّوا على ذلك بظواهر الآيات والاخبار ، وعلى هذا فالاستثناء من مدّة الخلود باعتبار اوّلها نظيره ان يقال : حبست يوم الجمعة الّا ساعة من اوّله ، فانّ أهل النّار قبل دخول نار الآخرة معذّبون في البرازخ أو غير مستفيقين من غشيهم وإماتتهم بالنّفخة الاولى وحالهم حينئذ كحال النّائم والمغشىّ عليه ، أو الاستثناء من مدّة الخلود باعتبار آخر المدّة لكن بالنّسبة الى من يدركه شفاعة الشّافعين كأنّه قال : الّا ما شاء الله لمن شاء الله أو الاستثناء من مدّة الخلود باعتبار آخرها لكنّ المراد بالنّار نار البرازخ المعبّر عنها بنار الدّنيا كما في الاخبار ، وتلك النّار وان مكثوا فيها ما مكثوا لكنّهم يخرجون عنها أخيرا الى نار الآخرة وسنحقّق نار الدّنيا ونار الآخرة وكذا جنان الدّنيا وجنان الآخرة عن قريب ان شاء الله ، وقد ذكر في تصحيح الاستثناء وجوه أخر لا فائدة في ذكرها ولا تليق بهذا المختصر. وبعض الحكماء من المشّائين والاشراقيّين قالوا بخلود النّار وتسرمد العذاب على النّوع بتعاقب الإفراد وامّا الإفراد فلا يتسرمد العذاب عليهم بل امّا يصير العذاب عذبا كما قال بعض أو يخرجون من الجحيم والنّار الى النّعيم ، أو يخرج بعضهم ويصير العذاب عذبا على بعضهم ، واستدلّوا على ذلك بأصولهم المقرّرة عندهم من انّ القسر لا يكون دائميّا ولا اكثريّا والّا بطل الحكمة في إيجاد القوّة المقسورة وإذا لم يكن القسر دائميّا ولا اكثريّا فان كان الإنسان مخلّدا في النّار فليبدّل القوّة المتألّمة منه بقوّة ملائمة للنّار حتّى يستريح منها ويلتذّ بها ، أو يخرج من النّار ويصل الى ما يلائمه ، واعتقد جمع من المتصوفّة أيضا عدم تسرمد العذاب واستدلّوا على ذلك بأصولهم الذّوقيّة وشواهدهم الكشفيّة من انّ الرّحمة ذاتيّة وسابقة على الغضب وشاملة للكلّ وانّ الغضب عرضىّ لا حق للمرحوم بالّذات ، والعرضىّ يزول والذّاتيّ لا يزول فبعد مدّة العذاب اللّائق بحال المعذّب يصير العذاب عذبا للكلّ كما قال بعض أو يخرج المعذّبون جميعا وينبت من قعر الجحيم الجرجير كما قال بعض ، أو يتسرمد العذاب على النّوع بتعاقب الأشخاص وخروجهم تدريجا كما قال جمع ، أو يخرج بعض ويبقى بعض في الجحيم ملتّذا بنارها وحيّاتها وعقاربها مثل ما قال الحكماء ، ولا إشكال في الاستثناء على قولهم لكن هذا القول يشبه قول اليهود وقد كذّبهم الله في قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً)(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) تعليل لسابقه (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) قرئ بفتح السّين وضمّها من سعده الله بمعنى أسعده (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) الاستثناء هنا


باعتبار المبدء كما سبق أو باعتبار المنتهى لكنّ المراد بالجنّة جنّة الدّنيا كما في أخبارنا ، فالمعنى اما الذين سعدوا ففي جنة الدنيا خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الا ما شاء ربك ان يخرجوا منها الى جنّات المأوى ومقام الرّضوان ويدلّ عليه التّقييد بدوام السّماوات والأرض فانّها باقية في الجنّات الدّانية ، وامّا جنّات المأوى فليس فيها سماء ولا ارض ليس عند ربّنا صباح ولا مساء ويدلّ عليه أيضا قوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فانّهم ان خرجوا منها لا الى مثلها أو ما فوقها كان العطاء مجذوذا لا محالة.

شرح في عوالم البرازخ والمثال والآخرة

اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار نطفته ومادّة بدنه في الخلع واللّبس والموت والبعث فله في كلّ آن موت وحشر وخلع لصورة ولبس لأخرى الى آخر حيوته الدّنيويّة واوّل مماته الطّبيعيّة ، لكنّه لمّا كان بنحو الاتّصال التّدريجىّ في عالم واحد طبيعىّ خصوصا بعد تولّده الى آخر عمره ولا يظهر على أهل الحسّ ظهورا غير مغفول عنه ما سمّوه في الشّريعة المطهّرة موتا وحشرا ، ويذهل أهل لحسّ عن تبدّله وخلعه ولبسه مع انّه مشهود معلوم لكلّ أحد من حيث انّه يشهد انّ النّطفة أضعف جماد ويعلم انّه مادّة البدن ثمّ يراها حيوانا ثمّ إنسانا صبيّا ثمّ مراهقا ثمّ شابّا وكهلا وهرما ، لكن خلعه البدن وانتقاله الى عالم آخر لمّا كان من عالم الى عالم ومن مادّة طبيعية الى صورة اخرويّة مجرّدة ودفعة لا تدريجا صار ممتازا عمّا قبله منظورا اليه مسمّى بالموت والارتحال كما انّ خروجه من رحم أمّه وانفصاله منها لمّا كان دفعة وانتقالا من عالم الى عالم وخروجا من مضيق الرّحم وظلماته الثّلاث صار ممتازا منظورا اليه مسمّى بالولادة ؛ وبعد خروجه من بطن الدّنيا ورحم غلاف البدن ومشيمة اغشية الأهواء ، وولادته في الآخرة له حالات وانتقالات وفي كلّ انتقال موت وحيوة وخلع ولبس وقبر وبعث. فاوّل حالاته الاماتة التّامّة والغشي العامّ الحاصل بالنّفخة الاولى ونفخة الاماتة ويمكث في تلك الحالة ما شاء الله كما أشير اليه في أخبارنا ، وبعد ما يبعث من تلك الحالة بالنّفخة الثّانية ونفخة الحيوة له حالات وانتقالات من صورة الى صورة بحسب ما اكتسبه في الدّنيا من الأعمال والأخلاق ، فان كان من أهل الشّقاوة يتقلّب في الصّور الموذية والنّار الدّانية الى ان ينتهى الى نار الآخرة وان كان من أهل السّعادة وكان عليه شوب من الأعمال السّيّئة والأخلاق الرّذيلة يتقلّب في الصّور الموذية الى ان يتخلّص منها الى الصّور البهيّة ، وان لم يكن عليه شوب من ذلك يتقلّب في الصّور الموذية الى ان يتخلّص منها الى الصّور البهيّة ، وان لم يكن عليه شوب من ذلك يتقللّب في الصّور البهيّة الى ان ينتهى الى جنان الآخرة وجنّة المأوى ويسمّى عالم التّقلّبات برزخا بين عالم الطّبع وعالم الآخرة وفي هذا العالم يكون ترقيّات وتنزّلات في الآخرة ، ونصوص الآيات والاخبار تدلّ على ذلك ، وقرّره العرفاء الشّامخون والصّوفيّة المكاشفون والعقل لا يأباه فلا اعتناء بما قاله بعض المتفلسفة من عدم التّرقّي والتّنزّل بعد الموت بناء على انكار عالم البرزخ والمثال أو على انقطاع المادّة والاستعداد وانّ التّرقّي والتّنزّل لا يكونان الّا بالمادّة والاستعداد. امّا عالم البرزخ والمثال فقد اثبته الآيات والاخبار وحقّقه المكاشفون الأخيار واحتجّ عليه الاشراقيّون من الحكماء الأبرار ومحلّ تحقيقه الحكمة العالية. وامّا انقطاع الاستعداد فمسلّم لكن لا ينافيه ظهور المكسوبات بالاستعداد في الدّنيا بعد الموت بصور مناسبة لها متعاقبة لعدم سعة النّفس لظهور الصّور تماما واستجماعها دفعة حتّى تنتهي الصّور الى صورة لا خروج للنّفس منها بحسب آخر أعمالها في السّعادة أو الشّقاوة ، كما هو شأن أصحاب اليمين وأصحاب الشّمال ، أو تخرج النّفس من عالم الصّورة الى عالم المجرّدات الصّرفة كما هو شأن المقرّبين ، وهناك ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وخروجها الى عالم المجرّدات الصّرفة لا ينافي سعتها وتنعّمها بنعيم الجنان الصّوريّة بحسب مراتبها النّازلة وجنودها الدّانية فانّ المقرّبين مشاركون لأصحاب اليمين في لذّاتهم الصّوريّة وهم لا يشاركون المقرّبين في لذّاتهم المعنويّة


فالنّفوس الانسانيّة بعد الموت والخروج من غلاف البدن مثلها بعد التّولّد والخروج من غلاف الرّحم ، فكما أنّها بعد التّولّد تنمو وتشبّ بحسب بدنه وتخرج من الدّنيا ، كذلك بعد الموت تنمو وتشبّ وتخرج من عالم الصّورة والمثال ان كانت من المقرّبين ، أو تخرج من البرزخ فقط وتقف في صورة هي مقرّها ان كانت من أصحاب اليمين أو من أصحاب الشّمال سواء كان موتها اختياريّا أو اضطراريّا ، وبعد خروجها من عالم الصّور الى عالم المجرّدات الصّرفة وانتهائها الى صورة لا تتجاوز عنها يكون قيامتها الكبرى ودخولها في مقامها من جنّات أو في نار الدّنيا كما في أخبارنا ، وهما اللّتان تكونان في البرازخ قبل الوصول الى محلّ القرار ؛ وقد فسّر الجنّة والنّار في هذه الآية بولاية آل محمّد (ص) وولاية أعدائهم (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) لكن على طريقة ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، والفاء للجزاء اى إذا علمت حال آلهة الأمم السّالفة وانّها لا تغني عن عابديها شيئا بما قصصناه عليك وبما شاهدت من آثارهم فلاتك في مرية (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) من عبادة هؤلاء لانّ عبادتهم مثل عبادة أسلافهم أو من الآلهة الّتى يعبدها هؤلاء فانّ حالها كحال آلهة السّالفين (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ) اى الأمم السّالفة الّذين قصصتهم عليك والتّقدير كما كان يعبد آباؤهم فحذف لدلالة قوله (مِنْ قَبْلُ) عليه (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) اى قسطهم من العذاب كآبائهم أو نصيبهم من أرزاقهم الى آجالهم حتّى نذهب بهم الى دار شقائهم (غَيْرَ مَنْقُوصٍ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كتاب النّبوّة وصورته التّوراة كما آتيناك الكتاب (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كما اختلف في كتابك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بإمهالهم حتّى يخوضوا في طغيانهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين المختلفين من قوم موسى (ع) أو من قومك بتمييز المبطل عن المحقّ وإهلاك المبطل وإبقاء المحقّ (وَإِنَّهُمْ) اى منكرون قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من كتابك (مُرِيبٍ) بالغ سواء كان من قبيل ظلّ ظليل أو بمعنى موقع للغير في الشّكّ على ان يكون من أرابه بمعنى أوقعه في الشّكّ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) قرئ انّ بتشديد النّون وتخفيفها وعلى قراءة التّخفيف قرئ كلّا بالنّصب وبالرّفع وعلى كلّ فلمّا بالتّشديد وبالتّخفيف وقرئ لمّا بالتّنوين فعلى قراءة تشديد النّون فكلّا اسم انّ ولمّا بالتّشديد مركّبة من لام الابتداء ومن الجارّة وما الموصولة أو ما الموصولة ، ولام ليوفّينّهم موطّئة والجملة صلة ما أو صفته والمعنى لمن الّذين ليوفّينّهم أو لمن اشخاص ليوفّينّهم بتقدير القول ، أو لمّا نافية والمنفىّ محذوف وليوفّينّهم جملة مستأنفة والمعنى لمّا يوفّ ربّك أعمالهم ليوفّينّهم أعمالهم أو لمّا أصله لمّا بالتّنوين بمعنى جميعا تأكيدا لكلا أبدل النّون ألفا اجراء للوصل مجرى الوقف ، أو لمّا فعلى من لمّ بألف التّأنيث بمعنى جميعا لم ينصرف لمكان الالف وعلى قراءة تشديد انّ وتخفيف لما فلام لما لام خبر انّ ولام ليوفّينّهم مطوّئة أو بالعكس وما زائدة للفصل بين اللّامين ، أو لام لما لام خبر انّ وما موصولة أو موصوفة اى انّ كلّا من المؤمنين والمنكرين للّذين ليوفّينّهم ربّك أعمالهم ، وهكذا تقدير الموصوفة ، وعلى قراءة تخفيف النّون ونصب كلّا وتشديد لمّا فان مخفّفة عاملة على أصلها وكلّا اسمها ولمّا على الوجوه السّابقة أو ان نافية وكلّا مفعول فعل محذوف ولمّا استثنائيّة والمعنى ان ارى كلّا الّا ليوفّينّهم ، أو ان مخفّفة مهملة وكلّا مفعول فعل محذوف ولما على الوجوه السّابقة وعلى قراءة تخفيف ان ونصب كلّا وتخفيف لما فان مخفّفة عاملة مثل كونها مشدّدة عاملة مع لما


بالتّخفيف أو ان مخفّفة مهملة وارى مقدّرة ولام لمّا موطّئة أو لام خبر انّ وما للفصل بين اللّامين أو لام لمّا خبر انّ وما موصولة أو موصوفة ، أو ان نافية وارى مقدّرة ولام لما بمعنى الّا على قول من يجعل اللّام بعد ان بمعنى الّا وما للفصل أو ما موصولة أو موصوفة ، وعلى قراءة ان بالتّخفيف وكلّ بالرّفع ولمّا بالتّشديد فان مخفّفة مهملة وكلّ مبتدء ولمّا على الوجوه السّابقة ، أو انّ نافية ولمّا استثنائيّة وعلى قراءة ان بالتّخفيف وكلّ بالرّفع ولمّا بالتّخفيف فان مخفّفة مهملة أو نافية ولمّا على الوجوه السّابقة ، والمقصود تهديد المنكرين فالمعنى وانّ كلّا من المنكرين أو تهديد المنكرين وترغيب المؤمنين ، فالمعنى وان كلّا من المؤمنين والكافرين ليوفّينّهم ربّك أعمالهم (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) اى إذا كان الأمر هكذا فاستقم وتمكّن والاستقامة من قام من الانحناء أو من قام بالأمر بمعنى كفاه والهيئة للطّلب أو للمبالغة فمعنى استقام طلب القيام من نفسه أو القيام بالأمر من نفسه وهو أيضا يفيد المبالغة أو بالغ فيه ، ومعنى الآية فاستقم استقامة مماثلة لمأموريّتك وموازية لها أو استقامة مثل الاستقامة الّتى أمرت بها.

اعلم ، انّ الإنسان مأمور تكوينا بالسّير من ادنى مراتب الوجود وهو العناصر الاربعة بل مادّة الموادّ الى أعلاها وهو مقام الإطلاق والخروج من التّعيّن والتّقيّد وسيره من مقام الطّبع على مراتب الجماد والحيوان الى مقام البشر وظهور العقل الجزئىّ الّذى هو مناط التّكليف وظهور الاختيار بمحض الأمر التّكوينىّ من دون مداخلة اختيار وتكليف ، وبعد ظهور العقل وتمييز الخير والشّرّ الانسانيّين لمّا كان قد يعارض اختياره الأمر التّكوينىّ ويمنعه عن سيره على المراتب العالية أدركه الرّحمة والعناية الالهيّة بالأوامر والنّواهى التّكليفيّة على السنة رسله وأوصيائهم (ع) ، فان ساعده التّوفيق في امتثال الأوامر والنّواهى وسار بمقتضى فطرته على المراتب العالية من الملكوت والجبروت الى مقام الإطلاق المعبّر عنه باللّاهوت والمشيّة والحقّ المخلوق به والولاية المطلّقة وتمكّن في ذلك صار منتهيا في سيره الى ما امر به وصار مستقيما متمكّنا في جميع ما امر به تكوينا وتكليفا ، وان لم يساعده التّوفيق وتنزّل الى الملكوت السّفلى وعالم الجنّة والأرواح الخبيثة صار مخالفا للأمر التّكوينىّ والتّكليفىّ فضلا عن ان يكون مستقيما فيه ، فانّ الاستقامة هو التّمكّن في المأمور به بحيث يصير راسخا غير محتمل الزّوال بسهولة ، والسّالك الى الله عروجه على المقامات وان كان صعبا لكن تمكّنه فيها بحيث لا يزول عنه أصعب من دخوله فيها فانّ الدّخول في مقام التّوكّل صعب لكن تمكّنه في التّوكّل بحيث لا يزول عنه في حال من الأحوال أصعب من دخوله فيه ، وهكذا الإنسان الملكىّ عروجه الى الملكوت صعب لكن تمكّنه فيها بعد عروجه إليها بحيث لا يشغله شأن من شؤنه عنها أصعب وقد أشار المولوىّ قدس‌سره الى السّير على تلك المراتب والتّمكّن فيها والانتهاء الى مقام الإطلاق بقوله :

از جمادى مردم ونامي شدم

وز نما مردم بحيوان سر زدم

مردم از حيوانى وآدم شدم

پس چه ترسم كى ز مردن كم شدم

حمله ديگر بميرم از بشر

تا برآرم از ملايك بال وپر

واز ملك هم بايدم جستن ز جو

كلّ شيء هالك الّا وجهه

بار ديگر از ملك پرّان شوم

آنچه اندر وهم نايد آن شوم

پس عدم گردم عدم چون ارغنون

گويدم انّا اليه راجعون

فانّه أشار بذكر الموت الى التّمكّن في المقام الّذى مات منه لانّه لو لم يتمكّن في ذلك المقام لم يكن حيّا به بل كان آثار ذلك المقام عرضيّا لا ذاتيّا فلم يكن حيوته الّتى هي قوام ذاته به ، وما لم يكن حيّا به


لم يتصوّر موته منه وأراد بالملك جنس الملائكة ذوي الاجنحة الّتى عالمها الملكوت ، والمراد بما لم يدخل في الوهم المجرّدات الصّرفة الّتى لا يتصوّرها الواهمة لانّ تصوّرها لا يتجاوز عن المتقدّرات وهي وجه الله الباقي بعد هلاك كلّ شيء ، وصيرورته عدما اشارة الى مقام الإطلاق أو المراد بصيرورته غير مو هوم مقام الإطلاق وصيرورته عدما تأكيدا له ، ولمّا كان التّمكّن في جملة المراتب امرا عظيما صعبا امره (ص) بالاستقامة في جميع ما امر به دون المؤمنين لانّه لا يتيسّر لهم التّمكّن في جميع ما أمروا به الّا من ندر منهم ، فانّ تقديم كما أمرت على المعطوف للاشارة الى هذه اللّطيفة ولذلك لم يصرّح بأمرهم بالاستقامة فيما يتيسّر لهم بل جعل أمرهم تابعا لأمره (ص) وقال من غير تصريح بأمرهم (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) كأنّه صار مأمورا باستقامة المؤمنين دون المؤمنين ولهذا ورد عنه (ع): شيّبتنى سورة هود وورد انّه ما نزلت آية كانت اشقّ على رسول الله (ص) من هذه الآية ، ووجهه انّه امر فيها باستقامة أمّته والّا فاستقامته بنفسه كانت سهلا عليه ولم يقل: شيّبتنى سورة الشّورى ، لانّ الآية هنا لك مطلقة عن ذكر من تاب معه الّذين بايعوا معه البيعة العامّة النّبويّة الاسلاميّة فانّ التّوبة جزؤ للبيعة واحد أركانها سواء كانت البيعة اسلاميّة أو ايمانيّة ومعك ظرف للتّوبة من حيث انّ النّبىّ (ص) أو الولىّ يحصل له رجوع وانسلاخ من الكثرات حين البيعة وتوبة البائع أو ظرف للاستقامة أو هو حال أو المراد بمن تاب عموم المؤمنين بالبيعة الخاصّة خصوصا أمير المؤمنين (ع) أو المراد أمير المؤمنين خاصّة (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا من الاستقامة فانّه نحو من الطّغيان أو لا تتجاوزوا حدود الله ولجواز اتّصاف المؤمنين بالطّغيان اشركهم معه (ص) في النّهى أو صرف الخطاب عنه (ص) إليهم (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تهديد وترغيب للمستقيم والطّاغى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ تأكيدا ، والرّكون هو الميل اليسير والمراد بالظّلم ظلم آل محمّد (ص) ويجرى في كلّ من ظلم غيره من حيث ظلمه ، وامّا من ظلم نفسه فقط فهو وان كان من حيث ظلمه لنفسه ظالما لكن لمّا كان حيثيّة ظلمه لنفسه خفيّة غير ظاهرة لغيره لم يكن داخلا فيه ظاهرا وان كان بحسب الطّريق داخلا والرّكون اليه موجبا لمسيس نار ظلمه النّاشئة من جهله (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) عن الصّادق عليه‌السلام هو الرّجل يأتى السّلطان فيحبّ بقاءه الى ان يدخل يده كيسه فيعطيه ، وعنه (ع) امّا انّها لم يجعلها خلودا ولكن تمسّكم فلا تركنوا إليهم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) فلا تتّخذوهم أولياء (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الجملة الاولى حال عن مفعول تمسّكم والثّانية عطف على تمسّكم (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) عطف على استقم أو لا تطغوا أو لا تركنوا (طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) المراد بطرفي النّهار كما في الخبر الغداة والمغرب وزلفا جمع زلفة بمعنى القريبة اى ساعات قريبة من النّهار والمراد العشاء (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) تعليل لاقامة الصّلوة والمقصود دفع توهّم نشأ من النّهى عن الطّغيان بمعنى عدم التّمكّن والنّهى عن الرّكون الى الظّلمة كأنّه توهّم انّه لا يخلو أحد من عدم التّمكّن والرّكون الى الظّالم ولا سيّما الظّالم لنفسه ، وفي الخبر انّ الصّلوة الى الصّلوة كفّارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر ، وورد انّ الله يكفّر بكلّ حسنة سيّئة ، وورد انّه ليس له شيء اشدّ طلبا ولا أسرع دركا للخطيئة من الحسنة امّا انّها لتدرك الّذنب العظيم القديم المنسىّ عند صاحبه فتحطّه وتسقطه وتذهب به بعد إثباته ، وذلك قوله سبحانه : انّ الحسنات يذهبن السّيّئات ، وعن أحد الصّادقين (ع) : انّ عليّا (ع) قال : سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول : أرجى آية في كتاب الله أقم الصّلوة طرفي النّهار (الآية) وقال: يا علىّ


والّذى بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا انّ أحدكم ليقوم الى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذّنوب ، فاذا استقبل الله بقلبه ووجهه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمّه (ذلِكَ) اى اذهاب الحسنات للسّيّئات أو قول انّ الحسنات يذهبن السّيّئات (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) اى تذكّر لهم لما يرونه في وجودهم وعالمهم من انمحاء السّيّئات بالحسنات ومن غسل الصّلوة لدرن الذّنوب عن وجودهم والمراد بالّذاكرين من كان شأنهم تذكّر المساوى الحاصلة لهم من أفعالهم الشّنيعة وهم الّذين قبلوا الولاية ودخلوا الأبيات من أبوابها وذكروا الله من جهة ذكره (وَاصْبِرْ) على أذى قومك حتّى لا يخرجك عن الاستقامة ولا يدخلك في الطّغيان والرّكون الى غير الله وعلى الطّاعات خصوصا الصّلوات الخمس بإتيانها بجميع شرائطها (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وضع المظهر موضع المضمر ليكون كالبرهان ويكون تلويحا الى الأمر بالإحسان الى المسيء ووجه اختلاف الخطاب في تلك الآيات من قوله فاستقم الى قوله واصبر بالخصوص والعموم غير خاف على المتأمّل في لطائف الخطاب (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) بعد ما نهى عن الطّغيان وذكر مسيس النّار بالرّكون الى الظّالم وانّ الصّلوة حسنة وانّ الحسنات يذهبن السّيّئات وامر بالصّبر على الطّاعات وأذى القوم وأشار الى الأمر بالإحسان ، وبّخهم على ترك النّهى عن الطّغيان والرّكون وعلى عدم الصّبر على الأذى والطّاعات مشعرا بتسبّبه عمّا قبله بإتيان الفاء ، اى إذا كان الأمر هكذا فأنتم موبّخون على ترك النّهى عن هذا الأمر العظيم الّذى يدخل بسببه عباد الله النّار ، والمراد بالبقيّة هو بقيّة الله وقد مضى في تفسير بقيّة الله انّ العقل وجنوده رسول الله الى العالم الصّغير وبعد استيلاء الشّيطان على مملكة هذا العالم فان بقي من العقل وجنوده شيء كان الإنسان ذا بقيّة من جنود الله والّا فلا (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الصّغير وارض العالم الكبير (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء متّصل من أولوا بقيّة باعتبار النّفى المستفاد من اداة التّخصيص اى ما كان من القرون أولوا بقيّة من رسول الله الباطنىّ أو الظّاهرىّ الّا قليلا هم من أنجينا أو بعض ممّن أنجينا أو ناشئا ممّن أنجينا ومتولّدا منهم ، ومنهم ظرف لغو أي أنجينا من بينهم حين هلاكهم أو أنجيناهم من شرّ تلك القرون أو ظرف مستقرّ اى ممّن أنجينا حالكونهم بعضا من القرون أو متولّدا منهم (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) عطف للحاظ المعنى كأنّه قال : فنهى اولو البقيّة واتّبع الّذين ظلموا ما أترفوا فيه وتركوا النّهى طلبا للرّاحة وخوفا من أذى القوم وزوال النّعمة والآية توبيخ لأهل عصر الرّسول (ص) وبيان لذمائمهم (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) تمرّنوا عليه وصار الاجرام سجيّة لهم (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) اى بظلم صادر من بعضهم أو بظلم منّا لهم من دون استحقاقهم بسوء أعمالهم وجرائمهم (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) تهديد عن الاجرام وترغيب في الإصلاح في العالم الكبير والصّغير (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) على دين واحد متوجّهين الى مقصد واحد دفع توهّم نشأ من التّهديد والتّرغيب من انّهم مستقلّون في الإصلاح والاجرام وتسلية للنّبىّ (ص) عن حزنه على اختلافهم (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أبدا كما لم يزالوا مختلفين ازلا (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قد مرّ مرارا انّ الولاية المطلقة هي رحمة الحقّ وانّ صورتها النّازلة المتصوّرة بصور الحروف والنّقوش المعبّر عنها بالايمان الدّاخل في القلب وانّ ملكوت الامام السّاكنة في القلب صورة الرّحمة وحقيقتها وقد حقّق


أيضا انّ الدّاخلين في الولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة وجهتهم واحدة ومقصدهم واحد الّا إذا خرجوا وارتدّوا فطرة بعد ما آمنوا وانّ غيرهم سواء كانوا منتحلين لملّة واحدة أو لملل مختلفة أو لم يكونوا ينتسبون الى ملّة الهيّة كلّهم مختلفون لانّهم لا قائد لهم من ولىّ مرشد ولا سائق من دليل ناصر ولا اتّصال لهم بشيخ واحد وملكوت واحدة وقد قال المولوىّ قدس‌سره تفسيرا للآية :

جان حيوانى ندارد اتّحاد

تو مجو اين اتّحاد از جان باد

جان گرگان وسگان از هم جداست

متّحد جانهاى شيران خداست

همچو آن يك نور خورشيد سما

صد بود نسبت بصحن خانه ها

ليك يك باشد همه انوارشان

چونكه برگيرى تو ديوار از ميان

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) لانّ فيه تعمير الدّنيا وبه بقاء أهلها وتكميل الأتقياء وتطهيرهم من وسخ الدّنيا وقد فسّر المرحوم في الاخبار بشيعة آل محمّد (ص) وانّهم متّحدون وانّ غيرهم مختلفون وان كانوا صورة على طريقة واحدة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) عطف على خلقهم اى ولذلك تمّت كلمة وربّك فيكون اشارة الى حكمة الاختلاف أو على مجموع لذلك خلقهم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلًّا) اى من الاقتصاص على ان يكون نائبا للمصدر أو كلّا من الأنباء على ان يكون مفعولا به (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) حتّى لا يعتريه خوف واضطراب ولا شكّ وارتياب ولا ينصرف عن طريق الطّاعة الى غيرها ولفظة ما مفعول به على الاوّل وبدل أو عطف بيان على الثّانى (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) القصص لا في غيرها (الْحَقُ) فلا تملّ من تطويلها وتكرارها فانّ فائدتها وهي مجيء الحقّ وثبات الفؤاد أعظم الفوائد وأسناها والمراد بمجيء الحقّ هو ظهور الملكوت والملكوتيّين عليه فانّها صورة الحقّ لانّ الحقّ هو مقام الولاية والجبروت والملكوت صورتها والملك أيضا بجهة حقيّة صورتها لكنّه لاكتناف الباطل به اختفى الحقّ عنه ولذلك لا يسمّى حقّا على الإطلاق ولمّا لم يكن مجيء الولاية الّا بصورة ولىّ الأمر على الأشخاص البشريّة فالمراد بمجيئها هو نزول السّكينة الّتى هي ملكوت ولى الأمر وبها ثبات فؤاد البشر (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يعنى انّ الأوليين لك خاصّة وهاتين لجملة المؤمنين (وَقُلْ) عطف باعتبار المقصود اى فذكّرهم وعظهم بها وقل (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) يعنى انذرهم (إِنَّا عامِلُونَ) أشرك المؤمنين لانّ المراد بالعمل العمل على الدّين المدّعى صحّته وهم شركاء له (ص) فيه (وَانْتَظِرُوا) نزول ما تهدّد وننابه من الهتكم وانتظروا نزول ما تهدّدكم به (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) نزول ما نعدكم من الله أو نزول ما تعدوننا (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) إثبات لمبدئيّته ومرجعيّته تمهيدا للأمر بالعبادة ولذلك أتى بالفاء السّببيّة فيه اى إذا كان الأمر كذلك (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنتم ومخالفوكم ؛ ترغيب وتهديد وتعليل للعبادة.


سورة يوسف

مكّيّة ، وقيل : غير اربع آيات نزلن بالمدينة ثلاث من اوّلها والرّابعة :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر) قد سبق انّ تلك الحروف تعبير عن مراتب العالم أو مراتب وجوده (ص) المشهودة له حين انسلاخه عن غواشي الطّبع ولذلك عدّت من أسمائه (ص) فصحّ جعلها مناداة وجعلها مبتدء وما بعدها خبرها وجعلها منقطعة غير عاملة ولا معمولة لمحض إظهار تلك المراتب في نظره وعلى وجه الابتداء فقوله (تِلْكَ) بدل منها و (آياتُ الْكِتابِ) خبرها أو تلك مبتدء ثان وآيات الكتاب (الْمُبِينِ) خبره والجملة خبرها والمبين بمعنى الظّاهر أو المظهر والمراد القلم العالي أو اللّوح الكلّىّ أو عالم المثال أو عالم الطّبع أو القرآن أو جملة العالم (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) اى الكتاب في صورة الحروف والنّقوش (قُرْآناً) جامعا لجهتى الوحدة والكثرة والأمر والخلق (عَرَبِيًّا) بلغة العرب أو عربيّا ذا علم وفقه لا اعرابيّا ذا جهل وسبعيّة وبهيميّة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) اى يسهل عليكم تعقّله لكونه بلغتكم أو تصيرون ذا عقل وفقه لاشتماله على ما يحصل به عقل وفقه (نَحْنُ نَقُصُ) نملي (عَلَيْكَ) لا غيرنا على ان يكون تقديم المسند اليه لافادة الحصر والمقصود النّهى عن الإصغاء الى الغير بايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو المقصود النّهى عن النّظر الى الواسطة من الملك الآتي به (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) إملاء أحسن من كلّ إملاء ، واحسنيّة الاقتصاص امّا بأحسنيّة اللّفظ المقتصّ به أو بأحسنيّة الاخبار المقتصّة لا غريبيّتها أو ابعديّتها عن الأذهان أو اكثريّة فوائدها وانفعيّتها أو احسنيّة موضوعاتها ، أو كون محمولاتها أشهى وألذّ عند النّفس ولا يخفى انّ الكلّ مجتمعة في القرآن خصوصا في سورة يوسف (ع) وقد ذكر لا حسنيّة قصّة يوسف أوجه أخر ما ذكرنا أوجهها والمقصود اقتصاص جملة القرآن لانّ فيه اخبار الأنبياء (ع) والأخيار والأشرار أو اقتصاص سورة يوسف (ع) (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) جملة القرآن أو سورة يوسف (ع) فانّ القرآن كان اسما لما نزل عليه (ص) آية كان أو سورة أو جملة القرآن ثمّ غلّب على المجموع بكثرة الاستعمال وهو مفعول


أوحينا أو نقصّ أو كليهما على سبيل التّنازع على ان يكون أحسن القصص مفعولا مطلقا والّا فهو مفعول أو حينا أو بدل من أحسن القصص (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) لانّك ما اختلفت الى العلماء ولا الى القصّاص وما تجسّست الكتب والغفلة من الله مذمومة ومن غير الله للاشتغال به ممدوحة والمراد الغفلة من تلك القصّة (إِذْ قالَ) إذ اسم خالص مفعول نقصّ أو أوحينا أو بدل من أحسن القصص أو هذا القرآن ، أو بتقدير الأمر من الذّكر وعلى اىّ تقدير فليقدّر مثل المثل والحكاية مضافا الى كلمة إذ قال (يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب (ع) بن إسحاق (ع) بن إبراهيم (ع) وكان لقبه إسرائيل وهو في لغة العبرىّ خالص الله (يا أَبَتِ) الحاق التّاء بالأب والامّ مناديين لإظهار الشّفقة والاستعطاف كتصغير الابن منادى (إِنِّي رَأَيْتُ) من الرّؤيا (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) رأيتهم تأكيد لرأيت ولى ساجدين مفعول ثان لرأيت الاوّل أو رأيتهم جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : على اىّ حال رأيتهم؟ ـ أو جواب سؤال كان مذكورا في المحكىّ فحذف من الحكاية كما قيل : انّ يعقوب (ع) قال على اىّ حال رأيتهم؟ وتأخير الشّمس والقمر للاشارة الى التّرتيب في الرّؤيا ، وقيل : كان تحقّق تعبير الرّؤيا أيضا كذلك لانّ اخوته سجدوا اوّلا ثمّ سجد أبوه وأمّه ، أو للاهتمام بالشّمس والقمر شبه التّخصيص بعد التّعميم ، والإتيان بضمير ذوي العقول وجمعهم لنسبة السّجدة الّتى هي من افعال ذوي العقول إليهم (قالَ يا بُنَيَ) صغّره شفقة (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) لمّا كان شفيقا على أولاده لم يقتصر على نسبة الكيد إليهم واعتذر عنهم بانّ الكيد كان من تصرّف الشّيطان ، نقل انّ يوسف (ع) قال : يا ابه انّ كلماتك تدلّ على انّ إخوتي سيدخلون في سلك الأنبياء (ع) ولا ينبغي الكيد من الأنبياء؟ ـ فقال : لا يتأتّى الكيد من الأنبياء (ع) لكن قد يتصرّف الشّيطان فيهم كما وقع منه بالنّسبة الى آدم (ع) ، انّ الشّيطان للإنسان عدوّ مبين ، نهاه (ع) عن قصص رؤياه على اخوته لما شاهد منهم من حقدهم وحسدهم على يوسف (ع) وعلم انّهم عالمون بتعبير الرّؤيا وانّهم يحسدونه على ما يتفطّنون من تعبير رؤياه. نقل انّ يعقوب (ع) لمّا منع يوسف (ع) من قصص رؤياه على اخوته قبل تعبير رؤياه تغيّر لون يوسف (ع) وارتعدت فرائصه لما كان قد علم من شدّة صولة اخوته وقوّتهم فأخذه يعقوب (ع) وعبّر رؤياه تسكينا له فقال : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) عطف على محذوف اى يرفعك وكذلك يجتبيك ربّك ، ويحتمل انّه كان مذكورا في المحكىّ فأسقطه الله عن الحكاية ايجازا ، أو استيناف شبه العطف بلحاظ المعنى لانّه بعد ما قال : لا تقصص رؤياك استنبط منه انّ تلك الرّؤيا دليل رفعته والمشار اليه الاجتباء بإراءة سجدة الكواكب (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أتى بمن للاشعار بأنّ لتأويل الأحاديث مراتب عديدة لا يحيط بجملتها الّا الله ، والأحاديث ، قيل : اسم جمع للحديث ، وقيل : جمع له على خلاف القياس ، وقيل : جمع الاحداث وهو جمع الحديث أو جمع الحدث بمعنى ما يحدث آنا فآنا ، وتأويل الأحاديث عبارة عمّا تؤل اليه من مبدئها وغايتها ان كان التّأويل بمعنى المؤوّل اليه وان كان بمعناه المصدرىّ فالمقصود كيفيّة إرجاعها الى مبدئها ومنتهاها ، ومبدء الكلّ وكذا غايته هو الله بتوسّط المبادى والغايات المتوسّطة فهو مبدء المبادى وغاية الغايات ، وتأويل الأحاديث بهذا المعنى امر عظيم غامض جدّا لا يتيسّر الّا لمن كان رسولا بعد ما كان عبدا وليّا ، والاحاطة بجميع مراتب التّأويل خاصّة بالله وبمن كان خاتم الكلّ في كلّ الكمالات كما قال تعالى : لا يعلم


تأويله الّا الله خاصّة على ان يكون والرّاسخون ابتداء كلام أو لا يعلم إجمال تأويل ما تشابه منه الّا الله والرّاسخون في العلم خاصّة (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أصل النّعمة هو الولاية والنّبوّة صورتها المكمّلة لها وهكذا الرّسالة والنّعم الدّنيويّة والاخرويّة صورتها الدّانيّة والمراد بإتمام نعمته عليه إتمام نعمة الولاية بنعمة النّبوّة والرّسالة والسّلطنة في الدّنيا والآخرة هذا بالنّسبة الى من تحقّق بقبول الولاية أو بحقيقة الولاية وامّا النّعمة وإتمامها بالنّسبة الى من لم يقبل النّبوّة بعد أو قبل النّبوّة ولم يقبل الولاية فهي قبول النّبوّة وإتمامها قبول الولاية كما في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) يعنى باتّصال البيعة الاسلاميّة النّبويّة بالبيعة الايمانيّة الولويّة (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) بواسطتك وإتمام النّعمة عليهم جمع خير الدّنيا والآخرة لهم بعد ما أزلّهم الشّيطان (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) باستحقاق كلّ وقدره (حَكِيمٌ) ينظر الى دقائق الاستحقاق فيعطى بحسبها وأنت مستحقّ بحسب فطرتك فيعطيك ما تستحقّه (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) اى في قصّتهم (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) اى السّائلين عن قصّتهم كما قيل : انّ رؤساء المشركين سألوا محمّدا (ص) بتلقين اليهود عن قصّتهم ، أو الصّحابة سألوا عنه سورة مشتملة على الحكايات خالية عن الأمر والنّهى ، أو اليهود جاؤا ليسألوا قصّة يوسف (ع) عنه فرأوه يقرؤها كما وجدوها في كتبهم. أقول : نزول الآية ان كان فيمن ذكر فالحقّ انّ السّؤال اعمّ من السّؤال بلسان القال والحال والاستعداد ، وان كلّ طالب للآخرة ولما يعتبر به في جهة الآخرة سائل عنها ، وفي تعليق الحكم على الوصف اشعار بانّ غير السّائل محروم عن ادراك آيات تلك القصّة وعبرها ، فانّ غير السّائل لا يسمع من تلك القصّة غير ما يسمع من الأسمار والتذاذه بها مثل التذاذه بالاسمار سواء لم يكن سائلا بلسان القال أو كان سائلا بلسان القال دون لسان الحال كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ، وفي تلك القصّة آيات عديدة للطّالب المستيقظ دالّة على علمه وحكمته وقدرته وربوبيّته وتصريفه للأشياء على ما يشاء ، وعدم إنجاء الحذر من القدر ، وعدم الانتفاء بالتّدبير فيما يريد غيره ، وعدم الإضرار بمكر الماكرين ، وسببيّة حسد الحاسدين لدرجات شرف المحسودين وانتشار فضلهم ، وعلى فضل العفّة وحسن عاقبتها ، وانّ الإنسان ينبغي ان يكون عفيفا ولو مع خوف التّلف ووخامة البغي وابتلاء الباغي بالالتجاء بنفسه أو بعقبته الى المظلوم وترك الكذب ولو تورية ، وابتلاء الكاذب بمثل كذبه ممّن كذّب له أو من غيره ومكافاة العمل في الدّنيا وان كان من الأنبياء (ع) على سبيل ترك الاولى وغير ذلك من الآيات المندرجة في تلك القصّة (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) قالوا ذلك بعد اطّلاعهم على رؤيا يوسف (ع) وتعبير يعقوب (ع) رؤياه له وكانوا يكذّبون يوسف (ع) في رؤياه ويقولون : انّه افترى ليصرف وجه أبينا الى نفسه ، ونقل في سبب اطّلاع اخوته انّ امّ شمعون بن يعقوب (ع) كانت تسمع حين نقل يوسف (ع) رؤياه وتسمع تعبير يعقوب (ع) لها من حيث لا يريانها فأخبرت ابنها بذلك وقالت : التّعب لكم والشّرف لغيركم ، وقيل : انّهم اطّلعوا على انّ يوسف ذكر رؤياء ليعقوب (ع) وامره بالإخفاء فاحلفوه حتّى أخبرهم ، وقيل : انّه رأى بعد ذلك رؤيا اخرى فأخبر أباه بمحضر اخوته فحسدوه وقالوا ما قالوا وعزموا على الكيد والغدر ، ولفظة إذ بدل من يوسف واخوته بدل الاشتمال بتقدير قصّة إذ قالوا ، أو مفعول للسّائلين أو استيناف كلام بتقدير اذكر في جواب السّائلين قصّة إذ قالوا ، واضافة اخوّة بنيامين الى يوسف (ع)


لكونه من أمّه دونهم (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء على دفع الضّرّ وجلب النّفع له دونهما ، والعصبة كما قيل من العشرة الى الأربعين (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر رتّبوا قياسا بعقولهم منتجا لضلال أبيهم وترتيب القياس هكذا : نحن أقوى منهما وكلّ من كان أقوى كان اولى بالمحبّة فنحن اولى بالمحبّة وأبونا اختار غير الاولى على الاولى وكلّ من اختار غير الاولى على الاولى فهو ضالّ عن طريق العقل وحكمه فأبونا ضالّ ، لكن قياسهم الخيالىّ كان سقيما عقيما عند العشق وسلطانه ، لانّ العشق ارفع من ان يعارضه الخيال أو يداخله القياس وأعظم شأنا من ان يناط بالأسباب بل هو من صفات الله العليا يعطى منه ما يشاء لمن يشاء ، كما سنحقّقه ان شاء الله في بيان عشق امرأة العزيز ليوسف (ع) (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) مجهولة (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) عن مزاحمة التّوجّه الى يوسف (ع) (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) بعد يوسف وقتله أو طرحه (قَوْماً صالِحِينَ) بان تتوبوا الى الله ثمّ تعبدوه في أوامره ونواهيه وهذا دليل على انّهم في ذواتهم كانوا طيّبين وانّما عرض ذلك لهم من الشّيطان (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) قيل : كان القائل يهودا وورد أنّه كان لاوى وهو الّذى بقي النّبوّة في عقبه (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) عظّم القتل ونهاهم عنه ووضع الظّاهر موضع المضمر تعليلا للنّهى بتذكيرهم انّه يوسف (ع) وابن أبيهم وأحبّهم اليه ليعظّموا قتله أيضا (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قعره الّذى يغيب عن الانظار (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) فيذهب به عن أرضكم ويبعّده عن أبيكم (إِنْ كُنْتُمْ) لا محالة (فاعِلِينَ) به ما يفرّق بينه وبين أبيه (قالُوا) بعد ما عزموا على ما أرادوا (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أظهروا الشّفقة عليه بعد ما أنكروا عدم اطمينانه (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ) النّظر في الازهار (وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) عطف على يرتع والعدول عن الفعليّة لتأتّى التّأكيدات من اسميّة الجملة وانّ واللّام وتقديم الجارّ فانّه يشعر بالاهتمام به المستلزم لحفظه (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لشدّة محبّتى له وقلّة صبري عن مفارقته (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قيل : انّ الأرض كانت مذئبة ؛ وما في الاخبار يشعر بأنّها لم تكن مذئبة لكنّه ورّى عن حسدهم وحقدهم وأظهر انّه يخاف الّذئب الصّورىّ كما في الخبر : لا تلقّنوا الكذب فتكذبوا فانّ بنى يعقوب (ع) لم يعلموا انّ الذّئب يأكل الإنسان حتّى لقّنهم أبوهم ، وورد في سبب ابتلاء يعقوب (ع) انّه ذبح كبشا سمينا ورجل من أصحابه محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله ولم يطعمه ، وورد انّه كان له جارية ولدت ابنا وماتت امّ يوسف (ع) في نفاس بنيامين وكانت الجارية تربّى بنيامين وترضعه وكان ابنهار ضيع بنيامين فأخذه يعقوب (ع) منها بعد كبره أو بعد مراهقته وباعه فأخذت الجارية من فراقة حرقة وتضرّعت الى الله فسمعت هاتفا يقول : يبتلى يعقوب (ع) بفراق احبّ أولاده ولا يصل اليه الّا وتصلين أنت قبل ذلك الى ولدك (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) هذا على عادة العرف تقول : ان وقع كذا فانا ملوم أو افعل بى ما شئت والّا فليس هو جوابا له (ع) ، أو هو جواب بأبلغ وجه كأنّهم ادّعوا بعصابتهم وقوّتهم محاليّة أكل الّذئب له فكأنّهم قالوا أكل الّذئب له مستلزم لخسراننا وخسراننا محال فهو محال (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) جزاؤه محذوف اى القوه فيها (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) وحيا بتوسّط الملك كما في أخبارنا ؛ ورد انّه كان ابن سبع سنين أو تسع سنين وقيل :


انّه كان ابن سبع عشرة سنة (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بانّك يوسف (ع) وهو قوله هل علمتم ما فعلتم الآية (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) بعد ما ذبحوا جديا ولطّخوا قميصه بدمه (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) الاستباق التّسابق في الرّمى ، والتّسابق في الخيل ، والتّسابق في العدو ؛ وهو المراد هنا (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) مصدّق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ذي كذب أو مكذوب أو كاذب أو وصف بالمصدر للمبالغة ووصف الدّم بالكذب باعتبار انّه خلاف ما اظهروه ، ورد انّه (ع) قال بعد أخذ القميص ما كان اشدّ غضب ذلك الّذئب على يوسف (ع) واشفقه على قميصه حيث أكل يوسف (ع) ولم يخرق قميصه (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) سهّلت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) عظيما هو أذى يوسف من غير جرم وأذى نبىّ الله والكذب لنبىّ الله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) هذه الكلمات كانت في الشّرائع الماضية مثل كلمة الاسترجاع في الشّريعة المحمّديّة (ص) وأصلها فاصبر صبرا جميلا ، أسقط الفعل وأقيم المصدر مقامه ثمّ عدل الى الرّفع نظير سلاما وسلام فعلى هذا كان تقدير : لي صبر جميل ، اولى من تقدير صبري صبر جميل ، أو صبر جميل صبري ، أو أمرى صبر جميل ، لانّ تعلّق المصدر بالفاعل والمفعول وربطه به بواسطة حرف الجرّ بعد حذف الفعل واقامة المصدر مقامه منصوبا ومرفوعا مطّرد مثل ظنّا منهم وسلام منّا عليك والحمد لله وحمدا لله (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من هلاك يوسف (ع) اى على الصّبر عليه (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) جماعة سيّارة للتّجارة وفي لفظ السّيّارة اشعار بانّ السّير كان شغلهم وقصّته انّ مالك بن زعر الّذى كان أمير العير وكان من ولد إبراهيم الخليل (ع) بأربعة آباء ، رأى رؤيا عبّروها له بالتقاط غلام في ارض كنعان يكون له فيه خير كثير في الدّنيا والآخرة ، وكان رؤياه قبل ذلك بخمسين عاما ، وكان يمرّ في تلك المدّة على ارض كنعان بعيره كلّ عامّ مرّة وفي ذلك العام ضلّ الدّليل الطّريق ومرّوا على ذلك البئر بعد مضىّ ثلاثة ايّام أو خمسة ايّام أو سبعة ايّام من إلقاء يوسف فيه ، وقيل : انّ البئر كان على طريق المارّة ، ويستفاد من قوله تعالى يلتقطه بعض السّيّارة انّ البئر كان على طريق المارّة (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) الّذى يرد الماء ليستقى للنّاس والدّوابّ (فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى) جواب سؤال كأنّه قيل : ما رأى وما فعل بعد إخراج الدّلو ، ونداء البشرى اشارة الى غاية سروره واستبشاره كأنّه تمثّل البشرى لديه فاستبشرها بشهود الغلام ، وقيل : كان له صاحب اسمه بشرى فناداه ليبشّره بشهود الغلام (هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ) اى الوارد وخواصّ أصحابه كتموا التقاطه من البئر لئلّا يمتدّ اليه اطماع الرّفقة ، أو كتموا نفس يوسف (ع) لئلّا يراه رفقتهم فيطمعوا فيه ، أو اسرّوا بمعنى أظهروا ، ويحتمل رجوع ضمير الفاعل الى اخوة يوسف (ع) كما يحيء (بِضاعَةً) حال من مفعول اسرّوه ، قيل : انّ يهودا كان يأتى كلّ يوم الى البئر ويتعاهد يوسف (ع) ويأتى له بطعام فلمّا جاء اليوم الى البئر لم يجد يوسف (ع) فيه فأتى العير فوجده هناك وأخبر اخوته فجاؤا الى العير وكتموا أمر يوسف (ع) وهدّدوه من القتل حتّى أقرّ بالعبوديّة فعابوه بالسّرقة والإباق (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ) منهم ويحتمل إرجاع ضمير الفاعل الى الوارد ورفقته أو الى السّيّارة وكون الشّراء بمعنى الاشتراء (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مغشوش أو قليل (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) عشرين


أو اثنين وعشرين أو ثمانية عشر (وَكانُوا) اى السّيّارة أو اخوة يوسف (فِيهِ) في يوسف أو في الثّمن (مِنَ الزَّاهِدِينَ) غير راغبين أو ناظرين بنظر الزّهد لا بنظر الخيانة ، وكان المشترى من اخوة يوسف (ع) مالك بن زعر أمير العير فجاء به الى مصر وكان من كنعان الى مصر مسيرة اثنى عشر يوما أو ثمانية عشر يوما وقد سار يعقوب (ع) وولده بعد بشارة حيوة يوسف (ع) وسلطنته في تسعة ايّام (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) بعد وصول العير الى مصر وإبراز يوسف (ع) في معرض البيع واشتراء عزيز مصر الّذى كان بحكم الملك على خزائن مصر والملك يومئذ ريّان بن الوليد وآمن بيوسف (ع) ومات في حيوته (لِامْرَأَتِهِ) زليخا (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) بالاعانة في أمورنا وجمع أموالنا وتعهّد ضياعنا وعقارنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) لانّه لم يكن له ولد امّا لانّه كان عنّينا ويكتفى من النّساء بالملامسة والملاصقة أو كان عقيما ، وقد نقل انّ زليخا كانت بكرا لعننه ، أو لانّه كلّما يريد الدّخول ضعف عن الرّجوليّة ولم يتيسّر له الدّخول (وَكَذلِكَ) مثل ذلك التّمكين في دار العزيز وهو عطف على محذوف اى فمكّنّا ليوسف (ع) في دار العزيز ومثل ذلك (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) تمام ارض مصر أو المراد مثل ذلك التّمكين المسبّب عن المتاعب حتّى يكون تسلية للمبتلى (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) عطف على محذوف اى ليعدل في النّاس ولنعلّمه من تأويل الأحاديث فيدبّر على وفقها سواء أريد بالأحاديث ، الاحداث أو أحاديث الرّؤيا أو أحاديث الكتب السّماويّة واخبار الأنبياء أو اعمّ من ذلك (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) مسلّط على ما يريده لا رادّ لمراده وقد ظهر ذلك في قصّة يوسف (ع) لانّه أراد إعزازه في الدّنيا والآخرة بابتلائه وأراد يعقوب (ع) ان لا يفارق عنه ففرّق بينهما ، وأراد عدم اخبار يوسف (ع) اخوته برؤياه فأخبروا ، وأراد اخوته بحسدهم ان يقتلوه فصرفوا ، وأرادوا ان يذلّوه فصار عزيزا بإذلالهم ، وأرادوا رقّيّته ما دام عمره فصار مالك رقاب أهل مصر ، وأراد زليخا إضلاله فعصمه ، وأرادوا اتّهامه بسجنه فصار سبب ظهور طهارته وعلوّ مرتبته (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) اللّعب المعكوس منه وجعله الاضداد أسبابا للاضداد وإظهار الشّرّ بابتلاء العبد وكتمان الخير فيه (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قد سبق تفسير الاشدّ وانّه أوان كمال جميع القوى وهو سنّ الوقوف بين الثّلاثين والأربعين والحقّ انّ مبدأه الثّامن عشر ومنتهاه الأربعون (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) نبوّة ورسالة سواء أريد بالحكم كمال القوّة العمليّة بحيث ينقاد له جميع القوى النّفسانيّة أو الحكومة والتّسلّط أو القوى النّفسانيّة ، فانّ الاوّل النّبوّة والثّانى لازمها والعلم وهو الاستبصار بالأشياء على ما هي عليه من لوازم الرّسالة ، ويجوز ان يراد بالحكم لازم الولاية من التّسلّط على القوى وبالعلم النّبوّة والرّسالة فانّ النّبوّة أيضا تستلزم الاستبصار بما في العالم الصّغير ، وعلى اىّ تقدير فتقديم الحكم لتقدّم رتبته على العلم ولمكان هذا الحكم كان ليوسف (ع) كمال العفّة حين تهيّؤ أسباب الشّهوة والشّره ولذا قدّم ذكر إعطاء الحكم على المراودة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يعنى كما انّ يوسف (ع) كان محسنا فأعطيناه الحكم لإحسانه كذلك نعطى كلّ محسن لإحسانه ، والإحسان قد مضى مرارا انّه الايمان الخاصّ وقبول الأحكام القلبيّة الولويّة بالبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب فالمراد بالمحسن هاهنا هو الّذى صار ذا حسن أو الّذى أحسن الى نفسه بإدخالها تحت ولاية وليّه ، والإحسان الى الغير لازم ذلك الإحسان (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ


نَفْسِهِ) راود ذهب وجاء لطلب شيء ولتضمين معنى الطّلب والسّؤال عدّاه بعن والمقصود تشبيه ملاطفاتها له وفتح أبواب الرّغبة عليه ، وانّه كلّما سدّ بابا من أبواب ترغيبها فتحت بابا آخر بالمراودة الصّوريّة ، والتّعليق على الموصول للاشعار بكمال قوّتها في المراودة وعدم عذر له من جهة الأسباب الصّوريّة وارتفاع حجاب الحياء بكثرة المعاشرة ولذلك عقّبه بقوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) حتّى يكون تعفّفه في تلك الحال دالّا على كمال قوّته الالهيّة وتسلّطه على قواه النّفسانيّة ، والتّضعيف للتّكثير فانّ الأبواب كما نقل كانت سبعة وكانا في البيت السّابع. وقد ذكر في التّواريخ انّها كانت تعشق يوسف (ع) وهو في بيتها سبع سنين وكانت تكتم عشقها ولا يعلمه الّا الله وما أظهرتها على يوسف (ع) أيضا حتّى ذاب جسمها واصفّر لونها واغورّت عيناها وكانت لها امرأة مربّية كانت صاحبة اسرارها ، فسألتها عن حالها فأظهرت حال عشقها وانّ يوسف (ع) لا يلتفت إليها ولا ينظر إليها كلّما تزيّنت له ، فأشارت إليها ان تبنى قبابا متزيّنة بأنواع الجواهر وان تنقش في جوانب كلّ قبّة صورتها وصورة حبيبها متعانقة وتجعل مسكن يوسف (ع) فيها وتظهر عشقها له لعلّه يرغب فيها بعد مشاهدة الصّور المنقوشة المرغّبة ؛ ففعلت وأدخلت يوسف (ع) في القبّة السّابعة وغلّقت الأبواب لئلّا يبقى له عذر في عدم المخالطة معها. وقيل : انّها بنت قبّة نصبت في سقفها وجميع جدرانها المرائى بحيث إذا أدخلت يوسف (ع) فيها لا تنظر الى شيء الّا تشاهد صورة يوسف (ع) ولا ينظر يوسف (ع) الى طرف الّا يرى صورتها ، وذلك انّها كلّما الحّت ودبّرت ان ينظر يوسف (ع) الى صورتها لعلّه يرغب فيها كان لا ينظر إليها فدبّرت ذلك لعلّه يرى صورتها ويرغب فيها وأيضا لغاية محبّتها كانت لا تريد النّظر الّا الى جمال يوسف (ع) (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) اسم فعل بمعنى أقبل أو بمعنى تهيّئت واللّام لتبيين الفاعل أو المفعول وقرئ هيت بضمّ التّاء وهيت بكسرها مثل حيث وجير ، وقرئ هيت بكسر الهاء وفتح التّاء ، وهئت مثل جئت بضمّ التّاء فعل ماض بمعنى تهيّئت (قالَ) في جوابها اعتذارا من عدم إجابتها مستعيذا بالله خوفا من ان يفتتن بصحبتها (مَعاذَ اللهِ) عذت بالله معاذا ولمّا كان في الاستعاذة اشعار بعدم الاجابة علّله بقوله (إِنَّهُ رَبِّي) انّ العزيز سيّدى اشتراني بثمن غال لا يليق بى الخيانة بأهله وحريمه ، أو انّ الله ربّى ربّانى من اوّل استقرار نطفتي ومادّة بدني في رحم أمّي فلا ينبغي مخالفته فيما نهى عنه (أَحْسَنَ مَثْوايَ) أظهر وصفا آخر مقتضيا لقبح الخيانة ، ونسبة الإحسان الى المثوى كناية عن إكثار الانعام ووفور الإحسان ، ومن أساء الى المحسن فهو ظالم والظّالم لا ينجو من العذاب الأليم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ذكر في الاعتذار ثلاثة أشياء : الرّبوبيّة وكثرة الإحسان وكون الخيانة ظلما خصوصا مع المنعم مع عدم فلاح الظّالم تعريضا بنصحها وردعها عمّا أرادت.

بيان العشق ومراتبها ومراتب الحبّ

اعلم ، انّه لا خلاف ولا شكّ في انّ زليخا تعشّقت يوسف (ع) ولم يكن مراودتها عن محض شهوة حيوانيّة وسفاد قوّة بهيميّة كما قال من لا خبرة له بالحقائق الالهيّة والصّفات الرّبوبيّة حيث نظر الى تهديدها له بالسّجن ورضاها بكونه في السّجن ، والحال انّ العاشق لا يمكنه تهديد المعشوق ويعدّ البلاء والملامة فيه من شعار عشقه ومستلذّات لوعته وموجبات ازدياد محبّته واشتعال شوقته ، بل الخلاف في انّ عشقها أكان سفليّا صارفا لها عن الجهة الانسانيّة العالية الالهيّة داعيا لها الى الحيوانيّة البهيميّة المقتضية للسّفاح والفجور لانّ مراودتها كانت لذلك لدلالة هيت وقولها (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقولها (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَ) وقول يوسف (ع) (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) أم علويّا صارفا عن الجهة الحيوانيّة


السّفليّة الى الانسانيّة العالية مقتضيا لنزاهة النّفس عن الأدناس والارجاس موجبا لقرب الحقّ الاوّل تعالى ، لانّ تعشّقها ليوسف انتهى بها الى محبّة الله ومشاهدة جماله والاستغناء عن مشاهدة المظاهر فضلا عن المواقعة والسّفاح كما ورد انّ يوسف (ع) افتتن بها وهي استغنت عنه بالله تعالى وتحقيق ذلك يستدعى تحقيق معنى العشق والمحبّة وبيان حقيقته ومراتبه ؛ فنقول ومنه الاعانة والتّوفيق : العشق من صفات الله العليا وبه دعمت السّماوات والأرضون وهو الّذى ملأ أركان كلّ شيء ولولاه لما كان ارض ولا سماء ولا ملك ولا ملكوت وهو يساوق الوجود ، حقيقته حقيقة الحقّ الاوّل تعالى وهو بإطلاقه غيب مطلق لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر ولذا قيل :

هر چه گويم عشق را شرح وبيان

چون بعشق آيم خجل مانم ازان

عقل در شرحش چو خر در گل بخفت

شرح عشق وعاشقى هم عشق گفت

لانّ العشق كالوجود لا يكتنه ولا يحاط لانّه عين الواقع وحاقّ التّحقّق فلو أدرك بالكنه لا نقلب الواقع ذهنا والواقعىّ ذهنيّا. وأيضا حقيقة العشق المطلق كحقيقة الوجود المطلق منزّه عن ادراك الحسّ والخيال والعقل للزوم السّنخيّة بين المدرك والمدرك بل لزوم الاتّحاد بينهما ولا سنخيّة ولا اتّحاد بين المطلق والمقيّد ولذلك ورد هو مع كلّ شيء ، هو معكم أينما كنتم وهو حقيقة كلّ شيء وهو بفعله كلّ الأشياء ولا شيء من الأشياء معه :

آنجا كه توئى چو من نباشد

كس محرم اين سخن نباشد

وأيضا العشق المقيّد الّذى هو من اجلّ أوصاف الإنسان وبه تميّزه عن سائر الحيوان وفي الحقيقة هو فعليّته وبه تحقّق انسانيّته لا يدرك حاله بالحال والقال ولا بالعقل والخيال لخروجه عن سلطان العقل فكيف بعقال الخيال ، فانّه يقتضي الدّهشة والحيرة والاسترسال عن انتظام الحركات وتدبير الأمور كالجنون والاختبال ولا يدرك العقل المقتضى للتّدبير وحفظ النّاموس حقيقة تلك الأحوال لتقيّده واسترسال العشق ، ولهذا ظنّ العقلاء من الحكماء انّه جنون من اختلال في الدّماغ أو فساد في المزاج وترقّى بعضهم لانّه لم يدرك له سببا طبيعيّا فقال : انّه جنون الهىّ. فالعشق كالوجود مرتبة منه واجب الوجود وليس لأحد الكلام فيه إذا بلغ الكلام الى الّذات فأمسكوا ، ومرتّبة منه العشق المطلق والحقّ المضاف الّذى به قوام كلّ شيء وهو اضافة الحقّ تعالى الى الأشياء وهو حقيقة كلّ ذي حقيقة وبه معيّته وقيّوميّته وهو الظّاهر والباطن والاوّل والآخر وهو بكلّ شيء محيط ، وبه يقال بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس شيئا من الأشياء ولا يبقى معه شيء وان كان هو مع كلّ شيء. ومرتبة منه المجرّدات الصّرفة بسعتها وعدم نهايتها ، ومرتبة منه النّفوس ، ومرتبة منه الأشباح النّوريّة وعالم المثال وفيه جنان أصحاب اليمين ، ومرتبة منه المادّيّات وعالم الطّبع وفيه التّكليف والتّرقّى الى عالم المجرّدات النّوريّة والتّنزّل الى عالم الأرواح الخبيثة ، ومرتبة منه عالم الأرواح الخبيثة وفيه جحيم الأشقياء ، وهناك يتمّ نزول العشق ومن هناك ابتداء الصّعود كما أشير اليه في أخبارنا ، بانّ الجنّ منهم مؤمنون اى متصاعدون عن مقام الأرواح الخبيثة أو ابتداء الصّعود من عالم الطّبع كما عليه معظم أهل النّظر والبيان ، ولمّا كان عالم الطّبع مكتنفا بالاعدام موصوفا بالتّضادّ والتّعاند ملفوفا بالغيبة والفقدان ، بحيث لا يدرك منه أهل الحسّ والخيال العشق والمحبّة لكونهما مسبوقين بالعلم والحيوة ولا يدركون منه حيوة ولا شعورا ما سمّوا ميل الطّبائع الى أحيازها ولا عشقها لحفظ موادّها وصورها ولا ميل النّبات في حركاتها ولا ميل الحيوان في ارادتها عشقا ، بل فرّقوا بين مراتب الطّلبات فسمّوا طلب الاجرام الثّقال والخفاف لا حيازها عند الخروج عنها ميلا ، وعشق الجماد لبقاء صورته حفظا ، وعشق النّبات للنموّ وتوليد المثل تنمية وتوليدا ، وطلبه للغذاء جذبا ، وعشق الحيوان للغذاء والسّفاد شهوة ، وعشقها


لأولادها من حيث انّه يشبه انس الإنسان حبّا ، وسمّوا حبّ الإنسان من حيث انّه إنسان باعتبار مراتبه من الشّدّة والضّعف وباعتبار متعلّقه بالميل والشّهوة والحبّ والعشق والشّوق ؛ فسمّوا اوّل مراتبه ميلا ، وإذا اشتدّ بحيث يتمالك معه شهوة وحبّا ، واشدّ مراتبه بحيث لا يتمالك معه عشقا ، إذا كان الحبّ للمحبوب الموجود ، وإذا كان للمحبوب المفقود يسمّى شوقا ، وقد يطلق كلّ على كلّ. والحبّ على المعنى الاعمّ وعلى مراتب عشق الحيوان والنّبات حقيقة أو على سبيل المشاكلة ، ويسمّى عشق الإنسان من حيث نفسه الحيوانيّة بالهوى والشّهوة ، ويطلق الحبّ على جملة المراتب فيكون اعمّ من الكلّ ، ولا شكّ انّ الهوى والشّهوة والميل والحبّ والشّوق الغير الشّديد من لوازم وجود الإنسان ولا يمكن بقاء الشّخص ولا بقاء النّوع ولا عمارة الدّنيا والآخرة الّا بها فهي من الكمالات المترتّبة عليها غايات ومصالح عديدة. وامّا العشق والشّوق اللّذان لا يتمالك معهما الإنسان ولا يكونان الّا متعلّقين بصور الحسان وقد يتعلّقان بأصوات القيان وتناسب الالحان فقد اختلف كلمات أصحاب البيان وأرباب الّذوق والوجدان في انّهما من الخصائل أم من الرّذائل؟ فقال أكثر العقلاء : انّ العشق رذيلة مستلزمة لرذائل كثيرة وأوصاف مذمومة مثل البطالة في الدّنيا والقلق والدّهشة وسهر اللّيالى واصفرار اللّون واغورار العين وخروج الحركات عن ميزان العقل ، ولذا قيل : انّه جنون الهىّ أو مرض سوداوىّ وجنون حيوانىّ وعدم الانتزاع بالنّصح والرّدع بل اشتداده به كما قال المولوىّ :

سخت تر شد بند من از پند تو

عشق را نشناخت دانشمند تو

وعدم الخوف من التّخويف بالحبس والقتل كما قال أيضا :

تو مكن تهديدم از كشتن كه من

تشنه زارم بخون خويشتن

گر بريزد خون من آن دوست رو

پاى كوبان جان بر افشانم بر أو

والوحشة من أبناء النّوع وطلب العزلة والخلوة عنهم وجعل الهموم مقصورة على لقاء المعشوق نافرا عن كلّ شغل سواه ولو في ترك العبادات والأعمال المعاديّة كما قال أيضا :

غير معشوق ار تماشائى بود

عشق نبود هرزه سودائى بود

عشق آن شعله است كه چون برفروخت

هر چه جز معشوق باقى جمله سوخت

واقتضاؤه في بعض الأحيان للفجور واشتداد الشّهوة الحيوانيّة بحيث لا يتمالك عنه ويدخل فيما منعه الشّارع ، وهذا كلّه من الرّذائل والمناهي الشّرعيّة التّحريميّة أو التّنزيهيّة ، وقال بعض أهل النّظر وجملة العرفاء والصّوفيّة : انّه من حيث هو من الفضائل النّفسانيّة وان صار بالنّسبة الى من غلب عليه البهيميّة رذيلة بالعرض وبالنّسبة الى من هو مشغول بالله صارفا عن الأشرف الى الاخسّ.

وتحقيق الحقّ في ذلك ان نقول : شرافة الأوصاف امّا بشرافة مباديها أو محالّها أو بشرافة لوازمها أو متعلّقاتها أو غاياتها ؛ والكلّ مجموعة في عشق الإنسان للصّور الحسان والحان القيان وتخلّف البعض في بعض الأحيان بعارض لا ينافي الاقتضاء الذّاتيّ لو لم يعارضه عارض ، فانّ مبدأه القريب لطافة النّفس ودقّة الإدراك ورقّة القلب ، ولذا ترى النّفوس الغليظة والقلوب الجافية منه خالية كالاكراد الّذين لا يعرفون منه الّا السّفاد ومبدأه البعيد هو الله بتوسّط المبادى العالية باعداد الأبصار أو السّماع واستحسان شمائل المعشوق ، فانّ عشق كلّ عاشق ظلّ ومعلول لعشق الاوّل تعالى لا كمعلوليّة الأوصاف القهريّة له تعالى فانّها معلولة له بالعرض أو بتوسّط المبادى القهريّة ، فانّ كمال الوجود من حيث هو وجود ينتهى الى الوجوب ومحلّ تحقيقه الحكمة العالية ولا شكّ في شرافة ذلك كلّه ومحلّه النّفس الانسانيّة الّتى هي الصّراط المستقيم الى كلّ خير وهي الجسر الممدود


بين الجنّة والنّار وهي الكتاب الّذى كتبه الرّحمن بيده ، ومن لوازمه جعل الهموم همّا واحدا وكفى العشق فضلا ان يجعل الهموم همّا واحدا وقد قال المولوىّ قدس‌سره :

عقل تو قسمت شدة بر صد مهم

بر هزاران آرزو وطمّ ورمّ

جمع بايد كرد اجزا را بعشق

تا شوى خوش چون سمرقند ودمشق

وطهارة النّفس عن جملة الرّذائل كما قال أيضا :

هر كه را جامه ز عشقى چاك شد

أو ز حرص وعيب كلى پاك شد

شاد باش اى عشق خوش سوداى ما

واى طبيب جمله علّتهاى ما

اى دواى نخوت وناموس ما

اى تو أفلاطون وجالينوس ما

فانّه لا يبقى للعاشق المفتون دواعي الغضب ولا الشّهوة ولذا قيل : العشق يحرق الشّهوة لا انّه يوقدها وما يرى من هيجان الشّهوة في بعض فانّما هي لبقاء النّفس البهيميّة وغلبتها على النّفس الانسانيّة ، أو لسعة النّفس الانسانيّة وأخذ البهيميّة من العشق حظّها ، وقد علمت انّ حظّ البهيميّة من العشق هو قضاء الشّهوة ، ومنها رقّة القلب في كلّ حال والتّواضع لكلّ أحد ولا سيّما المنسوب الى المعشوق والقرب من عالم المجرّدات والتّشبّه بالملائكة ولذلك ورد : من عشق وعفّ وكتم ومات مات شهيدا ؛ وقد قال المولوىّ بلسانه :

خونبهاى من جمال ذو الجلال

خونبهاى خود خورم كسب حلال

ومنها الزّهد الحقيقىّ في الدّنيا بلا تكلّف ولا تعب في الاتّصاف به :

عاشقان را با سر وسامان چه كار

با زن وفرزند وخان ومان چه كار

والرّغبة في الآخرة وطلب الخلاص من سجن الدّنيا :

عاشقان را هر زماني مرد نيست

مردن عشّاق خود يك نوع نيست

أو دو صد جان دارد از نور هدى

وان دو صد را ميكند هر دم فدا

ومتعلّقه بحسب الظّاهر هو الا وجه الحسان باعداد الأبصار أو السّماع ونغم الالحان باعداد السّماع فقط ، وقد يكون تعلّق العشق بالاوجه الحسان باعداد غلبة الشّهوة مع النّظر أو السّماع ، وشرف حسن الصّورة ثابت بالكتاب والسّنّة والعقل والفطرة والمنكر له خارج عن الكلّ ومن لا يميّز بين الصّور الحسان وغيرها ليس بإنسان ، ودقيق النّظر يقتضي ان يكون متعلّق العشق امرا غيبيّا متجلّيا على العاشق من مرآة جمال المعشوق ، ولمّا كان ازدياد حسن الصّورة وبهاؤها دليلا على ازدياد حسن السّيرة وصفاء النّفس وكان ازدياد صفاء النّفس موجبا لاشتداد تجلّى ذلك الأمر الغيبىّ ، فكلّما كانت الصّورة أحسن كان تجلّى الأمر الغيبىّ اشدّ وبحسب اشتداده يشتدّ العشق ، وممّا يدلّ على انّ متعلّق العشق هو الأمر الغيبىّ لا الحسن البشرىّ فقط انّه لو كان المعشوق امرا جسمانيّا لانطفى حرارة شوقه وانسلى من حرقة فرقته عند الوصول الى معشوقه والحال انّ العاشق إذا وصل الى المعشوق وحصل له الاتّصال الجسمانىّ ازداد حرقته واشتدّ لوعته كما قيل :

اعانقها والنّفس بعد مشوقة

إليها فهل بعد العناق تدانى

والثم فاها كى يزول حرارتى

فيزداد ما يبقى من الهيجان

وانّه لو حصل للعاشق اتّصال ملكوتىّ بالمعشوق لتسلّى عن صورته الجسمانيّة كما نقل عن المجنون العامرىّ انّه وقفت على رأسه ليلى العامريّة فقالت : يا مجنون انا ليلاك فلم يلتفت إليها وقال : لي منك ما يغنيني ، وقد قال المولوىّ قدس‌سره برهانا على هذا المطلب :


بيلن السعادة

آنچه معشوقست صورت نيست آن

خواه عشق اين جهان خواه آن جهان

آنچه بر صورت تو عاشق گشته

چون برون شد جان چرايش هشته

صورتش برجاست اين زشتى ز چيست

عاشقا وا بين كه معشوق تو كيست

آنچه محسوس است اگر معشوقه است

عاشق استى هر كه أو را حسّ هست

چون وفا آن عشق افزون ميكند

كى وفا صورت دگرگون ميكند

وغايته قد علم انّها التّجرّد من مقتضيات الشّهوة والغضب ومن ادناس الدّنيا والتّعلّق بالآخرة بل بالله ولا شرف أشرف منها ، فعلم انّ المحبّة الشّديدة للاوجه الحسان من الخصائل الشّريفة وقد يعرضها ما تصير بسببه مذمومة كتعشّق المقرّبين وافتتانهم بالصّور الملاح أو السّماع ، فانّ هذا العشق من أوصاف الاواسط وأصحاب اليمين وهو سيّئة بالنّسبة الى المقرّبين. وقد نقل عن بعض الكمّلين من المشايخ افتتانهم بالسّماع أو الأوجه الحسان ، ومثل تعشّق من اشتدّ بتعشّقه نار الشّهوة سواء كان نفسه البهيميّة غالبة على نفسه الانسانيّة أو مغلوبة ، فانّه بسبب اشتداد الشّهوة واقتضاء الفجور يصير مذموما عقلا وذوقا وحراما شرعا. ولمّا كان عشق أكثر الخلق مورثا لاشتعال نار الشّهوة ومؤدّيا بهم الى الفجور ورد النّهى عن النّظر الى الامارد والتّشبّب بالاجانبة وذمّ أهل الذّوق ذلك كما قال المولوىّ :

عشقهائى كز پى رنگى بود

عشق نبود عاقبت ننگى بود

ولا يوجد آثار العشق الممدوح في ذلك بل هو من توابع الشّره المذموم ، وعشق زليخا وان كانت البهيميّة أخذت منه حظّها واستدعت الفجور كما يدلّ عليه ظواهر الآيات والاخبار ، لكنّ الانسانيّة كانت غالبة والعشق نشأ منها والبهيميّة أخذت حظّا منه تبعا ولذا كانت كاتمة له سبع سنين وانتهى العشق بها الى الانسلاخ ممّا كانت مقيّدة به من الافتتان بصورة يوسف (ع) والى الافتتان بالمعشوق الحقيقىّ فارّة من المعشوق المجازىّ.

بيان البرهان الّذى رآه يوسف (ع)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) بمخالطته وقصدت الفجور (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) همّ بها في المعنى جزاء للولا كأنّه قال : لولا ان راى برهان ربّه لهمّ بها يعنى انّ ترك الهمّة منه كان مسبّبا عن رؤية برهان الرّبّ لا عن امر آخر من عنن وضعف أو مانع ، وتقديم الجزاء لا يهام تحقّق الهمّة اشعارا بقوّة المقتضى من حيث بشريّته وعدم المانع من قبلها بل شدّة الاقتضاء منها وعدم مانع آخر لكونهما في بيت خال من الأغيار وعدم احتمال دخول النّظّار وهذا غاية المدح له (ع) وقيل : الكلام ليس على تقدير التّقديم والتّأخير والمعنى وهمّ بها لو لا ان راى برهان ربّه لعزم على المخالطة أو لفعل ، لكنّ الهمّة عبارة عن الشّهوة الفطريّة والرّغبة الاضطراريّة والخطرة القلبيّة الّتى لا مدخليّة للاختيار فيها وهو بعيد عن مفهوم الهمّة لغة وعرفا ، فان المتبادر من الهمّة هيجان النّفس للفعل بعد تصوّره والرّغبة فيه اختيارا وهو بعيد عن عصمة الأنبياء وحرمتهم (ع). وورد في الاخبار ما يشعر بعدم تقدير التّأخير لكن فرّق بين الهمّتين وانّ المعنى ولقد همّت بمخالطته وهمّ بالفرار أو بقتلها لو الجأتها أو بدفعها أو بوعظها لولا ان رأى برهان ربّه لهمّ بمخالطتها بحسب بشريّته ، وقالت جماعة من المعترفين بجواز الخطاء على الأنبياء (ع) : انّه همّ بمخالطتها وقالوا ما لا يليق بأدنى عبد من عباد الله ممّا لا ينبغي ذكره. ونسبوا الى الباقر (ع) انّه نقل عن أمير المؤمنين (ع) انّه همّ ان يحلّ التّكّة ، وذكر انّ يوسف (ع) حين قال إظهارا لطهارته ذلك ليعلم انّى لم أخنه بالغيب نزل جبرئيل (ع) وقال : ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف (ع) وما ابرّئ نفسي انّ النّفس لامّارة بالسّوء ، وحاشا مقام النّبوّة عن التّلوّث بأمثال هذه الخطايا ، والعجب انّهم يذكرون انّ الله تعالى أخذ يوسف (ع) حين


قال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ، بالسّجن بسبب توجّهه الى السّجن وغفلته عن العصمة واخذه (ع) حين قال اذكرني عند ربّك ، بتوسّله الى المخلوق باللبّث في السّجن بضع سنين ولم يذكروا انّه تعالى أخذه بتلك المعصية العظيمة كأنّهم سفّهوا الحقّ تعالى بالمؤاخذة على الالتفات الى الغير في محضر حضوره وعدم المؤاخذة على المخالفة وارتكاب معصية عظيمة في حضوره بل ذكروا انّ الآية في مدحه (ع) بطهارة ذيله ، ولو كانت كما ذكروها لكانت غاية الّذمّ له (ع) ، وقد ذكر انّ كلّ من كان له ارتباط بتلك الواقعة شهد بطهارته وهم اغمضوا عن ذلك ونسبوه الى التّلوّث ، فانّ الله تعالى قال (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، والعزيز قال (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) والشّاهد الصّبىّ قال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) الى الآخر والنّسوة قلن (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وزليخا قالت (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وإبليس قال : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وقد كان بنصّ الآية من المخلصين.

والمراد بالبرهان هو السّكينة الّتى كانت تنزل على الأنبياء (ع) والمؤمنين وبها كانت نصرتهم على الأعداء في العالم الكبير والصّغير ، وقد مضى انّها تجلّى ملكوت الشّيخ على صدر السّالك وانّها الاسم الأعظم الّذى يفرّ منه الشّيطان ، وقد كان شيخ يوسف (ع) الّذى تاب على يده وبايعه البيعتين أباه يعقوب (ع) ، وبرهان الرّبّ هو صورته الملكوتيّة النّازلة على صدره ، وذكر الرّؤية يشعر بها وفي الاخبار ما يدلّ عليه نصّا أو اشعارا ، واختلاف الاخبار في تفسير البرهان يمكن رفعه بما ذكر ، فقد ورد انّ البرهان كان جبرئيل (ع) لانّه نزل حين همّتها وقال : يا يوسف (ع) اسمك في الأنبياء مكتوب فلا يكوننّ عملك عمل الفجّار ، وورد انّه رأى صورة يعقوب (ع) ، ونقل انّه رأى يدا بينه وبين زليخا ، وفي أخبارنا انّ البرهان ما قاله لها حين سترت الصّنم : أنت تستحيين من صنم لا يبصر ولا يسمع وانا لا استحيى ممّن خلق الإنسان وعلّمه؟! ونقل انّ البرهان اسم ملك أو انّ طيرا ظهر عليه أو انّ حوراء من حور الجنّة ظهرت عليه أو انّه ايّد بالنّبوّة حين مراودتها ، وقد قيل فيه أشياء أخر لا ينبغي ذكرها ، والحقّ انّ البرهان هو ما ذكرنا وانّه لغاية الانزجار عن مراودتها والدّهشة عن محادثتها انسلخ عن البشريّة واتّصل بعالم الملكوت وفاز بشهود الملكوت وأنوارها واستلذّ بجمال شيخة بحيث لم يبق له حالة توجّه والتفات الى زليخا ومحادثتها ، وما ورد في الاخبار من انكار ظهور يعقوب (ع) أو جبرئيل (ع) أو غيرهما فانّما هو باعتبار ما يذكره العامّة من انّه ظهر حين أراد يوسف (ع) الفجور ومنعه عن الفجور فالانكار في الحقيقة راجع الى ما يستفاد من قولهم من الاشعار بهمّة يوسف (ع) للفجور (كَذلِكَ) امّا متعلّق بقوله تعالى همّ بها اى همّ بها مثل همّها به ، وتخلّل لولا ان رأى بينهما لئلّا يتوهّم تحقّق همّه مثل همّها وانقطاع لو لا ان رأى عمّا قبله وقوله (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) جواب سؤال بتقدير أريناه وهذا أوفق بما ورد من تفاسير ائمّتنا (ع) من جعل هم بها جزاء للولا في المعنى أو هو مع عامله المحذوف جملة مستقلّة ولنصرف متعلّق به اى كذلك عصمناه لنصرف عنه السّوء اى الخيانة في حقّ من أكرم مثواه والفحشاء اى الزّنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) في موضع التّعليل وقرئ بفتح اللّام وكسرها (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) تسابقا ؛ بقصده الفرار منها وقصدها منعه (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) اى وصلت اليه وتمسّك بقميصه لتمنعه من الخروج فقدّته (مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها) زوجها العزيز (لَدَى الْبابِ قالَتْ) جواب سؤال مقدّر اى بعد ما رأت العزيز واستحيت منه ورأت افتضاحها وانّه لا يمكن لها انكار الفضيحة قالت دفعا للتّهمة عن نفسها ورميا بها غيرها لا يهام انّها فرّت منه كما هو شأن كلّ خائن بعد


الافتضاح بخيانته (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لفظة ما استفهاميّة إنكاريّة أو نافية اخباريّة (قالَ) دفعا للتّهمة والعذاب عن نفسه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وألهمه الله ان يقول : سل هذا الصّبىّ الّذى في المهد وكان الصّبىّ من أقارب زليخا ابن عمّها أو ابن خالتها وقيل : كان ابن أخت العزيز جاءت الى دار العزيز حين سمعت النّزاع فيها ومعها ابنها ابن ثمانية ايّام أو ثمانية أشهر وكان العزيز قد سلّ سيفه غضبا على يوسف (ع) وهمّ بقتله فالتجأ يوسف (ع) الى الله وقال : اللهمّ ادفع عنّى هذه التّهمة والقتل ؛ فنطق الصّبىّ من غير سبق سؤال (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) اى الصّبىّ (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ادّى الشّهادة بما يكون دليلا عليه (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ) عتابا عليها (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) أشرك سائر النّساء اشارة الى انّ الكيد في أمثال تلك سجيّة للنّساء ليكون العتاب مشوبا بالاعتذار عنها مراعاة لما هو شأن النّصح والوعظ من امتزاج التّهديد والارجاء والرّحمة والغضب وحفظا لعرضه عن الافتضاح ، ويدلّ عليه وصيّته ليوسف (ع) بالكتمان (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) في مراودة الرّجال لوجود المقتضى في سجيّة الرّجال وعدم المانع حين مراودتكنّ وقلّما ينفكّ الرّجل عن شرّ كيد كنّ (يُوسُفُ) بحذف حرف النّداء (أَعْرِضْ عَنْ هذا) أوصاه بالكتمان صونا لعرضه ، وقيل : ما وفي يوسف (ع) وأخبر بما كان لانّ النّاس كانوا يلومونه على ما سمعوه منه ثمّ اعرض عن يوسف (ع) وخاطب زليخا بالأمر بالاستغفار وبالتّلطّف معها في ضمن التّعيير فقال (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) ذكر جمع المذكّر تغليبا وجريا على ما هو الغالب على الألسن من الإتيان بجمع المذكّر (وَقالَ نِسْوَةٌ) أتى بالفعل بدون التّاء مع نسبته الى المؤنّث الحقيقىّ الغير المفصول نظرا الى صورة الجمع المكسّر ؛ على ان يكون جمعا للنّساء الّذى هو جمع للمرأة وقيل : النّسوة بكسر النّون وضمّها والنّساء والنّسوان والنّسون بكسرهنّ كلّها اسم جمع للمرأة ، وقيل : كلّها جمع لا واحد لها من لفظها وإسقاط التّاء للاشعار بانّهنّ كنّ موصوفات بخصال الرّجال لافتتانهن بجمال يوسف (ع) حين مشاهدتهنّ ايّاه ، وقيل : كنّ أربعا أو خمسا أو اربع عشرة وقيل : صارت القضيّة منتشرة بين نساء مصر حتّى انّ أكثر النّساء كنّ يتحدّثن بها (فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) تعييرا لها بافتتانها بعبد مملوك لها وكأنّهنّ كنّ مفتتنات به وكنّ يردن بذلك ان يخرجه العزيز من داره لعلّهنّ يرينه بسبب ذلك ولذلك سمّاه مكرا فيما يأتى (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أحاط بها من الشّغاف بمعنى الغلاف يعنى اعميها واصمّها بحيث لا تبصر معايب المراودة ولا تسمعها ممّن يعيبها لانّها كانت كلّما تسمع الملامة يزداد عشقها ويشتدّ التهاب شوقها كما قيل :

نسازد عشق را كنج سلامت

خوشا رسوائى كوى ملامت

ملامت شحنه بازار عشق است

ملامت صيقل زنگار عشق است

أو وصل الى باطنها بحيث ملأ جميع أركانها من شغاف القلب بمعنى باطنها أو وصل من باطن قلبها الى ظاهره فأحاط به من شغاف القلب بمعنى غشائه المحيط به.


سورة يوسف

بيان مراتب القلب

اعلم ، انّ أهل الله المكاشفين قالوا : انّ القلب تارة يطلق على معنى يشمل اللّحمة المودعة في أيسر الصّدر وتارة على مراتب الرّوح المتعلّق به وبهذا المعنى يقال : للقلب أطوار سبعة اوّلها الصّدر وهو محلّ نور الإسلام وظلمة الكفر كما في الكتاب الالهىّ ، وثانيها القلب وهو محلّ الايمان (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، وثالثها الشّغاف وهو محلّ المحبّة الانسانيّة المتعلّقة بالخلق قد شغفها حبّا ، ورابعها الفؤاد وهو محلّ المشاهدة للأنوار الغيبيّة ما كذب الفؤاد ما رأى وخامسها حبّة القلب وهي محلّ المحبّة الالهيّة ، وسادسها سويداء القلب وهي محلّ المكاشفات والعلوم الدّينيّة ، وسابعها مهجة القلب وهي محلّ تجلّى الله بأسمائه وصفاته.

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لانّها كانت قد خرجت من جادّة العقل وسهّلت على نفسها الشّين والعار واختارت عشق مملوك لها لا يلتفت إليها (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) قد مضى وجه اطلاق المكر على ذمّهنّ (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) للضّيافة وهيّأت مجلسا لائقا بشأن الملوك وسألت يوسف (ع) ان يخرج عليهنّ إذا سألت الخروج (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) احدّ ما يكون بعد الفراغ من الغذاء واعطت كلّ واحدة منهنّ اترجّا (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) بعد ما زيّنته بالالبسة الفاخرة وأنواع ما يتزيّن به (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) بحيث لم يبق لهنّ شعور بانفسهنّ ومحين في جماله ، وقيل : اكبرن بمعنى حضن فانّ الإكبار ورد في اللّغة بهذا المعنى لانّ الحيض علامة دخول المرأة في الكبر كالاحتلام للمرء يعنى من غلبة الوله أو من غلبة الشّبق حضن (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) جرحنها جرحا كثيرا (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) كلمة تعجّب وحاش حرف نزّل منزلة المصدر اى تنزيها لله وعلى هذا فاللّام للتّبيين مثل لام سقيا لك ، أو للقسم سواء جعل حاش كلمة برأسه أو كان أصله حاشا خفّف ألفه الاخيرة ، وقيل : أصله حاشا فعلا خفّف بحذف الالف من الحشى بمعنى النّاحية والفاعل ضمير يوسف (ع) واللّام للتّعليل والمعنى تنحّى يوسف عن التّلوّث لله أو لتبيين المفعول والمعنى نزّه يوسف الله والفعل لازم والفاعل هو الله واللّام لتبيين الفاعل ، أو اللّام للقسم سواء جعل الفعل لازما أو متعدّيا وفاعل الفعل ضمير يوسف (ع) ، وقرئ حاشا الله فعلا لازما والله فاعله وحاشا لله بتنوين حاش حرفا منزّلا منزلة المصدر أو منزلة أسماء الأصوات ، أو بجعله اسم صوت ولام لله حينئذ تكون للتّبيين أو للقسم (ما هذا بَشَراً) جرين على عادة العرف من نفى البشريّة عمّن يبالغون في كماله يعنى انّه فوق البشريّة في جماله ولم يردن نفى البشريّة حقيقة ، أو أردن ذلك حقيقة (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) هذا أيضا على عادة العرف من إثبات الملكيّة لمن يبالغون في كماله (قالَتْ) اعتذارا عن افتتانها به ودفعا لملامتهنّ أو تفاخرا بعشقه أو جوابا عن سؤالهنّ لانّهنّ بعد مشاهدة جماله وقطع ايديهنّ قلن : يا زليخا من هذا الّذى أريتناه؟ ـ قالت في جوابهنّ (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) يعنى انّ الملامة ليست في موقعها لانّ جماله اقتضى الافتتان به ولا يمكن الصّبر عنه (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ) بعد ما رأى انّ مدافعتهنّ أصعب شيء له (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) واتنزّل من مقام العلم والعقل (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) السّاقطين في مقام الجهل أشرك النّسوة مع زليخا في استدعائه الخلاص


منها لانّهنّ كنّ يرغّبنه على اجابة زليخا ويخوّفنه منها ويدعونه خفية الى انفسهنّ ولمّا كان المراد من إظهار احبّيّة السّجن والصّبا إليهنّ لو لم يصرف كيدهنّ دعاء الخلاص منهنّ قال تعالى (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) بنجاته من ايديهنّ بإرادتهنّ السّجن له (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء كلّ داع أو لكلّ صوت ومنه دعاء الدّاعين (الْعَلِيمُ) بما يصلح كلّ أحد (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) لمّا رأت امرأة العزيز انّها افتضحت بين النّاس ولم تصل الى وصال يوسف (ع) شاورت خواصّها فدبّرن ان يرسلوه الى السّجن حتّى ينتشر في النّاس انّ الإثم كان منه ، ولعلّه يرضى بمواصلتها بعد ما ذاق مرارة السّجن فسألت زليخا من العزيز ان يرسله الى السّجن فشاور خواصّه فأشاروا اليه بذلك فاستقرّ رأى الجميع على سجنه ولذلك قال تعالى : بدا لهم اى للمرأة وخواصّها وللعزيز وخواصّه والمراد بالآيات آيات صدقه وطهارة ذيله من تنطّق الصّبىّ وقد القميص من الدّبر واستباقهما الباب حتّى سمع العزيز مجاذبتها ايّاه على الباب وقطع النّسوة ايديهنّ (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) مدّة قليلة ليسحب النّاس انّه كان الآثم (وَدَخَلَ) ادخل (مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) كانا عبدين للملك أحدهما كان خبّازه والآخر صاحب شرابه واستعمال الفتى والفتاة في العبيد والإماء غالب في عرفهم وقيل : انّه لمّا ادخل السّجن استدعى من السّجّان ان ينزله تحت شجرة يابسة كانت في وسط السّجن فآواه هناك فتوضّأ (ع) تحتها وصلّى فأصبحت الشّجرة مخضّرة ، وكان ينصح أهل السّجن ويسلّيهم ويعظهم ويتعاهدهم كلّ صباح ومساء فعرفوه بالصّلاح واحبّوه وكان يبثّ كلّ شكواه اليه ورأى في المنام صاحباه ما قصّ الله تعالى فأتيا (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) اى عصيرا أو عنبا ، واطلاق الخمر للاشارة الى انّه يعصره للخمر أو المراد انّى أعصر الخمر عن درديّها واصفّيها (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) جفنة فيها خبز (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) ورد عن الصّادق (ع) انّه لمّا امر الملك بحبس يوسف (ع) في السّجن ألهمه الله تعالى علم تأويل الرّؤيا فكان يعبّر لأهل السّجن رؤياهم وانّ فتيين ادخلا معه السّجن يوم حبسه فباتا فأصبحا فقالا : انّا رأينا رؤيا فعبّرها لنا فقال : وما رأيتما؟ فقصّا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من صاحبي السّجن أو ممّن يحسن الى جلسائه ومعاشريه لانّه كان يقوم على المريض ويلتمس للمحتاج ويوسّع في المجلس على جلسائه أو ممّن يحسن تعبير الرّؤيا لانّه كان يعبّر لأهل السّجن ويوافق تعبيره الواقع (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) وكان وقت إتيان الطّعام لأهل السّجان (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) لمّا كان المستثنى مفرّغا وحالا ممّا قبله والحال تقتضي الاقتران بالعامل زمانا وكان مقصوده انّه يعبّره قبل الإتيان قيّده بقوله (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) وأخرّ التّعبير لترغيبهم في التّوحيد وتنفيرهم عن الإشراك بعد ما رأى وثوقهما به وظنّ تأثّرهما بوعظه كما هو شأن كل ناصح إذا رأى التّأثّر بنصحه ولم يكن التّأخير لتأمّله في التّعبير والّا لم يسجّل الاخبار به (ذلِكُما) العلم بتعبير الرّؤيا (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) لا ممّا تعلّمته بنفسي من بشر مثلي كعلوم القافة والمشعبذة وغير ذلك ولا ممّا تعلّمته من الشّياطين والجنّ كعلوم الكهنة والسّحرة بل علّمنى ربّى بالوحي والإلهام من غير كسب منّى علوما كثيرة هذا أحدها ثمّ علّل تعليم الرّبّ بترك ملّتهم واتّباع ملّة الأنبياء (ع) تنفيرا وترغيبا لهما بقوله (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) عرّض بهما وورّى عن ملّتهما


وكفرهما ليكون اشدّ تأثيرا وأقرب قبولا وأوقع في نفوسهما (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أضاف الملّة الى آبائه اشارة الى علوّ نسبته بانتسابه الى من كان ذا ملّة وصاحب شريعة وصرّح بأسمائهم لكونهم مشهورين بعلوّ الشّأن وشرافة الرّتبة ومقبولين عند الكلّ خصوصا إبراهيم (ع) لذلك ، وبعد ما عرّفهم نسبه وانّه (ع) من أهل بيت النّبوّة والشّرف اثبت لهم مذهبه وانّه التّوحيد وعرّض بذمّ مذهبهما وانّه خلاف مذهب الأنبياء (ع) والاشراف فقال (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) شيئا يسيرا من أصناف الإشراك كالاشراك في الوجوب كاشراك أكثر الثّنويّة القائلة بانّ للعالم مبدئين قديمين واجبين النّور والظّلمة أو يزدان واهريمن ، وكاشراك الزّنادقة من الدّهريّة والطّبيعيّة القائلة بانّ الدّهر أو الطّبع واجب ومبدء فانّ هذا القول اشراك بحسب نفس الأمر ، وكالاشراك في الآلهة كاشراك بعض الثّنويّة القائلة بوحدة الواجب تعالى وألهته المبدئين ، وكاشراك الصّابئة القائلة بالهة الكواكب وتربيتها لعامل العناصر ومخلوقيّتها للحقّ الاوّل تعالى على كثرة مذاهبهم ، وكاشراك أكثر من قال بسلطنة الملائكة أو الجنّة على اختلاف طرقهم ، وكالاشراك في العبادة كاشراك الوثنيّة وعابدى العناصر ومواليدها من الأحجار والأشجار والحيوان ، وكالاشراك في الطّاعة كاشراك من أطاع السّلاطين والحكّام والأغنياء والشّياطين والأهواء ومنتحلي العلم والامامة والفتيا من غير اذن واجازة من الله ولا ممّن اجازه الله كالرّهبان والأحبار ومترأّسي الملّة والطّريق من كلّ ملّة وطريق ، وكالاشراك في النّبوّة كاشراك من بايع من ليس نبيّا ولا خليفة له بيعة عامّة نبويّة ، وكالاشراك في الولاية كاشراك من بايع من ليس بولىّ بيعة خاصّة ولوية ، ولمّا كان هذا الإشراك مستلزما لما سبق من أنواع الإشراك وبتوحيد الولاية يحصل جملة أنواع التّوحيد كما لا يخفى على العارف بالولاية ، وانّها لا تحصل الّا بما قرّر من الائمّة (ع) فسّر الإشراك في أكثر الآيات بالاشراك في الولاية في أخبارنا المعصوميّة ، وكالاشراك في الوجود قالا أو حالا أو شهودا وقلّما ينفكّ الإنسان عن هذا الإشراك والى هذا الإشراك أشار تعالى بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فأشار (ع) بقوله من شيء الى نفى جملة أنواع الإشراك سواء جعل من شيء مفعولا مطلقا كما مضى أو مفعولا به وهو تعريض بهما وبقومهما لانّهم أشركوا أكثر أنواع الإشراك ، ولمّا لم يمكن الخروج من جملة أنواع الشّرك الّا بالفناء التّامّ الّذى هو الفناء عن الفناء وكان هذا الفناء بحيث ان كان بعده بقاء لم يكن البقاء الّا بالنّبوّة والرّسالة والخلافة وكان الكلّ من شعب فضله تعالى ، كما انّ الولاية الّتى هي أصل تلك رحمته وكان النّبوّة وتاليتاها كما انّها فضل على الموصوف بها فضلا على من كان الموصوف فيهم ومبعوثا عليهم قال (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لانّهم لا يعرفون قدر النّبوّة ولا يقومون بواجب حقّها بل يعرضون عنها ويجحدونها (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) الاضافة لأدنى ملابسة سواء كان المراد صحابة يوسف (ع) في السّجن أو صحابة نفس السّجن (أَأَرْبابٌ) متكثّرون والتّعبير بالأرباب تعبير بما اعتقدوه ليكون ادخل في النّصف (مُتَفَرِّقُونَ) غير قاهرين بعضهم لبعض وجمع العقلاء أيضا لموافقة اعتقادهم (خَيْرٌ) افعل التّفضيل للمداراة والنّصف أيضا (أَمِ اللهُ) لم يصرّح بربوبيّته لتسليم الخصم أو ادّعاء تسليمه وانّه ممّا لا ينكر (الْواحِدُ) مقابل المتكثّرين (الْقَهَّارُ) مقابل المتفرّقين (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً) قد مضى انّ ما سوى الله من الملئكة بأصنافهم والطّبائع ومواليدها والاناسىّ وصنائعهم كلّها أسماء لله تعالى وانّ الاسم لا حكم له ولا نظر اليه وانّ النّظر


الى الاسم والحكم عليه لا يتصوّر الا إذا جعل مسمّى مستقلا وثانيا للمسمّى وانّه شرك بالله ، وانّ النّاقصين لمّا لم يمكن خروجهم من حدّ الإشراك في الوجود اذن الله لبعض الأسماء ان يجعلوها مسمّين منظورا إليهم كالأنبياء وأوصيائهم (ع) وانزل الله لهم سلطانا على جواز جعلهم مسمّين من دلائل صدق دعواهم ولذا قال : ما تعبدون من دونه الّا أسماء لا مسمّين (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) على مقتضى بشريّتكم النّاقصة وقد مضى في سورة الأعراف في نظير الآية وفي سورة البقرة في بيان قوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) وفي بيان (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من سورة الفاتحة تحقيق تامّ للاسم وكيفيّة اسميّته ومسمّويّته (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لفظة الباء تحتمل السّببيّة والمصاحبة والظّرفيّة ، والمراد بالسّلطان امّا الحجّة من المعجزات الدّالّة على جواز طاعتها وعبادتها أو السّلطنة والتّصرّف في الأشياء وكلتاهما كانتا للأنبياء وأوصيائهم (ع) فانّهم وان كانوا أسماء لكن انزل الله معهم حجّة دالّة على جعلهم مسمّين ومنظورا إليهم وانزل معهم سلطنة وتصرّفا مصحّحة لطاعتهم وربوبيّتهم كما لا يخفى (إِنِ الْحُكْمُ) في العالم أو في حقّ العباد (إِلَّا لِلَّهِ) فلا حكم ولا سلطنة في شيء لاربابكم (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا) ان مصدريّة أو تفسيريّة والفعل نهى أو نفى (إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ) التّوحيد من توحيد الله في الوجود المستفاد من حصر المعبودات من دونه مع انّها أشرف الموجودات في نظرهم في الاسميّة والاسم لا استقلال له في الوجود كالمعنى الحرفىّ الغير المستقلّ في لحاظ الّذهن وتوحيده في الآلهة والسّلطنة المستفاد من قوله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وتوحيده في استحقاق العبادة المستفاد من قوله (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، وقد ذكر التّوحيدات الثّلاثة مترتّبة بحسب ترتّبها في نفس الأمر فانّ توحيد الوجود يستعقب توحيد الآلهة وهو يستعقب توحيد العبادة (الدِّينُ الْقَيِّمُ) الّذى لا عوج فيه وكلّ ما كان غيره فهو معوجّ لا ينبغي ان يتّبع فانّه مفهوم الحصر المستفاد من تعريف المسند (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استدراك لما يتوهّم من انّه لا وجه للاشراك بعد الوضوح التّوحيد وبطلان الشّرك هذا الوضوح فما بال المشركين يشركون؟! ولعلّه كان لهم دليل وحجة فاستدرك وقال : لا حجّة لهم ولكنّهم ليس لهم علم وانّهم ساقطون في دار الجهل كالبهائم الّتى لا ستشعر بالبرهان وان كان أوضح ما يكون ، والتّقييد بالأكثر لانّ بعضهم يتفطّنون بالحجّة ويتّبعونها ويختارون التّوحيد وبعضهم يتفطّنون بها ويختارون الدّنيا ويعاندون الحقّ عن علم ، ولقد أجاد (ع) في الدّعوة بالموعظة الحسنة اوّلا والحكمة اليقينيّة البرهانيّة ثانيا ، فانّه لمّا رأى وثوقهما به واقرارهما بحسن سريرته وعلمهما بكونه عالما بتعبير الرّؤيا ادّعى ذلك العلم اوّلا بقوله (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) وثانيا بقوله (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) وأسند ذلك الى تعليم الله رفعا لوصم الكهانة والتّعلّم من البشر والجنّة والشّياطين ، ثمّ علّل ذلك العلم الّذى رأى اقرارهما به بترك ملّتهما تنفيرا لهما عنها ثمّ ورّى عنهما بذكر قوم منكر موصوف بعدم الايمان بالله تعريضا بهما ليكون ابعد عن الشّغب وأقرب الى القبول وباتّباع ملّة المعروفين بالصّلاح والسّداد مع انتسابه الصّورىّ إليهم وبنفي الإشراك عنهم تعريضا بها وبتسميته ذلك فضلا من الله عليه وعلى النّاس ، وصرّح بعدم معرفة النّاس لقدرتك النّعمة وعدم شكرهم لها تعريضا بهما ، ثمّ لمّا رأى تأثّرهما بوعظه أعرض عن الخطابة وأقبل على الحكمة والبرهان بقولهء أرباب متفرّقون ووصف الأرباب بالكثرة والتّفرّق الدّالّ على عدم انقياد بعضهم لبعض الّذى هو سبب النّزاع والفساد الواضح اشارة الى علّة انكار ربوبيّتهم ثمّ وصف الله بالوحدة اشارة الى جواز ربوبيّته ثمّ بالقهر اشارة الى وجوب طاعته فأبطل ربوبيّة الأصنام وأثبت لزوم طاعة الله بالبرهان ثمّ اقبل على تزييف معبوداتهم وعدم استقلالها في الوجود


فضلا عن الرّبوبيّة واستحقاق العبادة وعلى التّصريح بتوحيد الله في الآلهة والسّلطنة وتوحيده في العبادة بعد التّلويح الى التّوحيد في الوجود ، قيل : آمن بالله تعالى بدعوته المذكورة الصّاحبان السّائلان منه تأويل رؤياهما وجمع آخر من المسجونين والسّجّانين (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) الّذى يرى أنّه يعصر خمرا (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) وهو الّذى كان قبل إدخاله السّجن صاحب شرابه (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) وهو الّذى كان قبل إدخاله السّجن صاحب غذائه ، قيل : انّهما ما رأيا شيئا وامتحناه بذلك ، وقيل : انّهما رأيا رؤياهما ، وقيل : انّ صاحب الشّراب رأى وكان صادقا ، وصاحب الغذاء ما رأى شيئا وكذب في رؤياه وقال بعد ذلك : ما رأيت شيئا وانّما أردت امتحانك فقال في جوابه (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) رأيتما أو ما رأيتما (وَقالَ) يوسف (ع) (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) نقل انّه لمّا قال ذلك نزل جبرئيل (ع) وقال : ربّك يقرئك السّلام ويقول : من حبّبك الى أبيك؟ ـ فقال : ربّى ، فقال : من أنجاك من الجبّ؟ ـ قال : ربّى ، فقال : من حبّبك الى العزيز حتّى أكرم مثواك؟ ـ قال : ربّى ، فقال : من انجاك عن كيد النّساء وعصمك عن الفحشاء؟ ـ قال : ربّى ، فقال : ربّك يقول : اما استحييت منّى التجأت الى غيري؟ ـ وقد كان ما بقي من حبسك الّا ثلاثة ايّام وبجرم الالتجاء الى غيري تمكث فيه سبعة أعوام وقد كان في السّجن خمسة أعوام قبل ذلك فصار مدّة مكثه فيه اثنى عشر عاما (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) اى انسى الشّيطان صاحب الشّراب ذكر يوسف (ع) عند الملك أو انسى الشّيطان يوسف (ع) تذكّر الله (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) بعد ما كان قد لبث خمس سنين ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : رحم الله أخي يوسف (ع) لو لم يقل اذكرني عند ربّك لما لبث في السّجن سبعا بعد الخمس ، والبضع ما بين الثّلاثة الى التّسعة وقيل فيه شيء آخر وهو من البضع بمعنى القطع ، قيل انّه وقع ليوسف (ع) ثلاث عثرات أوليها الهمّ الّذى وقع منه بالنّسبة الى زليخا فحبس بسببه في السّجن وثانيتها الالتجاء الى غيره فلبث بسببه في السّجن بضع سنين وثالثتها ما قال لإخوته انّكم لسارقون فأجابوه بكذب مثله ، فقالوا : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) من قبل ولمّا انقضى مدّة رياضته (ع) وحبسه وحان أوان سلطنته ووسعته ، رأى الملك انّه على سريره فخرج من النّيل سبع بقرات سمان أحسن ما يكون وجاءت الى جنب سريره ووقفت ثمّ خرج منه سبع بقرات أخر عجاف فجاءت الى البقرات السّمان فأكلتها ، ورأى انّه نبت في جنب سريره سبع سنبلات خضر ثمّ سبع سنبلات يابسات فالتّفت بالسّنبلات الخضر فاصفرّت ويبست ، فتنبّه الملك وأحضر الكهنة والمفسّرين والمنجّمين وقصّ الرّؤيا عليهم كما حكى الله (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى) التّعبير بالمضارع لاحضار صورة الرّؤيا أو لانّه كان يرى هذه الرّؤيا مكرّرة أو لانّه رأى أجزاء الرّؤيا متدرّجة فادّاه بالمضارع تصويرا للحال الماضية حاضرة مشعرا بتكرّرها أو تدرّج رؤيتها (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) اكتفى بذكر أكل العجاف عن ذكر التواء اليابسات (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) وكأنّه كان في رؤياه أشياء أخر دقائق لا يمكن للمعبّر استنباط تعبيرها والّا فتعبير تلك غير خاف على المعبّر ولخفاء دقائقها (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) اى تلك الرّؤيا أضغاث أحلام جمع الضّغث وهو الحزم من النّباتات المختلفة أستعير للصّور المختلفة المختلطة من تخيّلات المتخيّلة ، فانّ


من الرّؤيا ما يشاهده النّفس في عالمي المثال من صور الطّبيعيّات الموجودة أو الآتية أو الماضية لكن قلّما يتّفق ان تشاهد الماضية لتوجّه النّفس الى الحال والآتي وادبارها عن الماضي ، فما تشاهد في المثال العلوىّ فهو امّا بشارة من الله أو تحذير وإنذار أو تنبيه واخبار ، وما تشاهد في المثال السّفلىّ فهو امّا غرور من الشّيطان على المعاصي أو تحذير منه عن الطّاعات أو اخبار بالآتيات غرورا منه أو استدراجا من الله ومنها ما تشاهده بإراءة المتخيّلة وتصويرها ممّا لم يكن واقعا وهو أضغاث الأحلام ، والأحلام جمع الحلم وهو ما يراه النّائم في المنام مطلقا أو ما يراه في المنام من غير حقيقة له (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) كأنّهم اعتذروا عن عدم علمهم بكون الرّؤيا من أضغاث الأحلام الّتى لا تعبير لها وبينما ذاك السّؤال تذكّر السّاقى يوسف (ع) ومهارته في تعبير الرّؤيا فذكر انّى اعلم عالما بتعبير الرّؤيا كما قال تعالى (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) من الزّمان سبع سنين (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) الى من أريد فاذنوا له فجاء الى يوسف (ع) وقال (يُوسُفُ) يا يوسف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) منصوب على الاختصاص أو منادى ثان والمقصود ذكره بوصف مدح ترغيبا في الاهتمام بالتّعبير (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعنى بعلم تأويل ذلك لاستبعاد ترجّى الرّجوع المطلق (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تأويله أو يعلمون قدرك ومنزلتك فيخرجونك من السّجن قيل : انّه نسب الرّؤيا الى نفسه فقال يوسف (ع) : ما أنت رأيت ذلك ولكنّ الملك رأى وعبّر الرّؤيا ثمّ بيّن لهم تدبير ذلك كما حكى الله بقوله (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) قرئ بسكون الهمزة وفتحها وهما مصدرا دأب في الأمر استمرّ على عادته فيه وهو جواب السّؤال كان مذكورا لم يحك أو لسؤال مقدّر كأنّه قال : ما ندبّر لذلك؟ ـ قال : تزرعون ، ويجوز ان يكون تعبيرا للرّؤيا مع شيء زائد فانّه أفاد القحط والتّدبير والخصب قبل القحط (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) لئلّا يفسد ويتدوّد (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) في تلك السّنين تخرجونه من سنبله (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ) نسبة الاكل الى السّنين مجاز عقلىّ ومراعاة للتّطبيق بين الرّؤيا وتعبيرها (ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) لبذور الزّراعات واحتياط المجاعة قبل وصول الزّراعة (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) من الغيث أو من الغوث (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قرئ بالبناء للفاعل اى يعصرون العنب والزّيتون وكلّما يعصر لكثرتها ، وقيل : يعصرون الضّروع بمعنى يحلبون ، وقرئ تعصرون بالخطاب تغليبا للخاطب على الغيّاب ، وقرئ بالبناء للمفعول من عصره إذا أنجاه اى ينجون من القحط ، أو من أعصرت السّحابة عليهم إذا امطرهم ، وقراءة أهل البيت (ع) على ما وصل إلينا كانت هكذا بمعنى يمطرون ، فخرج الرّسول من عنده وجاء الملك بالتّعبير والتّدبير فلمّا سمع الملك ذلك ارتضاه وطلب ملاقاة يوسف (ع) (وَقالَ الْمَلِكُ) لخواصّه (ائْتُونِي بِهِ) فأرسلوا اليه لإحضاره (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وقال انّ الملك يطلبك ويستحضرك (قالَ) انّى اتّهمت عند الملك بالخيانة ومراودة النّساء وما لم اخرج من الاتّهام لم آت الملك لعدم منزلة وعرض لي عنده (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) اى العزيز أو الرّيان (فَسْئَلْهُ) ان يتجسّس ويطلب (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) فانّى اتّهمت بهنّ حتّى يعلم انّى لم أكن خائنا وسجنت ظلما ولم يذكر امرأة العزيز مع انّ الاتّهام والسّجن كانا منها تكرّما وصونا


لعرضها بخصوصه عن التّفضيح (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) تعليل لطلبه سؤال الملك عن النّسوة يعنى انّهنّ كدننى وانّى بري واكّد هذا المعنى بالاستشهاد بعلم الله فرجع الرّسول وحكى ما قاله يوسف للملك فأحضر الملك اى العزيز أو الرّيان النّسوة (قالَ ما خَطْبُكُنَ) أأنتن راودتنّ يوسف أم يوسف (ع) راودكنّ؟ أم كانت المراودة من الطّرفين؟ ـ (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) نسب المراودة إليهنّ مع انّ سؤاله يقتضي الجهل أو التّجاهل اشارة الى انّ سؤاله كان لمحض احتمال ان يكون يوسف شريكا لهنّ في المراودة لانّ مراودتهنّ كانت مشهورة بحيث لم يكن لأحد شكّ فيها (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) قد مضى بيان تلك الكلمة (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) بعد اعتراف سائر النّساء ببراءته وخروجها عن شدّة حيائها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) ظهر غاية الظّهور (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في البراءة من الخيانة (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) ربّك امّا مرتبط بسابقه وقوله قال ما خطبكنّ الى الآخر معترض بينهما في الحكاية ، أو قال ذلك يوسف (ع) بعد ما رجع الرّسول اليه وسأل عنه لم تثبّتّ في الخروج وطلبت مسئلة الملك عن حال النّساء؟ ـ فأجاب وقال ذلك التّثبّت ليعلم العزيز وهو دليل على انّ المراد بالرّبّ هو العزيز لا الملك (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) متلبّسا بالغيب أو واقعا في الغيب منّى ، حال من الفاعل أو المفعول (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) يعنى ليعلم انّ امرأته كادتنى وانّ كيدها ما نفذ وما اثّر فيّ وهو مبالغة في إظهار طهارته ولمّا بالغ في إظهار طهارته أراد أن يدفع وصمة الاعجاب والتّزكية عن نفسه وينسب ذلك الى الله فقال :

الجزء الثّالث عشر

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) فانّ شأنها التّلوّث بالواث الّذنوب لا التّنزّه منها (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) الّا وقت رحمة ربّى أو الّا الّتى رحمها ربّى يعنى انّ التّنزّه من محض الرّحمة لا من فعل النّفس وقيل قوله تعالى ذلك ليعلم (الى آخرها) من تتمّة كلام زليخا اى ذلك الاعتراف بخيانتى وطهارته ليعلم يوسف (ع) انّى لم أخنه بالغيب بنسبة الكذب اليه وانّ الله لا يهدى كيد الخائنين بابقائه مستورا من غير ان يظهره وما ابرّء نفسي عن نسبة الخيانة والكذب اليه حيث خنته بنسبتهما اليه انّ النّفس لامّارة بالسّوء فبأمرها اسأت الّا ما رحم ربّى (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) لأمر النّفس بالسّوء (رَحِيمٌ) بعصمتي عن اتّباعها ولمّا ظهر لهم طهارته وعفّته كمال الظّهور اشتدّ طلبهم له (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) بجعله من خواصّى من غير حكومة لغيري عليه فذهب الرّسول وأحضره (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) ووجده صاحب رشد وكمال وكلام وقد علم عفّته وأمانته سابقا (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو مكانة ومنزلة لرشدك وعقلك (أَمِينٌ) لظهور عفّتك وأمانتك (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) اى خزائن النّقد والجنس في ارض مصر (إِنِّي حَفِيظٌ) لما تحت يدي عن الخيانة لا أخون بنفسي ولا يمكن الخيانة لغيري لأمانتي وحسن تدبيري في الحفظ (عَلِيمٌ)


بكيفيّة التّصرّف والحفظ عن الفساد والتّلف. نقل عن النّبىّ (ص): رحم الله أخي يوسف (ع) لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض لولّاه من ساعته ولكنّه أخّر ذلك سنة ، وعن الصّادق (ع) انّه قال يجوز ان يزكّى الرّجل نفسه إذا اضطر اليه اما سمعت قول يوسف (ع): (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، أقول : كأنّ غرضه من ذلك تسلّطه على ما يحتاج النّاس اليه ليتوجّهوا اليه فيسمعوا بذلك كلامه ويبلّغ رسالته وآمن بعد ذلك الملك على يده ووكل الأمر اليه ودبّر في السّبع السّنين المخصبة في تحصيل الحبوب وحفظها وشرع في السّنين المجدبة ببيعها حتّى حصّل جميع اموال مصر ومواشيها وضياعها وعبيدها وإمائها ورقاب أهلها له وصار مالكا للكلّ ، وفي بعض الاخبار انّه بعد الخصب قال للملك : ايّها الملك ما ترى فيما خوّلنى ربّى من ملك مصر وأهلها اشر علينا برأيك فانّى لم أصلحهم لافسدهم ولم انجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم ولكنّ الله نجّاهم على يدي قال له الملك : الرّأى رأيك قال يوسف (ع) انّى اشهد الله وأشهدك انّى قد أعتقت أهل مصر كلّهم ، ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت عليك ايّها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الّا بسيرتي ولا تحكم الّا بحكمي ، قال له الملك : انّ ذلك لشرفى وفخرى ان لا أسير الّا بسيرتك ولا احكم الّا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ولقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وانا اشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له وانّك رسوله فأقم على ما ولّيتك فانّك لدنيا مكين أمين (وَكَذلِكَ) عطف على محذوف اى فأنجينا يوسف (ع) من السّجن ومثل ذلك الإنجاء (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أو مثل ذلك التّمكين المتعقّب للبلايا العديدة والمتاعب الكثيرة مكّنّا ليوسف (ع) الّذى كان من أبناء انبيائنا (ع) وجعلناه نبيّا فمن أراد التّمكين في ارض العالم الكبير أو ارض العالم الصّغير فليصبر على الرّياضات والبلايا وليتسل عن الجزع في المتاعب (فِي الْأَرْضِ) ارض مصر ما جاوزها كما في الخبر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) لتسلّطه على جميعها بل كون الجميع ملكها حقيقة وان كان أودعها ملّاكها السّابقة كما سبق (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) جواب سؤال كأنّه قيل : لم كان ذلك التّمكين؟ ـ فأجاب بأنّ فعلنا لا يسأل عنه ولأنّه كان محسنا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من تمكين يوسف (ع) في الأرض (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) بعد ما وقع القحط وأصاب كنعان أيضا القحط ليمتاروا لأهلهم وذلك انّ يعقوب (ع) أرسل بنيه سوى بنيامين مع بضاعة قليلة وكانت مقلا كما قيل (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) لعدم تغيّر حالهم وتفرّس يوسف (ع) (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) غير عارفين له لتغيّر حاله عمّا عاهدوه عليه سنّا وصورة ومرتبة وهيبة ، نقل انّه كان بينه وبين أبيه ثمانية عشر يوما وكان أبوه في بادية وكان النّاس من الآفاق يخرجون الى مصر ليمتاروا به طعاما وكان يعقوب (ع) وولده نزولا في بادية فيها مقل فأخذ اخوة يوسف (ع) من ذلك المقل وحملوه الى مصر ليمتاروا به ، وكان يوسف (ع) يتولّى البيع بنفسه فلمّا دخل اخوته عليه عرفهم ولم يعرفوه كما حكى الله عزوجل (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) لمّا اعدّ لهم ما جاؤا لأجله وما يحتاجون اليه في سفرهم ، والجهاز ما يعدّ للسّفر ممّا يحتاج اليه (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وذلك انّه لمّا عرفهم جعل لهم مضيفا مخصوصا وأحسن ضيافتهم وتلطّف بهم وسائلهم عن محلّهم ونسبهم وسأل عن حال أبيهم وأولاده فأجابوه بالتّفصيل وقالوا : انّ لنا أخا من ابنيا


لا من أمّنا فأحسن إليهم ووقّر ركائبهم من غير ان ينظر الى انّ بضاعتهم لا تفي بثمنها وجعل بضاعتهم اى ثمن المقل الّذى جاؤا به بضاعة في رحالهم ، وقيل : كانت بضاعتهم نعالا وأدما ، وقال (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) اؤدّيه من غير بخس (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لما رأيتم من حسن ضيافتي لكم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) بدخول بلادي بالغ في إياس اخوته تأكيدا لهم على الإتيان به (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك الاجتهاد في أخذه من أبيه أو لفاعلون الإتيان به ، قيل : لمّا دخلوا عليه وعرفهم قال : من أنتم لعلّكم عيون؟ ـ وكان مقصوده الحيلة في ان يكون أحدهم عنده من غير معرفة بحاله قالوا : لسنا عيونا انّما نحن بنو أب واحد وهو يعقوب النّبىّ (ص) قال : كم كنتم؟ ـ قالوا : اثنى عشر ، ذهب واحد منّا الى البراري فهلك وبقينا أحد عشر ، قال : كم أنتم في بلدنا؟ ـ قالوا : عشرة ، قال : فأين الآخر؟ ـ قالوا : خلّفناه عند أبينا قال : فمن يشهد لكم؟ ـ قالوا : لا يعرفنا هاهنا من يشهد لنا ، قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وأتوني بأخيكم حتّى اصدّقكم فاقترعوا فأصاب شمعون (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) يعرفون حقّ ردّها أو يعرفون أعيانها ، فرغبوا في الرّجوع (إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) حكم بمنعه ان لم نذهب بأخينا (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) برفع المانع فانّ سبب المنع عدم ذهابنا بأخينا بنيامين ، وقرئ يكتل اى بنيامين لنفسه أو لنا أيضا اى يصير سببا للاكتيال أو يكتل الكيّال لنا برفع المانع ولمّا كانوا مسبوقين بما فعلوا بيوسف (ع) وخدعوا أباهم فيه تبادروا الى قولهم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) تعييرا لهم على قولهم بما قالوا في حقّ يوسف (ع) ولم يفوا به (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (ع) (مِنْ قَبْلُ) ثمّ انصرف عنهم من الاعتماد على قولهم والتجأ الى الحافظ الحقيقىّ فقال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فعلى حفظه ورحمته أعتمد لا على قولكم في حقّ يوسف (ع) وأخيه ، نسب الى الخبر انّه تعالى قال : فبعزّتى لاردّنهما إليك بعد ما توكّلت علىّ (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) اوعية متاعهم (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) ثمن مقلهم أو نعالهم واديمهم (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا) استبشارا (يا أَبانا ما نَبْغِي) يعنى لا مزيد على ذلك الإحسان حيث أحسن ضيافتنا ومثوانا وجعل بضاعتنا في رحالنا (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا) اى نذهب بأخينا ونمير أهلنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) أو نبغى من البغي اى لا نبغى ونمير أهلنا (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) بمصاحبة أخينا (ذلِكَ) الكيل الّذى كيل لنا (يْلٌ يَسِيرٌ) أو ذلك الكيل المزيد على اكيالنا كيل يسير لا يضايقنا الملك فيه أو هو من كلام يعقوب (ع) جوابا لبنيه وردّا عليهم يعنى ذلك الكيل المزيد كيل يسير لا ينبغي للعاقل ان يجعل ابنه في معرض المخاوف لمثل ذلك (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ) بلا وثيقة كما أرسلت يوسف (ع) (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) عهدا وثيقا من الله أثق به عليكم في حفظه (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب قسم محذوف اى احلفوا ، أو جواب حتّى تؤتون موثقا من الله فانّه في معنى القسم (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) اى الّا ان تمنعوا وتغلبوا بحيث لا تقدرون أو تهلكوا جميعا فلا يبقى منكم أحد (فَلَمَّا آتَوْهُ


مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) استشهد بوكالة الله تأكيدا للوثيقة أو توكّلا عليه لا على الوثيقة يعنى انّى توكّلت عليه وفعلت ما كان علىّ من التّوسّل بالأسباب أو تيمّنا بذكره لإمضاء الوثيقة (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) لمّا علم انّ الملك وأعوانه عرفوهم وعلموا انّهم بنو أب واحد خاف عليهم العين فوصّاهم بحسب البشريّة بالتّدبير له في العين (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) ولمّا لم يعتمد على تدبيره قال (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وأمري بهذا التّدبير كان لمحض التّوسّل بالأسباب الّذى امر الله عباده به في التّوكّل (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من الأبواب المتفرّقة (ما كانَ) أبوهم أو تدبيره أو دخولهم بحسب تدبيره (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ) من تقدير الله (مِنْ شَيْءٍ) شيئا من الإغناء أو شيئا من التّقدير فنسبوا الى السّرقة وأخذ بنيامين (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) وهي التّوسّل بالتّدبير مع التّوكّل على الله مع العلم بعدم إغناء التّدبير عن التّقدير (قَضاها) امضيها والاستثناء منقطع (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) بانّ التّدبير لا يغني من التّقدير (لِما عَلَّمْناهُ) لأجل تعليمنا ايّاه أو بالّذى علّمناه لا بكلّ الأشياء والآية اشارة الى سعته وكماله (ع) في مرتبة البشريّة والعمل بمقتضاها من حيث انّها تقتضي التّوسّل بالأسباب والمرتبة العقليّة من حيث انّها تقتضي الانقطاع عن الأسباب والعلم بالاستقلال المسبّب في كلّ ذي سبب وانّ الأسباب حجّب لظهور اثر المسبّب (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) انّ الحذر لا يغني من القدر أو لا يتّصفون بمرتبة العلم استدراك لما يتوهّم من انّه ان كان ذو علم ينبغي ان لا يظهر مقتضى البشريّة الّذى يوهم الجهل يعنى انّه ، وان كان ذو علم ولكنّ أكثر النّاس ليس لهم علم فابرز مقتضى البشريّة لموافقتهم ومنهم أبناؤه المخاطبون له ، أو المعنى أنّه لذو علم ومقتضى علمه التّوسّل بالأسباب في التّوكّل ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون انّ مقتضى العلم التّوسّل بالأسباب ما لم يخرجوا من عالم الأسباب (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) وكيفيّة دخولهم عليه وايوائه ايّاه مذكورة بتفصيلها في المفصّلات (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) لا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الاساءة الىّ وإليكم فانّها صارت سببا لرفعتنا وموجبا لسلطنتنا ويجمع الله بيننا وبين أبينا وإخوتنا في أحسن حال (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ) المشربة الّتى بها تكال الاطعمة (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بنيامين (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) من قبل السّلطان (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) اسم للإبل الّتى تنقل السّيّارة متاعهم عليها الى مقاصدهم ثمّ غلّب على السّيارة الّتى فيها تلك العير (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) تورية عن سرقتهم يوسف (ع) وبيعه بعنوان الرّقيّة أو عن سرقتهم ذرّيّة عقولهم واستخدامها بل استرقاقها لنفوسهم حتّى لا يكون كذبا ، وقيل بعد ما فقد الصّواع نسب السّرقة إليهم من دون اذن يوسف (ع) ، وفي الاخبار انّه كذب في مقام الإصلاح وما سرقوا وما كذب لانّ الكذب في مقام الإصلاح ليس بكذب وذلك لانّ يوسف (ع) أراد إصلاحهم بأخذ أخيه وخلاصهم من نفوسهم الامّارة بتضرّعهم الى الله والتجائهم الى يوسف (ع) وتذلّلهم عند أبيهم (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) حال بتقدير قد ، أو عطف قبل تمام المعطوف عليه ، أو اعتراض ووجهه التّنبيه على كمال اطمينانهم وتجرّيهم على المجادلة لقطعهم بأنّهم غير فاعلين (ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ


وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) قيل : كان ذهبا أو فضّة مكلّلا بالجواهر الثّمينة ولذلك وعدوا من جاء به حمل بعير من الغلّة مع انّها كانت غالية ولغلائها جعلوا مكيالها غاليا (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قالُوا تَاللهِ) قسم لتأكيد الدّعوى (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) تأكيد آخر استشهدوا بعلمهم على صدق الدّعوى لانّهم كانوا إذا دخلوا بلاد مصر جعلوا على أفواه رواحلهم اوكية لئلّا تدخل زراعاتهم كما قيل ، وقيل : ردّوا البضاعة المردودة إليهم الى الملك ظنّا منهم انّهم جعلوها فيها سهوا واشتهر بذلك أمانتهم وصلاحهم (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ قالُوا فَما جَزاؤُهُ) اى السّارق أو السّرق (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) هو جزاؤه تأكيد للقضيّة الاولى ولذا أتى بالفاء اشارة الى ابلغيّته في التّقرير ، أو من موصولة مبتدء أو شرطيّة وقوله فهو جزاءه خبره أو جزاء الشّرط ودخول الفاء على الاوّل لتضمّن المبتدء معنى الشّرط والجملة خبر جزاؤه (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يدلّ هذا القول على انّ هذا كان من شريعة يعقوب (ع) لا انّهم قالوه اطمينانا وتجريّا ولا انّه كان دين الملك كما قيل (فَبَدَأَ) المؤذّن أو يوسف (ع) لانّهم رجعوا أو ردّوا الى العزيز بعد نسبة السّرقة إليهم (بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) لئلّا يرتابوا انّه كان من فعلهم (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ) الكيد الّذى هو إخفاء الصّواع وتفويض الحكم الى اخوته حتّى يحكموا باسترقاق السّارق موافقا لشريعة أبيهم (كِدْنا لِيُوسُفَ) وما يترائى من تخلّل اداة التّشبيه بين الشّيء ونفسه مدفوع بانّ ذلك مثل ان يقال : الإنسان كزيد بتخلّل الكاف بين الكلّىّ والجزئىّ (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) في طريقته وآداب سياسته (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقوله كذلك كدنا ليوسف رفع لتوهّم الخديعة من يوسف (ع) وانّه ينافي مقام النّبوّة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الى عليم لا عليم فوقه ، قيل : أخذ عمّال يوسف (ع) بيد بنيامين واسترقّوه فرجع اخوته ضرورة اليه ، وقيل : رجعوا اوّل المشاجرة اليه (قالُوا) لشدّة حزنهم وغيظهم (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) اشارة الى منطقة إسحاق (ع) الّتى ورثتها عمّته فربطتها في حقوه لتأخذه حبّا له ، وقيل انّ : ليان ابارا حيل امّ يوسف (ع) كان يعبد الأوثان وكان له صنم من الّذهب فأخذه يوسف (ع) خفية وأعطاه أمّه ترحّما على جدّه في استخلاصه من عبادة الصّنم ، وعلى أمّه في استخلاصها من الفقر ، وقيل : انّه كان يأخذ الطّعام من خوان أبيه ويعطيه الفقراء خفية ، وقيل : انّه أخذ شاة من أغنام أبيه وأعطاها فقيرا خفية ، والاوّل هو المروىّ عن ائمّتنا (ع) والمشهور عند أهل مذهبنا (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) اى كلمة قد سرق أخ له من قبل ليعيّرهم بها ، أو اسرّ هذه الكلمة من حيث كذبها ، أو اسرّ كلمة أنتم شرّ مكانا فيكون من قبيل العود على ما تأخّر ويكون قوله قال أنتم شرّ مكانا بدلا منه ويكون المعنى اسرّ مقالة أنتم شرّ مكانا (فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) يعنى (قالَ) في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) مرتبة ومنزلة اى حالا أو نسب الشّرّ الى المكان والمحلّ مجازا للمبالغة في وصفهم بذلك يعنى ان كان نسبة السّرقة الى أخيه صحيحة فأنتم شرّ منه حيث دخلتم في امر فيه أذى أبيكم النّبىّ (ع) من الله وان لم يكن في الشّرّ معنى التّفضيل فالمعنى واضح (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) من نسبة السّرقة الى يوسف (ع) ، ولمّا تذكّروا حال أبيهم وحزنه وعهدهم المؤكّد باليمين في ردّ بنيامين انقبضوا


والتجأوا الى يوسف (ع) وعلى سبيل التّضرّع والاستكانة (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) ذكروا في مقام استرحامه أو صافا ثلاثة : ابوّته له الموجبة لحزنه بفراقه ، وشيخوخته المستلزمة للتّرحّم ، وغاية كبره في السّنّ مبالغة في الشّيخوخة أو في المنزلة المستلزمة لمراعاته (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في أخذ أحدنا عوضه أو مطلقا أو إلينا سابقا (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) استثناء مفرّغ من الموجب لكون المستثنى منه محدودا اى ان نأخذا أحدا منكم الّا من وجدنا منكم متاعنا عنده ، أو من المنفىّ باعتبار المعنى لانّ المعنى ما نأخذ الّا من وجدنا متاعنا عنده ، أو لفظة الّا بمعنى الغير وكان الأصل نأخذ وأحدا الّا من وجدنا متاعنا عنده ثمّ حذف الموصوف وأقيم الصّفة مقامه (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) في استرقاق من لا يستحقّ الاسترقاق ؛ هذا بحسب الظاهر وامّا بحسب الواقع فالمعنى انّا لظالمون في أخذ من لم يأذن الله لي أو في أخذ من لم نجد متاعنا اى السّنخيّة منّا عنده (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) بعد الالتجاء والمسئلة وعدم الاجابة (خَلَصُوا) من أصحاب العزيز وانفردوا عنهم (نَجِيًّا) للنّجوى أو متناجين والإفراد لكونه مصدرا أو وصفا شبيها بالمصدر (قالَ كَبِيرُهُمْ) في السّنّ وهو روبيل ، أو كبيرهم في الأمر والحكم وهو شمعون ، أو كبيرهم في العقل وهو يهودا كذا قيل (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) نسب الوثيقة الى الله لانّه (ع) استشهد به وقت العهد (وَمِنْ قَبْلُ) عطف على محذوف اى أخذ موثقا حين المسافرة الى مصر ومن قبل ، وعلى هذا فلفظة ما في قوله (ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) نافية والجملة مستأنفة أو حاليّة والمعنى ما فرّطتم في حقّ يوسف (ع) على سبيل التّهكّم أو ما فرّطتم في التّعدى على يوسف (ع) أو ما استفهاميّة تعجّبيّة أو ما زائدة وحينئذ فقوله من قبل مثل سابقه وفرّطتم جملة مستأنفة ، أو حاليّة أو من قبل متعلّق بفرّطتم والجملة حاليّة ، أو معطوفة على جملة الم تعلموا أو ما مصدريّة وما فرّطتم وفي يوسف معطوفان على اسم انّ وخبرها ومن قبل حال أو ما فرّطتم عطف على انّ واسمها وخبرها ومن قبل حال ، وفي يوسف متعلّق بفرّطتم ، أو من قبل خبر ما فرّطتم والجملة عطف على اسم انّ وخبرها ، أو على انّ وما بعدها أو ما موصولة واعرابها كاعراب المصدريّة (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) ارض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) باستخلاص أخي أو بالفرج لي باىّ نحو شاء (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) حكاية مجادلة اخوة يوسف (ع) معه مذكورة في المفصّلات (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) على ما شاهدنا (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) حيث رأينا استخراج الصّواع من رحله (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) حتّى نعلم باطن امره وانّه سرق أو نسب الى السّرقة من غير جرم ، وقيل : المعنى كنّا نحفظه حين حضوره عندنا عن أمثال ما نسب اليه من السّرقة وما كنّا في غيبه حافظين له لعدم إمكان الحفظ حينئذ ، وقيل : الغيب بمعنى اللّيل في لغة حمير والمعنى وما كنّا في اللّيل حافظين له عن مثل السّرقة ، وقيل : انّه جواب لسؤال يعقوب (ع) حين قال : من قال للملك جزاء السّرقة الاسترقاق؟ قالوا : نحن قلناه ، قال : فلم قلتم ذلك؟ ـ قالوا ما شهدنا الّا بما علمنا من شريعة الأنبياء (ع) وما كنّا للغيب حافظين حتّى نعلم انّ الصّواع في رحله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) بإرسال من يسئل أهلها عن تلك القضيّة أو بالمسئلة ممّن كان في العير من أهل مصر (الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تصريح


بصدقهم اللّازم من أخبارهم تأكيدا ولذلك اكّدوه بانّ واللّام واسميّة الجملة وهو عطف على انّ ابنك سرق وتوسيط قوله واسئل القرية الى الآخر لاشعار بعلّة صدق ادّعاء الصّدق ، ويحتمل ان يكون وصيّة كبيرهم الى قوله واسئل القرية ويكون واسئل القرية من كلام الرّاجعين الى يعقوب (ع) حين المخاطبة معهم ويكون المعنى فرجعوا وقالوا لا بينهم انّ ابنك سرق فكذّبهم يعقوب (ع) فقالوا واسئل القرية (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) معنى ظاهره انّ إبني ما سرق وانّكم تكذبون وخدعتمونى في إذهابه ، كما انّ معنى هذه الكلمة كان في قصّة يوسف (ع) هكذا والحال انّهم ما خدعوا في بنيامين وما كذبوا في اتّهامه بالسّرقة وما سوّلت لهم أنفسهم في حقّه امرا ، ويعقوب (ع) كان نبيّا ولم يفرّق بين القضيّتين والجواب انّ المعنى بل سوّلت لكم أنفسكم في يقينكم بنسبة السّرقة اليه والحال انّه ما سرق أو سوّلت لكم أنفسكم وزيّنت إصراركم على إذهابه بمظنّة تكثير النّفع غافلا عن تقدير الرّبّ فجعلتمونى مضطرّا في الاذن وادخلتموه في الضّرر (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ) بثلاثتهم (جَمِيعاً) فانّ الصّبر مفتاح الفرج (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بعواقب الأمور ولعلّ الابتلاء بفراقهم كان خيرا لي ولهم (الْحَكِيمُ) في فعاله يفعل ما يقتضيه حكمته وهو تسلية لنفسه وتسهيل للصّبر على البلاء (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) رغبة في الخلوة والعزلة لغاية الحزن لمّا رأى انّ إقباله على أولاده واعتماده عليهم ذهب بثلاثة منهم تنبّه انّ الاعتماد على الغير يوجب التّضرّر وتولّى عنهم ولكن لمّا كان حبّ يوسف (ع) قويّا في قلبه لم يقو على التّسلّى عنه (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) كناية عن العمى ، وقيل عن كثرة البكاء لانّ الحدقة إذا اغرورقت في الدّمع تترائى مبيّضة (فَهُوَ كَظِيمٌ) بمعنى مكظوم اى مملوّ من الغيظ على أولاده أو من الحزن على يوسف (ع) أو بمعنى كاظم مثل الكاظمين الغيظ اى ممسك غيظه أو حزنه غير مظهر الّا الخير ، والفاء للسّببيّة المحضة مشعرة بسببيّة ما بعدها لما قبلها سببيّة ما قبلها لاعتقاد بما بعدها (قالُوا) بعد ما رأوا انّه ما زال يذكر يوسف (ع) بعد طول المدّة وكثرة البلايا لانّهم كانوا قد غلب عليهم القحط وطال مدّة فراق يوسف (ع) قريبا من ثمانين سنة أو سبعين أو أربعين أو اثنتين وعشرين أو ثماني عشرة (تَاللهِ تَفْتَؤُا) بحذف لا اى لا تفتؤ (تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشفيا على الهلاك (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) بلائي من البثّ بمعنى الشّرّ (وَحُزْنِي) وما أتجرّعه من البلاء (إِلَى اللهِ) لا إليكم فدعوني وشأنى (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من قبل الله بايحائه الىّ حيوة يوسف (ع) ووصاله لي أو من رحمته وانّه لا يبتلى الّا ويأتى بعده بالفرج (ما لا تَعْلَمُونَ يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) تفحّصوا (مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) من فرجه (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) فخرجوا الى مصر في طلب إخوتهم (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) على يوسف (ع) (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) المجاعة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) رديّة غير عزيزة القيمة وكانت مقلا أو دراهم رديّة لا تنفق في ثمن الطّعام أو خلق الجوالق والحبل ورثّ المتاع أو الصّوف والسّمن اللّذين هما متاع العرب أو الصّنوبر وحبّة الخضراء أو اقطا أو النّعال والأدم (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) كما أوفيت لنا سابقا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بلا ثمن أو بأخينا بنيامين (إِنَّ اللهَ


يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) وقد كانت الشّدّة بلغت بهم الغاية مع الخجلة عمّا نسب إليهم من السّرقة ولذلك استكانوا غاية المسكنة وعرّفهم يوسف (ع) نفسه ورقّ لهم وفرّج عنهم و (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) ولمّا رأى خجلتهم من معرفته وما صنعوا به اعتذر عنهم فقال (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) ولعلّه كان المراد بما فعلوا بأخيه إذلالهم له لأنّه ما كان يقدر على التّكلّم معهم الّا بالعجز والانكسار. روى عن الصّادق (ع) كلّ ذنب عمله العبد وان كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه معصية ربّه فقد حكى الله تعالى قول يوسف (ع) لإخوته هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون فنسبهم الى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقريرىّ؟ حيث علموا من مكالمته انّه يوسف (ع) ولذلك أكّدوه بتأكيدات ، وقرئ بدون همزة الاستفهام على الاخبار أو على حذف اداة الاستفهام ، وقرئ آنّك بالمدّ على تخفيف الهمزة الثّانية (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) برفع منزلتنا وإعطاء الملك والسّلطنة لنا (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله في مخالفة رضاه (وَيَصْبِرْ) على البلاء والطّاعات وعن المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) اعترفوا بخطائهم في تدبيرهم في مقابلة التّقدير أو بخطائهم في خلاف طاعة الله ورضا أبيهم ، ولمّا رأى خوفهم من عتابه ومن عقوبة الله آمنهم من ذلك و (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فلا تخافوا من عتابى (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فلا تخافوا من عقوبته (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) عطف فيه معنى التّعليل أو حال كذلك أو عطف أو حال لازدياد رجائهم يعنى يغفر لكم ويتفضّل عليكم فوق المغفرة لانّه ارحم الرّاحمين (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) وقد ابتلّ القميص بدموعه أو كان قميص إبراهيم (ع) الّذى أتى به جبرئيل من الجنّة حين إلقاء نمرود في النّار فصارت بردا وسلاما وقد جعله إبراهيم (ع) تعويذا لإسحاق (ع) وجعله إسحاق (ع) تعويذا ليعقوب (ع) وجعله يعقوب (ع) تعويذا ليوسف (ع) على اختلاف الاخبار (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) عير اخوة يوسف (ع) الّتى فيها القميص عن مصر (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حضره (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) تنسبونى الى الفند والخرافة من الكبر (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) يهودا ابنه أو ابن الجارية الّذى باعه يعقوب (ع) في صغره (أَلْقاهُ) اى القميص (عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) لانتعاش الشّوق والحرارة الغريزيّة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) استفهام تعجّب والمحكيّ محذوف يعنى انّ يوسف حىّ وانّى ألاقيه أو المحكيّ قوله (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وقد نقل مكاتبات يعقوب (ع) وعزيز مصر بعد المجاعة وارتهان واحد من ابنائه واسترقاق بنيامين من غير علم منه بانّ العزيز هو يوسف (ع) وكيفيّة تظلّم يعقوب (ع) الى يوسف (ع) وتأديب الله ايّاه ببثّ شكواه الى غيره تعالى في المفصّلات (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) تضرّعوا اليه وتابوا ممّا فعلوه واعترفوا بسوء فعالهم (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) تسويف الاستغفار كما في الاخبار كان لانتظار وقت السّحر لانّ جنايتهم كانت على غيره


فانتظر أشرف الأوقات رجاء الاجابة ، وامّا يوسف (ع) فانّ جنايتهم كانت على نفسه فبادر الى الاستغفار (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) روى انّ بينهم وبين يوسف (ع) كان مسير ثمانية عشر يوما وأسرع العير الّتى جاءت بالبشارة في تسعة ايّام وسافر يعقوب (ع) مع أولاده أيضا في تسعة ايّام (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) يعقوب وأمّه راحيل وروى انّ أمّه توفّيت في نفاس بنيامين وتزوّج يعقوب بأختها خالة يوسف (ع) واسمها كانت ياميل أو يامين وتسمية الخالة امّا شائعة وكانت مربّية ليوسف (ع) وتسمية المربّية أيضا أمّا شائعة (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الاستثناء للتّيمّن ولذلك قدّمه على آمنين حالا من فاعل ادخلوا وانّما دخلوا عليه قبل دخولهم مصر لانّه استقبلهم ونزل لهم في بيت أو مضرب خارج مصر. عن الصّادق (ع) انّ يوسف (ع) لمّا قدم عليه الشّيخ يعقوب (ع) دخله عزّ الملك فلم ينزل اليه فهبط عليه جبرئيل (ع) فقال : يا يوسف (ع) ابسط راحتك فخرج منها نور ساطع فصار في جوّ السّماء فقال يوسف (ع) : يا جبرئيل (ع): ما هذا النّور الّذى خرج من راحتي؟ ـ فقال : نزعت النّبوّة من عقبك عقوبة لما لم تنزل الى الشّيخ يعقوب (ع) فلا يكون في عقبك نبىّ ، وفي خبر آخر : جعلت النّبوّة في ولد لاوى أخيه الّذى نهى الاخوة عن قتله ، وقال : لن أبرح الأرض فشكر الله له ذلك وكان أنبياء بنى إسرائيل (ع) من ولده (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وكان سجودهم ذلك عبادة لله (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) لم يذكر ما فعل اخوته به ونجاته منهم لئلّا يكون تثريبا عليهم (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) لانّهم كانوا أصحاب البدو والمواشي ينتقلون في المياه والمراعى (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) وسوس وأفسد (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) نسب فعل الاخوة الى الشّيطان مراعاة لهم (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) دقيق علما وعملا لما يشاء فيدبّره على ادقّ ما يكون بحيث لا يدرك مسالك تدبيره أحد (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) البالغ في العلم (الْحَكِيمُ) الكامل في العمل ، ولمّا تمّ له النّعمة بإيتاء الملك والإنجاء من المهالك والجمع بينه وبين أرحامه حين كمال العزّة والسّلطنة توجّه الى الله وتذكّر نعمه فقال (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ظاهرا وباطنا (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) بعضا من تأويلها (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ثمّ طلب حسن العاقبة كما أحسن اليه في الدّنيا فقال (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الكاملين في الصّلاح ، في الخبر عاش يعقوب بن إسحاق (ع) مائة وأربعين سنة ، وعاش يوسف (ع) مائة وعشرين سنة ، وفي الخبر : دخل يوسف (ع) السّجن وهو ابن اثنى عشر ومكث فيها ثماني عشرة سنة وبقي بعد خروجه ثمانين سنة ، وعاش يعقوب (ع) بمصر حولين ، وروى غير ذلك الى اربع وعشرين سنة (ذلِكَ) المذكور من قصّة يوسف (ع) واخوته وحزن يعقوب (ع) وامرأة العزيز ومراودتها وسجن يوسف (ع) وسلطنته واجتماعه مع أبويه واخوته (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) من أنباء ما غاب عنك وعن غيرك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا محمّد (ص) (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) لدى اخوة يوسف (ع) (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) عزموا على الأمر الّذى اتّفقوا عليه (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بالنّسبة الى يعقوب (ع) ويوسف (ع) فليس علم ذلك لك الّا بالوحي (وَما أَكْثَرُ


النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على ايمانهم (بِمُؤْمِنِينَ) استدراك بمنزلة ولكنّ ما أكثر النّاس مع ظهور أمثال تلك الآيات والاخبار المغيّبة من مثلك الامّىّ بمؤمنين بك وبرسالتك ولو حرصت على ايمانهم وبالغت فيه (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) اى على التّبليغ أو على الاخبار بانباء الغيب أو على القرآن (مِنْ أَجْرٍ) حتّى يكون ذلك مانعا من ايمانهم (إِنْ هُوَ) اى التّبليغ أو الاخبار بتلك الأنباء أو القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سماوات العالم الكبير والعالم الصّغير وكذا في اراضيهما (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) فلا غروفى اعراضهم عمّا ظهر منك من الآيات وهو تسلية له (ص) (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) اى ما يذعن أو ما يؤمن بالايمان العامّ أو بالايمان الخاصّ (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) في الوجوب أو في الآلهة أو في العبادة أو في الطّاعة أو في الولاية واقلّه في الوجود والشّهود (أَفَأَمِنُوا) اى الّذين أنكروا رسالتك أو الّذين آمنوا مع الإشراك تهديد لهم حتّى يخلصوا التّوحيد ويستوجبوا المزيد (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) عقوبة تغشاهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) ساعة القيامة الصّغرى أو الكبرى أو ظهور القائم عجّل الله فرجه (بَغْتَةً) من غير ظهور علامة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حتّى يستعدّوا ويتهيّئوا لها (قُلْ هذِهِ) الدّعوة الى التّوحيد والخلاص من الشّرك وتأسيس قانون المعاش بحيث يؤدّى الى حسن المعاد (سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ) تفسير لهذه سبيلي مع زيادة سواء جعلت بدلا من هذه سبيلي أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر أو حالا عن سبيلي بتقدير عائد لها (عَلى بَصِيرَةٍ) بصحّة دعوتي لكون دعوتي عن اذن صريح من الله بلا واسطة بخلاف طريقة غيري من الدّاعين الى الباطل فانّهم لا بصيرة لهم بدعوتهم وصحّتها لعدم كونها بإذن صريح من الله بلا واسطة أو بواسطة أو على بصيرة بالمدعوّ اليه لكونه مشهودا لي صحّته معاينا حقّيّته بخلاف غيري من الدّاعين لعدم علمهم بصحّة المدعوّ اليه وحقّيّته فضلا عن معاينتهم ايّاه أو على بصيرة بالدّعوة والمدعوّ اليه كليهما (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) من الدّاعين بإذني بلا واسطة أو بواسطة فانّهم أيضا على شهود بصحّة الدّعوة والمدعوّ اليه أو على يقين ان لم يكن شهود فمن لم يكن دعوته بإذن من الله أو ممّن اذن الله ولم يكن على يقين بالمدعوّ اليه لم يكن من اتباعه ولا على سبيله ، ولمّا كان قوله (هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) مشعرا بالاشراك في الوجود لانّه اثبت انانيّة لنفسه وسبيلا ودعوة واتّباعا قال (وَسُبْحانَ اللهِ) اى اسبّح الله عن الإشراك فانّ إثبات الكثرة بحسب مراتب الوجود توسعة للوحدة وتأكيد لها لا انّها منافية لها ولذلك قال (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في الوجود فيما اثبّته (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) ردّ لانكارهم الرّسالة من البشر (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ونميّزهم عن غيرهم بمحض الوحي وأنت مثل سائر الرّسل (ع) أتى بالمستقبل إحضارا للحال الماضية واشعارا بتكرر الوحي وتجدّده على الرّسل (ع) (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يعنى من الاناسىّ المتوطّنين في الأرض لا من الاملاك المتنزّلة من السّماء المتمثّلة بصور الرّجال أو لا من أهل البدو فانّ البدوىّ لا يستعدّ للرّسالة وقبول الوحي (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الكبير أو الصّغير أو ارض القرآن أو ارض احكام الشّريعة أو ارض السّير والاخبار الماضية (فَيَنْظُرُوا


كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الرّسل والمرسل إليهم المؤمنين والمكّذبين فيعتبروا بحالهم وينصرفوا عن تكذيبك ويقبلوا على تصديقك (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من حسن العاقبة في الدّنيا الّذى عرفتموه من أخبارهم (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشّرك وتكذيب الرّسل (ع) (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من حسن العاقبة وسوئها في الدّنيا حسن العاقبة وسوئها في الآخرة ؛ وقد قال المولوىّ قدس‌سره :

سحر رفت ومعجزه موسى گذشت

هر دو را از بأم بود افتاد طشت

بانگ طشت سحر جز لعنت نماند

بانگ طشت دين بجز رفعت نماند

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) هو غاية لمحذوف مدلول عليه بسابقه والتّقدير فقد سمعتم طول تكذيب الأمم الماضية للرّسل (ع) وامهال الله ايّاهم أو فقد كذّب الأمم الماضية الرّسل (ع) حتّى إذا استيأس الرّسل (ع) عن ايمان الأمم وإنجاز الله وعده (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرئ بالتّشديد والبناء للمفعول وبالتّخفيف والبناء للمفعول والفاعل وعلى كلّ القرائات يحتمل إرجاع فاعل ظنّوا الى الرّسل والمرسل إليهم المؤمنين والمرسل إليهم المكذّبين وإرجاع ضمير انّهم الى كلّ وقد ورد في الخبر في وجه تخفيف كذبوا والبناء للمفعول وإرجاع الضّمائر الى الرّسل انّهم وكلّهم الله الى أنفسهم طرفة عين أو اقلّ حتّى ظنّوا انّهم قد كذبوا في وعد النّصر وإتيان العذاب على المكّذبين بتمثّل الشّيطان لهم بصورة الملك الموحى واخبار النّصر والعذاب (جاءَهُمْ نَصْرُنا) وذلك لانّه تعالى لغاية رحمته بعباده يتوانى بهم خصوصا في وعد نزول العذاب وإهلاكهم (فَنُجِّيَ) قرئ نجّى ماضيا مبنيّا للمفعول من التّفعيل ومضارعا متكلّما مع الغير من الأفعال ، وماضيا معلوما من الثّلاثىّ المجرّد (مَنْ نَشاءُ) من الرّسل (ع) واتباعهم (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أتى بالمضارع الدّالّ على الاستمرار مصرّحا بوصف المهلكين من الأمم الماضية بالمجرمين اشعارا بانّ ذلك ثابت لمن أجرم من أهل كلّ عصر تعريضا بامّة محمّد (ص) (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) قصص اخبار الرّسل (ع) وأممهم المؤمنين والمكذّبين ، أو قصص اخبار يوسف (ع) وأبيه (ع) واخوته (عِبْرَةٌ) ما يعتبر به ويستبصر (لِأُولِي الْأَلْبابِ) فانّ غيرهم يمرّون عليها وهم عنها معرضون يستمعونها كالاسمار (ما كانَ) هذا القصص أو هذا الكتاب الّذى فيه قصصهم (حَدِيثاً يُفْتَرى) كالاسمار المختلقة (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ولكن وحيا من الله لانّه تصديق الّذى بين يديه من الكتب السّماويّة السّالفة والاخبار الحقّة الماضية في أحوال الأمم الماضية والشّرائع السّابقة (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) من أحوال يوسف واخوته وأبيه أو من الأمور الماضية والآتية والسّنن الحقّة والباطلة (وَهُدىً) يعنى هو حقيقة الهدى من الله تصوّرت بصور الحروف والنّقوش والمعاني الذّهنيّة أو هاديا فانّه هدى باعتبار وهاد باعتبار آخر (وَرَحْمَةً) من الحقّ تعالى متصوّرة كذلك نازلة إليكم أو سبب رحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فانّ غيرهم يضلّهم ذلك القرآن أو القصص ويصير نقمة عليهم ، نسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه قال : لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف (ع) ولا تقرئوهنّ ايّاها فانّ فيها الفتن ، وعلّموهنّ سورة النّور فانّ فيها المواعظ ؛ والسّرّ في ذلك انّهنّ لضعف نفوسهنّ سريعة التّأثّر بالمسموع.


سورة الرّعد

مكّيّة كلّها ، وقيل : مكّيّة الّا آية آخر السّورة ، فانّها نزلت في مثل سلمان وعبد الله بن

سلام ، وقيل : انّها مدنيّة الّا آيتين وهما قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ) ، وما بعدها.

عدد آيها عند قرّاء كوفة ثلاث وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر) قد مضى نظائره (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) في الآية وجوه من الاعراب نظير ما سلف في اوّل البقرة ، والمراد بالّذى انزل القرآن أو الأحكام أو القصص أو الولاية (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) مبتدء وخبر أو مبتدء وصفة والخبر يدبّر الأمر أو يفصّل الآيات مع كون يدبّر الأمر حالا أو صفة لأجل مسمّى بتقدير فيه أو مستأنفا جوابا لسؤال مقدّر (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) مفهوم القيد يدلّ على انّ هناك عمدا ولكن لا ترونها ، كما روى عن الرّضا (ع) ولمّا كان تماميّة العرش بوجه بتماميّة خلقة السّماوات والأرض والاستواء عليه والاحاطة به بعد تماميّته أشار اوّلا الى خلقة السّماوات مرتفعة المستلزمة لخلقة الأرض ، فانّ الارتفاع لا يتصوّر الّا بتحقّق الأرض ثمّ أتى بالاستواء معطوفا بثمّ للاشعار بذلك فقال (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد مضى معنى العرش والاستواء عليه في سورة الأعراف (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) في مدّة معيّنة لانقضاء دورة من الفلك وبانتظام تلك المدّة في دورانها ينتظم أمور العالم كما هو مشهود وهو دليل على كمال حكمته وعلمه ، أو كلّ يجرى الى غاية معلومة لجريه وهو وقت خراب السّماوات والأرضين (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) المعلوم وهو فعله الّذى هو إضافته الاشراقيّة المسمّاة بالمشيّة والولاية المطلقة والحقيقة المحمّديّة (ص) ، ومعنى تدبيره انزاله من مقامه العالي وتعليقه بكلّ ما يتعلّق به على وفق التّدبير الكامل والحكمة البالغة فالمعنى ينزّل الأمر بالتّدبير الى أراضي القوابل ، ولمّا كان الآيات في مقام الأمر بنحو الإجمال والوحدة موجودة بوجود واحد جمعىّ وبعد التّنزيل الى مقام الكثرة تصير موجودة بوجودات متكثّرة مفصّلة قال بعد ذلك (يُفَصِّلُ الْآياتِ) التّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة والتّدوينيّة


القرآنيّة (لَعَلَّكُمْ) بتدبير الأمر على ما اقتضته الحكمة من غير نقص وفتور فيه ، وبتفصيل الآيات الدّالّة على كمال قدرة صانعها وتكثيرها تعلمون انّ لها صانعا عليما حكيما قديرا ترجعون اليه وبعد ذلك العلم (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) فيكون عملكم على ما يرتضيه لا على ما يسخطه (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها لتسهيل توليد النّبات والحيوان فيها وتعيّشها على أكمل وجه (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت لتسهيل إخراج الماء من تحتها وإجرائها على وجه الأرض لسقي الزّروع والأشجار ولذلك ضمّ الأنهار الى الجبال فقال (وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) فائدة التّأكيد بالاثنين الاشعار بانّ الاهتمام بالعدد لا بالجنس فقط والمراد بالاثنين الحاصل في الجبال والجزائر من دون تربية مربّ ، والمغروس والمزروع في البساتين والمزارع بتربية الإنسان كما في قوله ثمانية أزواج من الضّأن اثنين الآية (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يستره ويحيط به (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآياتٍ) عديدة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) باستعمال عقولهم في المبادى واستنباط الغايات منها وترتيب الحكم والمصالح عليها ، ولمّا كان في رفع السّماوات وجعل الأرض وسطها وتسخير الشّمس والقمر في جريهما وفي تدبير الأمر وتعليقه بكلّ على حسب حاله ، وفي مدّ الأرض وجعل الرّواسى والأنهار والأشجار والاثمار واللّيل والنّهار مصالح لا تحصى وحكم لا تضبط وآيات لا تعدّ والانتقال إليها يحتاج الى استعمال المتخيّلة باستخدام العقل والانتقال من المبادى إليها خصّصها بالمتفكّرين بخلاف ما بعده ، فانّ كثرتها ليست بهذه المثابة ولذا اكتفى فيه بمحض العقل (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) متلاصقات مختلفات في الأثر والزّرع (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) نخلات من أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الثّمر والحبوب من حيث المقدار والشّكل واللّون والطّعم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالّة على علمه وقدرته وكمال حكمته وعلى انّ الاناسىّ وان كانوا من أصل واحد قد يختلفون في الآثار والأعمال والأخلاق (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمّد (ص) من إنكارهم المعاد مع ظهور دلائله ، أو ان تعجب ايّها المنكر للمعاد والأحياء بعد الاماتة ، أو الخطاب عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (فَعَجَبٌ) تعجّبهم عن الاعادة و (قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

اعلم ، انّ الإنسان كالعالم الكبير ذو مراتب كثيرة بعضها بالإمكان وبعضها بالفعل فمرتبة منه البدن الجسمانىّ ، ومرتبة منه النّفس النّباتيّة ، ومرتبة منه النّفس الحيوانيّة ، ومرتبة منه النّفس الانسانيّة ، ومرتبة القلب ، ومرتبة الرّوح ، وهكذا الى ما لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم وأكثر النّاس لمّا لم يتجاوزوا المدارك الحيوانيّة ولم يشاهدوا بالشّعور التّركيبىّ المراتب المجرّدة من الإنسان بل حصروه فيما شاهدوا منه من مرتبته الجسمانيّة وفعليّته الطّبيعيّة وشاهدوا انّ الموت يفنى تلك المرتبة ويفسدها ، ولم يعلموا انّ انسانيّة البدن انّما كانت عرضيّة بعرض تعلّق النّفس الانسانيّة به وانّه حجاب للانسانيّة مانع عن ظهورها وفعليّتها ولولاه لا نجلت كمال الانجلاء قالوا متعجّبين : أئذا متنا! بنسبة الموت الى أنفسهم باعتبار موت البدن وكنّا ترابا! بنسبة التّرابية والفساد الى أنفسهم بترابيّة البدن وفساده أئنّا لفي خلق جديد؟! ولو انّهم علموا انّ البدن مرتبة نازلة من الإنسان بل حجاب وقيد له وانّ الإنسان حقيقة مجرّدة منزّهة عن الفساد باقية دائمة لما قالوا ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وقدرته وسعته


ونعمته البالغة في حقّ الإنسان وتوسعته وبسطه بحسب مراتب العالم (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ) النّاشئة من الطّبع والنّفس الحيوانيّة (فِي أَعْناقِهِمْ) فلا يقدرون على ان يرفعوا رؤسهم فيشاهدوا مقامات الإنسان فيعلموا انّ فساد البدن لا يفنيه بل يقويّه (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعذاب والعقوبة (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يعنى دون الحسنة فانّه يستعمل تلك الكلمة في هذا المعنى كثيرا (وَقَدْ خَلَتْ) والحال انّه قد مضت (مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) جمع المثلة بفتح الميم وضمّ الثّاء وفتحها بمعنى العقوبة من مثل بفلان نكّل والمعنى قد مضت العقوبات على الأمم الماضية الّذين صاروا أمثالا في الاشتهار ولا يعتبرون بها لغاية حمقهم وجهلهم ، وقرئ المثلات بفتح الميم وضمّ الثّاء أو سكونها ، وبضمّ الميم وضمّ الثّاء أو سكونها ، وبفتح الميم والثّاء ، ونسب الى أمير المؤمنين وامام المتّقين (ع) انّه قال : احذروا ما نزل بالأمم من قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال فتذكّروا في الخير والشّرّ أحوالهم واحذروا ان تكونوا أمثالهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) فلذا لا يجيبهم عن استعجالهم بالعذاب (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) إذا أخذ العباد (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بانّ كفرهم بالله ستر عنهم الآيات الدّالّة على صدقه فاقترحوا نزول آية من الآيات كأنّه لم ينزل عليه شيء من الآيات (إِنَّما أَنْتَ) بشأن الرّسالة لا بشأن الولاية (مُنْذِرٌ) فلا بأس عليك آمنوا أو لم يؤمنوا ، قبلوا أو لم يقبلوا ، وهو تسلية له (ص) عن عدم اجابة قومه (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) في عصرك ومن بعدك وقد مضى معنى الإنذار وانّ الرّسول كمن ينبّه من النّوم وينذر من المخاوف من كان في بادية لا طريق فيها الى عمران وكان فيها سباع كثيرة وحيّات مهلكة وموذيات قويّة ولم يشعر بضلالته وبمهلكات تلك البادية فاذا تنبّه وأنذر طلب لا محالة من يدلّه على طريق العمران ويخرجه من تلك البادية ، وذلك الدّالّ هو الهادي الّذى يوصله الى المعمورة (اللهُ يَعْلَمُ) استيناف كلام لإظهار كمال علمه وقدرته في مقابل الآلهة الّتى هي في كمال العجز والجهل ليكون حجّة على صحّة دعوته وبطلان دعوتها (ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من كلّ نوع من الحيوان يعلم عدد المحمول وذكره وأنثاه وحسنه وقبيحه (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) قد فسّر في الاخبار غيض الأرحام بنقصان عدد الايّام عن تسعة أشهر وبعدم الحمل ، وفسّر بمطلق النّقص سواء كان في عدد الايّام أو في الخلقة أو في نقص الرّحم بعدم الحمل أو في إسقاط الجنين قبل التّمام ، وعلى هذا يجوز حمل ما تحمل على مدّة تحمل فيها يكون ما مصدريّة أو موصولة (وَما تَزْدادُ) على تسعة أشهر أو مطلق الزّيادة في الخلقة أو في عدد الايّام أو في عدد المحمول بان يكون اثنين أو ثلاثة ، وقد ورد في الاخبار انّ المرأة ما رأت الدّم في ايّام الحمل يزداد عدد الايّام على تسعة أشهر بعدده (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) لا يتجاوزه ولا ينقص عنه (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن المدارك البشريّة (وَالشَّهادَةِ) ما يشهده المدارك أو عالم الغيب وعالم الشّهادة (الْكَبِيرُ) الّذى لا يوصف (الْمُتَعالِ) على كلّ شيء بعظمته (سَواءٌ مِنْكُمْ) في علمه (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) يعنى قول من اسرّ القول (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ) بارز (بِالنَّهارِ لَهُ) اى لله أو لمن اسرّ القول ومن جهر به (مُعَقِّباتٌ)


ملائكة يعقّب بعضهم بعضا ، من عقّبه تعقيبا إذا جاء بعقبه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ) حفظا ناشئا (مِنْ أَمْرِ اللهِ) أو من أجل امر الله ، عن الصّادق (ع) انّه قرئ الآية عنده هكذا فقال لقاريها : ألستم عربا؟! فكيف يكون المعقّبات من بين يديه؟ ـ وانّما المعقّب من خلفه ، فقال الرّجل : جعلت فداك كيف هذا؟ ـ فقال : انّما أنزلت له معقّبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله ومن ذا الّذى يقدر ان يحفظ الشّيء من امر الله وهم الملائكة الموكّلون بالنّاس ، وعن الباقر (ع) من امر الله يقول بأمر الله من ان يقع في ركىّ أو يقع عليه حائط أو يصيبه شيء حتّى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه الى المقادير وهما ملكان يحفظانه باللّيل وملكان بالنّهار يتعاقبانه ، وقيل : يحفظونه من امر الله بالاستمهال والاستغفار (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النّعم (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من حسن الحال والطّاعة والبرّ وصلة الأرحام (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) يعنى لا ناصر سواه ولا متولّى لأمور النّاس غيره (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) خائفين وطامعين أو اراءة خوف وطمع أو يريكم من البرق خوفا وطمعا يعنى يظهر فيكم ذلك (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) بالماء يعنى يرفعها الى السّماء (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) وتسبيح كلّ بحسبه وكذا حمده (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) وإجلاله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيهلكه (وَهُمْ) لغاية جهلهم وعنادهم وعدم تدبّر هم في تسخّر هم تحت تلك المسخّرات (يُجادِلُونَ فِي اللهِ) ومبدئيّته ومرجعيّته وتفرّده بالالهة واستحقاق العبادة وسائر صفاته (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) المماحلة المكائدة ، أو شديد القوّة من المحل بمعنى القوّة وفسّر بشديد الأخذ وشديد الغضب وهما من لوازم ما ذكر (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ).

اعلم ، انّ الحقّ المطلق هو الاوّل تعالى والحقّ المضاف هو فعله وكلّ حقّ حقّ بحقّيّة فعله بل متحقّق بفعله الّذى هو الولاية المطلقة كما مرّ مرارا ، وكلّ قول وفعل وخلق يكون عن ولاية اختياريّة كما انّها آثار اختياريّة فهو حقّ بحقّيّتها ، وكلّ مأذون من الله بلا واسطة لدعوة الخلق اليه تعالى أو لدعوة الخلق ايّاه وسيلة بينهم وبين الله فهو داع حقّ ومدعوّ حقّ ، ودعوة كل داع حقّ وكلّ مدعوّ حقّ هي دعوة الله تعالى ومنتهية اليه وخاصّة به لا مدخليّة لأحد فيها من حيث انّ الدّاعى والمدعوّ الحقّين مظهر ان له تعالى وما يظهر ويتعلّق بهما يظهر ويتعلّق بالله ، وامّا دعوة الدّاعى الباطل كخلفاء الجور ودعوتهم الى الإسلام والى الله وكذا دعوة الخلق المدعوّ الباطل كالأصنام والكواكب وخلفاء الجور باطلة وضائعة كنفس الدّاعى والمدعوّ حيث لا يترتّب عليه شيء ولا ينتهى به الى شيء ، وبالجملة كلّ من لم يأذن الله في كونه داعيا للخلق أو للوسائط بينه وبين الله أو مدعوّا باطل كائنا من كان ودعوته أيضا باطلة ، وعلى هذا فقوله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) يحتمل ان يكون معناه والدّاعون الّذين يدعون الخلق الى اتّباعهم من دون اذن الله أو حالكونهم من غير الله لا يستجيب المدعوّون لهم بشيء وان يكون معناه والمدعوّون الذين يدعوهم الخلق من دون اذن الله أو من غير الله لا يستجيب المدعوّون للخلق بشيء (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) الّا كاجابة الماء لمن بسط كفّيه مشيرا اليه وداعيا الى نفسه أو مغترفا له (لِيَبْلُغَ) الماء (فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) لعدم استشعاره بالاشارة أو عدم حصوله في الكفّ المبسوطة (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) لله (إِلَّا فِي ضَلالٍ) لانّ الكافر دعاءه لله دعاء للشّيطان من حيث


لا يشعر أو ما دعاء الكافرين للخلق الى أنفسهم أو الى الله أو الى غيرهما ، أو ما دعاء الخلق للكافرين الّا في ضلال في ضياع وعدم ترتّب الأثر وهو كالنّتيجة لسابقه (وَلِلَّهِ) لا لغيره (يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ) من في (الْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) السّجود لغة الخضوع ولمّا كان غاية الخضوع السّقوط على التّراب لمن يخضع له سمّى سجدة الصّلوة بالمواضعة الشّرعيّة بالسّجود وإذا كان الخضوع عبارة عن كسر الانانيّة عند من يخضع له فكلّما كان هذا المعنى أتمّ كان الخضوع أكمل. ولمّا كان جميع الموجودات بالنّسبة اليه تعالى لا انانيّة لها بل كلّها لها حكم الاسميّة وعدم النّفسيّة بالنّسبة اليه تعالى ونفسيّة الكلّ هي انّيّة الحقّ الاوّل تعالى كان الكلّ سماواتها وسماويّاتها وأرضوها وارضيّاتها ذوو علمها وغير ذوي علمها ساجدة لله لعدم انانيّة لها بالنّسبة اليه تعالى ، لكنّ الشّاعرين منها أكثرهم يسجدون طوعا كالاملاك بأنواعها وبعض الاناسىّ والجنّ وبعضهم لا يسجدون الّا كرها كبعض الاناسىّ وبعض الجنّ فانّ الكفّار منهما لا يسجدون لله طوعا اختيارا ومن لا يسجد طوعا لله بلا واسطة يسجد له طوعا بواسطة مظاهره ، فانّ نفوسهم فطريّة التّعلّق فاذا لم تتعلّق بالله تعلّق بغيره من مظاهره من كوكب وصنم وغيره واقلّه الدّراهم والدّنانير والمواليد الثّلاثة تسجد بصورها ونفوسها تكوينا طوعا وبعناصرها تسجد لله كرها ، لانّ العناصر مقسورة في المواليد على الامتزاج ، وعلى هذا فالإتيان بمن الّتى هي لذوي العقول امّا من باب التّغليب أو باعتبار نسبة السّجدة إليها لانّ السّجود لا يكون الّا من ذوي الشّعور ويسرى حكم السّجدة الى نفس السّماوات والأرض لما مرّ مرارا انّ نسبة الحكم الى المظروف تسرى الى الظّرف خصوصا إذا كان المظروف أشرف من الظّرف (وَظِلالُهُمْ) جمع الظّلّ وهو الفيء الحاصل من الشّاخص الّذى ينتقل بانتقاله ويسكن بسكونه وبالجملة لا انانيّة له الّا انانيّة الشّاخص وكلّ موجود علوىّ أو سفلىّ له في مقامه الخاصّ به حقيقة وله اظلال في العالم الأعلى والأسفل منه والموجودات الطّبيعيّة الارضيّة من المواليد لها اظلال صوريّة حاصلة من محاذاة الشّمس والكلّ سجّد لله وآخرون طوعا (بِالْغُدُوِّ) جمع الغدوة (وَالْآصالِ) جمع الأصيل وما ورد في الاخبار في تفسير الظّلال يرتفع اختلافه ممّا ذكرنا ، والسّجود وكذا الغدوّ والآصال في كلّ بحسبه (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) أجب عنهم بذلك لانّه لا جواب لهم سواه (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) تقريعا وتوبيخا لهم على ذلك بعد الاعتراف بربوبيّته لهما (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فكيف بغيرهم من أمثالهم فضلا عن تربية السّماوات والأرض اللّتين لا يصلون إليهما ولا يحيطون بهما ولا بعلمها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) الّذى لا يبصر طريق ضرّه ولا نفعه (وَالْبَصِيرُ) الّذى يبصر غيره ويحيط بضرّه ونفعه ويتصرّف فيه كيف يشاء أو هل يستوي الأعمى الّذى لا يفرّق بين من لا يضرّ ولا ينفع ومن يضرّ وينفع كالمشرك والبصير الّذى يبصر ذلك ويفرّق كالمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ) كالكفر (وَالنُّورُ) كالايمان (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة لشركاء (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) ولتشابه خلقهم وخلق الله حكموا باستحقاق عبادتهم والحال انّهم اتّخذوا شركاء عاجزين غير قادرين على ما قدروا بأنفسهم عليه (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فهم مخلوقون فضلا عن كونهم خالقين (وَهُوَ الْواحِدُ) الّذى لا يبقى معه شيء في الوجود فلا وجود لشيء سواه فضلا عن الخالقيّة وغيرها من الأوصاف (الْقَهَّارُ) الّذى كلّ شيء فان تحت وجوده مضمحلّ لا انانيّة له (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) جواب لسؤال كأنّه قيل : ان كان هو الواحد


الّذى لا ثانى له القهّار الّذى لا انانيّة لشيء معه فما هذه الكثرات المشهودة؟ ـ فقال : انزل من السّماء ماء فظهر الكثرات فلا انانيّة ولا ظهور لشيء منها الّا بذلك الماء الّذى هو فعله بل هو هو لا غير والمقصود تمثيل ظهور الكثرات من امر واحد هو فعل الله وقوامها بذلك الأمر بنزول الماء الّذى هو حقيقة واحدة من الجهة الواحدة الّتى هي السّماء وتكثّره بتكثّر الاودية وظهور الزّبد الغير النّافع عليه (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) نسبة سالت الى الاودية مجاز (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) مرتفعا على السّيل (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) ومن الفلزّات الّتى يوقد النّاس عليها النّار حالكونها في النّار (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) كما يصاغ من الذّهب والفضّة وغيرهما (أَوْ مَتاعٍ) ما يتمتّع به كالاوانى وآلات الصّنائع وغيرها (زَبَدٌ مِثْلُهُ) مثل زبد الماء يعنى انّ الزّبد الغير النّافع لا اختصاص له بالماء والسّيل بل يكون في الجوامد والفلزّات الّتى تذاب بالنّار ، والمقصود انّ الباطل لا اختصاص له بالتّعيّنات الامكانيّة الّتى هي كزبد الماء بل النّفوس البشريّة الّتى هي كالفلزّات في شدّة تراكمها وصلابتها تتحمّل زبد باطل الاهوية (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) يعنى انّ مثل ظهور الحقّ واختلاطه بالباطل مثل نزول الماء واختلاطه بالزّبد فالممثّل له بحسب مراتب الوجود يحتمل وجوها وكذا بحسب مراتب العلم اى الوجود الذّهنيّ. فنقول بحسب التّطبيق على الممثّل له ، انزل من سماء الأسماء ماء المشيّة فسالت اودية المهيّات بقدرها فاحتمل الماء السّائل في اودية المهيّات زبد التّعيّنات والتّكثّرات ، فامّا الماء الّذى هو حقيقة متحقّقة فيبقى ، وامّا الزّبد وان كان ساترا لوجه الماء ظاهرا في الانظار دون الماء بحيث لا يدرك القاصرون في الإدراك الّا ذلك الزّبد والتّعيّنات حتّى قالوا : انّ الوجود اعتبارىّ صرف وانّ المهيّات اصيلة في التّحقّق فهو باطل مضمحلّ متلاش كلّ شيء هالك الّا وجهه ، وانزل من سماء المشيّة ماء وجودات الأشياء فسالت اودية المهيّات الى الآخر ، وانزل من سماء العقول ماء وجود النّفوس وما دونها فسالت اودية النّفوس وعالم المثال وعالم الطّبع بقدرها الى الآخر ، وانزل من سماء عالم المثال ماء وجود عالم الطّبع الى الآخر ، هذا في الكبير ، وامّا في الإنسان الصّغير فنقول : انزل من سماء الأرواح ماء الحيوة فسالت اودية المدارك الحيوانيّة والمراتب النّباتيّة الى مقام الطّبع فاحتمل السّيل زبد الأخلاق الرّذيلة والاهوية الرّديّة والأفعال الّذميمة كما انّ الأخلاق الحسنة والاشواق الالهيّة والأفعال المرضيّة متحقّقة بذلك الماء ، وامّا بحسب العلم والّذهن وهو عين وخارج بوجه فنقول : انزل من سماء الولاية ماء النّبوّة والرّسالة فسالت اودية القلوب والصّدور بحسبها فبعض بحسب استعداد الاتّصاف بالنّبوّة والرّسالة وبعض بحسب استعداد قبول أحكامهما فاحتمل السّيل زبد مقتضى الأهواء من الآراء الباطلة والبدع العاطلة المختلطة بمرور الأزمان بأحكام الرّسالة والنّبوّة ومنه الزّيادة والنّقيصة والتّحريف في الكتاب الالهىّ ، أو انزل من سماء النّبوّة ماء الرّسالة أو من سماء الرّسالة ماء الأحكام الالهيّة ، أو انزل من سماء الرّوح ماء العلم فسالت اودية القلوب والصّدور فاحتمل السّيل زبد مداخلة الأهواء في العلم ، أو انزل من سماء القلب ماء العلم فسالت اودية الصّدر (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) مرميّا يرمى به السّيل (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) لانتفاع أهلها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) كرّر ذكر كون الآية مثلا تأكيدا وتنبيها على انّها بظاهرها ليست مقصودة ومنظورا إليها بل المراد بيان حال الحقّ والباطل بالتّمثيل بأمر حسّىّ (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) متعلّق بيضرب الأمثال اى يضرب الأمثال لحال هؤلاء وهؤلاء


يعنى حالهما كحال الماء والزّبد أو يضرب الأمثال لبشارة هؤلاء وإنذار أولئك ، أو يضرب الأمثال لانتفاع الّذين استجابوا (لِرَبِّهِمُ) الاستجابة (الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) عطف على الّذين استجابوا على الاوّلين وهو مع ما بعده جملة مستأنفة على الثّالث ويجوز ان يكون قوله للّذين استجابوا خبرا مقدّما للحسنى مع كون الجملة مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر ويكون المعنى للّذين استجابوا لربّهم العاقبة الحسنى والّذين لم يستجيبوا له (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) بان لا تقبل لهم حسنة ولا تغفر لهم سيّئة كما نسب الى الصّادق (ع) أو بان نوقش في حسابهم واستقصى بهم كما في خبر آخر (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) المستقرّ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) لفظة ما كافّة أو موصولة أو مصدريّة ، وما انزل اليه امّا القرآن تماما أو احكام الرّسالة جملة أو الولاية مخصوصة (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عن علم ذلك (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) بعدم تشابههما (أُولُوا الْأَلْبابِ) لا أصحاب الخيال وأرباب الالف والعادات ، عن الصّادق (ع) انّه خاطب شيعته بقوله أنتم أولوا الألباب في كتاب الله ، والسّرّ في ذلك انّ اللبّ هو العقل الخالص من شوب الوهم والخيال ولا يخلص العقل ما لم يتّصل بصاحب العقل ، والاتّصال ان كان بالبيعة العامّة النّبوّة لم يفد تخليص العقل من حيث انّ الرّسول (ص) ببيعته يؤسّس احكام العقل بإعانة الوهم والخيال فليس شأن الرّسول تخليص العقل بل تخليطه بقشر الخيال ، بخلاف الاتّصال بالبيعة الخاصّة الولويّة فانّ صاحب البيعة الخاصّة من حيث أصل الايمان شأنه تخليص العقل عن شوب الخيال وبهذا الاعتبار يصدق على المتّصل به انّه ذو لبّ وان لم يحصل بعد له لبّ ، وأيضا صاحب الولاية باعتبار ولايته لبّ وصاحب الرّسالة باعتبار رسالته كالقشر والمتّصل بالولاية مظهر لصاحب الولاية فهو ذو لبّ بهذا الاعتبار أيضا على انّ التّحقيق انّ الإنسان بدون تلقيح الولاية كالجوز الخالي من اللّبّ ولا ينعقد لبّه الّا بالولاية ، فانّ البيعة الولويّة يدخل بها كيفيّة من ولىّ الأمر في قلب البائع وبها يتحقّق الابوّة والبنوّة بينهما وهي الايمان الدّاخل في القلب كما سبق تحقيقه في مطاوى ما سبق (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) صفة لاولى الألباب لبيان حالهم أو استيناف كلام والخبر أولئك لهم عقبى الدّار والمراد بالعهد هو العهد العامّ النّبوىّ والوفاء به الانتهاء الى آخر أركانه الاسلاميّة وهو البيعة الولويّة الّتى عبّروا عنها في الاخبار بالولاية (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الميثاق الولاية الّذى حصل لهم بالوفاء بعهد النّبوّة ، وتسميته ميثاقا لكونه عقدا على عقد فانّه بعد عقد البيعة النّبويّة ، وفي الخبر اشارة الى ما ذكرنا (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) اوّل ما امر الله به من صلة الأرحام الوصلة مع نبىّ الوقت بالبيعة العامّة ، ثمّ الوصلة مع ولىّ الوقت بالبيعة الخاصّة ، ثمّ مع المسلمين بقرابة الرّحم المعنويّة ، ثمّ مع المؤمنين بقرابة الرّحم الولويّة ، ثمّ مع أقربائه بقرابة الرّحم الجسمانيّة وصلة الرّحم مع النّبىّ والولىّ بعد ما هو أصل من البيعتين وكذا مع كلّ ذي قرابة عبارة عمّا به يحصل إظهار المحبّة والتّرحّم وأقلّه البشاشة في وجهه عند لقائه والسّرور به وإهداء التّحف اليه وقضاء حاجته (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) الخشية حالة حاصلة من ادراك لّذة وصال المحبوب والم فراقه أو سطوة عذابه ، وبعبارة اخرى حالة حاصلة من ادراك ذي جمال وسطوة ، وبعبارة اخرى حالة ممتزجة من الخوف والرّجاء لا خوف صرف ولا رجاء محض ولذا خصّصها بالرّبّ والخوف بسوء الحساب (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) وجه الرّبّ


هو ملكوت ولىّ الأمر ، وابتغاؤه عبارة عن طلب انفتاح باب القلب حتّى يظهر ويتمثّل له ولىّ الأمر بملكوته والصّبر لذلك الابتغاء ان لا ينصرف عن ذكره القلبىّ الخفىّ أو اللّسانىّ الجلىّ ، والصبر عليه يستلزم عدم الجزع وعدم الخروج الى المهويّات (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بإقامة الصّلوة القالبيّة وحفظ حدودها ومواقيتها وادامة الذّكر الّذى هو صلوة الصّدر واتّصاله بالفكر الّذى هو صلوة القلب وهو تمثّل ملكوت الشّيخ (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الأموال والاعراض الدّنيويّة والقوى والاعراض والجاه والحشمة ومن نسبة الأفعال والصّفات والانانيّات الى أنفسهم (سِرًّا وَعَلانِيَةً) السّرّ والعلانية في كلّ مقام بحسبه ، فانّ الإنسان من اوّل استقرار نطفته في الإنفاق والخلع واللّبس والاستعواض من الله تكوينا وبعد البلوغ بل وقت التّمرين يكلّف بالإنفاق من الأموال بل من الفعليّات السّفليّة وان كان لا يشاهد الأعواض ولا المنفق من القوى والفعليّات سوى الأموال الدّنيويّة ، وأصل الإنفاق سرّا ان ينفق من فعليّاته وانانيّته من غير شعور منه بالإنفاق والمنفق فضلا عن اطّلاع الغير عليه (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الحسنة هي الولاية وكلّ فعل أو حال أو خلق كان متّصلا بالولاية كان حسنة ، والسّيّئة في الحقيقة هي عدوّ علىّ (ع) وكلّ فعل وخلق وحال متّصل بجهته وطريقه سيّئة ، ويجرى الحسنة والسّيّئة في كلّ فعل يكون مشاكلا لهما كافعال من كان غافلا عن ولاية ولىّ الأمر (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عقبى الدّار غلّبت على العاقبة الحسنى كأنّ من كان له العاقبة السّوءى لا عاقبة له (جَنَّاتُ عَدْنٍ) اقامة (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) بتبعيّتهم فالمراد بالصّلاح هاهنا عدم الفساد والاستعداد للصّلاح الحقيقىّ والّا فلم يكن لهم حاجة الى ان يدخلوها بتبعيّة غيرهم (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب قصورهم في الجنان قائلين (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) غرف المؤمنين وقصورهم وكيفيّة زيارة الملائكة لهم مذكورة في الاخبار بتفاصيلها (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) اى عهد النّبوّة من بعد ميثاقه وتأكّده بعهد الولاية فانّه مرتدّ فطريّ لا يقبل له توبة لا ظاهرا ولا باطنا ، وامّا النّاقض لعهد النّبوّة والبيعة العامّة فانّه يقبل توبته ظاهرا وباطنا وهو مرتدّ ملّىّ لا فطريّ وقد مضى تحقيق واف للارتدادين في سورة آل عمران عند قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً)(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ويحصل أصل القطع بنقض العهد كما سبق (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الكبير والعالم الصّغير وقد مضى في سورة البقرة تحقيق تامّ لقطع ما امر الله به ان يوصل وللافساد في الأرض عند قوله (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) النّباتىّ والحيوانىّ والانسانىّ (لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) في جنب الآخرة أو بين الحيوة الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) الّا شيء قليل يتمتّع به يسيرا (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كأنّهم لم يروا منه شيئا من الآيات لعماهم وحملهم ما رأوا على السّحر والعادات (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بجعله أعمى عن النّظر في العواقب وفي دعوة الدّاعى وفي آياته ، وليست الهداية والضّلالة بالآية وعدمها (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ورجع عن جهنّام الطّبع وفرّ من سجن النّفس (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل


ممّن أناب أو استيناف كلام مبتدء ، وطوبى لهم خبره ، أو خبر مبتدء محذوف و (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بدل منه ، أو (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدء ثان أو مبتدء اوّل والمراد بالايمان الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ).

اعلم ، انّ الإنسان بعد ما آمن ودخل ما به حصول للايمان من الذّكر الّذى يلقّنه الولي في قلبه يحصل له اطمئنان في الجملة بالنّسبة الى حال طلبه واشتداد لوعته فيصدق عليه انّه اطمئنّ بذكر الله الّذى اخذه من ولىّ امره ، لكن لا يحصل له اطمئنان تامّ الّا بالوصول الى ملكوت الامام والقرار معه فاذا وصل الى ملكوت الامام واستقرّ معه اطمأنّ من غير شوب اضطراب وهيجان ، وملكوت الامام ذكر الله الحقيقىّ فالمعنى الذين آمنوا وأخذوا ذكرا ممّن آمنوا بواسطته وتطمئنّ قلوبهم بصورة ذلك الذكّر أو بحقيقته الّتى هي ملكوت الشّيخ ، ولذا فسّر الّذين آمنوا بالشّيعة الّذين بايعوا بيعة خاصّة ولويّة وذكر الله بأمير المؤمنين (ع) والائمّة (ع) وفسّر ذكر الله بمحمّد (ص) (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) معترضة لتأكيد هذا (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) حتّى انتهوا الى الذكّر الحقيقىّ فاطمئنّوا بها (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الطّوبى وصف بمعنى الطّيّبة والطّيّب ، أو مصدر طاب كزلفى وبشرى ، أو جمع طيّبة كما في القاموس أو مؤنّث أطيب ، وفسّرت في الاخبار بشجر في الجنّة موصوف بأوصاف عديدة أصله في بيت محمّد (ص) أو علىّ (ع) (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) اى أرسلناك إرسالا مثل ذلك الإرسال من قبيل تشبيه الكلّىّ بالجزئىّ وتمثيله به أو كذلك خبر مبتدء محذوف اى الأمر كذلك وأرسلناك مستأنف (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) حتّى تكون الأمم الماضية عبرة لهم وتكون أنت فيهم أقرب الى التّصديق من الرّسل الماضية (ع) في أممهم (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن والأحكام وقصص الماضين بل أصل ما أوحينا إليك وهو ولاية علىّ (ع) (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) اى لتتلو عليهم حال كفرهم بالرّحمن لتصرفهم عن كفرهم أو لكنّهم يكفرون بالرّحمن (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تعميم بعد تخصيص يعنى هو ربّى وربّ كلّ شيء إذ لا اله الّا هو (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جملة أموري (وَإِلَيْهِ مَتابِ) يعنى لا انظر في مبدئى ومعادي ومعاشي الى غيره بل انظر الى ربوبيّته وآلهته لنفسي ولكلّ شيء والى حفظه ونصرته في كلّ حال ولذلك توكّلت عليه ولا ارى لنفسي مرجعا آخر (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) لكان هذا القرآن ، لمّا كان المعروف بين النّاس انّ من النّاس من يقرأ وردا وينفخ فيما يريد من تحريك الأحجار وإنزال الأمطار ومن اراءة الأمصار وإحضار الغيّاب كما هو المعروف في زماننا هذا من المرتاضين المتشرّعين وغيرهم قال : لو انّ في العالم مقروّا يقرأ ويسيّر به الجبال الى الآخر لكان ذلك المقروّ هو هذا القرآن لا غيره وهذا أوفق بقوله (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) من حيث انّه اضراب عن تأثير المقروّ وحصر للتّأثير به تعالى فكأنّه قال : كلّ مقروّ له اثر في العالم منحصر في هذا القرآن بمعنى انّه غير خارج منه إذ لا رطب ولا يابس الّا فيه ، ثمّ اضرب وقال : بل لا اثر لشيء من الأشياء الّا لله بمعنى انّ كلّ مؤثّر فانّما هو مؤثّر بمؤثّريّة الله لا بنفسه (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) فسّر ييأس بيعلم على لغة وقرئ يتبيّن


في قراءة أهل البيت (ع) وان كان على معناه المشهور فالمقصود أفلم ييأس الّذين آمنوا عن ايمان المشركين ويكون ما بعده تعليلا له (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) مفعول أفلم ييأس أو المعنى لانّه لو يشاء الله (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والحال انّ أسباب الايمان حاصلة لهم من الإنذارات البالغة لانّه لا يزال الّذين كفروا (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) في كفرهم (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم من البلايا (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) بأمثالهم فتدهشهم ويصل إليهم أثرها (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) بالعذاب في الدّنيا من القتل والأسر والنّهب أو وعد الله بقبض أرواحهم (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له (ص) (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) تهديد للمستهزئين (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) استفهام للتّهويل وتطويل في مقام التّهديد (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) مراقبا لها حافظا عليها أعمالها (بِما كَسَبَتْ) كمن ليس كذلك (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) هل كان لهم اسم في المسمّيات أو اخترعتموهم من عند أنفسكم واختلقتم لهم أسماء ، أو المعنى صفوهم حتّى يعلم هل كان لهم ما يستحقّون به العبادة (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) يعنى بل أتخبرونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض؟! وهو العالم بكلّ شيء ، أو أتخبرونه باستحقاق شراكة الشّركاء الّذى لا يعلمه في الأرض؟ وهو غاية تسفيه لهم (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) يعنى أتخبرونه بأمر خفىّ لا يعلمه أو بأمر جلىّ يعلمه كلّ أحد؟ والتّقييد بالقول لانّ الاخبار والأنباء يتعلّق بالقضايا والنّسب وهي أقوال نفسانيّة ، وقيل : المعنى أم تسمّونهم شركاء بظاهر من القول من دون اعتبار حقيقة له كما تسمّون الزّنجىّ كافورا لكن ليس لما جعلتموه شركاء شيء من المذكورات (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) مكر رؤسائهم الّذين وضعوا لهم عبادة الشّركاء وأظهروا لهم بتمويهاتهم انّ الشّركاء يقدرون على ضرّ أو نفع كما كانوا يخوّفون الأنبياء (ع) بالشّركاء والأصنام (وَصُدُّوا) بتمويه الرّؤساء (عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الحقّ وهو سبيل القلب الّتى بها ظهور الولاية التّكوينيّة وحصول الولاية التّكليفيّة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لانّ كلّ هاد لا يكون هدايته الّا هداية الله فلا تعارض إضلال الله (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بأنواع البلايا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) في الدّنيا ولا في الآخرة (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لمّا كان المثل عبارة عن امر تركيبىّ جعل خبره جملة من غير عائد لكونها عين المبتدأ (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) لا كجنان الدّنيا من حيث انّها منقطعة الاكل والظّلّ في الخريف والشّتاء (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة وأحكامها بالتّوبة على يدك وقبول الأحكام منك (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من صورة الكتاب وهو القرآن خصوصا ما انزل فيه من ولاية علىّ (ع) (وَمِنَ الْأَحْزابِ) اى الفرق المتفرّقة الّذين آمنوا بك أو لم يؤمنوا (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) بعض ما انزل إليك وهو ما لا يوافق أهوائهم وأغراضهم خصوصا ولاية علىّ (ع) (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ)


أطيعه (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) في الطّاعة شيئا فكيف يصحّ لي ان أطيع أهواءكم فيما انزل الىّ فأترك بعضه الّذى لا يوافق أهواءكم (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا الى غيره فلا انظر الى اهوائكم موافقة كانت أو مخالفة (وَإِلَيْهِ مَآبِ) فلا انظر الّا اليه لا الى اهوائكم (وَكَذلِكَ) المذكور من عبادة الله وعدم الإشراك والدّعوة والرّجوع اليه (أَنْزَلْناهُ) يعنى أنزلناه حالكونه مثل ذلك المذكور يعنى انّه وان لم يكن كلّه صريحا في ذلك لكن كلّه راجع اليه (حُكْماً عَرَبِيًّا) صادرا عن حكمة بالغة له حقيقة في عالم العقول لا اعرابيّا لا حقيقة له ولا حكمة فيه وهو حال عن ذلك أو عن مفعول أنزلناه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) في إخفاء ما يكرهونه وخصوصا ولاية علىّ (ع) (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بحقّيّته ومأموريّتك ان تظهره (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولّى تربيتك (وَلا واقٍ) ينصرك في شدائدك وقد مضى مرارا تفسير الولىّ والنّصير وانّهما كنايتان عن مظهر الولاية ومظهر الرّسالة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) فما كنت بدعا من الرّسل (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) فلا ينبغي ان يعيّروك على التّزويج والّذرّيّة (وَما كانَ لِرَسُولٍ) ممّن مضى (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) حتّى يعيّروك على عدم اجابة اقتراحهم أو تحزن على عدم إتيان الآية المقترحة (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكلّ وقت حكم مكتوب فلا يمكنك الإتيان بالآية المقترحة في غير وقته ، ولمّا كان ظاهره منافيا لما امر الله من الدّعاء والتّصدّقات وصلة الأرحام لدفع الآلام والأسقام وطول العمر بحسب تعميم الأجل والكتاب قال (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) فلا تتركوا الدّعاء والصّدقات وصلة الأرحام (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الّذى فيه كلّ شيء من غير تغيير حتّى محو المثبت وإثبات ما لم يكن ، وكتاب المحو والإثبات في مقام العلم هو النّفوس الجزئيّة المتقدّرة بالأشباح النّوريّة المعبّر عنها بعالم المثال ، وكتاب المحو والإثبات العينىّ هو عالم الطّبع (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) اى ان نرك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فلا بأس عليك ولا تحزن عليه (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وقد بلّغت (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ونحاسب لا محالة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) والمراد بالإتيان إتيان الملائكة المأمورين لذلك أو إتيان امره تعالى ، ونقصها من أطرافها ذهاب أهلها تدريجا ، وقد فسّر نقصها من أطرافها بفقد العلماء امّا لانّ العلماء لمّا كانوا من عالم الأرواح ونزلوا الى الأرض فبذهابهم تنقص الأرض وامّا غيرهم فلكونهم مخلّدين الى الأرض لا ينقص ذهابهم شيئا من الأرض ، أو لانّ الأطراف جمع الطّرف بالتّحريك أو الطّرف بالسّكون بمعنى الشّريف ويجرى الآية في العالم الصّغير ، ونقصان العالم الصّغير أظهر من العالم الكبير (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ ولا دافع (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بانبيائهم (ع) ومن آمن معهم كما يمكر قومك فلا يفتروا بمكرهم (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) من حيث انّه يقدر على جميع أسبابه وعلى إنفاذه بحسب مشيّته بخلاف غيره لانّ الغير ان هيّأ بعض أسباب المكر فات عنه بعضها وان نفذ مكره بعض النّفوذ لم ينفذ بتمامه على وفق مراده ، والمكر منه تعالى إبراز الاساءة في صورة الإحسان استدراجا (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) في مقام التّعليل أو تأكيد للتّهديد المستفاد من قوله : فلّله المكر جميعا (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) للماكر أو المخلص وهو تهديد بسوء العاقبة كما انّ سابقه تهديد


بالمؤاخذة في الحال (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) أنكروا رسالتك (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

اعلم ، انّ خليفة الله لمّا كان ذا جهتين له وجهة الهيّة بها يأخذ من الله ووجهة خلقيّة بها يوصل المأخوذ ، فاذا تحقّق لوجهته الخلقيّة رجل واحد يأخذ منه كفاه وكفى في صدق خلافته فقال تعالى : قل انّى رسول الله وفي رسالتي يكفى الله المعطى والّذى عنده علم الكتاب آخذا منّى ويكفيني شهادتهما لا حاجة لي في صدق رسالتي وتبليغى إليكم أنكرتم أو أقررتم ، ومن عنده علم الكتاب لا يجوز ان يكون غير علىّ (ع) وان كانوا فسّروه بغيره لانّ العلم المضاف من غير عهد يفيد الاستغراق ولم يدّع أحد جميع علم الكتاب من الامّة الّا علىّ (ع) وأولاده المعصومون (ع) ، فعنه (ع) : الا انّ العلم الّذى هبط به آدم (ع) من السّماء الى الأرض وجميع ما فضّل به النّبيّون (ع) الى خاتم النّبيّين (ع) في عترة خاتم النّبيّين (ع) ، والاخبار في هذا المعنى وفي تخصيص علم الكتاب بعلىّ (ع) أو به وبالأئمّة (ع) كثيرة ، وقرئ من عنده علم الكتاب بكسر الميم والدّال.


سورة إبراهيم

مكّيّة الّا آيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (الى قوله) (وَبِئْسَ الْقَرارُ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر ، ولمّا كان الكفر ذا ظلمات كثيرة متباينة بحسب ما تنتزع الظّلمات منه جمع الظّلمات معرّفة باللّام ، بخلاف النّور فانّه حقيقة واحدة به وحدة المتكثّرات ولذا أفرده فقال (إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) في اخراجك حتّى يصير طاعتهم لك طاعة لله ولا يكون شركا بالله أو في خروجهم حتّى يكون اخراجك موافقا لاذن الله ومسبّبا عنه (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله الى النّور.

اعلم ، انّ الإنسان في اوّل خلقته طبع محض وله قوّة واستعداد بصيرورته نباتا ، ثمّ يصير نباتا بالفعل وحيوانا بالقوّة ، ثمّ يصير حيوانا بالفعل وإنسانا بالقوّة ، وما زال يشتدّ تلك القوّة الى أو ان التّميز الانسانىّ واستعداد ادراك الكلّيّات البديهيّة الّتى لا يدركها سائر الحيوان ، وحينئذ يحصل له انسانيّة ما بالفعل بحيث يصحّ اطلاق اسم الإنسان عليه ، وما زال يشتدّ ويتقوّى الى أو ان البلوغ والرّشد وتعلّق التّكليف به وحينئذ يصير إنسانا ممتازا عن الحيوان نحو امتياز أقوى من امتيازه السّابق ، لانّه حينئذ يدرك الخير والشّرّ الانسانيّين وطريق تحصيل الخير ودفع الشّرّ ، لكنّه لمّا لم يخرج بعد من تحت حكومة النّفس والنّفس لا ترى خيرا الّا ما يلائم قواها الشّهويّة والغضبيّة والشّيطانيّة ولا شرّا الّا ما يضادّ تلك القوى ، فهو وقع في ظلمة الطّبع والشّهوة والغضب والشّيطنة ومن كلّ ينشأ ظلمات بعضها فوق بعض ؛ فان ساعده التّوفيق ودخل تحت حكومة نبىّ بالبيعة العامّة أو ولىّ بالبيعة الخاصّة ينجيه ذلك النّبىّ أو الولىّ من حكومة النّفس ويخرجه تدريجا من ظلماته ، وان لم يدخل تحت حكومة خلفاء الله يبقى في تلك الظّلمات أبد الآباد ، أعاذنا الله منها. فارسال الرّسل وإنزال الوحي والأحكام عليهم ليس الّا لإخراج العباد بالتّدريج من ظلماتهم الّتى كانوا فيها الى نور القلب ومن جهنّام أنفسهم الّتى هي سنخ جهنّم الآخرة الى ذروة القلب الّذى هو سنخ جنان الآخرة ، والاذن في الإخراج عبارة عن امره تعالى


للرّسل (ع) بتبليغ الأحكام ، والاذن في الخروج عبارة عن استعداد الخلق للسّلوك والخروج من هذه الجهنّام الى تلك الجنان وعن امره التّكوينىّ والتّكليفىّ على السنة الخلفاء بالخروج ، ولمّا كان القلب صراطا الى العقل والعقل صراطا الى الحقّ العزيز أبدل من قوله الى النّور قوله الى صراط العزيز الحميد (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أبدل الله من العزيز اشعارا بوصفه الى علّة عزّته ومحموديّته (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) بالله أو بمحمّد (ص) أو بالكتاب أو بالنّور أو بالصّراط (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) الويل الهلاك أو هو واد في جهنّم أو بئر (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) صفة للكافرين وبيان له.

اعلم ، انّ الإنسان واقع بين الدّنيا والآخرة وبعبارة اخرى بين مراتب النّفس ومدارج القلب وهو فطريّ التّعلّق ذاتىّ الرّبط فان كفر بالآخرة تعلّق بالدّنيا ، وان كفر بالدّنيا تعلّق بالآخرة ، وكلّ ما تعلّق به اختاره على ما لم يتعلّق به فالكافر بالآخرة لا محالة متعلّق بالدّنيا ومختار لها على الآخرة والمتمكّن في الكفر يستمرّ استحبابه للدّنيا كما انّ المتمكّن في الايمان يستمرّ استحبابه للآخرة ، والمتلوّن فيهما قد يستحبّ الدّنيا وقد يستحبّ الآخرة ولمّا كان صيغة الكافرين بحسب الاستعمال يتبادر منها المتمكّنون في الكفر أتى بالاستحباب بصيغة المضارع الدّالّ على الاستمرار وعقّبه بقوله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) مضارعا دالّا على الاستمرار والّا فالمتلوّنون في الكفر كثيرا ما لا يصدّون عن سبيل الله ولا يبغونها عوجا بل يبغونها قيّما (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) نسبة البعد الى الضّلال مجاز (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) كأنّهم توهّموا انّ الرّسول من الله لا بدّ وان يكون لسانه لسانا عربيّا لا يعرفه أحد من أصحاب اللّغات ولعلّهم اجروا على ألسنتهم ذلك فقال : وما أرسلنا رسولا الّا بلسان قومه (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فانّ المقصود من الإرسال التّبليغ ولا يمكن الّا بالبيان الّذى يتفطّن به المرسل إليهم ، وما يقال : انّ الآية تدلّ على انّه (ص) رسول الى العرب خاصّة لا يتجاوز رسالته غيرهم في غاية البعد للفرق بين ان يقال : ما أرسلنا رسولا الّا بلسان قومه وبين ان يقال : ما أرسلنا رسولا الا الى أهل لغته (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالخذلان والتّوفيق (وَهُوَ الْعَزِيزُ) لا يمنع ممّا يشاء (الْحَكِيمُ) لا يخذل ولا يوفق الّا عن حكمة مقتضية له (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قد غلّب اليوم في العرف للواقعة الغريبة الواقعة فيه فايّام الله على هذا عبارة عن الوقائع الواقعة على الأمم الماضية وقد فسّرت في الاخبار بنعم الله وآلائه ، وهذا التّفسير من تشريف الاضافة الى الله فانّ اليوم المنسوب الى الله لا بدّ وان يكون أشرف الايّام ، وشرافته بانعامه تعالى فيه فاستعمل الايّام في النّعم الّتى وقعت فيها هذا بحسب الظّاهر ، وامّا على التّحقيق فايّام الله عبارة عن مراتب الآخرة ومقامات الإنسان من عالم المثال والنّفوس والصّافّات صفّا والمقرّبين ومن القلب والرّوح والعقل الى آخر المراتب وكذا المراتب النّازلة من جهنّام النّفس ودركاتها والجحيم وطبقاتها ، ولعلّ التّفسير بالوقائع والنّقم وبالآلاء والنّعم للاشارة الى ما في تلك المراتب (إِنَّ فِي ذلِكَ) التّذكير (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على البلاء (شَكُورٍ) على النّعماء (وَإِذْ قالَ مُوسى) وذكّرهم إذ قال موسى (لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) باستعبادكم (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ


نِساءَكُمْ) بدل تفصيلىّ (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) في سوء العذاب ابتلاء أو في الإنجاء نعمة (وَإِذْ تَأَذَّنَ) علم (رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمة الإنجاء (لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) بالطّغيان وترك العمل بطاعته (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) وقد فسّر الشّكر بمعرفة القلب انّ النّعمة من الله ويقول الحمد لله (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) فلا يحصل له حاجة بكفركم (حَمِيدٌ) لا ينقص من محموديّته بترككم حمده (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) خطاب من الله لامّة محمّد (ص) أو مقول قول موسى (ع) وعلى اىّ تقدير فهو تذكير بالايّام الماضية ليعتبروا ولا يفعلوا مثل ما فعلوا (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من الرّسل وأممهم (لا يَعْلَمُهُمْ) عدّة وعدّة ومدّة وحيّزا وقصّة (إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بأحكام النّبوّة الشّاهدة على صدق الآتي بها بمضمون اعرفوا الرّسول بالرّسالة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) كناية عن شدّة الغيظ حيث انّ المغتاظ يعض لغاية الغيظ على يده طبعا كقوله (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ، أو كناية عن غاية التّعجّب والاستهزاء لانّ المتعجّب يضع يده على فمه طبعا ، أو كناية عن الاشارة الى الأنبياء (ع) بالاسكات فانّ من أراد ان يشير الى غيره بالاسكات يضع يده على فم نفسه اشارة الى إسكات المتكلّم ، وقيل : ردّوها في أفواه الأنبياء لمنعهم من الكلام وحينئذ يحتمل ان يكون على حقيقته وان يكون تمثيلا للمنع عن الكلام (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ذكروا صفة الفاطريّة والخالقيّة الّتى لا يبقى معها شكّ فيه ثمّ ذكروا انّ دعوته لمغفرتكم في الآخرة ولطول أعماركم في الدّنيا حتّى يرغبوا في قبول دعوته (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا امتياز لكم عنّا بأنفسكم حتّى تستحقّوا بذلك اتّباعنا لكم وما نرى ممّا تدعوننا اليه شيئا الّا الانصراف عن آلهتنا فأنتم (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجّة موضحة لصدقكم أو واضحة الحجيّة حتّى نتّبعكم بذلك (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لا ندّعى الامتياز عنكم بحسب البشريّة (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالوحي والإرسال الى العباد وبذلك نمتاز عنكم (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يعنى نتوكّل ونبلّغ ولا نبالى بكم وبردّكم وقبولكم واذاكم لكنّهم علّقوا التّوكّل على وصف الايمان اشعارا بانّ الايمان يقتضي ذلك (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) جمع السّبل باعتبار جمع الرّسل أو باعتبار انّ لكلّ سبلا عديدة الى الخيرات والشّرور (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) يعنى من أراد التّوكّل فلا يتوكّل الّا على الله فانّه الحقيق بان يتوكّل عليه لانّه عالم بجميع جهات ما توكّل عليه فيه وقادر على حفظه وواف لا يخون فيما عليه وكالته (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ذكر العود لاعتقادهم انّ رسلهم (ع) قبل إظهار الرّسالة كانوا على دينهم (فَأَوْحى


إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) تقوية لتوكّلهم وصبرهم (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) هذا الخطاب لجميع الرّسل في العوالم الانسانيّة وإسكانهم في الأرض الصّغيرة الانسانيّة وكان لبعض الرّسل في العالم الكبير (ذلِكَ) الإهلاك أو الإهلاك وإسكان الرّسل (ع) ل انتفاع من (خافَ) أو ذلك الإهلاك والإسكان كما يكون للرّسل فهو ثابت لم خاف (مَقامِي) وموقفي للحساب (وَخافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا) اى الرّسل (ع) أو الأمم المنكرة أو الجميع لانّ كلّا استفتحوا من الله والمعنى طلبوا الفتح على أعدائهم أو الفاتحة والحكومة بينهم وبين أعدائهم (وَخابَ) في ذلك الاستفتاح (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) متكبّر معاند للحقّ منكر له (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) الصّديد القيح والدّم الّذى يخرج من الجلود بالنّار وفي أخبارنا هو ما يسيل من الدّم والقيح من فروج الزّوانى في النّار ووصف الماء الصّديد بتشويه الوجوه وقطع الأمعاء وإخراجها من دبر صاحبها كثير في الاخبار (يَتَجَرَّعُهُ) يتكلّفه جرعة جرعة لغاية كراهته له (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) بحسب أسبابه لانّه يحيط به أسبابه من جميع جهاته (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أعاذنا الله بمنّه وفضله وقدم إحسانه ، وقد فسّر العذاب الغليظ الّذى له بعد ذلك العذاب بحميم تغلى به جهنّم منذ خلقت كالمهل يشوى الوجوه بئس الشّراب وسائت مرتفقا (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) اى حكايتهم وشأنهم في أحوالهم وأعمالهم وقبولها وردّها (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) حملته وأسرعت الذّهاب به (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) اى عاصف ريحه فانّ العصف شدّة الرّيح تعريض بمنافقى الامّة لانّهم اغترّوا بما عملوه في الإسلام من العبادات والانفاقات والاعتاقات وتركوا الولاية وكفروا به فكفروا بمحمّد (ص) فكفروا بالله وان فسّر ربّهم بالرّبّ المضاف فالمعنى واضح (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا) في الإسلام (عَلى شَيْءٍ) يعنى لا يصلون الى جزاء شيء ممّا كسبوا فانّ سلب القدرة كثيرا ما يستعمل في عدم وصول اليد (ذلِكَ) التّعب في العمل وعدم القدرة على شيء من جزائه مع حسبان انّهم يحسنون صنعا (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) نسبة البعد الى الضّلال مجاز (أَلَمْ تَرَ) يا محمّد (ص) أو يا من يتأتّى منه الرّؤية (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) اى متلبّسا بالحقّ لانّه لا باطل فيه أو بواسطة الحقّ الّذى هو الولاية المطلقة فلا بأس بانكارهم ولا نقص لها بذلك الإنكار (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) ابرز الأمر المتحقّق في معرض المشكوك تهديدا لهم لانّه يوهم الاذهاب في الآن الحاضر والّا فليس له شأن سوى الاذهاب والإتيان بخلق جديد (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذّر ولا متعسّر لانّه واقع (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) يعنى يوم القيامة ، أتى بالماضي للدّلالة على تحقّق وقوعه أو لانّ الخطاب لمحمّد (ص) وامر القيامة مشهود له (فَقالَ الضُّعَفاءُ) اى الاتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) اى المتبوعين وقد فسّر على الاستكبار بترك الطّاعة لمن أمروا بطاعته والتّرفّع على من ندبوا الى متابعته (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) استغاثوا بهم كما ظنّوا في الدّنيا انّهم يغيثونهم في الآخرة لانّ المراد بالرّؤساء هم المترئّسون في الدّين صورة لا رؤساء الدّنيا واستعطفوهم بذكر تبعيّتهم لهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) دافعون عنّا (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا) في جوابهم (لَوْ هَدانَا اللهُ) في الدّنيا


وهاهنا الى طريق النّجاة علّقوا تقصيرهم على عدم هداية الله كما هو ديدن النّساء بعد ما اعترفن بسوء فعلهنّ ، أو المراد بهذا الشّرط الشّرط في الاستقبال يعنى ان هدينا الله هاهنا الى طريق الخلاص (لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا) يعنى عليكم وعلينا (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) منجى ومهرب (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) اى امر الدّنيا ، (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) انّ الله بلسان مظهره محمّد (ص) وعلىّ (ع) وعدكم وعد الحقّ (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) تسلّط وإجبار (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) استثناء منقطع اى دعوتكم وزيّنت لكم الكفر والعصيان (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي) فانّى كنت عدوّا لكم وما كان عداوتي مخفيّة عليكم ومن قبل قول العدو يلام ، على انّ المدعوّ الى الشّرّ أو الى ما لا يعلم ضرّه ونفعه ملوم في اجابته (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) اى تبرّأت من اشراككم ايّاى بالله في الطّاعات واشراككم ايّاى بعلىّ (ع) في الولاية (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) من تتمّة كلامه أو استيناف من الله وحكاية أمثال هذه انّما هي للتّنبيه على انّ أهل الدّنيا في الحقيقة هم أهل النّار لانّهم كلّما اتّفقوا على امر ولا يقضون منه مرامهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرّأ بعضهم من بعض ويرمى بذلك الأمر بعضهم بعضا (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) علىّ (ع) ودعوته هو الكلمة الطّيّبة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) من حيث الاثمار لا يتضرّر أحد بثمرها ، ومن حيث الرّيح والظّلّ والمنظر (أَصْلُها ثابِتٌ) لا يتحرّك ولا ينقل من مكانه (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) في الصّيف والشّتاء والخريف والرّبيع (بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) لانّهم لا يدركون المعقولات الّا بالصّور المحسوسة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) عن الصّادق (ع) انّه سئل عن الشّجرة في هذه الآية فقال : رسول الله (ص) أصلها ، وأمير المؤمنين (ع) فرعها ، والائمّة من ذرّيّتهما أغصانها ، وعلم الائمّة (ع) ثمرتها ، وشيعتهم المؤمنون ورقها ، والاخبار بهذا المضمون كثيرة (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) غيّر الأسلوب بانّ المقصود بالذّات من ضرب الأمثال هو الأخيار وأمثالهم وامّا الأشرار فليست مقصودة الّا بالتّبع (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لانّها لاثبات لها كالمرأة الّتى لاثبات لها على شيء من آرائها وأقوالها وعهودها (ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) كالنّتيجة لما قبله يعنى بعد ما علم انّ محمّدا (ص) وعليّا (ع) هما الشّجرة الطّيّبة الثّابتة فمن آمن بهما يثبّته الله بهما وهما القول الثّابت أو بإيمانه وهو أيضا قول ثابت (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يشكّون في دينهم وفي آخر الحيوة الدّنيا فلا يمكن للشّيطان ان يفتنهم عند الموت (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يزلفون الى النّار (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الّذين انصرفوا عن الشّجرة الطّيّبة الى الشّجرة الخبيثة لانّهم ظلموا أنفسهم بمنعها عن حقّها الّذى هو اتّباعها للشّجرة الطّيّبة وظلموا آل محمّد (ص) بمنعهم عن حقّهم الّذى هو انقيادهم لهم واضلالهم يكون عن طريق الجنان الى الجحيم كما انّهم ضلّوا في الدّنيا عن صاحب الجنان الى صاحب الجحيم (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) امّا من قبيل لا يسأل عمّا يفعل ، أو المقصود رفع الاغترار عن المؤمنين ورفع اليأس عن


الكافرين بإمكان التّبديل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) في العالم الصّغير وفي العالم الكبير (دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) وقد فسّر في الاخبار الّذين بدّلوا نعمة الله بالافجرين من قريش بنى أميّة وبنى المغيرة ، ونعمة الله بمحمّد (ص) وفسّروا بقريش قاطبة ونعمة الله بمحمّد (ص) وفسّر نعمة الله بعلىّ (ع) والمبدّلون بالمنحرفين عنه (ع) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) كالأصنام والكواكب وغيرها ، أو جعلوا لله في العالم الصّغير أندادا من انانيّاتهم فانّ مبدء الأنداد في الخارج هي الأصنام الدّاخلة أو جعلوا لله بحسب مظاهره أندادا يعنى جعلوا لمحمّد (ص) وعلىّ (ع) أندادا (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) وهو علىّ (ع) وطريق الولاية (قُلْ تَمَتَّعُوا) تهديد بصيغة الأمر (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) ترك مقول القول للاشارة الى انّ قوله (ص) وتوجّهه إليهم يؤثّر فيم بحيث يجعلهم على أشرف أوصاف الإنسان وهو أصل جملة العبادات يعنى اقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة فلا حاجة الى تقدير المحكىّ ، وتخصيص القول بان يقال قل : أقيموا الصّلوة يقيموا الصّلوة (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الاعراض والقوى العمّالة والعلّامة والوجاهة والحشمة (سِرًّا) من النّاس ومن المنفق عليه ومن الملائكة ومن أنفسهم (وَعَلانِيَةً) ويحتمل ان يكونا متعلّقين برزقناهم اشارة الى النّعم الظّاهرة والباطنة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره أو يبيع ماله ويفدى بثمنه نفسه (وَلا خِلالٌ) لا محالة بين أحد فيشفع الخليل لخليله (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لا غيره فما بالكم يأمركم بالإنفاق مع انّ الكلّ بيده فتبخلون (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) على نظام واحد من غير تغيّر عن طريقهما في الحركة (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) وبتسخيرهما يتولّد ويحصل أصول معيشتكم (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) بلسان الاستعداد وان كان قد لا يعطى ما سألتموه بلسان القال ، وقرأ الصّادقان (ع) : من كلّ بالتّنوين ولعلّه كان أوفق بالمقصود إذ السّؤال بلسان الحال لا يتخلّف المسؤل عنه والله تعالى يعطى كلّا من كلّ شيء بقدر ذلك السّؤال ، ولسان القال ان لم يكن موافقا للسان الحال يتخلّف المسؤل عن السّؤال كما يشاهد من أكثر السّائلين المتضرّعين الّذين يتخلّف عنهم مسئولهم.

اعلم ، انّ الله تعالى ناظر الى سؤال الاستعداد ومعط بقدره فالمادّة الانسانيّة تسأل نضجا بالقوى النّباتيّة من الغاذية بجنودها والنّامية بجنودها والمولّدة باعوانها ، ومستقرّا من الكليتين والبيضتين وبعد تمام نضجها تستدعى وعاء تستقرّ فيه وتنمو وتتبدّل من صورة الى صورة ومن حال الى حال وتستدعى مربّيا يربّيها من النّفوس البالغة ومتصرّفا في ذاتها من القوى النّباتيّة بمراتبها الى ان يبلغ أو ان تولّدها وبعد التّولّد تستدعى الف الف ملك والف الف قوّة بها يتمّ فعلها ونموّها وبلوغها وخروجها من الدّنيا الى الآخرة فأعطاها الله كلّها ، هذا بحسب ما ندركه بمدركاتنا القاصرة وامّا ما لا ندركه فغير متناهية الى حدّ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ) الّتى أعطاكموها بمسئلتكم (لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) جواب سؤال عن حال الإنسان بإزاء تلك النّعم يعنى انّه ظلوم لانّه لا يستعمل النّعم فيما أعطيت له ويمنع المستحقّ عن الحقّ ويعطى لغير المستحقّ ،


وكفّار لأنّه يستر انعام الحقّ في النّعمة ولا ينظر الى الانعام ولا الى المنعم بل الى ذات النّعمة من غير اعتبار كونها نعمة من غيره بل يضيفها الى نفسه ويقول : انّما أوتيته على علم واستحقاق من نفسي (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) واذكر أو ذكّر قومك دعوة إبراهيم (ع) ومقالته فانّ فيها ترغيبا الى الخيرات وترهيبا عن الإشراك ومعرفة لبعض أو صاف الله وتعليما لطريق التّضرّع والمسألة منه وبيانا لشرف ذرّيّته وفي بيان شرفهم ترغيب للخلق إليهم ، وفي رغبتهم إليهم نجاة لهم في الآخرة وشرافة في الدّنيا (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ذا امن.

اعلم ، انّ بلدة مكّة وعمارتها كانت بسعى إبراهيم (ع) وتعميره كما انّ البيت كان بسعيه وتعميره فكان البلد مظهرا لصدره المنشرح بالإسلام المطهّر من الوساوس والارجاس ، والبيت مظهرا لقلبه الّذى هو بيت الله الحقيقىّ وقد أجاب تعالى شأنه دعاءه حيث جعل صدره مأمنا عن كلّ شرّ وفساد وبلده مأمنا بالمواضعة لأمره التّكليفىّ ان لا يتعرّض لأحد ولا لحيوان ولا نبات كان في الحرم (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) المصنوعة أو أصنام الاهوية أو كلّ ما يطاع ويعبد من دون اذن الله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) صرن سببا لاضلالهم أو اضللن بما ظهر من الشّيطان على صورهنّ من خوارق العادات وأيضا رؤساء الضّلالة الّذين هم الأصنام البشريّة اضللن كثيرا من النّاس (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الفاء جواب شرط محذوف كأنّه قال : فان أجبتنى الى مسئولى فمن تبعني فانّه منّى فأجبنى في حقّه أيضا والمقصود بالتّبعيّة التّبعيّة الحقيقيّة الّتى تحصل بالبيعة العامّة أو الخاصّة ولمّا كان التّابع يصير بتلك البيعة مرتبطا بالمتبوع بل متولّدا منه من حيث لطيفته التّابعة الرّوحية فالتّابع بتلك التّبعيّة يصير جزء من المتبوع فيصير بعضا منه ويصير متولّدا منه فيصير ناشئا منه (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فعاملهم بشأنك لا بشأنهم وقد ورد في أخبارنا الاماميّة انّ من أحبّنا فهو منّا ، ومن أطاعنا فهو منّا ، ومن اتّقى وأصلح فهو منّا أهل البيت (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعض ذرّيّتى وهو إسماعيل وقد ورد في أخبارنا : نحن بقيّة تلك الذّريّة ونحن هم ، ونحن بقيّة تلك العترة وكانت دعوة إبراهيم (ع) لنا خاصّة (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وادي مكّة (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الّذى حرّم التّهاون به والتّعرّض بمن كان في نواحيه وما كان فيها (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) لمّا كان المقيم في بلد الصّدر المنشرح بالإسلام والطّائف حول بيت القلب مقيما للصّلوة متوجّها الى الله وكان بلد مكّة وبيت الكعبة مظهرين لهما كان من كان مقيما فيهما وكان فيه لطيفة الهيّة يتوجّه الى الله توجّها أقوى وأتمّ ، ولذلك جعل الغاية اقامة الصّلوة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) اى من بعضهم ، وفي أخبارنا انّه لم يعن النّاس كلّهم أولئك أنتم ونظراؤكم ؛ بالخطاب لشيعتهم ، وورد انّه : ينبغي للنّاس ان يحجّوا هذا البيت ويعظّموه لتعظيم الله ايّاه وان يلقونا حيث كنّا ، نحن الادلّاء على الله (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قرئ بكسر الواو وفتحها من هوى إذا سقط ، وهوى إذا احبّ ، وعلى اىّ تقدير فهو يدلّ على كمال المحبّة والاشتياق ، وورد في أخبارنا : انّ دعوة إبراهيم (ع) كانت في حقّنا حيث لم يقل تهوى اليه حتّى يرجع الى البيت بل قال إليهم حالكون الضّمير راجعا الى الّذرّية ، وفي هذه الدّعوة طلب للتّوسعة على الّذرّيّة وطلب للنّجاة والفلاح للخلق (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ثمرات الأشجار الطّبيعيّة وثمرات الأشجار الرّوحيّة وهي الوداد والانقياد والذّوق والمعرفة والوصال والاتّحاد وغير ذلك ممّا يظهر في المعاد (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وبعد إتمام ما أراد من الدّعاء انتقل من مقام التّضرّع الى مقام الثّناء مثنيا بما يعين


على اجابة دعوته فقال (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) فأنت العالم بحاجاتنا ومصالحنا سألنا أو لم نسأل (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) تعميم بعد تخصيص والتّفات من الخطاب الى الغيبة اشارة الى تنزّله عن مقام الحضور ثمّ انتقل عن مقام الثّناء الى مقام الالتفات الى النّعمة والقيام بشكرها فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) مشتملا على كبر السّنّ واليأس عن الولد قيّد الثّناء به إظهارا لعظمة النّعمة دلالة على كمال القدرة (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) قيل ولد إسماعيل (ع) حالكونه ابن تسع وتسعين ، وولد إسحاق (ع) حالكونه ابن مائة واثنتى عشرة سنة (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) ذكر ذلك إظهارا لنعمة اخرى هي اجابته له في دعاء الولد ، ورجاء لا لإجابة دعائه الماضي وتمهيدا لاجابة دعائه الآتي (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) اقامة الصّلوة بان يكون صلوة القالب متّصلة بصلوة القلب وهي متّصلة بصلوة الرّوح (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) لمّا علم انّ اقامة الصّلوة بحيث صارت سجيّة للمصلّى المستفاد من لفظ مقيم الصّلوة خاصّة بمن له درجة النّبوّة أو الولاية وانّ جميع ذراريه لا يكونون أنبياء أتى بمن التّبعيضيّة (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) بالإجابة (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) آدم (ع) وحوّاء (ع) كما نسب الى الخبر أو والديه القريبين ، ونسب الى أهل البيت (ع) انّهم قرءوا لولدىّ يعنى إسماعيل (ع) وإسحاق (ع) (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) استيناف كلام من الله أو عطف على إذ قال وعامله والخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الحسبان (غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وعيد للظّالم ووعد للمظلوم (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) بالامهال (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) تبقى مفتوحة لا يقدرون ان يطرفوا (مُهْطِعِينَ) مسرعين الى اجابة الدّاعى (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يقدرون ان ينظروا الى أنفسهم لكمال دهشتهم وحيرتهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) خلاء عن الرّأى لفرط الوحشة ، أو عن الخير لغلبة الشّقوة ، وقيل : متصدّعة من فرط الدّهشة (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) من يوم يأتيهم العذاب أو هو مبنىّ وبدل من يوم تشخص فيه الأبصار أو هو ظرف للافعال السّابقة أو متعلّق بذكّر بدلا من انذر النّاس والمراد منه يوم حضور الموت (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) اى يقال لهم ذلك (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يعنى استننتم بسننهم ووقفتم في مقامهم أو سكنتم في منازلهم الصّوريّة بحيث شاهدتم آثار عذابهم وهلاكهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) موافقة لأحوالكم وانتقالكم الى الآخرة ، أو ضربنا لكم أمثال الّذين ظلموا حتّى تتنبّهوا أو تجتنبوا مثل أفعالهم (وَقَدْ مَكَرُوا) صرف الخطاب عنهم أو الضّمير راجع الى الّذين ظلموا (مَكْرَهُمْ) ما كان في وسعهم وجهدهم (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) يعنى مكرهم ثابت عند الله فيجازيهم عليه ، أو عند الله مكرهم فلا ينفذ ولا يؤثّر الّا باذنه ، أو عند الله مكرهم يعنى ان يمكر بهم مكرا لائقا بحالهم (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) انّه كان مكرهم أو ان شرطيّة وصليّة أو نافية اى وان كان مكرهم لعظمه مستعدّا (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) وما كان مكرهم لتزول منه الجبال بل كان أعظم ، وقرئ بفتح اللّام ورفع الفعل على


ان يكون ان هي المخفّفة واللّام للفصل (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بوعد النّصرة وإسكان الأرض من غير معاند (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) في موضع التّعليل (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) بدل من يوم يأتيهم العذاب أو ظرف لمخلف وعده أو لعزيز أو لذو انتقام أو متعلّق بذكّر أو اذكر مقدّرا (غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أو تبدّل ارض عالم الطّبع ارض عالم البرزخ وارض عالم المثال وذلك حين ظهور القائم عجّل الله فرجه في العالم الصّغير بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ ، وهو حين إتيان السّاعة والقيامة الصّغرى كما فسّر السّاعة بظهور القائم وبالقيامة وتلك الأرض المبدّلة لمّا لم يكن معها مادّة حاجبة وظلمة وامتداد مكانىّ وبعد جسمانىّ لا ترى فيها عوجا ولا امتا بحيث ترى البيضة الّتى في المغرب من المشرق ، وكذا لا يحجب أهل تلك الأرض ولا قصورها بعضها بعضا بل يرى الكلّ في الكلّ ومن وراء الكلّ ، لانّ الكلّ مرائى متعاكسات وغير حاجبات لما وراءها ولذلك قال (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) بحيث كلّما كان باطنا منهم في الدّنيا صار بارزا هناك وتحدّث الأرض اخبارها بإبراز ما كان مكمونا فيها ، والتّوصيف بالوحدة والقهّاريّة لظهور سلطان الوحدة هناك (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) جمع الصّفد بمعنى القيد وذلك لانّ اصفادهم المكمونة في الدّنيا تبرز هناك (سَرابِيلُهُمْ) قمصانهم (مِنْ قَطِرانٍ) القطران بفتح القاف وكسر الطّاء وهو قراءته بالفتح والسّكون وبالكسر والسّكون شيء اسود منتن يحلب من الأبهل وهو شجر كبير ورقه كالطّرفاء يطلى به الإبل الجربي يحرق الجرب بحدّته ويشتعل النّار فيه سريعا ، والمقصود انّهم يطلون بالقطران فيجعل لهم كالقمصان حتّى يتأذّوا بريحه ولونه وحدّته ويسرع إليهم اشتعال النّار ، وقرئ من قطر آن كلمتين منوّنتين والقطر هو الصّفر المذاب والإني البالغ في الحرّ وكأنّه بهذه القراءة فسّر في الاخبار بالصّفر المذاب (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) كناية عن غاية عجزهم وشدّة ابتلائهم فانّ الإنسان مهما كان له قدرة وحراك يدفع الموذي عن وجهه وان كان بجعل بعض أعضائه جنّة له (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) متعلّق بتبدّل الأرض أو ببرزوا (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ هذا) المذكور هاهنا من قوله (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) (الى آخر الآية) وامّا كونه اشارة الى القرآن أو الى السّورة فبعيد لانّ هذا الكلام يقال فيما لا قدر له بالاضافة الى غيره فيقال هذا القدر يكفى (بَلاغٌ) كفاية وكاف (لِلنَّاسِ) اى لجملة المؤمنين والكافرين (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) اى لينصحوا به ولينذروا ، أو المعطوف محذوف اى وانزل لينذروا به (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) انّما الله اله ومستحقّ للمعبوديّة واحد لا ثانى له في المعبوديّة (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) رتّب على كونه بلاغا ثلاث فوائد : الإنذار بالنّسبة الى الكفّار ، والعلم بوحدانيّته بالنّسبة الى المستعدّين للايمان ، والتّذكّر بالنّسبة الى المؤمنين العالمين ، ويحتمل ان يكون المعنى هكذا : هذا المذكور نزل لبلوغه الى النّاس ، ولينذروا به ، فيكون لينذروا به عطفا على بلاغ باعتبار المعنى.


سورة الحجر

تسع وتسعون آية وهي مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا قوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي

وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ، والّا قوله : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)

الجزء الرّابع عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) ظاهر الصّدق والمعنى أو يبيّن الغىّ عن الرّشد والحقّ عن الباطل ، وعطف القرآن على الكتاب للاشارة الى انّ المشار اليه كما انّه آيات كتاب النّبوّة وكتاب الفرق كذلك آيات كتاب الولاية وكتاب الجمع ، وتنكير القرآن للاشارة الى انّه آيات شأن من شؤن الولاية لا انّه آيات حقيقة الولاية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قرئ بتخفيف ربّ وتشديدها وما كافّة أو نكرة موصوفة ، ولو للتّمنّى أو مصدريّة ؛ والمعنى يودّ الّذين كفروا كثيرا إسلامهم حين الافاقة من سكر اهويتهم أو حين الملال من تعب كفرهم ، واستعمال ربّ للتّكثير كاستعماله للتّقليل شائع كثير ، وفي ربّ ستّ عشرة لغة ضمّ الرّاء وفتحها مع تشديد الياء وتخفيفها مفتوحة والكلّ مع تجرّدها عن التّاء واتّصالها بها حالكون التّاء ساكنة ومفتوحة وضمّ الحرفين مع التّشديد والتّخفيف وضمّ الرّاء وفتحها مع إسكان الباء مخفّفة (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) كما يأكل الانعام فانّ المقصود منه هذا المعنى في مثل المقام (وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم وهو اقناط للرّسول عن إسلامهم وتوهين وتهديد لهم (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أجل مكتوب مثبت والمستثنى مفرّغ واقع موقع الحال ويكفى في صحّة كون القرية ذا الحال وقوعه نكرة عامة في سياق النّفى (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) يعنون محمّدا (ص) (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) يعنون انّك تدّعى بطلان عبادة الأصنام الّتى كانت قديمة وتدّعى التّوحيد الّذى ما سمعنا به من أسلافنا وليس هذا الّا بجنونك وعدم تأمّلك في انّ مثل هذا لا يقبل وانّه لا ينفع لك ولا يحصل لك الغرض منه (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) فانّ لله ملائكة كثيرة لو كان أرسلك إلينا رسولا لا نزل معك ملائكة (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فقال تعالى ردّا عليهم


(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) قرئ بالنّون وبالياء والبناء للفاعل وبالتّاء والبناء للمفعول وبالتّاء والبناء للفاعل مفتوح التّاء أصله تتنزّل الملائكة (إِلَّا بِالْحَقِ) اى الّا مع الحقّ وإذا جاء الحقّ لم يبق منكم اثر لأنّكم باطلون ولا يبقى الباطل مع الحقّ ، وقد مرّ مرارا انّ الحقّ هو الولاية المطلقة وهي اضافة الحقّ الاوّل تعالى شأنه اضافة اشراقيّة وانّ كلّ حقّ فهو حقّ بحقّيّته ولذلك قال (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ردّ عليهم في استهزائهم بذكر تنزيل الذّكر (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ولا ينافي حفظه تعالى للّذكر بحسب حقيقته التّحريف في صورة تدوينه فانّ التّحريف ان وقع وقع في الصّورة المماثلة له كما قال (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ)(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في فرقهم والشّيعة هي الفرقة المتّفقة على طريقة واحدة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَذلِكَ) الإدخال على سبيل الاستهزاء أو كذلك الاستهزاء (نَسْلُكُهُ) ندخل الذّكر أو الاستهزاء (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) حال عن المجرمين أو عن مفعول نسلكه ، أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر ، أو مفسّره للجملة السّابقة (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) اى سنّة الله في الاوّلين أو طريقتهم المستعقبة للعذاب في الدّنيا والآخرة (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا) لغاية عنادهم وتشكيكهم (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) منعت من الأبصار بالسّحر أو جعلت حيارى كالسّكارى (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا محمّد (ص) ولذا نرى صعودنا في السّماء (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) امّا المراد بها البروج المشهورة الاثنى عشر أو منازل القمر أو درجات مسير الشّمس الثّلاث مائة والسّتّون ، وقد فسّر البروج بكلّ منها والبرج والقصر بمعنى ومن غرائب الحكمة وعجائب الصّنع انّ الفلك مع بساطته ممتاز بعض اجزائه عن بعض بخواصّ وآثار ، فانّ البروج الاثنى عشر وكذا المنازل الثّمانية والعشرون لكلّ اثر غير صاحبه كما علم بالتّجربة وأثبته المنجّمون في كتب الأحكام (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) بالكواكب المنيرة (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) حفظ بروج سماء الأرواح من الشّيطان واضح فانّ الشّياطين لكون عالمهم عالم الظّلمة والملكوت السّفلى لو صعدوا الى عالم الأرواح لفنوا عن ذواتهم ، وامّا بروج سماء الطّبع فقد يتوهّم انّهم يمكن لهم الصّعود إليها لتسلّطهم على عالم الطّبع على الإطلاق ، لكنّ التّحقيق انّهم كما كانوا مطرودين من عالم الأرواح كذلك مطرودون من الأجسام العالية ، لانّها لعدم تركّبها عن المتضادّات وبساطتها وصفائها محالّ للملائكة المدّبرين ومتعلّقات للنّفوس العلويّة وللأرواح العاليّة ، فأجسام الأفلاك بذواتها وان كانت لا تأبّى لها عن اتّصال الشّياطين بها لكنّ الأرواح المتعلّقة بها تأبّى اتّصال الشّياطين بها (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) استثناء متّصل أو منقطع.

بيان ردع الشّياطين بتولّد عيسى (ع) ومحمّد (ص) عن السّماوات

(فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) محقه وأدركه ، والشّهاب شعلة نار ساطعة ويطلق عليه اسم الكواكب فيقال كوكب انقضّ السّاعة وتتولّد الشّهب في كرة الدّخان كما حقّق في محلّه ، وليست هي كواكب كما هو المشهور في العرف وليست الشّياطين تتأذّى بها لكون الشّهب من المادّيّات والشّياطين من الرّوحانيّات ، بل المراد بالشّهب القوى الرّوحانيّة المتضادّة للشّياطين الرّادعة لهم عن ساحة حضور الأرواح الطّيّبه المتصوّرة للبصائر


المنفتحة بصور الشّهب سواء كان استراق السّمع من سماوات الطّبع أو من سماوات الأرواح ، وبما ذكرنا من وجه ردع الشّياطين من سماوات الطّبع وسماوات الأرواح يمكن التّفطّن بما ورد في الاخبار ، من انّ الشّياطين كانوا يصعدون الى السّماوات ، فلمّا ولد عيسى (ع) حجبوا عن ثلاثة منها وكانوا يخرقون اربع سماوات ، فلمّا ولد رسول الله (ص) حجبوا عن السّبع ، أو كان الشّياطين يصعدون السّماء فلمّا ولد محمّد (ص) ردعوا بالشّهب وكان ليلة تولّده كثيرة الشّهب ، وأمثال ذلك كثيرة ، مع انّ الشّياطين كانوا مطرودين من سماوات الأرواح وكذا من سماوات الطّبع كما سبق والوجه في ذلك انّ السّماوات في العالم الصّغير قبل تولّد الكلمة العيسويّة كانت مجتمعة بالقوّة في السّماء الدّنيا وهي سماء النّفس الانسانيّة وهي محلّ تصرّف الشّياطين ، فاذا تولّد الكلمة العيسويّة صار بعض ما بالقوّة بالفعل كسماء الصّدر المنشرح بالإسلام وسماء القلب وسماء النّفس الانسانيّة ويبقى الباقي بالقوّة ويطرد الشّياطين بواسطة تلك الكلمة عن هذه السّماوات ، وبعد تولّد الكلمة المحمّديّة (ص) الجامعة لجميع المراتب بالفعل يصير جميع ما بالقوّة بالفعل فيتميّز السّماوات السّبع ويطرو الشّياطين من الكلّ ، الّا انّه مترصّد من جهة النّفس الحيوانيّة لان يسترق حين الفرصة من سماء النّفس الانسانيّة الدّنيا استماع بعض الأشياء فيتّبعه شهاب تذكّر الإنسان بنور الايمان واليه أشير بقوله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت وقد ذكر وجه الانتفاع ببسط الأرض وإلقاء الجبال وانّ فيهما حكما ومصالح كثيرة (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) ان رجع ضمير فيها الى الجبال فالمراد بالموزون ما يوزن ويباع بالوزن كالفلزّات فانّها تنبت في الجبال ، وان رجع الى الأرض فالمراد الموزون المقدّر لمنافعكم والمعدود لمصالحكم ، وان كان راجعا إليهما جميعا فالمراد منه معنى اعمّ من المعنيين (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) ما تعيشون به من الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على معايش اى وجعلنا لكم خدما وإماء وعبيدا وانعاما لستم لها برازقين وكان تغليبا لجانب ذوي العقول ، أو عطف على المجرور في لكم على بعد لعدم عادة حرف الجرّ والمعنى وجعلنا لكم معايش وجعلنا لمن لستم له برازقين معايش كالمجانين والسّفهاء وغيرهم من أهل الجزائر الّذين يعيشون كالبهائم والسّباع ويلحقون بها.

بيان انّ لكلّ شيء خزائن عند الله

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) اعلم ، انّه قد يطلق الشّيء ويراد به ما يساوق الموجود فيشمل الحقّ الاوّل تعالى شأنه ، وقد يطلق ويراد به الشّيء وجوده فلا يشمل الحقّ الاوّل ولا حضرة الأسماء ولا حضرة الفعل الّذى هو مبدء إضافاته ، ويشمل الممكنات كلّها من حضرة العقول المعبّر عنها بالأقلام العالية والملائكة المقرّبين ، وحضرة الأرواح المعبّر عنها بأرباب الأنواع والصّافّات صفّا ، وحضرة النّفوس الكلّيّة المعبّر عنها بالالواح الكلّيّة المحفوظة والمدبّرات امرا ، وحضرة النّفوس الجزئيّة المعبّر عنها بألواح المحو والإثبات وبعالم المثال باعتبارين ويشمل موجودات عالم الطّبع تماما ، وكلّ ما في تلك الحضرات له حقيقة في حضرة الأسماء وحقيقة في حضرة الفعل والاضافة الالهيّة الاشراقيّة ، وكلّ ما في حضرة الفعل له حقيقة أيضا في حضرة الأسماء ، وكلّ ما في حضرة الأرواح له حقيقة في حضرة الأقلام وحقيقة في حضرة الفعل وحقيقة في حضرة الأسماء ، وهكذا حضرة النّفوس الكلّيّة وما فيها وحضرة النّفوس الجزئيّة وما فيها وعالم الطّبع وما فيها ، وبعبارة اخرى كلّ دان له صورة بالاستقلال في العالي وصورة بالاستقلال في عالى العالي وصورة بتبع العالي في عالى العالي فلكلّ شيء من الممكنات حقائق في حضرة


الأسماء استقلالا وتبعا وهكذا في حضرة الفعل وهكذا في حضرة الأقلام الى عالم المثال ، وكلّ تلك الحضرات من حيث انّها عوالم مجرّدة عن المادّة وأغشيتها تسمّى عند الله ولدن الله لحضورها في محضره ، ولمّا كان تلك الحقائق محفوظة عن التّغيّر والتّبدّل كالأشياء النّفسية المخزونة المحفوظة سمّاها تعالى بالخزائن ، فكلّ ما في عالم الملك فله حقيقة في عالم المثال ينزّله تعالى شأنه من عالم المثال الى عالم الملك بقدر استعداد المادّة لقبوله وحين استعدادها ، وهكذا من النّفوس الكلّيّة الى عالم المثال ، وهكذا الأمر في العالي والا على الى حضرة الأسماء. ولمّا كان موجودات عالم الملك متجدّدة بالتّجدّد الذّاتيّ بمعنى انّها كلّ آن فانية عن ذواتها وموجودة بموجدها كما حقّق في محلّه فما من شيء ممّا في عالم الملك الّا ويفنى آنا فآنا وينزّله تعالى من خزائنه آنا فآنا فلذلك قال (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) بصيغة المضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) ملقحات فانّ اللّاقح هو الحامل والملقح هو الجاعل للشّيء حاملا يعنى وممّا ننزّل بقدر الرّياح اللّواقح الّتى لا اعتناء لكم بها وفيها منافع لكم منها تسيير السّحاب في السّماء لامطار المطر ولهذا كانت بشرى بين يدي رحمته وقال (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) بالفاء الدّالّة على التّعقيب (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) حتّى تقدروا على انزاله ومنعه بل هو أيضا ممّا ننزّله بقدر فالمقصود إثبات خازنيّة الماء لنفسه استدلالا على ما ادّعاه من انّ كلّ شيء خزائنه عنده (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) كأنّ سابقه كان لاثبات المبدئيّة وحصرها في نفسه وهذا لاثبات المالكيّة والمرجعيّة وحصرهما في نفسه (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) اى المستقدمين ولادة والمستأخرين الموجودين في زمان واحد ، أو المستقدمين الّذين مضى زمان وجودهم والمستأخرين الّذين لم يأتوا بعد ، أو المستقدمين في مراتب الايمان والإسلام والآية بحسب التّعميم شاملة للجميع ولعلّ المقصود كان هذا التّعميم لانّ المراد بيان احاطة علمه تعالى بعد بيان مبدئيّته ومرجعيّته والتّعميم ادلّ على ذلك (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ) وحكمته تقتضي الحشر والمجازاة وإيصال كلّ الى مقتضاه (عَلِيمٌ) يعلم قدر كلّ ومحشره واقتضاءه ، ثمّ لمّا اثبت ألهته في مبدئيّته ومرجعيّته ومالكيّته واثبت حكمته وعلمه اثبت مبدئيّته لخصوص الإنسان لانّه أشرف الموجودات وانّ مبدئيّته له ادلّ على حكمته وقدرته وعلمه وذكر مبدئيّته للجانّ تبعا فقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ذكروا لتلك الكلمات معاني أوجهها ان يكون المراد بالصّلصال الشّيء المنتن ، والحمأ الطّين الأسود لطول مجاورته للماء ، شبّه النّطفة بالحمإ لانّه يبقى في العروق واوعية المنىّ مدّة طويلة كالطّين الأسود في الأنهار ، والمسنون المصبوب لانّها تصبّ في الرّحم (وَالْجَانَ) قيل : المقصود منه ابو الجنّ ، وقيل : إبليس ، وقيل : أريد به الجنس كما هو الظّاهر من لفظ الإنسان (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) قبل خلق الإنسان (مِنْ نارِ السَّمُومِ) السّموم الرّيح الحارّة الشّديدة الحرّ المعروفة وكثيرا ما تكون في البلاد الحارّة وهي ريح شديدة الحرّ منتنة حادثة من الأراضي السّبخة الكبريتيّة المتسخنة بالشّمس ولها سمّيّة ولذلك تسمّى سموما ، شبّه الكيفيّة الحادثة من اختلاط القوى الطّبيعيّة العنصريّة السّبخة مع القوى الرّوحانيّة وتسخّنها بحرارة الشّمس الحقيقيّة بالنّار الّتى تظهر في الهواء من اختلاط سطوح الأراضي السّبخة مع ضوء الشّمس ، وتولّد الجنّ منها بالدّخان الحاصل من النّار فانّه بعد انتهاء الوجود الى عالم الملك يحدث منه ظلّ ظلمانىّ ودخان الى أسفل


السّافلين ويحصل الملكوت السّفلى ودار الجنّة والشّياطين وذلك قبل خلقة مواليد عالم الطّبع أو قبل خلقة الإنسان وقد مضى في اوّل البقرة عند قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ؛ الآية ، تحقيق تامّ لكيفيّة خلق الجنّة والشّياطين هذا في العالم الكبير ، وامّا في العالم الصّغير فالجانّ ابو الجانّ هو الواهمة المتولّدة من حرارة الاخلاط الحاصلة من تسخّنها بشمس الرّوح وخلقتها قبل خلقة الإنسان كما هو المشهود (وَإِذْ قالَ) واذكر إذ قال (رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتممت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقد خلقتني من النّار الّتى هي أشرف العناصر وذلك الصلصال اخسّ مواليد العناصر (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من السّماء أو من الجنّة أو من الملائكة أو من المنزلة والرّياسة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) حرصا على البقاء وفسحة في الإغواء (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) لمّا أراد البقاء الى يوم البعث وهو يوم الأحياء بالنّفخة الثّانية وأمد إبليس الى النّفخة الاولى قال اجابة لملتمسه لكن لا الى الوقت المسؤل بل الى الوقت المعلوم الّذى هو وقت النّفخة الاولى ، وقد فسّر في الاخبار الوقت المعلوم بظهور القائم عجّل الله فرجه وذبحه ايّاه أو ذبح رسول الله (ص) ايّاه وبوقت النّفخة الاولى والكلّ راجع الى امر واحد وان ادّى باختلاف الاعتبارات بعبارات مختلفة (قالَ) غيظا (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) كما هو عادة اتباعه فانّهم إذا لم يجدوا ما طلبوا نسبوا التّقصير الى غيرهم بل الى سيّدهم (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قرئ بكسر اللّام وفتحها (قالَ هذا صِراطٌ) حقّ (عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) لا اعوجاج فيه والمشار اليه امّا الإخلاص أو عدم تسلّطه على المخلصين أو تزيينه أو اغواؤه لغير المخلصين ، وسرّ كونه صراطا مستقيما حقّا على الله تعالى انّ الإنسان خلق ومن كلّ شيء فيه قوّة بنصّ (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) ، والمقصود من خلقته ان يصير في الكلّ بالفعل لكن لمّا كان في كلّ شيء جهة تعيّن وبطلان وجهة اطلاق وحقّيّة والمقصود من فعليّتها فعليّة حقّيّتها في الإنسان مع استخلاصها من البطلان ولا يحصل الفعليّة الخالصة من جهة البطلان الّا بوسوسة الشّيطان وإغوائه فانّ وسوسته كالنّار للّذهب وقد قال المولوىّ قدس سرّه :

ديو كه بود كو ز آدم بگذرد

بر چنين نطعى از أو بازى برد

در حقيقت نفع آدم شد همه

لعنت حاسد شدة آن دمدمه

بازيى ديد ودو صد بازى نديد

پس ستون خانه خود را بريد

خود زيان جان أو شد ديو أو

گوئى آدم بود ديو ديو أو

فالصّراط المستقيم هو النّفس الانسانيّة الواقعة بين طرفي وساوس الشّيطان وزواجر الملك وبهما يحصل كمال له ويتمّ سيره الى مولاه :


بيان السعادة

من چو آدم بودم اوّل حبس كرب

پر شد اكنون نسل جانم شرق وغرب

ولولا وسوسة الشّيطان واغواؤه لما امتلأ الدّنيا من نسل آدم (ع) ، وقرئ : صراط علىّ وعلى وزن فعيل وصفا للصّراط ، ونقل : صراط علىّ بإضافة الصّراط الى علىّ (ع) وفسّر الصّراط أو علىّ بأمير المؤمنين (ع) (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ممّن هو مثلك في الغواية والضّلالة الّذاتيّة التّكوينيّة (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الغاوين المتّبعين (جُزْءٌ) صنف (مَقْسُومٌ) كون أبواب جهنّم ودركاتها سبعة باعتبار طبقات الأرض السّبع : الهيولى الاولى والامتداد الجسمانىّ والطّبع العنصرىّ والمادّة الجماديّة والمادّة النّباتيّة والمادّة الحيوانيّة والمادّة الانسانيّة المعبّر عنها بالصّدر المنشرح بالكفر والنّفس الامّارة ، ولكلّ طبقة باب منه يدخل فيها ويخرج منها ، وهذه الطّبقات بظواهرها المدركة واقعة في الدّنيا وببواطنها واقعة في الملكوت السّفلى ودار الأشقياء ودركات جهنّم وأبوابها بإزاء تلك الطّبقات ، وما ورد من انّ جهنّم في الأرض السّابعة أو تحت الأرض اشارة الى ما ذكر وتلك مجتمعة في الإنسان لكنّها منصبغة بالنّفس الانسانيّة بحيث لا حكم لها سوى حكم النّفس ، ولذلك يسمّى الإنسان إنسانا ولا يسمّى أرضا ولا نارا ولا جحيما وخلدا وما لم تفارق النّفس الانسانيّة عنها لم يكن لها حكم وكان أبوابها غير منفتحة بل مطبقة كما أشير اليه في الآيات والاخبار ، ولمّا كان بإزاء كلّ طبقة من طبقات الأرض سماء والجنان الثّمان كانت بإزاء السّماوات السّبع وكان فوق السّبع جنّة اللّقاء والرّضوان صارت درجات الجنان ثمانيا وكانت أبوابها ثمانية. ولمّا كانت اللّطيفة الانسانيّة سماويّة ومجانسة للّسماوات فهي من اوّل خلقته داخلة في السّماوات الّتى هي بإزاء درجات الجنان وأبوابها ولذلك كانت أبواب الجنان مفتوحة والإنسان واقع في تلك الأبواب وان لم يكن داخلا في الجنان ففي الآيات القرآنيّة بالنّسبة الى أهل الجحيم : ادخلوا أبواب جهنّم ، في عدّة مواضع ، وبالنّسبة الى أهل الجنان : ادخلوها وليس في الكتاب ادخلوا أبواب الجنان ، وقد تفسّر أبواب الجحيم بالرّذائل السّبع الّتى هي أمّهات الرّذائل على اختلاف الأقوال في تعيينها ، وأبواب الجنان بالخصائل الثّمان الّتى هي أمّهات الخصائل على اختلاف في تعيينها. وقد تفسّر أبواب الجحيم بالمدارك الخمسة الظّاهرة والخيال المدرك لصّور والوهم المدرك للمعاني ، وأبواب الجنان بتلك المدارك مع العاقلة ولا يخفى وجه المناسبة لكنّ الحقّ والتّحقيق انّ الجحيم وأبوابها حقيقة موجودة في خارج هذا العالم في الملكوت السّفلى ، وما ذكروا مناسبات لعدد طبقاتها وأبوابها لا انّه هي بعينها. وفي الخبر انّ للنّار سبعة أبواب ؛ باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون ، وباب يدخل منه المشركون والكفّار ومن لم يؤمن بالله طرفة عين ، وباب يدخل منه بنو أميّة هو لهم خاصّة لا يزاحمهم فيه أحد وهو باب لظى وهو باب سعير وهو باب الهاوية يهوى بهم سبعين خريفا فكلّما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفا فلا يزالون هكذا أبدا خالدين مخلّدين ، وباب يدخل منه مبغوضنا ومحاربونا وخاذلونا وانّه لأعظم الأبواب واشدّها حرّا (الى آخر الحديث) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وعد للمتّقين عن متابعة الشّيطان في مقابلة وعيد التّابعين له (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) على تقدير القول (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الحقد يعنى نزعنا في الدّنيا قبل الآخرة ولذلك دخلوا الجنّة بسلام آمنين ، أو نزعنا في الجنّة ما في صدورهم من قوّة الحقد فانّ الإنسان ما دام في الدّنيا قلّما بخلو من


قوّة الحقد (إِخْواناً) حال (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) في الاخبار : أنتم والله الّذين قال الله ونزعنا ما في صدورهم ، وو الله ما أراد بهذا غيركم (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) تعب (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تقوية لرجائهم (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) تقوية لخوفهم (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) لامتناعهم عن الاكل كما سبق (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ورد في الاخبار انّ البشارة جاءته من الله فمكث ثلاث سنين ثمّ جاءته البشارة مرّة بعد اخرى بعد ثلاث سنين (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) بأمر واقع حقّ (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) لقدرته تعالى على ما لم يوافقه الأسباب (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) من طريق معرفة الله وقدرته (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أمركم وشغلكم بعد البشارة (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) اى قوم لوط (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء من قوم مجرمين منقطعا أو متّصلا أو من المستتر في مجرمين (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) علّق قدّرنا لما فيه من معنى العلم ، والغابر بمعنى الباقي اى من الباقين مع الكفرة للهلاك (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ) لوط (ع) بعد مشاهدتهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) لا أعرفكم اولا آنس بكم لظنّ الشّرّ بكم (قالُوا) لسنا بذي شرّ لكم (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) من العذاب (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) بالأمر الحقّ الّذى لا تخلّف فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد لتحقّقه (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) وكن على ادبارهم كالمراقب الحافظ (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ) الى ورائه (أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) يعنى يدرككم الأمر الالهىّ حين الخروج فامضوا حيث تؤمرون حينئذ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) الى لوط (ع) (ذلِكَ الْأَمْرَ) اى انهينا اليه علم ذلك الأمر المبهم الّذى يفسّره قوله (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) يعنى يستأصلون من اخرهم (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) بعد اطّلاعهم بواسطة امرأة لوط (ع) كما مضى (يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط (ع) طمعا فيهم وبدخول لوط (ع) على زعمهم في مثل فعلهم (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) لا تذلّون من الخزي بمعنى الهوان أو لا تخجلون عند ضيفي من الخزاية بمعنى الحياء (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) اى عن ضيافة النّاس (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ لَعَمْرُكَ) يا محمّد (ص) اى بحيوتك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يتحيّرون والإتيان بالمضارع لاحضار الحال الماضية (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشّمس (فَجَعَلْنا عالِيَها) عالى قراهم (سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) معرّب «سنگ گل» وقد مضى تفصيل اهلاكها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) المتفرّسين الّذين يعرفون الأشياء بسماتها (وَإِنَّها)


اى القرى أو آثار الهلاك أو الآيات (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) باق غير مندرس يسلكه النّاس ويشاهدون آثار قراهم وهلاكهم ، وورد عنهم (ع) انّا نحن المتوسّمون وانّ السّبيل فينا مقيم ، وورد انّ في الامام آية للمتوسّمين وهو السّبيل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) تأكيد للاوّل بابدال المتوسّم بالمؤمن ، أو المراد انّ في ذلك التّوسّم لآية للمؤمنين (وَإِنْ كانَ) انّه كان (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيك الشّجر الملتفّ الكثير أو الجماعة من كلّ شجر حتّى من النّخل الواحدة الايكة ، أو الاجمة الكثيرة الشّجرة والمراد بهم قوم شعيب (ع) من أهل مدين أو من أهل القرية الّتى كانت غير مدين (لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما) اى الايكة ومدين أو قرئ قوم لوط وقرئ أصحاب الايكة (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) طريق واضح يؤمّه المارّة ، والامام ما يؤمّ من طريق وغيره (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعنى ثمود كذّبوا صالحا ولعلّه كان لهم رسل اخرى ، أو جعل تكذيب الواحد تكذيبا للكلّ ، أو الجمع باعتبار من كان مع الرّسول من المؤمنين ، والحجر اسم واديهم وهو واد بين المدينة والشّام وكانوا يسكنونه (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) كالنّاقة وولدها وشربها (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) لقوّة أبدانهم وطول أعمارهم وآمالهم (آمِنِينَ) من الانهدام ونقب السّرّاق وتخريب الأعداء ، أو آمنين من عاقبة أمرهم ونزول العذاب بهم في الدّنيا أو في الآخرة ، أو مريدين كونهم بذلك آمنين من الآفات (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من البيوت في الأحجار وكثرة المال والعدد (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) مرّ نظائر الآية مرارا وهذا تمهيد للأمر بالصّفح يعنى انّ قومك متلبّسون بالحقّ وأنت أكمل الأنبياء (ع) فلا ينبغي لك ان تنظر الى تكذيبهم وسوء صنيعهم بك وتدعو عليهم أو تغضب عليهم فانّ غضبك كدعائك موجب لبعدهم عن الرّحمة وأنت نبىّ الرّحمة فكن سببا لقربهم من الرّحمة لا لبعدهم عن الرّحمة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فمن كان منهم مستحقّا للعقوبة والسّياسة لا يفلت عنّا فتوكّل علينا وكل أمورهم إلينا ولا تعاجلهم بالدّعاء كسائر الأنبياء (ع) (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الّذى لا عتاب فيه ولا منّ ، والعفو ترك المكافاة ، والصّفح إخراج اثر المساءة من القلب ، ويستعمل كلّ في كلّ وكلّ في الاعمّ وكأنّهما كالفقراء والمساكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) التّعليق على وصف الرّبوبيّة دون سائر الأوصاف للاستعطاف والمعنى انّ الّذى يربّيك ويتلطّف بك هو خالقهم فلا ينبغي لك المعاجلة في معاقبة مخلوق من هو يربّيك (الْعَلِيمُ) بحالهم فيكافئهم على ما اقتضته حالهم فالآية من قوله : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ) (الآية) استعطاف له (ص) على قومه واستبطاء عن المعاجلة في المعاتبة والدّعاء (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) تمهيد لقوله : لا تمّدن عينيك فانّ من اعطى السّبع المثاني كان غنيّا مطلقا فلا ينبغي مدّ نظره الى غيره ، والمثاني جمع المثنى بمعنى اثنين اثنين ، وقيل ، جمع المثنى من الثّناء وقد سبق انّ مراتب العالم باعتبار سبع ، وانّها باعتبار النّزول والصّعود تصير متكرّرة ومثاني وانّ القرآن صورة تدوين تلك المراتب وانّ فاتحة الكتاب مختصرة من القرآن وانّه مجموع فيها ، وانّ الائمّة هم المتحقّقون بتلك المراتب ، وانّ محمّدا (ص) صاحب المقام المحمود وهو مقام جمع الجمع في لسان الصّوفيّة وانّ ذلك المقام هو القرآن العظيم فصحّ تفسير السّبع المثاني بالقرآن جملة ، وبسورة


فاتحة الكتاب ، وبالمثاني من السّور وبالسّور السّبع الطّول من اوّل القرآن الى آخر براءة على ان يجعل الأنفال وبراءة واحدة وبالصّحف السّابقة وبالكتب السّماويّة تماما وبالأئمّة (ع) (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفّار لانّه في غاية الحقارة في جنب ما أوتيت فلا ينبغي قطع النّظر عمّا أوتيت والنّظر الى مثل هذا الشّيء الحقير (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يعنى انّك أوتيت ما به كما لك في دنياك وآخرتك فلا ينبغي ان تتأثّر من غيرك بان تنظر الى ظاهر المتنعّمين فيتحرّك رغبتك البشريّة أو تنظر الى باطنهم وانّهم منصرفون عن الايمان الموصل الى الجنان الى الكفران الموصل الى النّيران فتنقبض وتحزن على ذلك بل كن في الحالين كأمير الحالين غير متأثّر منهما وليكن حالك بالنّسبة الى من آمن حال التّواضع والتّذلّل والتّحبّب لانّهم بلطيفة الايمان مظاهرك بل مظاهر الله تعالى والتّواضع لهم تواضع لله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) مستعار من خفض الطّيّور جناحها لقرينها حين التّذلّل والتّحبّب لها ، عن رسول الله (ص) : من أوتى القرآن فظنّ انّ أحدا من النّاس اوتى أفضل ممّا اوتى لقد عظّم ما حقّر الله وحقّر ما عظّم الله (وَقُلْ) بالنّسبة الى من نهيتك عن الرّغبة في ظاهرهم والحزن على باطنهم (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) الّذى يظهر إنذاره بحيث لا يخفى دلالته على صدقه ولا دلالته على المنذر به (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) يعنى آتيناك سبعا من المثاني كالّذي أنزلنا على المقتسمين من أهل الكتاب الّذين اقتسموا هممهم على الأطماع والأحزان والآمال فجعلوا القرآن ما يوافقهم منه مقبولا وما يخالفهم منه مردودا ، أو قل انّى انا النّذير المبين بعذاب مهين كما أنزلنا على المقتسمين قيل : المقتسمون كانوا اثنى عشر رجلا اقتسموا محالّ دخول مكّة وخروجها ايّام الموسم لينفروا المؤمنين عن الايمان بالرّسول (ص) ، وقيل : هم الّذين تقاسموا على قتل محمّد (ص) ، وقيل : هم الّذين تقاسموا على ان يبيّتوا صالحا (ع) ، وقيل : هم اليهود اقتسموا الكتب السّماويّة فأظهروا بعضها وأخفوا بعضها ، أو التّوراة فأظهروا بعضها وأخفوا بعضها ؛ وعلى هذا فالمراد بالقرآن فيما بعد مطلق المقروّ السّماوىّ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) جمع العضة من العضوة بمعنى العضو اى جعلوا القرآن أعضاء وأجزاء ، أو جمع العضة من عضيته إذا بهتّه اى جعلوا القرآن اسمارا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) من تقسيم القرآن أو جعله اسمارا أو من سائر ما فعلوا (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ولا تبال بقبولهم وردّهم وباستهزائهم وعدم استهزائهم ، والمراد منه اجهر به من صدع بالحجّة إذا تكلّم بها جهارا ، أو فرّق به بين الحقّ والباطل ، أو فرّق الحقّ وانثره بحيث لا يكاد تجمع ويذهب به أو شقّ وفرّق به جماعات الكفّار (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم وقد ورد في أخبارنا انّ الآية نزلت بمكّة بعد ان اكتتم محمّد (ص) امره بعد بعثته خمس سنين أو ثلاث سنين ولم يكن معه الّا علىّ (ع) وخديجة (ع) ثمّ امر بالإظهار فكان يظهر امره على قبائل العرب (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من تكذيبك والطّعن فيك والاستهزاء بك وبدينك وبإلهك وبكتابك وصلوتك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) فاشغل نفسك عنهم واشتغل بما هو شأنك من عبادة ربّك (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) اى الموت فانّه المتيقّن فالمعنى حتّى يأتيك الأمر المتيقّن ، أو لانّ اليقين الكامل بالمغيبات


لا يحصل الّا بعد رفع حجاب البدن بالموت الاختيارىّ هذا ما قيل ؛ والحقّ انّ اعتبار مفهوم الغاية ودخولها وخروجها عن المغيى بها امر لا حجّة عليه من العرف واللّغة ، فالمقصود انّك علمت علما اجماليّا وكلّ من علم امرا اجمالا طلب التّفصيل فيه واليقين به بمراتب اليقين من علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين كما أشار اليه المولوىّقدس‌سره :

هر گمان تشنه يقين است اى پسر

ميزند اندر تزايد بال وپر

چون رسد در علم پس بر پا شود

مر يقين را علم أو پويا شود

علم جوياى يقين باشد بدان

وان يقين جوياى ديد است وعيان

اندر ألهيكم بيان اين ببين

كه شود علم اليقين عين اليقين

فكأنّه قال : ان كنت تريد اليقين بمراتبه وتفصيل المعلوم فاشتغل بعبادة ربّك حتّى يحصل لك مطلوبك من مراتب اليقين ، امّا عدم العبادة بعد اليقين فغير مستفاد منه الّا باعتبار مفهوم الغاية وقد عرفت ضعف اعتباره ؛ وقد قال بعض المتصوّفة المسقطين للعبادات : انّ العبادة لحصول اليقين فاذا حصل اليقين فلا حاجة الى العبادات ، وتوسّلوا بمفهوم مثل هذه الآية ومتشابهات الآيات والاخبار وأقوال الكبار من أهل اليقين من غير غور وتعمّق في مغزاها.


سورة النّحل

مائة وثمان وعشرون آية ، وهي مكّيّة كلّها ، وقيل : من اوّلها الى قوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا

فِي اللهِ) مكّيّة ، والباقي مدنيّة ، وقيل : مكّيّة غير ثلاث آيات وهي قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ)

(الى آخر السّورة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) كانوا يستعجلون ما وعدهم الرّسول (ص) من العذاب والإهلاك وقيام السّاعة والحساب والعقاب يوم القيامة استهزاء به وبرسالته وبايعاده فقال تعالى : أتى أمر الله بالإهلاك بالماضي للاشارة الى تحقّقه أو للاشارة الى قرب حصوله وكانوا يقولون استهزاء إذا وقع ما توعّده فأصنامنا تشفع لنا فقال تعالى (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فلا يشفع شيء لهم ولا يدفع الأصنام شيئا من عذابه (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار مادّته في الرّحم يقع في تدبير الملائكة فيربّونه ويجلبون ما يحتاج اليه ويدفعون عنه ما يضرّه وانّ الله تعالى يبعث عليه بمحض فضله ملائكة ويزداد عددهم يوما فيوما وآنا فآنا الى أو ان البلوغ ، فان ساعده التّوفيق واستعان بالله اختيارا كما كان مستعينا به تكوينا قبل ذلك لم ينقطع إمداده بالملائكة بعد ذلك أيضا ، والملائكة الّذين كانوا موكّلين به كانوا ملائكة ارضيّين وهم الملائكة الّذين أمروا بالسّجود لآدم (ع) وبعد ذلك يكون الأمداد بالملائكة السّماويّة ويزداد كلّ يوم عددهم الى ان بلغ الى مقام العبوديّة واوّل ظهور الرّبوبيّة وحينئذ بمدّة بالعظام من الملائكة كجبرئيل وميكائيل ، ويمدّه أيضا بالرّوح وهو أعظم من جبرئيل وميكائيل كما ورد في الاخبار ، ولعلّ الرّوح هاهنا اشارة الى الملك المعتنى بتربية نوع الإنسان ويسمّيه الاشراقيّون ربّ النّوع وله بعدد كلّ إنسان وجه كما في الخبر وهو المحيط بجميع افراد الإنسان بل بجميع موجودات العالم لانّ جميع الأنواع تحت نوع الإنسان ، وجميع أرباب الأنواع تحت ربّ النّوع الانسانىّ ، وجميع الموجودات تحت أرباب أنواعها فجميع الموجودات تحت ربّ النّوع الانسانىّ وعلى هذا فالمعنى ينزّل الملائكة مع الرّوح ، أو ينزّل الملائكة بسبب الرّوح وتوسّطه ، وعلى الاوّل فالمنزّل عليه الخواصّ من الأنبياء وعلى الثّانى جملة الأنبياء ، أو المراد بالرّوح ما يحيى به القلوب من الجهل تشبيها بالرّوح الّتى يحيى


به الأبدان ، أو المراد بالرّوح الّنّبوّة الّتى بها حيوة كلّ شيء ، وعلى هذا فالمعنى ينزّل الملائكة الرّوح من عالم امره على من يشاء من عباده وللرّوح معان أخر مذكورة في الاخبار ومصطلحة بين أرباب الصّنائع وهذا الرّوح الّذى هو أعظم من جبرئيل يكون مع العظماء من الأنبياء والأولياء (ع) كخاتم النّبيّين (ص) وخلفائه المعصومين (ع) وقوله : من امره ، اى من عالم امره فانّ الملائكة النّازلة والرّوح من عالم الأمر مقابل عالم الخلق (أَنْ أَنْذِرُوا) ان مصدريّة أو تفسيريّة فانّ الانزال يستلزم معنى القول ، وانذروا بمعنى اعلموا أو بمعنى احذروا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وكون التّوحيد محذرا به لاستلزامه الاستقلال في الحكومة والتّصرّف والمستقلّ في الحكومة يحذر من مخالفته (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بمنزلة التّعليل للتّوحيد (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) بدل نحو بدل البعض (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ولا يتمشّى من الطّبع والدّهر مثل ذلك الخلق (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ما تستدفئون به من أصوافها وأوبارها واشعارها وجلودها (وَمَنافِعُ) من لحومها وضروعها وظهورها واثارة الأرض بها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من الشّحوم واللّحوم والألبان (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) ترجعونها بالرّواح الى المناخ والمغنم (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تخرجونها للسّرح والرّعى بالغداة فانّ الافنية تتزيّن بها في الوقتين ويجلّ أهلها في أعين النّاظرين إليها ، وتقديم الاراحة لانّها حينئذ تقبل والإقبال أزين من الأدبار ملاء البطون ثمّ تأوى الى الحظائر حاضرة لأهلها ، وفي الغداة بالعكس ، (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا) بأنفسكم (بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) فضلا عن ان تحملوا الأثقال على ظهوركم (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) بكم لانّه خلق لكم ما تنفعون به وتحتاجون اليه (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) لانتفاعكم من موجودات عالم الطّبع ممّا في الأرض والسّماء وموجودات عالم الأرواح (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) لمّا ذكر في خلقة الإنسان جملة ما يحتاج اليه في معاشه ووصوله الى خيراته وكان السّبيل المقتصد الخارج عن الإفراط والتّفريط في كلّ شيء ان يكون أسباب وصوله الى خيراته الاوّليّة الّذاتيّة والى خيراته الثّانويّة بقدر حاجته موجودة ، والسّلوك الى خيراته الاوّليّة الّذاتيّة والى خيراته الثّانويّة بقدر حاجته ، موجودة وكان السّلوك الى خيراته غير متعسّر قال : لا اختصاص لقصد السّبيل بالإنسان بل على الله قصد السّبيل لكلّ شيء (وَمِنْها جائِرٌ) وبعض السّبل حائد عن الاعتدال أو المقصود انّ خلقتكم وخلقة ما تحتاجون اليه هي السّبيل الى خيراتكم البدنيّة وكمالاتكم الدّنيويّة التّكوينيّة الغير الاختياريّة ، وامّا خيراتكم الرّوحيّة الاخرويّة وكمالاتكم الانسانيّة الاختياريّة فعلى الله قصد السّبيل في ذلك بإعطاء العلم والمعرفة وإرسال الرّسل وإنزال الكتب وتهيّة جميع ما تحتاجون اليه في تحصيل هذه ، فان وقع حيف وميل ونقص وجور فهو من عند أنفسكم غير راجع الى الله ، فمن خرج عن الاقتصاد في الطّريق الى الجور فيه فهو بشآمة استعداده وكسبه (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالايصال الى قصد الطّريق والسّير عليه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) اعمّ من النّبات (فِيهِ تُسِيمُونَ) في الشّجر ترعون مواشيكم (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)


لمّا كان كون إنزال الماء وإنبات النّبات والأشجار آية محتاجا الى تأمّل وترتيب مقدّمات قال : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) قرئ الشّمس والقمر والنّجوم مسخّرات كلّها بالرّفع ، وقرئ الشّمس والقمر بالنّصب والنّجوم مسخّرات بالرّفع ، وقرئ الجميع بالنّصب وفائدة الحال المؤكّدة تأكيد التّسخير وبيان واسطة التّسخير وهو عالم الأمر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يكفيه العقل من غير فكر لظهور دلالة المذكورات بالنّسبة الى إنزال الماء وإنبات النّبات وجمع الآيات لكون كلّ منها آية على حياله (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) وسخّر لكم ما خلق لكم (فِي الْأَرْضِ) من المواليد من المعادن وأصناف النّبات وأنواع الحيوان والعناصر وما في الأرض من الجبال والوهاد والتّلال ، والمراد بتسخيرها تسخيرها فيما خلق لأجله لا تسخيرها للإنسان نحو تسخير الحيوان للإنسان ولكن تسخيرها بالمطاوعة للإنسان في وجه الانتفاع بها وان كان وجه الانتفاع ببعضها مخفيّا ، أو ما ذرأ مبتدء ولكم خبره أو في الأرض خبره والجملة حال أو عطف على جملة هو الّذى انزل ، أو على جملة سخّر لكم اللّيل (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) اكتفى ببيان اختلاف اللّون عن ذكر اختلاف النّوع وجهات الانتفاع لانّه الظّاهر على الأبصار والأغلب انّ الأنواع المختلفة بالّذات مختلفة باللّون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) لا يكفيه العقل فقط ولا يحتاج الى التّفكّر بل يكفيه تذكّر العقل (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كأنواع ما يخرج من البحر (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) جواري من المخر وهو شقّ الماء أو صوت شقّ الماء (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتّجارات (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعنى غاية الكلّ ان تنظروا الى الانعام وتشكروا حقّ النّعمة برؤيتها من المنعم (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة ان تميد الأرض بكم باضطرابها.

اعلم ، انّ الأرض كرويّة الشّكل حيّزها حول مركز العالم بحيث انّ كلّ جزء من اجزائها لتوافقها مع الكلّ في الطّبع لو خلّى وطبعه لما استقرّ الّا في حيّز المركز كما هو المشهود ، ولو كان الاجزاء طالبة للكلّ ولسنخها كما قيل للزم عدم افتراق ما اتّصل بقلل الجبال الى السّفل والأرض ساكنة في حيّزها غير متحرّكة ، وان قال بحركتها المتحدّسون بقوّة الحسّ وليست تلك الكرة كالكرة الواقعة في الماء الطّافية فوق الماء حتّى تحتاج الى ما يسكنها عن الحركة والانقلاب وليست الجبال بما يزيد في سكونها لانّه ليس ارتفاع الجبال المرتفعة البالغة غاية الارتفاع بالنّسبة الى قطر الكرة الّا مقدار شعيرة أو اقلّ ، وظاهر الآية يدلّ على انّ تلك الكرة لو لم يكن الجبال تضطرب وتنقلب وتتحرّك ولا يمكن التّعيّش عليها الّا بالجبال فنقول : انّ الجبال وان لم تكن أسبابا لسكون الكرة كما عرفت لكنّه قد يقع الزّلزلة القويّة بأسباب سماويّة وارضيّة ولو لا الجبال لسرت تلك الزّلزلة الى مجاورات القطعة الّتى وقعت فيها الزّلزلة مسافات كثيرة والجبال تمنع من تلك السّراية كما لا يخفى ، وهذا القدر كافى في صدق ظاهر الآية مع انّ المقصود بطونها ، وأيضا قد سلف منّا انّ العالم بتمام اجزائه مظاهر لا سماء الله وانّ خلفاء الله أسماء الله العظماء والجبال مظاهر لها بسكونها وارتفاعها وثقلها وصلابتها وجريان المياه من تحتها ، وقد يجرى احكام الظّاهر على المظاهر كما مضى من جريان احكام القلب والصّدر على بيت الله ومكّة ، وقد ورد في الاخبار لو لا الامام لماجت الأرض بأهلها ، أو لو فقد الحجّة لساخت الأرض بأهلها ، وغير ذلك من الاخبار فبوجود خلفاء الله (ع) وجود الأرض وسكونها وقرارها ، ولمّا كانت الجبال مظاهر لخلفاء الله حكم عليها انّ


بها قرار الأرض وسكونها اجراء لحكم الظّاهر على المظهر ، هذا بحسب التّنزيل ، وامّا بحسب التّأويل فالعقول الكلّيّة المعبّر عنها بالقيام لا ينظرون وبالمقرّبين بوجه جبال الأرض ، والعقول العرضيّة المعبّر عنها بالصّافّات صفّا جبال الأرض ، والنّفوس الكلّيّة المعبّر عنها بالمدبّرات امرا والنّفوس الجزئيّة المعبّر عنها بالرّكّع والسّجّد والأقدار المثاليّة المعبّر عنها بذوي الاجنحة كلّها جبال الأرض ، وخلفاء الله في الأرض أعظم جبال الأرض ، هذا في الكبير وكلّ ما في الكبير فهو بعينه جار في العالم الصّغير (وَأَنْهاراً) بواسطة الرّواسى (وَسُبُلاً) في الأرض (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بالسّبل الى مقاصدكم من الاسفار البعيدة والامتعة الّتى في غير أمكنتكم أو لعلّكم تهتدون الى المقصد الحقيقىّ من التّوجّه الى الله والسّير على سبيله الّذى جعل لكم من الأنبياء والأولياء (ع) (وَعَلاماتٍ) ممّا يستدلّ السّيّارة على استقامة سيرهم الى مقاصدهم (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) بجنس النّجم في اللّيل كما هو شأن السّيّارة أو بالنّجم الخاصّ الّذى هو الجدي كما في الخبر وباطنه رسول الله (ص) والائمّة (ع) وأصحابهم وخلفاؤهم كما أشير اليه في الاخبار (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) من الأصنام والكواكب وغيرها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) حتّى لا تجعلوا المخلوق مشاركا للخالق (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) فلا يؤاخذكم بالتّقصير في القيام بشكرها (رَحِيمٌ) فلا يقطعها عنكم بتقصير كم بل يزيدها يوما فيوما (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) من الأعمال والأحوال والنّيّات والخيالات والخطرات والأخلاق والعقائد والأقوال والمكمونات الّتى لم تظهر بعد على أنفسكم (وَما تُعْلِنُونَ) ممّا ذكر ، والإعلان في كلّ بحسبه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) كالملائكة والكواكب والأصنام والشّياطين والرّؤساء في الضّلالة (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) فلا يستحقّون الدّعوة (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فلا يمتازون عنكم حتّى تختاروهم بالدّعوة (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) فهم أدون منكم فأنتم اولى بان يدعوكم الّذين تدعون من دون الله (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) لا شعور لهم ببعثتهم فكيف بوقت بعث غيرهم والمجازاة والشّفاعة لهم (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) كالنّتيجة وقد مضى مثله وانّ المقصود انّ الّذى هو إلهكم اله ومستحقّ للعبادة وواحد لا متعدّد بخلاف ما جعلوه إلها (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) لا يعرفون الإله ولا امر الآخرة (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) فانّ الاستكبار هو الخروج عن حكم الله وحكم خلفائه وهم خارجون لعدم اعتقادهم بالله وبخلفائه (لا جَرَمَ) مصدر من الجرم بمعنى كسب الّذنب ومعنى لا جرم لا ذنب في الأصل لكنّه يستعمل بمعنى حقّا وأصل المعنى لا جرم اى لا ذنب في كذا يعنى في اعتقاد كذا لكونه متحقّقا ثابتا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) تعليل للمقصود من التّهديد على أفعالهم بالمؤاخذة وفي الخبر لا يؤمنون بالآخرة يعنى الرّجعة قلوبهم منكرة يعنى كافرة وهم مستكبرون يعنى عن ولاية علىّ (ع) انّه لا يحبّ المستكبرين يعنى عن ولاية علىّ (ع) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) قالوا ذلك اضلالا للنّاس وصدّا وكان غاية ذلك ان يحملوا أو زار ذلك القول والصّدّ وبعض أوزار من اضلّوهم وبغير علم ظرف مستقرّ حال من مفعول يضلّونهم أو فاعله


أو فاعل ليحملوا ، أو ظرف لغو متعلّق بيحملوا أو يضلّونهم ، وفي الخبر انّما لم يعذر الجاهل لانّ عليه ان يبحث وينظر بعقله حتّى يميّز بين المحقّ والمبطل ، وعن الباقر (ع) ما ذا انزل ربّكم في علىّ (ع) قالوا أساطير الاوّلين وعن الصّادق (ع) والله ما أهريقت محجمة من دم ولا قرع عصا بعصا ولا غصب فرج حرام ولا أخذ مال من غير حلّه الّا وزر ذلك في أعناقهما من غير ان ينقص من أوزار العالمين شيء (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) تمثيل لحالهم في مكرهم بحال من بنى سقفا على أساطين محكمة قصدا للرّاحة تحته فاستوصلوا به وخرب تلك السقوف من جهة الأساطين الّتى بها استحكامها ، والمراد بإتيان الله إتيان امره بالإهلاك (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ) عذاب خراب السّقف (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بل من حيث يظنّون بقاءه أو أتاهم عذاب غير خراب السّقف (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) من الأصنام والكواكب والاهوية وغيرها أو شركاء مظاهري من الأولياء والأصل علىّ (ع) (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تعاندون المؤمنين ومظاهري في حقّهم ، أو تخالفون الأنبياء والأولياء (ع) في حقّهم (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الأنبياء (ع) وأوصيائهم أو جملة المؤمنين وائمّتهم (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) الخزي الهوان والسّوء العذاب (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف أو صفة للكافرين (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ظالمين في حقّهم أو في حقّ امامهم فانّه بمنزلة أنفسهم بل اولى بهم منهم (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) اى الاستسلام والانقياد أو القول بالاستسلام والانقياد (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) تفسير للسّلم على الّذين أنكروا ما فعلوا من الجحود والإنكار والاستهزاء في الدّنيا (بَلى) ردّ من الملائكة أو من الله اى قالوا أو قال بلى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلا ينفعكم إنكاره الآن (فَادْخُلُوا) جزاء لأعمالكم (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) كلّ من بابه الخاصّ به (خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) جهنّم (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) قد مرّ مرارا انّ التّقوى الحقيقيّة لا تكون الّا بالولاية والبيعة الخاصّة الولويّة (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) إقرار بالانزال من الرّبّ وتصديق لكونه خيرا استسلاما (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) صاروا ذا حسن والحسن على الإطلاق علىّ (ع) وكلّما اتّصل به من طريق الولاية كان ذا حسن به أو أحسنوا الى أنفسهم أو الى غيرهم (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) وهو طيبوبة المآكل والمشارب والمناكح والمراكب (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لخلوص الطيبوبة لهم هناك من غواشي المادّة وآلامها وقوله للّذين أحسنوا مقول لقولهم تفسير الخير أو استيناف من الله (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ) مخصوص نعم أو مبتدأ خبره (يَدْخُلُونَها) أو يدخلونها صفة و (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خبره أو تجري صفة بعد صفة و (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) خبره ويحتمل كون الجمل حالات مترادفة أو متداخلة وكون بعضها حالا وبعضها صفة وبعضها خبرا وقد مضى في آل عمران في نظير الآية مع جريان الأنهار من تحت الجنّات (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) وفي الخبر : ولنعم دار المتّقين الدّنيا (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) صفة للمتّقين أو خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف


أو مبتدء خبره يقولون أو ادخلوا بتقدير القول (طَيِّبِينَ) من المعاصي أو من الشّرك (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحيّة لهم أو بمعنى سلامة لكم من كلّ سوء (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) على طريق الولاية (هَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون اى الّذين لا يؤمنون بالآخرة (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) حين الموت (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب أو بخروج القائم (ع) (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتدميرهم وعذابهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب أو المعاد أو الرّجعة أو مطلق ما قاله رسلهم (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في جواب من لامهم على شركهم وتحريمهم وقد مضى الآية بتفسيرها مفصّلا (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يعنى انّ نسبتهم فعلهم السّيّء الى الله كنسبة المرأة الفاحشة شامة فعلها الى غيرها وليس لها وجه صحّة لانّ ما على الله هو إرسال الرّسل لهدايتهم وليس على الرّسل الّا البلاغ (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) ولقد بلّغ الرّسل فقد ادّينا ما علينا وادّوا ما عليهم فالنّقص والتّقصير كان منهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فلم يقبلوا من رسولهم (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) بقبوله قول الرّسول (ع) (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) ووجه اختلاف الفعلين في النّسبة ظاهر لانّ الهداية منتسبة الى الله اوّلا وبالّذات والإضلال منتسب اليه تعالى ثانيا وبالعرض وفي الخبر ، ما بعث الله نبيّا قطّ الّا بولايتنا والبراءة من أعدائنا وذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا) (الآية) الى قوله من حقّت عليه الضّلالة يعنى بتكذيبهم آل محمّد ووجه الخبر قد مضى مفصّلا من انّ شأن النّبوّة الإنذار والدّلالة الى الولاية وانّ ولاية كلّ ولىّ ظلّ من ولاية الأولياء الكلّيّة وهم آل محمّد (ص) وانّ عبادة الله لا تتصوّر الّا من طريق الولاية وانّ آل محمّد (ص) مظاهر الله وعبادة الله لا تتصوّر الّا بتوسّط طاعة المظاهر (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض عالم الطّبع لتعلموا آثار المكّذبين وأخبارهم أو ارض القرآن واخبار الماضين أو ارض العالم الصّغير (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) يا محمّد (ص) (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) اقناط له (ص) عن هديهم وتهديد بليغ للمكّذبين (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) تعليل لاقناطه (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) وجهد الايمان الايمان المغلّظة المؤكّدة ومن لا يعتقد البعث لا ينجع فيه نصح (بَلى) ردّ عليهم (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ولو علموا لعلموا انّهم في البعث آنا فآنا ويوما فيوما من غير انتظار البعث الكلّىّ الآتي (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) متعلّق بيبعث المقدّر بعد بلى (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو الآخرة أو بالولاية (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في انكار البعث والجزاء والعقاب أو في ادّعاء الخلافة والاستبداد (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بيان لسهولة الاعادة عليه ، وقد ورد عن الصّادق (ع) انّه قال لأبي بصير : ما تقول في هذه الآية؟ ـ فقال : انّ المشركين يزعمون ويحلفون لرسول الله (ص) انّ الله لا يبعث الموتى قال : فقال : تبّا لمن قال هذا ؛ سلهم هل كان المشركون يحلفون بالله أم باللّات والعزّى؟! قال قلت : جعلت فداك


فأوجدنيه قال : فقال : يا أبا بصير لو قد قام قائمنا بعث الله قوما من شيعتنا قبائع (١) سيوفهم على عواتقهم فيبلغ ذلك قوما من شيعتنا لم يموتوا فيقولون : بعث فلان وفلان وفلان من قبورهم وهم مع القائم (ع) فيبلغ ذلك قوما من عدوّنا فيقولون يا معشر الشّيعة ما أكذبكم هذه دولتكم وأنتم تقولون فيها الكذب لا والله ما عاش هؤلاء ولا يعيشون الى يوم القيامة قال فحكى الله قولهم فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) ، وبهذا المضمون اخبار كثيرة (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) تنزيله في رسول الله (ص) والّذين هاجروا معه وبعده الى المدينة والّذين هاجروا قبله الى الحبشة بعد ما آذاهم المشركون إيذاء كثيرا والّذين حبسوهم قريش بمكّة بعد هجرة رسول الله (ص) وآذوهم ثمّ هاجروا الى رسول الله ، ومعنى قوله في الله في طريق الله وهو الرّسول (ص) والامام أو الرّسالة والولاية والطّريق الموصل إليهما أو في طلب الله أو في ابتغاء مرضاة الله أو في طاعة الله ، ولمّا كان التّنزيل غير مختصّ بمن نزلت الآية فيه بل تعمّه وغيره ممّن هو متّصف بوصفه كانت الآية شاملة لكلّ من هاجر من وطنه الصّورىّ ابتغاء دين الله الى نبىّ أو ولىّ من بعد ما تأذّى بانقلابات الزّمان وأذى الإقران وتصرّفات الشّيطان ، وتأويله كلّ من هاجر من أوطان شركه النّفسانيّة كما قال (ع): المهاجر من هجر السّيّئات الى رسوله العقل ونبيّه القلب وإمامه الرّوح والكلّ دين الله وطريق الله ومظاهر الله ، والهجرات الثّلاث متعاقبة مترتّبة فانّ الهجرة تقع اوّلا من دار الشّرك النّفسانيّة الى دار الإسلام الصّدر ثمّ منها الى دار الايمان القلب ثمّ منه الى دار العيان الرّوح وعبارة اخرى تقع الهجرة من دار الشّرك الى الرّسول وقبول احكامه القالبيّة ثمّ منه الى النّبىّ وقبول احكامه القلبيّة ثمّ منه الى الولىّ وقبول وإرادته الرّوحيّة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا) دارا (حَسَنَةً) أو تبوئة حسنة أو حالا حسنة كما وقع في الصّورة للمهاجرين مع الرّسول (ص) إذ آواهم وعزّزهم أهل مدينة وكما وقع لجعفر وأصحابه إذ آواهم النّجاشى وعزّزهم ، وفي الباطن لكلّ من هاجر من دار النّفس الامّارة إذ يأوى الى دار الصّدر السّالمة من تنازع القوى النّفسانيّة وتحاسد المتحاسدين وإيذاء الموذين وهكذا ، وهذا أجر الدّنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) وهو لقاء الرّحمن وجنّة الرّضوان (أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كان النّاس يعلمون ذلك لاختاروا الهجرة أو لما تثبّطوا أو لو كان الّذين هاجروا يعلمون لسرّوا بذلك أو ليتهم كانوا يعلمون فيتبادروا الى ذلك أو فيسرّوا بذلك (الَّذِينَ صَبَرُوا) بدل من الّذين هاجروا أو صفة له أو خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) فلا غروفى كونك رجلا من جنسهم فانّك مثل الرّسل الماضين (نُوحِي إِلَيْهِمْ) وكان امتيازهم بالوحي كما انّ امتيازك بالوحي فانكارهم لرسالتك لكونك بشرا مثلهم انكار لرسالة جميع الرّسل (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) الذّكر هو اضافة الحقّ الى الخلق وهي المشيّة والحقّ المخلوق به وهو حقيقة الولاية وخاتم الأولياء وهو علىّ (ع) هو المتحقّق بها ومظهرها التّامّ وسائر الأولياء (ع) مظاهر علىّ (ع) ومن اظلاله ، والنّبوّة الّتى هي المصباح مظهر الولاية والرّسالة الّتى هي كالزّجاجة مظهر النّبوّة ، وما في عالم الطّبع من بشريّة الرّسل والأنبياء والأولياء (ع) وكتبهم وأحكامهم القالبيّة والقلبيّة وسائر أجزاء عالم الطّبع الّتى هي كالمشكاة بتمامها مستنيرة بنور المصباح وذلك النّور هو ذكر الحقّ وتذكّره ، وأهل الذّكر تارة يطلق على من بتصرّفه الذّكر كالاولياء والأنبياء والرّسل (ع) وتارة يطلق على من أضيف اليه الذّكر وهو كلّ من قبل دعوة الرّسل (ع) والأنبياء الدّعوة الظّاهرة أو دعوة الأولياء (ع) الدّعوة

__________________

(١) قبيعة السّيف ، كالسقيفة ما على طرف مقبض السّيف من فضة أو حديد.


الباطنة ، وكذا يطلق أهل الذّكر على من انتحل الدّعوة العامّة كاليهود والنّصارى والمجوس وأكثر أهل الإسلام فانّهم ليسوا من أهل الذّكر والملّة الالهيّة حقيقة إذ تحقّق الانتساب الى ملّة له شرائط وعهود ومواثيق وليست تلك لهم ، والذّكر يطلق على الأولياء وأحكامهم وعلى الأنبياء والرّسل (ع) وأحكامهم وكتبهم الالهيّة فتفسير الذكّر بالرّسول (ص) وبعلىّ (ع) وبالقرآن وبسائر الكتب السّماويّة وبأحكام الرّسالة والنّبوّة الّتى هي الملّة الالهيّة صحيح ، وكذلك تفسير أهل الذّكر بالأنبياء والأولياء (ع) والأصل في الكلّ آل محمّد (ص) وبمن قبل الدّعوة العامّة ومن قبل الدّعوة الخاصّة وبمن انتحل الانتساب الى نبىّ وملّة الهيّة وكتاب سماوىّ كلّها صحيح ، والسّؤال قد يكون عن حال الرّسل والأنبياء والأولياء (ع) ، وقد يكون عن علامات رسولنا الختمىّ (ص) وعن أوصيائه ، وقد يكون عن احكام النّبوّة ؛ إذا عرفت ذلك سهل عليك التّفطّن بصحّة ما في الاخبار من اختلاف تفسير الآية ومن التّفاسير الّتى هي مخالفة لظاهر الآية من انكار تفسير أهل الذّكر باهل الكتاب وانّ أهل الكتاب إذا سألوا يدعونكم الى دينهم ومن تفسير أهل الكتاب وتخصيصهم بأنفسهم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أوصاف الأنبياء أو أوصاف محمّد (ص) الموعود أو لا تعلمون احكام الدّين أو لا تعلمون (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) البيّنات آثار النّبوّة والرّسالة وأحكامها والزّبر آثار الولاية وأحكامها ، والتّفسير بالمعجزات والكتب السّماويّة لانّهما آثار النّبوّة والولاية ، وقيل : قوله (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) متعلّق بما أرسلنا ، وقيل : متعلّق بمحذوف وهو مستأنف كأنّه قيل : بم أرسلوا؟ ـ فقال : بالبيّنات والزّبر (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) اى القرآن أو احكام النّبوّة أو الولاية (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) والمقصود من مجموع ما نزل ولاية علىّ (ع) فلا ينبغي لك ان تنظر الى ردّهم وقبولهم بل عليك النّظر الى غاية الأمر والتّنزيل وهي التّبيين ردّوا أو قبلوا (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيعلموا انّ الأصل في جملة الأحكام هو الاقتداء والخروج من الرّأى والاستبداد ولا يتيسّر ذلك الّا بوجود من يقتدى به وانّه لا بدّ لك من تعيين من يقتدى به بإذن الله حتّى يسلّموا الأمر لخليفتك ومن عيّنته فيقتدوا به ويفلحوا (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) وخصوصا انكار الولاية الّتى بها قوام الصّالحات وفي إنكارها ليس الأعمال الّا السّيّئات (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بمجيئه من تلك الحيثيّة كإتيان العذاب من حيث يرجى الثّواب وهو صورة الأعمال الصّالحة إذا لم تكن بأمر خليفة الله كما قال : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) فانّ صورة الأعمال الشّرعيّة تصير سببا لغرور النّفس وحسبان انّها على خير لكنّها ان لم تكن بأمر ولىّ الأمر (ع) وخليفة الرّسول (ص) بل باستبداد النّفس ورأيها أو رأى من ليس للرّأى باهل فهي ضالّة غير نافعة ، أو المقصود من حيث لا يشعرون بشيء من العذاب وعدمه كوقت المنام والغفلة عن الأعمال والعذاب ولعلّه أوفق بما بعده (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) في مكاسبهم ومتاجرهم أو في تقلّبهم في آرائهم ومكرهم ، أو في تقلّبهم فيما يحسبونه صلاحا لهم كصور الأعمال الصّالحة (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) لنا ان نعذّبهم في عين استيقاظهم وتفطّنهم (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) حالكونهم على حذر والتفات الى العذاب وتمحّلهم لدفعه بان يتنبّهوا بما نزل بأمثالهم (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الفاء للسّببيّة المحضة لا من الذّين مكروا السّيّئات يعنى لا ينبغي ان يأمنوا بسبب رحمته فانّ رحمته لا تصل إذا لم يكن استحقاق ، أو للجواب والجزاء لشرط محذوف يعنى ان يمهلكم


ولا يعاجلكم فانّ ربّكم لرؤف رحيم ، أو للسّببيّة لمحذوف من غير تقدير بشرط كأنّه قيل : لم لا يؤاخذهم؟ ـ فقال : لا يؤاخذ فانّ ربّكم لرؤف رحيم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) يتقلّب ظلاله بتقلّبه (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) توحيد اليمين وجمع الشّمائل للاشارة الى وحدة جهة اليمين في المعنى وكثرة جهة الشّمائل فانّ اليمين المعنويّة لكلّ شيء هي وجهته الالهيّة وشماله هي وجهته الخلقيّة والوجهة الالهيّة كثرتها منطوية في الوحدة والوجهة الخلقيّة وحدتها فانية في الكثرة (سُجَّداً لِلَّهِ) حال من ظلاله أو ممّا خلق الله ، وجمعه باعتبار المعنى (وَهُمْ داخِرُونَ) حال مترادفة مع سابقه أو متداخلة أو كلّ حال من ذي حال ، والدّخور الانقياد وجمعه بالواو والنّون لانتساب وصف الدّخور أو السّجود الّذى هو من أوصاف العقلاء إليهم ، أو لانّ الكلّ من حيث انتسابها الى الله عقلاء علماء.

اعلم ، انّ الضّالّ هو شاكلة الشّاخص الّتى تحدث من الشّاخص الكثيف إذا قابل شيئا منيرا في طرف مقابل للمنير وهي تتقلّب بتقلّب الشّاخص وتسكن بسكونه ولا اختصاص لها بما يقابل الشّمس ولا بما في عالم الطّبع بل تحصل من كلّ ما يقابل منيرا ، والمنير الحقيقىّ هو الله وفعله المعبّر عنه بالمشيّة ، وعالم العقول بالنّسبة الى المشيّة كالشّاخص ، وعالم النّفوس بالنّسبة الى العقول كالشّاخص ، والمثال بالنّسبة الى النّفوس ، وعالم الطّبع بالنّسبة الى عالم المثال ، وعالم الجنّة بالنّسبة الى عالم الطّبع ، فظلّ كلّ عبارة عمّا دونه من العوالم وسجود كلّ عبارة عن تسخّره لله تعالى شأنه وتذلّله له تكوينا ، ودخوره عبارة عن اتّباعه وحركته وسكونه على وفق إرادته ومشيّته والكلّ بالنّسبة اليه ذوو شعور وارادة وعلم. ولمّا كان لعالم الطّبع ظلّ نورانىّ كما يحدث من المرآة حين مقابلة الشّمس وينعكس منها الى جهة الشّعاع لا الى خلافه وهو المعبّر عنه بالمثال الصّاعد وظلّ ظلمانىّ كما يحدث من خلف المرآة وينعكس الى الجهة المخالفة للشّعاع وهو المعبّر عنه بالمثال النّازل والملكوت السّفلىّ وعالم الظّلمة ، وكانت الملكوت السّفلىّ محلّ الكثرات والاختلاف والتّغيّرات وكانت الشّمال تعبيرا عن هذه ، والملكوت العليا محلّ الوحدة واتّحاد المتكثّرات واجتماع المتغايرات وكانت اليمين تعبيرا عنها قال عن اليمين والشّمائل اشارة بوحدة الاوّل وجمع الثّانى الى جهة اتّحاد الاوّل وكثرة الثّانى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) نتيجة لسابقه كأنّه قيل : ما في السّماوات وما في الأرض ظلّ لله تعالى وكلّ ظلّ ساجد منقاد لذي ظلّه كما هو مشهود من ظلال الأشياء ، فما في السّماوات والأرض ساجد داخر لله (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما في السّماوات وما في الأرض على ان يكون الدّابة هي الّتى تتحرّك أو بيان لما في الأرض (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على دابّة بطريق النّشر خلاف اللّفّ أو على ما في السّماوات والمراد الملائكة الّذين هم فوق السّماوات والأرض (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) حال على سبيل التّرادف أو التّداخل أو مستأنف لبيان حالهم أو للتّعليل على عدم استكبارهم وفاعل لا يستكبرون امّا الملائكة أو جملة ما في السّماوات وما في الأرض والملائكة وليس المراد بالخوف ما هو من صفات النّفس ومنفىّ عمّن تخلّص من النّفس وصفاتها كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بل المراد هو التّذلّل والانقباض الّذى هو حاصل لكلّ محاط بالنّسبة الى المحيط المعبّر عنه بالخشيّة والهيبة والسّطوه باعتبار مراتب الموصوفين ولذلك قيّده بقوله : من فوقهم سواء كان ظرفا مستقرّا حالا من ربّهم ، أو ظرفا لغوا متعلّقا يخافون اى يخافون خوفا ناشئا من فوقهم (وَيَفْعَلُونَ


ما يُؤْمَرُونَ) فانّ حالهم كحال القوى النّفسانيّة بالنّسبة الى النّفس الانسانيّة من حيث انّها لا تعصيها إذا كانت باقية على السّلامة الطّبيعيّة بل كحال الصّور الذّهنيّة بالنّسبة الى النّفس من حيث انّها لا وجود لها سوى وجود النّفس ، فحال الملائكة بل حال جميع الموجودات تكوينا كحال القوى والصّور الذّهنيّة وان كان حال الإنسان اختيارا غير حاله تكوينا لانّه يعصى ويتأبّى ممّا امر به ويزعم انّ له وجودا وفعلا بنفسه (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) لمّا كان الهين مشتملا على الجنس والعدد اكّده باثنين اشعارا بانّ النّهى عن الاتّخاذ انّما هو بالنّسبة الى العدد كما فعل الثّنويّة لا الى الجنس فانّ أخذ الإله مأمور به مع وصف الوحدة كما قال (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) اثباتا للجنس مؤكّدا بالوحدة ولم يقل : بل اتّخذوا إلها واحدا ؛ اشعارا بانّ كونه إلها ليس بجعل جاعل حتّى يؤمر بالاتّخاذ بل هو امر ثابت في نفسه أخذ أو لم يؤخذ (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) جواب شرط محذوف كأنّه قال : إذا كان الإله واحدا وانا ذلك الواحد فايّاى فارهبون يعنى ايّاى اتّخذوا إلها وارهبونى (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف في معنى التّعليل (وَلَهُ الدِّينُ) الدّين هاهنا الطّريق المؤدّى للسّالك فيه الى غايته (واصِباً) واجبا لازما حال من الدّين اى حالكونه لازما يعنى الدّين التّكوينىّ الفطرىّ بخلاف التّكليفىّ الاختيارىّ فانّه قد يكون للشّيطان ومنهيا للّسالك الى الشّيطان أو وصف للمفعول المطلق مؤكّدا لغيره اى له الدّين حقّا واصبا ، والدّين على هذا هو الطّريق الحقّ وعلى اىّ تقدير فالمقصود انّ الدّين الفطرىّ له أو الدّين الحقّ له فاجعلوا الدّين بحسب اختياركم له (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) عطف على محذوف اى أغير الله تتّخذون إلها فغيره تتّقون أو جواب شرط محذوف اى إذا كان الآلهة له وحدة فأغير الله تتّقون على ان يكون الهمزة على التّقديم والتّأخير (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) حال من الله أو من فاعل تتّقون (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) تتضرّعون يعنى أغير الله تتّقون والحال انّ النّعمة منه ولا دافع للمضرّة الّا هو والاتّقاء من الإله امّا للخوف من منع النّعمة أو إيصال النّقمة (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بدل ان يوحّدوه ويعظّموه لنعمة كشف الضّرّ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة كشف الضّرّ وسائر النّعم يعنى يصير غاية اشراكهم ذلك (فَتَمَتَّعُوا) امر للتّهديد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) عطف على يشركون وبيان لاشراكهم (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من اتّخاذ الآلهة والتّقرّب بهم الى الله وجعل النّصب من رزق الله لهم (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) وفيه افتراءان ؛ جعل الملائكة إناثا ، ونسبة التّوالد اليه تعالى (سُبْحانَهُ) عن نسبة التّوالد وهو للتّعجّب اله البنات (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) اى البنون (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) جملة حاليّة (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ساتر للغيظ أو مملوّ من الغيظ (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) قائلا عند نفسه متفكّرا (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) وهوان من إمساكه (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) ليتخلّص من هوانه (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) من جعل النّصيب في رزق الله لغيره وجعل البنات له وجعل الملائكة إناثا وجعل البنين لأنفسهم (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ


وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) يعنى ان كانوا يريدون بجعل الملائكة بنات تمثيلا لحال الملائكة في غاية قربهم من الله وكرامتهم عليه لا التّوالد الحقيقىّ فليمثّلوا بالمثل الأعلى له ولا يمثّلوا بمثل السّوء له ويبقوا المثل الأعلى لأنفسهم ، أو لله المثل الا على فليمثّلوا بالأمثال اللّائقة بعلوّه ممّا يدلّ على التّنزّه عن التّوالد (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يتطرّق شبه الحاجة اليه ولا يمثّل له بما يوهم الحاجة (الْحَكِيمُ) الّذى لا يقول الّا عن علم بكنه كلّ شيء (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) ومنه تسمية الملائكة إناثا ونسبة الولد الى الله أو التّمثيل له بمثل غير لائق بشأنه (ما تَرَكَ عَلَيْها) على الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) لانّ ظلمهم قد سرى الى البهم من الدّوابّ وبجزائهم يهلك الدّوابّ أيضا (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ليبلغوا ما بلغوا من الشّقاوة ويتوب من يتوب ويسعد من يسعد (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) قد مضى انّ المعنى إذا قدّر مجيء أجلهم حتّى لا يستشكل بيستقدمون (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) من البنات والشّركاء في الرّياسة وأراذل الأموال (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ان قرئ برفع الكذب فهو صفة لألسنتهم كما انّه قرئ الكذب بضمّتين مرفوعا وجمعا للكذوب وصفة لا لسنتهم ، وان قرئ بنصب الكذب كما هو المشهور فهو مفعول تصف وعلى الاوّل فقوله (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) مفعول تصف وعلى الثّانى فهو بدل من الكذب وقد قالوا لئن رجعت الى ربّى انّ لي عنده للحسنى ، ويجوز ان يكون انّ لهم الحسنى بتقدير اللّام تعليلا لتصف على الوجهين والمعنى لانّ لهم الحسنى في الدّنيا (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) لا كسب جرم في ذلك إثبات لضدّ ما ادّعوا لأنفسهم (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) فيما ادّعوا لأنفسهم أو في أعمالهم (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما أرسلتك الى هذه الامّة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) كما زيّن لهؤلاء فلا تحزن على ما فعلوا فانّه ليس بأمر حادث في زمانك (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) فالشّيطان ولىّ الأمم الماضية في النّار اليوم أو هو ولىّ أمّتك اليوم بتزيين السّوء لهم كما كان ولىّ الأمم الماضية قبل ذلك (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) للأمم الماضية أو لامّتك وعلى اىّ تقدير فهو تهديد لامّته (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) لمّا علمت انّ غاية النّبوّة الدّلالة على الولاية ولو لا الولاية لما كان للنّبوّة غاية وانّ الّذى هو معظم ما اختلفوا فيه هو الولاية وهو النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون علمت انّ المعنى لتبيّن لهم الولاية (وَهُدىً وَرَحْمَةً) عطف على الفعل المؤوّل (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يذعنون بالله وبالآخرة أو يؤمنون بالايمان العامّ والبيعة النّبويّة ، واطلاق التّبيين لكونه عامّا ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حىّ عن بيّنة ، وتقييد الهداية والرّحمة لاختصاصهما بمن استحقّهما (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بانبات الحبوب الّتى تحت ترابها والعروق الّتى فيها وكذلك احياؤكم بعد موتكم حالكونكم نطفة وجمادا وبعد موتكم عن الحيوة الحيوانيّة واحياؤكم في النّشور (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالّة على بعثكم وعلى علم الله وقدرته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) يستسلمون فانّ السّماع اوّل مراتب الايمان ثمّ بعده الايمان ثمّ العقل ثمّ الفكر ، والتّذكّر يأتى في كلّ من المراتب ، والمراد بالسّماع الانقياد كما في قوله (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ولمّا كان دلالة إنزال الماء وإنبات عروق الأرض وحبوبها على علمه وقدرته واحياء


الموتى يكفيها الخروج من العناد والدّخول في مقام الانقياد اكتفى فيها بالسّماع (وَإِنَّ لَكُمْ) ايّها المؤمنون أو ايّها النّاس (فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استيناف أو حال وتذكير الضّمير هاهنا وتوحيده امّا لكون الانعام مفردا في معنى الجمع أو لرجوعه الى البعض وانّثه في سورة المؤمنون على اعتبار اللّفظ أو المعنى (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) من الدّم والفرث وآثارهما (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) عن رسول الله (ص): ليس أحد يغصّ بشرب اللّبن لانّ الله يقول : (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، وقوله (إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) خطابا للمسلمين أو للنّاس أجمعين وقع موقع انّ في ذلك لآية لقوم يؤمنون أو لقوم يشعرون (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) من ثمرات النّخيل امّا عطف على ما في بطونه بدون التّقدير ان كان نسقيكم مستأنفا أو على نسقيكم بتقدير نسقيكم ان كان حالا وحينئذ يكون تتّخذوا حالا أو مستأنفا جوابا لسؤال مقدّر وامّا مستأنف متعلّق بتتّخذون ولفظة منه تكون حينذ تأكيدا للاوّل وامّا مبتدء وتتّخذون خبره بجعل من التّبعيضيّة لقوّة معنى البعضيّة فيها قائمة مقام الاسم المبتدء من دون تقدير أو بتقدير موصوف محذوف أو بجعله اسما مبتدء بنفسه اى بعض من ثمرات النّخيل تتّخذون منه اى من ذلك البعض ، وافراد الضّمير امّا باعتبار تقدير مضاف قبل الثّمرات أو بلحاظ معنى البعضيّة في من والمراد بالسّكر الخمر ولا ينافي حرمتها ذكرها في مقام الامتنان لانّ حرمتها شرعيّة وكونها نعمة امر عرفيّ عقلىّ ، على انّ فيها منافع باستعمالها من غير شرب لها ، ولمّا دلّ الامتنان بها على إباحتها ورد في الخبر : انّها منسوخة بآية حرمة الخمر ، وقيل : فيها أشياء أخر لكنّ الإتيان بقوله (وَرِزْقاً حَسَناً) بعده يدلّ على انّ المراد به الخمر وانّها غير حسن (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لا يكفى فيه السّماع والايمان وان كان لا يحتاج الى استعمال المفكّرة (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وحي الهام فطريّ تكوينىّ بمعنى انّه أودع في وجوده التّدبير الّذى يعجز عن مثله العقلاء فانّ تدبير بيوتها مسدّسة مثلا صفّة بحيث لا يكون بينها فرجة ، ونظامها في خروجها ودخولها في طاعة يعسوبها ، وعدم وقوعها على الأشياء المنتنة امر يتحيّر فيه العقلاء ، ولمّا كان الآية شاملة بجميع المراتب من التّنزيل والتّأويل كان الوحي بالنّسبة الى الأنبياء (ع) على معناه الّذى هو الإلقاء بتوسّط الملك ، وبالنّسبة الى الائمّة والأولياء (ع) التّحديث والإلهام ، وبالنّسبة الى النّحل الصّوريّة إيداع قوّة بها يقع هذا النّحو من التّدبير (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) من الكروم الّتى يعرشونها ومن السّقوف الّتى يرفعونها (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) لطيفها وخالصها (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) الّتى ألهمك سلوكها الى البيوت ، أو فاسلكي السّبل الّتى ألهمك لعمل العسل ، أو فاسلكي سبل ربّك من البيوت الّتى هي مسالك لادخال العسل (ذُلُلاً) حالكون السّبل ذلك يسهل السّلوك فيها بتسهيل الله أو حالكونك منقادة لأمر ربّك (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) وهو العسل باختلاف ألوانه بالابيضاض والاصفرار والاحمرار والاسوداد (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) منفردا أو منضّما الى غيره لمبرودى المزاج ومحروريه والعجب انّه يخرج من محلّ السمّ ما فيه شفاء ، وفي الخبر : نحن والله النّحل الّذى اوحى اليه ان اتّخذى من الجبال بيوتا أمرنا ان نتّخذ من العرب شيعة ، ومن الشّجر يقول من العجم وممّا يعرشون يقول من الموالي ، والّذى يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه اى العلم الّذى يخرج منّا إليكم ، وفي رواية اخرى :


والشّيعة هم النّاس ، وغيرهم الله اعلم بهم ، ولو كان كما تزعم انّه العسل الّذى يأكله النّاس اذن ما أكل منه ولا شرب ذو عاهة الّا شفى لقول الله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ولا خلف لقول الله وانّما الشّفاء في علم القرآن (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) لأهله لا شكّ ولا مرية واهله ائمّة الهدى الّذين قال الله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ولمّا كان النّحل وتدبيرها وشراب بطنها مظاهر للائمّة (ع) وتربيتهم للشّيعة وعلمهم كان التّفسير بالنّحل والبيوت المسدّسة وعسلها في محلّه ، ولمّا كان الوقوف على ظاهر الآية وحصر المقصود في النّحل الصّوريّة واستقلال النّحل بالقصد منافيا لمقصود الآية من كون القصد الى النّحل من حيث كونها مظهرا لا اصالة وكون المقصود استقلالا هو رؤساء الدّين كان انكار التّفسير بالنّحل الصّوريّة في محلّه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فانّه لا يكفى فيه السّماع والايمان ولا العقل والتّذكّر لكثرة دقائقه وخفاء طريق الانتقال الى قدرة بارئها والى ما يمثّل بها له (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بآجالكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو وقت الهرم ، وفي الخبر : إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر ، وفي خبر آخر : ان يكون عقله مثل عقل ابن سبع سنين (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) لا يعلم ما علمه قبل ذلك ، وفي الخبر: انّ هذا ينقص منه جميع الأرواح وينقص روح الايمان وليس يضرّه شيئا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بما ينبغي وانّ الموت قبل أرذل العمر خير لكم ولذلك لا يصل أكثركم الى أرذل العمر (قَدِيرٌ) على الإيصال الى أرذل العمر (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) هذه الجملة وسابقتها ولاحقتها إظهار لنعمه تعالى تمهيدا لذمّ الإشراك والكفران والتّفضيل بجعل بعض غنيّا وبعض فقيرا وبعض مالكا لرزقه ورزق غيره ، وبعض مملوكا هو ورزقه في يد غيره (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ذكر اوّلا نعمة التّفضيل في الرّزق وانّ المنعم بها هو الله لا غير ، ثمّ ذكر تمهيدا لابطال الشّركاء انّكم لا ترضون فيما فضّلكم الله بتسوية مماليككم المجازيّة لكم فكيف ترضون بتسوية مماليكه الحقيقيّة فيما يختصّ بذاته تعالى له فالمعنى انّ الله فضّل بعضكم على بعض في الرّزق فما الّذين فضّلوا براضين لردّ الرّزق عن أنفسهم وإعطائه لمماليكهم حتّى يكونوا مساوين في رزق هو لهم من غيرهم ، أو المقصود إظهار الانعام عليهم وعلى مماليكهم على السّواء وانّ المنعم من كمال انعامه لا يفرّق بينهم وبين مماليكهم فالمعنى والله فضّل بعضكم على بعض في الرّزق وجعل رزق المماليك أيضا بيده لا بيد المالكين ، فما الّذين فضّلوا برادّى رزقهم على المماليك بل الله هو معطي أرزاق المماليك ؛ وعلى الاوّل فمعنى قوله (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) لا يرضون ان يكونوا مع المماليك في الرّزق سواء ، وعلى الثّانى فمعناه انّ المالكين والمملوكين في الارتزاق من الله سواء ولا فضيلة للمالكين على المملوكين في أصل الرّزق بل رزق الكلّ بيده يجرى عليهم على السّواء ، ويؤيّد هذا المعنى ما نقل انّ أبا ذرّ رحمه‌الله سمع النّبىّ (ص) انّه قال : انّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تكتسون ، وأطعموهم ممّا تطعمون ، فما رأى عبده بعد ذلك الّا ورداؤه رداءه وإزاره إزاره من غير تفاوت فقوله (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) على هذا انكار لترك التسّوية بين الأنفس والمماليك وتسوية له جحودا ، وعلى الاوّل انكار لجحود نعمة التّفضيل والغفلة عنها وجعل عبيده تعالى شركاء له ومتساوين معه تعالى في الآلهة مع انّهم لا يرضون ذلك لأنفسهم (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)


من جنسكم لتأنسوا بهنّ وترغبوا فيهنّ وترتاحوا إليهنّ وهذا بيان لنعمة اخرى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) قد فسّر الحفدة في الاخبار ببني البنت وبالبنين أنفسهم فيكون من عطف الأوصاف المتعدّدة لشيء واحد وباختان الرّجل على بناته لانّ الحافد بمعنى المسرع في الخدمة والكلّ مسرعون في الخدمة والكلّ من عظام النّعمة (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أعطاكم من جملة الطّيّبات من المركوب والمسكون والمطعوم والمشروب أو رزقكم من الأرزاق الطّيّبة من المطعوم والمشروب (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) يعنى بالشّركاء الباطلة أو بانتساب ذلك الى الشّركاء (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) من حيث انّهم يسترون انعامه تعالى فيها وينسبونها الى غيره تعالى من الشّركاء (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) بدل من رزقا امّا لتأكيد التّحقير المستفاد من تنكير رزقا ، وامّا للاشارة الى تعميم رزقا وكونه بمعنى نصيبا ، والمراد برزق السّماوات هو أرزاق الإنسان من حيث انسانيّته وحيوانيّته وبرزق الأرض أرزاق الإنسان من حيث نباتيّته وحيوانيّته ، أو المراد برزق السّماوات والأرض رزق كلّ من المراتب بتعميم الرّزق لما يرزق وأسبابه (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ان يملكوه ، اولا استطاعة لهم ولا قدرة (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) اى لا تجعلوا له أمثالا تعبدونها لعبادته ، أو لا تضربوا له الأمثال بتشبيه حاله بحال الملوك وارتضاء الخدمة من عبيدهم ومقرّبيهم واجرائهم أرزاق العساكر على أيدي وزرائهم وامنائهم وبان تقولوا انّ خدمة مقرّبى السّلطان ادخل في التّعظيم وأمثال ذلك فانّه أعلى من ان تعرفوه وتعرفوا كيفيّة أوصافه وأفعاله حتّى تضربوا له الأمثال (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) فقولوا ما علّمكموه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فلا تقولوا من عند أنفسكم شيئا في شيء فضلا عن ضرب المثل فيه تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للشّركاء ولنفسه أو للكافر والمؤمن (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) والمراد بالرّزق الحسن هو العلم والحكمة والعيان والتّصرّف في الملك والملكوت ، وإنفاق السّرّ هو ما يصل الى الملك ببركته ومن طريق السّرّ ، وإنفاق الجهر هو ما يعلمه ويلقّنه غيره بحسب الظّاهر ، وحاصل المرام وغاية المقصود من الآيات السّابقة واللّاحقة هو تمثيل حال علىّ (ع) فانّ النّعمة الحقيقيّة هو علىّ (ع) وولايته والباطل الحقيقىّ هو اعداؤه وأصل من رزقه الله تعالى رزقا حسنا هو علىّ (ع) وغيره كائنا من كان مرتزق بتوسّطه والمملوك الّذى لا يقدر على شيء هو أعدائه (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على نعمة عدم التّسوية وحكمة إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وهو تعليم للعباد ان يحمدوا على كلّ النّعم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حال المملوك العاجز والقادر المنفق ولذلك يسوّون بينهما أو لا يعلمون عدم جواز التّسوية بينهما أو لا يرتقون الى مقام العلم عن مقام الجهل ولذلك يسوّون بينهما ويختارون العاجز على القادر (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للشّركاء ولنفسه أو للكافر والمؤمن أو لعلىّ (ع) ولاعدائه ومخالفيه (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ولد أخرس لا ينطق ولا يفهم نطق غيره (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من النّطق وسائر الأفعال كمن كان جميع حواسّه وجميع قواه المحرّكة معطّلة (وَهُوَ كَلٌ) ثقل (عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) يعنى من كان متّصفا بالعدل في جميع أحواله وأقواله وأفعاله ويعرف العدل في جميع موارده ويأمر غيره


بالعدل لأنّ الأمر بالعدل يستلزم الاتّصاف به ومعرفته في جميع موارده ، وللاشارة الى هذا قال (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) اى على التّوسّط بين طرفي الإفراط والتّفريط في جميع ما ذكر (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب عنهما أو جهتهما الّتى هي غائبة عن العباد ومن غيبهما الخفايا من أحوال العباد ويلزم منه خفاء صاحب الخير والشّرّ فلا تعلمون من العباد من كان بحسب السّريرة كالمملوك العاجز ومن كان آمرا بالعدل والله يعلم ذلك وهو بمنزلة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) في الآية السّابقة والمقصود انّكم لمّا لم تكونوا عالمين بأحوال الأشياء والعباد لم يجز لكم ان تختاروا من عند أنفسكم شريكا لله أو لعلىّ (ع) ولا أحدا لهدايتكم وجلب نفعكم ودفع ضرّكم ولزم ان تكلوا الأمر اليه تعالى فانّه العالم بمن ينبغي ان يختار وبمن ينبغي ان لا يختار فلا تجاوزوا في ذلك النّصّ من الله على لسان من علمتم خلافته لله (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) في سرعة إتيانها وحساب الخلائق فيها وجزاء الخلائق على أعمالهم (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وهو تهديد لمن استبدّ برأيه وخالف امر الله ونصّه في احكامه (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من حساب الخلائق في أسرع زمان وعقوبة العاصي وثواب المطيع (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) يعنى جعل لكم كلّ ما تحتاجون اليه في تعيّشكم الدّنيوىّ ومنافعكم الاخرويّة وفي حصول العلم الّذى هو مبدأ ذلك كلّه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تلك النّعمة فتصرفون كلّ فيما خلق لأجله (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) بخلق ما يقدرن به على الاستمساك في الجوّ فانّ الله خلق كلّ شيء وخلق له ما به تعيّشه وحركته وسكونه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) على علمه وقدرته وحكمته وعدم إهماله لشيء من الأشياء من دون تهيّة ما يحتاج اليه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالآخرة فانّهم يعلمون انّ الّذى لم يهمل شيئا من الأشياء واعطى كلّ شيء ما يحتاج اليه لم يهمل الإنسان الّذى هو أشرف الأشياء ولم يترك ما يحتاج اليه في أشرف جهاته وهي الآخرة بل جعل لهم رئيسا يدلّهم عليها ويمنعهم عمّا يضرّهم فيها ويأمرهم بما ينفع فيها ولم يكل اختيار ذلك إليهم حتّى يجعلوا برأيهم له شريكا أو يختاروا لأنفسهم في امر الآخرة الّذى هو غيب عنهم إماما ورئيسا (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) يعنى الاخبية المتّخذة من الأديم والشّعر والصّوف (تَسْتَخِفُّونَها) تعدّونها خفيفة لا كبيوت الطّين والأحجار (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً) لبيوتكم من الفرش والالبسة ومحالّ الامتعة وغير ذلك (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ما تتمتّعون به الى مدّة اندراسه (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من الشّجر والجبال والجدران (ظِلالاً) ما تستظلّون به (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) ما تستترون فيه من الغيران أو ما تنحتون فيها (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) ثيابا فانّ السّر بال يستعمل في كلّ ملبوس ، والمراد بالاثاث والمتاع غير الثّياب ، أو المراد بالسّرابيل غير ما يكون من الصّوف والوبر والشّعر والجلود ، أو يكون تعميما بعد تخصيص من وجه كما يكون تخصيصا بعد تعميم من وجه آخر (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) اى والبرد اسقطه واكتفى بذكر الحرّ لعدم الاحتياج الى ذكره لوضوحه بقرينة المضادّة وانّ الحاجة الى اللبّاس في البرد اشدّ منه في الحرّ وللاهتمام بالحفظ من الحرّ


في بلاد العرب (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) كالدّروع ولمّا كان تعداد النّعم الصّوريّة الجسمانيّة مقدّمة لتفهيم النّعم الاخرويّة الرّوحيّة وهي إرسال الرّسل لتبليغ الولاية واعداد الخلق لقبولها والسّير على طريقها وانّ المنعم لم يدع عالم الأجسام غير مهيّاة له أسباب قوامه وبقائه فكيف يدع عالم الأرواح والجهة الرّوحانيّة في الإنسان غير مهيّاة له أسباب كما له وبقائه ، وانّ عمدة أسباب كما له وبقائه إرسال الرّسل للانذار من الرّكون الى الأجسام والدّلالة على طريق الولاية وفتح باب القلب وإيلاء الولاة لتعليم طريق الولاية وتلقين ما يفتح به باب القلب بعد انقضاء ايّام الرّسالة ، عقّب المذكورات من النّعم المعدودة بقوله (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) يعنى مثل إتمام النّعم الجسمانيّة الصّوريّة المختلطة بالآلام والأسقام والمتاعب والمشاقّ يتمّ نعمته الحقيقيّة الّتى هي حاصلة إرسال الرّسل وغايته وهي الولاية ولا يهملكم في تلك الجهة من غير تهيّة أسباب كما لكم وبقائكم فيها (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) تقادون (فَإِنْ تَوَلَّوْا) صرف الخطاب الى محمّد (ص) يعنى ان تولّوا عن تلك النّعمة العظمى الّتى هي ولاية علىّ (ع) فلا بأس عليك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلّغت وامّا الإقبال والتّولّى فليس عليك وفي الآية وجوه أخره بحسب مراتب النّعم الاخرويّة والدّنيويّة الجسمانيّة لكنّ المذكور هو خلاصة الكلّ وبتذكّر ما أسلفنا لك مرارا يمكن التّفطّن بها (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) قد فسّر في اخبار عديدة نعمة الله هاهنا بعلىّ (ع) وهو ما ذكرنا من خلاصة الوجوه والّا ففيها وجوه أخر بحسب المراتب ، وقد ذكر في بعض الاخبار انّ الآية نزلت بعد ما قالوا عرفنا صدق محمّد (ص) ولكن لا نطيعه في علىّ (ع) ولا نتولّى عليّا (ع) (ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) في عين إسلامهم بك لانّهم كفروا بعلىّ (ع) أو بقولك أو كانوا كافرين بك من اوّل إسلامهم فانّ الإسلام يقتضي الانقياد وعدم الاعتراض على فعل الرّسول (ص) وقوله وأطاعته في جميع أوامره ونواهيه ، ولمّا أنكروا عليه قوله علم انّهم لم يكونوا مسلمين (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) عطف على (نِعْمَتَ اللهِ) ، أو على مفعول ينكرونها ، أو متعلّق بمحذوف معطوف على محذوف اى فحذّرهم وذكّرهم ، أو التّقدير فاعذّبهم اليوم ويوم نبعث (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) ولمّا كان عناية الله بتكميل الخلق في جهتهم الاخرويّة جعل في كلّ أمّة واقعة في طول الزّمان وكذا في كلّ فرقة واقعة في بقاع المكان خليفة منه يكون شاهدا عليهم ومراقبا لاعمالهم وأحوالهم ومعطيا لمن استعدّ منهم حقّه من آداب السّلوك الى الآخرة والاستعداد لنعيم الجنّة ، ويكون ذلك الخليفة بأقواله وأفعاله ميزانا للكلّ ويوم القيامة يبعث الله كلّ أمّة ويبعث خليفتهم بشهادته قالا وحالا عليهم ، فمن وافقه بعض الموافقة بعثهم الى الجنان بحسب مراتبهم في مراتبها ، ومن خالفه كلّ المخالفة بعثهم الى النّيران بحسب مراتبهم في مراتبها ، والمقصود تهديد من خالف من أمّته (ص) خليفته عليّا (ع) كما انّ الآيات السّابقة كانت لترغيبهم اليه (ع) (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في التّكلّم والاعتذار بل المتكلّم هو الخليفة لا غير (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يسترضون من العتبى بمعنى الرّضا (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون أو لا يلتفت إليهم بالنّظر (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) من الأصنام والكواكب والشّياطين وخلفاء الجور (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا) اى الشّركاء (إِلَيْهِمُ) الى المشركين (الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) في ادّعاء اشراكنا بل كنتم تعبدون أهواءكم وجعلتم صورة


عبادتنا جالبة لمقتضى اهويتكم (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الاستسلام والانقياد (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة والشّركاء واستحقاقهم العبادة والشّفاعة والنّصرة (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) كفروا بالله أو بالرّسول أو بالولاية ومنعوا الغير عن الولاية أو اعرضوا عنها (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) لكفرهم وصدّهم (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) في ارض وجودهم وفي ارض عالم الطّبع بمنع القوى عن الرّجوع الى القلب ومنع النّاس عن الرّجوع الى صاحب القلب (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) لمّا كان هذه الآية تأكيدا لسابقتها فصّلها وأجمل الاولى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة والقرآن صورته واحكام القالب والقلب أيضا صورته ، ولمّا كان النّبوّة مقام الجمع بعد الفرق وتفصيلا للوحدة الاجماليّة واجمالا للكثرة كان فيه بيان كلّ شيء وظهوره ولذلك قال (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً) الى الولاية والايمان القلبىّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَرَحْمَةً) لانّ النّبوّة لكونها صورة الولاية رحمة بكون الولاية رحمة (وَبُشْرى) بشارة الى مراتب الولاية (لِلْمُسْلِمِينَ) البائعين بالبيعة العامّة أو المنقادين المشار إليهم بقوله أو القى السّمع وهو شهيد.

بيان العدل

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) العدل التّوسّط بين طرفي الإفراط والتّفريط في جملة الأمور ، أو وضع كلّ شيء موضعه ، وهو يحصل بمعرفة تفاصيل الأشياء بمراتبها ومقاماتها ودقائق استحقاقاتها بحسب تعيّناتها وإعطاء كلّ ما تستحقّه بحسب اقتضاء طبائعها في التّكوينيّات واقتضاء افعالها في التّكليفيّات وهو يقتضي السّياسات واجراء الحدود والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وتهديد المعرض وترغيب الرّاغب وهذا شأن الصّدر والقلب من جهتهما الخلقيّة حالكونهما مستنيرين بنور الرّسالة والنّبوّة بالاتّصاف بهما أو بالاتّصال بهما ولذلك فسّر العدل في أخبارنا بمحمّد (ص) لاختصاص النّبوّة والرّسالة به (ص) في زمان التّخاطب وصحّ تفسيره بالنّبوّة والرّسالة وبوضع كلّ شيء موضعه وبالتّوسّط بين الإفراط والتّفريط في جملة الأمور (وَالْإِحْسانِ) الإحسان امّا بمعنى صيرورة الإنسان ذا حسن أو بمعنى إيصال المعروف مع إغماض النّظر عن الاستحقاق ، والمناسب هاهنا المعنى الثّانى لاعتبار الاضافة الى الغير في العدل وفي إيتاء ذي القربى ولكونه بعد العدل الّذى هو اعتبار الاستحقاق في الإعطاء ، والإحسان بهذا المعنى شأن الرّوح والقلب من جهته الرّوحيّة وهو شأن الولاية ، ولذلك فسّر في الاخبار بعلىّ (ع) وصحّ تفسيره بالولاية من حيث الاتّصاف بها أو من حيث الاتّصال بها (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) تخصيص بعد تعميم للعدل والإحسان باعتبار المتعلّق لاختصاص ذي القربى بمزيد رجحان ، وذو القربى اعمّ من القرابات الرّوحانيّة والجسمانيّة في العالم الكبير والعالم الصّغير كما انّ متعلّق العدل والإحسان اعمّ ممّا في العالم الكبير والصّغير ، ولمّا كان المستحقّ لأداء امانة الخلافة أصل ذوي القربى ، ورد انّ المراد أداء امام الى امام (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) الفعل الّذى يعدّه العقلاء اى أصحاب الشّرع فاحشا من غير اعتبار التّعدّى الى الغير مقابل العدل (وَالْمُنْكَرِ) اى الفعل المتعدّى الى الغير الّذى يعدّه الشّارعون قبيحا ضدّ المعروف مقابل الإحسان (وَالْبَغْيِ) التّطاول على النّاس أو الخروج من طاعة العقل وعدم الانقياد لذي القربى مقابل إيتاء ذي القربى خصوصا على تفسير ذي القربى بأئمّة الهدى (ع) (يَعِظُكُمْ) ينصحكم ويبيّن ما ينفعكم ويضرّكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قيل


لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه انّه تبيان كلّ شيء (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) عطف على انّ الله يأمر بالعدل فانّه في معنى اعدلوا ، وعهد الله هو العهد المأخوذ في البيعة العامّة النّبويّة الاسلاميّة أو البيعة الخاصّة الولويّة الايمانيّة (إِذا عاهَدْتُمْ) التّقييد به نصّ على انّ هذا العهد امر واقع في دار التّكليف وليس المراد ما وقع سابقا في الّذرّ كما يفسّر به العهود المطلقة في القرآن وتنبيه على انّ الوفاء بالعهد لا يتصوّر ما لم يقع صورته في دار التّكليف ، والمراد بالوفاء بالعهد الوفاء بشروطه الّتى تؤخذ على المعاهد حين البيعة ، والمراد بقوله (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) هو هذا العهد وشروطه ، وتسمية ذلك عهد الله لانّه عهد مع من اذن الله له في أخذ العهد عن عباده واليه أشار بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بطريق الحصر اشعارا بانّ الواسطة لا حكم له وانّما الحكم لذي الواسطة فقط (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) المراد بالايمان هي العهود المأخوذة بالبيعة ، وتسميتها ايمانا لحصولها بالايمان كسائر المبايعات (بَعْدَ تَوْكِيدِها) يعنى لا تنقضوا البيعة النّبويّة بعد توكيدها بالبيعة الولويّة فانّ البيعة الاسلاميّة إذا لم تؤكّد بالبيعة الايمانيّة كان في نقضها توبة وتقبل توبة ناقضها لأنّه كاشف في الأغلب عن الارتداد الملّىّ ، وامّا البيعة الايمانيّة فلا تقبل توبة ناقضها لانّه كاشف في الأغلب عن الارتداد الفطرىّ وهو مبالغة في نهى من يبايع عليّا (ع) في الغدير عن نقض بيعته بعد ما بايع محمّدا (ص) بيعة اسلاميّة ولقد اكّد تلك البيعة نفسها أيضا بان امر النّبىّ (ص) الخلائق بالبيعة مع علىّ (ع) في ذلك اليوم ثلاث مرّات ، وفي خبر ولقد عقد محمّد (ص) عليهم البيعة لعلىّ (ع) في عشرة مواطن ، وقد فسّرت الآية في الاخبار ببيعة غدير خمّ (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) تعديته بعلى لتضمين معنى المراقبة اى جعلتم الله رقيبا عليكم بواسطة كفالته لأموركم في تلك البيعة المؤكّدة بالبيعة الولويّة ، وفيه اشارة الى انّ بائع البيعة الولويّة كان الله كفيلا لاموره فليكل الأمور اليه ورقيبا عليه فليحذر الفسوق بعده كما قال : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ)(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) جواب سؤال عن العلّة أو عن حال الله معهم (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) واستحكام للفتل (أَنْكاثاً) جمع نكث بالكسر وهو امّا حال من الغزل لانّه مصدر بمعنى المفعول في معنى الجمع أو أنكاثا جمع في معنى المفرد بحسب الاستعمال لانّه يقال حبل أنكاث ، وامّا مفعول ثان لنقضت بتضمين معنى صيّرت وهو تشبيه تمثيلىّ لحال من بايع البيعة الاسلاميّة فانّ البيعة الاسلاميّة كالخيط المغزول الموصول من البائع الى من بايع معه بل الى الله ، ثمّ اكّد تلك بالبيعة الايمانيّة فانّها مثل استحكام الخيط المفتول بفتل آخر ثمّ نقض البيعة فانّ نقضها مثل نقض فتل الخيط بحال امرأة غزلت وأتعبت نفسها في غزلها واستحكامه ثمّ نقضت غزلها في تحمّل المتاعب وعدم الانتفاع بالغزل ، وفي الخبر انّ الّتى نقضت غزلها كانت امرأة من بنى تميم يقال لها ريطة كانت حمقاء تغزل الشّعر فاذا غزلته نقضت ثمّ عادت فغزلته فقال الله كالّتى نقضت غزلها (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) عهودكم الّتى أخذت منكم في البيعتين (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) حال من اسم لا تكونوا أو استيناف جواب لسؤال مقدّر لقصد ذمّهم على حالهم هذه ، والدّخل محرّكة الفساد في العقل والجسم والمكر وما داخل الشّيء وليس منه ، والرّيبة ؛ والكلّ مناسب هاهنا (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) كراهة ان تكون أمّة هم علىّ (ع) واتباعه اربى من أمّة هم مخالفوهم ، أو لأن تكون أمّة هم قريش اربى من أمّة هم محمّد (ص) واتباعه ، الأربى الأرفع سواء كان في العدد ، أو في المال ، أو في القوّة ، أو في الجاه (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ)


به يختبركم باتّخاذ الايمان أو بكون بعض اربى من بعض ليظهر ثبات من يثبت على الايمان ونكث من ينكث (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عطف على محذوف اى ليظهر سعادة السّعيد وشقاوة الشّقىّ ولبيّن (ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وأعظم ما فيه تختلفون ولاية علىّ (ع) لانّها النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تهديد لهم على أعمالهم وتحذير عمّا يضمرونه من عداوة علىّ (ع) ولمّا كان قوله (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) (الى آخر الآية) مشعرا بالجبر وإسقاط العقوبة قال (وَلَتُسْئَلُنَ) (الآية) اشعارا بالاختيار وثبوت العقوبة (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تصريح بالنّهى بعد الاشارة اليه تأكيدا واشعارا بعظمة قبح ذلك (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن الايمان (بَعْدَ ثُبُوتِها) بالبيعة وافراد القدم مع اقتضاء العبارة جمعها للاشعار بانّ البائع له اقدام ثابتة في مراتب الإسلام والايمان ولو زلّت قدم منها فكأنّما زلّت جميع الاقدام (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) في الدّنيا (بِما صَدَدْتُمْ) أهل الأرض وأهل مملكتكم فانّ الفاسد يفسد غيره لا محالة والنّاكث يمنع جميع مداركه وقواه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) التّكوينىّ الّذى هو طريق القلب والتّكليفىّ الّذى هو طريق الولاية والآخرة (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة قد كثرت الاخبار من طريق الخاصّة في تفسير الآيات من قوله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) الى قوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بولاية علىّ (ع) ونزولها حين قال النّبىّ (ص) : سلّموا على علىّ (ع) بامرة المؤمنين وأمرهم بالبيعة معه (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) بيعة محمّد (ص) أو بيعة علىّ (ع) (ثَمَناً قَلِيلاً) من اعراض الدّنيا وأغراضها بان تنكثوا بيعة علىّ (ع) خوفا من فوت الجاه وطمعا في الرّياسة كما كان حال المترئّسين أو طمعا في جيف الدّنيا كما كان حال المرئوسين (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) ممّا ادّخره لعباده الوافين من نعم الجنان (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) علمتم انّه خير لكم (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) تعليل (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على عهدهم ولم ينكثوا (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعنى نجزيهم بجميع أعمالهم جزاء أحسن أعمالهم وأحسن الأعمال هو الّذى كان على تذكّر من الله ومن الولاية بمراتب التّذكّر من اللّسانىّ والقلبىّ والصّورىّ الملكوتىّ والحقيقىّ التّحقّقىّ بل الأحسن هو نفس الولاية ، وهذه الآية أرجى آية للبائعين فطوبى لمن صبر على بيعته ، وقد مضى في مطاوى ما أسلفنا تحقيق الجزاء بأحسن الأعمال واسوئها (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) اى عملا واحدا صالحا اىّ عمل كان وقد مرّ مرارا انّ العمل الصّالح الحقيقىّ هو الّذى يكون مرتبطا بالولاية ، أو المراد بالتّنكير التّفخيم اى من عمل صالحا عظيما هو أصل جميع الصّالحات وهو عمل نفس الولاية (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) التّقييد به للاشارة الى انّ صورة العمل من غير ارتباطها بالولاية الّتى هي الايمان غير معتبرة في الحكم مثل الأعمال الّتى كانت لمنافقى الامّة ، أو المراد بالايمان هاهنا الإسلام (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) الحيوة الطّيّبة هي ما تكون خالية عن شوب الآلام في الدّنيا والآخرة وقد فسّرت في الاخبار بالقنوع بما رزقه الله والرّضا به (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لمّا كان هذه بشارة كاملة للمبتاعين كرّره تأكيدا (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) جواب شرط محذوف اى إذا كان اتّخاذ الايمان دخلا سببا لان تزلّ القدم وان يذاق السّوء والعذاب والصّدق في الايمان والصّبر عليها سببا لان يجزى الله جميع الأعمال بجزاء أحسن الأعمال فاذا قرأت القرآن الّذى هو صورة شروط


العهود والايمان وتذكرتها (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فعلى هذا يكون الخطاب عامّا لكلّ من يتأتّى منه الخطاب أو خاصّا على طريقة ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فانّ الاستعاذة لها اثر عظيم في منع الشّيطان سيّما إذا كانت بالفعل والحال أو بالقول قرينا للفعل والحال ، وبهذه الآية تمسّك من قال بوجوب الاستعاذة القوليّة أو استحبابها في اوّل القرائة ولذلك ضمّن قرأت معنى أردت القرائة وقد مضى في اوّل فاتحة الكتاب تفصيل تامّ للاستعاذة وكيفيّتها (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو الخاصّة (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) بالاستعاذة به والتّوكّل عليه (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) ولا يؤمنون بالله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) يعنى بعد الايمان أو العطف من قبيل عطف الأوصاف العديدة لذات واحدة وانّ الله اسم لذاته تعالى بحسب مقام معروفيّته ، ومقام المعروفيّة باعتبار وجهته الى الغيب يسمّى الله وباعتبار وجهته الى الخلق يسمّى عليّا (ع) وفي الاخبار انّ الشّيطان يسلّط من المؤمن على بدنه ولا يسلّط على دينه وفي خبر ليس له ان يزيلهم عن الولاية فامّا الّذنوب وأشباه ذلك فانّه ينال منهم كما ينال من غيرهم (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) آية من القرآن مكان آية منه بنسخ الاولى أو حكما من الأحكام مكان حكم آخر فانّ الأحكام كلّها آيات لطفه وعلمه في نظام الكلّ أو آية مكان آية أخبرت بها بالبداء فيها ومحوها وإثبات غيرها أو آية من الآيات العظمى مكان اخرى بجعل علىّ (ع) بدلا منك واخبارك ايّاهم بذلك (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من حيث حكمه ومصالحه (قالُوا) اى الكفّار أو منافقوا أمّتك (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) وليس ذلك باخبار ووحي من الله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جواز النّسخ والتّبديل وكيفيّته والمصلحة فيه (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) اى جبرئيل فانّه من الأرواح وإضافته الى القدس لتنزّهه عن شوائب النّقص ، أو المراد بروح القدس الملك الّذى هو أعظم من بجبرئيل لم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع محمّد (ص) وقد أسلفنا انّه ربّ النّوع الانسانىّ (مِنْ رَبِّكَ) حقّ العبارة ان يقال من ربّى لكنّه عدل الى الخطاب امّا لانّه مستأنف من الله تعالى غير محكىّ بالقول بتقدير نزّله اى نزّله من ربّك أو لفرض المحكىّ بالقول غير محكي بالقول ومثله كثيرا ما يقع في المحكىّ بالقول ، أو لانّ خطاب من ربّك ليس لمحمّد (ص) بل لكلّ من يتأتّى منه الخطاب ، أو للشّيطان يعنى قل للشّيطان المنكر للولاية نزّله روح القدس من ربّك (بِالْحَقِ) والضّمير في نزّله للتّبديل وارجاعه الى خصوص امر ولاية علىّ (ع) يؤيّد التّفسير الأخير للآية المبدلة (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) هذا أيضا يؤيّد التّفسير الأخير للآية فانّ الولاية هي الّتى يثبّت بها ايمان المؤمنين وهي الهدى والبشرى للمسلمين (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) يضيفون ويميلون قولك الى تعليمه (أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) قيل كانوا يقولون انّما يعلّمه ابو فكيهة مولى ابن الخضرمىّ وكان أعجميّ اللّسان وآمن بالنّبىّ (ص) وكان من أهل الكتاب ، وقيل : كانوا يقولون انّما يعلّم النّبىّ (ص) بشر يقال له بلعام وكان قينا روميّا نصرانيّا ، وقيل : أرادوا به سلمان الفارسىّ رحمه‌الله ، وقيل : أرادوا به غلامين نصرانيّين (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما لهم لا يتفطّنون ويلحدون القرآن الّذى هو لسان عربيّ مبين


الى الاعجمىّ فقال : لانّهم لا يؤمنون بآيات الله ومن لا يؤمن بآيات الله لا يهديه الله الى التّفطّن بدقائق القول ومفاسده (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) لا أنت فهو ردّ لقولهم انّما أنت مفتر (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) لا أنت (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) إسلامه أو ايمانه الخاصّ (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على الكفر القولىّ اى الّا من كفر قولا بالإكراه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أذعن بالكفر واعتقد واطمأنّ عليه (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) روى انّ الآية نزلت في عمّار رحمه‌الله لانّه أكرهه مشركو مكّة وأكرهوا أبويه على الكفر والبرائة من محمّد (ص) فأبى أبواه فقتلوهما وتبرّأ عمّار بلسانه ، وورد في الاخبار تحسين أبويه في اختيار القتل وتحسينه في اختيار البرائة اللّسانيّة على القتل (ذلِكَ) الارتداد بعد الإسلام أو الايمان (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) فاختاروا ما زعموا انّه أنفع بالحيوة الدّنيا وكفروا بالوجهة الاخرويّة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الى الثّبات في الايمان (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فلا يدركون من المعقولات والمسموعات والمبصرات ما لأجله إدراكها وقد سبق في اوّل البقرة تحقيق تامّ لطبع القلب والسّمع والبصر (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة لغفلتهم عمّا لأجله يكون جملة التّذكّرات وهو الله والآخرة بخلاف غفلات المؤمنين والمسلمين (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لانّهم بذلوا لطيفتهم الانسانية الّتى كانت بضاعة لهم لتحصيل النّعيم الأبديّ وحصّلوا متاعا فانيا مستعقبا لعذاب ابدىّ وقد مضى بيان لا جرم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) مقابل من كفر بالله (الى آخرها) وثمّ للاشارة الى تفاوت القصّتين والتّباعد بينهما والمعنى انّ ربّك للّذين هاجروا بعد الايمان أو قبله من بعد ما فتنوا والهجرة اعمّ من الهجرة الصّوريّة ، كما ورد انّ الآية في عمّار رضى الله تعالى عنه ، والهجرة الحقيقيّة اى هاجروا من دار الشّرك الى دار الإسلام ، ومن دار النّفس الى أعلى مراتبها وهو الصّدر ، ومن دار الإسلام الى دار القلب وهي دار الايمان (ثُمَّ جاهَدُوا) في سبيل الله بالجهاد الصّورىّ أو في سبيل الولاية وسبيل القلب بالجهاد الباطنىّ (وَصَبَرُوا) على الجهاد ولم يفرّوا من الأعداء في الظّاهر والباطن (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) بعد المهاجرة وفائدة التّأكيد التّصريح بانّ المغفرة والرّحمة انّما تكونان بعد الهجرة ولو بعد الشّروع فيها وامّا قبلها فليس للإنسان الّا الاستبصار بمعايبه والانزجار من منتناته وهو باعث على الهجرة والهجرة على المغفرة والرّحمة (لَغَفُورٌ) يستر عن نظر النّاظرين الجيف المنتنة الّتى كانت مع المهاجر حين مقامه في دار نفسه المشركة (رَحِيمٌ) بعد المغفرة بالتّفضّل عليه واستبدال الجيف بالصّور الطّيّبة من نعيم الجنان وحورها وغلمانها (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) ظرف لغفور أو رحيم أو كليهما على سبيل التّنازع ، أو ظرف لرحيم لانّ المغفرة تكون قبل الوصول الى القيامة ، أو مستأنف مقدّر باذكر (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) عن ذاتها بالاعتذار في الخلاص عن البوار وطلب مقام الأبرار (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) عين (ما عَمِلَتْ) على تجسّم الأعمال أو جزاء ما عملت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثّواب أو زيادة العذاب (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لتنبيه المنعمين الكافرين بأنعم الله (قَرْيَةً) حال قرية (كانَتْ آمِنَةً) من كلّ ما يخاف من بطش الأعداء وضيق المعيشة وآلام الأبدان وغموم النّفوس (مُطْمَئِنَّةً) لا يزعج أهلها مزعج (يَأْتِيها رِزْقُها


رَغَداً) واسعا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ما يوجد فيه وتحتاج القرية اليه (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) بالغفلة عن المنعم والبطر بالنّعم بدل الخضوع للمنعم (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) جزاء لكفرانهم وبطرهم والجوع استعارة بالكناية أو قرينة للاستعارة التّحقيقيّة في اللّباس أو تشبيه من قبيل لجين الماء وكذا الاذاقة امّا استعارة تحقيقيّة أو ترشيح لاستعارة الجوع (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) من الكفران والبطر وقد ذكر في الاخبار انّ هذه القرية كانت كثيرة النّعم حتّى كانوا يستنجون بالعجين ويقولون : انّه ألين فأجدبت حتّى احتاجوا الى أكل ما كانوا يستنجون به (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) ولا تكفروا ولا تبطروا كما كفرت أهل تلك القرية (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قد سبق في سورة البقرة وفي غيرها تفسير الآية وانّ الحصر بالاضافة الى ما قالوا من حرمة البحيرة والسّائبة وغيرها وليس مطلقا حتّى يرد الاشكال بلزوم تحليل المحرّمات (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) قرئ بالرّفع صفة لألسنتكم وقرئ بالنّصب مفعولا لقوله لا تقولوا أو لقوله تصف ولفظ ما موصول اسمىّ أو حرفيّ أو موصوف وقوله (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) مفعول لا تقولوا على بعض الوجوه ، أو بدل من الكذب على بعض الوجوه ، أو مفعول تصف على بعض الوجوه (لِتَفْتَرُوا) لينتهي الى الافتراء (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ) يعنى ما يقصدونه من هذا القول متاع قليل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الاخرة ولا ينبغي للعاقل ان يطلب المتاع القليل المستعقب للعذاب الأليم ، نسب الى الصّادق (ع) انّه قال : إذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي الّتى نهى الله عنها كان خارجا من الايمان وساقطا عنه اسم الايمان وثابتا عليه اسم الإسلام فان تاب واستغفر عاد الى الايمان ولم يخرجه الى الكفر والجحود والاستحلال فاذا قال للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ودان بذلك ، فعندنا يكون خارجا من الايمان والإسلام الى الكفر وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة فأحدث في الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة والحرم فضربت عنقه وصار الى النّار (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) (الآية) (وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ما حرّمنا عليهم بل صاروا مستحقّين للمنع والتّحريم كما في قوله (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) (الآية) (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) الإتيان بثمّ لتفاوت الجملتين من حيث انّ الاولى للتّشديد والتّغليظ والثّانية للتّلطّف وإظهار الرّحمة (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) بانصرافهم عن دار العلم ودخولهم تحت حكم الجهل (ثُمَّ تابُوا) ورجعوا عن مقام الجهل وندموا على ما وقع منهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) بتدارك ما لزمهم من حقوق النّاس وما فات منهم أو لزمهم من حقوق الله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد التّوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تكرار انّ ربّك مثل ما سبق (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) قد مضى انّ الامّة تقع على الواحد والجماعة والمأموم والامام (قانِتاً لِلَّهِ) خاضعا له (حَنِيفاً) مسلما أو خالصا وقد ذكر في الاخبار انّه كان على دين لم يكن عليه غيره فمكث ما شاء الله حتّى آنسه الله


بإسماعيل (ع) وإسحاق (ع) فصاروا ثلاثة ولذلك قال : انّ إبراهيم (ع) كان أمّة ولو كان معه غيره لأضافه اليه (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو تعريض بقريش لانّهم زعموا انّهم على دين إبراهيم (ع) (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الحسنة في الدّنيا هو الاطمينان بذكر الله والانس بالله بحيث لا يكون شيء من قضاء الله مكروها عنده ويستتبع ذلك سهولة المخرج والالتذاذ في الطّريق الى الله ومحبّة النّاس وحسن الصّيت وطيب العيش والتّمتّع بالأولاد والبركة بالكثرة والسّلامة من آفات الآخرة في الأعقاب وقد كان كلّ ذلك لإبراهيم (ع) (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الّذين لا فساد في وجودهم وهم الّذين حصّلوا جميع ما يمكن للإنسان من الكمالات (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمّد (ص) (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الملّة هي صورة احكام القالب مرتبطة بأحكام القلب مأخوذة من صاحب احكام القلب والقالب كما انّ النّحلة هي تلك الصّورة غير مأخوذة من صاحبها بشرائطها المقرّرة عندهم ، وتخلّل ثمّ لتراخى زمان الوحي عن زمان إبراهيم ، وللاشارة الى انّ اتّباع محمّد (ص) شرف لإبراهيم (ع) لا وصف له أشرف منه ، وللاشارة الى انّ حكاية حاله (ص) أعلى درجة من حكاية حال إبراهيم (ع) ، وعن الصّادق (ع): لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء لانّه المنهج الأوضح قال الله عزوجل ثمّ أوحينا إليك ان اتّبع ملّة إبراهيم حنيفا فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء لندب أوليائه وأنبيائه (ع) اليه (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) محترما (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) كأنّه كان في قلبه (ص) أو في قلب من آمن به شيء من الأمر باتّباع ملّة إبراهيم (ع) وترك تعظيم السّبت لانّه كان عيدا لليهود بأمر موسى (ع) كما انّ الأحد كان عيدا للنّصارى فرفع ذلك بقوله (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) (الآية) تسكينا له (ص) أو للمؤمنين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فانّ اليهود اختلفوا في السّبت بان حرّموه ثمّ استحلّوه فلعنهم الله ومسخهم ، وقيل : انّ المراد بالّذين اختلفوا فيه اليهود والنّصارى اختلفوا بان قال اليهود : السّبت أعظم الايّام لانّ الله فرغ من خلق العالم فيه واستراح ، وقال النّصارى : الأحد أعظم الايّام لابتداء خلق العالم فيه (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) كلام منقطع عن سابقه ولذلك لم يأت بأداة الوصل والمراد بسبيل الرّبّ دين الإسلام أو أعظم أركانه وهو الولاية (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الحكمة مفسّرة بالتّشبّه بالإله علما وعملا بمعنى الاطّلاع على دقائق العلوم الّتى يعجز عن مثلها البشر والقدرة على دقائق الأعمال الّتى يعجز عن مثلها أمثاله وبالفارسيّة «خورده بيني وخورده كارى» وهو شأن الولاية والمراد بها هاهنا الدّعوة من طريق الباطن بالتّصرّف في المدعوّ بحسب استعداده ومن طريق الظّاهر بحسب اقتضاء حاله بإظهار المعجزات وأعلامه بالخواطر والخيالات ليصرفه بذلك الى الحقّ ، والموعظة الحسنة هي إظهار ما كان نافعا للمدعوّ ليطلبه وما كان ضارّا ليجتنبه بحيث يرى المدعوّ انّ الدّاعى ناصح له وطالب لخيره وهو شأن النّبوّة ، والمجادلة الحسنة هي الزام الخصم بالحجّة والبرهان أو بما هو مسلّم عنده مذعن له سواء وافقه البرهان أم لا ؛ هكذا أشير الى تفسير المجادلة في الاخبار فهي اعمّ ممّا اصطلح عليه المنطقيّون وهي شأن الرّسالة فانّ الرّسول (ص) مأمور باقحام الخلق في الدّين ولو بالسّيف ، ولمّا كان الرّسول (ص) صاحب الشّؤن الثّلاثة والخلق على طبقات ثلاث مستعدّ لتصرّف الولىّ (ع) وقابل لنصح النّبىّ (ص) ومعاند محتاج الى الإلزام ولكلّ شخص يتصوّر أحوال صاحب تلك الطّبقات امر الله تعالى النّبىّ (ص) بالدّعوات


الثّلاث والمجادلة الغير الحسنة كما في الاخبار ان تجحد حقّا يدّعيه الخصم أو تلقّى باطلا عليه لالزامه وتضعف عن مقاومته بالحجّة فتجادله وبضعفك تجرّئه على أهل دينك وتضعف قلوب المسلمين وعقائدهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) يعنى انّك مأمور بالدّعوة العامّة فلا تتوان في الدّعوة تفكّرا في انّها تنفع أم لا (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) يعنى ان عاقبتم قصاصا وأتى بلفظ الشّكّ للاشعار بانّ المؤمن لا ينبغي له القصاص بل شأنه العفو واقدامه على القصاص كالمشكوك ؛ وهذا لمن لم يترقّ عن مرتبة النّفس ، وقوله (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) لمن عرج منها الى مقام القلب ، وقوله (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لمن اتّصف بصفات الرّوح وبعبارة اخرى الاوّل لمن قبل الرّسالة ، والثّانى لمن قبل النّبوّة ، والثّالث لمن قبل الولاية (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) يعنى ان صبرتم عن القصاص والمراد من الصّبر العفو وكظم الغيظ الّذى ذكر في الآيات الاخر كما انّ الرّضا بمنزلة الصّفح وفوق كلّ المراتب الإحسان الى من أساء ونزول الآية كما في الاخبار في غزوة أحد لانّ المشركين مثّلوا من قتلى المسلمين فقال المسلمون : لئن أدالنا الله عليهم لنمثلنّ بأخيارهم ، أو قال النّبىّ (ص) حين حضر حمزة ورأى ما فعل به وبكى : لئن أمكنني الله من قريش لأمثلنّ سبعين رجلا منهم ، فنزل عليه (ص) جبرئيل (ع) فقال : وان عاقبتم (الآية) لكنّ مضمونها عامّ (وَاصْبِرْ) لمّا كان المؤمنون الغير الخارجين من دار النّفس غير متحمّلين للاذى متبادرين الى القصاص قال فيهم على طريق المداراة (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) بخلاف محمّد (ص) ولذلك امره (ص) صريحا بالصّبر ثم للاشعار بانّ التّمكّن من الصّبر انّما هو نعمة من الله لانّ البشريّة مقتضيته للانتقام قال (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) اى على أصحابك وما فعل بهم من القتل والمثلة بناء على نزول الآية ، أو ولا تحزن على الضّالين الماكرين لك أو لعلىّ (ع) أو للمؤمنين (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) في حقّ أصحابك أو فيك أو في علىّ (ع) وهذا اشارة الى الصّفح وتطهير القلب عن الحقد على المسيء (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وهم أصحابك ، أو أنت واتباعك ، أو علىّ (ع) واتباعه فلاتك في ضيق ممّا فعل بأصحابك فانّ لهم الزّلفى عند الله أو لا تك في ضيق ممّا يحتالون فانّهم لن يصلوا بضرر إليك أو الى علىّ (ع) أو الى اتباعه ، أو هو تعليل للسّابق والمعنى انّ الله مع الّذين اتّقوا عن الضّيق والحزن أو الحقد على المسيء أو هو اشارة الى آخرة مراتب العبوديّة والتّقوى الحقيقيّة الّتى هي الفناء التّامّ في الله والسّفر بالحقّ في الحقّ ، وقد تكرّر فيما سبق انّ لله مع عباده ومخلوقاته معيّتين ؛ معيّة هي من صفات الرّحمة الرّحمانيّة وهي عامّة ، ومعيّة هي من صفات الرّحمة الرّحيميّة وهي خاصّة ؛ وهذا النّوع من المعيّة هو المراد في أمثال المقام (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ذوو حسن وهو الولاية أو محسنون الى المسيء إليهم فالآية كما أشير اليه في ذيل تفسير التّنزيل اشارة الى مراتب الإنسان من اوّل مقام الإسلام الى آخر كمال الإنسان فانّ قوله فان عاقبتم الى قوله لئن صبرتم اشارة الى اولى مراتبه في الإسلام وقوله (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) (الى قوله) (إِلَّا بِاللهِ) اشارة الى ثانيتها من مقام العفو وكظم الغيظ وقوله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) (الى قوله) (مِمَّا يَمْكُرُونَ) اشارة الى ثالثتها من مقام الصّفح وتطهير القلب عن الحقد على المسيء ، وقوله (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) اشارة الى آخر مقام التّقوى وهو مقام الفناء التّامّ وهو الفناء عن الفناء ، وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) اشارة الى آخر مقامات الإنسان وهو مقام البقاء بعد الفناء ، ولو كنت متذكّرا لما أسلفنا فيما أسلفنا من بيان الاسفار الاربعة للسّلّاك واصطلاح الصّوفيّة الصّافية فيها أمكنك التّفطّن بكون الآيات اشارة الى الاسفار الاربعة والله ولىّ التّوفيق.


سورة الإسراء

مكّيّة كلّها ، وقيل : سوى خمس آيات ؛ آية (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ) ، وآية (وَلا تَقْرَبُوا) ،

وآية (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) ، وآية (أَقِمِ الصَّلاةَ) ، وآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ).

وقيل : مكّيّة الّا ثمان آيات ، (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) (الى قوله) (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي)

الجزء الخامس عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) بعض ليل (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الّذى في بيت المقدّس أو الى المسجد الأقصى الّذى هو في السّماء الرّابعة المسمّى بالبيت المعمور الّذى المسجد الأقصى مظهره وهو ملكوته كما انّ المسجد الحرام مظهره وهو ملكوته ، والسّرى والإسراء بمعنى وهو السّير باللّيل فذكر اللّيل بعده مبنىّ على التّجريد ، أو التّأكيد ، وتعديته بالباء فقط وليس من قبيل الجمع بين التّعدية بالباء والهمزة (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) فانّ حول بيت المقدّس الشّام ومصر وكلاهما ممتازان عن سائر البلاد بكثرة النّعم من كلّ جنس ، والبيت المعمور الّذى هو في السّماء الرّابعة معلوم كثرة بركات ما حوله.

تحقيق المعراج الجسمانىّ

اعلم ، انّ الآية اشارة الى معراج الرّسول (ص) وقد اختلف الاخبار في كيفيّته وسيره (ص) وما رآه مع اتّفاقها على وقوعه وانّه من معجزاته (ص) وقد اختلف في انّه ببدنه الطّبيعىّ أم ببدنه المثالي أم بروحه ، وأنكرت الفلاسفة كونه بالبدن الجسمانىّ الطّبيعىّ لامتناع دخول الجسم الملكىّ في الأجسام الملكوتيّة وللزوم الخرق والالتيام في السّماوات وهو محال ، وقالت المتشرّعة اقتفاء لظاهر الاخبار انّه كان ببدنه الطّبيعىّ من غير تبيين لوجه صحّته مع قوّة برهان الفلاسفة على امتناعه وسنحقّقه ان شاء الله تعالى ، وأورد انّه كما روى كان في اقصر زمان حيث كان حرارة مضجعه باقية ولم يسكن حركة حلقة الباب ولم يتمّ انصباب ماء الإبريق الّذى سقط حين عروجه بعد رجوعه وكان ما قصّ علينا ممّا رآه في معراجه ووقع منه من الصّلوات والمخاطبات لا يمكن وقوعه الّا في زمان طويل فلا يمكن التّوفيق وأشكل أيضا بانّه (ص) حين بلغ الى مقام القرب خاطبه علىّ (ع) ومدّ علىّ (ع) يده من وراء الحجاب وشاركه في الغذاء وسدّ الطّريق علىّ (ع) حين سيره (ص) وكلّ ذلك يدلّ على كون علىّ (ع) أكمل منه (ص) مع انّه كان تابعا له (ص) والتّابع لا يكون أكمل من المتبوع.


وتحقيق ذلك بحيث لا يبقى ريب في وقوعه ببدنه الطّبيعىّ ولا إشكال ممّا ذكر يستدعى تمهيد مقدّمة فنقول : العالم ليس منحصرا في هذا العالم المحسوس المعبّر عنه بعالم الطّبع بسماواته وأرضيه بل فوقه البرزخ وهو عالم بين عالم الطّبع وعالم المثال وله الحكومة على عالم الطّبع والتّصرّف فيه اىّ تصرّف شاء من الأحياء والاماتة وإيجاد المعدوم واعدام الموجود وستر المحسوس وإظهار غير المحسوس بصورة المحسوس ومنه طىّ الأرض والسّير على الماء والهواء والدّخول في النّار سالما وقلب الماهيّات ، ومنه طىّ الزّمان كما ورد في الاخبار انّه قال المعصوم (ع) لمنافق : اخسأ ؛ فصار كلبا ، وقال لآخر : أنت امرأة بين الرّجال فصار امرأة ، وأنكر آخر قلب المهيّات عند المعصوم (ع) فصار الى نهر ليغتسل فدخل الماء وارتمس فخرج فرأى نفسه امرأة على ساحل بحر قرب قرية منكورة فدخلت القرية وتزوّجت وعاشت مدّة وولدت لها أولاد ثمّ خرجت لتغتسل في البحر فدخلت الماء وارتمست فخرجت على ساحل النّهر المعهود وهو رجل وإذا بثيابه موضوعة كما وضعها فلبسها ودخل بيته واهله غير شاعرين بغيبته لقصر الزّمان ، وأمثال ذلك رويت عن التّابعين لهم على الصّدق وهذا من قبيل بسط الزّمان ان كان وقوعه في عالم الملك ، كما نقل انّ امرأة وقع لها ذلك فأخبرت وأنكرها جماعة فأوتيت بأولادها بعد ذلك عن بلدة بعيدة مع انّه لم تمض في بلدها قدر ساعة ، أو من قبيل البسط في الدّهر من غير تصرّف في الزّمان ان كان وقوعه في الملكوت ، وفوق البرزخ عالم المثال وله التّصرّف في البرزخ والطّبع ، وفوقه عالم النّفوس الكلّيّات المعبّر عنها بالمدبّرات امرا ، وفوقه الأرواح المعبّر عنها بالصّافّات صفّا ويعبّر عنها في لسان الاشراقيّين بأرباب الأنواع وأرباب الطّلسمات ، وفوقها العقول المعبّر عنها بالمقرّبين وفوقها الكرسىّ وفوقها العرش وهو سرير الملك المتعال وهما بين الوجوب والإمكان لا واجبان ولا ممكنان بل فوق الإمكان وتحت الوجوب ، وكلّ من تلك العوالم له الاحاطة والتّصرّف والحكومة على جميع ما دونه فاذا غلب واحد من تلك العوالم على ما دونه صارما دونه بحكمه وذهب عنه حكم نفسه. ثمّ اعلم ، انّ الإنسان مختصر من تلك العوالم وله مراتب بإزاء تلك العوالم وكلّ مرتبة عالية لها الحكومة على ما دونها من غير فرق كما نشاهد من حكومة النّفس على البدن والقوى لكن تلك المراتب في أكثر النّاس بالقوّة وما بالفعل من النّفس المجرّدة الّتى هي بإزاء عالم النّفوس ضعيفة غاية الضّعف بحيث لا يمكنها التّصرّف في بدنها زائدا على ما جعله الله في جبّلتها فكيف بغير بدنها ، فاذا صار بعض تلك المراتب بالفعل كما في أكثر الأنبياء والأولياء (ع) أو جميعها كما في خاتم الأنبياء (ع) وصاحبي الولاية الكلّيّة (ع) كان لهم التّصرّف في أبدانهم باىّ نحو شاءوا ، وفي سائر أجزاء العالم كما روى عن الأنبياء والأولياء (ع) من طىّ المكان والزّمان والسّير على الماء والهواء ودخول النّار واحياء الموتى وإماتة الأحياء وقلب المهيّات وغير ذلك ممّا لا ينكر تمامها لكثرتها وتواتر الاخبار بمجموعها وان كان آحادها غير متواترة ، وامّا التّصرّف في البدن الطّبيعىّ بحيث يخرجه عن حكم الإمكان ويدخله في عالم العرش الّذى هو فوق الإمكان وفوق عالم العقول والملائكة المقرّبين كما روى انّ جبرئيل تخلّف عن الرّسول (ص) في المعراج وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت ؛ مع انّه من عالم العقول المقرّبين فهو من خواصّ خاتم الكلّ في الرّسالة والنّبوّة والولاية وهو من خواصّ نبيّنا (ص) لا يشاركه فيه غيره لا نبىّ مرسل ولا خاتم الأولياء ولذلك جعلوا المعراج الجسمانىّ بالكيفيّة المخصوصة من خواصّه (ص) ، ولمّا كان المعراج بتلك الكيفيّة امرا لا يتصوّر امر فوقه من الممكن وكان لا يتيسّر الّا إذا غلب العالم الّذى فوق الإمكان على البدن الطّبيعىّ ولا يتيسّر تلك الغلبة بسهولة ولكلّ أحد وفي كلّ زمان قالوا : انّ المعراج للنّبىّ (ص) كان مرّتين مع انّه نسب الى بعض العرفاء انّه قال : انّى أعرج كلّ ليلة سبعين مرّة ، والمعراج بالرّوح امر يقع لكثير من المرتاضين بل ورد انّ الصّلوة معراج المؤمن ؛ إذا تقرّر ذلك نقول : انّه (ص) عرج ببدنه الطّبيعىّ وعليه عباؤه ونعلاه الى بيت المقدس ومنه الى


السّماوات ، ومنها الى الملكوت ، ومنها الى الجبروت ، ومنها الى العرش الّذى هو فوق الإمكان ، وفي هذا السّير تخلّف جبرئيل (ع) عنه (ص) لانّه كان من عالم الإمكان ولم يكن له طريق الى ما فوق الإمكان لانّ الملائكة كلّ له مقام معلوم لا يتجاوزه بخلاف الإنسان ولم يكن منه ذلك المعراج الّا مرّتين كما في الاخبار ولا يلزم منه خرق السّماوات لارتفاع حكم الملك عن بدنه بغلبة الملكوت ، ولا استغراب في عروج البدن الطّبيعىّ الى الملكوت والجبروت لسقوط حكم الملك بل حكم الإمكان عنه مع بقاء عينه ، ولا غرو في كثرة وقائعه في المعراج فانّه من بسط الدّهر مع قصر الزّمان كما قال : وانّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون ، وقال أيضا : في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ، فقدر ساعة من الدّهر بإزاء قدر ساعة من الزّمان تكون كألف ساعة من الزّمان أو كخمسين الف ساعة ، وتكلّم علىّ (ع) ومدّ يده من وراء الحجاب كان بمقامه العلوىّ لا ببدنه الطّبيعىّ والفضل في المعراج بان يكون بالبدن الطّبيعىّ ولذلك كان من خواصّه (ص) لم يشاركه فيه علىّ (ع) واخبار المعراج وكيفيّة وقائعه مذكورة في المفصّلات ، ومن هذه الآية يظهر فضل نبيّنا (ص) على موسى (ع) حيث كان سيره الى الله باسراء الله وسير موسى (ع) من قبل نفسه ونفى الرّؤية عنه تأييدا بعد مسئلته وحصر الرّؤية في نبيّنا (ص) بدون مسئلته ، يعنى انّ محمّدا (ص) تحقّق بحقيقة السّمع والبصر بحيث لم يكن سمع الّا وهو سمعه ولا بصر الّا وهو بصره وما ذلك الّا بالتّحقّق بحقيقة السّمع والبصر وما ذاك التّحقّق الّا التّحقّق بحقيقة الأسماء والصّفات الّتى نفى شهودها عن موسى (ع) (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) يعنى فأريناه ايّاها فرآها فتحقّق بها فصار بحيث لم يكن سمع وبصر الّا وهو سمعه وبصره فصار في حال يقال في حقّه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فعلى هذا قوله انّه هو السّميع البصير جواب لسؤال عن حاله (ص) بعد الاراءة كأنّه قيل : فما كان حاله بعد الاراءة؟ ـ فقال : تحقّق بالآيات والأسماء والصّفات ، أو حال مفيدة لهذا المعنى وجعل المفسّرون ضمير انّه لله اى انّ الله هو السّميع لكنّه خلاف ظاهر الآية لفظا (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا) قرئ لا يتّخذوا بالغيبة على الأصل وبالخطاب على الالتفات ، وان تفسيريّة أو مصدريّة ولا نافية أو ناهية والخطاب لبني إسرائيل مثل : كتبت اليه ان قم ، على قراءة الخطاب أو لامّة محمّد (ص) تعظيما لشأنهم حيث جعل غاية إتيان الكتاب لموسى (ع) عدم اتّخاذ أمّة محمّد (ص) من دو الله وكيلا يعنى انّ المقصود من إرسال الرّسل سابقا كان اتّعاظكم وان لا تتّخذوا يا أمّة محمّد (ص) (مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) مفعول اوّل للا تتخذوا ووكيلا مفعول ثان له مقدّم عليه وحمله على الجمع لجواز حمل فعيل بمعنى الفاعل على الجمع مفردا نحو حسن أولئك رفيقا ، أو نداء أو منصوب على الاختصاص ، أو مفعول لفعل محذوف (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أتى بمدحه عقيب ذكره تعليلا لجعل الكتاب هدى لذرّيّته (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) اى أخبرنا بنى إسرائيل بقضائنا (فِي الْكِتابِ) التّوراة أو اخبار النّبوّة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) وعد عقاب أوليهما (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) تنزيل الآية في بنى إسرائيل ومرّتى الإفساد بقتل زكريّا (ع) وبقتل يحيى (ع) ، والعلوّ الكبير استكبارهم وطغيانهم وخروجهم عن طاعة الأنبياء (ع) ، والعقوبة الاولى كانت على يد بختنصّر وجنوده وردّ الكرّة عليهم بردّ بهمن بن إسفنديار أساريهم وتمليكه دانيال عليهم وتبسّطهم في البلاد وتسلّطهم على العباد ثانيا ، والعقوبة الثّانية كانت بتسليط الفرس عليهم مرّة اخرى ، كذا قيل ، وعلى هذا فقوله عبادا لنا اولى بأس شديد بختنصّر وجنوده


(فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) تجسّسوا وتفحّصوا المواضع الخفيّة من دياركم للقتل والأسر والنّهب (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) حتما (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) على الّذين بعثوا عليكم (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) ممّا كنتم أو منهم (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) يعنى قلنا لهم ان أحسنتم أو ان أحسنتم يا قوم محمّد (ص) أو ان أحسنتم يا بنى إسرائيل الحاضرين في هذا الزّمان (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) استعمال لها هاهنا من باب المشاكلة أو التّهكّم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) العقوبة الآخرة (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) متعلّق بجاء أو متعلّق بالجزاء المحذوف والتّقدير فاذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا اى العباد اولى البأس وجوهكم بعثناهم عليكم ، أو فاذا جاء وعد الآخرة بعثناهم عليكم ليسوؤا وجوهكم (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) مسجد كم الأقصى (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) ليهلكوا مدّة علوّهم أو الّذى استولوا عليه (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد ذلك بتقدير القول أو خطاب لامّة محمّد (ص) لانّ الآية تعريض بهم أو خطاب للحاضرين من بنى إسرائيل (وَإِنْ عُدْتُمْ) الى طغيانكم (عُدْنا) الى عقوبتكم وهذه عقوبة دنيويّة لها أمد وانقطاع (وَجَعَلْنا) في الآخرة (جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) محصورا فيها أو حاصرة لهم مانعة عن الخروج ، وتذكير الحصير امّا لكونه بمعنى المفعول أو لتشبيهه بالفعيل بمعنى المفعول ، وعن ائمّتنا (ع) انّهم فسّروا الافسادتين بقتل علىّ (ع) وطعن الحسن (ع) ، والعلوّ الكبير بقتل الحسين (ع) والعباد اولى البأس بقوم يبعثهم الله قبل خروج القائم فلا يدعون وترا لآل محمّد (ص) ووعد الله بخروج القائم (ع) وردّ الكّرة عليهم بخروج الحسين (ع) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهّب حين كان الحجّة القائمة (ع) بين أظهر هم وتملّك الحسين (ع) حتّى يقع حاجباه الى عينيه وفسّر بعلىّ (ع) ويوم الجمل وبنى أميّة وبالقائم (ع) وأصحابه على نحو يظنّ انّه تنزيل لا تأويل (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) هذا اشارة الى الصّورة التّدوينيّة من جملة القرآن أو من قرآن الولاية أو الى الرّسالة أو الى النّبوّة أو الى الرّسول (ص) أو الى شخص الامام فانّ كلّا من هذه هو المحسوس المعلوم للخلق وان كان المقصود حقيقة هي الولاية والهداية الدّلالة والمراد بالّتى هي أقوم الملّة الّتى هي أقوم ملل الأنبياء لكون المنزّل عليه أقوم من سائر الأنبياء والمنزّل لهم أقوم من سائر الأمم ، أو الطّريق الّتى هي أقوم من سائر الطّرق من طرق النّفس وهي طريق القلب ، أو الطّريقة الّتى هي أقوم من طريق النّبوّة وهي الولاية وهي المقصود فانّها غاية إرسال الرّسل وإنزال الكتب وقد فسّرت في اخبار عديدة بالولاية باختلاف اللّفظ ، هذا بالنّسبة الى من لم يدخل في الإسلام بعد وهو مستعدّ للدّخول أو دخل ولم يدخل في الايمان بالبيعة الخاصّة الولويّة وامّا بالنّسبة الى من قبل الدّعوة الظّاهرة العامّة بالبيعة العامّة النّبويّة ودخل في الايمان بالبيعة الخاصّة الولويّة وبالنّسبة الى من لم يدخل في البيعتين ولم يستعدّ للدّخول بإنكار الآخرة حالا أو قالا فيكون بشارة أو إنذارا ولذلك عطف على يهدى قوله (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) اى يعملون طبق ما أخذ عليهم في تلك البيعة (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَ) يخبر (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أو يبشّر انّ الّذين لا يؤمنون ، على ان يكون من عطف الجملة أو عطف المفرد ويكون ذلك بشارة اخرى للمؤمنين (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) يدعو بما هو شرّ في نفسه وهو لا يعلم انّه شرّ نحو دعائه بما هو خير وهو يعلم انّه خير ، والدّعاء بما لا يعلم انّه خير له


ومرضىّ للحقّ مذموم ، ورسم خطّ القرآن على إسقاط الواو من يدع في الكتابة اشارة الى نقصان دعاء الإنسان هذا الدّعاء (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يدعو بما لا يعلم من غير صبر وتروّ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) اى نيّرى اللّيل والنّهار وهما الشّمس والقمر أو ذوي آيتين ويؤيّد هذين التّقديرين قوله ليعلموا عدد السّنين فانّه يعلم عدد السّنين والحساب باختلاف القمر في الأحوال ، أو جعلنا نفس اللّيل والنّهار آيتين ويكون المحو عبارة عن نقصان النّور ، وتأديته بهذه العبارة ليذهب السّامع بحسب الاحتمال كلّ مذهب ممكن ، وهذا من سعة وجوه القرآن وليمكن تطبيق الآية على جميع مراتب اللّيل والنّهار فانّ اللّيل والنّهار كما مرّ مرارا ليسا مختصّين بالشّهودين المحسوسين بل يجريان في جميع مراتب الوجود فانّ الملكوت السّفلى بالنّسبة الى الملك انقص نورا وان كانت مجرّدة تجرّدا برزخيّا فهي ليل بالنّسبة اليه ، والملك بالنّسبة الى الملكوت العليا ليل والملكوت العليا لاحتجابها بحجاب التّقدّر بالنّسبة الى النّفوس ليل ، والنّفوس لاحتجابها بالتّعلّق التّدبيرىّ بالنّسبة الى الجبروت ليل ، وكلّ ذلك بجهته الامكانيّة ليل بالنّسبة الى جهته الالهيّة وهكذا الأمر في العالم الصّغير بإضافة أحواله من القبض والبسط والسّقم والصّحّة والفقر والسّعة والخوف والأمن ، والمعنى جعلنا اللّيل والنّهار في كلّ من مراتبهما آيتين (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) اى نقصنا نور آية هي اللّيل أو آية مضافة الى اللّيل وهي القمر (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) اى آية هي النّهار أو آية مضافة الى النّهار ومبصرة من المجاز العقلىّ أو من أبصره إذا جعله ذا ابصار ، أو من ابصر إذا أضاء أو من أبصر إذا صار اهله بصراء (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) غاية لابصار آية النّهار وتقديم آية اللّيل لتقدّمها طبعا في سلسلة الصّعود وفي انظار ذوي الآية وهم البشر ، وتقديم غاية النّهار لشرافتها ولانّ غاية اللّيل غاية لهما (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) بسبب اختلاف القمر بالنّسبة الى أوضاعه مع الشّمس هلالا وبدرا ومحاقا (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) يعنى ليس انتظام اللّيل والنّهار والشّمس والقمر فقط لانتفاعكم بل كلّ شيء في العالم من المادّيّات الارضيّات والسّماويّات والمجرّدات المتقدّرات والمتعلّقات وغير المتعلّقات نظمناه نظما أنيقا يعجز عن ادراك دقائق حكمه ومصالحة عقول البشر ، والتّفصيل كما يستعمل في التّمييز والتّبيين يستعمل في التّنظيم الأنيق فانّه نحو تبيين لدقائق الحكم وتمييز لكلّ من الدّقائق عن الآخر (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الطّائر الّذى يطير ، ولمّا كان العرب يتيّمنون بطيران الطّائر الى اليمين ويتشأّمون بطيرانه الى اليسار خصوصا بعض الطّيور جعل أسماء لمطلق ما يتيّمن ويتشأمّ به ، ثمّ استعمل في مطلق سبب الخير والشّرّ والمعنى ألزمناه سبب خيره وشرّه في عنقه كأنّه قلادة فيه (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) مكتوبا بأيدي ملائكتنا ممّا هو عبارة عن اللواح نفسه أو ما هو خارج عنها (يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ) قائلين اقرء (كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) محاسبا لا حاجة لك الى محاسب آخر لكشف الغطاء وحدّة البصر وحضور الأعمال مجسّما ومكتوبا وشهود الميزان وتطاير الكتاب السّجّينىّ الى اليسار والعلّيينىّ الى اليمين (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) في الصّغير رسول العقل وفي الكبير واحدا من الأنبياء والأولياء (ع) (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) اى منعميها قرئ أمرنا مفتوح العين من الثّلاثىّ المجرّد وآمرنا ممدود الهمزة من باب الأفعال وقرئ أمرنا بكسر العين من الثّلاثى ، وامرّنا مشدّد العين ، والكلّ بمعنى كثّرنا ، ويجوز ان يكون أمرنا بفتح العين وآمرنا من باب الأفعال من الأمر


ضدّ النّهى ؛ ويكون المعنى امرناهم تكوينا بالفسق (فَفَسَقُوا فِيها) أو يكون المعنى امرناهم تكليفا بالعبادات ففسقوا ، ويجوز ان يكون امرّنا بتشديد وآمرنا من باب الأفعال من امر بتثليث العين بمعنى صار أميرا ويكون المعنى جعلنا مترفيها ولاة عليها ففسقوا ، وتخصيص المترفين على المعاني الاول لانّ غيرهم ينظرون إليهم فيتّبعونهم ولانّهم اقدر وأسرع من غيرهم الى الفجور ، ولانّهم افرغ قلبا واجرأ فيكون حيلتهم في ارتكاب الفجور أكثر وأنفذ (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) بنزول العذاب والإهلاك بعد فسوقهم (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) قيّده ببعد نوح لانّ القرون الّتى كانت قبله لم يكن فيهم ما كان فيمن كان بعده ، أو لانّ ما كان فيهم لم يصل إلينا كما وصل ما كان فيمن كان بعده يعنى أهلكنا كثيرا من بعد نوح فلا نبالى باهلاك الفاسقين منكم (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فلا تجترئوا على الّذنوب لعلم الله بها ومؤاخذته عليها (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) الحاضرة وهي الدّنيا ونعيمها بان كان إرادته في اعماله متعلّقة بها (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من له بدل البعض ، وتقييد التّعجيل للاشارة الى انّ ذلك منوط بمشيّة الله لا بإرادة المريد وهمّه على ما يريد وليس كلّ مريد يصل الى مراده ولا من يصل يصل الى تمام مراداته (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) مطرودا ، عن النّبىّ (ص) معنى الآية : من كان يريد ثواب الدّنيا بعمل افترضه الله عليه لا يريد به وجه الله والدّار الآخرة عجّل له ما يشاء الله من عرض الدّنيا وليس له ثواب الآخرة (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) اللّائق بها لا السّعى الّذى زعموه بآرائهم انّه سعيها ، وجعل القرينتين مختلفتين في الشّرط والجزاء للاشعار بانّ استحقاق العذاب انّما هو بصيرورة ارادة العاجلة سجيّة لا بإرادة ما واحدة جزئيّة واستحقاق الثّواب انّما هو بإرادة واحدة جزئيّة وسعى واحد بشرط الايمان والى هذا المعنى أشار تعالى بقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ، وللاشعار بانّ استتباع صور الأعمال الحسنة لتعجيل خيرات الدّنيا عرضىّ محتاج الى الجعل بخلاف استتباعها لغاياتها (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قيّده بالايمان وهو الولاية الّتى تحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة لانّ العمل بدون الولاية لا اثر له ولا فائدة فيه كما ورد : لو انّ عبدا عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولىّ امره لأكبّه الله على منخريه في النّار (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) مجزيّا عليه (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بدل تفصيلىّ من كلّا (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) المضاف وهو الولاية المطلقة أو هو التفات من التّكلّم الى الغيبة أو هو استيناف خبر مبتدء محذوف كأنّه قيل : من اىّ شيء كان الأمداد ، من استحقاقهم أو من فضل الله؟ ـ فقال : ذلك من عطاء ربّك (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) من القوى والمدارك وما يحتاج المحسن والمسيء اليه من الأرزاق والملبوس والمسكون والأسباب الّتى يتوسّل بها الى التّعيّش والأعمال الحسنة والسّيّئة (مَحْظُوراً) منهما (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) لتتنبّه للتّفاضل في الآخرة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) يعنى أكثر درجات أو أعظم درجات بحسب أنفسها من درجات الدّنيا (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) بالاضافة الى تفضيل درجات الدّنيا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ) الخطاب عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب أو خاصّ به (ص) في اللّفظ على ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة أو على طريق سريان خطاب المتبوع الى الاتباع ، أو سريان خطاب الكلّ الى الاجزاء يعنى لا تجعل مع الله في الآلهة أو العبادة أو الطّاعة أو الوجود ، أو لا تجعل مع الله بحسب مظاهره الّذين هم مظاهر الولاية (إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ)


فتبقى فانّ القاعد يبقى متأخّرا عن الرّفقة (مَذْمُوماً) يذمّك الله وخواصّه (مَخْذُولاً) عن نصرة الله ونصرة خواصّه (وَقَضى رَبُّكَ) تكوينا كما امر تكليفا أو امر تكوينا وتكليفا على استعمال القضاء بمعنى إيصال الأمر الى المأمور سواء كان بنحو التّكوين أو التّكليف لكن في امره التّكوينىّ لا يقع التّخلّف وفي امره التّكليفىّ قد يقع التّخلّف أو ثبت في عالم قضائه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ان مصدريّة ولا نافية أو ناهية أو مفسّرة ولا ناهية والمعنى قضى ربّك ان لا يقع منكم عبادة تكوينا الّا له أو ان لا يقع ولا يصحّ تكوينا واختيارا أو لا يصحّ اختيارا وتكليفا منكم عبادة الّا له.

بيان انحصار العبادة في الله

اعلم ، انّ الله تعالى منزّه عن المثل والثّانى ولكن له المثل الأعلى والإنسان مثل أعلى له تعالى ، فمثل الحقّ تعالى في العالم الكبير باملاكه وأفلاكه وأرضه ومواليده مثل النّفس الانسانيّة في العالم الصّغير بقواها العالية والدّانية وأرواحها الحيوانيّة السّماويّة واعضائها الارضيّة وصورها الذّهنيّة ، فشأن الصّور الّذهنيّة بالنّسبة الى النّفس شأن الملائكة المقرّبين الّذين لا شأن لهم الّا التّعلّق الصّرف ولا انانيّة لهم ولا استقلال بوجه من الوجوه وشأن القوى المدركة والمحرّكة شأن النّفوس وعالم المثال ، وشأن الأعضاء شأن عالم الطّبع ، وكما انّه ليس للصّور الذّهنيّة شأن الّا الانقياد الصّرف والعبوديّة المحضة كذلك ليس للملائكة الّا الانقياد والعبوديّة ، وكما انّ الأعضاء إذا كانت سليمة غير مؤفة شأنها الانقياد للنّفس والعبوديّة لها كذلك عالم الطّبع بشراشره إذا كان سليما شأنه الانقياد والعبوديّة ، وكما انّ الأعضاء إذ طرأ عليها الآفة قد تخرج عن انقياد النّفس كذلك أجزاء العالم إذا كانت مؤفة بآفة إضلال الشّيطان أو بآفة العجب والغرور كما في افراد الإنسان والشّياطين والجنّ قد تخرج عن انقياد الله وطاعته ، وكما انّ الأعضاء المؤفة الخارجة عن طاعة النّفس والمنقادة للطّبع بحكم الآفة غير خارجة عن انقياد النّفس مطلقا كذلك أجزاء العالم المؤفة إذا خرجت عن طاعة الله ودخلت في طاعة الشّيطان وعبدت بحكومته سائر أجزاء العالم من الملائكة والسّماويّات والارضيّات والشّياطين والجنّ اختيارا كما انّها عبدت الشّيطان اوّلا من حيث لا تشعر لم تكن خارجة عن طاعة الله تكوينا ، ولمّا كان أجزاء العالم مظاهر لله الواحد الأحد القهّار بحسب أسمائه اللّطفيّة والقهريّة كان عبادة الإنسان لاىّ معبود كانت عبادة لله اختيارا أيضا بخلاف طبائع الاناسىّ فانّها ليست مظاهر للنّفس الّا بوجه بعيد لا يعلمه الّا الرّاسخون ، ولذلك لم تكن الأعضاء المؤفة في حكم الآفة منقادة للنّفس عبادة لها مطلقا فالإنسان في عبادتها اختيارا للشّيطان كالابليسيّة وللجنّ كالكهنة وتابعي الجنّ وللعناصر كالزّردشتيّة وعابدى الماء والهواء والأرض وللمواليد كالوثنيّة وعابدى الأحجار والأشجار والنّباتات كالسّامريّة وبعض الهنود الّذين يعبدون سائر الحيوانات ، وكالجمشيديّة والفرعونيّة الّذين يعبدون الإنسان ويقرّون بالهته وللكواكب كالصّابئة وللملائكة كأكثر الهنود وللّذكر والفرج كبعض الهنود القائلين بعبادة ذكر الإنسان وفرجه ، وكالبعض الآخر القائلين بعبادة ذكر مهاديو ملكا عظيما من الملائكة وفرج امرأته كلّهم عابدون لله من حيث لا يشعرون ، لانّ كلّ المعبودات مظاهر له باختلاف أسمائه ولذلك قيل :

اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست

يقين كردى كه دين در بت پرستى است

اگر كافر ز بت آگاه بودى

چرا در دين خود گمراه بودى

وقال المولوى المعنوىّ قدس‌سره :

ساخت موسى قدس در باب صغير

تا فرود آرند سر قوم زحير

زانكه جبّاران بدند وسر فراز

دوزخ آن باب صغير است ونياز

آنچنانكه حق ز لحم واستخوان

از شهان باب صغيرى ساخت هان

ساخت سرگين دانكى محرابشان

نام آن محراب مير وپهلوان

چون عبادت بود مقصود از بشر

شد عبادتگاه گردنكش سقر


لكن تلك العبادة لمّا لم تكن بأمر تكليفىّ من الله لم يستحقّوا الأجر والثّواب عليها بل استحقّوا العقوبة والعذاب ، فعلى هذا معنى الآية قضى ربّك قضاء حتما لا تخلّف عنه ان لا يعبد عبد عبادة لشيء من الأشياء الّا كانت العبادة له وبقضائه وامره التّكوينىّ ، وقضى قضاء حتما ان لا يصحّ العبادة من عابد لمعبود الّا إذا كانت بإذن من الله وقضى قضاء تكليفيّا بان امر على السنّة أنبيائه (ع) ان لا تعبدوا الّا ايّاه فمن كان في عبادته ناظرا الى غيره فقد خرج عن قضائه وامره التّكليفىّ ولم تكن العبادة باذنه فلم تصحّ منه واستحقّ العقوبة من الله تعالى (وَبِالْوالِدَيْنِ) وان تحسنوا أو ان أحسنوا حذفه اكتفاء بقوله (إِحْساناً) وهذا غاية التّعظيم للوالدين حيث قرن إحسانهما من عبادة نفسه والوالدان اعمّ من الجسمانيّين والرّوحانيّين العلويّين والسّفليّين فانّ السّفليّين إحسانهما ان تصاحبهما في الدّنيا معروفا وقد مضى في سورة البقرة تفصيل وتحقيق تامّ للوالدين وإحسانهما (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) الهرم والشّيخوخة (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) لا تنزجر منهما ولا تظهر انزجارك لهما وورد : لو علم الله شيئا ادنى من افّ لنهى عنه وهو من ادنى العقوق (وَلا تَنْهَرْهُما) ولا تقهرهما بان تزجرهما (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) جميلا (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) مستعار من تذلّل الطّيور فانّها تخفض جناحها عند التّذلّل (مِنَ الرَّحْمَةِ) من رحمتك لهما فانّهما استحقّا بافتقارهما إليك وأنت كنت في نهاية الفقر إليهما رحمة منك ولا تكتف بإحسانك والرّحمة لهما بل ادع الله لهما في حيوتهما ومماتهما (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) عن النّبىّ (ص) انّه قال من غير سابقة رغم انفه ؛ ثلاث مرّات ، قالوا من يا رسول الله (ص)؟! قال : من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ولم يدخل الجنّة (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) وعد على الإحسان والرّحمة بالنّسبة الى الوالدين (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) خصّه بالتّخاطب بعد تعميم الخطاب اشعارا بانّه (ص) أصل في هذا الحكم وانّ أصل الحقوق بيده وانّ أصل ذوي القربى هو القريب الرّوحانى له (ص).

اعلم ، انّ الإنسان ذو مراتب عديدة بحسب بدنه ونفسه وقلبه وروحه وعقله وسرّه وله في كلّ من المراتب قرابات وقراباته بحسب مراتب القرب متفاوتة بعضها أقرب وبعضها قريب ولكلّ بحسب مرتبته حقّ ، هذا في العالم الكبير وله أيضا في عالمه الصّغير قرابات من نفسه وقواها المدركة والمحرّكة وبدنه وأعضائه ولكلّ أيضا حقّ كالقرابات الجسمانيّة كالعمودين وفروع الأصول حقوقهم ما فرض لهم ، وبيّن من الأموال في المواريث ومن تعهّد الأحوال وبشر الوجه وقضاء الحاجات ممّا قرّر في صلة الأرحام الصّوريّة والقرابات الصّدريّة النّفسيّة ، كالدّاخلين في الإسلام حقوقهم النّصح وتعليم الأحكام وبشر الوجه وتعهّد الحال وقضاء الحاجات وستر العيوب وحفظ الغيب وغير ذلك ممّا قرّر في حسن المعاشرة مع المسلمين ، والقرابات القلبيّة الايمانيّة كالمبتاعين بالبيعة الخاصّة الولويّة حقوقهم مع ذلك بذل الوسع في خدمتهم والمواساة بالمال والإيثار فيما يقتضي الإيثار والتّرحّم والدّعاء لهم بظهر الغيب وغير ذلك ممّا قرّر في حقّ المؤمنين ؛ هذا للمسلمين والمؤمنين الّذين هم بمنزلة الاخوة في القرابات الجسمانيّة. وامّا المسلمون بالنّسبة الى النّبىّ (ص) والمؤمنون بالنّسبة الى الامام (ع) الّذى هو كالأب وهم كالأولاد حقوقهم عليه وحقوقه عليهم مع تلك الحقوق امر آخر ، وكذلك النّبىّ (ص) بالنّسبة الى خليفته والامام بالنّسبة الى امام بعده حقوقهم غير ذلك ، فاذا عرفت ذلك عرفت انّ تفسير ذي القربى بالقرابات الصّوريّة وبالقرابات الاسلاميّة وبالقرابات الايمانيّة وبالإمام وبأقرباء محمّد وبآل محمّد (ص) كلّها صحيح ، وكذا تفسير الحقّ المالى


بالحقّ الميراثىّ وبفدك لفاطمة (ع) وبالتّصدّق من أصل المال على الأقرباء وبالمواساة وقضاء الحاجات والخدمة للإخوان الاسلاميّة والايمانيّة وبتعظيم النّبىّ والامام وبحقّ الامامة للإمام كلّها صحيح فاختلاف الاخبار في تفسير الآية لكثرة مراتبها وسعة وجوهها والكلّ صحيح من غير خلل (وَالْمِسْكِينَ) الّذى أسكنه العجز عن الكسب للقوت وحقّه من الزّكاة والتّصدّقات أو أعجزه الشّيطان والنّفس عن الوصول الى الامام (ع) بعد الوصول الى النّبىّ (ص) أو عن السّلوك الى الله بعد الوصول الى الامام (وَابْنَ السَّبِيلِ) المنقطع عن بلاده السّائر إليها ولم يكن له زاد بالفعل أو بالقوّة ولو بالاستدانة ، أو المنقطع عن الامام (ع) السّائر اليه ظاهرا أو باطنا (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) بإعطاء غير المستحقّ أو إعطاء المستحقّ زائدا عن حقّه ، ولمّا امر بإيتاء الحقوق للمستحقّين نهى عن التّبذير الّذى هو إيتاء غير المستحقّ وإيتاء المستحقّ زائدا عن الحقّ الّذى هو السّرف فانّ الإيتاء من غير تبذير هو الاقتصاد فالتّبذير هاهنا اعمّ من الإسراف وان كان قد يقابله ، ولمّا كان الأمر بإيتاء الحقوق مستلزما للنّهى عن التّقتير بمفهوم المخالفة اكتفى عنه به ونهى صريحا عن السّرف ، ولمّا لم يختصّ إيتاء الحقّ بالمال الصّورىّ ولا بالقرابات الصّوريّة بل يعمّ سائر الحقوق وجميع القرابات في العالم الكبير والصّغير ، ورد عن النّبىّ (ص) انّه مرّ بسعد وهو يتوضّأ فقال : ما هذا السّرف يا سعد؟ ـ قال : أفى الوضوء سرف؟ ـ قال : نعم وان كنت على عين جارية ، وورد عن الصّادق (ع): انّه سئل أفيكون تبذير في حلال؟ ـ قال : نعم ، والسّرّ فيه انّ من كان على عين جارية وزاد في تحريك القوى على ما يؤدّى به الفرض والنّدب كان ذلك منه استعمالا للقوى وتوجّها الى القوى المحرّكة من غير استحقاق وان لم يكن سرف وتبذير هناك للماء ، وخلاصة ما يستفاد من الاخبار باختلافها انّ إنفاق المال أو الكلام أو العلم أو الحكمة أو العرض والجاه أو قوّة القوى أو الإنفاق على النّفس وقواها بمشتهياتها من غير التفات الى امر الله وامتثال له تبذير كائنا ما كان ، وكلّ ذلك إذا كان بأمر من الله والتفات اليه وامتثال له اقتصاد كائنا ما كان ولذلك ذكروا انّه لو جعلت الدّنيا كلّها لقمة وأطعمتها مؤمنا ما كان سرفا (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ) المنفقين في غير طاعة الله وبالغفلة عن أمر الله (كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لانّ الإنفاق إذا لم يكن بأمر الله كان بأمر الشّيطان فانّه يترصّد العبد وغفلته عن امر الله فيتصرّف فيه ويحكم عليه كما يحكم على شياطينه (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) عطف لبيان العلّة يعنى انّ الشّيطان كفور لربّه والمبذّر المنفق من غير التفات الى امر الله كفور لربّه فهو أخ للشّيطان في الكفوريّة (وَإِمَّا تُعْرِضَنَ) ان تعرض (عَنْهُمُ) عمّن أمرت بإيتاء حقوقهم بترك إعطاء مسئولهم لعدم استعدادهم للمسؤل أو عدم وجدان مسئولهم حين سؤالهم (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) بها يستعدّون للمسؤل أو بها تجد المسؤل ويتيسّر لك الإعطاء واكتفى بابتغاء الرّحمة عن عدم الاستعداد وعدم الوجدان لاستلزام عدمها لابتغاء الرّحمة من حيث انّهما رحمة والفاقد لهما إذا كان له شأنيّة الوجدان يطلبهما واكتفى بذكر الرّحمة عن الاستعداد والسّعة لكونهما مصداقا لها (تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) سماعه لا معسورا سماعه وهو القول الّذى به يطيب قلوبهم ، روى انّ النّبىّ (ص) لمّا نزلت هذه الآية كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطى قال : يرزقنا الله وايّاكم من فضله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) عبّر عن التّقتير والإسراف على سبيل الكناية فانّ التّقتير والإعطاء في الأغلب بقبض اليد وبسطها وهو تأكيد للاوّل وبيان لغاية الإسراف كما انّ قوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) بيان لمبدء التّبذير كما أشير اليه عند تفسيره (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) من المال كما ورد في


نزوله انّه (ص) كان عنده أوقية من الّذهب فكره ان تبيت عنده فتصدّق بها فأصبح وليس عنده شيء وجاء من يسأله ولم يكن عنده ما يعطيه فلامه السّائل فأدّبه الله تعالى أو محسورا من اللّباس كما ورد انّه لم يكن عنده شيء فأعطى السّائل قميصه (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فلا تقدر أنت على بسط الرّزق على نفسك بالإمساك ولا على غيرك بإعطاء جميع ما عندك فهو تعليل للنّهى عن القبض والبسط (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فيعلم أحوالهم الباطنة ويبصر أحوالهم الظّاهرة فيعلم مصالحهم ويعطى ما يصلحهم ويمنع ما يفسدهم (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) صرف الخطاب عنه (ص) الى القوم لأنّهم المقصودون بالخطاب اصالة (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) إفلاس من املق إذا افتقر كانوا يقتلون أولادهم بوأد البنات خوف الفقر (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) بالغة في القبح (وَساءَ سَبِيلاً) لانّه سبيل الى النّار وقد عدّ الزّنا من أكبر الكبائر وعن النّبىّ (ص) في وصيّته لعلىّ (ع): يا علىّ في الزّنا ستّ خصال ثلات منها في الدّنيا وثلاث في الآخرة : فامّا الّتى في الدّنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرّزق ، وامّا الّتى في الآخرة فسوء الحساب وسخط الرّحمن والخلود في النّار (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) بأسبابه المقرّرة في الشّرع من الارتداد بعد الايمان وتكرار بعض المعاصي الّتى لها حدّ بعد مراتب الحدّ وقتل النّفس والزّنا بعد الإحصان واللّواط ، ولمّا كان الحقّ هو الولاية كما مرّ مرارا ، والولاية ظهور الحقّ الاوّل تعالى شأنه فالمعنى على هذا ولا تقتلوا النّفس الّا بفاعليّة الحقّ لا بفاعليّة أنفسكم كما قال المولوىّ قدس‌سره :

آنكه از حق يابد أو وحي وخطاب

هر چه فرمايد بود عين صواب

آنكه جان بخشد اگر بكشد رواست

نايب است ودست أو دست خداست

فما لم يخرج الإنسان من حكم نفسه ولم يدخل في حكم الله أو حكم من دخل في حكم الله لا يجوز له قتل النّفس أو الحكم بالقتل كائنا من كان القاتل وكائنا من كان المقتول كما قال المولوىّ قدس‌سره من لسان علىّ(ع):

من چو تيغم وان زننده آفتاب

ما رميت إذ رميت در حراب

رخت خود را من زره برداشتم

غير حق را من عدم انگاشتم

ز اجتهاد واز تحرّى رسته ام

آستين بر دامن حق بسته ام

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) غير مستحقّ للقتل (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) لمن يلي امره ممّن هو اولى بميراثه وهم جميع الورثة (سُلْطاناً) تسلّطا على القاتل بالقصاص أو الرّجوع الى الدّية وإذا جعلنا لولىّ المقتول سلطانا على القاتل (فَلا يُسْرِفْ) مريد قتل النّفس (فِي الْقَتْلِ) بان يقتل من غير استحقاق فانّه إسراف لانّه حرّك أعضائه وقتل من غير امر من الله ، وقرئ فلا تسرفوا خطابا لمريدى القتل ، أو المعنى فلا يسرف الولىّ في القتل بان يقتل أكثر من واحد بواحد أو يمثل المقتصّ منه ، أو الآية كما ورد نزلت في قتل الحسين (ع) والمعنى فلا يكن إسراف في القتل ولو قتل جميع أهل الأرض بالحسين (ع) كما فسّرت في الاخبار به (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) انّ المقتول أو الولىّ كان منصورا بتسليط الله وليّه ونصرة الحكّام وليّه والمعنى على التّفسيرين الاوّل والثّالث ظاهر ، وعلى الثّانى يكون تعليلا للنّهى اى نهينا عن الإسراف لانّ ولىّ المقتول كان منصورا وقادرا على الإسراف (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)


فضلا عن التّصرّف فيه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الّا بالخصلة والصّفة الّتى هي أحسن خصال قرب المال وهي جمعه وحفظه له وانماؤه ان كان ممكنا (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قد مضى بيان الاشدّ وانّه وقت استحكام جميع القوى والأعضاء (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) عموما وبعهد الإسلام المأخوذ عليكم في البيعة العامّة النّبويّة خصوصا ، حتّى يؤدّى بكم الوفاء بالعهود عموما الى الوفاء بعهد الإسلام ، ويؤدّى بكم الوفاء بعهد الإسلام الى عهد الايمان الّذى يؤخذ بالبيعة الخاصّة الولويّة والوفاء به (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) يعنى بعد تجسّم الأعمال يسأل عن العهد أوفوا بك أم لا؟ أو مسئولا عن حاله فيسألون عن حال عهودهم اوفيتم بها أم لا؟ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) الوفاء والإيفاء بمعنى لكن في الإيفاء مبالغة (إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا) الموزونات (بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) فسّر القسطاس في الخبر بالميزان الّذى له كفّتان ولسان (ذلِكَ خَيْرٌ) في الدّنيا بحسن الصّيت والخروج من رذيلة السّرقة والخديعة (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) غاية أو ارجاعا أو مرجوعيّة الى الغايات لانّ غايته في الدّنيا جلب البركة وفي الآخرة سهولة المحاسبة وحسن المثوبة (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لا تتّبع مدركا لم يتعلّق علم منك به سواء كان الاتّباع بالإتيان به بالجوارح كالاتيان بالافعال الّتى لم تعلم صحّتها منك أو بالاصغاء كالاصغاء الى ما تعلم صحّة الإصغاء اليه منك ، أو الأبصار كطموح النّظر الى ما لم تعلم صحّة النّظر منك اليه ، أو الأقوال كجريان ما لم تعلم صحّة جريانه على لسانك ومنه الإفتاء بما لم تعلمه أو لم تعلم صحّة الإفتاء منك به ، وبهذه الآية وأمثالها تمسّك من منع من الإفتاء بالظّنّ والرّأى والقياس والاستحسان ومن منع من تقليد من لم يأذن الله بلا واسطة أو بواسطة في إمامته وقال : لا بدّ للمفتي من العلم القطعىّ بصحّة افتائه كالائمّة (ع) ومن أجازوه للافتاء وللمقلّد من العلم القطعىّ بصحّة تقليد من يقلّده امّا بنصّ واجازة صحيحة صريحة في إمامته أو ببصيرة باطنة بحاله ، وامّا الّذين يستبدّون بآرائهم في الأحكام من غير وحي والهام ومن غير اجازة ولو بوسائط من صاحب الوحي والإلهام واتباعهم الّذين يقلّدونهم ويتّبعونهم من غير علم بكونهم صاحبي الوحي والإلهام أو صاحبي الاجازة الصّحيحة فهم مقتفون ما ليس لهم به علم ، وقيل : انّ المراد بالعلم هاهنا اعمّ من الظّنّ فيشمل الظّنّ بالاحكام من القياس والاستحسان العقلىّ والرّأى من اىّ وجه كان ولو كان كذلك لكان التّعبير بالظّنّ اولى ، لانّ النّهى عن اتّباع ما ليس به ظنّ يستلزم بمفهوم مخالفته الأمر باتّباع المظنون والمعلوم يقينا بخلاف النّهى عن اتّباع غير المعلوم ، ولمّا كان الأفعال والأقوال غير خالية من سببيّة واحد من السّمع والبصر والفؤاد لها أو أكثر قال في مقام تعليل النّهى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) المذكورين على استعمال أولئك في العقلاء أو كلّ أولئك الثّلاثة على استعماله في مطلق الجمع مذكّرا كان أو مؤنّثا عاقلا أو غير عاقل (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) اى يسأل عنه ما فعل صاحبك بك؟ أو ما فعلت لصاحبك؟ ما سمعت وما أبصرت؟ وما تعقّلت وما تخيّلت؟ ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : ابو بكر سمعي ، وعمر بصرى ، وعثمان فؤادي فقيل له في ذلك ، فقرأ الآية ، وورد عن الصّادق (ع) انّه قال : من نام بعد فراغه من أداء الفرائض والسّنن والواجبات من الحقوق فذلك نوم محمود وانّى لا اعلم لأهل زماننا هذا إذا أتوا بهذه الخصال أسلم من النّوم لانّ الخلق تركوا مراعاة دينهم ومراقبة أحوالهم وأخذوا شمال الطّريق والعبد ان اجتهد ان لا يتكلّم كيف يمكنه ان لا يسمع الّا ما له مانع من ذلك وهو النّوم ، وانّ النّوم أخذ تلك الآلات قال الله تعالى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ) (الآية) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) المرح الاختيال الحاصل من شدّة الفرح ولذلك


فسّر بالاختيال وبشدّة الفرح كليهما (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تقوى على خرق الأرض أو لن تقوى على سيرها كلّها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) ولن تبلغ بعظمة جثّتك عظمة الجبال أو لن تقوى على الصّعود الى قللها بجعل طولا تميزا محوّلا عن الفاعل أو محوّلا عن المفعول ، فمن كان عاجزا في نفسه غير قادر لا ينبغي له التّطاول والاختيال فهو تعليل للنّهى (كُلُّ ذلِكَ) المذكور من الخصال الأربع عشرة المحلّل الى الأكثر من قوله : و (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (الى قوله) (طُولاً كانَ سَيِّئُهُ) في الفعل إذا كان منهيّا عنه ، وفي التّرك إذا كان مأمورا به ، وقرئ سيّئة بالتّاء (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذلِكَ) المذكور من الخصال (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) العلميّة والعمليّة (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كرّره للاشارة الى انّ التّوحيد اهمّ الخصال وكما انّه مبدء لها علما غاية لها حالا وعيانا وتحقّقا فالاوّل لتوحيد الوجوب والآلهة وهذا التّوحيد الوجود لانّه غاية الغايات ومنتهى النّهايات ، أو الاوّل لتوحيد الآلهة في نفسها وهذا لتوحيدها في مظهرها الولوىّ كأنّه قال : ولا تجعل مع علىّ (ع) وليّا آخر فانّه أيضا غاية التّوحيد العلمىّ وغاية سائر الخصال العمليّة (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) عند نفسك وعند الله وعند الملائكة وعند النّاس (مَدْحُوراً) مبعدا من الرّحمة ، ولمّا كان هذه السّورة نزلت بمكّة ولم يكن الدّين قويّا ولا المؤمنون راسخين لم يغلظ الله تعالى في أوامرها ونواهيها بل أبداها على طريق النّصح والملاينة كما روى عن الباقر (ع) ، انّه لمّا نزل بمكّة على طريق أدب وعظة وتعظيم ونهى خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء ممّا نهى عنه وانذر نهيا عن أشياء حذّر عليها ولم يغلّظ ولم يتواعد عليها (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) ردّ على من قال : انّ الملائكة جميعا أو بعضهم بنات الله كبعض قريش وبعض الهنود (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) بإثبات الولد لله وتفضيل أنفسكم ونسبة الذكّورة والانوثة الى الملائكة المجرّدة العالية منهما ، وتوصيفهم بالانوثة الّتى هي اخسّهما وإثبات الولد الاخسّ لله العلىّ العظيم (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) إسقاط المفعول للتّعميم يعنى صرّفنا كثير تصريف في أمثال عديدة وألفاظ كثيرة كلّما ينبغي ان يذكر لهم من الحجج والحكايات والعبر والمواعظ والأحكام ، ويحتمل ان يكون الصّيغة لتكثير المفعول اى صرّفنا كثيرا من المعاني الّتى ينبغي ان تذكر (لِيَذَّكَّرُوا) اى ليتذكّروا ويتّعظوا (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) يعنى انّهم لغاية حمقهم صار ما هو سبب تذكّرهم وتقرّبهم سبب نفورهم وبعدهم (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار ببرهان ابطال كون الآلهة معه يعنى انّه مالك العرش والعرش جملة المخلوقات ومنها ما تفرضونها الهة فكيف يكونون الهة معه مع كونهم مملوكين له أو انّه صاحب السّرير وصاحب السّرير عبارة عن صاحب الملك وانّكم تسلمون انّه صاحب السّرير والسّلطنة من غير منازع فلو كان معه الهة لابتغوا اليه سبيلا بالمنازعة وما سلم له الملك ، ولمّا كان الملك مسلّما له فلا الهة معه وقد فسّروا الآية بانّهم طلبوا التّقرّب الى ذي العرش واستشهدوا على ذلك بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ)(إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ) اى تسبّحه على ان يكون اللّام للتّقوية أو تنزّه وجودها من شوب النّقص والتّعيّن للتّقرّب الى الله (السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) اى ما فيهنّ لكن أتى بمن تغليبا ، ولانّ التّسبيح من أوصاف العقلاء فلمّا نسب إليها


ناسب تأديتها بلفظ العقلاء ، أو المراد العقلاء فقط (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) تصريح بالتّعميم بعد التّأدية بلفظ موهم للتّخصيص أو تعميم بعد تخصيص وحصر بعد اطلاق وتقييد بالحمد بعد اطلاق التّسبيح (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

اعلم ، انّ الأشياء الامكانيّة برمّتها هاربة من نقائصها طالبة لكمالاتها ، والكلّ متحرّكة نحو تلك الكمالات وهي شؤن الحقّ الاوّل وتجلّيه وهذا الهرب والطّلب هو تسبيحهم الفطرىّ وتنزيههم لا سماء الله الّتى هي وجوداتها الفائضة من الحقّ عليها ، ولمّا كان تنزيه أسماء الله تنزيهه تعالى كان الكلّ منزّها لله ومنزّها لأنفسهم للتّقرّب الى الله ، ولمّا كان كلّ موجود إمكاني زوجا تركيبيّا من مهيّته الامكانيّة ووجوده التّعلّقىّ الفطرىّ وبعبارة اخرى لمّا كان لكلّ موجود طبيعي جهة ملكيّة وجهة ملكوتيّة كان الأشياء الطّبيعيّة ان كانت صامتة غير شاعرة بالشّعور التّركيبىّ بملكها ناطقة بملكوتها بلسان فصيح بل أفصح من اللّسان الملكىّ الانسانىّ واجلى بيانا منه شاعرة بالشّعور التّركيبىّ بل ادقّ إدراكا من الإنسان ، فكان الأشياء بملكوتها مسبّحة لله بلسان فصيح شاعرة بأوامره ونواهيه تعالى مبادرة الى امتثالها من غير عصيان وتوان ، لكن لا يسمع أصواتها ولا يدرك إدراكها تلك الاصماخ والأبصار الحيوانيّة بل يختصّ بسماعها وادراك إدراكها الأسماع والأبصار الملكوتيّة ولذلك قال تعالى : (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) على خطاب بنى نوع الإنسان لعدم سمع وبصر ملكوتىّ لهم ، وقرئ لا يفقهون بالغيبة بإرجاع الضّمير الى الاناسىّ أو ارجاعه الى الأشياء يعنى كلّ الأشياء يسبّحون بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم بجهتهم الملكيّة المشهودة لكم بابصاركم الملكيّة لانغمارهم تحت تعيّناتهم ؛ وعلى هذا فلا حاجة الى تأويل في تسبيحهم كما فعل المفسّرون وقد قال المولوىّ قدس‌سره :

جمله ذرّات عالم در نهان

با تو مى گويند روزان وشبان

ما سميعيم وبصيريم وخوشيم

با شما نامحرمان ما خامشيم

چون شما سوى جمادى مى رويد

محرم جان جمادان كى شويد

از جمادى در جهان جان رويد

غلغل اجزاى عالم بشنويد

فاش تسبيح جمادات آيدت

وسوسه تأويلها بر بايدت

چون ندارد جان تو قنديلها

بهر بينش كرده تأويلها

كه غرض تسبيح ظاهر كى بود

دعوى ديدن خيال وغىّ بود

پس چه از تسبيح يادت مى دهد

آن دلالت همچو گفتن مى شود

اين بود تأويل أهل اعتزال

واى آن كس كو ندارد نور حال

وبهذا اللّسان كان حنين الاستن الحنّانة وتسبيح الحصا وشهادته في يد محمّد (ص) وتجاوب الجبال والطّيور لداود (ع) وغير ذلك ممّا نقل من نطق الأحجار والأشجار والحيوان والطّيور ، وبهذا اللّسان كان نطق الأطفال لكن في قالب اللّسان اللّحمىّ وبهذا الشّعور كان تمييز الجمادات بين الأشياء كتمييز النّار بين إبراهيم (ع) ونمرود وأصحابه ، وتمييز الرّيح بين المؤمنين والكافرين وتمييز النّيل بين السّبطىّ والقبطىّ في صيرورته دما للقبطىّ ومنفرجا لعبور السّبطىّ دون القبطىّ (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) تعليل لعدم تفقّههم تسبيح الأشياء فانّ تفقه تسبيحها ما لم يبلغ الإنسان مبلغ الرّجال امّا ان يهلك أو يجعل المتفّقه مجنونا جنونا حيوانيّا فانّ تفقه التّسبيح قرين شهود الملائكة ونزولها وبنزول الملائكة قضاء أجلهم كما في القرآن والمعنى لا تفقهون تسبيحهم فتهلكوا أو تجنّوا لانّه كان حليما لا يعاجل بإمضاء سخطه لسوء صنيعكم غفورا يستر عليكم في حال نقصكم شهود تسبيح الأشياء إبقاء عليكم (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) عن انظارهم


أو حجابا مستورا به اى ساترا لك عن انظارهم والمعنى الاوّل تأسيس والثّانى تأكيد والمقصود جعلنا جثّتك مستورة عنهم لا يرونها كما قيل : انّ جمعا من قريش حجبوا محمّدا (ص) عن انظارهم وقت قراءة القرآن كانوا يمرّون عليه ولا يرونه وجعلنا حقيقتك مستورة عنهم لا يرونها ولو رأوها لما كذّبوك ولمّا نفروا عن قراءتك (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) جمع الكنان بمعنى ما يستر به (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة ان يفقهوه أو اكنّة مانعة من ان يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ان يسمعوه اى يسمعوا مقصوده والّا فلفظه مسموع لهم ولذلك قال (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) لانّهم يسمعون لفظه ولا يدركون مقصوده ويرونه مخالفا لمعتقدهم ويمكن ان يراد بالقرآن القرآن المعهود الّذى هو في ولاية علىّ (ع) وان يراد بربّك الرّبّ المضاف وهو الرّبّ في الولاية وهو علىّ (ع) بعلويّته ، وفي الاخبار في الجملة اشعار بما ذكر ونفورا جمع نافر حال من الفاعل أو مصدر نفر حال منه أو مفعول مطلق نوعىّ من غير لفظ الفعل (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) اى بسببه من الاستهزاء والتّغليظ (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) ذوو نجوى أو نجوى جمع نجىّ (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) سحره ساحر فجنّ ولم يبق له عقل (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بجعلك تارة مسحورا وتارة مجنونا وتارة شاعرا وساحرا وكاهنا (فَضَلُّوا) عن طريق معرفتك الفاء للسّببيّة المحضة اى صار ضلالهم سببا لضرب الأمثال أو للسّببيّة والتّعقيب اى صار الاستهزاء بك وضرب الأمثال سببا لضلالهم عن طريق معرفتك ومعرفة كلامك (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) الى معرفتك والى معرفة الآخرة والمعاد (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) ترابا متناثرا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) على الإنكار والاستبعاد والتّعجّب ولذلك اكّد الاستفهام (قُلْ) تهكّما وتغييظا لهم (كُونُوا حِجارَةً) من الغيظ (أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) من حيث البعد عن الانسانيّة والدّناءة في الرّتبة فانّه يعيدكم أو قل تقريرا للاعادة : كونوا حجارة فيكون في معنى الشّرط يعنى ان تكونوا حجارة بعيدة عن الحيوة يمكنه الاعادة فكيف إذا صرتم عظاما قريبة من الحيوة اليفة بها (فَسَيَقُولُونَ) استفسارا عن المعيد على سبيل الإنكار بعد انكار أصل الاعادة (مَنْ يُعِيدُنا قُلِ) جوابا لهم بتعيين المعيد (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تعليقا على الوصف المشعر ببرهان جواز الاعادة (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ) سيحرّكون ويمدّون إليك (رُؤُسَهُمْ) للسّؤال عن وقت الاعادة (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ) جوابا لهم عن هذا السّؤال الّذى لا جواب له لانّه لا وقت للسّاعة في عرض الزّمان يمكن تعيينه ، وتذكير الضّمير باعتبار البعث أو وقت الاعادة (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) يعنى في طول الزّمان لا في عرضه وأجمل في الجواب بحيث لا تكون مصرّحا بنفي الوقت الزّمانى عنه ولا ساكتا عن الجواب ليحملوا سكوتك على العجز ولا مصرّحا بتعيين الدّهر له لعدم ادراكهم للدّهر (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) امّا جواب لسؤال مقدّر ناش عن إجمال الجواب كأنّه قيل : اىّ يوم هو؟ ـ فقال : هو يوم يدعوكم على السنة الملائكة الموكّلة على النّشر وجمع الخلائق للحساب ، أو يكون يوم يدعوكم ، وامّا خبر بعد خبر ليكون (فَتَسْتَجِيبُونَ) من غير تأبّ وتعصّ كما كنتم غير مجيبين لدعوته على السنّة رسله (ع) في الدّنيا (بِحَمْدِهِ) لسانا كما تستجيبون بحمده حالا وفعلا ووجودا فانّ الأوصاف الحميدة والأخلاق الجميلة كلّها حمده تعالى كما انّ قوى النّفس وجنودها كلّها حمده وجودا والإنسان يبعث بجميع أوصافه وأخلاقه وقواه وجنوده قائلا : سبحانك اللهمّ وبحمدك


كما ورد في الاخبار (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ) في القبور أو في الدّنيا أو كليهما (إِلَّا قَلِيلاً وَقُلْ لِعِبادِي) الاشراف المستفاد من الاضافة (يَقُولُوا) قد سبق انّ تعليق الجواب على محض الأمر بالقول من دون ذكر مفعول القول اشارة الى تشريف له (ص) كأنّه قال : انّ توجّهك مؤثّر فيهم بحيث انّك لو توجّهت إليهم بالخطاب يتبدّل حالهم الى أحسن الأحوال بحيث لا يصدر منهم الّا ان يقولوا (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولا ينظروا الى الخلق نظر السّخط والازدراء (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) يهيّج الشّرّ وتوجّهك يبعد الشّيطان عنهم ، وقولهم الحسن يقرّب الخلق الى الالفة والبعد من طاعة الشّيطان (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) بيان للّتى هي أحسن وبينهما معترضة أو استيناف وصرف للخطاب الى عباده وعدا ووعيدا (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) صرف للخطاب اليه (ص) تسكينا لحرصه على ايمانهم وتسليّة لحزنه على تولّيهم ان كان خطاب ربّكم اعلم بكم وما بعده من الله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيهدى من يستأهل للهداية ويضلّ من يستحقّ الضّلالة فما لك تحرص على هديهم أو تحزن على ضلالتهم بل عليك التّكلان عليه والرّضا بفعله ، ويعلم أيضا من يستأهل للنّبوّة ومن لا يستأهل ، ومن يستحقّ من الأنبياء كمال النّبوّة ومن لا يستحقّ ، ومن يستأهل للخلافة والولاية ومن لا يستأهل ؛ فما لهم يتكلّمون في النّبوّة وينكرون نبوّتك لكونك يتيما غير ذي مال أو يتكلّمون في الخلافة وينكرون خلافة علىّ (ع) (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) ممّن يعتقدون نبوّتهم فما لهم ينكرون تفضيلك على بعض الأنبياء (ع) (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) فما لهم ينكرون نزول القرآن عليك منّا. روى عن النّبىّ (ص) انّ الله فضّل أنبياءه المرسلين (ع) على ملائكته المقرّبين (ع) وفضّلني على جميع النّبيّين والمرسلين (ع) ، والفضل بعدي لك يا علىّ (ع) وللائمّة من ولدك (ع) ، وانّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) شركاء الله في الوجوب ايّتها الثّنويّة أو في الآلهة ايّتها الثّنويّة والصّابئة ، أو في العبادة ايّتها الوثنيّة وغير الوثنيّة ، أو في الولاية ايّتها التّابعة لغير ولىّ الأمر ، أو في الطّاعة ايّتها التّابعة للامراء والسّلاطين ، أو للعلماء السّوء والمبطلين ، أو في الوجود والشّهود وهم أكثر النّاس الّا من شذّ وندر وهم المقرّبون من الأنبياء والأولياء (ع) الكاملين ، وأسقط المفعول ليذهب ذهن السّامع كلّ مذهب ممكن كما ذكر ، اى قل ادعو الّذين زعمتم واجبى الوجود أو آلهة أو معبودين أو أولياء الله أو مطاعين أو مستقلّين في الوجود (مِنْ دُونِهِ) التّقييد به للاشعار بصحّة دعوة الأولياء (ع) والمطاعين من الله فانّهم يملكون بإذن من الله كشف الضّرّ (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) له الى غيركم (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) يدعون بمعنى يعبدون أو على حقيقته ، وأولئك مبتدء والموصول خبره وأولئك اشارة الى الآلهة أو الى المشركين أو أولئك العاجزون الّذين يدعوهم المشركون ، أو أولئك المشركون الّذين يدعون هؤلاء العاجزون ، أو أولئك العاجزون الّذين يدعون الله مثلكم فما لكم تدعونهم وعلى اىّ من التّقادير فقوله (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) مستأنف والفاعل للالهة أو للمشركين أو حال عن الفاعل أو عن المفعول أو عن كليهما والفاعل على حسبه وقوله (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) امّا بدل من أولئك أو فاعل يدعون أو فاعل يبتغون أو عن الوسيلة واىّ موصولة وضمّه على الأخير لحذف صدر الصّلة أو جملة حاليّة أو مستأنفة واىّ استفهاميّة أو موصولة والخبر على تقدير كونها موصولة يكون محذوفا أو أولئك مبتدء والّذين صفته أو بدله ويبتغون خبر له أو حال أو معترضة والخبر على التّقديرين ايّهم أقرب بكون اىّ استفهاميّة وتقدير القول


واحتمالات الفاعل واحتمالات ايّهم أقرب إذا لم يكن خبرا كالسّابق ، والمراد بالرّبّ امّا الرّبّ المطلق فانّ الملائكة والمسيح وعزير والكواكب كلّهم يبتغون الى الله الوسيلة أو الرّبّ المضاف وهو ربّهم في الولاية فانّ مخالفي علىّ (ع) أيضا كانوا يبتغون اليه (ع) الوسيلة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) فهم وسائر العباد سواء في الاحتياج الى الوسيلة وفي الرّجاء والخوف فكيف يكونون وسائل لغيرهم (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) في موضع التّعليل (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً).

اعلم ، انّ الإنسان ان لم يتّصل بنفسه وقواها بالله تعالى بتوسّط عروة الولاية الوثقى فانّه سيهلك قبل يوم القيامة عن الحيوة الانسانيّة ويحيى بالحيوة السّبعيّة أو البهيميّة أو الشّيطانيّة ويحشر في زمرتها ، وان اتّصل الى الله بنفسه وجميع قواها أو بعضها فانّ المتّصل لا يهلك بل يبقى حيّا بالحيوة الانسانيّة لكنّه يعذّب ليتخلّص عن خليطه السّجينىّ ويترقّى الى العلّيّين ؛ فالمراد ما من قرية من قرى العالم الكبير أو قرى العالم الصّغير الّا نحن مهلكوها بتمام أهلها أو ببعضهم قبل يوم القيامة أو معذّبوها (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) فان قيل : لا يتصوّر الإهلاك ولا العذاب بالنّسبة الى الأنبياء والأولياء (ع) الّذين كانوا أخلصهم الله لنفسه أجيب بأنّهم اهلكوا في الدّنيا ما كان عليهم من شوب السّجّين ان كان أو عذّبوا أنفسهم بالرّياضات والمجاهدات الاختياريّة والبلايا الالهيّة فيصدق عليهم ذلك أيضا (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) الّتى اقترحها قريش (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) فأهلكوا واستوصلوا بتكذيبهم وما كنّا لنهلك أمّة محمّد (ص) فيهم رحمة بهم ، أو المعنى انّ تكذيب الأمم السّابقة بالآيات صار سببا لمنع إنزال الآيات لانّ هؤلاء من اسناخ الأمم الماضية الا يرون الى ثمود (وَ) قد (آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) الّتى اقترحوها (مُبْصِرَةً) من أبصره ، إذا جعله ذا بصيرة ، أو من ابصر إذا وضح أو صار ذا بصر أو بصيرة ، فانّ النّاقة كانت مبصرة بالبصر الظّاهر وبالبصر الباطن حيث كانت لا تتعدّى نوبتها في شرب يومها (فَظَلَمُوا بِها) اى بسبب عقرها أنفسهم (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) فما لهم يتجرّءون على اقتراحها (وَإِذْ قُلْنا لَكَ) بالوحي اى تذكّر وقت قولنا لك (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) اى اهلكهم يعنى اذكر تبشيرنا لك باهلاكهم وقد انجزه له في بدر وغيره ، والتّأدية بالماضي للاشارة الى تحقّق وقوعه أو أحاط بهم قدرة فلا يستطيعون الخروج من قدرته وحكومته (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) اى وما جعلنا الشّجرة الملعونة في القرآن الّا فتنة للنّاس ، وقد وردت اخبار كثيرة من العامّة والخاصّة باختلاف ألفاظها انّه (ص) رأى في منامه انّ رجالا أو قردة من بنى تيم وعدىّ أو من بنى أميّة يرقون منبره يردّون النّاس القهقرى ، الّا انّ العامّة رووا من بنى أميّة وحده ولم يذكروا بنى تيم وعدىّ ولا زريقا وزفر ، والشّجرة الملعونة فسّرت في أخبارنا تارة ببني أميّة عموما ، وتارة ببني مروان ، وتارة بمروان وبنيه.

اعلم ، انّ القرآن تارة يطلق على المدوّن الّذى أتى به محمّد (ص) وعلى هذا فقوله في القرآن متعلّق بالملعونة ، وتارة على مقام الجمع المشتمل على جميع مراتب العالم ومنها السّجّين واهله ، وعلى هذا فهو متعلّق بجعلنا يعنى انّ المقصود من إرخاء عنان الأشقياء وامدادهم في غصب حقّ آل محمّد (ص) ومن جعل السّجّين واهله في العالم ان يفتتن النّاس بهم ويتخلّص المحقّ عن المبطل ويتميّز الحقّ عن الباطل (وَنُخَوِّفُهُمْ) بأنواع التّخويف (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ


قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) هو بتقدير من ليوافق سائر الآيات ، أو حال عن المفعول وقد سبق بيان الآية (قالَ أَرَأَيْتَكَ) الكاف تأكيد للضّمير المرفوع ومثله كثير في كلامهم (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَ) لاستأصلنّ من الحيوة الانسانيّة (ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) ممّن أخلصوا أنفسهم لك أو ممّن أخلصتهم لنفسك (قالَ اذْهَبْ) طرد وردع له أو تخلية بينه وبين ما أراد (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) مكملا كثيرا لا نقص فيه (وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف بالجلب الى نفسك (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) ان تجلبهم إليك لغاية حمقهم وخفّة عقلهم (بِصَوْتِكَ) من غير حاجة الى جلب جندك (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ) ممّن لم تستطع جلبهم إليك بصوتك ، أو هو عطف لتفصيل بعض أسباب الجلب كأنّه قال : بصوتك وبجلب خيلك (وَرَجِلِكَ) بفرسانك وراجليك (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ).

اعلم ، انّ الإنسان كما تكرّر ذكره واقع بين عالمي النّور والزّور والحقّ والباطل ولهما التّصرّف فيه والحكومة عليه فان تخلّص بتوفيق الله واعانته من حكومة العالم السّفلى والرّئيس فيه الشّيطان ودخل في حكومة العالم العلوىّ والرّئيس فيه الرّحمن فقد أخلص أمواله وأولاده من شرك الشّيطان ، وان لم يتخلّص من ذلك أو تخلّص من حكومة الرّحمن ودخل في صرف حكومة الشّيطان فقد يتّفق ان يخلّص ماله وولده لله إذا كان الانسانيّة باقية والشّيطانيّة عرضيّة ولا يتأثر كسبه ونطفته بما بالعرض كما قيل : الولد سرّ أبيه ، وقد يكون بشراكة الشّيطان وقد يكون بانفراد الشّيطان ، فانّ الكاسب والمضاجع المؤتمر بأمر الشّيطان المعرض عن امر الرّحمن ينفرد بماله وولده الشّيطان ان كان قد أبطل انسانيّته والمؤتمر بأمر الرّحمن والشّيطان مع كون الانسانيّة فيه باقية لا محالة يشارك في ماله وولده الشّيطان وقد ذكر في الاخبار ما ذكرنا بالتّصريح والاشعار (وَعِدْهُمْ) المواعيد الّتى بها تغرّهم كوعد المغفرة من الله وانّ الله كريم وانّهم يبقون ثمّ يتوبون ، أو المواعيد الّتى بها تطيل آمالهم (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) بتزيين الباطل في صورة الحقّ والخطاء في صورة الصّواب (إِنَّ عِبادِي) الّذين خرجوا من عبوديّتك (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ) ايّها الشّيطان أو يا محمّد (ص) (وَكِيلاً) في حفظهم عنك وعن اغوائك أو عن الشّيطان فلا تحزن عليهم يا محمّد (ص) وقد فسّر العباد في الآية في الاخبار بعلىّ بن ابى طالب (ع) لانّه أصل العباد وغيره عباد لله بعبوديّته (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي) يجرى (لَكُمُ الْفُلْكَ) فانّه الّذى جعل أخشابها ذوات مسامّ يدخل فيه الهواء فيمنعها من الرّسوب في الماء وجعل الهواء يتبادر الى الخلأ لامتناع الخلأ فيمنع أيضا من الرّسوب وجعل الهواء متموّجا فيحرّكها على الماء ، وجعل لكم ما تتفطّنون بكيفيّة صنع الفلك ووضع الشّراع بحيث تتحرّك الى مقاصدكم وجعل لكم ما تتفطّنون بسببه بتمويج الهواء باختياركم ما اخترعوا من تحريك الفلك بالبخار (فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بنقلكم الامتعة الى البلاد البعيدة وتجاراتكم الرّابحة (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) في موضع تعليل (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) من الاجرام العلويّة والأجسام السّفليّة من الأوثان والطّواغيت البشريّة وغيرها (إِلَّا إِيَّاهُ) استثناء من من تدعون اى ضلّ كلّ من تدعونه الّا الله ، والإتيان بضمير النّصب لكون الاستثناء في كلام موجب ، وذلك الضّلال لانّ المدعوّ من دون الله انّما هو مدعوّ بإغواء الشّيطان وتصرّف الخيال ، ووقت الضّرّ وغاية الوحشة يفرّ الشّيطان وينقطع تصرّف الخيال فيبقى العقل


الدّاعى لله بلا معارض فيدعو الله بمقتضى جبلّته (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق والبحر (إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) لانّ الشّيطان يعود والخيال يتصرّف ويعارض الّا من دخل في كنف أمان الله من شرّ الشّيطان وجعل خياله وقواه مسلّمة للعقل منقادة له (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) لانّ في جبلّته النّفس الّتى لا شأن لها الّا كفران النّعم وهو عطف في معنى التّعليل (أَفَأَمِنْتُمْ) اى ان نجّاكم الى البرّ فأمنتم أو أنجوتم من البحر فأمنتم (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) ان يغرقكم في جانب البرّ فانّه قادر على ذلك وان كان خارجا عن العادة ، وذكر الجانب للاشعار الى التّبادر الى الكفران بمحض الوصول الى السّاحل (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) راميا للحصاة عليكم فانّه قادر عليه أيضا وان كان وقوعه نادرا (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) كما كنتم لا تجدون في البحر وقت الضّرّ (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) بتسلّط الحرص عليكم حتّى ينسيكم ضرّ البحر (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً) يقصف اى يكسر كلّ ما هبّ عليه (مِنَ الرِّيحِ) فتكسر سفينتكم (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) بكفرانكم نعمة الإنجاء اوّلا (ثُمَّ لا تَجِدُوا) من مدعوّيكم (لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ) اى في الإرسال والإغراق (تَبِيعاً) يتبعنا للانتصار والإنجاء (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) بحسب ذواتهم لانّا خلقناهم على صورتنا ولا كرامة فوقه فجعلناهم ذوي سعة ومراتب في الوجود وأعطيناهم الاحاطة قوّة أو فعلا بكلّ الأشياء ، وجعلنا كلّا منهم حيّا عالما سميعا بصيرا مدركا متكلّما مريدا إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون بالنّسبة الى مخلوقاته الذّهنيّة وآلاته وقواه النّفسيّة أو بالنّسبة الى جميع الموجودات حين استكماله بقوّة المتابعة (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) على الحمير والبغال والخيل والجمال وغير ذلك من الدّوابّ وعلى القدرة والمراكب الملكوتيّة إذا صاروا أهلا له وهذا كرامة اخرى خارجة عن ذاته (وَالْبَحْرِ) على السّفن وعلى القدرة والمراكب الملكوتيّة إذا صاروا أهلا له (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) طيّبات أرزاق النّبات والحيوان والإنسان (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) من موجودات عالم الطّبع تماما ومن موجودات الملكوت السّفلىّ ومن بعض أصناف الملائكة ، وامّا المقرّبون والاوساط من الملائكة فهم أفضل من بنى آدم ما لم يخرجوا من القوّة الى الفعل ، فاذا خرجوا صاروا حينئذ أفضل المخلوقات تماما مثل نبيّنا (ص) ؛ فانّ له مع الله وقتا لا يسعه ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل ، وتفصيل التّفضيل ومراتبه ودقائقه قد مضى ، ويمكن ان يقال : انّ اضافة بنى آدم الى آدم تدلّ على انّ المراد من لم يخرج بعد من القوّة الى الفعل من جميع الجهات فيصحّ حينئذ تفضيلهم على الكثير لا على الكلّ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الامام من يؤتمّ به ويقتدى بسيرته ويؤتمر بامره ويتّبع اثره سواء كان حقّا أم باطلا ، مشهودا بالحواسّ البشريّة أم غير مشهود ، آمرا بحسب الظّاهر أو بحسب الباطن ، بلسان القال أو بلسان الحال ، فيشمل ائمّة الحقّ والجور ممّن ترأّس في الدّنيا أو انتحل التّرأّس في الدّين أو جعلوه رئيسا من غير شعوره بذلك من السّلاطين والأمراء وخلفاء الجور والكواكب والأصنام والابالسة والأهواء ، وفي الاخبار اشعار بالتّعميم وان كان بعض الاخبار يفسّر الامام بإمام حقّ في كلّ زمان (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ).

اعلم ، انّ للنّفس الانسانيّة صفحتين سفليّة وعلويّة ؛ والسّفليّة بأيدى الشّياطين والعلويّة بأيدى الملائكة ، فان كان عمل العبد من جهة الايتمام بإمام حقّ كان مصدره جهتها العلويّة بامداد الملائكة وكان نزول صورة ذلك العمل من تلك الجهة الى الخيال المشابه في العالم الصّغير لعالم المثال في العالم الكبير ثمّ منه الى المدارك الظّاهرة


والقوى المحرّكة ثمّ يصعد صورة ذلك العمل من طريق المدارك الظّاهرة الى الخيال ثمّ تثبت في الجهة الّتى صدرت عنها ثمّ لمّا كان لتلك الجهة ظلّ نورانىّ وهو الكتاب الّذى بيد كاتب الحسنات فيثبت صورة العمل كاتب الحسنات في ذلك الكتاب وهي ثابتة فيه وفي صفحة النّفس ما لم يأت العبد بما يمحوها أو يخرقها مدّخرة له الى يوم القيامة وحينئذ يلقاه العبد كتابا منشورا مثبتا جميع ما عمله من خير ، وان لم يكن عمله من جهة الايتمام بإمام حقّ كان عمله من جهة الايتمام بإمام باطل من الاناسىّ والأبالسة والأهواء فكان مصدره الجهة السّفليّة للنّفس بامداد الشّياطين وكان نزول صورة ذلك العمل من تلك الجهة الى الخيال ثمّ الى المدارك ثمّ الى القوى المحرّكة ثمّ تصعد منها الى الخيال ثمّ الى ما نزلت منه فتثبت فيه ، ولمّا كان لتلك الجهة أيضا ظلّ ظلمانىّ وهو الكتاب الّذى بيد كاتب السّيّئات فيثبت صورة ذلك العمل كاتب السّيّئات في ذلك الكتاب وهي ثابتة فيه وفي صفحة نفسه ما لم يأت بما يبدّلها أو يمحوها أو يغفرها مدّخرة له الى يوم القيامة وحينئذ يلقاه كتابا منشورا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الّا أحصيها ، ولمّا كان هاتان الجهتان معبّرتين باليمين والشّمال وهو يلقى الكتاب العلوىّ من جهته العلويّة وكتابه السّفلىّ من جهته السّفليّة ، وأيضا يرد كتابه العلوىّ الّذى هو ظلّه النّورانىّ الى ما هو ظلّ له وكتابه السّفلىّ الى ما هو ظلّ له فهو يؤتى كتابه بيمينه وشماله فمن اوتى كتابه بيمينه فيقول تبجّحا (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ، ومن اوتى كتابه بشماله فيقول تحسّرا : يا ليتني لم أوت كتابيه (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) فانّهم يبصرون ولا يكونون عميانا ولا يرون في كتابهم ما يستحيون من قراءته (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الفتيل المفتول الّذى في شقّ النّواة يعنى لا ينقصون من أجورهم شيئا (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) المراد بالعمى عمى البصيرة عن معرفة الآخرة وطرقها الأعمى البصر فربّ أعمى عن البصر يبصر أمور الآخرة بالبصيرة ، وربّ بصير في الدّنيا يعمى عن أمور الآخرة ويخرج البصيرة من القوّة الى الفعل بمعرفة الامام والعمى بإنكاره ويبقى قوّة البصيرة من دون حصول فعليّة البصيرة ، أو العمى إذا لم يكن منكرا ولا عارفا ، وهذا وان كان في حكم الأعمى لكنّه يرجى له البصيرة في الآخرة كما يخاف عليه العمى فيها (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) في الآخرة منه في الدّنيا أو ممّن ضلّ السّبيل في الدّنيا (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) وانّهم كادوا يصرفونك بفتنتك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عن المعهود الّذى أوحينا إليك وهو ولاية علىّ (ع) كما روى (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) من الرّكون ، وقد ورد في الاخبار انّ هذه الآية من قبيل : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، وورد انّها من فرية الملحدين ولو كان الخطاب له (ص) من غير كونه على طريق ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، ولم تكن فرية لم يكن فيها ازدراء به (ص) بل يكون صدر الآية ازدراء بالملحدين لاشعاره بانّهم بالغوا في فتنته يعنى انّهم ما أهملوا شيئا ممّا يفتن به ولو كان المفتون غيركم ولم يكن تثبيت من الله لفتن ، وذيلها بيان امتنان عليه (ص) بأنّه تعالى اثبته في مثل هذا المقام (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) اى عذاب الحيوة الدّنيا وعذاب الآخرة على ما قيل : انّ الضّعف اسم للعذاب ، أو ضعف عذاب الحيوة اى ضعف ما ينبغي ان يعذّب في الحيوة لو كان هذا الرّكون من غيرك لانّ امر ذوي الخطر اخطر ، وقيل : المراد بضعف الحيوة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) يدفع عنك العذاب (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجوا لك استفزّه استخفّه وأخرجه من داره وأزعجه (مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً


لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) إذا أخرجوك لا يمكثون بعدك الّا قليلا (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) نصب على المصدر اى سننّا ذلك المذكور من فتنة قومك ، وتبثيتنا ايّاك واستفزاز قومك لارادة اخراجك وعدم لبثهم بعدك سنّة من قد أرسلنا أو سنّ ذلك سنّة من قد أرسلنا ، أو هو مفعول به لمقدّر اى ركبوا في ذلك سنّة من قد أرسلنا (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) اللّام بمعنى في اى في وقت دلوك الشّمس وزوالها (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) الى شدّة ظلمته وفسّر في الاخبار بانتصاف اللّيل وقد بيّن الآية في الاخبار بالصّلوات الأربع الظّهر والعصر والمغرب والعشاء (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وقت اجتماع الفجر باعتراضه في الأفق اشارة الى صلوة الصّبح (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) اى وقته (كانَ مَشْهُوداً) وقد فسّر في الاخبار بشهادة الملائكة اللّيليّة والنّهاريّة فانّها يصير الصّلوة حينئذ مثبتة في كتابيهما (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) وبعضا من اللّيل فحذف الموصوف وأقيم الصّفة مقامه لقوّة معنى البعضيّة في من التّبعيضيّة حتّى قيل بإجراء احكام الاسم الخالص على من ومجرورها بل قيل : بكون من اسما ولفظة الفاء زائدة أو بتوهّم امّا أو عاطفة من قبيل عطف التّفسير على المفسّر بالفاء ، والتّهجد كما يستعمل في النّوم يستعمل في الاستيقاظ فهو من الاضداد ، ويمكن ان يكون مأخوذا من الجهود بفتح الهاء وهو المصلّى باللّيل والمعنى بعض اللّيل فاستيقظ بذلك البعض اى في ذلك البعض وصلّ وبالغ واجتهد في صلوتك في ذلك البعض ، وامّا جعله من الهجود بضمّ الهاء وجعل الصّيغة للسّلب فبعيد غاية البعد (نافِلَةً لَكَ) عطيّة لك أو صلوة نافلة لك وعلى الاوّل فهو مفعول فعل محذوف اى أعطينا عطيّة لك وعلى الثّانى مفعول تهجّد بناء على تضمينه معنى افعل أو على تجريده عن معنى الصّلوة اى فافعل بالاستيقاظ نافلة لك ، أو فالفعل نافلة لك على معنى التّهجّد ولام لك للاختصاص ومعنى اختصاصه به اختصاص وجوبه به وان كان استحبابه مشتركا بينه (ص) وبين أمّته ، ويمكن استنباط الوجوب من الآية مع قطع النّظر عمّا ورد في الاخبار من وجوب التّهجّد عليه (ص) لانّه عطف التّهجّد على اقامة الصّلوة لدلوك الشّمس ، والأمر هناك للوجوب والتّوافق يقتضي ان يكون هاهنا أيضا للوجوب ، وتفصيل النّوافل وكيفيّتها ووقتها وفضيلتها موكول الى كتب الفقهاء رضوان الله عليهم (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) التّنوين للتّعظيم اى مقاما عظيما محمودا ، وهو منصوب على الظّرفيّة أو على الحاليّة باعتبار انّه (ص) قام في المقام المحمود وصار بنفسه مقاما محمودا ، والمقام المحمود هو آخر مقامات السّالك وهو مقامه مع الحقّ في الخلق فانّ اوّل مقاماته وهو مقامه في الخلق مع الخلق مقام مذموم والإنسان مأمور بالفرار والهجرة منه وعدم الوقوف فيه ، وثانى مقاماته وهو مقامه في الحقّ سالكا منه الى الحقّ مقام تنزيه وقدس وليس مقاما محمودا ، وثالث مقاماته وهو مقامه في الحقّ مع الحقّ فانيا فيه انتهاء مقام قدسه وتنزيهه ولا اسم له ولا رسم في ذلك المقام فضلا عن الحمد والفضل ، ورابع مقاماته وهو مقامه في الخلق مع الحقّ مقام محمود ومقام الفضل ومقام الجمع بين التّنزيه والتّشبيه والحقّ والخلق والتّوحيد والتّكثير ، ولكون هذا المقام بعد الفناء أتى بلفظ البعث الدّالّ على الأحياء بعد الممات فانّ الفاني ميّت بالموت الاختيارىّ والرّاجع الى الخلق يحيى بعد فنائه وذلك المقام وان كان لكلّ نبىّ لكن مطلقة وعظيمة وما ينبغي ان يكون الكامل عليه كان مطلوبا منه وباعتبار ذلك المقام العظيم امره تعالى بالسّؤال بعد الأمر بالنّافلة باللّيل الّتى هي عبارة عن المقام في ذلك المقام والّا كان أصله حاصلا له بوجه ، وذلك انّ صاحب هذا المقام امّا ان يكون نظره الى الخلق غالبا أو يكون نظره الى الحقّ غالبا وهذان المقامان


ليسا محمودين على الإطلاق وهما نشأتا موسى (ع) وعيسى (ع) ، أو يكون نظره الى الحقّ ونظره الى الخلق متساويين بمعنى ان يكون النّظر الى كلّ كما يقتضيه من غي نقصان من حقّ شيء منهما وهذا هو المقام المحمود على الإطلاق وهو كان لمحمّد (ص) وكلّ ما ورد في تفسير المقام المحمود يرجع الى ما ذكرنا ، ولمّا كان ذلك المقام من أعظم المقامات ووعده الله دخوله فيه على تهجّده امره (ص) بمسئلة الدّخول في ذلك المقام والانتظار له فقال (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) في ذلك المقام وما ورد من تفسيره بدخول مكّة أو بدخول كلّ مدخل أو بدخول كلّ مدخل يخاف منه انّما هو لسعة وجوه القرآن وجواز تعميم الآية ، ولا ينافي كون المقصود في ذيل وعد البعث الى المقام المحمود مسئلة الدّخول في ذلك المقام ، ولمّا كان خطابه (ص) يشمل أمّته نحو شمول خطاب الكلّ للاجزاء أو خطاب المتبوع للتّابع كان الامّة مقصودة وكان المقصود بالنّسبة إليهم سؤال دخول مقامات السّالكين الى الله أو سؤال دخول المقام المحمود الجزئىّ الّذى هو آخر مقامات السّالكين بحسب مراتبهم (مُدْخَلَ صِدْقٍ) إدخال صدق أو محلّ إدخال صدق ، وقرئ بفتح الميم والاضافة الى الصّدق للمبالغة اى إدخالا ثابتا للصّدق لا يكون له الّا شأن الصّدق ، أو الصّدق بمعنى الصّادق اى إدخال صادق ويكون التّعبير بالصّدق للمبالغة فيكون الاضافة أيضا للمبالغة فانّ المعنى حينئذ إدخال شخص لا يبقى فيه الّا الصّدق وصدق الإدخال في مقام ان يدخل ويتمكّن فيه بحيث لا يتصوّر له الخروج وزوال ذلك المقام عنه ولذلك قيل : الخروج من غير دخول جهل يعنى الخروج من مقام من غير تمكّن الدّخول فيه جهل والّا فالخروج فرع الدّخول (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) والإخراج بالصّدق يكون بالتّمكّن في المدخل (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) والتّنوين للتّفخيم والسّلطان النّصير هو الولاية المطلقة الظّاهرة في مظاهرها الكلّيّة والجزئيّة ، وأصل كلّ المظاهر علىّ (ع) ببشريّته كما انّه حقيقة الولاية المطلقة بعلويّته وقد أجابه (ص) الله تعالى حيث كان علىّ (ع) معه بعلويّته سرّا وببشريّته جهرا وهو كان بعلويّته السّكينة النّازلة عليه (ص) بصورته المثاليّة (وَقُلْ) بعد مسئلتك السّلطان النّصير وإجابتنا لك ونزول الولاية الكلّيّة المعبّر عنها بعد النّزول بالسّكينة تبجّحا بما أعطيناك (جاءَ الْحَقُ) فانّ الولاية المطلقة هي الحقّ وبحقّيّتها حقّيّة كلّ ذي حقّ (وَزَهَقَ الْباطِلُ) فانّ الباطل يزهق ويضمحلّ بمجيء الحقّ في العالم الصّغير وفي العالم الكبير (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) لكن بدون مجيء الحقّ يترائى حقّيّة له وبعد مجيء الحقّ يظهر انّه كان باطلا ولم يكن له حقيقة وحقّيّة (وَنُنَزِّلُ) عطف على جاء الحقّ فيكون من جملة مقوله (ص) يعنى قل بعد مجيء الحقّ وزهوق الباطل ننزّل بصيغة الجماعة تعظيما لشأنك فانّك بعد مجيء الحقّ تصير متّحدا مع الولاية المطلقة الّتى هي المشيّة الّتى هي كلّ الموجودات بوجه أو تشريكا لنفسك مع الحقّ النّازل ان كنت ترى نفسك في البين ، أو قل بلسان صار لسان الله ننزّل ، أو هو كلام من الله وعطف باعتبار المعنى كأنّه قال : ننزّل الحقّ ونظهر زهوق الباطل وننزّل بعد ذلك (مِنَ الْقُرْآنِ) من للتّبعيض والظّرف حال ممّا بعده أو من ابتدائيّة والظّرف صلة لننزّل والمراد بالقرآن صورة الكتاب التّدوينىّ أو مقام الجمع الّذى هو المقام المحمود (ما هُوَ شِفاءٌ) للأبدان والأرواح من كلّ آفة وداء فانّ المنزل من مقام الجمع إذا كان المنزل عليه الّذى هو الواسطة بين مقام الجمع والخلق مطهّرا من النّقص والآفة كان شفاء من كلّ داء لمن استشفى به واتّصل بالمنزّل عليه (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ


إِلَّا خَساراً) لانّهم كالعذرة لا يزيدها كثرة اشراق الشّمس الّا العفونة. روى في طبّ الائمّة عن الصّادق (ع): ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاية قطّ وقال بإخلاص نيّة ومسح موضع العلّة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الّا عوفي من تلك ايّة علّة كانت ؛ ومصداق ذلك في الآية حيث يقول : شفاء ورحمة للمؤمنين. وعنه (ع) لا بأس بالرّقية والعوذة والنّشرة إذا كانت من القرآن (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عنّا (وَنَأى بِجانِبِهِ) اى نأى عنّا ملصقا بجانبه والباء للتّعدية والمقصود استبداده وغفلته عن منعمه ، أو استكباره وطغيانه كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من روح الله يعنى انّ الإنسان سجّيّته الطّغيان والكفر بالمنعم بحسب مقام نفسه عند النّعمة واليأس من روح الله عند زوالها ومسيس الضّرّ له والحال انّه عبد مربوب ليس له اضافة شيء الى نفسه بل عليه ان يرى النّعمة والضّرّ من مولاه ويكون حين النّعمة شاكرا له مضيفا للنّعمة اليه خائفا من زوالها وحين الضّرّ راجيا لرفعه مضيفا له الى نقصان نفسه (قُلْ كُلٌ) من الله وافراد العباد (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) مشتملا على نيّة هي شاكلته فانّ النّيّة شاكلة حال الإنسان ومقامه وسجّيّته ، أو المعنى كلّ يبنى عمله على نيّة وفعليّة من نفسه هي شاكلة حاله ومقامه.

اعلم ، انّ الإنسان بحسب فعليّة بشريّته نوع واحد وله حدّ واحد لكنّه بحسب الباطن أنواع متباينة بالقوّة ولكلّ نوع حدّ غير حدّ النّوع الآخر فاذا صار بحسب الباطن نوعا بالفعل مثلا إذا صار بالفعل واحدا من أنواع السّباع أو البهائم أو الشّياطين أو الإنسان المشتمل على أنواع الملك ، فاذا أراد فعلا من الأفعال سواء كان في صورة العبادات أو المعاصي أو المباحات تمثّل تلك الصّورة عند نفسه وقصد من ذلك الفعل بواسطة تمثّل تلك الصّورة كمال ما هو بالفعل هو وتلك الصّورة وذلك القصد نيّة الفعل وهو حين العمل مشتمل عليه ويبنى عليه العمل ؛ مثلا الإنسان المعجب بنفسه أو المرائى لغيره إذا أراد الصّلوة تمثّل صورتها عنده وقصد بفعله بواسطة تلك الصّورة تزيين نفسه بما يزعمه ممدوحا عند النّاس فيعمل الصّلوة مشتملا على تلك النّيّة المشاكلة لما هو بالفعل هو وهو النّوع المعجب بنفسه كالطّاووس مثلا ، وبعبارة اخرى يبنى عمله على اسّ هو قصد تزيين نفسه الّذى هو شاكلة حاله وفعليّته وهكذا ، والحقّ الاوّل تعالى شأنه شاكلته اوّلا وبالّذات صفاته الجماليّة من الرّحمة والجود والإحسان والعفو والصّفح والغفران فليس عمله بالقصد الاوّل الّا على تلك لكنّها قد تصير قهرا وغضبا وانتقاما بحسب القوابل بالقصد الثّانى وبالعرض والمعنى قل لهم انّ الله يعمل على شاكلته من الرّحمة والإحسان وأنتم تعملون على شاكلتكم ممّا يجعل رحمته رضا أو سخطا (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) يعنى ان كان كلّ يعمل على شاكلته والشّاكلة من الأمور الغيبيّة الباطنة وصورة العمل لا عبرة بها فمن تختارونه بصورة العمل يمكن ان يكون غير مختار بحسب الشّاكلة بل المختار من اختاره الله لانّ ربّكم اعلم بمن هو أهدى سبيلا ، فالفاء داخلة على ما قام مقام جزاء شرط مقدّر ولا ينافي ذلك تعميم الآية لجميع موارد صدقها كما هو شأن جميع الآيات من كون المقصود بالّذات من ذكر الخيرات عليّا (ع) ومن ذكر الشّرور أعداءه مع تعميمها لجميع موارد صدقها بالتّبع (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) اى الرّوح الّتى بها الحيوة الانسانيّة فانّ الرّوح تطلق على البخار المتكوّن في القلب المنتشر في البدن بواسطة الشّرائين وتسمّى روحا حيوانيّة ، وعلى البخار المتصاعد من القلب الى الدّماغ فتعتدل ببرودته وتسمّى روحا نفسانيّة ، وعلى الّتى بها حيوة الحيوان وتسمّى نفسا حيوانيّة ، وعلى الّتى بها حيوة الإنسان وتسمّى نفسا ناطقة وهذه هي مراد السّائلين لانّها المدركة لهم بالآثار دون سابقتها فانّها مختفية تحت شعاع نفس الإنسان ، وتطلق على طبقة من الملائكة وتسمّى في لسان الاشراق بأرباب


الأنواع وفي لسان الشّرع بالصّافّات صفّا ، وعلى ملك أعظم من جميع الملائكة وله بعدد كلّ إنسان وجه وهو ربّ نوع الإنسان وله الرّياسة والاحاطة على جميع الأنواع وأربابها وهو مع كلّ افراد الإنسان وليسوا معه ، وما ورد في بيان الرّوح انّها ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع محمّد (ص) ثمّ مع الائمّة (ع) اشارة الى هذا المعنى ومعنى كونه مع محمّد (ص) دون سائر الأنبياء انّ معيّته مع محمّد (ص) كان بمعيّة محمّد (ص) معه والّا فهو مع كلّ افراد الإنسان بل مع كلّ ذرّات العالم (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) اشارة الى تلك ، فانّ الرّوح المنفوخة في آدم (ع) ظلّ تلك الرّوح ، ولمّا كانت الرّوح المسؤل عنها امرا مجرّدا معقولا لا يدركه الّا ذوو العقول وكان السّائلون أهل الحسّ لا يتجاوز ادراكهم المحسوسات امره (ص) بالإجمال في الجواب فقال (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) اى ناشئة من امر ربّى من غير سبق استعداد مادّة حتّى تكون محسوسة فتدركونها بالحواسّ الظّاهرة أو الباطنة أو من عالم امره ولا يصل ادراككم اليه ولذلك قال (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) منكم أو قليلا من العلم وهو العلم بالمحسوس من آثارها وليس لكم علم عالم الأمر ولفظة ما نافية أو استفهاميّة إنكاريّة (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) اى بالقرآن أو بالاحكام النّبويّة أو بالرّوح الّتى أو حيناها إليك أو بالعلم الّذى آتيناك (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ) بالّذى أوحينا أو بالاذهاب (عَلَيْنا وَكِيلاً) تلك اليه أمرك فيتسلّط علينا ويستردّ ما ذهبنا به (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء منقطع اى لكن رحمة من ربّك تبقيها أو تستردّها (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) قد سبق التّحدّى بأمثال هذه الآية وبيانه (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كرّرنا في ألفاظ مختلفة وعبارات متوافقة ومتخالفة (لِلنَّاسِ) لانتفاعهم وتذكّرهم (فِي هذَا الْقُرْآنِ) جملة القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) كما أشير اليه في الخبر (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) اى من كلّ حكاية وقصّة من حكايات الأخيار والأشرار الّتى صارت أمثالا واسمارا يعنى كرّرنا شيئا من تلك الحكايات في عبارات مختلفة مثل ذكر حكاية موسى (ع) مع فرعون ومع قومه ومع خضر (ع) فمفعول صرّفنا محذوف ، ولفظة من في من كلّ مثل للتّبعيض فانّ المذكور في القرآن ليس الّا بعضا من كلّ حكاية اجمالا ، ولفظة كلّ للمبالغة فانّ المذكور ليس من كلّ الحكايات والأمثال (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) من الاعتبار بها والاستدلال بها على آلهتنا أو على صدق نبوّتك أو على صدقك في ولاية علىّ (ع) (إِلَّا كُفُوراً) بالله أو بنبوّتك أو بولاية علىّ (ع) وفي الخبر انّما نزل جبرئيل (ع) فأبى أكثر النّاس بولاية علىّ (ع) الّا كفورا (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) عينا (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ) في توعيدك ايّانا (عَلَيْنا كِسَفاً) قطعا متكاسفة محسوسة جمع الكسفة بالكسر بمعنى القطعة (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) القبيل بمعنى العيان والمقابل والكفيل والجماعة من الثّلاثة فما فوق ، والعرّيف الّذى يعرف ما يرى والكلّ مناسب هاهنا (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) من ذهب (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) وحده (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) فيه تصديق نبوّتك وتصديق توحيد الله وكلّ تلك الاسئلة انّما كانت لعناد


نفوسهم ولجاجها وكانوا يريدون بذلك ما نسبوا إنكارهم اليه وكانوا مصرّين على الإنكار عازمين عليه ولم يكونوا مريدين بها رفع شبهة أو دفع شكّ ، ومثل ذلك لا جواب له ، فان أجيب كان محض التّفضّل على السّائل كما روى انّه (ص) أجابهم عن كلّ ما قالوا ولذلك امره (ص) ان يجيبهم بترك الاجابة في صورة العجز عن الجواب فقال (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) من ان يتحكّم عليه أو يأتى بما اقترحه الجهّال عن عناد ولجاج (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) فليس لي ان آتى بمسؤلكم بنفسي أو اقترح على ربّى مثل اقتراحكم علىّ ، وقد نقل كيفيّة اجتماع المشركين على الاستهزاء به والاقتراح عليه بما يعجز عن الإتيان به توهينا له وتصغيرا لشأنه ؛ من أراد فليرجع الى المفصّلات من التّفاسير وغيرها (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) اى الرّسالة أو الكتاب السّماوىّ أو الولاية فانّ الكلّ ما به الهداية الى الله كما انّ الاوّلين (١) هداية الى الولاية أيضا (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) يعنى الّا إنكارهم رسالة البشر لكنّه أتى بالقول اشعارا بانّ هذا الإنكار محض قول يقولون من غير اعتقاد وبرهان عليه ، ولمّا كان انكار رسالة البشر تعريضا برسالة الملك امره (ص) الله تعالى ان يقول في جوابهم انّ الملك من الملكوت ولا يظهر على الملك الّا بخرابه اختيارا أو اضطرارا فقال (قُلْ) في جواب إنكارهم رسالة البشر انّ رسول البشر لا بدّ ان يكون بشرا ليجانسهم ويأنسوا به ولا يجانسهم الملك ؛ نعم (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا) اى قل لهم يقول الله ذلك لكنّه حذف القول لإيهام انّ قول الرّسول وفعله قول الله وفعله (عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً قُلْ) بعد لجاجهم وعنادهم معرضا عنهم متّكلا على ربّك (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) هذا من جملة المحكىّ بالقول أو مستأنف من الله وكذا قوله (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) يعنى ليس الاهتداء بكثرة السّؤال والاقتراح انّما هو امر الهىّ لمن يشاء من عباده لا اختيارىّ باختيار العبد وحيلته (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يعنى منكوسا أرجلهم من فوق ورؤسهم من تحت (عُمْياً) مطلقا أو عن رحمة الله وفضله (وَبُكْماً وَصُمًّا) مطلقا أو عمّا ينفعهم (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) توقّدا (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) وأصل الآيات وأعظمها علىّ (ع) وأنكروا الآخرة والمعاد (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وقد اعترفوا بإبدائه خلق السّماوات والأرض (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فانّهم وأمثالهم أسهل خلقا من السّماوات والأرض ، والاعادة أسهل من الإبداء ، ويؤيّد هذه الآية قول من يقول : انّ الاعادة وان كانت بأشخاصهم بعينها لكنّها بأبدانهم بأمثالها بوجه (وَجَعَلَ لَهُمْ) لأنفسهم أو لأمثالهم بحسب الاعادة أو بحسب الحيوة الدّنيا أو بحسب المكث في البرازخ قبل القيامة (أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ) بعد وضوح الأمر (إِلَّا كُفُوراً) بالتّوحيد أو بك أو بعلىّ (ع) (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) رحمة الرّبّ هي الولاية وسائر النّعم الظّاهرة والباطنة تسمّى رحمة باتّصالها بالولاية وإذا لم تتّصل بالولاية تكون سخطا ونقمة

__________________

(١) الرّسالة والكتاب السّماوى.


واستدراجا ، وجمع الخزائن للاشعار بانّ له خزائن عديدة في مراتب العالم (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) عن الإنفاق والإيصال الى المستحقّ (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) خشية النّفاد بالإنفاق لانّكم ما خرجتم عن بشريّتكم والبشر في جبلّته حبّ المال وخشية نفاده (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) عطف للتّعليل اى في جبلّته البخل ولذلك أتى بكان فانّه يدلّ على كون الوصف سجيّته سواء جعل قتورا مبالغة أو صفة مشبهة ، والمقصود التّعريض بمدّعى الخلافة وبانّهم غير مستحقّين للولاية والخلافة لعدم خروجهم من البشريّة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) تسلية للنّبىّ (ص) وتعريض بمقترحى الآيات يعنى من كان في جبليّته العناد واللّجاج لا ينفع فيه الآيات كما انّ فرعون شاهد من موسى (ع) تسع آيات بيّنات وزاد لجاجه وعناده وقد ورد الاخبار بالاختلاف في تعيين التّسع ففي بعضها عدّ رفع الطّور والمنّ والسّلوى منها ، وفي بعضها لم يعدّ ، والظّاهر انّ المراد بالآيات التّسع كما في الخبر عن الصّادق (ع) الجراد والقمّل والضّفادع والدّم والطّوفان والبحر والحجر والعصا واليد البيضاء (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعنى ان كنت في شكّ على طريق ايّاك اعنى واسمعي يا جارة فاسئل بنى إسرائيل عن موسى (ع) وآياته (إِذْ جاءَهُمْ) إذ اسم خالص مفعول اسئل أو ظرف لآتينا وقوله فاسئل اعتراض (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ) بعد ظهور آياته عنادا (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) مجنونا (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أسباب بصيرة أطلق البصائر عليها مبالغة (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ) لا علمك ادّى بالظّنّ مشاكلة لقوله ، أو كان ظانّا لم يعلمه الله بعده عن الخير أو هلاكته إكمالا لدعوته (يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) مصروفا عن الخير أو هالكا (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) يخرجهم أو يستأصلهم (مِنَ الْأَرْضِ) ارض مصر أو مطلق الأرض بالاستيصال (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) يعنى أخرجناه من الأرض عكس مراده (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) الّتى أراد فرعون ان يستفزّكم منها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وعد دار الآخرة (جِئْنا بِكُمْ) يعنى بنى إسرائيل وقوم فرعون أو الخطاب لبني إسرائيل فقط (لَفِيفاً) مختلطين ، والمحقّين والمبطلين من بنى إسرائيل وقوم فرعون ، أو داني الدّرجة ومرتفعيها (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) بسبب الحقّ أو بالغاية الحقّة أو متلبّسا بالحقّ ، والضّمير لمطلق القرآن أو لقرآن الولاية (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً) اى امرا مجتمعا مجملا عظيما (فَرَقْناهُ) فصّلناه في صورة الحروف والألفاظ ونزّلناه نجوما (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) فانّه أقرب الى القبول والحفظ (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) عن مقام جمعه الّذى هو المشيّة والولاية الى الأقلام اجمالا ثمّ الى الألواح ثمّ الى الأكوان في صور الموجودات الكونيّة ، وفي صور الحروف والأصوات والنّفوس والكتابات ، ويجوز ان يراد بالقرآن الأمر بالولاية مخصوصا وان يراد بتفريقه تنزيله اشارة مثل (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، وتصريحا مثل (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في علىّ (ع) (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) يعنى سواء ايمانكم وعدم ايمانكم عندي وعند الله وانّما يعود نفعه إليكم (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل القرآن مثل أهل الكتاب الّذين علموا بعثتى وصدق كتابي من كتبهم قبل ظهوري أو من قبل القرآن الّذى في ولاية علىّ (ع) كالّذين تيقّنوا عظمة شأن علىّ (ع) من أمّة محمّد (ص) وهو في موضع تعليل للتّسوية يعنى انّ الحكمة في نزول القرآن ، الدّعوة والحكمة


في الدّعوة ايمان الخلق فاذا آمن بعض الخلق فقد حصل الحكمة ولم يبطل الغاية وقد آمن به كثير فيستوى ايمانكم وعدم ايمانكم لانّ الّذين أوتوا العلم آمنوا به و (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) اللّام بمعنى على (سُجَّداً) تأثّرا به وانسلاخا من بشريّتهم وشكرا لله لانجاز وعده وللوصول الى مطلوبهم (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) إظهارا للشّكر باللّسان (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) كرّره للتّأكيد المطلوب في مقام المدح (يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) لتأثّرهم به (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ).

اعلم ، انّ القرآن ذو وجوه بحسب التّنزيل وذو بطون بحسب التّأويل ، وانّ أسماءه اللّفظيّة عناوين لاسمائه الكونيّة وهي مظاهر لاسمائه الحقيقيّة الّتى هي مبادي أسمائه الكونيّة وأرباب أنواعها والظّاهرة فيها ، والأسماء الحقيقيّة عنوانات لحقيقة الوجود المطلق كما انّ أسماءه الكونيّة واللّفظيّة والكتبيّة عنوانات لتلك الحقيقة باعتبار تلك الأسماء الحقيقيّة. وانّ الحقّ الاوّل تعالى مسمّى بالله باعتبار انطواء الكثرات فيه ، ومسمّى بالرّحمن باعتبار إظهاره للكثرات والمراتب والحدود ، وانّ فعله المعبّر عنه بالمشيّة والولاية الكلّيّة مظهر لله باعتبار انطواء الكثرات فيه ومظهر للرّحمن باعتبار انبساطه على الكثرات ويسمّى المشيّة بالاعتبار الاوّل عرشا وبالاعتبار الثّانى كرسيّا ولذلك يعبّر عنها حين الاضافة الى الكثرات بالكرسىّ كما قال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ،) وحين الاضافة الى الحقّ الاوّل تعالى بالعرش (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، وكون العرش مظهرا لله باعتبار انطواء الكثرات فيه لا ينافي كونه منسوبا اليه الرّحمن لانّه باعتبار مغايرته له تعالى من جانب الكثرات فاضافته تعالى اليه مثل اضافة الكرسىّ الى الكثرات ، والحقّ الاوّل باعتبار وصف الرّحمن مصدر له ومضاف اليه ، وكلّ من مراتب الجبروت والملكوت مظهر لله وللرّحمن بالاعتبارين المذكورين. والمراتب عاليها مظهر لله من حيث إجمال الكثرات فيه بالنسّبة الى دانيها ، ودانيها مظهر للرّحمن من حيث التّفصيل بالنّسبة الى العالي ، ولمّا كان الإنسان منطويا فيه جميع الأسماء والمراتب كان من حيث روحه مظهرا لله ومن حيث نفسه مظهرا للرّحمن ان لم يصير بالتّنزّل مظهرا للشّيطان ، وهكذا في جملة مراتبه. وخلفاء الله الّذين هم أكمل افراد الإنسان مظاهر لله وللرّحمن بالاعتبارين ؛ فالنّبىّ باعتبار ولايته مظهر لله تعالى ومن حيث نبوّته ورسالته مظهر للرّحمن ، بل النّبوّة من حيث وجهتها الى الولاية مظهر لله ، تعالى ومن حيث وجهتها الى الرّسالة مظهر للرّحمن ، وشخص النّبىّ من حيث أخذ الميثاق والبيعة من العباد مظهر لله ، وتابعه المعاضد له في تعليم العباد طريق الوصول اليه والبيعة معه مظهر للرّحمن ، وهكذا خلفاؤهما المأذونون منهما في أخذ الميثاق والبيعة من الخلق ، ويسمّى النّبىّ وخليفته من تلك الحيثيّة شيخ الإرشاد ، والتّابع وخليفته من تلك الحيثيّة شيخ الدّلالة ، والعباد المطيعون من حيث نشأتهم في الجذب مظاهر لله ومن حيث حالهم في السّلوك مظاهر للرّحمن. والدّعاء قد يطلق على التّسميّة ويكون متعدّيا الى مفعولين ، وقد يطلق على الذكّر ويكون متعدّيا الى مفعول واحد ، وقد يطلق على دعوة الغير لإحضاره ومجيئه بنفسه بحيث يكون المدعوّ بنفسه مطلوبا ، وقد يطلق على دعوة الغير في المهمّات ؛ وبالمعنى الاوّل يقال : دعوت إبني زيدا ، وبالثّانى يقال : يدعون الله باللّيل والنّهار ، كما يقال بالثّالث والرّابع : يدعون الله مطلقا أو في مهمّاتهم ، ومعنى الآية تنزيلا سمّوا الله ، الله أو الرّحمن بحذف المفعول الاوّل ، ووجه إسقاط المفعول إمكان التّعميم بين وجوه التّنزيل وبطون التّأويل ، وقد نقل في نزوله انّه (ص) كان في المسجد الحرام وقال : يا الله يا رحمن ، فقال المشركون انّه ينهانا عن الإشراك وهو يدعو الهين ؛ فنزلت. ونقل أيضا : انّ اليهود قالوا له (ص) : انّك لتكثر ذكر الله ولا تذكر الرّحمن وفي التّوراة تكرّر ذكر الرّحمن ؛ فنزلت. أو معنى الآية اذكروا لفظ الله ، أو اذكروا لفظ الرّحمن ، أو اذكروا الّذات باعتبار جمعه للكمالات ، أو باعتبار انبساطه


على الكثرات ، أو ادعوا الّذات بعنوان أوصافه الجلاليّة أو بعنوان أوصافه الجماليّة فانّ الله وان كان امام الأسماء تماما لكنّه باعتبار انطواء الكثرات المعتبر فيه ادلّ على أوصاف الجلال ، والرّحمن امام أوصاف الجمال ، ومعنى الآية تأويلا ادعوا مظهر اسم الله أو مظهر اسم الرّحمن لا فرق بينهما في جميع مراتبهما ، وادعوا الولىّ (ع) أو النّبىّ (ص) وادعوا في مقام الجذب أو في مقام السّلوك (أَيًّا ما تَدْعُوا) يؤدّبكم اليه لانّ أسماء الوجود وعنوانات الحقّ ومظاهر النّور لا شركة لغيره فيها (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لا لغيره بخلاف الأسماء السّوءى الّتى هي أسماء العدم وعنوانات الحدود والتّعيّنات ومظاهر الشّرور والظّلمات فانّها لغيره لا له ، والله والرّحمن ومظاهرهما من الأسماء الحسنى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) لا تتجاوز في إعلان الصّوت عن المعتاد حين التّخاطب مع الأحباب بحيث تسمع من بعد عنك (وَلا تُخافِتْ بِها) بحيث لا تسمع نفسك ، كذا فسّرا في أخبارنا (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) متوسّطا يعنى اقرء قراءة تسمعها نفسك ومن قرب منك ولا تسمعها من بعد عنك فانّ السّمع له حقّ في الصّلوة وهو سماع أذكاره وسنّة الأحباب عدم الجهر بالخطاب ، ولمّا كان الصّلوة الحقيقيّة هي الولاية والنّبوّة قالبها والرّسالة قالب النّبوّة ، وقبول الولاية والرّسالة من القوالب ، وصورة الصّلوة القالبيّة والقلبيّة أيضا من القوالب صحّ تفسير الصّلوة بكلّ منها ، وصحّ جعل الخطاب عامّا وخاصّا بمحمّد (ص) ، وصحّ تفسير الإجهار والإخفات بما يناسب كلّا منها ، وقد أشير الى التّعميم في بعض الاخبار (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) بعد امره بالتّوسّط في الأقوال أو الأفعال امره بالتّوسّط في توصيفه تعالى بالجمع بين التّشبيه والتّنزيه قولا واعتقادا وشهودا فأمره تعالى بالحمد اى ملاحظة ظهوره تعالى في كلّ شيء وفيء مع تنزيهه عن أصول النّقائص ، وهي كون الثّانى له سواء كان تحت يده أو مقابلا له أو مستعليا عليه محتاجا اليه وكان هو عاجزا فانّ الّذلّ ينشأ من العجز عن دفع الضّرّ أو جلب النّفع ، ولمّا كان ذلك موهما لتوصيفه ومعرفته امره ثانيا بتكبيرة عن التّوصيف والمعرفة فقال (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) عن كلّ ما يوهم النّقص أو التّوصيف ، ولذلك ورد في جواب من قال : الله أكبر من كلّ شيء عن الصّادق (ع) : وكان ثمّة شيء فيكون أكبر منه؟! فقيل : وما هو؟ ـ قال : أكبر من ان يوصف.


سورة الكهف

وهي مائة واحدى عشرة آية مكّيّة كلّها ، وقيل : سوى آية

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (الآية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) اضافة العبد للعهد يعنى محمّدا (ص) والمراد بالكتاب كتاب النّبوّة وصورته القرآن أو القرآن وبعد اشعاره بمحموديّته على جميع ما يحمد عليه بتعليق الحمد على الله المشعر بجميع الأوصاف الحميدة ذكر معظم ما يحمد عليه من الأوصاف وهو إنزال كتاب النّبوّة الّذى به قوام المعاش والمعاد (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) العوج كعنب الاعوجاج من كلّ شيء من الأجسام المحسوسة وغيرها ، أو العوج محرّكة اعوجاج الأجسام الّتى من شأنها الاستقامة كالحائط والعصا ، والعوج كعنب خاصّة بالمعاني ، والمعنى لم يجعل لكتاب النّبوّة انحرافا عن الاستقامة نزولا وصعودا لانّه نازل منه على الاستقامة ومنته اليه على الاستقامة وذاهب بمن توسّل به الى الله على الاستقامة (قَيِّماً) حال من الكتاب أو من الضّمير المجرور باللّام وهو مبالغة من قام الرّجل المرأة وعليها ، وقام الرّجل اهله إذا مأنهم وقام بشأنهم ، والمقصود انّ كتاب النّبوّة قيّم على جميع الكتب السّماويّة حتّى القرآن ببيانها وتعيين موارد أحكامها وقيّم على جميع من توسّل به بإفادة ما يحتاجون اليه في امر معاشهم ومعادهم ، أو هو حال عن العبد فانّه أيضا قيّم لكلّ معوّج وكاف لكلّ محتاج (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) عذابا شديدا في الدّنيا بالقتل والأسر والنّهب كما انذر ووقع ذلك البأس وكما يقع للكفّار حين الاحتضار وفي الآخرة بعذاب البرازخ والقيامة والجحيم ، وقد فسّر البأس الشّديد بعلىّ (ع) فانّه الرّحمة للمؤمنين والبأس للكافرين في الدّنيا والآخرة (مِنْ لَدُنْهُ) من لدن العبد المنزل عليه الكتاب ما فسّر ، أو من لدن الله وقد فسّر لدن رسول الله (ص) بعلىّ (ع) وكذا لدن الله تعالى (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أطلق الإنذار اشعارا بانّه للمؤمنين والكفّار بخلاف التّبشير فانّه خاصّ بالاختيار ، وإنذار المؤمنين من حيث شوب الكفر والّا فحيثيّة الايمان تقتضي التّبشير لا الإنذار (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) هو الجنّة ونعيمها ورضوان من الله أكبر (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) تخصيص بعد تعميم تفضيحا لهذا الصّنف من الكفّار ومبالغة في قبح قولهم


وهم الّذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والّذين قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ونحن أبناء الله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) نفى علمهم به اوّلا مع انّه باطل من أصله منفىّ بنفسه اشعارا بانّ المذمّة على القول من غير علم سواء كان المقول باطلا أو حقّا مقدّم على سائر جهات الّذمّ فويل لمن قال بظنّه من غير علم ومن غير اذن واجازة ثمّ يقول : هو من عند الله حيث قال من غير علم ثمّ نسب قوله الى الله (وَلا لِآبائِهِمْ) كلمة مبالغة تقال في مقام الّذمّ مبالغة أو هو ذمّ آخر يعنى انّهم قالوا من غير علم وقلّدوا في ذلك آباءهم الّذين لم يكن لهم علم فلهم المذمّة من حيث التّقليد ومن حيث الأخذ ممّن لا علم له (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) بعد ما ذمّهم على القول بغير علم وعلى التّقليد في قولهم وعلى تقليد من لا علم له ذمّهم على قبح المقول أيضا (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) لا شوب صدق فيه (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتل نفسك غمّا (عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) حديث أصحاب الكهف أو القرآن جملة أو حديث ولاية علىّ (ع) وهو المقصود (أَسَفاً) تأسّفا على تولّيهم عن الايمان شفقة بهم وحرصا على ايمانهم بعلىّ (ع) (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) تعليل لما يستفاد من مفهوم العتاب يعنى لا ينبغي لك التّحسّر على تولّيهم لانّهم اغترّوا بما على الأرض زينة لها وانّا جعلنا ما على الأرض زينة لها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) يعنى انّ الغاية جهة المؤمن في حسن العمل واغترار الكافر طار بالعرض (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أرضا لا نبات فيها ، والجرز من الجرز بمعنى القطع اى مقطوعا نباته وهو تسفيه للمغترّين بزينتها وتزهيد لطالبي الآخرة وتسلية لمن لا يكون له من زينتها شيء (أَمْ حَسِبْتَ) الخطاب للنّبىّ (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب وهو اضراب عن قوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) باعتبار المعنى فانّه في معنى أأنت باخع نفسك؟ لانّه في مقام الإنكار وان كان بلفظ التّرجّى وأحسبت انّ ما على الأرض يمنعهم من الايمان أم حسبت انّ مقام الايمان وأصحاب الايمان كان من آياتنا عجبا لا يمكن الوصول اليه فحسبت (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) ورد في أخبارنا انّ الرّقيم كان لوحا أو لوحين من نحاس وكان مرقوما فيه امر الفتية وقصّتهم وما أراد منهم دقيانوس الملك ، وقيل : انّ الرّقيم كان اسم الجبل الّذى فيه الكهف ، أو الوادي الّذى فيه الكهف ، أو اسم قريتهم ، أو اسم الكلب الّذى كان معهم ، وقيل : أصحاب الرّقيم كانوا قوما آخرين لم يذكر الله قصّتهم ، وكان قصّتهم انّهم كانوا ثلاثة وخرجوا يرتادون لأهلهم فأخذهم المطر فأووا الى كهف فانحطّت صخرة وسدّت باب كهفهم ، فقال أحدهم : ليذكر كلّ منكم ما عمل من حسنة خالصا لله لعلّ الله يرحمنا ، فقال أحدهم : انّى استعملت اجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النّهار وعمل في بقيّته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك اجره فوضعته في جانب البيت ثمّ مربّى بقرة فاشتريت به فصيلها فبلغت ما شاء الله فرجع الىّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : انّ لي عندك حقّا وذكره حتّى عرفته فدفعتها اليه جميعا ؛ اللهمّ ان كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا ، فانصدع الجبل حتّى رأوا الضّوء ، وقال آخر : كان فيّ فضل وأصاب النّاس شدّة فجاءتني امرأة فطلبت منّى معروفا ، فقلت : لا الّا ان تعطيني حظّى من نفسك ، فأبت ورجعت ثم عادت فقلت لها مثل ما قلت سابقا ، فأبت ورجعت ، ثمّ ذكرت لزوجها ، فقال لها : أجيبيه واغيثى عيالك ، فأتت وسلّمت الىّ نفسها فلمّا تكشّفتها وهممت منها ارتعدت فقلت : مالك؟ ـ قالت : أخاف الله ، فقلت : خفته في الشّدّة ولم اخفه في الرّخاء ، فتركتها وأعطيتها ملتمسها ؛ اللهمّ ان فعلته لوجهك فافرج عنّا ، فانصدع حتّى تعارفوا ، وقال الثّالث : كان لي


أبوان همّان وكانت لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثمّ أرجع الى غنمي ، فحبست ذات يوم حتّى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبى وأتيتهما فوجدتهما نائمين فلم أوقظهما وتوقّفت عندهما حتّى أصبحا واستيقظا ، فسقيتهما ؛ اللهمّ ان فعلته لوجهك فافرج عنّا ، ففرّج الله عنهم. وقصّة الكهف اجمالا كما يستفاد من الاخبار انّهم كانوا أصحاب دقيانوس الملك وانّه كان يدعو الخلق الى عبادة الأصنام ، وهؤلاء ، آمنوا بربّهم وحده ورفضوا عبادة الأصنام واسرّوا التّوحيد وأظهروا الشّرك وكانوا يحضرون معهم الى عبادة الأصنام ولم يعلم أحد بدينهم ولا يعلم كلّ منهم دين صاحبه ومضوا على ذلك مدّة متمادية ، حتّى سئموا وملّوا من موافقة دقيانوس وقومه فخرجوا من القرية فرارا منهم وأظهروا قصد الصّيد ، فاتّفق ان كان خروجهم في يوم واحد فتلاحقوا في البادية فتساءلوا عن شأنهم وخروجهم كلّ عن الآخر ، فأخذوا المواثيق وأظهر كلّ دينه وقصده ، فعرفوا انّهم كانوا على دين واحد وقصد واحد فتوافقوا في المسير ومرّوا براع ، فدعوه الى التّوحيد فلم يجبهم وأجابهم كلبه وذهبوا على وجههم ودخلوا الكهف فأماتهم الله ثلاثمائة وتسع سنين أو أنامهم على اختلاف في الرّوايات ، فأحياهم الله أو أيقظهم بعد ذلك وتساءلوا بينهم كما حكى الله. وسبب نزول هذه السّورة كما في الخبر انّ قريشا بعثوا ثلاثة نفر الى نجران اليمن الى علماء اليهود ليتعلّموا مسائل منهم ويسألوا محمّدا (ص) بعد رجوعهم لعلّهم الزموه ، فذهبوا إليهم وسألوهم فقالوا : سلوه عن ثلاث مسائل فان أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثمّ سلوه عن مسئلة واحدة فان ادّعى علمها فهو كاذب ، فقالوا : سلوه عن فتية خرجوا وغابوا وناموا مدّة كم كان عددهم؟ وكم كان نومهم؟ وما كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصّتهم؟ ثمّ سلوه عن موسى (ع) ومن امره الله باتّباعه من هو؟ وكيف كان قصّته؟ ثمّ سلوه عن طائف طاف المشرق والمغرب حتّى بلغ سدّ يأجوج ومأجوج ، من هو؟ وكيف كان قصّته؟ وأملوا القصص الثّلاث عليهم ، فرجعوا وسألوه فقال : أخبركم غدا ولم يستثن ، فحبس الوحي عنه (ص) أربعين يوما حتّى اغتمّ النّبىّ (ص) وشكّ أصحابه وفرحت قريش واستهزؤا وآذوا وحزن ابو طالب فلمّا كان بعد أربعين يوما نزل جبرئيل (ع) بسورة الكهف وكان سبب تأخيره تركه (ص) الاستثناء (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) آية عجبا يعنى لا ينبغي لك ذلك الحسبان مع ما آتيناك من عجائب الآيات وأريناك من معظمها ، فانّ أصحاب الكهف وايمانهم امر سهل في غاية السّهولة في جنب ما آتيناك (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) إذ تعليل للحسبان أو لعجبا أو مفعول لا ذكر مقدّرا أو ذكّر ، والفتية جمع الفتى ، وهو كما يطلق على العبد والشّابّ والخادم والمطيع يطلق على المؤمن فانّه شابّ عقلا والّا فانّهم كانوا كهولا (فَقالُوا) التجاء واستغاثة (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) من ديننا الّذى صار سببا لمهاجرة الكفّار والفرار من الأشرار وابتغاء سنّة الأخيار (رَشَداً) في معاشنا ما نصير بسببه راشدين يمكن لنا التّعيّش مع الخلق كما قال تعالى : (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) يعنى ما يمكن لكم المداراة مع الخلق (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) حجابا يمنعهم من سماع الأصوات بالموت أو النّوم (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ذوات عدد (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) من الموت أو النّوم بعد ثلاثمائة سنة (لِنَعْلَمَ) ليظهر علمنا (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) حزب الله ومنهم قومك السّامعون منك وحزب الشّيطان ومنهم المشركون والمحاجّون عليك أو اىّ الحز بين من أصحاب الكهف أنفسهم وممّن اطّلع عليهم (أَحْصى) فعل ماض وعلى هذا فقوله (لِما لَبِثُوا) حال من قوله (أَمَداً) وهو مفعول احصى أو لما لبثوا مفعول له واللّام زائدة للتّقوية وأمدا تميز ، ويحتمل ان يكون احصى افعل تفضيل من الإحصاء على خلاف القياس ، وعلى هذا فقوله أمدا تميز عن ما في لما لبثوا (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) مقابل الكذب ،


وتقديم المسند اليه امّا لمحض التّقوىّ أو للحصر (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) يعنى انّ الايمان كان هداية من الله الى الله ، ولمّا حصّلوه بتوفيقه زادهم ايمانا (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) الحبّ فجذبهم إلينا أو اوقعنا الرّبط على قلوبهم بمعنى جعلناهم متحابّين مربوطا قلب بعضهم على بعض وذلك بعد معرفة كلّ حال الآخرين واتّحادهم في الدّين (إِذْ قامُوا) عن القعود مع المشركين وإظهار الإشراك للفرار عنهم (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) لا باطنا ولا ظاهرا (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) قولا ذا شطط ذا بعد أو ميل عن الحقّ قالوا ذلك فيما بينهم بعد التّلاقى في خارج البلد ، أو في أنفسهم قبل الخروج والتّلاقى (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) على الآلهة (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) حجّة واضحة يعنى انّ اعتقاد شيء من غير برهان باطل وان كان المدّعى حقّا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يعنى ممّن نسب الى الله ما لم يأذن به الله حقّا كان أو باطلا ، ولذلك ورد من فسّر القرآن برأيه وأصاب الحقّ فقد أخطأ (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) استيناف من الله يعنى وقلنا إذ اعتزلتموهم أو مقول لهم يعنى قال بعضهم لبعض وإذ اعتزلتموهم فأووا الى الكهف فرارا منهم واخلوا مع الله (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) اجابة لمسؤلكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ما تدارون به الخلق من قوّة الصّبر على أذاهم والعفو عن مسيئهم والنّصح لمحسنهم والإحسان الى كلّهم (وَتَرَى) يا محمّد (ص) إذا رأيت كهفهم أو يا من يتأتّى منه الرّؤية (الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ) تميل (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) اى الى الجهة من الكهف ذات يمين الواقف خارج الكهف مقبلا على الباب أو داخل الكهف مدبرا عن الباب ، هذا إذا كان الكهف واقعا في جهة الجنوب وبابه الى جهة الشّمال ، وبالعكس ان كان واقعا في جهة الشّمال وبابه الى جهة الجنوب ، أو عن الجهة ذات يمين الواقف خارج الكهف مدبرا عن الباب ، أو داخل الكهف مقبلا على الباب إذا كان الكهف واقعا في جهة الجنوب وبابه الى جهة الشّمال ، وبعكس ذلك ان كان الكهف بعكس ذلك ، أو المعنى ترى الشّمس إذا طلعت حالكونها في الجهة ذات يمين الواقف ، أو حالكونها صاحبة يمين الواقف ، أو تزاور حالكونها في يمين الواقف أو ذات يمين الواقف ، وتصوير وضع الكهف غير خفىّ بعد ما مضى ، أو المعنى تزاور في الجهة ذات اليمين على ان يكون ظرفا لغوا وتصوير وضعه كما إذا كان المعنى تزاور الى ذات اليمين (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) الى ذات الشّمال أو عن ذات الشّمال أو في ذات الشّمال أو حالكونها ذات الشّمال ، وتصويرها بعد تصوير سوابقها غير صعب (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) متّسع من الكهف بحيث لا يتأذّون من حرّ الشّمس ولا كرب الغار (ذلِكَ) اى كونهم في الكهف بالوصف المذكور أو ذلك المذكور من قصّة أصحاب الكهف وهو جملة معترضة لتذكير السّامعين (مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) معترضة اخرى للاشارة الى وجه من وجوه التّأويل وتمثيل حالهم لحال جملة المؤمنين (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) عطف على ترى الشّمس يعنى من رآهم يحسب انّهم إيقاظ لكون أعينهم مفتوحة ناظرة ، أو يحسب انّهم احياء لطراوة أجسادهم ونضارة أبدانهم (وَهُمْ رُقُودٌ) نائمون أو أموات (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) اى على الجهة ذات اليمين أو في الجهة ذات اليمين يعنى لا نديم منهم جنبا واحدا على الأرض حتّى يتغيّر ويتصرّف فيه الأرض ، وفيه اشارة الى اجابة دعائهم


حيث سألوا الرّحمة والتّقليب الى ذات اليمين والرّشد يعنى التّقليب الى ذات الشّمال والمقصود التّوسّط بين الجذب والسّلوك ، ولا يخفى على البصير الاستبصار بالتّأويل (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) بفناء الكهف كالبوّاب المطيع (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) يا محمّد (ص) على طريقة : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو يا من يتأتّى منه الاطّلاع (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) وذلك لما أعطاهم الله من الهيبة والخشية ، أو لانّ أجسادهم كانت كأجساد الموتى وكانت عيونهم مفتوحة بحيث يتوحّش النّاظر منهم (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) يعنى كما أنمناهم آية غريبة بعثناهم آية اخرى (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) عن حالهم فيعرفوا انّ حالم اغرب من ان يعرف ، وانّ صنع الله بهم لا يعرف كنهه ويزداد يقينهم في امر البعث (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا) اى الآخرون (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على ما هو المعتاد من النّوم وذلك قبل ان نظروا الى تغيّر حالهم وطول شعورهم واظفارهم وبعد ما نظروا الى ذلك (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أو الاوّل كان لبعضهم وهذا لبعض آخر ، ولمّا رأوا انّه لا طريق لهم الى معرفة ذلك اعرضوا عنه وأخذوا فيما يهمّهم من الحاجة الى الغذاء وقالوا (فَابْعَثُوا) يعنى إذا لم تقدروا على معرفة ذلك فابعثوا (أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) الورق الفضّة المسكوكة (إِلَى الْمَدِينَةِ) واسمها كما نقل كان طرسوس أو أفسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) اىّ أهلها أو اىّ الاطعمة (أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) في المعاملة حتّى لا يغبن أو في التّخفّى حتّى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) ان يطّلعوا أو يظفروا بكم (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم اشدّ قتلة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) وقد أنعم الله عليكم بالنّجاة منها (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً وَكَذلِكَ) يعنى مثل اطّلاعنا ايّاهم على حالهم وطول مدّة منامهم ليزدادوا بصيرة بقدرتنا وعودهم إلينا (أَعْثَرْنا) غيرهم (عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا) يعنى المطّلعين (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والأحياء بعد الاماتة (حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) في إتيانها ، روى انّه قد رجع الى الدّنيا ممّن مات خلق كثير منهم أصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة ثمّ بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليريهم قدرته ؛ وهذا الخبر يدلّ على انّهم ماتوا في تلك المدّة كما انّ بعض الاخبار يدلّ على انّهم ناموا ، ونقل انّ المبعوث لمّا دخل المدينة أنكرها وتحيّر واخرج الدّرهم وكان عليه اسم دقيانوس فاتّهموه بانّه رأى كنزا وأخذوه وذهبوا به الى الملك وكان نصرانيّا موحّدا فقصّ القصّة عليه فقال بعض الحاضرين : انّ آباءنا أخبرونا انّ جماعة فرّوا في زمن دقيانوس بدينهم لعلّهم هؤلاء ، فانطلق الملك وأهل المدينة جميعا الى الكهف ورأوهم وكلّموهم ثمّ قال الفتية نستودعك الله ايّها الملك ، ورجعوا الى مضاجعهم فماتوا ودفنهم الملك ، وقيل : تقدّمهم المبعوث ، وقال أخبرهم لئلّا يفزعوا فعمي عليهم باب الكهف فبنوا هناك مسجدا (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ظرف لأعثرنا والمعنى أعثرنا عليهم إذ يتنازع الفتية امر نومهم قلّة وكثرة أو يتنازع أهل البلد امر الفتية من حيث دفنهم وتركهم كما كانوا وأخذ المسجد عليهم ، أو إذ يتنازع المطّلعون امر دينهم وامر البعث بينهم بالإنكار والإقرار ببعث الأرواح دون الأجساد أو بعث الأرواح والأجساد جميعا أو ظرف ليعلموا ، والمعنى ليعلم الفتية علما شهوديّا بعد ما كانوا علموا يقينيّا إذ يتنازعون بينهم أمرهم في نومهم ومدّته ، أو ليعلم المطّلعون انّ وعد الله حقّ إذ يتنازعون بينهم امر بعثهم (فَقالُوا ابْنُوا) عطف على يتنازعون عطف التّفصيل على الإجمال على بعض الوجوه ، أو عطف على


أعثرنا (عَلَيْهِمْ بُنْياناً) يحفظ أجسادهم من السّباع والانظار (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) من تتمّة قولهم يعنى اتركوهم على حالهم ولا تجسّسوا وابنوا عليهم بنيانا ، أو معترضة من الله يعنى ربّ الفتية اعلم بحال الفتية أو بحال المتنازعين فيهم ، أو ربّ المتنازعين اعلم بحالهم من ارادة الخير والشّرّ في نزاعهم وما قالوه (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) امر الفتية أو امر أهل البلد من الرّؤساء ، أو قال الّذين غلبوا على امر أنفسهم بالإسلام وغلبتهم على الشّيطان (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) معبدا يعبد فيه ويزار ويتبرّك (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) اى سيقول الحاضرون في زمانك من أهل الكتاب ومن قريش ومن أمّتك (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) كأنّهم سلّموا انّ عددهم كان فردا ولذلك ردّدوا بين الثّلاثة والخمسة والسّبعة (رَجْماً بِالْغَيْبِ) رميا من أفواههم بالخبر الغائب عنهم ، وتعقيب القولين بذلك دليل تزييفهما (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) إدخال الواو هاهنا دون سابقيه لاعتيادهم ذلك عند تعداد مراتب العدد فانّهم يقولون خمسة ستّة سبعة وثمانية وذلك لانّ السّبعة عدد كامل عندهم كما هو كذلك عند أهل الشّرع فقبل البلوغ الى السّبعة كان المراتب الآتية من متمّمات السّابقة وتخلّل الواو كأنّه تخلّل بين أجزاء شيء واحد ولذلك يسمّى هذه الواو عندهم وأو الثّمانية ، فما قيل : انّ دخول الواو هاهنا لتأكيد اللّصوق ، ليس في محلّه ، لانّه للاشعار بالتّفارق لا بالتّقارب (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وفي الاخبار ما يشعر بكونهم سبعة وثامنهم كلبهم (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) فلا تجادل في خبرهم وعددهم قريشا وأهل الكتاب (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) لا واقعا فانّهم لا علم لهم ولا يقولون الّا عن جهل والقائل عن جهل لا خطاب معه ، وهذا يدلّ على انّ الجدال كما يحرم عمّن لا علم له يحرم مع من لا علم له (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) واقتصر على ما أوحينا إليك لانّهم لا يقولون ما يقولون عن علم وبصيرة ، وهذا يدلّ على انّ الاستفتاء عمّن لا علم له حرام سواء قال عن تقليد أو عن ظنّ وتخمين (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء مفرّغ من لا تقولنّ اى لا تقولنّ لشيء بضمّ شيء الّا بضمّ ان يشاء الله أو في حال الّا في حال ضمّ ان يشاء الله ، والمقصود الّا بتذكّر مشيّة الله ، وهذا تأديب له (ص) وتعليم لغيره ان لا يقولوا شيئا منوطا بمشيّة الله الّا ان يستثنوا ، وقد سبق انّه (ص) قال في جواب سؤالهم المسائل الثّلاث : أخبركم غدا ، ولم يستثن ، فحبس الوحي عنه أربعين يوما (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الاستثناء في الخبر انّ للعبد إن يستثني ما بينه وبين أربعين صباحا (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا) الاستثناء القولىّ (رَشَداً) وهو الاستثناء الحالىّ والعيانىّ والتّحقّقىّ يعنى انتظر صيرورة حالك حال الاستثناء دائما أو معاينة مشيّة في كلّ شيء أو تحقّقك بمشيّته ، وقيل فيه غير ذلك (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) عطف من الله على يقولون ، أو كلام منهم عطف على سبعة وثامنهم كلبهم (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) هذا يؤيّد كونه كلاما منهم (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) علمه مختصّ به (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أتى بصيغة التّعجّب اشعارا بانّ بصره وسمعه فوق ما يتصوّر بحسب ادراك الدّقائق والاحاطة بكلّ ما يتصوّر أدركه (ما لَهُمْ) لأهل السّموات والأرض أو للسّائلين عن نبإ أصحاب الكهف (مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) في الاخبار عن القصص الماضيات ، أو في الاخبار عن المغيبات مطلقا ، أو في احكام العباد ، أو في ولاية علىّ (ع) وهذا هو المناسب


لما بعده (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) فلا تخف من التّغيير والتّبديل وظهور الخلف في اخبارك (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) ذكر النّفس بعد الصّبر مبنىّ على تجريد الصّبر عن النّفس فانّ الصّبر هو حبس النّفس عن الجزع أو عن هواها والمعنى احبس نفسك عن اتّباع هواها (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) يعنى في جملة أوقاتهم وهم الّذين يذكرون الله مخرجا لهم عن ظلمات الطّبع والنّفس الى نور القلب والرّوح لمشاهدة وجه ربّهم المضاف وهو ربّهم في الولاية وهم الّذين أخذوا الذكّر من صاحب الاذن وأهل الذكّر (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الملكوتي وهو السّكينة الّتى ينزلها الله على المؤمنين وهو الذكّر الّذى به يطمئنّ قلوب المؤمنين (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهذا على : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) والذكّر هو الرّسول (ص) أو أمير المؤمنين (ع) ، أو المراد من الذكّر تذكّر الله وتذكّر أو امره ونواهيه وثوابه وعقابه ، أو المراد الذّكر المأخوذ من صاحب الذّكر (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) افراطا وتجاوزا للحدّ في الخروج عن تحت حكم العقل ، روى انّ جمعا من فقراء المسلمين منهم سلمان رضى الله عنهم كانوا عند النّبىّ (ص) فدخل عليه جمع من أغنياء المؤلّفة قلوبهم فقالوا : يا رسول الله (ص) ان جلست في صدر المجلس ونحيّت عنّا هؤلاء وروائح جبابهم جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك ، فقاموا من عنده (ص) ، فلمّا نزلت الآية قام النّبىّ (ص) يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزوجل فقال : الحمد لله الّذى لم يمتني حتّى أمرني ان اصبر نفسي مع رجال من أمّتي معهم المحيا ومعهم الممات (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى قل للغافلين اللّائمين لك في مجالسة الفقراء الحقّ ما جاء من قبل ربّكم وهو الصّبر مع الفقراء (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) اى من شاء فليسلم بى (وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أو قل الولاية هو الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن بالبيعة الخاصّة الولويّة ومن شاء فليكفر فانّه لا إكراه في الدّين وطريق الولاية فالاختيار في ذلك إليكم (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم في الكفر بك أو في ترك الولاية وغصب الخلافة (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) وان كانوا لا يشعرون بها وسيظهر لهم انّها كانت محيطة بهم (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) كدردىّ الزّيت المغلى أو كالنّحاس المذاب (يَشْوِي الْوُجُوهَ) لفرط حرارته ونتنه حينما يقرب الى الفم (بِئْسَ الشَّرابُ) المهل (وَساءَتْ) النّار (مُرْتَفَقاً) متّكأ ليّنا يستراح به وهو امّا من باب المشاكلة مع قوله وحسنت مرتفقا ، أو من باب استعمال الضّدّ في الضّد تهكّما (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة أو انّ الّذين أسلموا بك بالبيعة العامّة النّبويّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالاتّصال بالولاية (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وانّهم محسنون (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) ممّا رقّ من ثياب الحرير وما غلظ (تَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) على السّرر ، وفسّرت في الاخبار بالسّرر عليها الحجال (نِعْمَ الثَّوابُ) دخول الجنّة والتّحلّى بحليّها (وَحَسُنَتْ) الأرائك (مُرْتَفَقاً وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) اى لحال المؤمن والكافر أو لحال المخلص والمنافق (رَجُلَيْنِ) اى حكاية حال رجلين (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ)


قيل مثّل حال المؤمن في زهده في زهرة الحيوة الدّنيا وقنوعه بقليل منها وحال الكافر في جمعه لها وافتخاره بها بحال رجلين كانا جارين وكان لأحدهما بستانان كبيران كما حكى الله وكان الآخر فقيرا فافتخرا لغنىّ على الفقير (مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) اى جعلناهما محاطتين بالنّخل بجعل النّخل حولهما أو حولهما واواسطهما أيضا (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) بين كرومهما ونخلهما (زَرْعاً) فكانتا بحيث يحصل منهما ثماره وإدامه وخبزه (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ) افراد الضّمير بلحاظ لفظ كلتا (أُكُلَها) مأكولها من الثّمار والتّمر والحبوب (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) لم تنقص من الاكل شيئا بالآفة أو بتغيير بحسب الأعوام كسائر البساتين فانّها كثيرا تثمر كما ينبغي في عام وينقص ثمرها في عام آخر (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) ليدوم شربهما ولا يتعب في سقيهما ويزيد بهاء هما (وَكانَ لَهُ) لصاحب الجنّتين (ثَمَرٌ) مال كثير من غيرهما من : ثمر ماله ، إذا كثر (فَقالَ لِصاحِبِهِ) الفقير (وَهُوَ) اى الصّاحب الفقير أو صاحب الجنّتين (يُحاوِرُهُ) يجاوبه في الكلام (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) افتخارا عليه (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) مع صاحبه بقرينة ما يأتى (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالفخر والعجب والغرور والغفلة من الله (قالَ) اغترارا بصورة نضرتها وغفلة من الله وقدرته (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ادّى به الاغترار الى انكار المعاد (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) فرضا كما تزعم (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) بحسب مادّتك البعيدة (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) بحسب المادّة القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكِنَّا) أصله لكن انا خفّفت الهمزة وأدغم النّون واجرى بالألف وصلا بنيّة الوقف (هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) هذا ما شاء الله أو ما شاء الله كائن إقرارا بقدرته وانّ الكلّ بمشيّته (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) مقول القول أو مستأنف من الصّاحب (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) في الدّنيا أو في الآخرة (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً) جمع حسبانة بمعنى الصّاعقة (مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) يزلق عليها لعدم نبات وشجر فيها ، وكثيرا ما يقال : ارض زلق لما لا نبات فيها (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) غائرا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) بتنقية مجراه وتجديد منبعه وإخراج الماء منه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أهلك أمواله تماما أو ثمر جنّته كما قال له صاحبه وأنذره ، نقل عن الخبر انّ الله أرسل عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) يعنى على فخذيه لغاية تحسّره فانّ المتحسّر يضع كفّيه على فخذيه ويضربهما على فخذيه ظهرا وبطنا أو يقلّب كفّيه لغاية تحيّره فانّ المتحيّر يقلّب كفيّه (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) تحسّرا على ما أنفق فيها (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة كرومها على عروشها الّتى كانت الكروم عليها (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) تذكّرا لما خوّفه به صاحبه (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ) بدفع الإهلاك أو ردّ المهلك (مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) بنفسه عن إهلاك الله وممتنعا عنه (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) في موضع تعليل والولاية بالفتح التّصرّف والنّصرة والتّربية وبالكسر السّلطنة والامارة وقرئ بهما ، وهنا لك اسم اشارة يشاربه الى المكان والمراد به مرتبة من النّفس لتشبيهها بالمكان يعنى في تلك الحال الّتى تنقطع آمال النّفس من كلّ ما سوى الله يظهر لها انّ الولاية لله الّذى يظهر


انّه كان حقّا لا غير ، ولذلك كانت ولايته باقية وولاية غيره باطلة ففائدة التّوصيف الاشعار بظهور كونه تعالى حقّا حينئذ وكون غيره باطلا ، ولا يخفى على المستبصر تأويل الآية وتنزيلها على موسى الفقير العقل وفرعون الغنىّ النّفس ، وصفحتي النّفس العلّامة والعمّالة اللّتين هما جنّتان كثيرتا الثّمار والأجل الّذى هو مهلك الجنّتين ويبيّن هذا التّأويل قوله واضرب لهم مثل الحيوة الدّنيا (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) حال من الله أو استيناف جواب لسؤال مقدّر يعنى هو بذاته ثواب للمتّقين الكاملين في التّقوى وهو خير من كلّ ثواب (وَخَيْرٌ عُقْباً) وهو بذاته عاقبة لا هل التّقوى ولا عاقبة أحسن منه (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أصله اضرب الأسماع بمثل الحيوة الدّنيا لكنّه لكثرة الاستعمال حذف الأسماع وأقيم المثل مقامه وأريد منه معنى اذكر أو أجر أو صيّر وعلى الاوّلين فقوله (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) حال من المثل أو مستأنف بتقدير مبتدء ، وعلى الثّانى فهو مفعول ثان لا ضرب (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) بعد نبته ونموّه واشتداده فصار مصفّرا ومبيّضا (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) منكسرا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تفرّقه وللاشارة الى سرعة زوالها أتى بالفاء دون ثمّ (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من إنزال الماء وإنبات الأرض وجعل النّبات مشتدّا مختلطا ثمّ جعله يابسا هشيما متفرّقا ومن نفخ الرّوح واحياء البدن الجماد بالحيوة العرضيّة الدّانية وجعل قواه مشتدّة قويّة ثمّ جعل البدن ذابلا وجعل قواه ضعيفة بعد قوّتها ثمّ نزع الرّوح منه وجعله وجعل قواه غير مقتدره على التّماسك والتّمانع (مُقْتَدِراً) وبعد ما ذكر عدم بقاء الحيوة الدّنيا وانّ نضرتها ايّام قلائل لا ينبغي ان يغترّ بها العاقل ذكر أصول ما يتعلّق به النّفوس في الحيوة الدّنيا وتهتمّ في جمعه وحفظه وأضافها الى تلك الحيوة اشعارا بسرعة زوالها وانّ العاقل لا ينبغي ان يهتمّ بشأنها بل ينبغي ان يهتمّ بشأن ما هو باق نافع له فقال (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) فتزول بزوالها (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) لا الزّائلات الفاسدات وهي ما تهتمّ به النّفوس من المال والبنين وما يتبعهما وما يلزمهما (خَيْرٌ) من المال والبنين وان كانا خيرا في انظاركم أو خيرا في الواقع (عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) فينبغي ان يطلبها الإنسان ويجعلها مأمولة دون المال والبنين ، والمراد بالباقيات الصّالحات كلّما يفعله الإنسان بحكم العقل لا بحكم النّفس ، وبعبارة اخرى كلّ فعل يبقى اثره في الكلمة الباقية من الإنسان وهي صفحة النّفس الباقية وبعبارة اخرى كلّما يفعله من وجهته الولويّة التّكوينيّة وهي وجه الله الباقي الظّاهر بالولاية التّكليفيّة الحاصلة بالمبايعة الباطنة الايمانيّة ، ولمّا لم يكن لها اختصاص بفعل خاصّ وعمل مخصوص اختلف الاخبار في تفسيرها ، فقد فسّرت في الاخبار بصلوة اللّيل ، وبمطلق الصّلوة ، وبالصّلوات الخمس المفروضة ، وبالتّسبيحة الكبرى ، وبالأولاد الصّالحين ، وبالأشجار المثمرة الّتى يغرسها الإنسان ، وبأصل كلّ الصّالحات وهي الولاية ، وبالمحبّة اللّازمة للولاية أو المستتبعة لها (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) بجعلها هباء منبّثا في الجوّ وهو عطف على عند ربّك أو هو بتقدير ذكّر والجملة عطف باعتبار المعنى (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) من تحت الجبال وخلف التّلال بحيث لا يكون فيها تلال ووهاد (وَحَشَرْناهُمْ) للحساب في تلك الأرض البارزة والجملة امّا حال ، وماضويّتها بالنّسبة الى عاملها ، أو عطف وما ماضويّتها لتحقّق وقوعها (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) لا محسنا ولا مسيئا (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) مصطفّين صفوفا عديدة كما ورد انّهم في ذلك اليوم مائة وعشرون الف صفّ وذلك بحسب مراتبهم في القرب والبعد ، فانّ بنى آدم بحسب الظّاهر نوع واحد ولكنّهم بحسب الباطن أنواع عديدة ولهم مراتب عديدة وكلّ نوع منهم في مرتبة منها مصطفّ بحسب افراده ، ولكلّ


مرتبة وصفّ نبىّ وامام غير من كان للصّفّ الآخر ولذلك كانت الأنبياء (ع) بعدد الصّفوف مائة وعشرين الفاء بحسب عدد مراتب بنى آدم (لَقَدْ جِئْتُمُونا) استيناف جواب لسؤال مقدّر كانّه قيل : وما تفعل بهم؟ ـ وما تقول لهم؟ ـ فقال : نقول لهم لقد جئتمونا ، أو حال عن فاعل نسيّرا أو فاعل حشرنا أو مفعوله أو فاعل لم نغادر أو ضمير منهم أو فاعل عرضوا منفردا أو على سبيل التّنازع والكلّ بتقدير القول يعنى نقول لهم لقد جئتمونا منفردين عن الأزواج والأولاد والعشائر والمؤانسين وعمّا كسبتم في الدّنيا من المعايش وعمّا كسبتم من العلوم والصّنائع الخياليّة الدّنيويّة ، وعمّا أعطيناكم من القوى والمشاعر الدّنيويّة وعن الأعضاء والآلات البدنيّة الطّبيعيّة ، وعمّن اتّخذتم أولياء من دون الله وذلك كقوله تعالى لقد جئتمونا فرادى (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) عراة عن ذلك كلّه والتّقييد باوّل مرّة للاشارة الى انّ الاعادة خلقة اخرى ثانية أو للاشارة الى انّ الإنسان من بدو خلقته كلّ آن في خلقة اخرى ثانية بناء على الحركة الجوهريّة ، أو على تجدّد الأمثال ، أو على تحلّل بدنه واتّحاده مع بدنه ، أو على تبدّل كيفيّاته (بَلْ زَعَمْتُمْ) لمّا كان قوله لقد جئتمونا ردّا عليهم في زعمهم عدم البعث كأنّه قال لقد جئتمونا وما زعمتم المجيء بل زعمتم عدمه حسن الإتيان بكلمة بل (أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وَوُضِعَ الْكِتابُ) اى كتب اعمال الخلائق على ان يكون اللّام للاستغراق ، أو الكتاب الّذى فيه اعمال الخلائق من الألواح العلويّة على ان يكون اللّام للعهد ، أو وضع الكتاب كناية عن نشر الحساب إذا المحاسب يضع كتاب الحساب بين يديه والمراد بوضع الكتاب على الاوّلين وضعه بين أيديهم ، أو على ايمانهم ، وشمائلهم أو في الميزان بناء على انّ صحائف الأعمال توزن (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) ممّا ثبت فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) على طريق يا حسرتنا من تنزيل الاعراض منزلة ذوي العقول ثمّ ندائها (ما لِهذَا الْكِتابِ) تعجّبوا منه ومن إحصائه جميع أعمالهم وقد رسم في المصاحف فصل لام لهذا الكتاب من مدخوله اشعارا بانّهم من غاية دهشتهم يقفون على الجارّ الّذى هو كالجزء من الكلمة (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً) فعلة صغيرة أو سوأة صغيرة (وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) الّا عدّها (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا) جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا بناء على تجسّم الأعمال أو رسم ما عملوا في الكتاب (حاضِراً) والاوّلان اولى للتّأسيس (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) بنقص ثواب منه أو بالعقوبة له من غير استحقاق ، أو بإظهار مساويه وإخفاء محاسنه ، أو بنسبة ما لا يفعله من المساوى اليه ، في الخبر : إذا كان يوم القيامة رفع الى الإنسان كتابه ثمّ قيل : اقرأ فيقرأ ما فيه فيذكره فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم الّا ذكره كأنّه فعله تلك السّاعة فلذلك قالوا : (يا وَيْلَتَنا) (الآية) (وَإِذْ قُلْنا) عطف على عند ربّك والمعنى انّ الباقيات الصّالحات خير ثوابا في الأبد والأزل ، أو عطف على يوم نسيّر الجبال بتقدير ذكّر اى ذكّرهم وقت قولنا قبل خلقتهم (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) قد سبق تفصيله في البقرة (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) يعنى انّه لم يطع ربّه الّذى خلقه وربّاه وأنعم عليه فلا ينبغي ان يجعل وليّا فانّ الخارج عن امر المنعم لا يأتى منه الإحسان (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) والحال انّهم مع الخروج عن طاعة الرّبّ لكم عدوّ فلا ينبغي ان تتّخذوهم أولياء يعنى انّهم في أنفسهم لا يستحقّون الولاية وبالاضافة إليكم أيضا لا يستحقّونها (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ) بجعل الولاية لغير المستحقّ أو هو وجه آخر للمنع عن اتّخاذه وليّا كأنّه قال : وهو للظّالمين ولىّ ومن كان للظّالمين وليّا لا ينبغي


ان يتّخذ وليّا (بَدَلاً) من الله (ما أَشْهَدْتُهُمْ) ما أشهدت إبليس وذرّيّته ، أو ما أشهدت المشركين كما روى انّ رسول الله (ص) قال : اللهمّ اعزّ الإسلام بعمر بن الخطّاب أو بأبى جهل بن هشام فأنزل الله هذه الآية ، وعلى الاوّل فهو وجه آخر للمنع من جعل إبليس وذرّيّته أولياء يعنى ما أحضرتهم (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكيف يكونون خالقيهما أو متصرّفين فيهما ، ومن لا تسلّط ولا تصرّف له فيهما لا ينبغي أخذه وليّا (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) فهم غير شاعرين بكيفيّة خلقتهم فكيف بخلقة غيرهم والتّصرّف فيه (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وذمّ آخر لهم وهو أيضا وجه آخر للمنع من ولايته (وَيَوْمَ يَقُولُ) عطف على عند ربّك أو على يوم نسيّر الجبال بتقدير ذكّرهم (نادُوا شُرَكائِيَ) على زعمكم والمراد بالشّركاء أعمّ من الشّركاء في الوجوب والآلهة والعبوديّة والطّاعة والولاية والوجود (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) انّهم شركاء (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) اى بين المشركين والشّركاء موبقا لا يصل بعضهم الى بعض ، أو جعلنا وصلهم في الدّنيا سبب هلاكهم في الآخرة كما قيل : انّ بين بمعنى الوصل (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وتهديد الغير المشركين من المجرمين واشارة الى ذمّ آخر وتطويلا في مقام الذّمّ (فَظَنُّوا) أيقنوا كما سبق انّ يقين أرباب النّفس ظنّ لا يقين (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يتذكّر ويعتبر ويدرك به الحقّ والإنسان لغلبة النّسيان والغفلة عليه لا يتذكّر ويخفى عليه الحقّ (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ) يتأتّى منه الجدل (جَدَلاً) وخصومة فانّ الانسانيّة المقتضية لا دراك الكلّيّات وتدبير الأمور تقتضي الفحص عن الأمور ووردّ المردود وقبول المقبول ، وبما ذكرنا ظهر وجه الإتيان بالنّاس اوّلا وبالإنسان ثانيا (وَما مَنَعَ النَّاسَ) كلمة ما نافية أو استفهاميّة ، والإتيان بالنّاس للاشعار بانّ مادّة الإنكار وعدم الاستغفار هي النّسيان (أَنْ يُؤْمِنُوا) بالايمان الخاصّ والبيعة مع علىّ (ع) بقرينة (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) فانّ الهداية خاصّة بشأن الولاية كما انّ الإنذار خاصّ بشأن النّبوّة كما قال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) بالاستغفار الحاصل في ضمن البيعة والايمان فيكون تفصيلا لان يؤمنوا باعتبار بعض اجزائه أو بالاستغفار العامّ الحاصل بالنّدم على المساوى وطلب المغفرة لسانا (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الّا انتظار ان تأتيهم سنّة الله في الاوّلين من إحلال العذاب بهم في الدّنيا أو استعداد ان تأتيهم سنّة الاوّلين من العناد واللّجاج مع أهل الحقّ ، وعلى هذا فلا حاجة في قوله (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) الى التّخصيص بعذاب الآخرة (قُبُلاً) مقابلا مشهودا (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فانّ الرّسول لا محالة يكون جامعا بين جهتي التّبشير والإنذار ليصرف الخلق بالإنذار عن دواعي النّفس ويقرّبهم بالتّبشير الى موائد الآخرة المسبّبة عن اقتضاء العقل ، ولمّا كان التّبشير من جهة ولايته والإنذار من جهة رسالته وكان الرّسول في الأغلب مخاطبا من جهة رسالته لظهورها فيه قال : انّما أنت منذر بطريق الحصر يعنى من جهة رسالتك (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) بالقول الباطل كقولهم ما أنتم الّا بشر ، مثلنا باعتقاد انّ البشريّة تنافي الرّسالة أو بالسّبب الباطل وهو النّفس والشّيطان (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ليزيلوا بالجدل أو بالمبدء الباطل الحقّ عن الثّبات والاستقرار


(وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) وأعظم الآيات الأنبياء والأولياء (ع) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) من الأنبياء والأولياء (ع) وكتبهم السّماويّة ومواعظهم الوافية وسائر الآيات الآفاقيّة والانفسيّة ، والمقصود هاهنا الأنبياء والأولياء (ع) فانّهم الآيات العظمى وأسباب ظهور سائر الآيات من حيث انّها آيات (فَأَعْرَضَ عَنْها) لعدم الإقبال على الأنبياء (ع) وعدم قبول مواعظهم والعناد معهم وعدم التّدبّر لسائر الآيات وعدم التّنبّه بها (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من المساوى فانّ التّوجّه الى الأنبياء والأولياء (ع) سبب ظهور المساوى وهو سبب كلّ خير كما ورد : إذا أراد الله بعبد خيرا بصّره عيوب نفسه وأعماه عن عيوب غيره ، وإذا أراد الله بعبد شرّا بصّره عيوب غيره وأعماه عن عيوب نفسه ، والاعراض عنهم سبب للغفلة عن سائر الآيات ونسيان المساوى عن نفسه وظهور مساوي غيره (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أستارا ، تعليل للاعراض عن الآيات وتسلية له (ص) لانّه كان يتحسّر على اعراضهم وعدم قبولهم ، أو جواب للسّؤال عن حالهم وعمّا ادّى اليه اعراضهم (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة ان يفقهوه أو لان لا يفقهوه بحذف اللّام ولا النّافية ، وتذكير الضّمير وافراده باعتبار القرآن الّذى هو مصداق الآيات ومظهرها ومظهرها ، ويحتمل ان يكون قوله : (إِنَّا جَعَلْنا) ، جوابا عن السّؤال عن علّة عدم التّدبّر في القرآن الّذى به يهتدى الى سائر الآيات ويتنبّه لها كأنّه قيل : لم لا يتدبّرون القرآن حتّى يتذكّروا بسائر الآيات ويقبلوا عليها؟ ـ فقال : انّا جعلنا على قلوبهم اكنّة ان يفقهوا القرآن ، ويحتمل ان يكون كلاما منقطعا عن سابقه من قبيل المخاطبات الّتى تكون بين الأحباب بحيث لا يطّلع عليها رقيب ويكون جوابا عن تحيّره في عدم قبولهم قوله (ص) في علىّ (ع) وولايته كأنّه قال : مالك تتحيّر في عدم قبولهم قولك في ولاية علىّ (ع) انّا جعلنا ، أو مالك تتحسّر على اعراضهم عن علىّ (ع) انّا جعلنا ، ولمّا كان طريق النّجاح منحصرا في التّحقيق والتّفقّه الّذى هو شأن القلب والتّقليد من صادق والتّسليم الّذى يحصل بالسّماع والانقياد للمسموع كما أشار إليهما بقوله : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال تعالى كراهة ان يفقهوه تحقيقا (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) يمنعهم عن السّماع والتّقليد كراهة ان يسمعوه ويقبلوه تقليدا (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى) كالنّتيجة للّسابق يعنى إذا كان على قلوبهم اكنّة وفي آذانهم وقر ، فان تدعهم الى الهدى (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) لانحصار طريق الهداية في التّحقيق والتّقليد وهم ممنوعون من كليهما (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) يعنى انّ طبع القلوب ووقر الأذان بسبب عملهم ومن رحمته لا يعجّل لهم العذاب (بَلْ لَهُمْ) اى لعذابهم (مَوْعِدٌ) يعنى القيامة أو حين الموت أو يوم بدر كما قيل ان كان الاضراب عمّا يتوهّم من عدم العذاب رأسا ، أو المعنى بل لمغفرتهم ونزول الرّحمة بهم بحيث يظهر لكلّ أحد موعد هو يوم القيامة ان كان الاضراب عمّا يتوهّم من العذاب بعد عدم التّعجيل (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ) من دون الله أو من دون الموعد (مَوْئِلاً) ملجأ ، وهو استيناف أو حال أو صفة لموعد (وَتِلْكَ الْقُرى) اى قرى الأمم الماضية (أَهْلَكْناهُمْ) من قبيل الاستخدام أو بتقدير المضاف في المرجع ، أو بإرادة الأهل من القرى مجازا (لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم بالمعاصي والاعراض عن الآيات أو ظلموا الآيات بالعناد أو الخلق بالصّدّ والمنع من الآيات وهو تعريض بامّة محمّد (ص) وتحذير عن الاعراض عن الآيات وترغيب في الإقبال عليها وقبول قوله (ص) في علىّ (ع) (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) اى لهلاكهم أو إهلاكهم على قراءة فتح الميم وضمّه (مَوْعِداً) لا يتجاوزون عنه فلا تغتّروا يا أمّة محمّد (ص) بالامهال وعدم التّعجيل في المؤاخذة ، وفسّر المهلك بنار الآخرة ، والموعد بالقيامة


(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) واذكر تعلّما أو ذكّر تعليما.

اعلم ، انّ في قصّة موسى (ع) وخضر (ع) أنواعا من العبر وتعليما لكيفيّة الطّلب وانّ الطّالب لطريق الآخرة ينبغي ان يكون همّته الوصول الى الإنسان الكامل الّذى هو مجمع بحري الوجوب والإمكان ومرآة تمام الأسماء والصّفات الحقّيّة وجميع الحدود والتّعيّنات الخلقيّة وان يكون له عزم في الطّلب الى انقضاء عمره ، وتعليما لكيفيّة المسئلة بعد الوصول ليحصل له القبول ، ولكيفيّة الصّحبة بعد القبول ، وبيانا لاوصاف الشّيخ وانّ الشّيخ كيف ينبغي ان يربّى ويروّض ، وبيانا لتمام مقامات السّالكين الى الله كما يأتى كلّ في مقامه. والفتى والفتاة يقالان للعبد والامة ، وللخادم والخادمة ، وللمطيع والمطيعة ، وللمؤمن والمؤمنة ، ولصاحب الفتوّة الّذى يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة ، وللشّابّ ، والشّابّة ، والمراد به هاهنا يوشع بن نون (ع) وصىّ موسى (ع) ودليل إرشاده وواسطة بيعته وخليفة نبوّته وكان فتاه بتمام معانيه حيث انّه باع نفسه من الله بواسطته ، وكان خادمه ومطيعه ، ومؤثّرا له على نفسه وشابّا بروحه ، وكان سبب طلب موسى (ع) بعد مقام الرّسالة وفضل العزم كما يستفاد من الاخبار انّه لمّا كلّمه الله وآتاه الألواح وفيها كما قال الله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) رجع الى بنى إسرائيل فصعد المنبر وأخبرهم بما أعطاه الله ، فدخل في نفسه انّه ما خلق الله خلقا أعلم منه فأوحى الله الى جبرئيل : أدرك موسى (ع) فقد هلك وأعلمه انّ عند ملتقى البحرين عند الصّخرة رجلا اعلم منك فصر اليه وتعلّم من علمه ، فنزل جبرئيل (ع) وأخبره وذلّ موسى (ع) في نفسه وعلم أنّه اخطأ ودخله الرّعب وامر فتاه يوشع (ع) ان يتزوّد لطلب ذلك الرّجل.

اعلم ، انّ العجب ورؤية الكمال من النّفس من أعظم المهلكات فانّه أصل معظم المعاصي واوّل معصية وقعت في الأرض لانّه الّذى منع إبليس من السّجود وأوقعه في الاستكبار ، ثمّ الحقد والعداوة ، ثمّ المكر والخديعة أعاذنا الله منه وجميع المؤمنين ، بل نقول : إرسال الرّسل وإنزال الكتب ومعاناة الأنبياء (ع) ومقاساة الأولياء (ع) وطاعات الخلق ومجاهداتهم وامتحان الله لهم وابتلاؤهم بأنواع البلاء لخروجهم من الانانيّة ورؤية النّفس ولذلك قيل : تمام اهتمام المشايخ في تربية السّلّاك لان يخرجوا من الانانيّة ونسبة شيء من الأفعال والأوصاف الى أنفسهم فاذا رأى الشّيخ من السّالك رؤية النّفس والاعجاب بها انزجر منه كما الانزجار (لا أَبْرَحُ) عن السّير والطّلب (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) بحري الرّوم والفارس الّذى وعد الله تعالى موسى (ع) لقاء مجمع بحري الإمكان والوجوب عنده (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) الحقب الدّهر والزّمان لكنّ المراد كما فسّر في الخبر ثمانون سنة دلّ موسى (ع) بلفظ لا أبرح الّذى يدلّ على دوام السّير ولفظ الحقب الّذى هو منتهى ما يمكن من عمره على ثبات عزمه على الطّلب بحيث لا يشغل بغيره حتّى يصل الى مطلوبه أو يفنى عمره في طلبه ، والمقصود من نقله تعليم طريق الطّلب وثبات العزم عليه وانّ الطّالب لطريق الآخرة ينبغي ان يكون كذلك والّا رجع يخفى حنين (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) تركاه غفلة منه أو نسيا امره حين حيي ودخل البحر ونسي يوشع (ع) ان يخبر موسى (ع) بأمره وقد كان علامة لقائه العالم حيوة الحوت المملوح كما سيجيء الاشارة اليه ، ونسبة النّسيان إليهما مع انّه كان من يوشع (ع) من باب التّغليب وهو تغليب شائع كثير غالب على لسان العرف (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) سلوكا أو سالكا ، مصدر من غير لفظ الفعل أو حال ، وقد اختلف الاخبار اختلافا كثيرا في ذكر الحوت وكونه علامة للوصول الى العالم وكيفيّة حيوته وانفلاته الى البحر وكيفيّة نسيانه ، والسّرّ في اختلافها الاشعار بالتّأويل وانّ صورة التّنزيل عنوان لحقيقة التّأويل فانّ تنزيله كما يستفاد من مجموع الاخبار ما حاصله انّ موسى (ع) قال لجبرئيل (ع) باىّ علامة اعرف الوصول الى مجمع البحرين؟ ـ قال : آيتك ان تحمل معك حوتا فاذا انتعش وحيي دلّك على


وصولك فحملا حوتا وسارا ومرّا برجل ولم يعرفاه فقام موسى (ع) يصلّى واخرج يوشع (ع) الحوت ووضعه على حجر فحيي أو غسّله في ماء عين الحيوان فحيي وأفلت من يده ودخل البحر ، أو قطر قطرة في المكتل فأصابه وحيي ونسي يوشع (ع) ان يخبر موسى (ع) أو تركاه على الصّخرة وسارا من ذلك الموضع (فَلَمَّا جاوَزا) الموضع عييا وكان موسى (ع) لم يعي في سفر قطّ أو في هذا السّفر الّا في هذا السّير حين جاوزا مجمع البحرين و (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) الغداء ما يتغذّى به في الصّباح (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا) في ابدال اسم الاشارة اشعار بانّه لم يعي قبل ذلك في سفر (نَصَباً) عياء (قالَ أَرَأَيْتَ) كلمة تعجّب في العرب والعجم بلفظها وترجمتها والأصل : أرأيت ما دهاني؟ (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) فحذف الموصول وصلته وأقيم الظّرف مقامه ، أو الأصل أرأيت بليّة إذ اوينا ، فحذف المضاف وأبقى المضاف اليه ، أو الظّرف بنفسه مفعول على طريق المجاز العقلىّ ، أو المفعول محذوف ، وإذ أوينا مستأنف مفسّر للمفعول المحذوف ، ولفظة إذ متعلّق بمحذوف مفسّر بقوله (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) اى تركته على الصّخرة أو نسيت امره الغريب ان اذكره لك حين حيي وأفلت الى البحر ، وذكر انّه للكثرة ما كان يرى من أمثاله من موسى (ع) لم يكن يبالي به وبذكره (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) لك أو أتذكّره (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قالَ ذلِكَ) اى امر الحوت لانّه كان دليلا على المطلوب ، أو الرّجل المستلقى عند الصّخرة (ما كُنَّا نَبْغِ) حذف اللّام للوصل بنيّة الوقف اشعارا بعدم تمام الطّلب والسّلوك مع الخضر (ع) (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) في الطّريق الّذى جاء فيه طلبا للموضع والرّجل الّذى كان في ذلك الموضع (قَصَصاً) يقتصّان آثارهما قصصا ، أو مقتصّين ، أو هو مصدر من غير لفظ الفعل (فَوَجَدا) بعد الانتهاء الى الموضع (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) شرّفه تعالى بالعبديّة والاضافة الى نفسه (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) ثمّ وصفه بإيتاء الرّحمة وخصّها بكونها من عنده اشارة الى الرّحمة الخاصّة الّتى هي مقام الولاية ، فانّ الرّحمة العامّة الّتى هي من اظلال اسم الرّحمن يؤتيه لكلّ أحد بل لكلّ موجود لانّ ظهور الأشياء ووجودها وقوامها وبقاءها تكون بها ، والرّحمة الخاصّة الّتى هي من اظلال اسم الرّحيم تكون لكلّ من قبل الدّعوة العامّة وباع البيعة النّبويّة ، ولكلّ من قبل الدّعوة الخاصّة وباع البيعة الولويّة ؛ لكنّها لا تكون من عند الله بل من عند خلفائه فلا توصف بكونها من عند الله ، والرّحمة الموصوفة بكونها من عند الله هي الّتى تحصل للسّالك بعد انتهاء سلوكه بحسب استعداده وفنائه عن ذلاته وبقائه بالله بعد فنائه واستخلاف الله ايّاه لدعوة عباده الدّعوة الباطنة أو الدّعوة الظّاهرة وهي المسمّاة بالولاية والموصوفة بكونها من عند الله ، وفيه اشارة الى كون الخضر (ع) وليّا داعيا الى الله بخلافته ، وامّا كونه نبيّا فلا يستفاد منه ، وفي بعض الاخبار انّه كان نبيّا أيضا ، ويمكن حمل ما في الاخبار من كونه نبيّا على خلافة النّبوّة فانّ الولىّ من حيث تعليمه للعباد احكام القالب له خلافة النّبوّة كما قيل : الشّيخ في قومه كالنّبىّ في أمّته (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وصفه بتشريف تعليمه وكون التّعليم من لدنه وكون ما علّمه من لدنه علما لا صنعة فانّ تعليم الأنبياء والأولياء (ع) تعليم الله لكنّه ليس من لدنه بل من لدن خلفائه وكون التّعليم من لدنه قد يتعلّق بالصّنعة كما في قوله تعالى : وعلّمناه صنعة لبوس لكم ؛ فقد أشار تعالى الى أوصاف سبعة للخليفة والشّيخ :

أوصاف الولىّ وهي سبعة

وانّ الدّاعى الى الله ينبغي ان يكون متّصفا بتلك الأوصاف ، الاوّل العبديّة والخروج من حكم نفسه والدّخول في حكم غيره ، والثّانى العبديّة لله تعالى فانّ الخروج من حكم النّفس والدّخول في حكم الغير اعمّ من الدّخول في حكم الله فانّ المريد داخل في حكم المراد والمطيع


في حكم المطاع وليس بداخل في حكم الله بلا واسطة ، والثّالث إيتاء الرّحمة ، والرّابع إيتاء الرّحمة الخاصّة الموصوفة بكونها من عنده ، والخامس تعليم الله ، والسادس كون التّعليم من لدنه ، والسّابع تعلّق التّعليم بالعلم لا بالصّنعة وقد ذكر الأوصاف على ترتيبها الحاصل للسّالك فانّ العبديّة لخلفاء الله مقدّمة على العبديّة له بلا واسطة ، والعبديّة له مقدّمة على إيتاء الرّحمة ، وإيتاء الرّحمة مطلقة مقدّم على صيرورتها من عنده ، وصيرورة الرّحمة من عند الله مقدّمة على التّعليم ، فانّ المراد بالتّعليم هاهنا تعليم احكام الكثرة من حيث الدّعوة والتّأدية الى الله ، وصيرورة التّعليم لدنيّا متأخّرة عن التّعليم المطلق ومقدّمة على تعليم العلم من لدن الله ، وقد ذكر قصّة ملاقاتهما ومخاطباتهما في المفصّلات (قالَ لَهُ مُوسى) بعد الملاقاة وإتمام التّحيّة وما جرى بينهما من المخاطبات (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) مفعول تعلّمنى أو حال من فاعل اتّبعك أو مفعوله أو كليهما أو من فاعل تعلّمنى أو مفعوله أو كليهما أو من مرفوع علّمت أو تميز مبيّن لكلمة ما أو مبيّن لنسبة اتّبع الى الكاف أو مصدر لقوله اتّبعك بتقدير مضاف اى اتّباع رشد أو مصدر لقوله تعلّمنى أو علّمت بتقدير مضاف الى تعليم رشد أو مصدر لفعل محذوف حالا ممّا سبقه أو منقطعا عمّا قبله دعاء أو تعليلا أو مفعول له حصوليّ أو تحصيلىّ محتمل التّعليل لكلّ من الأفعال الثّلاثة ، ويحتمل جريان بعض وجوه رشدا بالنّسبة الى قوله قال له على بعد. والمراد بالرّشد الاهتداء الى تنظيم المعاش وحسن المعاشرة مع النّاس بحيث يؤدّى الى حسن المعاد واستحقاق الأجر من الله ويعبّر عنه بسياسة المدن والاهتداء الى سياسة النّفس وكلّ من كان تحت اليد من القوى والجوارح والأهل والعيال وادخالهم تحت حدود الله ويعبّر عنه بتدبير المنزل والاهتداء الى إصلاح النّفس بتخليتها عن الرّذائل وتحليتها بالخصائل ، ويعبّر عنه بتهذيب الأخلاق. وامّا العقائد الحقّة الثّابتة الجازمة فهي وان كانت أصل الرّشد وبدونها لا يحصل الرّشد لكن لا يطلق الرّشد عليها في الغالب وهي كانت حاصلة لموسى (ع) ويعبّر عن الاوّلين بالسّنّة القائمة ، وعن الثّالث بالفريضة العادلة ، وعن الرّابع بالآية المحكمة ، وإليها أشير في الحديث النّبوىّ حيث قال : انّما العلم ثلاثة آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة. ولقد أجاد (ع) في الطّلب حيث تنزّل عن مقامه العالي الى مقام الفقير المحتاج وابرز الطّلب والسّؤال بصورة الاستفهام لا الأمر المشترك بين الأمر والسّؤال ، وفي حكايته تعلم للعباد وانّ من أراد العلم والارادة كيف ينبغي ان يطلبوا العلم والارادة للعالم والشّيخ وتنبيه على انّ المرء وان كان ذا فضائل كثيرة ومراتب عليّة لا ينبغي ان يتأنّف عن التّعلّم بل ينبغي ان يطلب ما افتقده عمّن يعلم انّ المفقود عنده وان كان الّذى عنده المفقود أدون منه ولا ينظر الى دنوّ رتبته بل يرى نفسه من حيث جهله المفقود أدون منه ومحتاجة اليه فيتضرّع عنده ويتكدّى عليه.

بيان النّيابة للرّسالة والولاية

اعلم ، انّ الأنبياء (ع) لهم مقامات ثلاثة بحسب نسبتهم الى الخلق : الاوّل مقام البشريّة وبه يتعيّشون مثلهم ويأكلون ويشربون ويسعون في حاجاتهم ويحتاجون في المعايش الى معاونتهم وهذا الّذى سدّ طريق الخلق عن قبول نبوّتهم وطاعتهم من حيث انّهم يرونهم محتاجين في المعايش ساعين في تحصيلها ولا يرون منهم مقاما آخر لاختفائه عن النّظر ، ولم يشعروا أيضا بطريق العلم والبرهان ولا بطريق الّذوق والوجدان انّ لهم وراء المرئىّ مقاما لكون علومهم مقصورة على ما في هذه الدّار كما قال تعالى ؛ (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ،

اندرين سوراخ بنّائى گرفت

در خور سوراخ دانائى گرفت

ولذلك قصروا اوصافهم ومقاماتهم على المرئىّ فقالوا : ان أنتم الّا بشر مثلنا ،

أنبياء را مثل خود پنداشتند

همسرى با أنبياء برداشتند


سورة الكهف

والثّانى مقام الرّسالة وبه يؤسّسون نظام معاش الخلق بحيث يؤدّى الى صلاح الدّارين ويسنّون حدود الله والعبادات القالبيّة وبحسب هذا المقام كانوا يدعون الخلق عموما باللّطف والقهر والاختيار والإجبار ويأخذون البيعة منهم على شرائطها المقرّرة عندهم ، ويسمّى تلك الدّعوة دعوة ظاهرة عامّة وهذه البيعة بيعة عامّة نبويّة وبعد هذه البيعة يقع اسم الإسلام عليهم ، والثّالث مقام الولاية وبحسب ذلك المقام كانوا يدعون المستعدّين دون غيرهم الى طريق القلب والسّير الى الله والسّلوك الى الآخرة باللّطف فقط من غير قهر إجبار كما قال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فانّه في هذه الدّعوة يرتفع الإكراه ولا يتأتّى الإجبار لانّ السّير بها سلوك من طريق القلب الّذى هو مستور عن الانظار ولا يتصوّر فيه الإجبار ، وكانوا من هذه الجهة يعلّمونهم احكام القلب ولوازم السّلوك وحدوده بحسب مراتبه وكانوا يأخذون البيعة منهم على شرائطها المقرّرة عندهم ويسمّى تلك الدّعوة والبيعة دعوة خاصّة باطنة وبيعة خاصّة ولويّة ، وبعد تلك البيعة يقع اسم الايمان عليهم وفائدة البيعة العامّة والإسلام الدّخول تحت الحدود والأحكام وحفظ الدّماء والاعراض وتصحيح المناكحة والمواريث وغايته قبول الولاية وقبول الدّعوة الباطنة والبيعة الخاصّة ، ولمّا كان ذلك يحصل بالانتحال والانقياد لأحكام الشّرع اكتفوا بعد زمن النّبىّ (ص) في اطلاق اسم الإسلام وجريان احكامه يمحض هذا الانقياد من دون حصوله بالبيعة أو بحصوله بالبيعة الفاسدة مع خلفاء الجور بخلاف الايمان ، فانّ ثمرته الارتباط والاتّصال باطنا وبذر ذلك الاتّصال لا يحصل الّا بالبيعة والاتّصال الصّورىّ والعقد بالايمان والعهد باللّسان وأخذ الميثاق وشراء الأنفس والأموال ولذلك التزموا فيه البيعة ولم يرضوا عنها باعتقاد الجنان فقط ، ومن هذا يظهر سرّ من اسرار قعود علىّ (ع) في بيته وإرخاء العنان نحوا من خمس وعشرين سنة ، وهكذا كان حال أولياء الله (ع) وائمّة الهدى الّا انّ مقام الرّسالة كان لهم بحسب الخلافة لا الاصالة ، ومقام الولاية كان بالاصالة فقد كانوا يستنيبون في كلّ من المقامين أو في كليهما وكانت سلسلة النّيابة جارية بعد الغيبة الكبرى الى زماننا هذا وقد سمّى النّوّاب في مقام الرّسالة بمشايخ اجازة الرّواية ، والنّوّاب في مقام الولاية بمشايخ اجازة الإرشاد ، والجامعون بين النّيابتين بكلا الاسمين ، ويسمّى الاوّلان بالنّوّاب الخاصّة كما يسمّى غيرهم ممّن نصبوه لامامة الجماعة أو لجمع الأموال أو غير ذلك بهذا الاسم ، ويسمّى الثّالث بالنّوّاب العامّة لعموم نيابتهم في كلّ ما يرجع الى الامام وقد كانت سلسلة اجازة الرّواية في مشايخها منضبطة متّصلة من زمن المعصومين (ع) الى زماننا هذا ، وكذا سلسلة اجازة الإرشاد كانت منضبطة متّصلة من الخاتم (ص) بل من زمن آدم (ع) الى زماننا هذا ؛ فمن ادّعى الفتيا أو الإرشاد من غير اجازة من المأذون في الاجازة من المعصوم (ع) فقد أخطأ وغوى وأغوى ، ومن أفتى أو أرشد بالإجازة فانّ مدادهم أفضل من دماء الشّهداء. وشأن مشايخ الرّواية رضوان الله عليهم تعليم العباد عبادات القالب وسياسة البلاد كالحدود والمواريث وآداب المعاملات والمناكحات ونظرهم الى الكثرات ومراتبها وإعطاء كلّ ذيحقّ حقّه من اللّطف والقهر والإعطاء والمنع ولذلك يسمّون بالعلماء لانّ العلم بوجه هو ادراك مراتب الكثرات وحقوقها ، وشأن مشايخ الإرشاد تعليم احكام القلب والسّلوك الى الله والتّجريد عن الكثرات وعدم الالتفات إليها وتهذيب الأخلاق والاتّصاف بصفات الرّوحانيّين وإماتة الغضب والشّهوة ولذلك يسمّون بالحلماء ؛ لانّهم أماتوا الغضب ورضوا بقضاء الله ، وشأن مشايخ الاجازتين الجمع بين الحقّين وحفظ مراتب الكثرة مع التّمكّن في مقام الوحدة ، والدّعوة الى الوحدة مع الإبقاء في الكثرة والتّصرّف في النّفوس بجذبها الى الوحدة مع توسعتها في الكثرة وخلاصتها حفظ جميع المراتب كما ينبغي ولذلك يسمّون بالحكماء. وقد أشير الى الثّلاثة فيما روى عن السّيّد السّجّاد (ع) انّه قال : لو يعلم النّاس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللّجج ؛ انّ الله تبارك وتعالى اوحى الى دانيال (ع) انّ أمقت عبيدي الىّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم التّارك للاقتداء بهم ، وانّ احبّ عبيدي الىّ التّقىّ الطّالب للثّواب


الجزيل اللّازم للعلماء التّابع للحلماء القابل عن الحكماء ، والمقصود ملازمة العالم من حيث علمه ومتابعة الحليم من حيث حمله والقبول عن الحكيم من حيث حكمته ، سواء كانت الأوصاف حاصلة لشخص واحد أو كان كلّ في شخص. إذا تمهّد هذا فنقول : انّ الحكيم قد أغناه الله بعلمه عن علم غيره ولا حاجة له الى الرّجوع الى غيره ، وامّا العالم الّذى هو شيخ الرّواية فهو غنىّ عن غيره من جهة علم الكثرات ، وامّا من جهة احكام القلب وتهذيب الأخلاق وعلوم الأسرار فهو محتاج الى غيره فاقد لما هو عند غيره فينبغي له ان يرجع الى الحليم الّذى هو شيخ الإرشاد ويأخذ ما افتقده عنه ولا ينبغي له التّأنّف عنه وان يرى نفسه أفضل من الحليم ، كما انّ موسى (ع) في كمال مرتبة الرّسالة وكونه من اولى العزم وكمال مرتبة علمه بالكثرات رجع الى الخضر (ع) مع انّ مرتبة الخضر (ع) من هذه الجهة كانت أدون من مرتبته وسأل عنه ما كان عنده في كمال التّواضع والتّضرّع وحفظ الأدب وسؤال الاتّباع والقبول مع تأنّف الخضر (ع) عن القبول واستكباره عليه ، وقد أشير في الاخبار الى انّ الحافظ لمراتب الكثرات وحقوقها أفضل واجمع من المستغرق في التّوحيد واسراره ، وقد ورد أيضا انّ موسى (ع) كان أفضل من الخضر (ع) لذلك وكذلك ينبغي لشيخ الإرشاد إذا لم يحصل له مرتبة اجازة الرّواية ان يرجع الى شيخ الرّواية ويتعلّم منه احكام الكثرات ولا يتأنّف عن الرّجوع اليه بل يتواضع عنده ويتذلّل لديه ويسأل احكام الشّريعة عنه ، وينبغي لكلّ ان يأمر اتباعه بالرّجوع الى الآخر فيما عنده حتّى يقع الوداد بين العباد ويرتفع النّزاع والعناد ويستحقّوا الرّحمة والفضل من ربّ العباد وهكذا كان حالهم في زمن الائمّة (ع) وبعده الى مدّة من الغيبة الكبرى. ثمّ لمّا طال الغيبة واختلط الامّة واختفى المشايخ واشتبه الحال على المتسمّين بالشّيعة وتوسّلوا بعلوم العامّة وصوفيّتهم وحصّلوا علم الشّريعة وآداب الطّريقة لأغراض نفسانيّة واعراض دنيويّة وتشبّهوا بالمحقّين من مشايخ الشّيعة وقع التّحاسد والتّباغض والنّزاع والخلاف بينهم وطعن كلّ في طريق الآخر وكفّر بعض بعضا وتفعل بعض في وجوه بعض وما هذا الّا لاهواء كاسدة وأغراض فاسدة ، أعاذنا الله وجميع المؤمنين من شرّه في الدّنيا وتبعته في الآخرة (قالَ) الخضر (ع) تتميما لعزمه وتثبيتا لقدمه وتكميلا لتضرّعه واستعداده وتمهيدا لاخذ الميثاق الأكيد عنه (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لانّى وكلت بأمر لا تطيقه ووكلت أنت بعلم لا أطيقه كما في الخبر وذلك لانّ موسى (ع) وكلّ بعلم الكثرة وحفظ المراتب والنّظر ال الظّواهر وحفظ الحقوق وإيصالها الى أهلها واجراء احكام القالب وحدوده ، وذلك امر عظيم قلمّا يتحمّله الأولياء (ع) الّا من اجتباه الله للرّسالة واستكمله في مقام الكثرة مع كماله في التّوحيد كموسى (ع) وان كان غير مطّلع على بعض اسرار التّوحيد وغرائبه ، والخضر (ع) وكلّ بأمر الولاية واسرارها وغرائب التّوحيد ومن كان حافظا لاوضاع الشّريعة واحكام الكثرة غير محيط بغرائب الولاية والتّوحيد لا يمكنه تحمّل ما يظهر من الغرائب من صاحب الأسرار مخالفا لاوضاع الكثرة واحكام الشّريعة ، وفي الخبر كان موسى (ع) اعلم من الخضر (ع) وفي خبر آخر ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرّتبة على موسى (ع) وهو أفضل من الخضر (ع) وكأنّه كان عالما بانّ موسى (ع) لا يصير مستكملا في الجهتين ولذا أتى بكلمة لن المشعرة بالتّأبيد وقال (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قالَ) موسى (ع) متضرّعا اليه خارجا من انانيّته متوسّلا بمشيّة الله تعالى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) فلمّا تضرّع عليه وتوسّل بالمشيّة واعطى الميثاق من نفسه بعدم العصيان قبله وشرط عليه ان لا يسأل عن شيء صدر منه وينتظر الاخبار منه من غير استخبار ، وفي حكايته تعليم وتنبيه على طريق المتابعة والارادة بترك الانانيّة والاعتراض والسّؤال وان كان ما يراه مخالفا لظاهر الشّريعة.


سورة الكهف

] الجزء السادس عشر [

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) وذلك لانّه أراد تربيته وتكميله بأسرار الولاية وتعليمه آداب السّلوك وكيفيّة التّربية فقبل ذلك الشّرط موسى (ع) لكنّه ما وفي به لثقل ما رآه من الغرائب الّتى كانت مخالفة للشّريعة (فَانْطَلَقا) طالبين للسّفينة (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) تثنية الضّمير مع كونهم ثلاثة لكون يوشع (ع) تابعا وكونهما مقصودين بالحكاية (قالَ) موسى (ع) (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) استنكر فعله وأنكر عليه نسيانا للشّرط الّذى كان بينهما لعظم ما رأى منه فانّه كان ينكر الظّلم ولا يتحمّل مشاهدته (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) اى منكرا عجيبا (قالَ) الخضر (ع) تنبيها على خلفه وقلّة صبره وتحمّله وتذكيرا لوعده (أَلَمْ أَقُلْ) أسقط كلمة لك هاهنا تخفيفا للعتاب اوّل مرّة (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فتذكّر موسى (ع) عهده بعدم السّؤال وخلفه لوعده واعتذر عن خلفه وسأل القبول وعدم المفارقة و (قالَ) سائلا متضرّعا (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) لفظة ما موصولة أو موصوفة أو مصدريّة وعلى الاوّلين فالمعنى لا تؤاخذني على العهد المنسىّ (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) ولا تغشّنى من متابعتي أو نسياني أو مخالفتي عسرا لا يمكنني معه المتابعة ، نقل عن النّبىّ (ص) انّ الاولى من موسى (ع) كانت نسيانا ، وفيه تنبيه على طريق التّربية وتعليم لكيفيّة السّلوك لانّ السّالك في اوّل الأمر لا بدّ له من تخريب سفينة البدن والنّفس حتّى يتخلّص من سلطان إبليس ويأمن من غصبه (فَانْطَلَقا) بعد الخروج من البحر في البرّ (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) يلعب بين الصّبيان حسن الوجه كأنّه قطعة قمر وفي أذينة درّتان فنظر اليه الخضر (ع) فأخذه من غير تروّ واستكشاف حال (فَقَتَلَهُ) فوثب موسى (ع) لما أخذته الغيرة لأنّه رأى منه ما استنكره غاية الاستنكار ورأى منه ما يعدّه في ظاهر الشّريعة غاية الظّلم وانّ صاحبه مستحقّ للقتل وكأنّه أخذ البغض في الله الاختيار منه فوثب مضطرّا وأخذ الخضر (ع) وجلد به الأرض ولذلك قال النّبىّ (ص) كانت الاولى منه نسيانا

(قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) بغير قتل نفس ولا يستحقّ الصّبىّ القتل في شرع (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) النّكر أبلغ في الاستنكار من الأمر قال الخضر (ع) انّ العقول لا تحكم على امر الله بل امر الله يحكم عليها فسلّم لما ترى منّى واصبر عليه فقد كنت علمت انّك لن تستطيع معى صبرا. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ) موسى (ع) بعد التّنبّه بانّ غيرته لم تكن في محلّها وانّ فعله هذا الاعذر له وانّه لا طاقة له على تحمّل ما يرى من الخضر (ع) (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) اعترف بالتّقصير واستحيى عن سؤال المصاحبة بعد ما وقع منه ، نقل عن النّبىّ (ص): رحم الله أخي موسى (ع) استحيى فقال ذلك ، لو لبث مع صاحبه لا بصر أعجب العجائب ، وروى عنه (ص) أيضا : وددنا انّ موسى (ع) كان صبر حتّى يقصّ علينا من خبرهما ، وفيه تعليم وتنبيه على انّ السّالك بعد تخريب سفينة البدن ينبغي ان يقتل الغلام المتولّد من آدم الرّوح وحوّاء النّفس الّذى يتولّد في اوّل تعلّق الرّوح الانسانيّة بالنّفس الحيوانيّة وهو الّذى شأنه التّدبير واستعمال الحيل في الوصول الى المآرب الحيوانيّة والاهوية الكاسدة النّفسانيّة ويعبّر عنه تارة بالشّيطنة ، وتارة بالخيال ، وتارة بالوهم لاستعمال الشّيطان له واستعماله الخيال والوهم في استنباط الحيل واستعمالها ، ولو لم يقتل هذا الغلام لأفسد في الأرض وأهلك الحرث والنّسل وأفسد أبويه ، ولو قتل أبدلهما الله


ربّهما غلام القلب الّذى إذا بلغ اشدّه آتاه الله العلم والحكم وأصلح في الأرض وكان أقرب رحما لأبويه (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي النّاصرة وإليها تنسب النّصارى وكانوا الا يضيّفون أحدا قطّ ولا يطعمون غريبا (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) وكانا جائعين (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ) يشرف (أَنْ يَنْقَضَ) ينشّق (فَأَقامَهُ) بوضع يده عليه وقوله : قم بإذن الله ، وفيه تعليم وتنبيه على انّه ينبغي في آخر السّلوك اقامة جدار البدن وإصلاحه حتّى يستتمّ كمال النّفس بإصلاحه والتّعبير في الاوّل بالسّفينة وفي الآخر بالجدار للاشعار بانّ البدن في اوّل السّلوك كالسّفينة المملّوة من كلّ متاع وفي آخره كالجدار المجرّدة عن متاع النّفس (قالَ) موسى (ع) (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) يعنى لم ينبغ ان تقيم الجدار حتّى يطعمونا ويأوونا ، وهذا السّؤال وان لم يكن مثل سابقيه لكنّه لمّا عهد مع الخضر (ع) ان لا يصاحبه ان سأله (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) اى الفراق الّذى كان معهودا بيني وبينك أو فراق في بيني وبينك (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) اى بإرجاعه الى امر حقّ أو بحقيقته (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ويتعيّشون بها (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) اى صالحة وقد قرئ كلّ سفينة صالحة (غَصْباً) وقد فسّر وراءهم في الخبر بإمامهم ، وان كان المراد خلفهم فالمعنى انّ خلفهم ملكا يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا ، وهذه السّفينة إذا رجعت اليه صالحة يأخذها غصبا ، ونظم المعنى يقتضي تقديم قوله وكان وراءهم الى الآخر على قوله فأردت ان أعيبها الى الآخر لانّ ارادة العيب مسبّبة عن أخذ الملك كلّ سفينة غصبا وعن كون أرباب تلك السّفينة مساكين لكنّه وسّطه بين جزئي السّبب اشعارا بانّ الاهتمام في ارادة العيب بحفظ معيشة المساكين والتّرحّم عليهم لا برفع الظّلم ومنع الظّالم ، وبعبارة اخرى كان الجزء المهتمّ به في تلك الارادة من جزئي السّبب هو الحبّ في الله لا البغض في الله ، وبعبارة اخرى كان داعيه الى تلك الارادة هو الرّحمة لا الغضب (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) طهارة من الكفر والشّرك والذّنوب ، أو نموّا فانّ غلام القلب اطهر وأنمى من غلام الشّيطنة (وَأَقْرَبَ رُحْماً) رحمة وعطفا على والديه ، أو هو مأخوذ من الرّحم بالكسر والسّكون والرّحم بفتح الرّاء وكسر الحاء بمعنى القرابة وهذا أوفق بالمعنى إذا القرب بالقرابة أقرب منه بالرّحمة ، روى انّهما ابدلا بالغلام المقتول ابنة فولد منها سبعون نبيّا (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) وهما تأويلا قوّتا القلب العلّامة والعمّالة فانّ القلب بعد تولّده يحصل له قوّتان بإحداهما يتصرّف في كثرات عالمه الصّغير على وفق حكم العقل ، وبالأخرى يتوجّه الى العقل ويأخذ ما هو صلاحه من العلوم والمكاشفات بحسب نفسه أو بحسب عالمه ، وبعبارة اخرى يصير ذا جهتين ، جهة الوحدة وجهة الكثرة ويتمهما عبارة عن عدم اتّصالهما بأبيهما العقل ، أو عدم اتّصالهما الى أبيهما المرشد المعلّم ، وببقاء جدار البدن يستخرجان ما هو المكمون تحته من كنز الجامعيّة بين التّنزيه والتّشبيه والتّسبيح والتّحميد وهو مقام الجمع الّذى هو قرّة عيون السّلّاك وللاشارة الى جهة التّأويل ورد اخبار مختلفة كثيرة في تفسير الكنز بأنّه لم يكن من ذهب ولا فضّة ، وفي بعضها كان : لا اله الّا الله ، محمّد (ص) رسول الله ، وبعده بعض كلمات النّصح والوعظ ، وفي بعضها بسم الله الرّحمن الرّحيم وبعده بعض الكلمات النّاصحة ، وفي بعضها الجمع بين التّسمية والتّهليل ورسالة محمّد (ص) وبعده كلمات النّصح ، وفي بعضها الاقتصار على التّهليل فقط وبعده الكلمات النّاصحة ، وبعد اعتبار جهة التّأويل يرتفع الاختلاف عن الكلّ ويتّحد المقصود


من مختلفها (فِي الْمَدِينَةِ) اى النّاصرة (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) وصلاح أبيهما صار سببا لمراعاتهما واقامة جدارهما وحفظ كنزهما ، فانّ الله ليحفظ ولد المؤمن الف سنة كما في الخبر وانّ الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة ، وفي الخبر انّ الله ليصلح بصلاح الرّجل المؤمن من ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) قوّتهما قيل : هو ما بين ثماني عشرة سنة الى ثلاثين وهو مفرد على بناء الجمع نادر النّظير ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدّ بالكسر أو شدّ بالفتح لكنّهما غير مسموعين بهذا المعنى ، ومعنى الجمع أوفق بالمقصود لانّه أريد به قوّة جميع القوى البدنيّة والنّفسانيّة (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ) اى ما رأيت من العجائب أو ما رأيت من اقامة الجدار (عَنْ أَمْرِي) ورأيى.

مراتب السّلوك

اعلم ، انّ مقصود الخضر (ع) كان من إظهار تلك الغرائب ظاهرا وإجرائها باطنا تعليم موسى (ع) طريق التّكميل ، وتكميله من جهة حاجته الى التّعليم وان كان موسى (ع) من جهة الرّسالة ومراقبة احكام الكثرة وحفظ مراتبها أفضل وأكمل من الخضر (ع) كما مرّ لكنّه كان محتاجا الى تعليم الخضر (ع) طريق التّكميل في جهة الوحدة والسّلوك الى الله ، ولمّا كان السّالك في اوّل مراتب سلوكه وهو السّير من الخلق الى الحقّ محتاجا الى خراب البدن واضمحلال القوى النّفسانيّة حتّى يتخلّص من سلطان الشّيطان وغصبه ويسلّم للقوى العقليّة الّتى هي في اوّل الأمر مساكين عاجزون عن اكتساب ما يحتاجون اليه أظهر عليه‌السلام تخريب السّفينة تنبيها وتعليما وتكميلا ، وأسباب تخريب البدن وكسر قوى النّفس غير محصورة ولا ضبط لها ولا ميزان بل تكون اختياريّة كانواع الرّياضات والسّياحات والعبادات ، وتكون اضطراريّة كانواع البلايا والامتحانات الّتى يوردها الله على السّالك بحسب ما يقتضيه حكمته بل نقول : دخول السّالك في السّلوك وقبول الشّيخ ايّاه والتّوبة على يده وتلقينه الذّكر بشروطه اوّل كسر قوى النّفس واوّل مراتب جهاده ومقاتلته مع قوى النّفس واوّل قدرة الإنسان على الجهاد والغلبة ويحصل له بامداد الشّيخ الغلبة مرّة بعد اخرى حتّى يحصل له السّلطنة والحكم ، والسّالك في تلك المرتبة من السّلوك كافر محض بالكفر الشّهودى حيث لا يرى الله مجرّدا ولا في مظاهره حالّا أو متّحدا معها ، والشّيخ ينبغي ان يتنزّل عن مقامه العالي الى هذا المقام ويخاطب السّالك مطابقا لحاله مشعرا بكفره واستتار الحقّ عنه ولذلك قال الخضر (ع) في اوّل الأمر (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، بنسبة الفعل الى نفسه استقلالا وإظهارا لانانيّته من غير اشارة الى شراكة أو تسبيب من الله ، ولمّا كان كلّ ما ينسبه السّالك الى نفسه وكلّ ما يراه من انانيّته نقصا وشرّا وعيبا ابرز الفعل المنسوب الى انانيّته بلفظ العيب تنبيها على انّ السّالك ينبغي ان لا يرى الّا عيب فعله في ذلك المقام وان كان خيرا فقال ان أعيبها ولم يقل ان استخلصها من الغصب أو اسلّمها لأربابها ، ولا يرى السّالك حينئذ الّا طريق (١) الاعتزال ويرى نفسه مختارة والحقّ معزولا. فاذا انتهى سفره هذا وابتدأ السّفر الثّانى وهو السّير من الحقّ والخلق الى الحقّ وبعده من الحقّ الى الحقّ ينبغي ان يقتل ويمحو الشّيطنة الّتى هي رئيس تمام القوى النّفسانيّة والجنود الشّيطانيّة حتّى يتولّد طفل القلب ويطهر بيت الصّدر وينزل الاملاك فيه ويعمروا بيت القلب ويطهّروه لدخول ربّ البيت فيه ، وفي هذا السّفر منازل كثيرة جدّا بحسب تجليّه تعالى بأسمائه على السّالك مفردة أو منضّمة ، وفي هذا السّفر يظهر عليه جميع العقائد الباطلة وينحرف الى جميع المذاهب المختلفة من الثّنويّة والابليسيّة والوثنيّة والصّابئيّة والجنّيّة والملكيّة والغلوّ والنّصب

__________________

(١) ـ من انتساب الأفعال الى العبد بنحو التّفويض لعدم رؤيته حينئذ غير نفسه حتّى يداخله في فعله.


والاعتزال والجبر والتّوسّط بينهما والحلول والاتّحاد والوحدة والاباحة والإلحاد ونفى الحشر وإثبات المعاد وانكار النّبوّة وإثباتها بحسب تجليّاته المختلفة بأسمائه المختلفة المتضادّة بحيث يرى كلّ هذه لو لم يكن عناية شيخ عليه حقّه وجميع المذاهب نشأت من هذا السّير من حيث انّه لم يكن سلّاكه تحت امر شيخ يربّيه ، ويظهر بطلان الباطل عليه ، فانّه قد يظهر عليه عالم النّور والظّلمة ويراهما متصرّفين في عالم الطّبع فيحسب انّ للعالم مبدئين النّور والظّلمة ، وقد يرى في العالمين حاكمين يتصرّف فيهما وفي عالم الطّبع فيحسب انّ المبدء يزدان واهريمن ، وقد يرى العالمين وحاكمهما مستقلّين غير معلول أحدهما للآخر فيظنّ انّهما قديمان ، وقد يرى عالم الظّلمة وحاكمه معلولين للنّور وحاكمه فيحسب انّ أحدهما قديم والآخر حادث ، وقد يتجلّى تعالى شأنه على بعض المظاهر كالاملاك والأفلاك والفلكيّات والعناصر والعنصريّات والأبالسة والجنّة باسم الآلهة فيظنّ انّه مستحقّ للعبادة وقد يتجلّى ببعض أسمائه على السّالك أو على غيره بحيث يراه حالّا فيه فيعتقد الحلول ، وقد يعتقد في هذا التّجلّى الجبر حين يرى الفعل منه تعالى جاريا عليه ، وقد يتجلّى كذلك بحيث يرتفع الاثنينيّة فيعتقد الاتّحاد وقد يعتقد في هذا التّجلّى التّوسّط بين الجبر والتّفويض ، وقد يتجلّى عليه أو على غيره بحيث لا يبقى شعور من السّالك بغيره تعالى وان كان باقيا عليه بعد شيء من البشريّة فيظهر منه حينئذ الشّطحيّات مثل : سبحاني ما أعظم شأني ، وليس في جبّتى سوى الله ، وانّا الحقّ ، وأمثال ذلك ، وقد يعتقد السّالك الغلوّ في كلّ من تلك التّجليّات الثّلاثة ، ولعلّ قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) كان اشارة الى الثّالث من تلك المقامات ، لانّه تعالى لم يشر الى بقاء نفسيّة لهم في العبارة ، وقد يتجلّى باسم الواحد عليه وعلى ما سواه فيمحو المراتب والتّعيّنات عن نظر السّالك فيعتقد الوحدة ويتولّد منه الاباحة والإلحاد والزّندقة وانكار الرّسالة وانكار المبدء والمعاد وسقوط العبادات ولا يخلو السّالك في هذا السّفر عن الشّرك الوجودىّ ورؤية الانانيّة من نفسه مع شهود الحقّ مجرّدا أو في المظاهر ، وأيضا قلّما ينفكّ عن الخشية وان كان قد زال عنه الخوف لانّه جاوز السّفر الاوّل ، والخوف من لوازمه ، وللاشارة الى هذا السّفر والإشراك والخشية اللّازمين فيه قال فخشينا تشركيا في الانانيّة حيث تنزّل الى هذا المقام مداراة مع موسى (ع) وموافقة له ، والخشية وان لم يصحّ نسبتها الى الله تعالى منفردا لكن تشريكه تعالى في الانانيّة مع كون نسبتها الى أحدهما صحيح ، وأيضا الخشية حالة حاصلة عن التّرحّم والخوف (١) ، وبعبارة اخرى حالة ممتزجة من لّذة الوصال والم الفراق والفوات ، ونسبتها إليهما باعتبار جزئيها صحيحة ولرؤية الارادة من نفسه ومن الله قال فأردنا بالتّشريك ، ونهاية هذا السّفر نهاية الفقر وبداية الغنى كما أشير اليه بقوله : الفقر إذا تمّ هو الله ، وفي تلك الحالة ان بقي عليه شيء من بقايا نفسه وبقايا البشرية يظهر منه الشّطحيّات كما سبق ، وبعد هذا السّفر السّفر بالحقّ في الحقّ ، وفي هذا السّفر لا يبقى عين من السّالك ولا اثر فلا يكون منه ومن سفره خبر ، ولذا لم يظهر الخضر (ع) منه شيئا ولم يخبر عنه بشيء ، وبعد هذا السّفر السّفر بالحقّ في الخلق ، وهو آخر مقامات السّالكين ونهاية سير السّائرين وبحسب السّعة والضّيق والتّمكّن والتّلوّن في تلك المقامات يتفاضل السّلاك والأولياء والرّسل (ص) ، وهذا السّفر هو البقاء في فناء والبقاء بالله ، وفيه شهود جمال الوحدة في مظاهر الكثرات ، وفيه حفظ الوحدة في عين لحاظ الكثرة ، وحفظ المراتب وحدودها في عين شهود الوحدة ، وجمال الحقّ الاوّل ، وفي هذا السّفر لا يبقى الانانية الّا لله الواحد القهّار ، ولا يرى السّالك فعلا وصفة وحولا وقوّة الّا من الله وبالله فيقول عن شهود وتحقيق : لا اله الّا الله ، ولا حول ولا قوّة الّا بالله ، وهو الاوّل والآخر والظّاهر والباطن ، وهو بكلّ شيء عليم ، وهو بكلّ شيء محيط ، ولا مؤثّر

__________________

(١) فينسب ترحم والوصال الى الله والخوف والفراق الى العبد فانّ جهة العبديّة ليست الّا الخوف والفراق والجهة الإلهيّة ليست الّا التّرحّم والوصال فلا يظهر الوصال الّا برفع جهة العبديّة.


في الوجود الّا الله ، وفي هذا المقام صدر عن بعض الكاملين ما ظاهره وحدة الوجود الممنوعة مثل ، سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ، فانّه بتجلّيه الفعلىّ عين كلّ ذي حقيقة وحقيقته فالمعنى وهو بفعله الّذى هو المشيّة حقيقة كلّ ذي حقيقة ، ومثل قول الشّاعر بالفارسيّة :

غيرتش غير در جهان نگذاشت

زان سبب عين جمله اشيا شد

فانّ الغيرة من صفاته الفعليّة وهي من أسماء المشيّة يعنى انّ غيرته الّتى هي فعله صارت حقيقة كلّ ذي حقيقة ومثل : ليس في الدّار غيره ديّار ، ومثل قوله :

كه يكى هست وهيچ نيست جز أو

وحده لا اله الّا هو

وغير ذلك ممّا قالوه بالعربيّة والفارسيّة نثرا ونظما ممّا يوهم الوحدة الباطلة فانّها كلّها صحيحة كما أشير الى صحّتها ان كان صدورها عن صاحب هذا المقام ، وان كان صدورها عن صاحب السّفر الثّانى كانت من جملة الشّطحيّات كما سبق ، ولعلّ قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) بإثبات نفسيّة للرّسول (ص) ونفى الفعل عنه وإثباته له كان اشارة الى هذا المقام. ولمّا حصل مقصوده (ع) من تعليم الخضر (ع) وانتهى سفره الى هذا السّفر واستكمل سيره في المراتب الممكنة للإنسان ولم يبق ممّا يستحقّه بحسب الاستعداد شيء ، قال الخضر (ع) : هذا فراق بيني وبينك ، ولمّا لم يبق في نظر شهوده الّا الله وتجلّى له باسمه الجامع على كلّ شيء وفيء ولم ير فعلا وحولا وقوّة الّا من الله تعالى تبرّء الخضر (ع) حينئذ موافقا لحال موسى (ع) من انانيّته ونسب الفعل مطابقا لشهود موسى (ع) الى الله وحده فقال (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ، وفيما روى عن الصّادق (ع) اشارة اجماليّة الى جميع ما ذكر لانّه قال في قوله فأردت ان أعيبها فنسب الارادة في هذا الفعل الى نفسه لعلّه ذكر التّعييب لانّه أراد أن يعيبها عند الملك إذا شاهدها فلا يغصب المساكين عليها وأراد الله عزوجل صلاحهم بما امره به من ذلك فذكر في علّة التّفرّد بالانانيّة التّعييب هناك وأشار (ع) في الفقرة الثّانيه الى الوجه الآخر الّذى هو احتجاب الله عن نظره في هذا المقام حيث قال في قوله : فخشينا ان يرهقهما انّما اشترك في الانانيّة لانّه خشي والله لا يخشى لانّه لا يفوته شيء ولا يمتنع عليه أمر اراده وانّما خشي الخضر (ع) من ان يحال بينه وما أمره به فلا يدرك ثواب الإمضاء فيه ووقع في نفسه انّ الله جعله سببا لرحمة أبوي الغلام فعمل فيه وسط الأمر من البشريّة مثل ما كان عمل في موسى (ع) لانّه صار في الوقت مخبرا وكليم الله موسى (ع) مخبرا ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرّتبة على موسى (ع) وهو أفضل من الخضر (ع) بل كان لاستحقاق موسى (ع) للتّبيين لانّ قوله (ع) : لانّه خشي والله لا يخشى : وان كان بظاهره لا يناسب الاشتراك في الانانيّة لكنّه بضميمة قوله ووقع في نفسه انّ الله جعله سببا لرحمة أبوي الغلام مع قوله (ع) فعمل فيه وسط الأمر من البشريّة يصير مناسبا للاشتراك في الانانيّة ، فانّ معناه انّ الخشية بتمام اجزائها لا يصحّ نسبتها الى الله لكنّها باعتبار جزءها الّذى هو الرّحمة يصحّ نسبتها اليه تعالى ، وقوله فعمل فيه وسط الأمر اشارة الى وسط حال الإنسان من مشاهدة نفسه ومشاهدة الله ، وكذا قوله : وقع في نفسه انّ الله جعله سببا لرحمة أبوي الغلام ، يدلّ على مشاهدة الله وتسبيبه ، وقوله : مثل ما كان عمل في موسى (ع) يشير الى انّ الخضر (ع) تصرّف في موسى (ع) ورفع درجته عن مقام الاحتجاب الى مقام شهود الله وشهود الواسطة ، وقوله : لانّه صار في الوقت مخبرا ، تعليل لتصرّف الخضر (ع) في موسى (ع) مع انّه كان انقص منه ، والمعنى انّ الخضر (ع) صار في وقت اتّباع موسى (ع) مخبرا ومعلّما لما لا علم لموسى (ع) به وموسى (ع) صار تابعا ومتعلّما وتصرّف الخضر (ع) كان من هذه الجهة ، ولا ينافي ذلك اكمليّة موسى (ع) من جهة اخرى ولذا قال : ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرّتبة على موسى (ع) والّا فمحض المخبريّة والمخبريّة تقتضي الرّتبة للمخبر على المخبر بوجه ، وقال (ع) في


قوله : فأراد ربّك فتبرّء من الانانيّة في آخر القصص ونسب الارادة كلّها الى الله تعالى ذكره في ذلك لانّه لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به بعد ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له فتجرّد من الانانيّة والارادة تجرّد العبد المخلص ثمّ صار متنضّلا ممّا أتاه من نسبة الانانيّة في اوّل القصّة ومن ادّعاء الاشتراك في ثانى القصّة فقال رحمة من ربّك وما فعلته عن أمرى فقوله (ع) لانّه لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به يعنى لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به حتّى يحتاج الى وساطته ويراه واسطة بل تجرّد نظره الى الله واستغنى عن الواسطة وفي قوله ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له ، اشارة الى انّه استغنى عن الشّيخ والواسطة واستكمل في جهة نقصه وتعلّم ما يحتاج الى تعلّمه (ذلِكَ) المذكور من بيان حكمة كلّ ممّا رأيته (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) اى حقيقته وحكمته فانّ التّأويل كثيرا ما يستعمل فيما يئول اليه أو إرجاع ما لم تسطع الى حقيقة صحيحة وحكمة مقتضية من مصدره وغايته ، وأسقط التّاء من لم تسطع هاهنا اشعارا بظهور نقصان طاقته عن الصّبر عليه ولم يسقط التّاء عمّا سبق من قوله لن تستطيع في الموارد وقوله (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ) لعدم ظهور نقصان الاستطاعة بعد على موسى (ع) بل كان مدّعيا للاستطاعة كما روى عنه (ع) انّه قال بل أستطيع (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) ورد في سبب نزوله ما سبق في سبب نزول قصّة أصحاب الكهف ، وورد انّه سأله (ص) نفر من اليهود عن طائف طاف المشرق والمغرب.

اعلم ، انّ المسمّى بذي القرنين كان اثنين أكبر وأصغر وكلاهما ملكا في الأرض وانّ ذا القرنين الأكبر هو الّذى كان عبدا صالحا نبيّا أو غير نبىّ وهو الّذى طاف المشرق والمغرب وبنى سدّ يأجوج ومأجوج ، وهو كان غلاما من أهل الرّوم وكان ابن عجوز فقيرة وهبه الله تعالى الملك والسّلطنة ، وورد انّه سمّى بذي القرنين لانّه بعث في قومه فدعاهم الى الله فضربوه على قرنه الأيمن فأماته الله أو غاب عنهم على اختلاف الرّوايات خمسمائة عام أو مائة عام أو مدّة على اختلاف الرّوايات أيضا ، ثمّ بعثه الله فدعا الى الله فضربوه على قرنه الأيسر فأماته أو غاب عنهم في المدّة المذكورة ، ثمّ بعثه الله تعالى فملك المشرق والمغرب ، وورد أيضا انّه عوّضه الله في مكان الضّربتين على رأسه قرنين أجوفين وجعل عزّ ملكه وآية نبوّته في قرينه ، ثمّ رفعه الله الى السّماء الدّنيا فكشط له عن الأرض كلّها جبالها وسهولها وفجاجها حتّى ابصر ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كلّ شيء سببا فعرف به الحقّ والباطل وايّده في قرنيه بكسف من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، ثمّ أهبطه الى الأرض واوحى اليه سر في ناحية غربىّ الأرض وشرقيّها فقد طويت لك البلاد وذلّلت لك العباد فأرهبتهم منك وذلك قول الله تعالى انّا مكنّا له في الأرض ، وورد أيضا انّه رأى في المنام كأنّه دنا من الشّمس حتّى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فلمّا قصّ رؤياه على قومه وعرفهم سمّوه ذا القرنين فدعاهم الى الله فأسلموا ، وذكر في التّواريخ انّه لمّا طاف المشرق والمغرب سمّى ذا القرنين. وقيل : انّه لمّا كان كريم الطّرفين أبا وامّا سمّى ذا القرنين ، وقيل : كان له ضفيرتان من طرفي رأسه ولذلك سمّى ذا القرنين ، وقيل : كانت صفحتا رأسه من صفر أو من نحاس أو من حديد أو من ذهب ولذلك سمّى ذا القرنين. وقد اختلف الاخبار في نبوّته وعدمها واسمه كان عبد الله بن الضحّاك ولقبه كان عيّاشا ، واختلاف الاخبار في باب قرنيه ونبوّته يشعر بالتّأويل خصوصا ما ذكر في الاخبار من قولهم (ع) : وفيكم مثله مشيرين الى أنفسهم ، فانّه كلّما ذكر لشخص في العالم الكبير فهو جار فيه في نوعه ، وكلّما كان في العالم الكبير شخصا أو نوعا فهو جار في العالم الصّغير ، وقد اختلف الاخبار والتّواريخ في زمان ظهوره فانّه ذكر انّه كان بعد زمان نوح (ع) ، وذكر انّه كان معاصرا لإبراهيم (ع) ، وذكر انّه كان بعد عيسى (ع) (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) اى ما يتذكّر به وهو قوله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ)


مشرقها ومغربها (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) وعلّة من الله بها تمكّن تمكّنا تامّا من الوصول اليه والتّصرّف فيه والتّسلّط عليه فانّ الأشياء الكونيّة كلّها مسبّبات عن الموجودات العلويّة من الأشباح المثاليّة والأرواح المجرّدة ولكلّ بحسب المراتب الطّوليّة علل وأسباب عديدة بها يمكن الوصول اليه والتّصرّف فيه والتّسلّط عليه ، وقد ورد انّه رفع الى السّماء فكشط له عن الأرض وهو كناية عن اتّصاله بالملكوت ، وعالم الملكوت أسباب قريبة لما في الملك فأعطى من كلّ شيء سببه وعلّته ولذلك سهل عليه السّير في شرق الأرض وغربها والتّسلّط على سهلها وجبلها (فَأَتْبَعَ سَبَباً) من الأسباب الّتى اوتى يعنى أدرك من الملكوت سبب المغرب وعلّة وجوده وتوسّل بتلك العلّة الى السّير اليه (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) اى الجانب الّذى يلي المغرب من الرّبع المسكون تنزيلا ومقام الطّبع من عالم الكون والملكوت السّفلىّ من العالم الّتى هي دار الشّياطين والجنّة ومقام الأشقياء والأشرار فانّ الكامل يتنزّل تارة الى عالم الطّبع والملكوت السّفلى حتّى يشاهد دقائقهما ويستجمع كما لا تهما ويصعد اخرى وقوله (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ذات الطّين الأسود ، يشير الى التّأويل ؛ فانّ شمس الرّوح والعقل غروبهما في عين الطّبع الحمئة الّتى اختلط ماء الوجود فيها بحمأة المادّة ولوازمها من الحدود والتّعيّنات والاعدام في العالم الصّغير والكبير وفي عين الملكوت السّفلى الّتى ماؤها اقلّ وحمأتها أكثر ، وامّا غروب الشّمس المحسوس فانّه ليس الّا بالتّجاوز عن دائرة الأفق ، وما قيل في بيانه من احتمال انّه بلغ ساحل البحر المحيط فلم يكن في مطمح نظره الّا الماء فرآها تغرب في الماء ، لا يناسب التّعبير بالغروب في العين الحمئة بل يناسبه التّعبير بالغروب في الماء أو في البحر وامّا عالم الطّبع وما تحته فيناسبه التّعبير عنه بالعين الحمئة لاختفاء ماء الوجود تحت حمأة المادّة ولوازمها فيه. وما روى عن سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين (ع) من قوله في عين حامية في بحر دون المدينة الّتى ممّا يلي المغرب يعنى جابلقا ، ناظر الى التّأويل فانّ البحر الّذى دون جابلقا هو عالم الطّبع فانّ جابلقا هو عالم المثال الهابط وهو المدينة الّتى تلى المغرب ودونه عالم الطّبع ودون عالم الطّبع عالم الجنّة والشّياطين المعبّر عنه بالملكوت السّفلى ، ولفظ الحامية امّا من الحمأة بمعنى الحمئة أو من الحمى بمعنى الحارّة وهكذا قوله (ع) لمّا انتهى مع الشّمس الى العين الحامية وجدها تغرب فيها ومعها سبعون الف ملك يجرّونها بسلاسل الحديد والكلاليب يجرّونها في قعر البحر في قطر الأرض الأيمن كما تجري السّفينة على ظاهر الماء ، ناظر الى التّأويل ، والمراد بقطر الأرض الأيمن عالم الطّبع فانّه أيمن بالنّسبة الى عالم الجنّة ، أو المراد به عالم المثال العلوىّ فانّه كثيرا ما يعبّر عنه بالأرض (وَوَجَدَ عِنْدَها) عند العين الحمئة (قَوْماً) نكّر القوم ولم يصفه بوصف كما في قرينتيه تحقيرا لهم كأنّهم لغاية حقارتهم ونكارتهم لا يمكن توصيفهم وتعيينهم بوجه (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) هذا الخطاب يدلّ على نبوّته إذ شأن الأنبياء (ع) ان يخاطبوا بخطاب الله الّا ان يقال : انّ الله خاطبه على لسان نبىّ وقته (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بسبب كفرهم وبعدهم بالقتل والأسر والنّهب وسائر أنواع التّعذيب (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) بتعليم الشّرائع وإصلاح المفاسد ووضع السّياسات الشّرعيّة فيهم والعفو عن مسيئهم ، وان مع صلته مبتدء والخبر محذوف اى امّا تعذيبك كائن فيهم أو اتّخاذك الحسن فيهم (قالَ) بعد تخيير الله تعالى ايّاه مجيبا له بما فيه خروج عن الظّلم وعمل بالعدل كما هو شأن الأنبياء (ع) (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) على نفسه بالإصرار على كفره بعد دعوته أو على الغير بعدم قبول السّياسات والخروج من تحت الحدود الالهيّة (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بما يليق بحاله من القتل وقطع الأطراف والأسر والنّهب والاستعباد (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ)


بعد الموت (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) منكرا لم يعهد مثله (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) بقبول الدّعوة وترك ظلم نفسه (وَعَمِلَ صالِحاً) بأخذ الحدود والأحكام الشّرعيّة وعدم التّجاوز عنها بعد الايمان حتّى لا يصير ظالما على نفسه ولا على غيره (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) من ربّه ، قرئ جزاء بالنّصب والتّنوين على ان يكون الحسنى مبتدء وله خبرا له ، وجزاء حالا أو تميزا أو مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، وقرئ مرفوعا منّونا على ان يكون مبتدء والحسنى بدله ، وقرئ جزاء الحسنى بالرّفع والاضافة واعرابه ظاهر ، وقرئ جزاء الحسنى بالنّصب من غير تنوين على ان يكون سقوط التّنوين بالتقاء السّاكنين لا بالاضافة ويكون مثل صورة التّنوين بحسب الاعراب ، أو على ان يكون سقوط التّنوين بالاضافة ويكون مفعولا مطلقا للخبر المحذوف اى له جزاء جزاء الحسنى وقدّم تعذيبه في القرينة الاولى على تعذيب الله لكون تعذيب الله مختصّا بالآخرة كما صرّح به وكون مرتبته بعد مرتبة تعذيبه في الدّنيا ، وقدّم جزاء الرّبّ في القرينة الثّانية على جزاء نفسه للاشعار بعموم جزاء الرّبّ للدّنيا والآخرة ، ولو أخّر لأوهم اختصاصه بالآخرة مثل قرينته (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا) في الخراج وفي وضع السّياسات (يُسْراً) اى امرا سهلا يسهل تحمّله (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) وعلّة من علل جانب المشرق من الرّبع المسكون أو من العالم تمكّن منها من الوصول اليه والتّسلّط على اهله والتّصرّف فيهم (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) من الرّبع المسكون أو من العالم (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) قد ورد في تنزيله انّهم لم يعلموا صنعة البيوت ولا صنعة الثّياب ، وعن علىّ (ع) انّه ورد على قوم قد أحرقتهم الشّمس وغيّرت أجسادهم وألوانهم حتّى صيّرتهم كالظّلمة ، لكنّ الآية تشعر بالتّأويل لانّه قال حتّى إذا بلغ مطلع الشّمس ولم يقل حتّى إذا بلغ المشرق فانّ المشرق وان كان بمعنى المطلع لغة لكنّه في العرف اختصّ باوّل بلاد يشرق الشّمس عليها اوّلا من الرّبع المسكون ، أو ببلاد واقعة في طرف المشرق من الرّبع المسكون بخلاف مطلع الشّمس فانّه على معناه اللّغوىّ وبمعناه اللّغوى كلّ أجزاء الأرض مطلع ومغرب باعتبارين ، وكذا قوله : وجدها تطلع على قوم دون ان يقول وجد فيه قوما أو عنده قوما ، فانّ فيه اشعارا بانّ البالغ مطلع الشّمس يكون نظره الى الشّمس وطلوعها بخلاف البالغ مغرب الشّمس فانّه وان كان ناظرا الى الشّمس وغروبها لكنّه لتراكم الكثرات واختفاء ضوء الشّمس يقع نظره على الكثرات استقلالا ، ولعلّه أراد بالقوم المجذوبين الفانين في الله الّذين لم يبق عليهم من التّعيّنات الكونيّة الّتى هي بمنزلة اللّباس والسّاتر من اشعّة الشّمس الحقيقيّة شيء ، وللاشارة الى كون بقائهم وتعيّنهم ووجودهم ببقاء الله وتعيّنه ووجوده قال : لم نجعل لهم من دونها سترا كما ورد في القدسىّ ، انّ أوليائي تحت قبابى لا يعرفهم غيري (كَذلِكَ) صفة لستر اى سترا مثل ذلك السّتر يعنى لم نجعل لهم قبل ذلك السّتر ، أو حال من الشّمس اى وجدها حالكونها مثل ذلك ، أو تطلع حالكونها مثل ذلك المذكور ممّن عند الشّمس بان لم نجعل لها من دونها سترا من غيم التّعيّنات والحدود وغبرة الأهواء والكثرات ، أو حال من فاعل وجدها الى حالكون ذي القرنين كذلك اى مثل من كان عند الشّمس غير مستور بستر غير الشّمس ، أو خبر مبتدء محذوف جوابا لسؤال مقدّر عن حال ذي القرنين ، أو عن حال الشّمس ، أو عن حال القوم على سبيل الاعجاب كأنّه قيل : على سبيل الاستعجاب والاستغراب ؛ الم يكن لهم ستر غير الشّمس؟ ـ فأجاب تأكيدا بقوله : حالهم كذلك ، أو التّقدير : امره كما ذكر (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) علما ، يعنى انّ ذا القرنين ومن عنده حين البلوغ الى مطلع الشّمس وأحوالهم ومالهم من الأموال في العالم الصّغير والكبير وان كانوا مختفين عن أهل العالم غير معلومين


لهم لغاية البعد هذا بحسب التّنزيل ولفنائهم عن أفعالهم واوصافهم وذواتهم بحسب التّأويل لكنّهم معلومون لنا باقون في علمنا لم يعزبوا عن علمنا والجملة حاليّة أو مستأنفة (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) موصلا الى ما بين مطلع الشّمس ومغربها (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) اى الجبلين الّذين بنى بينهما سدّا ، سمّاهما باسم السّدّ مجازا بعلاقة المجاورة ، أو سمّاهما سدّين لكونهما حاجزين من العبور (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) لا من خلفهما (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) لبعدهم عن أرباب اللّغات المعروفة وقلّة فطانتهم بحيث لا يفقهون المقصود الاخروىّ من الكلام لعدم توجّههم الى الآخرة وعدم سلوكهم إليها ، بل علومهم كانت محصورة على عمارة الدّنيا لكنّهم كانوا مستعدّين للتّفطّن والإصلاح ملقين السّمع للتّسليم والانقياد ولذا لم يقل تعالى : امّا ان تعذّب أو تتّخذ فيهم حسنا وقالوا تسليما هل نجعل لك خرجا (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) هما بحسب التّنزيل قبيلتان من ولد يافث بن نوح (ع) كما قيل ، وقيل : يأجوج من التّرك ومأجوج من الجيل ، وروى انّ جميع التّرك والسّقالب ويأجوج ومأجوج والصّين من يافث بن نوح (ع) حيث كانوا ، وامّا بحسب التّأويل فالمراد بيأجوج ومأجوج الشّياطين والجنّة ، أو صنفان منهم في العالم الكبير وما تولّد منهما من القوى والجنود في العالم الصّغير وهما خلف البرزخ في العالم الكبير وخلف السّدّ الّذى يبنيه خلفاء الله بالتّلقين والتّعليم في العالم الصّغير ، واشتقاقهما من أجّ إذا أسرع ، أو من أجّ النّار إذا اشتعل النّار ، وهو يشعر بالتّأويل فانّ الشّياطين والجنّة خلقوا من النّار وهم مسرعون في الفساد ، وعلى هذا كان منع صرفهما للعلميّة والتّأنيث وان كانا عجميّين فللعجمة والعلميّة ، وما ورد في الاخبار من بيان حالهما وجثّتهما وكيفيّة نقبهما للسّدّ وخروجهما من خلف السّدّ وأكلهما النّاس وشربهما للأنهار المشرقيّة والبحيرة الطّبريّة وكثرتهما وطول بقائهما وكثرة ما تناسلوا تماما يدلّ على التّأويل ، وامّا سدّ يأجوج ومأجوج في وجه الأرض فلم ينقل أحد من المورّخين على التّحقيق كيف هو؟ واين هو؟ وما حال يأجوج ومأجوج؟ وما حال من دون السّدّ؟ ولعلّه غار في الماء أو غاب عن الانظار حتّى انمحى خبره عن الاخبار واثره عن الآثار والّا لما انمحى خبره ؛ وما ذكر من التّواريخ اخبار تقريبىّ وذكر تخمينىّ (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يعنى في أرضنا بالقتل والنّهب ، وورد انّهم كانوا يأكلون النّاس وكانوا يرعون في الزّروع والثّمار ويأكلون المأكولات ويحملون غير المأكولات (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) نؤدّيه إليك التمسوا منه قبول الخراج (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) يمنعهم عن الخروج علينا ولعلّه كان خروجهم من طريق واحد لا يمكنهم الخروج من غيره كما أشعر به قوله بين السّدّين (قالَ) تيسيرا عليهم وترحّما (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ممّا تجعلون لي من الخراج فلا حاجة لي الى الخراج (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) يعنى لا حاجة لي الى أموالكم لكن امدّونى بقوّتكم ومقدوركم من العملة والآلات وما يحتاج اليه بناء السّدّ (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) وهو أعظم من السّدّ أجابهم بأعظم من مسئولهم (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) الزّبرة القطعة العظيمة والجملة بدل تفصيلىّ من قوله أعينوني (حَتَّى إِذا ساوى) يعنى فآتوه زبر الحديد حتّى إذا ساوى ذو القرنين أو الحديد (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) قرئ الصّدفين بالتّحريك وبضمّتين وبضمّ الاوّل وسكون الدّال والمقصود منهما جانبا الجبلين (قالَ) للعملة (انْفُخُوا) في المنافيخ (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) كالنّار باحمائه (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) قطرا متنازع فيه لكلا الفعلين ، والقطر النّحاس روى عن مولانا ومقتدانا أمير المؤمنين (ع) انّه قال : فاحتفروا له جبل حديد فقلعوا له أمثال اللّبن فطرح بعضه على بعض فيما بين الصّدفين ، وكان ذوا القرنين هو اوّل


من بنى ردما على وجه الأرض ثمّ جعل عليه الحطب وألهب فيه النّار ووضع عليه المنافيخ فنفخوا عليه قال فلمّا ذاب قال آتوني بقطر فاحتفر وله جبلا من مسّ فطرحوه على الحديد فذاب معه واختلط به (فَمَا اسْطاعُوا) بحذف تاء الاستفعال اشعارا بنفي القدرة الضّعيفة فضلا عن القويّة (أَنْ يَظْهَرُوهُ) لملاسته وغاية ارتفاعه ، ولعلّهم كانوا كالبهائم لم يتفطّنوا صنعة الدّرج أو جمع التّراب خلف السّدّ بحيث يستوي التّراب مع السّدّ فانّهم مع كثرتهم لو تفطّنوا به سهل عليهم ذلك وكان الجبلان محيطين بهم من أطرافهم أو منتهيين الى البحر بحيث لا يمكنهم العبور من نواحيهما وكان ارتفاع الجبلين كالسّدّ في الملاسة والارتفاع من غير سفح ولم يعلموا صنعة النّقب أو لا يمكنهم لانّ ذا القرنين حضر الأرض حتّى بلغ الماء فبنى السّدّ (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لصلابته (قالَ) ذوا القرنين (هذا) السّدّ أو الاقتدار على تسويته (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) بقيام السّاعة أو بخراب الدّنيا ، وان كان المراد بوعد الرّبّ قيام السّاعة فالمعنى إذا قرب مجيء وعد ربّى (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) مدكوكا مسوّى بالأرض ، وقرئ دكّاء بالمدّ (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) لا تخلّف فيه ، نقل انّه إذا كان قبل يوم القيامة في آخر الزّمان انهدم ذلك السّدّ وخرج يأجوج ومأجوج الى الدّنيا وأكلوا النّاس وهو قوله (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ،) وعن الصّادق (ع) ليس منهم رجل يموت حتّى يولد له من صلبه الف ولد ذكر ثمّ قال : هم أكثر خلق خلقوا بعد الملائكة ، وعن النّبىّ (ص) انّه عدّ من الآيات الّتى تكون قبل السّاعة خروج يأجوج ومأجوج ، وعنه (ص) انّه سئل عن يأجوج ومأجوج فقال : يأجوج أمّة ومأجوج أمّة ، وكلّ أمّة اربعمائة أمّة ؛ لا يموت الرّجل منهم حتّى ينظر الى الف ذكر من صلبه كلّ قد حمل السّلاح ، قيل : يا رسول الله (ص) صفهم لنا ، قال : هم ثلاثة أصناف ؛ صنف منهم أمثال الأرز (١) قيل : يا رسول الله (ص) وما الأرز؟ ـ قال : شجر بالشّام طويل ، وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء ، وهؤلاء الّذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش احدى أذنيه ويلتحف بالأخرى ولا يمرّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير الّا أكلوه ، مقدّمتهم بالشّام وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق وبحيرة الطّبريّة ، وورد أيضا انّهم يدأبون في حفر السّدّ نهار هم حتّى إذا امسوا وكانوا يبصرون شعاع الشّمس قالوا : نرجع غدا ونفتحه ولا يستثنون ، فيعودون من الغد وقد استوى كما كان حتّى إذا جاء وعد الله قالوا : غدا نفتح ونخرج ان شاء الله فيعودون اليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه فيخرجون على النّاس فيشربون المياه ويتحصّن النّاس في حصونهم منهم فيرمون سهامهم الى السّماء فترجع وفيها كهيئة الدّماء فيقولون : قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السّماء ، فيبعث الله عليهم بققا في اقفائهم فتدخل في آذانهم فيهلكون بها ، وعن الصّادق (ع) في قوله عزوجل (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) قال التّقيّة فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقبا ، قال إذا عملت بالتّقيّة لم يقدروا لك على حيلة وهو الحصن الحصين وصار بينك وبين أعداء الله سدّا لا يستطيعون له نقبا فاذا جاء وعد ربّى جعله دكّا قال : رفع التّقيّة عند الكشف فانتقم من أعداء الله ، وهذه الاخبار كما ترى على التأويل ادلّ منها على التّنزيل خصوصا الخبر الأخير فانّه صريح في التّأويل (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) يعنى يوم إتمام السّدّ خلف السّدّ يموجون يختلطون لا يقدرون على الخروج أو يوم دكّ السّدّ والخروج يموجون على وجه الأرض لإسراعهم الى القتل والنّهب أو يوم القيامة كما نسب الى مولانا أمير المؤمنين (ع) ، والتّأدية بالماضي على الاوّل ظاهر وعلى الثّانيين لتحقّق وقوعه أو لوقوعه بالنّسبة الى محمّد (ص) (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) اى يأجوج ومأجوج ومن دون

__________________

(١) الأرز بفتح الهمزة وضمّها وسكون الرّاء المهملة شجر الصّنوبر أو شجر السّرو.


السّدّ أو يأجوج ومأجوج فقط (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) اى عن تذكّرى حين رؤية المصنوعات الّتى يتذكّر بها.

اعلم ، انّ الذّكر هاهنا بمعنى ما يتذكّر به وبهذا المعنى جملة المصنوعات ذكر لله وبحسب اختلاف التّذكّر بها يختلف المصنوعات في اطلاق الذكّر عليها قوّة وضعفا ولذا سمّى بعضها ذكرا دون بعض كالقرآن والرّسول (ص) والامام (ع) ، ولفظ اللسّان وذكر الجنان والسّكينة القلبيّة والصّلوة ، والمقصود انّ الكافرين هم الّذين كانت أعينهم القلبيّة في غطاء من الأهواء والآمال وسائر صفات النّفس عمّا يتذكّر به الله من حيث انّه ذكر لله وان كانت أعينهم الظّاهرة مشاهدة للمصنوعات كالقرآن والرّسول (ص) والامام (ع) مثلا ، ولمّا كان علىّ (ع) بعلويّته حقيقة ذكر الله تعالى فسّروه بعلىّ (ع) وولايته ؛ فعن الرّضا (ع) انّ غطاء العين لا يمنع من الذكّر والذكّر لا يرى بالعين ولكنّ الله عزوجل شبّه الكافرين بولاية علىّ (ع) بن ابى طالب بالعميان لانّهم كانوا يستثقلون قول النّبىّ (ص) فيه ولا يستطيعون له سمعا ، وعن الصّادق (ع) في هذه الآية يعنى بالذّكر ولاية أمير المؤمنين (ع) قال : كانوا لا يستطيعون إذا ذكر علىّ (ع) عندهم ان يسمعوا ذكره لشدّة بغض له (ع) وعداوة منهم له (ع) ولأهل بيته (ع) (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) اى لا يقدرون على التّقليد والانقياد ، والمقصود انّ الكفّار ليس لهم قلب حتّى يمكنهم التّحقيق به والشّهود لعلىّ (ع) من حيث كونه ذكرا ولا يلقون السّمع والانقياد حتّى يكونوا من أهل التّسليم والسّلامة كما أشار الى المقامين بقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بولاية علىّ (ع) (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي) من دون اذنى (أَوْلِياءَ) أو ان يتّخذوا عبادي حالكونهم من دوني اى مغايرين لي أولياء يعنى أفحسبوا ان يتّخذوا معاوية وليّا من دون علىّ (ع) أو من دون اذنى أو مغايرين لي غير متّصلين بى هكذا فسّرت الآية في الاخبار ولا ينافي ذلك تعميم الآية في كلّ كافر وفي كلّ متّخذ وليّا أو معبودا من دون اذن من الله في ولايته أو في تولّيه (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ) بولاية علىّ (ع) (نُزُلاً) منزلا أو مهيّأ لهم تشريفا فانّ النّزل ما يتهيّئوا للضّيف النّازل تشريفا له (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) خسران الرّجل ضلاله ، وخسران التّجارة المبايعة بنقصان البضاعة أو الغبن في المعاملة ، وخسران العمل ضياعه وبطلانه بلا ثمر ، فالخاسر العمل من لا يترتّب على عمله فائدته المقصودة منه ولا يبقى من عمله اثر ينفعه ، والأخسر من كان يترقّب بعمله خيرا كثيرا ويتعب نفسه فيه ثمّ لم يترتّب على عمله مأموله أو ترتّب عليه ضدّ مأموله.

اعلم ، انّ الإنسان من حيث مقام نفسه واقع بين العالمين قابل لتصرّف الجنّ والشّياطين فيه ولتصرّف الملائكة والأرواح الطّيّبة ، وكلّما يفعله في هذا المقام يكون امّا بحكومة حكّام الله أو بحكومة حكّام الشّيطان لانّه في هذا المقام محكوم صرف لا حكومة له في نفسه ولا في غيره ولذا فسّر قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) بمن حكم بغير ما انزل الله لانّه لا يكون خاليا عن حكم ما البتّة ، وإذا لم يحكم بما انزل الله يكون حاكما في حكم ما بغير ما انزل الله ، وكلّما يفعله بحكومة الشّيطان يكون ضائعا خاسرا لكنّه إذا تنبّه بان فعله بحكومة الشّيطان وانزجر من فعله ولام نفسه أو تردّد في انّ فعله من حكومة الله أو حكومة الشّيطان أو كان غافلا عن الحكومتين في فعله كان خاسرا ولم يكن أخسر عملا ، لانّه لم يبطل استعداده لمراتب الطاف الله من الغفران والعفو والصّفح والتّكفير وتبديل السّيّئات حسنات ، وإذا لم يتنبّه بذلك بل اعتقاد انّ فعله بحكومة الله وانّ له عليه اجرا يكون أخسر ، لانّه ضلّ عمله وهو يحسب انّ عمله مدّخر له وأبطل بذلك استعداده لتدارك الطاف الله بجهله المركّب الّذى عدّه علماء الأخلاق من


الدّاء الّذى لا دواء له ، وقد فسّر الأخسرين في الآية باهل الكتاب وبكلّ من ابتدع رأيا وهو يرى انّه حسن ، وباهل الشّبهات والأهواء من أهل القبلة وباهل البدع منهم وباهل حروراء ، ولا ينافي ذلك تعميم الآية لكلّ من يفعل بحكومة الشّيطان وهو يرى انّه حسن بل يستفاد التّعميم من اختلاف التّفسير وللاشارة الى التّعميم فسّره بقوله (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في الحيوة الدّنيا ظرف لسعيهم أو لضلّ أو لكليهما على سبيل التّنازع ، ولمّا كان كلّما يفعله الإنسان بحكومة الشّيطان متوجّها الى الدّنيا وضائعا فيها وان كان الشّيطان يظهر في بادي الأمر على الفاعل وجهة اخرويّة صحّ تعليق الظّرف بكلّ من السّعى والضّلال (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) وذلك الحسبان جهل مركّب وخسران فوق كلّ خسران لا يمكن تداركه كما مرّ (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) الإتيان باسم الاشارة البعيدة لتفضيح حالهم ولاحضارهم بما وصفوا به ، وتعريف المسند لافادة الحصر والمراد بالآيات الأوصياء (ع) بل المراد بالكفر بالآيات الكفر بعلىّ (ع) فانّ الكفر به كفر بتمام الآيات وقد فسّر في الاخبار بذلك (وَلِقائِهِ) قد سبق مرارا انّه ان كان المراد بالرّبّ ربّ الأرباب فالمراد باللّقاء لقاء حسابه أو حسّابه ، وان كان المراد بالرّبّ الرّبّ المضاف فالمراد باللّقاء لقاء وجه الرّبّ لكن وجهه الملكوتىّ الّذى يسمّونه في الطّريق بالفكر والحضور والسّكينة (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الّتى عملوها محتسبين انّ لهم عليها اجرا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) يعنى لأنفسهم قدرا وزنة ، روى عن النّبىّ (ص) انّه ليأتى الرّجل السّمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة ، أو المعنى لا نقيم لاعمالهم يوم القيامة ميزانا لانّه لا يبقى عمل خير لهم يوزن (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) ذلك مبتدء أو خبر أو مفعول لمحذوف ، وجزاؤهم جهنّم جملة مستأنفة ، أو ذلك مبتدء اشارة الى الحسبان والحبط ، جزاؤهم جهنّم خبره والعائد محذوف اى ذلك الحسبان جزاؤهم به جهنّم ، أو ذلك مبتدء وجزاؤهم خبره ، وجهنّم بدل من ذلك نحو بدل الاشتمال اى ذلك وعدم القدر جزاؤهم بل جهنّم جزاؤهم على ان يكون فيه معنى الاضراب والتّرقّى ، أو ذلك مبتدء وجزاؤهم بدله وجهنّم خبره (بِما كَفَرُوا) اى كفروا بآياتي بقرينة ما بعده (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) المراد بالآيات الأوصياء (ع) كما ورد عنهم والمراد بالكفر الكفر بهم وقوله حبطت اشارة الى خسران العمل وجزاؤهم جهنّم اشارة الى اخسريّته لترتّب ضدّ مأمولهم عليه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة أو آمنوا بالبيعة الخاصّة وعملوا الصّالحات طبق ما شرط عليهم في البيعة الخاصّة (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) والفردوس أعلى درجات الجنان وورد انّ هذه نزلت في ابى ذرّ (ره) والمقداد (ره) وسلمان الفارسىّ (ره) وعمّار بن ياسر (ره) جعل الله عزوجل لهم جنّات الفردوس نزلا اى مأوى ومنزلا ، والنّزل المنزل وما يهيّأ للضّيف ان ينزّل عليه تشريفا (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) حيث لا درجة أعلى منها يرغبون عنها في أعلى منها (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) الآية جارية بحسب الظّاهر على طريق المخاطبات العرفيّة حين المبالغة في امر من وضع قضايا فرضيّة وتعليق الحكم عليها يعنى انّ كلمات الرّبّ من الكثرة وعدم النّهاية بمرتبة لو فرض انّ جميع بحار الأرض أو جنس بحار الأرض كان مدادا لها لما وفي بها مثل قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ، لكن لمّا كانت مفروضات الله


تعالى شأنه مبتنية على حقائق عينيّة بحسب الواقع وان كانت تترائى فرضيّة بحسب الانظار الحسّيّة ، فانّه لا مجازفة ولا إغراق في كلمات الله وكلمات خلفائه كان المراد بالبحر هو البحر الفاعلىّ الّذى هو المشيّة وقد فسّرت في قوله تعالى ن ، والقلم بهذا البحر ، ويكون المراد حينئذ بسبعة أبحر المراتب السّبع الفاعليّة الّتى كلّ بمنزلة المداد بالنّسبة الى ما بعده وهي الملائكة المهيّمون المقرّبون والصّافّات صفّا والمدبّرات امرا والنّفس الانسانيّة والحيوانيّة والنّباتيّة والطّبع الجماديّة ، أو المراد بسبعة أبحر الأبحر القابليّته من مادّة الكلّ والجسم المطلق والعنصر والجماد والنّبات والحيوان والإنسان بحسب بشريّته فانّ كلّا بجهته القالبيّة مادّة ومداد لما فوقه ، أو المراد بالبحر البحر القابلىّ الّذى هو مادّة الموادّ وهيولى الهيوليات ، والمراد بسبعة أبحر الأبحر القابليّات السّتّة المذكورة بجعل بحر الإنسان باعتبار نفسه وعقله بحرين ، أو المراد بسبعة أبحر البحار السّبعة الفاعليّات وكلّ ذلك من سعة وجوه القرآن وصحّة حمله على الكلّ (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) قرئ بكسر الميم وفتحه من المداد أو المدد ، والمراد بالمثل ان كان المراد بالبحر الفاعليّة المطلقة القابليّة المطلقة ، أو القابليّة المطلقة فالمراد الفاعليّة المطلقة ، وان كان المراد بالبحر المشيّة والفاعليّة الاولى فالمثل القابليّة الاولى أو القابليّة الاولى فالفاعليّة الاولى ، ولمّا أوهم امره تعالى له (ص) بان يخبر القوم بانّ كلمات الله غير متناهية انّه أحاط بها ولو اجمالا وليست تلك الاحاطة بقوّة بشريّة بل بشأن الهىّ وقوّة غير بشريّة امره تعالى شأنه ان يتنزّل الى مقامه البشرىّ ولا يرفع شأنه عمّن أرسل إليهم ليتوهّموا المجانسة ويأنسوا به فقال (قُلْ) لهم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بطريق الحصر يعنى لا شأن لي في هذا المقام الّا البشريّة والمثليّة معكم لكن خصّنى الله تعالى شأنه بما لم يخصّكم به فانّه (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) يعنى يوحى الىّ بخلع الأنداد وترك الإشراك في جميع مراتب الإشراك ، فانّ توحيد الآلهة يقتضي توحيد الواجب وتوحيد العبادة عليه على سبيل التّفريع (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ان كان المراد بالرّبّ ربّ الأرباب فالمراد باللّقاء كما في الاخبار لقاء حسابه وثوابه وحسّابه ، وان كان المراد به الرّبّ المضاف وهو الرّبّ في الولاية فالمراد باللّقاء لقاء ملكوته ثمّ لقاء جبروته ، وامّا لقاء ملكه فانّه ليس لقاء حقيقة لانّ ما في هذا العالم من الأجسام والجسمانيّات كلّها في البعد والغيبة والانفصال ، بل الجسم الواحد المتّصل كلّ اجزائه في غيبة بعضها عن بعض وعن الكلّ ولا شهود ولا لقاء حقيقة لشيء من أجزاء الأجسام بخلاف الملكوت فانّ اجزائها كالمرائى يتراءى كلّ في كلّ ويتّصل كلّ بكلّ نحو اتّصال الصّورة بالمرآة بل اتّصالات فوقه لا يوصف بالكنه ، ورجاء الشّيء يقتضي التّوجّه اليه وانتظار وصوله وجمع البال لحصوله (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) يعنى فليعمل ما يصدق عليه انّه عمل صالح جليلا كان أو يسيرا وقد مضى انّ صلاح العمل باتّصاله بالولاية وانّ غير المتّصل بالولاية غير صالح كائنا ما كان ، والمتّصل صالح كائنا ما كان ؛ ولذا ورد عنهم (ع): إذا عرفت فاعمل ما شئت ، يعنى من قليل الخير وكثيره ، والسّرّ فيه انّ من اتّصل بولىّ الأمر وتمسّك بالعروة الوثقى وابتغى الوسيلة الى الله كفاه ظهور ذلك الاتّصال بشيء ما من اعمال جوارحه ويكفيه ذلك الاتّصال في النّجاة بل في الارتقاء على مراقى الآخرة ، لكن لا ينبغي له عدم المبالاة بالأعمال الشّرعيّة والسّنن النّبويّة فانّها حافظة لذلك الاتّصال ومبقية لتلك الوسيلة ولو لا الأعمال الشّرعيّة خيف عليه قطع الاتّصال والوسيلة وفي قطعة هلاكته الابديّة ، أو المعنى فليعمل عملا صالحا عظيما لا يمكن ان يوصف ، على ان يكون التّنوين للتّفخيم وذلك العمل العظيم الصّالح ليس الّا ما هو أصل الصّلاح وصلاح كلّ ذي صلاح وهو الولاية العمليّة الّتى هي البيعة مع صاحب الولاية وقبول الشّروط والمواثيق عنه وأخذ بذر الايمان منه وهو الّذى يدخل في القلب (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ


رَبِّهِ أَحَداً) الإشراك في العبادة امّا بان يشرك في نفس العمل كالاشراك في الوضوء والغسل بان يصبّ الغير الماء على الأعضاء ، وكالاشراك في الصّلوة بالاتّكال في القيام مثلا على جدار أو خشب أو إنسان ، أو بان يشرك في باعث العمل فانّ الباعث على العبادة ينبغي ان يكون أحد أمور ثلاثة ؛ امر الآمر ، أو محبّة المعبود والعشق له ، أو طلب لقائه الّذى هو غاية العبادة ونتيجة المحبّة ، فاذا أشرك في شيء من الثّلاثة كان مشركا في العبادة ، أو بان يشرك في غاية العبادة فانّ غاية العبادة ينبغي ان تكون ذات المعبود ولقاءه أو نفس المحبّة الباعثة ، أو امتثال الأمر بل فناء العابد وبقاء المعبود فاذا أشرك في ذلك غيره مثل الجنان ونعيمها ، أو اتّقاء النّيران وحميمها ، أو محمدة من النّاس وثناء ، أو صيت في النّاس وشهرة ، أو محبّة في قلوب النّاس ، أو حفظ مال وعرض ودم في النّاس ، أو إمضاء عادة فانّ ترك العادة يوذي النّفس ، أو خروج من عهدة التّكليف وثقله ؛ وغير ذلك ممّا لا يحصى من مخفيّات النّفس بل إذا كان المقصود طلب رضاء الرّبّ أو القرب منه بان يكون الإنسان مرضيّا أو مقرّبا كان مشركا في العبادة ، وامّا الإشراك في ذات المعبود كاشراك الوثنيّة والصّابئة وعابدى الملائكة والجنّ وإبليس وكاشراك الثّنويّة القائلة بالنّور والظّلمة أو يزدان واهريمن فهو اشراك في الآلهة ، ونفاه تعالى بقوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، وامّا الإشراك في الوجود والشّهود في العبادة بالالتفات الى غير المعبود ورؤية الغير حين العبادة وان كان نفيه امرا عظيما والخلوص منه مرتبة شريفة ولا يخلو الإنسان منه ما لم يكن فانيا صرفا فهو مطلوب من اهله ، واللّقاء الحقيقىّ لا يحصل بدونه ؛ رزقنا الله وجميع المؤمنين الخلوص من هذا الإشراك بمنّه وجوده ومحض إحسانه الّذى هدانا به بعد الضّلالة.

هذا ما أردنا تسويده من المجلّد الثّانى من التّفسير المسمّى ببيان السّعادة في مقامات العبادة والحمد لله اوّلا وآخرا والشّكر له على ما ألهم كثيرا ، والصّلوة والسّلام على أشرف خلقه محمّد وأهل بيته.


فهرست السّور والمطالب

عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

سورة النساء

١

تحقيق تعلّق الّشفاعة ومنها الافتاء للناس على الاجازة من الله

٢٩١

تحقيق كون السيئات تماماً بجهالة

٦

سورة هود

٣١٨

تحقيق حرمة منظورة الاب والابن على الآخر

٩

الجزء الثّاني عشر

٣٢٠

الجزء الخامس

١٠

بيان في وحدة الوجود

٣٣٠

تحقيق تعميم الاكل والبطلان

١١

بيان في خلود اهل النار وعدم خلودهم

٣٣٩

تحقيق الكبير والصّغير

١٢

شرخ في عوالهم البرازخ والمثال والآخرة

٣٤٠

تحقيق الوالدين وسائرالاقرباء وتعميمهم

١٥

سورة يوسف

٣٤٦

تحقيق تمثّل الصّورة الّشيخ عند السّالك

٦١

بيان العشق ومراتبه ومراتب الحبّ

٣٥٢

تحقيق معنى البخل والتّقتير والتّبذير

١٧

بيان البرهان الّذي رأه وسف (ع)

٣٥٦

تحقيق معنى السّكر

٢١

بان مراتب القلب

٣٥٩

تحقيق معنى الحكمة

٢٧

الجزء الثّالث عشر

٣٦٥

تحقيق معنى الامانات

٢٨

سورة الرعد

٣٧٦

تحقيق معنى اولى الامر

٣٠

سورة ابراهيم

٣٨٨

تحقيق حديث انظروا الى مكان منكم

٣٣

سورة الحجر

٣٩٧

تحقيق توفّى الله وتوفّى الملائكة والرّسل

٤٥

الجزء الرايع عشر

٣٩٧

الجزء السّادس

٦٢

بيان ردع الشياطين بتولّد عيسى (ع) ومحمّد (ص) عن السّماوات

٣٩٨

سورة المائدة

٧٠

بيان انّ كلّ شيء خزائن عندالله

٣٩٩

الجزء السّابع

١٠٧

سورة النّحل

٤٠٧

حكاية عليّ (ع) وبلال وعثمان بن مظعون عند قوله كلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيباً

١٠٩

بيان العدل

٤٢٣

سورو الانعام

١٢١

سورة الاسراء

٤٣١

الجزء الثّامن

١٤٨

الجزء الخامس عشر

٤٣١

سورة الاعراف

١٦٩

تحقيق المعراج الجسمانّي

٤٣١

الجزء التّاسع

١٩٤

بيان انحصار العبادة في الله

٤٣٧

سورة الانفال

٢٢٧

سورة الكهف

٤٥٨

الجزء العاشر

٢٣٧

اوصفا الوليّ وهي سبعة

٤٧١

سورة التّوبة

٢٤٥

بيان النّيابة للرّسالة والولاية

٤٧٢

الجزء الحادي عشر

٢٧٣

الجزء السّادس عشر

٤٧٥

امّهات منازل السّاكين

٢٨١

مراتب السّلوك

٤٧٧

سورة يونس

٢٩٠

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ٢

المؤلف:
الصفحات: 489