فهرس الموضوعات

الموضوع

الصفحة

الموضوع

الصفحة

٣٩ ـ تفسير سورة الزمر

 ٧

٥٩ ـ تفسير سورة الحشر

 ٢٥٣

٤٠ ـ تفسير سورة غافر

 ٢٩

٦٠ ـ تفسير سورة الممتحنة

 ٢٦٦

٤١ ـ تفسير سورة فصلت

 ٤٥

٦١ ـ تفسير سورة الصف

 ٢٧٦

٤٢ ـ تفسير سورة الشورى

 ٥٨

٦٢ ـ تفسير سورة الجمعة

 ٢٨٠

٤٣ ـ تفسير سورة الزخرف

 ٧٢

٦٣ ـ تفسير سورة المنافقون

 ٢٨٦

٤٤ ـ تفسير سورة الدخان

 ٨٧

٦٤ ـ تفسير سورة التغابن

 ٢٩١

٤٥ ـ تفسير سورة الجاثية

 ٩٦

٦٥ ـ تفسير سورة الطلاق

 ٢٩٥

٤٦ ـ تفسير سورة الأحقاف

 ١٠٢

٦٦ ـ تفسير سورة التحريم

 ٣٠٤

٤٧ ـ تفسير سورة محمّد

 ١١٥

٦٧ ـ تفسير سورة الملك

 ٣١٣

٤٨ ـ تفسير سورة الفتح

 ١٢٥

٦٨ ـ تفسير سورة القلم

 ٣١٨

٤٩ ـ تفسير سورة الحجرات

 ١٤١

٦٩ ـ تفسير سورة الحاقة

 ٣٢٨

٥٠ ـ تفسير سورة ق

 ١٥٦

٧٠ ـ تفسير سورة المعارج

 ٣٣٥

٥١ ـ تفسير سورة الذاريات

 ١٦٧

٧١ ـ تفسير سورة نوح

 ٣٤١

٥٢ ـ تفسير سورة الطور

 ١٧٥

٧٢ ـ تفسير سورة الجن

 ٣٤٦

٥٣ ـ تفسير سورة النجم

 ١٨٣

٧٣ ـ تفسير سورة المزمل

 ٣٥٢

٥٤ ـ تفسير سورة القمر

 ١٩٦

٧٤ ـ تفسير سورة المدثر

 ٣٥٨

٥٥ ـ تفسير سورة الرحمن

 ٢٠٥

٧٥ ـ تفسير سورة القيامة

 ٣٦٨

٥٦ ـ تفسير سورة الواقعة

 ٢١٨

٧٦ ـ تفسير سورة الإنسان

 ٣٧٤

٥٧ ـ تفسير سورة الحديد

 ٢٣٢

٧٧ ـ تفسير سورة المرسلات

٣٨٢

٥٨ ـ تفسير سورة المجادلة

 ٢٤١

٧٨ ـ تفسير سورة النبإ

 ٣٨٧


الموضوع

الصفحة

الموضوع

الصفحة

٧٩ ـ تفسير سورة النازعات

 ٣٩٣

٩٧ ـ تفسير سورة القدر

 ٤٦٩

٨٠ ـ تفسير سورة عبس

 ٣٩٩

٩٨ ـ تفسير سورة البينة

 ٤٧٥

٨١ ـ تفسير سورة التكوير

 ٤٠٥

٩٩ ـ تفسير سورة الزلزلة

 ٤٧٧

٨٢ ـ تفسير سورة الانفطار

 ٤١٠

١٠٠ ـ تفسير سورة العاديات

 ٤٨٠

٨٣ ـ تفسير سورة المطففين

 ٤١٣

١٠١ ـ تفسير سورة القارعة

 ٤٨٣

٨٤ ـ تفسير سورة الانشقاق

 ٤١٩

١٠٢ ـ تفسير سورة التكاثر

 ٤٨٥

٨٥ ـ تفسير سورة البروج

 ٤٢٣

١٠٣ ـ تفسير سورة العصر

 ٤٨٧

٨٦ ـ تفسير سورة الطارق

 ٤٢٨

١٠٤ ـ تفسير سورة الهمزة

 ٤٨٨

٨٧ ـ تفسير سورة الأعلى

 ٤٣١

١٠٥ ـ تفسير سورة الفيل

 ٤٩٠

٨٨ ـ تفسير سورة الغاشية

 ٤٣٤

١٠٦ ـ تفسير سورة قريش

 ٤٩٣

٨٩ ـ تفسير سورة الفجر

 ٤٣٧

١٠٧ ـ تفسير سورة الماعون

 ٤٩٥

٩٠ ـ تفسير سورة البلد

 ٤٤٦

١٠٨ ـ تفسير سورة الكوثر

 ٤٩٧

٩١ ـ تفسير سورة الشمس

 ٤٥٠

١٠٩ ـ تفسير سورة الكافرون

 ٤٩٩

٩٢ ـ تفسير سورة الليل

 ٤٥٣

١١٠ ـ تفسير سورة النصر

 ٥٠١

٩٣ ـ تفسير سورة الضحى

 ٤٥٦

١١١ ـ تفسير سورة المسد

 ٥٠٢

٩٤ ـ تفسير سورة الشرح

 ٤٦٠

١١٢ ـ تفسير سورة الإخلاص

 ٥٠٥

٩٥ ـ تفسير سورة التين

 ٤٦٣

١١٣ ـ تفسير سورة الفلق

 ٥٠٧

٩٦ ـ تفسير سورة العلق

 ٤٦٦

١١٤ ـ تفسير سورة الناس

 ٥١٠


سورة الزّمر

وتسمّى سورة الغرف

فصل في نزولها : روى العوفيّ وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّيّة ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وجابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنه قال : فيها آيتان نزلتا بالمدينة : قوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (١) وقوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) (٢) وقال مقاتل : فيها من المدنيّ : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية ، وقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) (٣). وفي رواية أخرى عنه قال : فيها آيتان مدنيّتان : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) وقوله : (يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) (٤). وقال بعض السّلف : فيها ثلاث آيات مدنيّات : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلى قوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٥).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) قال الزّجّاج : الكتاب هاهنا القرآن ، ورفع «تنزيل» من وجهين : أحدهما : الابتداء ، ويكون الخبر (مِنَ اللهِ) ، فالمعنى : نزل من عند الله. والثاني : على إضمار : هذا تنزيل الكتاب ؛ و (مُخْلِصاً) منصوب على الحال ؛ فالمعنى : فاعبد الله موحّدا لا تشرك به شيئا. قوله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) يعني : الخالص من الشّرك ، وما سواه ليس بدين الله الذي أمر به ؛ وقيل : المعنى : لا يستحقّ الدّين الخالص إلّا الله (٦). (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يعني آلهة ، ويدخل

__________________

(١) الزمر : ٢٣.

(٢) الزمر : ٥٣.

(٣) الزمر : ١٠.

(٤) الزمر : ١٠.

(٥) الزمر : ٥٣ ـ ٥٥.

(٦) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» : ١٥ / ٢٠٥ : قال ابن العربي : هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل ، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان ، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان إن الوضوء يكفي من غير نية ، وما كان ليكون من الإيمان شطره ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.


في هؤلاء اليهود حين قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) والنّصارى لقولهم : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (١) ، وجميع عبّاد الأصنام ، ويدلّ عليه قوله بعد ذلك : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً). قوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ) أي : يقولون : ما نعبدهم (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي : إلّا ليشفعوا لنا إلى الله. والزّلفى : القربى ، وهو اسم أقيم مقام المصدر ، فكأنه قال : إلّا ليقرّبونا إلى الله تقريبا. (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي : بين أهل الأديان فيما كانوا يختلفون فيه من أمر الدّين. وذهب قوم إلى أنّ هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولا وجه لذلك.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي : لا يرشد (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) في قوله : إنّ الآلهة تشفع (كَفَّارٌ) أي : كافر باتّخاذها آلهة ، وهذا إخبار عمّن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي : على ما يزعم من ينسب ذلك إلى الله (لَاصْطَفى) أي : لاختار ممّا يخلق. قال مقاتل : أي : من الملائكة.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥))

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : لم يخلقهما لغير شيء. قوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) قال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا. قال ابن قتيبة : وأصل التّكوير : اللّفّ ، ومنه كور العمامة. وقال غيره. التّكوير : طرح الشيء بعضه على بعض. قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي : ذلّلهما للسّير على ما أراد (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : إلى الأجل الذي وقّت الله للدّنيا. وقد شرحنا معنى العزيز في البقرة (٢) ومعنى الغفّار في طه (٣).

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي : قبل خلقكم جعل منها زوجها ، لأنّ حوّاء خلقت قبل الذّرّيّة ، ومثله في الكلام أن تقول : قد أعطيتك اليوم شيئا ، ثمّ الذي أعطيتك أمس أكثر ؛ هذا اختيار الفرّاء. وقال غيره : ثم أخبركم أنه خلق منها زوجها (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) أي : خلق (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ، وقد بيّنّاها في سورة الأنعام (٤).

قوله تعالى : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي : نطفا ثمّ علقا ثم مضغا ثم عظما ثم لحما ثم أنبت الشّعر ، إلى غير ذلك من تقلّب الأحوال إلى إخراج الأطفال ، هذا قول الجمهور. وقال ابن زيد : خلقا في البطون من بعد خلقكم في ظهر آدم. قوله تعالى : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن ، وظلمة الرّحم ،

__________________

(١) التوبة : ٣٠.

(٢) البقرة : ١٢٩.

(٣) طه : ٨٢.

(٤) الأنعام : ١٤٣.


وظلمة المشيمة (١) ، قاله الجمهور ، وابن زيد معهم. وقال أبو عبيدة : إنها ظلمة صلب الأب ، وظلمة بطن المرأة ، وظلمة الرّحم.

قوله تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي : من أين تصرفون عن طريق الحقّ بعد هذا البيان؟!

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي : عن إيمانكم وعبادتكم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) فيه قولان : أحدهما : لا يرضاه للمؤمنين ، قاله ابن عباس. والثاني : لا يرضاه لأحد وإن وقع بإرادته ، وفرق بين الإرادة والرّضى ، وقد أشرنا إلى هذا في البقرة عند قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢). (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي : يرضى ذلك الشّكر لكم ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما في القلوب.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : في عتبة ابن ربيعة ، قاله عطاء. والثاني : في أبي حذيفة بن المغيرة ، قاله مقاتل. والضّرّ : البلاء والشّدّة. (مُنِيباً إِلَيْهِ) أي : راجعا إليه من شركه. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أي : أعطاه وملّكه (نِعْمَةً مِنْهُ) بعد البلاء الذي أصابه ، كالصّحّة بعد المرض ، والغني بعد الفقر (نَسِيَ) أي : ترك (ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ) ، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : نسي الدّعاء الذي كان يتضرّع به إلى الله تعالى. والثاني : نسي الضّرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه. والثالث : نسي الله الذي كان يتضرّع إليه. قال الزّجّاج : وقد تدلّ «ما» على الله عزوجل ، كقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ). وقال الفرّاء : ترك ما كان يدعو إليه. وقد سبق معنى الأنداد (٣) ومعنى (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٤). قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) لفظه لفظ الأمر ومعناه التّهديد ، ومثله : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥).

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

__________________

(١) في «اللسان» : المشيمة : هي للمرأة التي فيها الولد ، والجمع مشيم ، وقال ابن الأعرابي : يقال لما يكون فيه الولد المشيمة ، والكيس والحوران والقميص.

(٢) البقرة : ٢٠٥ ، وقال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع» ١٥ / ٢٠٨ : وهذا مذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يرضى الكفر وإن أراده ، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه ، فهو يريد كون ما لا يرضاه ، وقد أراد الله عزوجل خلق إبليس وهو لا يرضاه ، فالإرادة غير الرضا.

(٣) البقرة : ٢٢.

(٤) الحج : ٩.

(٥) النحل : ٥٥.


قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، وأبو جعفر ، والمفضّل عن عاصم ، وزيد عن يعقوب : «أمن» بالتخفيف ؛ وقرأ الباقون : بالتشديد. فأمّا المشدّدة ، فمعناها : أهذا الذي ذكرنا خير ، أمّن هو قانت؟ والأصل في «أمّن» : أم من ، فأدغمت الميم في الميم. وأمّا المخفّفة ، ففي تقديرها ثلاثة أوجه : أحدها : أنها بمعنى النداء. قال الفرّاء : فسّرها الذين قرءوا بها فقالوا : يا من هو قانت ، وهو وجه حسن ، والعرب تدعو بالألف كما تدعو بياء ، فيقولون : يا زيد أقبل ، و: أزيد أقبل ، فيكون المعنى : أنه ذكر النّاسي الكافر ، ثم قصّ قصّة الصّالح بالنّداء ، كما تقول : فلان لا يصوم ولا يصلّي ، فيا من يصوم أبشر. والثاني : أنّ تقديرها : أمن هو قانت كمن ليس بقانت؟! والثالث : أمن هو قانت كمن جعل لله أندادا؟!

وقد ذكرنا معنى القنوت في سورة البقرة (١) ومعنى (آناءَ اللَّيْلِ) في آل عمران (٢).

قوله تعالى : (ساجِداً وَقائِماً) يعني في الصلاة. وفيمن نزلت فيه هذه الآية خمسة أقوال (٣) : أحدها : أنه أبو بكر الصّدّيق ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : عثمان بن عفّان ، قاله ابن عمر. والثالث : عمّار بن ياسر ، قاله مقاتل. والرابع : ابن مسعود ، وعمّار ، وصهيب ، وأبو ذرّ ، قاله ابن السّائب. والخامس : أنه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكاه يحيى بن سلام. قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي : عذاب الآخرة. وقد قرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وعروة ، وسعيد بن جبير ، وأبو رجاء ، وأبو عمران : «يحذر عذاب الآخرة» بزيادة «عذاب». (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) فيها قولان : أحدهما : أنها المغفرة ، قاله ابن السّائب. والثاني : الجنّة ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) أنّ ما وعد الله من الثّواب والعقاب حقّ (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). وباقي الآية قد تقدّم في الرّعد (٤) ، وكذلك قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) قد تقدّم في النّحل (٥). وفي قوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) قولان : أحدهما : أنه حثّ لهم على الهجرة من مكّة إلى حيث يأمنون. والثاني : أنها أرض الجنّة رغّبهم فيها. (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) الذين صبروا لأجل الله تعالى على ما نالهم (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : يعطون عطاء كثيرا أوسع من أن يحسب وأعظم من أن يحاط به ، لا على قدر أعمالهم.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨))

__________________

(١) البقرة : ١١٦.

(٢) آل عمران : ١١٣.

(٣) الصواب أن الآية عامة.

(٤) الرعد : ١٩.

(٥) النحل : ٣٠.


قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ).

(١٢٢٣) قال مقاتل : وذلك أنّ كفّار قريش قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حملك على الذي أتيتنا به؟! ألا تنظر إلى ملّة آبائك فتأخذ بها؟! فنزلت هذه الآية.

والمعنى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي : أمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص السالم من الشّرك ، (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمّة. (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالرّجوع إلى دين آبائي ، (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وقد اختلفوا في نسخ هذه الآية كما بيّنّا في نظيرتها في الأنعام (١). (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) بالتوحيد ، (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) ، وهذا تهديد ، وبعضهم يقول : هو منسوخ بآية السيف ، وهذا باطل ، لأنه لو كان أمرا كان منسوخا ، فأمّا أن يكون بمعنى الوعيد ، فلا وجه لنسخه. (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن صاروا إلى النّار (وَ) خسروا (أَهْلِيهِمْ) فيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنهم خسروا الحور العين اللّواتي أعددن لهم في الجنّة لو أطاعوا ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : خسروا الأهل في النّار ، إذ لا أهل لهم فيها ، قاله مجاهد ، وابن زيد. والثالث : خسروا أهليهم الذين كانوا في الدنيا ، إذ صاروا إلى النّار بكفرهم ، وصار أهلوهم إلى الجنّة بإيمانهم ، قاله الماورديّ. قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) وهي الأطباق من النّار. وإنما قال : (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) لأنّها ظلل لمن تحتهم (ذلِكَ) الذي وصف الله من العذاب (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) المؤمنين.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ).

(١٢٢٤) روى ابن زيد عن أبيه أنّ هذه الآية والتي بعدها نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهليّة يوحّدون الله تعالى : زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذرّ ، وسلمان الفارسيّ ، رضي الله عنهم ؛ قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) بغير كتاب ولا نبيّ.

وفي المراد بالطّاغوت هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : الشياطين ، قاله مجاهد. والثاني : الكهنة ، قاله ابن السّائب. والثالث : الأوثان ، قاله مقاتل ، فعلى قول مقاتل هذا : إنما قال : «يعبدوها» لأنها مؤنّثة. وقال الأخفش : إنما قال : «يعبدوها» لأنّ الطّاغوت في معنى جماعة ، وإن شئت جعلته واحدا مؤنّثا.

____________________________________

(١٢٢٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يصنع الحديث ، فخبره هذا لا شيء.

(١٢٢٤) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٠١٠٨ عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، حدثني أبي ... وهذا مرسل ، وابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو متروك ، والمتن منكر جدا ، والصحيح عموم الآية. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٢٤ وكذلك ابن كثير ٤ / ٥٩ بدون سند.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٩ : والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان ، وأناب إلى عبادة الرحمن. فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) الأنعام : ١٥.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٨ : قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا ، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار ، أو أن الجميع أسكنوا النار ، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور اه.


قوله تعالى : (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أي : رجعوا إليه بالطّاعة (لَهُمُ الْبُشْرى) بالجنّة «فبشر عبادي» بياء ، وحرّك الياء أبو عمرو. ثم نعتهم فقال : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) وفيه قولان : أحدها : أنه القرآن ، قاله الجمهور. فعلى هذا ، في معنى (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أقوال قد شرحناها في الأعراف (١) عند قوله : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها). والثاني : أنه جميع الكلام. ثم في المعنى قولان. أحدهما : أنه الرّجل يجلس مع القوم فيسمع كلامهم ، فيعمل بالمحاسن ويحدّث بها ، ويكفّ عن المساوئ ولا يظهرها ، قاله ابن السّائب. والثاني : أنه لمّا ادّعى مسيلمة أنه قد أتى بقرآن ، وأتت الكهنة بالكلام المزخرف في الأباطيل ، فرّق المؤمنون بين ذلك وبين كلام الله ، فاتّبعوا كلام الله ، ورفضوا أباطيل أولئك ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) قال ابن عباس : سبق في علم الله أنّه في النّار. فإن قيل : كيف اجتمع في هذه الآية استفهامان بلا جواب؟ قيل : أمّا الفرّاء ، فإنه يقول : هذا ممّا يراد به استفهام واحد ، فسبق الاستفهام إلى غير موضعه فردّ إلى موضعه الذي هو له ، فيكون المعنى : أفأنت تنقذ من في النّار من حقّت عليه كلمة العذاب؟ ومثله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٢) فردّ (أَنَّكُمْ) مرّتين ، والمعنى : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متّم؟ ومثله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) ثم قال : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) (٣) فردّ «تحسبنّ» مرتين ، والمعنى : لا تحسبنّ الذين يفرحون بمفازة من العذاب. وقال الزّجاج : يجوز أن يكون في الكلام محذوف ، تقديره : أفمن حقّ عليه كلمة العذاب فيتخلّص منه أو ينجو ، أفأنت تنقذه؟ قال المفسّرون : أفأنت تخلّصه ممّا قدّر له فتجعله مؤمنا؟ والمعنى : ما تقدر على ذلك. قال عطاء : يريد بهذه الآية أبا لهب وولده ومن تخلّف من عشيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان.

قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو جعفر «لكنّ» بتشديد النون وفتحها. قال الزّجّاج : والغرف : هي المنازل الرّفيعة في الجنّة ، (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أي : منازل أرفع منها. (وَعْدَ اللهِ) منصوب على المصدر ؛ فالمعنى : وعدهم الله غرفا وعدا. ومن قرأ : «وعد الله» بالرّفع ؛ فالمعنى : ذلك وعد الله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) قال الشّعبي : كلّ ما في الأرض فمن السّماء ينزل (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) قال ابن قتيبة : أي : أدخله فجعله ينابيع ، أي : عيونا تنبع ، (ثُمَّ يَهِيجُ) أي : ييبس. قال الأصمعيّ : يقال للنّبت إذا تمّ جفافه : قد هاج يهيج هيجا. فأمّا الحطام ، فقال أبو عبيد : هو ما يبس

__________________

(١) الأعراف : ١٤٥.

(٢) المؤمنون : ٣٥.

(٣) آل عمران : ١٨٨.


فتحاتّ من النّبات ، ومثله الرّفات. قال مقاتل : هذا مثل ضرب للدنيا ، بينا ترى النّبت أخضر ، إذ تغيّر فيبس ثمّ هلك ، وكذلك الدّنيا وزينتها. وقال غيره : هذا البيان للدّلالة على قدرة الله عزوجل.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ) قال الزّجّاج : جوابه متروك ، لأنّ الكلام دالّ عليه ، تقديره : أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد؟ ويدلّ على هذا قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ).

(١٢٢٥) وقد روى ابن مسعود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية ، فقلنا : يا رسول الله ، وما هذا الشّرح؟ فذكر حديثا قد ذكرناه في قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١).

قوله تعالى : (فَهُوَ عَلى نُورٍ) فيه أربعة أقوال. أحدها : اليقين ، قاله ابن عباس. والثاني : كتاب الله يأخذ به وينتهي إليه ، قاله قتادة. والثالث : البيان ، قاله ابن السّائب. والرابع : الهدى ، قاله مقاتل. وفيمن نزلت هذه الآية؟ فيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنّها نزلت في أبي بكر الصّدّيق ، وأبيّ بن خلف ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : في عليّ وحمزة وأبي لهب وولده ، قاله عطاء. والثالث : في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أبي جهل ، قاله مقاتل.

____________________________________

(١٢٢٥) متن منكر بأسانيد واهية ، وهو شبه موضوع. إسناده ضعيف جدا ، محمد بن يزيد بن سنان وأبوه ضعيفان ، وفي الإسناد مجاهيل. وبهذا الإسناد أخرجه البغوي في «التفسير» ١٨١٧.

وأخرجه الحاكم ٤ / ٣١١ من طريق محمد بن بشر بن مطر ، والبيهقي في «الشعب» ١٠٥٥٢ من طريق ابن أبي الدنيا كلاهما عن محمد بن جعفر الوركاني عن عدي بن الفضل عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف ، لضعف عدي بن الفضل ، وقد سكت عليه الحاكم ، وأعله الذهبي بوهن ابن الفضل. هذا وله علة ثانية ، المسعودي صدوق إلا أنه اختلط. وأخرجه الطبري ١٣٨٥٩ من وجه آخر عن أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود مرفوعا ، وإسناده ضعيف ، ففي الإسناد مجاهيل ، وعلة ثانية : وهي الإرسال بين أبي عبيدة ، وابن مسعود. وأخرجه الطبري أيضا ١٣٨٦١ من وجه آخر عن عبد الرحمن بن عتبة عن ابن مسعود به مرفوعا وهذا إسناد ضعيف ، عبد الرحمن عن ابن مسعود معضل. وقد ورد من مرسل أبي جعفر ، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٨٥٢ ومن طريقه الطبري ١٣٨٥٦ و ١٣٨٥٧ و ١٣٨٥٨. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» ٣١٥ من وجه آخر عن أبي جعفر به ، هذا مرسل ، ومع إرساله ، أبو جعفر هذا متهم بالوضع. قال أحمد : أحاديثه موضوعة. راجع «الميزان» ٤٦٠٨. وأخرجه الطبري ١٣٨٦٠ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٣٢٦ من وجه آخر عن عبد الله بن المسور. وعبد الله هذا هو أبو جعفر المدائني المتقدم ذكره ، وهو متروك متهم ، فالحديث ضعيف ، ولا يصح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحسبه أن يكون من كلام من دون ابن مسعود ، والله أعلم. وأخرجه البيهقي ٣٢٥ من وجه آخر عن أبي جعفر فجعله من قوله ، ولم يرفعه وقال : وقد روي في هذا خبر مرفوع. وانظر الحديث المتقدم في سورة الأنعام عند آية : ١٢٥. الخلاصة : المتن منكر كونه مرفوعا ، وحسبه أن يكون موقوفا ، أو من كلام أبي جعفر المدني فإنه لا يشبه كلام النبوة ، بل الأشبه أنه من كلام الصوفية والوعاظ ، والله أعلم.

__________________

(١) الأنعام : ١٢٥.

(٢) لا حجة في شيء من ذلك ، والآية عامة.


قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) قد بيّنّا معنى القساوة في البقرة (١). فإن قيل : كيف يقسو القلب من ذكر الله عزوجل؟ فالجواب : أنه كلّما تلي عليهم ذكر الله الذي يكذّبون به ، قست قلوبهم عن الإيمان به. وذهب مقاتل في آخرين إلى أنّ «من» هاهنا بمعنى «عن» ؛ قال الفرّاء : كما تقول : أتخمت عن طعام أكلته ، ومن طعام أكلته ؛ وإنما قست قلوبهم من ذكر الله ، لأنهم جعلوه كذبا فأقسى قلوبهم ؛ ومن قال : قست قلوبهم عنه ، أراد : أعرضت عنه. وقد قرأ أبيّ بن كعب ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمران : «قلوبهم عن ذكر الله» مكان قوله : «من».

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣))

قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يعني القرآن ؛ وقد ذكرنا سبب نزولها في أول يوسف (٢). قوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) فيه قولان : أحدهما : أنّ بعضه يشبه بعضا في الآي والحروف ، فالآية تشبه الآية ، والكلمة تشبه الكلمة ، والحرف يشبه الحرف. والثاني : أنّ بعضه يصدّق بعضا ، فليس فيه اختلاف ولا تناقض.

وإنّما قيل له : (مَثانِيَ) لأنه كرّرت فيه القصص والفرائض والحدود والثّواب والعقاب.

فإن قيل : ما الحكمة في تكرار القصص ، والواحدة قد كانت تكفي؟

فالجواب : أنّ وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن ، فيكون ذلك كافيا لهم ، وكان يبعث إلى القبائل المتفرّقة بالسّور المختلفة ، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة مكرّرة ، لوقعت قصّة موسى إلى قوم ، وقصة عيسى إلى قوم ، وقصة نوح إلى قوم ، فأراد الله تعالى أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها إلى كلّ سمع. فأمّا فائدة تكرار الكلام من جنس واحد ، كقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣) ، وقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (٤) ، وقوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٥) (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (٦) فسنذكرها في سورة الرّحمن عزوجل.

قوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي : تأخذهم قشعريرة ، وهو تغيّر يحدث في جلد الإنسان من الوجل.

(١٢٢٦) وروى العبّاس بن عبد المطّلب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا اقشعرّ جلد العبد من

____________________________________

(١٢٢٦) ضعيف. أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٥٧٨ والبيهقي في «الشعب» ٨٠٣ والبغوي في «تفسيره» ١٨١٨ من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني من حديث العباس وإسناده ضعيف جدا ، يحيى الحماني متروك ، متهم بسرقة الحديث ، وعبد العزيز هو الدراوردي روى مناكير ، وأم كلثوم مجهولة لا تعرف ، وقد توبع الحماني ، وعلة الحديث جهالة أم كلثوم. وأخرجه البزار ٤ / ٧٤ «كشف» والبيهقي ٨٠٣ من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٣١٠ : وفيه أم كلثوم بنت العباس ، ولم أعرفها ، وبقية رجاله ثقات. قلت : الدراوردي ، وإن وثقه غير واحد ، فقد روى مناكير ، راجع «الميزان».

__________________

(١) البقرة : ٧٤.

(٢) يوسف : ٣.

(٣) الرحمن : ١٣.

(٤) الكافرون : ٢.

(٥) القيامة : ٣٤.

(٦) الانفطار : ١٧.


خشية الله ، تحاتّت ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها».

وفي معنى الآية ثلاثة أقوال (١) : أحدها : تقشعرّ من وعيده ، وتلين عند وعده ، قاله السّدّيّ. والثاني : تقشعرّ من الخوف ، وتلين من الرّجاء. والثالث : تقشعرّ الجلود لإعظامه ، وتلين عند تلاوته ، ذكرهما الماوردي. وقال بعض أهل المعاني : مفعول الذّكر في قوله تعالى : (إِلى ذِكْرِ اللهِ) محذوف ، لأنه معلوم ؛ والمعنى : تطمئنّ قلوبهم إلى ذكر الله الجنّة والثّواب. قال قتادة : هذا نعت أولياء الله ، تقشعرّ جلودهم وتلين قلوبهم ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنّما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشّيطان.

(١٢٢٧) وقد روى أبو حازم ، قال : مرّ ابن عمر برجل ساقط من أهل العراق ، فقال : ما شأنه؟ فقالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن يصيبه هذا ، قال : إنّا لنخشى الله عزوجل ، وما نسقط.

(١٢٢٨) وقال عامر بن عبد الله بن الزّبير : جئت أبي ، فقال لي : أين كنت؟ فقلت : وجدت قوما ، ما رأيت خيرا منهم قطّ ، يذكرون الله عزوجل فيرعد واحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله عزوجل ، فقعدت معهم ، فقال : لا تقعد معهم بعدها أبدا ، قال : فرآني كأنّي لم يأخذ ذلك فيّ ، فقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو القرآن ، ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا من خشية الله

____________________________________

وأخرجه أبو يعلى ٦٧٠٣ ومن طريقه البيهقي في «الشعب» ٨٠٤ عن موسى بن محمد عن محمد بن عمر بن عبد الله الرومي قال : حدثني جابر بن يزيد بن رفاعة عن هارون بن أبي الجوزاء. هارون وبقية رجاله وثقوا ، على ضعف في محمد بن عمر ، وثقه ابن حبان. وأورده الحافظ في «المطالب العالية» ٣ / ٢١٨ و ٢١٩ ونسبه إلى أبي يعلى ، ونقل الشيخ حبيب الرحمن عن البوصيري قوله : رواه أبو يعلى والبيهقي بسند ضعيف اه.

وكذا ضعفه العراقي في «تخريج الإحياء» ٤ / ١٦٣ ، وانظر «الضعيفة» ٢٣٤٢.

(١٢٢٧) موقوف. أخرجه البغوي في «تفسيره» ١٨٢١ ، بإسناد ضعيف ، فيه سعيد الجمحي لم يدرك ابن عمر.

(١٢٢٨) انظر ما بعده.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦١ : وقوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) ، أي هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبّار المهيمن العزيز الغفار ، لما يفهمونه من الوعيد والوعد ، والتخويف والتهديد ، تقشعر جلودهم من الخشية والخوف. (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) لما يرجون ويؤمّلون من رحمته ولطفه ، فهم مخالفون لغيرهم من الفجّار من وجوه : أحدها : أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات. الثاني : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيا بأدب وخشية ، ورجاء ومحبة ، وفهم وعلم ، كما قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي : لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها ، بل مصغين إليها ، فاهمين بصيرين بمبانيها ، فلهذا إنما يعملون بها ، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم. الثالث : يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقشعر جلودهم ، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس يهم ، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ، ولهذا فازوا بالقدح المعلى في الدنيا والآخرة.


تعالى ، أفترى أنهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟ قال : فرأيت ذلك كذلك. وقال عكرمة : سئلت أسماء بنت أبي بكر : هل كان أحد من السّلف يغشى عليه من الخوف؟ قالت : لا ، ولكنّهم كانوا يبكون.

(١٢٢٩) وقال عبد الله بن عروة بن الزّبير : قلت لجدّتي أسماء بنت أبي بكر ، كيف كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تعالى ، تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم. فقلت لها : إنّا ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن ، خرّ أحدهم مغشيّا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم.

وكان جوّاب يرعد عند الذّكر ، فقال له إبراهيم النّخعيّ : إن كنت تملكه ، فما أبالي أن لا أعتدّ بك ، وإن كنت لا تملكه ، فقد خالفت من كان قبلك.

قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ) في المشار إليه قولان : أحدهما : أنه القرآن ، قاله مقاتل. والثاني : أنه ما ينزل بالمؤمنين عند تلاوة القرآن من اقشعرار الجلود عند الوعيد ، ولينها عند الوعد ، قاله ابن الأنباري.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) أي : شدّته. قال الزّجّاج : جوابه محذوف ، تقديره : كمن يدخل الجنّة؟ وجاء في التفسير أنّ الكافر يلقى في النّار مغلولا ، ولا يتهيّأ له أن يتّقيها إلّا بوجهه. ثم أخبر عمّا يقول الخزنة للكفّار بقوله تعالى : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) يعني الكافرين (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي : جزاء كسبكم.

قوله تعالى : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من قبل كفّار مكّة (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي : وهم آمنون غافلون عن العذاب ، (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) يعني الهوان والعذاب ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) مما أصابهم في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، ولكنهم لا يعلمون ذلك. (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) أي : وصفنا لهم (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي : من كلّ شبه يشبه أحوالهم.

قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) قال الزّجّاج : (عَرَبِيًّا) منصوب على الحال ، المعنى : ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيّته وبيانه ، فذكر (قُرْآناً) توكيدا ، كما تقول : جاءني زيد رجلا صالحا ، وجاءني عمرو إنسانا عاقلا ، فذكر رجلا وإنسانا توكيدا. قوله تعالى : (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : غير مخلوق. وقال غيره : مستقيم غير مختلف.

____________________________________

(١٢٢٩) موقوف. أخرجه البغوي في «التفسير» ١٨٢٠ بسند فيه خلف بن سالم فمن فوقه رجال الصحيح ، ومن دونه بعضهم معروف ، وبعضهم لم أجد له ترجمة ، لكن توبعوا عند سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» ٥ / ٦١٠ فالخبر صحيح.


(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ثم بيّنه فقال : (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) قال ابن قتيبة : أي : مختلفون ، يتنازعون ويتشاحّون فيه ، يقال : رجل شكس. وقال اليزيديّ : الشّكس من الرّجال : الضّيّق الخلق. قال المفسّرون : وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فإنّ الكافر يعبد آلهة شتّى ، فمثّله بعبد يملكه جماعة يتنافسون في خدمته ، ولا يقدر أن يبلغ رضاهم أجمعين ؛ والمؤمن يعبد الله وحده ، فمثّله بعبد لرجل واحد ، قد علم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه ، فهو في راحة من تشاكس الخلطاء فيه ، فذلك قوله تعالى : (سَلَماً لِرَجُلٍ). قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو إلّا عبد الوارث في غير رواية القزّاز ، وأبان عن عاصم : «ورجلا سالما» بألف وكسر اللام وبالنّصب والتنوين فيهما ؛ والمعنى : ورجلا خالصا لرجل قد سلّم له من غير منازع. ورواه عبد الوارث إلّا القزّاز كذلك ، إلّا أنه رفع الاسمين ، فقال : «ورجل سالم لرجل» ، وقرأ ابن أبي عبلة : «سلم لرجل» بكسر السين ورفع الميم. وقرأ الباقون : (وَرَجُلاً سَلَماً) بفتح السين واللام وبالنصب فيهما والتنوين. والسّلم ، بفتح السين واللام ، معناه الصّلح ، والسّلم ، بكسر السين مثله. قال الزّجّاج : من قرأ : «سلما» و«سلما» فهما مصدران وصف بهما ، فالمعنى ، ورجلا ذا سلّم لرجل وذا سلم لرجل ؛ فالمعنى : ذا سلم ؛ والسّلم : الصّلح ، والسّلم ، بكسر السين مثله. وقال ابن قتيبة : من قرأ «سلما لرجل» أراد : سلّم إليه فهو سلم له. وقال أبو عبيدة : السّلم والسّلم الصّلح.

قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) هذا استفهام معناه الإنكار ، أي : لا يستويان ، لأنّ الخالص لمالك واحد يستحقّ من معونته وإحسانه ما لا يستحقّه صاحب الشّركاء المتشاكسين. وقيل : لا يستويان في باب الرّاحة ، لأنّ هذا قد عرف الطريق إلى رضى مالكه ، وذاك متحيّر بين الشّركاء. قال ثعلب : وإنما قال : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) ولم يقل : مثلين ، لأنهما جميعا ضربا مثلا واحدا ، ومثله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (١) ، ولم يقل : آيتين ، لأنّ شأنهما واحد. وتمّ الكلام هاهنا ، ثم قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : له الحمد دون غيره من المعبودين (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) والمراد بالأكثر الكلّ. ثم أخبر نبيّه بما بعد هذا الكلام أنه يموت ، وأنّ الذين يكذّبون يموتون ، وأنهم يجتمعون للخصومة عند الله عزوجل ، المحقّ والمبطل ، والمظلوم والظالم (٢).

__________________

(١) المؤمنون : ٥٠.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٣ : وقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ، هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق عند موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تحقق الناس موته ، مع قوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ومعنى هذه الآية : ستنقلون من هذه الدار لا محالة ، وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة ، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عزوجل فيفصل بينكم ، ويفتح بالحقّ وهو الفتاح العليم. فينجي المؤمنين المخلصين الموحّدين ، ويعذّب الكافرين الجاحدين المشركين المكذّبين ، ثم إن هذه الآية ، وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين ، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا ، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة.


(١٢٣٠) وقال ابن عمر : نزلت هذه الآية وما ندري ما تفسيرها ، وما نرى أنها نزلت إلّا فينا وفي أهل الكتابين ، حتى قتل عثمان ، فعرفت أنها فينا نزلت. وفي لفظ آخر : حتى وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بأن دعا له ولدا وشريكا (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) وهو التوحيد والقرآن (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي : مقام للجاحدين؟! وهذا استفهام بمعنى التقرير ؛ يعني : إنه كذلك.

قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله عليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد. ثم في الصّدق الذي جاء به قولان : أحدهما : أنه «لا إله إلّا الله» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد ابن جبير. والثاني : القرآن ، قاله قتادة. وفي الذي صدّق به ثلاثة أقوال : أحدها : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، هو جاء بالصّدق ، وهو صدّق به ، قاله ابن عباس ، والشّعبي. والثاني : أنه أبو بكر ، قاله عليّ بن أبي طالب. والثالث : أنهم المؤمنون ، قاله قتادة ، والضّحّاك ، وابن زيد.

والقول الثاني : أن الذي جاء بالصّدق : أهل القرآن ، وهو الصّدق الذي يجيبون به يوم القيامة ، وقد أدّوا حقّه ، فهم الذين صدّقوا به ، قاله مجاهد. والثالث : أنّ الذي جاء بالصّدق الأنبياء ، قاله الرّبيع ، فعلى هذا ، يكون الذي صدّق به : المؤمنون. والرابع : أنّ الذي جاء بالصّدق : جبريل ، وصدّق به : محمّد ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي : الذين اتّقوا الشّرك ؛ وإنما قيل : «هم» ، لأنّ معنى «الذي» معنى الجمع ، كذلك قال اللغويون ، وأنشد أبو عبيدة ، والزّجّاج :

____________________________________

(١٢٣٠) حسن ، أخرجه النسائي في «التفسير» ٤٦٧ والطبري ٣٠١٣٩ كلاهما عن ابن عمر ، وإسناده حسن ، رجاله ثقات معروفون ، ويشهد له خبر عن أبي سعيد الخدري مثله. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» ٤ / ٥٣٢ لسعيد بن منصور ، وعزاه ابن حجر في «تخريجه» ٤ / ٢٧ للثعلبي.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ١١ / ٥ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره عنى بقوله (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) كل من دعا إلى توحيد الله ، وتصديق رسله ، والعمل بما ابتعث به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين رسل الله وأتباعه والمؤمنين به ، وأن يقال الصدق : هو القرآن ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، والمصدّق به : المؤمنون بالقرآن ، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه. ووافقه ابن كثير. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٦٥ : وهذا القول الذي قاله مجاهد يشمل كل المؤمنين ، فإن المؤمن يقول الحقّ ويعمل به ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.


فإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم ، كلّ القوم ، يا أمّ خالد (١)

قوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ) المعنى : أعطاهم ما شاؤوا ليكفّر عنهم (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) ، أي : ليستر ذلك بالمغفرة (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) بمحاسن أعمالهم ، لا بمساوئها.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ).

(١٢٣١) ذكر المفسّرون أنّ مشركي مكّة قالوا : يا محمّد ، ما تزال تذكر آلهتنا وتعيبها ، فاتّق أن تصيبك بسوء ، فنزلت هذه الآية. والمراد بعبده هاهنا : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «عباده» على الجمع ، وهم الأنبياء ، لأنّ الأمم قصدتهم بالسّوء ؛ فالمعنى أنه كما كفى الأنبياء قبلك يكفيك ، وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وأبو عمران الجوني : «بكافي» مثبتة الياء «عبده» بكسر الدال والهاء من غير ألف. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو العالية ، وأبو الجوزاء ، والشّعبي مثله ، إلّا أنهم أثبتوا الألف في «عبادة» وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعمش : «بكاف» بالتنوين ، «عباده» على الجمع. وقرأ ابن مسعود ، وأبو رجاء العطاردي : «يكافي» بياء مرفوعة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء «عباده» على الجمع.

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي : بالذين يعبدون من دونه ، وهم الأصنام. ثم أعلم بما بعد هذا أن الإضلال والهداية إليه تعالى ، وأنه منتقم ممّن عصاه. ثم أخبر أنهم مع عبادتهم ، يقرّون أنه الخالق. ثم أمر أن يحتجّ عليهم بأنّ ما يعبدون لا يملك كشف ضرّ ولا جلب خير. وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «كاشفات ضرّه» و«ممسكات رحمته» منوّنا. والباقون : «كاشفات ضرّه» و«ممسكات رحمته» على الإضافة.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١))

قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا) ذكر بعض المفسّرين أنها والآية التي تليها نسخت بآية السيف. قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (لِلنَّاسِ) أي : لجميع الخلق (بِالْحَقِ) ليس فيه

____________________________________

(١٢٣١) ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٢٦٣٤ عن قتادة قال : قال لي رجل ... فذكره ، وهو ضعيف لجهالة الرجل.

__________________

(١) البيت للأشهب بن رميلة ، وهو في «الكتاب» ١ / ٩٦ ، وقد تقدم في الجزء الأول.


باطل. وتمام الآية مفسّر في آخر يونس (١) ، وذكروا أنه منسوخ بآية السيف.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢))

قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي : يقبض الأرواح حين موت أجسادها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) أي : ويتوفّى التي لم تمت (فِي مَنامِها). (فَيُمْسِكُ) أي : عن الجسد والنفس (الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «قضي» بضم القاف وفتح الياء ، «الموت» بالرفع. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) إلى الجسد (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو انقضاء العمر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في أمر البعث (٢). وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام ، فيتعارفون ويتساءلون ، ثم تردّ أرواح الأحياء إلى أجسادها ، فلا يخطأ بشيء منها ، فذلك قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وقال ابن عباس في رواية أخرى : في ابن آدم نفس وروح ، فبالنّفس العقل والتّمييز ، وبالرّوح النفس والتّحريك ، فإذا نام العبد ، قبض الله نفسه ولم يقبض روحه (٣). وقال ابن جريج : في الإنسان روح ونفس ، بينهما حاجز ، فهو تعالى يقبض النّفس عند النّوم ثم يردّها إلى الجسد عند الانتباه ، فإذا أراد إماتة العبد في نومه ، لم يردّ النّفس وقبض الرّوح. وقد اختلف العلماء ، هل بين النّفس والرّوح فرق (٤)؟ على قولين : قد ذكرتهما في «الوجوه والنظائر» ، وزدت هذه الآية شرحا في

__________________

(١) يونس : ١٠٨.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ١٠ : وقوله تعالى ذكره : إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعد نفس هذا ترجع إلى جسمها ، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبّر ، وبيانا له أن الله يحيى من يشاء من خلقه إذا شاء ، ويميت من شاء إذا شاء.

(٣) أثر ابن عباس ، قال عنه الحافظ في «تخريجه» ٤ / ١٣١ : لم أجده.

قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٥ / ٢٢٨ : قال القشيري أبو النصر ـ رحمه‌الله ـ : وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال : (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فإذا يقبض الله الروح في حالين : في حالة النوم وحالة الموت ، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض ، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله : (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان.

فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية.

(٤) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع» ١٥ / ٢٢٩ : والأظهر أنهما شيء واحد ، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب ، من ذلك : حديث أم سلمة قالت : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه ، ثم قال : «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» أخرجه مسلم ٩٢٠. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره» قال : فذلك حين يتبع بصره نفسه» أخرجه مسلم ٩٢١. وحديث أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا : اخرجي أيها النفس الطيبة كانت في الجسر الطيب اخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء». وإسناده صحيح. أخرجه أحمد ٢ / ٢٦٤ ـ ٢٨٨ وابن ماجة ٤٢٦٢. وفي صحيح مسلم ٢٨٧٢ عنه رضي الله عنه قال : «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها». وقال بلال في حديث الوادي الذي أخرجه مسلم ٢٨٧٢ : أخذ بنفسي يا رسول الله.


«باب التّوفّي» في كتاب «النظائر». وذهب بعض العلماء إلى أنّ التّوفّي المذكور في حقّ النّائم هو نومه. وهذا اختيار الفرّاء وابن الأنباري ؛ فعلى هذا ، يكون معنى توفّي النّائم : قبض نفسه عن التصرّف ، وإرسالها : إطلاقها باليقظة للتّصرّف.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤))

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا) يعني كفّار مكّة (١). وفي المراد بالشّفعاء قولان : أحدهما : أنّها الأصنام ، زعموا أنها تشفع لهم في حاجاتهم ، قاله الأكثرون. والثاني : الملائكة ، قاله مقاتل.

(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) من الشّفاعة (وَلا يَعْقِلُونَ) أنّكم تعبدونهم؟! وجواب هذا الاستفهام محذوف ، تقديره : أولو كانوا بهذه الصّفة تتّخذونهم؟!.

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي : لا يملكها أحد إلّا بتمليكه ، ولا يشفع عنده أحد إلّا بإذنه.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))

قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : انقبضت عن التوحيد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : استكبرت ، قاله قتادة. والثالث : نفرت ، قاله أبو عبيدة ، والزّجّاج. قوله تعالى : (إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره (٢) إلى قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). قال السّدّيّ : ظنّوا أنّ أعمالهم حسنات ، فبدت لهم سيئات. وقال غيره : عملوا أعمالا ظنّوا أنّها تنفعهم ، فلم تنفع مع شركهم. قال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنّه نازل بهم ؛ فهذا

__________________

الذي بنفسك. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي ـ متفق عليه ـ : «يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردّها إلينا في حين غير هذا»

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «جامع البيان» ١١ / ١٠ : يقول تعالى ذكره : أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم. وقوله : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا محمد لهم : أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ولا يعقلون شيئا ، قل لهم : إن تكونوا تعبدونها لذلك ، وتشفع لكم عند الله ، فأخلصوا عبادتكم لله. وأفردوه بالألوهة ، فإن الشفاعة جميعا له لا يشفع عنده إلا من أذن له ، ورضي له قولا ، وأنتم متى أخلصتم له العبادة ، فدعوتموه ، شفعكم (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فاعبدوا الذي له سلطان السموات والأرض وملكها ثم إلى الله مصيركم ، وهو معاقبكم على إشراككم به ، إن متم على شرككم.

(٢) البقرة : ١١٣ ، الأنعام : ١٤ ـ ٧٣ ، الرعد : ١٨.


القول يحمل وجهين : أحدهما : أنّهم كانوا يرجون القرب من الله بعبادة الأصنام ، فلمّا عوقبوا عليها ، بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون. والثاني : أنّ البعث والجزاء لم يكن في حسابهم. وروي عن محمّد بن المنكدر أنه جزع عند الموت وقال : أخشى هذه الآية أن يبدو لي ما لا أحتسب. قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ) أي : نزل بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : ما كانوا ينكرونه ويكذّبون به.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

قوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) قال مقاتل : هو أبو حذيفة بن المغيرة ، وقد سبق في هذه السّورة نظيرها (١). وإنما كنّى عن النّعمة بقوله تعالى : (أُوتِيتُهُ) ، لأنّ المراد بالنّعمة : الإنعام. (عَلى عِلْمٍ) عندي ، أي : على خير علمه الله عندي. وقيل : على علم من الله بأنّي له أهل ، قال الله تعالى : (بَلْ هِيَ) يعني النّعمة التي أنعم الله عليه بها (فِتْنَةٌ) أي : بلوى يبتلى بها العبد ليشكر أو يكفر ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ ذلك استدراج لهم وامتحان. وقيل : «بل هي» أي : المقالة التي قالها «فتنة». (قَدْ قالَهَا) يعني تلك الكلمة ، وهي قوله عزوجل : «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفيهم قولان : أحدهما : أنّهم الأمم الماضية ، قاله السّدّيّ. والثاني : قارون ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) أي : ما دفع عنهم العذاب (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : من الكفر. والثاني : من عبادة الأصنام. والثالث : من الأموال. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي : جزاء سيّئاتهم ، وهو العذاب. ثم أوعد كفّار مكّة ، فقال : (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : إنهم لا يعجزون الله ولا يفوتونه. قال مقاتل : ثم وعظهم ليعلموا وحدانيّته حين مطروا بعد سبع سنين ، فقال : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في بسط الرزق وتقتيره (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(١٢٣٢) أحدها : أنّ ناسا من المشركين كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا رسول

____________________________________

(١٢٣٢) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨١٠ عن إبراهيم بن موسى بن عن ابن عباس وأخرجه مسلم ١٢٢ وأبو داود

__________________

(١) الزمر : ٨.


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنّ الذي تدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفّارة ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(١٢٣٣) والثاني : أنها نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ، ثم عذّبوا فافتتنوا ، فكان أصحاب رسول الله يقولون : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلا ، قوم تركوا دينهم بعذاب عذّبوه ؛ فنزلت هذه الآية ، فكتبها عمر إلى عيّاش والوليد وأولئك النّفر ، فأسلموا وهاجروا ؛ وهذا قول ابن عمر.

والثالث : أنها نزلت في وحشيّ ؛ وهذا القول ذكرناه مشروحا في آخر الفرقان (١) عن ابن عباس.

(١٢٣٤) والرابع : أنّ أهل مكّة قالوا : يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النّفس التي حرّم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد فعلنا ذلك؟! فنزلت هذه الآية ؛ وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا.

ومعنى (أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ارتكبوا الكبائر. والقنوط بمعنى اليأس. (وَأَنِيبُوا) بمعنى ارجعوا إلى الله من الشّرك والذّنوب ، (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي : أخلصوا له التوحيد. و«تنصرون» بمعنى تمنعون. (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) قد بيّنّاه في قوله عزوجل : (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) (٢).

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

قوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) قال المبرّد : المعنى : بادروا قبل أن تقول نفس ، وحذرا من أن تقول نفس. وقال الزّجّاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها هذا القول. ومعنى (يا حَسْرَتى) يا

____________________________________

٤٢٧٤ والنسائي في «التفسير» ٤٦٩ والحاكم في «المستدرك» ٢ / ٤٠٣ والبيهقي ٩ / ٩٨ والواحدي في «أسباب النزول» ٦٥٨ كلهم من طريق يعلى بن مسلم به. وأخرجه الطبري ٢٦٥١٢ من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به.

(١٢٣٣) حسن. أخرجه الحاكم ٢ / ٤٣٥ والطبري ٢٠١٨٢ و ٢٠١٨٣ والواحدي ٧٣٠ من حديث ابن عمر عن عمر به ، صححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وهو حسن لأجل ابن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث فانتفت شبهة التدليس. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٥٣١٤ بتخريجنا.

(١٢٣٤) أخرجه الواحدي ٧٢٧ معلقا ، ووصله ابن أبي حاتم كما في أسباب النزول للسيوطي ٩٥٥ عن ابن عباس ، وصححه السيوطي. والحديث ١٢٣٢ أصح منه. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٣١٦ بتخريجنا.

قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ١٧ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك ، لأن الله عمّ بقوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) جميع المسرفين ، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف.

وقال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٧٠ : هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت ، وإن كثرت مثل زبد البحر. ولا يصح حمل هذه على غير توبة ، لأن الشرك لا يغفر ما لم يتب منه.

__________________

(١) الفرقان : ٦٨.

(٢) الأعراف : ١٤٥.


ندامتا ويا حزنا. والتّحسّر : الاغتمام على ما فات. والألف في «يا حسرتا» هي ياء المتكلّم ، والمعنى : يا حسرتي ، على الإضافة. قال الفرّاء : والعرب تحوّل الياء إلى الألف في كلّ كلام معناه الاستغاثة ويخرج على لفظ الدّعاء ، وربما أدخلت العرب الهاء بعد هذه الألف ، فيخفضونها مرّة ، ويرفعونها أخرى. وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وأبو عمران ، وأبو الجوزاء : «يا حسرتي» بكسر التاء ، على الإضافة إلى النّفس. وقرأ معاذ القارئ ، وأبو جعفر : «يا حسرتاي» ، بألف بعد التاء وياء مفتوحة ، قال الزّجّاج : وزعم الفرّاء أنه يجوز «يا حسرتاه على كذا» بفتح الهاء ، و«يا حسرتاه» بالضمّ والكسر ، والنّحويّون أجمعون لا يجيزون أن تثبت هذه الهاء مع الوصل.

قوله تعالى : (فِي جَنْبِ اللهِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : في طاعة الله تعالى ، قاله الحسن. والثاني : في حقّ الله ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : في أمر الله ، قاله مجاهد ، والزّجّاج. والرابع : في ذكر الله ، قاله عكرمة ، والضّحّاك. والخامس : في قرب الله ؛ روي عن الفرّاء أنه قال : الجنب : القرب ، أي : في قرب الله وجواره ، يقال : فلان يعيش في جنب فلان ، أي : في قربه وجواره ؛ فعلى هذا يكون المعنى : على ما فرّطت في طلب قرب الله تعالى ، وهو الجنّة.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي : وما كنت إلّا من المستهزئين بالقرآن وبالمؤمنين في الدّنيا. (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) أي : أرشدني إلى دينه (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) الشّرك ؛ فيقال لهذا القائل : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) قال الزّجّاج : و«بلى» جواب النّفي ، وليس في الكلام لفظ النّفي ، غير أنّ معنى «لو أن الله هداني» : ما هديت ، فقيل : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي). وروى ابن أبي سريج عن الكسائيّ : «جاءتك» ، «فكذّبت» ، «واستكبرت» ، «وكنت» ، بكسر التاء فيهنّ ، مخاطبة للنّفس. ومعنى «استكبرت» : تكبّرت عن الإيمان بها.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) فزعموا أنّ له ولدا وشريكا (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ). وقال الحسن : هم الذين يقولون : إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل. وباقي الآية قد ذكرناه آنفا. قوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : (بِمَفازَتِهِمْ). قال الفرّاء. وهو كما قد تقول : قد تبيّن أمر القوم وأمورهم ، وارتفع الصوت والأصوات ، والمعنى واحد. وفيها للمفسّرين ثلاثة أقوال : أحدها : بفضائلهم ، قاله السّدّيّ. والثاني : بأعمالهم ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والثالث : بفوزهم من النّار. قال المبرّد : المفازة : مفعلة من الفوز ، وإن جمع فحسن ، كقولك : السّعادة والسّعادات ، والمعنى : ينجّيهم الله بفوزهم ، أي : بنجاتهم من النّار وفوزهم بالجنّة.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن قتيبة : أي : مفاتيحها وخزائنها ، لأنّ مالك المفاتيح مالك الخزائن ، واحدها : إقليد ، وجمع على غير واحد ، كما قالوا : مذاكير جمع ذكر ، ويقال : هو


فارسيّ معرّب. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي : الإقليد : المفتاح ، فارسي معرّب ، قال الراجز :

لم يؤذها الدّيك بصوت تغريد

ولم تعالج غلقا بإقليد

والمقليد : لغة في الإقليد ، والجمع : مقاليد. وللمفسّرين في المقاليد قولان : أحدهما : المفاتيح ، قاله ابن عباس. والثاني : الخزائن ، قاله الضّحّاك. وقال الزّجّاج : تفسيره أنّ كلّ شيء في السّموات والأرض ، فهو خالقه وفاتح بابه. قال المفسّرون : مفاتيح السّموات : المطر ، ومفاتيح الأرض : النّبات.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) قرأ نافع ، وابن عامر : «تأمروني أعبد» مخفّفة ، غير أنّ نافعا فتح الياء ، ولم يفتحها ابن عامر. وقرأ ابن كثير : «تأمرونّي» بتشديد النون وفتح الياء ، وقرأ الباقون بسكون الياء. وذلك حين دعوه إلى دين آبائه (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي : فيما تأمرون.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ، وكذلك أوحي إلى الذين من قبلك. قال أبو عبيدة : ومجازها مجاز الأمرين اللّذين يخبر عن أحدهما ويكفّ عن الآخر. قال ابن عباس : هذا أدب من الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لغيره ، لأنّ الله عزوجل قد عصمه من الشّرك. وقال غيره : إنما خاطبه بذلك ، ليعرف من دونه أنّ الشّرك يحبط الأعمال المتقدّمة كلّها ولو وقع من نبيّ. وقرأ أبو عمران وابن السّميفع ويعقوب : «لنحبطنّ» بالنون ، «عملك» ، بالنّصب. (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) أي : وحّد.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

(١٢٣٥) سبب نزولها أنّ رجلا من أهل الكتاب أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أبا القاسم ، بلغك أنّ الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع والأرضين على إصبع والشّجر على إصبع والثّرى على إصبع؟ فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، قاله ابن مسعود. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين نحوه عن ابن مسعود.

____________________________________

(١٢٣٥) صحيح. وليس فيه سبب نزول الآية. وورد عند الواحدي في «أسباب النزول» ٧٣١ وفيه سبب نزول الآية.

وأخرجه البخاري ٤٨١١ والبغوي في شرح السنة ٤١٩٩ بإسنادهما من حديث ابن مسعود ، وأحمد ١ / ٤٥٧ والآجري في «الشريعة» ٧٥١ والبيهقي في «الاعتقاد» ص ٣٣٤ من طريق شيبان به. وأخرجه البخاري ٧٥١٣ ومسلم ٢٧٨٦ ح ٢٠ والنسائي في «التفسير» ٤٧٠ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٧٨ والآجري في «الشريعة» ٧٥٠ وابن حبان ٧٣٢٦ وابن أبي عاصم في «السنة» ٥٤١ والبيهقي ص ٣٣٥ من طرق عن جرير به. وأخرجه البخاري ٧٤١٤ ومسلم ٢٧٨٦ ح ١٩ والترمذي ٣٢٣٨ و ٣٢٣٩ والنسائي في «التفسير» ٤٧١ والطبري ٣٠٢١٧ وابن خزيمة ص ٧٧ والآجري ٧٥٣ وابن أبي عاصم ٥٤٢ والبيهقي ص ٣٣٥ من طرق عن منصور به. وأخرجه البخاري ٧٤١٥ ومسلم ٢٧٨٦ ح ٢١ و ٢٢ والنسائي ٤٧٢ من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة به.


وقد فسّرنا أول هذه الآية في الأنعام (١). قال ابن عباس : هذه الآية في الكفّار ، فأمّا من آمن بأنه على كلّ شيء قدير ، فقد قدر الله حقّ قدره. ثم ذكر عظمته بقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

(١٢٣٦) وقد أخرج البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض؟».

(١٢٣٧) وأخرجا من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يطوي الله عزوجل السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهنّ بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبّارون ، أين المتكبّرون؟». قال ابن عباس : الأرض والسموات كلّها بيمينه. وقال سعيد بن جبير : السموات قبضة والأرضون قبضة.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ) وقرأ ابن السّميفع ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «فصعق» بضمّ الصاد (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : ماتوا من الفزع وشدّة الصّوت. وقد بيّنا هذه الآية والخلاف في الذين استثنوا في سورة النّمل (٢). (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) وهي نفخة البعث (فَإِذا هُمْ) يعني الخلائق (قِيامٌ يَنْظُرُونَ). قوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي : أضاءت. والمراد بالأرض : عرصات القيامة. قوله تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) فيه قولان : أحدهما : كتاب الأعمال ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثاني : الحساب ، قاله السّدّيّ. وفي الشهداء قولان : أحدهما : أنهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم ، قاله الجمهور. ثم فيهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم المرسلون من الأنبياء. والثاني : أمّة محمّد يشهدون للرّسل بتبليغ الرّسالة ، وتكذيب الأمم إيّاهم ، رويا عن ابن عباس رضي الله عنه. والثالث : الحفظه ، قاله عطاء. الرابع : النّبيّون والملائكة وأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجوارح ، قاله ابن زيد. والثاني : أنهم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، قاله قتادة ، والأول أصحّ. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي : جزاء عملها (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) أي : لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد.

____________________________________

(١٢٣٦) صحيح. أخرجه البخاري ٦٥١٩ ومسلم ٢٧٨٧ وأبو يعلى ٥٨٥٠ من طريق ابن المبارك به عن أبي هريرة.

وأخرجه البخاري ٧٣٨٢ والنسائي في «التفسير» ٤٧٥ وابن ماجة ١٩٢ من طريق ابن وهب عن يونس به.

وأخرجه البخاري ٤٨١٢ والدارمي ٢ / ٣٢٥ من طريقين عن الزهري : سمعت أبا سلمة ، سمعت أبا هريرة ...

(١٢٣٧) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٨٨ ح ٢٤ وأبو داود ٤٧٣٢ وأبو يعلى ٥٥٥٨ وابن أبي عاصم في «السنة» ٥٤٧ والطبري ٣٠٢٢٨ وأبو الشيخ في «العظمة» ١٣٩ من طرق عن أبي أسامة به. وذكره البخاري ٧٤١٣ تعليقا عن عمر بن حمزة به. وأخرجه مسلم ٢٧٨٨ وابن ماجة ١٩٨ و ٤٢٧٥ والطبري ٣٠٢٢٣ والطبراني ١٣٣٢٧ وأبو الشيخ في «العظمة» ١٣١ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٧٢ ـ ٧٣ وابن حبان ٧٣٢٤ من طرق عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر به.

__________________

(١) الأنعام : ٩١.

(٢) النمل : ٨٧.


(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) قال أبو عبيدة : الزّمر : جماعات في تفرقة بعضهم على إثر بعض ، واحدها : زمرة. قوله تعالى : (رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي : أنفسكم. و (كَلِمَةُ الْعَذابِ) هي قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١). قوله تعالى : (فُتِحَتْ أَبْوابُها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «فتّحت» «وفتّحت» مشدّدتين ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : بالتخفيف. وفي هذه الواو ثلاثة أقوال : أحدها : أنها زائدة ، روي عن جماعة من اللغويّين منهم الفرّاء. والثاني : أنها واو الحال ؛ فالمعنى : جاءوها وقد فتحت أبوابها ، فدخلت الواو لبيان أنّ الأبواب كانت مفتّحة قبل مجيئهم ، وحذفت من قصة أهل النار لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم ، ووجه الحكمة في ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ أهل الجنّة جاءوها وقد فتحت أبوابها ليستعجلوا السّرور والفرح إذا رأوا الأبواب مفتّحة ، وأهل النّار يأتونها وأبوابها مغلقة ليكون أشدّ لحرّها ، ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا من أصحابنا. والثاني : أنّ الوقوف على الباب المغلق نوع ذلّ ، فصين أهل الجنّة عنه ، وجعل في حقّ أهل النّار ، ذكره لي بعض مشايخنا والثالث : أنه لو وجد أهل الجنّة بابها مغلقا لأثّر انتظار فتحه في كمال الكرم ، ومن كمال الكرم غلق باب النّار إلى حين مجيء أهلها ، لأنّ الكريم يعجّل المثوبة ، ويؤخّر العقوبة ، وقد قال عزوجل : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (٢) ؛ قال المصنّف : هذا وجه خطر لي. والقول الثالث : أنّ الواو زيدت ، لأنّ أبواب الجنّة ثمانية ، وأبواب النّار سبعة ، والعرب تعطف في العدد بالواو على ما فوق السبعة على ما ذكرناه في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٣) ، حكى هذا القول والذي قبله الثّعلبي. واختلف العلماء أين جواب هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الجواب محذوف ، قاله أبو عبيدة ، والمبرّد ، والزّجّاج في آخرين. وفي تقدير هذا المحذوف قولان : أحدهما : أنّ تقديره : (حَتَّى إِذا جاؤُها) إلى آخر الآية ... سعدوا ، قاله المبرّد. والثاني : (حَتَّى إِذا جاؤُها) إلى قوله تعالى : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) .. دخلوها ، وإنّما حذف ، لأنّ في الكلام دليلا عليه ، وهذا اختيار الزّجّاج. والقول الثاني : أنّ الجواب : قال لهم خزنتها ، والواو زائدة ، ذكره الأخفش ، قال : ومثله في الشّعر.

__________________

(١) الأعراف : ١٨.

(٢) النساء : ١٤٧.

(٣) الكهف : ٢٢.


فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن

إلّا كلمّة حالم بخيال (١)

أي : فإذا ذلك. والثالث : الجواب : حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ، والواو زائدة ، حكاه الزّجّاج عن قوم من أهل اللغة.

وفي قوله تعالى : (طِبْتُمْ) خمسة أقوال : أحدها : أنهم إذا انتهوا إلى باب الجنّة وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فلا يبقى في بطونهم أذى ولا قذى إلّا خرج ، ويغتسلون من الأخرى ، فلا تغبرّ جلودهم ولا تشعّث أشعارهم أبدا. حتى إذا انتهوا إلى باب الجنّة قال لهم عند ذلك خزنتها : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) ، رواه عاصم بن ضمرة عن عليّ رضي الله عنه (٢) ، وقد ذكرنا في الأعراف (٣) نحوه عن ابن عباس. والثاني : طاب لكم المقام ، قاله ابن عباس. والثالث : طبتم بطاعة الله ، قاله مجاهد. والرابع : أنهم طيّبوا قبل دخول الجنّة بالمغفرة ، واقتصّ من بعضهم لبعض ، فلمّا هذّبوا قالت لهم الخزنة : طبتم ، قاله قتادة (٤). والخامس : كنتم طيّبين في الدّنيا ، قاله الزّجّاج. فلمّا دخلوها قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بالجنّة (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنّة نتبوّأ منها حيث نشاء منها أي : نتّخذ فيها من المنازل ما نشاء. وحكى أبو سليمان الدّمشقي أنّ أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلون الجنّة قبل الأمم ، فينزلون منها حيث شاؤوا ، ثم تنزل الأمم بعدهم فيها ، فلذلك قالوا : (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) ؛ يقول الله عزوجل : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي : نعم ثواب المطيعين في الدّنيا الجنّة.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) : أي محدقين به ، يقال : حفّ القوم بفلان : إذا أحدقوا به ؛ ودخلت «من» للتوكيد ، كقولك : ما جاءني من أحد. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قال السّدّيّ ، ومقاتل : بأمر ربّهم. وقال بعضهم : يسبّحون بالحمد له حيث دخل الموحّدون الجنّة. وقال ابن جرير : التّسبيح هاهنا بمعنى الصّلاة.

قوله تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : بين الخلائق (بِالْحَقِ) أي : بالعدل (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا قول أهل الجنّة شكرا لله تعالى على إنعامه. قال المفسّرون : ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٥) وختم غاية الأمر ـ وهو استقرار الفريقين في منازلهم ـ بالحمد لله بهذه الآية ، فنبّه على تحميده في بداية كلّ أمر وخاتمته.

__________________

(١) البيت لتميم بن مقبل ، وهو في ديوانه ٢٥٩.

(٢) أخرجه الطبري ٣٠٢٥٤ وابن المبارك في «الزهد» ص ٥٠٩ ـ ٥١٠ والبيهقي في «البعث» ٢٧٢ عن عاصم عن علي ، وإسناده لا بأس به.

(٣) الأعراف : ٤٤.

(٤) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري ٢٤٤٠ و ٦٥٣٥ وابن أبي عاصم ٨٥ وابن مندة في «الإيمان» ٨٣٨ واستدركه الحاكم ٢ / ٣٥٤ وابن حبان ٧٤٣٤ كلهم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخلص المؤمنون من النار منحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة ، فو الذي نفس محمد بيده لأحدكم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» لفظ البخاري. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٣٤٠ بتخريجنا.

(٥) الأنعام : ١.


سورة الغافر

قال أبو سليمان الدّمشقي : ويقال لها : سورة الطّول (١). وهي مكّيّة! قاله ابن عباس ، والحسن : ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آيتين نزلتا بالمدينة : قوله : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) والتي بعدها (٢). قال الزّجّاج : وذكر أنّ الحواميم كلّها نزلت بمكّة.

قال ابن قتيبة : يقال : إنّ «حم» اسم من أسماء الله أضيفت هذه السّورة إليه. كأنه قيل : سورة الله ، لشرفها وفضلها ، فقيل : آل حاميم ، وإن كان القرآن كلّه سور الله ، وإنّ هذا كما يقال : بيت الله ، وحرم الله ، وناقة الله ، قال الكميت :

وجدنا لكم في آل حاميم آية

تأوّلها منّا تقيّ ومعرب (٣)

وقد تجعل «حم» اسما للسّورة ، ويدخل الإعراب ولا يصرف ، ومن قال هذا في الجميع : الحواميم ، كما يقال : «طس» والطّواسين. وقال محمّد بن القاسم الأنباري : العرب تقول : وقع في الحواميم ، وفي آل حميم ، أنشد أبو عبيدة :

حلفت بالسّبع اللّواتي طوّلت

وبمئين بعدها قد أمئيت

وبمثان ثنّيت فكررت

وبالطّواسين اللّواتي ثلّثت

وبالحواميم اللّواتي سبّعت

فمن قال : وقع في آل حاميم ، جعل حاميم اسما لكلّهنّ ؛ ومن قال : وقع في الحواميم ، جعل «حم» كأنه حرف واحد بمنزلة قابيل وهابيل.

وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغويّ قال : من الخطأ أن تقول : قرأت الحواميم ، وليس من كلام العرب ، والصّواب أن تقول : قرأت آل حاميم. وفي حديث ابن مسعود : «إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات» (٤) ، وقال الكميت :

وجدنا لكم في آل حاميم آية

__________________

(١) ويقال لها : سورة المؤمن.

(٢) غافر : ٣٥ ـ ٣٦.

(٣) البيت في «الكتاب» ٢ / ٣٠ و«مجاز القرآن» ٢ / ١٩٣ و«اللسان» ـ عرب ـ.

(٤) في «اللسان» الدّمث : المكان اللين ذو رمل.


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

وفي (حم) أربعة أقوال (١) : أحدها : قسم أقسم الله به وهو من أسمائه عزوجل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس : قال أبو سليمان : وقد قيل : إنّ جواب القسم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) (٢). والثاني : أنها حروف من أسماء الله عزوجل ، ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ «الر» و«حم» و«ن» حروف الرّحمن ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : أنّ الحاء مفتاح اسمه «حميد» ، والميم مفتاح اسمه «مجيد» ، قاله أبو العالية. والثالث : أنّ الحاء مفتاح كلّ اسم لله ابتداؤه حاء ، مثل «حكيم» ، و«حليم» ، و«حيّ» ، والميم مفتاح كلّ اسم له ابتداؤه ميم مثل «ملك» ، و«متكبّر» ، و«مجيد» ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي. وروي نحوه عن عطاء الخراسانيّ. والثالث : أنّ معنى «حم» : قضي ما هو كائن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروي عن الضّحّاك والكسائيّ مثل هذا ، كأنهما أرادا الإشارة إلى حمّ ، بضمّ الحاء وتشديد الميم. قال الزّجّاج : وقد قيل في «حم» : حمّ الأمر. والرابع : أنّ «حم» اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة. وقرأ ابن كثير : «حم» بفتح الحاء ؛ وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : بكسرها ؛ واختلف عن الباقين. قال الزّجّاج : أمّا الميم فساكنة في قراءة القرّاء كلّهم إلّا عيسى بن عمر ، فإنه فتحها ؛ وفتحها على ضربين. أحدهما : أن يجعل «حم» اسما للسّورة ، فينصبه ولا ينوّنه ، لأنه على لفظ الأسماء الأعجميّة نحو هابيل وقابيل. والثاني : على معنى : اتل حم ؛ والأجود أن يكون فتح لالتقاء السّاكنين حيث جعله اسما للسّورة ، ويكون حكاية حروف الهجاء.

قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي : هذا تنزيل الكتاب. والتّوب : جمع توبة ، وجائز أن يكون مصدرا من تاب يتوب توبا. والطّول : الفضل. قال أبو عبيدة : يقال : فلان ذو طول على قومه ، أي : ذو فضل. وقال ابن قتيبة : يقال : طل عليّ يرحمك الله ، أي : تفضّل. قال الخطّابي : ذو : حرف النّسبة ، والنسبة في كلامهم على ثلاثة أوجه : بالياء ، كقولهم : أسديّ ، وبكريّ. والثاني : على الجمع ، كقولهم : المهالبة ، والمسامعة ، والأزارقة. والثالث : ب «ذي» و«ذات» ، كقولهم : رجل مال ، أي : ذو مال ، وكبش صاف ، أي : ذو صوف ، وناقة ضامر ، أي : ذات ضمر ، فقوله : ذو الطّول ، معناه : أهل الطّول والفضل.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٣٨ : والقول عندي في ذلك نظير القول في أخواتها ، وقد بيّنا ذلك في قوله تعالى (الم) ففي ذلك كفاية عن إعادته في هذا الموضع ، إذ كان القول في (حم) وجميع ما جاء في القرآن على هذا الوجه ، أعني حروف التهجي قولا واحدا. اه.

(٢) غافر : ١٠.


فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

قوله تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) أي : ما يخاصم فيها بالتّكذيب لها ودفعها بالباطل (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وباقي الآية في آل عمران (١) ؛ والمعنى : إنّ عاقبة أمرهم إلى العذاب كعاقبة من قبلهم. قوله تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) فيه قولان : أحدهما : ليقتلوه ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : ليحبسوه ويعذّبوه ، ويقال للأسير : أخيذ ، حكاه ابن قتيبة. قال الأخفش : وإنما قال : «ليأخذوه» فجمع على الكلّ ، لأنّ الكلّ مذكّر ومعناه معنى الجماعة. وما بعد هذا مفسّر في الكهف (٢) إلى قوله تعالى : (فَأَخَذْتُهُمْ) أي : عاقبتهم وأهلكتم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم (وَكَذلِكَ) أي : مثل الذي حقّ على الأمم المكذّبة (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) بالعذاب ، وهي قوله عزوجل : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (٣) ، (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك. وقرأ نافع ، وابن عامر : «حقّت كلمات ربك» ، (أَنَّهُمْ) قال الأخفش : لأنهم أو بأنّهم (أَصْحابُ النَّارِ).

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

ثم أخبر بفضل المؤمنين فقال : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وهم أربعة أملاك ، فإذا كان يوم القيامة جعلوا ثمانية (وَمَنْ حَوْلَهُ) قال وهب بن منبّه : حول العرش سبعون ألف صفّ من الملائكة يطوفون به ، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفّ من الملائكة ليس فيهم أحد إلّا وهو يسبّح بما لا يسبّحه الآخر. وقال غيره : الذين حول العرش هم الكروبيّون وهم سادة الملائكة. وقد ذكرنا في السّورة المتقدّمة معنى قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (٤). قوله تعالى : (رَبَّنا) أي يقولون : ربّنا (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) قال الزّجّاج : هو منصوب على التّمييز. وقال غيره : المعنى : وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) من الشّرك (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) وهو دين الإسلام. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزوجل : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) قال قتادة : يعني العذاب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ) قال المفسّرون (٥) : لمّا رأوا أعمالهم

__________________

(١) آل عمران : ١٩٦.

(٢) الكهف : ٥٦.

(٣) الأعراف : ١٨.

(٤) الزمر : ٧٥.

(٥) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٨٧ : يقول تعالى مخبرا عن الكفار : أنهم ينادون يوم القيامة وهم في


وأدخلوا النّار مقتوا أنفسهم لسوء فعلهم ، فناداهم مناد : لمقت الله إيّاكم في الدّنيا : (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أكبر من مقتكم أنفسكم. ثم أخبر عمّا يقولون في النّار بقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) وهذا مثل قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) وقد فسّرناه هنالك. قوله تعالى : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) أي : من النّار إلى الدنيا لنعمل بالطاعة (مِنْ سَبِيلٍ)؟ وفي الكلام اختصار ، تقديره : فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك ؛ وقيل لهم : (ذلِكُمْ) يعني العذاب الذي نزل بهم (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) أي : إذا قيل «لا إله إلّا الله» أنكرتم ، وإن جعل له شريك آمنتم ، (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) فهو الذي حكم على المشركين بالنّار ، وقد بيّنّا في سورة البقرة (٢) معنى العليّ ، وفي الرّعد (٣) معنى الكبير.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي : مصنوعاته التي تدلّ على وحدانيّته وقدرته ، والرّزق هاهنا : المطر ، سمّي رزقا ، لأنه سبب الأرزاق. و«يتذكّر» بمعنى يتّعظ ، و«ينيب» بمعنى يرجع إلى الطاعة. ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : موحّدين.

قوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) قال ابن عباس : يعني رافع السّموات ، وحكى الماوردي عن بعض المفسّرين قال : معناه : عظيم الصّفات. قوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ) أي : خالقه ومالكه. قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه القرآن. والثاني : النّبوة. والقولان مرويّان عن ابن عباس. وبالأول قال ابن زيد ، وبالثاني قال السّدّيّ. والثالث : الوحي قاله قتادة ، وإنما سمّي القرآن والوحي روحا ، لأنّ قوام الدّين به كما أنّ قوام البدن بالرّوح. والرابع : جبريل ، قاله الضّحّاك. والخامس : الرّحمة ، حكاه إبراهيم الحربي. قوله تعالى : (مِنْ أَمْرِهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من قضائه ، قاله ابن عباس. والثاني : بأمره ، قاله مقاتل. والثالث : من قوله تعالى ، ذكره الثّعلبي. قوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني الأنبياء. (لِيُنْذِرَ) في المشار إليه قولان : أحدهما : أنه الله عزوجل. والثاني : النبيّ الذي يوحى إليه. والمراد ب (يَوْمَ التَّلاقِ) : يوم القيامة وأثبت ياء «التلاقي» في الحالين ابن كثير ويعقوب ، وأبو جعفر وافقهما في الوصل ؛ والباقون بغير ياء في الحالين. وفي سبب تسميته بذلك خمسة أقوال : أحدها : أنه يلتقي فيه أهل السماء والأرض ، رواه يوسف بن مهران عن ابن

__________________

غمرات النيران يتلظّون ، وذلك عند ما باشروا من عذاب الله ما لا قبل لأحد به ، فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض ، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة ، التي كانت سبب دخولهم إلى النار : فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان ، فيكفرون ، أشد من مقتكم ، أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.

(١) البقرة : ٢٨.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

(٣) الرعد : ٩.


عباس : والثاني : يلتقي فيه الأوّلون والآخرون ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : يلتقي فيه الخلق والخالق ، قاله قتادة ومقاتل. والرابع : يلتقي المظلوم والظّالم ، قاله ميمون بن مهران. والخامس : يلتقي المرء بعمله ، حكاه الثّعلبي.

قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي : ظاهرون من قبورهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ). فإن قيل : فهل يخفى عليه منهم اليوم شيء؟. فالجواب : أن لا ، غير أنّ معنى الكلام التّهديد بالجزاء ؛ وللمفسّرين فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يخفى عليه ممّا عملوا شيء ، قاله ابن عباس. والثاني : لا يستترون منه بجبل ولا مدر ، قاله قتادة. والثالث : أنّ المعنى : أبرزهم جميعا ، لأنه لا يخفى عليه منهم شيء ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) اتّفقوا على أنّ هذا يقوله الله عزوجل بعد فناء الخلائق. واختلفوا في وقت قوله عزوجل له على قولين : أحدهما : أنه يقوله عند فناء الخلائق إذا لم يبق مجيب. فيردّ هو على نفسه فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه يقوله يوم القيامة. وفيمن يجيبه حينئذ قولان : أحدهما : أنه يجيب نفسه وقد سكت الخلائق لقوله تعالى ؛ قاله عطاء. والثاني : أنّ الخلائق كلّهم يجيبونه فيقولون : «لله الواحد القهار» ، قاله ابن جريج.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩))

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) فيه قولان : أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة : وسمّيت القيامة بذلك لقربها ، يقال : أزف شخوص فلان ، أي : قرب. والثاني : أنه يوم حضور المنيّة ، قاله قطرب. قوله تعالى : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) وذلك أنها ترتقي إلى الحناجر فلا تخرج ولا تعود ، هذا على القول الأول ، وعلى الثاني : القلوب هي النّفوس تبلغ الحناجر عند حضور المنيّة ؛ قال الزّجّاج : و (كاظِمِينَ) منصوب على الحال ، والحال محمولة على المعنى ؛ لأنّ القلوب لا يقال لها : كاظمين ، وإنما الكاظمون أصحاب القلوب ؛ فالمعنى : إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم. قال المفسّرون : «كاظمين» أي : مغمومين ممتلئين خوفا وحزنا ، والكاظم : الممسك للشيء على ما فيه ، وقد أشرنا إلى هذا عند قوله تعالى : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) (١). (ما لِلظَّالِمِينَ) يعني الكافرين (مِنْ حَمِيمٍ) أي : قريب ينفعهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فيهم فتقبل شفاعته. (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) قال ابن قتيبة : الخائنة والخيانة واحد. وللمفسّرين فيها أربعة أقوال : أحدها : أنه الرجل يكون في القوم فتمرّ به المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره ، فإذا رأى منهم غفلة لحظ إليها ، فإن خاف أن يفطنوا له غضّ بصره ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه نظر العين إلى ما نهي عنه ، قاله مجاهد. والثالث : الغمز بالعين ، قاله الضّحاك والسّدّيّ. قال قتادة : هو الغمز بالعين فيما لا يحبّه الله ولا يرضاه. والرابع : النّظرة بعد النّظرة ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ما تضمره من الفعل أن لو قدرت على ما نظرت إليه ، قاله ابن عباس. والثاني : الوسوسة ، قاله السّدّيّ. والثالث : ما

__________________

(١) آل عمران : ١٣٤.


يسرّه القلب من أمانة أو خيانة ، حكاه الماوردي.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥))

قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي : يحكم به فيجزي بالحسنة والسيئة. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الآلهة. وقرأ نافع ، وابن عامر : «تدعون» بالتاء ، على معنى : قل لهم : (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي : لا يحكمون بشيء ولا يجازون به ؛ وقد نبّه الله عزوجل بهذا على أنه حيّ ، لأنه إنّما يأمر ويقضي من كان حيّا ، وأيّد ذلك بذكر السّمع والبصر ، لأنهما إنما يثبتان لحيّ ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. وما بعد هذا قد تقدّم بعضه (١). وبعضه ظاهر إلى قوله تعالى : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وقرأ ابن عامر : «أشدّ منكم» بالكاف ، وكذلك هو في مصاحفهم ، وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب ، (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ) أي : من عذاب الله (مِنْ واقٍ) يقي العذاب عنهم. (ذلِكَ) أي : ذلك العذاب الذي نزل بهم (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) إلى آخر الآية. ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا. وأراد بقوله تعالى : (اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أعيدوا القتل عليهم كما كان أوّلا ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : كان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان ، فلمّا بعث الله موسى ، أعاد عليهم القتل ليصدّهم بذلك عن متابعة موسى. قوله تعالى : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : إنه يذهب باطلا ويحيق بهم ما يريده الله عزوجل.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ

__________________

(١) يوسف : ١٠٩.


يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤))

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) وإنما قال هذا ، لأنه كان في خاصّة فرعون من يمنعه من قتله خوفا من الهلاك (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الذي يزعم أنه أرسله فليمنعه من القتل (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أي : عبادتكم إيّاي (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «وأن» بغير ألف. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «أو أن» بألف قبل الواو ، على معنى : إن لم يبدّل دينكم أوقع الفساد ، إلّا أنّ نافعا وأبا عمرو قرأ : «يظهر» بضمّ الياء «الفساد» بالنّصب. وقرأ الباقون : «يظهر» بفتح الياء «الفساد» بالرفع ، والمعنى : يظهر الفساد بتغيير أحكامنا ، فجعل ذلك فسادا بزعمه ؛ وقيل : يقتل أبناءكم كما تفعلون بهم.

فلمّا قال فرعون هذا ، استعاذ موسى بربّه فقال : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر : «عذت» مبيّنة الذّال ، وأدغمها أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو جعفر ، وخلف (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) أي : متعظّم عن الإيمان. فقصد فرعون قتل موسى ، فقال حينئذ (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) وفي الآل هاهنا قولان (١) : أحدهما : أنه بمعنى الأهل والنّسب ، قال السّدّيّ ومقاتل : كان ابن عمّ فرعون ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) (٢). والثاني : أنه بمعنى القبيلة والعشيرة ، قال قتادة ومقاتل : كان قبطيّا. وقال قوم : كان إسرائيليّا ، وإنما المعنى : قال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون. وفي اسمه خمسة أقوال : أحدها : حزبيل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : حبيب ، قاله كعب. والثالث : سمعون ، بالسّين المهملة ، قاله شعيب الجبّائي. الرابع : جبريل. والخامس : شمعان ، بالشين المعجمة ، رويا عن ابن إسحاق ، وكذلك حكى الزّجّاج «شمعان» بالشين ، وذكره ابن ماكولا بالشين المعجمة أيضا. والأكثرون على أنه آمن بموسى لمّا جاء. وقال الحسن : كان مؤمنا قبل مجيء موسى. وكذلك امرأة فرعون ، قال مقاتل : كتم إيمانه من فرعون مائة سنة.

قوله تعالى : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ) أي : لأن يقول (رَبِّيَ اللهُ) وهذا استفهام إنكار (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بما يدلّ على صدقه (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي لا يضرّكم ذلك (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) من العذاب. وفي «بعض» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بمعنى «كلّ» ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد للبيد :

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٩٢ : المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيا من آل فرعون قال السدي : كان ابن عم فرعون ، ويقال : إنه الذي نجا مع موسى ، واختاره ابن جرير ، ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليا ، لأن فرعون انفعل لكلامه واستحقه ، وكف عن قتل موسى عليه‌السلام ، ولو كان إسرائيليا لأوشك أن يعاجل له بالعقوبة ، لأنه منهم.

(٢) القصص : ٢٠.


ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق بعض النّفوس حمامها

أراد : كلّ النّفوس. والثاني : أنها صلة ، والمعنى : يصبكم الذي يعدكم ، حكي عن اللّيث.

والثالث : أنها على أصلها ، ثم في ذلك قولان أحدهما : أنه وعدهم النّجاة إن آمنوا ، والهلاك إن كفروا ، فدخل ذكر البعض لأنهم على أحد الحالين. والثاني : أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فصار هلاكهم في الدنيا بعض الوعد ، ذكرهما الماوردي.

قال الزّجّاج : هذا باب من النّظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجّة بأيسر ما في الأمر ، وليس في هذا نفي إصابة الكلّ ، ومثله قول الشاعر :

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون من المستعجل الزّلل (١)

وإنما ذكر البعض ليوجب الكلّ ، لأنّ البعض من الكلّ ، ولكنّ القائل إذا قال : أقلّ ما يكون للمتأنّي إدراك بعض الحاجة ، وأقلّ ما يكون للمستعجل الزّلل ، فقد أبان فضل المتأنّي على المستعجل ، بما لا يقدر الخصم أن يدفعه ، فكأنّ المؤمن قال لهم : أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم ، قال : وأمّا بيت لبيد : فإنه أراد ببعض النّفوس : نفسه وحدها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي : لا يوفّق للصّواب (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) وفيه قولان :

أحدهما : أنه المشرك ، قاله قتادة. والثاني : أنه السّفّاك الدّم ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : عالين في أرض مصر (فَمَنْ يَنْصُرُنا) أي : من يمنعنا (مِنْ بَأْسِ اللهِ) أي : من عذابه ؛ والمعنى : لا تتعرّضوا للعذاب بالتّكذيب وقتل النّبيّ ؛ فقال فرعون عند ذلك : (ما أَراكُمْ) من الرّأي والنّصيحة (إِلَّا ما أَرى) لنفسي (وَما أَهْدِيكُمْ) أي : أدعوكم إلّا إلى طريق الهدى في تكذيب موسى والإيمان بي ، وهذا يدلّ على أنه انقطع عن جواب المؤمن. (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) قال الزّجّاج : أي : مثل يوم حزب حزب ؛ والمعنى : أخاف أن تقيموا على كفركم فينزل بكم من العذاب مثل ما نزل بالأمم المكذّبة رسلهم. قوله تعالى : (يَوْمَ التَّنادِ) قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «التّناد» بغير ياء. وأثبت الياء في الوصل والوقف ابن كثير ، ويعقوب ، وافقهم أبو جعفر في الوصل. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، وأبو العالية ، والضّحّاك : «التّنادّ» بتشديد الدال. قال الزّجّاج : أمّا إثبات الياء فهو الأصل ، وحذفها حسن جميل ، لأنّ الكسرة تدلّ على الياء ، وهو رأس آية ، وأواخر هذه الآيات على الدّال ، ومن قرأ بالتشديد ، فهو من قولهم : ندّ فلان ، وندّ البعير : إذا هرب على وجهه ، ويدلّ على هذا قوله : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) وقوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٢) ؛ قال أبو عليّ : معنى الكلام : إنّي أخاف عليكم عذاب يوم التّناد. قال الضّحّاك : إذا سمع الناس زفير جهنّم وشهيقها ندّوا فرارا منها في الأرض ، فلا يتوجّهون قطرا من أقطار الأرض إلّا رأوا ملائكة ، فيرجعون من حيث جاءوا. وقال غيره : يؤمر بهم إلى النّار فيفرّون ولا عاصم لهم. فأمّا قراءة التخفيف ، فهي من النّداء ، وفيها للمفسّرين أربعة أقوال : أحدها : أنه عند نفخة الفزع ينادي الناس بعضهم بعضا.

__________________

(١) البيت للقطامي ، واسمه عمير.

(٢) عبس : ٣٤.


(١٢٣٨) روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يأمر الله عزوجل إسرافيل بالنّفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات والأرض إلّا من شاء الله ، فتسيّر الجبال ، وترجّ الأرض ، وتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا ، وهو قوله : (يَوْمَ التَّنادِ).

والثاني : أنه نداء أهل الجنّة والنّار بعضهم بعضا كما ذكر في الأعراف (١) ، وهذا قول قتادة. والثالث : أنه قولهم : يا حسرتنا ، يا ويلتنا ، قاله ابن جريج. والرابع : أنه ينادي فيه كلّ أناس بإمامهم بسعادة السّعداء وشقاوة الأشقياء.

قوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) فيه قولان : أحدهما : هربا من النّار. والثاني : أنه انصرافهم إلى النّار. قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي : من مانع.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) وهو يوسف بن يعقوب ، ويقال : إنه ليس به ، وليس بشيء. قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل موسى (بِالْبَيِّناتِ) وهي الدّلالات على التوحيد ، كقوله تعالى : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ...) الآية (٢) ، وقال ابن السّائب : البيّنات : تعبير الرّؤيا وشقّ القميص ،

____________________________________

(١٢٣٨) هو بعض حديث الصور الطويل : أخرجه الطبراني في «الطوال» ٣٦ وأبو الشيخ في «العظمة ٣٨٨ و ٣٨٩ و ٣٩٠ والبيهقي في «البعث» ٦٦٨ و ٦٦٩ والطبري ٢ / ٣٣٠ و ٣٣١ و ١٧ / ١٠ و ٢٤ / ٣٠ و ٦١ و ٣٠ / ٢٦ ٣١ ـ ٣٢. وإسحاق بن راهوية كما في «المطالب العالية» ٢٩٩١ من طرق عن إسماعيل بن رافع ، وهو واه ، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة ، وتارة عن محمد بن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة ، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد ، وهو واه. جاء في «الميزان» ٨٧٢ : ضعفه أحمد ويحيى وجماعة ، وقال الدار قطني وغيره : متروك وقال ابن عدي : أحاديثه كلها مما فيه نظر اه باختصار وقد اضطرب فيه فرواه عن مجهول عن محمد بن كعب عن أبي هريرة ، ومرة عن محمد بن كعب عن مجهول عن أبي هريرة ، وتارة بدون واسطة وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله. فقال الحافظ في «المطالب العالية» ٢٩٩١ : فيه ضعف اه وقال البوصيري في ١ / ٢١ : تابعيه مجهول ، وجاء في «الفتح» ١١ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ عقب حديث ٦٥١٨ ما ملخصه : وأخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع ، واضطرب في سنده مع ضعفه ، فرواه تارة عن القرظي بلا واسطة ، وتارة بذكر رجل مبهم بينهما ، وتارة عن القرظي عن أبي هريرة ، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع ، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه ، ولعله سرقه من إسماعيل ، فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني : يضع الحديث. وقال الحافظ ابن كثير : جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع : القاضي : أبو بكر العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحقّ في تضعيفه أولى ، وضعفه قبله البيهقي اه كلام الحافظ.

وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه‌الله في «نهاية البداية» ٢ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤ وخلاصة القول أنه حديث ضعيف بتمامه ، وبعض ألفاظه في الصحيحين ، وغيرهما ، وبعضه في الكتب المعتبرة. وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ١٩٠ بتخريجنا.

__________________

(١) الأعراف : ٤٤ ، ٥٠.

(٢) يوسف : ٣٩.


وقيل : بل بعثه الله تعالى بعد موت ملك مصر إلى القبط. قوله تعالى : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) أي : من عبادة الله وحده (حَتَّى إِذا هَلَكَ) أي : مات (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي : إنكم أقمتم على كفركم وظننتم أنّ الله لا يجدّد إيجاب الحجّة عليكم (كَذلِكَ) أي : مثل هذا الضّلال (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) أي : مشرك (مُرْتابٌ) أي : شاكّ في التوحيد وصدق الرّسل.

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) قال الزّجّاج : هذا تفسير المسرف المرتاب ، والمعنى : هم الذين يجادلون في آيات الله. قال المفسّرون : يجادلون في إبطالها والتكذيب بها بغير سلطان ، أي : بغير حجّة أتتهم من الله. (كَبُرَ مَقْتاً) أي : كبر جدالهم مقتا عند الله وعند الذين آمنوا ، والمعنى : يمقتهم الله ويمقتهم المؤمنون بذلك الجدال. (كَذلِكَ) أي : كما طبع الله على قلوبهم حتى كذّبوا وجادلوا بالباطل ، يطبع (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) عن عبادة الله وتوحيده. وقد سبق بيان معنى الجبّار في هود (١). وقرأ أبو عمرو : «على كلّ قلب» بالتنوين ، وغيره من القرّاء السبعة يضيفه. وقال أبو عليّ : المعنى : يطبع على جملة القلب من المتكبّر. واختار قراءة الإضافة الزّجّاج ، قال : لأنّ المتكبّر هو الإنسان لا القلب. فإن قيل : لو كانت هذه القراءة أصوب لتقدّم القلب على الكلّ؟ فالجواب : أنّ هذا جائز عند العرب ، قال الفرّاء : تقدّم هذا وتأخّره واحد ، سمعت بعض العرب يقول : هو يرجّل شعره يوم كلّ جمعة ، يريد : كلّ يوم جمعة ، والمعنى واحد. وقد قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجونيّ : «على قلب كلّ متكبّر» بتقديم القلب.

قال المفسّرون : فلمّا وعظ المؤمن فرعون وزجره عن قتل موسى ، قال فرعون لوزيره : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) وقد ذكرناه في القصص (٢). قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) قال ابن عباس وقتادة : يعني أبوابها. وقال أبو صالح : طرقها. وقال غيره : المعنى : لعلّي أبلغ الطّرق من سماء إلى سماء. وقال الزّجّاج : لعلّي أبلغ ما يؤدّيني إلى السّموات. وما بعد هذا مفسّر في القصص (٣) إلى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : ومثل ما وصفنا (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ) عن سبيل الهدى. قرأ عاصم ، وحمزة والكسائيّ : (وَصُدَّ) بضم الصاد ، والباقون بفتحها ، (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ) في إبطال آيات موسى (إِلَّا فِي تَبابٍ) أي : في بطلان وخسران.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

__________________

(١) هود : ٥٩.

(٢) القصص : ٣٨.

(٣) القصص : ٣٨.


ثم عاد الكلام إلى نصيحة المؤمن لقومه ، وهو قوله : (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي : طريق الهدى ، (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) يعني : الحياة في هذه الدّار متاع يتمتّع بها أياما ثم تنقطع (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) التي لا زوال لها. (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً) فيها قولان : أحدهما : أنها الشرك ، ومثلها جهنّم ، قاله الأكثرون. والثاني : المعاصي ، ومثلها : العقوبة بمقدارها ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. فعلى الأول ، العمل الصّالح : التوحيد ، وعلى الثاني ، هو على الإطلاق. قوله تعالى : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يدخلون» بضمّ الياء. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : بالفتح ، وعن عاصم كالقراءتين. وفي قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) قولان : أحدهما : أنهم لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنّة ، قاله مقاتل. والثاني : أنه يصبّ عليهم الرّزق صبّا بغير تقتير ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ) أي ما لكم ، كما تقول : ما لي أراك حزينا ، معناه : ما لك ، ومعنى الآية : أخبروني كيف هذه الحال ، أدعوكم (إِلَى النَّجاةِ) من النّار بالإيمان (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) أي إلى الشّرك الذي يوجب النّار؟! ثم فسّر الدّعوتين بما بعد هذا.

ومعنى (لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي : لا أعلم هذا الذي ادّعوه شريكا له. وقد سبق بيان ما بعد هذا (١) إلى قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) وفيه قولان : أحدهما : ليس له استجابة دعوة ، قاله السّدّيّ. والثاني : ليس له شفاعة ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أي : مرجعنا ؛ والمعنى أنه يجازينا بأعمالنا. وفي المسرفين قولان قد ذكرناهما عند قوله عزوجل : (مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢).

قوله تعالى : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، وأبو عمران الجوني ، وأبو رجاء : «فستذكّرون» بفتح الذال وتخفيفها وتشديد الكاف وفتحها ؛ وقرأ أبيّ بن كعب ، وأيوب السّختيانيّ ؛ بفتح الذال والكاف وتشديدهما جميعا. أي : إذا نزل العذاب بكم ، ما أقول لكم في الدنيا من النّصيحة؟! (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي : أردّه ، وذلك أنهم تواعدوه لمخالفته دينهم (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي : بأوليائه وأعدائه. ثم خرج المؤمن عنهم ، فطلبوه فلم يقدروا عليه ، ونجا مع

__________________

(١) البقرة : ١٢٩ ، طه : ٨٢.

(٢) غافر : ٢٨.


موسى لمّا عبر البحر ، فذلك قوله تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي : ما أرادوا به من الشّرّ (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) لمّا لجّوا في البحر (سُوءُ الْعَذابِ) قال المفسّرون : هو الغرق. قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (١) ، قال ابن مسعود وابن عباس : إنّ أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النّار كلّ يوم مرّتين فيقال : يا آل فرعون هذه داركم. وروى ابن جرير قال : حدّثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدّثنا حمّاد بن محمّد البلخي قال : سمعت الأوزاعيّ ، وسأله رجل ، فقال : رأينا طيورا تخرج من البحر فتأخذ ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوجا ، لا يعلم عددها إلّا الله ، فإذا كان العشيّ رجع مثلها سودا ، قال : وفطنتم إلى ذلك؟ قال : نعم ، قال : إنّ تلك الطّير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النّار غدوّا وعشيّا ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداء ، فينبت عليها من الليل رياش بيض ، وتتناثر السّود ، ثم تغدو ويعرضون على النّار غدوّا وعشيّا ، فذلك دأبها في الدّنيا ، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزوجل : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٢).

(١٢٣٩) وقد روى البخاري ومسلم في «الصّحيحين» من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة ، وإن كان من أهل النّار فمن أهل النّار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة».

وهذه الآية تدلّ على عذاب القبر ، لأنه بيّن ما لهم في الآخرة فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا)

____________________________________

(١٢٣٩) صحيح. أخرجه البخاري ١٣٧٩ ومسلم ٢٨٦٦ ح ٦٥ والنسائي ٤ / ١٠٧ ـ ١٠٨ وأحمد ٢ / ١١٣ ومالك ١ / ٢٣٩ والبغوي في «شرح السنة ١٥١٨ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ٤٨ من طرق عن مالك به. وأخرجه البخاري ٣٢٤٠ و ٦٥١٥ والترمذي ١٠٧٢ والنسائي ٤ / ١٠٧ وابن ماجة ٤٢٧٠ وأحمد ٢ / ١٦ و ٥١ و ١٢٣ والطيالسي ١٨٣٢ من طرق عن نافع به. وأخرجه مسلم ٢٨٦٦ ح ٦٦ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ٤٩ من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٩٦ : وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور ، وهي قوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا). ولكن هاهنا سؤال ، وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية ، وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ ، والجواب : أن الآية دلّت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ ، وليس فيها دلالة على اتصال تألمها في القبور ، إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح ، فأما حصول ذلك للجسد وتألمه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث التي تدل أنه لا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها ، فلما أوحي إليه في ذلك بخصوصيته استعاذ منه ، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومن الأحاديث ـ حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود ، وهي تقول : أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم؟ فارتاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «إنما يفتن يهود» قالت عائشة : فلبثنا ليالي ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟» وقالت عائشة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر. هكذا رواه مسلم. وفي رواية البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها ، أن يهودية دخلت عليها فقالت : أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عذاب القبر؟ فقال : «نعم ، عذاب القبر حق». قالت عائشة : فما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلّى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر. وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا.

(٢) أثر باطل. أخرجه الطبري ٣٠٣٧ وإسناده واه ، عبد الكريم ، قال عنه الذهبي في «الميزان» ٢ / ٦٤٤ : فيه جهالة اه. وشيخه لم أجد له ترجمة ، والأثر باطل.


قرأ ابن كثير ، وابن عامر وأبو عمرو ، وأبو بكر وأبان عن عاصم : «الساعة ادخلوا» بالضمّ ، وضمّ الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول ، والابتداء على قراءة هؤلاء بضمّ الألف. وقرأ الباقون : بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم ، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

قوله تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) المعنى : واذكر لقومك يا محمّد إذ يختصمون ، يعني أهل النّار ، والآية مفسّرة في إبراهيم (١). والّذين استكبروا هم القادة. ومعنى (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي : نحن وأنتم ، (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) أي : قضى هذا علينا وعليكم. ومعنى قول الخزنة لهم : (فَادْعُوا) أي : نحن لا ندعو لكم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : إنّ ذلك يبطل ولا ينفع. (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ ذلك بإثبات حججهم. والثاني : بإهلاك عدوّهم. والثالث : بأنّ العاقبة تكون لهم. وفصل الخطاب : أنّ نصرهم حاصل لا بدّ منه ، فتارة يكون بإعلاء أمرهم كما أعطى داود وسليمان من الملك ما قهرا به كلّ كافر ، وأظهر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكذّبيه ، وتارة يكون بالانتقام من مكذّبيهم بإنجاء الرّسل وإهلاك أعدائهم ، كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه ، وتارة يكون بالانتقام من مكذّبيهم بعد وفاة الرّسل ، كتسليطه بختنصّر على قتلة يحيى بن زكريّا. وأمّا نصرهم يوم يقوم الأشهاد ، فإنّ الله منجّيهم من العذاب ، وواحد الأشهاد شاهد ، كما أنّ واحد الأصحاب صاحب. وفي الأشهاد ثلاثة أقوال : أحدها : الملائكة ، شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتّكذيب ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. قال مقاتل : وهم الحفظة من الملائكة. والثاني : الملائكة والأنبياء ، قاله قتادة. والثالث : أنهم أربعة : الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «تنفع» بالتاء ، والباقون بالياء ؛ لأنّ المعذرة والاعتذار بمعنى (الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي : لا يقبل منهم إن اعتذروا (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي : البعد من الرّحمة. وقد بيّنّا في الرّعد (٢) أنّ «لهم» بمعنى «عليهم» ، و (سُوءُ الدَّارِ) : النّار.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) إبراهيم : ٢١.

(٢) الرعد : ٢٥.


يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) من الضّلالة ، يعني التّوراة (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) بعد موسى ، وهو التّوراة أيضا في قول الأكثرين ، وقال ابن السّائب : التّوراة والإنجيل والزّبور ، والذّكرى بمعنى التّذكير. (فَاصْبِرْ) على أذاهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) في نصرك ، وهذه الآية في هذه السّورة في موضعين (١) ، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف. ومعنى «سبّح» : صلّ. وفي المراد بصلاة العشيّ والإبكار ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الصّلوات الخمس ، قاله ابن عباس. والثاني : صلاة الغداة وصلاة العصر ، قاله قتادة. والثالث : أنها صلاة كانت قبل أن تفرض الصّلوات ، ركعتان غدوة ، وركعتان عشيّة ، قاله الحسن.

وما بعد هذا قد تقدّم آنفا (٢) إلى قوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) الآية ، نزلت في قريش ؛ والمعنى : ما يحملهم على تكذيبك إلّا ما في صدورهم من التكبّر عليك ، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ، لأنّ الله تعالى مذلّهم ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شرّهم ؛ ثمّ نبّه على قدرته بقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي : من إعادتهم ، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جرمها ، فنبّههم على قدرته على إعادة الخلق. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يعني الكفّار حين لا يستدلّون بذلك على

__________________

(١) غافر : ٥٥ ، ٧٧.

(٢) غافر : ٤.


التوحيد. وقال مقاتل (١). عظّمت اليهود الدّجّال وقالوا : إنّ صاحبنا يبعث في آخر الزّمان وله سلطان ، فقال الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) لأنّ الدّجّال من آياته ، (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي : بغير حجّة ، فاستعذ بالله من فتنة الدّجّال. قال : والمراد ب «خلق الناس» : الدّجّال ، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية ، والأول أصحّ (٢).

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فيه قولان : أحدهما : وحّدوني واعبدوني أثبكم ، قاله ابن عباس. والثاني : سلوني أعطكم ، قاله السّدّيّ. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) فيه قولان : أحدهما : عن توحيدي. والثاني : عن دعائي ومسألتي (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) قرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو : «سيدخلون» بضمّ الياء ، والباقون بفتحها ، والدّاخر : الصّاغر. وما بعد هذا قد سبق في مواضع متفرّقة (٣) إلى قوله : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) وهو أجل الحياة إلى الموت (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) توحيد الله وقدرته.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) يعني القرآن ، يقولون : ليس من عند الله ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي : كيف صرفوا عن الحقّ إلى الباطل؟! وفيهم قولان : أحدهما : أنهم المشركون ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم القدريّة ، ذكره جماعة من المفسّرين ، وكان ابن سيرين يقول : إن لم تكن نزلت في القدريّة فلا أدري فيمن نزلت.

وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، والضّحّاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «والسلاسل يسحبون» بفتح اللام والياء. وقال ابن عباس : إذا سحبوها كان أشدّ عليهم.

قوله تعالى : (يُسْجَرُونَ) قال مجاهد : توقد بهم النار فصاروا وقودها.

قوله تعالى : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) مفسّر في الأعراف (٤). وفي قوله : (لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) قولان : أحدهما : أنهم أرادوا أنّ الأصنام لم تكن شيئا ، لأنها لم تكن تضرّ ولا تنفع ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنهم قالوه على وجه الجحود ، قاله أبو سليمان الدّمشقي ، (كَذلِكَ) أي : كما أضلّ الله هؤلاء يضلّ الكافرين.

__________________

(١) عزاه لمقاتل ، وهو متروك متهم.

(٢) مراد المصنف ، أنها نزلت في قريش ، هو الأصح. والله أعلم. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٠٠ : وقال كعب وأبو العالية : نزلت هذه الآية في اليهود. وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد ، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه ، والله أعلم.

(٣) يونس : ٦٧ ، القصص : ٧٣ ، الأنعام : ٩٥ ، النمل : ٦١ ، الأعراف : ٢٩ ، الحج : ٥.

(٤) الأعراف : ١٩٠.


(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

(ذلِكُمْ) العذاب الذي نزل بكم (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : بالباطل (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) وقد شرحنا المرح في بني إسرائيل (١) ، وما بعد هذا قد تقدّم بتمامه (٢) إلى قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وذلك لأنهم كانوا يقترحون عليه الآيات (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم ، و (الْمُبْطِلُونَ) : أصحاب الباطل.

قوله تعالى : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي : حوائجكم في البلاد. قوله تعالى : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ. قوله تعالى : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) في «ما» قولان : أحدهما : أنها للنّفي. والثاني : أنها للاستفهام ، ذكرهما ابن جرير.

قوله تعالى : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الأمم المكذّبة ، قاله الجمهور ، ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنهم قالوا : نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نحاسب ، قاله مجاهد. والثاني : فرحوا بما كان عندهم أنه علم ، قاله السّدّيّ. والقول الثاني : أنهم الرّسل ، والمعنى : فرح الرّسل لمّا هلك المكذّبون ونجوا بما عندهم من العلم بالله إذ جاء تصديقه ، حكاه أبو سليمان وغيره. قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ) يعني بالمكذّبين العذاب الذي كانوا به يستهزئون. والبأس : العذاب. ومعنى (سُنَّتَ اللهِ) : أنه سنّ هذه السّنّة في الأمم ، أي : أنّ إيمانهم لا ينفعهم إذا رأوا العذاب ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

فإن قيل : كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؟ فعنه جوابان. أحدهما : أنّ «خسر» بمعنى «هلك» ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه إنما بيّن لهم خسرانهم عند نزول العذاب ، قاله الزّجّاج.

__________________

(١) الإسراء : ٣٧.

(٢) النحل : ٢٩ ، يونس : ١٠٩ ، النساء : ١٦٤.


سورة فصّلت

مكية كلها بإجماعهم ، ويقال لها : سجدة المؤمن ، ويقال لها : المصابيح.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤))

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ) قال الفرّاء : يجوز أن يرتفع «تنزيل» ب (حم) ، ويجوز أن يرتفع بإضمار «هذا». وقال الزّجّاج : (تَنْزِيلٌ) مبتدأ ، وخبره (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) ، هذا مذهب البصريّين ، و (قُرْآناً) منصوب على الحال ، المعنى : بيّنت آياته في حال جمعه ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لمن يعلم. قوله تعالى : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) يعني أهل مكّة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) تكبّرا عنه ، (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي : في أغطية فلا نفقه قولك. وقد سبق بيان «الأكنّة» و«الوقر» في الأنعام (١). ومعنى الكلام : إنّا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم ، (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي : حاجز في النّحلة والدّين. قال الأخفش : «ومن» هاهنا للتوكيد.

قوله تعالى : (فَاعْمَلْ) فيه قولان : أحدهما : اعمل في إبطال أمرنا إنّا عاملون على إبطال أمرك. والثاني : اعمل على دينك إنّا عاملون على ديننا. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : لو لا الوحي لما دعوتكم. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي : توجّهوا إليه بالطاعة. واستغفروه من الشّرك.

قوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فيه خمسة أقوال (٢) : أحدها : لا يشهدون أن «لا إله إلّا

__________________

(١) الأنعام : ٢٥.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «التفسير» ١١ / ٨٦ : والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا : معناه : لا يؤدون زكاة أموالهم ، وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة.

ـ وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٠٩ : قال قتادة : يمنعون زكاة أموالهم. وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير. وفيه نظر. لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة ، على ما ذكره غير واحد ، وهذه الآية مكية ، اللهم إلا أن يقال : لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة


الله» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والمعنى : لا يطهّرون أنفسهم من الشّرك بالتوحيد. والثاني : لا يؤمنون بالزّكاة ولا يقرّون بها ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : لا يزكّون أعمالهم ، قاله مجاهد ، والرّبيع. والرابع : لا يتصدّقون ، ولا ينفقون في الطّاعات ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل. والخامس : لا يعطون زكاة أموالهم ، قال ابن السّائب : كانوا يحجّون ويعتمرون ولا يزكّون. قوله تعالى : (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ولا منقوص.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) قال ابن عباس : في يوم الأحد والاثنين ، وبه قال عبد الله بن سلام ، والسّدّيّ ، والأكثرون. وقال مقاتل : في يوم الثلاثاء والأربعاء.

(١٢٤٠) وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، فقال : «خلق الله عزوجل التّربة يوم السّبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشّجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النّور يوم الأربعاء ، وبثّ فيها الدّوابّ يوم الخميس» ، وهذا الحديث يخالف ما تقدّم وهو أصحّ.

قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) قد شرحناه في البقرة (١) ، و (ذلِكَ) الذي فعل ما ذكر (رَبُّ الْعالَمِينَ). (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت من فوق الأرض ، (وَبارَكَ فِيها) بالأشجار والثّمار والحبوب والأنهار ، وقيل : البركة فيها : أن ينمي فيها الزّرع ، فتخرج الحبّة حبّات ، والنّواة نخلة (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) قال أبو عبيدة : هي جمع قوت ، وهي الأرزاق وما يحتاج إليه. وللمفسّرين في هذا التّقدير خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنه شقّق الأنهار وغرس الأشجار ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه قسم أرزاق العباد والبهائم ، قاله الحسن. والثالث : أقواتها من المطر ، قاله مجاهد. والرابع : قدّر لكلّ بلدة ما لم

____________________________________

(١٢٤٠) تقدم تخريجه في الجزء الأول ، وهو أحد الأحاديث التي تكلم فيها ، وهو في صحيح مسلم ٢٧٨٩.

__________________

مأمورا به في ابتداء البعثة ، كقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بيّن أمرها بالمدينة ، ويكون هذا جمعا بين القولين ، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة ، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله على رسوله الصلوات الخمس ، وفصّل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئا فشيئا ، والله أعلم.

(١) البقرة : ٢٢.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٩٠ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش ، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) ، ولا قول في ذلك أصح مما قال جل ثناؤه : قدّر في الأرض أقوات أهلها لما وصفنا من العلة.


يجعله في الأخرى كما أنّ ثياب اليمن لا تصلح إلّا ب «اليمن» والهرويّة ب «هراة» ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة ، قاله عكرمة والضّحّاك. والخامس : قدّر البرّ لأهل قطر ، والتّمر لأهل قطر ، والذّرة لأهل قطر ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي : في تتمة أربعة أيّام. قال الأخفش : ومثله أن تقول : تزوّجت أمس امرأة ، واليوم ثنتين ، وإحداهما التي تزوّجتها أمس. قال المفسّرون : يعني : الثلاثاء والأربعاء ، وهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام. قوله تعالى : (سَواءً) قرأ أبو جعفر : «سواء» بالرفع. وقرأ يعقوب ، وعبد الوارث : «سواء» بالجرّ. وقرأ الباقون من العشرة : بالنّصب. قال الزّجّاج : من قرأ بالخفض ، جعل «سواء» من صفة الأيّام ؛ فالمعنى : في أربعة أيّام مستويات تامّات ؛ ومن نصب ، فعلى المصدر ؛ فالمعنى : استوت سواء واستواء ؛ ومن رفع ، فعلى معنى : هي سواء. وفي قوله : (لِلسَّائِلِينَ) وجهان : أحدهما : للسائلين القوت ، لأنّ كلّا يطلب القوت ويسأله. والثاني : لمن يسأل : في كم خلقت الأرض؟ فيقال : خلقت في أربعة أيّام سواء ، لا زيادة ولا نقصان. قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قد شرحناه في البقرة (١) (وَهِيَ دُخانٌ) وفيه قولان : أحدهما : أنه لمّا خلق الماء أرسل عليه الرّيح فثار منه دخان فارتفع وسما ، فسمّاه سماء. والثاني : أنه لمّا خلق الأرض أرسل عليها نارا ، فارتفع منها دخان فسما. قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) قال ابن عباس : قال للسّماء : أظهري شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : شقّقي أنهارك ، وأخرجي ثمارك ، (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قال الزّجّاج : هو منصوب على الحال ، وإنما لم يقل : طائعات ، لأنهنّ جرين مجرى ما يعقل ويميّز ، كما قال في النّجوم : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢) ، قال : وقد قيل : أتينا نحن ومن فينا طائعين. (فَقَضاهُنَ) أي : خلقهنّ وصنعهنّ ، قال أبو ذؤيب الهذلي :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابغ تبّع (٣)

معناه : عملهما وصنعهما.

قوله تعالى : (فِي يَوْمَيْنِ) قال ابن عباس وعبد الله بن سلام : وهما يوم الخميس ويوم الجمعة. وقال مقاتل : الأحد والاثنين ، لأنّ مذهبه أنها خلقت قبل الأرض. وقد بيّنا مقدار هذه الأيام في الأعراف (٤). (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) فيه قولان : أحدهما : أوحى ما أراد ، وأمر بما شاء ، قاله مجاهد ، ومقاتل. والثاني : خلق في كلّ سماء خلقها ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي : القربى إلى الأرض (بِمَصابِيحَ) وهي النّجوم ، والمصابيح : السّرج ، فسمّي الكوكب مصباحا ، لإضاءته (وَحِفْظاً) قال الزّجّاج : معناه : وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حفظا.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) يس : ٤٠.

(٣) في «اللسان» يقال : رجل صنع وامرأة صناع ، إذا كان لهما صنعة يعملانها بأيديهما ويكسبان بها.

(٤) الأعراف : ٥٤.


فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان بعد هذا البيان (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) الصّاعقة : المهلك من كلّ شيء ؛ والمعنى : أنذرتكم عذابا مثل عذابهم. وإنّما خصّ القبيلتين ، لأنّ قريشا يمرّون على قرى القوم في أسفارهم. (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي : أتت آباءهم ومن كان قبلهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي : من خلف الآباء ، وهم الذين أرسلوا إلى هؤلاء المهلكين (أَلَّا تَعْبُدُوا) أي بأن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا) أي لو أراد دعوة الخلق (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً).

قوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا) أي : تكبّروا عن الإيمان وعملوا بغير الحقّ. وكان هود قد تهدّدهم بالعذاب فقالوا : نحن نقدر على دفعه بفضل قوّتنا. والآيات هاهنا : الحجج. وفي الرّيح الصّرصر أربعة أقوال : أحدها : أنها الباردة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك. وقال الفرّاء : هي الرّيح الباردة تحرق كالنار ، وكذلك قال الزّجّاج : هي الشديدة البرد جدّا ؛ فالصّرصر متكرّر فيها البرد ، كما تقول : أقللت الشيء وقلقلته ، فأقللته بمعنى رفعته ، وقلقلته : كرّرت رفعه. والثاني : أنها الشّديدة السّموم ، قاله مجاهد. والثالث : الشّديدة الصّوت ، قاله السّدّيّ ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. والرابع : الباردة الشديدة ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «نحسات» بإسكان الحاء ؛ وقرأ الباقون : بكسرها. قال الزّجّاج : من كسر الحاء ، فواحدهن «نحس» ، ومن أسكنها ، فواحدهنّ «نحس» ؛ والمعنى : مشؤومات. وفي أوّل هذه الأيّام ثلاثة أقوال (١) : أحدها : غداة يوم الأحد ، قاله السّدّيّ. والثاني : يوم الجمعة ، قاله الرّبيع بن أنس. والثالث : يوم الأربعاء ، قاله يحيى بن سلام. والخزي : الهوان.

قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بيّنّا لهم ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير. وقال قتادة : بيّنّا لهم سبيل الخير والشرّ. والثاني : دعوناهم ، قاله مجاهد. والثالث : دللناهم على مذهب الخير ، قاله الفرّاء. قوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) أي اختاروا الكفر على الإيمان (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي ذي الهوان ، وهو الذي يهينهم.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ

__________________

(١) وهذا من الشؤم المنهي عنه ، حيث لا دليل عليه ، وإنما هي روايات إسرائيلية ، ولا يصح تعيين اسم هذا اليوم ، والقرآن لم يذكر ذلك. قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ١١٢ : وقوله (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي متتابعات ، (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) : أي ابتدءوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم ، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام ، حتّى أبادهم عن آخرهم ، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة.


وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) وقرأ نافع : «نحشر» بالنّون «أعداء» بالنّصب. قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا. (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) يعني النّار التي حشروا إليها (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) ، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال : أحدها : الأيدي والأرجل. والثاني : الفروج ، رويا عن ابن عباس. والثالث : أنه الجلود نفسها ، حكاه الماوردي. وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال :

(١٢٤١) كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك فقال : «هل تدرون ممّ أضحك؟» قال : قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : «من مخاطبة العبد ربّه ، يقول : يا ربّ ألم تجرني من الظّلم؟ قال : يقول : بلى ، قال : فيقول : فإنّي لا أجيز عليّ إلّا شاهدا منّي ، قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على فيه ، فيقال لأركانه : انطقي ، قال : فتنطق بأعماله ، قال : ثمّ يخلّى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل».

قوله تعالى : (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : ممّا نطق. وهاهنا تمّ الكلام. وما بعده ليس من جواب الجلود.

قوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ).

(١٢٤٢) روى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث ابن مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر ، قرشيّ وختناه ثقفيّان ، أو ثقفيّ وختناه قرشيّان ، كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فتكلّموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخران : إنّا إذا

____________________________________

(١٢٤١) صحيح. أخرجه مسلم ٢٩٦٩ عن أبي بكر بن أبي النضر من حديث أنس. وأخرجه أبو يعلى ٣٩٧٧ وابن حبان ٧٣٥٨ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٦٧ من طرق عن أبي بكر بن أبي النضر به.

(١٢٤٢) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨١٧ والبغوي في «التفسير» ١٨٦٤ عن الحميدي من حديث ابن مسعود.

وأخرجه البخاري ٤٨١٦ و ٧٥٢١ ومسلم ٢٧٧٥ والترمذي ٣٢٤٥ والطيالسي ١٩٧٢ والنسائي في «التفسير» ٤٨٨ والطبري ٣٠٤٩٦ والبيهقي في «الأسماء الصفات» ١٧٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٣٢ من طرق عن منصور به. وأخرجه مسلم ٢٧٧٥ وأحمد ١ / ٣٨١ و ٤٢٦ و ٤٤٢ و ٤٤٤ وأبو يعلى ٥٢٠٤ والطبري ٣٠٤٩٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٣٣ من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وأخرجه الحميدي ٨٧ من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به.


رفعنا أصواتنا سمعه ، وإن لم نرفع لم يسمع ، وقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كلّه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) إلى قوله : (مِنَ الْخاسِرِينَ).

ومعنى «تستترون» : تستخفون «أن يشهد» أي : من أن يشهد «عليكم سمعكم» لأنّكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ، ولا تظنّون أنها تشهد (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) قال ابن عباس : كان الكفّار يقولون : إنّ الله لا يعلم ما في أنفسنا ، ولكنه يعلم ما يظهر ، (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ) أي : أنّ الله لا يعلم ما تعملون ، (أَرْداكُمْ) أهلككم. (فَإِنْ يَصْبِرُوا) أي : على النّار فهي مسكنهم ، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي : يسألوا أن يرجع لهم إلى ما يحبّون ، لم يرجع لهم ، لأنهم لا يستحقّون ذلك. يقال : أعتبني فلان ، أي : أرضاني بعد إسخاطه إيّاي. واستعتبته ، أي : طلبت منه أن يعتب ، أي : يرضى. قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) أي : سبّبنا لهم قرناء من الشياطين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا جنّة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، وما خلفهم من أمر الدنيا ، فزيّنوا لهم اللّذات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير. والثاني : ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، على عكس الأول. والثالث : ما بين أيديهم : ما فعلوه ، وما خلفهم : ما عزموا على فعله. وباقي الآية قد تقدّم تفسيره (١).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) أي : لا تسمعوه (وَالْغَوْا فِيهِ) أي : عارضوه باللّغو ، وهو الكلام الخالي عن فائدة. وكان الكفّار يوصي بعضهم بعضا : إذا سمعتم القرآن من محمّد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تلبّسوا عليهم قولهم. وقال مجاهد : والغوا فيه بالمكاء والصّفير والتّخليط من القول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فيسكتون.

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) يعني العذاب المذكور. وقوله : (النَّارُ) بدل من الجزاء (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي : دار الإقامة. قال الزّجّاج : النّار هي الدّار ، ولكنه كما تقول : لك في هذه الدّار دار السّرور ، وأنت تعني الدّار بعينها ، قال الشاعر :

أخو رغائب يعطيها ويسألها

يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر (٢)

__________________

(١) الأعراف : ٣٨ ، الإسراء : ١٦.

(٢) البيت لأعشى باهلة كما في «الأصمعيات» ٨٩ و«خزانة الأدب» ١ / ٨٩. والرغائب : العطايا الواسعة. والنّوفل : السيد المعطاء. والزفر : السيد. وقال في «اللسان» لأنه يزدفر بالأموال في الحمالات مطيقا له ، والمعنى : يأبى الظلامة لأنه النوفل الزفر.


(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لمّا دخلوا النّار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «أرنا» بسكون الراء. قال المفسّرون : يعنون إبليس وقابيل ، لأنهما سنّا المعصية ، (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي : في الدّرك الأسفل ، وهو أشدّ عذابا من غيره. ثم ذكر المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : وحّدوه (ثُمَّ اسْتَقامُوا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : استقاموا على التوحيد ، قاله أبو بكر الصّديق ، ومجاهد. والثاني : على طاعة الله وأداء فرائضه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة. والثالث : على الإخلاص والعمل إلى الموت ، قاله أبو العالية ، والسّدّيّ.

(١٢٤٣) وروى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصّدّيق ، وذلك أنّ المشركين قالوا : ربّنا الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يستقيموا ، وقالت اليهود : ربّنا الله ، وعزير ابنه ، ومحمّد ليس بنبيّ ، فلم يستقيموا ، وقالت النّصارى : ربّنا الله ، والمسيح ابنه ، ومحمّد ليس بنبيّ ، فلم يستقيموا ، وقال أبو بكر : ربّنا الله وحده ، ومحمّد عبده ورسوله ، فاستقام.

قوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا) أي : بأن لا تخافوا. وفي وقت نزولها عليهم قولان (١) : أحدهما : عند الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ؛ فعلى هذا في معنى (أَلَّا تَخافُوا) قولان : أحدهما : لا تخافوا الموت ، ولا تحزنوا على أولادكم ، قاله مجاهد. والثاني : لا تخافوا ما أمامكم ، ولا تحزنوا على ما خلفكم ، قاله عكرمة ، والسّدّيّ. والقول الثّاني : تتنزّل عليهم إذا قاموا من القبور ، قاله قتادة ؛ فيكون معنى (أَلَّا تَخافُوا) : أنهم يبشّرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة. قوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) قال المفسّرون : هذا قول الملائكة لهم ، والمعنى : نحن الذين كنّا نتولّاكم في الدّنيا ، لأنّ الملائكة تتولّى المؤمنين وتحبّهم لما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء ، (وَفِي الْآخِرَةِ) أي : ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنّة. وقال السّدّيّ : هم الحفظة على ابن آدم ، فلذلك قالوا : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ؛ وقيل : هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح. قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها) أي : في الجنّة. (نُزُلاً) قال الزّجّاج : معناه : أبشروا بالجنّة تنزلونها نزلا. وقال الأخفش : لكم فيها ما تشتهي أنفسكم أنزلناه نزلا.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما

____________________________________

(١٢٤٣) ذكره الواحدي بدون إسناد في «أسباب النزول» ٧٣٤ ، ولم أره مسندا ، فهو لا شيء ، لخلوه عن الإسناد ، والصحيح عموم الآية ، وذكر اليهود والنصارى في هذا الخبر منكر جدا.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١١٧ : قال زيد بن أسلم : يبشرونه عند موته ، وفي قبره ، وحين يبعث.

وهذا القول يجمع الأقوال كلها. وهو حس جدا ، وهو الواقع.


يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) فيمن أريد بهذا ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنهم المؤذّنون. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(١٢٤٤) «نزلت في المؤذّنين» ، وهذا قول عائشة ، ومجاهد ، وعكرمة.

(١٢٤٥) والثاني : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثالث : أنه المؤمن أجاب الله إلى ما دعاه ، ودعا الناس إلى ذلك (وَعَمِلَ صالِحاً) في إجابته ، قاله الحسن.

وفي قوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً) ثلاثة أقوال : أحدها : صلّى ركعتين بعد الأذان ، وهو قول عائشة ، ومجاهد ، وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) قال : الأذان (وَعَمِلَ صالِحاً) قال : الصّلاة بين الأذان والإقامة. والثاني : أدّى الفرائض وقام لله بالحقوق ، قاله عطاء. والثالث : صام وصلّى ، قاله عكرمة.

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) قال الزّجّاج : (لا) زائدة مؤكّدة ؛ والمعنى : ولا تستوي الحسنة والسّيّئة ، وللمفسّرين فيهما ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الحسنة : الإيمان ، والسّيّئة : الشّرك ، قاله ابن عباس .. والثاني : الحلم والفحش ، قاله الضّحّاك. والثالث : النّفور والصّبر ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وذلك كدفع الغضب بالصّبر ، والإساءة بالعفو ، فإذا فعلت ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصّديق القريب (٢). وقال عطاء. هو السّلام على من تعاديه إذا

____________________________________

(١٢٤٤) لم أره في شيء من كتب التفسير والأثر ، والأشبه أن المصنف أخذه من تفسير الكلبي أو مقاتل أو نحوهما ، فإن المتن باطل. والصحيح العموم في كل داع يدعو إلى الله تعالى.

(١٢٤٥) أثر واه. أخرجه الطبري ٣٠٥٤٢ عن ابن زيد ، واسمه عبد الرحمن ، وهو متروك ، ليس بشيء.

وأخرجه ٣٠٥٤١ عن السدي به ، ولم أره عن ابن عباس. ولا يصح ، وانظر التعليق المتقدم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١١٨ ـ ١١٩ : وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أولى الناس بذلك. وقال بعد أن ذكر الأقوال فيمن نزلت : والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية ، لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه ، فقصه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ١١٩ : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وقوله (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهو الصديق ، أي : إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك ، والحنو عليك ، حتى يصير كأنه ولي لك حميم ، أي : قريب إليك. من الشفقة عليك والإحسان إليك وقال في ٢ / ٣٤٩ : وقال بعض العلماء : الناس رجلان : فرجل محسن ، فخذ ما عفا لك من إحسانه ، ولا تكلّفه فوق طاقته ولا ما يحرجه ، وإما مسيء فمره بالمعروف ، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله ، فأعرض عنه ، فلعل ذلك أن يردّ كيده.


لقيته. قال المفسّرون : وهذه الآية منسوخة بآية السّيف. قوله تعالى : (وَما يُلَقَّاها) أي : ما يعطاها. قال الزّجّاج : ما يلقّى هذه الفعلة : وهي دفع السّيّئة بالحسنة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على كظم الغيظ (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الخير. وقال السّدّيّ : إلّا ذو جدّ. وقال قتادة : الحظّ العظيم : الجنّة ؛ فالمعنى : ما يلقّاها إلّا من وجبت له الجنّة.

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) قد فسّرناه في الأعراف (١).

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي : تكبّروا عن التوحيد والعبادة (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة (يُسَبِّحُونَ) أي : يصلّون. و«يسأمون» بمعنى يملّون. وفي موضع السّجدة قولان (٢) : أحدهما : أنه عند قوله : «يسأمون» ، قاله ابن عباس ، ومسروق ، وقتادة ، واختاره القاضي أبو يعلى ، لأنه تمام الكلام. والثاني : أنه عند قوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ، روي عن أصحاب عبد الله ، والحسن ، وأبي عبد الرّحمن.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) قال قتادة : غبراء متهشّمة ، قال الأزهري : إذا يبست الأرض ولم تمطر ، قيل : خشعت. قوله تعالى : (اهْتَزَّتْ) أي : تحرّكت بالنّبات (وَرَبَتْ) أي علت ، لأنّ النّبت إذا أراد أن يظهر ارتفعت له الأرض ؛ وقد سبق بيان هذا (٣).

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) قال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، وقد شرحنا معنى الإلحاد في النحل (٤) ؛ وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنه وضع الكلام على غير موضعه ،

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٠.

(٢) قال القرطبي في «تفسيره» ١٥ / ٣١٧ : وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ...) الآية ، هذه الآية آية سجدة بلا خلاف ، واختلفوا في موضع السجود منها فقال مالك : موضعه (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لأنه متصل بالأمر وكان علي وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهم يسجدون عند قوله : (تَعْبُدُونَ). وقال ابن وهب والشافعي : موضعه (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال وبه قال أبو حنيفة ، وكان ابن عباس يسجد عند قوله : (يَسْأَمُونَ). وقال ابن عمر : اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي قال ابن العربي : والأمر قريب.

(٣) الحج : ٥.

(٤) النحل : ١٠٣.


رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنه المكاء والصّفير عند تلاوة القرآن ، قاله مجاهد. والثالث : أنه التكذيب بالآيات ، قاله قتادة. والرابع : أنه المعاندة ، قاله السّدّيّ. والخامس : أنه الميل عن الإيمان بالآيات ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) هذا وعيد بالجزاء (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا عامّ ، غير أنّ المفسّرين ذكروا فيمن أريد به سبعة أقوال : أحدها : أنه أبو جهل وأبو بكر الصّدّيق ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أبو جهل وعمّار بن ياسر ، قاله عكرمة. والثالث : أبو جهل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والرابع : أبو جهل وعثمان بن عفّان ، حكاه الثّعلبي. والخامس : أبو جهل وحمزة ، حكاه الواحدي. والسادس : أبو جهل وعمر بن الخطّاب. والسابع : الكافر والمؤمن ، حكاهما الماوردي.

قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) قال الزّجّاج : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الوعيد والتّهديد. قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) يعني القرآن ؛ ثمّ أخذ في وصف الذّكر ؛ وترك جواب «إنّ» ، وفي جوابها هاهنا قولان : أحدهما : أنه (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، ذكره الفرّاء. والثاني : أنه متروك ، وفي تقديره قولان : أحدهما : إنّ الذين كفروا بالذّكر لمّا جاءهم كفروا به. والثاني : إنّ الذين كفروا يجازون بكفرهم.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) فيه أربعة أقوال : أحدها : منيع من الشيطان لا يجد إليه سبيلا ، قاله السّدّيّ. والثاني : كريم على الله ، قاله ابن السّائب. والثالث : منيع من الباطل ، قاله مقاتل. والرابع : يمتنع على الناس أن يقولوا مثله ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) فيه ثلاثة أقوال. أحدها : التكذيب ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : الشيطان. والثالث : التّبديل ، رويا عن مجاهد. قال قتادة : لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقّا ولا يزيد فيه باطلا ، وقال مجاهد : لا يدخل فيه ما ليس منه. وفي قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : بين يدي تنزيله وبعد نزوله. والثاني : أنه ليس قبله كتاب يبطله ولا يأتي بعده كتاب يبطله. والثالث : لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم ولا في إخباره عمّا تأخّر.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))

قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) فيه قولان : أحدهما : أنه قد قيل فيمن أرسل قبلك : ساحر وكاهن ومجنون. وكذّبوا كما كذّبت ، هذا قول الحسن ، وقتادة ، والجمهور. والثاني : ما تخبر إلّا بما أخبر الأنبياء قبلك من أنّ الله غفور ، وأنه ذو عقاب ، حكاه الماوردي. قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) يعني الكتاب الذي أنزل عليه (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) أي : بغير لغة العرب (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي : هلّا بيّنت آياته بالعربية حتى نفهمه؟! (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «آعجمي» بهمزة ممدودة ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ؛ وأبو بكر


عن عاصم : «أأعجمي» بهمزتين ، والمعنى : أكتاب أعجميّ ونبيّ عربيّ؟! وهذا استفهام إنكار ؛ أي : لو كان كذلك لكان أشدّ لتكذيبهم. (قُلْ هُوَ) يعني القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) من الضّلالة (وَشِفاءٌ) للشّكوك والأوجاع. و«الوقر» : الصّمم ؛ فهم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم. (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي : ذو عمى. قال قتادة : صمّوا عن القرآن وعموا عنه ، (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي : إنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي ينادى من بعيد.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ والمعنى : كما آمن بكتابك قوم وكذّب به قوم. فكذلك كتاب موسى ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب إلى أجل مسمّى وهو القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بالعذاب الواقع بالمكذّبين (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍ) من صدقك وكتابك ، (مُرِيبٍ) أي : موقع لهم الرّيبة.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

قوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) سبب نزولها أنّ اليهود قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرنا عن السّاعة إن كنت رسولا كما تزعم ، قاله مقاتل (١). ومعنى الآية : لا يعلم قيامها إلّا هو ، فإذا سئل عنها فعلمها مردود إليه. (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «من ثمرة». وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «من ثمرات» على الجمع (مِنْ أَكْمامِها) أي : أوعيتها. قال ابن قتيبة : أي : من المواضع التي كانت فيها مستترة ، وغلاف كلّ شيء : كمّه ، وإنما قيل : كمّ القميص ، من هذا. قال الزّجّاج : الأكمام : ما غطّى ، وكلّ شجرة تخرج ما هو مكمّم فهي ذات أكمام ، وأكمام النّخلة : ما غطّى جمّارها من السّعف والليف والجذع ، وكلّ ما أخرجته النّخلة فهو ذو أكمام ، فالطّلعة كمّها قشرها ، ومن هذا قيل للقلنسوة : كمّة ، لأنها تغطّي الرأس ، ومن هذا كمّا القميص ، لأنهما يغطّيان اليدين.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : ينادي الله تعالى المشركين (أَيْنَ شُرَكائِي) الذين كنتم تزعمون (قالُوا آذَنَّاكَ) قال الفرّاء ، وابن قتيبة : أعلمناك ، وقال مقاتل : أسمعناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه من قول المشركين ؛ والمعنى : ما منّا من شهيد بأنّ لك شريكا ، فيتبرّؤون يومئذ ممّا كانوا يقولون ، هذا قول مقاتل. والثاني : أنه من قول الآلهة التي كانت تعبد ؛ والمعنى : ما منّا من شهيد لهم بما قالوا ، قاله الفرّاء ، وابن قتيبة.

__________________

(١) باطل. عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، والمتن باطل فإن السورة مكية بإجماع ، وأخبار يهود وسؤالاتهم كانت في المدينة.


قوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي بطل عنهم في الآخرة (ما كانُوا يَدْعُونَ) أي يعبدون في الدنيا (وَظَنُّوا) أي أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) وقد شرحنا المحيص في سورة النّساء (١).

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) قال المفسّرون : المراد به الكافر ؛ فالمعنى : لا يملّ الكافر (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي : من دعائه بالخير ، وهو المال والعافية. (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) وهو الفقر والشّدّة ، والمعنى : إذا اختبر بذلك يئس من روح الله وقنط من رحمته. وقال أبو عبيدة : اليؤوس ، فعول من يأس ، والقنوط ، فعول من قنط.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) أي : خيرا وعافية وغنى ، (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي : هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به ، ثم يشكّ في البعث فيقول : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي : لست على يقين من البعث (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) يعني الجنّة ، أي : كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : لنخبرنّهم بمساوئ أعمالهم. وما بعده قد سبق (٢) إلى قوله تعالى : (وَنَأى بِجانِبِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، «ونأى» مثل «نعى» ، وقرأ ابن عامر : «وناء» مفتوحة النون ، ممدودة والهمزة بعد الألف. وقرأ حمزة : «نئي» مكسورة النون والهمزة. (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) قال الفرّاء ، وابن قتيبة : معنى العريض : الكثير ، وإن وصفته بالطّول أو بالعرض جاز في الكلام. (قُلْ) يا محمّد لأهل مكّة (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) أي خلاف للحقّ (بَعِيدٍ) عنه؟ وهو اسم ؛ والمعنى : فلا أحد أضلّ منكم. وقال ابن جرير : معنى الآية : ثمّ كفرتم به ، ألستم في شقاق للحقّ وبعد عن الصّواب؟! فجعل مكان هذا باقي الآية.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فيه خمسة أقوال (٣) : أحدها : في الآفاق :

__________________

(١) النساء : ١٢١.

(٢) إبراهيم : ١٧ ، الإسراء : ٨٣.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ١٢٥ : إن الله وعد نبيه أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذبين آيات في الآفاق ، وغير معقول أن يكون تهديدهم بأن يريهم ما هم راؤوه ، بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا أراءوه قبل من ظهور نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ١٢٣ وقال : ويحتمل أيضا أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركّب منه وفيه وعليه من


فتح أقطار الأرض ، وفي أنفسهم : فتح مكّة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أنها في الآفاق : وقائع الله في الأمم الخالية ، وفي أنفسهم : يوم بدر ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثالث : أنّها في الآفاق : إمساك القطر عن الأرض كلّها ، وفي أنفسهم : البلايا التي تكون في أجسادهم ، قاله ابن جريج. والرابع : أنها في الآفاق : آيات السماء كالشمس والقمر والنّجوم ، وفي أنفسهم : حوادث الأرض ، قاله ابن زيد. وحكي عن ابن زيد ؛ أنّ التي في أنفسهم : سبيل الغائط والبول ، فإنّ الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد ، ويخرج من مكانين. والخامس : أنها في الآفاق : آثار من مضى قبلهم من المكذّبين ، وفي أنفسهم : كونهم خلقوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما إلى أن نقلوا إلى العقل والتمييز ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن. والثاني : إلى جميع ما دعاهم إليه الرسول. وقال ابن جرير : معنى الآية : حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا على محمّد وأوحينا إليه من الوعد له بأنّا مظهر ودينه على الأديان كلّها. (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : أو لم يكف به أنه شاهد على كلّ شيء؟! قال الزجّاج : المعنى : أو لم يكفهم شهادة ربّك؟! ومعنى الكفاية هاهنا : أنه قد بيّن لهم ما فيه كفاية في الدّلالة على توحيده وتثبيت رسله.

____________________________________

المواد والأخلاط والهيئات العجيبة. كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع ـ تبارك وتعالى ـ وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة. من حسن وقبيح وبين ذلك. وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يحوزها ولا يتعدّاها.


سورة الشّورى

وتسمى : سورة حم ، عسق. وهي مكّيّة ، رواه العوفيّ وغيره عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة قالا : إلّا أربع آيات نزلن بالمدينة ، أوّلها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) (١) وقال مقاتل : فيها من المدنيّ قوله : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله : (بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢) وقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) إلى قوله : (مِنْ سَبِيلٍ) (٣).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

قوله تعالى : (حم) قد سبق تفسيره. قوله تعالى : (عسق) فيه ثلاثة أقوال (٤). أحدها : أنه قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنه حروف من أسماء ؛ ثم فيه خمسة أقوال : أحدها : أنّ العين علم الله ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن. والثاني : أنّ العين فيها عذاب ، والسين فيها مسخ ، والقاف فيها قذف ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثالث : أنّ الحاء من حرب ، والميم من تحويل ملك ، والعين من عدوّ مقهور ، والسين استئصال بسنين كسنيّ يوسف ، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض ، قاله عطاء. والرابع : أن العين من عالم ، والسين من قدّوس ، والقاف من قاهر ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : أنّ العين من العزيز ، والسين من السّلام ، والقاف من القادر ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة.

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) الشورى : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) الشورى : ٣٩ ـ ٤١.

(٤) قال الشوكاني رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٠٢ : قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح ، واختلفوا في (حم عسق) وقيل فيها ، مما هو متكلف متعسف لم يدل عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة ، وقد ذكرنا قبل ذلك ما روي من ذلك مما لا أصل له.


قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه كما أوحيت (حم عسق) إلى كلّ نبيّ ، كذلك نوحيها إليك ، قاله أبو صالح عن ابن عباس (٢). والثاني : كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى من قبلك ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أنّ «حم عسق» نزلت في أمر العذاب ، فقيل : كذلك نوحي إليك أنّ العذاب نازل بمن كذّبك كما أوحينا ذلك إلى من كان قبلك ، قاله مقاتل. والرابع : أنّ المعنى : هكذا نوحي إليك ، قاله ابن جرير.

وقرأ ابن كثير : «يوحى» بضمّ الياء وفتح الحاء كأنه إذا قيل : من يوحي؟ قيل : الله. وروى أبان عن عاصم : «نوحي» بالنون وكسر الحاء.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة : «تكاد» بالتاء «يتفطّرن» بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها. وقرأ نافع ، والكسائيّ ، «يكاد» بالياء «يتفطّرن» مثل قراءة ابن كثير. وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بالنون وكسر الطاء وتخفيفها ، أي : يتشقّقن (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي : من فوق الأرضين من عظمة الرّحمن ؛ وقيل : من قول المشركين : «اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً». ونظيرها التي في مريم (٣). (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قال بعضهم : يصلّون بأمر ربّهم ؛ وقال بعضهم : ينزّهونه عمّا لا يجوز في صفته (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) فيه قولان : أحدهما : أنه أراد المؤمنين ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. والثاني : أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين ، فلمّا ابتلي هاروت وماروت استغفروا لمن في الأرض. ومعنى استغفارهم : سؤالهم الرّزق لهم ، قاله ابن السّائب. وقد زعم قوم منهم مقاتل أنّ هذه الآية منسوخة بقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٤) ، وليس بشيء ، لأنهم إنّما يستغفرون للمؤمنين دون الكفّار ، فلفظ هذه الآية عامّ ، ومعناها خاصّ ، ويدلّ على التّخصيص قوله :

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ الكافر لا يستحقّ أن يستغفر له.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يعني كفّار مكّة اتّخذوا آلهة فعبدوها من دونه (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي : حافظ لأعمالهم ليجازيهم بها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : لم نوكّلك بهم فتؤخذ بهم. وهذه الآية عند جمهور المفسّرين منسوخة بآية السّيف ، ولا يصحّ.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

__________________

(١) قال الزمخشري رحمه‌الله في «الكشاف» ٤ / ٢١٣ : (كذلك يوحى إليك) أي مثل ذلك الوحي. أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك وإلى الرسل (من قبلك) يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور ، وأوحاه من قبلك إلى رسله ، على معنى : أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية ، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده في الأولين والآخرين ، ولم يقل : أوحي إليك ، ولكن على لفظ المضارع ، ليدل على أن إيحاء مثله عادته.

(٢) أبو صالح غير ثقة وبخاصة في ابن عباس ، وروايته الكلبي ، وهو وضاع.

(٣) مريم : ٩٠.

(٤) غافر : ٧.


قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : ومثل ما ذكرنا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليفهموا ما فيه (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) يعني مكّة ، والمراد : أهلها ، (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي : وتنذرهم يوم الجمع ، وهو يوم القيامة ، يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين وأهل السموات والأرضين (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شكّ في هذا الجمع أنه كائن ، ثم بعد الجمع يتفرّقون ، وهو قوله : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). ثم ذكر سبب افتراقهم فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد ، كقوله : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (١) (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في دينه (وَالظَّالِمُونَ) وهم الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يدفع عنهم العذاب (وَلا نَصِيرٍ) يمنعهم منه. (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي بل اتّخذ الكافرون من دون الله (أَوْلِياءَ) يعني آلهة يتولّونهم (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) أي وليّ أوليائه ، فليتّخذوه وليّا دون الآلهة ؛ وقال ابن عباس : وليّك يا محمّد ووليّ من اتّبعك.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : من أمر الدّين ؛ وقيل : بل هو عامّ (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) فيه قولان : أحدهما : علمه عند الله. والثاني : هو يحكم فيه. قال مقاتل : وذلك أنّ أهل مكّة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم ، فقال الله : أنا الذي أحكم فيه (ذلِكُمُ اللهُ) الذي يحكم بين المختلفين هو (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مهمّاتي (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في المعاد. (فاطِرُ السَّماواتِ) قد سبق بيانه (٢) ، (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من مثل خلقكم (أَزْواجاً) نساء (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أصنافا ذكورا وإناثا ، والمعنى أنه خلق لكم الذّكر والأنثى من الحيوان كلّه (يَذْرَؤُكُمْ) فيها ثلاثة أقوال : أحدها : يخلقكم ، قاله السّدّيّ. والثاني : يعيّشكم ، قاله مقاتل. والثالث : يكثّركم ، قاله الفرّاء. وفي قوله (فِيهِ) قولان : أحدهما : أنها على أصلها ، قاله الأكثرون. فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدّم ذكر الأزواج ، قاله زيد بن أسلم. فعلى هذا يكون المعنى : يخلقكم في بطون النّساء ، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة ، فقال : يخلقكم في الرّحم أو في الزّوج ؛ وقال ابن جرير : يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ؛ ويعيّشكم فيما جعل لكم من الأنعام.

__________________

(١) الأنعام : ٣٥.

(٢) الأنعام : ١٤.


والثاني : أنها ترجع إلى الأرض ، قاله ابن زيد ؛ فعلى هذا يكون المعنى : يذرؤكم فيما خلق من السموات والأرض. والثالث : أنها ترجع إلى الجعل المذكور ، ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : يعيّشكم فيما جعل من الأنعام ، قاله مقاتل ، والثاني : يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج ، قاله الواحديّ. والقول الثاني : أنّ «فيه» بمعنى «به» ؛ والمعنى : يكثّركم بما جعل لكم ، قاله الفرّاء والزّجّاج. قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قال ابن قتيبة : أي : ليس كهو شيء ، والعرب تقيم المثل مقام النّفس ، فتقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي : أنا لا يقال لي هذا. وقال الزّجّاج : الكاف مؤكّدة ؛ والمعنى : ليس مثله شيء ، وما بعد هذا قد سبق بيانه (١) إلى قوله : (شَرَعَ لَكُمْ) أي : بيّن وأوضح (مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام ، قاله قتادة. والثاني : تحريم الأخوات والأمّهات ، قاله الحكم. والثالث : التوحيد وترك الشّرك. قوله تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي : من القرآن وشرائع الإسلام. قال الزّجّاج : المعنى : وشرع الذي أوحينا إليك وشرع لكم ما وصّى به إبراهيم وموسى وعيسى. وقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) تفسير قوله : (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) وجائز أن يكون تفسيرا ل (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) ولقوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ولقوله : (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) ، فيكون المعنى : شرع لكم ولمن قبلكم إقامة الدّين وترك الفرقة ، وشرع الاجتماع على اتّباع الرّسل. وقال مقاتل : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) يعني التوحيد (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي لا تختلفوا (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أي عظم على مشركي مكّة (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يا محمّد من التّوحيد.

قوله تعالى : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ) أي : يصطفي من عباده لدينه (مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي) إلى دينه ، (مَنْ يُنِيبُ) أي : يرجع إلى طاعته. ثم ذكر افتراقهم بعد أن أوصاهم بترك الفرقة ، فقال : (وَما تَفَرَّقُوا) يعني أهل الكتاب (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من بعد كثرة علمهم للبغي. والثاني : من بعد أن علموا أنّ الفرقة ضلال. والثالث : من بعد ما جاءهم القرآن ، بغيا منهم على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير المكذّبين من هذه الأمّة إلى يوم القيامة ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإنزال العذاب على المكذّبين (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) يعني اليهود والنّصارى (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد أنبيائهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي : من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

قوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) قال الفرّاء : المعنى ، فإلى ذلك ، تقول : دعوت إلى فلان ، ودعوت

__________________

(١) الرعد : ٢٦ ، الزمر : ٦٣.


لفلان ، و«ذلك» بمعنى «هذا» ، وللمفسّرين فيه قولان (١) : أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن السّائب. والثاني : أنه التوحيد ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يعني أهل الكتاب ، لأنهم دعوه إلى دينهم. قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) قال بعض النّحويّين : المعنى : أمرت كي أعدل. وقال غيره : المعنى : أمرت بالعدل. وتقع «أمرت» على «أن» ، وعلى «كي» ، وعلى «اللام» ؛ يقال : أمرت أن أعدل ، وكي أعدل ، ولأعدل. ثم في ما أمر أن يعدل فيه قولان : أحدهما : في الأحكام إذا ترافعوا إليه. والثاني : في تبليغ الرّسالة. قوله تعالى : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي : هو إلهنا وإن اختلفنا ، فهو يجازينا بأعمالنا ، فذلك قوله : (لَنا أَعْمالُنا) أي : جزاؤها. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) قال مجاهد : لا خصومة بيننا وبينكم.

فصل : وفي هذه الآية قولان : أحدهما : أنها اقتضت الاقتصار على الإنذار ، وذلك قبل القتال ، ثم نزلت آية السّيف فنسختها ، قاله الأكثرون. والثاني : أنّ معناها : إنّ الكلام ـ بعد ظهور الحجج والبراهين ـ قد سقط بيننا ، فعلى هذا هي محكمة ، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله عن طائفة من المفسّرين.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي : يخاصمون في دينه. قال قتادة : هم اليهود ، قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبيّنا قبل نبيّكم ، فنحن خير منكم. وعلى قول مجاهد : هم المشركون ، طمعوا أن تعود الجاهلية. قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي : من بعد إجابة الناس إلى الإسلام (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي : خصومتهم باطلة.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِ) أي : لم ينزله لغير شيء (وَالْمِيزانَ) فيه قولان : أحدهما : أنه العدل ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والجمهور. والثاني : أنه الذي يوزن به ، حكي عن مجاهد. ومعنى إنزاله ؛ إلهام الخلق أن يعملوا به ، وأمر الله عزوجل إيّاهم بالإنصاف. وسمّي العدل ميزانا لأنّ الميزان آلة الإنصاف والتّسوية بين الخلق. وتمام الآية مشروح في الأحزاب (٢).

__________________

(١) قال الزمخشري رحمه‌الله في «الكشاف» ٤ / ٢٢٠ : فلأجل ذلك التفرق ولما حدث سببه من تشعب الكفر شعبا (فَادْعُ) إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفة القديمة (وَاسْتَقِمْ) عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب ، أي كتاب صح أن أنزله ، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٢٩ : اشتملت هذه الآية على عشر كلمات مستقلة ، كل منها منفصلة عن التي قبلها ، حكم برأسه ، قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه.

(٢) الأحزاب : ٦٣.


قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) لأنهم لا يخافون ما فيها ، إذ لم يؤمنوا بكونها ، فهم يطلبون قيامها استبعادا واستهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ) أي : خائفون (مِنْها) لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيّون ، ولا يدرون ما يكون منهم (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي : أنها كائنة لا محالة (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي : يخاصمون في كونها (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) حين لم يتفكّروا ، فيعلموا قدرة الله على إقامتها. (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) قد شرحنا معنى اسمه «اللطيف» في الأنعام (١) ، وفي عباده ها هنا قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون. والثاني : أنه عامّ في الكلّ. ولطفه بالفاجر : أنه لا يهلكه. (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي : يوسّع له الرّزق. قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) قال ابن قتيبة : أي عمل الآخرة ، يقال : فلان يحرث للدّنيا ، أي : يعمل لها ويجمع المال ؛ فالمعنى من أراد بعمله الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي : نضاعف له الحسنات. قال المفسّرون : من أراد العمل لله بما يرضيه ، أعانه الله على عبادته ، ومن أراد الدّنيا مؤثرا لها على الآخرة لأنه غير مؤمن بالآخرة ، يؤته منها ، وهو الذي قسم له ، (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لأنه كافر بها لم يعمل لها.

فصل : اتّفق العلماء على أنّ أول هذه الآية إلى «حرثه» محكم ، واختلفوا في باقيها على قولين : أحدهما : أنه منسوخ بقوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) (٢) ، وهذا قول جماعة منهم مقاتل. والثاني : أنّ الآيتين محكمتان متّفقتان في المعنى ، لأنه لم يقل في هذه الآية : نؤته مراده ، فعلم أنه إنما يؤتيه الله ما أراد ، وهذا موافق لقوله : «لمن نريد» ، ويحقّق هذا أنّ لفظ الآيتين لفظ الخبر ومعناهما معنى الخبر ، وذلك لا يدخله النّسخ ، وهذا مذهب جماعة منهم قتادة.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤))

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يعني كفّار مكّة ؛ والمعنى : ألهم آلهة (شَرَعُوا) أي ابتدعوا (لَهُمْ) دينا لم يأذن به الله؟! (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وهي : القضاء السّابق بأنّ الجزاء يكون في القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا بنزول العذاب على المكذّبين. والظالمون في هذه الآية والتي تليها : يراد بهم المشركون. والإشفاق : الخوف. والذي كسبوا : هو الكفر والتّكذيب ، (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) يعني جزاءه. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (ذلِكَ) يعني : ما تقدّم ذكره من الجنّات (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) قال أبو سليمان الدّمشقي : «ذلك» بمعنى : هذا الذي أخبرتكم به بشرى يبشّر الله بها عباده. وقرأ

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣.

(٢) الإسراء : ١٨.


ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «يبشر» بفتح الياء وسكون الباء وضمّ الشين.

قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال :

(١٢٤٦) أحدها : أنّ المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.

(١٢٤٧) والثاني : أنه لمّا قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وليس في يده سعة ، فقال الأنصار : إنّ هذا الرجل قد هداكم الله به ، وليس في يده سعة ، فاجمعوا له من أموالكم ما لا يضرّكم ، ففعلوا ثم أتوه به ، فنزلت هذه الآية ، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا.

(١٢٤٨) والثالث : أنّ المشركين اجتمعوا في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.

والهاء في «عليه» كناية عمّا جاء به من الهدى. وفي الاستثناء هاهنا قولان : أحدهما : أنه من الجنس ، فعلى هذا يكون سائلا أجرا. وقد أشار ابن عباس في رواية الضّحّاك إلى هذا المعنى ، ثم قال : نسخت هذه بقوله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) الآية (١) ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل. والثاني : أنه استثناء من غير الأول ، لأنّ الأنبياء لا يسألون على تبليغهم أجرا ، وإنما المعنى : لكنّي أذكّركم المودّة في القربى ، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس ، منهم العوفيّ ، وهذا اختيار المحقّقين ، وهو الصحيح ، فلا يتوجّه النّسخ أصلا.

وفي المراد بالقربى خمسة أقوال : أحدها : أنّ معنى الكلام : إلّا أن تودّوني لقرابتي منكم ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد في الأكثرين. قال ابن عباس : ولم يكن بطن من بطون قريش إلّا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم قرابة. والثاني : إلّا أن تودّوا قرابتي ، قاله عليّ بن الحسين ، وسعيد بن جبير ، والسّدّيّ. ثم في المراد بقرابته قولان :

(١٢٤٩) أحدهما : عليّ وفاطمة وولدها ، وقد رووه مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : أنهم الذين تحرم عليهم الصّدقة ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو المطّلب.

____________________________________

(١٢٤٦) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» ٥ / ٧٠٠ عن الضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس.

(١٢٤٧) ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٣٥ عن ابن عباس بدون إسناد ، وقال الحافظ في «تخريجه» ٤ / ٢٢١ ذكره الثعلبي والواحدي في «الأسباب» عن ابن عباس بغير سند ، ويشبه أن يكون عن الكلبي وعن أبي صالح اه. وهذا هو الراجح فإن الواحدي إذا وجد الكلبي في إسناد ما. فإنه يحذف الإسناد فيذكره تعليقا ليبين أنه حديث واه.

(١٢٤٨) واه ، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٣٦ عن قتادة مرسلا ، ولم أره عن غيره ، فهو واه.

(١٢٤٩) تقدم في سورة آل عمران.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ١٤٥ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، وأشبههما بظاهر التنزيل قول من قال : معناه : قل لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش إلّا أن تودوني في قرابتي منكم ، وتصلوا الرحم التي بينكم وبيني.


والثالث : أنّ المعنى : إلّا أن تودّدوا إلى الله تعالى فيما يقرّبكم إليه من العمل الصّالح ، قاله الحسن ، وقتادة. والرابع : إلّا أن تودّوني ، كما تودّون قرابتكم ، قاله ابن زيد. والخامس : إلّا أن تودّوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم ، حكاه الماوردي. والأول : أصحّ.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ) أي : من يكتسب (حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي : نضاعفها بالواحدة عشرا فصاعدا. وقرأ ابن السّميفع ، وابن يعمر ، والجحدري : «يزد له» بالياء (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (شَكُورٌ) للقليل حتى يضاعفه. (أَمْ يَقُولُونَ) أي : بل يقول كفار مكّة (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) حين زعم أنّ القرآن من عند الله! (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) فيه قولان : أحدهما : يختم على قلبك فينسيك القرآن ، قاله قتادة. والثاني : يربط على قلبك بالصّبر على أذاهم فلا يشقّ عليك قولهم : إنك مفتر ، قاله مقاتل ، والزّجّاج. قوله تعالى : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) قال الفرّاء : ليس بمردود على «يختم» فيكون جزما ، وإنما هو مستأنف ، ومثله ممّا حذفت منه الواو (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) (١). وقال الكسائيّ : فيه تقديم وتأخير. تقديره : والله يمحو الباطل. وقال الزّجّاج : الوقف عليها «ويمحوا» بواو وألف ؛ والمعنى : والله يمحو الباطل على كلّ حال ، غير أنها كتبت في المصاحف بغير واو ، لأنّ الواو تسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين ، فكتبت على الوصل ، ولفظ الواو ثابت ؛ والمعنى : ويمحو الله الشّرك ويحقّ الحقّ بما أنزله من كتابه على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) قد ذكرناه في براءة (٢).

قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي : من خير وشرّ. قرأ حمزة والكسائيّ ، وحفص عن عاصم بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء ، على الإخبار عن المشركين والتّهديد لهم. و (يَسْتَجِيبُ) بمعنى يجيب ، وفيه قولان : أحدهما : أنّ الفعل فيه لله ، والمعنى : يجيبهم إذا سألوه ؛ وقد روى قتادة عن أبي إبراهيم اللّخمي (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال : يشفّعون في إخوانهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قال : يشفّعون في إخوان إخوانهم. والثاني : أنه للمؤمنين ؛ فالمعنى : يجيبونه. والأول أصحّ. قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ).

(١٢٥٠) قال خبّاب بن الأرتّ : فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنّا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنّضير فتمنّيناها ، فنزلت هذه الآية.

____________________________________

(١٢٥٠) ذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٣٧ عن خباب بدون إسناد فلا يحتج به ، ولا يصح فالسورة مكية ، والخبر مدني. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٤٠٠ بتخريجنا.

__________________

(١) الإسراء : ١١.

(٢) التوبة : ١٠٤.


ومعنى الآية : لو أوسع الله الرّزق لعباده لبطروا وعصوا وبغى بعضهم على بعض ، (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي : ينزل أمره بتقدير ما يشاء ممّا يصلح أمورهم ولا يطغيهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) فمنهم من لا يصلحه إلّا الغنى ، ومنهم من لا يصلحه إلّا الفقر.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) يعني المطر وقت الحاجة (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي : يئسوا ، وذلك أدعى لهم إلى شكر منزله (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) في الرّحمة هاهنا قولان : أحدهما : المطر ، قاله مقاتل. والثاني : الشمس بعد المطر ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي. وقد ذكرنا «الوليّ» في سورة النّساء (١) و«الحميد» في البقرة (٢). قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) وهو ما يلحق المؤمن من مكروه (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) من المعاصي. وقرأ نافع ، وابن عامر : «بما كسبت أيديكم» بغير فاء ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشّام (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من السّيّئات فلا يعاقب بها. وقيل لأبي سليمان الدّاراني : ما بال العقلاء أزالوا اللّوم عمّن أساء إليهم؟ قال : إنّهم علموا أنّ الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم ، وقرأ هذه الآية. وقوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) إن أراد الله عقوبتكم ، وهذا يدخل فيه الكفّار والعصاة كلّهم.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) والمراد بالجوار : السّفن. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «الجواري» بياء في الوصل ، إلّا أنّ ابن كثير يقف أيضا بياء ، وأبو عمرو بغير ياء ، ويعقوب يوافق ابن كثير ، والباقون بغير ياء في الوصل والوقف ؛ قال أبو عليّ : والقياس ما ذهب إليه ابن كثير ، ومن حذف فقد كثر حذف مثل هذا في كلامهم. (كَالْأَعْلامِ) قال ابن قتيبة : كالجبال ، واحدها : علم. وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال : كلّ شيء مرتفع عند العرب فهو علم.

قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) التي تجريها (فَيَظْلَلْنَ) يعني الجواري (رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي : سواكن على ظهر البحر لا يجرين. (أَوْ يُوبِقْهُنَ) أي : يهلكهنّ ويغرقهنّ ، والمراد أهل السّفن ،

__________________

(١) النساء : ٤٥.

(٢) البقرة : ٢٦٧.


ولذلك قال : (بِما كَسَبُوا) أي : من الذّنوب (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من ذنوبهم ، فينجيهم من الهلاك. (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) قرأ نافع ، وابن عامر : (وَيَعْلَمَ) بالرفع على الاستئناف وقطعه من الأول : وقرأ الباقون بالنّصب ، قال الفرّاء : هو مردود على الجزم ؛ إلّا أنه صرف ، والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب. وللمفسّرين في معنى الآية قولان : أحدهما : ويعلم الذين يخاصمون في آيات الله حين يؤخذون بالغرق أنه لا ملجأ لهم. والثاني : أنهم يعلمون بعد البعث أنه لا مهرب لهم من العذاب. قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما أعطيتم من الدنيا فهو متاع تتمتّعون به ، ثم يزول سريعا ، (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا) لا للكافرين ، لأنه إنما أعدّ لهم في الآخرة العذاب.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «كبير الإثم» على التوحيد من غير ألف ، والباقون بألف. وقد شرحنا الكبائر في سورة النّساء (١). وفي المراد بالفواحش هاهنا قولان : أحدهما : الزّنا. والثاني : موجبات الحدود.

قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : يعفون عمّن ظلمهم طلبا لثواب الله تعالى. (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي : أجابوه فيما دعاهم إليه. (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) قال ابن قتيبة : أي يتشاورون فيه بينهم ، وقال الزّجّاج : المعنى أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) اختلفوا في هذا البغي على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه بغي الكفّار على المسلمين ، قال عطاء : هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفّار من مكّة وبغوا عليهم ، ثم مكّنهم الله منهم فانتصروا. وقال زيد بن أسلم : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين بمكّة ، فرقة كانت تؤذى فتعفو عن المشركين ، وفرقة كانت تؤذى فتنتصر ، فأثنى الله عزوجل عليهم جميعا ، فقال في الذين لم ينتصروا : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ، وقال في المنتصرين : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي : من المشركين. وقال ابن زيد : ذكر المهاجرين ، وكانوا صنفين ، صنفا عفا ، وصنفا انتصر ، فقال : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ، فبدأ بهم ، وقال في المنتصرين : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي : من المشركين ؛ وقال : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) إلى قوله : (يُنْفِقُونَ) وهم الأنصار : ثم ذكر الصّنف الثالث فقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) من المشركين. والثاني : أنه بغي المسلمين على المسلمين خاصّة. والثالث : أنه عامّ في جميع البغاة ، سواء كانوا مسلمين أو كافرين.

فصل : واختلف في هذه الآية علماء النّاسخ والمنسوخ ، فذهب بعض القائلين بأنها في المشركين

__________________

(١) النساء : ٣١.


إلى أنها منسوخة بآية السّيف ، فكأنهم يشيرون إلى أنها أثبتت الانتصار بعد بغي المشركين ، فلمّا جاز لنا أن نبدأهم بالقتال ، دلّ على أنها منسوخة. وللقائلين بأنها في المسلمين قولان : أحدهما : أنها منسوخة بقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) (١) فكأنها نبّهت على مدح المنتصر ، ثم أعلمنا أنّ الصبر والغفران أمدح ، فبان وجه النّسخ. والثاني : أنها محكمة ، لأنّ الصبر والغفران فضيلة ، والانتصار مباح ، فعلى هذا تكون محكمة ، وهو الأصحّ.

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ـ وظاهرها مدح المنتصر ـ وبين آيات الحثّ على العفو؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه انتصار المسلمين من الكافرين ، وتلك رتبة الجهاد كما ذكرنا عن عطاء. والثاني : أنّ المنتصر لم يخرج عن فعل أبيح له ، وإن كان العفو أفضل ، ومن لم يخرج من الشّرع بفعله ، حسن مدحه. قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين! صنف يعفو ، فبدأ بذكره ، وصنف ينتصر. والثالث : أنه إذا بغى على المؤمن فاسق ، فلأنّ له اجتراء الفسّاق عليه ، وليس للمؤمن أن يذلّ نفسه ، فينبغي له أن يكسر شوكة العصاة لتكون العزّة لأهل الدّين. قال إبراهيم النّخعي : كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق ، فإذا قدروا عفوا ، وقال القاضي أبو يعلى : هذه الآية محمولة على من تعدّى وأصرّ على ذلك ، وآيات العفو محمولة على أن يكون الجاني نادما.

قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) قال مجاهد والسّدّيّ : هو جواب القبيح ، إذا قال له كلمة أجابه بمثلها من غير أن يعتدي. وقال مقاتل : هذا في القصاص في الجراحات والدّماء. (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) فلم يقتصّ (وَأَصْلَحَ) العمل (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) يعني من بدأ بالظّلم. وإنما سمّى المجازاة سيّئة ، لما بيّنّا عند قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (٢) قال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم من كان أجره على الله ، فلا يقوم إلّا من عفا. (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي : بعد ظلم الظّالم إيّاه ؛ والمصدر هاهنا مضاف إلى المفعول ، ونظيره : (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) (٣) و (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) (٤) ، (فَأُولئِكَ) يعني المنتصرين (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي : من طريق إلى لوم ولا حدّ ، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي : يبتدئون بالظّلم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : يعملون فيها بالمعاصي. قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ) فلم ينتصر (وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ) الصّبر والتّجاوز (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وقد شرحناه في آل عمران (٥).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) أي : من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إيّاه. (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) يعني المشركين (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) في الآخرة يسألون الرّجعة إلى الدنيا (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ

__________________

(١) الشورى : ٤٣.

(٢) البقرة : ١٩٤.

(٣) فصلت : ٤٩.

(٤) ص : ٢٤.

(٥) آل عمران : ١٨٦.


مِنْ سَبِيلٍ)؟ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي : على النّار (خاشِعِينَ) أي : خاضعين متواضعين (مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : من طرف ذليل ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقال الأخفش : ينظرون من عين ضعيفة. وقال غيره : «من» بمعنى «الباء». والثاني : يسارقون النّظر ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. والثالث : ينظرون ببعض العين ، قاله أبو عبيدة. والرابع : أنهم ينظرون إلى النّار بقلوبهم ، لأنهم قد حشروا عميا ، فلم يروها بأعينهم ، حكاه الفرّاء ، والزّجّاج ، وما بعد هذا قد سبق بيانه (١) إلى قوله : (يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : يمنعونهم من عذاب الله.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي : أجيبوه ، فقد دعاكم برسوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) وهو يوم القيامة (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي : لا يقدر أحد على ردّه ودفعه (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) تلجؤون إليه ، (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) قال مجاهد : من ناصر ينصركم ، وقال غيره : من قدرة على تغيير ما نزل بكم. (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإجابة (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) لحفظ أعمالهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي : ما عليك إلّا أن تبلّغهم. وهذا عند المفسّرين منسوخ بآية السّيف. قوله تعالى : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) قال المفسّرون : المراد به : الكافر ؛ والرّحمة : الغنى والصّحة والمطر ونحو ذلك ، والسّيّئة : المرض والفقر والقحط ونحو ذلك ، والإنسان هاهنا : اسم جنس ، فلذلك قال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : بما سلف من مخالفتهم (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) بما سلف من النّعم. (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له التصرّف فيها بما يريد ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) يعني البنات ليس فيهنّ ذكر ، كما وهب للوط صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يولد له إلّا البنات (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) يعني البنين ليس معهم أنثى ، كما وهب لإبراهيم عليه الصّلاة والسلام ، فلم يولد له إلّا الذّكور. (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) يعني الإناث والذّكور ، قال الزّجّاج : ومعنى (يُزَوِّجُهُمْ) : يقرنهم ، وكلّ شيئين يقترن أحدهما بالآخر ، فهما زوجان ، ويقال لكلّ واحد منهما : زوج ، تقول : عندي زوجان من الخفاف ، يعني اثنين. وفي معنى الكلام للمفسّرين قولان : أحدهما : أنه وضع المرأة غلاما ثم جارية ثم غلاما ثم جارية ، قاله مجاهد ، والجمهور. والثاني : أنه وضع المرأة جارية وغلاما توأمين ، قاله ابن الحنفيّة. قالوا : وذلك كما جمع لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه وهب له بنين وبنات ، (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا يولد له ، كيحيى بن زكريّا عليهما‌السلام. وهذه الأقسام موجودة في سائر الناس ، وإنما ذكروا الأنبياء تمثيلا.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ

__________________

(١) الأنعام : ١٢ ، هود : ٣٩.


إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً). قال المفسّرون :

(١٢٥١) سبب نزولها أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلّم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّا صادقا كما كلّمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم : «لم ينظر موسى إلى الله» ، ونزلت هذه الآية.

والمراد بالوحي هاهنا : الوحي في المنام. (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كما كلّم موسى. (أَوْ يُرْسِلَ) قرأ نافع ، وابن عامر : «يرسل» بالرفع (فَيُوحِيَ) بسكون الياء. وقرأ الباقون : «يرسل» بنصب اللام «فيوحي» بتحريك الياء ، والمعنى : «أو يرسل رسولا» كجبرائيل «فيوحي» ذلك الرسول إلى المرسل إليه (بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ). قال مكّيّ بن أبي طالب : من قرأ «أو يرسل» بالنّصب ، عطفه على معنى قوله : (إِلَّا وَحْياً) لأنه بمعنى : إلّا أن يوحي. ومن قرأ بالرفع ، فعلى الابتداء ، كأنه قال : أو هو يرسل. قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية محمولة على أنه لا يكلّم بشرا إلّا من وراء حجاب في دار الدنيا. قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : وكما أوحينا إلى الرّسل (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، وقيل : الواو عطف على أول السّورة ، فالمعنى : كذلك نوحي إليك وإلى الذين من قبلك. (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) قال ابن عباس : هو القرآن ، وقال مقاتل : وحيا بأمرنا.

قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) وذلك أنه لم يكن يعرف القرآن قبل الوحي (وَلَا الْإِيمانُ) فيه ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه بمعنى الدّعوة إلى الإيمان ، قاله أبو العالية. والثاني : أنّ المراد به : شرائع الإيمان ومعالمه ، وهي كلّها إيمان ، وقد سمّى الصّلاة إيمانا بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٢) هذا اختيار ابن قتيبة ، ومحمّد بن إسحاق بن خزيمة. والثالث : أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وإذ كان طفلا قبل البلوغ ، حكاه الواحدي. والقول ما اختاره ابن قتيبة ، وابن خزيمة ، وقد اشتهر في الحديث عنه عليه‌السلام أنه كان قبل النّبوّة يوحّد الله ، ويبغض اللّات والعزّى ، ويحجّ ويعتمر ، ويتّبع شريعة إبراهيم عليه‌السلام (٣). قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله : من زعم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على دين قومه ، فهو قول سوء ، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النّصب؟ وقال ابن قتيبة :

____________________________________

(١٢٥١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٣٩ بدون إسناد ، ومن غير عزو لأحد ، فهو ساقط. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٢٣٤ : لم أجده. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٤٢٠ بتخريجنا.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٦ / ٥٣ : اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) قلت : الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مؤمنا بالله عزوجل من حين نشأ إلى حين بلوغه وقيل : ـ في معنى الآية ـ أي كنت في قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الإيمان ، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم ، وهو كقوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) انظر «السيرة النبوية» للذهبي ص ٤١ ـ ٤٣.


قد جاء في الحديث أنه كان على دين قومه أربعين سنة (١). ومعناه : أنّ العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل ، من ذلك حجّ البيت ، والختان ، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثا ، وأنّ للزوج الرّجعة في الواحدة والاثنتين ، ودية النّفس مائة من الإبل ، والغسل من الجنابة ، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصّهر ، وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحجّ ، وكان لا يقرب الأوثان ، ويعيبها. وكان لا يعرف شرائع الله التي شرعها لعباده على لسانه ، فذلك قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) يعني القرآن (وَلَا الْإِيمانُ) يعني شرائع الإيمان ؛ ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله ، لأنّ آباءه الذين ماتوا على الشّرك كانوا يؤمنون بالله ويحجّون له البيت مع شركهم. قوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنّها ترجع إلى القرآن. والثاني : إلى الإيمان. (نُوراً) أي : ضياء ودليلا على التوحيد (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) إلى دين الحقّ. (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) أي : لتدعو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الإسلام.

__________________

(١) ليس بحديث ، وإنما هو رأي لبعض أهل العلم ، وهو مرجوح ، بل الصواب أنه على دين إبراهيم عليه‌السلام ، لأن قومه كانوا على الشرك كما نطق القرآن بذلك في آيات كثيرة فمن ذلك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ...) والمراد بالمشركين هنا قريش وما والاها ، فتنبه ، والله أعلم.


سورة الزّخرف

وهي مكية بإجماعهم. وقال مقاتل : هي مكّيّة ، إلّا آية ، وهي قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠))

قوله تعالى : (حم) قد تقدّم بيانه. (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) قسم بالقرآن. (إِنَّا جَعَلْناهُ) قال سعيد بن جبير : أنزلناه. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه (٢) إلى قوله : (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) قال الزّجّاج : أي : في أصل الكتاب ، وأصل كلّ شيء : أمّه ، والقرآن مثبت عند الله عزوجل في اللّوح المحفوظ. قوله تعالى : (لَدَيْنا) أي : عندنا (لَعَلِيٌ) أي : رفيع. وفي معنى الحكيم قولان : أحدهما : محكم ، أي : ممنوع من الباطل ، قاله مقاتل. والثاني : حاكم لأهل الإيمان بالجنّة ولأهل الكفر بالنّار ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي ، والمعنى : إن كذّبتم به يا أهل مكّة فإنه عندنا شريف عظيم المحلّ. قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) قال ابن قتيبة : أي : نمسك عنكم فلا نذكركم صفحا ، أي : إعراضا ، يقال : صفحت عن فلان : إذا أعرضت عنه ، والأصل في ذلك أن تولّيه صفحة عنقك ، قال كثير يصف امرأة :

صفوحا فما تلقاك إلّا بخيلة

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت (٣)

أي : معرضة بوجهها ، يقال ؛ ضربت عن فلان كذا : إذا أمسكته ، وأضربت عنه. (أَنْ كُنْتُمْ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «أن كنتم» بالنّصب ، أي : لأن كنتم قوما مسرفين. وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ : «إن كنتم» بكسر الهمزة. قال الزّجّاج : وهذا على معنى الاستقبال ،

__________________

(١) الزخرف : ٤٥.

(٢) النساء : ٨٢ ، يوسف : ٢.

(٣) البيت لكثير عزة كما في «اللسان» ـ صفح ـ


أي : إن تكونوا مسرفين نضرب عنكم الذّكر. وفي المراد بالذّكر قولان (١) : أحدهما : أنه ذكر العذاب ، فالمعنى : أفنمسك عن عذابكم ونترككم على كفركم؟! وهذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أنه القرآن ، فالمعنى : أفنمسك عن إنزال القرآن من أجل أنكم لا تؤمنون به؟! وهو معنى قول قتادة ، وابن زيد. وقال قتادة : «مسرفين» بمعنى مشركين. ثم أعلم نبيّه أنّي قد بعثت رسلا فكذّبوا فأهلكت المكذّبين بالآيات التي تلي هذه.

قوله تعالى : (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي : من قريش (بَطْشاً) أي : قوّة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي : سبق وصف عقابهم فيما أنزل عليك. وقيل : سبق تشبيه حال أولئك بهؤلاء في التكذيب ، فستقع المشابهة بينهم في الإهلاك. ثم أخبر عن جهلهم حين أقرّوا بأنه خالق السّموات والأرض ثم عبدوا غيره بالآية التي تلي هذه ؛ ثم التي تليها مفسّرة في طه (٢) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : لكي تهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

قوله تعالى : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) قال ابن عباس : يريد أنه ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر فأغرقهم ، بل هو بقدر ليكون نافعا. ومعنى «أنشرنا» أحيينا.

قوله تعالى : (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وابن عامر : «تخرجون» بفتح التاء وضمّ الراء ، والباقون بضمّ التاء وفتح الراء. وما بعد هذا قد سبق (٣) إلى قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) قال أبو عبيدة : هاء التذكير ل «ما». (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) إذ سخّر لكم ذلك المركب في البرّ والبحر ، (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) قال ابن عباس ومجاهد : أي : مطيقين ، قال ابن قتيبة : يقال : أنا مقرن لك ، أي : مطيق لك ، ويقال : هو من قولهم : أنا قرن لفلان : إذا كنت مثله في الشّدة ، فإن قلت : أنا قرن لفلان ـ بفتح القاف ـ فمعناه : أن تكون مثله بالسّنّ. وقال أبو عبيدة : «مقرنين» أي : ضابطين ، يقال : فلان مقرن لفلان : أي : ضابط له.

قوله تعالى : (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي : راجعون في الآخرة.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨))

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أمّا الجعل هاهنا ، فمعناه : الحكم بالشيء ، وهم الذين

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ١٦٧ : وأولى التأولين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله : أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم ، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم.

(٢) طه : ٥٣.

(٣) يس : ٣٦ ، ٤٢.


زعموا أنّ الملائكة بنات الله ؛ والمعنى : جعلوا له نصيبا من الولد ، قال الزّجّاج : وأنشدني بعض أهل اللغة بيتا يدل على أنّ معنى «جزء» معنى الإناث ـ ولا أدري البيت قديم أو مصنوع :

إن أجزأت حرّة ، يوما ، فلا عجب

قد تجزئ الحرّة المذكار أحيانا

أي : انثت ، ولدت أنثى.

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ) يعني الكافر (لَكَفُورٌ) أي : جحود لنعم الله عزوجل (مُبِينٌ) أي : ظاهر الكفر. ثم أنكر عليهم فقال : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) وهذا استفهام توبيخ وإنكار (وَأَصْفاكُمْ) أي : أخلصكم (بِالْبَنِينَ). (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي : بما جعل لله شبها ، وذلك أنّ ولد كلّ شيء شبهه وجنسه. والآية مفسّرة في النّحل (١).

قوله تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، وحفص : «ينشّأ» بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ؛ وقرأ الباقون : بفتح الياء وسكون النون. قال المبرّد : تقديره : أو يجعلون من ينشّأ (فِي الْحِلْيَةِ) قال أبو عبيدة : الحلية : الحلي. قال المفسّرون : والمراد بذلك : البنات ، فإنّهنّ ربّين في الحليّ. والخصام بمعنى المخاصمة ، (غَيْرُ مُبِينٍ) حجّة. قال قتادة : قلّما تتكلّم امرأة بحجّتها إلّا تكلّمت بالحجّة عليها. وقال بعضهم : هي الأصنام.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ) قال الزّجّاج : الجعل هاهنا بمعنى القول والحكم على الشيء ، تقول : قد جعلت زيدا أعلم الناس ، أي : قد وصفته بذلك وحكمت به. قال المفسّرون : وجعلهم الملائكة إناثا قولهم : هنّ بنات الله. قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، ويعقوب ، وأبان عن عاصم ، والشّيزري عن الكسائيّ : «عند الرحمن» بنون من غير ألف ، وقرأ الباقون : «عباد الرحمن» ومعنى هذه القراءة : جعلوا له من عباده بنات. والقراءة الأولى موافقة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) (٢) ، وإذا كانوا في السماء كان أبعد للعلم بحالهم. (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) قرأ نافع ، والمفضّل عن عاصم : «أأشهدوا» بهمزتين ، الأولى مفتوحة والثانية مضمومة. وروى المسيّبي عن نافع : «أو شهدوا» ممدودة من أشهدت ، والباقون لا يمدّون. «أشهدوا» من شهدت ، أي : أحضروه فعرفوا أنّهم إناث؟! وهذا توبيخ لهم إذ قالوا فيما يعلم بالمشاهدة من غير مشاهدة. (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) على الملائكة أنها بنات الله.

__________________

(١) النحل : ٥٨.

(٢) الأعراف : ٢٠٦.


(١٢٥٢) وقال مقاتل : لمّا قال الله عزوجل : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، سئلوا عن ذلك فقالوا : لا ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فما يدريكم أنها إناث؟» فقالوا : سمعنا من آبائنا ، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا ، فقال الله : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) عنها في الآخرة.

وقرأ أبو رزين ، ومجاهد : «سنكتب» بنون مفتوحة «شهادتهم» بنصب التاء ، ووافقهم ابن أبي عبلة في «سنكتب» وقرأ : «شهاداتهم» بألف.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) في المكنيّ عنهم قولان : أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله قتادة ، ومقاتل في آخرين. والثاني : الأوثان ، قاله مجاهد. وإنّما عنوا بهذا أنه لو لم يرض عبادتنا لها لعجّل عقوبتنا ، فردّ عليهم قولهم بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ). وبعض المفسّرين يقول : إنما أشار بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) إلى ادعائهم أنّ الملائكة إناث ، قال : ولم يتعرّض لقولهم : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) لأنه قول صحيح ؛ والذي اعتمدنا عليه أصحّ ، لأنّ هذه الآية كقوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) (١) ، وقوله : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) (٢) ، وقد كشفنا عن هذا المعنى هنالك. و«يخرصون» بمعنى : يكذبون. وإنّما كذّبهم ، لأنهم اعتقدوا أنه رضي منهم الكفر دينا. (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل هذا القرآن ، أي : بأن يعبدوا غير الله (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) يأخذون بما فيه. (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي : على سنّة وملّة ودين (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) فجعلوا أنفسهم مهتدين بمجرّد تقليد الآباء من غير حجّة ؛ ثم أخبر أنّ غيرهم قد قال هذا القول ، فقال : (وَكَذلِكَ) أي : وكما قالوا قال مترفو القرى من قبلهم ، (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) بهم. (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم : «قال أولو جئتكم» بألف. قال أبو عليّ : فاعل (قالَ) النّذير ، المعنى : فقال لهم النّذير. وقرأ أبو جعفر : «أولو جئناكم» بألف ونون (بِأَهْدى) أي : بأصوب وأرشد. قال الزّجّاج : ومعنى الكلام : قل : أتتّبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه؟! وفي هذه الآية إبطال القول بالتقليد. قال مقاتل : فردّوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ؛ ثم رجع إلى الأمم الخالية ، فقال : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) الآية.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

قوله تعالى : (إِنَّنِي بَراءٌ) قال الزّجّاج : البراء بمعنى البريء ، والعرب تقول للواحد : أنا البراء منك ، وكذلك للاثنين والجماعة ، وللذّكر والأنثى ، يقولون : نحن البراء منك والخلاء منك ، لا يقولون : نحن البراءان منك ، ولا البراءون منك ، وإنما المعنى : أنا ذو البراء منك ، ونحن ذو البراء

____________________________________

(١٢٥٢) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٦٨ للكلبي ومقاتل ، والكلبي كذاب أيضا ، فهذا الخبر لا شيء.

__________________

(١) الأنعام : ١٤٨.

(٢) يس : ٤٧.


منك ، كما يقال : رجل عدل ، وامرأة عدل. وقد بيّنّا استثناء إبراهيم ربّه عزوجل مما يعبدون عند قوله : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (١). قوله تعالى : (وَجَعَلَها) يعني كلمة التوحيد ، وهي : «لا إله إلّا الله» ، (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي : فيمن يأتي بعده من ولده ، فلا يزال فيهم موحّد (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى التوحيد كلّهم إذا سمعوا أنّ أباهم تبرّأ من الأصنام ووحّد الله عزوجل.

ثمّ ذكر نعمته على قريش فقال : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) والمعنى : إنّي أجزلت لهم النّعم ولم أعاجلهم بالعقوبة (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) وهو القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان ينبغي لهم أن يقابلوا النّعم بالطّاعة للرّسول ، فخالفوا. (وَلَمَّا جاءَهُمُ) يعني قريشا في قول الأكثرين. وقال قتادة : هم اليهود. و (الْحَقُ) القرآن.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا) أي : هلّا (نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أمّا القريتان ، فمكّة والطّائف ، قاله ابن عباس ، والجماعة ؛ وأمّا عظيم مكّة ، ففيه قولان (٢) : أحدهما : الوليد بن المغيرة القرشيّ ، رواه العوفيّ وغيره عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والسّدّيّ. والثاني : عتبة بن ربيعة ، قاله مجاهد. وفي عظيم الطّائف خمسة أقوال : أحدها : حبيب بن عمرو بن عمير الثّقفي ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : مسعود بن عمرو بن عبيد الله ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : أنه أبو مسعود عروة بن مسعود الثّقفي ، رواه ليث عن مجاهد ، وبه قال قتادة. والرابع : أنه ابن عبد ياليل ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس : كنانة بن عبد بن عمرو بن عمير الطّائفي ، قاله السّدّيّ.

فقال الله عزوجل ردّا عليهم وإنكارا : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني النّبوّة ، فيضعونها حيث شاؤوا ، لأنهم اعترضوا على الله بما قالوا. (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) المعنى أنه إذا كانت الأرزاق بقدر الله ، لا بحول المحتال ـ وهو دون النّبوّة ـ فكيف تكون النّبوّة؟! قال قتادة : إنك لتلقى ضعيف الحيلة عييّ اللّسان قد بسط له الرّزق ، وتلقى شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتور عليه. قوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) فيه قولان : أحدهما : بالغنى والفقر. والثاني : بالحرّية والرّق (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) وقرأ ابن السّميفع ، وابن محيصن : «سخريّا» بكسر السين. ثم فيه قولان : أحدهما : يستخدم الأغنياء الفقراء بأموالهم ، فيلتئم قوام العالم ، وهذا على القول الأول. والثاني : ليملك بعضهم بعضا بالأموال فيتّخذونهم عبيدا ، وهذا على الثاني. قوله تعالى : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) فيها قولان : أحدهما :

__________________

(١) الشعراء : ٧٧.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ١٥٠ : والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان. وبه قال الطبري.


النّبوّة خير من أموالهم التي يجمعونها ، قاله ابن عباس. والثاني : الجنّة خير ممّا يجمعون في الدنيا ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) فيه قولان : أحدهما : لو لا أن يجتمعوا على الكفر ، قاله ابن عباس. والثاني : على إيثار الدنيا على الدّين ، قاله ابن زيد. قوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) لهوان الدنيا عندنا. قال الفرّاء : إن شئت جعلت اللّام في «لبيوتهم» مكرّرة ، كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) (١) وإن شئت جعلتها بمعنى «على» ، كأنه قال : جعلنا لهم على بيوتهم ، تقول للرجل : جعلت لك لقومك الأعطية ، أي : جعلتها من أجلك لهم. قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «سقفا» على التوحيد. وقرأ الباقون : «سقفا» بضمّ السين والقاف جميعا (٢). قال الزّجّاج : والسّقف واحد يدلّ على الجمع ؛ فالمعنى : جعلنا لبيت كلّ واحد منهم سقفا من فضّة (وَمَعارِجَ) وهي الدّرج ؛ والمعنى : وجعلنا معارج من فضّة ، وكذلك (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً) أي من فضّة (وَسُرُراً) أي من فضّة. قوله تعالى : (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) قال ابن قتيبة : أي : يعلون ، يقال : ظهرت على البيت : إذا علوت سطحه. قوله تعالى : (وَزُخْرُفاً) وهو الذّهب ؛ والمعنى : ويجعل لهم مع ذلك ذهبا وغنىّ (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) المعنى : لمتاع الحياة الدنيا ، و«ما» زائدة. وقرأ عاصم ، وحمزة : «لمّا» بالتشديد ، فجعلاه بمعنى «إلّا» ؛ والمعنى : إنّ ذلك يتمتّع به قليلا ثم يزول (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) خاصّة لهم.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠))

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٦ / ٧٤ : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لاحق لرب العلو ، لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه‌الله.

قال ابن العربي : وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب. فمن له البيت فله أركانه ولا خلاف أن العلو له إلى السماء. واختلفوا في السفل ، فمنهم من قال : هو له ومنهم من قال : ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان. ومن أحكام العلو والسفل : إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه فذكر سحنون عن أشهب أنه قال : إذا أراد صاحب السفل أن يهدم ، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة. ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو ، لئلا ينهدم بانهدامه العلو ، وليس لربّ العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. وحجة مالك وأشهب ، حديث النعمان بن بشير عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا». أخرجه البخاري ٢٤٩٣ وغيره. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يعرض ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والفرّاء ، والزّجّاج. والثاني : يعم ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال عطاء ، وابن زيد. والثالث : أنه البصر الضّعيف ، حكاه الماوردي. وقال أبو عبيدة : تظلم عينه عنه. وقال الفرّاء : من قرأ : «يعش» ، فمعناه : يعرض ، ومن نصب الشين ، أراد : يعم عنه ؛ قال ابن قتيبة : لا أرى القول إلّا قول أبي عبيدة ، ولم نر أحدا يجيز «عشوت عن الشيء» : أعرضت عنه ، إنّما يقال : «تعاشيت عن كذا» ، أي : تغافلت عنه ، كأنّي لم أره ، ومثله : تعاميت ، والعرب تقول : «عشوت إلى النّار» : إذا استدللت إليها ببصر ضعيف ، قال الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

ومنه حديث ابن المسيّب : «أنّ إحدى عينيه ذهبت ، وهو يعشو بالأخرى» ، أي : يبصر بها بصرا ضعيفا. قال المفسّرون : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) فلم يخف عقابه ولم يلتفت إلى كلامه نقيّض له أي : نسبّب له شيطانا فنجعل ذلك جزاءه فهو له قرين لا يفارقه. (وَإِنَّهُمْ) يعني الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) يعني الكافرين ، أي : يمنعونهم عن سبيل الهدى ؛ وإنما جمع ، لأنّ «من» في موضع جمع ، (وَيَحْسَبُونَ) يعني كفّار بني آدم (إِنَّهُمْ) على هدى. (حَتَّى إِذا جاءَنا) وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «جاءنا» واحد ، يعني الكافر. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «جاءانا» بألفين على التثنية ، يعنون الكافر وشيطانه. وجاء في التفسير أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة ، فلا يفترقان حتى يصيّرهما الله إلى النّار ، قال الكافر للشيطان : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي : بعد ما بين المشرقين ؛ وفيهما قولان : أحدهما : أنهما مشرق الشمس في أقصر يوم في السّنة ، ومشرقها في أطول يوم ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والثاني : أنه أراد المشرق والمغرب ، فغلّب ذكر المشرق ، كما قالوا : سنّة العمرين ، يريدون : أبا بكر وعمر ، وأنشدوا من ذلك :

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع (١)

يريد : الشمس والقمر ؛ وأنشدوا :

فبصرة الأزد منّا والعراق لنا

والموصلان ومنّا مصر والحرم

يريد : الجزيرة والموصل ، وهذا اختيار الفرّاء ، والزّجّاج.

قوله تعالى : (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي : أنت أيّها الشّيطان. ويقول الله عزوجل يومئذ للكفّار : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) أي : أشركتم في الدنيا (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي : لن ينفعكم الشّركة في العذاب ، لأنّ لكلّ واحد منه الحظّ الأوفر. قال المبرّد : منعوا روح التّأسّي ، لأن التّأسّي يسهّل المصيبة ، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى :

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزّي النّفس عنه بالتّأسّي

وقرأ ابن عامر : «إنّكم» بكسر الألف. ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشّقاوة بقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ...) الآية.

__________________

(١) البيت للفرزدق ، ديوانه : ٥١٩ ، و«الكامل» ١٢٤.


(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤))

قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) قال أبو عبيدة : معناها : فإن نذهبنّ ؛ وقال الزّجّاج : دخلت «ما» توكيدا للشّرط ، ودخلت النون الثقيلة في «نذهبنّ» توكيدا أيضا ؛ والمعنى : إنّا ننتقم منهم إن توفّيت أو نرينّك ما وعدناهم ووعدناك فيهم من النّصر. قال ابن عباس : ذلك يوم بدر. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوله : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) منسوخ بآية السّيف ، ولا وجه له.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَذِكْرٌ لَكَ) أي شرف لك بما أعطاك الله (وَلِقَوْمِكَ) في قومه ثلاثة أقوال : أحدها : العرب قاطبة. والثاني : قريش. والثالث : جميع من آمن به.

(١٢٥٣) وقد روى الضّحّاك عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سئل : لمن هذا الأمر من بعدك؟ لم يخبر بشيء ، حتى نزلت هذه الآية ، فكان بعد ذلك إذا سئل قال : «لقريش» وهذا يدلّ على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم من هذا أنه يلي على المسلمين بحكم النبوّة وشرف القرآن ، وأنّ قومه يخلفونه من بعده في الولاية لشرف القرآن الذي أنزل على رجل منهم. ومذهب مجاهد أنّ القوم هاهنا : العرب ، والقرآن شرف لهم إذ أنزل بلغتهم.

قال ابن قتيبة : إنما وضع الذّكر موضع الشّرف لأنّ الشّريف يذكر. وفي قوله : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) قولان. أحدهما : عن شكر ما أعطيتم من ذلك. والثاني : عمّا لزمكم فيه من الحقوق.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) إن قيل : كيف يسأل الرّسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة (١) : أحدها : أنه لمّا أسري به جمع له الأنبياء فصلّى بهم ، ثم قال له جبريل : سل من أرسلنا

____________________________________

(١٢٥٣) لا أصل له ذكره المصنف تعليقا ، وراوية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك ، حيث روى تفسيرا كاملا عن الضحاك عن ابن عباس ، وهو مصنوع ، والضحاك لم يلق ابن عباس.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ١٩٢ : وأولى القولين بالصوال في تأويل ذلك قول من قال : عني به :


قبلك ... الآية. فقال : لا أسأل ، قد اكتفيت ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والزّهري ، وابن زيد ، قالوا : جمع له الرّسل ليلة أسري به ، فلقيهم ، وأمر أن يسألهم ، فما شكّ ولا سأل. والثاني : أنّ المراد : أسأل مؤمني أهل الكتاب من الذين أرسلت إليهم الأنبياء ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ في آخرين. قال ابن الأنباري : والمعنى سل أتباع من أرسلنا قبلك ، كما تقول : السّخاء حاتم ، أي : سخاء حاتم ، والشّعر زهير ، أي : شعر زهير. وعند المفسّرين أنه لم يسأل على القولين. وقال الزّجّاج : هذا سؤال تقرير ، فإذا سأل جميع الأمم ، لم يأتوا بأن في كتبهم : أن اعبدوا غيري. والثالث : أنّ المراد بخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خطاب أمّته ، فيكون المعنى سلوا ، قاله الزّجّاج. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزاء بها وتكذيبا. (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) يعني ما ترادف عليهم من الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم والطّمس (١) ، فكانت كلّ آية أكبر من التي قبلها ، وهي العذاب المذكور في قوله : (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) ، فكانت عذابا لهم ، ومعجزات لموسى عليه‌السلام. قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) ، في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أرادوا : يا أيّها العالم ، وكان السّاحر فيهم عظيما ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنهم قالوه على جهة الاستهزاء ، قاله الحسن. والثالث : أنهم خاطبوه بما تقدّم له عندهم من التّسمية بالسّاحر ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي : مؤمنون بك. فدعا موسى ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا. وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في الأعراف (٢). قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي : من تحت قصوري (أَفَلا تُبْصِرُونَ) عظمتي وشدّة ملكي؟! (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) قال أبو عبيدة : أراد : بل أنا خير. وحكى الزّجّاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا : عطف «أنا» ب «أم» على (أَفَلا تُبْصِرُونَ) فكأنه قال : أفلا تبصرون أم أنتم بصراء؟! لأنهم إذا قالوا : أنت خير منه ، فقد صاروا عنده بصراء. قال الزّجّاج : والمهين : القليل ؛ يقال : شيء مهين ، أي : قليل. وقال مقاتل : «مهين» بمعنى ذليل ضعيف. قوله تعالى : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أشار إلى عقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه ، فكأنه عيّره بشيء قد كان وزال ، ويدل على زواله قوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٣) ، وكان في سؤاله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) (٤). وقال بعض العلماء : ولا يكاد يبين الحجّة ولا يأتي ببيان يفهم. (فَلَوْ لا) أي : فهلّا (أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) وقرأ حفص عن عاصم : «أسورة» بغير ألف. قال الفرّاء : واحد الأساورة إسوار ، وقد تكون الأساورة جمع أسورة ، كما يقال في جمع الأسقية : الأساقي ، وفي جمع الأكرع : الأكارع. وقال الزّجّاج : يصلح أن تكون الأساورة جمع الجمع ، تقول : أسورة وأساورة ، كما تقول : أقوال وأقاويل ، ويجوز أن تكون جمع إسوار ، وإنما صرفت أساورة ، لأنك ضممت الهاء إلى أساور ، فصار اسما واحدا ، وصار له مثال في الواحد ، نحو «علانية».

__________________

سل مؤمني أهل الكتابين. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٥٢ : قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) : أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد.

(١) في «اللسان» : الطموس : الدّروس والانمحاء ، وطموس البصر : ذهاب نوره وضوئه.

(٢) الأعراف : ١٣٥.

(٣) طه : ٣٦.

(٤) طه : ٢٧.


قال المفسّرون : إنما قال فرعون هذا ، لأنهم كانوا إذا سوّدوا الرجل منهم سوّروه بسوار. (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) فيه قولان : أحدهما : متتابعين ، قاله قتادة : والثاني : يمشون معه ، قاله الزجاج.

قوله تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) قال الفرّاء : استفزّهم ؛ وقال غيره : استخفّ أحلامهم وحملهم على خفّة الحلم بكيده وغروره (فَأَطاعُوهُ) في تكذيب موسى. (فَلَمَّا آسَفُونا) قال ابن عباس : أغضبونا. قال ابن قتيبة : الأسف : الغضب ، يقال : أسفت آسف أسفا ، أي : غضبت. (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي : قوما تقدّموا. وقرأها أبو هريرة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وحميد الأعرج : «سلفا» بضمّ السين وفتح اللام ، كأنّ واحدته سلفة من الناس ، مثل القطعة ، يقال : تقدّمت سلفة من الناس ، أي : قطعة منهم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «سلفا» بضمّ السين واللام ، وهو جمع «سلف» ، كما قالوا : خشب وخشب ، وثمر وثمر ، ويقال : هو جمع سليف ، وكلّه من التقدّم. وقال الزّجّاج : السّليف جمع قد مضى ؛ والمعنى : جعلناهم سلفا متقدّمين ليتّعظ بهم الآخرون. قوله تعالى : (وَمَثَلاً) أي : عبرة وعظة.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) أكثر المفسّرين على أنّ هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزّبعرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزل قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) الآية (١). وقد شرحنا القصة في سورة الأنبياء (٢). والمشركون هم الذين ضربوا عيسى مثلا لآلهتهم وشبّههوه بها ، لأنّ تلك الآية إنما تضمّنت ذكر الأصنام ، لأنها عبدت من دون الله ، فألزموه عيسى ، وضربوه مثلا لأصنامهم ، لأنّه معبود النّصارى ، والمراد بقومه : المشركون. فأمّا (يَصِدُّونَ) فقرأ ابن عامر ، ونافع ، والكسائيّ : بضم الصاد ، وكسرها الباقون ؛ قال الزّجّاج : ومعناهما جميعا : يضجّون ، ويجوز أن يكون معنى المضمومة : يعرضون. وقال أبو عبيدة : من كسر الصاد ، فمجازها : يضجّون ، ومن ضمّها ، فمجازها : يعدلون.

قوله تعالى : (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) المعنى : ليست خيرا منه ، فإن كان في النّار لأنه عبد من دون الله ، فقد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلته. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي : ما ذكروا عيسى إلّا ليجادلوك به ، لأنهم قد علموا أنّ المراد ب (حَصَبُ جَهَنَّمَ) (٣) ما اتّخذوه من الموات (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي : أصحاب خصومات.

__________________

(١) الأنبياء : ٩٨.

(٢) الأنبياء : ١٠١.

(٣) الأنبياء : ١٠١.


قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) أي : آية وعبرة (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يعرفون به قدرة الله على ما يريد ، إذ خلقه من غير أب. ثم خاطب كفّار مكّة ، فقال : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) فيه قولان :

أحدهما : أنّ المعنى : لجعلنا بدلا منكم ملائكة ؛ ثم في معنى «يخلفون» ثلاثة أقوال : أحدها : يخلف بعضهم بعضا ، قاله ابن عباس. والثاني : يخلفونكم ليكونوا بدلا منكم ، قاله مجاهد. والثالث : يخلفون الرّسل فيكونون رسلا إليكم بدلا منهم ، حكاه الماوردي.

والقول الثاني : أنّ المعنى : «ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة» أي : قلبنا الخلقة فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون من ذهب منكم ، ذكره الماوردي.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى عيسى عليه‌السلام. ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : نزول عيسى من أشراط الساعة يعلم به قربها ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضّحّاك والسّدّيّ. والثاني : أنّ إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى ، قاله ابن إسحاق. والقول الثاني : أنها ترجع إلى القرآن ، قاله الحسن وسعيد بن جبير. وقرأ الجمهور : «لعلم» بكسر العين وتسكين اللام ؛ وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرّحمن وقتادة وحميد وابن محيصن بفتحهما. قال ابن قتيبة : من قرأ بكسر العين فالمعنى أنه يعلم به قرب الساعة ، ومن فتح العين واللام فإنه بمعنى العلامة والدليل.

قوله تعالى : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي : فلا تشكنّ فيها (وَاتَّبِعُونِ) على التوحيد (هذا) الذي أنا عليه (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) قد شرحنا هذا في سورة البقرة (١). (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) وفيها قولان : أحدهما : النبوّة ، قاله عطاء ، والسّدّيّ. والثاني : الإنجيل ، قاله مقاتل. (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي : من أمر دينكم ؛ وقال مجاهد : «بعض الذي تختلفون فيه» من تبديل التّوراة ؛ وقال ابن جرير : من أحكام التّوراة. وقد ذهب قوم إلى أنّ البعض هاهنا بمعنى الكلّ. وقد شرحنا ذلك في حم المؤمن (٢) ؛ قال الزّجّاج : والصحيح أنّ البعض لا يكون في معنى الكلّ ، وإنما بيّن لهم عيسى بعض الذي اختلفوا فيه ممّا احتاجوا إليه ؛ وقد قال ابن جرير : كان بينهم اختلاف في أمر دينهم ودنياهم ، فبيّن لهم أمر دينهم فقط. وما بعد هذا قد سبق بيانه (٣) إلى قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) يعني كفّار مكّة.

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ) أي في الدنيا (يَوْمَئِذٍ) أي في القيامة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لأنّ الخلّة إذا كانت في الكفر والمعصية صارت عداوة يوم القيامة ؛ وقال مقاتل : نزلت في أميّة بن خلف وعقبة بن

__________________

(١) البقرة : ٨٧.

(٢) غافر : ٢٨.

(٣) النساء : ١٧٥ ـ مريم : ٣٧.


أبي معيط (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) يعني الموحّدين. فإذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ، فيرفع الخلائق رؤوسهم ، فيقول : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) ، فينكّس الكفار رؤوسهم. قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «يا عبادي» بإثبات الياء في الحالين وإسكانها ، وحذفها في الحالين ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص ، والمفضّل عن عاصم ، وخلف. وفي أزواجهم قولان : أحدهما : زوجاتهم. والثاني : قرناؤهم. وقد سبق معنى (تُحْبَرُونَ) (١).

قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ) قال الزّجّاج : واحدها صحفة ، وهي القصعة. والأكواب ، واحدها : كوب ، وهو إناء مستدير لا عروة له ؛ قال الفرّاء : الكوب : الكوز المستدير الرأس الذي لا أذن له ، وقال عديّ :

متّكئا تصفق أبوابه

يسعى عليه العبد بالكوب (٢)

وقال ابن قتيبة : الأكواب : الأباريق التي لا عرى لها. وقال شيخنا أبو منصور اللغوي : وإنما كانت بغير عرى ليشرب الشارب من أين شاء ، لأنّ العروة تردّ الشارب من بعض الجهات.

قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «تشتهيه» بزيادة هاء. وحذف الهاء كإثباتها في المعنى. قوله تعالى : (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) يقال : لذّذت الشيء ، واستلذذته ، والمعنى : ما من شيء اشتهته نفس أو استلذّته عين إلّا وهو في الجنّة ، وقد جمع الله تعالى جميع نعيم الجنّة في هذين الوصفين ، فإنه ما من نعمة إلّا وهي نصيب النّفس أو العين ، وتمام النّعيم الخلود ، لأنه لو انقطع لم تطب. (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) يعني التي ذكرها في قوله : «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» (الَّتِي أُورِثْتُمُوها) قد شرحنا هذا في الأعراف (٣) عند قوله : (أُورِثْتُمُوها).

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) يعني الكافرين ، (لا يُفَتَّرُ) أي : لا يخفّف (عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ) يعني في العذاب (مُبْلِسُونَ) قال ابن قتيبة : آيسون من رحمة الله. وقد شرحنا هذا في الأنعام (٤). (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي : ما عذّبناهم على غير ذنب (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بما جنوا عليها. قال الزّجّاج : والبصريّون يقولون : «هم» هاهنا فصل ، كذلك يسمّونها ، ويسمّيها الكوفيّون : العماد. قوله تعالى :

__________________

(١) الروم : ١٥.

(٢) البيت لعدي بن زيد وهو في «مجاز القرآن» : ٢ / ٢٠٦ و«تفسير القرطبي» ١٦ / ٩٩.

(٣) الأعراف : ٤٣.

(٤) الأنعام : ٤٤.


(وَنادَوْا يا مالِكُ) وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وابن يعمر : «يا مال» بغير كاف مع كسر اللام. قال الزّجّاج : وهذا يسميه النّحويون : التّرخيم ، ولكني أكرهها لمخالفة المصحف. قال المفسّرون : يدعون مالكا خازن النّار فيقولون : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي : ليمتنا ؛ والمعنى : أنهم توسّلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيستريحوا من العذاب ؛ فيسكت عن جوابهم مدّة ، فيها أربعة أقوال : أحدها : أربعون عاما ، قاله عبد الله بن عمرو ، ومقاتل. والثاني : ثلاثون سنة ، قاله أنس. والثالث : ألف سنة ، قاله ابن عباس. والرابع : مائة سنة ، قاله كعب. وفي سكوته عن جوابهم هذه المدّة قولان. أحدهما : أنه سكت حتى أوحى الله إليه أن أجبهم ، قاله مقاتل. والثاني : لأنّ بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذلّ. قال الماوردي : فردّ عليهم مالك فقال : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي : مقيمون في العذاب. (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) أي : أرسلنا رسلنا بالتوحيد (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ) قال ابن عباس : يريد : كلّكم (كارِهُونَ) لما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً) في «أم» قولان : أحدهما : أنها للاستفهام. والثاني : بمعنى «بل». والإبرام : الإحكام. وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال : أحدها : المكر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقتلوه أو يخرجوه حين اجتمعوا في دار النّدوة ؛ وقد سبق بيان القصة (١) ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه إحكام أمرهم في تكذيبهم ، قاله قتادة. والثالث : أنه : إبرام أمرهم ينجيهم من العذاب ، قاله الفرّاء. (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي : محكمون أمرا في مجازاتهم. (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) وهو ما يسرّونه من غيرهم (وَنَجْواهُمْ) ما يتناجون به بينهم (بَلى) والمعنى : إنّا نسمع ذلك (وَرُسُلُنا) يعني من الحفظة (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ). (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) في «إن» قولان (٢) : أحدهما : أنّها بمعنى الشّرط ، والمعنى : إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم ، فعلى هذا في قوله : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أربعة أقوال : أحدها : فأنا أوّل الجاحدين ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنّ أعرابيّين اختصما إليه ، فقال أحدهما : إنّ هذا كانت لي في يده أرض ، فعبدنيها ، فقال ابن عباس : الله أكبر ، فأنا أوّل

__________________

(١) الأنفال : ٣٠.

(٢) قال الطبري في «تفسيره» ١١ / ٢١٦ : وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معنى (إن) الشرط الذي يقتضي الجزاء وذلك أن «إن» لا تعدو في هذا الموضع أحد معنيين : إما أن يكون الحرف الذي هو بمعنى الشرط الذي يطلب الجزاء ، أو تكون بمعنى الجحد ، وهب إذا وجهت إلى الجحد لم يكن للكلام كبير معنى لأنه يصير بمعنى : قل ما كان للرحمن ولد ، مع أنه لو كان ذلك معناه لقدر الذين أمر الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، أن يقولوا له : صدقت ، وهو كما قلت ونحن لم نزعم أنه لم يزل له ولد ، ولم يكن الله تعالى ذكره ليحتج لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى مكذبيه من الحجة بما يقدرون على الطعن فيه ، ذلك إذ كان في توجيهنا «إن» إلى معنى الجحد على ما ذكرنا ، فالذي هو أشبه المعنيين بها الشرط ، ومعنى الكلام : قل يا محمد لمشركي قومك الزاعمين أن الملائكة بنات الله : إن كان للرحمن ولد فأنا أول عابديه بذلك منكم ، ولكنه لا ولد له ، فأنا أعبده بأنه لا ولد له ، ولا ينبغي أن يكون له ، وهذا لم يكن على وجه الشك ، ولكن على وجه الإلطاف في الكلام وحسن الخطاب. ووافقه ابن كثير وقال في «تفسيره» ٤ / ١٦٠ : أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده ، مطيع لجميع ما يأمرني به ، ليس عندي إباء عن عبادته ، فلو فرض كان هذا ، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى ، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا ، كما قال تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).


العابدين الجاحدين أنّ لله ولدا. والثاني : فأنا أوّل من عبد الله مخالفا لقولكم ، هذا قول مجاهد. وقال الزّجّاج : معناه : إن كنتم تزعمون للرّحمن ولدا ، فأنا أوّل الموحّدين. والثالث : فأنا أول الآنفين لله مما قلتم ، قاله ابن السّائب ، وأبو عبيدة (١). قال ابن قتيبة : يقال : عبدت من كذا ، أعبد عبدا ، فأنا عبد وعابد ، قال الفرزدق :

وأعبد أن تهجى تميم بدارم (٢)

أي : آنف. وأنشد أبو عبيدة :

وأعبد أن أسبّهم بقومي

وأوثر دارما وبني رزاح

والرابع : أنّ معنى الآية : كما أنّي لست أول عابد لله ، فكذلك ليس له ولد ؛ وهذا كما تقول : إن كنت كاتبا فأنا حاسب ، أي : لست كاتبا ولا أنا حاسب ؛ حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة. والقول الثاني : أنّ «إن» بمعنى «ما» ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد ؛ فيكون المعنى : ما كان للرّحمن ولد ، فأنا أول من عبد الله على يقين أنه لا ولد له. وقال أبو عبيدة : الفاء على هذا القول بمعنى الواو.

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ) يعني كفّار مكّة (يَخُوضُوا) في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا) وقرأ أبو المتوكّل وأبو الجوزاء وابن محيصن وأبو جعفر : «حتى يلقوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف. والمراد : يلاقوا يوم القيامة ، وهذه الآية عند الجمهور منسوخة بآية السّيف.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) قال مجاهد ، وقتادة : يعبد في السماء ويعبد في الأرض. وقال الزّجّاج : هو الموحّد في السماء وفي الأرض. وقرأ عمر بن الخطّاب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن السّميفع ، وابن يعمر ، والجحدري : «في السماء الله وفي الأرض الله» بألف ولام من غير تنوين ولا همز فيهما. وما بعد هذا قد سبق بيانه (٣) إلى قوله : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ).

(١٢٥٤) سبب نزولها أنّ النّضر بن الحارث ونفرا معه قالوا : إن كان ما يقول محمّد حقّا ، فنحن

____________________________________

(١٢٥٤) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث.

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ١٦١ : وهذا القول فيه نظر ، لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره : إن كان هذا فأنا ممتنع منه؟ هذا فيه نظر فليتأمل. اللهم إلا أن يقال : إن (إن) ليست شرطا ، وإنما هي نافية.

(٢) هو عجز بيت وصدره : أولئك قوم إن هجوني هجوتهم.

(٣) الأعراف : ٥٤ ، لقمان : ٣٤.


نتولّى الملائكة ، فهم أحقّ بالشّفاعة من محمّد ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

وفي معنى الآية قولان (١) : أحدهما : أنه أراد بالذين يدعون من دونه : آلهتهم ، ثم استثنى عيسى وعزير والملائكة ، فقال : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) وهو أن يشهد أن لا إله إلّا الله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم ، وهذا مذهب الأكثرين ، منهم قتادة. والثاني : أنّ المراد بالذين يدعون : عيسى وعزير والملائكة الذين عبدهم المشركون بالله لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد (إِلَّا مَنْ شَهِدَ) أي : إلّا لمن شهد (بِالْحَقِ) وهي كلمة الإخلاص (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنّ الله عزوجل خلق عيسى وعزير والملائكة ، وهذا مذهب قوم ، منهم مجاهد. وفي الآية دليل على أنّ شرط جميع الشّهادات أن يكون الشاهد عالما بما يشهد به.

قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِ) قال قتادة : هذا نبيّكم يشكو قومه إلى ربّه. وقال ابن عباس : شكا إلى الله تخلّف قومه عن الإيمان. قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو : «وقيله» بنصب اللام ؛ وفيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنه أضمر معها قولا ، كأنّه قال : وقال قيله ، وشكا شكواه إلى ربّه. والثاني : أنه عطف على قوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) وقيله فالمعنى : ونسمع قيله ، ذكر القولين الفرّاء ، والأخفش. والثالث : أنه منصوب على معنى : وعنده علم الساعة ويعلم قيله ، لأنّ معنى (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : يعلم الساعة ويعلم قيله ، هذا اختيار الزّجّاج. وقرأ عاصم وحمزة : «وقيله» بكسر اللام والهاء حتى تبلغ إلى الياء ؛ والمعنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله. وقرأ أبو هريرة وأبو رزين وسعيد بن جبير وأبو رجاء والجحدري وقتادة وحميد برفع اللام ؛ والمعنى : ونداؤه هذه الكلمة : يا ربّ ؛ ذكر علّة الخفض والرّفع الفرّاء والزّجّاج.

قوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي : فأعرض عنهم (وَقُلْ سَلامٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : قل خيرا بدلا من شرّهم ، قاله السّدّيّ. والثاني : اردد عليهم معروفا ، قاله مقاتل. والثالث : قل ما تسلم به من شرّهم ، حكاه الماوردي. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يعلمون عاقبة كفرهم. والثاني : أنك صادق. والثالث : حلول العذاب بهم ، وهذا تهديد لهم : «فسوف يعلمون». وقرأ نافع ، وابن عامر : «تعلمون» بالتاء. ومن قرأ بالياء ، فعلى الأمر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخاطبهم بهذا ، قاله مقاتل ؛ فنسخت آية السيف الإعراض والسّلام.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٦١ : قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من الأصنام ، والأوثان (الشفاعة) أي لا يقدرون على الشفاعة لهم ، (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، هذا استثناء منقطع ، أي : لكن من شهد بالحقّ على بصيرة وعلم ، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. وقال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٢١٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد ، إلا من شهد بالحق ، وشهادته بالحق : هو إقراره بتوحيد الله ، يعني بذلك : إلا من آمن بالله ، وهم يعلمون حقيقة توحيده ، فأثبت جل ثناؤه للملائكة وعيسى وعزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الآلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه. ووافقهما القرطبي في «تفسيره» ١٦ / ١٠٦ وقال : وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يدل على معنيين : أحدهما ـ أن الشفاعة بالحقّ غير نافعة إلا مع العلم ، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني ـ أي شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها.


سورة الدّخان

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

قوله عزوجل : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) قد تقدّم بيانه ، وجواب القسم (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) والهاء كناية عن الكتاب ، وهو القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وفيها قولان (١). أحدهما : أنها ليلة القدر ، وهو قول الأكثرين. وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل القرآن من عند الرحمن ليلة القدر جملة واحدة ، فوضع في السماء الدنيا ، ثم أنزل نجوما. وقال مقاتل : نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. والثاني : أنها ليلة النّصف من شعبان ، قاله عكرمة. قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي : مخوّفين عقابنا. (فِيها) أي : في تلك الليلة (يُفْرَقُ كُلُ) أي : يفصل. وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ : «يفرق» بفتح الياء وكسر الراء «كلّ» بنصب اللام (أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي : محكم. قال ابن عباس : يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السّنة من الخير والشرّ والأرزاق والآجال ، حتى الحاجّ ، وإنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى. وعلى ما روي عن عكرمة أنّ ذلك في ليلة النّصف من شعبان ، والرواية عنه بذلك مضطربة قد خولف الراوي لها ، فروي عن عكرمة أنه قال : في ليلة القدر ، وعلى هذا المفسّرون.

قوله تعالى : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) قال الأخفش : «أمرا» و«رحمة» منصوبان على الحال ؛ المعنى : إنّا أنزلناه آمرين أمرا وراحمين رحمة. قال الزّجّاج : ويجوز أن يكون منصوبا ب «يفرق» بمنزلة يفرق فرقا ، لأنّ «أمرا» بمعنى «فرقا». قال الفرّاء : ويجوز أن تنصب الرّحمة بوقوع «مرسلين» عليها ، فتكون الرحمة هي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال مقاتل : «مرسلين» بمعنى منزلين هذا القرآن ، أنزلناه رحمة لمن آمن به. وقال

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٢٢٣ : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك ليلة القدر. وهذا اختيار ابن كثير والقرطبي.


غيره : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي : إنّا نأمر بنسخ ما ينسخ من اللوح (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الأنبياء ، (رَحْمَةً) منّا بخلقنا. (رَبِّ السَّماواتِ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «ربّ» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم : «ربّ» بكسر الباء. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (بَلْ هُمْ) يعني الكفّار (فِي شَكٍ) مما جئناهم به (يَلْعَبُونَ) يهزئون به.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

(فَارْتَقِبْ) أي : فانتطر (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) اختلفوا في هذا الدّخان ووقته على ثلاثة أقوال (١) أحدها : أنه دخان يجيء قبل قيام الساعة.

(١٢٥٥) فروي عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الدّخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفّار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزّكام. وروى عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت ، قلت : لم؟ قال : طلع الكوكب ذو الذّنب ، فخشيت أن يطرق الدّخان ، وهذا المعنى مرويّ عن عليّ ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، والحسن.

والثاني : أنّ قريشا أصابهم جوع ، فكانوا يرون بينهم وبين السماء دخانا من الجوع.

____________________________________

(١٢٥٥) لم أره عن ابن عباس سواء مرفوعا أو موقوفا ، ولعله سبق قلم. وورد من حديث جماعة من الصحابة فمن ذلك : حديث حذيفة بن اليمان : أخرجه الطبري ٣١٠٦١ وفيه رواد بن الجراح واه. وورد من حديث أبي مالك الأشعري ، أخرجه الطبري ٣١٠٦٢ وإسناده حسن في الشواهد. وله شواهد متعددة تراجع في كتب أشراط الساعة.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٢٨ : وأولى القولين بالصواب في ذلك ما روي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم ، على ما وصفه ابن مسعود لأن الله جل ثناؤه توعّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ثم أتبع قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أمرا منه بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.

قلت : وحديث ابن مسعود صحيح كالشمس كما سيأتي. لكنه رأي له. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٦٥ بعد أن ساق أحاديث مرفوعة في أن الدخان هو عند قيام الساعة وعقب ذلك بآثار موقوفة ومنها أثر عن ابن عباس ـ وهو الآتي برواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس موقوفا. فقال : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان التي أوردناها مما فيه دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن ، قال تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي بين واضح يراه كل أحد ، وعلى ما فسره ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع ، وهكذا قوله (يَغْشَى النَّاسَ) أي يتفشاهم ويعمهم ، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل : (يَغْشَى النَّاسَ). اه.


(١٢٥٦) فروى البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق ، قال : كنّا عند عبد الله ، فدخل علينا رجل ، فقال : جئتك من المسجد وتركت رجلا يقول في هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) : يغشاهم يوم القيامة دخان يأخذ بأنفاسهم حتى يصيبهم منه كهيئة الزّكام ؛ فقال عبد الله : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، إنما كان هذا لأنّ قريشا لمّا استعصت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم بسنين كسنيّ يوسف ، فأصابهم قحط وجهد ، حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدّخان من الجهد ، فقالوا : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) ، فقال الله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) ، فكشف عنهم ، ثم عادوا إلى الكفر ، فأخذوا يوم بدر ، فذلك قوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) ، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وأبو العالية والضّحّاك وابن السّائب ومقاتل.

والثالث : أنه يوم فتح مكّة لمّا حجبت السماء بالغبرة ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (هذا عَذابٌ) أي : يقولون : هذا عذاب. (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) فيه قولان : أحدهما : الجوع. والثاني : الدّخان (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : من أين لهم التّذكّر والاتعاظ بعد نزول هذا البلاء ، وحالهم أنه قد (جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي : ظاهر الصّدق؟! (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي : أعرضوا ولم يقبلوا قوله (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي : هو معلّم يعلّمه بشر ، مجنون بادّعائه النّبوّة ؛ قال الله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) أي : زمانا يسيرا (١). وفي العذاب قولان : أحدهما : الضّرّ الذي نزل بهم كشف بالخصب ، هذا على قول ابن مسعود. قال مقاتل : كشفه إلى يوم بدر. والثاني : أنّه الدّخان ، قاله قتادة. قوله تعالى : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) فيه قولان : أحدهما : إلى الشّرك ، قاله ابن

____________________________________

(١٢٥٦) صحيح الإسناد. أخرجه البخاري ٤٧٧٤ عن محمد بن كثير عن سفيان ثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به. وأخرجه ابن حبان ٦٥٨٥ والطبراني ٩٠٤٨ وأبو نعيم في «الدلائل» ٣٦٩ من طريق محمد بن كثير به. وأخرجه البخاري ٤٦٩٣ والحميدي ١١٦ من طريق سفيان به. وأخرجه البخاري ٤٨٢٤ والترمذي ٣٢٥٤ وأحمد ١ / ٤٤١ من طريق شعبه عن الأعمش ومنصور به. وأخرجه البخاري ١٠٠٧ و ٤٨٢١ و ٤٨٢٢ و ٤٨٢٣ ومسلم ٢٧٩٨ ح ٤٠ والطبري ٣١٠٤٣ والطبراني ٩٠٤٦ و ٩٠٤٧ وأحمد ١ / ٣٨٠ و ٤٣١ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٣٢٤ و ٣٢٥ و ٣٢٦ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم ٢٧٩٨ والطبري ٣١٠٤٥ والبيهقي ٢ / ٣٢٦ من طرق عن جرير عن منصور به.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٦٦ : وقوله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) يحتمل معنيين أحدهما : أنه يقول تعالى : ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب ، كقوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وكقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) والثاني : أن يكون المراد : إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد سببه ووصوله كقوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). ولم يكن العذاب ، باشرهم واتصل بهم ، بل كان قد انعقد سببه عليهم ، ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى إخبارا عن شعيب أنه قال لقومه حين قالوا : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ : أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) وشعيب عليه‌السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقهم. اه.


مسعود. والثاني : إلى عذاب الله ، قاله قتادة. قوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، وأبو عمران : «يوم تبطش» بتاء مرفوعة وفتح الطاء «البطشة» بالرفع. قال الزّجّاج : المعنى : واذكر يوم نبطش ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله : (مُنْتَقِمُونَ) ، لأنّ ما بعد «إنّا» لا يجوز أن يعمل فيما قبلها. وفي هذا اليوم قولان : أحدهما : يوم بدر ، قاله ابن مسعود وأبيّ بن كعب وأبو هريرة وأبو العالية ومجاهد والضّحّاك. والثاني : يوم القيامة ، قاله ابن عباس والحسن. والبطش : الأخذ بقوّة.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا) أي : ابتلينا (قَبْلَهُمْ) أي : قبل قومك (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بإرسال موسى إليهم (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) وهو موسى بن عمران. وفي معنى «كريم» ثلاثة أقوال : أحدها : حسن الخلق ، قاله مقاتل. والثاني : كريم على ربّه ، قاله الفرّاء. والثالث : شريف وسيط النّسب ، قاله أبو سليمان. قوله تعالى : (أَنْ أَدُّوا) أي : بأن أدّوا (إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) وفيه قولان : أحدهما : أدّوا إليّ ما أدعوكم إليه من الحقّ باتّباعي ، روى هذا المعنى العوفيّ عن ابن عباس. فعلى هذا ينتصب «عباد الله» بالنداء. قال الزّجّاج : ويكون المعنى : أن أدّوا إليّ ما آمركم به يا عباد الله. والثاني : أرسلوا معي بني إسرائيل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والمعنى : أطلقوهم من تسخيركم ، وسلّموهم إليّ. (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا تفتروا عليه ، قاله ابن عباس. والثاني : لا تعتوا عليه ، قاله قتادة. والثالث : لا تعظّموا عليه ، قاله ابن جريج (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجّة تدلّ على صدقي. فلمّا قال هذا تواعدوه بالقتل فقال : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) وفيه قولان : أحدهما : أنه رجم القول ، قاله ابن عباس ؛ فيكون المعنى : أن يقولوا : شاعر أو مجنون. والثاني : القتل ، قاله السّدّيّ. (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي : فاتركوني لا معي ولا عليّ ، فكفروا ولم يؤمنوا ، (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ) قال الزّجّاج : من فتح «أنّ» ، فالمعنى : بأنّ هؤلاء ؛ ومن كسر ، فالمعنى : قال : إنّ هؤلاء ، و«إنّ» بعد القول مكسورة. وقال المفسّرون : المجرمون هاهنا : المشركون. فأجاب الله دعاءه ، وقال : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) يعني بالمؤمنين (١) (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وقومه ؛ فأعلمهم أنهم يتبعونهم ، وأنه سيكون

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١١٨ : السرى : سير الليل. والإدلاج : سير السحر والإسآد : سيره كله. والتأويب : سير النهار. وقوله تعالى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أمر بالخروج بالليل ، وسير الليل يكون من الخوف ، والخوف يكون من وجهين : إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا ، فهو من أستار الله تعالى ، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بحرّ أو جدب. فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسري ويدلج ويترقق ويستعجل قدر الحاجة وحسب العجلة ، وما تقتضيه المصلحة. وفي «جامع الموطأ» : «إن الله


سببا لغرقهم. (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي : ساكنا على حاله بعد أن انفرق لك ، ولا تأمره أن يرجع كما كان حتى يدخله فرعون وجنوده. والرّهو : مشي في سكون. قال قتادة : لمّا قطع موسى عليه‌السلام البحر ، عطف يضرب البحر بعصاه ليلتئم ، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده ، فقيل له : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي كما هو طريقا يابسا. قوله تعالى : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أخبره الله عزوجل بغرقهم ليطمئنّ قلبه في ترك البحر على حاله. (كَمْ تَرَكُوا) أي : بعد غرقهم (مِنْ جَنَّاتٍ) وقد فسّرنا الآية في الشّعراء (١). فأمّا «النّعمة» فهو العيش اللّيّن الرّغد. وما بعد هذا قد سبق بيانه (٢) إلى قوله : (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) يعني بني إسرائيل. (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ) أي على آل فرعون ، وفي معناه ثلاثة أقوال (٣) : أحدها : أنه على الحقيقة.

(١٢٥٧) روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من مسلم إلّا وله في السماء بابان ، باب يصعد فيه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه» وتلا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية. وقال عليّ رضي الله عنه : إنّ المؤمن إذا مات بكى عليه مصلّاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ، وإنّ آل فرعون لم يكن لهم في الأرض مصلّى ولا في السماء مصعد عمل ، فقال الله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، وإلى نحو هذا ذهب ابن عباس والضّحّاك ومقاتل. وقال ابن عباس : الحمرة التي في السماء

____________________________________

(١٢٥٧) ضعيف جدا. أخرجه الترمذي ٣٢٥٥ وأبو يعلى ٤١٣٣ وأبو نعيم ٣ / ٥٣ من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس به مرفوعا ، وهذا إسناد ضعيف جدا ، موسى بن عبيدة ضعيف ليس بشيء ، وشيخه يزيد ضعيف روى مناكير كثيرة عن أنس ، وهذا منها. وضعفه الترمذي بقوله : موسى ويزيد يضعفان ، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٠٤ والحافظ في «المطالب العالية» ٣ / ٣٦٩. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ٣ / ٥٣ من طريق صفوان بن سليم عن يزيد بن أبان به والراوي عن صفوان هو إبراهيم بن مهاجر بن مسمار ، وهو ضعيف. ولعجزه شاهد مرسل ، أخرجه الطبري ٣١١٢٩ ومع ذلك المتن منكر ، وحسبه الوقف ، وانظر «تفسير القرطبي» ٥٤٦٩ بتخريجنا.

__________________

رفيق يحب الرفق ، ويرضى به ، ويعين عليه ما لا يعين على العنف ، فإذا ركبتم هذه الدّوابّ العجم فأنزلوها منازلها ، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها بنقيها ، وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار ، وإياكم والتعريس على الطريق فإنه طرق الدّوابّ ومأوى الحيّات». قلت : حديث صحيح. أخرجه مالك ٢ / ٩٧٩ عن خالد بن معدان مرسلا. وورد من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا ، أخرجه مسلم ١٩٢٦.

(١) الشعراء : ٥٧.

(٢) يس : ٥٥.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٦٨ : وقوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم ، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم ، وعتوهم وعنادهم. وقال القرطبي في «تفسيره» ١٦ / ١٢١ : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) أي لكفرهم. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض ، أي عمّت مصيبته الأشياء ، وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وتقدير الآية : فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا موضع عبادتهم من الأرض وفي بكاء السماء والأرض أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ، ولا استحالة في ذلك. وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم فكذلك تبكي مع ما جاء من الخبر في ذلك ، والله أعلم بصواب هذه الأقوال.


بكاؤها. وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلّا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، فقيل له : أو تبكي؟ قال : وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالرّكوع والسجود؟! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دويّ كدويّ النّحل؟!.

والثاني : أن المراد : أهل السماء وأهل الأرض ، قاله الحسن ، ونظير هذا قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (١) ، أي : أهل الحرب. والثالث : أنّ العرب تقول إذا أرادت تعظيم مهلك عظيم : أظلمت الشمس له ، وكسف القمر لفقده ، وبكته الرّيح والبرق والسماء والأرض ، يريدون المبالغة في وصف المصيبة ، وليس ذلك بكذب منهم ، لأنهم جميعا متواطئون عليه ، والسّامع له يعرف مذهب القائل فيه ؛ ونيّتهم في قولهم : أظلمت الشمس ؛ كادت تظلم ، وكسف القمر : كاد يكسف ، ومعنى «كاد» : همّ أن يفعل ولم يفعل ؛ قال ابن مفرّغ يرثي رجلا :

الرّيح تبكي شجوه

والبرق يلمع في غمامه (٢)

وقال الآخر :

الشّمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك ـ نجوم اللّيل والقمرا (٣)

أراد : الشمس طالعة تبكي عليه ، وليست مع طلوعها كاسفة النّجوم والقمر ، لأنها مظلمة ، وإنما تكسف بضوئها ، فنجوم الليل بادية بالنّهار ، فيكون معنى الكلام : إنّ الله لمّا أهلك قوم فرعون لم يبك عليهم باك ، ولم يجزع جازع ، ولم يوجد لهم فقد ، هذا كلّه كلام ابن قتيبة.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

قوله تعالى : (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) يعني قتل الأبناء واستخدام النّساء والتّعب في أعمال فرعون ، (إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي : جبّارا. (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) يعني بني إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) علمه الله فيهم على عالمي زمانهم ، (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) كانفراق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المنّ والسّلوى ، إلى غير ذلك (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي : نعمة ظاهرة.

ثم رجع إلى ذكر كفّار مكّة ، فقال (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) يعنون التي تكون في الدنيا (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي : بمبعوثين ، (فَأْتُوا بِآبائِنا) أي : ابعثوهم لنا (إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) محمد : ٤.

(٢) البيت ليزيد بن مفرّغ الحميري ، وهو في «الأغاني» ١٨ / ١٨٧ و«الأضداد» ٤٢٤ للأنباري.

(٣) البيت لجرير يرثي عمر بن عبد العزيز ، ديوانه : ٣٠٤ و«اللسان» ـ بكى ـ


صادِقِينَ) في البعث. وهذا جهل منهم من وجهين : أحدهما : أنهم قد رأوا من الآيات ما يكفي في الدّلالة ؛ فليس لهم أن يتنطّعوا (١). والثاني : أنّ الإعادة للجزاء ؛ وذلك في الآخرة ، لا في الدنيا. ثم خوّفهم عذاب الأمم قبلهم ، فقال : (أَهُمْ خَيْرٌ) أي : أشدّ وأقوى (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ)؟! أي : ليسوا خيرا منهم.

(١٢٥٨) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أدري تبّعا ، نبيّ ، أو غير نبيّ».

وقالت عائشة : لا تسبّوا تبّعا فإنه كان رجلا صالحا ، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ قومه ولم يذمّه. وقال وهب : أسلم تبّع ولم يسلم قومه ، فلذلك ذكر قومه ولم يذكر. وذكر بعض المفسّرين أنه كان يعبد النار ، فأسلم ودعا قومه ـ وهم حمير ـ إلى الإسلام ، فكذّبوه. فأمّا تسميته ب «تبّع» فقال أبو عبيدة : كلّ ملك من ملوك اليمن كان يسمّى : تبّعا ، لأنه يتبع صاحبه ، فموضع «تبّع» في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام ، وقال مقاتل : إنما سمّي تبّعا لكثرة أتباعه ، واسمه : ملكيكرب. وإنما ذكر قوم تبّع ، لأنهم كانوا أقرب في الهلاك إلى كفّار مكّة من غيرهم.

وما بعد هذا قد تقدّم (٢) إلى قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وهو يوم يفصل الله عزوجل بين العباد (مِيقاتُهُمْ) أي : ميعادهم (أَجْمَعِينَ) يأتيه الأوّلون والآخرون. (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) فيه قولان : أحدهما : لا ينفع قريب قريبا ، قاله مقاتل. وقال ابن قتيبة : لا يغني وليّ عن وليّه بالقرابة أو غيرها. والثاني : لا ينفع ابن عمّ ابن عمّه ، قاله أبو عبيدة. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ، لا يمنعون من عذاب الله ، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) وهم المؤمنون ، فإنه يشفع بعضهم في بعض.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

____________________________________

(١٢٥٨) صحيح. أخرجه أبو داود ٤٦٧٤ والبيهقي ٨ / ٣٢٩ من طريق عبد الرزاق ثنا معمر عن ابن أبي ذئب المقبري عن أبي هريرة. لكن بلفظ. «ما أدري أتبع لعين هو أم لا ، وما أدري أعزير نبيّ هو أم لا؟». وأخرجه الحاكم ٢ / ٤٥٠ من طريق آخر عن ابن أبي ذئب به ، بلفظ أبي داود لكن عنده «ذو القرنين» بدل «عزير». وصححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، وكذا الألباني في «الصحيحة» ٢٢١٧ على شرط البخاري فقط ، فإن في إسناده آدم بن أبي إياس لم يرو له مسلم.

__________________

(١) في «اللسان» : التّنطّع في الكلام : التعمق فيه مأخوذ منه ، وفي الحديث «هلك المتنطعون» المتعمقون المغالون في الكلام ، الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم تكبرا.

(٢) الأنبياء : ١٦ ـ الحجر : ٨٥.


(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) قد ذكرناها في الصّافّات (١). و (الْأَثِيمِ) : الفاجر ؛ وقال مقاتل : هو أبو جهل. وقد ذكرنا معنى «المهل» في الكهف (٢).

قوله تعالى : (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «يغلي» بالياء ؛ والباقون : بالتاء. فمن قرأ «تغلي» بالتاء ، فلتأنيث الشجرة ؛ ومن قرأ بالياء ، حمله على الطعام ، قال أبو عليّ الفارسي : ولا يجوز أن يحمل الغلي على المهل ، لأنّ المهل ذكر للتشبيه في الذّوب ، وإنما يغلي ما شبّه به (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) وهو الماء الحارّ إذا اشتدّ غليانه.

قوله تعالى : (خُذُوهُ) أي : يقال للزّبانية : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، ويعقوب : بضمّ التاء ؛ وكسرها الباقون ؛ قال ابن قتيبة : ومعناه : قودوه بالعنف ، يقال : جيء بفلان يعتل إلى السلطان ، و«سواء الجحيم» : وسط النّار. قال مقاتل : الآيات في أبي جهل يضربه الملك من خزّان جهنّم على رأسه بمقمعة من حديد فتنقب عن دماغه ، فيجري دماغه على جسده ، ثم يصبّ الملك في النّقب ماء حميما قد انتهى حرّه ، فيقع في بطنه ، ثم يقول له الملك : (ذُقْ) العذاب (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) هذا توبيخ له بذلك ؛ وكان أبو جهل يقول : أنا أعزّ قريش وأكرمها. وقرأ الكسائيّ : «ذق أنّك» بفتح الهمزة ؛ والباقون : بكسرها. قال أبو عليّ : من كسرها ، فالمعنى : أنت العزيز في زعمك ، ومن فتح ، فالمعنى : بأنّك.

فإن قيل : كيف سمّي بالعزيز وليس به؟! فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه قيل ذلك استهزاء به ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. والثاني : أنت العزيز الكريم عند نفسك ، قاله قتادة. والثالث : أنت العزيز في قومك ، الكريم على أهلك ، حكاه الماوردي.

ويقول الخزّان لأهل النّار : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي : تشكّون في كونه. ثم ذكر مستقرّ المتّقين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) قرأ نافع وابن عامر : «في مقام» بضمّ الميم ؛ والباقون : بفتحها. قال الفرّاء : المقام ، بفتح الميم : المكان ، وبضمّها : الإقامة. قوله تعالى : (أَمِينٍ) أي : أمنوا فيه الغير والحوادث. وقد ذكرنا «الجنّات» في البقرة (٣) ، وذكرنا معنى «العيون» ومعنى «متقابلين» في الحجر (٤) ، وذكرنا «السّندس والإستبرق» في الكهف (٥).

قوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : الأمر كما وصفنا (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال المفسّرون : المعنى : قرنّاهم بهنّ ، وليس من عقد التزويج. قال أبو عبيدة : المعنى : جعلنا ذكور أهل الجنّة أزواجا (بِحُورٍ عِينٍ) من النساء ، تقول للرجل : زوّج هذه النّعل الفرد بالنّعل الفرد ، أي : اجعلهما زوجا ، والمعنى : جعلناهم اثنين اثنين. وقال يونس : العرب لا تقول : تزوّج بها ، إنما يقولون : تزوّجها. ومعنى (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) : قرنّاهم. وقال ابن قتيبة : يقال : زوّجته امرأة ، وزوّجته بامرأة. وقال أبو عليّ الفارسي : والتنزيل على ما قال يونس ، وهو قوله تعالى : (زَوَّجْناكَها) (٦) ، وما قال : زوّجناك بها. فأمّا الحور ، فقال مجاهد : الحور : النساء النّقيّات البياض. وقال الفرّاء : الحوراء : البيضاء من الإبل ؛ قال : وفي «الحور العين» لغتان : حور عين ، وحير عين ، وأنشد :

__________________

(١) الصافات : ٦٢.

(٢) الكهف : ٢٩.

(٣) البقرة : ٢٥.

(٤) الحجر : ٤٥ ـ ٤٧.

(٥) الكهف : ٣١.

(٦) الأحزاب : ٣٧.


أزمان عيناء سرور المسير

وحوراء عيناء من العين الحير

وقال أبو عبيدة : الحوراء : الشديدة بياض بياض العين ، الشديدة سواد سوادها. وقد بيّنّا معنى «العين» في الصّافّات (١).

قوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) فيه قولان : أحدهما : آمنين من انقطاعها في بعض الأزمنة. والثاني : آمنين من التّخم والأسقام والآفات. قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بمعنى «سوى» ، فتقدير الكلام : لا يذوقون في الجنّة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا ؛ ومثله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (٢) ، وقوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (٣) أي : سوى ما شاء لهم ربّك من الزّيادة على مقدار الدنيا ، هذا قول الفرّاء ، والزّجّاج. والثاني : أنّ السّعداء حين يموتون يصيرون إلى الرّوح والرّيحان وأسباب من الجنّة يرون منازلهم منها ، وإذا ماتوا في الدنيا ، فكأنهم ماتوا في الجنّة ، لاتّصالهم بأسبابها ، ومشاهدتهم إيّاها ، قاله ابن قتيبة. والثالث : أنّ «إلّا» بمعنى «بعد» ، كما ذكرنا في أحد الوجوه في قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (٤) ، وهذا قول ابن جرير. قوله تعالى : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي : فعل الله ذلك بهم فضلا منه. (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي : سهّلناه ، والكناية عن القرآن (بِلِسانِكَ) أي : بلغة العرب (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : لكي يتّعظوا فيؤمنوا ، (فَارْتَقِبْ) أي : انتظر بهم العذاب (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) هلاكك ؛ وهذه عند أكثر المفسّرين منسوخة بآية السّيف ، وليس بصحيح.

__________________

(١) الصافات : ٤٨.

(٢) النساء : ٢٢.

(٣) هود : ١٠٧.

(٤) النساء : ٢٢.


سورة الجاثية

وتسمّى : سورة الشريعة. روى العوفيّ وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّيّة ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور. وقال مقاتل : هي مكّيّة كلّها. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : هي مكّيّة إلّا آية ، وهي قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣))

قوله تعالى : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) قد شرحناه في أوّل المؤمن.

قوله تعالى : (وَفِي خَلْقِكُمْ) أي : من تراب ثم من نطفة إلى أن يتكامل خلق الإنسان (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) أي : وما يفرق في الأرض من جميع ما خلق على اختلاف ذلك في الخلق والصّور (آياتٌ) تدلّ على وحدانيّته. قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «آيات» رفعا «وتصريف الرّياح آيات» رفعا أيضا. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : بالكسر فيهما. والرّزق هاهنا بمعنى المطر. قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي : هذه حجج الله (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) أي : بعد حديثه (وَآياتِهِ) يؤمن هؤلاء المشركون؟!

__________________

(١) الجاثية : ١٤.


قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النّضر بن الحارث. وقد بيّنّا معناها في الشّعراء (١) ، والآية التي تليها مفسّرة في لقمان (٢).

قوله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) قال مقاتل : معناه : إذا سمع. وقرأ ابن مسعود : «وإذا علّم» برفع العين وكسر اللام وتشديدها. قوله تعالى : (اتَّخَذَها هُزُواً) أي : سخر منها ، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) (٣) فدعا بتمر وزبد ، وقال : تزقموا فما يعدكم محمّد إلّا هذا ، وإنما قال : (أُولئِكَ) لأنه ردّ الكلام إلى معنى «كلّ». (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) قد فسّرناه في إبراهيم (٤) (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) من الأموال ، ولا ما عبدوا من الآلهة. قوله تعالى : (هذا هُدىً) يعني القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) به ، (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم : «أليم» بالرفع على نعت العذاب. وقرأ الباقون : بالكسر على نعت الرّجز. والرّجز بمعنى العذاب ، وقد شرحناه في الأعراف (٥). قوله تعالى : (جَمِيعاً مِنْهُ) أي : ذلك التّسخير منه لا من غيره ، فهو من فضله. وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن عباس ، وأبو مجلز ، وابن السّميفع ، وابن محيصن ، والجحدري : «جميعا منّة» بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منوّنة. وقرأ سعيد بن جبير : «منّه» بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢))

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ...) الآية ، في سبب نزولها أربعة أقوال :

أحدها : أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها : «المريسيع» ، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء ، فأبطأ عليه ، فلمّا أتاه قال له : ما حبسك؟ قال : غلام عمر ، ما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرب أبي بكر ، وملأ لمولاه ، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلّا كما قيل : سمّن كلبك يأكلك ، فبلغ قوله عمر ، فاشتمل سيفه يريد التوجّه إليه ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٢.

(٢) لقمان : ٧.

(٣) الدخان : ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) إبراهيم : ١٦.

(٥) الأعراف : ١٣٤.


عن ابن عباس (١).

(١٢٥٩) والثاني : أنها لمّا نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٢) قال يهوديّ بالمدينة يقال له فنحاص : احتاج ربّ محمّد. فلمّا سمع بذلك عمر ، اشتمل على سيفه وخرج في طلبه ، فنزل جبريل عليه‌السلام بهذه الآية ، فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلب عمر ، فلمّا جاء ، قال : «يا عمر ، ضع سيفك» وتلا عليه الآية ، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس.

(١٢٦٠) والثالث : أنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكّة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله القرظي ، والسّدّيّ.

والرابع : أنّ رجلا من كفّار قريش شتم عمر بن الخطّاب ، فهمّ عمر أن يبطش به ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل (٣).

ومعنى الآية : قل للذين آمنوا : اغفروا ، ولكن شبّه بالشّرط والجزاء ، كقوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) (٤) ، وقد مضى بيان هذا. وقوله : (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ) أي : لا يخافون وقائع الله في الأمم الخالية ، لأنهم لا يؤمنون به ، فلا يخافون عقابه. وقيل : لا يدرون أنعم الله عليهم ، أم لا. وقد سبق بيان معنى «أيّام الله» في سورة إبراهيم (٥).

فصل : وجمهور المفسّرين على أنّ هذه الآية منسوخة ، لأنها تضمّنت الأمر بالإعراض عن المشركين. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٦) ، رواه معمر عن قتادة. والثاني : أنه قوله في الأنفال : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) (٧) ، وقوله في براءة : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (٨) ، رواه سعيد عن قتادة. والثالث : أنه قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (٩) ، قاله أبو صالح.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ قَوْماً) وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «لنجزي» بالنون «قوما» يعني الكفّار ، فكأنه قال : لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن. وما بعد هذا قد سبق (١٠) إلى قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا

____________________________________

(١٢٥٩) ضعيف جدا ، أخرجه الواحدي ٧٤٣ م في «أسباب النزول» عن ميمون عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف جدا محمد بن زياد اليشكري متروك متهم.

(١٢٦٠) عزاه المصنف للقرظي وهو محمد بن كعب ، وللسدي ، ولم أقف على إسناده ، وكلاهما مرسل.

وأخرج الطبري ٣١١٨٥ بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس نحوه. وهذا القول أقرب للصواب ، وإن لم يصح بوجه من الوجوه. وكون السورة نزلت في عمر ، واه بمرة.

__________________

(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٤٣ بدون إسناد ، فهو لا شيء.

(٢) البقرة : ٢٤٥.

(٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك متهم بالكذب ، فالخبر لا شيء.

(٤) إبراهيم : ٣١.

(٥) إبراهيم : ٥.

(٦) التوبة : ٥.

(٧) الأنفال : ٥٧.

(٨) التوبة : ٣٦.

(٩) الحج : ٣٩.

(١٠) الإسراء : ٧.


بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) يعني التّوراة (وَالْحُكْمَ) وهو الفهم في الكتاب ، (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني المنّ والسّلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي : عالمي زمانهم. (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) فيه قولان : أحدهما : بيان الحلال والحرام ، قاله السّدّيّ. والثاني : العلم بمبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشواهد نبوّته ، ذكره الماورديّ. وما بعد هذا قد تقدّم بيانه (١) إلى قوله : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) (٢) سبب نزولها أنّ رؤساء قريش دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملّة آبائه ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. فأمّا قوله : (عَلى شَرِيعَةٍ) فقال ابن قتيبة : أي على ملّة ومذهب ، ومنه يقال : شرع فلان في كذا : إذا أخذ فيه ، ومنه «مشارع الماء» وهي الفرض التي شرع فيها الوارد. قال المفسّرون : ثم جعلناك بعد موسى على طريقة من الأمر ، أي : من الدّين (فَاتَّبِعْها). و (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كفّار قريش. (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ) أي : لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتّبعتهم ، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) يعني المشركين. (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الشّرك. والآية التي بعدها مفسّرة في آخر الأعراف (٣). (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) سبب نزولها أنّ كفّار مكّة قالوا للمؤمنين : إنّا نعطى في الآخرة مثلما تعطون من الأجر ، قاله مقاتل (٤). والاستفهام هاهنا استفهام إنكار. و«اجترحوا» بمعنى اكتسبوا. (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، وزيد عن يعقوب : «سواء» نصبا ؛ وقرأ الباقون : بالرفع. فمن رفع ، فعلى الابتداء ؛ ومن نصب ، جعله مفعولا ثانيا ، على تقدير : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء ؛ والمعنى : إنّ هؤلاء يحيون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، وهؤلاء يحيون كافرين ويموتون كافرين ؛ وشتّان ما هم في الحال والمآل (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي : بئس ما يقضون. ثم ذكر بالآية التي تلي هذه أنه خلق السموات والأرض بالحقّ ، أي : للحقّ والجزاء بالعدل ، لئلّا يظنّ الكافر أنه لا يجزى بكفره.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١))

__________________

(١) آل عمران : ١٩.

(٢) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٢٣ : ظن بعض من تكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا ، ولا ننكر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته منفردان بشريعة ، وإنما الخلاف فيما أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح ، وإنما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه.

(٣) الأعراف : ٢٠٣.

(٤) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية ، لا حجة فيه البتة.


قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) قد شرحناه في الفرقان (١). وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في الحارث بن قيس السّهمي. قوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أي : على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) أي : طبع عليه فلم يسمع الهدى (وَ) على (قَلْبِهِ) فلم يعقل الهدى ، وقد ذكرنا الغشاوة والختم في (البقرة) (٢). (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي : من بعد إضلاله إيّاه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعرفوا قدرته على ما يشاء؟!. وما بعد هذا مفسّر في سورة المؤمنون (٣) إلى قوله : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي : اختلاف الليل والنهار (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي : ما قالوه عن علم ، إنّما قالوه شاكّين فيه. ومن أجل هذا قال نبيّنا عليه الصلاة والسلام :

(١٢٦١) «لا تسبّوا الدّهر فإنّ الله هو الدّهر» ، أي : هو الذي يهلككم ، لا ما تتوهّمونه من مرور الزّمان.

وما بعد هذا ظاهر ، وقد تقدّم بيانه (٤) إلى قوله : (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) يعني المكذّبين الكافرين أصحاب الأباطيل ؛ والمعنى : يظهر خسرانهم يومئذ. (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ) قال الفرّاء ؛ ترى أهل كلّ دين (جاثِيَةً) قال الزّجّاج : أي : جالسة على الرّكب ، يقال : قد جثا فلان جثوّا : إذا جلس على ركبتيه ، ومثله : جذا يجذو. والجذوّ أشدّ استيفازا من الجثوّ ، لأنّ الجذوّ : أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه. قال ابن قتيبة : والمعنى أنها غير مطمئنّة.

قوله تعالى : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كتابها الذي فيه حسناتها وسيئاتها ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه حسابها ، قاله الشّعبيّ ، والفرّاء ، وابن قتيبة. والثالث : كتابها الذي أنزل على رسوله ، حكاه الماوردي. ويقال لهم : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (هذا كِتابُنا) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كتاب الأعمال الذي تكتبه الحفظة ، قاله ابن السّائب. والثاني : اللّوح المحفوظ ، قاله مقاتل. والثالث : القرآن ، والمعنى أنهم يقرءونه فيدلّهم ويذكّرهم ، فكأنّه ينطق عليهم ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم ، أي بكتبها وإثباتها. وأكثر المفسّرين على أنّ هذا الاستنساخ ، من اللّوح المحفوظ ، تستنسخ الملائكة كلّ عام ما

____________________________________

(١٢٦١) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٢٦ و ٧٤٩١ ومسلم ٢٢٤٦ والحميدي ١٠٩٦ وأبو داود ٥٢٧٤ وأحمد ٢ / ٢٣٨ وابن حبان ٥٧١٥ والبغوي ٣٣٨٩ والبيهقي في «السنن ٣ / ٣٦٥ والطبري ٣١٢٠٧ كلهم من حديث أبي هريرة ، واللفظ لمسلم ورواه البخاري بمعناه. قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٧٩ : كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة ، قالوا : يا خيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله فكأنهم إنما سبّوا الله عزوجل لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار ، لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى ، أخذا من هذا الحديث.

__________________

(١) الفرقان : ٤٣.

(٢) البقرة : ٧.

(٣) المؤمنون : ٣٧.

(٤) البقرة : ٢٨ ، الشورى : ٧.


يكون من أعمال بني آدم ، فيجدون ذلك موافقا ما يعملونه. قالوا : والاستنساخ لا يكون إلّا من أصل. قال الفرّاء : يرفع الملكان العمل كلّه ، فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب ، ويطرح منه اللّغو. وقال الزّجّاج : نستنسخ ما تكتبه الحفظة ، ويثبت عند الله عزوجل.

قوله تعالى : (فِي رَحْمَتِهِ) قال مقاتل : في جنّته.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي) فيه إضمار ، تقديره : فيقال لهم ألم تكن آياتي ، يعني آيات القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بها (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) قال ابن عباس : كافرين.

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌ) أي : كائن (وَالسَّاعَةُ) قرأ حمزة : «والساعة» بالنّصب (لا رَيْبَ فِيها) أي : كائنة بلا شكّ (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي أنكرتموها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أي : ما نعلم ذلك إلّا ظنا وحدسا ، ولا نستيقن كونها.

وما بعد هذا قد تقدّم (١) إلى قوله : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) أي : نترككم في النّار (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : كما تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم. (ذلِكُمْ) الذي فعلنا بكم (بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) أي : مهزوءا بها (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) حتى قلتم : إنه لا بعث ولا حساب (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «لا يخرجون» بفتح الياء وضمّ الراء. وقرأ الباقون : «لا يخرجون» بضمّ الياء وفتح الراء (مِنْها) أي : من النّار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله عزوجل ، لأنه ليس بحين توبة ولا اعتذار.

قوله تعالى : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : السّلطان ، قاله مجاهد. والثاني : الشّرف ، قاله ابن زيد. والثالث : العظمة ، قاله يحيى بن سلام ، والزّجّاج.

__________________

(١) الزمر : ٤٨.


سورة الأحقاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤))

فصل في نزولها (١) : روى العوفيّ وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكيّة ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والجمهور. وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : فيها آية مدنيّة ، وهي قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢). وقال مقاتل : نزلت بمكّة غير آيتين : قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (٣). نزلتا بالمدينة.

وقد تقدّم تفسير فاتحتها (٤) إلى قوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو أجل فناء السّموات والأرض ، وهو يوم القيامة. قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) مفسّر في فاطر (٥) إلى قوله : (ائْتُونِي بِكِتابٍ) (٦) ، وفي الآية اختصار ، تقديره : فإن ادّعوا أنّ شيئا من المخلوقات صنعة آلهتهم ، فقل لهم : ائتوني بكتاب (مِنْ قَبْلِ هذا) أي : من قبل القرآن فيه برهان ما تدّعون من أنّ الأصنام شركاء الله ، (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) وفيه ثلاثة أقوال (٧) : أحدها : أنه الشيء يثيره مستخرجه ، قاله الحسن. والثاني : بقيّة من علم تؤثر عن

__________________

(١) سورة الأحقاف مكية في قول جميعهم ، كما في «تفسير القرطبي» ١٦ / ١٥٤ و«تفسير ابن كثير» ٤ / ١٨٢ ، و«تفسير الشوكاني» ٥ / ١٦.

(٢) الأحقاف : ١٠.

(٣) الأحقاف : ٣٥.

(٤) المؤمن : ١ ـ ٢.

(٥) فاطر : ٤٠.

(٦) قال ابن العربي في «أحكام القرآن» ٤ / ١٢٤ : وهي أشرف آية في القرآن ، فإنها استوفت أدلة الشرع عقليها وسمعيّها ، لقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) فهذه بيان لأدلة العقل المتعلقة بالتوحيد ، وحدوث العالم ، وانفراد الباري سبحانه بالقدرة والعلم والوجود والخلق ، ثم قال : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) على ما تقولون وهذه بيان لأدلة السمع فإن مدرك الحقّ إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول.

(٧) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٢٧٣ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأثارة : البقية


الأوّلين ، قاله ابن قتيبة ، وإلى نحوه ذهب الفرّاء ، وأبو عبيدة. والثالث : علامة من علم ، قاله الزّجّاج. وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأيّوب السّختياني ، ويعقوب : «أثرة» بفتح الثاء ، مثل شجرة. ثم ذكروا في معناها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الخطّ ، قاله ابن عباس ؛ وقال : هو خطّ كانت العرب تخطّه في الأرض ، قال أبو بكر بن عياش : الخطّ هو العيافة. والثاني : أو علم تأثرونه عن غيركم ، قاله مجاهد. والثالث : خاصّة من علم ، قاله قتادة. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، والحسن ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن يعمر : «أثرة» بسكون الثاء من غير ألف بوزن نظرة. وقال الفرّاء : قرئت «أثارة» و«أثرة» ، وهي لغات ، ومعنى الكلّ : بقيّة من علم ، ويقال : أو شيء مأثور من كتب الأوّلين ، فمن قرأ «أثارة» فهو المصدر ، مثل قولك : السّماحة والشّجاعة ، ومن قرأ «أثرة» فإنه بناه على الأثر ، كما قيل : قترة ، ومن قرأ «أثرة» فكأنه أراد قوله : «الخطفة» (١) و«الرّجفة» (٢). وقال اليزيدي : الأثارة : البقيّة ؛ والأثرة ، مصدر أثره يأثره ، أي : يذكره ويرويه ، ومنه : حديث مأثور.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨))

قوله تعالى : (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) يعني الأصنام (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) لأنها جماد لا تسمع ، فإذا قامت القيامة صارت الآلهة أعداء لعابديها في الدنيا. ثم ذكر بما بعد هذا أنّهم يسمّون القرآن سحرا وأنّ محمّدا افتراه. قوله تعالى : (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لا تقدرون على أن تردّوا عني عذابه ، أي : فكيف أفتري من أجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عذابه عنّي؟! (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التّكذيب والقول بأنه سحر (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أنّ القرآن جاء من عند الله (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) في تأخير العذاب عنكم. وقال الزّجّاج : إنما ذكر هاهنا الغفران والرّحمة ليعلمهم أنّ من أتى ما أتيتم ثم تاب فإنّ الله تعالى غفور له رحيم به.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))

قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي : ما أنا بأوّل رسول. والبدع والبديع من كلّ شيء : المبتدأ (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «ما يفعل» بفتح الياء ثم فيه

__________________

من علم ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأه «أو أثرة» بسكون الثاء ، وإذا وجه ذلك إلى ما قلنا فيه من أنه بقية من علم ، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط ، ومن علم استثير من كتب الأولين ومن خاصة علم أوثروا به.

(١) الصافات : ١٠.

(٢) الأعراف : ٧٨.


قولان : أحدهما : أنه أراد بذلك ما يكون في الدنيا. ثم فيه قولان (١) :

(١٢٦٢) أحدهما : أنه لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأى في المنام أنه هاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصّها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك لما يلقون من أذى المشركين. ثم أنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله متى تهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) يعني لا أدري ، أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا؟ ثم قال : إنّما هو شيء رأيته في منامي ، وما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال عطيّة : ما أدري هل يتركني بمكّة أو يخرجني منها.

والثاني : ما أدري هل أخرج كما أخرج الأنبياء قبلي ، أو أقتل كما قتلوا ، ولا أدري ما يفعل بكم ، أتعذّبون أم تؤخّرون؟ أتصدقون أم تكذّبون؟ قاله الحسن.

والقول الثاني : أنه أراد ما يكون في الآخرة.

(١٢٦٣) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية ، نزل بعدها (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢) وقال : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ...) الآية (٣) ، فأعلم ما يفعل به وبالمؤمنين. وقيل : إنّ المشركين فرحوا عند نزول هذه الآية وقالوا : ما أمرنا وأمر محمّد إلّا واحد ، ولو لا أنه ابتدع ما يقوله لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ، فنزل قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ...) الآية ، فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ...) الآية ؛ وممّن ذهب إلى هذا القول أنس وعكرمة وقتادة. وروي عن الحسن ذلك.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني القرآن (وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وفيه قولان (٤) : أحدهما : أنه عبد الله بن سلام ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال

____________________________________

(١٢٦٢) واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٤٤ معلقا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا ساقط ، الكلبي متروك كذاب ، والخبر واه بمرة ليس بشيء.

(١٢٦٣) أخرجه الطبري ٣١٢٣٩ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مختصرا ، وفيه إرسال بينهما.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ١١ / ٢٧٧ : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دل عليه التنزيل ، القول الذي قاله الحسن البصري. ومحال أن يقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ، وآيات كتاب الله عزوجل في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون ، والمؤمنون في الجنان منعمون ، وبذلك يرهبهم مرة ، ويرغبهم أخرى ، ولو قال لهم ذلك ، لقالوا له : فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أي حال تصير غدا في القيامة. وقال ابن كثير في «تفسره» ٤ / ١٨٤ : وهذا القول الذي عوّل عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره ، ولا شك في أن هذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه عليه فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره ، وأمر مشركي قريش إلى ماذا؟ أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم؟

(٢) الفتح : ٢.

(٣) الفتح : ٥.

(٤) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٢٨١ : والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق : هو موسى والتوراة ، لا ابن سلام ، لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية ، في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل ، لأن الآية في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش ، واحتجاجا عليهم لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه الآية نظير سائر الآيات قبلها


الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن زيد. والثاني : أنه موسى بن عمران عليه‌السلام ، قاله الشّعبي ، ومسروق. فعلى القول الأول يكون ذكر المثل صلة ، فيكون المعنى : وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه ، أي : على أنه من عند الله ، (فَآمَنَ) الشاهد ، وهو ابن سلام (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) يا معشر اليهود. وعلى الثاني يكون المعنى : وشهد موسى على التّوراة التي هي مثل القرآن أنها من عند الله ، كما شهد محمّد على القرآن أنه كلام الله ، «فآمن» من آمن بموسى والتّوراة «واستكبرتم» أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمّد والقرآن.

فإن قيل : أين جواب «إن» قيل : هو مضمر ؛ وفي تقديره ستة أقوال : أحدها : أنّ جوابه : فمن أضلّ منكم ، قاله الحسن. والثاني : أنّ تقدير الكلام : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن ، أتؤمنون؟ قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ تقديره : أتأمنون عقوبة الله؟ قاله أبو عليّ الفارسي. والرابع : أنّ تقديره : أفما تهلكون؟ ذكره الماوردي. والخامس : من المحقّ منّا ومنكم ومن المبطل؟ ذكره الثّعلبي. والسادس : أنّ تقديره : أليس قد ظلمتم؟ ويدلّ على هذا المحذوف قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، ذكره الواحدي.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، في سبب نزولها خمسة أقوال (١) : أحدها :

__________________

ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر ، فتوجه الآية إلى أنها فيهم نزلت ، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ذلك عني به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل ، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن والسبب الذي فيه نزل ، وما أريد به.

ـ وقال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٦ / ١٦٢ : ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية ، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ضعوها في سورة كذا ، والآية في محاجة المشركين ، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء ، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم هي من أوضح الحجج ، ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود.

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٨٥ : وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي : قالوا عن المؤمنين بالقرآن : لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه ، يعنون المستضعفين والعبيد والإماء ، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في


أنّ الكفّار قالوا : لو كان دين محمّد خيرا ما سبقنا إليه اليهود ، فنزلت هذه الآية ، قاله مسروق (١). والثاني : أنّ امرأة ضعيفة البصر أسلمت ، وكان الأشراف من قريش يهزئون بها ويقولون : والله لو كان ما جاء به محمّد خيرا ما سبقتنا هذه إليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو الزّناد (٢). والثالث : أنّ أبا ذرّ الغفاري أسلم واستجاب به قومه إلى الإسلام ، فقالت قريش : لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو المتوكّل (٣). والرابع : أنه لمّا اهتدت مزينة وجهينة وأسلمت ، قالت أسد وغطفان : لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء الشّاء ، يعنون مزينة وجهينة ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السّائب (٤). والخامس : أنّ اليهود قالوا : لو كان دين محمّد خيرا ما سبقتمونا إليه ، لأنه لا علم لكم بذلك ، ولو كان حقّا لدخلنا فيه ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي وقال : هو قول من يقول : إنّ الآية نزلت بالمدينة ؛ ومن قال : هي مكّيّة ، قال : هو قول المشركين. فقد خرج في «الذين كفروا» قولان : أحدهما : أنهم المشركون. والثاني : اليهود.

وقوله : (لَوْ كانَ خَيْراً) أي : لو كان دين محمّد خيرا (ما سَبَقُونا إِلَيْهِ). فمن قال : هم المشركون ، قال : أرادوا : إنّا أعزّ وأفضل ؛ ومن قال : هم اليهود ، قال : أرادوا : لأنّا أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي : بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي : كذب متقدّم ، يعنون أساطير الأوّلين. (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي : من قبل القرآن التّوراة. وفي الكلام محذوف ، تقديره : فلم يهتدوا ، لأن المشركين لم يهتدوا بالتّوراة. (إِماماً) قال الزّجّاج : هو منصوب على الحال (وَرَحْمَةً) عطف عليه (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) المعنى : مصدّق للتّوراة (لِساناً عَرَبِيًّا) منصوب على الحال ؛ المعنى : مصدّق لما بين يديه عربيّا ؛ وذكر «لسانا» توكيدا ، كما تقول : جاءني زيد رجلا صالحا ، تريد : جاءني زيد صالحا.

قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) قرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ : «لينذر» بالياء. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب : «لتنذر» بالتاء. وعن ابن كثير كالقراءتين. «والذين ظلموا» المشركون (وَبُشْرى) أي وهو بشرى (لِلْمُحْسِنِينَ) وهم الموحّدون يبشّرهم بالجنّة.

وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره (٥) إلى قوله : (بِوالِدَيْهِ حُسْناً) وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ :

__________________

ذلك غلطا فاحشا ، وأخطئوا خطأ بينا ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي : يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة : هو بدعة ، لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه ، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.

(١) عزاه المصنف لمسروق : ولم أقف على إسناده ، وهو مرسل.

ـ وأخرج الطبري ٣١٢٦١ عن قتادة نحوه وليس فيه ذكر اليهود وإنما بنو فلان.

(٢) قال السيوطي في «الدر» ٦ / ٨ : أخرج ابن المنذر عن عون بن شداد قال كان لعمر أمة أسلمت قبله ، يقال لها زيزة ... فذكره بنحوه وعزاه المصنف لأبي الزناد ، ولم أقف عليه.

(٣) عزاه المصنف لأبي المتوكل ، واسمه علي بن دؤاد ، وهو في عداد التابعين ، فالخبر مرسل ، ولم أقف على إسناده.

(٤) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ، وهو متروك متهم بالكذب.

(٥) فصلت : ٣٠.


(إِحْساناً) بألف. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «كرها» بفتح الكاف ، وقرأ الباقون بضمّها. قال الفرّاء : والنّحويّون يستحبّون الضّمّ هاهنا ، ويكرهون الفتح ، للعلّة التي بيّنّاها عند قوله : (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (١) ، قال الزّجّاج : والمعنى : حملته على مشقّة (وَوَضَعَتْهُ) على مشقّة. (وَفِصالُهُ) أي : فطامه. وقرأ يعقوب : «وفصله» بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف (ثَلاثُونَ شَهْراً). قال ابن عباس : «ووضعته كرها» يريد به شدّة الطّلق. واعلم أنّ هذه المدّة قدّرت لأقلّ الحمل وأكثر الرّضاع ؛ فأمّا الأشدّ ، ففيه أقوال قد تقدّمت ؛ واختار الزّجّاج أنه بلوغ ثلاث وثلاثين سنة ، لأنه وقت كمال الإنسان في بدنه وقوّته واستحكام شأنه وتمييزه. وقال ابن قتيبة : أشدّ الرجل غير أشدّ اليتيم ، لأنّ أشدّ الرّجل : الاكتهال والحنكة وأن يشتدّ رأيه وعقله ، وذلك ثلاثون سنة ، ويقال : ثمان وثلاثون سنة ، وأشدّ الغلام : أن يشتدّ خلقه ويتناهى نباته. وقد ذكرنا بيان الأشدّ في الأنعام (٢) وفي يوسف (٣) وهذا تحقيقه. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال :

(١٢٦٤) أحدها : أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه ، وذلك أنه صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشّام في تجارة ، فنزلوا منزلا فيه سدرة ، فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظلّها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدّين ، فقال له : من الرّجل الذي في ظلّ السّدرة؟ فقال : ذاك محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ، فقال : هذا والله نبيّ ، وما استظلّ تحتها أحد بعد عيسى إلّا محمّد نبيّ الله ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، فكان لا يفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفاره وحضره ، فلمّا نبّئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة ـ صدّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا بلغ أربعين سنة قال : ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون : قالوا : فلمّا بلغ أبو بكر أربعين سنة ، دعا الله عزوجل بما ذكره في هذه الآية ، فأجابه الله ، فأسلم والداه وأولاده ذكورهم وإناثهم ، ولم يجتمع ذلك لغيره من الصحابة.

والقول الثاني : أنها نزلت في سعد بن أبي وقّاص ، وقد شرحنا قصته في العنكبوت (٤) ، وهذا مذهب الضّحّاك ، والسّدّيّ. والثالث : أنها نزلت على العموم ، قاله الحسن.

وقد شرحنا في سورة النّمل (٥) معنى قوله : (أَوْزِعْنِي).

قوله تعالى : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) قال ابن عباس : أجابه الله ـ يعني أبا بكر ـ فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذّبون في الله عزوجل ، ولم يرد شيئا من الخير إلّا أعانه الله عليه ، واستجاب له في ذرّيته فآمنوا ، (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) أي : رجعت إلى كلّ ما تحبّ.

__________________

(١٢٦٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٤٥ عن ابن عباس من رواية عطاء بدون إسناد ، ولم أقف عليه ، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد ، وعزاه السيوطي في «الدر» ٦ / ١٠ لابن مردويه لكن ساقه مختصرا ، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه.

__________________

(١) البقرة : ٢١٦.

(٢) الأنعام : ١٥٣.

(٣) يوسف : ٢٢.

(٤) العنكبوت : ٨.

(٥) النمل : ١٩.


قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «يتقبّل» «ويتجاوز» بالياء المضمومة فيهما. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، وخلف : «نتقبّل» و«نتجاوز» بالنون فيهما ، وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو رجاء ، وأبو عمران الجوني : «يتقبّل» «ويتجاوز» بياء مفتوحة فيهما ، يعني أهل هذا القول ، والأحسن بمعنى الحسن. (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي : في جملة من يتجاوز عنهم ، وهم أصحاب الجنّة. وقيل : «في» بمعنى «مع». (وَعْدَ الصِّدْقِ) قال الزّجّاج : هو منصوب ، لأنه مصدر مؤكّد لما قبله ، لأنّ قوله : «أولئك الذين نتقبّل عنهم» بمعنى الوعد ، لأنه وعدهم القبول بقوله : «وعد الصّدق» ، يؤكّد ذلك قوله : (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي : على ألسنة الرّسل في الدنيا.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) (١) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ. وأبو بكر عن عاصم : «أفّ لكما» بالخفض من غير تنوين. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : بفتح الفاء. وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم : «أفّ» بالخفض والتنوين. وقرأ ابن يعمر : «أفّ» بتشديد الفاء مرفوعة منوّنة. وقرأ حميد ، والجحدريّ : «أفّا» بتشديد الفاء وبالنّصب والتنوين. وقرأ عمرو بن دينار : «أفّ» بتشديد الفاء وبالرفع من غير تنوين. وقرأ أبو المتوكّل ، وعكرمة ، وأبو رجاء : «أفّ لكما» بإسكان الفاء خفيفة. وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران : «أفّي» بتشديد الفاء وياء ساكنة ممالة.

(١٢٦٥) وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام ، وهو يأبى ، وعلى هذا جمهور المفسّرين.

(١٢٦٦) وقد روي عن عائشة أنها كانت تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرّحمن ، وتخلف

____________________________________

(١٢٦٥) أخرجه الطبري ٣١٢٧٥ عن ابن عباس برواية عطية العوفي ، قال : هذا ابن لأبي بكر. ولا يصح هذا ، فإن رواية عطية العوفي ضعيف ، وعنه من لا يعرف.

(١٢٦٦) أخرجه النسائي في «التفسير» ٥١١ والحاكم ٤ / ٤٨١ والخطابي في «غريب الحديث» ٢ / ٥١٧ عن محمد بن زياد عن عائشة ، وهذا منقطع ، وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، وتعقبه الذهبي بقوله : محمد لم يسمع من عائشة. وللقصة طريق أخرى عند البزار ١٦٢٤ «كشف» وفيه عبد الله البهي ، وثقه قوم ، وضعفه أبو حاتم الرازي ، وقال الهيثمي في «المجمع» ٥ / ٢٤١ إسناد البزار حسن. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» ٨ / ٨٩ :

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «جامع البيان» ١١ / ٢٨٧ : وهذا نعت من الله تعالى ذكره ، نعت ضال به كافر ، وبوالديه عاق ، وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله ، فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ ونصيحتهما له إلا عتوا وتمردا على الله ، وتماديا في جهله.


على ذلك وتقول : لو شئت لسمّيت الذي نزلت فيه.

قال الزّجّاج : وقول من قال : إنها نزلت في عبد الرّحمن ، باطل بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) فأعلم الله أنّ هؤلاء لا يؤمنون ، وعبد الرحمن مؤمن ، والتفسير الصّحيح أنها نزلت في الكافر العاقّ. وروي عن مجاهد أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر ، وعن الحسن أنها نزلت في جماعة من كفّار قريش قالوا ذلك لآبائهم.

قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فيه قولان : أحدهما : مضت القرون فلم يرجع منهم أحد ، قاله مقاتل. والثاني : مضت القرون مكذّبة بهذا ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.

قوله تعالى : (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي : يدعوان الله له بالهدى ويقولان له : (وَيْلَكَ آمِنْ) أي : صدّق بالبعث ، (فَيَقُولُ ما هذا) الذي تقولان (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقد سبق شرحها.

قوله تعالى : (أُولئِكَ) يعني الكفّار (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : وجب عليهم قضاء الله أنهم من أهل النّار (فِي أُمَمٍ) أي : مع أمم. فذكر الله تعالى في الآيتين قبل هذه من برّ والديه وعمل بوصيّة الله عزوجل ، ثم ذكر من لم يعمل بالوصيّة ولم يطع ربّه ولا والديه ، (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) وقرأ ابن السّميفع ، وأبو عمران : «أنّهم» بفتح الهمزة. ثم قال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي : منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر ، فيتفاضل أهل الجنّة في الكرامة ، وأهل النّار في العذاب (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو : «وليوفّيهمّ» بالياء ، وقرأ الباقون : بالنون ؛ أي : جزاء أعمالهم.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ) المعنى : واذكر لهم يوم يعرض (الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ) أي : ويقال لهم : أذهبتم ، قرأ ابن كثير : «آذهبتم» بهمزة مطوّلة. وقرأ ابن عامر : «أأذهبتم» بهمزتين. وقرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «أذهبتم» على الخبر ، وهو توبيخ لهم. قال الفرّاء والزّجّاج : العرب توبّخ بالألف وبغير الألف ، فتقول : أذهبت وفعلت كذا؟! وذهبت ففعلت؟! قال المفسّرون : والمراد بطيّباتهم : ما كانوا فيه من اللّذّات مشتغلين بها عن الآخرة معرضين عن شكرها. ولمّا وبّخهم الله بذلك ، آثر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والصّالحون بعدهم اجتناب نعيم العيش ولذّته ليتكامل أجرهم ولئلّا يلهيهم عن معادهم.

(١٢٦٧) وقد روي عن عمر بن الخطّاب أنه دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مضطجع على خصفة وبعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوّة ليفا ، فقال : يا رسول الله ، أنت نبيّ الله وصفوته ، وكسرى وقيصر على سرر الذّهب وفرش الدّيباج والحرير؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عمر ، إنّ أولئك قوم عجّلت

____________________________________

لا يصح هذا عن عائشة. قلت : الذي صح في ذلك هو ما أخرجه البخاري ٤٨٢٧ عن يوسف بن ماهيك. قال : كان مروان على الحجاز استعمله معاوية ، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه ، فدخل بيت عائشة ، فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي) فقالت عائشة من وراء الحجاب : «ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذري».

(١٢٦٧) صحيح. أخرجه البخاري ٢٤٦٨ ومسلم ١٤٧٩ والترمذي ٣٣١٨ وابن حبان ٤٢٦٨ من حديث ابن عباس في خبر مطوّل. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٤٩٧.


لهم طيّباتهم ، وهي وشيكة الانقطاع ، وإنّا أخّرت لنا طيّباتنا».

وروى جابر بن عبد الله قال : رأى عمر بن الخطّاب لحما معلّقا في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر؟ فقلت : اشتهيت لحما فاشتريته ، فقال : أو كلّما اشتهيت اشتريت يا جابر؟! أما تخاف هذه الآية : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا). وروي عن عمر أنه قيل له : لو أمرت أن نصنع لك طعاما ألين من هذا ، فقال : إني سمعت الله عيّر أقواما فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).

قوله تعالى : (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : تتكبّرون عن عبادة الله والإيمان به.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) يعني هودا (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) قال الخليل : الأحقاف : الرّمال العظام ، وقال ابن قتيبة : واحد الأحقاف : حقف ، وهو من الرّمل : ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى. وقال ابن جرير : هو ما استطال من الرّمل ولم يبلغ أن يكون جبلا. واختلفوا في المكان الذي سمّي بهذا الاسم على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه جبل بالشّام ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : أنه واد ، ذكره عطيّة. وقال مجاهد : هي أرض. وحكى ابن جرير أنه واد بين عمان ومهرة. وقال ابن إسحاق : كانوا ينزلون ما بين عمان وحضر موت ، واليمن كلّه. والثالث : أنّ الأحقاف : رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها : الشّحر ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) أي : قد مضت الرّسل من قبل هود ومن بعده بإنذار أممها (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) والمعنى : لم يبعث رسول قبل هود ولا بعده إلّا بالأمر بعبادة الله وحده. وهذا كلام اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه ، ثم عاد إلى كلام هود فقال (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ).

قوله تعالى : (لِتَأْفِكَنا) أي : لتصرفنا عن عبادة آلهتنا بالإفك.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي : هو يعلم متى يأتيكم العذاب. (فَلَمَّا رَأَوْهُ) يعني ما يوعدون في قوله : «بما تعدنا» (عارِضاً) أي : سحاب يعرض من ناحية السماء. قال ابن قتيبة : العارض : السّحاب. قال المفسّرون : كان المطر قد حبس عن عاد ، فساق الله إليهم سحابة سوداء ، فلمّا رأوها فرحوا و (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) فقال لهم هود : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) ، ثم بيّن ما هو فقال : (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) ، فنشأت الرّيح من تلك السّحابة ، (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) أي : تهلك كلّ شيء مرّت به من الناس والدّوابّ والأموال. قال عمرو بن ميمون : لقد كانت الرّيح تحتمل الظّعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة ، (فَأَصْبَحُوا) يعني عادا (لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) قرأ عاصم ، وحمزة : «لا يرى» برفع الياء «إلّا مساكنهم» برفع النون. وقرأ عليّ ، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ ، والحسن ، وقتادة ، والجحدري : «لا


ترى» بتاء مضمومة. وقرأ أبو عمران ، وابن السّميفع : «لا ترى» بتاء مفتوحة «إلّا مسكنهم» على التوحيد. وهذا لأنّ السّكّان هلكوا ، فقيل : أصبحوا وقد غطّتهم الرّيح بالرّمل فلا يرون.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

ثم خوّف كفّار مكّة ، فقال عزوجل : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) في «إن» قولان : أحدهما : أنها بمعنى «لم» فتقديره : فيما لم نمكّنكم فيه ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة. وقال الفرّاء : هي بمنزلة «ما» في الجحد ، فتقدير الكلام : في الذي لم نمكّنكم فيه. والثاني : أنها زائدة ؛ والمعنى : فيما مكّنّاكم فيه ، وحكاه ابن قتيبة أيضا.

ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم ، فلم يتدبّروا بها ، ولم يتفكّروا فيما يدلّهم على التوحيد ، قال المفسّرون : والمراد بالأفئدة : القلوب ؛ وهذه الآلات لم تردّ عنهم عذاب الله.

ثم زاد كفّار مكّة في التّخويف ، فقال : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأمم المهلكة (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي : بيّنّاها (لَعَلَّهُمْ) يعني أهل القرى (يَرْجِعُونَ) عن كفرهم. وهاهنا محذوف ، تقديره : فما رجعوا عن كفرهم. (فَلَوْ لا) أي : فهلّا (نَصَرَهُمُ) أي : منعهم من عذاب الله (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) يعني الأصنام التي تقرّبوا بعبادتها إلى الله على زعمهم ؛ وهذا استفهام إنكار ، معناه : لم ينصروهم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي : لم ينفعوهم عند نزول العذاب (وَذلِكَ) يعني دعاءهم الآلهة (إِفْكُهُمْ) أي : كذبهم ، وقرأ سعد بن أبي وقّاص وابن يعمر وأبو عمران : «وذلك أفّكهم» بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف. وقرأ أبيّ بن كعب وابن عباس وأبو رزين والشّعبي وأبو العالية والجحدري : «أفكهم» بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء وتخفيفها. قال ابن جرير : أي : أضلّهم. وقال الزّجّاج : معناها : صرفهم عن الحقّ فجعلهم ضلّالا. وقرأ ابن مسعود وأبو المتوكّل : «آفكهم» بفتح الهمزة ومدّها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف ، أي : مضلّهم.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) وبّخ الله عزوجل بهذه الآية كفّار قريش بما آمنت به


الجنّ. وفي سبب صرفهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشّهب. روى البخاريّ ومسلم في الصّحيحين من حديث ابن عباس قال :

(١٢٦٨) انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشّهب ، فرجعت الشياطين ، فقالوا : ما لكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشّهب ، قالوا : ما ذاك إلّا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر ، فمرّ النّفر الذين توجّهوا نحو تهامة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ب «نخلة» وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر ، فلمّا سمعوا القرآن تسمّعوا له ، فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) (١) ، فأنزل الله على نبيّه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) (٢).

(١٢٦٩) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجنّ ، ولا رآهم ، وإنّما أتوه وهو ب «نخلة» فسمعوا القرآن.

والثاني : أنهم صرفوا إليه لينذرهم وأمر أن يقرأ عليهم القرآن هذا مذهب جماعة ، منهم قتادة.

(١٢٧٠) وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال : قلت لعبد الله : من كان منكم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ؟ فقال : ما كان منّا معه أحد ، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة ، فقلنا : اغتيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو استطير ، فانطلقنا نطلبه في الشّعاب ، فلقيناه مقبلا من نحو حراء ، فقلنا : يا رسول الله ، أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك ، وقلنا له : بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك ، فقال : «إنه أتاني داعي الجنّ ، فذهبت أقرئهم القرآن» ، فذهب بنا ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

(١٢٧١) وقال قتادة : ذكر لنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ ، فأيّكم يتبعني؟» فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فأتبعه عبد الله بن مسعود ، فدخل

____________________________________

(١٢٦٨) صحيح. أخرجه البخاري ٧٧٣ عن مسدد ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

وأخرجه البخاري ٣٣٢٠ ومسلم ٤٤٩ والترمذي ٣٣٢٠ وأحمد ١ / ٢٥٢ و ٢٧٠ وأبو يعلى ٢٣٦٩ من طرق عن أبي عوانة به. وأخرجه أحمد ١ / ٢٧٤ وأبو يعلى ٢٥٠٢ من طريق أبي إسحاق عن سعيد به.

(١٢٦٩) هو صدر الحديث المتقدم.

(١٢٧٠) صحيح. أخرجه مسلم ٤٥٠ عن محمد بن المثنى ثنا عبد الأعلى ثنا داود قال سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود.

وأخرجه أبو داود ٨٥ مختصرا والترمذي ١٨ و ٤٢٥٨ وابن أبي شيبة ١ / ١٥٥ وابن خزيمة ٨٢ وأبو عوانة ١ / ٢١٩ وابن حبان ١٤٣٢ والبيهقي ١ / ١٠٨ ـ ١٠٩ وفي «دلائل النبوة» ٢ / ٢٢٩ والبغوي في «شرح السنة» ١٧٨ مختصرا من طرق عن داود بن أبي هند به.

(١٢٧١) هذا الخبر هو عند الطبري منجما ٣١٣١٥ من طريق سعيد عن قتادة مرسلا. و ٣١٣١٦ من طريق معمر عن قتادة و ٣١٣١٧ من طريق عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود و ٣١٣١٨ من طريق عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي عن ابن مسعود. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها من جهة الإسناد ، لكن هي معارضة بالحديث الصحيح المتقدم.

__________________

(١) الجن : ١ ـ ٢.

(٢) الجن : ١.


نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعبا يقال له : «شعب الحجون» ، وخطّ على عبد الله خطّا ليثبته به ، قال : فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا رجع قلت : يا نبيّ الله ، ما اللّغط الذي سمعت؟ قال : «اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم ، فقضيت بينهم بالحقّ».

والثالث : أنهم مرّوا به وهو يقرأ ، فسمعوا القرآن.

(١٢٧٢) فذكر بعض المفسّرين أنه لمّا يئس من أهل مكّة أن يجيبوه ، خرج إلى الطّائف ليدعوهم إلى الإسلام ـ وقيل : ليلتمس نصرهم ـ وذلك بعد موت أبي طالب ، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر ، فمرّ به نفر من أشراف جنّ نصيبين ، فاستمعوا القرآن.

فعلى هذا القول والقول الأول ، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى ؛ وعلى القول الثاني : علم بهم حين جاءوا. وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولان : أحدهما : الحجون ، وقد ذكرناه عن ابن مسعود ، وبه قال قتادة. والثاني : بطن نخلة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. وأمّا النّفر ، فقال ابن قتيبة : يقال : إنّ النّفر ما بين الثلاثة إلى العشرة. وللمفسّرين في عدد هؤلاء النّفر ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم كانوا سبعة ، قاله ابن مسعود وزرّ بن حبيش ومجاهد ، ورواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : تسعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : اثني عشر ألفا ، روي عن عكرمة ، ولا يصحّ ، لأنّ النّفر لا يطلق على الكثير.

قوله تعالى : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي : حضروا استماعه ، و (قُضِيَ) يعني : فرغ من تلاوته (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي : محذّرين عذاب الله عزوجل إن لم يؤمنوا. وهل أنذروا قومهم من قبل أنفسهم ، أم جعلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا إلى قومهم؟ فيه قولان.

قال عطاء : كان دين أولئك الجنّ اليهودية ، فلذلك قالوا : (مِنْ بَعْدِ مُوسى).

قوله تعالى : (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا يدلّ على أنّه أرسل إلى الجنّ والإنس. قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) «من» هاهنا صلة.

قوله تعالى : (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي لا يعجز الله تعالى (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى (أُولئِكَ) الذين لا يجيبون الرّسل (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

ثم احتجّ على إحياء الموتى بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا ...) إلى آخر الآية. والرّؤية هاهنا بمعنى العلم. (وَلَمْ يَعْيَ) أي : لم يعجز عن ذلك ؛ يقال : عيّ فلان بأمره ، إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه. قال الزّجّاج : يقال : عييت بالأمر ، إذا لم تعرف وجهه ، وأعييت ، إذا تعبت.

____________________________________

(١٢٧٢) ضعيف. رواه ابن هشام في «السيرة» ٢ / ٢١ ـ ٢٣ من طريق ابن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ... فذكره. وهذا مرسل ، فهو ضعيف ، ويزيد غير قوي.


قوله تعالى : (بِقادِرٍ) قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة مؤكّدة. وقال الفرّاء : العرب تدخل الباء مع الجحد ، مثل قولك : ما أظنّك بقائم ، وهذا قول الكسائيّ ، والزّجّاج : وقرأ يعقوب : «يقدر» بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي : ذوو الحزم والصّبر ؛ وفيهم عشرة أقوال (١) :

أحدها : أنهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وابن السّائب. والثاني : نوح ، وهود ، وإبراهيم ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله أبو العالية الرّياحي. والثالث : أنهم الذين لم تصبهم فتنة من الأنبياء ، قاله الحسن. والرابع : أنهم العرب من الأنبياء ، قاله مجاهد ، والشّعبي. والخامس : أنهم إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ. والسادس : أنّ منهم إسماعيل ، ويعقوب ؛ وأيّوب ، وليس منهم آدم ، ولا يونس ، ولا سليمان ، قاله ابن جريج. والسابع : أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال ، قاله ابن السّائب ، وحكي عن السّدّيّ. والثامن : أنّهم جميع الرّسل ، فإنّ الله لم يبعث رسولا إلّا كان من أولي العزم ، قاله ابن زيد ، واختاره ابن الأنباري ، وقال : «من» دخلت للتّجنيس لا للتّبعيض ، كما تقول : قد رأيت الثياب من الخزّ والجباب من القزّ. والتاسع : أنهم الأنبياء الثّمانية عشر المذكورون في سورة (الأنعام) ، قاله الحسين بن الفضل. العاشر : أنهم جميع الأنبياء إلّا يونس ، حكاه الثّعلبي.

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) يعني العذاب ، قال بعض المفسّرين : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضجر بعض الضّجر ، وأحبّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه ، فأمر بالصّبر.

قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) أي : من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) لأنّ ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلا. وقيل : لأنّ مقدار مكثهم في الدّنيا قليل في جنب مكثهم في عذاب الآخرة. وهاهنا تمّ الكلام. ثم قال : (بَلاغٌ) أي : هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ عن الله إليكم. وفي معنى وصف القرآن بالبلاغ قولان : أحدهما : أنّ البلاغ بمعنى التبليغ. والثاني : أنّ معناه : الكفاية ، فيكون المعنى : ما أخبرناهم به لهم فيه كفاية وغنى.

وذكر ابن جرير وجها آخر ، وهو أنّ المعنى : لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار ، ذلك لبث بلاغ ، أي : ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم ، ثمّ حذفت «ذلك لبث» اكتفاء بدلالة ما ذكر في الكلام عليها. وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران : «بلّغ» بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف.

قوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ) وقرأ أبو رزين وأبو المتوكّل وابن محيصن : «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام ، أي عند رؤية العذاب (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن أمر الله عزوجل؟!.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٣٠٢ : يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثبته على المضي لما قلّده من عبء الرسالة ، وثقل أحمال النبوة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لقوا من قومهم من المكاره ، ونالهم فيه من الأذى والشدائد (فاصبر) يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار (كما صبر أولو العزم) على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره ما نالهم فيه من شدة. وقيل : إن أولي العزم منهم ، كانوا الذين امتحنوا في ذات الله في الدنيا بالمحن ، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله ، كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم.


سورة محمّد

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، قاله الأكثرون ، منهم مجاهد ، ومقاتل ، وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنيّة ، إلّا آية منها نزلت عليه بعد حجّه حين خرج من مكّة وجعل ينظر إلى البيت ، وهي قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) (١). والثاني : أنّها مكّيّة ، قاله الضّحّاك ، والسّدّيّ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))

قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : بتوحيد الله (وَصَدُّوا) الناس عن الإيمان به ، وهم مشركو قريش ، (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي : أبطلها ، ولم يجعل لها ثوابا ، فكأنّها لم تكن ، وقد كانوا يطعمون الطّعام ، ويصلون الأرحام ، ويتصدّقون ، ويفعلون ما يعتقدونه قربة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعني أصحاب محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) وقرأ ابن مسعود : «نزّل» بفتح النون والزّاي وتشديدها. وقرأ أبيّ بن كعب ومعاذ القارئ : «أنزل» بهمزة مضمومة مكسورة الزّاي. وقرأ أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران : «نزل» بفتح النون والزّاي وتخفيفها ، (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي غفرها لهم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم ، قاله قتادة ، والمبرّد.

قوله تعالى : (ذلِكَ) قال الزّجّاج : معناه : الأمر ذلك ، وجائز أن يكون : ذلك الإضلال ، لاتّباعهم الباطل ، وتلك الهداية والكفّارات باتّباع المؤمنين الحقّ ، (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي : كذلك يبيّن أمثال حسنات المؤمنين وسيّئات الكافرين كهذا البيان. قوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) إغراء ،

__________________

(١) محمد : ١٣.


والمعنى : فاقتلوهم (١) ، لأنّ الأغلب في موضع القتل ضرب العنق (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي : أكثرتم فيهم القتل (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) يعني في الأسر ؛ وإنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و«الوثاق» اسم من الإيثاق ؛ تقول : أوثقته إيثاقا ووثاقا ، إذا شددت أسره لئلّا يفلت (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) قال أبو عبيدة : إمّا أن تمنّوا ، وإمّا أن تفادوا ، ومثله : سقيا ، ورعيا ، وإنما هو سقيت ورعيت. وقال الزّجّاج : إمّا مننتم عليهم بعد أن تأسروهم منّا ، وإمّا أطلقتموهم بفداء.

فصل : وهذه الآية محكمة عند عامّة العلماء. وممّن ذهب إلى أنّ حكم المنّ والفداء باق لم ينسخ ابن عمر ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، وأحمد ، والشّافعيّ. وذهب قوم إلى نسخ المنّ والفداء بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢) ، وممّن ذهب إلى هذا ابن جريح ، والسّدّيّ ، وأبو حنيفة وقد أشرنا إلى القولين في براءة.

قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) قال ابن عباس : حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد : حتى لا يكون دين إلّا دين الإسلام. وقال سعيد بن جبير : حتى يخرج المسيح. وقال الفرّاء : حتى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم. وفي معنى الكلام قولان :

أحدهما : حتى يضع أهل الحرب سلاحهم ؛ قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها :

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

وأصل «الوزر» ما حملته ، فسمّي السلاح «أوزارا» لأنه يحمل ، هذا قول ابن قتيبة.

والثاني : حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ولا يعبدوا إلّا الله ، ذكره الواحدي.

قوله تعالى : (ذلِكَ) أي : الأمر ذلك الذي ذكرنا (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء (وَلكِنْ) أمركم بالحرب (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) فيثيب المؤمن ويكرمه بالشهادة ، ويخزي الكافر بالقتل والعذاب. قوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) قرأ أبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «قتلوا» بضمّ القاف وكسر التاء ؛ والباقون : «قاتلوا» بألف. قوله تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها :

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٣١ : اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها ، أمر الله سبحانه فيها بالقتال ، وبين كيفيته كما في قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه ، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول قتال غيره فعل ذلك به ، فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه ، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى ، وذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا ، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق ، فيتخير حينئذ المسلمون بين المن والفداء وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : إنما لهم القتل والاسترقاق ، وهذه الآية عنده منسوخة. والصحيح إحكامها ، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة ، وتحصيل المتقدم من المتأخر. وقد عضدت السنة ذلك كله ، فروى مسلم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين ، وقد هبط على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة قوم ، فأخذهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنّ عليهم. وقال الحسن وعطاء : المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها ، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، وليس للإمام أن يقتل الأسير.

(٢) التوبة : ٥.


يهديهم إلى أرشد الأمور ، قاله ابن عباس. والثاني : يحقّق لهم الهداية ، قاله الحسن. والثالث : إلى محاجّة منكر ونكير. والرابع : إلى طريق الجنّة ، حكاهما الماوردي. وفي قوله : (عَرَّفَها لَهُمْ) قولان : أحدهما : عرّفهم منازلهم فيها فلا يستدلّون عليها ولا يخطئونها ، هذا قول الجمهور ، منهم مجاهد وقتادة واختاره الفرّاء ، وأبو عبيدة. والثاني : طيّبها لهم ، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن قتيبة : وهو قول أصحاب اللغة ، يقال : طعام معرّف ، أي مطيّب. وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وابن محيصن : «عرفها لهم» بتخفيف الراء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

قوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي : تنصروا دينه ورسوله (يَنْصُرْكُمْ) على عدوّكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) عند القتال. وروى المفضّل عن عاصم : «ويثبت» بالتخفيف. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) قال الفرّاء : المعنى : فأتعسهم الله ، والدّعاء قد يجري مجرى الأمر والنّهي. قال ابن قتيبة : هو من قولك : تعست ، أي : عثرت وسقطت. وقال الزّجّاج : التّعس في اللغة : الانحطاط والعثور. وما بعد هذا قد سبق بيانه (١) إلى قوله : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي : أهلكهم الله (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي : أمثال تلك العاقبة. (ذلِكَ) الذي فعله بالمؤمنين من النصر ، وبالكافرين من الدّمار (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي : وليّهم. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي : إنّ الأنعام تأكل وتشرب ، ولا تدري ما في غد ، فكذلك الكفّار لا يلتفتون إلى الآخرة. و«المثوى» : المنزل. (وَكَأَيِّنْ) مشروح في آل عمران (٢). والمراد بقريته : مكّة ؛ وأضاف القوة والإخراج إليها ، والمراد أهلها ولذلك قال : (أَهْلَكْناهُمْ). قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) فيه قولان : أحدهما : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ قاله أبو العالية.

والثاني : أنه المؤمن ، قاله الحسن. وفي «البيّنة» قولان : أحدهما : القرآن ، قاله ابن زيد. والثاني : الدّين ، قاله ابن السّائب. (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) يعني عبادة الأوثان ، وهو الكافر (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) بعبادتها.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

__________________

(١) الكهف : ١٠٥ ، يوسف : ١٠٩.

(٢) آل عمران : ١٤٦.


(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي : صفتها ، وقد شرحناه في الرّعد (١). و«المتّقون» عند المفسّرين : الذين يتّقون الشّرك. و«الآسن» المتغيّر الرّيح ، قاله أبو عبيدة ، والزّجّاج. وقال ابن قتيبة : هو المتغيّر الرّيح والطّعم ، و«الآجن» نحوه. وقرأ ابن كثير : «غير أسن» بغير مدّ. وقد شرحنا قوله : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) في الصّافّات (٢) : قوله تعالى : (مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي : من عسل ليس فيه عكر ولا كدر كعسل أهل الدنيا. قوله تعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) قال الفرّاء : أراد : من كان في هذا النّعيم ، كمن هو خالد في النّار؟!. قوله تعالى : (ماءً حَمِيماً) أي : حارّا شديد الحرارة. و«الأمعاء» جميع ما في البطن من الحوايا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يعني المنافقين. وفيما يستمعون قولان : أحدهما : أنه سماع خطبة رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة. والثاني : سماع قوله على عموم الأوقات. فأمّا الذين (أُوتُوا الْعِلْمَ) ، فالمراد بهم : علماء الصحابة.

قوله تعالى : (ما ذا قالَ آنِفاً) قال الزّجّاج : أي : ماذا قال السّاعة ، وهو من قولك : استأنفت الشيء : إذا ابتدأته ، وروضة أنف : لم ترع ، أي : لها أوّل يرعى ؛ فالمعنى : ماذا قال في أوّل وقت يقرب منّا. وحدّثنا عن أبي عمر غلام ثعلب أنه قال : «آنفا» مذ ساعة. وقرأ ابن كثير ، في بعض الرّوايات عنه : «أنفا» بالقصر ، وهذه قراءة عكرمة ، وحميد ، وابن محيصن. قال أبو عليّ : يجوز أن يكون ابن كثير توهّم ، مثل حاذر وحذر ، وفاكه وفكه. وفي استفهامهم قولان : أحدهما : لأنهم لم يعقلوا ما يقول ، ويدلّ عليه باقي الآية. والثاني : أنهم قالوه استهزاء.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) فيهم قولان : أحدهما : أنهم المسلمون ، قاله الجمهور. والثاني : قوم من أهل الكتاب كانوا على الإيمان بأنبيائهم وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا بعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنوا به ، قاله عكرمة. وفي الذي زادهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الله عزوجل. والثاني : قول الرّسول. والثالث : استهزاء المنافقين زاد المؤمنين هدى ، ذكرهنّ الزّجّاج. وفي معنى الهدى قولان : أحدهما : أنه العلم. والثاني : البصيرة. وفي قوله : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : ثواب تقواهم في الآخرة ، قاله السّدّيّ. والثاني : اتّقاء المنسوخ والعمل بالنّاسخ ، قاله عطيّة. والثالث : أعطاهم التقوى مع الهدى ، فاتّقوا معصيته خوفا من عقوبته ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. و (يَنْظُرُونَ) بمعنى ينتظرون ، (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو الأشهب ، وحميد : «إن تأتهم» بكسر الهمزة من غير ياء بعد التاء. والأشراط : العلامات ؛ قال أبو عبيدة : الأشراط : الأعلام ، وإنما سمّي الشّرط ـ فيما ترى ـ لأنهم أعلموا أنفسهم. قال المفسّرون : ظهور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة ، وانشقاق القمر والدّخان وغير ذلك. (فَأَنَّى لَهُمْ)

__________________

(١) الرعد : ٣٥.

(٢) الصافات : ٤٦.


أي : فمن أين لهم (إِذا جاءَتْهُمْ) الساعة (ذِكْراهُمْ)؟! قال قتادة : أنّى لهم أن يذّكّروا ويتوبوا إذا جاءت؟!

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١))

قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) قال بعضهم : اثبت على علمك ، وقال قوم : المراد بهذا الخطاب غيره ؛ وقد شرحنا هذا في فاتحة الأحزاب. وقيل : إنه كان يضيق صدره بما يقولون ، فقيل له : اعلم أنه لا كاشف لما بك إلّا الله.

فأمّا قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فإنه كان يستغفر في اليوم مائة مرّة ، وأمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات إكراما لهم لأنه شفيع مجاب. (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : متقلّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة ، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني : متقلّبكم في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ، ومقامكم في القبور ، قاله عكرمة. والثالث : «متقلّبكم» بالنهار و«مثواكم» أي : مأواكم بالليل ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) قال المفسّرون : سألوا ربّهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله ، اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد ، فقالوا : «لو لا» أي : هلّا ؛ وكان أبو مالك الأشجعي يقول : «لا» هاهنا صلة ، فالمعنى : لو أنزلت سورة ، شوقا منهم إلى الزيادة في العلم ، ورغبة في الثّواب والأجر بالاستكثار من الفرائض. وفي معنى «محكمة» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها التي يذكر فيها القتال ، قاله قتادة. والثاني : أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام. والثالث : التي لا منسوخ فيها ، حكاهما أبو سليمان الدّمشقي. ومعنى قوله : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي : فرض فيها الجهاد. وفي المراد بالمرض قولان : أحدهما : النّفاق ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور. والثاني : الشّكّ ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي : يشخصون نحوك بأبصارهم ينظرون نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت ، لأنهم يكرهون القتال ، ويخافون إن قعدوا أن يتبيّن نفاقهم.

(فَأَوْلى لَهُمْ) قال الأصمعيّ : معنى قولهم في التّهديد : «أولى لك» أي : وليك وقاربك ما تكره. وقال ابن قتيبة : هذا وعيد وتهديد ، تقول للرجل ـ إذا أردت به سوءا ، ففاتك ـ أولى لك ، ثم ابتدأ ، فقال : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ...). وقال سيبويه والخليل : المعنى : طاعة وقول معروف أمثل. وقال الفرّاء : الطاعة معروفة في كلام العرب ، إذا قيل لهم : افعلوا كذلك ، قالوا : سمع وطاعة ، فوصف الله قولهم قبل أن تنزل السّورة أنهم يقولون : سمع وطاعة ، فإذا نزل الأمر كرهوا. وأخبرني حبّان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قال الله تعالى : (فَأَوْلى) ، ثم قال : (لَهُمْ) أي : للذين آمنوا منهم (طاعة) ، فصارت «أولى» وعيدا لمن كرهها ، واستأنف الطاعة ب «لهم» ؛ والأول عندنا كلام


العرب ، وهذا غير مردود ، يعني حديث أبي صالح. وذكر بعض المفسّرين أنّ الكلام متّصل بما قبله ؛ والمعنى : فأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا معروفا بالإجابة. قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) قال الحسن : جدّ الأمر. وقال غيره : جدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في الجهاد ، ولزم فرض القتال ، وصار الأمر معروفا عليه. وجواب «إذا» محذوف ، تقديره : فإذا عزم الأمر نكلوا ؛ يدلّ على المحذوف (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) أي : في إيمانهم وجهادهم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من المعصية والكراهة.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))

قوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) في المخاطب بهذا أربعة أقوال : أحدها : المنافقون ، وهو الظّاهر. والثاني : منافقو اليهود ، قاله مقاتل. والثالث : الخوارج ، قاله بكر بن عبد الله المزني. والرابع : قريش ، حكاه جماعة منهم الماوردي. وفي قوله : (تَوَلَّيْتُمْ) قولان (١) : أحدهما : أنه بمعنى الإعراض. فالمعنى : إن أعرضتم عن الإسلام (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بأن تعودوا إلى الجاهليّة يقتل بعضكم بعضا ، ويغير بعضكم على بعض ، ذكره جماعة من المفسّرين. والثاني : أنه من الولاية لأمور الناس ، قاله القرظي. فعلى هذا يكون معنى «أن تفسدوا في الأرض» : بالجور والظّلم. وقرأ يعقوب : «وتقطعوا» بفتح التاء والطاء وتخفيفها وسكون القاف ، ثم ذمّ من يريد ذلك بالآية التي بعد هذه. وما بعد هذا قد سبق (٢) إلى قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) «أم» بمعنى «بل» ، وذكر الأقفال استعارة ، والمراد أنّ القلب يكون كالبيت المقفل لا يصل إليه الهدى. قال مجاهد : الرّان أيسر من الطّبع ، والطّبع أيسر من الإقفال ، والإقفال أشدّ ذلك كلّه. وقال خالد بن معدان : ما من آدميّ إلّا وله أربع أعين ، عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته ، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب ، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ، وإذا أراد به غير ذلك طمس عليهما ، فذلك قوله : «أم على قلوب أقفالها».

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي : رجعوا كفّارا ؛ وفيهم قولان : أحدهما : أنهم المنافقون ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثاني : أنهم اليهود ، قاله قتادة ، ومقاتل (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي : من بعد ما وضح لهم الحقّ. ومن قال : هم اليهود ، قال : من بعد أن تبيّن لهم

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢١١ : وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام خصوصا ، بل قل أمر تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام.

(٢) النساء : ٨٢.


وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته في كتابهم. و (سَوَّلَ) بمعنى زيّن. (وَأَمْلى لَهُمْ) قرأ أبو عمرو ، وزيد عن يعقوب : «وأملي لهم» بضمّ الهمزة وكسر اللام وبعدها ياء مفتوحة. وقرأ يعقوب إلّا زيدا ، وأبان عن عاصم كذلك ، إلّا أنهما أسكنا الياء. وقرأ الباقون بفتح الهمزة واللام. وقد سبق معنى الإملاء (١).

قوله تعالى : (ذلِكَ) قال الزّجّاج : المعنى : الأمر ذلك ، أي : ذلك الإضلال بقولهم : (لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) وفي الكارهين قولان : أحدهما : أنهم المنافقون ، فعلى هذا في معنى قوله : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ثلاثة أقوال : أحدها : في القعود عن نصرة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ. والثاني : في الميل إليكم والمظاهرة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثالث : في الارتداد بعد الإيمان ، حكاهما الماوردي. والثاني : أنهم اليهود ، فعلى هذا في الذي أطاعوهم فيه قولان : أحدهما : في أن لا يصدّقوا شيئا من مقالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الضّحّاك. والثاني : في كتم ما علموه من نبوّته ، قاله ابن جريج. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، وحفص عن عاصم ، والوليد عن يعقوب : بكسر الألف على أنه مصدر أسررت : وقرأ الباقون : بفتحها على أنه جمع سرّ ، والمعنى أنه يعلم ما بين اليهود والمنافقين من السّرّ.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ)؟ أي : فكيف يكون حالهم حينئذ؟ وقد بيّنّا في الأنفال (٢) معنى قوله : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ).

قوله تعالى : (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي : كرهوا ما فيه الرّضوان ، وهو الإيمان والطّاعة.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤))

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : نفاق (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) قال الفرّاء : أي لن يبدي الله عداوتهم وبغضهم لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزّجّاج : أي : لن يبدي عداوتهم لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهره على نفاقهم. (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي : لعرّفناكهم ، تقول : قد أريتك هذا الأمر ، أي : قد عرّفتك إيّاه ، المعنى : لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة ، وهي السّيماء (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي : بتلك العلامة (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي : في فحوى القول ، فدلّ بهذا على أنّ قول القائل وفعله يدلّ على نيّته. وقول الناس : قد لحن فلان ، تأويله : قد أخذ في ناحية عن الصّواب ، وعدل عن الصّواب إليها. وقول الشاعر :

منطق صائب وتلحن أحيانا

، وخير الحديث ما كان لحنا (٣)

__________________

(١) آل عمران : ١٧٨ ، والأعراف : ١٨٣.

(٢) الأنفال : ٥٠.

(٣) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزازي وهو في «اللسان» ـ لحن ـ قال في «اللسان» : ومعنى صائب : قاصد


تأويله : خير الحديث من مثل هذه ما كان لا يعرفه كلّ أحد ، إنّما يعرف قولها في أنحاء قولها. قال المفسّرون : ولتعرفنّهم في فحوى الكلام ومعناه ومقصده ، فإنهم يتعرّضون بتهجين أمرك والاستهزاء بالمسلمين. قال ابن جرير : ثم عرّفه الله إيّاهم.

قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي : ولنعاملنّكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد (حَتَّى نَعْلَمَ) العلم الذي هو علم وجود ، وبه يقع الجزاء ؛ وقد شرحنا هذا في العنكبوت (١).

قوله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي : نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يصبر على الجهاد. وقرأ أبو بكر عن عاصم : «وليبلونّكم» بالياء «حتى يعلم» بالياء «ويبلو» بالياء فيهنّ. وقرأ معاذ القارئ ، وأيّوب السّختياني : «أخياركم» بالياء جمع «خير».

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية ، اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال : أحدها : أنها في المطعمين يوم بدر ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها نزلت في الحارث بن سويد ، ووحوح الأنصاري ، أسلما ثم ارتدّا ، فتاب الحارث ورجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى صاحبه أن يرجع حتى مات ، قاله السّدّيّ (٢). والثالث : أنها في اليهود ، قاله مقاتل. والرابع : أنها في قريظة والنّضير ، ذكره الواحدي.

قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) اختلفوا في مبطلها على أربعة أقوال : أحدها : المعاصي والكبائر ، قاله الحسن. والثاني : الشّكّ والنّفاق ، قاله عطاء. والثالث : الرّياء والسّمعة ، قاله ابن السّائب. والرابع : بالمن.

(١٢٧٣) وذلك أنّ قوما من الأعراب قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أتيناك طائعين ، فلنا عليك حقّ ، فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) (٣) ، هذا قول مقاتل. قال القاضي أبو يعلى : وهذا يدلّ على أنّ كلّ من دخل في قربة لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها ، وهذا على ظاهره في الحجّ ، فأمّا في الصّلاة والصيام ، فهو على سبيل الاستحباب (٤).

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا

____________________________________

(١٢٧٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك متهم بالكذب.

__________________

الصواب وإن لم يصب ، وتلحن أحيانا أي تصيب وتفطن قال : فصار تفسير اللحن في البيت على ثلاثة أوجه : الفطنة والفهم ، والتعرض ، والخطأ في الإعراب.

(١) العنكبوت : ٣.

(٢) عزاه المصنف للسدي ، وهذا مرسل ، فهو واه.

(٣) الحجرات : ١٧.

(٤) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٣٣ : اختلف العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة ، ثم أراد تركها ، قال الشافعي : له ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة : ليس له ذلك لأنه إبطال لعمله الذي انعقد له ، وقال الشافعي هو تطوّع فإلزامه إياه يخرجه عن الطواعية. قلنا : إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل ، فإذا شرع لزمه كالشروع في المعاملات. ولا تكون عبادة ببعض ركعة ولا ببعض يوم في صوم ، فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم إن قال : إنه يعتد به فقد ناقض الإجماع ، وإن قال : إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام.

وذلك مستقصى في مسائل الخلاف.


وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا) أي : فلا تضعفوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «إلى السّلم» بفتح السين ؛ وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر السين ، والمعنى : لا تدعوا الكفّار إلى الصّلح ابتداء. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز طلب الصّلح من المشركين ، ودلالة على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخل مكّة صلحا ، لأنه نهاه عن الصّلح. قوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي : أنتم أعزّ منهم ، والحجّة لكم ، وآخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات (وَاللهُ مَعَكُمْ) بالعون والنّصرة (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) قال ابن قتيبة : أي لن ينقصكم ولن يظلمكم ، يقال : وترتني حقّي ، أي : بخستنيه. قال المفسّرون : المعنى : لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا. قوله تعالى : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي : لن يسألكموها كلّها.

قوله تعالى : (فَيُحْفِكُمْ) قال الفرّاء : يجهدكم. وقال ابن قتيبة : يلحّ عليكم بما يوجبه في أموالكم (تَبْخَلُوا) ، يقال : أحفاني بالمسألة وألحف : إذا ألحّ. وقال السّدّيّ : إن يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا. (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وابن عباس ، وابن يعمر : «ويخرج» بياء مرفوعة وفتح الراء «أضغانكم» بالرفع. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وابن السّميفع ، وابن محيصن ، والجحدري : «وتخرج» بتاء مفتوحة ورفع الراء «أضغانكم» بالرفع. وقرأ ابن مسعود ، والوليد عن يعقوب : «ونخرج» بنون مرفوعة وكسر الراء «أضغانكم» بنصب النون ، أي : يظهر بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ولكنه فرض عليكم يسيرا. وفيمن يضاف إليه هذا الإخراج وجهان : أحدهما : إلى الله عزوجل. والثاني : البخل ، حكاهما الفرّاء. وقد زعم قوم أنّ هذه الآية منسوخة بآية الزّكاة ، وليس بصحيح لأنّا قد بيّنّا أنّ معنى الآية : إن يسألكم جميع أموالكم ، والزّكاة لا تنافي ذلك.

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني ما فرض عليكم في أموالكم (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بما فرض عليه من الزّكاة (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي : على نفسه بما ينفعها في الآخرة (وَاللهُ الْغَنِيُ) عنكم وعن أموالكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إليه وإلى ما عنده من الخير والرّحمة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن طاعته (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أطوع له منكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) بل خيرا منكم. وفي هؤلاء القوم ثمانية أقوال :

أحدها : أنهم العجم ، قاله الحسن ، وفيه حديث يرويه أبو هريرة قال :

(١٢٧٤) لمّا نزلت : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

____________________________________

(١٢٧٤) عجزه صحيح ، وتأويل الآية بأهل فارس لا يصح ، فهو حديث ضعيف ، فيه مسلم بن خالد الزنجي ضعيف أخرجه البغوي في «شرح السنة» ٣٨٩٥. وأخرجه الطبري ٣١٤٤٣ وابن حبان ٧١٢٣ وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» ١ / ٣ من طرق عن ابن وهب ثنا مسلم بن خالد به. وأخرجه الطبري ٣١٤٤٢ و ٣١٤٤ وأبو نعيم ١ / ٢ و ٣ من طرق عن مسلم بن خالد به. وأخرجه الترمذي ٣٢٦١ وأبو نعيم ١ / ٣ والواحدي ٤ / ١٣١ من


فقالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين إذا تولّينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على منكب سلمان ، فقال : «هذا وقومه ، والذي نفسي بيده! لو أنّ الدّين معلّق بالثّريّا لتناوله رجال من فارس».

والثاني : فارس والرّوم ، قاله عكرمة. والثالث : من يشاء من جميع الناس ، قاله مجاهد. والرابع : يأتي بخلق جديد غيركم. وهو معنى قول قتادة. والخامس : كندة والنّخع ، قاله ابن السّائب. والسادس : أهل اليمن ، قاله راشد بن سعد ، وعبد الرّحمن بن جبير ، وشريح بن عبيد. والسابع : الأنصار ، قاله مقاتل. والثامن : أنهم الملائكة ، حكاه الزّجّاج وقال : فيه بعد لأنه لا يقال للملائكة «قوم» ؛ إنّما يقال ذلك للآدميّين ، قال : وقد قيل : إن تولّى أهل مكّة استبدل الله بهم أهل المدينة ، وهذا معنى ما ذكرنا عن مقاتل.

____________________________________

طريقين عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن جعفر بن نجيع عن العلاء به وعبد الله بن جعفر ، ضعيف متروك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٦ / ٣٣٤ من طريق أبي الربيع سليمان بن داود الزهراني عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء به ، والظاهر أنه منقطع بين إسماعيل وسليمان بدليل الواسطة بينهما. وأخرجه الترمذي ٣٢٦٠ من طريق عبد الرزاق عن شيخ من أهل المدينة عن العلاء به. قال الترمذي : هذا حديث غريب في إسناده مقال. قلت : هو ضعيف فيه من لم يسم ، ولعل المراد إبراهيم المدني الآتي ذكره. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» ١ / ٣ ـ ٤ من طريق عبد الله بن جعفر ومن طريق إبراهيم بن محمد المدني كلاهما عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وعبد الله بن جعفر ضعيف ، والمدني أظنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ذاك المتروك المتهم. وعجزه دون ذكر الآية. أخرجه مسلم ٢٥٤٦ ح ٢٣٠ وأحمد ٢ / ٣٠٩ وأبو نعيم ١ / ٤ من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. ويشهد لعجزه حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري ٤٧٩٨ ومسلم ٢٥٤٦ ح ٢٣١ والنسائي في «فضائل الصحابة» ١٧٣ وأحمد ٢ / ٤١٧ وابن حبان ٧٣٠٨ من طرق عن عبد العزيز الدارودي به. ورواية البخاري لعبد العزيز إنما هي متابعة ، فقد تابعه سليمان بن بلال ، وأخرجه البخاري ٤٨٩٧ والترمذي ٣٣١٠ و ٣٩٣٣ من طريق ثور بن يزيد به. وأخرجه الترمذي ٣٢٦١ وابن حبان ٧١٢٣ والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٣٣٤ من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة به. ولفظ البخاري في الرواية ٤٨٩٨ «لناله رجال من هؤلاء». ولفظ البخاري في الرواية ٤٨٩٧ «عن أبي هريرة رضي عنه قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا) بهم قال : قلت : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان ثم قال : «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال ـ أو رجل ـ من هؤلاء». وانظر «فتح القدير» ٢٢٨١ بتخريجنا.


سورة الفتح

وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآية.

(١٢٧٥) سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (١) ، قال اليهود : كيف نتّبع رجلا لا يدري ما يفعل به؟! فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال (٢).

أحدها : أنه كان يوم الحديبية ، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب : نحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان. وقال الشّعبي : هو فتح الحديبية ، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محلّه ، وظهرت الرّوم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزّهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام ، قال مجاهد : يعني بالفتح ما قضى الله له من نحر الهدي بالحديبية وحلق رأسه. وقال ابن قتيبة : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً) أي : قضينا لك قضاء عظيما ، ويقال للقاضي : الفتّاح. قال الفرّاء : والفتح قد يكون صلحا ، ويكون أخذ الشيء عنوة ، ويكون بالقتال. وقال غيره : معنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق ، والصّلح الذي جعل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذّرا حتى فتحه الله تعالى.

____________________________________

(١٢٧٥) ذكره الواحدي ٧٤٨ في «أسباب النزول» قاله عطاء عن ابن عباس بدون إسناد ، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد ، والمتن باطل ، فإن الآية المذكورة في الخبر مكية ، عند الجمهور وسورة الفتح مدينة.

__________________

(١) الأحقاف : ٩.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢١٥ : فقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي : بينا ظاهرا والمراد به صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه حيز جزيل ، وأمن الناس واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلّم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان. وهذا اختيار الطبري والشوكاني وغيرهما من المفسرين.


الإشارة إلى قصّة الحديبية

(١٢٧٦) روت عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في النّوم كأنّ قائلا يقول له : لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ، فأصبح فحدّث الناس برؤياه ، وأمرهم بالخروج للعمرة ؛ فذكر أهل العلم بالسّير أنّه خرج واستنفر أصحابه للعمرة ، وذلك في سنة ست ، ولم يخرج بسلاح إلّا السيوف في القرب (١).

(١٢٧٧) وساق هو وأصحابه البدن ، فصلّى الظّهر ب «ذي الحليفة» ، ثم دعا بالبدن فجلّلت ، ثم أشعرها وقلّدها ، وفعل ذلك أصحابه ، وأحرم ولبّى ، فبلغ المشركين خروجه ، فأجمع رأيهم على صدّه عن المسجد الحرام ، وخرجوا حتى عسكروا ب «بلدح» ، وقدّموا مائتي فارس إلى كراع الغميم (٢) ، وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دنا من الحديبية ؛ قال الزّجّاج : وهي بئر ، فسمّي المكان باسم البئر ؛ قالوا : وبينها وبين مكّة تسعة أميال ، فوقفت يدا راحلته ، فقال المسلمون : حل حل (٣) ، يزجرونها ، فأبت ، فقالوا : خلأت القصواء ـ والخلاء في النّاقة مثل الحران في الفرس ـ فقال : «ما خلأت ، ولكن حبسها حابس الفيل ، أما والله لا يسألوني خطّة فيها تعظيم حرمة الله إلّا أعطيتهم إيّاها» ، ثم جرّها فقامت ، فولّى راجعا عوده على بدئه حتى نزل على ثمد (٤) من أثماد الحديبية قليل الماء ، فانتزع سهما من كنانته فغرزه فيها ، فجاشت لهم بالرّواء ، وجاءه بديل بن ورقاء في ركب فسلّموا وقالوا : جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم ، يقسمون ، لا يخلّون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراءهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم نأت لقتال أحد إنما جئنا لنطوف بهذا البيت ، فمن صدّنا عنه قاتلناه». فرجع بديل فأخبر قريشا ، فبعثوا عروة بن مسعود ، فكلّمه بنحو ذلك ، فأخبر قريشا ، فقالوا : نردّه من عامنا هذا ، ويرجع من قابل فيدخل مكّة ويطوف بالبيت ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفّان ، قال : «اذهب إلى قريش فأخبرهم أنّا لم نأت لقتال أحد ، وإنما جئنا زوّارا لهذا البيت ، معنا الهدي ننحره وننصرف ، فأتاهم فأخبرهم ، فقالوا : لا كان هذا أبدا ، ولا يدخلها العام ، وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ عثمان قد قتل ، فقال : «لا نبرح حتى نناجزهم» (٥) ، فذاك حين دعا المسلمين إلى بيعة الرّضوان ، فبايعهم تحت

____________________________________

(١٢٧٦) لم أره عن عائشة ، وهو غريب هكذا ، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريج «الكشاف» ٤ / ٣٤٥ ، وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري ٣١٦٠١ و ٣١٦٠٢ و ٣١٦٠٣ و ٣١٦٠٤ وعامة هذه الروايات مراسيل.

(١٢٧٧) خبر الحديبية. صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٣١ و ٢٧٣٢ و ٤١٧٨ و ٤١٧٩ وأبو داود ٢٧٦٥ مختصرا وأحمد ٤ / ٣٢٨ والطبري ٣١٥٦٦ وابن حبان ٤٨٧٢ والبيهقي في «دلائل النبوة» ٤ / ٩٩ ـ ١٠٨.

__________________

(١) أخرجه الطبري ٣١٤٨٤ والبيهقي في «الدلائل» ٤ / ١٦٥ عن مجاهد مرسلا بنحوه.

(٢) كراع الغميم : موضع بين مكة والمدينة.

(٣) حل حل : كلمة تقال للناقة إذا توقفت عن السير.

(٤) في «اللسان» : الثّمد : قال أبو مالك : أن يعمد إلى موضع يلزم ماء السماء يجعله صنعا وهو المكان يجتمع فيه الماء ، وله مسايل من الماء ، ويحفر في نواحيه ركايا فيملأها من ذلك الماء فيشرب الناس الماء الظاهر حتى يجف ، وتبقى تلك الركايا ، وهي الثماد. والثمد : الماء القليل الذي لا مادّتها له.

(٥) ورد هذا القول «فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نبرح حتى ...» عند الطبري ٣١٥١٦ عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر.


الشجرة. وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال :

(١٢٧٨) أحدها : ألف وأربعمائة ، قاله البراء ، وسلمة بن الأكوع ، وجابر ، ومعقل بن يسار.

(١٢٧٩) والثاني : ألف وخمسمائة ، روي عن جابر أيضا ، وبه قال قتادة.

(١٢٨٠) والثالث : ألف وخمسمائة وخمس وعشرون ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

(١٢٨١) والرابع : ألف وثلاثمائة ، قاله عبد الله بن أبي أوفى.

(١٢٨٢) قال : وضرب يومئذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشماله على يمينه لعثمان ، وقال : إنه ذهب في حاجة الله ورسوله. وجعلت الرّسل تختلف بينهم ، فأجمعوا على الصّلح ، فبعثوا سهيل بن عمرو في عدّة رجال فصالحه كما ذكرنا في براءة (١) ؛ فأقام بالحديبية بضعة عشر يوما ، ويقال : عشرين ليلة ، ثم انصرف.

(١٢٨٣) فلمّا كان ب «ضجنان» نزل عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) ، فقال جبريل : يهنيك يا رسول الله ، وهنّأه المسلمون.

والقول الثاني : أنّ هذا الفتح فتح مكّة ، رواه مسروق عن عائشة ، وبه قال السّدّيّ. وقال بعض من ذهب إلى هذا : إنما وعد بفتح مكّة بهذه الآية. والثالث : أنه فتح خيبر ، قاله مجاهد ، والعوفيّ ، وعن أنس بن مالك كالقولين. والرابع : أنه القضاء له بالإسلام ، قاله مقاتل. وقال غيره : حكمنا لك بإظهار دينك والنّصرة على عدوّك.

قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) قال ثعلب : اللام لام «كي» ، والمعنى (٢) : لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النّعمة في الفتح ، فلمّا انضمّ إلى المغفرة شيء حادث ، حسن معنى «كي» ، وغلط من قال :

____________________________________

(١٢٧٨) أخرجه البخاري ٤١٥٠ و ٤١٥١ من حديث البراء بن عازب. وورد أيضا من حديث جابر ، أخرجه البخاري ٤١٥٤ ومسلم ١٨٥٦ ح ٧١ و ٧٢ و ٧٤ ، ومن حديث سلمة بن الأكوع ، أخرجه مسلم ١٨٠٧.

(١٢٧٩) أخرجه الطبري ٣١٥٢٤ عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قيل له «إن جابر بن عبد الله يقول : إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مائة ، قال سعيد : نسي جابر ، هو قال لي : كانوا ألفا وأربع مائة».

(١٢٨٠) أخرجه الطبري ٣١٥٢٦ عن ابن عباس بسند واه.

(١٢٨١) أخرجه البخاري ٤١٥٥ ومسلم ١٨٥٧ عن عبد الله بن أبي أوفى.

(١٢٨٢) لم أره بهذا اللفظ ، وخبر البيعة عن عثمان ، أخرجه الترمذي ٣٧٠٢ من حديث أنس ، وفيه الحكم بن عبد الملك ، وهو ضعيف.

(١٢٨٣) لم أره بهذا اللفظ ، وذكر جبريل غريب جدا. وانظر الآتي برقم ١٢٨٥.

__________________

(١) التوبة : ٧.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢١٧ : وقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ، هذا من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي لا يشاركه فيها غيره. وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ولا من الآخرين ، وهو أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله ، وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه. فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله له : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ).


ليس الفتح سبب المغفرة. قوله تعالى : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قال ابن عباس : والمعنى : «ما تقدّم» في الجاهلية و«ما تأخّر» ما لم تعلمه ، وهذا على سبيل التأكيد ، كما تقول : فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه. قوله تعالى : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ ذلك في الجنّة. والثاني : أنه بالنّبوّة والمغفرة ، رويا عن ابن عباس. والثالث : بفتح مكّة والطّائف وخيبر ، حكاه الماوردي. والرابع : بإظهار دينك على سائر الأديان ، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : ويثبّتك عليه ؛ وقيل : ويهدي بك ، (وَيَنْصُرَكَ اللهُ) على عدوّك (نَصْراً عَزِيزاً) قال الزّجّاج : أي : نصرا ذا عزّ لا يقع معه ذلّ.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي : السّكون والطّمأنينة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) لئلّا تنزعج قلوبهم لما يرد عليهم ، فسلّموا لقضاء الله ، وكانوا قد اشتدّ عليهم صدّ المشركين لهم عن البيت ، حتى قال عمر : علام نعطي الدّنيّة في ديننا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(١٢٨٤) «أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيّعني».

ثم أوقع الله الرّضى بما جرى في قلوب المسلمين ، فسلّموا وأطاعوا. (لِيَزْدادُوا إِيماناً) وذلك أنه كلّما نزلت فريضة زاد إيمانهم. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يريد أنّ جميع أهل السّموات والأرض ملك له ، لو أراد نصرة نبيّه بغيركم لفعل ، ولكنه اختاركم لذلك ، فاشكروه.

قوله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية.

(١٢٨٥) سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هنيئا لك يا

____________________________________

(١٢٨٤) صحيح. أخرجه البخاري ٣١٨٢ ومسلم ١٧٨٥ والنسائي في الكبرى ١١٥٠٤ من حديث أبي وائل عن سهل بن حنيف. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٣٠٢.

(١٢٨٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤١٧٢ و ٤٨٣٤ وأحمد ٣ / ١٧٣ من طريق شعبة. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ وأحمد ٣ / ١٢٢ و ١٣٤ والطبري ٣١٤٥٤ من طريقين عن همام به. وأخرجه مسلم ١٧٨٦ والبيهقي ٥ / ٢١٧ من طريق شيبان. وأخرجه أحمد ٣ / ٢٥٢ عن عفان ثنا همام ثنا قتادة ثنا أنس رضي الله عنه. وهو في «شرح السنة» ٣٩١٤ بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي ٣٢٦٣ وأحمد ٣ / ١٩٧ عن طريق معمر. وأخرجه مسلم ١٧٨٦
رسول الله بما أعطاك الله ، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله أنس بن مالك.

(١٢٨٦) قال مقاتل : فلمّا سمع عبد الله بن أبيّ بذلك ، انطلق في نفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ما لنا عند الله؟ فنزلت : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ ...) الآية.

قال ابن جرير ؛ كرّرت اللّام في «ليدخل» على اللام في «ليغفر» ، فالمعنى : إنّا فتحنا لك ليغفر لك الله ليدخل المؤمنين ، ولذلك لم يدخل بينهما واو العطف ، والمعنى : ليدخل وليعذّب.

قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ السين ؛ والباقون بفتحها.

قوله تعالى : (وَكانَ ذلِكَ) أي : ذلك الوعد بإدخالهم الجنّة وتكفير سيّئاتهم (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه (فَوْزاً عَظِيماً) لهم ؛ والمعنى : أنه حكم لهم بالفوز ، فلذلك وعدهم إدخال الجنّة.

قوله تعالى : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنهم ظنّوا أنّ لله شريكا. والثاني : أنّ الله لا ينصر محمّدا وأصحابه. والثالث : أنهم ظنّوا به حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو يهزم ولا يعود ظافرا. والرابع : أنهم ظنّوا أنهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة واحدة عند الله. والخامس : ظنّوا أنّ الله لا يبعث الموتى. وقد بيّنّا معنى «دائرة السّوء» في براءة (١). وما بعد هذا قد سبق بيانه (٢) إلى قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «ليؤمنوا» بالياء «ويعزروه ويوقّروه ويسبّحوه» كلّهنّ بالياء ، والباقون : بالتاء ، على معنى : قل لهم : إنّا أرسلناك ، لتؤمنوا ، وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن السّميفع : «ويعزّزوه» بزاءين. وقد ذكرنا في الأعراف (٣) معنى «ويعزّروه» عند قوله : «وعزّروه ونصروه». قوله تعالى : (وَتُوَقِّرُوهُ) أي : تعظّموه وتبجّلوه. واختار كثير من القرّاء الوقف هاهنا ، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده. قوله تعالى : (وَتُسَبِّحُوهُ) هذه الهاء ترجع إلى الله عزوجل. والمراد بتسبيحه هاهنا : الصّلاة له. قال المفسّرون : والمراد بصلاة البكرة : الفجر ، وبصلاة الأصيل : باقي الصّلوات الخمس. قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) يعني بيعة الرّضوان بالحديبية. وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان :

(١٢٨٧) أحدهما : أنهم بايعوه على الموت ، قاله عبادة بن الصّامت.

(١٢٨٨) والثاني : على أن لا يفرّوا ، قاله جابر بن عبد الله. ومعناهما متقارب ، لأنه أراد : على أن لا تفرّوا ولو متّم.

____________________________________

والطبري ٣١٤٥٢ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ١٣٢ ـ ١٣٣ من طريق سليمان بن طرخان. وأخرجه الطبري ٣١٤٥٣ من طريق سعيد بن أبي عروبة. كلهم عن قتادة به. وأخرجه ابن حبان ٣٧١ من طريق سفيان عن الحسن عن أنس به.

(١٢٨٦) واه بمرة. مقاتل هو ابن سليمان كذبه غير واحد ، والصحيح في هذا ما رواه البخاري ومسلم ، وتقدم.

(١٢٨٧) انظر الحديث الآتي.

(١٢٨٨) هو عند مسلم ١٨٥٦ عن جابر قال : «كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وقال : بايعناه على ألا نفر ، ولم نبايعه على الموت» وفي رواية : فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره» فلم يبايع أصلا. وقد نبه على هذا الحافظ في تخريجه ٤ / ٣٣٥. وأما لفظ فبايعوه على

__________________

(١) التوبة : ٩٨.

(٢) الفتح : ٤ ، الأحزاب : ٤٥.

(٣) الأعراف : ١٥٧.


وسمّيت بيعة ، لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنّة ، وكان العقد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنّهم بايعوا الله عزوجل ، لأنه ضمن لهم الجنّة بوفائهم. (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : يد الله في الوفاء فوق أيديهم. والثاني : يد الله في الثّواب فوق أيديهم. والثالث : يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطّاعة ، ذكر هذه الأقوال الزّجّاج. والرابع : قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم ، ذكره ابن جرير ، وابن كيسان.

قوله تعالى : (فَمَنْ نَكَثَ) أي : نقض ما عقده من هذه البيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي : يرجع ذلك النّقض عليه (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) من البيعة (فَسَيُؤْتِيهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ؛ وأبان عن عاصم : «فسنؤتيه» بالنون. وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : بالياء (أَجْراً عَظِيماً) وهو الجنّة. قال ابن السّائب : فلم ينكث العهد منهم غير رجل واحد يقال له : الجدّ بن قيس ، وكان منافقا.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

قوله تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ)

(١٢٨٩) قال ابن إسحاق : لمّا أراد العمرة استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه ، خوفا من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصدّ ، فتثاقل عنه كثير منهم ، فهم الذين عنى الله بقوله : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) ، (١٢٩٠) قال أبو صالح ، عن ابن عباس : وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والدّيل وأسلم. قال يونس النّحوي : الدّيل في عبد القيس ساكن الياء. والدّول من حنيفة ساكن الواو ، والدّئل في كنانة رهط أبي الأسود الدّؤلي.

فأمّا المخلّفون ، فإنّهم تخلّفوا مخافة القتل. (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) أي : خفنا عليهم الضّيعة

____________________________________

الموت فقد ورد في خبر مرسل أخرجه الطبري ٣١٥١٦ عن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر وفيه «فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايعهم على الموت ، فكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبايعنا على الموت ولكنه بايعنا على ألا نفرّ». وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم ١٨٥٨ ولفظه «لقد رأيتني يوم الشجرة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع الناس ، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشر مائة. قال : لم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على أن لا نفر» فهذا كله يرد ما ذكر من أنهم بايعوه على الموت.

(١٢٨٩) أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٤ / ١٦٥ عن مجاهد بنحوه ، وهذا مرسل ، وقد أخرجه الطبري ٣١٤٨٤ عن مجاهد أيضا.

(١٢٩٠) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح ساقط الرواية وبخاصة عن ابن عباس.


(فَاسْتَغْفِرْ لَنا) أي : ادع الله أن يغفر لنا تخلّفنا عنك (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي : ما يبالون استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. قوله تعالى : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «ضرّا» بضمّ الضاد ؛ والباقون : بالفتح. قال أبو عليّ : «الضّرّ» بالفتح : خلاف النّفع ، وبالضمّ : سوء الحال ، ويجوز أن يكونا لغتين كالفقر والفقر ، وذلك أنهم ظنّوا أنّ تخلّفهم يدفع عنهم الضّرّ. ويعجّل لهم النّفع بسلامة أنفسهم وأموالهم ، فأخبرهم الله تعالى أنه إن أراد بهم شيئا ، لم يقدر أحد على دفعه عنهم ، (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) من تخلّفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون ، وذلك قوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ) أي : توهّمتم (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ) أي لا يرجعون إلى المدينة ، لاستئصال العدوّ إيّاهم ، (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) وذلك من تزيين الشيطان. قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) قد ذكرناه في الفرقان (١).

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الذين تخلّفوا عن الحديبية (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) وذلك أنهم لمّا انصرفوا عن الحديبية بالصّلح وعدهم الله فتح خيبر ، وخصّ بها من شهد الحديبية فانطلقوا إليها ، فقال هؤلاء المخلّفون : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) ، قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «أن يبدّلوا كلم الله» بكسر اللام. وفي المعنى قولان : أحدهما : أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصّة ، قاله ابن عباس. والثاني : أمر الله نبيّه أن لا يسير معه منهم أحد ، وذلك أنّ الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر ، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلّفين ، قاله مقاتل. وعلى القولين : قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يخالف أمر الله ، فيكون تبديلا لأمره.

قوله تعالى : (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) فيه قولان : أحدهما : قال : إنّ غنائم خيبر لمن شهد الحديبية ، وهذا على القول الأول. والثاني : قال : لن تتّبعونا ، وهذا قول مقاتل.

(فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي : يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

قوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ) المعنى : إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستدعون إلى جهاد قوم (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). وفي هؤلاء القوم ستة أقوال (٢) : أحدها : أنهم فارس ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن

__________________

(١) الفرقان : ١٨.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٣٤٦ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره


عباس ، وبه قال عطاء بن أبي رباح ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي ليلى ، وابن جريج في آخرين. والثاني : فارس والرّوم ، قاله الحسن ، ورواه ابن أبي نجيج عن مجاهد. والثالث : أنهم أهل الأوثان ، رواه ليث عن مجاهد. والرابع : أنهم الرّوم ، قاله كعب. والخامس : أنهم هوازن وغطفان ، وذلك يوم حنين ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة. والسادس : بنو حنيفة يوم اليمامة ، وهم أصحاب مسيلمة الكذّاب ، قاله الزّهري ، وابن السّائب ، ومقاتل. قال مقاتل : خلافة أبي بكر في هذه بيّنة مؤكّدة. وقال رافع بن خديج : كنّا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعي أبو بكر إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم هم. وقال بعض أهل العلم : لا يجوز أن تكون هذه الآية إلّا في العرب ، لقوله : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، وفارس والرّوم إنّما يقاتلون حتى يسلموا أو يؤدّوا الجزية. وقد استدلّ جماعة من العلماء على صحّة إمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية ، لأنه إن أريد بها بنو حنيفة ، فأبو بكر دعا إلى قتالهم ، وإن أريد بها فارس والرّوم ، فعمر دعا إلى قتالهم ، والآية تلزمهم اتّباع طاعة من يدعوهم ، وتتوعّدهم على التّخلّف بالعقاب. قال القاضي أبو يعلى : وهذا يدلّ على صحّة إمامتهما إذا كان المتولّي عن طاعتهما مستحقّا للعقاب. قوله تعالى : (فَإِنْ تُطِيعُوا) قال ابن جريج : فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن طاعتهما (كَما تَوَلَّيْتُمْ) عن طاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسير إلى الحديبية. وقال الزّجّاج : المعنى : إن تبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم ، يؤتكم الله أجرا حسنا ، وإن تولّيتم فأقمتم على نفاقكم ، وأعرضتم عن الإيمان والجهاد كما تولّيتم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعذبكم عذابا أليما. قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) قال المفسّرون : عذر الله أهل الزّمانة الذين تخلّفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية. قوله تعالى : (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) قرأ نافع ، وابن عامر : «ندخله» و«نعذّبه» بالنون فيهما ؛ والباقون : بالياء.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

ثم ذكر الذين أخلصوا نيّتهم وشهدوا بيعة الرّضوان بقوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) وقد

____________________________________

أخبر عن هؤلاء المخلفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال ، ونجدة في الحروب ، ولم يوضح لنا الدليل على أن المعني بذلك أعيان بأعيانهم.

ـ وقال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٣٥ : وقوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) وهذا يدل على أنهم باليمامة لا بفارس ولا بالروم ، لأن الذي تعين عليه القتال حتى يسلم من غير قبول جزية هم العرب في أصح الأقوال والمرتدون. وأما فارس والروم فلا يقاتلون حتى يسلموا ، بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم ، وجاءت الآية معجزة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخبارا بالغيب الآتي.


ذكرنا سبب هذه البيعة آنفا. وإنّما سمّيت بيعة الرّضوان ، لقوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ). روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه ، قال :

(١٢٩١) بينما نحن قائلون زمن الحديبية ، نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّها النّاس ، البيعة ، البيعة ، نزل روح القدس ، قال : فثرنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تحت شجرة سمرة ، فبايعناه.

(١٢٩٢) وقال عبد الله بن مغفّل : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة يبايع الناس ، وإني لأرفع أغصانها عن رأسه. وقال بكير بن الأشج : كانت الشجرة بفجّ نحو مكّة. قال نافع : كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلّون عندها ، فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب ، فأوعدهم فيها ، وأمر بها فقطعت.

قوله تعالى : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي : من الصّدق والوفاء ، والمعنى : علم أنهم مخلصون (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) يعني الطّمأنينة والرّضى حتى بايعوا على أن يقاتلوا ولا يفرّوا (وَأَثابَهُمْ) أي : عوّضهم على الرّضى بقضائه والصّبر على أمره (فَتْحاً قَرِيباً) وهو خيبر ، (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) أي : من خيبر ، لأنها كانت ذا عقار وأموال. فأمّا قوله بعد هذا : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) فقال المفسّرون : هي الفتوح التي تفتح على المسلمين إلى يوم القيامة. (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) فيها قولان : أحدهما : أنها غنيمة خيبر ، قاله مجاهد وقتادة والجمهور. والثاني : أنه الصّلح الذي كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

قوله تعالى : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) فيهم ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنهم اليهود همّوا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلّفوهم في المدينة ، فكفّهم الله عن ذلك ، قاله قتادة. والثاني : أنهم أسد وغطفان جاءوا لينصروا أهل خيبر ، فقذف الله في قلوبهم الرّعب فانصرفوا عنهم ، قاله مقاتل. وقال الفرّاء : كانت أسد وغطفان مع أهل خيبر ، فقصدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصالحوه ، وخلّوا بينه وبين خيبر. وقال غيرهما : بل همّت أسد وغطفان باغتيال أهل المدينة ، فكفّهم الله عن ذلك. والثالث : أنهم أهل مكّة كفّهم الله بالصّلح ، حكاهما الثّعلبي وغيره. ففي قوله : «عنكم» قولان : أحدهما : أنه على أصله ، قاله الأكثرون. والثاني : عن عيالكم ، قاله ابن قتيبة ، وهو مقتضى قول قتادة. (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) في المشار إليها قولان : أحدهما : أنها الفعلة التي فعلها بكم من كفّ أيديهم عنكم كانت آية للمؤمنين ، فعلموا أنّ الله تعالى متولّي حراستهم في مشهدهم ومغيبهم. والثاني : أنها خيبر كان فتحها علامة للمؤمنين في تصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما وعدهم به.

____________________________________

(١٢٩١) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ٢٢٥ وفيه موسى بن عبيدة وهو الربذي ضعيف الحديث ، والمتن غريب. وانظر «تفسير ابن كثير» ٤ / ٢٢٥ بتخريجنا.

(١٢٩٢) صحيح. أخرجه النسائي ٥٣١ في «التفسير» والطبري ٣١٥٥٤ من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح على شرط مسلم. وورد من حديث معقل بن يسار عند مسلم ١٨٥٨ كما سبق في الحديث ١٢٨٨.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ١١ / ٣٥٢ : والذي قاله قتادة في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن كف الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحديبية قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) غير الكف الذي ذكره الله بعد هذه الآية في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ).


قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) فيه قولان : أحدهما : طريق التّوكّل عليه والتّفويض إليه ، وهذا على القول الأول. والثاني : يزيدكم هدى بالتصديق بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة.

قوله تعالى : (وَأُخْرى) المعنى : وعدكم الله مغانم أخرى ؛ وفيها أربعة أقوال : أحدها : أنها ما فتح للمسلمين بعد ذلك. روى سماك الحنفي عن ابن عباس : «وأخرى لم تقدروا عليها» قال : ما فتح لكم من هذه الفتوح ، وبه قال مجاهد. والثاني : أنها خيبر ، رواه عطيّة ، والضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد. والثالث : فارس والرّوم ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الحسن ، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى. والرابع : مكّة ، ذكره قتادة ، وابن قتيبة. قوله تعالى : (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) فيه قولان : أحدهما : أحاط بها علما أنها ستكون من فتوحكم. والثاني : حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها. قوله تعالى : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا خطاب لأهل الحديبية ، قاله قتادة ؛ والذين كفروا مشركو قريش. فعلى هذا يكون المعنى : لو قاتلوكم يوم الحديبية (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) لما في قلوبهم من الرّعب (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) لأنّ الله قد خذلهم. قال الزّجّاج : المعنى : لو قاتلك من لم يقاتلك لنصرت عليه ، لأنّ سنّة الله النّصرة لأوليائه. و«سنّة الله» منصوبة على المصدر ، لأن قوله : «لولّوا الأدبار» معناه : سنّ الله عزوجل خذلانهم سنّة. وقد مرّ مثل هذا في قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (١) ، وقوله : (صُنْعَ اللهِ) (٢). قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ).

(١٢٩٣) روى أنس بن مالك أنّ ثمانين رجلا من أهل مكّة هبطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التّنعيم متسلّحين يريدون غرّة (٣) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فأخذهم سلما ، فاستحياهم ، وأنزل الله هذه الآية.

(١٢٩٤) وروى عبد الله بن مغفّل قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية في أصل الشجرة ، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابّا ، فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل جئتم في عهد؟» أو «هل جعل لكم أحد أمانا؟» قالوا : اللهمّ لا ، فخلّى سبيلهم ، ونزلت هذه الآية.

____________________________________

(١٢٩٣) صحيح. أخرجه مسلم ١٨٠٨ عن عمر بن محمد الناقد ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن أبي سلمة عن ثابت ـ وهو ابن أسلم البناني ـ عن أنس بن مالك به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ١٤٢ من طريق إبراهيم بن محمد بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود ٢٦٨٨ والترمذي ٣٢٦٤ والنسائي في «التفسير» ٥٣٠ والطبري ٣١٥٥٨ وأحمد ٣ / ١٢٤ و ٢٩٠ والطحاوي في «المشكل» ٦٠ والبيهقي في «الدلائل» ٤ / ٤١ من طرق عن حمّاد بن سلمة به. وورد بنحوه في أثناء حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم ١٨٠٧ وأحمد ٤ / ٤٩ والطحاوي ٦٢.

(١٢٩٤) صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ٥٣١ وأحمد ٤ / ٨٦ ـ ٨٧ والحاكم ٢ / ٤٦٠ ـ والطبري ٣١٥٥٤ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ١٤٢ والبيهقي ٦ / ٣١٩ من طرق عن الحسين بن واقد عن ثابت عن عبد الله بن المغفل به. وصححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي في «المجمع» ٦ / ١٤٥ : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ، وهو كما قالوا. وقال ابن حجر في «فتح الباري» ٥ / ٣٥١ : أخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح.

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) النمل : ٨٨.

(٣) في «اللسان» الغرة : الغفلة.


(١٢٩٥) وذكر قتادة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خيلا ، فأتوه باثني عشر فارسا من الكفّار ، فأرسلهم.

(١٢٩٦) وقال مقاتل : خرجوا يقاتلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهزمهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطّعن والنّبل حتى أدخلهم بيوت مكّة.

قال المفسّرون : ومعنى الآية : إنّ الله تعالى ذكر منّته إذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تمّ الصّلح بينهم. وفي بطن مكّة ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحديبية ، قاله أنس. والثاني : وادي مكّة ، قاله السّدّيّ. والثالث : التّنعيم ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي. فأمّا «مكّة» فقال الزّجّاج : «مكّة» لا تنصرف لأنها مؤنّثة ، وهي معرفة ، ويصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق «بكّة» ، والميم تبدل من الباء ، يقال : ضربة لازم ، ولازب ، ويصلح أن يكون اشتقاقها من قولهم : امتكّ الفصيل ما في ضرع النّاقة : إذا مصّ مصّا شديدا حتى لا يبقي فيه شيئا ، فيكون سميت بذلك لشدة الازدحام فيها ، قال : والقول الأول أحسن. وقال قطرب : مكّة من تمكّكت المخّ : إذا أكلته. وقال ابن فارس : تمكّكت العظم : إذا أخرجت مخّه ؛ والتّمكّك : الاستقصاء.

(١٢٩٧) وفي الحديث : «لا تمككوا على غرمائكم». وفي تسمية «مكّة» أربعة أقوال :

أحدها : لأنها مثابة يؤمّها الخلق من كلّ فجّ ، وكأنها هي التي تجذبهم إليها ، وذلك من قول العرب : امتكّ الفصيل ما في ضرع النّاقة. والثاني : أنها سمّيت (مكّة) من قولك : بككت الرجل : إذا وضعت منه ورددت نخوته ، فكأنّها تمكّ من ظلم فيها ، أي : تهلكه وتنقصه ، وأنشدوا :

يا مكّة ، الفاجر مكّي مكّا

ولا تمكي مذحجا وعكّا (١)

والثالث : أنها سمّيت بذلك لجهد أهلها. والرابع : لقلّة الماء بها.

وهل مكّة وبكّة واحد؟ قد ذكرناه في آل عمران (٢).

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي : بهم ؛ يقال : ظفرت بفلان ، وظفرت عليه. قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) قرأ أبو عمرو : «يعملون» بالياء ؛ والباقون : بالتاء.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

____________________________________

(١٢٩٥) أخرجه الطبري ٣١٥٥٩ عن قتادة مرسلا.

(١٢٩٦) تقدم أن هذا الخبر غير صحيح ، ومقاتل متروك متهم بالكذب.

(١٢٩٧) لم أقف عليه ، والظاهر أنه لا أصل له لخلوه عن كتب الحديث والأثر.

__________________

(١) الرجز غير منسوب في «اللسان» ـ مكة ـ

(٢) آل عمران : ٩٦.


قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أهل مكّة (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تطوفوا به وتحلّوا من عمرتكم (وَالْهَدْيَ) قال الزّجّاج : أي : وصدّوا الهدي (مَعْكُوفاً) أي : محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ) أي : عن أن يبلغ (مَحِلَّهُ) قال المفسّرون : «محلّه» منحره ، وهو حيث يحلّ نحره (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) وهم المستضعفون بمكّة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي : لم تعرفوهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بالقتل. ومعنى الآية : لو لا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بالقتل ، وتوقعوا بهم ولا تعرفونهم ، (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) وفيها أربعة أقوال : أحدها : إثم ، قاله ابن زيد. والثاني : غرم الدّية ، قاله ابن إسحاق. والثالث : كفّارة قتل الخطأ ، قاله ابن السّائب. والرابع : عيب بقتل من هو على دينكم ، حكاه جماعة من المفسّرين. وفي الآية محذوف ، تقديره : لأدخلتكم من عامّكم هذا ؛ وإنّما حلت بينكم وبينهم (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي : في دينه (مَنْ يَشاءُ) من أهل مكّة ، وهم الذين أسلموا بعد الصّلح (لَوْ تَزَيَّلُوا) قال ابن عباس : لو تفرّقوا. وقال ابن قتيبة ، والزّجّاج : لو تميّزوا. قال المفسّرون : لو انماز المؤمنون من المشركين (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والسّبي بأيديكم. وقال قوم : لو تزيّل المؤمنون من أصلاب الكفّار لعذّبنا الكفّار. وقال بعضهم : قوله : «لعذّبنا» جواب لكلامين ، أحدهما : «لو لا رجال» ، والثاني : «لو تزيلوا» وقوله : (إِذْ جَعَلَ) من صلة قوله : (لَعَذَّبْنَا). والحميّة : الأنفة والجبريّة.

(١٢٩٨) قال المفسّرون : وإنما أخذتهم الحميّة حين أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخول مكّة ، فقالوا : يدخلون علينا ، وقد قتلوا أبناءنا وإخواننا فتتحدّث العرب بذلك! والله لا يكون ذلك ، (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلم يدخلهم ما دخل أولئك فيخالفوا الله في قتالهم.

(١٢٩٩) وقيل : الحميّة ما تداخل سهيل بن عمرو من الأنفة أن يكتب في كتاب الصّلح ذكر «الرّحمن الرّحيم» وذكر «رسول الله» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) فيه خمسة أقوال :

(١٣٠٠) أحدها : «لا إله إلّا الله» ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة

____________________________________

(١٢٩٨) عزاه المصنف للمفسرين. وذكره البغوي ٤ / ٢٠٤ وعزاه لمقاتل ، وهو متروك متهم.

(١٢٩٩) أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٤ / ١٣٤ عن عروة أثناء خبر مطول ، وهذا مرسل ومرسلات عروة جياد ، وأصله في الصحيح من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، وقد تقدم.

(١٣٠٠) المرفوع ضعيف ، والصحيح موقوف. أخرجه الترمذي ٣٢٦٥ والطبري ٣١٥٧٩ وعبد الله في «زوائد المسند» ٥ / ١٣٨ والطبراني في «الكبير» ٥٣٦ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٢٠٠ من طريق الحسن بن قزعة عن سفيان بن حبيب عن شعبة عن ثوير عن أبيه عن الطفيل عن أبيّ عن أبيه ، وإسناده ضعيف جدا ، ثوير بن أبي فاختة متروك الحديث بل قال الثوري : هو ركن من أركان الكذب. قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا ، إلا من حديث الحسن بن قزعة. قال الترمذي : وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث ، فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه اه.

تنبيه : وقد وهم الألباني في هذا الحديث حيث حكم بصحته في «صحيح الترمذي» ٢٦٠٣.

وأخرجه الطبراني في «الدعاء» ١٥٣٠ من حديث سلمة بن الأكوع ، وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف ، ليس بشيء. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٦ / ٨٠ من حديث أبي هريرة ، وابن مردويه يروي الموضوعات ، لا يحتج بما ينفرد ، وقد تفرد به عن أبي هريرة ، فهو لا شيء ، وقد ورد موقوفا عن غير واحد من الصحابة والتابعين ، وهو الصواب ، وقد وهم ثوير وموسى الربذي فروياه مرفوعا.


والضّحّاك والسّدّيّ وابن زيد في آخرين ، وقد روي مرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فعلى هذا يكون معنى : «ألزمهم» : حكم لهم بها ، وهي التي تنفي الشّرك.

والثاني : «لا إله إلا الله والله أكبر» ، قاله ابن عمر. وعن عليّ بن أبي طالب كالقولين.

والثالث : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير» ، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع : «لا إله إلّا الله محمّد رسول الله» ، قاله عطاء الخراساني. والخامس : «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، قاله الزّهري. فعلى هذا يكون المعنى أنه لمّا أبى المشركون أن يكتبوا هذا في كتاب الصّلح ، ألزمه الله المؤمنين (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) من المشركين (وَ) كانوا (أَهْلَها) في علم الله تعالى.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ).

(١٣٠١) قال المفسّرون. سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أري في المنام قبل خروجه إلى الحديبية قائلا يقول له : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) إلى قوله : (لا تَخافُونَ) ورأى كأنه هو وأصحابه يدخلون مكّة وقد حلقوا وقصّروا ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ، فلمّا خرجوا إلى الحديبية حسبوا أنهم يدخلون مكّة في عامهم ذلك ، فلمّا رجعوا ولم يدخلوا قال المنافقون : أين رؤياه التي رأى؟ فنزلت هذه الآية ، فدخلوا في العام المقبل.

وفي قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) ستة أقوال (١) : أحدها : أنّ «إن» بمعنى «إذ» ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة. والثاني : أنه استثناء من الله ، وقد علمه ، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون ، قاله ثعلب ؛ فعلى هذا يكون المعنى أنه علم أنهم سيدخلونه ، ولكن استثنى على ما أمر الخلق به من الاستثناء. والثالث : أن المعنى : لتدخلنّ المسجد الحرام إن أمركم الله به ، قال الزّجّاج. والرابع : أنّ الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم ، لأنه علم أنّ بعضهم يموت ، حكاه الماوردي. والخامس : أنه على وجه الحكاية. لما رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام أنّ قائلا يقول : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ، حكاه القاضي أبو يعلى. والسادس : أنه يعود إلى الأمن والخوف ، فأمّا الدّخول ، فلا شكّ فيه ، حكاه الثّعلبي.

قوله تعالى : (آمِنِينَ) من العدوّ (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) من الشّعر (لا تَخافُونَ) عدوّا.

____________________________________

(١٣٠١) غريب هكذا ، وقد نبه الحافظ على ذلك في تخريجه ٤ / ٣٤٥ وقد ورد منجما وبمعناه عند الطبري ٣١٦٠١ و ٣١٦٠٢ و ٣١٦٠٣ و ٣١٦٠٤ وعامة هذه الروايات مراسيل.

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٣٦ : هذا لتحقيق الخبر وتوكيده ، وليس هذا من الاستثناء في شيء. وقال الزمخشري في «الكشاف» ٤ / ٣٤٧ : قلت فيه وجوه : أن يعلق عدته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك ، متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته.


(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : علم أنّ الصّلاح في الصّلح. والثاني : أنّ في تأخير الدّخول صلاحا. والثالث : فعلم أن يفتح عليكم خيبر قبل ذلك.

قوله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) فيه قولان (١) : أحدهما : فتح خيبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وابن زيد ، ومقاتل. والثاني : صلح الحديبية ، قاله مجاهد والزّهري وابن إسحاق. وقد بيّنّا كيف كان فتحا في أوّل السّورة. وما بعد هذا مفسّر في براءة (٢) : إلى قوله (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وفيه قولان : أحدهما : أنه شهد على نفسه أنه يظهره على الدّين كلّه ، قاله الحسن. والثاني : كفى به شهيدا أنّ محمّدا رسوله ، قاله مقاتل.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) وقرأ الشّعبي ، وأبو رجاء ، وأبو المتوكّل ، والجحدري : «محمّدا رسول الله» بالنّصب فيهما. قال ابن عباس : شهد له بالرّسالة. قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني أصحابه ، والأشدّاء : جمع شديد. قال الزّجّاج : والأصل : أشدداء ، نحو نصيب وأنصباء ، ولكنّ الدّالين تحرّكتا ، فأدغمت الأولى في الثانية ، ومثله : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) (٣). قوله تعالى : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) الرّحماء جمع رحيم ، والمعنى أنهم يغلظون على الكفّار ، ويتوادّون بينهم (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) يصف كثرة صلاتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) وهو الجنّة (وَرِضْواناً) وهو رضى الله عنهم. وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور.

(١٣٠٢) وروى مبارك بن فضالة عن الحسن البصري أنه قال : «والذين معه» أبو بكر «أشداء على الكفار» عمر «رحماء بينهم» عثمان «تراهم ركّعا سجّدا» عليّ بن أبي طالب «يبتغون فضلا من الله ورضوانا» طلحة والزّبير وعبد الرّحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة.

قوله تعالى : (سِيماهُمْ) أي : علامتهم (فِي وُجُوهِهِمْ) ، وهل هذه العلامة في الدنيا ، أم في الآخرة؟ فيه قولان (٤) : أحدهما : في الدنيا. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها السّمت الحسن ، قاله ابن

__________________

(١٣٠٢) لا يصح هذا عن الحسن ، مبارك غير قوي ، والأثر من بدع التأويل.

__________________

(١) انظر كلام على أرجح الأقوال في المراد بالفتح في أول السورة.

(٢) التوبة : ٣٣.

(٣) المائدة : ٥٤.

(٤) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٣٧٢ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم في وجوههم من أثر السجود ، وذلك في كل الأوقات ، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام ، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته ، وآثار أداء فرائضه وتطوعه. وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون ، وذلك الغرة في الوجه ، والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء ، وبياض الوجوه من أثر السجود.


عباس في رواية ابن أبي طلحة ؛ وقال في رواية مجاهد : أما إنه ليس بالذي ترون ، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه ، وكذلك قال مجاهد : ليس بندب التّراب في الوجه ، ولكنه الخشوع والوقار والتّواضع. والثاني : أنه ندى الطّهور وثرى الأرض ، قاله سعيد بن جبير. وقال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب. وقال الأوزاعي : بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض. والثالث : أنه السّهوم ، فإذا سهم وجه الرجل من الليل أصبح مصفارّا. قال الحسن البصري : «سيماهم في وجوههم» : الصّفرة ؛ وقال سعيد بن جبير : أثر السّهر ؛ وقال شمر بن عطيّة : هو تهيّج في الوجه من سهر الليل.

والقول الثاني : أنها في الآخرة. ثم فيه قولان : أحدهما : أنّ مواضع السجود من وجوههم يكون أشدّ وجوههم بياضا يوم القيامة ، قاله عطيّة العوفيّ ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن ، والزّهري. وروى العوفيّ عن ابن عباس قال : صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة. والثاني : أنهم يبعثون غرّا محجّلين من أثر الطّهور ، ذكره الزّجّاج.

قوله تعالى : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ) أي : صفتهم ، والمعنى أنّ صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (فِي التَّوْراةِ) هذا. فأمّا قوله : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) ففيه ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنّ هذا المثل المذكور أنه في التّوراة هو مثلهم في الإنجيل. قال مجاهد : مثلهم في التّوراة والإنجيل واحد. والثاني : أنّ المتقدّم مثلهم في التّوراة. فأمّا مثلهم في الإنجيل فهو قوله : (كَزَرْعٍ) ، وهذا قول الضّحّاك وابن زيد. والثالث : أنّ مثلهم في التّوراة والإنجيل كزرع ، ذكر هذه الأقوال أبو سليمان الدّمشقي. قوله تعالى : (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : «شطأه» بفتح الطاء والهمزة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «شطأه» بسكون الطاء. وكلّهم يقرأ بهمزة مفتوحة. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو العالية ، وابن أبي عبلة : «شطاءه» بفتح الطاء وبالمدّ والهمزة وبألف. قال أبو عبيدة : أي : فراخه ، يقال : أشطأ الزّرع فهو مشطئ : إذا أفرخ (فَآزَرَهُ) أي : ساواه وصار مثل الأمّ. وقرأ ابن عامر : «فأزره» مقصورة الهمزة مثل فعله. وقال ابن قتيبة : آزره : أعانه وقوّاه (فَاسْتَغْلَظَ) أي : غلظ (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) وهي جمع «ساق» ، وهذا مثل ضربه الله عزوجل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ خرج وحده ، فأيّده بأصحابه ، كما قوّى الطّاقة من الزّرع بما نبت منها حتى كبرت وغلظت واستحكمت. وقرأ ابن كثير : «على سؤقه» مهموزة ، والباقون : بلا همزة. وقال قتادة : في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزّرع ، وفيمن أريد بهذا المثل قولان (٢) : أحدهما : أنّ أصل الزّرع : عبد المطّلب «أخرج شطأه» أخرج محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَآزَرَهُ) : بأبي بكر (فَاسْتَغْلَظَ) : بعمر (فَاسْتَوى) : بعثمان (عَلى سُوقِهِ) : عليّ بن أبي طالب ، رواه سعيد بن جبير عن

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٣٧٣ : الصواب قول من قال : مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل وأن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) وذلك لو كان القول : أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد ، لكان التنزيل ، ومثلهم في الإنجيل وكزرع أخرج شطأه ، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله : (كزرع) دليل بيّن على صحة ما قلنا.

(٢) لا يصح مثل هذا عن ابن عباس ولا عن سعيد بن جبير ، بل هو من بدع التأويل.


ابن عباس. والثاني : أنّ المراد بالزّرع : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أخرج شطأه» : أبو بكر «فآزره» : بعمر «فاستغلظ» : بعثمان «فاستوى على سوقه» : بعليّ (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) : يعني المؤمنين «ليغيظ بهم الكفّار» وهو قول عمر لأهل مكّة : لا يعبد الله سرّا بعد اليوم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، ومبارك عن الحسن. قوله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي : إنّما كثّرهم وقوّاهم ليغيظ بهم الكفّار ، وقال مالك بن أنس (١) : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن إدريس لا آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفّار ، يعني الرّافضة ، لأنّ الله تعالى يقول : «ليغيظ بهم الكفّار». قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) قال الزّجّاج : في «من» قولان : أحدهما : أن يكون تخليصا للجنس من غيره ، كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٢) ، ومثله أن تقول : أنفق من الدّراهم ، أي : اجعل نفقتك من هذا الجنس ، قال ابن الأنباري : معنى الآية : وعد الله الذين آمنوا من هذا الجنس ، أي : من جنس الصّحابة. والثاني : أن يكون هذا الوعد لمن أقام منهم على الإيمان والعمل الصّالح.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسير» ٤ / ٢٤١ : ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه‌الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية ، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ثم قال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) من هذه لبيان الجنس (مَغْفِرَةً) أي لذنوبهم ، (وَأَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما. ووعد الله حقّ وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مثواهم ، وقد فعل.

ـ وقال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٦ / ٢٥٤ : الصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله ، وهذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر. وهذا مردود ، فإن خيار الصحابة وفضلائهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم.

وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة. وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخبارهم لهم بذلك ، وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم ، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه.

(٢) الحج : ٣٠.


سورة الحجرات

وهي مدنيّة بإجماعهم

(١٣٠٣) روى ثوبان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله أعطاني السّبع الطّول مكان التّوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني مكان الزّبور المثاني ، وفضّلني ربّي بالمفصّل».

أمّا السّبع الطّول فقد ذكرناها «عند قوله» : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) (١). وأمّا المئون ، فقال ابن قتيبة : هي ما ولي الطّول ، وإنّما سمّيت بالمئين ، لأنّ كلّ سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها ، والمثاني : ما ولي المئين من السّور التي دون المائة ، كأنّ المئين مباد ، وهذه مثان. وأمّا المفصّل فهو ما يلي المثاني من قصار السّور ، وإنما سمّيت مفصّلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر : بسم الله الرّحمن الرّحيم. وقد ذكر الماوردي في أول «تفسيره» في المفصّل ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنه من أول سورة (محمّد) إلى آخر القرآن ، قاله الأكثرون. والثاني : من سورة (قاف) إلى آخره ، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة. والثالث : من (الضّحى) إلى آخره ، قاله ابن عباس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) في سبب نزولها أربعة أقوال :

(١٣٠٤) أحدها : أنّ ركبا من بني تميم قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن

____________________________________

(١٣٠٣) جيد. أخرجه الطيالسي ١٠٧٤ وأحمد ٤ / ١٠٧ والطبري ١٢٦ والطحاوي في «المشكل» ١٣٧٩ من حديث واثلة بن الأسقع ، وإسناده حسن. وله طرق وشواهد ذكرتها في «معالم التنزيل» للبغوي برقم (١١) والله الموفق.

(١٣٠٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٣٦٧ عن إبراهيم بن موسى به. وأخرجه أبو يعلى ٦٨١٦ من طريق هشام بن ـ

__________________

(١) الحجر : ٨٧.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٥٨ : سورة ق هي أول الحزب المفصّل على الصحيح ، وقيل : من الحجرات ، وأما ما يقوله العامة : إنه من (عمّ) ، فلا أصل له ، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم.


معبد ، وقال عمر : أمّر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلّا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) ، فما كان عمر يسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، رواه عبد الله بن الزّبير.

(١٣٠٥) والثاني : أنّ قوما ذبحوا قبل أن يصلّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النّحر ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعيدوا الذّبح ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن.

(١٣٠٦) والثالث : أنها نزلت في قوم كانوا يقولون : لو أنزل الله فيّ كذا وكذا! فكره الله ذلك ، وقدّم فيه ، قاله قتادة.

(١٣٠٧) والرابع : أنها نزلت في عمرو بن أميّة الضّمريّ ، وكان قد قتل رجلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن السّائب.

وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لا تقولوا خلاف الكتاب والسّنّة. وروى العوفيّ عنه قال : نهوا أن يتكلّموا بين يدي كلامه ، وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم. ومعنى الآية على جميع الأقوال (١) : لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول

____________________________________

يوسف به. وأخرجه البخاري ٤٨٤٧ والنسائي ٨ / ٢٢٦ وفي «التفسير» ٥٣٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٥٢ من طريق الحسن بن محمد عن حجاج بن محمد عن ابن جريج به. وأخرجه الترمذي ٣٢٦٢ والطبري ٣١٦٧٣ من طريق مؤمن بن إسماعيل عن نافع عن عمر بن جميل عن ابن أبي مليكه به. وقال الترمذي : هذا حديث غريب حسن ، وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة ـ مرسلا ، ولم يذكر عن عبد الله بن الزبير.

(١٣٠٥) ضعيف جدا. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٢٩٢٣ عن الحسن مرسلا ، وفيه انقطاع بين معمر والحسن ، ومع ذلك مراسيل الحسن واهية كما هو مقرر عند علماء هذا الفن. وأخرجه الطبري ٣١٦٦٠ و ٣١٦٦١ عن الحسن أيضا والصحيح في ذلك ما رواه البخاري وقد تقدم. فائدة : قال الزمخشري رحمه‌الله في «الكشاف» ٤ / ٣٥٣ : وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله ، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وقد تقدم الكلام عليه في سورة الحج.

(١٣٠٦) أخرجه الطبري ٣١٦٦١ عن قتادة مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.

(١٣٠٧) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ، وهو متروك متهم بالوضع. والقول الأول هو الراجح.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٤٢ : هذه آداب أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور. وقال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٤٤ : إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح ، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه ، كالصلاة والصوم والحج ، وذلك بين ، إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة لما كانت عبادة مالية ، وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم ، وهو سد خلّة الفقير ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعجل من العباس صدقة عامين ، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقها يوم الوجوب ، وهو يوم الفطر ، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها. وقال أبو حنيفة والشافعي : يجوز تقديمها لعام ولاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها ، وإن جاء رأس الحول وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب : لا يجوز تقديمها على الحول لحظة ، كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام ، فوفّاها


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يفعل. قال ابن قتيبة : يقال فلان يقدّم بين يدي الإمام وبين يدي أبيه ، أي : يعجّل بالأمر والنّهي دونه. فأمّا «تقدّموا» فقرأ ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وأبو رزين ، وعائشة ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وعكرمة ، والضّحّاك وابن سيرين ، وقتادة ، وابن يعمر ، ويعقوب : بفتح التاء والدال ؛ وقرأ الباقون : بضمّ التاء وكسر الدال. قال الفرّاء : كلاهما صواب ، يقال : قدّمت ، وتقدّمت ؛ وقال الزّجّاج : كلاهما واحد ؛ فأمّا «بين يدي الله ورسوله» فهو عبارة عن الأمام ، لأنّ ما بين يدي الإنسان أمامه ؛ فالمعنى : لا تقدّموا قدّام الأمير.

قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) في سبب نزولها قولان :

(١٣٠٨) أحدهما : أنّ أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفا في حديث ابن الزّبير ، وهذا قول ابن أبي مليكة.

(١٣٠٩) والثاني : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس ، وكان جهوريّ الصّوت ، فربما كان إذا تكلّم تأذّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصوته. قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) فيه قولان. أحدهما : أن الجهر بالصّوت في المخاطبة ، قاله الأكثرون. والثاني : لا تدعوه باسمه يا محمد كما يدعو بعضكم بعضا ولكن قولوا : يا رسول الله ، ويا نبيّ الله ، وهو معنى قول سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل. قوله تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) قال ابن قتيبة : لئلا تحبط. وقال الأخفش : مخافة أن تحبط ، قال أبو سليمان الدمشقي : وقد قيل معنى الإحباط هاهنا : نقص المنزلة ، لا إسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر. قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ).

(١٣١٠) قال ابن عباس : لمّا نزل قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) تألّى أبو بكر أن لا يكلّم رسول

____________________________________

(١٣٠٨) انظر الحديث المتقدم ١٣٠٤.

(١٣٠٩) غريب. قال الحافظ في «تخريجه» ٤ / ٣٥٣ : لم أجده اه. قلت : ويغني عنه حديث أنس. أخرجه البخاري ٣٦١٣ و ٤٨٤٦ ومسلم ١٨٨ والنسائي في «التفسير» ٥٣٣ والواحدي في «أسبابه» ٧٥٣ والبغوي في «التفسير» ٤ / ٨٩. وله شواهد كثيرة راجع الطبري ٣١٦٦٩ ـ ٣١٦٧٩ ـ ٣١٧١. ولفظ البخاري في الرواية الأولى عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتقد ثابت بن قيس ، فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه.

فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه ، فقال : «ما شأنك» فقال : شر ، كان يرفع صوته فوق صوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى بن أنس فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة ، فقال : اذهب إليه فقل له : «إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة».

(١٣١٠) ذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٥٥ بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه البزار ٢٢٥٧ «كشف» وابن عدي ٢ / ٣٩٦ والحاكم ٣ / ٧٤ من حديث أبي بكر ، وإسناده ضعيف لضعف حصين بن عمر الأحمسي ، فإنه

__________________

حقّها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز ، لأنه معفو عنه في الشرع ، بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير ، فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر والشهر كالسنة ، فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي ، وإما حفظ العبادة وقصرها على ميقاتها كما قال أشهب وغيره ، وذلك يقوى في النظر ، والله أعلم.


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا كأخي السّرار ، فأنزل الله في أبي بكر : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ).

والغضّ : النّقص كما بيّنّا عند قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا) (١). (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) قال ابن عباس : أخلصها (لِلتَّقْوى) من المعصية. وقال الزّجّاج : اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين ، كما تقول : قد امتحنت هذا الذّهب والفضّة ، أي : اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا ، فعلمت حقيقة كلّ واحد منهما. وقال ابن جرير : اختبرها بامتحانه إيّاها ، فاصطفاها وأخلصها للتّقوى.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٣١١) أحدها : أنّ بني تميم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنادوا على الباب : يا محمّد اخرج إلينا ، فإنّ مدحنا زين وإنّ ذمّنا شين ، فخرج وهو يقول : «إنما ذلكم الله» فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال : «ما بالشّعر بعثت ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا» ، فقال الزّبرقان بن بدر لشابّ منهم : قم فاذكر فضلك وفضل قومك ، فقام فذكر ذلك ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت بن قيس ، فأجابه ، وقام شاعرهم ، فأجابه حسّان ، فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلّم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلّم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر ، ثم دنا فأسلم ، فأعطاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكساهم ، وارتفعت الأصوات وكثر اللّغط عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين.

(١٣١٢) وقال ابن إسحاق : نزلت في جفاة بني تميم ، وكان فيهم الأقرع بن حابس ، وعيينة بن

____________________________________

متروك ، وبه أعله ابن عدي ، وأما الحاكم فقد صححه! وتعقبه الذهبي فقال : حصين بن عمر واه.

وورد من حديث أبي هريرة ، أخرجه الحاكم ٢ / ٤٦٢ وقال : على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وقد ذهب ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٤٢ إلى أن هذا الحديث يتأيد بشواهده والله أعلم.

(١٣١١) أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٧٥٩ من حديث جابر مطوّلا وفيه معلى بن عبد الرحمن ضعيف.

وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في «الطبقات ١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥ من طريق الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري ، وعن عبد الله بن يزيد عن سعيد بن عمرو مرسلا بنحوه ، والواقدي متروك. وأخرجه ابن إسحاق وابن مردويه كما في «الدر» ٦ / ٩٠ من حديث ابن عباس بنحوه. وصدر الحديث ورد مسندا عند الترمذي ٣٢٦٧ والنسائي في «التفسير» ٥٣٥ والطبري ٣١٦٧٦ من طريق الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء :

«(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) فقال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن حمدي زين ، وإن ذمي شين فقال : ذاك الله تبارك وتعالى». قال الترمذي : حديث حسن غريب. وقال ابن كثير في «السيرة» بعد أن ذكر هذا الحديث ٤ / ٨٦ : وهذا إسناد جيد متصل. وله شاهد من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس. أخرجه أحمد ٣ / ٤٨٨ و ٦ / ٣٩٣ و ٣٩٤ والطبري ٣١٦٧٩ والطبراني ٨٧٨. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٠٨ : وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح ، إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع ، وإلا فهو مرسل. وأخرجه الطبري ٣١٦٨١ عن قتادة مرسلا و ٣١٦٨٤ عن الحسن مرسلا.

(١٣١٢) عزاه المصنف لابن إسحاق ، وهذا معضل انظر «الدرّ» ٦ / ٩٠.

__________________

(١) النور : ٣٠.


حصن ، والزّبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم المنقري ، وخالد بن مالك ، وسويد بن هشام ، وهما نهشليّان ، والقعقاع بن معبد ، وعطاء ابن حابس ، ووكيع بن وكيع.

(١٣١٣) والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سريّة إلى بني العنبر ، وأمّر عليهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلمّا علموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة ، فجاء رجالهم يفدون الذّراري ، فقدموا وقت الظّهيرة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائل ، فجعلوا ينادون : يا محمّد اخرج إلينا ، حتى أيقظوه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(١٣١٤) والثالث : أنّ ناسا من العرب قال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيّا نكن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعش في جناحه ، فجاؤوا ، فجعلوا ينادون : يا محمّد ، يا محمّد ، فنزلت هذه الآية ، قاله زيد بن أرقم.

فأمّا «الحجرات» فقرأ أبيّ بن كعب ، وعائشة ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، ومجاهد وأبو العالية ، وابن يعمر ، وأبو جعفر ، وشيبة : بفتح الجيم ؛ وأسكنها أبو رزين ، وسعيد بن المسيّب ، وابن أبي عبلة ؛ وضمّها الباقون. قال الفرّاء : وجه الكلام أن تضمّ الحاء والجيم ، وبعض العرب يقول : الحجرات والرّكبات ، وربما خفّفوا فقالوا : «الحجرات» والتخفيف في تميم ، والتثقيل في أهل الحجاز. وقال ابن قتيبة : وأحد الحجرات حجرة ، مثل ظلمة وظلمات ، قال المفسّرون : وإنما نادوا من وراء الحجرات ، لأنهم لم يعلموا في أيّ الحجر رسول الله.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) قال الزّجّاج : أي : لكان الصّبر خيرا لهم ، وفي وجه كونه خيرا لهم قولان : أحدهما : لكان خيرا لهم فيما قدموا له من فداء ذراريهم ، فلو صبروا خلّى سبيلهم بغير فداء ، قاله مقاتل. والثاني : لكان أحسن لآدابهم في طاعة الله ورسوله ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : لمن تاب منهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

____________________________________

(١٣١٣) غريب : لم أقف عليه بهذا السياق. وهذا الخبر قد ورد في السّير. فقد أخرجه الواقدي في «المغازي» ص ٩٧٣ ـ ٩٧٩ عن سعيد بن عمرو ، والزهري مطولا. والواقدي متروك. وانظر «دلائل النبوة» للبيهقي ٥ / ٣١٣ ـ ٣١٥ و«سيرة ابن هشام» ٤ / ٢٠٣ و«سيرة ابن كثير» ٤ / ٧٩ ـ ٨٥.

(١٣١٤) أخرجه الطبري ٣١٦٧٨ من طريق داود الطفاوي عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم به ، وإسناده ضعيف ، أبو مسلم مجهول ، وداود ضعفه ابن معين ، ووثقه ابن حبان ، ومع ذلك يشهد له حديث جابر.

الخلاصة : أكثر هذه الروايات يذكر فيها الأقرع بن حابس ، والظاهر أنه قدم معه وفد فتارة يذكر الرواة الوفد ، وتارة يذكرون الأقرع ويسمونه لأنه أمير الوفد من بني تميم ، فالحديث أصله محفوظ ، وقد جوّد ابن كثير أحد طرقه كما تقدم ، وتقدم أيضا أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات ، والظاهر تعدد الأسباب ، والله أعلم.


قوله عزوجل : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

(١٣١٥) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم ، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهليّة ، فلما سمع به القوم تلقّوه تعظيما لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إنه رجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنّ بني المصطلق قد منعوا الصّدقة وأرادوا قتلي ، فصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البعث إليهم ، فنزلت هذه الآية.

وقد ذكرت القصد في كتاب «المغني» وفي «الحدائق» مستوفاة ، وذكرت معنى «فتبيّنوا» في سورة النّساء (١) ، والنّبأ : الخبر ، و«أن» بمعنى «لئلّا» ، والجهالة هاهنا : أن يجهل حال القوم ، (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) من أصابتهم بالخطإ (نادِمِينَ). ثم خوّفهم فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي إن كذبتموه أخبره الله فافتضحتم ، ثم قال : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي ممّا تخبرونه فيه بالباطل (لَعَنِتُّمْ) أي لوقعتم في عنت. قال ابن قتيبة : وهو الضّرر والفساد. وقال غيره : هو الإثم والهلاك. وذلك أنّ المسلمين لمّا سمعوا أنّ أولئك القوم قد كفروا قالوا :

(١٣١٦) ابعث إليهم يا رسول الله واغزهم واقتلهم.

ثم خاطب المؤمنين فقال : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) إلى قوله : (وَالْعِصْيانَ) ، ثم عاد إلى الخبر عنهم فقال : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي : المهتدون إلى محاسن الأمور ، (فَضْلاً مِنَ اللهِ) قال الزّجّاج : المعنى : ففعل بكم ذلك فضلا ، أي : للفضل والنّعمة.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

____________________________________

(١٣١٥) جيد. أخرجه أحمد ٤ / ٢٧٩ والطبراني في «الكبير» ٣٣٩٥ والواحدي في «أسباب النزول» من حديث الحارث بن ضرار. قال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١١٣٥٢ : رجال أحمد ثقات. وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٠٩ هذا الحديث أحسن ما روي في هذه القصة اه. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٣٨٠٩ من حديث جابر ، وإسناده ضعيف ، لضعف عبد الله بن عبد القدوس وبه أعله الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١١٣٥٥.

وورد من حديث علقمة بن ناجية : أخرجه الطبراني ١٧ / ٦ ـ ٨ وإسناده ضعيف ، لضعف يعقوب بن كاسب ، لكن توبع كما ذكر الهيثمي في «المجمع» ١١٣٥٤. وورد من حديث أم سلمة : أخرجه الطبراني في «الكبير» ٢٣ / ٤٠١ وقال الهيثمي ١١٣٥٧ : فيه موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري ٣١٦٨٨. وورد من مرسل يزيد بن رومان : أخرجه الطبري ٣١٦٩٢. وورد من مرسل ابن أبي ليلى. أخرجه الطبري ٣١٦٩٠ و ٣١٦٩١. فالحديث بهذه الشواهد الموصولة والمرسلة يتقوى ويرقى إلى درجة الحسن الصحيح والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «أحكام القرآن» لابن العربي ١٩٨٦ و«تفسير القرطبي» ٥٥٦١ بتخريجنا ولله الحمد والمنة.

(١٣١٦) لم أجده بهذا اللفظ. وأخرجه الطبري ٣١٦٩٢ عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان بنحوه.

__________________

(١) النساء : ٩٤.


قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ ...) الآية ، في سبب نزولها قولان :

(١٣١٧) أحدهما : ما روى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أنس بن مالك قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبيّ ، فركب حمارا وانطلق معه المسلمون يمشون ، فلمّا أتاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إليك عني ، فو الله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه ، وغضب لكلّ واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزلت فيهم «وإن طائفتان ...» الآية.

(١٣١٨) وقد أخرجا جميعا من حديث أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يعود سعد بن عبادة ، فمرّ بمجلس فيهم عبد الله بن أبيّ ، وعبد الله بن رواحة ، فخمّر ابن أبيّ وجهه بردائه ، وقال : لا تغبّروا علينا ، فذكر الحديث ، وأنّ المسلمين والمشركين واليهود استبّوا. وقد ذكرت الحديث بطوله في «المغني» و«الحدائق».

(١٣١٩) وقال مقاتل : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأنصار وهو على حمار له ، فبال الحمار ، فقال عبد الله بن أبيّ : أفّ ، وأمسك على أنفه ، فقال عبد الله بن رواحة : والله لهو أطيب ريحا منك ، فكان بين قوم ابن أبيّ وابن رواحة ضرب بالنّعال والأيدي والسّعف ، ونزلت هذه الآية.

(١٣٢٠) والقول الثاني : أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حقّ بينهما ، فقال أحدهما : لآخذنّ حقي عنوة ، وذلك لكثرة عشيرته ، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنّعال ، قاله قتادة.

وقال مجاهد : المراد بالطّائفتين : الأوس والخزرج ؛ اقتتلوا بالعصي بينهم. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : «اقتتلا» على فعل اثنين مذكّرين. وقرأ أبو المتوكّل النّاجي ، وأبو الجون ، وابن أبي عبلة : «اقتتلتا» بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنّثتين. وقال الحسن وقتادة والسّدّي (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (١) بالدعاء إلى حكم كتاب الله عزوجل والرضى بما فيه لهما وعليهما (فَإِنْ

____________________________________

(١٣١٧) صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٩١ عن مسدد ثنا معمر قال سمعت أبي يقول ، وأخرجه مسلم ١٧٩٩ وأحمد ٣ / ١٥٧ و ٢١٩ وأبو يعلى ٤٠٨٣ والطبري ٣١٦٩٩ والبيهقي ٨ / ١٧٢ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٦١ و«الوسيط» ٤ / ١٥٣ من طرق عن المعتمر بن سليمان به. فالحديث صحيح ، ولكن ذكر نزول الآية الظاهر أنه من كلام سليمان ، وأنه مدرج في الحديث ، والله أعلم.

(١٣١٨) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٦٦ و ٥٦٦٣ و ٦٢٥٤ ومسلم ١٧٩٨ وأحمد ٥ / ٢٠٣ وابن حبان ٦٥٨١ من حديث أسامة بن زيد ، وهو حديث مطول.

(١٣١٩) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو واه ، لكن ورد أيضا عن الزهري ، أخرجه الطبري ٣١٧١٠ مع اختلاف يسير فيه ولأصله شواهد ، لكن ذكر نزول الآية لا يصح.

(١٣٢٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٣١٧٠٧ و ٣١٧٠٨ عن قتادة مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٤٩ : هذه الآية هي الأصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين وعليها عول الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة. ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وقوله تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أمر الله تعالى بالقتال ، وهو فرض على الكفاية وإنّ الله سبحانه أمر بالصلح قبل القتال ، وعين القتال عند


بَغَتْ إِحْداهُما) طلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصّلح (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) أي إلى طاعته في الصّلح الذي أمر به. قوله تعالى : (وَأَقْسِطُوا) أي : أعدلوا في الإصلاح بينهما.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) قال الزّجّاج : إذا كانوا متّفقين في دينهم رجعوا باتّفاقهم إلى أصل النّسب ، لأنهم لآدم وحوّاء ، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النّسب.

قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) قرأ الأكثرون : «بين أخويكم» بياء على التثنية. وقرأ أبيّ بن كعب ، ومعاوية ، وسعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، وقتادة ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : «بين إخوتكم» بتاء مع كسر الهمزة على الجمع. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ ، والحسن ، والشّعبي ، وابن سيرين : «بين إخوانكم» بالنون وألف قبلها. قال قتادة : ويعني بذلك الأوس والخزرج.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب ؛ فأمّا أوّلها إلى قوله تعالى : (خَيْراً مِنْهُمْ) فنزلت على سبب ، وفيه قولان :

(١٣٢١) أحدهما : أنّ ثابت بن قيس بن شمّاس جاء يوما يريد الدّنوّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان به صمم ، فقال لرجل بين يديه : افسح ، فقال له الرجل : قد أصبت مجلسا ، فجلس مغضبا ، ثم قال للرجل : من أنت؟ قال : أنا فلان ، فقال ثابت : أنت ابن فلانة!! فذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية ، فأغضى الرجل ونكس رأسه ، ونزل قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

(١٣٢٢) والثاني : أنّ وفد تميم استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضّحّاك ومقاتل.

وأمّا قوله تعالى : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) فنزلت على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال :

____________________________________

(١٣٢١) لا أصل له ، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٢ بدون إسناد. وقال الحافظ في «الكشاف» ٤ / ٣٧٠ ذكره الثعلبي ومن تبعه عن ابن عباس بدون إسناد. وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس.

(١٣٢٢) عزاه المصنف للضحاك ومقاتل ، أما الضحاك فقد روى مناكير كثيرة ، وأما مقاتل ، فهو ممن يضع الحديث ، فهذا الخبر لا شيء.

__________________

البغي وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه البغاة والمرتدين ، فأما البغاة فهم الذين منعوا الزكاة بتأويل ظنا منهم أنها سقطت بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي قتال المسلمين للفئة الباغية قال : ولا يقتل أسيرهم ، ولا يتبع منهزمهم ، لأن المقصود دفعهم لا قتلهم.


(١٣٢٣) أحدها : أنّ نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيّرن أمّ سلمة بالقصر ، فنزلت هذه الآية ، قاله أنس بن مالك. وزعم مقاتل أنّ عائشة استهزأت من قصر أمّ سلمة.

(١٣٢٤) والثاني : أنّ امرأتين من أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سخرتا من أمّ سلمة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت أمّ سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حقوها ، وأرخت الطّرف الآخر خلفها ، ولا تعلم ، فقالت إحداهما للأخرى : انظري ما خلف أمّ سلمة كأنه لسان كلب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

(١٣٢٥) والثالث : أنّ صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنّ النساء يعيّرنني ويقلن : يا يهوديّة بنت يهوديّين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلّا قلت : إنّ أبي هارون ، وإنّ عمّي موسى ، وإنّ زوجي محمّد» ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

وأما قوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) فنزلت على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال :

(١٣٢٦) أحدها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة ولهم ألقاب يدعون بها ، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقبه ، فقيل له : يا رسول الله ، إنهم يكرهون هذا ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ، قاله أبو جبيرة بن الضّحّاك.

(١٣٢٧) والثاني : أنّ أبا ذرّ كان بينه وبين رجل منازعة ، فقال له الرجل : يا ابن اليهوديّة ، فنزلت : «ولا تنابزوا بالألقاب» ، قاله الحسن.

____________________________________

(١٣٢٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٣ م عن أنس بدون إسناد ، فهو لا شيء. وقول مقاتل واه فهو يضع الحديث.

(١٣٢٤) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وقد رويا عن ابن عباس تفسير موضوعا. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٦٣ بدون إسناد ، ومن غير عزو لقائل ، وذلك دليل أنه من رواية الكلبي ، والأئمة ينأون عن ذكره ، فإن وجد في إسناد أسقطوا الإسناد.

(١٣٢٥) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٤ عن عكرمة عن ابن عباس به معلقا بدون إسناد ، وأخرج الترمذي ٣٨٩٤ وابن حبان ٧٢١١ وعبد الرزاق في «المصنف» ٢٠٩٢١ وأحمد ٦ / ١٣٥ ـ ١٣٦ عن أنس قال : «بلغ صفية أن حفصة قالت لها : ابنة يهودي ، فدخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تبكي ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما يبكيك؟ قالت : قالت لي حفصة. إني بنت يهودي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لابنة نبي ، وإن عمك لنبي ، وإنك لتحت نبي فبم تفخر عليك ، ثم قال : اتق الله يا حفصة. وإسناده على شرط الشيخين ، لكن ليس فيه ذكر نزول الآية كما ترى. فهذا الذي صح في شأن صفية ، وذكر نزول الآية لا يصح.

(١٣٢٦) جيد. أخرجه أبو داود ٤٩٦٢ والترمذي ٣٢٦٨ والنسائي في «التفسير» ٥٣٦ وابن ماجة ٣٧٤١ وأحمد ٤ / ٢٦٠ والبخاري في «الأدب المفرد» ٣٣٠ والحاكم ٢ / ٤٦٣ و ٤ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ والطبري ٣١٧١٧ و ٣١٧١٨ و ٣١٧١٩ و ٣١٧٢٠ من حديث أبي جبيرة بن الضحاك ، ورجاله رجال مسلم ، لكن اختلف في صحبة أبي جبيرة وصححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وأخرجه أحمد ٤ / ٦٩ و ٥ / ٣٨٠ بإسناد جيد عن أبي جبيرة عن عمومة له ، وهذا موصول قوي الإسناد. وانظر «فتح القدير» ٢٣٢٠ و«أحكام القرآن» ١٩٩٩ بتخريجنا.

(١٣٢٧) عزاه المصنف للحسن ، ولم أقف عليه ، وهو مرسل ، ومراسيل الحسن واهية. وورد بنحوه دون ذكر نزول الآية. أخرجه أحمد ٥ / ١٥٨ عن أبي ذر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى». قال الهيثمي في «المجمع» ٨ / ٨٣ : رجاله ثقات إلا أن بكر بن عبد الله المزني لم يسمع من


(١٣٢٨) والثالث : أنّ كعب بن مالك الأنصاريّ كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ كلام ، فقال له : يا أعرابيّ ، فقال له عبد الله : يا يهوديّ ، فنزلت فيهما : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ، قاله مقاتل.

وأمّا التّفسير ، فقوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي : لا يستهزئ غنيّ بفقير ، ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر عليه ، ولا ذو حسب بلئيم الحسب ، وأشباه ذلك ممّا يتنقّصه به ، عسى أن يكون عند الله خيرا منه. وقد بيّنّا في البقرة (١) أنّ القوم اسم الرّجال دون النّساء ، ولذلك قال : «ولا نساء من نساء» و«تلمزوا» بمعنى تعيبوا ، وقد سبق بيانه (٢). والمراد بالأنفس هاهنا : الإخوان. والمعنى : لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم. والتّنابز : التّفاعل من النّبز ، وهو مصدر ، والنّبز الاسم. والألقاب جمع لقب ، وهو اسم يدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمي به. قال ابن قتيبة : «ولا تنابزوا بالألقاب» أي لا تتداعوا بها. والألقاب والأنباز واحد.

(١٣٢٩) ومنه الحديث : «نبزهم الرافضة» أي : لقبهم.

وللمفسّرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال (٣) : أحدها : تعيير التّائب بسيّئات قد كان عملها ، رواه عطيّة العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإسلام ، كقوله لليهوديّ إذا أسلم : يا يهوديّ ، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء الخراساني ، والقرظي. والثالث : أنه قول الرجل للرجل : يا كافر ، يا منافق ، قاله عكرمة. والرابع : أنه تسميته بالأعمال السّيئة ، كقوله : يا زاني ؛ يا سارق ، يا فاسق ، قاله ابن زيد. قال أهل العلم : والمراد بهذه الألقاب : ما يكرهه المنادى به ، أو يعدّ ذمّا له. فأمّا الألقاب التي تكسب حمدا وتكون صدقا ، فلا تكره ، كما قيل لأبي بكر : عتيق ، ولعمر : فاروق ، ولعثمان : ذو النّورين ، ولعليّ : أبو تراب : ولخالد :

____________________________________

أبي ذر. فالإسناد ضعيف. وذكر نزول الآية لم أره أصلا ، وكذا قوله : «يا ابن اليهودية». والذي صح في هذا الباب هو ما أخرجه البخاري ٦٠٥٠ ومسلم ١٦٦١ وأبو داود ١٥٧ والترمذي ١٩٤٥ من حديث أبي ذر «... كان بيني وبين رجل كلام ، وكانت أمه أعجمية فنلت منها ، فذكرني إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لي : أساببت فلانا؟ قلت : نعم ، قال : أفنلت من أمه؟ قلت : نعم ، قال : إنك امرؤ فيك جاهلية». وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٠٠ بتخريجنا.

(١٣٢٨) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية ، كذبة غير واحدة فهذا خبر ليس له أصل.

وأصح هذه الأقوال هو الحديث ١٣٢٦.

(١٣٢٩) باطل. أخرجه البغوي في «معالم التنزيل» ١٩٨٨ من حديث علي ، وإسناده ساقط ، فيه فضيل بن مرزوق ضعيف ، ومن فوقه مجاهيل. وله شاهد من حديث ابن عباس ، أخرجه ابن عدي ٥ / ١٥٣ وأعله بعمر بن المخرم ، وقال : يروي عن ابن عيينة وغيره البواطيل.

__________________

(١) البقرة : ٥٤.

(٢) التوبة : ٥٨.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٣٩٢ : والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهي المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب ، والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعمّ الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض ، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها.


سيف الله ، ونحو ذلك. وقوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) أي : تسميته فاسقا أو كافرا وقد آمن ، (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) من التّنابز (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وفيه قولان : أحدهما : الضّارّون لأنفسهم بمعصيتهم ، قاله ابن عباس. والثاني : هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك ، قاله ابن زيد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) قال ابن عباس : نهى الله تعالى المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا. وقال سعيد بن جبير : هو الرجل يسمع من أخيه كلاما لا يريد به سوءا ، أو يدخل مدخلا لا يريد به سوءا ، فيراه أخوه المسلم فيظنّ به سوءا. وقال الزّجّاج : هو أن يظنّ بأهل الخير سوءا. فأمّا أهل السوء والفسق ، فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر منهم. قال القاضي أبو يعلى : هذه الآية تدلّ على أنه لم ينه عن جميع الظّنّ ؛ والظّنّ على أربعة أضرب. محظور ، ومأمور به ، ومباح ، ومندوب إليه ، فأمّا المحظور ، فهو سوء الظّنّ بالله تعالى ، والواجب : حسن الظّنّ بالله ، وكذلك سوء الظّنّ بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور ، وأمّا الظّنّ المأمور به ، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إلى العلم به ، وقد تعبدنا بتنفيذ الحكم فيه ، والاقتصار على غالب الظّنّ ، وإجراء الحكم عليه واجب ، وذلك نحو ما تعبدنا به من قبول شهادة العدول ، وتحرّي القبلة ، وتقويم المستهلكات ، وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف ، فهذا وما كان من نظائره قد تعبّدنا فيه بأحكام غالب الظّنون. فأمّا الظّنّ المباح ، فكالشّاك في الصلاة إذا كان إماما ، أمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتّحري والعمل على ما يغلب في ظنّه ، وإن فعله كان مباحا ، وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزا.

(١٣٣٠) وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا ظننتم فلا تحقّقوا» ، وهذا من الظّنّ الذي يعرض في قلب الإنسان في أخيه فيما يوجب الريبة ، فلا ينبغي له أن يحقّقه.

وأمّا الظّنّ المندوب إليه ، فهو إحسان الظّنّ بالأخ المسلم يندب إليه ويثاب عليه.

(١٣٣١) فأمّا ما روي في الحديث : «احترسوا من الناس بسوء الظّنّ» ، فالمراد : الاحتراس بحفظ المال ، مثل أن يقول : إن تركت بابي مفتوحا خشيت السّرّاق.

قوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) قال المفسّرون : هو ما تكلّم به ممّا ظنّه من السّوء بأخيه المسلم ، فإن لم يتكلّم به فلا بأس ، وذهب بعضهم إلى أنه يأثم بنفس ذلك الظّن وإن لم ينطق به. قوله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) وقرأ أبو رزين والحسن والضّحّاك وابن سيرين وأبو رجاء وابن يعمر : بالحاء. قال أبو عبيدة : التجسس والتّحسس واحد ، وهو التّبحّث ، ومنه الجاسوس. وروي عن يحيى بن أبي

____________________________________

(١٣٣٠) لم أره من حديث أبي هريرة. وورد من حديث حارثة بن النعمان ، أخرجه الطبراني ٣٢٢٧ وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري ، وهو ضعيف ، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» ٨ / ٧٧. وورد من مرسل إسماعيل بن أمية ، أخرجه عبد الرزاق ١٩٥٠٤ فهو شاهد له.

(١٣٣١) ضعيف جدا ، أخرجه تمام في «فوائده» ١١٦٧ من حديث أنس ، وفيه أبان بن أبي عياش متروك ، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٠٢ من وجه آخر ، وفيه معاوية الصدفي واه.


كثير أنه قال : التّجسس ، بالجيم : البحث عن عورات النّاس ، وبالحاء : الاستماع لحديث القوم. قال المفسّرون : التّجسس : البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم ؛ فالمعنى : لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطّلع عليه إذ ستره الله. وقيل لابن مسعود : هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا ، فقال : إنّا نهينا عن التّجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به.

قوله تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي : لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوؤه.

(١٣٣٢) وقد روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل ما الغيبة؟ قال : «ذكرك أخاك بما يكره. قال : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : «إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فقد بهتّه».

ثم ضرب الله للغيبة مثلا ، فقال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) وقرأ نافع «ميّتا» بالتشديد. قال الزّجّاج : وبيانه أنّ ذكرك بسوء من لم يحضر ، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحسّ بذلك. قال القاضي أبو يعلى : وهذا تأكيد لتحريم الغيبة ، لأنّ أكل لحم المسلم محظور ، ولأنّ النّفوس تعافه من طريق الطّبع ، فينبغي أن تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة.

قوله تعالى : (فَكَرِهْتُمُوهُ) وقرأ الضّحّاك ، وعاصم الجحدري : «فكرّهتموه» برفع الكاف وتشديد الراء. قال الفرّاء : أي وقد كرهتموه فلا تفعلوه ، ومن قرأ «فكرّهتموه» أي : فقد بغّض إليكم ، والمعنى واحد. قال الزّجّاج : والمعنى : كما تكرهون أكل لحمه ميتا فكذلك تجنّبوا ذكره بالسّوء غائبا. قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في الغيبة (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ) على من تاب (رَحِيمٌ) به.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٣٣٣) أحدها : نزلت في ثابت بن قيس وقوله في الرجل الذي لم يفسح له : أنت ابن فلانة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ).

(١٣٣٤) والثاني : أنه لمّا كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن ،

____________________________________

(١٣٣٢) صحيح. أخرجه مسلم ٢٥٨٩ عن يحيى بن أيوب ، وقتيبة ، وعلي بن حجر عن إسماعيل بن العلاء به.

وأخرجه البغوي في «شرح السنة» ٣٤٥٤ عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه ابن حبان ٥٧٥٩ والبيهقي ١٠ / ٢٤٧ وفي «الآداب» ١٥٤ من طريق إسماعيل بن جعفر به.

وأخرجه أبو داود ٤٨٧٤ والترمذي ١٩٣٤ وأحمد ٢ / ٣٢٠ و ٣٨٤ و ٤٥٨ والدارمي ٢ / ٢٩٧ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ١٥٦ والأصبهاني في «الترغيب» ٢٢٢٩. وابن حبان ٥٧٥٨ من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن به. وقال الترمذي : حسن صحيح.

(١٣٣٣) لم أقف له على إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٥ عن ابن عباس بدون إسناد ، والظاهر أنه من رواية الكلبي الكذاب ، وتقدم أن الذي صح في ثابت هو حديث أنس المتفق عليه ، انظر تخريج الحديث ١٣٠٩.

(١٣٣٤) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية ، يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٥ م عن مقاتل بدون إسناد.


وأراد أن يذلّ المشركين بذلك ، فلمّا أذّن ، قال عتّاب بن أسيد : الحمد لله الذي قبض أسيدا قبل اليوم ، وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟! وقال سهيل بن عمرو : إن يكره الله شيئا يغيّره ، وقال أبو سفيان : أمّا أنا فلا أقول شيئا ، فإنّي إن قلت شيئا لتشهدنّ عليّ السماء ، ولتخبرنّ عنّي الأرض ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

(١٣٣٥) والثالث : أنّ عبدا أسود مرض فعاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قبض فتولّى غسله وتكفينه ودفنه ، فأثّر ذلك عند الصحابة ، فنزلت هذه الآية ، قاله يزيد بن شجرة.

فأمّا المراد بالذّكر والأنثى ، فآدم وحوّاء. والمعنى : إنكم تتساوون في النّسب ؛ وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب. فأمّا الشّعوب ، فهي جمع شعب. وهو الحيّ العظيم ، مثل مضر وربيعة ، والقبائل دونها ، كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر ، هذا قول الجمهور من المفسّرين وأهل اللغة. وروى عطاء عن ابن عباس قال : يريد بالشعوب الموالي ، وبالقبائل العرب. وقال أبو رزين : الشعوب : أهل الجبال الذين لا يعتزون لأحد ، والقبائل : قبائل العرب. وقال أبو سليمان الدّمشقي : وقد قيل إنّ القبائل هي الأصول ، والشّعوب هي البطون التي تتشعّب منها ، وهذا ضدّ القول الأول.

قوله تعالى : (لِتَعارَفُوا) أي : ليعرف بعضكم بعضا في قرب النّسب وبعده. قال الزّجّاج : المعنى : جعلناكم كذلك لتعارفوا ، لا لتفاخروا. ثم أعلمهم أنّ أرفعهم عنده منزلة أتقاهم ، وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، والضّحّاك ، وابن يعمر ، وأبان عن عاصم : «لتعرفوا» بإسكان العين وكسر الراء من غير ألف. وقرأ مجاهد ، وأبو المتوكّل ، وابن محيصن : «لتّعارفوا» بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة. وقرأ أبو نهيك ، والأعمش : «لتتعرّفوا» بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غير ألف.

قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، ومجاهد ، وأبو الجوزاء : «أنّ» بفتح الهمزة. قال الفرّاء : من فتح «أنّ» فكأنه قال : لتعارفوا أنّ الكريم التّقيّ ، ولو كان كذلك لكانت «لتعرفوا» ، غير أنه يجوز «لتعارفوا» على معنى : ليعرّف بعضكم بعضا أنّ أكرمكم عند الله أتقاكم.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا).

____________________________________

(١٣٣٥) ذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٦٦ م هكذا بدون إسناد ، وكذا الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» ٤ / ٣٧٥ ، فهو خبر ساقط ، ليس بشيء.


(١٣٣٦) قال مجاهد : نزلت في أعراب بني أسد بن خزيمة. ووصف غيره حالهم ، فقال : قدموا المدينة في سنة مجدبة ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارهم ، وكانوا يمنّون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك ، فنزلت فيهم هذه الآية.

(١٣٣٧) وقال السّدّيّ : نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الفتح ، وكانوا يقولون : آمنّا بالله ، ليأمنوا على أنفسهم ، فلمّا استنفروا إلى الحديبية تخلّفوا ، فنزلت فيهم هذه الآية.

(١٣٣٨) وقال مقاتل : كانت منازلهم بين مكّة والمدينة ، فكانوا إذا مرّت بهم سريّة من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : آمنّا ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، فلمّا سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبية استنفرهم فلم ينفروا معه.

قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي : لم تصدّقوا (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) قال ابن قتيبة : استسلمنا من خوف السّيف ، وانقدنا. قال الزّجّاج : الإسلام : إظهار الخضوع والقبول لما أتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبذلك يحقن الدّم ، فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب ، فذلك الإيمان ، فأخرج الله هؤلاء من الإيمان بقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي : لم تصدّقوا ، إنما أسلمتم تعوّذا من القتل ، وقال مقاتل : «ولمّا» بمعنى «ولم» يدخل التّصديق في قلوبكم.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) قال ابن عباس : إن تخلصوا الإيمان (لا يَلِتْكُمْ) قرأ أبو عمرو : «يألتكم» بألف وهمز ؛ وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة. وقرأ الباقون : «يلتكم» بغير ألف ولا همز. فقراءة أبي عمرو من ألت يألت ، وقراءة الباقين من لات يليت ، قال الفرّاء : وهما لغتان ، قال الزّجّاج : معناهما واحد. والمعنى : لا ينقصكم. وقال أبو عبيدة : فيها ثلاث لغات : ألت يألت ، تقديرها : أفك يأفك ، وألات يليت ، تقديرها : أقال يقيل ، ولات يليت ، قال رؤبة :

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت

قوله تعالى : (مِنْ أَعْمالِكُمْ) أي : من ثوابها. ثم نعت الصّادقين في إيمانهم بالآية التي تلي هذه ، ومعنى : (يَرْتابُوا) يشكّوا. وإنما ذكر الجهاد ، لأنّ الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فرضا في ذلك

____________________________________

(١٣٣٦) أخرجه الطبري ٣١٧٧٥ عن مجاهد مختصرا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٧ بدون إسناد ، وذكره البغوي في «تفسيره» ٢٠١٧ تعليقا ، ومن غير عزو لقائل. وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند النسائي في «التفسير» ٥٣٩ والبزار كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ٢٥٨ من طريقين ضعيفين عن سعيد بن جبير به. وورد من حديث أبي قلابة مرسلا ، أخرجه ابن سعد ١ / ٢ / ٣٩. وورد عن قتادة مرسلا ، أخرجه الطبري ٣١٧٨١. وورد عن عبد الله بن أبي أوفى ، أخرجه الطبراني في «الكبير» و«الأوسط» كما في «المجمع» ٧ / ١١٢. قال الهيثمي : وفيه الحجاج بن أرطاة ، وهو ثقة ، ولكنه مدلس ، وبقية رجاله رجال الصحيح. رووه بألفاظ متقاربة ، والمعنى واحد ، فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «فتح القدير» ٢٣٢٤ للشوكاني بتخريجنا.

(١٣٣٧) عزاه المصنف للسدي ، ولم أقف عليه ، وهو مرسل.

(١٣٣٨) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية ، لكن هو موافق لما قبله في أكثر الخبر.


الوقت ، (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم ، فلمّا نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلفون أنهم مؤمنون صادقون ، فنزلت هذه الآية.

قوله تعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) و«علّم» بمعنى «أعلم» ولذلك دخلت الباء في قوله : «بدينكم» والمعنى : أتخبرون الله بالدّين الذي أنتم عليه؟! ، أي : هو عالم بذلك لا يحتاج إلى إخباركم ؛ وفيهم نزل قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) قالوا : أسلمنا ولم نقاتلك ، والله تعالى أعلم.


سورة ق

ويقال لها : سورة الباسقات. روى العوفيّ وغيره عن ابن عباس أنها مكّيّة ، وكذلك قال الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة أنّ فيها آية مدنيّة ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))

قوله تعالى : (ق) قرأ الجمهور بإسكان الفاء. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء : «قاف» بنصب الفاء. وقرأ أبو رزين ، وقتادة : «قاف» برفع الفاء. وقرأ الحسن ، وأبو عمران : «قاف» بكسر الفاء. وفي «ق» خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنه قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنه جبل من زبرجدة خضراء ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال : خلق الله جبلا يقال له : «ق» محيط بالعالم ،

__________________

(١) ق : ٣٨.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٦٠ : «ق» : حرف من حروف الهجاء التي تقدم ذكرها في أوائل السور بما أغنى عن إعادته. وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا : ق : جبل محيط بجميع الأرض يقال له قاف وكأن هذا. والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما لا يصدّق ولا يكذّب. وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم كما افترى على هذه الأمة ـ مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها ـ أحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى ، وقلّة الحفّاظ النقّاد فيهم ، وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : «وحدّثوا عن بني إسرائيل ، ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل. فأما ما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان ، ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل ، والله أعلم.

وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة.


وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا أراد الله عزوجل أن يزلزل قرية ، أمر ذلك الجبل فحرّك العرق الذي يلي تلك القرية. وقال مجاهد : هو جبل محيط بالأرض. وروي عن الضّحّاك أنه من زمرّدة خضراء ، وعليه كنفا السماء ، وخضرة السماء منه. والثالث : أنه جبل من نار في النّار ، قاله الضّحّاك في رواية عنه عن ابن عباس. والرابع : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة. والخامس : أنه حرف من كلمة. ثم فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه افتتاح اسمه «قدير» ، قاله أبو العالية. والثاني : أنه افتتاح أسمائه : القدير والقاهر والقريب ونحو ذلك ، قاله القرظي. والثالث : أنه افتتاح «قضي الأمر» وأنشدوا :

قلنا لها قفي فقالت قاف

معناه : أقف ، فاكتفت بالقاف من «أقف» ، حكاه جماعة منهم الزّجّاج. والرابع : قف عند أمرنا ونهينا ، ولا تعدهما ، قاله أبو بكر الورّاق. والخامس : قل يا محمّد ، حكاه الثعلبي.

قوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قال ابن عباس ، وابن جبير : المجيد : الكريم. وفي جواب هذا القسم أربعة أقوال : أحدها : أنه مضمر ، تقديره : ليبعثنّ بعد الموت. قاله الفرّاء ، وابن قتيبة ، ويدلّ عليه قول الكفّار : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ). والثاني : أنه قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ، فيكون المعنى : قاف والقرآن المجيد لقد علمنا ، فحذفت اللّام لأنّ ما قبلها عوض منها ، كقوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ... (قَدْ أَفْلَحَ) (١) أي : لقد أفلح ، أجاز هذا القول الزّجّاج. والثالث : أنه قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) (٢) ، حكي عن الأخفش. والرابع : أنه في سورة أخرى ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي ، ولم يبيّن في أيّ سورة.

قوله تعالى : (بَلْ عَجِبُوا) مفسّر في «ص» (٣) إلى قوله : (شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي : معجب. (أَإِذا مِتْنا) قال الأخفش : هذا الكلام على جواب ، كأنه قيل لهم : إنّكم ترجعون ، فقالوا : أإذا متنا وكنّا ترابا؟ وقال غيره : تقدير الكلام : ق والقرآن ليبعثنّ ، فقال : أإذا متنا وكنّا ترابا ؛ والمعنى : أنبعث إذا كنّا كذلك؟! وقال ابن جرير : لمّا تعجّبوا من وعيد الله على تكذيبهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : هذا شيء عجيب ، كان كأنه قال لهم : ستعلمون إذا بعثتم ما يكون حالكم في تكذيبكم محمّدا ، فقالوا : أإذا متنا وكنّا ترابا؟!

قوله تعالى : (ذلِكَ رَجْعٌ) أي : ردّ إلى الحياة (بَعِيدٌ) قال ابن قتيبة : أي لا يكون. (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل من لحومهم ودمائهم وأشعارهم إذا ماتوا ، يعني أنّ ذلك لا يعزب عن علمه (وَعِنْدَنا) مع علمنا بذلك (كِتابٌ حَفِيظٌ) أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم ، وهو اللّوح المحفوظ قد أثبت فيه ما يكون. (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) وهو القرآن. والمريج : المختلط ، قال ابن قتيبة : يقال مرج أمر الناس ، ومرج الدّين ، وأصل هذا أن يقلق الشيء ولا يستقرّ ، يقال : مرج الخاتم في يدي : إذا قلق للهزال. قال المفسّرون : ومعنى اختلاط أمرهم : أنهم كانوا يقولون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّة ساحر ، ومرّة شاعر ، ومرّة معلّم ، ويقولون للقرآن مرّة سحر ، ومرّة مفترى ، ومرّة رجز ، فكان أمرهم ملتبسا مختلطا عليهم.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا

__________________

(١) الشمس : ١ ـ ٩.

(٢) ق : ١٨.

(٣) ص : ٤.


فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

ثم دلّهم على قدرته على البعث بقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) بغير عمد (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي : من صدوع وشقوق ، والزّوج : الجنس. والبهيج : الحسن ، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة : البهيج : الذي يبتهج به.

قوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) قال الزّجّاج : أي : فعلنا ذلك لنبصّر وندلّ على القدرة. والمنيب : الذي يرجع إلى الله ويفكّر في قدرته.

قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو المطر (مُبارَكاً) أي : كثير الخير ، فيه حياة كلّ شيء (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) وهي البساتين (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أراد : الحبّ الحصيد ، فأضافه إلى نفسه ، كقوله : (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (١) وقوله : (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢) فالحبل هو الوريد ، وكما يقال : صلاة الأولى ، يراد : الصّلاة الأولى ، ويقال : مسجد الجامع ، يراد : المسجد الجامع ، وإنما تضاف هذه الأشياء إلى أنفسها لاختلاف لفظ اسمها ، وهذا قول الفرّاء ، وابن قتيبة. وقال غيرهما : أراد حبّ النّبت الحصيد. (وَالنَّخْلَ) أي : وأنبتنا النّخل (باسِقاتٍ) و«بسوقها» : طولها ؛ قال ابن قتيبة : يقال : بسق الشيء يبسق بسوقا : إذا طال ، والنّضيد : المنضود بعضه فوق بعض ، وذلك قبل أن يتفتّح ، فإذا انشقّ جفّ طلعه وتفرّق فليس بنضيد. قوله تعالى : (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي : أنبتنا هذه الأشياء للرّزق (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي : بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) من القبور.

ثم ذكر الأمم المكذّبة بما بعد هذا ، وقد سبق بيانه إلى قوله : (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي : وجب عليهم عذابي. (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) هذا جواب لقولهم : ذلك رجع بعيد. والمعنى : أعجزنا عن ابتداء الخلق ، وهو الخلق الأوّل ، فنعيا بالبعث وهو الخلق الثاني؟! وهذا تقرير لهم ، لأنهم اعترفوا أنه الخالق وأنكروا البعث (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) أي في شكّ (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو البعث.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

__________________

(١) الواقعة : ٩٥.

(٢) ق : ١٦.


(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني ابن آدم (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي ما تحدّثه به نفسه. وقال الزّجّاج : نعلم ما يكنّه في نفسه. قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي بالعلم (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) الحبل هو الوريد ، وإنّما أضافه إلى نفسه لما شرحناه آنفا في قوله : «وحبّ الحصيد» (١). قال الفرّاء : والوريد : عرق بين الحلقوم والعلباوين. وعنه أيضا قال : عرق بين اللّبّة والعلباوين. وقال الزّجّاج : الوريد : عرق في باطن العنق ، وهما وريدان ، والعلباوان : العصبتان الصّفراوان في متن العنق ، واللّبّتان : مجرى القرط في العنق. وقال ابن الأنباري : اللّبّة حيث يتذبذب القرط ممّا يقرب من شحمة الأذن. وحكى بعض العلماء أنّ الوريد : عرق متفرّق في البدن مخالط لجميع الأعضاء ، فلمّا كانت أبعاض الإنسان يحجب بعضها بعضا ، أعلم أنّ علمه لا يحجبه شيء. والمعنى : ونحن أقرب إليه حين يتلقّى المتلقّيان ، وهما الملكان الموكّلان بابن آدم يتلقّيان عمله. وقوله : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي : يأخذان ذلك ويثبتانه (عَنِ الْيَمِينِ) كاتب الحسنات (وَعَنِ الشِّمالِ) كاتب السّيّئات. قال الزّجّاج : والمعنى : عن اليمين قعيد ، وعن الشّمال قعيد ، فدلّ أحدهما على الآخر ، فحذف المدلول عليه ، قال الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والرّأي مختلف

وقال آخر :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ، ومن أجل الطّويّ رماني (٢)

المعنى : كنت منه بريئا. وقال ابن قتيبة : القعيد بمعنى قاعد ، كما يقال : «قدير» بمعنى «قادر» ، ويكون القعيد بمعنى مقاعد ، كالأكيل والشّريب بمنزلة : المؤاكل والمشارب.

قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ) يعني الإنسان ، أي : ما يتكلّم من كلام فيلفظه ، أي يرميه من فمه ، (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) أي : حافظ ، وهو الملك الموكّل به ، إمّا صاحب اليمين ، وإمّا صاحب الشّمال (عَتِيدٌ) قال الزّجّاج : العتيد : الثّابت اللّازم. وقال غيره : العتيد : الحاضر معه أينما كان.

(١٣٣٩) وروى أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاتب الحسنات على يمين الرّجل ، وكاتب

____________________________________

(١٣٣٩) حديث ضعيف. في إسناده جعفر بن الزبير متروك متهم ، والقاسم وإن وثقه ابن معين والترمذي ، فقد ضعفه ابن حيان ، وقال أحمد : روى عنه علي بن زيد أعاجيب ، ولا أراها إلا من قبل القاسم ، وقال ابن معين بعد أن وثقه : والثقات يروون عنه الأحاديث. أي الواهية ـ ولا يرفعونها ثم قال : يجيء من المشايخ الضعفاء ما يدل حديثهم على ضعفه. وأخرجه الطبراني في «الكبيرة» ٧٩٧١ من طريق عبد القاهر بن شعيب ، والبيهقي في «الشعب» ٧٠٤٩ من طريق مروان بن معاوية كلاهما عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة.

وأخرجه البيهقي في «الشعب» ٧٠٥٠ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ١٦٥ ـ ١٦٦ من طريقين عن إسماعيل بن عيسى العطار عن المسيب بن شريك عن بشر بن نمير عن القاسم به دون صدره ، وإسماعيل ضعيف ومثله القاسم. وورد بلفظ «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ، وإلا كتب واحدة». أخرجه البيهقي ٧٠٥١ وأبو نعيم ٦ / ١٢٤ والواحدي ٤ / ١٦٥ والطبراني ٧٧٦٥ من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن عروة بن رويم عن القاسم به.

وإسناده ضعيف ، وعلته القاسم ، وكذا إسماعيل ضعفه غير واحد مطلقا. وضعفه بعضهم في روايته خاصة عن ـ

__________________

(١) ق : ٩.

(٢) البيت لعمرو بن أحمر ، أو للأزرق بن طرفة وهو في «الكتاب» ١ / ٣٨٠ و«اللسان» ـ حول.


السّيّئات على يساره ، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السّيّئات ، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيّئة ، وأراد صاحب الشّمال أن يكتبها ، قال صاحب اليمين : أمسك ، فيمسك عنه سبع ساعات ، فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر كتب عليه سيّئة واحدة». وقال ابن عباس : جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل ، وحافظين في النّهار. واختلفوا هل يكتبان جميع أفعاله وأقواله على قولين (١) : أحدهما : أنهما يكتبان عليه كلّ شيء حتى أنينه في مرضه ، قاله مجاهد. والثاني : أنهما لا يكتبان إلّا ما يؤجر عليه أو يوزر ، قاله عكرمة. فأمّا مجلسهما فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشّمال ، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة.

(١٣٤٠) وقد روى عليّ كرّم الله وجهه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ مقعد ملكيك على ثنيّتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك» ، وروي عن الحسن والضّحّاك قالا : مجلسهما تحت الشّعر على الحنك.

قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) وهي غمرته وشدّته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله وتدلّه على أنه ميت (بِالْحَقِ) وفيه وجهان : أحدهما : أنّ معناه : جاءت بحقيقة الموت. والثاني : بالحقّ من أمر الآخرة ، فأبانت للإنسان ما لم يكن بيّنا له من أمر الآخرة. ذكر الوجهين الفرّاء ، وابن جرير. وقرأ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه : «وجاءت سكرة الحقّ بالموت» ، قال ابن جرير : ولهذه القراءة وجهان. أحدهما : أن يكون الحقّ هو الله تعالى ، فيكون المعنى : وجاءت سكرة الله بالموت. والثاني : أن تكون السّكرة هي الموت ، أضيفت إلى نفسها ، كقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٢) ، فيكون المعنى : وجاءت السّكرة الحقّ بالموت ، بتقديم «الحقّ». وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : «وجاءت سكرات»

____________________________________

غير الشاميين. قال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٢٠٨ : وفيه جعفر بن الزبير ، وهو كذاب ، ولكن ورد من وجه آخر رواه الطبراني بأسانيد رجال أحدها وثقوا! قلت : فيه القاسم كما تقدم ، ولا يحتج بما ينفرد به ، وتعيين ست ساعات أو سبع ساعات غريب جدا. وله شاهد من حديث أم عصمة فيه «ثلاث ساعات» وفي الإسناد سعيد بن سنان وهو متروك ، أخرجه الطبراني في «الأوسط» ١٧ ، فهذا شاهد لا يفرح به ، وهو يعارض الأول في تعيين الزمن. الخلاصة : لفظ المصنف ضعيف جدا ، واللفظ المختصر عن إسماعيل بن عياش الذي أوردته ضعيف فقط ، وشاهده ليس بشيء ، وقد أورده الألباني في «الصحيحة» ١٢٠٩ وحسنه وليس كما قال بل الإسناد ضعيف والمتن غريب ، ولا يتدين بحديث ينفرد به القاسم ، وفي الطريق إليه جعفر وهو متروك أو ابن عياش ، وهو غير حجة.

(١٣٤٠) ضعيف جدا. أخرجه الثعلبي من رواية جميل بن الحسن عن أرطأة بن الأشعث العدوي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مقعد مليكك ...» فذكره. كذا قاله الحافظ في تخريج الكشاف ٤ / ٣٨٤ وسكت عليه. وإسناده ضعيف جدا فيه جميل بن الحسن جرحه عبدان ، ووثقه ابن حبان ، وفيه أرطأة بن أشعث قال عنه في «الميزان» هالك. وهاه ابن حبان. ثم ذكر الذهبي له خبرا غير هذا وقال : هو المتهم به ، ثم هو منقطع بين علي ومحمد الباقر. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٦٣١ بتخريجنا ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٦٣ : وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام؟ أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب؟ وظاهر الآية الأول ، لعموم قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

(٢) الواقعة : ٩٥.


على الجمع «الحقّ بالموت» بتقديم «الحقّ». وقرأ أبيّ بن كعب ، وسعيد بن جبير : «وجاءت سكرات الموت» على الجمع «بالحق» بتأخير «الحق». قوله تعالى : (ذلِكَ) أي فيقال للإنسان حينئذ : «ذلك» : أي ذلك الموت (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تهرب وتفرّ. وقال ابن عباس : تكره. قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني نفخة البعث (ذلِكَ) اليوم (يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي يوم وقوع الوعيد. قوله تعالى : (مَعَها سائِقٌ) فيه قولان : أحدهما : أنّ السّائق ملك يسوقها إلى محشرها ، قاله أبو هريرة : والثاني : أنه قرينها من الشياطين ، سمّي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثّها. وفي (الشّهيد) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ملك يشهد عليها بعملها ، قاله عثمان بن عفّان والحسن. وقال مجاهد : الملكان سائق وشهيد. وقال ابن السّائب : السّائق الذي كان يكتب عليه السّيّئات ، والشهيد الذي كان يكتب الحسنات. والثاني : أنه العمل يشهد على الإنسان ، قاله أبو هريرة. والثالث : الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله ، قاله الضّحّاك. وهل هذه الآيات عامّة ، أم خاصّة؟ فيها قولان : أحدهما : أنها عامّة ، قاله الجمهور. والثاني : خاصّة في الكافر ، قاله الضّحّاك ومقاتل.

قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ) أي : ويقال له : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اليوم ، وفي المخاطب بهذه الآيات ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الكافر ، قاله ابن عباس ، وصالح بن كيسان في آخرين. والثاني : أنه عامّ في البرّ والفاجر ، قاله حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، واختاره ابن جرير. والثالث : أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا قول ابن زيد. فعلى القول الأول يكون المعنى : لقد كنت في غفلة من هذا اليوم في الدنيا بكفرك به ؛ وعلى الثاني : كنت غافلا عن أهوال القيامة (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك. وقيل معناه : أريناك ما كان مستورا عنك ؛ وعلى الثالث : لقد كنت قبل الوحي في غفلة عمّا أوحي إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بالوحي (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) وفي المراد بالبصر قولان : أحدهما : البصر المعروف ، قاله الضّحّاك. والثاني : العلم ، قاله الزّجّاج. وفي قوله : «اليوم» قولان : أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه في الدنيا ، وهذا على قول ابن زيد. فأمّا قوله : «حديد» فقال ابن قتيبة : الحديد بمعنى الحادّ. أي : فأنت ثاقب البصر. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : فبصرك حديد إلى لسان الميزان حين توزن حسناتك وسيّئاتك ، قاله مجاهد. والثاني : أنه شاخص لا يطرف لمعاينة الآخرة ، قاله مقاتل. والثالث : أنه العلم النّافذ ، قاله الزّجّاج.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

قوله تعالى : (وَقالَ قَرِينُهُ) قال مقاتل : هو ملكه الذي كان يكتب عمله السّيئ في دار الدنيا ، يقول لربّه : قد كتبت ما وكّلتني به ، فهذا عندي معدّ حاضر من عمله الخبيث ، فقد أتيتك به وبعمله. وفي «ما» قولان : أحدهما : أنها بمعنى «من» قاله مجاهد. والثاني : أنها بمعنى الشيء ، فتقديره : هذا شيء لديّ عتيد ، قاله الزّجّاج. وقد ذكرنا معنى العتيد في هذه السّورة (١) ، فيقول الله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ).

__________________

(١) ق : ١٨.


وفي معنى هذا الخطاب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مخاطبة للواحد بلفظ الخطاب للاثنين ، قال الفرّاء : والعرب تأمر الواحد والقوم بأمر الاثنين ، فيقولون للرجل : ويلك ارحلاها وازجراها ، سمعتها من العرب ، وأنشدني بعضهم :

فقلت لصاحبي لا تحبسانا

بنزع أصوله واجتزّ شيحا (١)

وأنشدني أبو ثروان :

فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا

ونرى أنّ ذلك منهم ، لأنّ أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان ، وكذلك الرّفقة أدنى ما تكون ثلاثة ، فجرى الكلام على صاحبيه ، ألا ترى الشّعر أكثر شيء قيلا : يا صاحبيّ ويا خليليّ. قال امرؤ القيس :

خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

نقضّي لبانات الفؤاد المعذّب (٢)

ثم قال :

ألم تر أنّي كلّما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب

فرجع إلى الواحد ، وأول كلامه اثنان ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل ، وقال : «ألقيا» خطاب للخازن ، يعني خازن النّار. والثاني : أنه فعل ثنّي توكيدا ، كأنه لمّا قال : «ألقيا» ، ناب عن ألق ألق ، وكذلك : قفا نبك ، معناه : قف قف ، فلمّا ناب عن فعلين ، ثنّي ، قاله المبرّد. والثالث : أنه أمر للملكين ، يعني السّائق والشّهيد ، وهذا اختيار الزّجّاج. فأمّا «الكفّار» ، فهو أشدّ مبالغة من الكافر. و«العنيد» قد فسّرناه في هود (٣).

قوله تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : الزكاة المفروضة ، قاله قتادة. والثاني : أنه الإسلام ، يمنع الناس من الدّخول فيه ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل ، وذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، منع بني أخيه عن الإسلام. والثالث : أنه عامّ في كلّ خير من قول أو فعل ، حكاه الماوردي. قوله تعالى : (مُعْتَدٍ) أي : ظالم لا يقرّ بالتوحيد (مُرِيبٍ) أي : شاكّ في الحقّ ، من قولهم : أراب الرّجل : إذا صار ذا ريب. قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ) فيه قولان : أحدهما : شيطانه ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور. وفي الكلام اختصار تقديره : إنّ الإنسان ادّعى على قرينه من الشياطين أنه أضلّه فقال : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي لم يكن لي قوّة على إضلاله بالإكراه ، وإنما طغى هو بضلاله. والثاني : أنه الملك الذي كان يكتب السّيّئات. ثم فيما يدّعيه الكافر على الملك قولان : أحدهما : أنه يقول : زاد عليّ فيما كتب ، فيقول الملك : ما أطغيته ، أي ما زدت عليه ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : أنه يقول : كان يعجلني عن التّوبة ، فيقول : ربّنا ما أطغيته ، هذا قول الفرّاء.

قوله تعالى : (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي : بعيد من الهدى ، فيقول الله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا

__________________

(١) البيت لمضرس بن ربعي الأسدي وهو في «مشكل القرآن» ٢٢٤ و«اللسان» جزز.

واجتزّ : قطع ، والشيح : نبت سهلي من الفصيلة المركبة وهو كثير الأنواع ترعاه الماشية.

(٢) في «المعجم الوسيط» اللبان : جمع اللبانة : الحاجة من غير فاقة ولكن من نهمة.

(٣) هود : ٥٩.


لَدَيَ). في هذا الخصام قولان : أحدهما : أنه اعتذارهم بغير عذر ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه خصامهم مع قرنائهم الذين أغووهم ، قاله أبو العالية. فأمّا اختصامهم فيما كان بينهم من المظالم في الدنيا ، فلا يجوز أن يهمل ، لأنه يوم التّناصف.

قوله تعالى : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي : قد أخبرتكم على ألسن الرّسل بعذابي في الآخرة لمن كفر. (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) فيه قولان : أحدهما : ما يبدّل القول فيما وعدته من ثواب وعقاب ، قاله الأكثرون. والثاني : ما يكذّب عندي ولا يغيّر القول عن جهته ، لأنّي أعلم الغيب وأعلم كيف ضلّوا وكيف أضللتموهم ، هذا قول ابن السّائب واختيار الفرّاء وابن قتيبة ، ويدلّ عليه أنه قال تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) ولم يقل : ما يبدّل قولي (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فأزيد على إساءة المسيء ، أو انقص من إحسان المحسن.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠))

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ؛ وحمزة ، والكسائيّ : «يوم نقول» بالنون المفتوحة وضمّ القاف. وقرأ نافع ، وأبو بكر ، والمفضّل عن عاصم : «يوم يقول» بالياء المفتوحة وضمّ القاف. وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : «يوم يقال» بياء مضمومة وفتح القاف وإثبات ألف. قال الزّجّاج : وانتصاب «يوم» على وجهين ، أحدهما : على معنى : ما يبدّل القول لديّ في ذلك اليوم. والثاني : على معنى : وأنذرهم يوم نقول لجهنّم.

فأمّا فائدة سؤاله إيّاها ، وقد علم هل امتلأت أم لا ، فإنه توبيخ لمن أدخلها ، وزيادة في مكروهه ، ودليل على تصديق قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١).

وفي قولها : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قولان عند أهل اللغة : أحدهما : أنها تقول ذلك بعد امتلائها ، فالمعنى : هل بقي فيّ موضع لم يمتلئ؟ أي : قد امتلأت. والثاني : أنها تقول تغيّظا على من عصى الله تعالى ، وجعل الله فيها أن تميّز وتخاطب ، كما جعل في النّملة أن قالت : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (٢) ، وفي المخلوقات أن تسبّح بحمده.

قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قرّبت للمتّقين الشّرك (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي جعلت عن يمين العرش حيث يراها أهل الموقف ، ويقال لهم : (هذا) الذي ترونه (ما تُوعَدُونَ) ، وقرأ عثمان بن

__________________

(١) الأعراف : ١٨.

(٢) النمل : ١٨.


عفّان ، وابن عمر ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن محيصن : «يوعدون» بالياء (لِكُلِّ أَوَّابٍ) وفيه أقوال قد ذكرناها في بني إسرائيل (١). وفي (حَفِيظٍ) قولان : أحدهما : الحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها ؛ قاله ابن عباس. والثاني : الحافظ لأمر الله تعالى ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) قد بيّنّاه في (الأنبياء) (٢) (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي : راجع إلى طاعة الله عن معصيته. (ادْخُلُوها) أي : يقال لهم : ادخلوا الجنّة (بِسَلامٍ) وذلك أنهم سلموا من عذاب الله ، وسلموا فيها من الغموم والتغيّر والزّوال ، وسلّم الله وملائكته عليهم (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) في الجنّة ، لأنه لا موت فيها ولا زوال. (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسائلهم ، فيعطون ما شاؤوا ، ثم يزيدهم ما لم يسألوا ، فذلك قوله : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ). وللمفسّرين في المراد بهذا المزيد ثلاثة أقوال :

(١٣٤١) أحدها : أنه النّظر إلى الله عزوجل ؛ روى عليّ رضي الله عنه عن النبيّ عليه‌السلام في قوله : «ولدينا مزيد» قال : «يتجلّى لهم». وقال أنس بن مالك في قوله : «ولدينا مزيد» : يتجلّى لهم الرّبّ تعالى في كلّ جمعة.

(١٣٤٢) والثاني : أنّ السّحاب يمرّ بأهل الجنّة ، فيمطرهم الحور ، فتقول الحور : نحن اللواتي قال الله عزوجل : «ولدينا مزيد» ، حكاه الزّجّاج.

والثالث : أنّ الزّيادة على ما تمنّوه وسألوا ممّا لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

ثم خوّف كفّار مكّة بما بعد هذا إلى قوله : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) قرأ الجمهور «فنقّبوا» بفتح النون والقاف مع تشديدها. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، والحسن ، وابن السّميفع ، ويحيى بن يعمر كذلك ، إلّا أنهم كسروا القاف على جهة الأمر تهدّدا. وقرأ عمر بن الخطّاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وابن أبي عبلة ، وعبيد عن أبي عمرو : «فنقبوا» بفتح القاف وتخفيفها. قال الفرّاء : ومعنى «فنقّبوا» : ساروا في البلاد ، فهل كان لهم من الموت (مِنْ مَحِيصٍ) فأضمرت «كان» هاهنا ، كقوله : (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (٣) أي : فلم يكن لهم ناصر. ومن قرأ «فنقّبوا» بكسر القاف ، فإنه كالوعيد ؛ والمعنى : اذهبوا في البلاد وجيئوا فهل من الموت من محيص؟! وقال الزّجّاج : «نقّبوا» : طوّقوا وفتّشوا ، فلم تروا محيصا من الموت. قال امرؤ القيس :

لقد نقّبت في الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب

____________________________________

(١٣٤١) لم أقف عليه ، وهو غريب جدا.

(١٣٤٢) لم أره بهذا اللفظ ، وصدره ليس له أصل ، وأما عجزه فقد ورد مرفوعا بسند ضعيف. أخرجه أبو يعلى ١٣٨٦ وأحمد ٣ / ٧٥ كلاهما عن أبي سعيد مرفوعا : «إن الرجل ليتكئ في الجنة مسيرة سبعين سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبيه ويسألها : من أنت؟ فتقول : أنا من المزيد ...» حسنه الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٤١٩ والسيوطي في «الدر» ٦ / ١٢٧ مع أنّ فيه ابن لهيعة ضعيف ، وشيخه درّاج في روايته عن أبي الهيثم ضعيف وهذا منها. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٦٤٥ بتخريجنا.

__________________

(١) الإسراء : ٢٥.

(٢) الأنبياء : ٤٩.

(٣) محمد : ١٣.


فأمّا المحيص فهو المعدل ؛ وقد استوفينا شرحه في سور النّساء (١).

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني الذي ذكره من إهلاك القرى (لَذِكْرى) أي : تذكرة وعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) قال ابن عباس : أي : عقل. قال الفراء : وهذا جائز في اللغة أن تقول : ما لك قلب ، وما معك قلبك ، تريد العقل. وقال ابن قتيبة : لمّا كان القلب موضعا للعقل كنّى به عنه. وقال الزّجّاج : المعنى : لمن صرف قلبه إلى التّفهّم (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي : استمع منّي (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي : وقلبه فيما يسمع. وقال الفرّاء : «وهو شهيد» أي : شاهد ليس بغائب.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

(١٣٤٣) ذكر المفسّرون أنّ اليهود قالت : خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، آخرها يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فلذلك لا نعمل فيه شيئا ، فنزلت هذه الآيات ، فأكذبهم الله عزوجل بقوله : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). قال الزّجّاج : واللّغوب : التّعب والإعياء.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي : من بهتهم وكذبهم. قال المفسّرون : ونسخ معنى قوله : «فاصبر» بآية السّيف (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : صلّ بالثّناء على ربّك والتّنزيه له ممّا يقول المبطلون (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهي صلاة الفجر. (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) فيها قولان :

أحدهما : صلاة الظّهر والعصر ، قاله ابن عباس. والثاني : صلاة العصر ، قاله قتادة.

(١٣٤٤) وروى البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث جرير بن عبد الله ، قال : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة البدر ، فقال : «إنّكم سترون ربّكم عيانا كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشّمس وقبل الغروب فافعلوا» وقرأ : «فسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب».

قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها صلاة الليل كلّه ، أيّ وقت صلّى منه ، قاله مجاهد. والثاني : صلاة العشاء ، قاله ابن زيد. والثالث : صلاة المغرب والعشاء ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، وخلف : بكسر الهمزة ؛ وقرأ الباقون بفتحها. قال الزّجّاج : من فتح ألف «أدبار» فهو جمع دبر ، ومن كسرها فهو مصدر : أدبر يدبر إدبارا. وللمفسّرين في هذا التّسبيح ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الرّكعتان بعد صلاة المغرب ، روي عن عمر ، وعليّ ، والحسن بن عليّ ، رضي الله عنهم ، وأبي هريرة ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، والنّخعيّ ،

____________________________________

(١٣٤٣) ضعيف جدا. أخرجه الواحدي في «أسباب النّزول» ٧٦٩ من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس : أن اليهود أتت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكره. وإسناده ضعيف جدا لضعف أبي سعد ، بل هو متروك. وأخرجه الطبري ٣١٩٦٠ من طريق أبي سنان عن أبي بكر قال : جاءت اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ... فذكره. وهذا معضل ، وهو أصح من الموصول ، والمتن منكر جدا بذكر نزول الآية ، فإن السّورة مكية وسؤالات اليهود كانت في المدينة ، وقد ورد نحو هذا الخبر بدون ذكر هذه الآية ، وهو أصح.

(١٣٤٤) صحيح. أخرجه البخاريّ ٤٨٥١ ومسلم ٦٣٣ وأبو داود ٤٧٢٩ والتّرمذي ٢٥٥١ وابن ماجة ١٧٧ والنسائي في «التفسير» ٣٥٠ من حديث جرير ، ولفظ «عيانا» ليس في «الصحيحين».

__________________

(١) النساء : ١٢١.


وقتادة في آخرين ، وهو رواية العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنه النّوافل بعد المفروضات ، قاله ابن زيد. والثالث : أنه التسبيح باللسان في أدبار الصّلوات المكتوبات ، رواه مجاهد عن ابن عباس. وروي عن أبي الأحوص أنه قال في جميع التسبيح المذكور في هاتين الآيتين كذلك.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «ينادي المنادي» بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بياء ، ووقف نافع وأبو عمرو بغير ياء. ووقف الباقون ووصلوا بياء. قال أبو سليمان الدّمشقي : المعنى : واستمع حديث يوم ينادي المنادي. قال المفسّرون : والمنادي : إسرافيل ، يقف على صخرة بيت المقدس فينادي : يا أيّها الناس هلمّوا إلى الحساب ، إنّ الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء ؛ وهذه هي النّفخة الأخيرة. والمكان القريب : صخرة بيت المقدس. قال كعب ومقاتل : هي أقرب الأرض إلى السّماء بثمانية عشر ميلا. وقال ابن السّائب باثني عشر ميلا. قال الزّجّاج : ويقال : إنّ تلك الصخرة في وسط الأرض.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) وهي هذه النّفخة الثانية (بِالْحَقِ) أي : بالبعث الذي لا شكّ فيه (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي : نميت في الدنيا ونحيي للبعث (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) بعد البعث ، وهو قوله : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «تشقّق» بتشديد الشّين ؛ وقرأ الباقون بتخفيفها (سِراعاً) أي : فيخرجون منها سراعا (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي : هيّن. ثم عزّى نبيّه فقال : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) في تكذيبك ، يعني كفّار مكّة (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) قال ابن عباس : لم تبعث لتجبرهم على الإسلام إنّما بعثت مذكّرا ، وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم ؛ وأنكر الفرّاء هذا القول فقال : العرب لا تقول : «فعّال من أفعلت» ، لا يقولون : «خراج» يريدون «مخرج» ولا «دخّال» يريدون «مدخل» ، إنما يقولون : «فعال» من «فعلت» ، وإنما الجبّار هنا في موضع السّلطان من الجبريّة ، وقد قالت العرب في حرف واحد : «درّاك» من «أدركت» وهو شاذ ، فإن جعل هذا على هذه الكلمة فهو وجه. وقال ابن قتيبة : (بِجَبَّارٍ) أي : بمسلّط. والجبّار : الملك ، سمّي بذلك لتجبّره ، يقول : لست عليهم بملك مسلّط. قال اليزيدي : لست بمسلّط فتقهرهم على الإسلام. وقال مقاتل : لتقتلهم. وذكر المفسّرون أن قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) منسوخ بآية السّيف.

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ) أي : فعظ به (مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وقرأ يعقوب : «وعيدي» بياء في الحالين ، أي : ما أوعدت من عصاني من العذاب.


سورة الذّاريات

مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) يعني الرّياح ، يقال : ذرت الرّيح التّراب تذروه ذروا : إذا فرّقته. قال الزّجّاج : يقال : ذرت فهي ذارية ، وأذرت فهي مذرية ، بمعنى واحد. (وَالذَّارِياتِ) ، مجرورة على القسم ، المعنى : أحلف بالذّاريات وهذه الأشياء ، والجواب (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) ، قال قوم : المعنى : وربّ الذّاريات ، وربّ الجاريات. قوله تعالى : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) يعني السّحاب التي تحمل وقرها من الماء. (فَالْجارِياتِ يُسْراً) يعني السّفن تجري ميسّرة في الماء جريا سهلا. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمر الله به. قال ابن السّائب : والمقسّمات أربعة ، جبريل ، وهو صاحب الوحي والغلظة ، وميكائيل ، وهو صاحب الرّزق والرّحمة ، وإسرافيل ، وهو صاحب الصّور واللّوح ، وعزرائيل ، وهو قابض الأرواح. وإنما أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته. ثم ذكر المقسم عليه فقال : (إِنَّما تُوعَدُونَ) أي : من الثّواب والعقاب يوم القيامة (لَصادِقٌ) أي : لحقّ. (وَإِنَّ الدِّينَ) فيه قولان : أحدهما : الحساب. والثّاني : الجزاء (لَواقِعٌ) أي : لكائن.

ثم ذكر قسما آخر فقال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) وقرأ عمر بن الخطّاب ، وأبو رزين : «الحبك» بكسر الحاء والباء جميعا. وقرأ عثمان بن عفّان ، والشّعبي ، وأبو العالية ، وأبو حيوة : «الحبك» بكسر الحاء وإسكان الباء. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وأبو رجاء ، وابن أبي عبلة : «الحبك» برفع الحاء وإسكان الباء. وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة : «الحبك» بفتح الحاء والباء جميعا. وقرأ أبو الدّرداء ، وأبو الجوزاء ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : «الحبك» بفتح الحاء وكسر الباء.


ثم في معنى «الحبك» أربعة أقوال : أحدها : ذات الخلق الحسن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. والثّاني : البنيان المتقن ، قاله مجاهد. والثّالث : ذات الزّينة ، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن : حبكها : نجومها. والرّابع : ذات الطّرائق ، قاله الضّحّاك واللّغويون. وقال الفرّاء : الحبك : تكسّر كلّ شيء كالرّمل إذا مرّت به الرّيح السّاكنة ، والماء القائم إذا مرّت به الرّيح ، والشّعرة الجعدة تكسّرها حبك ، وواحد الحبك : حباك وحبيكة. وقال الزّجّاج : أهل اللّغة يقولون : الحبك : الطّرائق الحسنة ، والمحبوك في اللّغة : ما أجيد عمله ، وكلّ ما تراه من الطّرائق في الماء وفي الرّمل إذا أصابته الرّيح فهو حبك. وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : هذه هي السّماء السّابعة.

ثم ذكر جواب القسم الثاني ، قال : (إِنَّكُمْ) يعني أهل مكّة (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعضكم يقول : شاعر ، وبعضكم يقول : مجنون. وفي القرآن ، بعضكم يقول : سحر ، وبعضكم يقول : كهانة ورجز ، إلى غير ذلك. (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي : يصرف عن الإيمان به من صرف فحرمه. والهاء في «عنه» عائدة إلى القرآن ، وقيل : يصرف عن هذا القول ، أي : من أجله وسببه ، عن الإيمان من صرف. وقرأ قتادة : «من أفك» بفتح الألف والفاء. وقرأ عمرو بن دينار : «من أفك» بفتح الألف وكسر الفاء. (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) قال الفرّاء : يعني : لعن الكذّابون الذين قالوا : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر وكذاب وشاعر ، خرصوا ما لا علم لهم به. وفي رواية العوفيّ عن ابن عباس : أنهم الكهنة. وقال ابن الأنباري : والقتل إذا أخبر عن الله به فهو بمعنى اللّعنة ، لأنّ من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك.

قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في عمى وجهالة بأمر الآخرة (ساهُونَ) أي غافلون. والسّهو : الغفلة عن الشّيء وذهاب القلب عنه. (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يقولون : يا محمّد متى يوم الجزاء؟! تكذيبا منهم واستهزاء. ثم أخبر عن ذلك اليوم ، فقال : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ) قال الزّجّاج : «اليوم» منصوب على معنى : يقع الجزاء يوم هم على النّار (يُفْتَنُونَ) أي يحرقون ويعذّبون ، ومن ذلك يقال للحجارة السّود التي كأنها قد أحرقت بالنّار : الفتين. قوله تعالى : (ذُوقُوا) المعنى : يقال لهم : ذوقوا (فِتْنَتَكُمْ) وفيها قولان : أحدهما : تكذيبكم ، قاله ابن عباس. والثّاني : حريقكم ، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة : هاهنا تمّ الكلام ، ثم ائتنف ، فقال : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) قال المفسّرون : يعني الّذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاء.

ثم ذكر ما وعد الله لأهل الجنّة فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وقد سبق شرح هذا (١). قوله تعالى : (آخِذِينَ) قال الزّجّاج : هو منصوب على الحال ، فالمعنى : في جنّات وعيون في حال أخذ (ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال المفسّرون : أي ما أعطاهم الله من الكرامة (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) في أعمالهم. وفي الآية وجه آخر : «آخذين ما آتاهم ربّهم» أي : عاملين بما أمرهم به من الفرائض «إنهم كانوا قبل» أن تفرض الفرائض عليهم ، «محسنين» أي : مطيعين ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين.

ثم ذكر إحسانهم فقال : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) والهجوع : النّوم بالليل دون النهار. وفي «ما» قولان : أحدهما : النّفي. ثم في المعنى قولان : أحدهما : كانوا يسهرون قليلا من اللّيل. قال أنس بن مالك ، وأبو العالية : هو ما بين المغرب والعشاء. والثاني : كانوا ما ينامون قليلا من اللّيل.

__________________

(١) البقرة : ٢٥ ، الحجر : ٤٥.


واختار قوم الوقف على قوله : «قليلا» على معنى : كانوا من النّاس قليلا ، ثم ابتدأ فقال : «من اللّيل ما يهجعون» على معنى نفي النّوم عنهم البتّة ، وهذا مذهب الضّحاك ، ومقاتل. والقول الثّاني : أنّ «ما» بمعنى الذي ، فالمعنى : كانوا قليلا من الليل الّذي يهجعونه ، وهذا مذهب الحسن ، والأحنف بن قيس ، والزّهري. وعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» زائدة.

قوله تعالى : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وقد شرحناه في آل عمران (١).

قوله تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) أي : نصيب ، وفيه قولان : أحدهما : أنه ما يصلون به رحما ، أو يقرون به ضيفا ، أو يحملون به كلّا ، أو يعينون به محروما ، وليس بالزّكاة ، قاله ابن عباس. والثّاني : أنه الزّكاة ، قاله قتادة ، وابن سيرين. قوله تعالى : (لِلسَّائِلِ) وهو الطّالب. وفي «المحروم» ثمانية أقوال : أحدها : أنه الّذي ليس له سهم في فيء المسلمين ، وهو المحارف (٢) ، قاله ابن عباس. وقال إبراهيم : هو الّذي لا سهم له في الغنيمة. والثّاني : أنه الّذي لا ينمى له شيء ، قاله مجاهد ، وكذلك قال عطاء : هو المحروم في الرّزق والتجارة. والثّالث : أنه المسلم الفقير ، قاله محمّد بن عليّ. والرّابع : أنه المتعفّف الّذي لا يسأل شيئا ، قاله قتادة ، والزّهري. والخامس : أنه الّذي يجيء بعد الغنيمة ، وليس له فيها سهم ، قاله الحسن بن محمّد ابن الحنفيّة. والسّادس : أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته ، قاله ابن زيد. والسّابع : أنه المملوك ، حكاه الماوردي. والثّامن : أنه الكلب ، روي عن عمر بن عبد العزيز ، وكان الشّعبي يقول : أعياني أن أعلم ما المحروم. وأظهر الأقوال قول قتادة والزّهري ، لأنه قرنه بالسائل ، والمتعفّف لا يسأل ـ ولا يكاد النّاس يعطون من لا يسأل ـ ثم يتحفّظ بالتعفّف من ظهور أثر الفاقة عليه ، فيكون محروما من قبل نفسه حين لم يسأل ، ومن قبل النّاس حين لا يعطونه ، وإنما يفطن له متيقّظ. وقد ذكر المفسّرون أنّ هذه الآية منسوخة بآية الزّكاة ، ولا يصحّ.

قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) كالجبال والأنهار والأشجار والثّمار وغير ذلك (لِلْمُوقِنِينَ) بالله عزوجل الّذين يعرفونه بصنعه. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات إذ كنتم نطفا ثم عظاما ، ثم علقا ، ثم مضغا إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف ؛ ثم اختلاف الصّور والألوان والطّبائع ، وتقويم الأدوات ، والسّمع والبصر والعقل ، وتسهيل سبيل الحدث ، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم. وتمّ الكلام عند قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) ، ثم قال : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) قال مقاتل : أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث.

قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وحميد ، وأبو حصين الأسدي : «أرزاقكم» براء ساكنة ، وبألف بين الزّاي والقاف. وقرأ ابن مسعود ، والضّحاك ، وأبو نهيك : «رازقكم» بفتح الرّاء وكسر الزّاي وبألف بينهما. وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين. وفيه قولان : أحدهما : أنه المطر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد ، وهو قول الجمهور. والثاني : الجنّة ، رواه ابن نجيح عن مجاهد. وفي قوله : (وَما تُوعَدُونَ) قولان : أحدهما : أنه الخير والشّر كلاهما يأتي من السّماء ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثّاني : الجنّة ، رواه ليث عن مجاهد. قال أبو

__________________

(١) آل عمران : ١٧.

(٢) في «القاموس» المحارف : المحدود والمحروم.


عبيدة : في هذه الآية مضمر مجازه : عند من في السّماء رزقكم ، وعنده ما توعدون ، والعرب تضمر ، قال نابغة ذبيان :

كأنّك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ (١)

أراد : كأنك جمل من جمال بني أقيش.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌ) قال الزّجّاج : يعني ما ذكره من أمر الآيات والرّزق وما توعدون وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «مثل» برفع اللام. وقرأ الباقون بنصب اللام. قال الزّجّاج : فمن رفع «مثل» فهي من صفة الحقّ ، والمعنى : إنه لحقّ مثل نطقكم ؛ ومن نصب فعلى ضربين : أحدهما : أن يكون في موضع رفع ، إلّا أنه لمّا أضيف إلى «أنّ» فتح. والثّاني : أن يكون منصوبا على التأكيد ، على معنى : إنه لحقّ حقّا مثل نطقكم ، وهذا الكلام كما تقول : إنه لحقّ كما أنّك تتكلّم.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) «هل» بمعنى «قد» في قول ابن عباس ، ومقاتل ، فيكون المعنى : قد أتاك فاستمع نقصصه عليك ، وضيفه : هم الّذين جاءوا بالبشرى. وقد ذكرنا عددهم في هود (٢) ، وذكرنا هناك معنى الضّيف. وفي معنى «المكرمين» أربعة أقوال : أحدهما : لأنه أكرمهم بالعجل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثّاني : بأن خدمهم هو وامرأته بأنفسهما ، قاله السّدّيّ. والثّالث : أنهم مكرمون عند الله ، قاله عبد العزيز بن يحيى. والرّابع : لأنهم أضياف ، والأضياف مكرمون ، قاله أبو بكر الورّاق.

قوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً) قد ذكرناه في هود (٣).

قوله تعالى : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) قال الزّجّاج : ارتفع على معنى : أنتم قوم منكرون. وللمفسّرين في سبب إنكارهم أربعة أقوال : أحدها : لأنه لم يعرفهم ، قاله ابن عباس. والثّاني : لأنهم سلّموا عليه ، فأنكر سلامهم في ذلك الزّمان وفي تلك الأرض ، قاله أبو العالية. والثّالث : لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. والرّابع : لأنه رأى فيهم صورة البشر وصورة الملائكة.

__________________

(١) في «القاموس» الشنّ : وبهاء القربة الخلق.

(٢) هود : ٧٠.

(٣) هود : ٧٠.


قوله تعالى : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) قال ابن قتيبة : أي : عدل إليهم في خفية ، ولا يكون الرّواغ إلّا أن تخفي ذهابك ومجيئك. قوله تعالى : (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) وكان مشويا (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) قال الزّجّاج : والمعنى : فقرّبه إليهم ليأكلوا منه ، فلم يأكلوا ، فقال : (أَلا تَأْكُلُونَ)؟! على النّكير ، أي : أمركم في ترك الأكل ممّا أنكره. قوله تعالى : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) قد شرحناه في هود (١). وذكرنا معنى : «غلام عليم» في (الحجر) (٢). (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) وهي : سارة. قال الفرّاء وابن قتيبة : لم تقبل من موضع إلى موضع ، وإنما هو كقولك : أقبل يشتمني ، وأقبل يصيح ويتكلم أي : أخذ في ذلك ، والصّرّة : الصّيحة. وقال أبو عبيدة : الصّرّة : شدّة الصّوت. وفيما قالت في صيحتها قولان : أحدهما : أنها تأوّهت ، قاله قتادة. والثّاني : أنها قالت : يا ويلتا ، ذكره الفرّاء. قوله تعالى : (فَصَكَّتْ وَجْهَها) فيه قولان : أحدهما : لطمت وجهها ، قاله ابن عباس. والثّاني : ضربت جبينها تعجّبا ، قاله مجاهد ، ومعنى الصّك ، ضرب الشيء بالشيء العريض. (وَقالَتْ عَجُوزٌ) قال الفرّاء : هذا مرفوع بإضمار «أتلد عجوز». وقال الزّجّاج : المعنى : أنا عجوز عقيم ، فكيف ألد؟! وقد ذكرنا معنى «العقيم» في هود (٣). (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) إنّك ستلدين غلاما ؛ والمعنى : إنّما نخبرك عن الله عزوجل ، وهو حكيم عليم يقدر أن يجعل العقيم ولودا ، فعلم حينئذ إبراهيم أنهم ملائكة. (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) مفسّر في الحجر (٤).

قوله تعالى : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) قال ابن عباس : هو الآجر. قوله تعالى : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) قد شرحناه في هود (٥). قوله تعالى : (لِلْمُسْرِفِينَ) قال ابن عباس : للمشركين. قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) ، أي : من قرى لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) الآية (٦). (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهو لوط وابنتاه ، وصفهم الله عزوجل بالإيمان والإسلام ، لأنه ما من مؤمن إلّا وهو مسلم. (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) أي : علامة للخائفين من عذاب الله تدلّهم على أنّ الله أهلكهم. وقد شرحنا هذا في العنكبوت (٧) وبيّنّا المكني عنها.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

قوله تعالى : (وَفِي مُوسى) أي وفيه أيضا آية (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة ظاهرة

__________________

(١) هود : ٧٠.

(٢) الحجر : ٥٤.

(٣) هود : ٧٢.

(٤) الحجر : ٥٧.

(٥) هود : ٨٣.

(٦) هود : ٨١.

(٧) العنكبوت : ٣٥.


(فَتَوَلَّى) أي أعرض (بِرُكْنِهِ) قال مجاهد : بأصحابه. وقال أبو عبيدة : «بركنه» و«بجانبه» سواء ، إنما هي ناحيته (وَقالَ ساحِرٌ) أي وقال لموسى : هذا ساحر (أَوْ مَجْنُونٌ) وكان أبو عبيدة يقول : «أو» بمعنى الواو. فأمّا «اليم» فقد ذكرناه في الأعراف (١) و«مليم» في الصّافّات (٢).

قوله تعالى : (وَفِي عادٍ) أي في إهلاكهم آية أيضا (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وهي التي لا خير فيها ولا بركة ، لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ، وإنما هي للإهلاك. وقال سعيد بن المسيب : هي الجنوب. (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي من أنفسهم وأموالهم (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء الهالك البالي ، قال الفرّاء : الرّميم : نبات الأرض إذا يبس وديس. وقال الزّجّاج : الرّميم : الورق الجاف المتحطّم مثل الهشيم. (وَفِي ثَمُودَ) آية أيضا (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه قيل لهم : تمتّعوا في الدّنيا إلى وقت انقضاء آجالكم تهدّدا لهم. والثّاني : أنّ صالحا قال لهم بعد عقر النّاقة : تمتّعوا ثلاثة أيام : فكان الحين وقت فناء آجالهم ، (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) قال مقاتل : عصوا أمره (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) يعني العذاب ، وهو الموت من صيحة جبريل. وقرأ الكسائيّ وحده : «الصعقة» بسكون العين من غير ألف ؛ وهي الصّوت الّذي يكون عن الصّاعقة. قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) فيه قولان : أحدهما : يرون ذلك عيانا ، والثّاني : وهم ينتظرون العذاب فأتاهم صبيحة يوم السّبت. قوله تعالى : (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) فيه قولان : أحدهما : ما استطاعوا نهوضا من تلك الصّرعة. والثّاني : ما أطاقوا ثبوتا لعذاب الله (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ممتنعين من العذاب.

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) قرأ أبو عمرو إلّا عبد الوارث ، وحمزة ، والكسائيّ : بخفض الميم ، وروى عبد الوارث رفع الميم. والباقون بنصبها. وقال الزّجّاج : من خفض (القوم) فالمعنى : وفي قوم نوح آية ، ومن نصب فهو عطف على معنى قوله : «فأخذتهم الصّاعقة» فإنّ معناه : أهلكناهم ، فيكون المعنى : وأهلكنا قوم نوح ، والأحسن ـ والله أعلم ـ أن يكون محمولا على قوله : «فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ» لأنّ المعنى : أغرقناه ، وأغرقنا قوم نوح.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها) المعنى : وبنينا السّماء بنيناها (بِأَيْدٍ) أي بقوّة ، وكذلك قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وسائر المفسّرين واللغويين : «بأيد» أي : بقوّة. وفي قوله : (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) خمسة أقوال : أحدها : لموسعون الرّزق بالمطر ، قاله الحسن. والثّاني : لموسعون السّماء ، قاله ابن زيد. والثّالث : لقادرون ، قاله ابن قتيبة. والرّابع : لموسعون ما بين السّماء والأرض ، قاله الزّجّاج. والخامس : لذو سعة لا يضيق عمّا يريد ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) قال الزّجّاج : هذا عطف على ما قبله منصوب بفعل مضمر محذوف يدلّ عليه قوله : «فرشناها» ؛ فالمعنى فرشنا الأرض فرشناها «فنعم الماهدون» أي : فنعم الماهدون نحن. قال مقاتل : «فرشناها» أي : بسطناها مسيرة خمسمائة عام ، وهذا بعيد ، وقد قال قتادة : الأرض عشرون ألف فرسخ ، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي : صنفين ونوعين كالذّكر والأنثى ، والبرّ والبحر ،

__________________

(١) الأعراف : ١٣٦.

(٢) الصافات : ١٤٢.


واللّيل والنّهار ، والحلو والمرّ ، والنّور والظّلمة ، وأشباه ذلك (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتعلموا أنّ خالق الأزواج واحد. (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) بالتّوبة من ذنوبكم ؛ والمعنى : اهربوا ممّا يوجب العقاب من الكفر والعصيان إلى ما يوجب الثّواب من الطّاعة والإيمان.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

قوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : كما كذّبك قومك وقالوا : ساحر أو مجنون ؛ كانوا من قبلك يقولون للأنبياء. قوله تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ) أي : أوصى أوّلهم آخرهم بالتّكذيب؟ ، وهذا استفهام توبيخ. وقال أبو عبيدة : أتواطئوا عليه فأخذه بعضهم من بعض؟!. قوله تعالى : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي : يحملهم الطّغيان فيا أعطوا من الدّنيا على التّكذيب ؛ والمشار إليهم أهل مكّة. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) فقد بلّغتهم (فَما أَنْتَ) عليهم (بِمَلُومٍ) لأنّك قد أدّيت الرّسالة. ومذهب أكثر المفسّرين أنّ هذه الآية منسوخة ولهم في ناسخها قولان : أحدهما : أنه قوله : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). والثاني : آية السّيف. وفي قوله : «وذكّر» قولان : أحدهما : عظ ، قاله مقاتل. والثاني : ذكّرهم بأيّام الله وعذابه ورحمته ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أثبت الياء في «يعبدون» و«يطعمون» و«لا يستعجلون» في الحالين يعقوب. واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال : أحدها : إلّا لآمرهم أن يعبدوني ، قاله عليّ بن أبي طالب ، واختاره الزّجّاج. والثاني : إلّا ليقرّوا بالعبودية طوعا وكرها ، قاله ابن عباس ؛ وبيان هذا قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١). والثالث : أنه خاصّ في حقّ المؤمنين. قال سعيد بن المسيّب : ما خلقت من يعبدني إلّا ليعبدني. وقال الضّحّاك والفرّاء وابن قتيبة : هذا خاصّ لأهل طاعته ، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى فإنه قال : معنى هذا الخصوص لا العموم ، لأنّ البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس ؛ فكذلك الكفّار يخرجون من هذا بدليل قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٢) ، فمن خلق للشّقاء ولجهنّم لم يخلق للعبادة. والرابع : إلّا ليخضعوا إليّ ويتذلّلوا ، ومعنى العبادة في اللغة : الذّلّ والانقياد. وكلّ الخلق خاضع ذليل لقضاء الله عزوجل ، لا يملك خروجا عمّا قضاه الله عزوجل ، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني.

قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي : ما أريد أن يرزقوا أنفسهم (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي أن يطعموا أحدا من خلقي ، لأني أنا الرّزّاق. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه ، لأنّ الخلق عيال الله ، ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه.

__________________

(١) الزخرف : ٨٧.

(٢) الأعراف : ١٧٩.


(١٣٤٥) وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقول الله عزوجل يوم القيامة. يا ابن آدم : استطعمتك فلم تطعمني» ، أي : لم تطعم عبدي.

فأمّا (الرَّزَّاقُ) فقرأ الضّحّاك ، وابن محيصن : «الرازق» بوزن «العالم». قال الخطّابي : هو المتكفّل بالرّزق القائم على كلّ نفس بما يقيمها من قوتها. و (الْمَتِينُ) الشديد القوّة الذي لا تنقطع قوّته ولا يلحقه في أفعاله مشقّة. وقد روى قتيبة عن الكسائيّ أنه قرأ : «المتين» بكسر النون. وكذا قرأ أبو رزين ، وقتادة ، وأبو العالية ، والأعمش. قال الزّجّاج : (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي : ذو الاقتدار الشديد ، ومن رفع «المتين» فهو صفة الله عزوجل ، ومن خفضه جعله صفة للقوّة ، لأنّ تأنيث القوّة كتأنيث الموعظة ، فهو كقوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (١).

قوله تعالى : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني مشركي مكّة (ذَنُوباً) أي : نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) الذين أهلكوا ، كقوم نوح وعاد وثمود. قال الفرّاء : الذّنوب في كلام العرب : الدّلو العظيمة ، ولكن العرب تذهب بها إلى النّصيب والحظّ ، قال الشاعر :

لنا ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب (٢)

والذّنوب ، يذكّر ويؤنّث. وقال ابن قتيبة ، أصل الذّنوب : الدّلو العظيمة ، وكانوا يستقون ، فيكون لكلّ واحد ذنوب ، فجعل «الذّنوب» مكان «الحظ والنّصيب».

قوله تعالى : (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي : بالعذاب إن أخّروا إلى يوم القيامة ، وهو يومهم الذي يوعدون ، ويقال : هو يوم بدر.

____________________________________

(١٣٤٥) صحيح. وهذا اللفظ جزء من حديث طويل أخرجه مسلم ٢٥٦٩.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) في «القاموس» القليب : البئر.


سورة الطّور

وهي مكّيّة كلها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

قوله تعالى : (وَالطُّورِ) هذا قسم بالجبل الذي كلّم الله عزوجل عليه موسى عليه‌السلام ، وهو بأرض مدين واسمه زبير. (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي : مكتوب ، وفيه أربعة أقوال : أحدها : أنه اللّوح المحفوظ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : كتب أعمال بني آدم ، قاله مقاتل والزّجّاج. والثالث : التّوراة. والرابع : القرآن ، حكاهما الماوردي. قوله تعالى : (فِي رَقٍ) قال أبو عبيدة : الرّقّ : الورق. فأمّا المنشور فهو المبسوط. قوله تعالى : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) فيه قولان :

أحدهما : أنه بيت في السماء. وفي أيّ سماء هو؟ فيه ثلاثة أقوال :

(١٣٤٦) أحدها : أنه في السماء السابعة ، رواه أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٣٤٧) وحديث مالك بن صعصعة الذي أخرج في «الصّحيحين» يدلّ عليه.

والثاني : أنه في السماء السادسة ، قاله عليّ رضي الله عنه.

(١٣٤٨) والثالث : أنه في السماء الدّنيا ، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عباس : هو

____________________________________

(١٣٤٦) أخرجه الحاكم ٢ / ١١٧ والبيهقي في «الشعب» ٣٩٩٣ والطبري ٣٢٣٠١ من حديث أنس ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، ويشهد له ما بعده.

(١٣٤٧) صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٧ ومسلم ١ / ١٤٩ والطبري ٣٢٢٨٧ عن أنس عن مالك بن صعصعة مرفوعا ، في أثناء حديث الإسراء المطوّل ، وتقدّم في أوائل سورة الإسراء.

(١٣٤٨) لا أصل له في المرفوع. أخرجه العقيلي ٢ / ٥٩ ـ ٦٠ وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٨٢ ، وابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ١٤٧ من حديث أبي هريرة ، ساقه العقيلي في ترجمة روح بن جناح ، وقال : لا يتابع عليه ، وقال ابن حبان في ترجمته : يروي عن الثقات ما إذا سمعها الإنسان الذي ليس


حيال الكعبة يحجّه كلّ يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه حتى تقوم الساعة ، يسمّى الضّراح. وقال الرّبيع بن أنس : كان البيت المعمور مكان الكعبة في زمان آدم ، فلمّا كان زمن نوح أمر الناس بحجّه ، فعصوه فلمّا طغى الماء رفع فجعل بحذاء البيت في السماء الدّنيا.

والثاني : أنه البيت الحرام ، قاله الحسن ، وقال أبو عبيدة : ومعنى «المعمور» : الكثير الغاشية.

قوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) فيه قولان : أحدهما : أنه السماء ، قاله عليّ رضي الله عنه والجمهور. والثاني : العرش ، قاله الرّبيع. قوله تعالى : (وَالْبَحْرِ) فيه قولان. أحدهما : أنه بحر تحت العرش ماؤه غليظ يمطر العباد منه بعد النّفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم ، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني : أنه بحر الأرض ، ذكره الماوردي. وفي (الْمَسْجُورِ) أربعة أقوال : أحدها : المملوء ، قاله الحسن وأبو صالح وابن السّائب وجميع اللغويين. والثاني : أنه الموقد ، قاله مجاهد ، وابن زيد. وقال شمر بن عطيّة : هو بمنزلة التّنّور المسجور. والثالث : أنه اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب ، قاله أبو العالية. وروي عن الحسن ، قال : تسجر ، يعني البحار ، حتى يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة. وقول هذين يرجع إلى معنى قول مجاهد.

(١٣٤٩) وقد نقل في الحديث أنّ الله تعالى يجعل البحار كلّها نارا ، فتزاد في نار جهنّم.

والرابع : أنّ «المسجور» المختلط عذبه بملحه ، قاله الرّبيع بن أنس. فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أنّ تعذيب المشركين حقّ ، فقال : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) أي : لكائن في الآخرة. ثم بيّن متى يقع ، فقال : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : تدور دورا رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وهو اختيار الفرّاء وابن قتيبة والزّجّاج. والثاني : تحرّك تحرّكا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. وقال أبو عبيدة «تمور» أي : تكفّأ ، وقال الأعشى.

كأنّ مشيتها من بيت جارتها

مور السّحابة لا ريث ولا عجل

والثالث : يموج بعضها في بعض لأمر الله تعالى ، قاله الضّحّاك.

وما بعد هذا قد سبق بيانه (١) إلى قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢)) أي : يخوضون في حديث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتّكذيب والاستهزاء ، ويلهون بذكره ، فالويل لهم (يَوْمَ يُدَعُّونَ) قال ابن قتيبة : أي : يدفعون ، يقال : دععته أدعّه ؛ أي : دفعته ، ومنه قوله (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (٢) ، قال ابن عباس : يدفع في

____________________________________

بالمتبحر في صناعة الحديث شهد لها بالوضع. وقال ابن الجوزي رحمه‌الله : هذا حديث لا يتهم به إلا روح بن جناح ، قال الحافظ عبد الغني : هذا حديث منكر ، ليس له أصل عن الزهري ، ولا عن سعيد ولا عن أبي هريرة ، ولا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه الطريق ولا من غيرها اه. ونقل الذهبي في «الميزان» ٢٧٩٩ عن أبي أحمد الحاكم قوله : حديث في البيت المعمور لا أصل له.

(١٣٤٩) غريب مرفوعا. وقد ذكره البغوي في «تفسيره» ٢٣٧ بقوله وروي من غير عزو لأحد. وذكره الزمخشري في «الكشاف» ٤ / ٤١١ أيضا بقوله روي من غير عزو لأحد ولم يخرجه الحافظ ، وهذا دليل على أنه غير مرفوع.

والله أعلم.

__________________

(١) النمل : ٨٨.

(٢) الماعون : ٢.


أعناقهم حتى يردوا النّار. وقال مقاتل : تغلّ أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعون إلى جهنّم على وجوههم ، حتى إذا دنوا منها قالت لهم خزنتها : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)) في الدنيا (أَفَسِحْرٌ هذا) العذاب الذي ترون؟ فإنكم زعمتم أنّ الرّسل سحرة (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) النّار؟ فلمّا ألقوا فيها قال لهم خزنتها : (اصْلَوْها). وقال غيره : لمّا نسبوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أنه ساحر يغطّي على الأبصار بالسّحر ، وبّخوا عند رؤية النّار بهذا التوبيخ ، وقيل : (اصْلَوْها) أي : قاسوا شدّتها (فَاصْبِرُوا) على العذاب (أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) الصّبر والجزع (إِنَّما تُجْزَوْنَ) جزاء (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والتكذيب.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠))

ثم وصف ما للمؤمنين بما بعد هذا ، وقوله : (فَكِهِينَ) قرئت بألف وبغير ألف. وقد شرحناها في يس (١) ، (وَوَقاهُمْ) أي : صرف عنهم ، و (الْجَحِيمِ) مذكور في البقرة (٢). (كُلُوا) أي يقال لهم : كلوا (وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) تأمنون حدوث المرض عنه. قال الزّجّاج : المعنى : لينهكم ما صرتم إليه ، وقد شرحنا هذا في سورة النّساء. ثم ذكر حالهم عند أكلهم وشربهم ، فقال : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ) وقال ابن جرير : فيه محذوف تقديره : على نمارق على سرر ، وهي جمع سرير (مَصْفُوفَةٍ) قد وضع بعضها إلى جنب بعض. وباقي الآية مفسّر في سورة الدّخان (٣).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

قوله تعالى : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائيّ ، : «واتّبعتهم» بالتاء «ذرّيّتهم» واحدة (بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) واحدة أيضا. وقرأ نافع : «واتّبعتهم ذرّيّتهم» واحدة «بهم ذرّيّاتهم» جمعا. وقرأ ابن عامر : «وأتبعناهم ذرّيّاتهم» «بهم ذرّيّاتهم» جمعا في الموضعين. واختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناها : واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّياتهم من المؤمنين في الجنّة وإن كانوا لم يبلغوا أعمال آبائهم تكرمة من الله تعالى لآبائهم المؤمنين باجتماع أولادهم معهم ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : واتّبعتهم ذريّتهم بإيمان ، أي : بلغت أن آمنت ، ألحقنا بهم ذرّيّتهم الصّغار الذين لم يبلغوا الإيمان. وروى هذا المعنى العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. ومعنى هذا القول ، أنّ أولادهم الكبار ، تبعوهم بإيمان منهم ، وأولادهم الصّغار تبعوهم

__________________

(١) يس : ٥٥.

(٢) البقرة : ١١٩.

(٣) الدخان : ٥٤.


بإيمان الآباء ، لأنّ الولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده. والثالث : «وأتبعناهم ذرّياتهم» بإيمان الآباء فأدخلناهم الجنّة ، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا.

قوله تعالى : (وَما أَلَتْناهُمْ) قرأ نافع : وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم وحمزة ، والكسائيّ : «وما ألتناهم» بالهمزة وفتح اللام. وقرأ ابن كثير : «ما ألتناهم» بكسر اللام. وروى ابن شنبوذ عن قنبل عنه «وما لتناهم» بإسقاط الهمزة مع كسر اللام. وقرأ أبو العالية ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ بإسقاط الهمزة مع فتح اللام. وقرأ ابن السّميفع «وما آلتناهم» بمدّ الهمزة وفتحها. وقرأ الضّحّاك ، وعاصم الجحدري : «وما ولتناهم» بواو مفتوحة من غير همزة وبنصب اللام. وقرأ ابن مسعود ، وأبو المتوكّل : «وما ألتهم» مثل : جعلتهم. وقد ذكرنا هذه الكلمة في الحجرات (١) ، والمعنى : ما نقصنا الآباء بما أعطينا الذّرّيّة. (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي : مرتهن بعمله لا يؤاخذ أحد بذنب أحد ، وقيل : هذا الكلام يختصّ بصفة أهل النّار ، وذلك الكلام قد تمّ.

قوله تعالى : (وَأَمْدَدْناهُمْ) قال ابن عباس : هي الزيادة على الذي كان لهم.

قوله تعالى : (يَتَنازَعُونَ) قال أبو عبيدة : أي : يتعاطون ويتداولون : وأنشد الأخطل :

نازعته طيّب الرّاح الشّمول وقد

صاح الدّجاج وحانت وقعة السّاري

قال الزّجّاج : يتناول هذا الكأس من يد هذا ، وهذا من يد هذا. فأمّا الكأس فقد شرحناها في الصّافّات (٢).

قوله تعالى : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «لا لغو فيها ولا تأثيم» نصبا ، وقرأ الباقون : «لا لغو فيها ولا تأثيم» رفعا منوّنا ، قال ابن قتيبة : أي لا تذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا فيأثموا كما يكون ذلك في خمر الدنيا. وقال غيره : التأثيم : تفعيل من الإثم ، يقال : آثمه : إذا جعله ذا إثم. والمعنى أنّ تلك الكأس لا تجعلهم آثمين. (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) للخدمة (غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) في الحسن والبياض (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي : مصون لم تمسّه الأيدي.

(١٣٥٠) وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : يا نبيّ الله ، هذا الخادم ، فكيف المخدوم؟ فقال : «إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من الخوف والتّعب ، وهو قوله : (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا) أي : في دار الدنيا (مُشْفِقِينَ) أي : خائفين من العذاب ، (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي : عذاب النّار. وقال الحسن : السّموم من أسماء جهنّم. وقال غيره : سموم جهنّم ، وهو ما يوجد من نفحها وحرّها ، (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي : نوحّده ونخلص له (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) وقرأ نافع والكسائيّ : «أنّه» بفتح الهمزة. وفي معنى «البرّ» ثلاثة أقوال : أحدها : الصادق فيما وعد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : اللطيف ، رواه

____________________________________

(١٣٥٠) ضعيف جدا. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٣٠١٢ والطبري ٣٢٣٧ من طريق معمر عن قتادة مرسلا ، وبصيغة التمريض. وعامة مراسيل قتادة في التفسير إنما هي عن الحسن ، ومراسيل الحس واهية.

__________________

(١) الحجرات : ١٤٠.

(٢) الصافات : ٤٥.


ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عمّ ببرّه جميع خلقه ، قاله أبو سليمان الخطّابي.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))

قوله تعالى : (فَذَكِّرْ) أي : فعظ بالقرآن (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي : بإنعامه عليك بالنّبوّة (بِكاهِنٍ) وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر عمّا في غد من غير وحي. والمعنى : إنما تنطق بالوحي لا كما يقول فيك كفّار مكّة. (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) أي : هو شاعر. وقال أبو عبيدة : «أم» بمعنى «بل» ، قال الأخطل :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام منّ الرّباب خيالا

لم يستفهم ، إنما أوجب أنه رأى. قوله تعالى : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) فيه قولان : أحدهما : أنه الموت ، قاله ابن عباس. والثاني : حوادث الدّهر ، قاله مجاهد ، قال ابن قتيبة : حوادث الدّهر وأوجاعه ومصائبه ، و«المنون» الدّهر ، قال أبو ذؤيب :

أمن المنون وريبه تتوجّع

والدّهر ليس بمعتب من يجزع

هكذا أنشدناه أصحاب الأصمعيّ عنه ، وكان يذهب إلى أنّ المنون الدّهر ، قال : وقوله «والدّهر ليس بمعتب» يدلّ على ذلك ، كأنه قال : «أمن الدّهر وريبه تتوجّع؟!» قال الكسائيّ : العرب تقول : لا أكلّمك آخر المنون ، أي : آخر الدّهر.

قوله تعالى : (قُلْ تَرَبَّصُوا) أي : انتظروا بي ذلك (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي : من المنتظرين عذابكم ، فعذّبوا يوم بدر بالسّيف. وبعض المفسّرين يقول : هذا منسوخ بآية السّيف ، ولا يصحّ ، إذ لا تضادّ بين الآيتين. قوله تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) قال المفسّرون : كانت عظماء قريش توصف بالأحلام ، وهي العقول ، فأزرى الله بحلومهم ، إذ لم تثمر لهم معرفة الحقّ من الباطل. وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقول؟! فقال : تلك عقول كادها بارئها ، أي : لم يصحبها التّوفيق.

وفي قوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ) وقوله (أَمْ هُمْ) قولان : أحدهما : أنهما بمعنى «بل» قاله أبو عبيدة. والثاني : بمعنى ألف الاستفهام ، قاله الزّجّاج : قال : والمعنى : أتأمرهم أحلامهم بترك القبول ممّن يدعوهم إلى التّوحيد ويأتيهم على ذلك بالدّلائل ، أم يكفرون طغيانا وقد ظهر لهم الحقّ؟! وقال ابن قتيبة : المعنى : أم تدلّهم عقولهم على هذا؟! لأنّ الحلم يكون بالعقل ، فكني عنه به.

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي افتعل القرآن من تلقاء نفسه؟ والتّقوّل : تكلّف القول ، ولا يستعمل إلّا في الكذب (بَلْ) أي ليس الأمر كما زعموا (لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن ؛ استكبارا. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) في نظمه وحسن بيانه. وقرأ أبو رجاء وأبو نهيك ومورّق العجلي وعاصم الجحدري : «بحديث مثله» بغير تنوين (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أنّ محمّدا تقوّله.


(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أم خلقوا من غير ربّ خالق؟ والثاني : أم خلقوا من غير آباء ولا أمّهات ، فهم كالجماد لا يعقلون؟ والثالث : أم خلقوا من غير شيء كالسّماوات والأرض؟ أي : إنهم ليسوا بأشدّ خلقا من السّماوات والأرض. لأنها خلقت من غير شيء ، وهم خلقوا من آدم ، وآدم من تراب. والرابع : أم خلقوا لغير شيء؟ فتكون «من» بمعنى اللام. والمعنى : ما خلقوا عبثا فلا يؤمرون ولا ينهون. قوله تعالى : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأنّ الخالق لا يؤمر ولا ينهى.

قوله تعالى : (بَلْ لا يُوقِنُونَ) بالحقّ ، وهو توحيد الله وقدرته على البعث.

قوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : المطر والرّزق ، قاله ابن عباس. والثاني : النّبوّة ، قاله عكرمة. والثالث : علم ما يكون من الغيب ، ذكره الثّعلبي ، وقال الزّجّاج : المعنى : أعندهم ما في خزائن ربّك من العلم ، وقيل : من الرّزق ، فهم معرضون عن ربّهم لاستغنائهم؟!. قوله تعالى : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) قرأ ابن كثير : «المسيطرون» بالسين. وقال ابن عباس : المسلّطون. قال أبو عبيدة : «المصيطرون» : الأرباب. يقال تسيطرت عليّ ، اتّخذتني خولا ، قال : ولم يأت في كلام العرب اسم على «مفيعل» إلّا خمسة أسماء : مهيمن ، ومجيمر ومسيطر ومبيطر ومبيقر. فالمهيمن : الله الناظر المحصي الذي لا يفوته شيء. ومجيمر : جبل : والمسيطر : المسلّط ؛ ومبيطر : بيطار ؛ والمبيقر : الذي يخرج من أرض إلى أرض ، يقال : بيقر : إذا خرج من بلد إلى بلد ، قال امرؤ القيس :

ألا هل أتاها والحوادث جمّة

بأنّ امرأ القيس بن تملك بيقرا؟

قال الزّجّاج : المسيطرون : الأرباب المسلّطون ، يقال : قد تسيطر علينا وتصيطر : بالسين والصاد ، والأصل السين ، وكلّ سين بعدها طاء ، فيجوز أن تقلب صادا ، تقول : سطر وصطر ، وسطا علينا وصطا. قال المفسّرون : معنى الكلام : أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهي؟! قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) أي : مرقى ومصعد إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي : عليه الوحي ، كقوله : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (١) ، فالمعنى : يستمعون الوحي فيعلمون أنّ ما هم عليه حقّ (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) إن ادّعى ذلك (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ، بحجّة واضحة كما أتى محمّد بحجّة على قوله. (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله البنات. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي : هل سألتهم أجرا على ما جئت به ، فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الإسلام؟ والمغرم بمعنى الغرم ، وقد شرحناه في براءة (٢).

__________________

(١) طه : ٧١.

(٢) التوبة : ٩٨.


قوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) هذا جواب لقولهم : «نتربّص به ريب المنون» ؛ والمعنى : أعندهم الغيب؟ وفيه قولان : أحدهما : أنه اللّوح المحفوظ ، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما فيه ويخبرون الناس. قاله ابن عباس. والثاني : أعندهم علم الغيب فيعلمون أنّ محمّدا يموت قبلهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي ، يحكمون فيقولون : سنقهرك. والكتاب : الحكم.

(١٣٥١) ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سأقضي بينكما بكتاب الله» أي : بحكم الله عزوجل ؛ وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة.

قوله تعالى : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) وهو ما كانوا عزموا عليه في دار النّدوة ؛ وقد شرحنا ذلك في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) ؛ ومعنى (هُمُ الْمَكِيدُونَ) هم المجزيّون بكيدهم ، ولأنّ ضرر ذلك عاد عليهم فقتلوا ببدر وغيرها. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي ألهم إله يرزقهم ويحفظهم غير الله؟ والمعنى أنّ الأصنام ليست بآلهة لأنها لا تنفع ولا تدفع. ثم نزّه نفسه عن شركهم بباقي الآية.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

ثم ذكر عنادهم فقال : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) والمعنى : لو سقط بعض السماء عليهم ، لما انتهوا عن كفرهم ، ولقالوا : هذه قطعة من السّحاب قد ركم بعضه على بعض. (فَذَرْهُمْ) أي خلّ عنهم (حَتَّى يُلاقُوا) قرأ أبو جعفر «يلقوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف (يَوْمَهُمُ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يوم موتهم. والثاني : يوم القيامة. والثالث : يوم النّفخة الأولى. قوله تعالى : (يُصْعَقُونَ) قرأ عاصم ، وابن عامر : «يصعقون» برفع الياء ، من أصعقهم غيرهم ، والباقون بفتحها ، من صعقوا هم. وفي قوله : (يُصْعَقُونَ) قولان : أحدهما : يموتون. والثاني : يغشى عليهم ، كقوله : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) (٢) ، وهذا يخرج على قول من قال : هو يوم القيامة ، فإنّهم يغشى عليهم من الأهوال. وذكر المفسّرون أنّ هذه الآية منسوخة بآية السّيف ، ولا يصحّ ، لأنّ معنى الآية الوعيد. قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) هذا اليوم الأول : والمعنى : لا ينفعهم مكرهم ، ولا يدفع عنهم العذاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي : يمنعون من العذاب : قوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أشركوا (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي : قبل ذلك اليوم ؛ وفيه أربعة أقوال (٣) : أحدها : أنه عذاب القبر ، قاله البراء ، وابن عباس.

____________________________________

(١٣٥١) صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٢٤ و ٦٦٣٣ ومسلم ١٦٩٧ ومالك ٢ / ٨٨٢ من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في أثناء خبر العسيف. وتقدم في سورة النساء والنور.

__________________

(١) الأنفال : ٣٠.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٤٩٩ : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال ، إن الله تعالى ذكره أخبر أن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون ، وذلك يوم القيامة ، فعذاب القبر


والثاني : عذاب القتل يوم بدر ، وروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال مقاتل. والثالث : مصائبهم في الدنيا ، قاله الحسن ، وابن زيد. والرابع : عذاب الجوع ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يعلمون ما هو نازل بهم. (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : لما يحكم به عليك (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) قال الزّجّاج : فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك ، فلا يصلون إلى مكروهك. وذكر المفسّرون : أنّ معنى الصبر نسخ بآية السّيف ، ولا يصحّ ، لأنه لا تضادّ. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) فيه ستة أقوال : أحدها : صلّ لله حين تقوم من منامك ، قاله ابن عباس. والثاني : قل : سبحانك اللهمّ وبحمدك حين تقوم من مجلسك ، قاله عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد في آخرين. والثالث : قل : سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك حين تقوم في الصّلاة ، قاله الضّحّاك. والرابع : سبّح الله إذا قمت من نومك ، قاله حسّان بن عطيّة. والخامس : صلّ صلاة الظّهر إذا قمت من نوم القائلة ، قاله زيد بن أسلم. والسادس : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) قال مقاتل : صلّ المغرب وصلّ العشاء (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) قرأ زيد عن يعقوب ، وهارون عن أبي عمرو ، والجعفيّ عن أبي بكر : «وأدبار النّجوم» بفتح الهمزة ؛ وقرأ الباقون بكسرها وقد شرحناها في «ق» (١) ؛ والمعنى : صلّ له في إدبار النّجوم ، أي : حين تدبر ، أي : تغيب بضوء الصّبح. وفي هذه الصّلاة قولان :

(١٣٥٢) أحدهما : أنها الرّكعتان قبل صلاة الفجر ، رواه عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قول الجمهور. والثاني : أنها صلاة الغداة ، قاله الضّحّاك ، وابن زيد.

____________________________________

(١٣٥٢) لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث والتفسير ، فهو لا شيء لخلوه عن كتب الأصول.

وعزاه السيوطي في «الدر» ٦ / ١٥٢ لأبي هريرة قوله ، ونسبه لابن مردويه.

__________________

دون عذاب يوم القيامة ، لأنه في البرزخ ، والجوع الذي أصاب كفار قريش ، والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة. ولم يخصص الله نوعا من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمّ ، فكل ذلك لهم عذاب.

(١) ق : ٤٠.


سورة النّجم

وهي مكّيّة بإجماعهم ، إلّا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلّا آية منها ، وهي (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) (١) وكذلك قال مقاتل ؛

(١٣٥٣) قال : وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤))

قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) هذا قسم. وفي المراد بالنّجم خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنه الثّريّا ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن قتيبة : والعرب تسمي الثّريّا ـ وهي ستة أنجم ـ نجما. وقال غيره : هي سبعة ، فستة ظاهرة ، وواحد خفيّ يمتحن به الناس أبصارهم. والثاني : الرّجوم من النّجوم ، يعني ما يرمى به الشياطين ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : أنه القرآن نزل نجوما متفرّقة ، قاله عطاء عن ابن عباس ، والأعمش عن مجاهد. وقال مجاهد : كان ينزل نجوما ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك. والرابع : نجوم السماء كلّها ، وهو مرويّ عن مجاهد أيضا. والخامس : أنها الزّهرة : قاله السّدّيّ.

فعلى قول من قال : النّجم : الثّريّا ، يكون «هوى» بمعنى «غاب» ؛ ومن قال : هو الرّجوم ، يكون هويّها في رمي الشياطين ، ومن قال : القرآن ، يكون معنى «هوى» : نزل ، ومن قال : نجوم السماء كلّها ، ففيه قولان : أحدهما : أنّ هويّها أن تغيب. والثاني : أن تنتثر يوم القيامة.

قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السّورة كلّها بفتح أواخر آياتها. وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر. وقرأ حمزة والكسائيّ ذلك كلّه بالإمالة.

____________________________________

(١٣٥٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية. وعزاه السيوطي في «الدر» ٦ / ١٥٣ لابن مردويه عن ابن مسعود ، وابن مردويه يروي الواهيات والموضوعات.

__________________

(١) النجم : ٣٢.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٥٠٤ : والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد ، من أنه عني بالنجم في هذا الموضع : الثريا ، وذلك أن العرب تدعوها النجم.


قوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) هذا جواب القسم ؛ والمعنى : ما ضلّ عن طريق الهدى ، والمراد به : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي : ما يتكلّم بالباطل. وقال أبو عبيدة : «عن) بمعنى الباء. وذلك أنهم قالوا : إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه. (إِنْ هُوَ) أي : ما القرآن (إِلَّا وَحْيٌ) من الله (يُوحى) وهذا ممّا يحتجّ به من لا يجيز للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجتهد ، وليس كما ظنّوا ، لأنّ اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي ، جاز أن ينسب إلى الوحي.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبريل عليه‌السلام علّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ قال ابن قتيبة : وأصل هذا من «قوى الحبل» وهي طاقاته ، الواحدة : قوّة (ذُو مِرَّةٍ) أي : ذو قوّة ، وأصل المرّة : الفتل. قال المفسّرون : وكان من قوّته أنه قلع قريات لوط وحملها على جناحه فقلبها ، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين. قوله تعالى : (فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) فيه قولان : أحدهما : فاستوى جبريل ، (وهو) يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لمّا أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الفرّاء. والثاني : فاستوى جبريل ، و(هو) يعني جبريل. بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية.

(١٣٥٤) لأنه كان يتمثّل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل ، وأحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يراه على حقيقته ، فاستوى في أفق المشرق ، فملأ الأفق. فيكون المعنى : فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في صورته ، هذا قول الزّجّاج. قال مجاهد : والأفق الأعلى : هو مطلع الشمس. وقال غيره : إنما قيل له : «الأعلى» لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء.

قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) قال الفرّاء : المعنى : ثم تدلّى فدنا ، ولكنه جائز أن تقدّم أيّ الفعلين شئت إذا كان المعنى فيهما واحدا ، فتقول : قد دنا فقرب ، وقرب فدنا ، وشتم فأساء ، وأساء فشتم ، ومنه قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) ، المعنى ـ والله أعلم ـ : انشقّ القمر واقتربت الساعة. قال

____________________________________

(١٣٥٤) ساقه المصنف بمعناه. ورد من حديث مسروق عن عائشة : أخرجه البخاري ٣٢٣٥ ثنا أبي أسامة ثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشرع به. وأخرجه مسلم ١٧٧ ح ٢٩٠ والطبري ٣٢٤٥٠ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٢١ وأبو عوانة ١ / ١٥٥ من طريق أبي أسامة بهذا الإسناد. وأخرجه البخاري ٤٦١٢ و ٤٨٥٥ و ٧٣٨٠ و ٧٥٣١ ومسلم ١٧٧ ح ١٨٩ وأحمد ٦ / ٤٩ وأبو عوانة ١ / ١٥٤ من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي به. وأخرجه مسلم ١٧٧ ح ٢٨٧ و ٢٨٨ والترمذي ٣٠٦٨ والنسائي في «التفسير» ٤٢٨ و ٥٥٢ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٢٢١ ـ ٢٢٤ وأبو يعلى ٤٩٠٠ وابن حبان ٦٠ والطبري ٣٢٤٧٥ وابن مندة في «الإيمان» ٧٦٣ و ٧٦٦ وأبو عوانة ١ / ١٥٣ و ١٥٤ من طرق عن داود بن أبي هند عن الشعبي به. وأخرجه الترمذي ٣٢٧٨ ـ

__________________

(١) القمر : ١.


ابن قتيبة ، المعنى : تدلّى فدنا ، لأنّه تدلّى للدّنوّ ، ودنا بالتّدلّي ، وقال الزّجّاج : دنا بمعنى قرب ، وتدلّى : زاد في القرب ، ومعنى اللفظتين واحد. وقال غيرهم : أصل التّدلّي : النّزول إلى الشيء حتى يقرب منه ، فوضع موضع القرب. وفي المشار إليه بقوله : «ثم دنا» ثلاثة أقوال (١) : أحدها ، أنه الله عزوجل.

(١٣٥٥) روى البخاريّ ومسلم في الصحيحين. من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال : دنا الجبّار ربّ العزّة فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى.

(١٣٥٦) وروى أبو سلمة عن ابن عباس : «ثم دنا» قال : دنا ربّه فتدلّى.

وهذا اختيار مقاتل. قال : دنا الرّبّ من محمّد ليلة أسري به ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى. وقد كشفت هذا الوجه في كتاب المغني وبيّنت أنه ليس كما يخطر بالبال من قرب الأجسام وقطع المسافة ، لأنّ ذلك يختصّ بالأجسام ، والله منزّه عن ذلك. والثاني : أنه محمّد دنا من ربّه ، قاله ابن عباس ، والقرظي. والثالث : أنه جبريل. ثم في الكلام قولان : أحدهما : دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض ، فنزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : دنا جبريل من ربّه عزوجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى ، قاله مجاهد.

قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين : «فكان قاد قوسين» بالدال. وقال أبو عبيدة : القاب والقاد : القدر. وقال ابن فارس : القاب : القدر. ويقال : بل القاب : ما بين

____________________________________

من طريق مجالد عن الشعبي به. وأخرجه البخاري ٣٢٣٤ من طريق ابن عون عن القاسم عن عائشة به. وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص ٢٢٥ من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق به. وأخرجه أبو عوانة ١ / ١٥٥ من طريق بيان عن قيس عن عائشة به. ولفظ البخاري برقم ٣٢٣٥ : عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : فأين قوله : ثم دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، قالت : ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل ، وإنما أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته ، فسدّ الأفق.

(١٣٥٥) شاذ ، أخرجه البخاري ٧٥١٧ ومسلم ١٦٢ ح ٢٦٢ كلاهما من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس ، وشريك متكلم فيه ، وقد تفرد في حديث الإسراء بعشرة أشياء لم يتابع عليها ، ومنها هذه العبارة ، وهي من منكراته. انظر ما ذكره الحافظ في «الفتح» ١٣ / ٤٨٠ ـ ٤٨٣.

(١٣٥٦) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٦ ح ٢٨٦ والنسائي في «التفسير» ٥٥٥ والطبري ٣٢٤٦٦ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم ١٧٦ ح ٢٨٥ عن ابن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج به. وأخرجه الترمذي ٣٢٨٠ وابن خزيمة ص ٢٠٠ والطبري ٣٢٤٨٩ وابن حبان ٥٧ والطبراني ١٠٧٢٧ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٣٣ من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن ابن عباس.

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٩٣ : وقوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاب قوسين أي بقدرهما إذا مدّا. وهو قول عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة. وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال : رأى محمد ربّه بفؤاده مرتين فجعل هذه إحداهما وحديث شريك عن أنس في حديث الإسراء : «ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى» تكلم الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ، فإن هذه الآية كانت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ، ولهذا قال بعده : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) فهذه ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.


المقبض والسّية ، ولكلّ قوس قابان. وقال ابن قتيبة : سية القوس : ما عطف من طرفيها. وفي المراد بالقوسين قولان : أحدهما : أنها القوس التي يرمى بها ، قاله ابن عباس ، واختاره ابن قتيبة ، فقال : قدر قوسين ، وقال الكسائيّ : أراد بالقوسين : قوسا واحدا. والثاني : أنّ القوس : الذّراع : فالمعنى : كان بينهما قدر ذراعين ، حكاه ابن قتيبة ؛ وهو قول ابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، والسّدّيّ. قال ابن مسعود : دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين.

قوله تعالى : (أَدْنى) فيه قولان : أحدهما : أنها بمعنى «بل» ، قاله مقاتل. والثاني : أنهم خوطبوا على لغتهم ، والمعنى : كان على ما تقدّرونه أنتم قدر قوسين أو أقلّ ، هذا اختيار الزّجّاج.

قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أوحى الله إلى محمّد كفاحا بلا واسطة ، وهذا على قول من يقول : إنه كان في ليلة المعراج. والثاني : أوحى جبريل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحى الله إليه ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أوحى الله إلى جبريل ما يوحيه ، روي عن عائشة رضي الله عنها ، والحسن ، وقتادة.

قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قرأ أبو جعفر ، وهشام عن ابن عامر ، وأبان عن عاصم : «ما كذّب» بتشديد الذّال ، وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن شدّد أراد : ما أنكر فؤاده ما رأته عينه ؛ ومن خفّف أراد : ما أوهمه فؤاده أنه رأى ، ولم ير ؛ بل صدّق الفؤاد رؤيته. وفي الذي رأى قولان (١) : أحدهما : أنه رأى ربّه عزوجل ، قاله ابن عباس وأنس والحسن وعكرمة. والثاني : أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها ، قاله ابن مسعود وعائشة. قوله تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ) قرأ حمزة والكسائيّ والمفضّل وخلف ويعقوب : «أفتمرونه». قال ابن قتيبة : معنى «أفتمارونه» : أفتجادلونه ، من المراء ، ومعنى «أفتمرونه» : أفتجحدونه. قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال الزّجّاج : أي رآه مرّة أخرى. قال ابن عباس : رأى محمّد ربّه ؛ وبيان هذا أنه تردّد لأجل الصّلوات مرارا ، فرأى ربّه في بعض تلك المرّات مرّة أخرى. قال كعب : إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمّد وموسى ، فرآه محمّد مرتين ، وكلّمه موسى مرّتين.

(١٣٥٧) وقد روي عن ابن مسعود أنّ هذه الرؤية لجبريل أيضا ، رآه على صورته التي خلق عليها. فأمّا سدرة المنتهى فالسّدرة : شجرة النّبق.

(١٣٥٨) وقد صحّ في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نبقها مثل قلال هجر ، وورقها مثل آذان الفيلة». وفي مكانها قولان :

____________________________________

(١٣٥٧) حديث صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٥٦ ومسلم ١٧٤ ح ٢٨١ والترمذي ٣٢٧٧ والنسائي في «التفسير» ٥٥٤ و ٥٦٠ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٢٠ و ٢٠٣ وأبو عوانة ١ / ١٥٣ من طرق عن الشيباني به. وأخرجه الترمذي ٣٢٨٣ وابن خزيمة ص ٢٠٤ والحاكم ٢ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ وابن حبان ٥٩ وأحمد ١ / ٤٩٤ و ٤١٨ من طرق عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(١٣٥٨) صحيح. أخرجه البخاري ٧٥١٧ ومسلم ١٦٢ ح ٢٦٢ وقد تقدم في سورة الإسراء.

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٩٥ : رواية إطلاق الرؤية عن ابن عباس محمولة على المقيدة بالفؤاد ، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب ، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم.


(١٣٥٩) أحدهما : أنها فوق السماء السابعة ، وهذا مذكور في الصّحيحين من حديث مالك بن صعصعة. قال مقاتل : وهي عن يمين العرش.

(١٣٦٠) والثاني : أنها في السماء السادسة ، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود ، وبه قال الضّحّاك.

قال المفسّرون : وإنما سمّيت سدرة المنتهى ، لأنه إليها منتهى ما يصعد به من الأرض ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، وإليها ينتهى علم جميع الملائكة.

قوله تعالى : (عِنْدَها) وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر وأبو نهيك : «عنده» بهاء مرفوعة على ضمير مذكّر (جَنَّةُ الْمَأْوى) قال ابن عباس : هي جنّة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال الحسن : هي التي يصير إليها أهل الجنّة. وقال مقاتل : هي جنّة إليها تأوي أرواح الشهداء. وقرأ سعيد بن المسيّب والشّعبي وأبو المتوكّل وأبو الجوزاء وأبو العالية : «جنّة المأوى» بهاء صحيحة مرفوعة. قال ثعلب : يريدون أجنّه ، وهي شاذّة. وقيل : معنى «عندها» : أدركه المبيت يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى).

(١٣٦١) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال : غشيها فراش من ذهب.

(١٣٦٢) وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لمّا غشيها من أمر الله ما غشيها ، تغيّرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها». وقال الحسن ومقاتل : تغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة. وقال الضّحّاك : غشيها نور ربّ العالمين.

قوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ) أي ما عدل بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمينا ولا شمالا (وَما طَغى) أي ما زاد ولا جاوز ما رأى : وهذا وصف أدبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك المقام. (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فيه قولان (١) : أحدهما : لقد رأى من آيات ربّه العظام. والثاني : لقد رأى من آيات ربّه الآية الكبرى. وللمفسّرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال : أحدهما : أنه رأى رفرفا أخضر من الجنّة قد سدّ الأفق ، قاله ابن مسعود. والثاني : أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السّماوات ، قاله ابن زيد. والثالث : أنه رأى من أعلام ربّه وأدلّته الأعلام والأدلّة الكبرى ، قاله ابن جرير.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى

____________________________________

(١٣٥٩) صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٧ ومسلم ١ / ١٤٩ والطبري ٣٢٢٨٧ عن أنس بن مالك بن صعصعة مرفوعا ، وفي أثناء حديث الإسراء المطوّل وتقدّم في أول سورة الإسراء.

(١٣٦٠) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٣ من حديث ابن مسعود.

(١٣٦١) صحيح. أخرجه مسلم ١٧٣ من حديث ابن مسعود.

(١٣٦٢) انظر الحديث المتقدم ١٣٥٩.

__________________

(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٢٩٨ وقوله : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) كقوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا) أي : الدالة على قدرتنا وعظمتنا. وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع ، لأنه قال : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس.


(٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

قال الزّجّاج : فلمّا قصّ الله تعالى هذه الأقاصيص قال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) المعنى : أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزّة شيء؟!. فأمّا «اللّات» فقرأ الجمهور بتخفيف التاء ، وهو اسم صنم كان لثقيف اتّخذوه من دون الله ، وكانوا يشتقّون لأصنامهم من أسماء الله تعالى ؛ فقالوا من «الله» : اللّات : ومن «العزيز» : العزّى. قال أبو سليمان الخطّابي : كان المشركون يتعاطون «الله» اسما لبعض أصنامهم ، فصرفه الله إلى اللّات صيانة لهذا الاسم وذبّا عنه. وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرّحمن السّلمي والضّحّاك وابن السّميفع ومجاهد وابن يعمر والأعمش ، وورش عن يعقوب : «اللاتّ» بتشديد التاء ؛ ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أنّ رجلا كان يلتّ السّويق للحاجّ ، فلمّا مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال الزّجّاج : زعموا أنّ رجلا كان يلتّ السّويق ويبيعه عند ذلك الصّنم ، فسمّي الصّنم : اللّات. وكان الكسائيّ يقف عليها بالهاء ، فيقول : «اللّاه» ؛ وهذا قياس ، والأجود الوقف بالتاء ، لاتباع المصحف. وأمّا «العزّى» ففيها قولان : أحدهما : أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها ، قاله مجاهد. والثاني : صنم لهم ، قاله الضّحّاك. قال : وأمّا «مناة» فهو صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكّة. وقال قتادة : بل كانت للأنصار. وقال أبو عبيدة : كانت اللّات والعزّى ومناة أصناما من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها. وقرأ ابن كثير : «ومناءة» ممدودة مهموزة. فأمّا قوله : (الثَّالِثَةَ) فإنه نعت ل «مناة» ، هي ثالثة الصّنمين في الذّكر ، و«الأخرى» نعت لها. قال الثّعلبي : العرب لا تقول للثالثة : الأخرى ، وإنّما الأخرى نعت للثانية ؛ فيكون في المعنى وجهان : أحدهما : أن ذلك لوفاق رؤوس الآية ، كقوله (مَآرِبُ أُخْرى) (١) ولم يقل ، أخر ، قاله الخليل. والثاني : أنّ في الآية تقديما وتأخيرا تقديره : أفرأيتم اللّات والعزّى الأخرى ومناة الثالثة ، قاله الحسين بن الفضل.

قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) قال ابن السّائب : إنّ مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة : بنات الله ، وكان الرّجل منهم إذا بشّر بالأنثى كره ، فقال الله تعالى منكرا عليهم : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى)؟ يعني الأصنام وهي إناث في أسمائها. (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائيّ : «ضيزى» بكسر الضاد من غير همز ؛ وافقهم ابن كثير في كسر الضاد لكنه همز. وقرأ أبيّ بن كعب ومعاذ القارئ : «ضيزى» بفتح الضاد من غير همز. قال الزّجّاج : الضّيزى في كلام العرب : الناقصة الجائرة ، يقال : ضازه يضيزه : إذا نقصه حقّه ، ويقال : ضأزه يضأزه بالهمز. وأجمع النّحويّون أنّ أصل ضيزى : ضوزى ، وحجّتهم أنها نقلت من «فعلى» من ضوزى إلى ضيزى ، لتسلم الياء ، كما قالوا : أبيض وبيض ، وأصله : بوض ، فنقلت الضّمّة إلى الكسرة. وقرأت على بعض العلماء باللّغة : في «ضيزى» لغات ؛ يقال : ضيزى وضوزى وضؤزى وضأزى على «فعلى» مفتوحة ؛ ولا يجوز

__________________

(١) طه : ١٨.


في القرآن إلّا «ضيزى» بياء غير مهموزة ؛ وإنما لم يقل النّحويّون : إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فعلى» صفة ، إنما يعرفون الصّفات على «فعلى» بالفتح ، نحو سكرى وغضبى ، أو بالضمّ ؛ نحو حبلى وفضلي.

قوله تعالى : (إِنْ هِيَ) يعني الأوثان (إِلَّا أَسْماءٌ) والمعنى : إنّ هذه الأوثان التي سمّوها بهذه الأسامي لا معنى تحتها ، لأنها لا تضرّ ولا تنفع ، فهي تسميات ألقيت على جمادات ، (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي : لم ينزل كتابا فيه حجّة بما يقولون : أنها آلهة. ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ) في أنها آلهة (إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) وهو ما زيّن لهم الشيطان ، (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) وهو البيان بالكتاب والرّسول ، وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان. ثم أنكر عليهم تمنّيهم شفاعتها فقال : (أَمْ لِلْإِنْسانِ) يعني الكافر (ما تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي لا يملك فيهما أحد شيئا إلّا بإذنه ، ثم أكّد هذا بقوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) فجمع في الكناية ، لأنّ معنى الكلام الجمع (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) في الشفاعة (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ؛ والمعنى أنهم لا يشفعون إلّا لمن رضي الله عنهم.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) وذلك حين زعموا أنها بنات الله ، (وَما لَهُمْ) بذلك (مِنْ عِلْمٍ) أي ما يستيقنون أنها إناث (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لا يقوم مقام العلم ؛ فالحقّ هاهنا بمعنى العلم. (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) يعنى القرآن ، وهذا عند المفسّرين منسوخ بآية السيف. قوله تعالى : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) قال الزّجّاج : إنما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم ، وقد نبذوا أمر الآخرة. قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الآية : والمعنى أنه عالم بالفريقين فيجازيهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هذا إخبار عن قدرته وسعة ملكه ، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا) لأنّ اللام في «ليجزي» متعلقة بمعنى الآية الأولى ، لأنه إذا كان أعلم بهما ؛ جازى كلّا بما يستحقّه ، وهذه لام العاقبة ، وذلك أنّ علمه بالفريقين أدّى إلى جزائهم باستحقاقهم ، وإنّما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك ، فلذلك أخبر به في قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). قال المفسّرون : و«أساؤوا» بمعنى أشركوا ، و«أحسنوا»


بمعنى وحّدوا. والحسنى : الجنّة. والكبائر مذكورة في سورة النّساء (١). وقيل : كبائر الإثم. كلّ ذنب ختم بالنّار ، والفواحش كلّ ذنب فيه الحدّ. وقرأ حمزة والكسائيّ والمفضّل وخلف : «يجتنبون كبير الإثم» واللّمم في كلام العرب : المقاربة للشيء. وفي المراد به هاهنا ستة أقوال : أحدها : ما ألمّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية ، فإنه يغفر في الإسلام ، قاله زيد بن ثابت. والثاني : أن يلمّ بالذّنب مرّة ثم يتوب ولا يعود ، قاله ابن عباس والحسن والسّدّيّ. والثالث : أنه صغار الذّنوب ، كالنّظرة والقبلة وما كان دون الزّنا ، قاله ابن مسعود وأبو هريرة والشّعبي ومسروق.

(١٣٦٣) ويؤيّد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزّنا ، فزنا العينين النّظر ، وزنا اللسان النّطق ، والنّفس تشتهي وتتمنّى ، ويصدّق ذلك ويكذّبه الفرج» ، فإن تقدّم بفرجه كان الزّنا ، وإلّا فهو اللّمم.

والرابع : أنه ما يهمّ به الإنسان ، قاله محمّد ابن الحنفيّة. والخامس : أنه ألمّ بالقلب ، أي : خطر ، قاله سعيد بن المسيّب. والسادس : أنه النّظر من غير تعمّد ، قاله الحسين بن الفضل. فعلى القولين الأوّلين يكون الاستثناء من الجنس ، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس ..

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) قال ابن عباس : لمن فعل ذلك ثم تاب. وهاهنا تمّ الكلام. ثم قال : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) يعني قبل خلقكم (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني آدم عليه‌السلام (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) جمع جنين ؛ والمعنى أنه علم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون ، (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي : لا تشهدوا لها أنّها زكيّة بريئة من المعاصي. وقيل : لا تمدحوها بحسن أعمالها. وفي سبب نزول هذه الآية قولان :

(١٣٦٤) أحدهما : أنّ اليهود كانوا إذا هلك لهم صبيّ ، قالوا : صدّيق ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عائشة رضي الله عنها.

والثاني : أنّ ناسا من المسلمين قالوا : قد صلّينا وصمنا وفعلنا ، يزكّون أنفسهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل (٢).

قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : عمل حسنة وارعوى عن معصية ، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني : أخلص العمل لله ، قاله الحسن. الثالث : اتّقى الشّرك فآمن ، قاله الثّعلبي.

____________________________________

(١٣٦٣) صحيح. أخرجه البخاري ٦٦١٢ عن محمود بن غيلان به. وأخرجه البخاري بإثر ٦٢٤٣ ومسلم ٢٦٥٧ ح ٢٠ وأحمد ٢ / ٢٧٦ وابن حبان ٤٤٢٠ والبيهقي ٧ / ٨٩ و ١٠ / ١٨٥ والواحدي ٤ / ٢٠١ من طريق عبد الرزاق به.

(١٣٦٤) لم أره من حديث عائشة مسندا. وورد هنا حديث ثابت بن الحارث الأنصاري ، وهو ضعيف. أخرجه الواحدي ٧٧٠ والطبراني ٢ / ٨١ عن ثابت بن الحارث الأنصاري مرفوعا وفيه ابن لهيعة ضعيف الحديث ، والسورة مكية ومجادلات اليهود كانت في المدينة ، وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٣٧٣ و«تفسير القرطبي» ٥٧١٦ بتخريجنا.

__________________

(١) النساء : ٣١.

(٢) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متهم بالكذب ، فخبره لا شيء.


(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(١٣٦٥) أحدها : أنه الوليد بن المغيرة ، وكان قد تبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دينه ، فعيّره بعض المشركين ، وقال : تركت دين الأشياخ وضلّلتهم؟ قال : إنّي خشيت عذاب الله ، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمّل عنه عذاب الله عزوجل ، ففعل ، فأعطاه بعض الذي ضمن له ، ثم بخل ومنعه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وابن زيد.

(١٣٦٦) والثاني : أنه النّضر بن الحارث أعطى بعض فقراء المسلمين خمس قلائص حتى ارتدّ عن إسلامه ، وضمن له أن يحمل عنه إثمه ، قاله الضّحّاك.

(١٣٦٧) والثالث : أنه أبو جهل ، وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمّد إلّا بمكارم الأخلاق ، قاله محمّد بن كعب القرظي.

والرابع : أنه العاص بن وائل السّهمي ، وكان ربّما وافق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الأمور ، قاله السّدّيّ (١).

ومعنى «تولّى» : أعرض عن الإيمان. (وَأَعْطى قَلِيلاً) فيه أربعة أقوال : أحدها : أطاع قليلا ثم عصى. قاله ابن عباس. والثاني : أعطى قليلا من نفسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع. قال مجاهد. والثالث : أعطى قليلا من ماله ثم منع ، قاله الضّحّاك. والرابع : أعطى قليلا من الخير بلسانه ثم قطع ، قاله مقاتل. قال ابن قتيبة : ومعنى «أكدى» : قطع ، وهو من كدية الرّكيّة ، وهي الصّلابة فيها ، وإذا بلغها الحافر يئس من حفرها ، فقطع الحفر ، فقيل لكلّ من طلب شيئا فلم يبلغ آخره ، أو أعطى ولم يتمّ : أكدى. قوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) فيه قولان : أحدهما : فهو يرى حاله في الآخرة ، قاله الفرّاء ، والثاني : فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها ، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) يعني التّوراة ، (وَإِبْراهِيمَ) أي : وصحف إبراهيم.

(١٣٦٨) وفي حديث أبي ذرّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ الله تعالى أنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل

____________________________________

(١٣٦٥) أخرجه الطبري ٣٢٥٩٥ عن مجاهد وبرقم ٣٢٥٩٦ عن ابن زيد ، وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٧٢ عن مجاهد وابن زيد بدون إسناد.

(١٣٦٦) عزاه المصنف للضحاك ، ولم أقف على إسناده ، وهو مرسل ، والضحاك ذو مناكير ، وهذا منها ، وأثر مجاهد المتقدم أصح.

(١٣٦٧) عزاه المصنف للقرظي ، وهذا مرسل ، فهو واه.

(١٣٦٨) ضعيف جدا. أخرجه ابن حبان ٣٦١ وأبو نعيم ١ / ١٦٦ من حديث أبي ذر ، وإسناده ضعيف جدا ، فيه ـ

__________________

(١) عزاه المصنف للسدي ، وهذا معضل ، فهو واه.


على موسى قبل التّوراة عشر صحائف».

قوله تعالى : (الَّذِي وَفَّى) قرأ سعيد بن جبير ، وأبو عمران الجونيّ ، وابن السّميفع اليمانيّ «وفى» بتخفيف الفاء. قال الزّجّاج : قوله : «وفّى» أبلغ من «وفى» لأنّ الذي امتحن به من أعظم المحن. وللمفسّرين في الذي وفّى عشرة أقوال :

(١٣٦٩) أحدها : أنه وفّى عمل يومه بأربع ركعات في أول النهار ، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنه وفّى في كلمات كان يقولها.

(١٣٧٠) روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلّما أصبح وكلّما أمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١) وختم الآية.

والثالث : أنه وفّى الطاعة فيما فعل بابنه ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال القرظي. والرابع : أنه وفّى ربّه جميع شرائع الإسلام ، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس. والخامس : أنه وفّى ما أمر به من تبليغ الرّسالة ، روي عن ابن عباس أيضا. والسادس : أنه عمل بما أمر به ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وقال مجاهد : وفّى ما فرض عليه. والسابع : أنه وفّى بتبليغ هذه الآيات ، وهي : «ألّا تزر وازرة وزر أخرى» وما بعدها ، وهذا مرويّ عن عكرمة ، ومجاهد ، والنّخعي. والثامن : وفّى شأن المناسك ، قاله الضّحّاك. والتاسع : أنه عاهد أن لا يسأل مخلوقا شيئا ، فلمّا قذف في النار قال له جبريل ، ألك حاجة؟ فقال : أمّا إليك فلا ، فوفّى بما عاهد ، ذكره عطاء بن السّائب. العاشر : أنه أدّى الأمانة ، قاله سفيان بن عيينة.

ثم بيّن ما في صحفهما فقال : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي : لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى ؛ والمعنى : لا تؤخذ بإثم غيرها. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) قال الزّجّاج : هذا في صحفهما أيضا ومعناه : ليس للإنسان إلّا جزاء سعيه ، إن عمل خيرا جزي عليه خيرا ، وإن عمل شرّا جزي شرّا. واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال : أحدها : أنها منسوخة بقوله : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ

____________________________________

إبراهيم بن هشام الغساني ، وهو متروك. وتقدم.

(١٣٦٩) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٢٦١٨ من طريق الحسن بن عطية عن إسرائيل. وإسناده ضعيف جدا ، فيه جعفر بن الزبير متروك ، والقاسم يروي مناكير عن أبي أمامة. قال الإمام أحمد : روى علي بن يزيد عن القاسم أعاجيب ، ولا أراها إلا من قبل القاسم. وإسرائيل هو ابن يونس السّبيعي ، والقاسم هو ابن عبد الرحمن. وقد ضعفه ابن كثير في «التفسير» ٤ / ٢٥٨ والسيوطي في «الدر» ١٨٦.

(١٣٧٠) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٢٦١٧ وأحمد ٣ / ٢٣٩ و ٤١٩ والطبراني في «الكبير» ٢٠ / ١٩٢ وابن السني في «اليوم والليلة» ٧٨ من حديث سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعا ، ومداره على زبان بن فائد ، وهو ضعيف ، وشيخه سهل بن معاذ روى مناكير كثيرة ، وهذا منها وقال الهيثمي : في «المجمع» ١٠ / ١٠٧ : وفيه ضعفاء وثقوا اه.

__________________

(١) الروم : ١٧.


بِإِيمانٍ) (١) فأدخل الأبناء الجنّة بصلاح الآباء ، قاله ابن عباس ، ولا يصحّ ، لأنّ لفظ الآيتين لفظ خبر ، والأخبار لا تنسخ. والثاني : أنّ ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى ، وأمّا هذه الأمّة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم ، قاله عكرمة. واستدلّ بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمرأة التي سألته :

(١٣٧١) إنّ أبي مات ولم يحجّ ، فقال : «حجّي عنه».

والثالث : أنّ المراد بالإنسان هاهنا : الكافر ، فأمّا المؤمن ، فله ما سعى وما سعي له ، قاله الرّبيع بن أنس. والرابع : أنه ليس للإنسان إلّا ما سعى من طريق العدل ، فأمّا من باب الفضل ، فجائز أن يزيده الله عزوجل ما يشاء ، قاله الحسين بن الفضل. والخامس : أنّ معنى «ما سعى» : ما نوى ، قاله أبو بكر الورّاق. والسادس : ليس للكافر من الخير إلّا ما عمله في الدّنيا ، فيثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير ، ذكره الثّعلبي. والسابع : أنّ اللام بمعنى «على» ، فتقديره : ليس على الإنسان إلّا ما سعى. والثامن : أنه ليس له إلّا سعيه ، غير أنّ الأسباب مختلفة ، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحّم عليه وصديق ، وتارة يسعى في خدمة الدّين والعبادة ، فيكتسب محبّة أهل الدّين ، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه ، حكى القولين شيخنا عليّ بن عبيد الله الزّاغوني.

قوله تعالى : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) فيه قولان : أحدهما : سوف يعلم ، قاله ابن قتيبة. والثاني : سوف يرى العبد سعيه يوم القيامة ، أي : يرى عمله في ميزانه ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (يُجْزاهُ) الهاء عائدة على السّعي (الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي : الأكمل الأتمّ.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١)

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥))

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي : منتهى العباد ومرجعهم. قال الزّجّاج : هذا كلّه في صحف إبراهيم وموسى. قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى). قالت عائشة :

(١٣٧٢) مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوم يضحكون ، فقال : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا» ، فنزل جبريل عليه‌السلام بهذه الآية ، فرجع إليهم ، فقال «ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل ، فقال : ائت هؤلاء فقل لهم : إنّ الله يقول : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى). وفي هذا تنبيه على أنّ جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضّحك والبكاء. وقال مجاهد : أضحك أهل الجنّة. وأبكى أهل النّار. وقال الضّحّاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر.

____________________________________

(١٣٧١) هو حديث الخثعمية ، خرّجه الشيخان ، وتقدم.

(١٣٧٢) ضعيف جدا. أخرجه الواحدي ٧٧٣ من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي الإسناد مجاهيل ، ودلال بنت أبي المدلّ والصهباء لم أعثر لهما على ترجمة ، والله أعلم ، والمتن غريب جدا.

__________________

(١) الطور : ٢١.


قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ) في الدّنيا (وَأَحْيا) للبعث. (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) أي : الصّنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) من جميع الحيوانات ، (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) فيه قولان : أحدهما : إذا تراق في الرّحم ، قاله ابن السّائب. والثاني : إذا تخلق وتقدّر. (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) وهي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة. (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى) فيه أربعة أقوال : أحدها : أغنى بالكفاية ، قاله ابن عباس. والثاني : بالمعيشة ، قاله الضّحّاك. والثالث : بالأموال ، قاله أبو صالح. والرابع : بالقناعة ، قاله سفيان. وفي قوله : (وَأَقْنى) ثلاثة أقوال : أحدها : أرضى بما أعطى ، قاله ابن عباس. والثاني : أخدم ، قاله الحسن ، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين. والثالث : جعل للإنسان قنية ، وهو أصل مال. قاله أبو عبيدة. قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) قال ابن قتيبة : هو الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء ، وكان ناس من العرب يعبدونها.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «عادا الأولى» منوّنة. وقرأ نافع ، وأبو عمرو : «عادا لولى» موصولة مدغمة. ثم فيهم قولان : أحدهما : أنهم قوم هود ، وكان لهم عقب فكانوا عادا الأخرى ، هذا قول الجمهور. والثاني : أنّ قوم هود هم عاد الأخرى ، وهم من أولاد عاد الأولى ، قاله كعب الأحبار ، وقال الزّجّاج : وفي «الأولى» لغات ، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة ، والتي تليها في الجودة ضمّ اللام وطرح الهمزة ، ومن العرب من يقول : لولى ، يريد : الأولى ، فتطرح الهمزة لتحرّك اللّام.

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من غيرهم ، لطول دعوة نوح إيّاهم ، وعتوّهم. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) قرى قوم لوط (أَهْوى) أي : أسقط ، وكان الذي تولّى ذلك جبريل بعد أن رفعها ، وأتبعهم الله بالحجارة ، فذلك قوله : (فَغَشَّاها) أي : ألبسها (ما غَشَّى) يعني الحجارة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) هذا خطاب للإنسان ، لمّا عدّد الله ما فعله ممّا يدلّ على وحدانيّته قال : فبأيّ نعم ربّك التي تدلّ على وحدانيّته تتشكّك؟ وقال ابن عباس : فبأيّ آلاء ربّك تكذّب يا وليد ، يعني الوليد ابن المغيرة.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

قوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه القرآن ، نذير بما أنذرت الكتب المتقدّمة ، قاله قتادة. والثاني : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نذير بما أنذرت به الأنبياء ، قاله ابن جريج.

قوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي : دنت القيامة ، (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) فيه قولان : أحدهما : إذا غشيت الخلق شدائدها وأهوالها لم يكشفها أحد ولم يردّها ، قاله عطاء ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : ليس لعلمها كاشف دون الله ، أي : لا يعلم علمها إلّا الله ، قاله الفرّاء ، قال : وتأنيث «كاشفة» كقوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (١) يريد : من بقاء ؛ والعافية والباقية والنّاهية كلّه في معنى المصدر. وقال غيره : تأنيث «كاشفة» على تقدير : «نفس كاشفة».

__________________

(١) الحاقة : ٨.


قوله تعالى : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) قال مقاتل : يعني القرآن (تَعْجَبُونَ) تكذيبا به (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء (وَلا تَبْكُونَ) ممّا فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفّار مكّة. (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) فيه خمسة أقوال. أحدها : لاهون ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الفرّاء والزّجّاج. قال أبو عبيدة : يقال : دع عنك سمودك ، أي : لهوك. والثاني : معرضون ، قاله مجاهد. والثالث : أنه الغناء ، وهي لغة يمانيّة ، يقولون : اسمد لنا ، أي : تغنّ لنا ، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عكرمة : هو الغناء بالحميريّة. والرابع : غافلون ، قاله قتادة. والخامس : أشرون بطرون ، قاله الضّحّاك.

قوله تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) فيه قولان (١) : أحدهما : أنه سجود التّلاوة ، قاله ابن مسعود. والثاني : سجود الفرض في الصّلاة. قال مقاتل : يعني بقوله : «فاسجدوا» : الصّلوات الخمس.

وفي قوله : (وَاعْبُدُوا) قولان : أحدهما : أنه التّوحيد. والثاني : العبادة.

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٧٢ : قال علماؤنا رضي الله عنهم : لم يختلف قول مالك إن سجدة النجم ليست من عزائم القرآن ، وأما ابن وهب رآها من عزائمه ، وكان مالك يسجدها في خاصة نفسه.

وقال أبو حنيفة والشافعي : هي من عزائم السجود ، وهو الصحيح.


سورة القمر

وهي مكّيّة بإجماعهم ، وقال مقاتل : مكّيّة غير آية (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) (١) ، وحكي عنه أنه قال : إلّا ثلاث آيات ، أوّلها : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إلى قوله : (وَأَمَرُّ) (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥))

(١٣٧٣) قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فرقتين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي : «يا فلان يا فلان اشهدوا» ، وذلك بمكّة قبل الهجرة.

(١٣٧٤) وقد روى البخاريّ ومسلم في (صحيحيهما) من حديث ابن مسعود قال : انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شقّتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا». وقد روى حديث الانشقاق جماعة منهم : عبد الله بن عمر وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عباس وأنس بن مالك.

____________________________________

(١٣٧٣) أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ٢٠٩ من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ ، وفي الطريق عن عطاء ، ابن جريج ، وهو مدلس ، وقد عنعن ، وفي الطريق عن الضحاك مقاتل. وقد ذكره السيوطي في «الدر» ٦ / ١٧٧ فقال : أخرجه أبو نعيم في «الحلية» من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس بهذا اللفظ ، ولم أره في «الحلية». وضعفه الحافظ في «الفتح» ٨ / ١٨١. لكن أصل الحديث صحيح ، انظر الآتي. وانظر «تفسير القرطبي» ٥٧٣٦ بتخريجنا.

(١٣٧٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٦٤ عن مسدد به ، من حديث ابن مسعود. وأخرجه البخاري ٣٨٦٩ و ٣٨٧١ ومسلم ٢٨٠٠ ح ٤٤ والترمذي ٣٢٨٥ وأحمد ١ / ٤٤٧ والطبري ٣٢٦٩٤ وابن حبان ٦٤٩٥ والطبراني ٩٩٩٦ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٢٦٥ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري ٣٦٣٦ و ٤٨٦٥ والترمذي ٣٢٨٧ وأبو يعلى ٤٩٦٨ وأحمد ١ / ٣٧٧ وأبو يعلى ٤٩٦٨ والبيهقي ٢ / ٢٦٤ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٠٦ من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر به. وورد من حديث جبير بن مطعم أخرجه أحمد ٤ / ٨١ ـ ٨٢ وابن حبان ٦٤٩٧ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٢٦٨ والطبري ٣٢٧٠٥. وورد من حديث ابن عمر أخرجه مسلم

__________________

(١) القمر : ٤٥.

(٢) القمر : ٤٤ ـ ٤٦.


وعلى هذا جميع المفسّرين ، إلّا أن قوما شذّوا فقالوا : سينشقّ يوم القيامة. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك ، وهذا القول الشّاذ لا يقاوم الإجماع ، ولأنّ قوله : (وَانْشَقَ) لفظ ماض ، وحمل لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل ، وليس ذلك موجودا. وفي قوله : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) دليل على أنه قد كان ذلك. ومعنى (اقْتَرَبَتِ) : دنت ؛ و (السَّاعَةُ) القيامة. وقال الفرّاء : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : انشقّ القمر واقتربت الساعة. وقال مجاهد : انشقّ القمر فصار فرقتين ، فثبتت فرقة ، وذهبت فرقة وراء الجبل. وقال ابن زيد : لمّا انشقّ القمر كان يرى نصفه على قعيقعان ، والنصف الآخر على أبي قبيس.

(١٣٧٥) قال ابن مسعود : لمّا انشقّ القمر قالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة ، فاسألوا السّفّار ، فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه ، فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي : آية تدلّهم على صدق الرسول ، والمراد بها هاهنا : انشقاق القمر (يُعْرِضُوا) عن التصديق (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ذاهب ، من قولهم : مرّ الشيء واستمرّ : إذا ذهب ، قاله مجاهد وقتادة والكسائيّ والفرّاء ؛ فعلى هذا يكون المعنى : هذا سحر ، والسّحر يذهب ولا يثبت. والثاني : شديد قويّ ، قاله أبو العالية والضّحّاك وابن قتيبة ، قال : وهو مأخوذ من المرّة ، والمرّة : الفتل. والثالث : دائم ، حكاه الزّجّاج.

قوله تعالى : (وَكَذَّبُوا) يعني كذّبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما عاينوا من قدرة الله تعالى (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ما زيّن لهم الشيطان (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ كلّ أمر مستقرّ بأهله ، فالخير يستقرّ بأهل الخير ، والشرّ يستقرّ بأهل الشرّ ، قاله قتادة. والثاني : لكلّ حديث منتهى وحقيقة ، قاله مقاتل. والثالث : أنّ قرار تكذيبهم مستقرّ ، وقرار تصديق المصدّقين مستقرّ حتى يعلموا حقيقته بالثّواب والعقاب ، قاله الفرّاء.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) يعني أهل مكّة (مِنَ الْأَنْباءِ) أي : من أخبار الأمم المكذّبة في القرآن (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) قال ابن قتيبة : أي : متّعظ ومنتهى.

قوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) قال الزّجّاج : هي مرفوعة لأنها بدل من «ما» ، فالمعنى : ولقد جاءهم حكمة بالغة. وإن شئت رفعتهما بإضمار : هو حكمة بالغة. و«ما» في قوله (فَما تُغْنِ النُّذُرُ)

____________________________________

٢٨٠١ والترمذي ٣٢٨٨ والطيالسي ١٨٩١ وابن حبان ٦٤٩٨ والطبراني ١٣٤٧٣. ومن حديث حذيفة : أخرجه الحاكم ٤ / ٦٠٩ والطبري ٣٢٧٠٣ ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. ومن حديث ابن عباس. أخرجه البخاري ٤٨٦٦ ومسلم ٢٨٠٣ عن ابن عباس : إن القمر انشق على زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن حديث أنس بن مالك : أخرجه البخاري ٣٨٦٨ عن عبد الله بن عبد الوهاب به. وأخرجه البخاري ٣٦٣٧ وأحمد ٣ / ٢٢٠ والطبري ٣٢٦٩٣ من طرق عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه مسلم ٢٨٠٢ والترمذي ٣٢٨٢ وأحمد ٣ / ١٦٥ من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة به وأخرجه البخاري ٤٨٦٨ ومسلم ٢٨٠٢ ح ٤٧ وأحمد ٣ / ٢٧٥ والطبري ٣٢٦٩٠ و ٣٢٦٩٢ وأبو يعلى ٢٩٢٩ والطيالسي ٢٤٤٩ من طرق عن شعبة عن قتادة به. وأخرجه البخاري ٣٦٣٧ و ٤٨٦٧ ومسلم ٢٨٠٢ وأحمد ٣ / ٢٠٧ وأبو يعلى ٣١١٣ من طرق عن شيبان عن قتادة به.

(١٣٧٥) صحيح. أخرجه الطبري ٣٢٦٩٩ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٢٦٦ والواحدي في «الأسباب» ٧٧٤ من طريق المغيرة عن أبي الضحى به وإسناده على شرط الصحيح.


جائز أن يكون استفهاما بمعنى التّوبيخ ، فيكون المعنى : أيّ شيء تغني النّذر؟! وجائز أن يكون نفيا ، على معنى ، فليست تغني النّذر. قال المفسّرون : والمعنى : جاءهم القرآن وهو حكمة تامّة قد بلغت الغاية ، فما تغني النّذر إذا لم يؤمنوا؟!

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) قال الزّجّاج : هذا وقف التّمام ، و (يَوْمَ) منصوب بقوله : «يخرجون من الأجداث». وقال مقاتل : فتولّ عنهم إلى يوم يدع الدّاعي أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب ؛ وافقه أبو جعفر ، وأبو عمرو في الوصل ، وحذفها الأكثرون في الحالين. و«الدّاعي» : إسرافيل ينفخ النّفخة الثانية (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) وقرأ ابن كثير : «نكر» خفيفة ؛ أي : إلى أمر فظيع. وقال مقاتل : «النّكر» بمعنى المنكر ، وهو القيامة ، وإنّما ينكرونه إعظاما له. والتّولّي المذكور في الآية منسوخ عند المفسّرين بآية السيف.

قوله تعالى : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) قرأ أهل الحجاز ، وابن عامر ، وعاصم : «خشّعا» بضمّ الخاء وتشديد الشين من غير ألف. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «خاشعا» بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين. قال الزّجّاج : المعنى : يخرجون خشّعا ، و«خاشعا» منصوب على الحال ، وقرأ ابن مسعود : «خاشعة» ؛ ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدّمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع ؛ تقول : مررت بشبّان حسن أوجههم ، وحسان أوجههم ، وحسنة أوجههم ، قال الشاعر :

وشباب حسن أوجههم

من إياد بن نزار بن معدّ (١)

قال المفسّرون : والمعنى أنّ أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. والأجداث : القبور ، وإنما شبّههم بالجراد المنتشر ، لأنّ الجراد لا جهة له يقصدها ، فهو أبدا مختلف بعضه في بعض ، فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها. والدّاعي : إسرافيل. وقد أثبت ياء «الدّاعي» في الحالين ابن كثير ، ويعقوب ؛ تابعهما في الوصل نافع ، وأبو عمرو ؛ والباقون بحذفها في الحالين. وقد بيّنّا معنى «مهطعين» في سورة إبراهيم (٢). والعسر : الصّعب الشّديد.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

__________________

(١) البيت للحارث بن دوس الإيادي كما في «تفسير القرطبي» ١٧ / ١١٥.

(٢) إبراهيم : ٤٣.


قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي : قبل أهل مكّة (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) قال أبو عبيدة : افتعل من زجر. قال المفسّرون : زجروه عن مقالته (فَدَعا) عليهم نوح (رَبَّهُ) ب (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي : فانتقم لي ممّن كذّبني. قال الزّجّاج : وقرأ عيسى بن عمر النّحويّ : «إنّي» بكسر الألف ، وفسّرها سيبويه فقال : هذا على إرادة القول ، فالمعنى : قال : إنّي مغلوب ؛ ومن فتح ، وهو الوجه ، فالمعنى : دعا ربّه ب (أَنِّي مَغْلُوبٌ).

قوله تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) قرأ ابن عامر «ففتّحنا» بالتشديد. فأمّا المنهمر ، فقال ابن قتيبة : هو الكثير السريع الانصباب ، ومنه يقال : همر الرّجل : إذا أكثر من الكلام وأسرع. وروى عليّ رضي الله عنه أنّ أبواب السماء فتحت بالماء من المجرّة ، وهي شرج السماء. وعلى ما ذكرنا من القصة في هود (١) أنّ المطر جاءهم ، يكون هو المراد بقوله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ). قال المفسّرون : جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوما ، وفجّرت الأرض من تحتهم عيونا أربعين يوما. (فَالْتَقَى الْماءُ) وقرأ أبيّ بن كعب وأبو رجاء وعاصم الجحدري : «الماءان» بهمزة وألف ونون مكسورة. وقرأ ابن مسعود : «المايان» بياء وألف ونون مكسورة من غير همز. وقرأ الحسن وأبو عمران : «الماوان» بواو وألف وكسر النون. قال الزّجّاج : يعني بالماء : ماء السماء وماء الأرض ، ويجوز الماءان ، لأنّ اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء. قوله تعالى : (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) فيه قولان : أحدهما : كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض ، قاله مقاتل. والثاني : قد قدر في اللّوح المحفوظ ، قاله الزّجّاج. فيكون المعنى : على أمر قد قضي عليهم ، وهو الغرق.

قوله تعالى : (وَحَمَلْناهُ) يعني نوحا (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) قال الزّجّاج. أي : على سفينة ذات ألواح. قال المفسّرون : ألواحها : خشباتها العريضة التي منها جمعت. وفي الدّسر أربعة أقوال : أحدها : أنها المسامير ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والقرظي ، وابن زيد. وقال الزّجّاج : الدّسر : المسامير والشّرط التي تشدّ بها الألواح ، وكلّ شيء نحو السّمر أو إدخال شيء في شيء بقوّة وشدّة قهر فهو دسر ، يقال : دسرت المسمار أدسره وأدسره. والدّسر : واحدها دسار ، نحو حمار ، وحمر. والثاني : أنه صدر السفينة ، سمّي بذلك لأنه يدسر الماء ، أي : يدفعه ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وعكرمة ؛ ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر ، أي : دفعه. والثالث : أنّ الدّسر : أضلاع السفينة ، قاله مجاهد. والرابع : أنّ الدّسر : طرفاها وأصلها ، والألواح : جانباها ، قاله الضّحّاك.

قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي : بمنظر ومرأى منّا (جَزاءً) قال الفرّاء : فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به. وفي المراد ب «من» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الله عزوجل ، وهو مذهب مجاهد ، فيكون المعنى : عوقبوا لله ولكفرهم به. والثاني : أنه نوح كفر به وجحد أمره ، قاله الفرّاء. والثالث : أنّ «من» بمعنى «ما» ؛ فالمعنى : جزاء لما كان كفر من نعم الله عند الذين أغرقهم ، حكاه ابن جرير. وقرأ قتادة : «لمن كان كفر» بفتح الكاف والفاء.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها) في المشار إليها قولان : أحدهما : أنها السفينة ، قال قتادة : أبقاها الله على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمّة. والثاني : أنها الفعلة ، فالمعنى : تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة

__________________

(١) هود : ٤٤.


نوح «آية» ، أي : علامة ليعتبر بها ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وأصله مدتكر ، فأبدلت التاء دالا على ما بيّنّا في قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (١). قال ابن قتيبة : أصله : مذتكر ، فأدغمت التاء في الذال ثم قلبت دالا مشدّدة. قال المفسّرون : والمعنى : هل من متذكّر يعتبر بذلك؟ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وفي هذه السّورة «ونذر» ستة مواضع ، أثبت الياء فيهنّ في الحالين يعقوب ، تابعه في الوصل ورش ، والباقون بحذفها في الحالين. وقوله : «فكيف كان عذابي» استفهام عن تلك الحالة ، ومعناه التعظيم لذلك العذاب. قال ابن قتيبة : والنّذر هاهنا جمع نذير ، وهو بمعنى الإنذار ، ومثله النّكير بمعنى الإنكار. قال المفسّرون : وهذا تخويف لمشركي مكّة.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) أي سهّلناه (لِلذِّكْرِ) أي للحفظ والقراءة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي من ذاكر يذكره ويقرؤه ؛ والمعنى : هو الحثّ على قراءته وتعلّمه ، قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كلّه ظاهرا إلّا القرآن. وأمّا الرّيح الصّرصر ، فقد ذكرناها في حم السّجدة (٢).

قوله تعالى : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) قرأ الحسن : (فِي يَوْمِ) بالتنوين ، على أنّ اليوم منعوت بالنّحس. والمستمرّ : الدائم الشّؤم ، استمرّ عليهم بنحوسه. وقال ابن عباس : كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. وقيل : إنه كان يوم أربعاء في آخر الشهر. (تَنْزِعُ النَّاسَ) أي : تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدقّ رقابهم فتبين الرّأس عن الجسد ، ف (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن السّميفع : «أعجز نخل» برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم. وقرأ ابن مسعود ، وأبو مجلز ، وأبو عمران : «كأنّهم عجز نخل» بضم العين والجيم. ومعنى الكلام : كأنهم أصول نخل (مُنْقَعِرٍ) أي : منقلع. وقال الفرّاء : المنقعر : المنصرع من النّخل. قال ابن قتيبة : يقال : قعرته فانقعر ، أي قلعته فسقط. قال أبو عبيدة : والنّخل يذكّر ويؤنّث ، فهذه الآية على لغة من ذكّر ، وقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٣) على لغة من أنّث. وقال مقاتل : شبّههم حين وقعوا من شدّة العذاب بالنّخل السّاقطة التي لا رؤوس لها ، وإنّما شبّههم بالنّخل لطولهم ، وكان طول كلّ واحد منهم اثني عشر ذراعا.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) فيه قولان : أحدهما : أنه جمع نذير. وقد بيّنّا أنّ من كذّب نبيّا واحدا فقد كذّب الكلّ. والثاني : أنّ النّذر بمعنى الإنذار كما بيّنّا في قوله : «فكيف كان عذابي ونذر» ؛ فكأنّهم كذّبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح ، (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا) قال الزّجّاج : هو منصوب بفعل مضمر والذي ظهر تفسيره ، المعنى : أنتّبع بشرا منّا (واحِداً) ، قال المفسّرون : قالوا : هو آدميّ مثلنا ، وهو

__________________

(١) يوسف : ٤٥.

(٢) فصلت : ١٦٠.

(٣) الحاقة : ٧.


واحد فلا نكون له تبعا (إِنَّا إِذاً) إن فعلنا ذلك (لَفِي ضَلالٍ) أي : خطإ وذهاب عن الصّواب (وَسُعُرٍ) قال ابن عباس : أي : جنون. قال ابن قتيبة : هو من تسعّرت النّار : إذا التهبت ، يقال : ناقة مسعورة ، أي : كأنّها مجنونة من النشاط. وقال غيره : لفي شقاء وعناء لأجل ما يلزمنا من طاعته.

ثم أنكروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ) أي : أنزل الوحي (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي : كيف خصّ من بيننا بالنبوة والوحي؟! (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) وفيه قولان : أحدهما : أنه المرح المتكبّر ، قاله ابن قتيبة. والثاني : البطر ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً) قرأ ابن عامر وحمزة : «ستعلمون» بالتاء «غدا» فيه قولان :

أحدهما : يوم القيامة ، قاله ابن السّائب. والثاني : عند نزول العذاب بهم ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) وذلك أنهم سألوا صالحا أن يظهر لهم ناقة من صخرة ، فقال الله تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي : مخرجوها كما أرادوا (فِتْنَةً لَهُمْ) أي : محنة واختبارا (فَارْتَقِبْهُمْ) أي فانتظر ما هم صانعون (وَاصْطَبِرْ) على ما يصيبك من الأذى ، (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي : بين ثمود وبين النّاقة ، يوم لها ويوم لهم ، فذلك قوله : (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يحضره صاحبه ويستحقّه. قوله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) واسمه قدار بن سالف (فَتَعاطى) قال ابن قتيبة : تعاطى عقر النّاقة (فَعَقَرَ) أي : قتل ؛ وقد بيّنا هذا في الأعراف (١).

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) وذلك أنّ جبريل عليه‌السلام صاح بهم ؛ وقد أشرنا إلى قصّتهم في هود (٢) (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قال ابن عباس : هو الرّجل يجعل لغنمه حظيرة بالشّجر والشّوك دون السّباع ، فما سقط من ذلك وداسته الغنم ، فهو الهشيم. وقد بيّنّا معنى «الهشيم» في الكهف (٣). وقال الزّجّاج : الهشيم : ما يبس من الورق وتكسّر وتحطّم ، والمعنى : كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف ، هو يجمع ليوقد. وقرأ الحسن : «المحتظر» بفتح الظاء ، وهو اسم الحظيرة ؛ والمعنى : كهشيم المكان الذي يحتظر فيه الهشيم من الحطب. وقال سعيد بن جبير : هو التراب الذي يتناثر من الحيطان. وقال قتادة : كالعظام النّخرة المحترقة. والمراد من جميع ذلك : أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطّم.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) قال المفسّرون : هي الحجارة التي قذفوا بها (إِلَّا آلَ لُوطٍ) يعني لوط وابنتيه (نَجَّيْناهُمْ) من ذلك العذاب (بِسَحَرٍ) قال الفرّاء : «سحر» هاهنا يجري لأنه نكرة ، كقوله : نجّيناهم بليل ، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يجر ، لأنّ لفظهم به بالألف واللام ، يقولون : ما

__________________

(١) الأعراف : ٧٧.

(٢) هود : ٦١.

(٣) الكهف : ٤٥.


زال عندنا منذ السّحر ، لا يكادون يقولون غيره ، فإذا حذفت منه الألف واللام لم يصرف. وقال الزّجّاج : إذا كان السّحر نكرة يراد به سحر من الأسحار ، انصرف ، فإذا أردت سحر يومك ، لم ينصرف. قوله تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) قال مقاتل : من وحّد الله تعالى لم يعذّب مع المشركين. قوله تعالى : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي : طلبوا أن يسلّم إليهم أضيافه ، وهم الملائكة (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) وهو أنّ جبريل ضرب أعينهم بجناحه فأذهبها. وقد ذكرنا القصّة في سورة هود (١). وتمّ الكلام هاهنا ، ثم قال : (فَذُوقُوا) أي : فقلنا لقوم لوط لما جاءهم العذاب : ذوقوا (عَذابِي وَنُذُرِ) أي : ما أنذركم به لوط ، (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أي : أتاهم صباحا (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي : نازل بهم. قال مقاتل : استقرّ بهم العذاب بكرة. قال الفرّاء : والعرب تجري «غدوة» و«بكرة» ولا تجريهما ، وأكثر الكلام في «غدوة» ترك الإجراء ، وأكثر في «بكرة» أن تجرى ، فمن لم يجرها جعلها معرفة ، لأنها اسم يكون أبدا في وقت واحد بمنزلة «أمس» و«غد» ، وأكثر ما تجري العرب «غدوة» إذا قرنت بعشيّة ، يقولون : إني لآتيهم غدوة وعشيّة ، وبعضهم يقول : «غدوة» فلا يجريها و«عشية» فيجريها ، ومنهم من لا يجري «عشيّة» لكثرة ما صحبت «غدوة». وقال الزّجّاج : الغدوة والبكرة إذا كانتا نكرتين نوّنتا وصرفتا ، فإذا أردت بهما بكرة يومك وغداة يومك ، لم تصرفهما ، والبكرة هاهنا نكرة ، فالصّرف أجود ، لأنه لم يثبت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ) يعني القبط (النُّذُرُ) فيهم قولان : أحدهما : أنه جمع نذير ، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى. والثاني : أنّ النّذر بمعنى الإنذار ؛ وقد بيّناه آنفا ، (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب (أَخْذَ عَزِيزٍ) أي : غالب في انتقامه (مُقْتَدِرٍ) قادر على هلاكهم. ثم خوّف أهل مكّة فقال : (أَكُفَّارُكُمْ) يا معشر العرب (خَيْرٌ) أي : أشدّ وأقوى (مِنْ أُولئِكُمْ) وهذا استفهام معناه الإنكار ؛ والمعنى : ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود ، وقد أهلكناهم (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ) من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم (فِي الزُّبُرِ) أي : في الكتب المتقدّمة ، (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) المعنى : أيقولون : نحن يد واحدة على من خالفنا فننتصر منهم؟ وإنّما وحّد المنتصر للفظ الجميع ، فإنه على لفظ «واحد» وإن كان اسما للجماعة (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) وروى أبو حاتم بن يعقوب : «سنهزم» بالنّون ، «الجمع» بالنّصب ، «وتولّون» بالتاء ، ويعني بالجمع : جمع كفّار مكّة (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ولم يقل : الأدبار ، وكلاهما جائز ؛ قال الفرّاء : مثله أن يقول : إنّ فلانا لكثير الدّينار والدّرهم. وهذا مما أخبر الله به نبيّه من علم الغيب ، فكانت الهزيمة يوم بدر.

قوله تعالى : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) قال مقاتل : هي أفظع (وَأَمَرُّ) من القتل. قال الزّجّاج : ومعنى الدّاهية : الأمر الشديد الذي لا يهتدى لدوائه ؛ ومعنى «أمرّ» : أشدّ مرارة من القتل والأسر.

__________________

(١) هود : ٨١.


(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) في سبب نزولها قولان :

(١٣٧٦) أحدهما : أنّ مشركي مكّة جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمون في القدر ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ، انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة.

(١٣٧٧) وروى أبو أمامة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ هذه الآية نزلت في القدريّة».

(١٣٧٨) والثاني : أنّ أسقف نجران جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمّد تزعم أنّ المعاصي بقدر ، وليس كذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم خصماء الله» ، فنزلت : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) إلى قوله : (بِقَدَرٍ) ، قاله عطاء.

قوله تعالى : (وَسُعُرٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : الجنون. والثاني : العناء ، وقد ذكرناهما في صدر السّورة. والثالث : أنه نار تستعر عليهم ، قاله الضّحّاك. فأمّا (سَقَرَ) فقال الزّجّاج : هي اسم من أسماء جهنّم لا ينصرف لأنها معرفة ، وهي مؤنّثة. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال : سقر : اسم لنار الآخرة أعجميّ ، ويقال : بل هو عربيّ ، من قولهم : سقرته الشمس : إذا أذابته ، سمّيت بذلك لأنها تذيب الأجسام. وروى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(١٣٧٩) «إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا فنادى نداء يسمعه الأوّلون والآخرون : أين خصماء الله؟ فتقوم القدريّة ، فيؤمر بهم إلى النّار ، يقول الله تعالى : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

وإنما قيل لهم : «خصماء الله» لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدّر المعصية على العبد ثم يعذّبه عليها. وروى هشام بن حسّان عن الحسن قال : والله لو أنّ قدريّا صام حتى يصير كالحبل ، ثم صلّى حتى يصير كالوتر ، ثم أخذ ظلما وزورا حتى ذبح بين الرّكن والمقام لكبّه الله على وجهه في سقر

____________________________________

(١٣٧٦) صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٥٦ والترمذي ٢١٥٧ و ٣٢٩٠ وابن ماجة ٨٣ والطبري ٣٢٨٣٤ والبغوي في «شرح السنة» ٨٠ من طرق عن سفيان الثوري من حديث أبي هريرة. وأخرجه الطبري ٣٢٨٣٣ والواحدي في «الأسباب» ٧٧٥ من طريقين عن سفيان الثوري به.

(١٣٧٧) ضعيف جدا ، أخرجه الواحدي في «الأسباب» ٧٧٦ من حديث أبي أمامة ، وإسناده ضعيف جدا ، لأجل عفير بن معدان ، فإنه متروك.

(١٣٧٨) باطل ، أخرجه الواحدي ٧٧٧ في «أسبابه» عن بحر السقاء عن شيخ من قريش عن عطاء مرسلا ، وهو ضعيف جدا. بحر السقاء واه ، وفيه شيخ لم يسمّ ، وهو مرسل أيضا والمتن باطل ، فالسورة مكية بإجماع ، وأخبار اليهود والنصارى وسؤالاتهم مدنية.

(١٣٧٩) لم أقف عليه ، وأمارة الوضع لائحة عليه. وورد مختصرا من حديث عمر دون ذكر الآية ، أخرجه ابن الجوزي في «العلل» ٢١٩ وفيه عنعنة بقية بن الوليد ، فهذه علة وفي الإسناد من لم يسمّ.


(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

(١٣٨٠) وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس».

وقال ابن عباس : كلّ شيء بقدر حتى وضع يدك على خدّك. وقال الزّجّاج : معنى «بقدر» أي : كلّ شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللّوح المحفوظ قبل وقوعه ، ونصب «كلّ شيء» بفعل مضمر ؛ المعنى : إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر.

قوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) قال الفرّاء : أي : إلّا مرّة واحدة ، وكذلك قال مقاتل : مرّة واحدة لا مثنويّة لها. وروى عطاء عن ابن عباس قال : يريد : إنّ قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال ابن السّائب : المعنى : وما أمرنا بمجيء الساعة في السّرعة إلّا كلمح البصر. ومعنى اللّمح بالبصر : النّظر بسرعة. (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي : أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي متّعظ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) يعني الأمم. وفي (الزُّبُرِ) قولان : أحدهما : أنه كتب الحفظة. والثاني : اللّوح المحفوظ. (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) أي : من الأعمال المتقدّمة (مُسْتَطَرٌ) أي : مكتوب ، قال ابن قتيبة : هو «مفتعل من «سطرت» : إذا كتبت ، وهو مثل «مسطور». قوله تعالى : (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) قال الزّجّاج : المعنى : في جنات وأنهار ، والاسم الواحد يدلّ على الجميع ، فيجتزأ به من الجميع. أنشد سيبويه والخليل :

بها جيف الحسرى ، فأمّا عظامها

فبيض وأمّا جلدها فصليب

يريد : وأمّا جلودها ، ومثله :

في حلقكم عظم وقد شجينا

ومثله :

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا

وحكى ابن قتيبة عن الفرّاء أنّه وحّد لأنه رأس آية ، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي ، قال : ويقال : النّهر : الضّياء والسّعة ، من قولك : أنهرت الطّعنة : إذا وسّعتها ، قال قيس بن الخطيم يصف طعنة :

ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

أي : أوسعت فتقها. قلت : وهذا قول الضّحّاك. وقرأ الأعمش «ونهر».

قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي : مجلس حسن ؛ وقد نبّهنا على هذا المعنى في قوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) (١). فأمّا المليك ، فقال الخطّابي : المليك : هو المالك ، وبناء فعيل للمبالغة في الوصف ، ويكون المليك بمعنى الملك ، ومنه هذه الآية. والمقتدر مشروح في الكهف (٢).

____________________________________

(١٣٨٠) صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٥٥ والبخاري في «خلق أفعال العباد» ٧٣ وأحمد ٢ / ١١٠ وابن حبان ٦١٤٩ من طرق عن مالك به من حديث ابن عمر. وأخرجه مالك ٢ / ٨٩٩ في «الموطأ» عن زياد بن سعد به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» ٧٢ عن أبي مصعب عن مالك به.

__________________

(١) يونس : ٢.

(٢) الكهف : ٤٥.


سورة الرّحمن

وفي نزولها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وعطاء ومقاتل والجمهور ، إلّا أنّ ابن عباس قال : سوى آية ، وهي قوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١). والثاني : أنها مدنيّة ، رواه عطيّة عن ابن عباس. وبه قال ابن مسعود.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

قوله عزوجل : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ). قال مقاتل :

(١٣٨١) لمّا نزل قوله : (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) (٢) ، قال كفّار مكّة : وما الرّحمن؟! فأنكروه وقالوا : لا نعرف الرّحمن ، فقال تعالى : «الرّحمن» الذي أنكروه هو الذي «علّم القرآن».

وفي قوله : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قولان (٣) : أحدهما : علّمه محمّدا ، وعلّمه محمّد أمّته ، قاله ابن السّائب. والثاني : يسّر القرآن ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه اسم جنس ، فالمعنى : خلق الإنسان جميعا ، قاله الأكثرون. فعلى هذا ، في «البيان» ستة أقوال : أحدها : النّطق والتّمييز ، قاله الحسن. والثاني : الحلال والحرام ، قاله قتادة. والثالث : ما يقول وما يقال له ، قاله محمّد بن كعب. والرابع : الخير والشرّ ، قاله الضّحّاك. والخامس : طرق

____________________________________

(١٣٨١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، والخبر منكر جدا ، أمارة الوضع لائحة عليه.

__________________

(١) الرحمن : ٢٩.

(٢) الفرقان : ٦٠.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٥٧٢ : يقول تعالى ذكره : الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن ، فأنعم بذلك عليكم إذ بصّركم به ما فيه رضا ربكم ، وعرّفكم ما فيه سخطه ، لتطيعوه باتباعكم ما يرضيه عنكم ، وعملكم بما أمركم به ، وبتجنبكم ما يسخطه عليكم ، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه ، وتنجوا من أليم عقابه.


الهدى ، قاله ابن جريج. والسادس : الكتابة والخطّ ، قاله يمان.

والثاني : أنه آدم ، قاله ابن عباس ، وقتادة. فعلى هذا في «البيان» ثلاثة أقوال : أحدها : أسماء كلّ شيء. والثاني : بيان كلّ شيء. والثالث : اللّغات.

والقول الثالث : أنه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علّمه بيان كلّ شيء ما كان وما يكون ، قاله ابن كيسان.

قوله عزوجل : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي : بحساب ومنازل ، لا يعدوانها ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو مالك ؛ وقد كشفنا هذا المعنى في الأنعام (١). قال الأخفش : أضمر الخبر ، وأظنّه ـ والله أعلم ـ أراد : يجريان بحسبان. قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) في النّجم قولان : أحدهما : أنه كلّ نبت ليس له ساق ، وهو مذهب ابن عباس ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، واللّغويين. والثاني : أنه نجم السماء ، والمراد به : جميع النّجوم ، قاله مجاهد. فأمّا الشّجر : فكلّ ماله ساق. قال الفرّاء : سجودهما : أنّهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ، ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقد أشرت في النّحل (٢) إلى معنى سجود ما لا يعقل. قال أبو عبيدة : وإنّما ثنّي فعلهما على لفظهما.

قوله عزوجل : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) وإنما فعل ذلك ليحيا الحيوان وتمتدّ الأنفاس بينها وبين الأرض ، وأجرى الرّيح بينها وبين الأرض ، كيما يتروّح الخلق. ولو لا ذلك لماتت الخلائق كربا ..

قوله عزوجل : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما : أنه العدل ، قاله الأكثرون ، منهم مجاهد والسّدّيّ واللغويون. قال الزّجّاج : وهذا لأنّ المعادلة : موازنة الأشياء. والثاني : أنه الميزان المعروف ، ليتناصف الناس في الحقوق ، قاله الحسن ، وقتادة ، والضّحاك. والثالث : أنه القرآن ، قاله الحسن بن الفضل.

قوله عزوجل : (أَلَّا تَطْغَوْا) ذكر الزّجّاج في «أن» وجهين : أحدهما : أنها بمعنى اللام ؛ والمعنى : لئلّا تطغوا. والثاني : أنها للتفسير ، فتكون «لا» للنّهي ؛ والمعنى أي لا تطغوا ، أي لا تجاوزوا العدل. قوله عزوجل : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) قال ابن قتيبة ، أي : لا تنقصوا الوزن.

فأمّا الأنام ، ففيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الناس ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : كلّ ذي روح ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والشّعبي ، وقتادة ، والسّدّيّ ، والفرّاء. والثالث : الإنس والجنّ ، قاله الحسن ، والزّجّاج.

قوله عزوجل : (فِيها فاكِهَةٌ) أي : ما يتفكّه به من ألوان الثّمار (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) والأكمام : الأوعية والغلف ؛ وقد استوفينا شرح هذا في حم السّجدة (٣).

قوله عزوجل (وَالْحَبُ) يريد : جميع الحبوب ، كالبر والشّعير وغير ذلك. وقرأ ابن عامر : «والحبّ» بنصب الباء «ذا العصف» بالألف «والرّيحان» بنصب النون. وقرأ حمزة ، والكسائيّ إلّا ابن أبي سريج ، وخلف : «والحبّ ذو العصف والرّيحان» بخفض النون ؛ وقرأ الباقون بضمّ النون.

وفي «العصف» قولان : أحدهما : أنه تبن الزّرع وورقه الذي تعصفه الرّياح ، قاله ابن عباس.

__________________

(١) الأنعام : ٩٦.

(٢) النحل : ٤٩.

(٣) فصلت : ٤٧.


وكذلك قال مجاهد : هو ورق الزّرع. قال ابن قتيبة : العصف : ورق الزّرع ، ثم يصير إذا جفّ ويبس وديس تبنا. والثاني : أنّ العصف : المأكول من الحبّ ، حكاه الفرّاء.

وفي «الرّيحان» أربعة أقوال : أحدها : أنه الورق ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسّدّيّ. قال الفرّاء : الرّيحان في كلام العرب : الرّزق ، يقولون : خرجنا طلب ريحان الله ، وأنشد الزّجّاج للنّمر بن تولب :

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء درر

والثاني : خضرة الزّرع ، رواه الوالبي عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدّمشقي : فعلى هذا سمّي ريحانا ، لاستراحة النّفس بالنّظر إليه. والثالث : أنه ريحانكم هذا الذي يشمّ ، روى العوفيّ عن ابن عباس قال : «الرّيحان» : ما أنبتت الأرض من الرّيحان ، وهذا مذهب الحسن والضّحّاك وابن زيد. والرابع : أنه ما لم يؤكل من الحبّ ، والعصف : المأكول منه ، حكاه الفراء.

قوله عزوجل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن قيل : كيف خاطب اثنين ، وإنما ذكر الإنسان وحده؟ فعنه جوابان ذكرهما الفرّاء : أحدهما : أنّ العرب تخاطب الواحد بفعل الاثنين كما بيّنّا في قوله : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) (١). والثاني : أنّ الذّكر أريد به : الإنسان والجانّ ، فجرى مجرى الخطاب لهما من أوّل السّورة إلى آخرها. قال الزّجّاج : لمّا ذكر الله تعالى في هذه السّورة ما يدلّ على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض ، خاطب الجنّ والإنس ، فقال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : فبأيّ نعم ربّكما تكذّبان من هذه الأشياء المذكورة ، لأنها كلّها منعم بها عليكم في دلالتها إيّاكم على وحدانيّته وفي رزقه إيّاكم ما به قوامكم. وقال ابن قتيبة : الآلاء : النّعم ، واحدها : ألا ، مثل : قفا ، وإلا ، مثل : معى.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

قوله عزوجل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) يعني آدم (مِنْ صَلْصالٍ) قد ذكرنا في الحجر (٢) الصلصال والجانّ. فأمّا قوله : (كَالْفَخَّارِ) فقال أبو عبيدة : خلق من طين يابس لم يطبخ ، فله صوت إذا نقر ، فهو من يابسه كالفخّار. والفخّار : ما طبخ بالنّار. وأمّا المارج ، فقال ابن عباس : هو لسان النّار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال مجاهد : هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النّار إذا أوقدت. وقال مقاتل : هو لهب النار الصافي من غير دخان. وقال أبو عبيدة : المارج : خلط من النّار. وقال ابن قتيبة : المارج : لهب النّار ، من قولك : قد مرج الشيء : إذا اضطرب ولم يستقرّ. وقال الزّجّاج : هو اللهب المختلط بسواد النّار. وإن قيل ؛ قد أخبر الله تعالى عن

__________________

(١) ق : ٢٤.

(٢) الحجر : ٢٦ ـ ٢٧.


خلق آدم عليه‌السلام بألفاظ مختلفة ، فتارة يقول : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (١) ، وتارة : «من صلصال» ، وتارة : «من طين لازب» (٢) ، وتارة : «كالفخّار» ، وتارة : «من حمأ مسنون» (٣) ؛ فالجواب : أنّ الأصل التراب فجعل طينا ، ثم صار كالحمإ المسنون ، ثم صار صلصالا كالفخّار ، فهذه أخبار عن حالات أصله. فإن قيل : ما الفائدة في تكرار قوله : «فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان» الجواب أنّ ذلك التكرير لتقرير النّعم وتأكيد التذكير بها. قال ابن قتيبة : من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام ، كما أنّ من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز ؛ لأنّ افتنان المتكلّم والخطيب في الفنون أحسن من اختصاره في المقام على فنّ واحد ، يقول القائل : والله لا أفعله ، ثم والله لا أفعله ، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن يفعله ، كما تقول : والله أفعله ، بإضمار «لا» إذا أراد الاختصار ، ويقول القائل للمستعجل : اعجل اعجل ، وللرامي : ارم ارم ، قال الشاعر :

كم نعمة كانت له وكم وكم

وقال الآخر :

هلّا سألت جموع كندة

يوم ولوا أين أينا (٤)

وربّما جاءت الصّفة فأرادوا توكيدها ، واستوحشوا من إعادتها ثانية لأنها كلمة واحدة ، فغيّروا منها حرفا ثم أتبعوها الأولى ، كقولهم ، عطشان نطشان ، وشيطان ليطأن ، وحسن بسن. قال ابن دريد : ومن الإتباع : جائع نائع ، ومليح قريح ، وقبيح شقيح ، وشحيح نحيح ، وخبيث نبيث ، وكثير نثير ، وسيّغ ليّغ ، وسائغ لائغ ، وحقير نقير ، وضئيل بئيل ، وخضر مضر ، وعقريب نقريب ، وثقة نقة ، وكنّ إنّ ، وواحد فاحد ، وحائر بائر ، وسمج لمج. قال ابن قتيبة : فلمّا عدّد الله تعالى في هذه السّورة نعماءه ، وأذكر عباده آلاءه ، ونبّههم على قدرته ، جعل كلّ كلمة من ذلك فاصلة بين كلّ نعمتين ، ليفهّمهم النّعم ويقرّرهم بها ، كقولك للرجل : ألم أبوّئك منزلا وكنت طريدا؟ أفتنكر هذا؟ ألم أحجّ بك وأنت صرورة؟ أفتنكر هذا؟.

(١٣٨٢) وروى الحاكم أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث جابر بن عبد الله قال : قرأ علينا

____________________________________

(١٣٨٢) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣٢٩١ والحاكم ٣٧٦٦ من طريق عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر به. وإسناده واه ، زهير منكر الحديث في رواية أهل الشام عنه ، وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم ٣٧٦٦ وابن عدي ٣ / ٢١٩ وأبو الشيخ في «العظمة» ١١٢٣ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢١٩ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٢٣٢ من طريق هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم بالإسناد السابق. وأخرجه البيهقي ٢ / ٢٣٢ من طريق مروان بن محمد قال : حدثنا زهير بن محمد به. قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل : كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروى عنه بالعراق كأنه رجل آخر قلبوا اسمه.

يعني لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول : أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير ، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة اه. وله شاهد من حديث ابن عمر : أخرجه البزار

__________________

(١) آل عمران : ٥٩.

(٢) الصافات : ١١.

(٣) الحجر : ٢٩.

(٤) البيت للشاعر عبيد بن الأبرص ديوانه : ص ١٤٢ والشعر والشعراء : ١ / ٢٢٤.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الرّحمن حتى ختمها ثم قال : «ما لي أراكم سكوتا؟! للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرّة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلّا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب فلك الحمد».

قوله عزوجل : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) قرأ أبو رجاء ، وابن أبي عبلة : «ربّ المشرقين وربّ المغربين» بالخفض ، وهما مشرق الصّيف ومشرق الشتاء ومغرب الصّيف ومغرب الشتاء للشمس والقمر جميعا. قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي : أرسل العذب والملح وخلاهما وجعلهما (يَلْتَقِيانِ) ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي : حاجز من قدرة الله تعالى (لا يَبْغِيانِ) أي : لا يختلطان. فيبغي أحدهما على الآخر. وقال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كلّ عام. وقال الحسين : «مرج البحرين» يعني بحر فارس والرّوم ، بينهما برزخ ، يعني الجزائر ؛ وقد سبق بيان هذا في الفرقان (١). قوله عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) قال الزّجّاج : إنّما يخرج من البحر الملح ، وإنما جمعهما ، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد أخرج منهما ، ومثله (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (٢). وقال أبو عليّ الفارسي : أراد : يخرج من أحدهما ، فحذف المضاف. وقال ابن جرير : إنما قال «منهما» لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء. فأمّا اللّؤلؤ والمرجان ، ففيهما قولان : أحدهما : أنّ المرجان : ما صغر من اللّؤلؤ ، واللّؤلؤ : العظام ، قاله الأكثرون ، منهم ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك ، والفرّاء. وقال الزّجّاج : اللؤلؤ : اسم جامع للحبّ الذي يخرج من البحر ، والمرجان : صغاره. والثاني : أنّ اللّؤلؤ : الصّغار ، والمرجان : الكبار ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ ، ومقاتل. قال ابن عباس : إذا أمطرت السماء ، فتحت الأصداف أفواهها ، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ ؛ وقال ابن جريج. حيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ قال : ذكر بعض أهل اللّغة أنّ المرجان أعجميّ معرّب. قال أبو بكر ،

____________________________________

٢٢٦٩ من طريق عمرو بن مالك البصري عن يحيى بن سليم الطائفي عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر مرفوعا. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» ٤ / ٣٠١ والطبري ٣٢٩٢٨ من طريق محمد بن عباد بن موسى عن يحيى بن سليم الطائفي به. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١١٨ : رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي ، وثقه ابن حبان ، وضعفه غيره ، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلت : جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه ، وقال الذهبي في «الميزان» ٣ / ٢٨٥ ضعفه أبو يعلى ، وقال ابن عدي : يسرق الحديث ، وتركه أبو زرعة وذكره ابن حبان في الثقات اه والظاهر أن ابن حبان ما عرفه. وتابعه محمد بن عباد بن موسى عند الطبري والخطيب كما تقدم ، ومحمد هذا ضعيف ، والظاهر أنه سرقه من عمرو بن مالك. وقال ابن عدي ٣ / ٢١٩ : هذا حديث لا يعرف إلا بهشام بن عمار ، وقد سرقه جماعة من الضعفاء ذكر منهم في كتابي هذا ، فحدثوا به عن الوليد وهم سليمان بن أحمد الواسطي وعلي بن جميل السرّقي وعمرو بن مالك البصري وبركة بن محمد الحلبي ، والحديث ، فهشام. أي عن الوليد عن زهير بن محمد وبه يعرف.

تنبيه : ولم يتنبه الألباني إلى هذا الوارد عن ابن عدي ، فجعل حديث ابن عمر شاهدا لحديث جابر فحكم بحسنه في «الصحيحة» ٢١٥٠ والصواب أنه غير شاهد وإنما سرقه عمرو بن مالك وغيره وركبوا له هذا الإسناد عن ابن عمر ولو كان كذلك لرواه الأئمة الثقات ، ولكن كل ذلك لم يكن ، والمتن منكر فمتى كان الجن أحسن فهما من الصحابة؟!! كما هو مدلول هذا الخبر.

__________________

(١) الفرقان : ٥٣.

(٢) نوح : ١٦.


يعني ابن دريد : ولم أسمع فيه بفعل منصرف ، وأحر به أن يكون كذلك. قال ابن مسعود : المرجان : الخرز الأحمر. وقال الزّجّاج : المرجان أبيض شديد البياض. وحكى القاضي أبو يعلى أنّ المرجان : ضرب من اللّؤلؤ كالقضبان.

قوله عزوجل : (وَلَهُ الْجَوارِ) يعني السّفن (الْمُنْشَآتُ) قال مجاهد : هو ما قد رفع قلعه من السّفن دون ما لم يرفع قلعه ، القلع مكسور القاف. وقال ابن قتيبة : هنّ اللواتي أنشئن ، أي : ابتدئ بهنّ (فِي الْبَحْرِ) ، وقرأ حمزة : «المنشئات» ، فجعلهنّ اللواتي ابتدأن ، يقال : أنشأت السحابة تمطر : إذا ابتدأت ، وأنشأ الشاعر يقول. والأعلام : الجبال ، وقد سبق هذا (١).

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))

قوله عزوجل : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) أي : على الأرض ، وهي كناية عن غير مذكور ، «فان» أي ؛ هالك. (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي : ويبقى ربّك (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) قال أبو سليمان الخطّابي : الجلال : مصدر الجليل ، يقال : جليل بيّن الجلالة والجلال. والإكرام : مصدر أكرم يكرم إكراما ؛ والمعنى أنه يكرم أهل ولايته وأنّ الله مستحقّ أن يجلّ ويكرم ، ولا يجحدونه ولا يكفروا به ؛ وقد يحتمل أن يكون المعنى : أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم ؛ وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين ـ وهو الجلال ـ مضافا إلى الله تعالى بمعنى الصّفة له ، والآخر مضافا إلى العبد بمعنى الفعل منه ، كقوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) فانصرف أحد الأمرين إلى الله تعالى وهو المغفرة ، والآخر إلى العباد وهو التقوى.

قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المعنى أنّ الكلّ يحتاجون إليه فيسألونه وهو غنيّ عنهم (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) مثل أن يحيي ويميت ، ويعزّ ويذلّ ، ويشفي مريضا ، ويعطي سائلا ، إلى غير ذلك من أفعاله. وقال الحسين بن الفضيل : هو سوق المقادير إلى المواقيت.

(١٣٨٣) قال مقاتل : وسبب نزول هذه الآية أنّ اليهود قالت : إنّ الله لا يقضي في يوم السبت شيئا ، فنزلت : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).

(١٣٨٤) عن عبد الله بن منيب (٢) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمّا سئل عن ذاك الشأن : «يغفر ذنبا

____________________________________

(١٣٨٣) باطل ، عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يصنع الحديث ، والمتن باطل. وانظر ما بعده.

(١٣٨٤) أخرجه الطبري ٣٣١٢ والبزار ٢٢٦٦ «كشف» وأبو الشيخ ١٥١٠ من حديث عبد الله بن منيب ، وإسناده ضعيف ، فيه عمرو بن بكر السكسكي وهو ضعيف متروك. وله شاهد أخرجه ابن ماجة ٢٠٢ وابن أبي عاصم في «السنة» ٣٠١ وابن حبان ٦٨٩ والبزار ٢٢٦٧ «كشف» وأبو الشيخ ١٥٠ والديلمي ٤٧٧٥ والبيهقي في «الصفات» ص ٩٨ وأبو نعيم ٥ / ٢٥٢ من حديث أبي الدرداء. ومداره على الوزير ابن صبيح ، وهو لين الحديث ومن وجه آخر أخرجه ابن الجوزي في «العلل» ٢٤ وفيه الوليد بن مسلم وهو مدلس. وقد عنعن.

وصوب الدارقطني الوقف فيما نقل عنه ابن الجوزي. وكذا جعله البخاري من كلام أبي الدرداء. انظر «الفتح» ٨ / ٤٩٠ ، ومع ذلك صححه الألباني في «تخريج» السنة ٣٠١ / ١٣٠ فالله أعلم.

__________________

(١) الشورى : ٣٢.

(٢) تصحف في الأصل «حبيب».


ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين».

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

قوله عزوجل : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «سنفرغ» بنون مفتوحة. وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائيّ ، وعبد الوارث : «سيفرغ» بياء مفتوحة. وقرأ ابن السّميفع ، وابن يعمر ، وأبو عبيدة ، وعاصم الجحدري والحلبيّ عن عبد الوارث : «سيفرغ» بضمّ الياء وفتح الراء. قال الفرّاء : هذا وعيد من الله تعالى ، لأنه لا يشغله شيء عن شيء ، تقول للرجل الذي لا شغل له : قد فرغت لي ، قد فرغت تشتمني؟! أي : قد أخذت في هذا وأقبلت عليه؟ وقال الزّجّاج : الفراغ في اللغة على ضربين. أحدهما : الفراغ من شغل. والآخر : القصد للشيء ، تقول : قد فرغت ممّا كنت فيه ، أي : قد زال شغلي به ، وتقول : سأتفرّغ لفلان ، أي : سأجعله قصدي ، ومعنى الآية : سنقصد لحسابكم. فأمّا «الثّقلان» فهما الجنّ والإنس ، سمّيا بذلك لأنهما ثقل الأرض.

قوله عزوجل : (أَنْ تَنْفُذُوا) أي : تخرجوا ؛ يقال : نفذ الشيء من الشيء : إذا خلص منه ، كالسّهم ينفذ من الرّميّة ؛ والأقطار : النّواحي والجوانب وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : إن استطعتم أن تعلموا ما في السّموات والأرض فاعلموا ، قاله ابن عباس. والثاني : إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السّموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها ؛ والمراد : أنكم حيثما كنتم أدرككم الموت ، هذا قول الضّحّاك ومقاتل في آخرين. والثالث : إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض فتعجزوا ربّكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ؛ وإنما يقال لهم هذا يوم القيامة ، ذكره ابن جرير. قوله عزوجل : (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا تنفذون إلّا في سلطان الله عزوجل ، لأنه مالك كل شيء ، قاله ابن عباس. والثاني : لا تنفذون إلّا بحجّة ، قاله مجاهد. والثالث : لا تنفذون إلا بملك ، وليس لكم ملك ، قاله قتادة.

قوله عزوجل : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) فثنّى على اللفظ. وقد جمع في قوله : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) على المعنى. فأمّا «الشّواظ» ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لهب النّار ، قاله ابن عباس. وقال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع من النّار. والثاني : الدّخان ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : النّار المحضة ، قاله الفرّاء. وقال أبو عبيدة : هي النار التي تأجّج لا دخان فيها ، ويقال : شواط وشواظ. وقرأ ابن كثير بكسر الشين ؛ وقرأ أيضا هو وأهل البصرة : «ونحاس» بالخفض ، والباقون برفعها. وفي «النّحاس» قولان : أحدهما : أنه دخان النّار ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير والفرّاء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزّجّاج ، ومنه قول الجعديّ يذكر امرأة :

تضيء كضوء سراج السّليط

لم يجعل الله فيه نحاسا

وذكر الفرّاء في السّليط ثلاثة أقوال : أحدها : أنه دهن السّنام ، وليس له دخان إذا استصبح به. والثاني : أنه دهن السّمسم. والثالث : أنه الزّيت. والقول الثاني : أنه الصّفر المذاب يصبّ على


رؤوسهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة. قال مقاتل : والمراد بالآية : كفّار الجنّ والإنس ، يرسل عليهما في الآخرة لهب النّار والصّفر الذّائب ، وهي خمسة أنهار تجري على رؤوس أهل النّار ، ثلاثة أنهار من تحت العرش على مقدار الليل ، ونهران على مقدار أنهار الدنيا ، (فَلا تَنْتَصِرانِ) أي : فلا تمتنعان من ذلك (١).

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي : انفرجت من المجرّة لنزول من فيها يوم القيامة (فَكانَتْ وَرْدَةً) وفيها قولان : أحدهما : كلون الفرس الوردة ، قاله أبو صالح ، والضّحّاك. وقال الفرّاء : الفرس الوردة ، تكون في الرّبيع وردة إلى الصّفرة ، فإذا اشتدّ الحرّ كانت وردة حمراء ، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة ، فشبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل ؛ وكذلك قال الزّجّاج : «فكانت وردة» كلون فرس وردة ، والكميت : الورد يتلوّن ، فيكون لونه في الشتاء خلاف لونه في الصّيف ، ولونه في الصّيف خلاف لونه في الشتاء ، والسماء تتلوّن من الفزع الأكبر. وقال ابن قتيبة : المعنى : فكانت حمراء في لون الفرس الورد. والثاني : أنها وردة النّبات ؛ وقد تختلف ألوانها ، إلّا أنّ الأغلب عليها الحمرة ، ذكره الماوردي. وفي الدّهان قولان : أحدهما : أنه واحد ، وهو الأديم الأحمر ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه جمع دهن ، والدّهن تختلف ألوانه بخضرة وحمرة وصفرة ، حكاه اليزيديّ ، وإلى نحوه ذهب مجاهد ، وقال الفرّاء : شبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة من الخيل ، وشبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدّهن.

قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يسألون ليعلم حالهم ، لأنّ الله تعالى أعلم منهم بذلك. والثاني : لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله لاشتغال كلّ واحد منهم بنفسه ، روي القولان عن ابن عباس. والثالث : لا يسألون عن ذنوبهم لأنهم يعرفون بسيماهم ، فالكافر أسود الوجه ، والمؤمن أغرّ الوجه محجّل من أثر وضوئه ، قاله الفرّاء. قال الزّجّاج : لا يسأل أحد عن ذنبه ليستفهم ، ولكنه يسأل سؤال توبيخ وتقريع.

قوله عزوجل : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) قال الحسن : بسواد الوجوه ، وزرق الأعين (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ خزنة جهنّم تجمع بين نواصيهم إلى أقدامهم من وراء ظهورهم ثم يدفعونهم على وجوههم في النّار ، قاله مقاتل. والثاني : يؤخذ بالنّواصي والأقدام فيسحبون إلى النّار ، ذكره الثّعلبي. وروى مردويه الصّائغ ، قال : صلّى بنا الإمام صلاة الصّبح فقرأ سورة «الرّحمن» ومعنا عليّ بن الفضيل بن عياض ، فلمّا قرأ «يعرف المجرمون بسيماهم» خرّ عليّ مغشيّا عليه حتى فرغنا من الصلاة ، فلمّا كان بعد ذلك قلنا له : أما سمعت الإمام يقرأ «حور مقصورات في الخيام»؟ قال :

__________________

(١) هذا الخبر من مناكير مقاتل وأباطيله ، وإنما هو التحدي في الدنيا.


شغلني عنها «يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنّواصي والأقدام».

قوله عزوجل : (هذِهِ جَهَنَّمُ) أي يقال لهم : هذه جهنّم (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) يعني المشركين (يَطُوفُونَ بَيْنَها) وقرأ أبو العالية وأبو عمران الجوني : «يطوّفون» بياء مضمومة مع تشديد الواو ، وقرأ الأعمش مثله إلّا أنه بالتاء. قوله عزوجل (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال ابن قتيبة : الحميم : الماء الحارّ ، والآني : الذي قد انتهت شدّة حرّه. قال المفسّرون : المعنى أنهم يسعون بين عذاب الحميم وبين عذاب الجحيم ، إذا استغاثوا من النّار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣))

قوله عزوجل : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فيه قولان : أحدهما : قيامه بين يدي الله عزوجل يوم الجزاء. والثاني : قيام الله على عبده بإحصاء ما اكتسبه. وجاء في التفسير ، أنّ العبد يهمّ بمعصية فيتركها خوفا من الله عزوجل فله جنّتان ، وهما بستانان (ذَواتا أَفْنانٍ) فيه قولان : أحدهما : أنها الأغصان ، وهي جمع فنن ، وهو الغصن المستقيم طولا ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة ، وعطيّة ، والفرّاء ، والزّجّاج. والثاني : أنها الألوان والضّروب من كلّ شيء ، وهي جمع فنّ ، وهذا قول سعيد بن جبير. وقال الضّحّاك : ذواتا ألوان من الفاكهة. وجمع عطاء بين القولين ، فقال : في كلّ غصن فنون من الفاكهة.

قوله تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) قال ابن عباس : تجريان بالماء الزّلال ، إحداهما : السّلسبيل ، والأخرى : التّسنيم. وقال عطيّة : إحداهما : من ماء غير آسن ، والأخرى : من خمر. وقال أبو بكر الورّاق : فيهما عينان تجريان لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان من البكاء.

قوله عزوجل : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي : صنفان ونوعان. قال المفسّرون : فيهما من كلّ ما يتفكّه به نوعان ، رطب ويابس ، لا يقصر أحدهما عن الآخر في فضله.

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

(مُتَّكِئِينَ) هذا حال المذكورين (عَلى فُرُشٍ) جمع فراش (بَطائِنُها) جمع بطانة ، وهي التي تحت الظّهارة. وقال أبو هريرة : هذه البطائن ، فما ظنّكم بالظّهائر؟! وقال ابن عباس : إنما ترك وصف الظواهر ، لأنه ليس أحد يعلم ما هي. وقال قتادة : البطائن : هي الظواهر بلغة قوم. وكان الفرّاء يقول : قد تكون البطانة ظاهرة ، والظّهارة باطنة ، لأنّ كلّ واحد منهما قد يكون وجها ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء ، لظاهرها ، وهو الذي تراه ، وقال ابن الزّبير يعيب قتلة عثمان : خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية ، فقتلهم الله كلّ قتلة ، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلا ؛ فجعلوا ظهور الكواكب بطونا ، وذلك جائز في العربيّة. وأنكر هذا القول ابن قتيبة جدّا ، وقال :


إنما أراد الله أن يعرّفنا ـ من حيث نفهم ـ فضل هذه الفرش وأنّ ما ولي الأرض منها إستبرق ، وإذا كانت البطانة كذلك ، فالظّهارة أعلى وأشرف. وهل يجوز لأحد أن يقول لوجه مصلّ : هذا بطانته ، ولما ولي الأرض منه : هذا بطانته؟! وإنما يجوز هذا في ذي الوجهين المتساويين ، تقول لما وليك من الحائط : هذا ظهر الحائط ، ويقول جارك لما وليه : هذا ظهر الحائط ، وكذلك السماء ما ولينا منها : ظهر ، وهي لمن فوقها : بطن. وقد ذكرنا الإستبرق في سورة الكهف (١).

قوله عزوجل : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) قال أبو عبيدة : أي : ما يجتنى قريب لا يعنّي الجاني.

قوله عزوجل (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قد شرحناه في الصّافّات (٢). وفي قوله : «فيهنّ» قولان : أحدهما : أنها تعود إلى الجنّتين وغيرهما ممّا أعدّ لصاحب هذه القصّة ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنها تعود إلى الفرش ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوري.

قوله عزوجل : (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) قرأ الكسائيّ بضمّ الميم ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان : يطمث ويطمث ، مثل يعكف ويعكف. وفي معناه قولان : أحدهما : لم يفتضّهنّ ؛ والطّمث : النّكاح بالتّدمية ، ومنه قيل للحائض : طامث ، قاله الفرّاء. والثاني : لم يمسسهنّ ؛ يقال : ما طمث هذا البعير حبل قط ، أي : ما مسّه ، قاله أبو عبيدة. قال مقاتل : وذلك لأنهنّ خلقن من الجنّة ؛ فعلى قوله ، هذا صفة الحور. وقال الشّعبي : هنّ من نساء الدنيا لم يمسسهنّ مذ أنشئن خلق. وفي الآية دليل على أنّ الجنّيّ يغشى المرأة كالإنسيّ.

قوله عزوجل : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) قال قتادة : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان. وذكر الزّجّاج أنّ أهل التفسير وأهل اللغة قالوا : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان ، والمرجان : صغار اللؤلؤ ، وهو أشدّ بياضا. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : «الياقوت» فارسيّ معرّب ، والجمع «اليواقيت» ، وقد تكلّمت به العرب ، قال مالك بن نويرة اليربوعيّ :

لن يذهب اللّؤم تاج قد حبيت به

من الزّبرجد والياقوت والذّهب

قوله عزوجل : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) قال الزّجّاج ، أي : ما جزاء من أحسن في الدنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة. وقال ابن عباس : هل جزاء من قال : «لا إله إلّا الله» وعمل بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا الجنّة. وروى أنس بن مالك قال :

(١٣٨٥) قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، وقال : «هل تدرون ما قال ربّكم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنّ ربّكم يقول : هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلّا الجنّة»؟!

____________________________________

(١٣٨٥) ضعيف. أخرجه البغوي ٢٠٩٤ من حديث أنس ، وفي إسناده بشر بن الحسين ، وهو منكر الحديث كما قال البخاري وغيره ، لكن له شاهد أمثل منه إسنادا. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٢٧ من طريق إسحاق بن إبراهيم بن بهرام بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في «تاريخ أصفهان» ١ / ٢٣٣ من طريق الحجاج بن يوسف به. وله شاهد من حديث ابن عمر ، أخرجه البيهقي في «الشعب» ٤٢٧ وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن محمد الكوفي ، وبه أعلّه البيهقي حيث قال عنه : منكر.

__________________

(١) الكهف : ٣١.

(٢) الصافات : ٤٨.


(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

قوله تعالى : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) قال الزّجّاج : المعنى : ولمن خاف مقام ربّه جنّتان ، وله من دونهما جنّتان. وفي قوله : «ومن دونهما» قولان : أحدهما : دونهما في الدّرج ، قاله ابن عباس. والثاني : دونهما في الفضل ، كما روى أبو موسى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(١٣٨٦) «جنّتان من ذهب وجنّتان من فضّة» ؛ وإلى نحو هذا ذهب ابن زيد ، ومقاتل.

قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) قال ابن عباس وابن الزّبير : خضراوان من الرّيّ. وقال أبو عبيدة : من خضرتهما قد اسودتا. قال الزجاج : يعني أنهما خضراوان تضرب خضرتهما إلى السّواد ، وكلّ نبت أخضر فتمام خضرته وريّه أن يضرب إلى السّواد. قوله تعالى : (نَضَّاخَتانِ) قال أبو عبيدة : فوّارتان.

وقال ابن قتيبة : تفوران ، و«النّضخ» أكثر من «النّضح». وفيما يفوران به أربعة أقوال : أحدهما : بالمسك والكافور ، قاله ابن مسعود. والثاني : بالماء ، قاله ابن عباس. والثالث : بالخير والبركة ، قاله الحسن. والرابع : بأنواع الفاكهة ، قاله سعيد بن جبير.

قوله تعالى : (وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) قال ابن عباس : نخل الجنّة : جذوعها زمرّد أخضر ، وكربها : ذهب أحمر ، وسعفها : كسوة أهل الجنّة ، منها مقطّعاتهم وحللهم. وقال سعيد بن جبير : نخل الجنّة : جذوعها من ذهب ، وعروقها من ذهب ، وكرانيفها من زمرّد ، ورطبها كالدّلاء أشدّ بياضا من اللّبن ، وألين من الزّبد ، وأحلى من العسل ، ليس له عجم. قال أبو عبيد : الكرانيف : أصول السّعف الغلاظ ، الواحدة : كرنافة. وإنما أعاد ذكر النّخل والرّمّان ـ وقد دخلا في الفاكهة ـ لبيان فضلهما كما ذكرنا في قوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) ، هذا قول جمهور المفسّرين واللّغويّين. وحكى الفرّاء والزّجّاج أنّ قوما قالوا : ليسا من الفاكهة ؛ قال الفرّاء : وقد ذهبوا مذهبا ، ولكنّ العرب تجعلهما فاكهة. قال الأزهري : ما علمت أحدا من العرب قال في النّخيل والكروم وثمارها : إنها ليست من الفاكهة ،

____________________________________

(١٣٨٦) صحيح. أخرجه البخاري ٧٤٤٤ من حديث أبي موسى. وأخرجه البخاري ٤٨٧٨ و ٤٨٨٠ ومسلم ١٨٠ والترمذي ٢٥٢٨ وابن ماجة ١٨٦ وابن أبي عاصم في «السنة» ٦١٣ وأحمد ٤ / ٤١١ والدولابي في «الكنى» ٢ / ٧١ وابن أبي داود في «البعث» ٥٩ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٦ وابن حبان ٧٣٨٦ والبيهقي في «الاعتقاد» ص ١٣٠ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٧٥ والذهبي في «تذكرة الحفاظ» ١ / ٢٧٠ من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به. وأخرجه أحمد ٤ / ٤١٦ وابن أبي شيبة ٣ / ١٤٨ والدارمي ٢ / ٣٣٣ والطيالسي ٥٢٩ وابن مندة في «التوحيد» ٧٨١ من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني به وأتم منه.

__________________

(١) البقرة : ٩٨.


وإنما قال من قال ، لقلّة علمه بكلام العرب ، فالعرب تذكر أشياء جملة ثم تخصّ شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه ، كقوله : «وجبريل وميكال» ؛ فمن قال : ليسا من الملائكة كفر ، ومن قال : ثمر النّخل والرّمان ليس من الفاكهة جهل. قوله تعالى : (فِيهِنَ) يعني في الجنان الأربع (خَيْراتٌ) يعني الحور. وقرأ معاذ القارئ ، وعاصم الجحدري ، وأبو نهيك : «خيرات» بتشديد الياء. قال اللغويون : أصله «خيّرات» بالتشديد ، فخفّف ، كما قيل : هيّن وهين ، وليّن ولين.

(١٣٨٧) وروت أمّ سلمة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «خيرات الأخلاق حسان الوجوه».

قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) قد بيّنّا في سورة الدّخان (١) معنى الحور.

وفي المقصورات قولان : أحدهما : المحبوسات في الحجال ، قاله ابن عباس ، وهو مذهب الحسن ، وأبي العالية ، والقرظيّ ، والضّحّاك ، وأبي صالح. والثاني : المقصورات الطّرف على أزواجهنّ ، فلا يرفعن طرفا إلى غيرهم ، قاله الرّبيع. وعن مجاهد كالقولين. والأول أصحّ ، فإنّ العرب تقول : امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة : إذا كانت ملازمة خدرها ، قال كثير :

لعمري لقد حبّبت كلّ قصيرة

إليّ ، وما تدري بذاك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ، ولم أرد

قصار الخطى ، شرّ النّساء البحاتر

وبعضهم ينشده : قصورة ، وقصورات ؛ والبحاتر : القصار.

وفي «الخيام» قولان : أحدهما : أنها البيوت. والثاني : خيام تضاف إلى القصور.

(١٣٨٨) وقد روى البخاريّ ومسلم في الصّحيحين من حديث أبي موسى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ للمؤمن في الجنّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوّفة ، طولها في السماء ستّون ميلا ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن ، فلا يرى بعضهم بعضا».

وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس : الخيام : درّ مجوّف. وقال ابن عباس : الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.

قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) ، وقرأ عثمان بن عفّان ، وعاصم الجحدري ، وابن محيصن : «على رفارف» جمع غير مصروف. وقرأ الضّحّاك ، وأبو العالية ، وأبو عمران الجوني مثلهم ، إلّا أنهم

____________________________________

(١٣٨٧) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٣١٧٢ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٢٩ من طريقين عن عمرو بن هاشم عن سليمان بن أبي كريمة ، عن هشام بن حسان عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة ، وإسناده ضعيف لضعف سليمان. أم الحسن اسمها خيرة. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١١٨ ـ ١١٩ وأعلّه بسليمان بن أبي كريمة ، فقال : ضعفه ابن عدي ، وأبو حاتم.

(١٣٨٨) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٧٩ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٧٥ عن محمد بن المثنى به. وأخرجه مسلم ٢٨٣٨ ح ٢٤ والترمذي ٢٥٢٨ وأحمد ٤ / ٤١١ وابن حبان ٧٣٩٥ من طرق عن عبد العزيز بن عبد الصمد به. وأخرجه البخاري ٣٢٤٣ ومسلم ٣٨٢٨ وأحمد ٤ / ٤٠٠ و ٤١٩ والدارمي ٢ / ٣٣٦ وأبو الشيخ في «العظمة» ٦٠٦ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٢٩ والبيهقي في «البعث» ٣٠٣ من طرق عن أبي عمران الجوني به.

__________________

(١) الدخان : ٥٤.


صرفوا «رفارف» قال ثعلب : إنما لم يقل : أخضر ، لأنّ الرّفرف جمع ، واحدته : رفرفة ، كقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) (١) ولم يقل : الخضر ، لأنّ الشجر جمع ، تقول : هذا حصى أبيض ، وحصى أسود ، قال الشاعر :

أحقّا عباد الله أن لست ماشيا

بهرجاب ما دام الأراك به خضرا

واختلف المفسّرون في المراد بالرّفرف على ثلاثة أقوال : أحدها : فضول المجالس والبسط ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة : هي : الفرش والبسط. وحكى الفرّاء ، وابن قتيبة : أنها المجالس. وقال النّقّاش : الرّفرف : المجالس الخضر فوق الفرش. والثاني : أنها رياض الجنّة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير رياض الجنّة : خضراء مخصبة. والثالث : أنها الوسائد ، قاله الحسن.

قوله تعالى : (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) فيه قولان : أحدهما : أنها الزّرابيّ ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن زيد ، وكذلك قال ابن قتيبة : العبقريّ : الطّنافس الثّخان. قال أبو عبيدة : يقال لكلّ شيء من البسط : عبقريّ. والثاني : أنه الدّيباج الغليظ ، قاله مجاهد. قال الزّجّاج : أصل العبقريّ في اللغة أنه صفة لكلّ ما بولغ في وصفه ، وأصله أنّ عبقر : بلد كان يوشى فيه البسط وغيرها ، فنسب كلّ شيء جيّد إليه ، قال زهير :

بخيل عليها جنّة عبقريّة

جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا

وقرأ عثمان بن عفّان وعاصم الجحدري وابن محيصن : «وعباقريّ» بألف مكسورة القاف مفتوحة الياء من غير تنوين ؛ قال الزّجّاج : لا وجه لهذه القراءة في العربية ، لأنّ الجمع الذي بعد ألفه حرفان ، نحو : مساجد ومصباح ، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقري ، لأنّ ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النّسب ، فلو جمعت «عبقريّ» فإنّ جمعه «عباقرة» ، كما أنك لو جمعت «مهلّبي» كان جمعه «مهالبة» ، ولم تقل : «مهالبي» ، قال : فإن قيل «عبقريّ» واحد ، و«حسان» جمع ، فكيف جاز هذا؟ فالأصل أنّ واحدة هذا «عبقرية» والجمع «عبقري» ، كما تقول : ثمرة وثمر ، ولوزة ولوز ، ويكون أيضا «عبقري» اسما للجنس. وقرأ الضّحّاك وأبو العالية وأبو عمران : «وعباقريّ» بألف مع التنوين.

قوله عزوجل : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) فيه قولان : أحدهما : أنّ ذكر «الاسم» صلة ، والمعنى : تبارك ربّك. والثاني : أنه أصل ، قال ابن الأنباري : المعنى : تفاعل من البركة ، أي : البركة تكتب وتنال وتكسب بذكر اسمه. وقد بيّنا معنى «تبارك» في «الأعراف» (٢) ، وذكرنا في هذه السّورة معنى (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٣) ، وكان ابن عامر يقرأ : «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشّام ؛ والباقون : «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق ، وهم متّفقون على الموضع الأول أنه «ذو».

__________________

(١) يس : ٨٠.

(٢) الأعراف : ٥٤.

(٣) الرحمن : ٢٧.


سورة الواقعة

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله الأكثرون ، منهم ابن عباس ، والحسن ، وعطاء وعكرمة ، وقتادة ، وجابر ، ومقاتل ، وحكي عن ابن عباس أنّ فيها آية مدنيّة وهي قوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)). والثاني : أنها مدنيّة ، رواه عطيّة عن ابن عباس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : لمّا قال المشركون : متى هذا الوعد ، متى هذا الفتح؟! نزل قوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ، قال أبو سليمان الدّمشقي فالمعنى : يكون إذا وقعت. قال المفسّرون : والواقعة : القيامة ، وكلّ آت يتوقّع يقال له إذا كان : قد وقع ، والمراد بها هاهنا : النّفخة في الصّور لقيام الساعة. (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) أي لمجيئها وظهورها (كاذِبَةٌ) أي : كذب ، كقوله عزوجل : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١) أي : لغوا. قال الزّجّاج : و«كاذبة» مصدر ، كقولك ؛ عافاه الله عافية ، وكذب كذبة ، فهذه أسماء في موضع المصدر. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : لا رجعة لها ولا ارتداد ، قاله قتادة. والثاني : ليس الإخبار عن وقوعها كذبا ، حكاه الماوردي.

قوله عزوجل : (خافِضَةٌ) أي : هي خافضة (رافِعَةٌ) وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرّحمن ، وأبو العالية ، والحسن ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة ، واليزيدي في اختياره : «خافضة رافعة» بالنّصب فيهما. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : أنها خفضت فأسمعت القريب ، ورفعت فأسمعت البعيد ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وهذا يدلّ على أنّ الواقعة صيحة القيامة. والثاني : أنها خفضت ناسا ، ورفعت آخرين ، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال المفسّرون : تخفض أقواما إلى أسفل السّافلين في النّار ، وترفع أقواما إلى علّيّين في الجنّة.

__________________

(١) الغاشية : ١١.


قوله عزوجل : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي : حرّكت حركة شديدة وزلزلت ، وذلك أنها ترتجّ حتى يتهدّم ما عليها من بناء ، ويتفتّت ما عليها من جبل. وفي ارتجاجها قولان : أحدهما : أنه لإماتة من عليها من الأحياء. الثاني : لإخراج من في بطنها من الموتى.

قوله عزوجل : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) فيه قولان : أحدهما : فتّتت فتّا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال مجاهد. قال ابن قتيبة : فتّت حتى صارت كالدّقيق والسّويق المبسوس. والثاني : لتّت ، قاله قتادة : وقال الزّجّاج : خلطت ولتّت. قال الشاعر :

لا تخبزن خبزا وبسّ بسّا

وفي «الهباء» أقوال قد ذكرناها في الفرقان (١). وذكر ابن قتيبة أنّ الهباء المنبثّ : ما سطع من سنابك الخيل ، وهو من «الهبوة» ، والهبة : الغبار. والمعنى : كانت ترابا منتشرا.

قوله عزوجل : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) أي : أصنافا (ثَلاثَةً). (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وفيهم ثمانية أقوال (٢) : أحدها : أنهم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت ذرّيّته من صلبه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، قاله الضحاك والقرظي. والثالث : أنهم الذين كانوا ميامين على أنفسهم ، أي : مباركين ، قاله الحسن والرّبيع. والرابع : أنهم الذين أخذوا من شقّ آدم الأيمن ، قاله زيد بن أسلم. والخامس : أنهم الذين منزلتهم عن اليمين ، قاله ميمون بن مهران. والسادس : أنهم أهل الجنّة ، قاله السّدّيّ. والسابع : أنهم أصحاب المنزلة الرّفيعة ، قاله الزّجّاج. والثامن : أنهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنّة ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوري. قوله عزوجل : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) قال الفرّاء : عجّب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ؛ والمعنى : أيّ شيء هم؟! قال الزّجّاج : وهذا اللفظ في العربية مجراه مجرى التّعجب ، ومجراه من الله عزوجل في مخاطبة العباد ما يعظم به الشأن عندهم ، ومثله : (مَا الْحَاقَّةُ) (٣) ، (مَا الْقارِعَةُ) (٤) ؛ قال ابن قتيبة : ومثله أن تقول : زيد ما زيد أيّ رجل هو! (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي : أصحاب الشّمال ، والعرب تسمّي اليد اليسرى : الشّؤمى ، والجانب الأيسر ؛ الأشأم ، ومنه قيل : اليمن والشّؤم ، فاليمن : كأنه ما جاء عن اليمين ، والشّؤم ما جاء عن الشّمال ، ومنه سمّيت اليمن و«الشّأم» لأنها عن يمين الكعبة وشمالها. قال المفسّرون : أصحاب الميمنة : هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين ، ويعطون كتبهم بأيمانهم ؛ وتفسير أصحاب المشأمة على ضدّ تفسير أصحاب الميمنة سواء ،

__________________

(١) الفرقان : ٢٣.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٣٥ : وقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي : ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين. وآخرون عن يسار العرش ، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ، ويؤتون كتبهم بشمائلهم ، ويؤخذ بهم ذات الشمال. وهم عامّة أهل النار ـ عياذا بالله من صنيعهم ـ وطائفة سابقون بين يديه وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء وهم أقل عددا من أصحاب اليمين وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه. اه.

(٣) الحاقة : ٢.

(٤) القارعة : ٢.


والمعنى : أيّ قوم هم؟! ماذا أعدّ لهم من العذاب؟!

قوله عزوجل : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) فيهم خمسة أقوال : أحدها : أنهم السابقون إلى الإيمان من كل أمّة ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : أنهم الذين صلّوا إلى القبلتين ، قاله ابن سيرين. والثالث : أهل القرآن ، قاله كعب. والرابع : الأنبياء ، قاله محمّد بن كعب. والخامس : السّابقون إلى المساجد وإلى الخروج في سبيل الله ، قاله عثمان بن أبي سودة. وفي إعادة ذكرهم قولان : أحدهما : أنّ ذلك للتوكيد. والثاني : أنّ المعنى : السّابقون إلى طاعة الله تعالى هم السّابقون إلى رحمة الله ، ذكرهما الزّجّاج. قوله عزوجل : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) قال أبو سليمان الدّمشقيّ : يعني عند الله في ظلّ عرشه وجواره.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣)) الثّلّة : الجماعة غير محصورة العدد. وفي الأوّلين والآخرين هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الأوّلين : الذين كانوا من زمن آدم إلى زمن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآخرين : هذه الأمّة. والثاني : أنّ الأوّلين : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآخرين : التّابعون. والثالث : أنّ الأوّلين والآخرين : من أصحاب نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فعلى الأول يكون المعنى : إنّ السّابقين جماعة من الأمم المتقدّمة الذين سبقوا بالتصديق لأنبيائهم من جاء بعدهم مؤمنا ، وقليل من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنّ الذين عاينوا الأنبياء أجمعين وصدّقوا بهم أكثر ممّن عاين نبيّنا وصدّق به. وعلى الثاني : أنّ السّابقين : جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم الأوّلون من المهاجرين والأنصار ، وقليل من التابعين وهم الذين اتّبعوهم بإحسان. وعلى الثالث : أنّ السّابقين : الأوّلون من المهاجرين والأنصار ، وقليل ممّن جاء بعدهم لعجز المتأخّرين أن يلحقوا الأوّلين ، فقليل منهم من يقاربهم في السّبق. وأمّا «الموضونة» ، فقال ابن قتيبة ؛ هي المنسوجة ، كأنّ بعضها أدخل في بعض ، أو نضّد بعضها على بعض ، ومنه قيل للدّرع : موضونة ، ومنه قيل : وضين النّاقة ، وهو بطان من سيور يدخل بعضه في بعض. قال الفرّاء : سمعت بعض العرب يقول : الآجرّ موضون بعضه على بعض ، أي : مسروح ، وللمفسّرين في معنى «موضونة» قولان : أحدهما : مرمولة بالذهب ؛ رواه مجاهد عن ابن عباس ، وقال عكرمة : مشبّكة بالدّرّ والياقوت ، وهذا معنى ما ذكرناه عن ابن قتيبة ، وبه قال الأكثرون. والثاني : مصفوفة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وما بعد هذا ما تقدّم بيانه (١) إلى قوله : (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الولدان : الغلمان. وقال الحسن البصري : هؤلاء أطفال لم يكن لهم حسنات فيجزون بها ، ولا سيّئات فيعاقبون عليها ، فوضعوا بهذا الموضع. وفي المخلّدين قولان : أحدهما : أنه من الخلد ، والمعنى : أنهم مخلّدون للبقاء لا يتغيّرون ، وهم على سنّ واحد. قال الفرّاء : والعرب تقول للإنسان إذا كبر ولم يشمط (٢) ، أو لم تذهب أسنانه عن

__________________

(١) الكهف : ٣٠.

(٢) في «القاموس» : الشّمط : الشيب.


الكبر : إنه لمخلّد ، هذا قول الجمهور. والثاني : أنهم المقرّطون ، ويقال : المسوّرون ، ذكره الفرّاء ، وابن قتيبة ، وأنشدوا في ذلك :

ومخلّدات باللّجين كأنّما

أعجازهنّ أقاوز الكثبان (١)

قوله عزوجل : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) الكوب : إناء لا عروة له ولا خرطوم ، وقد ذكرناه في الزّخرف (٢) ، والأباريق : آنية لها عرى وخراطيم ؛ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : الإبريق : فارسيّ معرّب ، وترجمته من الفارسيّة أحد شيئين ؛ إمّا أن يكون : طريق الماء ، أو : صبّ الماء على هينة ، وقد تكلّمت به العرب قديما ، قال عديّ بن زيد :

ودعا بالصّبوح يوما فجاءت

قينة في يمينها إبريق

وباقي الآية في «الصّافّات» (٣).

قوله عزوجل (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) فيه قولان : أحدهما : لا يلحقهم الصّداع الذي يلحق شاربي خمر الدنيا. و«عنها» كناية عن الكأس المذكورة ، والمراد بها : الخمر ، وهذا قول الجمهور. والثاني : لا يتفرّقون عنها ، من قولك : صدّعته فانصدع ، حكاه ابن قتيبة. قوله «ولا ينزفون» مفسّر في «الصّافّات» (٤).

قوله عزوجل : (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي : يختارون ، تقول : تخيّرت الشيء : إذا أخذت خيره.

قوله عزوجل : (وَلَحْمِ طَيْرٍ) قال ابن عباس : يخطر على قلبه الطّير ، فيصير ممثّلا بين يديه على ما اشتهي. وقال مغيث بن سميّ : يقع على أغصان شجرة طوبى كأمثال البخت. فإذا اشتهى الرجل طيرا دعاه ، فيجيء حتى يقع على خوانه ، فيأكل من أحد جانبيه قديدا والآخر شواء ، ثم يعود طيرا فيطير فيذهب.

قوله عزوجل : (وَحُورٌ عِينٌ) قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «وحور عين» بالرفع فيهما. وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائيّ والمفضل عن عاصم : بالخفض فيهما. وقرأ أبيّ بن كعب وعائشة وأبو العالية وعاصم الجحدري : «وحورا عينا» بالنّصب فيهما. قال الزّجّاج : والذين رفعوا كرهوا الخفض ، لأنه معطوف على قوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) ، قالوا : والحور ليس مما يطاف به ، ولكنه مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأنّ المعنى : يطوف عليهم ولدان مخلّدون بأكواب ينعّمون بها ، فكذلك ينعّمون بلحم طير ، وكذلك ينعّمون بحور عين ، والرفع أحسن ، والمعنى ؛ فلهم حور عين ، ومن قرأ «وحورا عينا» حمله على المعنى ، لأنّ المعنى : يعطون هذه الأشياء ويعطون حورا عينا ، إلّا أنها تخالف المصحف فيكره. ومعنى (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ) أي : صفاؤهنّ وتلألؤهنّ شديد كصفاء اللّؤلؤ وتلألئه. والمكنون : الذي لم يغيّره الزمان واختلاف أحوال في الاستعمال ، فهنّ كاللؤلؤ حين يخرج من صدفه. (جَزاءً) منصوب مفعول له ؛ والمعنى : يفعل بهم ذلك جزاء بأعمالهم ، وجوّز أن يكون منصوبا على أنه مصدر ؛ لأنّ معنى «يطوف عليهم ولدان مخلّدون» : يجازون جزاء بأعمالهم ؛ وأكثر النّحويّين على هذا الوجه.

__________________

(١) في «القاموس» القوز : المستدير من الرمل والكثيب المشرف.

(٢) الزخرف : ٧٢.

(٣) الصافات : ٤٦.

(٤) الصافات : ٤٧.


قوله عزوجل : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) قد فسّرنا معنى اللّغو والسّلام في سورة مريم (١) ومعنى التأثيم في الطّور (٢) ومعنى «ما أصحاب اليمين» في أول هذه السّورة (٣).

فإن قيل : التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع؟. فالجواب : أن العرب يتبعون آخر الكلام أوّله ، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر ، فيقولون : أكلت خبزا ولبنا ، واللّبن لا يؤكل ، إنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل ، قال الفرّاء : أنشدني بعض العرب :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

قال : والعين لا تزجّج إنما تكحّل ، فردّها على الحاجب لأنّ المعنى يعرف ، وأنشد آخر :

ولقيت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا

وأنشدني :

علفتها تبنا وماء باردا

والماء لا يعلف وإنما يشرب ، فجعله تابعا للتّبن ، قال الفرّاء : وهذا هو وجه قراءة من قرأ ، «وحور عين» بالخفض ، لإتباع آخر الكلام أوّله ، وهو وجه العربيّة.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

وقد شرحنا معنى قوله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) في قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٤). وقد روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : أصحاب اليمين : أطفال المؤمنين.

قوله عزوجل : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ).

(١٣٨٩) سبب نزولها أنّ المسلمين نظروا إلى وجّ ، وهو واد بالطّائف مخضب ، فأعجبهم سدره. قالوا : يا ليت لنا مثل هذا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية ، والضّحّاك.

وفي المخضود ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الذي لا شوك فيه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وقسامة بن زهير. وقال ابن قتيبة : كأنه خضد شوكه. أي : قلع.

(١٣٩٠) ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة : «لا يخضد شوكها».

____________________________________

(١٣٨٩) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٨٠ وعزاه لأبي العالية والضحاك وهو منكر جدا ، وأمارة الوضع عليه.

(١٣٩٠) ضعيف. في إسناده موسى بن عبيدة واه ، ويزيد منكر الحديث ، وله شواهد لا تقوم بها حجة.

أخرجه الطبري ٣٣٣٩٤ وأبو نعيم في «صفة الجنة» ٣٩٠ والبيهقي في «البعث» ٣٨٠ من طرق عن سفيان الثوري به. وأخرجه الترمذي ٣٢٩٦ والطبري ٣٣٣٩٦ و ٣٣٣٩٧ وأبو نعيم ٣٩٠ من طرق عن موسى بن عبيدة به. قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث موسى بن عبيدة ، ويزيد بن أبان ـ

__________________

(١) مريم : ٦٢.

(٢) الطور : ٢٣.

(٣) الواقعة : ٨.

(٤) الواقعة : ٨.


والثاني : أنه الموقر حملا ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضّحّاك. والثالث : أنه الموقر الذي لا شوك فيه ، ذكره قتادة.

وفي الطّلح قولان : أحدهما : أنه الموز ، قاله عليّ ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنه شجر عظام كبار الشّوك ، قال أبو عبيدة : هذا هو الطّلح عند العرب ، قال الحادي :

بشّرها دليلها وقالا

غدا ترين الطّلح والجبالا

فإن قيل : ما الفائدة في الطّلح؟ فالجواب أنّ له نورا وريحا طيّبة ، فقد وعدهم ما يعرفون ويميلون إليه ، وإن لم يقع التساوي بينه وبين ما في الدنيا ، وقال مجاهد : كانوا يعجبون ب «وجّ» وظلاله من طلحه وسدره ، فأمّا المنضود ، فقال ابن قتيبة : هو الذي قد نضد بالحمل أو بالورق والحمل من أوّله إلى آخره ، فليس له ساق بارزة ، وقال مسروق : شجر الجنّة نضد من أسفلها إلى أعلاها.

قوله عزوجل : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي : دائم لا تنسخه الشمس. (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي : جار غير منقطع.

قوله عزوجل (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا مقطوعة في حين دون حين ، ولا ممنوعة بالحيطان والنّواطير إنما هي مطلقة لمن أرادها ، هذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ولخّصه بعضهم فقال : لا مقطوعة بالأزمان ، ولا ممنوعة بالأثمان. والثاني : لا تنقطع إذا جنيت ، ولا تمنع من أحد إذا أريدت ، روي عن ابن عباس. والثالث : لا مقطوعة بالفناء ، ولا ممنوعة بالفساد ، ذكره الماوردي.

قوله عزوجل : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) فيها قولان : أحدهما : أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنّوم. وفي رفعها قولان : أحدهما : أنها مرفوعة فوق السّرر. والثاني : أنّ رفعها : زيادة حشوها ليطيب الاستمتاع بها .. والثاني : أنّ المراد بالفرش : النساء ؛ والعرب تسمّي المرأة : فراشا وإزارا ولباسا ؛ وفي معنى رفعهنّ ثلاثة أقوال : أحدها : أنهنّ رفعن بالجمال على نساء أهل الدنيا ، والثاني : رفعن عن الأدناس ، والثالث : رفعن في القلوب لشدّة الميل إليهنّ.

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) يعني النّساء. قال ابن قتيبة : اكتفى بذكر الفرش لأنها محلّ النساء عن ذكرهنّ. وفي المشار إليهنّ قولان : أحدهما : أنهنّ نساء أهل الدنيا المؤمنات ؛ ثم في إنشائهنّ قولان : أحدهما : أنه إنشاؤهنّ من القبور ، قاله ابن عباس. والثاني : إعادتهنّ بعد الشّمط والكبر صغارا ، قاله الضّحّاك. والثاني : أنهن الحور العين ، وإنشاؤهنّ : إيجادهنّ عن غير ولادة ، قاله الزّجّاج : والصواب أن يقال : إنّ الإنشاء عمّهنّ كلّهنّ ، فالحور أنشئن ابتداء ، والمؤمنات أنشئن بالإعادة وتغيير الصّفات ؛ وقد روى أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

____________________________________

وموسى يضعّفان في الحديث. وورد من حديث أم سلمة ، أخرجه الطبري ٣٣٤٠٢ ، وإسناده واه ، فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه غير واحد ، والحسن لم يسمع من أم سلمة. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٣١٦٥ عن الحسن عن أمه عن أم سلمة ، وفيه سليمان أيضا ، وهو ضعيف كما تقدم.


(١٣٩١) «إنّ من المنشآت اللّاتي كنّ في الدنيا عجائز عمشا رمصا».

قوله عزوجل : (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) أي : عذارى. قال ابن عباس : لا يأتيها زوجها إلّا وجدها بكرا. قوله عزوجل : (عُرُباً) قرأ الجمهور : بضمّ الراء. وقرأ حمزة ، وخلف : بإسكان الراء ؛ قال ابن جرير ؛ هي لغة تميم وبكر. وللمفسّرين في معنى «عربا» خمسة أقوال : أحدها : أنهنّ المتحبّبات إلى أزواجهنّ ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. والثاني : أنهنّ العواشق ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال الحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والمبرّد ، وعن مجاهد كالقولين. والثالث : الحسنة التّبعّل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة. والرابع : المغنّجات ، قاله عكرمة. والخامس : الحسنة الكلام ، قاله ابن زيد. فأمّا الأتراب فقد ذكرناهنّ في ص (١).

قوله عزوجل : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هذا من نعت أصحاب اليمين. وفي الأوّلين والآخرين خلاف ، قد سبق شرحه (٢). وقد زعم أنه لمّا أنزلت الآية الأولى ، وهي قوله : «وقليل من الآخرين» وجد المؤمنون من ذلك وجدا شديدا حتى أنزلت «وثلّة من الآخرين» فنسختها. وروي عن عروة بن رويم نحو هذا المعنى.

قلت : وادّعاء النّسخ هاهنا لا وجه له لثلاثة أوجه : أحدها : أنّ علماء النّاسخ والمنسوخ لم يوافقوا على هذا. والثاني : أنّ الكلام في الآيتين خبر ، والخبر لا يدخله النّسخ. فهو هاهنا لا وجه له. والثالث : أنّ الثّلّة بمعنى الفرقة والفئة ؛ قال الزّجّاج : اشتقاقهما من القطعة ، والثّلّ : الكسر والقطع. فعلى هذا قد يجوز أن تكون الثّلّة في معنى القليل.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

قوله عزوجل : (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) قد بيّنّا أنه بمعنى التّعجّب من حالهم ؛ والمعنى : ما لهم ، وما أعدّ لهم من الشّرّ؟! ثم بيّن سوء منقلبهم فقال : (فِي سَمُومٍ) قال ابن قتيبة : هو حرّ النّار. قوله عزوجل : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال ابن عباس : ظلّ من دخان : قال الفرّاء : اليحموم : الدّخان الأسود ، (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) فوجه الكلام الخفض تبعا لما قبله ، ومثله (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) (٣) ، وكذلك قوله : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) ، ولو رفعت ما بعد «لا» لكان صوابا ، والعرب تجعل الكريم

____________________________________

(١٣٩١) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣٢٩٦ والطبري ٣٣٣٩٤ و ٣٣٣٩٧ والبيهقي في «البعث» ٣٨٠ من حديث أنس ، وإسناده واه. فيه موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي ، وهما ضعيفان.

__________________

(١) ص : ٥٢.

(٢) الواقعة : ١٣.

(٣) النور : ٣٥.


تابعا لكلّ شيء نفت عنه فعلا ينوى به الذّمّ ، فتقول : ما هذه الدار بواسعة ولا كريمة ، وما هذا بسمين ولا كريم. قال ابن عباس : لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قوله عزوجل : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي : في الدّنيا (مُتْرَفِينَ) أي : متنعّمين في ترك أمر الله ، فشغلهم ترفهم عن الاعتبار والتعبّد. (وَكانُوا يُصِرُّونَ) أي : يقيمون (عَلَى الْحِنْثِ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الشّرك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضّحّاك ؛ وابن زيد. والثاني : الذّنب العظيم الذي لا يتوبون منه ، قاله مجاهد. وعن قتادة كالقولين. والثالث : أنه اليمين الغموس ، قاله الشّعبي. والرابع : الشّرك والكفر بالبعث ، قاله الزّجّاج. قوله عزوجل : (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) قال أبو عبيدة : الواو متحركة لأنها ليست بواو إنما هي «وآباؤنا» ، فدخلت عليها ألف الاستفهام فتركت مفتوحة. وقرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، : «أو آباؤنا» بإسكان الواو. وقد سبق بيان ما لم نذكره هاهنا (١) إلى قوله : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قرأ أهل المدينة ، وعاصم ، وحمزة : «شرب الهيم» بضمّ الشين ؛ والباقون بفتحها .. وأكثر أهل نجد يقولون : شربا بالفتح ، أنشدني عامّتهم :

تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها

من الشّواء ويكفي شربه الغمر (٢)

وزعم الكسائيّ أنّ قوما من بني سعد بن تميم يقولون : «شرب الهيم» بالكسر. وقال الزّجّاج : «الشّرب» المصدر ، و«الشّرب» بالضمّ : الاسم. قال : وقد قيل : إنه مصدر أيضا. وفي «الهيم» قولان : أحدهما : الإبل العطاش ، رواه ابن أبي طلحة والعوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة. قال ابن قتيبة : هي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء ، يقال : بعير أهيم ، وناقة هيماء. والثاني : أنها الأرض الرّملة التي لا تروى من الماء ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا. قال أبو عبيدة : الهيم : ما لا يروى من رمل أو بعير.

قوله عزوجل : (هذا نُزُلُهُمْ) أي : رزقهم ، وروى عباس عن أبي عمرو : «نزلهم» بسكون الزاي ، أي رزقهم وطعامهم. وفي «الدّين» قولان قد ذكرناهما في الفاتحة (٣).

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢))

قوله عزوجل : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي أوجدناكم ولم تكونوا شيئا ، وأنتم تقرّون بهذا (فَلَوْ لا) أي : فهلّا (تُصَدِّقُونَ) بالبعث؟! ثم احتجّ على بعضهم بالقدرة على ابتدائهم فقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) قال الزّجّاج : أي : ما يكون منكم من المنيّ ، يقال : أمنى الرجل يمني ، ومنى يمني ، فيجوز على هذا «تمنون» بفتح التاء إن ثبتت به رواية. قوله عزوجل : (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي تخلقون ما تمنون بشرا؟! وفيه تنبيه على شيئين : أحدهما : الامتهان : إذ خلق من الماء المهين بشرا سويّا. والثاني :

__________________

(١) هود : ١٠٣ والصافات : ٦٢ والأنعام : ٧٠.

(٢) البيت لأعشى باهلة ، كما في «جمهرة أشعار العرب» ٢٥٤ ، وفي «القاموس» : الحزة : ما قطع من اللحم طولا. والفلذ : كبد البعير. والغمور : قدح صغير والغمر : الماء الكثير.

(٣) الفاتحة : ٣.


أنّ من قدر على خلق ما شاهدتموه من أصل وجودكم كان أقدر على خلق ما غاب عنكم من إعادتكم. قوله عزوجل : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وقرأ ابن كثير : «قدرنا» بتخفيف الدال. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : قضينا عليكم بالموت. والثاني : سوّينا بينكم في الموت. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) قال الزّجّاج : المعنى : إن أردنا أن نخلق خلقا غيركم لا يسبقنا سابق ، ولا يفوتنا ذلك. قال ابن قتيبة : لسنا مغلوبين على أن لم نستبدل بكم أمثالكم. قوله عزوجل : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : نبدّل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم. قاله الحسن. والثاني : ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب «برهوت» كأنها الخطاطيف ، قاله سعيد بن المسيّب. والثالث : نخلقكم في أيّ خلق شئنا ، قاله مجاهد. والرابع : نخلقكم في سوى خلقكم ، قاله السّدّيّ. قال مقاتل : نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من الصّور. قوله عزوجل : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) وهي ابتداء خلقكم من نطفة وعلقة (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي : فهلّا تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقرّوا بالبعث.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

قوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) أي : ما تعملون في الأرض من إثارتها ، وإلقاء البذر فيها ، (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي : تنبتونه؟! وقد نبّه هذا الكلام على أشياء منها إحياء الموتى ، ومنها الامتنان بإخراج القوت ، ومنها القدرة العظيمة الدالة على التوحيد.

قوله عزوجل : (لَجَعَلْناهُ) يعني الزّرع (حُطاماً) قال عطاء : تبنا لا قمح فيه. وقال الزّجّاج : أبطلناه حتى يكون منحطما لا حنطة فيه ، ولا شيء. قوله عزوجل : (فَظَلْتُمْ) وقرأ الشّعبي وأبو العالية وابن أبي عبلة : «فظلتم» بكسر الظاء ؛ وقد بيّناه في قوله : (ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) (١). قوله عزوجل : (تَفَكَّهُونَ) قرأ أبيّ بن كعب وابن السّميفع والقاسم بن محمّد وعروة : «تفكّنون» بالنون. وفي المعنى أربعة أقوال : أحدها : تعجّبون ، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء ومقاتل. قال الفرّاء : تتعجّبون مما نزل بكم في زرعكم. والثاني : تندّمون ، قاله الحسن والزّجّاج. وعن قتادة كالقولين. قال ابن قتيبة : يقال «تفكّهون» : تندّمون ، ومثلها : تفكّنون ، وهي لغة لعكل. والثالث : تلاومون ، قاله عكرمة. والرابع : تتفجّعون ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) قال الزّجّاج : أي : تقولون : قد غرمنا وذهب زرعنا. وقال ابن قتيبة : «لمغرمون» أي : لمعذّبون. قوله عزوجل : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي : حرمنا ما كنّا نطلب من الرّيع في الزّرع. وقد نبّه بهذا على أمرين : أحدهما : إنعامه عليهم إذ لم يجعل زرعهم حطاما. والثاني : قدرته

__________________

(١) طه : ٩٧.


على إهلاكهم كما قدر على إهلاك الزّرع. فأمّا المزن ، فهي السّحاب ، واحدتها : مزنة. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (الَّتِي تُورُونَ) قال أبو عبيدة : أي تستخرجون ، من أوريت ، وأكثر ما يقال : وريت. وقال ابن قتيبة : «تورون» أي : تقدحون ، تقول : أوريت النّار : إذا قدحتها.

قوله عزوجل : (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) في المراد بشجرتها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الحديد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنها الشجرة التي تتّخد منها الزّنود ، وهو خشب يحكّ بعضه ببعض فتخرج منه النّار ، هذا قول ابن قتيبة ، والزّجّاج. والثالث : أنّ شجرتها : أصلها ، ذكره الماوردي. قوله عزوجل : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) قال المفسّرون : إذا رآها الرّائي ذكر نار جهنّم ، وما يخافه من عذابها ، فاستجار بالله منها (وَمَتاعاً) أي : منفعة (لِلْمُقْوِينَ) وفيهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم المسافرون ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك. قال ابن قتيبة : سمّوا بذلك لنزولهم القوى ، وهو القفر. وقال بعض العلماء : المسافرون أكثر حاجة إليها من المقيمين ، لأنهم إذا أوقدوها هربت منهم السّباع واهتدى بها الضّالّ. والثاني : أنهم المسافرون والحاضرون ، قاله مجاهد. والثالث : أنهم الجائعون. ، قال ابن زيد : المقوي : الجائع في كلام العرب. والرابع : أنهم الذين لا زاد معهم ولا مال لهم ، قاله أبو عبيدة.

قوله عزوجل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال الزّجّاج : لمّا ذكر ما يدلّ على توحيده ، وقدرته ، وإنعامه ، قال : «فسبّح باسم ربك» أي : برّئ الله ونزّهه عمّا يقولون في وصفه. وقال الضّحّاك : معناه : فصلّ باسم ربّك ، أي : استفتح الصلاة بالتكبير. وقال ابن جرير : سبّح بذكر ربّك وتسميته. وقيل : الباء زائدة. والاسم يكون بمعنى الذات ، والمعنى : فسبّح ربّك.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ) في «لا» قولان : أحدهما : أنها دخلت توكيدا. والمعنى : فأقسم ، ومثله (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (١) ، قاله الزّجّاج ، وهو مذهب سعيد بن جبير. والثاني : أنها على أصلها. ثم في معناها قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى ما تقدّم ، ومعناه : النهي ، تقدير الكلام : فلا تكذّبوا ، ولا تجحدوا ما ذكرته من النّعم والحجج ، قاله الماوردي. والثاني : أنّ «لا» ردّا لما تقوله الكفّار في القرآن : إنه سحر ، وشعر ، وكهانة ، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم ، قاله عليّ بن أحمد النّيسابوري. وقرأ الحسن : فلأقسم بغير ألف بين اللام والهمزة.

قوله عزوجل : (بِمَواقِعِ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «بموقع» على التوحيد. قال أبو عليّ : مواقعها : مساقطها. ومن أفرد ، فلأنه اسم جنس. ومن جمع فلاختلاف ذلك. وفي «النّجوم» قولان : أحدهما : نجوم السماء ، قاله الأكثرون. فعلى هذا في مواقعها ثلاثة أقوال : أحدها : انكدارها وانتثارها يوم القيامة ، قاله الحسن. والثاني : منازلها ، قاله عطاء ، وقتادة. والثالث : مغيبها في

__________________

(١) الحشر : ٢٩.


المغرب ، قاله أبو عبيدة. والثاني : أنها نجوم القرآن ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. فعلى هذا سمّيت نجوما لنزولها متفرّقة ، ومواقعها : نزولها. قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) الهاء كناية عن القسم. وفي الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه. ثم ذكر المقسم عليه فقال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) والكريم : اسم جامع لما يحمد ، وذلك أنّ فيه البيان والهدى والحكمة ، وهو معظّم عند الله عزوجل.

قوله عزوجل : (فِي كِتابٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه المصحف الذي بأيدينا ، قاله مجاهد ، وقتادة. وفي «المكنون» قولان : أحدهما : مستور من الخلق ، قاله مقاتل ، وهذا على القول الأول. والثاني : مصون ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من قال : إنّه اللوح المحفوظ ، فالمطهّرون عنده : الملائكة ، وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد وسعيد بن جبير. فعلى هذا يكون الكلام خبرا. ومن قال : هو المصحف ، ففي المطهّرين أربعة أقوال (١) : أحدها : أنهم المطهّرون من الأحداث ، قاله الجمهور. فيكون ظاهر الكلام النّفي ، ومعناه النّهي. والثاني : المطهّرون من الشّرك ، قاله ابن السّائب. والثالث : المطهّرون من الذّنوب والخطايا ، قاله الرّبيع بن أنس. والرابع : أنّ معنى الكلام : لا يجد طعمه ونفعه إلّا من آمن به ، حكاه الفرّاء.

قوله عزوجل : (تَنْزِيلٌ) أي : هو تنزيل. والمعنى : هو منزّل ، فسمّي المنزّل تنزيلا على اتّساع اللغة ، كما تقول للمقدور : قدر ، وللمخلوق : خلق.

قوله عزوجل : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) يعني : القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) فيه قولان : أحدهما : مكذبون ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، والفرّاء. والثاني : ممالئون الكفّار على الكفر به ، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة : المدهن : المداهن ؛ وكذلك قال ابن قتيبة «مدهنون» أي : مداهنون. يقال : أدهن في دينه ، وداهن. (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

(١٣٩٢) روى مسلم في «صحيحه» من حديث ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول

____________________________________

(١٣٩٢) صحيح. أخرجه مسلم ٧٣ والطبراني في «الكبير» ١٢ / ١٩٨ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٨٢.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٧ / ١٩٥ : واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسّه لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة ، فروي عنه أنه يمسّه المحدث وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه ، وأما الكتاب فلا يمسّه إلا طاهر. ابن العربي : وهذا إن سلّمه مما يقوي الحجة عليه ، لأن حريم الممنوع من الممنوع. وفيما كتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسّه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن عليّ أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا إلا أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين :


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر». قالوا : هذه رحمة آتية وضعها الله حيث شاء. وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا ، وكذا ، فنزلت هذه الآية «فلا أقسم بمواقع النّجوم» حتى بلغ «أنكم تكذّبون».

(١٣٩٣) وروى البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث زيد بن خالد الجهني ، قال : صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصّبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلمّا انصرف أقبل على الناس ، فقال : «هل تدرون ماذا قال ربّكم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأمّا المؤمن فقال : مطرنا بفضل الله وبرحمته فذاك مؤمن بي ، كافر بالكوكب. وأمّا من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب».

وللمفسّرين في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الرّزق هاهنا بمعنى الشّكر.

(١٣٩٤) روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) قال : «شكركم» ، وهذا قول عليّ بن أبي طالب وابن عباس. وكان عليّ يقرأ «وتجعلون شكركم».

والثاني : أنّ المعنى : وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم ، قاله الأكثرون. وذلك أنّهم كانوا يمطرون ، فيقولون : مطرنا بنوء كذا. والثالث : أنّ الرزق بمعنى الحظّ. فالمعنى : وتجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذّبون ، ذكره الثّعلبي. وقرأ أبيّ بن كعب ، والمفضّل عن عاصم «وتكذبون» بفتح التاء ، وإسكان الكاف ، مخفّفة الذال.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

____________________________________

(١٣٩٣) صحيح. أخرجه البخاري ٨٤٦ ومسلم ٧١ ومالك ١ / ١٩٢ وأحمد ٤ / ١١٧ من حديث زيد بن خالد.

(١٣٩٤) لم أره بهذا اللفظ عن عائشة. وقال السيوطي في «الدر» ٦ / ٢٣٤ : أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» عن عائشة رضي الله عنها قالت : مطر الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» فذكره بنحو حديث ابن عباس المتقدم ، ولم يذكر فيه تفسير الآية (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ). وورد من حديث علي ، أخرجه الترمذي ٣٢٩٥ والطبري ٣٣٥٥٥ و ٣٣٥٥٦ وأحمد ١ / ١٣١ وإسناده ضعيف لضعف عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ومع ذلك رواه عنه الثوري موقوفا على علي ، والثوري أحفظ من إسرائيل ، والمرفوع ضعفه أحمد شاكر في «المسند» ١٠٨٧. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٤٣٨.

__________________

أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز ، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن ، لأن تعلمه حال الصغر ، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة ، لأن النية لا تصح منه فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.


قوله عزوجل : (فَلَوْ لا) أي : فهلّا (إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) يعني : النّفس ، فترك ذكرها لدلالة الكلام ، وأنشدوا من ذلك :

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر (١)

قوله عزوجل : (وَأَنْتُمْ) يعني أهل الميت (تَنْظُرُونَ) إلى سلطان الله وأمره والثاني تنظرون للإنسان في تلك الحالة ، ولا تملكون له شيئا (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) فيه قولان : أحدهما : ملك الموت أدنى إليه من أهله (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) الملائكة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة والرؤية (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي : لا تعلمون ، والخطاب للكفّار ، ذكره الواحدي.

قوله عزوجل : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) فيه خمسة أقوال : أحدها : محاسبين ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وعكرمة. والثاني : موقنين ، قاله مجاهد. والثالث : مبعوثين ، قاله قتادة. والرابع : مجزيين. ومنه يقال : دنته ، وكما تدين تدان ، قاله أبو عبيدة. والخامس : مملوكين أذلاء ، من قولك : دنت له بالطاعة ، قاله ابن قتيبة. قوله عزوجل : (تَرْجِعُونَها) أي : تردّون النّفس. والمعنى : إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم ، فهلّا تردّون هذه النّفس؟! فإذا لم يمكنكم ذلك ، فاعلموا أنّ الأمر لغيركم. قال الفرّاء : وقوله عزوجل : (تَرْجِعُونَها) هو جواب لقوله عزوجل : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ولقوله عزوجل : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) فإنهما أجيبتا بجواب واحد. ومثله قوله عزوجل : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) (٢).

ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت فقال عزوجل : (فَأَمَّا إِنْ كانَ) يعني : الذي بلغت نفسه الحلقوم (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله. قال أبو العالية : هم السّابقون (فَرَوْحٌ) أي : فله روح. والجمهور يفتحون الراء. وفي معناها ستة أقوال (٣) : أحدها : الفرح ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : الراحة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : المغفرة والرّحمة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والرابع : الجنّة ، قاله مجاهد. والخامس : روح من الغمّ الذي كانوا فيه ، قاله محمّد بن كعب. والسادس : روح في القبر ، أي : طيب نسيم ، قاله ابن قتيبة. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وأبو رزين ، والحسن ، وعكرمة وابن يعمر ، وقتادة ، ورويس عن يعقوب ، وابن أبي سريج عن الكسائيّ : «فروح» برفع الراء. وفي معنى هذه القراءة قولان : أحدهما : أنّ معناها : فرحمة ، قاله قتادة. والثاني : فحياة وبقاء ، قاله ابن قتيبة. وقال الزّجّاج : معناه : فحياة دائمة لا موت معها. وفي «الرّيحان» أربعة أقوال : أحدها : أنه الرزق ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنه المستراح ، رواه ابن أبي طلحة عن

__________________

(١) هو عجز بيت لحاتم الطائي كما في ديوانه ٥٠ ، وصدره : أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى.

(٢) البقرة : ٣٨.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٦٦٦ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال : عني بالرّوح : الفرح والرحمة والمغفرة ، وأصله في قولهم : وجدت روحا : إذا وجد نسيما يستروح إليه من كرب الحرّ. وأما الريحان ، فإنه عندي الريحان الذي يتلقى به عند الموت ، كما قال أبو العالية والحسن لأن ذلك الأغلب والأظهر من معانيه.


ابن عباس. والثالث : أنه الجنّة ، قاله مجاهد ، وقتادة. والرابع : أنه الرّيحان المشموم. وقال أبو العالية : لا تخرج روح أحد من المقرّبين من الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنّة ، فيشمّه ، ثم تقبض فيه روحه ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن. وقال أبو عمران الجوني : بلغنا أنّ المؤمن إذا قبض روحه تلقى بضبائر الرّيحان من الجنّة ، فتجعل روحه فيه.

قوله عزوجل : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : فسلامة لك من العذاب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : تسلّم عليه الملائكة ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين ، قاله عطاء. والثالث : أنّ المعنى : أنك ترى فيهنّ ما تحبّ من السلامة ، وقد علمت ما أعدّ لهم من الجزاء ، قاله الزّجّاج. قوله عزوجل : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) أي : بالبعث (الضَّالِّينَ) عن الهدى (فَنُزُلٌ) وقد بيّناه في هذه السّورة (١).

قوله عزوجل : (إِنَّ هذا) يعني ما ذكر في هذه السّورة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي هو اليقين حقّا ، فأضافه إلى نفسه ، كقولك : صلاة الأولى ، وصلاة العصر ، ومثله : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) (٢) ، وقد سبق هذا المعنى ، وقال قوم : معناه : وإنه للمتقين حقّا. وقيل للحقّ : اليقين.

قوله عزوجل : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قد ذكرناه في هذه السّورة (٣).

__________________

(١) الواقعة : ٥٦.

(٢) يوسف : ١٠٩.

(٣) الواقعة : ٧٤.


سورة الحديد

وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، ومقاتل. والثاني : أنها مكّيّة ، قاله ابن السّائب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

قوله عزوجل : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أما تسبيح ما يعقل ، فمعلوم ، وتسبيح ما لا يعقل ، قد ذكرنا معناه في قوله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١). قوله عزوجل : (هُوَ الْأَوَّلُ) قال أبو سليمان الخطّابي : الأول هو السابق للأشياء (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فناء الخلق (وَالظَّاهِرُ) بحجّته الباهرة ، وبراهينه النّيّرة ، وشواهده الدّالة على صحّة وحدانيّته. ويكون : الظاهر فوق كلّ شيء بقدرته. وقد يكون الظّهور بمعنى العلوّ ، ويكون بمعنى الغلبة. والباطن : هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يستولي عليه توهّم الكيفية ، وقد يكون معنى الظّهور والبطون : احتجابه عن أبصار النّاظرين ، وتجلّيه لبصائر المتفكّرين. ويكون معناه : العالم بما ظهر من الأمور والمطّلع على ما بطن من الغيوب. قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مفسّر في الأعراف (٢) إلى قوله عزوجل : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) وهو مفسّر في سبأ (٣) إلى قوله عزوجل : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي : بعلمه وقدرته. وما بعده ظاهر إلى قوله عزوجل : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) قال المفسّرون : هذا الخطاب لكفّار قريش (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) يعني : المال الذي كان بأيدي غيرهم ، فأهلكهم الله ، وأعطى قريشا ذلك المال ، فكانوا فيه خلفاء من مضى.

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

(٢) الأعراف : ٥٤.

(٣) سبأ : ٢.


(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

قوله عزوجل : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) هذا استفهام إنكار ، والمعنى : أيّ شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) قرأ أبو عمرو «أخذ» بالرفع. وقرأ الباقون «أخذ» بفتح الخاء (مِيثاقَكُمْ) بالفتح. والمراد به : حين أخرجتم من ظهر آدم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالحجج والدلائل. قوله : عزوجل : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آياتٍ بَيِّناتٍ) يعني : القرآن (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) يعني الشّرك إلى نور الإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حين بعث الرسول ونصب الأدلّة. ثم حثّهم على الإنفاق فقال : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق ممّا يقرّب إلى الله عزوجل وأنتم ميتون تاركون أموالكم؟! ثم بيّن فضل من سبق بالإنفاق فقال : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) وفيه قولان : أحدهما : أنه فتح مكّة ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : أنه فتح الحديبية ، قاله الشّعبي. والمعنى : لا يستوي من أنفق قبل ذلك (وَقاتَلَ) ومن فعل ذلك بعد الفتح. قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصّدّيق. (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) قال ابن عباس : أعظم منزلة عند الله. قال عطاء : درجات الجنّة تتفاضل ، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزّجّاج : لأنّ المتقدّمين كانت بصائرهم ، أنفذ. ونالهم من المشقّة أكثر (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي : وكلا الفريقين وعده الله الجنّة. وقرأ ابن عامر «وكلّ» بالرفع. قوله عزوجل : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر «فيضعّفه» مشددة العين بغير ألف ، إلّا أنّ ابن كثير يضمّ الفاء ، وابن عامر يفتحها. وقرأ نافع ؛ وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ «فيضاعفه» بالألف وضمّ الفاء ، وافقهم عاصم إلّا أنه فتح الفاء. قال أبو عليّ : يضاعف ويضعّف بمعنى واحد ، إلّا أنّ الرفع في «يضاعف» هو الوجه ، لأنه محمول على «يقرض». أو على الانقطاع من الأول كأنه قال : فهو يضاعف. ويحمل قول الذي نصب على المعنى ، لأنه إذا قال : من ذا الذي يقرض الله ، معناه : أيقرض الله أحد قرضا فيضاعفه. والآية مفسّرة في البقرة (١). والأجر الكريم : الجنّة.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)

__________________

(١) البقرة : ٢٤٥.


يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

قوله عزوجل : (يَسْعى نُورُهُمْ) قال المفسّرون : يضيء لهم نور عملهم على الصّراط على قدر أعمالهم. قال ابن مسعود : منهم من نوره مثل الجبل ، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفئ مرة ، ويوقد أخرى. وفي قوله عزوجل : (وَبِأَيْمانِهِمْ) قولان : أحدهما : أنه كتبهم يعطونها بأيمانهم ، قاله الضّحّاك. والثاني : أنه نورهم يسعى ، أي : يمضي بين أيديهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، والباء بمعنى : «في». و«في» بمعنى «عن» ، وهذا قول الفراء.

قوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) هذا قول الملائكة لهم. قوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ) وقرأ حمزة : «أنظرونا» بقطع الهمزة ، وفتحها ، وكسر الظاء ، قال المفسرون : تغشى الناس يوم القيامة ظلمة شديدة ، فيعطى المؤمنون النور ، فيمشي المنافقون بنور المؤمنين ، قالوا : انظرونا نقتبس من نوركم ، (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) في القائل لهم قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون ، قاله ابن عباس. والثاني : الملائكة ، قاله مقاتل ، وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : ارجعوا إلى المكان الذي قبستم فيه النّور ، فيرجعون ، فلا يرون شيئا. والثاني : ارجعوا فاعملوا عملا يجعله الله لكم نورا. والثالث : أنّ المعنى : لا نور لكم عندنا. قوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) قال ابن عباس : هو الأعراف ، وهو سور بين الجنة والنار (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) وهي الجنة (وَظاهِرُهُ) يعني من وراء السور (مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) وهو جهنّم. وقد ذهب قوم إلى أنّ السّور يكون ببيت المقدس في مكان السّور الشرقي بين الوادي الذي يسمّى : وادي جهنّم ، وبين الباب الذي يسمّى : باب الرّحمة ، وإلى نحو هذا ذهب عبادة بن الصّامت ، وعبد الله بن عمر ، وكعب.

قوله عزوجل : (يُنادُونَهُمْ) أي : ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السّور : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي : على دينكم نصلّي بصلاتكم ، ونغزو معكم؟! فيقول لهم المؤمنون : (بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ) فيه قولان : أحدهما : تربصتم بالتّوبة. والثاني : تربّصتم بمحمّد الموت ، وقلتم : يوشك أن يموت فنستريح (وَارْتَبْتُمْ) شككتم في الحقّ (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) يعني ما كانوا يتمنّون من نزول الدّوائر بالمؤمنين (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) وفيه قولان : أحدهما : أنه الموت. والثاني : إلقاؤهم في النّار (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي غرّكم الشيطان بحكم الله وإمهاله (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، ويعقوب «لا تؤخذ» بالتاء ، أي : بدل وعوض عن عذابكم. وهذا خطاب للمنافقين ، ولهذا قال عزوجل : (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

قوله عزوجل : (هِيَ مَوْلاكُمْ) قال أبو عبيدة : ؛ أي : أولى بكم.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

قوله عزوجل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :


(١٣٩٥) أحدهما : أنها نزلت في المؤمنين. قال ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا ، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلّا أربع سنين ، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا.

والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس (١). قال مقاتل : سأل المنافقون سلمان الفارسيّ فقالوا : حدّثنا عن التّوراة ، فإنّ فيها العجائب ، فنزلت هذه الآية (٢).

وقال الزّجّاج : نزلت هذه الآية في طائفة من المؤمنين حثّوا على الرّقّة والخشوع. فأمّا من كان وصفه الله عزوجل بالخشوع ، والرّقّة ، فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء. فعلى الأول : يكون الإيمان حقيقة. وعلى الثاني : يكون المعنى : «ألم يأن للذين آمنوا» بألسنتهم. قال ابن قتيبة : المعنى : ألم يحن. تقول : آن الشيء : إذا حان.

قوله عزوجل : (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) أي ترقّ وتلين (لِذِكْرِ اللهِ). المعنى : أنه يجب أن يورثهم الذّكر خشوعا (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائيّ «وما نزّل» بفتح النون والزاي مع تشديد الزاي. وقرأ نافع وحفص ، والمفضل عن عاصم «نزل» بفتح النون وتخفيف الزاي. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي وأبو العالية وابن يعمر ، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو ، وأبان عن عاصم «نزّل» برفع النون وكسر الزاي مع تشديدها. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «وما أنزل» بهمزة مفتوحة وفتح الزاي. وقرأ أبو مجلز ، وعمرو بن دينار مثله إلا أنه بضمّ الهمزة وكسر الزاي. و«الحقّ» القرآن (وَلا يَكُونُوا) قرأ رويس عن يعقوب «ولا تكونوا» بالتاء (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني اليهود والنّصارى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) وهو الزّمان. وقال ابن قتيبة : الأمد : الغاية. والمعنى : أنه بعد عهدهم بالأنبياء والصالحين (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وهم الذين لم يؤمنوا بعيسى ومحمّد عليهما‌السلام (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يخرج منها النبات بعد يبسها ، فكذلك يقدر على إحياء الأموات (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدّالة على وحدانيّته وقدرته (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تتأمّلوا.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

قوله عزوجل : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) قرأ ابن كثير ، وعاصم إلّا حفصا بتخفيف الصاد فيهما على معنى التّصديق. وقرأ الباقون بالتشديد على معنى الصّدقة. قوله عزوجل : (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلفوا في نظم الآية على قولين (٣) : أحدهما : أنّ تمام الكلام عند قوله عزوجل :

____________________________________

(١٣٩٥) هذا الأثر صحيح ، أخرجه مسلم ٣٠٢٧ والنسائي في «التفسير» ٥٨٨ واستدركه الحاكم ٢ / ٤٧٩ كلهم عن ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٤٥٦.

__________________

(١) موضوع. عزاه المصنف لأبي صالح ، وهو متهم في ابن عباس ، حيث روى وصاحبه الكلبي تفسير موضوعا عن ابن عباس ، وهذا منه ، فالآية المراد بها المؤمنون.

(٢) الخبر منكر جدا ، أمارة الوضع لائحة عليه ، ومقاتل هو ابن سليمان وهو كذاب.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٦٨٤ : والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال :


(أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ثم ابتدأ فقال عزوجل (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هذا قول ابن عباس ، ومسروق ، والفرّاء في آخرين. والثاني : أنها على نظمها ، والواو في «والشهداء» واو النّسق ، ثم في معناها قولان : أحدهما : أنّ كلّ مؤمن صدّيق شهيد ، قاله ابن مسعود ؛ ومجاهد. والثاني : أنها نزلت في قوم مخصوصين ، وهم ثمانية نفر سبقوا إلى الإسلام : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وحمزة بن عبد المطّلب ، وطلحة ، والزّبير ، وسعد ، وزيد ، قاله الضّحّاك. وفي الشهداء قولان : أحدهما : أنه جمع شاهد. ثم فيهم قولان : أحدهما : أنهم الأنبياء خاصّة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم الشاهدون عند ربّهم على أنفسهم بالإيمان بالله ، قاله مجاهد. والقول الثاني : أنه جمع شهيد ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

قوله عزوجل : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني : الحياة في هذه الدّار (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي : غرور تنقضي عن قليل. وذهب بعض المفسّرين (١) إلى أنّ المشار بهذا إلى حال الكافر في دنياه ، لأنّ حياته تنقضي على لهو ولعب وتزيين الدنيا ، وتفاخر يفاخر قرناءه وجيرانه ، ويكاثرهم بالأموال والأولاد ، فيجمع من غير حلّه ، ويتطاول على أولياء الله بماله ، وخدمه ، وولده ، فيفنى عمره في هذه الأشياء ، ولا يلتفت إلى العمل للآخرة. ثم بيّن لهذه الحياة شبها ، فقال : (كَمَثَلِ غَيْثٍ) يعني : مطرا (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) وهم الزّرّاع ، وسمّوا كفّارا ، لأنّ الزّارع إذا ألقى البذر في الأرض كفره ، أي : غطّاه (نَباتُهُ) أي ما نبت من ذلك الغيث (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد خضرته وريّه (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي ينحطم ، وينكسر بعد يبسه. وشرح هذا المثل قد تقدّم في يونس عند قوله عزوجل (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) ، وفي الكهف عند قوله عزوجل : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٣). قوله عزوجل : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : لأعداء الله (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لأوليائه وأهل طاعته. وما

__________________

الكلام والخبر عن الذين آمنوا ، متناه عند قوله (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) وأن قوله (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر مبتدأ عن الشهداء.

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٧٠ : هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوزا شوهاء ، والإنسان كذلك يكون في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف ، بهيّ المنظر ، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وينفد بعض قواه ، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى قليل الحركة ، يعجزه الشيء اليسير ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) الروم : ٥٤ ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة ، وأن الآخرة كائنة لا محالة ، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخبر ، فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي : وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا : إما عذاب شديد ، وإما مغفرة من الله ورضوان.

(٢) يونس : ٢٤.

(٣) الكهف : ٤٥.


بعد هذا مذكور في آل عمران (١) ، إلى قوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) فبيّن أنه لا يدخل الجنّة أحد إلّا بفضل الله.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

قوله عزوجل : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) يعني : قحط المطر ، وقلّة النّبات ، ونقص الثّمار (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) يعني الأمراض ، وفقد الأولاد (إِلَّا فِي كِتابٍ) وهو اللّوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أن نخلقها ، يعني : الأنفس (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي : إنّ إثبات ذلك على كثرته هيّن على الله عزوجل (لِكَيْلا تَأْسَوْا) أي : تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) من الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) قرأ أبو عمرو ـ إلا اختيار اليزيدي ـ بالقصر على معنى : جاءكم من الدنيا. وقرأ الباقون بالمدّ على معنى : ما أعطاكم الله منها. وأعلم أنه من علم أنّ ما قضي لا بدّ أن يصيبه قبل حزنه وفرحه. وقد روى قتيبة بن سعيد قال : دخلت بعض أحياء العرب ، فإذا بفضاء من الأرض فيه من الإبل ما لا يحصى عدده كلّها قد مات ، فسألت عجوزا : لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل الصّوف ، فقلت له : يا شيخ لك كانت هذه الإبل؟ قال : كانت باسمي ، قلت : فما أصابها؟ قال : ارتجعها الذي أعطاها ، قلت : فهل قلت في ذلك شيئا؟ قال : نعم ، قلت :

لا والّذي أنا عبد في عبادته

والمرء في الدّهر نصب الرّزء والحزن

ما سرّني أنّ إبلي في مباركها

وما جرى في قضاء الله لم يكن

وما بعد هذا قد ذكرناه في سورة النّساء (٢) ، والذي قيل في البخل هناك هو الذي قيل هاهنا إلى قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : عن الإيمان (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن عباده (الْحَمِيدُ) إلى أوليائه. وقد سبق معنى الاسمين في البقرة (٣). وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني الحميد» ليس فيها «هو» وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة ، والشّام.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))

قوله عزوجل : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أي : بالآيات والحجج (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) ببيان الشرائع ، والأحكام. وفي «الميزان» قولان : أحدهما : أنه العدل ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنه الذي يوزن به ، قاله ابن زيد ومقاتل. فعلى القول الأول : يكون المعنى : أمرنا بالعدل. وعلى الثاني : ووضعنا الميزان ، أي : أمرنا به (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي : لكي يقوموا بالعدل. قوله عزوجل : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) فيه قولان : أحدهما : أنّ الله تعالى أنزل مع آدم السّندان ، والكلبتين ، والمطرقة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ معنى «أنزلنا» : أنشأنا وخلقنا ، كقوله عزوجل : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ

__________________

(١) آل عمران : ١٨٥.

(٢) النساء : ٣٧.

(٣) البقرة : ٢٦٧.


الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (١). قوله عزوجل : (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) قال الزّجّاج : وذلك أنه يمتنع به ، ويحارب به (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) يستعملونه في أدواتهم ، وما ينتفعون به من آنية وغيرها. قوله عزوجل : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) هذا معطوف على قوله تعالى : (لِيَقُومَ النَّاسُ) ، والمعنى : ليتعامل الناس بالعدل وليعلم الله (مَنْ يَنْصُرُهُ) بالقتال في سبيله ، ونصرة دينه ، وذلك أنه أمر في الكتاب الذي أنزل بذلك. وقد سبق معنى قوله عزوجل : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) في مواضع. وقوله عزوجل : (بِالْغَيْبِ) أي : ولم ير الله ، ولا أحكام الآخرة ، وإنما يجهد ويثاب من أطاع بالغيب.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

قوله عزوجل : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) يعني : الكتب (فَمِنْهُمْ) يعني : من الذّريّة (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) فيه قولان : أحدهما : كافرون ، قاله ابن عباس. والثاني : عاصون ، قاله مقاتل. قوله عزوجل : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) أي : أتبعنا على آثار نوح ، وإبراهيم ، وذرّيتهما (بِعِيسَى) وكان آخر أنبياء بني إسرائيل ، (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) يعني : الحواريين وغيرهم من أتباعه على دينه (رَأْفَةً) وقد سبق بيانها (٢) والمعنى أنهم كانوا متوادّين ، كما وصف الله تعالى أصحاب نبيّنا عليه‌السلام ، فقال عزوجل : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٣).

قوله عزوجل : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) ليس هذا معطوفا على ما قبله ، وإنّما انتصب بفعل مضمر ، يدلّ عليه ما بعده ، تقديره : وابتدعوا رهبانيّة ابتدعوها ، أي : جاءوا بها من قبل أنفسهم ، وهي غلوّهم في العبادة ، وحمل المشاقّ على أنفسهم في الامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنّكاح ، والتعبّد في الجبال (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي : ما فرضناها عليهم.

وفي قوله عزوجل : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) قولان :

أحدهما : أنّ الاستثناء يرجع إلى قوله عزوجل : (ابْتَدَعُوها) والمعنى ابتدعوها طلبا لرضوان الله ، ولم يكتبها عليهم ، وهذا قول الجمهور. وتقديره : ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، ذكره علي بن عيسى والرماني عن قتادة وزيد بن أسلم.

والثاني : أنه راجع إلى قوله عزوجل : «ما كتبناها» ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوّعا إلّا ابتغاء رضوان الله. قال الحسن : تطوّعا بابتداعها ثم كتبها الله عليهم. وقال الزّجّاج : لمّا ألزموا أنفسهم ذلك التّطوع لزمهم إتمامه ، كما أنّ الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفترض عليه ، لزمه أن يتمّه. قال القاضي أبو يعلى : والابتداع قد يكون بالقول ، وهو ما

__________________

(١) الزمر : ٦.

(٢) النور : ٢.

(٣) الفتح : ٢٩.


ينذره ويوجبه على نفسه ، وقد يكون بالفعل بالدّخول فيه. وعموم الآية تتضمّن الأمرين ، فاقتضى ذلك أنّ كلّ من ابتدع قربة ، قولا ؛ أو فعلا ، فعليه رعايتها وإتمامها. والثاني : أنّ المعنى : ما أمرناهم منها إلّا بما يرضي الله عزوجل ، لا غير ذلك ، قاله ابن قتيبة.

قوله عزوجل : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الذين ابتدعوا الرّهبانيّة ، قاله الجمهور. ثمّ في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ما رعوها لتبديل دينهم وتغييرهم له ، قاله عطيّة العوفيّ. والثاني : لتقصيرهم فيما ألزموه أنفسهم. والثالث : لكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا بعث ، ذكر القولين الزّجّاج : والثاني : أنهم الذين اتّبعوا مبتدعي الرّهبانيّة في رهبانيّتهم ، ما رعوها بسلوك طريق أوّليهم ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس.

قوله عزوجل : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : الذين آمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وهم الذين لم يؤمنوا به. والثاني : أنّ الذين آمنوا : المؤمنون بعيسى عليه‌السلام والفاسقون : المشركون. والثالث : أنّ الذين آمنوا : مبتدعو الرّهبانيّة ، والفاسقون : متّبعوهم على غير القانون الصحيح.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) عامّة المفسّرين على أنّ هذا الخطاب لليهود والنّصارى ، والمعنى : يا أيّها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتّقوا الله ، وآمنوا برسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي نصيبين ، وحظّين (مِنْ رَحْمَتِهِ). قال الزّجّاج : الكفل : كساء يمنع الرّاكب أن يسقط ، فالمعنى : يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي. وقد بيّنّا معنى «الكفل» في سورة النّساء. وفي المراد بالكفلين هاهنا قولان : أحدهما : أنّ أحدهما لإيمانهم بمن تقدّم من الأنبياء ، والآخر لإيمانهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ أحدهما : أجر الدنيا. والثاني : أجر الآخرة ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً). فيه أربعة أقوال : أحدها : القرآن ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : تمشون به على الصّراط ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : الهدى ، قاله مجاهد. والرابع : الإيمان ، قاله ابن السّائب.

قوله عزوجل : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) «لا» زائدة. قال الفرّاء : والعرب تجعل «لا» صلة في كلّ كلام دخل في آخره أو أوّله جحد ، فهذا ممّا جعل في آخره جحد. والمعنى : ليعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) الذين لم يؤمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَلَّا يَقْدِرُونَ) أي : أنهم لا يقدرون (عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) والمعنى : أنه جعل الأجرين لمن آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلم من لم يؤمن به أنه لا أجر لهم ولا نصيب في فضل الله (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فآتاه المؤمنين. هذا تلخيص قول الجمهور في هاتين الآيتين.


(١٣٩٦) وقد ذهب قوم إلى أنه لمّا نزل في مسلمي أهل الكتاب قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله عزوجل : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) (١) افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فنزلت هاتان الآيتان ، وهذا المعنى في رواية أبي صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. فعلى هذا يكون الخطاب للمسلمين ، ويكون المعنى : يؤتكم أجرين ليعلم مؤمنو أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصّكم به ؛ فإنه فضّلكم على جميع الخلائق. وقال قتادة : لمّا نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) الآية ، حسد أهل الكتاب المسلمين ، فأنزل الله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية.

____________________________________

(١٣٩٦) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهذه رواية ساقطة ، مدارها على الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث. وعزاه لمقاتل ، وتقدم أنه يضع الحديث أيضا.

__________________

(١) القصص : ٥٤.


سورة المجادلة

وهي مدنيّة في قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة وقتادة والجمهور. وروي عن عطاء أنه قال : العشر الأول منها مدنيّ ، والباقي مكّيّ. وعن ابن السّائب : أنها مدنيّة سوى آية ، وهي قوله عزوجل : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١))

قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).

(١٣٩٧) أما سبب نزولها ، فروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ، ولقد جاءت المجادلة فكلّمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ، ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها وتقول : يا رسول الله ، أبلى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سنّي ، وانقطع ولدي ، ظاهر منّي ، اللهمّ إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات.

فأمّا تفسيرها ، فقوله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ) قال الزّجّاج : إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين لأنهما من حروف طرف اللسان ، وإدغام الدال في السين تقوية للحرف ، وإظهار الدال جائز

____________________________________

(١٣٩٧) صحيح. أخرجه النسائي ٦ / ٤٦ وفي «الكبرى» ١١٥٧٠ و«التفسير» ٥٩٠ وابن ماجة ١٨٨ و ٢٠٦٣ وأحمد ٦ / ٤٦ وعبد الرزاق في «التفسير» ١١١٨ والحاكم ٢ / ٤٨١ والطبري ٣٣٧٢٥ و ٣٣٧٢٦ والواحدي في «الأسباب» ٧٨٨ والبيهقي ٧ / ٣٨٢ من طرق عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة. وإسناده صحيح ، رجاله ثقات رجال البخاري ومسلم غير تميم ، فإنه من رجال مسلم ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة بنت ثعلبة. أخرجه أحمد ٦ / ٤١٠ وأبو داود ٢٢١٤ والبيهقي ٧ / ٣٨٩ والطبري ٣٣٧١٤ وابن حبان ٤٢٧٩ والواحدي في «الأسباب» ٧٩١ من طريق محمد بن إسحاق حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف به. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ٢٤٦٣ و«أحكام القرآن» لابن العربي ٢٠٤٥ و ٢٠٤٧ و«الجامع لأحكام القرآن» ٥٨٣٨ وهي جميعا بتخريجنا ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) المجادلة : ٧.


لأنه وإن قرب من مخرج السين فله حيّز على حدة ، ومن موضع الدال الطاء والتاء ، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد ، والسين والزاي والصاد من موضع واحد ، وهي تسمّى حروف الصّفير. وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال : أحدها : خولة بنت ثعلبة ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة وقتادة والقرظي. والثاني : خولة بنت خويلد ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : خولة بنت الصّامت ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والرابع : خولة بنت الدّليج ، قاله أبو العالية ، واسم زوجها : أوس بن الصّامت ، وكانا من الأنصار.

(١٣٩٨) قال ابن عباس : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليّ كظهر أمّي ، حرمت عليه ، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ، ثم ندم ، وقال لامرأته : انطلقي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسليه ، فأتته ، فنزلت هذه الآيات. فأمّا مجادلتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه كان كلّما قال لها : قد حرمت عليه ، تقول : والله ما ذكر طلاقا ، فقال : ما أوحي إليّ في هذا شيء ، فجعلت تشتكي إلى الله. وتشتكي بمعنى تشكو. يقال : اشتكيت ما بي وشكوته ، بمعنى شكوى شاك أي أشكيته. وقالت : إنّ لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فأمّا التّحاور ، فهو مراجعة الكلام. قال عنترة في فرسه :

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلّمي

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

قوله عزوجل : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «يظّهّرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف. وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائيّ : بفتح الياء وتشديد الظاء وبألف وتخفيف الهاء. وقرأ عاصم «يظاهرون» بضمّ الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسر الهاء في الموضعين مع إثبات الألف. وقرأ ابن مسعود «يتظاهرون» بياء وتاء وألف. وقرأ أبيّ بن كعب «يتظهّرون» بياء وتاء وتخفيف الظاء وتشديد الهاء من غير ألف. وقرأ الحسن وقتادة والضّحّاك «يظهرون» بفتح الياء وفتح الظاء مخفّفة ، مكسورة الهاء مشدّدة. والمعنى : تقولون لهنّ : أنتنّ كظهور أمّهاتنا (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) قرأ الأكثرون بكسر التاء. وروى المفضّل عن عاصم رفعها. والمعنى ما اللواتي تجعلن كالأمّهات بأمّهات لهم (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) أي ما أمّهاتهم (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) قال الفرّاء : وانتصاب «الأمّهات» هاهنا بإلقاء الباء ، وهي قراءة عبد الله «ما هنّ بأمهاتهم» ، ومثله : (ما هذا بَشَراً) (١) ، المعنى :

____________________________________

(١٣٩٨) أخرجه البيهقي ٧ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣ من حديث ابن عباس ، وإسناده ضعيف لضعف أبي حمزة الثمالي ، لكن يشهد لأصله ما تقدم. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٤٦٢ بتخريجنا.

__________________

(١) يوسف : ٣١.


ما هذا ببشر ، فلمّا ألقيت الباء أبقي أثرها ، وهو النّصب ، وعلى هذا كلام أهل الحجاز. فأمّا أهل نجد فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا ، فقالوا : «ما هن أمهاتهم» و«ما هذا بشر» أنشدني بعض العرب :

ركاب حسيل آخر الصّيف بدّن

وناقة عمرو ما يحلّ لها رحل

ويزعم حسل أنّه فرع قومه

وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل

قوله عزوجل : (وَإِنَّهُمْ) يعني : المظاهرون (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) لتشبيههم الزوجات بالأمهات ، والأمهات محرّمات على التأبيد ، بخلاف الزّوجات (وَزُوراً) أي : كذبا (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذ شرع الكفارة لذلك.

قوله عزوجل : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) (١) اللام في «لما» بمعني «إلى» ، والمعنى : ثم يعودون إلى تحليل ما حرّموا على أنفسهم من وطء الزّوجة بالعزم على الوطء ، قال الفرّاء : معنى الآية : يرجعون عمّا قالوا ، وفي نقض ما قالوا. وقال سعيد بن جبير : المعنى : يريدون أن يعودوا للجماع الذي قد حرّموه على أنفسهم. وقال الحسن ، وطاوس ، والزّهري : العود : هو الوطء. وهذا يرجع إلى ما قلناه. وقال الشّافعيّ : هو أن يمسكها بعد الظّهار مدّة يمكنه طلاقها فيها فلا يطلّقها. فإذا وجد هذا ، استقرّت عليه الكفّارة ، لأنه قصد بالظّهار تحريمها ، فإن وصل إلى ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه ، وإن سكت عن الطّلاق ، فقد ندم على ما ابتدأ به ، فهو عود إلى ما كان عليه ، فحينئذ تجب الكفّارة. وقال داود : هو إعادة اللفظ ثانيا ، لأنّ ظاهر قوله عزوجل : (يَعُودُونَ) يدلّ على تكرير اللفظ. قال الزّجّاج : وهذا قول من لا يدري اللغة. وقال أبو عليّ الفارسي : ليس في هذا كما ادّعوا ، لأنّ العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبل. وسمّيت الآخرة معادا ، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي :

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل

سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل

وقد شرحنا هذا في قوله عزوجل : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢). وقال ابن قتيبة : من توهّم أنّ الظّهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية ، فليس بشيء ، لأنّ الناس قد أجمعوا أنّ الظّهار يقع بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية : أنّ أهل الجاهلية كانوا يطلّقون بالظّهار ، فجعل الله حكم الظّهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية ، وأنزل قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يريد في الجاهلية «ثم يعودون لما قالوا» في الإسلام ، أي : يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام ، (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) قال

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٩٢ : وهو حرف مشكل ، واختلف الناس فيه قديما وحديثا ، وأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا ، لا يصح ، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٨٠ : اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) فقال بعض الناس : العود : هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره وهذا القول باطل ، وهو اختيار ابن حزم وقول داود. وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع والعزم على الجماع أو الإمساك ، فلا تحل له حتى يكفّر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه : أنه الجماع ، وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة.

(٢) البقرة : ٢١٠.


المفسّرون : المعنى : فعليهم ، أو فكفّارتهم تحرير رقبة (١) ، أي : عتقها. وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان. قوله عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وهو : كناية عن الجماع ، على أنّ العلماء قد اختلفوا هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان. وقال أبو الحسن الأخفش : تقدير الآية : والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.

فصل : إذا وطئ المظاهر قبل أن يكفّر أثم ، واستقرّت الكفّارة ، وقال أبو حنيفة : يسقط الظّهار والكفّارة. واختلف العلماء فيما يجب عليه إذا فعل ذلك ، فقال الحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وطاوس ، ومجاهد ؛ وإبراهيم ، وابن سيرين : عليه كفّارة واحدة ، وقال الزّهري ، وقتادة في آخرين : عليه كفّارتان. فإن قال : أنت عليّ كظهر أمي اليوم ، بطل الظّهار بمضيّ اليوم ، هذا قول أصحابنا ؛ وأبي حنيفة ، والثّوري ، والشّافعي ، وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والحسن بن صالح : هو مظاهر أبدا. واختلفوا في الظّهار من الأمة ، فقال ابن عباس : ليس من الأمة ظهار ، وبه قال سعيد بن المسيّب ، والشّعبي ، والنّخعي ، وأبو حنيفة ، والشّافعيّ ، وقال سعيد بن جبير ، وطاوس ، وعطاء ، والأوزاعي ، والثّوري ، ومالك : هو ظهار. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : لا يكون مظاهرا من أمته ، ولكن يلزمه كفّارة الظّهار ، كما قال في المرأة إذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة ، وتلزمها كفّارة الظّهار. واختلفوا فيمن قال : أنت عليّ كظهر أبي ، فقال مالك : هو مظاهر ، وهو قول أصحابنا ، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : لا يكون مظاهرا. واختلفوا فيمن ظاهر مرارا ، فقال أبو حنيفة ، والشّافعيّ : إن كان في مجالس ، فكفّارات ، وإن كان في مجلس واحد ، فكفّارة : قال القاضي أبو يعلى : وعلى قول أصحابنا يلزمه كفّارة واحدة ، سواء كان في مجلس واحد ، أو في مجالس ، ما لم يكفّر ، وهذا قول مالك.

قوله عزوجل : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) قال الزّجّاج : ذلكم التّغليظ توعظون به. والمعنى : أنّ غلظ الكفّارة وعظ لكم حتى تتركوا الظّهار. قوله عزوجل : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) يعني : الرّقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أي : فعليه صيام شهرين (٢) (مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصيام فكفّارته إطعام (سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ) أي : الفرض ذلك الذي وصفنا (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : تصدّقوا بأنّ الله أمر بذلك ، وتصدّقوا بما أتى به الرّسول (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني : ما وصفه الله من الكفّارات في الظّهار (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال ابن عباس : لمن جحد هذا وكذّب به.

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٠٥ : وظاهر قوله تعالى ، يرتبط الوجوب بالعود ، وفيه يرتبط كيفما كانت حالة الارتباط ، بيد أنه للمسألة حرف جرى في ألسنة علمائنا من غير قصد ، وهو مقصود المسألة ، وذلك أن المعتبر في الكفارة صفة العبادة أو صفة العقوبة. والشافعي اعتبر صفة العقوبة ، ونحن اعتبرنا صفة القربة ، والقرب إنما يعتبر في حال الإجراء خاصة بحال الأداء ، كالطهارة والصلاة ، والذي يعتبر فيه حالة الوجوب هي الحدود ، والطهارة ليست مقصودة لنفسها ، وإنما تراد للصلاة ، فاعتبر حال فعل الصلاة فيها.

قلنا : وكذلك الكفارة ليست مقصودة لنفسها ، وإنما تراد لحل المسيس ، فإذا احتيج إلى المسيس اعتبرت الحالة المذكورة فيها.

(٢) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٩٧ : يقتضي أن الوطء للزوجة في ليل الظهار يبطل الكفارة ، لأن الله سبحانه شرط في كفارة الظهار فعلها قبل التماس.


(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قد ذكرنا معنى المحادّة في التّوبة (١) ، ومعنى «كبتوا» في آل عمران عند قوله عزوجل : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) (٢) ، وقال ابن عباس : أخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممّن قاتل الرّسل. قوله عزوجل : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : من قبورهم (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من معاصيه ، وتضييع فرائضه (أَحْصاهُ اللهُ) أي : حفظه الله عليهم (وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أعمالهم في السّرّ والعلانية (شَهِيدٌ). (أَلَمْ تَرَ) أي : ألم تعلم. قوله عزوجل : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) وقرأ أبو جعفر «ما تكون» بالتاء. قال ابن قتيبة : النّجوى : السّرار. وقال الزّجّاج : ما يكون من خلوة ثلاثة يسرّون شيئا ، ويتناجون به (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي : عالم به. و«نجوى» الزّجّاج : ما يكون من خلوة ثلاثة يسرّون شيئا ، ويتناجون به (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي : عالم به. و«نجوى» مشتقّ من النّجوة ، وهو ما ارتفع. وقرأ يعقوب «ولا أكثر» بالرفع. وقال الضّحّاك : «إلّا هو معهم» أي : علمه معهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) في سبب نزولها قولان :

(١٣٩٩) أحدهما : نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلّا قد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السّرايا ، قتل أو موت ، أو مصيبة ، فيقع ذلك في قلوبهم ، ويحزنهم ، فلا يزالون كذلك حتى تقدّم أصحابهم. فلمّا طال ذلك وكثر ، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس

____________________________________

(١٣٩٩) لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٩٢ عن ابن عباس ومجاهد بدون إسناد ، فهو لا شيء.

__________________

(١) التوبة : ٦٣.

(٢) آل عمران : ١٢٧.


والثاني : أنها نزلت في اليهود ، قاله مجاهد (١).

(١٤٠٠) قال مقاتل : وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة ، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده تناجوا بينهم فيظنّ المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره فيترك الطريق من المخافة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاهم عن النّجوى فلم ينتهوا وعادوا إليها ، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السّائب : نزلت في المنافقين (٢). والنّجوى : بمعنى المناجاة (ثُمَّ يَعُودُونَ) إلى المناجاة التي نهوا عنها (وَيَتَناجَوْنَ) قرأ حمزة ، ويعقوب إلّا زيدا ، وروحا «ويتنجّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف. وفي معنى تناجيهم (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وجهان : أحدهما : يتناجون بما يسوء المسلمين ، فذلك الإثم والعدوان ، ويوصي بعضهم بعضا بمعصية الرّسول. والثاني : يتناجون بعد نهي الرسول لهم ، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول.

قوله عزوجل : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

(١٤٠١) أحدهما : أنها نزلت في اليهود. قالت عائشة رضي الله عنها : جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : السّام عليك يا أبا القاسم ، فقلت : السّام عليكم ، وفعل الله بكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مه يا عائشة ، فإنّ الله لا يحبّ الفحش ، ولا التّفحّش ، فقلت : يا رسول الله ، ترى ما يقولون؟ فقال : ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون ، وأقول : وعليكم ، قالت : فنزلت هذه الآية في ذلك. قال الزّجّاج : والسّام : الموت.

والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، رواه عطيّة عن ابن عباس.

قال المفسّرون : ومعنى «حيّوك» سلّموا عليك بغير سلام الله عليك ، وكانوا يقولون : السّام عليك. فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم ، أو يقول بعضهم لبعض : لو كان نبيّا عذّبنا بقولنا له ما نقول.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) فيها قولان : أحدهما : نزلت في المنافقين ، فالمعنى : يا أيّها الذين آمنوا بزعمهم ، وهذا قول عطاء ومقاتل. والثاني : أنها في المؤمنين ، والمعنى : أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود ، وهذا مذهب جماعة ، منهم الزّجّاج.

قوله عزوجل : (فَلا تَتَناجَوْا) هكذا قرأ الجماعة بألف. وقرأ يعقوب وحده «فلا تتنجّوا». فأمّا «البرّ» فقال مقاتل : هو الطّاعة ، و«التقوى» ترك المعصية. وقال أبو سليمان الدّمشقي : «البرّ» الصدق ،

____________________________________

(١٤٠٠) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية كذبه غير واحد.

(١٤٠١) صحيح. أخرجه البخاري ٦٤٠١ والبغوي في «شرح السنة» ٣٢٠٦ عن قتيبة بن سعيد به. وأخرجه البخاري ٢٩٣٥ و ٦٠٣٠ وفي «الأدب المفرد» ٣١١ من طريق أيوب عن ابن مليكة به. وأخرجه مسلم ٢١٦٥ ح ١١ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٦٢ من طريق مسروق عن عائشة به. وأخرجه البخاري ٦٠٢٤ و ٦٢٥٦ و ٦٣٩٥ ومسلم ٢١٦٥ والترمذي ٢٧٠١ وأحمد ٦ / ٣٧ و ١٩٩ وعبد الرزاق ١٩٤٦ وابن حبان ٦٤٤١ والبيهقي في «السنن» ٩ / ٢٠٣ وفي «الآداب» ٢٨٦ من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة به.

__________________

(١) انظر الأثر المتقدم.

(٢) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ، وهو متروك متهم.

ـ وورد مختصرا في ذكر المنافقين فحسب ، من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٧٧٠.


و«التقوى» ترك الكذب. ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون ، من الشيطان ، فقال عزوجل : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي : من تزيينه ، والمعنى : إنما يزيّن لهم ذلك (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وقد بيّنّا آنفا ما كان يحزن المؤمنين من هذه النّجوى (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) أي : وليس الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بإرادته (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : فليكلوا أمورهم إليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

قوله عزوجل : (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) وقرأ عاصم «في المجالس» على الجمع ، وذلك أنّ كلّ جالس له مجلس ، فالمعنى : ليفسح كلّ رجل منكم في مجلسه (١).

(١٤٠٢) قال المفسّرون : نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السّابقة ، لم يجدوا موضعا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّ أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه ، فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم جمعة جالس في صفّة ضيّقة في المسجد ، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شمّاس ، فسلّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم ، فأوسعوا لبعضهم ، وبقي بعضهم ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : قم يا فلان ، قم يا فلان ، حتى أقام من المجلس على عدّة من هو قائم من أهل السابقة ، فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة ، وتكلّم المنافقون في ذلك وقالوا : والله ما عدل ، فنزلت هذه الآية.

وقال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أقبل مقبل ضنّوا بمجلسهم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. قال المفسّرون : ومعنى «تفسّحوا» توسّعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متصافّين حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجد غيرهم مجلسا عنده ، فأمرهم أن يوسّعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظّ منه ، ويظهر فضيلة المقرّبين إليه من أهل بدر وغيرهم.

وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مجلس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصّفّ ، فيقول لهم : توسّعوا ، فيأبون عليه لحرصهم على القتال ، وهذا قول ابن عباس والحسن وأبي العالية والقرظي. والثاني : أنه مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد. وقال قتادة : كان هذا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حوله خاصّة. والثالث : مجالس الذّكر كلّها ، روي عن قتادة أيضا. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبو رزين وأبو عبد الرّحمن ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة والأعمش : «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع.

قوله عزوجل : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي : يوسّع الله لكم الجنّة ، والمجالس فيها. (وَإِذا قِيلَ

____________________________________

(١٤٠٢) عزاه ابن كثير ٤ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ لابن أبي حاتم عن مقاتل ، وهذا مرسل ، ومقاتل ذو مناكير ، وهذا منها.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ١٨ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس ، ولم يخصص بذلك مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون مجلس القتال ، وكلا الموضعين يقال له مجلس ، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجالس القتال.


انْشُزُوا) قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «انشزوا فانشزوا» برفع الشين فيهما. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : بكسر الشين فيهما. ومعنى «انشزوا» قوموا. قال الفرّاء : وهما لغتان. وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال (١) : أحدها : أنه القيام إلى الصّلاة ، وكان رجال يتثاقلون عنها ، فقيل لهم : إذا نودي للصلاة فانهضوا ، هذا قول عكرمة ، والضّحّاك. والثاني : أنه القيام إلى قتال العدو ، قاله الحسن. والثالث : أنه القيام إلى كلّ خير ، من قتال ، أو أمر بمعروف ، ونحو ذلك ، قاله مجاهد.

(١٤٠٣) والرابع : أنه الخروج من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطالوا ليكون كلّ واحد منهم آخرهم عهدا به ، فأمروا أن ينشزوا إذا قيل لهم : انشزوا ، قاله ابن زيد. والخامس : أنّ المعنى : قوموا وتحرّكوا وتوسّعوا لإخوانكم ، قاله الثّعلبي.

قوله عزوجل : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي : يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من أهل الإيمان (وَ) يرفع (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) على من ليس بعالم. وهل هذا الرفع في الدنيا ، أم في الآخرة؟ فيه وجهان : أحدهما : أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنّة. والثاني : أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا ، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدّين والعلم. وكان ابن مسعود يقول : أيّها الناس : افهموا هذه الآية ولترغّبكم في العلم ، فإنّ الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

قوله عزوجل : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) في سبب نزولها قولان.

(١٤٠٤) أحدهما : أنّ الناس سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقّوا عليه ، فأراد الله أن يخفّف عن نبيّه ،

____________________________________

(١٤٠٣) باطل ، أخرجه الطبري ٣٣٧٨٥ عن عبد الرحمن بن زيد ، وهذا معضل ، وابن زيد واه ، والمتن باطل.

(١٤٠٤) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي ١٠٨٣ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٨٤ : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال :

فمنهم من رخّص في ذلك محتجا بحديث : «قوموا إلى سيدكم» اه. والأولى ترك القيام لما فيه من مخالفات وذرائع ينبغي سدّها ذلك ، وكثير من أهل العلم يجعلونه حتما لازما على الطالب وإن كانوا لا يقولونه صريحا.

فإنهم يؤكدون ذلك على أنه من باب احترام وإجلال العلم ، والصواب أن نفوسهم هي التي تطلب ذلك. وقد شاهدت حادثة أذكرها ليتبين ويظهر الأمر جليا في ذلك. كنا في صف وعلى مقاعد الدراسة ، وكان حصة القرآن الكريم الطالب يتلو والشيخ يسمع. إذ دخل شيخ آخر كبير وبدل أن يبقى الجميع على ما هم عليه قام الجميع على حين غفلة احتراما للشيخ وكما تعلم هؤلاء الطلبة مما أدى إلى وقوع كتاب الله عزوجل على الأرض وأخذه الطالب وكأن شيئا لم يحصل فهذا القيام وفي مثل هذه الحال غير جائز بالإجماع والعالم الذي يرى الطالب ، وقد قام له أثناء تلاوة القرآن عليه أن ينهاه عن ذلك وإلا فهو آثم عند جميع الفقهاء وأهل العلم.

وقد أجمع أهل الحديث وعلم المصطلح على كراهة القيام لأحد أثناء تلاوة الحديث فكيف أثناء تلاوة القرآن؟!!. نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.


فأنزل هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(١٤٠٥) والثاني : أنها نزلت في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فأمّا أهل العسرة فلم يجدوا شيئا ، وأمّا أهل الميسرة فبخلوا ، واشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الرّخصة ، قاله مقاتل بن حيّان.

(١٤٠٦) وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان ، إلّا أنه قال : فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقدّم أحد من أهل الميسرة صدقة غير عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

(١٤٠٧) وروى مجاهد عن عليّ رضي الله عنه قال : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولن يعمل بها أحد بعدي ، آية النّجوى. كان لي دينار ، فبعته بعشرة دراهم ، فكلّما أردت أن أناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدّمت درهما ، فنسختها الآية الأخرى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) الآية.

قوله عزوجل : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي : تقديم الصّدقة على المناجاة خير لكم ، لما فيه من

____________________________________

(١٤٠٥) ضعيف ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٦ / ٢٧٢ عن مقاتل بن حيان ، وهذا مرسل ، فهو ضعيف.

(١٤٠٦) عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان ، وهو ممن يصنع الحديث ، فخبره لا شيء.

(١٤٠٧) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٣٧٨٨ عن مجاهد مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. وروي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية ، دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أما ترى دينارا؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم؟ قلت : حبة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) قال علي : فبي قد خفف الله عن هذه الأمة. أخرجه الترمذي ٣٣٠٠ وابن أبي شيبة ١٢ / ٨١ ـ ٨٢ وأبو يعلى ٤٠٠ وابن حبان ٦٩٤١ والعقيلي في «الضعفاء» ٣ / ٢٤٣ من طريق عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي بن أبي طالب به. وأخرجه الطبري ٣٣٧٩٦ وابن حبان ٦٩٤٢ والنسائي في «الخصائص» ١٥٢ عن سفيان الثوري بالإسناد المذكور. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» ٥ / ٢٠٤ من طريق شريك عن عثمان المغيرة به. وفي إسناده علي بن علقمة. قال العقيلي : قال البخاري في حديثه نظر. وفي «الميزان» ٥٨٩٣ : وقال ابن المديني : لا أعلم له راويا غير سالم اه. وفي هذه إشارة إلى أنه مجهول. وقال عنه ابن حبان في «المجروحين» ٢ / ١٠٩ منكر الحديث يروي عن علي بما لا يشبه حديثه ، فلا أدري سمع منه ، أو أخذ ما يروي عنه عن غيره. والذي عندي ترك الاحتجاج به إلا حين وافق الثقات من أصحاب علي اه. وتابعه ابن أبي ليلى عند الحاكم ٢ / ٤٨١ ـ ٤٨٢ وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! والصواب أن فيه يحيى بن المغيرة السعدي ، وهو لم يرو له الشيخان ، ولا أحدهما لكن وثقه أبو حاتم وابن حبان ، وللحديث علة أخرى ، وهي الإرسال ، حيث رواه ابن أبي ليلى بصيغة الإرسال ، وهو كثير الإرسال ، ثم وقع تخليط في هذه الرواية فقد جعله من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدل كونه من كلام علي ، وهذا دليل على أنها رواية واهية ليست بشيء. وأخرج عبد الرزاق في «التفسير» ٣١٧٨ والطبري ٣٣٧٨٩ و ٣٣٧٩١ والواحدي في «الوسيط» ٤ ، ٢٦٦ من طريق مجاهد عن علي بن أبي طالب قال : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولن يعمل بها أحد غيري ، آية النجوى : كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله قدمت درهما ، فنسخت بالآية الأخرى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية. وإسناده ضعيف لانقطاعه بين مجاهد وعلي.

الخلاصة : هو خبر ضعيف ولا يحتج بمثل هذه الأخبار في هذه المواضع ، فلا يثبت بمثل ذلك سبب نزول آية ولا كونها خاصة. وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٥٦ و ٢٠٥٧ بتخريجنا.


طاعة الله ، وأطهر لذنوبكم (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يعني : الفقراء (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إذ عفا عمّن لا يجد. قوله عزوجل : (أَأَشْفَقْتُمْ) أي : خفتم بالصّدقة الفاقة (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي : فتجاوز عنكم ، وخفّف بنسخ إيجاب الصّدقة. قال مقاتل بن حيّان : إنما كان ذلك عشر ليال. قال قتادة : ما كان إلّا ساعة من نهار.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠))

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نزلت في المنافقين الذين تولّوا اليهود ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين.

(١٤٠٨) وقال السّدّيّ ، ومقاتل : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق ، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرفع حديثه إلى اليهود ، فدخل عليه يوما ، وكان أزرق ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبّوه ، فأنزل الله هذه الآيات.

(١٤٠٩) وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث ابن عباس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ظلّ حجرة من حجره ، وعنده نفر من المسلمين ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا أتاكم فلا تكلّموه ، فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم ، فحلفوا بالله واعتذروا إليه ، فأنزل الله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ) الآية.

فأمّا التفسير ، فالذين تولّوا : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود (ما هُمْ مِنْكُمْ) يعني : المنافقين ليسوا من المسلمين ، ولا من اليهود (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ما ذكرنا في سبب نزولها. وقال بعضهم : حلفوا أنهم ما سبّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تولّوا اليهود (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كذبة (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي : سترة يتّقون بها القتل. قال ابن قتيبة : المعنى : استتروا بالحلف ، فكلّما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فيه قولان : أحدهما : صدّوا النّاس عن دين الإسلام ، قاله السّدّيّ. والثاني : صدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم. قوله عزوجل :

____________________________________

(١٤٠٨) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٩٨ عن السدي ومقاتل بدون إسناد ، وهذا مرسل.

وله شاهد من حديث ابن عباس وهو الآتي.

(١٤٠٩) حسن ، أخرجه أحمد ١ / ٢٤٠١ والحاكم ٢ / ٤٨٢ والطبري ٣٣٨٠٥ والواحدي ٧٩٩. صححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٢٢ رجال أحمد رجال الصحيح اه.


(فَيَحْلِفُونَ لَهُ) قال مقاتل ، وقتادة : يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين ، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من أيمانهم الكاذبة (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في قولهم وأيمانهم.

قوله عزوجل : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) قال أبو عبيدة : غلب عليهم ، وحاذهم ، وقد بيّنّا هذا في سورة النّساء عند قوله عزوجل : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) (١) ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزوجل : (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي : في المغلوبين ، فلهم في الدنيا ذلّ ، وفي الآخرة خزي.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

قوله عزوجل : (كَتَبَ اللهُ) أي : قضى الله (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وفتح الياء نافع ، وابن عامر. قال المفسّرون : من بعث من الرّسل بالحرب ، فعاقبة الأمر له ، ومن لم يبعث بالحرب ، فهو غالب بالحجّة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي : مانع حزبه من أن يذلّ.

قوله عزوجل : (لا تَجِدُ قَوْماً) الآية. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(١٤١٠) أحدها : نزلت في أبي عبيدة بن الجرّاح ، قتل أباه يوم أحد ، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، فقال : يا رسول الله دعني أكون في الرّعلة الأولى ، فقال : متّعنا بنفسك يا أبا بكر ، وفي مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ، وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي عليّ وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر ، قاله ابن مسعود.

(١٤١١) والثاني : أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وذلك أنّ أبا قحافة سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصكّه أبو بكر صكّة شديدة سقط منها ، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو فعلته»؟ قال : نعم. قال : فلا تعد إليه ، فقال أبو بكر : والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن جريج.

(١٤١٢) والثالث : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماء ، فقال عبد الله : يا رسول الله أبق فضلة من شرابك ، قال : وما تصنع

____________________________________

(١٤١٠) ضعيف ، عزاه البغوي في «التفسير» ٤ / ٣١٢ / ٢١٥٤ لمقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قوله : ومقاتل ذو مناكر ، وهو غير حجة.

(١٤١١) باطل ، أخرجه ابن المنذر كما في «أسباب النزول» ١٠٨٩ عن ابن جريج ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٠ عن ابن جريج تعليقا ، وهذا واه ابن جريح مدلس ، لم يذكر من حدثه ، ومع ذلك هو معضل ، فالخبر شبه موضوع ، قال الإمام أحمد : هذه المراسيل التي يرسلها ابن جريج كأنها موضوعة.

ـ راجع «الميزان» في ترجمة ابن جريج واسمه عبد الملك بن عبد العزيز.

(١٤١٢) عزاه المصنف للسدي ، ولم أقف عليه ، وهو مرسل بكل حال فهو واه.

__________________

(١) النساء : ١٤١.


بها؟ فقال : أسقيها أبي ، لعلّ الله سبحانه يطهّر قلبه ، ففعل ، فأتى بها أباه ، فقال : ما هذا؟ قال : فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها ، لعلّ الله يطهّر قلبك ، فقال : هلّا جئتني ببول أمّك! فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في قتل أبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارفق به ، وأحسن إليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

(١٤١٣) والرابع : أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكّة يخبرهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عزم على قصدهم ، قاله مقاتل ، واختاره الفرّاء ، والزّجّاج.

وهذه الآية قد بيّنت أنّ مودّة الكفّار تقدح في صحة الإيمان ، وأنّ من كان مؤمنا لم يوال كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته.

قوله عزوجل : (أُولئِكَ) ، يعني : الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وقرأ المفضّل عن عاصم «كتب» برفع الكاف والنون من «الإيمان». وفي معنى «كتب» خمسة أقوال : أحدها : أثبت في قلوبهم الإيمان ، قاله الرّبيع بن أنس. والثاني : جعل ، قاله مقاتل. والثالث : كتب في اللّوح المحفوظ أنّ في قلوبهم الإيمان ، حكاه الماوردي. والرابع : حكم لهم بالإيمان. وإنما ذكر القلوب ، لأنها موضع الإيمان ، ذكره الثّعلبي. والخامس : جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه ، قاله الواحدي. قوله عزوجل : (وَأَيَّدَهُمْ) أي قوّاهم (بِرُوحٍ مِنْهُ) في المراد «بالرّوح» هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنه النّصر ، قاله ابن عباس والحسن. فعلى هذا سمّي النّصر روحا لأنّ أمرهم يحيا به. والثاني : الإيمان ، قاله السّدّيّ. والثالث : القرآن ، قاله الرّبيع. والرابع : الرّحمة ، قاله مقاتل. والخامس : جبريل عليه‌السلام أيّدهم به يوم بدر ، ذكره الماوردي. فأمّا (حِزْبُ اللهِ) فقال الزّجّاج : هم الدّاخلون في الجمع الذين اصطفاهم الله وارتضاهم ، و«ألا» كلمة تنبيه وتوكيد للقصة.

____________________________________

(١٤١٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية متهم بالكذب ، وخبر حاطب في «الصحيحين» وليس فيه ذكر نزول هذه الآية.


سورة الحشر

وهي مدنية كلها بإجماعهم ، وذكر المفسّرون أنّ جميعها نزل في بني النّضير. وكان ابن عباس يسمّي هذه السّورة «سورة بني النّضير ؛» وهذه الإشارة إلى قصّتهم.

(١٤١٤) ذكر أهل العلم بالتفسير والسّير : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى مسجد قباء ، ومعه نفر من أصحابه ، فصلّى فيه ، ثم أتى بني النّضير ، فكلّمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما ، فقتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ وهو لا يعلم ، فقالوا : نفعل ، وهمّوا بالغدر به ، وقال عمرو بن جحاش : أنا أظهر على البيت ، فأطرح عليه صخرة ، فقال سلّام بن مشكم : لا تفعلوا ، والله ليخبرن بما هممتم به ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر ، فنهض سريعا ، فتوجّه إلى المدينة ، فلحقه أصحابه ، فقالوا : قمت ولم نشعر؟! فقال : همّت يهود بالغدر ، فأخبرني الله بذلك ، فقمت ، وبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمّد بن مسلمة : أن اخرجوا من بلدتي ، فلا تساكنوني ، وقد هممتم بما هممتم به ، وقد أجّلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه ، فمكثوا أياما يتجهّزون ، فأرسل إليهم ابن أبيّ : لا تخرجوا ، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم ، وتمدّكم قريظة ، وحلفاؤكم من غطفان ، وطمع حييّ فيما قال ابن أبيّ ، فأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا لا نخرج ، فاصنع ما بدا لك ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكبّر المسلمون لتكبيره ، وقال : حاربت يهود ، ثم سار إليهم في أصحابه ، فلمّا رأوه ، قاموا على حصونهم معهم النّبل والحجارة ، فاعتزلتهم قريظة ، وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان ، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكّة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبر الله نبيّه بذلك ، فبعث محمّد بن مسلمة فاغترّه فقتله ، وحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطع نخلهم ، فقالوا : نحن نخرج عن بلادك ، فأجلاهم عن المدينة ، فمضى بعضهم إلى الشّام ، وبعضهم إلى خيبر ، وقبض أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعا ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفا.

فأمّا التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السّورة في أوّل الحديد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ

____________________________________

(١٤١٤) عزاه المصنف لأهل التفسير والسير ، ولم أره بهذا اللفظ ، والظاهر أنه ساقه بمعناه. وانظر «السيرة النبوية» ٣ / ١٥١ و«تفسير ابن كثير» ٤ / ٣٩١ و«الدر المنثور» ٦ / ٢٧٧ و«أسباب النزول» ٨٠٢.


الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني : يهود بني النّضير (مِنْ دِيارِهِمْ) أي : من منازلهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنهم أول من حشر وأخرج من داره ، قاله ابن عباس. وقال ابن السّائب : هم أول من نفي من أهل الكتاب. والثاني : أنّ هذا كان أوّل حشرهم ، والحشر الثاني : إلى أرض المحشر يوم القيامة ، قاله الحسن.

(١٤١٥) قال عكرمة : من شكّ أنّ المحشر إلى الشّام فليقرأ هذه الآية ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم يومئذ : اخرجوا ، فقالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر.

والثالث : أنّ هذا كان أول حشرهم وأن الحشر الثاني : نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، قاله قتادة. والرابع : هذا كان أول حشرهم من المدينة ، والحشر الثاني : من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من أرض الشّام في أيام عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه ، قاله مرّة الهمداني.

قوله عزوجل : (ما ظَنَنْتُمْ) يخاطب المؤمنين (أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم لعزّهم ، ومنعتهم ، وحصونهم (وَظَنُّوا) : يعني : بني النّضير أنّ حصونهم تمنعهم من سلطان الله (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) وذلك أنّه أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم وإجلائهم ، ولم يكونوا يظنّون أنّ ذلك يكون ، ولا يحسبونه (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) لخوفهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لقتل سيّدهم كعب بن الأشرف (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قرأ أبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد. وقرأ الباقون «يخربون» بالتخفيف وهل بينهما فرق ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنّ المشددة معناها : النّقض والهدم. والمخفّفة معناها : يخرجون منها ويتركونها خرابا معطّلة ، حكاه ابن جرير. وروي عن أبي عمرو أنه قال : إنما اخترت التشديد ، لأنّ بني النّضير نقضوا منازلهم ، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة. والثاني : أنّ القراءتين بمعنى واحد. والتّخريب والإخراب لغتان بمعنى ، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة. وللمفسّرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال : أحدها : أنه كان المسلمون كلّما ظهروا على دار من دورهم هدموها ليتّسع لهم مكان القتال ، وكانوا هم ينقبون دورهم ، فيخرجون إلى ما يليها ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه كان المسلمون كلّما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا هم ما يبنون به الذي خربه المسلمون ، قاله الضّحّاك. والثالث : أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم ، أو العمود ، أو الباب ، يستحسنونه ، فيهدمون

____________________________________

(١٤١٥) هو مرسل وورد موصولا. أخرجه البزار ٣٤٢٦ «كشف» من طريق أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف أبي سعد البقال. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٨٣٥٥ : فيه أبو سعيد البقال ، والغالب على حديثه الضعف. قلت : وكون المحشر في الشام ، ورد في أحاديث أخرى. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٥٨٧٣ بتخريجنا.


البيوت ، وينزعون ذلك منها ، ويحملونه معهم ، ويخرب المؤمنون باقيها ، قاله الزهري. والرابع : أنهم كانوا يخربونها لئلّا يسكنها المؤمنون ، حسدا منهم ، وبغيا ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الاعتبار : النّظر في الأمور ، ليعرف بها شيء آخر من جنسها ، و«الأبصار» العقول. والمعنى : تدبّروا ما نزل بهم (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ) أي : قضى (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) وهو خروجهم من أوطانهم. وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين : أحدهما : أنّ الجلاء : ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج : قد يكون مع بقاء الأهل والولد. والثاني : أنّ الجلاء لا يكون إلّا لجماعة. والإخراج : قد يكون لواحد ولجماعة. والمعنى : لو لا أنّ الله قضى عليهم بالخروج (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسّبي ، كما فعل بقريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع ما حلّ بهم في الدنيا (عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ) الذي أصابهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) وقد سبق بيان الآية (١). قال القاضي أبو يعلى : فقد دلّت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق ، ولا جزية ، ولا دخول في ذمّة ، وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم ، لأنّ الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا ، أو يؤدّوا الجزية. وإنّما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذّمّة ، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال.

(١٤١٦) لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالحهم على أرضهم ، وعلى الحلقة (٢) ، وترك لهم ما أقلّت الإبل ، وذلك مجهول.

وقوله عزوجل : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ).

(١٤١٧) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرق نخل بني النّضير وقطع ، فنزلت هذه الآية ، أخرجه البخاريّ ومسلم من حديث ابن عمر.

(١٤١٨) وذكر المفسّرون أنه لمّا نزلت ببني النّضير تحصّنوا في حصونهم ، فأمر بقطع نخيلهم ،

____________________________________

(١٤١٦) صحيح. أخرجه أبو داود ٣٠٠٤ مطولا عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإسناده على شرط البخاري ومسلم ، وجهالة الصحابي لا تضر.

وأخرجه الطبري ٣٣٨٢٥ عن الزهري مرسلا. وله شواهد كثيرة.

(١٤١٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٣١ والبغوي ٣٦٧٦ عن آدم به من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري ٤٨٨٤ ومسلم ١٧٤٦ وأبو داود ١٦١٥ والترمذي ٣٢٩٨ وابن ماجة ٢٨٤٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٥ وأحمد ٢ / ١٢٣ من طرق عن الليث به. وأخرجه مسلم ١٧٤٦ ح ٣١ وابن ماجة ٢٨٤٥ والدارمي ٢ / ٢٢٢ من طريق عبيد الله عن نافع به. وأخرجه البخاري ٣٠٢١ ومسلم ١٧٤٦ وأحمد ٢ / ٧ ـ ٨ و ٥٢ و ٨٠ والطبري ٣٣٨٥٣ والواحدي ٨٠٦ والبيهقي ٩ / ٨٣ والبغوي في «شرح السنة» ٣٦٧٥ من طرق عن جويرية عن نافع به.

وأخرجه البيهقي ٩ / ٨٣ من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن نافع.

(١٤١٨) ذكره الواحدي في «الأسباب» ٨٠٤ من غير عزو لقائل. وورد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٣٨٥١.

وورد من مرسل يزيد بن رومان ، أخرجه الطبري ٣٣٨٥٠.

__________________

(١) الأنفال : ١٣ ، ومحمد : ٣٢.

(٢) أي السلاح.


وإحراقها ، فجزعوا ، وقالوا : يا محمّد زعمت أنك تريد الصّلاح ، أفمن الصّلاح عقر الشجر ، وقطع النّخل؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون ، فقال بعضهم : لا تقطعوا ، فإنه ممّا أفاء الله علينا. وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها ، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم ، وأخبر أنّ قطعه وتركه بإذن الله تعالى.

وفي المراد «باللّينة» ستة أقوال (١) : أحدها : أنه النّخل كلّه ما خلا العجوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة ، وقتادة ، والفرّاء. والثاني : أنها النّخل والشجر ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أنها ألوان النّخل كلّها إلّا العجوة ، والبرنيّة ، قاله الزّهري ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. وقال الزّجّاج : أهل المدينة يسمّون جميع النّخيل : الألوان ، ما خلا البرنيّ ، والعجوة. وأصل «لينة» لونة ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والرابع : أنها النّخل كلّه ، قاله مجاهد وعطيّة ، وابن زيد. قال ابن جرير : معنى الآية : ما قطعتم من ألوان النّخيل. والخامس : أنها كرام النّخل ، قاله سفيان. والسادس : أنها ضرب من النّخل يقال لتمرها : اللّون ، وهي شديدة الصّفرة ، ترى نواه من خارج ، وكان أعجب تمرهم إليهم ، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات ، قاله الضّحّاك. والثاني : أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة ، قاله ابن إسحاق. والثالث : قطعوا أربع نخلات ، قاله مقاتل.

قوله عزوجل (فَبِإِذْنِ اللهِ) قال يزيد بن رومان ومقاتل : بأمر الله. قوله عزوجل : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) يعني اليهود. وخزيهم : أن يريهم أموالهم يتحكّم فيها المؤمنون كيف أحبّوا. والمعنى : وليخزي الفاسقين أذن في ذلك ، ودلّ على المحذوف قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ).

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٣٣ : والصواب من القول في ذلك قول من قال : اللينة : النخلة ، وهي من ألوان النخل ما لم تكن عجوة. ووافقه القرطبي ، وقال ابن العربي : والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين ـ وهو اختيار الطبري ـ : أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. والثاني : أن الاشتقاق يعضده ، وأهل اللغة يصححونه ، فإن اللينة وزنها لونه ، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون.


قوله عزوجل : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي : ما ردّ عليهم (مِنْهُمْ) يعني : من بني النّضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال أبو عبيدة : الإيجاف : الإيضاع ، والرّكاب : الإبل. قال ابن قتيبة : يقال : وجف الفرس والبعير ، وأوجفته ، ومثله : الإيضاع ، وهو الإسراع في السّير. وقال الزّجّاج : معنى الآية : أنه لا شيء لكم في هذا ، إنما هو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة.

قال المفسّرون : طلب المسلمون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخمّس أموال بني النّضير لمّا أجلوا ، فنزلت هذه الآية تبيّن أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم ، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو له خاصّة ، يفعل فيه ما يشاء.

(١٤١٩) فقسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منه شيئا ، إلّا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصّمّة.

ثم ذكر حكم الفيء فقال عزوجل : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي : من أموال كفّار أهل القرى (فَلِلَّهِ) أي : يأمركم فيه بما أحبّ ، (وَلِلرَّسُولِ) بتحليل الله إيّاه. وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في الأنفال (١) وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة.

فصل (٢) : واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فذهب قوم إلى أنّ المراد بالفيء هاهنا : الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة ، وكانت في بدوّ الإسلام للذين سمّاهم الله هاهنا دون الغانمين الموجفين عليها ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ

____________________________________

(١٤١٩) ذكره البغوي في «تفسيره» ٤ / ٢٩٢ بدون إسناد ، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٠٥ ذكره الثعلبي بغير سند ، وروى الواقدي عن معمر عن الزهري عن خارجة بن زيد أم العلاء قالت : «لما غنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير قال لثابت بن قيس بن شماس : ادع لي الأنصار كلهم فقال : إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم ، فقال السعدان : بل تقسمه للمهاجرين ويكونوا في دورنا ، فرضيت الأنصار ، فأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا رجلين محتاجين سهل بن حنيف ، وأبا دجانة ، ونفل ابن الحقيق. سعد بن معاذ «وكان له ذكر عندهم ... اه وانظر «سنن أبي داود» ٣٠٠٤ حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٩٦ : يقول تعالى : مبينا لمال الفيء ، وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء : كل مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل ، ولا ركاب كأموال بني النضير هذه ، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، أي : لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأفاءه الله على رسوله ، ولهذا تصرف فيه كما شاء ، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات ، فقال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي : من بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يعني الإبل ، (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : هو قدير لا يغالب ولا يمانع ، بل هو القاهر لكل شيء. ثم قال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي جميع البلدان التي تفتح هكذا ، فحكمها حكم أموال بني النضير.

ولهذا قال : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.


شَيْءٍ) الآية (١) ، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أنّ هذا الفيء : ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب ، كالصّلح ، والجزية ، والعشور ، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له ، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة أخماس ، فأربعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل بها ما يشاء ، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية.

واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول بعد موته على ما بيّنّاه في الأنفال ، فعلى هذا تكون هذه الآية مبيّنة لحكم الفيء ، والتي في الأنفال (٢) مبيّنة لحكم الغنيمة ، فلا يتوجّه النّسخ.

قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ) يعني الفيء (دُولَةً) وهو اسم للشيء يتداوله القوم. والمعنى : لئلّا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون الفقراء عليه. قال الزّجّاج : الدّولة : اسم الشيء يتداول. والدّولة ، بالفتح : الفعل والانتقال من حال إلى حال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) من الفيء (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ) عن أخذه (فَانْتَهُوا) وهذا نزل في أمر الفيء ، وهو عامّ في كلّ ما أمر به ، ونهى عنه. قال الزّجّاج : ثم بيّن من المساكين الذين لهم الحقّ ، فقال عزوجل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) قال المفسّرون : يعني بهم المهاجرين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي : رزقا يأتيهم (وَرِضْواناً) رضي ربّهم حين خرجوا إلى دار الهجرة (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) يعني : دار الهجرة ، وهي المدينة (وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فيها تقديم وتأخير ، تقديره : والذين تبوءوا الدّار من قبلهم ، أي : من قبل المهاجرين ، والإيمان عطف على «الدّار» في الظاهر ، لا في المعنى ، لأنّ «الإيمان» ليس بمكان يتبوّأ ، وإنما تقديره : وآثروا الإيمان ، وإسلام المهاجرين قبل الأنصار ، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل : الكلام على ظاهره ، والمعنى : تبوّءوا الدّار والإيمان قبل الهجرة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم ، وأموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي : حسدا وغيظا ممّا أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان : أحدهما : مال الفيء ، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم أموال بني النّضير بين المهاجرين ، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر. والثاني : الفضل والتقدّم ، ذكره الماورديّ.

قوله عزوجل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي فقر وحاجة ، فبيّن الله عزوجل أنّ إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان :

(١٤٢٠) أحدهما : أنّ رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أصابه الجهد ، فقال : يا رسول الله ، إني جائع فأطعمني ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أزواجه : هل عندكنّ شيء؟ فكلّهنّ قلن : والذي بعثك بالحقّ

____________________________________

(١٤٢٠) صحيح. أخرجه البخاري ٣٧٩٨ والبغوي في «التفسير» ٢١٦٥ من حديث أبي هريرة. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٩ من طريق نصر بن علي الجهضمي عن عبد الله بن داود به. وأخرجه البخاري ٤٨٨٩ ومسلم ٢٠٥٤ والترمذي ٣٣٠٤ والنسائي في «التفسير» ٦٠٢ وابن حبان ٥٢٨٦ والبيهقي ٤ / ١٨٥ وفي «الأسماء والصفات» ٩٧٩ والواحدي في الوسيط» ٤ / ٢٧٣ من طرق عن فضل بن غزوان به.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) الأنفال : ٤١.


ما عهدنا إلّا الماء ، فقال : ما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يطعمك هذه الليلة. ثم قال : «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه‌الله؟» فقام رجل فقال : أنا يا رسول الله ، فأتى به منزله ، فقال لأهله : هذا ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأكرميه ولا تدّخري عنه شيئا ، فقالت : ما عندنا إلّا قوت الصّبية ، فقال : قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا ، ثم أصبحي سراجك فإذا أخذ الضّيف ليأكل ، فقومي كانّك تصلحين السّراج ، فأطفئيه ، وتعالى نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يشبع ، ففعلت ذلك ، فظنّ الضّيف أنهما يأكلان معه ، فشبع هو ، وباتا طاويين ، فلمّا أصبحا غدوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا نظر إليهما تبسّم ، ثم قال : ضحك الله الليلة ، أو عجب من فعالكما ، فأنزل الله (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية. خرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة ، وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة. أنّ الضّيف كان من أهل الصّفّة ، والمضيف كان من الأنصار ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد عجب من فعالكما أهل السماء».

(١٤٢١) والثاني : أنّ رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدي له رأس شاة ، فقال : إنّ أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تناولها سبعة أهل أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عمر.

(١٤٢٢) وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال : أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشويّ ، وكان مجهودا ، فوجّه به إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت هذه الآية.

قوله عزوجل : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) قرأ ابن السّميفع ، وأبو رجاء «ومن يوقّ» بتشديد القاف. قال المفسّرون : هو أن لا يأخذ مما نهاه الله عنه ، ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه. والمعنى : أنّ الأنصار ممّن وقي شحّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.

فصل : وقد اختلف العلماء في الشحّ والبخل ، هل بينهما فرق ، أم لا؟ فقال ابن جرير : الشحّ في كلام العرب : هو منع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطّابي : الشحّ أبلغ في المنع من البخل ، وإنما الشحّ بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع ، وأكثر ما يقال في البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواصّ الأشياء ، والشّحّ عامّ ، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطّبع والجبلّة. وحكى الخطّابي عن بعضهم أنه قال : البخل : أن يضنّ بماله ، والشّحّ : أن يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشّعثاء أنّ رجلا أتى ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال :

أسمع الله يقول : «ومن يوق شحّ نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء ، فقال : ليس ذاك بالشحّ الذي ذكره الله في القرآن ، الشّحّ : أن تأكل مال أخيك ظلما ، إنما البخل ، وبئس الشيء البخيل.

____________________________________

(١٤٢١) ضعيف. أخرجه الحاكم ٢ / ٤٨٤ وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله : عبيد الله ضعفوه. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨١٠ من طريق عبيد الله بن الوليد به. وعزاه السيوطي في «الدر» ٦ / ٢٨٩ للحاكم وابن مردويه.

(١٤٢٢) عزاه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ٢٥ ـ بتخريجنا للثعلبي عن أنس ، والثعلبي يروي الواهيات والموضوعات فهذا خبر لا شيء لخلوه عن كتب الحديث والأثر.


(١٤٢٣) وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بريء من الشّحّ من أدّى الزكاة ، وقرى الضّيف ، وأعطى في النّائبة».

قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني التّابعين إلى يوم القيامة. قال الزّجّاج : إنّ المعنى : ما أفاء الله على رسوله فلله وللرّسول ولهؤلاء المسلمين ، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبّة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودليل هذا قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : الذين جاءوا في حال قولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) فمن ترحّم على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن في قلبه غلّ لهم ، فله حظّ من فيء المسلمين ، ومن شتمهم ولم يترحّم عليهم ، أو كان في قلبه غلّ لهم ، فما جعل الله له حقّا في شيء من فيء المسلمين بنصّ الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال : من تنقّص أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غلّ ، فليس له حقّ في فيء المسلمين ، ثم تلا هذه الآيات (١).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) يعني : عبد الله بن أبيّ وأصحابه (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الدّين ، لأنهم كفّار مثلهم ، وهم اليهود (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي : في خذلانكم (أَحَداً أَبَداً) فكذّبهم الله تعالى في ذلك بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنّصر بالآية التي تلي هذه ، فكان الأمر على ما ذكر الله تعالى ، لأنهم أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون ، وقوتلوا فلم ينصروهم ، ومعنى (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) : لئن قدّر وجود نصرهم ، لأنّ الله نفى نصرهم ، فلا يجوز وجوده. وقوله عزوجل : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) يعني : بني النّضير.

قوله عزوجل : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ) يعني : المؤمنين أشدّ (رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ) وفيهم قولان :

____________________________________

(١٤٢٣) أخرجه الطبري ٣٣٨٨٣ والبيهقي في «الشعب» ١٠٨٤٢ من حديث أنس ، وإسناده ضعيف فيه سليمان بن عبد الرحمن روى مناكير ، وإسماعيل بن عياش روايته ضعيفة عن غير الشاميين ، وشيخه هنا مدني.

__________________

(١) انظر «تفسير القرطبي» ١٨ / ٣١.


أحدهما : أنهم المنافقون ، قاله مقاتل. والثاني : بنو النّضير ، قاله الفرّاء.

قوله عزوجل : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الأكثرون. والثاني : اليهود والمنافقون ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. والمعنى : أنهم لا يبرزون لحربكم ، إنما يقاتلون متحصّنين (فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبان «من وراء جدار» بألف. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ «جدر» بضم الجيم والدّال. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وابن أبي عبلة «جدر» بفتح الجيم والدال جميعا ، وقرأ عمر بن الخطّاب ، ومعاوية ، وعاصم الجحدري «جدر» بفتح الجيم وسكون الدال. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ ، وعكرمة ، والحسن ، وابن سيرين ، وابن يعمر «جدر» بضمّ الجيم وإسكان الدال (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) وفيه قولان : أحدهما : عداوة بعضهم لبعض شديدة. والثاني : أنّ بأسهم بينهم فيما وراء الحصون شديد ، وإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله.

قوله عزوجل : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود والمنافقون ، قاله مقاتل. والثاني : بنو النّضير ، قاله الفرّاء. قوله عزوجل : (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال الزّجّاج : أي هم مختلفون لا تستوي قلوبهم ، ولا يتعاونون بنيّات مجتمعة ، لأنّ الله تعالى ناصر حزبه ، وخاذل أعدائه. قوله عزوجل : (ذلِكَ) يعني ذلك الاختلاف (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما فيه الحظّ لهم.

ثم ضرب لليهود مثلا ، فقال عزوجل : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم بنو قينقاع. وقال ابن عباس : كانوا بنو قينقاع يهودا ، وكانوا وادعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم غدروا ، فحصرهم ، ثم نزلوا على حكمه أنّ له أموالهم ، ولهم النساء والذّرّية. فالمعنى : مثل بني النّضير فيما فعل بهم كبني قينقاع. والثاني : أنهم كفّار قريش يوم بدر ، قاله مجاهد. والمعنى : مثل هؤلاء اليهود كمثل المشركين الذين كانوا من قبلهم قريبا ، وذلك لقرب غزوة بني النّضير من غزاة بدر. والثالث : أنهم بنو قريظة ، فالمعنى : مثل بني النّضير كبني قريظة (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) بأن قتلت مقاتلتهم ، وسبيت ذراريهم ، وهؤلاء أجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال عزوجل : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ). والمعنى : مثل المنافقين في غرورهم بني النّضير ، وقولهم : لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ، ولئن قوتلتم لننصرنّكم ، كمثل الشيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) وفيه قولان (١) : أحدهما : أنه مثل ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان ، وهو عامّ في جميع الناس ، قاله مجاهد. والثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى لشخص معين ، وعلى هذا جمهور المفسّرين ، وهذا شرح قصّته :

ذكر أهل التفسير أنّ عابدا من بني إسرائيل كان يقال له : برصيصا تعبّد في صومعة له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان ، فجمع إبليس يوما مردة الشياطين ، فقال : ألا أحد منكم يكفيني برصيصا ، فقال

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٠٢ : وقد ذكر بعضهم هاهنا ـ قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثال ، لا أنها المرادة وحدها بالمثل ، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها.

ـ وقال الشوكاني رحمه‌الله في «تفسيره» ٥ / ٢٤٥ : وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان ـ المذكور في القصة الآتية ـ هو المقصود بالآية بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه.


الأبيض ، وهو صاحب الأنبياء : أنا أكفيكه ، فانطلق على صفة الرّهبان ، فأتى صومعته ، فناداه فلم يجبه ، وكان لا ينفتل عن صلاته إلّا في كلّ عشرة أيام ، ولا يفطر إلّا في كلّ عشرة أيام ، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ، فلمّا انفتل برصيصا ، اطّلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة ، فناداه : ما حاجتك؟ فقال : إني أحببت أن أكون معك ، أقتبس من عملك ، وأتأدّب بأدبك ، ونجتمع على العبادة ، فقال برصيصا : إني لفي شغل عنك ، ثم أقبل على صلاته ، وأقبل الأبيض يصلي ، فلم يقبل إليه برصيصا أربعين يوما ، ثم انفتل ، فرآه يصلي ، فلمّا رأى شدّة اجتهاده قال : ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول ، فأذن له ، فصعد إليه ، فأقام معه حولا لا يفطر إلّا كلّ أربعين يوما ، ولا ينفتل من صلاته إلّا في كلّ أربعين يوما ، وربّما زاد على ذلك ، فلمّا رأى برصيصا اجتهاده ، أعجبه شأنه وتقاصرت إليه نفسه ، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق عنك ، فإنّ لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشدّ اجتهادا ممّا أرى ، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى ، فاشتدّ ذلك على برصيصا ، وكره مفارقته ، فلما ودّعه قال له الأبيض : إنّ عندي دعوات أعلّمكها ، يشفي الله بها السّقيم ، ويعافي بها المبتلى ، فقال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة ، لأنّ لي في نفسي شغلا ، فأخاف أن يعلم الناس بهذا ، فيشغلوني عن العبادة. فلم يزل به حتى علّمه إيّاها ، ثم انطلق إلى إبليس فقال : قد والله أهلكت الرجل ، فانطلق الأبيض ، فتعرّض لرجل فخنقه ، ثم جاءه في صورة رجل متطبّب ، فقال لأهله : إنّ بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : إنّي لا أقوى على جنّيّه ، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له فيعافى فقالوا له : دلّنا. فقال : انطلقوا إلى برصيصا العابد فإن عنده اسم الله الأعظم ، فانطلقوا إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات ، فذهب عنه الشيطان ، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك ، ثم يرشدهم إلى برصيصا ، فيعافون ، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك إسرائيل ، لها ثلاثة إخوة ، فخنقها ، ثم جاء إليهم في صورة متطبّب ، فقال : أعالجها؟ قالوا : نعم. قال : إنّ الذي عرض لها مارد لا يطاق ، ولكن سأرشدكم إلى رجل تدعونها عنده ، فإذا جاء شيطانها دعا لها ، قالوا : ومن هو؟ قال : برصيصا ، قالوا : وكيف لنا أن يقبلها منّا ، وهو أعظم شأنا من ذلك؟! قال : إن قبلها ، وإلّا فضعوها في صومعته ، وقولوا له : هي أمانة عندك ، فانطلقوا إليه ، فأبى عليهم ، فوضعوها عنده. وفي بعض الرّوايات أنه قال : ضعوها في ذلك الغار ، وهو غار إلى جنب صومعته ، فوضعوها ، فجاء الشيطان فقال له : انزل إليها فامسحها بيدك تعافى ، وتنصرف إلى أهلها ، فنزل ، فلمّا دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها ، فإذا هي تركض ، فسقطت عنها ثيابها ، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنا وجمالا ، فلم يتمالك أن وقع عليها ، وضرب على أذنه ، فجعل يختلف إليها إلى أن حملت ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت ، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها قلت : جاء شيطانها ، فذهب بها ، فلم يزل به حتى قتلها ، ودفنها ، ثم رجع إلى صومعته ، فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يسألون عنها ، فقالوا : يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ، ولم أطقه ، فصدّقوه ، وانصرفوا. وفي بعض الرّوايات أنه قال : دعوت لها ، فعافاها الله ، ورجعت إليكم ، فتفرّقوا ينظرون لها أثرا ، فلمّا أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه ، فقال : ويحك : إنّ برصيصا فعل بأختك كذا وكذا ، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا ، فقال : هذا حلم ، وبرصيصا خير من ذلك ، فتتابع عليه ثلاث ليال ، وهو لا يكترث ، فانطلق إلى الأوسط كذلك ، ثم إلى الأصغر ، بمثل ذلك ، فقال الأصغر لإخوته : لقد رأيت كذا


وكذا ، فقال الأوسط : وأنا والله ، فقال الأكبر : وأنا والله ، فأتوا برصيصا ، فسألوه عنها ، فقال : قد أعلمتكم بحالها ، فكأنكم اتّهمتموني ، فقالوا : لا والله واستحيوا ، وانصرفوا ، فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا ، وإنّ إزارها لخارج من التراب ، فانطلقوا ، فحفروا عنها ، فرأوها ، فقالوا : يا عدوّ الله لم قتلتها؟ اهبط ، فهدموا صومعته ، ثم أوثقوه ، وجعلوا في عنقه حبلا ، ثم قادوه إلى الملك فأقرّ على نفسه ، وذلك أنّ الشيطان عرض له ، فقال : تقتلها ثم تكابر ، فاعترف ، فأمر الملك بقتله وصلبه ، فعرض له الأبيض ، فقال : أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علّمتك الدّعوات ، ويحك ما اتّقيت الله في أمانة خنت أهلها ، أما استحييت من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن متّ على هذه الحالة لم تفلح ، ولا أحد من نظرائك ، قال : فكيف أصنع؟ قال : تطيعني في خصلة حتى أنجيك ، وآخذ بأعينهم ، وأخرجك من مكانك ، قال : ما هي؟ قال : تسجد لي ، فسجد له ، فقال : هذا الذي أردت منك ، صارت عاقبة أمرك أن كفرت (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) ثم قتل. فضرب الله هذا المثل لليهود حتى غرّهم المنافقون ، ثم أسلموهم (١).

قوله عزوجل : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) ونصب ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ياء «إني» وأسكنها الباقون. وقد بيّنّا المعنى في الأنفال (٢) (فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني : الشيطان وذلك الكافر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

قوله عزوجل : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي : لينظر أحدكم أيّ شيء قدّم؟ عملا صالحا ينجيه؟ أم شيئا يوبقه؟ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي : تركوا أمره (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي : أنساهم حظوظ أنفسهم ـ فلم يعملوا بالطاعة ، ولم يقدموا خيرا. قال ابن عباس : يريد قريظة ، والنّضير ، وبني قينقاع.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

__________________

(١) ورد عن ابن عباس موقوفا : أخرجه الطبري ٣٣٩٠٤ وإسناده واه ، فيه مجاهيل : وعطية العوفي واه. وورد عن علي ، أخرجه الطبري ٣٣٩٠٢ وإسناده حسن. وورد عن ابن مسعود ، أخرجه الطبري ٣٣٩٠٣ وإسناده ضعيف. وورد من وجوه متعددة ، ومصدر ذلك كله كتب الأقدمين ، والله تعالى أعلم.

(٢) الأنفال : ٤٨.


قوله عزوجل : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) أخبر الله تعالى بهذا عن تعظيم شأن هذا القرآن ، وأنه لو جعل في جبل ـ على قساوته وصلابته ـ تمييزا ، كما جعل في بني آدم ، ثم أنزل عليه القرآن لتشقّق خشية من الله ، وخوفا أن لا يؤدّي حقّ الله في تعظيم القرآن. و«الخاشع» : المتطأطئ الخاضع ، و«المتصدّع» : المتشقّق. وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن ، ولا يؤثّر في قلبه مع الفهم والعقل ، ويدلّك على هذا المثل قوله عزوجل : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) ثم أخبر بعظمته وربوبيّته ، فقال عزوجل : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قال الزّجّاج : قوله عزوجل : (هُوَ اللهُ) ردّ على قوله عزوجل في أوّل السّورة (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

فأمّا هذه الأسماء ، فقد سبق ذكر «الله» و«الرّحمن» و«الرّحيم» في الفاتحة ، وذكرنا معنى «عالم الغيب والشهادة» في الأنعام (١). و«الملك» في سورة المؤمنين (٢).

فأمّا «القدوس» فقرأ أبو الأشهب ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ بفتح القاف. قال أبو سليمان الخطّابي : «القدّوس» : الطاهر من العيوب ، المنزّه عن الأنداد والأولاد. و«القدس» : الطاهر. ومنه سمّي : بيت المقدس ، ومعناه : المكان الذي يتطهّر فيه من الذنوب. وقيل للجنّة : حظيرة القدس ، لطهارتها من آفات الدنيا. والقدس : السّطل الذي يتطهّر فيه ، ولم يأت من الأسماء على فعّول بضمّ الفاء إلّا «قدّوس» و«سبّوح» وقد يقال أيضا : قدّوس ، وسبّوح بالفتح فيهما ، وهو القياس في الأسماء ، كقولهم : سفّود ، وكلّوب.

فأمّا «السّلام» فقال ابن قتيبة : سمّى نفسه سلاما ، لسلامته ممّا يلحق الخلق من العيب والنّقص والفناء. وقال الخطّابي : معناه ذو السّلام. والسّلام في صفة الله سبحانه وتعالى : هو الذي سلم من كلّ عيب ، وبرئ من كلّ آفة ونقص يلحق المخلوقين. قال : وقد قيل : هو الذي سلم الخلق من ظلمه.

فأما «المؤمن» ، ففيه ستة أقوال : أحدها : أنه الذي أمن الناس ظلمه ، وأمن من آمن به عذابه ، قاله ابن عباس ؛ ومقاتل. والثاني : أنه المجير ، قاله القرظي. والثالث : الذي يصدّق المؤمنين إذا وحّدوه ، قاله ابن زيد. والرابع : أنه الذي وحّد نفسه ، لقوله عزوجل : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، ذكره الزّجّاج. والخامس : أنه الذي يصدّق عباده وعده ، قاله ابن قتيبة. والسادس : أنه يصدّق ظنون عباده المؤمنين ، ولا يخيّب آمالهم.

(١٤٢٤) كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يحكيه عن ربّه عزوجل : «أنا عند ظنّ عبدي بي» ، حكاه الخطّابي.

فأمّا «المهيمن» ففيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الشهيد ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائيّ. قال الخطّابي : ومنه قوله عزوجل : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٣) ، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل. والثاني : الأمين ، قاله الضّحّاك ، قال الخطّابي : أصله : مؤيمن ، فقلبت الهمزة هاء ، لأنّ الهاء

____________________________________

(١٤٢٤) صحيح. أخرجه البخاري ٧٥٠٥ ومسلم ٢٦٧٥ وابن حبان ٦٣٩ من حديث أبي هريرة ، وله شواهد كثيرة.

وتقدم بعضها.

__________________

(١) الأنعام : ٧٣.

(٢) المؤمنون : ١١٦.

(٣) المائدة : ٤٨.


أخفّ عليهم من الهمزة. ولم يأت مفيعل في غير التصغير ، إلّا في ثلاثة أحرف «مسيطر» و«مبيطر» و«مهيمن» وقد ذكرنا في سورة الطّور (١) عن أبي عبيدة ، أنها خمسة أحرف. والثالث : المصدّق فيما أخبر ، قاله ابن زيد. والرابع : أنه الرّقيب على الشيء ، والحافظ له ، قاله الخليل. قال الخطّابي : وقال بعض أهل اللغة. الهيمنة : القيام على الشيء ، والرّعاية له ، وأنشد :

ألا إنّ خير النّاس بعد نبيّه

مهيمنه التاليه في العرف والنّكر

يريد القائم على الناس بعد بالرّعاية لهم. وقد زدنا هذا شرحا في المائدة (٢) ، وبيّنّا معنى «العزيز» في البقرة (٣).

فأمّا «الجبّار» ، ففيه أربعة أقوال : أحدها : أنه العظيم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد ، قاله القرظي والسّدّيّ. وقال قتادة : جبر خلقه على ما شاء. وحكى الخطّابي : أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه ، يقال : جبره السلطان ؛ وأجبره. والثالث : أنه الذي جبر مفاقر الخلق ، وكفاهم أسباب المعاش والرزق. والرابع : أنه العالي فوق خلقه ، من قولهم : تجبّر النّبات : إذا طال وعلا ، ذكر القولين الخطّابي.

فأمّا «المتكبّر» ففيه خمسة أقوال : أحدها : أنه الذي تكبّر عن كلّ سوء ، قاله قتادة. والثاني : أنه الذي تكبّر عن ظلم عباده ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنه ذو الكبرياء ، وهو الملك ، قاله ابن الأنباري. والرابع : أنه المتعالي عن صفات الخلق. والخامس : أنه الذي يتكبّر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة ، فيقصمهم ، ذكرهما الخطّابي ، قال : والتاء في «المتكبّر» تاء التفرّد ، والتخصّص ، لا تاء التعاطي والتكلّف ، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين ، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل. وقيل : إنّ المتكبّر من الكبرياء الذي هو عظمة الله ، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق.

وأمّا «الخالق» فقال الخطّابي : هو المبتدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق ، فأمّا في نعوت الآدميين ، فمعنى الخلق التقدير : كقول زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبعض

القوم يخلق ثمّ لا يفري

يقول : إذا قدرت شيئا قطعته ، وغيرك يقدر ما لا يقطعه ، أي : يتمنّى ما لا يبلغه.

والبارئ : الخالق. يقال : برأ الله الخلق يبرؤهم. و«المصوّر» : هو الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها. ومعنى : التّصوير : التخطيط والتّشكيل. وقرأ الحسن ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وابن السّميفع «البارئ المصوّر» بفتح الواو والراء جميعا ، يعنون : آدم عليه‌السلام. وما بعد هذا قد تقدم بيانه (٤) إلى آخر السّورة.

__________________

(١) الطور : ٣٧.

(٢) المائدة : ٤٨.

(٣) البقرة : ١٢٩.

(٤) الأعراف : ١٨٠ والإسراء : ١١٠.


سورة الممتحنة

وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ).

(١٤٢٥) ذكر أهل التفسير أنّها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أنّ سارة مولاة عمرو بن صيفيّ بن هاشم أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكّة إلى المدينة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجهّز لفتح مكّة ، فقال لها : «أمسلمة جئت؟» قالت : لا ، قال : «فما جاء بك؟» قالت : أنتم الأهل والعشيرة والموالي ، وقد احتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني. قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأين أنت من شباب أهل مكّة؟» وكانت مغنّية ، فقالت : ما طلب منّي شيء بعد وقعة بدر ، فحثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطّلب وبني المطّلب ، فكسوها ، وحملوها ، وأعطوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ، فكتب معها كتابا إلى أهل مكّة ، وأعطاها عشرة دنانير على أن توصّل الكتاب إلى أهل مكّة : وكتب في الكتاب من حاطب إلى أهل مكة إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم ، فخرجت به سارة ، ونزل جبريل فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فعل حاطب ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا ، وعمّارا ، والزّبير ، وطلحة ، والمقداد ، وأبا مرثد ، وقال : «انطلقوا حتى تأتوا «روضة خاخ» ، فإنّ فيها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها ، وخلّوا سبيلها ، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فخرجوا حتى أدركوها ، فقالوا لها : أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، ففتّشوا متاعها فلم يجدوا شيئا ، فهمّوا بالرّجوع ، فقال عليّ : والله ما

____________________________________

(١٤٢٥) ذكره المصنف نقلا عن المفسرين ، وكذا الواحدي في «أسباب النزول» ٨١١ وما أخرجاه في الصحيحين يغني عنه. انظر الحديث الآتي.


كذبنا ولا كذّبنا. وسلّ سيفه ، وقال : أخرجي الكتاب ، وإلّا ضربت عنقك ، فلما رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها ، فخلّوا سبيلها ، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إلى حاطب ، فأتاه ، فقال له : «هل تعرف هذا الكتاب؟» قال : نعم. قال : «فما حملك على ما صنعت؟» فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكّة من يمنع عشيرته ، وكنت غريبا فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتّخذ عندهم يدا ، وقد علمت أنّ الله ينزل بهم بأسه ، وكتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدّقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعذره ، ونزلت هذه السورة تنهى حاطبا عما فعل ، وتنهى المؤمنين أن يفعلوا كفعله ، فقام عمر بن الخطّاب فقال : يا رسول الله : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك يا عمر لعلّ الله اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

(١٤٢٦) وقد أخرج هذا الحديث في «الصّحيحين» مختصرا ، وفيه ذكر عليّ ، والزّبير ، وأبي مرثد فقط.

قوله عزوجل : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) وفيه قولان : أحدهما : أنّ الباء زائدة ، والمعنى : تلقون إليهم المودّة ، ومثله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) (١) ، هذا قول الفرّاء ، وأبي عبيدة ، وابن قتيبة ، والجمهور. والثاني : تلقون إليهم أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيره بالمودّة التي بينكم وبينه ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (وَقَدْ كَفَرُوا) الواو للحال والمعنى ، وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الحقّ ، وهو القرآن ، (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكّة (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي تفعلوا ذلك لإيمانكم بالله (إن

____________________________________

(١٤٢٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٢٧٤ والبغوي في «التفسير» ٢١٧٤ عن قتيبة بن سعيد به.

وأخرجه البخاري ٣٠٠٧ و ٤٨٩٠ ومسلم ٢٤٩٤ وأبو داود ٢٦٥٠ والترمذي ٣٣٠٥ والحميدي ٤٩ وأحمد ١ / ٧٩ وأبو يعلى ٣٩٤ و ٣٩٨ وابن حبان ٦٤٩٩ والبيهقي ٩ / ١٤٦ وفي «دلائل النبوة» ٥ / ١٧ والبغوي في «شرح السنة» ٢٧٠٤ والواحدي في «الأسباب» ٨١٢ وفي «الوسيط» ٤ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ من طرق عن سفيان به كلهم من حديث علي.

ولفظ البخاري : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها» قال : فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة قلنا لها أخرجي الكتاب. قالت : ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب ، قال : فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا حاطب ما هذا؟» قال : يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش ـ يقول : كنا حليفا ولم أكن من أنفسها ـ وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه قد صدقكم». فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال : «إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطّلع على من شهد بدرا ، قال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله السورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) إلى قوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

__________________

(١) الحج : ٢٥.


كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) هذا شرط ، جوابه متقدّم ، وفي الكلام تقديم وتأخير. قال الزّجّاج : معنى الآية : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء.

قوله عزوجل : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الباء في «المودّة» حكمها حكم الأولى. قال المفسّرون : والمعنى : تسرّون إليهم النّصيحة (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ) من المودّة للكفّار (وَما أَعْلَنْتُمْ) أي : أظهرتم بألسنتكم. وقال ابن قتيبة : المعنى : كيف تستترون بمودّتكم لهم مني وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟!

قوله عزوجل : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) يعني : الإسرار والإلقاء إليهم (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : أخطأ طريق الهدى. ثم أخبر بعداوة الكفّار فقال عزوجل : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي : يظفروا بكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) لا موالين (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالضرب والقتل (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) وهو : الشّتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) فترجعون إلى دينهم. والمعنى : أنه لا ينفعكم التقرّب إليهم بنقل أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أي : قراباتكم. والمعنى : ذوو أرحامكم ، أراد : لن ينفعكم الذين عصيتم الله لأجلهم ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يفصل» برفع الياء ، وتسكين الفاء ، ونصب الصاد. وقرأ ابن عامر : «يفصّل بينكم» برفع الياء ، والتشديد ، وفتح الصاد ، وافقه حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، إلا أنهم كسروا الصاد. وقرأ عاصم ، غير المفضّل ، ويعقوب ، بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد ، وتخفيفها. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وأبو العالية : «نفصّل» بنون مرفوعة ، وفتح الفاء ، مكسورة الصاد مشدّدة ، وقرأ أبو رزين ، وعكرمة ، والضّحّاك : «نفصل» بنون مفتوحة ، ساكنة الفاء ، مكسورة الصاد خفيفة ، أي : نفصل بين المؤمن والكافر وإن كان ولده. قال القاضي أبو يعلى (١) : في هذه القصة دلالة على أنّ الخوف على المال والولد لا يبيح التّقيّة في إظهار الكفر ، كما يبيح في الخوف على النّفس ، ويبين ذلك أنّ الله تعالى فرض الهجرة ، ولم يعذرهم في التخلّف لأجل أموالهم وأولادهم. وإنما ظنّ حاطب أنّ ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التّقيّة ، وإنما قال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظنّ أنه فعل ذلك عن غير تأويل.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٠٩ : فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ، ونهى أن يتّخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء ، كما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، ولهذا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش ، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.


اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨))

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

قوله عزوجل : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) وقرأ عاصم : «أسوة» بضمّ الألف ، وهما لغتان ، أي : اقتداء حسن به وبمن معه. وفيهم قولان : أحدهما : أنهم الأنبياء. والثاني : المؤمنون (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) قال الفرّاء : تقول أفلا تأسّيت يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرّأت من أهلك كما تبرؤوا من قومهم؟!.

قوله عزوجل : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) قال المفسّرون : والمعنى : تأسّوا بإبراهيم إلّا في استغفاره لأبيه فلا تأسّوا به في ذلك ، فإنه كان عن موعدة وعدها إيّاه (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به ، وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) إلى قوله عزوجل : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الفرّاء : قولوا أنتم : ربّنا عليك توكّلنا. وقد بيّنّا معنى قوله عزوجل : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في يونس (١). ثم أعاد الكلام في ذكر الأسوة فقال عزوجل : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) أي : في إبراهيم ومن معه ، وذلك أنهم كانوا يبغضون من خالف الله.

قوله عزوجل : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) بدل من قوله عزوجل : (لَكُمْ) وبيان أنّ هذه الأسوة لمن يخاف الله ، ويخشى عقاب الآخرة.

قوله عزوجل : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : يعرض عن الإيمان ويوال الكفّار (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن خلقه (الْحَمِيدُ) إلى أوليائه. فلمّا أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادوا أقرباءهم. فأنزل الله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي : من كفار مكّة (مَوَدَّةً) ففعل ذلك ، بأن أسلم كثير منهم يوم الفتح ، وتزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فانكسر أبو سفيان عن كثير ممّا كان عليه حتى هداه الله للإسلام (وَاللهُ قَدِيرٌ) على جعل المودّة (وَاللهُ غَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) بهم بعد ما أسلموا.

قوله عزوجل : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال (٢) :

__________________

(١) يونس : ٨٥.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٣ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عني بذلك : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم ، وتقسطوا إليهم ، لأن الله عزوجل عمّ بقوله جميع من كان ذلك صفته ، فلم يخصص به بعضا دون بعض ، ولا معنى


(١٤٢٧) أحدها : أنها في أسماء بنت أبي بكر ، وذلك أنّ أمّها قتيلة بنت عبد العزّى ، قدمت عليها المدينة بهدايا ، فلم تقبل هداياها ، ولم تدخلها منزلها ، فسألت لها عائشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تدخلها منزلها ، وتقبل هديّتها ، وتكرمها ، وتحسن إليها ، قاله عبد الله بن الزّبير.

(١٤٢٨) والثاني : أنها نزلت في خزاعة وبني مدلج ، وكانوا صالحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه أحدا ، قاله ابن عباس. وروي عن الحسن البصري أنها نزلت في خزاعة ، وبني الحارث بن عبد مناف ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فداموا على الوفاء به.

(١٤٢٩) والثالث : نزلت في قوم من بني هاشم منهم العبّاس ، قاله عطيّة العوفيّ ومرّة الهمدانيّ.

والرابع : أنها عامّة في جميع الكفار ، وهي منسوخة بقوله عزوجل : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ، قاله قتادة. والخامس : نزلت في النساء والصبيان ، حكاه الزّجّاج. قال المفسّرون : وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين ، وجواز برّهم ، وإن كانت الموالاة منقطعة.

قوله عزوجل : (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي : من مكّة (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي : تعاملوهم بالعدل فيما بينكم وبينهم.

قوله عزوجل : (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي : أعانوا على ذلك (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) والمعنى : إنما ينهاكم عن أن تولّوا هؤلاء ، لأنّ مكاتبتهم بإظهار ما أسرّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موالاة. وذكر بعض المفسّرين أنّ معنى

____________________________________

(١٤٢٧) صحيح دون ذكر نزول الآية ، أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٨ / ١٩٨ وأحمد ٤ / ٤ والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» ٦٧٥٠ والحاكم ٢ / ٤٨٥ والطبري ٣٣٩٥٢ و ٣٣٩٥٣ والواحدي في «الأسباب» ٨١٣ من حديث عبد الله بن الزبير. صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي! مع أن في إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد وغيره ، ووثقه ابن حبان. قلت : هو غير حجة بما ينفرد به ، وقد تفرد بذكر نزول الآية. وذكره الهيثمي في «المجمع» ١١٤١١ وزاد نسبته للبزار وقال : وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأصل الحديث في الصحيحين دون نزول الآية. أخرجه البخاري ٢٦٢٠ و ٣١٨٣ ومسلم ١٠٠٣ وأبو داود ١٦٦٨ وأحمد ٦ / ٣٤٧ من حديث أسماء بنت أبي بكر ، وليس فيه ذكر نزول الآية. والأشبه في نزول الآية أنه مدرج من كلام أحد الرواة والله أعلم ، ويؤيد ذلك هو أن البخاري أخرج حديث أسماء من طريق ابن عيينة ، برقم ٥٩٧٨ وقال في آخره : قال ابن عيينة : فأنزل الله هذه الآية.

وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٨٣ بتخريجنا.

(١٤٢٨) لم أره مسندا ، عزاه المصنف لابن عباس وكذا البغوي في «التفسير» ٤ / ٣٣١ ساقه بدون إسناد ، فالخبر ساقط ، لا حجة فيه.

(١٤٢٩) عزاه المصنف لعطية العوفي ، وهو واه إن وصل الحديث ، فكيف إذا أرسله؟! وعزاه أيضا لمرّة الهمداني ، ولم أقف عليه ، وهو تابعي فهو مرسل.

__________________

لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو نسب ، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرّم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له ، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.

(١) التوبة : ٥.


هذه الآية والتي قبلها منسوخ بآية السيف. قال ابن جرير : لا وجه لادّعاء النّسخ ، لأنّ برّ المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة ، غير محرّم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح ، أو دلالة لهم على عورة أهل الإسلام. ويدلّ على ذلك حديث أسماء وأمّها الذي سبق (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ).

(١٤٣٠) قال ابن عباس : إنّ مشركي مكّة صالحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه إليهم. ومن أتى أهل مكّة من أصحابه ، فهو لهم ، وكتبوا بذلك الكتاب ، وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلميّة بعد الفراغ من الكتاب والنبيّ بالحديبية ، فأقبل زوجها وكان كافرا ، فقال : يا محمّد اردد عليّ امرأتي ؛ فإنك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا ، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد ، فنزلت هذه الآية.

(١٤٣١) وذكر جماعة من العلماء منهم محمّد بن سعد كاتب الواقدي أنّ هذه الآية نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدمت المدينة في هدنة الحديبية ، فخرج في أثرها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة ، فقالا : يا محمّد أوف لنا بشروطنا ، وقالت أمّ كلثوم : يا رسول الله ؛ أنا امرأة ، وحال النساء إلى الضّعف ما قد علمت ، فتردّني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ، ولا صبر لي؟! فنقض الله العهد في النّساء ، وأنزل فيهنّ المحنة ، وحكم فيهنّ بحكم رضوه كلّهم ، ونزل في أمّ كلثوم : (فَامْتَحِنُوهُنَ) فامتحنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وامتحن النساء بعدها يقول : والله ما أخرجكنّ إلّا حبّ الله ورسوله ، وما خرجتنّ لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن ، فلم يرددن إلى أهليهنّ.

وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها

____________________________________

(١٤٣٠) ذكره المصنف هاهنا عن ابن عباس معلقا ، وكذا ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨١٤ والبغوي في «تفسيره» ٤ / ٣٠٣ عن ابن عباس بدون إسناد ، فهذا لا شيء لخلوه عن الإسناد. وورد في «الإصابة» ٤ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥ : أن سبيعة بنت الحارث أول امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية إثر العقد وطي الكتاب ، ولم تخف فنزلت آية الامتحان. وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٨٤ وما بعده بتخريجنا.

(١٤٣١) ذكره ابن سعد في «الطبقات» ٨ / ١٨٣ ـ ١٨٤ هكذا بدون عزو لأحد.

وذكر أم كلثوم صح عند البخاري ٢٧١١ و ٢٧١٢ في أثناء حديث مطول.

__________________

(١) تقدم أن الحديث متفق عليه ، دون ذكر نزول الآية.


سبيعة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس : والثاني : أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم ، وهو المشهور. والثالث : أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف ، ذكره أبو نعيم الأصبهانيّ ، قال الماورديّ : وقد اختلف أهل العلم هل دخل ردّ النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما؟ فقالت طائفة : قد كان شرط ردّهنّ في عقد الهدنة لفظا صريحا ، فنسخ الله تعالى ردّهنّ من العقد ، ومنع منه ، وأبقاه في الرجال على ما كان. وقالت طائفة من العلماء : لم يشترط ردّهنّ في العقد صريحا ، وإنما أطلق العقد ، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال ، فبيّن الله عزوجل خروجهنّ عن عمومه ، وفرّق بينهنّ وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهنّ ذوات فروج فحرّمن عليهم. والثاني : أنهنّ أرقّ قلوبا ، وأسرع تقلّبا منهم فأمّا المقيمة على شركها فمردودة عليهم. وقال القاضي أبو يعلى : وإنما لم يردّ النساء عليهم لأنّ النّسخ جائز بعد التّمكين من الفعل وإن لم يقع الفعل.

قال المفسّرون : والمراد بقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو الذي تولّى امتحانهنّ ، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن زيد : وإنما أمرنا بامتحانهنّ ، لأنّ المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكّة ، قالت : لألحقنّ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما كان يمتحنهنّ به ثلاثة أقوال :

(١٤٣٢) أحدها : أنه كان يمتحنهنّ ب «شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله» رواه العوفيّ عن ابن عباس.

(١٤٣٣) والثاني : أنه كان يستحلف المرأة بالله : ما خرجت من بغض زوج ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ما خرجت إلّا حبّا لله ولرسوله ، روي عن ابن عباس أيضا.

(١٤٣٤) والثالث : أنه كان يمتحنهنّ بقوله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) فمن أقرّت بهذا الشّرط قالت : قد بايعتك ، هذا قول عائشة عليها‌السلام.

قوله عزوجل : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أي : إنّ هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بهنّ ، (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) وذلك يعلم من إقرارهنّ ، فحينئذ لا يحلّ ردّهنّ (إِلَى الْكُفَّارِ) لأنّ الله تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك (وَآتُوهُمْ) يعني أزواجهنّ الكفّار (ما أَنْفَقُوا) يعني : المهر. قال مقاتل : هذا إذا تزوّجها مسلم. فإن لم يتزوّجها أحد ، فليس لزوجها الكافر شيء (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وهي المهور.

فصل : عندنا إذا هاجرت الحربيّة بعد دخول زوجها بها ، وقعت الفرقة على انقضاء عدّتها. فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدّتها فهي امرأته ، وهذا قول الأوزاعي ، ومالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة :

____________________________________

(١٤٣٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٣٩١ عن ابن عباس ، وفيه عطية العوفي واه. والصحيح ما يأتي عن عائشة.

(١٤٣٣) أخرجه الحارث بن أبي أسامة كما في «المطالب العالية» ٣٧٧٧ عن أبي نصر الأسدي عن ابن عباس به ، وهو معلول. سكت عليه الحافظ ، وكذا البوصيري في «الإتحاف» وقال البخاري في ترجمة أبي نصر : لم يعرف له سماع من ابن عباس «الميزان» ٤ / ٥٧٩. وأخرجه الطبري ٣٣٩٥٧ و ٣٣٩٥٨ من طريق أبي نصر عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف ، فيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور. وانظر «أحكام ابن العربي» ٢٠٨٥ بتخريجنا. والصحيح ما بعده.

(١٤٣٤) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٩١ ومسلم ١٨٦٦ والترمذي ٣٣٠٦ والنسائي في «التفسير» ٦٠٦ وابن ماجة ٢٨٧٥ من حديث عائشة. وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٨٦ بتخريجنا


تقع الفرقة باختلاف الدّارين.

قوله عزوجل : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «تمسكوا» بضمّ التاء ، والتخفيف ، وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب : «تمسّكوا» بضمّ التاء ، وبالتشديد ، وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وابن يعمر ، وأبو حيوة : «تمسّكوا» بفتح التاء ، والميم ، والسين مشدّدة. و«الكوافر» جمع كافرة ، والمعنى : إنّ الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر ، وأمرهم بفراقهنّ. وقال الزّجّاج : المعنى : أنها كفرت ، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن ، أي : قد أنبت عقد النّكاح. وأصل العصمة : الحبل ، وكلّ ما أمسك شيئا فقد عصمه.

قوله عزوجل : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي : إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفّار مرتدّة ، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) يعني : المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوّجن منكم ، فليسأل أزواجهنّ الكفّار من تزوّجهنّ منكم «ما أنفقوا» وهو المهر. والمعنى : عليكم أن تغرموا لهم الصّداق كما يغرمون لكم.

قال أهل السّير : وكانت أمّ كلثوم حين هاجرت عاتقا (١) لم يكن لها زوج فبعثت إليه قدر مهرها ، فلما هاجرت تزوّجت زيد بن حارثة (٢).

قوله عزوجل : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) يعني ما ذكر في هذه الآية.

فصل : وذكر بعضهم في قوله عزوجل : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله عزوجل : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٣) ، وهذا تخصيص لا نسخ.

قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ) قال الزّجّاج : أي : أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم. وقرأ ابن مسعود ، والأزهريّ ، والنّخعي : «فعقبتم» بغير ألف ، وبفتح العين والقاف ، وبتخفيفها. وقرأ ابن عباس ، وعائشة والحسن وحميد ، والأعمش «فعقّبتم» مثل ذلك ، إلّا أنّ القاف مشددة. قال الزّجّاج : المعنى في التشديد والتخفيف واحد ، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم. وقرأ أبيّ بن كعب ، وعكرمة ، ومجاهد : «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين ، مفتوحة القاف خفيفة. وقرأ معاذ القارئ ، وأبو عمران الجوني : «فعقبتم» بفتح العين ، وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي : أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر.

(١٤٣٥) وذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية نزلت في عياض بن غنم ، كانت زوجته مسلمة ، وهي أمّ الحكم بنت أبي سفيان ، فارتدّت ، فلحقت بمكّة ، فأمر الله المسلمين أن يعطوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إليها من المهر ، ثم نسخ ذلك بقوله عزوجل : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (٤) إلى رأس الخمس ...

____________________________________

(١٤٣٥) ضعيف جدا. أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن كما في «الدر» ٦ / ٣١٠ وهذا مرسل ، ومراسيل الحسن واهية.

__________________

(١) العاتق : الشابة أول ما تدرك. انظر «النهاية» ٣ / ١٧٨.

(٢) انظر الحديث المتقدم ١٤٣١.

(٣) المائدة : ٥.

(٤) التوبة : ١.


فصل : قال القاضي أبو يعلى : وهذه الأحكام في أداء المهر ، وأخذه من الكفّار ، وتعويض الزّوج من الغنيمة ، أو من صداق قد وجب ردّه على أهل الحرب ، منسوخة عند جماعة من أهل العلم. وقد نصّ الإمام أحمد رضي الله عنه على هذا. قلت : وكذا قال مقاتل : كلّ هؤلاء الآيات نسختها آية السيف.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

قوله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ).

(١٤٣٦) قال المفسّرون : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة جاءته النساء يبايعنه ، فنزلت هذه الآية ، وشرط في مبايعتهنّ هذه الشّرائط المذكورة في الآية ، فبايعهنّ وهو على الصّفا ، فلمّا قال : ولا يزنين ، قالت هند : أو تزني الحرّة؟ فقال : ولا يقتلن أولادهنّ ، فقالت : ربّيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا ، فأنتم وهم أعلم.

(١٤٣٧) وقد صحّ في الحديث أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصافح في البيعة امرأة ، وإنما بايعهنّ بالكلام. وقد سمّينا من أحصينا من المبايعات في كتاب «التلقيح» على حروف المعجم ، وهنّ أربعمائة وسبع وخمسين امرأة ، والله الموفّق.

قوله عزوجل : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) قال المفسّرون : هو الوأد الذي كانت الجاهلية تفعله.

قوله عزوجل : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم ، قاله ابن عباس ، والجمهور ، وذلك أنّ المرأة كانت تلتقط المولود ، فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، وذلك البهتان المفترى. وإنما قال : (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) لأنّ الولد إذا وضعته الأمّ يسقط بين يديها ورجليها. وقيل : معنى (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَ) : ما أخذته لقيطا (وَأَرْجُلِهِنَ) ما ولدنه من زنا. والثاني : أنه السّحر. والثالث : المشي بالنّميمة ، والسّعي في الفساد ، ذكرهما الماورديّ.

قوله عزوجل : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فيه ثلاثة أقوال :

(١٤٣٨) أحدها : أنه النّوح ، قاله ابن عباس : وروي مرفوعا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

____________________________________

(١٤٣٦) ذكره الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧ هكذا بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٣٤٠١٣ من حديث ابن عباس بنحوه وأتم. وأخرج ابن سعد في «الطبقات» ٨ / ٦ طرفا منه عن الشعبي مرسلا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٢٠ : وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان ، وفيه قول هند : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا ، فضحك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى اه.

الخلاصة : أصل الخبر صحيح بطرقه وشواهده. وانظر «الكشاف» ١١٦٤ و«الجامع لأحكام القرآن» ٥٩٠٩ بتخريجنا.

(١٤٣٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٩١ ومسلم ١٨٦٦ من حديث عائشة. وانظر «تفسير ابن العربي» ٢٠٩٠ بتخريجنا.

(١٤٣٨) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٩٢ والبغوي ٢١٨٤ في «معالم التنزيل» بترقيمنا عن أبي معمر به.


(١٤٣٩) والثاني : أنه لا يدعين ويلا ، ولا يخدشن وجها ولا ينشرن شعرا ، ولا يشققن ثوبا ، قاله زيد بن أسلم.

والثالث : أنه جميع ما يأمرهنّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرائع الإسلام ، وآدابه ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وفي هذه الآية دليل على أنّ طاعة الولاة إنما تلزم في المباح دون المحظور.

قوله عزوجل : (فَبايِعْهُنَ) المعنى : إذا بايعنك على هذه الشّرائط فبايعهنّ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود.

(١٤٤٠) وذلك أنّ ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين ، يتقرّبون إليهم بذلك ليصيبوا من ثمارهم وطعامهم ، فنزلت هذه الآية.

قوله عزوجل : (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) وذلك أنّ اليهود بتكذيبهم محمّدا ، وهم يعرفون صدقه قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير ، والمعنى : قد يئسوا من ثواب الآخرة ، هذا قول الجمهور ، وهو الصّحيح.

وقال قتادة : قد يئسوا أن يبعثوا ، (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) فيه قولان : أحدهما : كما يئس الكفّار ، من بعث من في القبور ، قاله ابن عباس. والثاني : كما يئس الكفّار الذين ماتوا من ثواب الآخرة ، لأنهم أيقنوا بالعذاب ، قاله مجاهد.

____________________________________

وأخرجه البخاري ٧٢١٥ والطبراني ٢٥ / (١٣٣) والبيهقي ٤ / ٦٢ من طريق عبد الوارث بهذا الإسناد.

وأخرجه مسلم ٩٣٦ ح ٣٣ وأحمد ٦ / ٤٠٧ وابن أبي شيبة ٣ / ٣٨٩ والحاكم ١ / ٣٨٣ وابن حبان ٣١٤٥ والطبراني ٢٥ / (١٣٦) والبيهقي ٤ / ٦٢ من طرق عن أبي معاوية عن عاصم عن حفصة به. وأخرجه النسائي ٧ / ١٤٨ ـ ١٤٩ وأحمد ٦ / ٤٠٨ والطبري ٣٤٠٢٠ من طريق عن محمد بن سيرين عن أم عطية بنحوه.

(١٤٣٩) مرسل. أخرجه ابن أبي شيبة كما في «الدر» ٦ / ٣١٥ عن زيد بن أسلم مرسلا.

وورد من مرسل الضحاك بنحوه ، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٦ / ٣١٤.

(١٤٤٠) ذكره الواحدي في «الأسباب» ٨١٦ بدون إسناد ولا عزو لأحد ، فهو لا شيء ، وليس له أصل.


سورة الصّف

ويقال لها : سورة الحواريين ؛ وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، قاله ابن عباس : والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والجمهور. والثاني : مكيّة ، قاله ابن يسار.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))

قوله عزوجل : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) في سبب نزولها خمسة أقوال (١) :

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٨٠ : وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عني بها الذين قالوا : لو عرفنا أحب الأعمال إلى الله لعملنا به ، ثم قصروا بالعمل بعد ما عرفوا.

فائدة : قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٢٢ : وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) إنكار على من يعد عدّة ، أو يقول قولا لا يفي به ، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا ، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» ولهذا أكّد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ).

وقال ابن العربي في «الأحكام» ٤ / ٢٤١ ـ ٢٤٢ : إن من التزم شيئا لزمه شرعا ، والملتزم على قسمين :

أحدهما : النذر ، وهو على قسمين : نذر تقرب مبتدأ ، كقوله : لله علي صوم وصلاة وصدقة ، ونحوه من التقرب ، فهذا يلزمه الوفاء به إجماعا. ونذر مباح ، وهو ما علّق بشرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة. أو علّق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله : إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا ، لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان ، من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه : إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. هذا وإن كان من جنس القربة ، لكنه لم يقصد به القربة ، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل.

قلنا : القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب ، كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا ، فهذا لازم إجماعا


(١٤٤١) أحدها : ما روى أبو سلمة عن عبد الله بن سلام ، قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلنا : لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله عزوجل عملناه ، فأنزل الله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلى آخر السّورة.

(١٤٤٢) والثاني : أنّ الرجل كان يجيء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : فعلت كذا وكذا ، وما فعل ، فنزلت (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) رواه عكرمة عن ابن عباس ، وكذلك قال الضّحّاك : كان الرجل يقول : قاتلت ، ولم يقاتل ، وطعنت ، ولم يطعن ، وصبرت ولم يصبر ، فنزلت هذه الآية.

(١٤٤٣) والثالث : أنّ ناسا من المسلمين كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد : وددنا أنّ الله تعالى دلّنا على أحبّ الأعمال إليه ، فلما نزل الجهاد ، كرهه ناس من المؤمنين ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

(١٤٤٤) والرابع : أنّ صهيبا قتل رجلا يوم بدر ، فجاء رجل فادّعى أنه قتله وأخذ سلبه ، فقال صهيب : أنا قتلته يا رسول الله ، فأمره أن يدفع سلبه إلى صهيب ، ونزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن المسيّب عن صهيب.

(١٤٤٥) والخامس : أنّ المنافقين كانوا يقولون للنبيّ وأصحابه : لو قد خرجتم خرجنا معكم ، ونصرناكم. فلما خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نكصوا عنه ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) قال الزّجّاج : «مقتا» منصوب على التمييز ، والمعنى : كبر

____________________________________

(١٤٤١) صحيح. أخرجه أحمد ٥ / ٤٥٢ والترمذي ٣٣٠٩ والحاكم ٢ / ٤٨٧ و ٢٢٩ والدارمي ٢ / ٢٠٠ من حديث عبد الله بن سلام ، صححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا ، فقد رووه من طرق عدة ، راجع كلام الترمذي ، وقال الحافظ : هو أصح حديث مسلسل. راجع «الفتح» ٨ / ٦٤١. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٠٢ و«الجامع لأحكام القرآن» ٥٩٢٢ بتخريجنا.

(١٤٤٢) عزاه المصنف لعكرمة عن ابن عباس ، ولم أقف عليه بهذا اللفظ. وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٦ / ٤١٧ عن ابن عباس بنحوه. وورد عن أبي صالح مرسلا ، أخرجه الطبري ٣٤٠٤٤ وعبد بن حميد كما في «الدر» ٦ / ٤١٧ ، وورد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٤٠٤٦ وعن الضحاك ٣٤٠٤٨.

(١٤٤٣) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٤٠٤٢ عن علي عن ابن عباس به ، وإسناده ضعيف لانقطاعه بين علي بن أبي طلحة وابن عباس.

(١٤٤٤) قال الحافظ في «تخريجه» ٤ / ٥٢٢ : أخرجه الثعلبي من حديث صهيب قال : «كان رجل يوم بدر آذى المسلمين ، ونكا فيهم فقتله صهيب فقال رجل : يا رسول الله قتلت فلان ، ففرح بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب : أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك الحديث ... اه. قلت : وما ينفرد به الثعلبي فهو ضعيف أو منكر ، حتى الواحدي لم يذكره لا في «أسباب النزول» ولا في «الوسيط» ، ولا ذكره السيوطي في «الدر» ٦ / ٣١٧ ـ ٣١٨.

(١٤٤٥) باطل. أخرجه الطبري ٣٤٠٤٩ عن ابن زيد ، وهذا معضل ، وابن زيد واه ، والمتن باطل لأن الخطاب في الآية للمؤمنين ، فهذه علل ثلاث.

__________________

من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل : يلزم بمطلقه ، وتعلّقوا بسبب الآية. ـ وهو الحديث الآتي عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام.


قولكم ما لا تفعلون مقتا عند الله. ثم أعلم عزوجل ما الذي يحبّه ، فقال عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي : بنيان لاصق بعضه ببعض ، فأعلم أنه يحبّ من يثبت في الجهاد ، ويلزم مكانه كثبوت البنيان المرصوص. ويجوز أن يكون عنى أن يستوي ثباتهم في حرب عدوّهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وللمفسّرين في المراد ب «المرصوص» قولان : أحدهما : أنه الملتصق بعضه ببعض ، فلا يرى فيه خلل لإحكامه ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه المبنيّ بالرّصاص ؛ وإلى نحو هذا ذهب الفرّاء ، وكان أبو بحريّة يقول : كانوا يكرهون القتال على الخيل ، ويستحبّون القتال على الأرض لهذه الآية. اسم أبي بحريّة : عبد الله بن قيس التّراغمي ، يروي عن معاذ ، وكأنه أشار بذلك إلى أنّ الفرسان لا يصطفّون في الغالب إنما يصطفّ الرّجّالة.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ مُوسى) المعنى : اذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعته بالذين آذوا موسى. وقد ذكرنا ما آذوا به موسى في الأحزاب (١).

قوله عزوجل : (فَلَمَّا زاغُوا) أي : مالوا عن الحقّ (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي : أمالها عن الحقّ جزاء لما ارتكبوه ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزوجل : (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم «من بعدي اسمه» بفتح الياء. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم «من بعدي اسمه» بإسكان الياء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وفيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله مقاتل. والثاني : النّصارى حين قالوا : عيسى ابن الله ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. وقرأ ابن مسعود ، وعاصم الجحدريّ ، وطلحة بن مصرّف وهو «يدّعي إلى الإسلام» بفتح الياء ، والدال ، وتشديدها ، وبكسر العين ، وما بعد هذا في براءة (٢) إلى قوله عزوجل : (مُتِمُّ نُورِهِ) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم وخلف «متمّ نوره» مضاف. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «متمّ» رفع منوّن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)

__________________

(١) الأحزاب : ٦٩.

(٢) التوبة : ٣٢.


يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

قوله عزوجل : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) قال المفسّرون : نزلت هذه الآية حين قالوا : لو علمنا أيّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به أبدا ، فدلّهم الله على ذلك ، وجعله بمنزلة التجارة لمكان ربحهم فيه (١). قوله عزوجل : (تُنْجِيكُمْ) قرأ ابن عامر «تنجّيكم» بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف. ثم بيّن التّجارة ، فقال عزوجل : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إلى قوله عزوجل : (يَغْفِرْ لَكُمْ) فإن قيل : كيف قال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ؛ وقد قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وقد سبق ذلك الجواب عنه بنحو الجواب عن قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (٢) وقد سبق ذلك. قال الزّجّاج : وقوله : «يغفر لكم» جواب قوله : «تؤمنون» «وتجاهدون» ، لأنّ معناه معنى الأمر. والمعنى : آمنوا بالله وجاهدوا ، يغفر لكم ، أي : إن فعلتم ذلك ، يغفر لكم. وقد غلط بعض النّحويين ، فقال : هذا جواب «هل» وهذا غلط بيّن ، لأنه ليس إذا دلّهم على ما ينفعهم غفر لهم ، إنما يغفر لهم إذا عملوا بذلك. ومن قرأ «يغفر لكم» بإدغام الراء في اللام ، فغير جائز عند سيبويه ، والخليل ، لأنه لا تدغم الراء في اللام في قولهم. وقد رويت عن أبي عمرو بن العلاء ، وهو إمام عظيم ، ولا أحسبه قرأها إلّا وقد سمعها من العرب. وقد زعم سيبويه والخليل وجميع البصريين ، ما خلا أبا عمرو ، أنّ اللام تدغم في الراء ، وأنّ الراء لا تدغم في اللام ، وحجّتهم أنّ الراء حرف مكرر قوي ، فإذا أدغمت في اللام ذهب التكرير منها. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزوجل : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) قال الفرّاء : والمعنى : ولكم في العاجل مع ثواب الآخرة أخرى تحبّونها ، ثم فسّرها فقال عزوجل (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) وفيه قولان :

أحدهما : أنه فتح مكّة ، قاله ابن عباس. والثاني : فتح فارس والرّوم ، قاله عطاء.

قوله عزوجل : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : بالنّصر في الدنيا ، والجنّة في الآخرة. ثم حضّهم على نصر دينه ب قوله عزوجل : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) منوّنة. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ «أنصار الله» مضاف ، ومعنى الآية : دوموا على ما أنتم عليه ، وانصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لمّا قال لهم عيسى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) وحرّك نافع ياء «من أنصاري إلى الله» وقد سبق تفسير هذا الكلام.

قوله عزوجل : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بعيسى (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعيسى (عَلى عَدُوِّهِمْ) وهم مخالفو عيسى ، كذلك قال ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور ، وقال مقاتل : تمّ الكلام عند قوله عزوجل : (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) ، (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمّد (عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) بمحمّد على الأديان ، وقال إبراهيم النّخعيّ : أصبح من آمن بعيسى ظاهرين بتصديق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ عيسى كلمة الله وروحه بتعليم الحجّة. قال ابن قتيبة : (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي : غالبين عليهم بمحمّد. من قولك : ظهرت على فلان : إذا علوته ، وظهرت على السّطح : إذا صرت فوقه.

__________________

(١) انظر الحديث المتقدم ١٤٤١ وفيه فأنزل الله : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) إلى آخر السورة وهذه الآية منها.

(٢) النساء : ١٣٦.


سورة الجمعة

وهي مدنية كلّها بإجماعهم وقد سبق شرح فاتحتها (١). وقرأ أبو الدّرداء ، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ ، وعكرمة ، والنّخعيّ ، والوليد عن يعقوب (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) بالرفع فيهن.

فإن قيل : فما الفائدة في إعادة ذكر التسبيح في هذه السورة؟

فالجواب : أنّ ذلك لاستفتاح السّور بتعظيم الله عزوجل ، كما تستفتح ب «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا جلّ المعنى في تعظيم الله ، حسن الاستفتاح به.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) يعني : العرب ، وكانوا لا يكتبون وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة (٢) (رَسُولاً) يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْهُمْ) أي : من جنسهم ونسبهم.

فإن قيل : فما وجه الامتنان في أنه بعث نبيا أميّا (٣)؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : لموافقة ما تقدّمت

__________________

(١) آل عمران : ٥٢.

(٢) البقرة : ٧٨.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٢٨ : الأميون هم العرب ، وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، لكن المنة عليهم أبلغ وآكد ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به ، وكذا قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ، وقوله (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، أي نذرا يسيرا ـ ممن تمسّك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه‌السلام.


البشارة به في كتب الأنبياء. والثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم. والثالث : لئلّا يظنّ به أنه يعلم كتب من قبله. وما بعد هذا في سورة البقرة (١) إلى قوله عزوجل : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) ، أي : وما كانوا قبل بعثه إلّا في (ضَلالٍ مُبِينٍ) بيّن ، وهو الشّرك.

قوله عزوجل : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) فيه قولان : أحدهما : وبعث محمّدا في آخرين منهم ، أي : من الأمّيين. والثاني : ويعلم آخرين منهم ، ويزكّيهم.

وفي المراد بالآخرين أربعة أقوال : أحدها : أنهم العجم ، قاله ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وهي رواية ليث عن مجاهد. فعلى هذا إنما قال : «منهم» ، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم ، إذ المسلمون يد واحدة ، وملّة واحدة. والثاني : أنهم التابعون ، قاله عكرمة ، ومقاتل. والثالث : جميع من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة ، قاله ابن زيد ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع : أنهم الأطفال ، حكاه الماورديّ.

قوله عزوجل (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) : أي : لم يلحقوا بهم.

قوله عزوجل : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) يعني : الإسلام والهدى (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بإرسال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

ثم ضرب لليهود الذين تركوا العمل بالتّوراة مثلا ، فقال عزوجل : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي : كلّفوا العمل بما فيها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي : لم يعملوا بموجبها ، ولم يؤدّوا حقّها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) وهي جمع سفر. والسّفر : الكتاب ، فشبّههم بالحمار لا يعقل ما يحمل ، إذ لم ينتفعوا بما في التّوراة ، وهي دالّة على الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا المثل يلحق من لم يعمل بالقرآن ولم يفهم معانيه (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) ذمّ مثلهم ، والمراد ذمّهم ، واليهود كذّبوا بالقرآن وبالتّوراة حين لم يؤمنوا بمحمّد (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بتكذيب الأنبياء.

قوله عزوجل : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) وذلك أنّ اليهود ، قالوا : نحن ولد إسرائيل الله ، ابن ذبيح الله ، ابن خليل الله ، ونحن أولى بالله عزوجل من سائر الناس ، وإنما تكون النّبوّة فينا. فقال الله عزوجل لنبيّه عليه الصلاة والسلام : (قُلْ) لهم إن كنتم (أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا. وقد بيّنّا هذا وما بعده في البقرة (٢) إلى قوله عزوجل : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) وذلك أنّ اليهود علموا أنهم قد أفسدوا على أنفسهم أمر الآخرة بتكذيبهم محمّدا ،

__________________

(١) البقرة : ١٢٩.

(٢) البقرة : ٩٤.


وكانوا يكرهون الموت ، فقيل لهم : لا بدّ من نزوله بكم بقوله عزوجل : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) ، قال الفرّاء : العرب تدخل الفاء في كلّ خبر كان اسمه مما يوصل ، مثل : «من» و«الذي» فمن أدخل الفاء هاهنا ذهب «بالذي» إلى تأويل الجزاء. وفي قراءة عبد الله «إن الموت الذي تفرّون منه ملاقيكم» وهذا على القياس ، لأنك تقول : إنّ أخاك قائم ، ولا تقول : فقائم ، ولو قلت : إن ضاربك فظالم ، لجاز ، لأنّ تأويله : إنّ رجلا يضربك فظالم. وقال الزّجّاج : إنما جاز دخول الفاء ، لأنّ في الكلام معنى الشرط والجزاء. ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله عزوجل : «تفرّون منه» كأنه قيل : إن فررتم من أي موت كان من قتل أو غيره «فإنه ملاقيكم» وتكون «فإنه» استئنافا بعد الخبر الأول.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠))

قوله عزوجل : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) وهذا هو النداء الذي ينادى به إذا جلس الإمام على المنبر ، ولم يكن في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نداء سواه.

(١٤٤٦) كان إذا جلس على المنبر أذّن بلال على باب المسجد ، وكذلك كان على عهد أبي بكر ، وعمر ، فلما كثر الناس على عهد عثمان أمر بالتأذين الأول على دار له بالسّوق ، يقال لها : «الزّوراء» وكان إذا جلس أذّن أيضا.

قوله عزوجل : (لِلصَّلاةِ) أي : لوقت الصلاة. وفي «الجمعة» ثلاث لغات. ضمّ الجيم والميم ، وهي قراءة الجمهور. وضمّ الجيم مع إسكان الميم ، وبها قرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو رجاء ، وعكرمة ، والزّهري ، وابن أبي ليلى ، وابن أبي عبلة ، والأعمش. وبضمّ الجيم مع فتح الميم ، وبها قرأ أبو مجلز ، وأبو العالية ، والنّخعيّ ، وعديّ بن الفضل عن أبي عمرو. وقال الزّجّاج : من قرأ بتسكين الميم ، فهو تخفيف الجمعة لثقل الضّمتين. وأمّا فتح الميم ، فمعناها : الذي يجمع الناس ، كما تقول : رجل لعنة : يكثر لعنه الناس ، وضحكة : يكثر الضّحك. وفي تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة ثلاثة أقوال : أحدها : أنه فيه جمع آدم.

(١٤٤٧) روى سلمان قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدري ما الجمعة؟» قلت : لا. قال : «فيه جمع أبوك» ، يعني : تمام خلقه في يوم الجمعة.

والثاني : لاجتماع الناس فيه للصلاة. والثالث : لاجتماع المخلوقات فيه ، لأنه اليوم الذي فرغ فيه من خلق الأشياء.

____________________________________

(١٤٤٦) ساقه المصنف بمعناه ، وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري ١٩١٢ و ١٩١٣ وأبي داود ١٠٨٧ و ١٠٨٨ والترمذي ٥١٦ وابن ماجة ١١٣٥ وابن حبان ١٦٧٣ والبيهقي ٣ / ١٩٢ وأحمد ٣ / ٤٥٠ من حديث السائب بن يزيد. وانظر «أحكام القرآن» ٤ / ٢٤٧ و«الجامع لأحكام القرآن» ٥٩٣٩ بتخريجنا.

(١٤٤٧) أخرجه أحمد ٥ / ٤٣٩ والحاكم ١ / ٢٧٧ من حديث سلمان ، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر ، واسمه نجيح. ولصدره شاهد في الصحيح ، ولباقيه شواهد كثيرة.

الخلاصة : أصل الحديث صحيح بشواهده. وانظر «الدر المنثور» ٦ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤.


وفي أول من سمّاها بالجمعة قولان : أحدهما : أنه كعب بن لؤيّ سمّاها بذلك ، وكان يقال ليوم الجمعة : العروبة. قاله أبو سلمة. وقيل : إنما سمّاها بذلك لاجتماع قريش فيه. والثاني : أنّ أول من سمّاها بذلك الأنصار ، قاله ابن سيرين.

قوله عزوجل : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) وفي هذا السّعي ثلاثة أقوال : أحدها : أنه المشي ، قاله ابن عباس. وكان ابن مسعود يقرؤها «فامضوا» ويقول : لو قرأتها «فاسعوا» لسعيت حتى يسقط ردائي. قال عطاء : هو الذهاب والمشي إلى الصلاة.

والثاني : أن المراد بالسّعي : العمل ، قاله عكرمة ، والقرظيّ ، والضّحّاك ، فيكون المعنى : فاعملوا على المضيّ إلى ذكر الله بالتّفرّغ له ، والاشتغال بالطّهارة ونحوها.

والثالث : أنه النّيّة بالقلب ، قاله الحسن. وقال ابن قتيبة : هو المبادرة بالنّيّة والجدّ.

وفي المراد «بذكر الله» قولان : أحدهما : أنه الصلاة ، قاله الأكثرون. والثاني : موعظة الإمام ، قاله سعيد بن المسيّب.

قوله عزوجل : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي : دعوا التّجارة في ذلك الوقت. وعندنا : لا يجوز البيع في وقت النداء ، ويقع البيع باطلا في حقّ من يلزمه فرض الجمعة ، وبه قال مالك خلافا للأكثرين.

فصل : تجب الجمعة على من سمع النداء من المصر ، إذا كان المؤذّن صيّتا ، والريح ساكنة. وقد حدّه مالك بفرسخ ، ولم يحدّه الشّافعي. وعن أحمد في التحديد نحوهما. وتجب الجمعة على أهل القرى. وقال أبو حنيفة : لا تجب إلّا على أهل الأمصار. ويجوز لأهل المصر أن يقيموا الجمعة في الصحراء القريبة من المصر خلافا للشّافعي. ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين. وعن أحمد : أقلّه خمسون. وعنه : أقلّه ثلاثة. وقال أبو حنيفة : تنعقد بثلاثة والإمام ، والعدد شرط في الخطبة. وقال أبو حنيفة في إحدى الرّوايتين : يصحّ أن يخطب منفردا. وهل تجب الجمعة على العبيد؟ فيه عن أحمد روايتان. وعندنا : تجب على الأعمى إذا وجد قائدا ، خلافا لأبي حنيفة. ولا تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين ، خلافا لأبي حنيفة. وهل تجب الجمعة والعيدان من غير إذن سلطان؟ فيه عن أحمد روايتان. وتجوز الجمعة في موضعين في البلد مع الحاجة. وقال مالك ، والشّافعي ، وأبو يوسف : لا تجوز إلّا في موضع واحد. وتجوز إقامة الجمعة قبل الزّوال خلافا لأكثرهم ، وإذا وقع العيد يوم الجمعة أجزأ حضوره عن يوم الجمعة ، وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ ، خلافا للأكثرين ، والمستحبّ لأهل الأعذار أن يصلّوا الظّهر في جماعة. وقال أبو حنيفة : يكره. ولا يجوز السفر يوم الجمعة بعد الزّوال. وقال أبو حنيفة : يجوز. وهل يجوز السفر بعد طلوع الفجر؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان. ونقل عن أحمد رضي الله عنه أنه لا يجوز الخروج في الجمعة إلّا للجهاد. وقال أبو حنيفة : يجوز لكلّ سفر. وقال الشّافعيّ : لا يجوز أصلا.

والخطبة شرط في الجمعة. وقال داود : هي مستحبّة. والطهارة لا تشترط في الخطبة ، خلافا للشّافعي تصحّ في أحد قوليه. والقيام ليس بشرط في الخطبة ، خلافا للشّافعي. ولا تجب القعدة بين الخطبتين ، خلافا له أيضا.

ومن شرط الخطبة : التحميد ، والصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقراءة آية ، والموعظة. وقال أبو حنيفة :


يجوز أن يخطب بتسبيحة.

والخطبتان واجبتان. وأما القراءة في الخطبة الثانية ، فهي شرط ، خلافا للشّافعي.

والسّنّة للإمام إذا صعد المنبر ، واستقبل الناس : أن يسلّم ، خلافا لأبي حنيفة ، ومالك. وهل يحرم الكلام في حال سماع الخطبة؟ فيه عن أحمد روايتان. ويحرم على المستمع دون الخاطب ، خلافا للأكثرين. ولا يكره الكلام قبل الابتداء بالخطبة ، وبعد الفراغ منها ، خلافا لأبي حنيفة.

ويستحبّ له أن يصلي تحية المسجد والإمام يخطب ، خلافا لأبي حنيفة ، ومالك.

وهل يجوز أن يخطب واحد ، ويصلّي آخر ، فيه عن أحمد روايتان.

قوله عزوجل : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : إن كان لكم علم بالأصلح (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي : فرغتم منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا أمر إباحة (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) إباحة لطلب الرّزق بالتجارة بعد المنع منها بقوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) وقال الحسن ، وسعيد بن جبير : هو طلب العلم.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

قوله عزوجل : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً).

(١٤٤٨) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب يوم الجمعة ، إذ أقبلت عير قد قدمت ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلّا اثنا عشر رجلا ، فنزلت هذه الآية.

(١٤٤٩) أخرجه البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث جابر بن عبد الله ، قال الحسن : وذلك أنهم أصابهم جوع ، وغلاء سعر ، فلمّا سمعوا بها خرجوا إليها ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو اتّبع آخرهم أوّلهم التهب عليهم الوادي نارا».

(١٤٥٠) قال المفسّرون : كان الذي قدم بالتجارة دحية بن خليفة الكلبيّ ، قال مقاتل : وذلك قبل

____________________________________

(١٤٤٨) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٩٩ عن حفص بن عمر به من حديث جابر. وأخرجه مسلم ٨٦٣ ح ٣٧ من طريق خالد به. وأخرجه البخاري ٩٣٦ و ٣٠٦٤ و ٣٣٠٨ ومسلم ٨٦٣ وأبو يعلى ١٨٨٨ والطبري ٣٤٣٦ و ٣٤١٤٤ والدار قطني ٢ / ٥ والبيهقي ٣ / ١٩٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٢٠ وابن بشكوال في «غوامض الأسماء» ٨٥١ من طرق عن حصين به. وأخرجه البخاري ٤٨٩٩ ومسلم ٨٦٣. وأخرجه البخاري ٤٨٩٩ ومسلم ٨٦٣ والترمذي ٣٣٠٨ والطبري ٣٤١٤٣ والواحدي ٨١٩ من طرق عن حصين عن أبي سفيان عن جابر به.

(١٤٤٩) عجزه ضعيف. أخرجه الطبري ٣٤٣٧ وعبد الرزاق في «التفسير» ٣٢٢٢ من طريق معمر عن الحسن مرسلا. وأخرجه الطبري ٣٤١٣٤ من طريق سفيان عن إسماعيل السدي عن أبي مالك مرسلا وليس فيه اللفظ المرفوع.

(١٤٥٠) ذكره الواحدي في «الأسباب» ٨٢٠ عن المفسرين. وأخرجه البيهقي في «الشعب» ٦٤٩٥ من طريق بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان مرسلا. وأخرجه أبو داود في «المراسيل» ٥٩ عن مقاتل بن حيان مرسلا بنحوه. وعجزه ضعيف وفيه اللفظ المرفوع فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأحزم الله


أن يسلم. قالوا : قدم بها من الشام ، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومها. وهذه كانت عادتهم إذا قدمت عير. قال جابر بن عبد الله : كانت التجارة طعاما (١). وقال أبو مالك : كانت زيتا (٢). والمراد باللهو : ضرب الطّبل. و (انْفَضُّوا) بمعنى : تفرّقوا عنك ، فذهبوا إليها. والضمير للتجارة. وإنما خصّت بردّ الضمير إليها ، لأنها كانت أهمّ إليهم ، هذا قول الفرّاء ، والمبرّد. وقال الزّجّاج : المعنى : وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها ، أو لهوا انفضّوا إليه ، فحذف خبر أحدهما ، لأنّ الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف. وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «انفضوا إليهما» على التثنية. وعن ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «انفضوا إليه» على ضمير مذكر (وَتَرَكُوكَ قائِماً) وهذا القيام كان في الخطبة (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الصلاة والثبات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده ، ومن يكفر به ويجحده ، فهو يعطي من سأل ، ويبتدئ من لا يسأل ، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ، ويقبل على خدمته.

____________________________________

عليهم الوادي نارا». لكن لعجزه شاهد من : حديث جابر عند أبي يعلى ١٩٧٩ وابن حبان ٦٨٧٧ وفي إسناده زكريا بن يحيى بن زحمويه ذكره ابن حبان في «الثقات» ٨ / ٢٥٣ ، وأورده ابن أبي حاتم في «العلل» ٣ / ٦١ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، فالرجل مجهول. وحديث جابر في هذا الشأن رواه الشيخان كما تقدم بغير هذا السياق ، وليس فيه اللفظ المرفوع فهذه زيادة منكرة ، وتقدم حديث جابر. ويشهد لكون دحية الكلبي قدم بالتجارة ، ما أخرجه بشكوال في «غوامض الأسماء» ص ٨٥٢ والطبري ٣٤١٣٥ من طريق سفيان عن السدي عن مرة مرسلا. وحديث ابن عباس عند البزار ٢٢٧٣ ، وفي إسناده عبد الله بن شبيب ، وهو ضعيف كما في «المجمع» ٧ / ١٣٤.

الخلاصة : أصل الحديث يعتضد بشواهده دون اللفظ المرفوع ، فإنه ضعيف لا يصح.

وانظر «أحكام القرآن» ٢١٢٢.

__________________

(١) انظر الحديث ١٤٤٨ عن جابر بن عبد الله.

(٢) انظر الحديث المتقدم ١٤٤٩.

تنبيه : قال الحافظ في «تخريجه» ٤ / ٥٣٧ رواية الاثني عشر هي المشهورة في «الصحيحين» ولم أقف على رواية أنهم كانوا ثمانية ولا أحد عشر. ورواية الأربعين أخرجها الدار قطني من طريق علي بن عاصم عن حصين ، وقال : لم يقل أحد من أصحاب حصين : أربعون إلا علي بن عاصم ، والكل قالوا : اثني عشر رجلا.

وكذلك قال أبو سفيان عن جابر كما تقدم اه. قلت : رواية الدار قطني هي في «السنن» ٢ / ٤.

وانظر «الكشاف» ٤ / ٥٣٨ بتخريجنا.


سورة المنافقون

وهي مدنيّة بإجماعهم

(١٤٥١) وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ ونظرائه. وكان السبب أنّ عبد الله خرج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع ، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة ، لا للرغبة في الجهاد ، لأن السفر كان قريبا. فلمّا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزاته ، أقبل رجل من جهينة ، يقال له : سنان ، وهو حليف لعبد الله بن أبيّ ، ورجل من بني غفار يقال له : جهجاه بن سعيد ، وهو أجير لعمر بن الخطّاب لاستقاء الماء ، فدار بينهما كلام ، فرفع الغفاريّ يده فلطم الجهنيّ ، فأدماه ، فنادى الجهنيّ : يا آل الخزرج ، فأقبلوا ، ونادى الغفاريّ : يا آل قريش ، فأقبلوا ، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين. فبلغ الخبر عبد الله بن أبيّ ، فقال وعنده جماعة من المنافقين : والله ما مثلكم ومثل هؤلاء الرّهط من قريش إلّا مثل ما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك ، ولكن هذا فعلكم بأنفسكم ، آويتموهم في منازلكم ، وأنفقتم عليهم أموالكم ، فقووا وضعفتم. وايم الله : لو أمسكتم أيديكم لتفرّقت عن هذا جموعه ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، وكان في القوم زيد بن أرقم ، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له ، فقال لعبد الله : أنت والله الذّليل القليل ، فقال : إنما كنت ألعب ، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر : دعني أضرب عنقه. فقال : إذن ترعد له آنف كبيرة ، قال : فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين ، فمر سعد بن عبادة ، أو محمّد بن مسلمة ، أو عبّاد بن بشر فيقتله ، فقال : إذن يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبد الله بن أبيّ ، فأتاه ، فقال : أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال : والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا ، وإنّ زيدا لكذّاب ، فقال من حضر : لا يصدق عليه كلام غلام ، عسى الله أن يكون قد وهم ، فعذره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفشت الملامة في الأنصار لزيد ، وكذّبوه ، وقال له عمّه : ما أردت إلّا أن كذّبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، ومقتوك!

____________________________________

(١٤٥١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر ٨٢١ نقلا عن أهل التفسير ، وأصحاب السير. وأخرجه الطبري ٣٤١٧٨ من طريق محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة عن عبد الله بن أبي بكر ، وعن محمد بن يحيى بن حيان قال : كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق قالوا : بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ... فذكره مع اختلاف يسير. وأصل الخبر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم. أخرجه البخاري ٤٩٠٠ و ٤٩٤ ومسلم ٢٧٧٢ والترمذي ٢٣١٢ و ٢٣١٣ والنسائي في «التفسير» ٦١٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٢١ و«الوسيط» ٤ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤. أما عجزه فقد أخرجه الطبري ٣٤١٥٩ عن بشير بن مسلم ... فذكره بأحضر منه.

الخلاصة : عامة هذا السياق محفوظ بطرقه وشواهده.


فاستحيا زيد ، وجلس في بيته. فبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ ، لما بلغك عنه. فإن كنت فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فإني أخشى أن يقتله غيري ، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله ، فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل تحسن صحبته ما بقي معنا» ، وأنزل الله سورة المنافقين في تصديق زيد ، وتكذيب عبد الله ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زيد فقرأها عليه ، وقال : إنّ الله قد صدّقك. ولمّا أراد عبد الله بن أبيّ أن يدخل المدينة جاء ابنه ، فقال : ما وراءك ، قال : ما لك ويلك؟ قال : لا والله لا تدخلها أبدا إلّا بإذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتعلم اليوم من الأعزّ ، ومن الأذلّ. فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما صنع ابنه ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن خلّ عنه حتى يدخل ، فلمّا نزلت السّورة وبان كذبه قيل له : يا أبا حباب : إنه قد نزلت فيك آيات شداد ، فاذهب إلى رسول الله ليستغفر لك ، فلوى به رأسه ، فلذلك قوله عزوجل : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) وقيل : إنّ الذي قال له هذا عبادة بن الصّامت.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

قوله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) يعني : عبد الله بن أبيّ وأصحابه (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وهاهنا تمّ الخبر عنهم. ثم ابتدأ فقال عزوجل : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) وإنما جعلهم كاذبين ، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا (١). قال الفرّاء : إنما كذب ضميرهم. (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قد ذكرناه في المجادلة (٢). قال القاضي أبو يعلى : وهذه الآية تدلّ على أنّ قول القائل : «أشهد» يمين. لأنهم قالوا : «نشهد» فجعله يمينا بقوله عزوجل : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) وقد قال أحمد ، والأوزاعي ، والثّوريّ ، وأبو حنيفة : أشهد ، وأقسم ، وأعزم ، وأحلف ، كلّها أيمان. وقال الشّافعيّ : «أقسم» ليس بيمين. وإنما قوله : «أقسم بالله» يمين إذا أراد اليمين.

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ٢٥٦ : الشهادة تكون بالقلب ، وتكون باللسان ، وتكون بالجوارح ، فأما شهادة القلب فهو الاعتقاد أو العلم على رأي قوم ، والعلم على رأي آخرين ، والصحيح عندي أنه الاعتقاد والعلم. وأما شهادة اللسان فبالكلام ، وهو الركن الظاهر من أركانها ، وعليه تنبني الأحكام ، وتترتب الأعذار والاعتصام. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» متفق عليه.

وقال ابن العربي في «الأحكام» ٤ / ٢٥٧ : قال بعض الشافعية : إن قول الشافعي : إن الرجل إذا قال في يمينه ـ أشهد بالله يكون يمينا بنية اليمين ، ورأى أبو حنيفة ومالك أنه دون النية يمين ، ولا أرى المسألة إلا هكذا في أصلها. وقد قال مالك ، إذا قال الرجل : أشهد : إنه يمين إذا أراد بالله.

(٢) المجادلة : ١٦.


قوله تعالى : (ذلِكَ) أي : ذلك الكذب (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) باللسان (ثُمَّ كَفَرُوا) في السّرّ (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) الإيمان والقرآن (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) يعني : أنّ لهم أجساما ومناظر.

(١٤٥٢) قال ابن عباس : كان عبد الله بن أبيّ جسيما فصيحا ، ذلق (١) اللسان ، فإذا قال ، سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله. وقال غيره : المعنى : يصغي إلى قولهم ، فيحسب أنه حقّ (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : وحمزة : «خشب» بضمّ الخاء ، والشين جميعا ، وهو جمع خشبة. مثل ثمرة ، وثمر. وقرأ الكسائيّ : خشب بضمّ الخاء ، وتسكين الشين ، مثل : بدنة ، وبدن ، وأكمة ، وأكم. وعن ابن كثير ، وأبي عمرو ، مثله. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وعروة ، وابن سيرين : «خشب» بفتح الخاء ، والشين جميعا. وقرأ أبو نهيك ، وأبو المتوكّل ، وأبو عمران خشب بفتح الخاء ، وإسكان الشين ، فوصفهم الله بحسن الصّور ، وإبانة النّطق ، ثم أعلم أنهم في ترك التفهّم والاستبصار بمنزلة الخشب. والمسنّدة : الممالة إلى الجدار. والمراد : أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي ، بل هي خشب مسنّدة إلى حائط. ثم عابهم بالجبن فقال عزوجل : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي : لا يسمعون صوتا إلّا ظنّوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرّعب أن يكشف الله أسرارهم ، وهذه مبالغة في وصفهم بالجبن. وأنشدوا في هذا المعنى :

ولو أنّها عصفورة لحسبتها

مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما (٢)

أي : لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين.

قوله عزوجل : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) أن تأمنهم : ولا تأمنهم على سرّك ، لأنهم عيون لأعدائك من الكفّار. (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) مفسّر في براءة (٣).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

قوله عزوجل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) قد بيّنّا سببه في نزول السّورة (٤) (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) وقرأ نافع ، والمفضّل عن عاصم ، ويعقوب : «لووا» بالتخفيف. واختار أبو عبيد التشديد.

____________________________________

(١٤٥٢) هو بعض حديث ، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» ٦ / ٣٣٦ عن ابن عباس بنحوه. ولم أقف على إسناده ، لكن لا ريب أن ابن سلول هو أحد المرادين بهذه الآية.

__________________

(١) ذلق اللسان : طلق اللسان.

(٢) البيت للعوام بن شوذب الشيباني وهو في «معجم الشعراء» ٣٠٠ و«اللسان» ـ زنم ـ وأزنم : بطن من بني يربوع.

(٣) التوبة : ٣٠.

(٤) انظر الحديث المتقدم ١٤٥١.


وقال : لأنهم فعلوا ذلك مرّة بعد مرّة. قال مجاهد : لمّا قيل لعبد الله بن أبيّ : تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه ، وقال : ماذا قلت؟ وقال مقاتل : عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. وقال الفرّاء : حرّكوها استهزاء بالنبيّ وبدعائه.

قوله عزوجل : (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي : يعرضون عن الاستغفار. (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي : متكبّرون عن ذلك. ثم ذكر أنّ استغفاره لهم لا ينفعهم ، ب قوله عزوجل : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) وقرأ أبو جعفر : «آستغفرت» بالمدّ.

قوله عزوجل : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) قد بيّنّا أنه قول ابن أبيّ. و (يَنْفَضُّوا) بمعنى : يتفرّقوا (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال المفسّرون : خزائن السموات : المطر ، وخزائن الأرض : النبات. والمعنى : أنه هو الرّزّاق لهؤلاء المهاجرين ، لا أولئك ، (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يعلمون أنّ الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا) أي من هذه الغزوة. وقد تقدّم ذكرها وهذا قول ابن أبيّ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) يعني : نفسه ، وعنى ب (الْأَذَلَ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الحسن : «لنخرجنّ» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعزّ» بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناء على جواز تعريف الحال. أو زيادة «أل» فيه أو بتقدير «مثل» المعنى : لنخرجنّه ذليلا على أيّ حال ذلّ. والكلّ نصبوا «الأذلّ» فردّ الله عزوجل عليه فقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) وهي : المنعة والقوّة (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بإعزاز الله ونصره إيّاهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

قوله عزوجل : (لا تُلْهِكُمْ) أي : لا تشغلكم.

في المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال : أحدها : طاعة الله في الجهاد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : الصلاة المكتوبة ، قاله عطاء ، ومقاتل. والثالث : الفرائض من الصلاة ، وغيرها ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنه على إطلاقه. قال الزّجّاج : حضّهم بهذا على إدامة الذّكر.

قوله عزوجل : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) في هذه النّفقة ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه زكاة الأموال ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها النّفقة في الحقوق الواجبة بالمال ، كالزّكاة والحجّ ، ونحو ذلك ، وهذا

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٢٥٩ : أخذ ابن عباس بعموم الآية في الإنفاق الواجب خاصة دون النفل. وهو الصحيح. لأن الوعيد إنما يتعلق بالواجب دون النفل. وأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما ، وأما القول في الحج على الفور ففيه إشكال ، لأنا إن قلنا : إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل أدائه خلاف بين العلماء ، لا تخرّج الآية عليه.

ـ وإن قلنا : إن الحج على الفور فالآية على العموم صحيح ، لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.


المعنى مرويّ عن الضّحّاك. والثالث : أنه صدقة التطوّع ، ذكره الماورديّ. فعلى هذا يكون الأمر ندبا ، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب.

قوله عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) قال الزّجّاج : أي : من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميّت.

قوله عزوجل : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) أي : هلّا أخّرتني (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدّق ويزكّي ، وهو قوله عزوجل : (فَأَصَّدَّقَ) قال أبو عبيدة : «فأصدق» نصب ، لأنّ كلّ جواب بالفاء للاستفهام منصوب. تقول : من عندك فآتيك. هلّا فعلت كذا فأفعل كذا ، ثم تبعتها (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بغير واو. وقال أبو عمرو : إنما هي ، وأكون ، فذهبت الواو من الخطّ. كما يكتب أبو جاد ، أبجد ، هجاء ، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكون» بالواو ، ونصب النون. والباقون يقرءون «وأكن» بغير واو. قال الزّجّاج : من قرأ «وأكون» فهو على لفظ فأصّدّق. ومن جزم «أكن» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى : إن أخّرتني أصدّق وأكن. وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصّدّق» أي : أزكّي مالي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : أحجّ مع المؤمنين ، وقال في قوله عزوجل : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) والمعنى : بما تعملون ، وقرأ أبو بكر عن عاصم يعملون بالياء والباقون بالتاء ، من التكذيب بالصّدقة. قال مقاتل : يعني : المنافقين. وروى الضّحّاك عن ابن عباس ، ما من أحد يموت ، قد كان له مال لم يزكّه ، وأطاق الحجّ فلم يحجّ ، إلّا سأل الله الرّجعة عند الموت ، فقالوا له : إنما يسأل الرّجعة الكفّار ، فقال : أنا أتلو عليكم به قرآنا ، ثم قرأ هذه الآية.


سورة التغابن

وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، قاله الجمهور ، منهم ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة. والثاني : أنها مكيّة ، قاله الضّحّاك ، وقال عطاء بن يسار : هي مكيّة إلّا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) واللّتان بعدها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

وقد سبق تفسير فاتحتها إلى قوله عزوجل : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) وفيه قولان (١) :

أحدهما : أنّ الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ، رواه الوالبي عن ابن عباس. والأحاديث تعضد هذا القول.

(١٤٥٣) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق فرعون في بطن أمّه كافرا ، وخلق يحيى بن زكريّا في بطن أمّه مؤمنا».

(١٤٥٤) وقوله : «فيؤمر الملك بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد».

____________________________________

(١٤٥٣) أخرجه اللالكائي في «السنة» ١٣٠ / ١ ـ ٢ وأبو نعيم في «أخبار أصفهان» ٢ / ١٩٠ من حديث ابن مسعود ، وفيه نصر بن طريف ، وهو متروك. وأخرجه ابن عدي ١ / ٣٠٤ والطبراني ١٠٥٤٣ من وجه آخر ، وفيه أبو هلال الراسبي ، وهو غير قوي والحديث بهذا اللفظ غير قوي.

(١٤٥٤) صحيح. وهو قطعة من حديث طويل عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أخرجه البخاري ٦٥٩٤ و ٧٤٥٤ ومسلم ٢٦٤٣ ، وأبو داود ٤٧٠٨ والترمذي ٢١٣٧ وابن ماجة ٧٦ وابن حبان ٦١٧٤ وأحمد ١ / ٤١٤ و ٤٣٠.

وانظر «تفسير القرطبي» ٥٩٩٥ بتخريجنا.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ١٢٠ : وقال الزجاج : ـ وهو أحسن الأقوال ، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة ـ : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أنّ الله خالق الكفر ، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان.


والثاني : أنّ تمام الكلام عند قوله عزوجل : (خَلَقَكُمْ) ثم وصفهم ، فقال عزوجل : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال : أحدها : فمنكم كافر يؤمن ، ومنكم مؤمن يكفر ، قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني : فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة ، ومنكم مؤمن في حياته كافر في العاقبة ، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب ، قاله عطاء بن أبي رباح ، وعنى بذلك شأن الأنواء. والرابع : فمنكم كافر بالله خلقه ، ومؤمن بالله خلقه ، حكاه الزّجّاج ، والكفر بالخلق مذهب الدّهريّة ، وأهل الطبائع. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزوجل : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) قال الزّجّاج : أي : خلقكم أحسن الحيوان كلّه. وقرأ الأعمش «صوركم» بكسر الصاد. ويقال في جمع الصورة : صور ، وصور ، وصور ، كما يقال في جمع لحية : لحى ، ولحى. وذكر ابن السّائب أنّ معنى (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أحكمها. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) روى المفضّل عن عاصم «يسرّون» و«يعلنون» بالياء فيهما (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) هذا خطاب لأهل مكّة خوّفهم ما نزل بالكفّار قبلهم ، فذلك قوله عزوجل : (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي : جزاء أعمالهم ، وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (ذلِكَ) الذي أصابهم (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فينكرون ذلك ، ويقولون : (أَبَشَرٌ) أي : ناس مثلنا (يَهْدُونَنا) والبشر اسم جنس معناه الجمع ، وإن كان لفظه واحدا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإيمان (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم وعبادتهم.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

قوله عزوجل : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كان ابن عمر يقول : «زعموا» كناية الكذب. وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل : زعم فلان.

قوله عزوجل : (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعني : البعث (وَالنُّورِ) هو القرآن ، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء.


قوله عزوجل : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) هو منصوب بقوله تعالى : (لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة. وسمّي بذلك لأنّ الله تعالى يجمع فيه الجنّ والإنس ، وأهل السماء ، وأهل الأرض. قوله : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) تفاعل من الغبن ، وهو فوت الحظّ. والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التّغابن فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنّة ، فيرث ذلك المؤمن ، فيغبن حينئذ الكافر ، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : غبن أهل الجنّة أهل النّار ، قاله مجاهد ، والقرظي. والثالث : أنه يوم غبن المظلوم الظالم ، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبونا ، فصار في الآخرة غابنا ، ذكره الماورديّ. والرابع : أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان ، ذكره الثّعلبيّ. قال الزّجّاج : وإنما ذكر ذلك مثلا للبيع والشراء ، كقوله عزوجل : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) (١) ، وقوله عزوجل : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) (٢) وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزوجل : (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) قرأ نافع ، وابن عامر ، والمفضّل عن عاصم «نكفر» «وندخله» بالنون فيهما. والباقون : بالياء (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال ابن عباس : بعلمه وقضائه. قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) فيه ستة أقوال : أحدها : يهد قلبه لليقين ، فيعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من قبل الله تعالى ، فيسلّم ، ويرضى. والثاني : يهد قلبه للاسترجاع ، وهو أن يقول : إنّا لله ، وإنّا إليه راجعون ، قاله مقاتل. والثالث : أنه إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر ، قاله ابن السّائب ، وابن قتيبة. والرابع : يهد قلبه ، أي : يجعله مهتديا ، قاله الزّجّاج. والخامس : يهد وليّه بالصبر والرضى ، قاله أبو بكر الورّاق. والسادس : يهد قلبه لاتّباع السّنّة إذا صحّ إيمانه ، قاله أبو عثمان الحيري. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وعاصم الجحدريّ ، وأبو نهيك : «يهد» بياء مفتوحة. ونصب الدال «قلبه» بالرفع. قال الزّجّاج : هذا من هدأ يهدأ : إذا سكن. فالمعنى : إذا سلّم لأمر الله سكن قلبه. وقرأ عثمان بن عفّان ، والضّحّاك ، وطلحة بن مصرّف ، والأزرق عن حمزة : «نهد» بالنون. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، عليه‌السلام وأبو عبد الرّحمن : «يهد قلبه» بضمّ الياء ، وفتح الدال «قلبه» بالرفع. وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزوجل : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ).

(١٤٥٥) سبب نزولها أنّ الرجل كان يسلم. فإذا أراد الهجرة منعه أهله ، وولده ، وقالوا : ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال. فمنهم من يرقّ لهم ، ويقيم فلا يهاجر ، فنزلت هذه الآية. فلما هاجر أولئك ، ورأوا الناس فقد فقهوا في الدّين همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) إلى آخر الآية ، هذا قول ابن عباس. وقال الزّجّاج : لمّا أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم ، وأولادهم : قد صبرنا لكم على مفارقة الدّين ولا

____________________________________

(١٤٥٥) حسن. أخرجه الترمذي ٣٣١٧ والحاكم ٢ / ٤٩٠ والطبري ٣٤١٩٨ من حديث ابن عباس ، صححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حسن صحيح. مع أنه من رواية سماك عن عكرمة وفيه ضعف ، وورد من وجه آخر ، أخرجه الطبري ٣٤٢٠٠ ، وفيه عطية العوفي واه. وانظر تفسير القرطبي ٦٠٠١ بتخريجنا. وانظر أيضا «أحكام القرآن» ٢١٣١ فقد استوفيت فيه الكلام عليه.

__________________

(١) البقرة : ١٦.

(٢) الصف : ١٠.


نصبر لكم على مفارقتكم ، ومفارقة الأموال ، والمساكن ، فأعلم الله عزوجل أنّ من كان بهذه الصورة ، فهو عدوّ ، وإن كان ولدا ، أو كانت زوجة. وقال مجاهد : كان حبّ الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربّه. وقال قتادة : كان من أزواجهم ، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام ، ويثبّطهم عنه ، فخرج في قوله عزوجل : (عَدُوًّا لَكُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : بمنعهم من الهجرة ، وهذا على قول ابن عباس. والثاني : بكونهم سببا للمعاصي ، وهذا على قول مجاهد. والثالث : بنهيهم عن الإسلام ، وهذا على قول قتادة.

قوله عزوجل : (فَاحْذَرُوهُمْ) قال الفرّاء : لا تطيعوهم في التّخلّف.

قوله عزوجل : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي : بلاء وشغل عن الآخرة. فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلّا من عصمه الله. وقال ابن قتيبة : أي : إغرام. يقال : فتن فلان بالمرأة ، وشغف بها ، أي : أغرم بها. وقال أهل المعاني : إنما دخل «من» في قوله عزوجل : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) لأنه ليس كلّ الأزواج ، والأولاد أعداء. ولم يذكر «من» في قوله عزوجل : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنها لا تخلو من الفتنة ، واشتغال القلب بها.

(١٤٥٦) وقد روى بريدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يخطب ، فجاء الحسن ، والحسين ، عليهما‌السلام ، عليهما قميصان أحمران يمشيان ، ويعثران ، فنزل من المنبر ، فحملهما ، فوضعهما بين يديه ثم قال : «صدق الله عزوجل : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت إلى هذين الصّبيين يمشيان ، ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ، ورفعتهما».

قوله عزوجل : (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : ثواب جزيل ، وهو الجنّة. والمعنى : لا تعصوه بسبب الأولاد ، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي : ما أطقتم (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به (وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) وفي هذه النّفقة ثلاثة أقوال : أحدها : الصّدقة ، قاله ابن عباس. والثاني : نفقة المؤمن على نفسه ، قاله الحسن. والثالث : النّفقة في الجهاد ، قاله الضّحّاك. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) حتى يعطي حقّ الله في ماله. وقد تقدّم بيان هذا في سورة الحشر وما بعده سبق بيانه إلى آخر السّورة (١).

____________________________________

(١٤٥٦) حسن. أخرجه الترمذي ٣٧٧٤ والحاكم ١ / ٢٨٧ وابن حبان ٦٠٣٩ والبيهقي ٣ / ٢١٨ من طرق عن علي بن الحسين بن واقد به. عن بريدة مرفوعا. وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، مع أن علي بن الحسين روى له مسلم في المقدمة فقط لكنه توبع. وأخرجه أبو داود ١١٠٩ والنسائي ٣ / ١٠٨ و ١٩٢ وابن ماجة ٣٦٠٠ وابن أبي شيبة ٨ / ٣٦٨ و ١٢ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠ وأحمد ٥ / ٣٥٤ وابن خزيمة ١٠٨٢ وابن حبان ٦٠٣٨ والبيهقي ٦ / ١٦٥ من حديث بريدة.

وانظر «أحكام القرآن» و«الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٠٥.

__________________

(١) البقرة : ٢٤٥ ، والحديد : ١١ ـ ١٨ ، والحشر : ٢٣ ـ ٢٤.


سورة الطّلاق

وتسمّى سورة النّساء القصرى ، وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) قال الزّجّاج : هذا خطاب للنبيّ عليه‌السلام. والمؤمنون داخلون معه فيه. ومعناه : إذا أردتم طلاق النّساء ، كقوله عزوجل : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١). وفي سبب نزول هذه الآية قولان :

(١٤٥٧) أحدهما : أنها نزلت حين طلّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة ، وقيل له : راجعها ، فإنّها صوّامة

____________________________________

(١٤٥٧) ذكر نزول هذه الآية ضعيف ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة صحيح ، وباقيه حسن صحيح. أخرجه الطبري ٣٤٢٤٤ عن قتادة مرسلا بهذا السياق. ووصله ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ٤٤٥ بذكر أنس ، وفي إسناده أسباط بن محمد ، غير قوي ، والمرسل أصح. فقد أخرجه ابن سعد ٨ / ٦٧ عن قتادة مرسلا ، وليس فيه ذكر نزول الآية.

وللحديث شواهد دون ذكر نزول الآية منها :

١ ـ مرسل قيس بن زيد ، أخرجه ابن سعد ٨ / ٦٧ ورجاله ثقات.

٢ ـ مرسل مخرمة بن بكير عن أبيه ، أخرجه ابن سعد ٨ / ٦٧ وفيه الواقدي واه.

٣ ـ مرسل ابن سيرين ، أخرجه ابن سعد ٨ / ٦٨ وفيه الواقدي.

٤ ـ حديث أنس ولفظه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طلق حفصة أمر أن يراجعها» ، أخرجه ابن سعد ٨ / ٦٧ وإسناده على شرط الشيخين.

٥ ـ حديث ابن عباس عن عمر ولفظه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها».

أخرجه ابن سعد ٨ / ٦٧ وأبو داود ٢٢٨٣ والنسائي ٦ / ٣١٣ وإسناده حسن.

الخلاصة : كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة صحيح ، وأما نزول الآية في ذلك ، فضعيف ، وأما عجزه ، فهو حسن صحيح. والله تعالى أعلم. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ٢١٣٨ و«فتح القدير» للشوكاني ٢٥٣٢.

__________________

(١) المائدة : ٦.


قوّامة ، وهي من إحدى زوجاتك في الجنّة ، قاله أنس بن مالك.

(١٤٥٨) والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن عمر ، وذلك أنه طلّق امرأته حائضا ، فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، قاله السّدّيّ.

قوله عزوجل : (لِعِدَّتِهِنَ) أي : لزمان عدّتهنّ ، وهو الطّهر. وهذا للمدخول بها ، لأنّ غير المدخول بها لا عدّة عليها. والطّلاق على ضربين (١) : سنّيّ ، وبدعيّ.

فالسّنّيّ : أن يطلّقها في طهر لم يجامعها فيه ، فذلك هو الطّلاق للعدّة ، لأنها تعتدّ بذلك الطّهر من عدّتها ، وتقع في العدّة عقيب الطلاق ، فلا يطول عليها زمان العدّة.

والطّلاق البدعيّ : أن يقع في حال الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ، فهو واقع ، وصاحبه آثم.

____________________________________

(١٤٥٨) لا أصل له ، وحديث ابن عمر متفق عليه كما سيأتي ، وليس فيه أن الآية نزلت فيه.

وحديث ابن عمر دون ذكر نزول الآية صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٠٨ و ٥٢٥١ و ٥٢٥٢ و ٥٣٣٣ و ٧١٦٠ ومسلم ١٤٧١ وأبو داود ٢١٧٩ و ٢١٨١ والترمذي ١١٧٦ والنسائي ٦ / ٢١٢ ـ ٢١٣ ومالك ٢ / ٥٧٦ والشافعي ٢ / ٣٢ ـ ٣٣ والطيالسي ١٨٥٣ وابن أبي شيبة ٥ / ٢ ـ ٣ وأحمد ٢ / ٦٣ وابن حبان ٤٢٦٣ وابن الجارود ٧٣٤ والدارقطني ٤ / ٧ والبغوي ٢٢٢٠ والبيهقي ٧ / ٤٢٤ من طرق من حديث ابن عمر.

وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ٢١٣٩ بتخريجنا ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ١٣٥ : من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة ، وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة ، وقال سعيد بن المسيب في أخرى : لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة وفي «الصحيحين» حديث ابن عمر المتقدم : وكان ابن عمر طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية عن ابن عمر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هي واحدة». وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قال علماؤنا : طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض ، طاهرا لم يمسها في ذلك الظهر ، ولا تقدمه طلاق في حيض ، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة ، ولو طلقها ثلاثا لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة ، قال الشعبي : يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا : يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه ، ولا تبعه طلاق في عدة ، ولا يكون الطهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق. للحديث المتقدم. وتمسك الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي : «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح» ، فإنه قال : «مره فليراجعها» وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال : أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال : حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لو لا قوله بعد ذلك : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء ، وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا ، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي : إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه ، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له.

قلت : وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدار قطني أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب عليه ذلك.


فإن جمع الطلاق الثلاث في طهر واحد ، فالمنصوص من مذهبنا أنه بدعة.

قوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي : زمان العدّة. وفي إحصائه فوائد. منها : مراعاة زمان الرّجعة ، وأوان النّفقة ، والسّكنى ، وتوزيع الطّلاق على الإقراء إذا أراد أن يطلّق ثلاثا ، وليعلم أنها قد بانت ، فيتزوّج بأختها ، وأربع سواها.

قوله عزوجل : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) أي : فلا تعصوه فيما أمركم به. (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) فيه دليل على وجوب السّكنى. ونسب البيوت إليهنّ ، لسكناهنّ قبل الطلاق فيهنّ ، ولا يجوز لها أن تخرج في عدّتها إلّا لضرورة ظاهرة. فإن خرجت أثمت (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) وفيها أربعة أقوال (١) : أحدها : أنّ المعنى : إلّا أن يخرجن قبل انقضاء المدّة ، فخروجهنّ هو الفاحشة المبيّنة ، وهذا قول عبد الله بن عمر ، والسّدّيّ ، وابن السّائب. والثاني : أنّ الفاحشة : الزنا ، رواه مجاهد ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والشّعبيّ ، وعكرمة ، والضّحّاك. فعلى هذا يكون المعنى : إلّا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ. والثالث : أنّ الفاحشة : أن تبدو على أهله ، فيحلّ لهم إخراجها ، رواه محمّد بن إبراهيم عن ابن عباس. والرابع : أنها إصابة حدّ ، فتخرج لإقامة الحدّ عليها ، قاله سعيد بن المسيّب.

قوله عزوجل : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني : ما ذكر من الأحكام (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) التي بيّنها ، وأمر بها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي : أثم فيما بينه وبين الله تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي : يوقع في قلب الزّوج المحبّة لرجعتها بعد الطّلقة والطّلقتين. وهذا يدل على أنّ المستحبّ في الطّلاق تفريقه ، وأن لا يجمع الثلاث.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

قوله عزوجل : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : قاربن انقضاء العدّة (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وهذا مبيّن في البقرة (٢) (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال المفسّرون : أشهدوا على الطلاق ، أو المراجعة. واختلف العلماء : هل الإشهاد على المراجعة واجب ، أم مستحبّ؟ وفيه عن أحمد روايتان ، وعن الشّافعي قولان ، ثم قال للشهداء : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي : اشهدوا بالحقّ ، وأدّوها على الصحة ، طلبا لمرضاة الله تعالى ، وقياما بوصيّته. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٤٦ : وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة فتخرج من المنزل ، قال : الفاحشة المبينة ، تشمل الزنا كما قاله ابن مسعود وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ومجاهد وعكرمة ، وغيرهم. قال : وتشمل ما إذا نشزت المرأة ، أو بذؤت على أهل الرجل ، وآذتهم في الكلام والفعال ، كما قاله أبيّ بن كعب وابن عباس وغيرهم.

(٢) البقرة : ٢٣٢.


(١٤٥٩) فذكر أكثر المفسّرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر العدوّ ابنا له ، فذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشكا إليه الفاقة ، فقال : اتّق الله ؛ واصبر ، وأكثر من قول : لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، ففعل الرجل ذلك ، فغفل العدوّ عن ابنه ، فساق غنمهم ، وجاء بها إلى المدينة ، وهي أربعة آلاف شاة ، فنزلت هذه الآية.

وفي معناها للمفسّرين خمسة أقوال : أحدها : ومن يتّق الله ينجه من كلّ كرب في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ مخرجه : علمه بأنّ ما أصابه من عطاء أو منع ، من قبل الله ، وهو معنى قول ابن مسعود. والثالث : ومن يتّق الله ، فيطلّق للسّنّة ، ويراجع للسّنّة ، يجعل له مخرجا ، قاله السّدّيّ. والرابع : ومن يتّق الله بالصبر عند المصيبة ، يجعل له مخرجا من النّار إلى الجنّة ، قاله ابن السّائب. والخامس : يجعل له مخرجا من الحرام إلى الحلال ، قاله الزّجّاج. والصحيح أنّ هذا عامّ ، فإنّ الله تعالى يجعل للتّقيّ مخرجا من كلّ ما يضيق عليه. ومن لا يتّقي ، يقع في كلّ شدّة. قال الرّبيع بن خثيم : يجعل له مخرجا من كلّ ما يضيق على الناس (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي : من حيث لا يأمل ، ولا يرجو. قال الزّجّاج : ويجوز أن يكون : إذا اتّقى الله في طلاقه ، وجرى في ذلك على السّنّة ، رزقه الله أهلا بدل أهله. قوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي : من وثق به فيما نابه ، كفاه الله ما أهمّه (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) وروى حفص ، والمفضّل عن عاصم «بالغ أمره» مضاف. والمعنى : يقضي ما يريد ، (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي : أجلا ومنتهى ينتهي إليه ، قدّر الله ذلك كلّه ، فلا يقدّم ولا يؤخّر. قال مقاتل : قد جعل الله لكلّ شيء من الشدة والرّخاء قدرا ، فقدّر متى يكون هذا الغنيّ فقيرا ، وهذا الفقير غنيا.

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

قوله عزوجل : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنها لمّا نزلت عدّة

____________________________________

(١٤٥٩) أخرجه الثعلبي كما في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٥٦ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : «جاء عوف بن مالك الأشجعي فذكره نحوه ، ولم يسم الابن. قال الحافظ في «تخريجه» ٤ / ٥٥٦ : والكلبي متروك متهم ، وهذا الإسناد واه بمرة ، وأبو صالح ضعفه غير واحد. وله شاهد من حديث أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن أبيه نحوه ، أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٦ / ١٠٦ وإسناده منقطع فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. وكرره البيهقي ٦ / ١٠٧ عن أبي عبيدة مرسلا ، وسنده قوي. وله شاهد آخر من حديث جابر أخرجه الحاكم ٢ / ٤٩٢ وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله : بل منكر ، وعباد رافضي جبل ، وعبيد متروك قاله الأزدي اه. وورد عن سالم بن أبي الجعد مرسلا أخرجه الطبري ٣٤٢٨٨. وكرره عن السدي مرسلا ٣٤٢٨٧.

الخلاصة : هو حديث حسن أو يقرب من الحسن وأحسن ما روي فيه حديث ابن مسعود ، ليس له علة إلا الانقطاع ، فهو ضعيف فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، وإذا انضم إليه مرسل سالم ومرسل السدي ، صار حسنا كما هو مقرر في هذا النص لكن في المتن بعض الاضطراب ، لذا قلت : حسن أو يشبه الحسن. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ٢٥٣٦ بتخريجنا.


المطلّقة ، والمتوفّى عنها زوجها في البقرة (١).

(١٤٦٠) قال أبيّ بن كعب : يا رسول الله : إنّ نساء من أهل المدينة يقلن : قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء. قال : «وما هو؟» قال : الصّغار والكبار ، وذوات الحمل ، فنزلت هذه الآية ، قاله عمرو بن سالم.

(١٤٦١) والثاني : لمّا نزل قوله عزوجل : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الآية (٢) قال خلّاد بن النّعمان الأنصاريّ : يا رسول الله ، فما عدّة التي لا تحيض ، وعدّة التي لم تحض ، وعدّة الحبلى؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل. ومعنى الآية : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ، أي : شككتم فلم تدروا ما عدّتهنّ (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) كذلك.

فصل (٣) : قال القاضي أبو يعلى : والمراد بالارتياب هاهنا : ارتياب المخاطبين في مقدار عدّة

____________________________________

(١٤٦٠) أخرجه الحاكم ٢ / ٤٩٢ و ٤٩٣ والواحدي في «أسبابه» ٨٣٠ والبيهقي ٧ / ٤١٤ من حديث أبيّ بن كعب ، صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، مع أن إسناده منقطع عمرو بن سالم لم يسمع أبيّ بن كعب كما في «تهذيب التهذيب» لابن حجر ، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٢٤ بتخريجنا ، وانظر «الدر» ٦ / ٣٥٧.

(١٤٦١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك متهم ، فالخبر لا شيء.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٧ ـ ٢٣٢.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ١٣٤ : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال عني بذلك : إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. فإن حكم عددهن إذا طلقن ، وهن ممن دخل بهن أزواجهن ، فعدتهن ثلاثة أشهر ، وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري الصغار إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول.

وقال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ١٤٦ : المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها : إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها ، منها تسعة أشهر استبراء ، وثلاثة عدة ، فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر ، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. هذا قول الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد تسعة أشهر ، أربعة أشهر وعشرا. فإن كانت المرأة شابة ، استؤني بها هل هي حامل أم لا ، فإن استبان حملها فإن أجلها وصفه. وإن لم يستبن فقال مالك : عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها ، وإن مكثت عشرين سنة ، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر قال الثعلبي : وهذا الأصح في مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه وأما من تأخر حيضها لمرض ، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ : تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها ، تسعة أشهر ثم ثلاثة ، على ما ذكرناه ، فتحل ما لم ترتب بحمل ، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام ، وقال أشهب : لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة ، قال ابن العربي : وهو الصحيح. وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال : قال ابن المسيب : تعتد سنة وهو قول الليث ، وهو مشهور قول


الآيسة والصغيرة كم هو؟ وليس المراد به ارتياب المعتدّات في اليأس من المحيض ، أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية. ولأنه لو أريد بذلك النساء لتوجّه الخطاب إليهنّ ، فقيل : إن ارتبتنّ ، أو ارتبن ، لأنّ الحيض إنما يعلم من جهتهنّ.

وقد اختلف في المرأة إذا تأخّر حيضها لا لعارض كم تجلس؟ فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدّة الحمل ، وهو تسعة أشهر ، ثم ثلاثة. والعدّة : هي الثلاثة التي بعد التّسعة. فإن حاضت قبل السّنة بيوم ، استأنفت ثلاث حيض ، وإن تمّت السّنة من غير حيض ، حلّت ، وبه قال مالك. أبو حنيفة ، والشّافعيّ في الجديد : تمكث أبدا حتى يعلم براءة رحمها قطعا ، وهو أن تصير في حدّ لا يحيض مثلها ، فتعتدّ بعد ذلك ثلاثة أشهر.

قوله عزوجل : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) يعني : عدّتهنّ ثلاثة أشهر أيضا ، لأنه كلام لا يستقلّ بنفسه ، فلا بدّ له من ضمير ، وضميره تقدّم ذكره مظهرا ، وهو العدّة بالشهور. وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض : أنها تعتدّ ثلاثة أشهر. فأمّا من أتى عليها زمان الحيض ، ولم تحض ، فإنها تعتدّ سنة.

قوله عزوجل : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) عامّ في المطلّقات ، والمتوفّى عنهنّ أزواجهنّ ، وهذا قول عمر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي مسعود البدري ، وأبي هريرة ، وفقهاء الأمصار. وقد روي عن ابن عباس أنه قال : تعتدّ آخر الأجلين. ويدلّ على قولنا عموم الآية. وقول ابن مسعود : من شاء لاعنته ، ما نزلت (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) إلّا بعد آية المتوفّى عنها زوجها ، وقول أمّ سلمة :

(١٤٦٢) إنّ سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام ، فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تتزوّج.

قوله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) : فيما أمر به (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) يسهّل عليه أمر الدنيا والآخرة ، وهذا قول الأكثرين. وقال الضّحّاك : ومن يتّق الله في طلاق السّنّة ، يجعل له من أمره يسرا في الرّجعة (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بطاعته (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي : يمح عنه خطاياه (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) في الآخرة.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦)

____________________________________

(١٤٦٢) صحيح. أخرجه البخاري ٥٣١٩ و ٥٣٢٠ ومسلم ١٤٨٤ وأبو داود ٢٣٠٦ والنسائي ٦ / ١٩٤ و ١٩٦ وابن ماجة ٢٠٢٨ ومالك ٢ / ٥٩٠ وأحمد ٦ / ٤٣٢ وابن حبان ٤٢٩٤ وعبد الرزاق ١١٧٢٢ والطبراني ٢٤ / ٧٤٥ ـ ٧٥٠ والبيهقي ٧ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩ من طرق عن الزهري به بألفاظ متقاربة.

___________________

علمائنا. سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها ، وميزت ذلك أو لم تميزه. عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة. وقال الشافعي في أحد أقواله : عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. قال ابن العربي : وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر : المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها اعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر ، وأثبت في القياس والأثر.


لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) و«من» صلة ، قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) قرأ الجمهور بضمّ الواو. وقرأ أبو هريرة ، وأبو عبد الرّحمن ، وأبو رزين ، وقتادة ، وروح عن يعقوب بكسر الواو. وقال ابن قتيبة : أي : بقدر وسعكم. وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة : بفتح الواو. والوجد : المقدرة ، والغنى ؛ يقال : افتقر فلان بعد وجد. قال الفرّاء : يقول : على ما يجد ، فإن كان موسّعا عليه ، وسّع عليها في المسكن والنّفقة ، وإن كان مقتّرا عليه ، فعلى قدر ذلك.

قوله عزوجل : (وَلا تُضآرُّوهُنَ) بالتّضييق عليهنّ في المسكن ، والنّفقة ، وأنتم تجدون سعة. قال القاضي أبو يعلى : والمراد بهذا : المطلّقة الرّجعيّة دون المبتوتة ، بدليل قوله عزوجل : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (٢) فدلّ ذلك على أنه أراد الرّجعيّة.

وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة (٣) : هل لها سكنى ، ونفقة في مدّة العدّة ، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا : أنه لا سكنى لها ولا نفقة ، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة : لها السّكنى ، والنّفقة. وقال مالك والشّافعيّ : لها السّكنى ، دون النّفقة. وقد رواه الكوسج عن الإمام أحمد رضي الله عنه ويدلّ على الأول.

(١٤٦٣) حديث فاطمة بنت قيس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : إنما النّفقة للمرأة على زوجها ما كانت له

____________________________________

(١٤٦٣) صحيح. أخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٣٦ وأبو داود ٢٢٨٤ والنسائي ٦ / ٧٥ ـ ٧٦ وأحمد ٦ / ٤١٢ والشافعي ٢ / ١٨ ـ ١٩ و ٥٤ وابن حبان ٤٢٩٠ وابن الجارود ٧٦٠ والطبراني ٢٤ / (٩١٣) والبيهقي ٧ / ١٣٥ و ١٧٧ و ١٨١ و ٤٧١ من طرق عن مالك به. وأخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٣٨ وأبو داود ٢٢٨٥ و ٢٢٨٦ و ٢٢٨٧ والنسائي ٦ / ١٤٥ والطبراني ٢٤ / (٩٢٠) وابن حبان ٤٢٥٣ والبيهقي ٧ / ١٧٨ من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به. وأخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٤٨ والنسائي ٦ / ١٥٠ والترمذي ١١٣٥ وابن ماجة ٢٠٣٥ وأحمد

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ١٤٨ ـ ١٤٩ : قال أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل ، لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع : قال مالك في قول الله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) يعني المطلقات اللاتي بك من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا. فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة ، لأنها بائن منه ، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون ، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عهدتهن ، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن ، حوامل كن أو غير حوامل إنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن ، قال تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فجعل الله عزوجل للحوامل اللائي قد بنّ من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي : وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة. فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة وهذا مأخذها من القرآن.


عليها الرّجعة ، فإذا لم يكن له عليها الرّجعة ، فلا نفقة ولا سكنى. ومن حيث المعنى : إنّ النّفقة إنما تجب لأجل التّمكين من الاستمتاع ، بدليل أنّ النّاشز لا نفقة لها.

واختلفوا في الحامل ، والمتوفّى عنها زوجها ، فقال ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو العالية ، والشّعبي ، وشريح ، وإبراهيم : نفقتها من جميع المال ، وبه قال مالك ، وابن أبي ليلى ، والثّوريّ. وقال ابن عباس ، وابن الزّبير ، والحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء : نفقتها في مال نفسها ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه. وعن أحمد كالقولين.

قوله عزوجل : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني : أجرة الرّضاع. وفي هذا دلالة على أنّ الأمّ إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله ، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) ، أي : لا تشتطّ المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرّضاع ، ولا يقصّر الزّوج عن المقدار المستحقّ (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) في الأجرة ، ولم يتراض الوالدان على شيء (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) لفظه لفظ الخبر ، ومعناه : الأمر : أي : فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أمر أهل التّوسعة أن يوسّعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم. وقرأ ابن السّميفع «لينفق» بفتح القاف. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي : ضيّق عليه من المطلّقين. وقرأ أبيّ بن كعب ، وحميد «قدر عليه» بضمّ القاف ، وتشديد الدال. وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «قدر» بفتح القاف وتشديد الدال «رزقه» بنصب القاف. (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) على قدر ما أعطاه من المال (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي : على قدر ما أعطاها من المال (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي : بعد ضيق وشدّة ، غنى وسعة ، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر ، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))

قوله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) ، أي : عن أمر رسله. والمعنى : عتا أهلها. قال ابن زيد : عتت ، أي : كفرت ، وتركت أمر ربّها ، فلم تقبله.

وفي باقي الآية قولان : أحدهما : أنّ فيها تقديما ، وتأخيرا. والمعنى : عذّبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع ، والسيف ، والبلايا ، وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة ، قاله ابن عباس ، والفرّاء في آخرين. والثاني : أنها على نظمها ، والمعنى : حاسبناها بعملها في الدنيا ، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها ، فذلك قوله عزوجل : (وَعَذَّبْناها) فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. والحساب الشديد : هو

____________________________________

٦ / ٤١١ وابن حبان ٤٢٥٤ والطبراني ٢٤ / (٩٢٩) والبيهقي ٧ / ١٣٦ و ٤٧٣ من طرق عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم عن فاطمة بنت قيس به مطوّلا ومختصرا. وأخرجه مالك في «الموطأ» ٢ / ٥٨٠ والبغوي في «شرح السنة» ٢٣٧٨ عن عبد الله بن يزيد به.


الذي لا عفو فيه ، والنكر : المنكر (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي : جزاء ذنبها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) في الدنيا ، والآخرة ، وقال ابن قتيبة : الخسر : الهلكة.

قوله عزوجل : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي : قرآنا (رَسُولاً) أي : وبعث رسولا ، قاله مقاتل. وإلى نحوه ذهب السّدّيّ. وقال ابن السّائب : الرسول هاهنا : جبرائيل ، فعلى هذا : يكون الذّكر والرسول جميعا منزّلين. وقال ثعلب : الرسول : هو الذّكر. وقال غيره : معنى الذّكر هاهنا : الشّرف. وما بعده قد تقدّم (١) إلى قوله عزوجل : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) يعني : الجنّة التي لا ينقطع نعيمها.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

قوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي : وخلق الأرض بعددهنّ. وجاء في الحديث : أنّ كثافة كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما بينها وبين الأخرى كذلك ، وكثافة كلّ أرض خمسمائة عام ، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك.

(١٤٦٤) وقد روى أبو الضّحى عن ابن عباس قال : في كلّ أرض آدم مثل آدمكم ، ونوح مثل نوحكم ، وإبراهيم مثل إبراهيمكم ، وعيسى كعيسى ، فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس ، وتارة يوقف على أبي الضّحى ، وليس له معنى إلّا ما حكى أبو سليمان الدّمشقيّ ، قال : سمعت أنّ معناه : إنّ في كلّ أرض خلقا من خلق الله لهم سادة ، يقوم كبيرهم ومتقدّمهم في الخلق مقام آدم فينا ، وتقوم ذرّيّته في السّنّ والقدم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم. وقال كعب : ساكن الأرض الثانية : الريح العقيم ، وفي الثالثة : حجارة جهنّم ، والرابعة : كبريت جهنّم ، والخامسة : حيّات جهنّم ، والسادسة : عقارب جهنّم ، والسابعة : فيها إبليس (٢).

قوله عزوجل : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) ، في الأمر قولان : أحدهما : أنه قضاء الله وقدره ، قاله الأكثرون. قال قتادة : في كلّ أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه. والثاني : أنه الوحي ، قاله مقاتل.

قوله عزوجل : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) المعنى أعلمكم هذا لتعلموا قدرته على كلّ شيء وعلمه بكلّ شيء.

____________________________________

(١٤٦٤) هذا الأثر من الإسرائيليات ، وهو باطل لا أصل له. فلا يوجد في باطن الأرض كنبينا ولا غيره ، بل وليس في باطن الأرض بشرا ، وليست صالحة للحياة أصلا. والإسناد إلى أبي الضحى صحيح كما في «تفسير الطبري» ٣٤٣٧١ وأبو الضحى ثقة ، وعلى هذا يكون ابن عباس تلقاه عن أهل الكتاب ، فقد ثبت أنه روى عن كعب الأحبار وغيره. لا فائدة من هذه الأقوال لأنها إسرائيلية.

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧ ، والأحزاب : ٤٣ ، والتغابن : ٩.

(٢) هذا كسابقه من الإسرائيليات التي نقلها كعب وغيره عن كتب الأقدمين. والله أعلم.


سورة التّحريم

وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

قوله عزوجل : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) في سبب نزولها قولان :

(١٤٦٥) أحدهما : أنّ حفصة ذهبت إلى أبيها تتحدّث عنده ، فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جاريته ، فظلّت

____________________________________

(١٤٦٥) ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة منها :

حديث ابن عباس : أخرجه الطبري ٣٤٣٩٢ وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من وجه آخر بنحوه ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٧ ، ورجاله ثقات ، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق. وورد من وجه آخر ، أخرجه الهيثم بن كليب في «مسنده» كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ٤٥٦ وقال ابن كثير : إسناده صحيح.

٢ ـ مرسل الضحاك ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٩.

٣ ـ مرسل عبد الرحمن بن زيد ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٨.

٤ ـ مرسل الشعبي ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٠.

٥ ـ مرسل أبي عثمان ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٤.

٦ ـ مرسل قتادة والحسن ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٥.

٧ ـ مرسل زيد بن أسلم ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٢.

٨ ـ مرسل مسروق ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٣.

٩ ـ حديث أنس ، وهو مختصر ، أخرجه النسائي في «التفسير» ٦٢٧ والحاكم ٢ / ٤٩٣ وإسناده حسن ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وله شواهد أخرى ، انظر «الكشاف» ١٢٠٧ بتخريجي.

الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» ٢١٥٦ بتخريجنا.


معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتها في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غيرة شديدة. فلما دخلت حفصة قالت : قد رأيت من كان عندك. والله لقد سؤتني ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله لأرضينّك ، وإني مسرّ إليك سرّا فاحفظيه» ، قالت : وما هو؟ قال : «إني أشهدك أنّ سرّيّتي هذه عليّ حرام رضى لك» ، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلقت حفصة إلى عائشة ، فقالت لها : أبشري ، إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرّم عليه فتاته. فنزلت هذه الآية رواه العوفيّ عن ابن عباس.

(١٤٦٦) وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى ، وقال فيه : فقالت حفصة : كيف تحرّمها ، عليك ،؟! فحلف لها أن لا يقربها ، فقال لها : «لا تذكريه لأحد» فذكرته لعائشة ، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا ، فنزلت هذه الآية.

(١٤٦٧) وقال الضّحّاك : قال لها : «لا تذكري لعائشة ما رأيت» فذكرته ، فغضبت عائشة ، ولم تزل بنبيّ الله حتى حلف أن لا يقربها ، فنزلت هذه الآية ، وإلى هذا المعنى : ذهب سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والشّعبيّ ، ومسروق ، ومقاتل ، والأكثرون.

(١٤٦٨) والثاني : ما روى عروة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّ الحلواء والعسل ، وكان إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه ، فدخل على حفصة بنت عمر ، واحتبس عندها ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكّة من عسل (١) ، فسقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : أما والله لنحتالنّ له ، فقلت لسودة : إنه سيدنو منك إذا دخل عليك ، فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ، فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي : جرست نحله العرفط (٢) وسأقول ذلك ؛ وقولي أنت يا صفيّة ذلك ، فلمّا دنا من سودة قالت له ذلك ولمّا دخل عليّ قلت له مثل ذلك فلما دار إلى صفيّة قالت له مثل ذلك فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله أسقيك منه؟ قال : لا حاجة لي فيه. قالت : تقول سودة : سبحان الله ، والله لقد حرمناه. قلت لها : اسكتي. أخرجه البخاريّ ومسلم في «الصحيحين».

(١٤٦٩) وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أنّ التي شرب عندها العسل سودة ، فقالت له

____________________________________

(١٤٦٦) أخرجه الطبري ٣٤٣٩٧ بهذا اللفظ عن ابن عباس عن عمر. وفيه محمد بن إسحاق مدلس ، وقد عنعن ، وهو في الصحيح بغير هذا السياق ، انظر «صحيح البخاري» ٤٩١٣ ، ٤٩١٤ ، ٤٩١٥ ومسلم ١٤٧٩ عن ابن عباس عن عمر مطولا. وانظر «فتح القدير» ٢٥٤٨ بتخريجنا.

(١٤٦٧) انظر الحديث المتقدم ١٤٦٥.

(١٤٦٨) صحيح. أخرجه البخاري ٦٩٧٢ عن عبيد بن إسماعيل بن عن عائشة. وأخرجه مسلم ١٤٧٤ ح ٢١ وأبو داود ٣٧١٥ وأبو يعلى ٤٨٩٦ من طرق عن أبي أسامة به. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٣٢ من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة به.

(١٤٦٩) أخرجه الطبراني ١٢٢٦ من حديث ابن عباس ، وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٤٢٦ : رجاله رجال

__________________

(١) العكة : آنية السمن ، أو القربة الصغيرة.

(٢) جرست : أكلت ، والعرفط : شجر ينضح الصمغ المعروف بالمنافير.


عائشة : إني لأجد منك ريحا ، ثم دخل على حفصة ، فقالت : إني أجد منك ريحا ، فقال : إني أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه ، فنزلت هذه الآية.

(١٤٧٠) وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أنّ التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش ، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول. قال أبو عبيدة : المغافير : شيء شبيه بالصّمغ فيه حلاوة. وخرج الناس يتمغفرون : إذا خرجوا يجتنونه. ويقال : المغاثير بالثاء ، مثل جدث ، وجدف. وقال الزّجّاج : المغافير : صمغ متغير الرائحة. فخرج في المراد بالذي أحلّ الله له قولان (١) : أحدهما : أنه جاريته. والثاني : العسل.

قوله عزوجل : (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي : تطلب رضاهنّ بتحريم ذلك. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

____________________________________

الصحيح ، وصححه السيوطي في «الدر» ٦ / ٢٦٦. وفي ذلك نظر فهو معارض بحديث عائشة المتقدم ، وأنه عليه الصلاة والسلام شرب ذلك عند زينب. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٤٥ بتخريجنا.

(١٤٧٠) صحيح. أخرجه البخاري ٥٢٦٧ والبغوي في «شرح السنة» عن الحسن بن محمد به. وأخرجه البخاري ٦٦٩١ ومسلم ١٤٧٤ وأبو داود ٣٧١٤ والنسائي ٦ / ١٥١ و ٧ / ١٣ و ٧١ وأحمد ٦ / ٢٢١ من طرق عن الحجاج به وأخرجه البخاري ٤٩١٢ من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج به.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ١٥٠ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحلّه له ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله ، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه. وقال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ١٥٩ : أصح الأقوال ـ ما ثبت في الصحيحين فيما ورد عن العسل ـ وأما من روى أنه حرّم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدوّن في الصحيح ، وروي مرسلا. وقوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ) إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرّم قول الرجل : «هذا عليّ حرام» شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعوّل المخالف على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فسماه يمينا ودليلنا قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [المائدة : ٨٧] وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس : ٥٩] فذم الله المحرّم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله ولم يجعل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحرّم إلا ما حرّم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته : أنت عليّ حرام ، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرّم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة. وجاء في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ١٦٣ : قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه ، ويتحصل من هذا أن من حرّم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا ، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه. فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله ، أو أمه فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فبائن. وإن قال نويت الكذب ، دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده. فإن حلف ألا يأكله حنث ويبر بالكفارة.


غفر الله لك التحريم (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) قال مقاتل : قد بيّن لكم (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي : كفّارة أيمانكم ، وذلك البيان في المائدة (١) قال المفسّرون : وأصل «تحلّة» تحللة على وزن تفعلة ، فأدغمت ، والمعنى : قد بيّن الله لكم تحليل أيمانكم بالكفّارة ، فأمره الله أن يكفّر يمينه ، فأعتق رقبة. واختلفوا هل حرّم مارية على نفسه بيمين ، أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنه حرّمها من غير ذكر يمين ، فكان التحريم موجبا لكفّارة اليمين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه حلف يمينا حرّمها بها ، قاله الحسن. والشّعبيّ ، وقتادة ، (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي : وليّكم وناصركم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) يعني : حفصة من غير خلاف علمناه.

وفي هذا السّرّ ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قال لها : إني مسرّ إليك سرّا فاحفظيه ، سرّيّتي هذه عليّ حرام ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، والشّعبيّ ، والضّحّاك ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابنه ، والسّدّيّ (٢).

(١٤٧١) والثاني : أنه قال لها : أبوك ، وأبو عائشة ، واليا الناس من بعدي ، فإيّاك أن تخبري أحدا ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والثالث : أنه أسرّ إليها أنّ أبا بكر خليفتي من بعدي ، قاله ميمون بن مهران (٣).

قوله عزوجل : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي : أخبرت به عائشة (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي : أطلع الله نبيّه على قول حفصة لعائشة ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا شديدا ، لأنه استكتم حفصة ذلك ، ثم دعاها ، فأخبرها ببعض ما قالت ، فذلك قوله عزوجل : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) وفي الذي عرّفها إيّاه قولان :

(١٤٧٢) أحدهما : أنه حدّثها ما حدّثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر ، وسكت عمّا أخبرت

____________________________________

(١٤٧١) باطل لا أصل له ، أخرجه ابن عدي ٣ / ٤٣٦ عن سيف بن عمر عن عطية بن الحارث عن أبي أيوب عن علي. وعن الضحاك عن ابن عباس. وعن عمرو بن محمد عن الشعبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس به.

وإسناده ضعيف جدا. مداره على سيف بن عمر وهو متروك متهم ، وبه أعله ابن عدي. ثم إن المتن موضوع.

فلو كان هذا الحديث عند علي لما تأخر ستة أشهر عن بيعة الصديق. وكذا تأخر بنو هاشم ، ومنهم ابن عباس عن البيعة ، فهذا خبر باطل والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصرح باسم الخليفة من بعده ، باتفاق العلماء ، وإنما هناك إشارات إلى إمارة أبي بكر ، منها أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يؤم الناس ، وذلك في مرضه الأخير.

وورد من وجه آخر أخرجه الدار قطني في «سننه» ٤ / ١٥٣ و ١٥٤ وفيه الكلبي ، وهو محمد بن السائب ، متهم بالكذب ، وشيخه أبو صالح أقرّ بأنه حدث عن ابن عباس بأشياء كذب. راجع الميزان للذهبي. ثم إن المتن منكر كما تقدم. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الكبير» ١٢٦٤٠ من حديث ابن عباس وله ثلاث علل : ١ ـ إسماعيل بن عمرو البجلي ، وهو ضعيف. ٢ ـ وفيه أيضا أبو سنان سعيد بن سنان فيه ضعف. ٣ ـ الضحاك لم يلق ابن عباس. انظر «تفسير ابن كثير» ٤ / ٤٦٠ بتخريجي عند هذه الآية. وانظر أيضا «تفسير الشوكاني» ٢٥٥١ بتخريجي ولله الحمد والمنة.

(١٤٧٢) لا أصل له ، وهو بعض المتقدم.

__________________

(١) المائدة : ٨٩.

(٢) انظر الحديث المتقدم ١٤٦٥.

(٣) انظر الحديث المتقدم ١٤٧١.


عائشة من تحريم مارية ، لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(١٤٧٣) والثاني : أنّ الذي عرّف : تحريم مارية ، والذي أعرض عنه : ذكر الخلافة لئلّا ينتشر ، قاله الضّحّاك ، وهذا اختيار الزّجّاج : قال : ومعنى (عَرَّفَ بَعْضَهُ) عرّف حفصة بعضه وقرأ الكسائيّ «عرف» بالتخفيف. قال الزجاج : على هذه القراءة قد عرف كل ما أسرّه ، غير أنّ المعنى جار على بعضه ، كقوله عزوجل : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) (١) ، أي : يعلمه ويجازي عليه ، وكذلك : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٢) أي : ير جزاءه. فقيل : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلّق حفصة تطليقة ، فكان ذلك جزاءها عنده ، فأمره الله أن يراجعها.

(١٤٧٤) وقال مقاتل بن حيّان : لم يطلّقها ، وإنما همّ بطلاقها ، فقال له جبريل : لا تطلّقها ، فإنها

____________________________________

(١٤٧٣) عزاه المصنف للضحاك ، وقد ساقه بمعناه. وصدره ورد عن الضحاك ، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» ٦ / ٣٧٠ ، وهو مرسل ، لكن له شواهد.

وعجزه ، أخرجه أبو نعيم في «فضائل الصحابة» كما في «الدر» ٦ / ٣٧٠ عن الضحاك ، وهو مرسل ، فهو ضعيف ، والمتن باطل.

(١٤٧٤) أصل الحديث صحيح ، لكن قول مقاتل «لم يطلقها» باطل ، لم يتابع عليه. ذكره المنصف هاهنا عن مقاتل بن حيان معلقا ، وسنده إليه في أول الكتاب ، وهذا واه بمرة ، ليس بشيء ، وقد خولف مقاتل.

وأخرج الحاكم ٤ / ١٥ وابن سعد في «الطبقات» ٨ / ٨٤ والدارمي ٢٢٦٥ والطحاوي في «المشكل» ٤٦١٥ من حديث أنس. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة تطليقة ، فأتاه جبريل فقال : «يا محمد طلقت حفصة تطليقة ، وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الدنيا وفي الجنة». وأخرج الطحاوي ١٦١٤ من طريق موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ، فأتاه جبريل فقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة». وأخرج الطبراني ١٧ / (٨٠٤) نحوه من حديث عقبة بلفظ «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه ، وقال : ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها ، فنزل جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر».

قال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣٣٤ : وفيه عمرو بن صالح الحضرمي ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات.

أخرج الحاكم ٤ / ١٥ (٦٧٥٣ وابن سعد ٨ / ٦٧ والطبراني ١٨ / (٩٣٤) عن قيس بن زيد «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت وقالت : والله ما طلقني عن شبع ، وجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قال لي جبريل عليه‌السلام : راجع حفصة ، فإنها صوّامة قوامة ، وإنها زوجتك في الجنة».

وسكت عليه الحاكم ، وكذا الذهبي ، وكذا الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٦٣ ورجاله ثقات غير قيس بن زيد فهو تابعي صغير مجهول. وأن عثمان بن مطعون توفي قبل أحد ، وقبل أن يتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة.

وأخرج أبو داود ٢٢٨٣ والنسائي ٦ / ٢١٣ وابن ماجة ٢٠١٦ والدارمي ٢٢٦٤ وأبو يعلى ١٧٤ والحاكم ٢ / ١٩٧ وابن حبان ٤٢٧٥ والطحاوي في «المشكل» ٤٦١١ والبيهقي ٧ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ من طرق عن يحيى بن زكريا عن ابن أبي داود عن صالح بن صالح عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها».

الخلاصة : قول مقاتل «لم يطلقها» باطل ، ليس بشيء ، والصحيح أنه طلقها كما في الروايات المذكورة ، وهو خبر حسن صحيح بطرقه وشواهده لكن بالألفاظ التي أوردتها ، وانظر «أحكام القرآن» ٢١٣٨ بتخريجي.

أخرجه ابن سعد ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٠ عن ابن عباس بنحوه ، وفيه الواقدي ، وهو متروك. وأخرج الدار قطني ٤ /

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

(٢) الزلزلة : ٧.


صوّامة قوّامة. وقال الحسن : ما استقصى كريم قطّ ، ثم قرأ (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن السّميفع «عرّاف» برفع العين ، وتشديد الراء وبألف ، «بعضه» بالخفض.

قوله عزوجل : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : أخبر حفصة بإفشائها السّرّ (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي : من أخبرك بأني أفشيت سرّك؟ (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) ثم خاطب عائشة وحفصة ، فقال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) أي : من التعاون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيذاء (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) قال ابن عباس : زاغت ، وأثمت. قال الزّجّاج : عدلت ، وزاغت عن الحقّ. قال مجاهد : كنّا نرى قوله عزوجل : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) شيئا هيّنا حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود : فقد زاغت قلوبكما. وإنما جعل القلبين جماعة لأنّ كلّ اثنين فما فوقهما جماعة. وقد أشرنا إلى هذا في قوله عزوجل : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) (١) وقوله تعالى : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢). قال المفسّرون : وذلك أنهما أحبّا ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اجتناب جاريته ، (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرّحمن ومجاهد ، والأعمش «تظاهرا» بتخفيف الظاء ، أي : تعاونا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيذاء (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي : وليّه في العون ، والنّصرة (وَجِبْرِيلُ) وليّه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال : أحدها : أنهم أبو بكر وعمر ، قاله ابن مسعود ، وعكرمة ، والضّحّاك. والثاني : أبو بكر ، رواه مكحول عن أبي أمامة. والثالث : عمر بن الخطّاب قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد. والرابع : خيار المؤمنين ، قاله الرّبيع بن أنس. والخامس : أنهم الأنبياء ، قاله قتادة ، والعلاء بن زياد العدويّ ، وسفيان. والسادس : أنه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، حكاه الماورديّ ، قاله الفرّاء : «وصالح المؤمنين» موحّد في مذهب جميع ، كما تقول : لا يأتيني إلا سائس الحرب ، فمن كان ذا سياسة للحرب ، فقد أمر بالمجيء ، ومثله قوله عزوجل : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (٣) ، قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) (٤) ، وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (٥) في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع.

قوله عزوجل : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي : ظهرا ، وهذا مما لفظه لفظ الواحد ، ومعناه الجمع ، ومثله ثم (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٦) ، وقد شرحناه هناك. ثم خوّف نساءه ، فقال عزوجل : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ).

____________________________________

١٥٣ والطبراني في «الكبير». ١٢٦٤ من حديث ابن عباس في قوله عزوجل : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال : اطلعت حفصة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أم إبراهيم عليه‌السلام فقال : «لا تخبري عائشة» ، وقال لها : «إن أباك وأباها سيملكان ، أو سيليان بعدي ، فلا تخبري عائشة» فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة ...» الحديث. وفي إسناده الكلبي ، وهو كذاب. وورد من حديث علي ، أخرجه ابن عدي ٣ / ٤٣٦ ، وكرره عن ابن عباس ومدارهما على سيف بن عمر ، وهو متروك متهم ، وبه أعله ابن عدي. والصواب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخبر على من سيخلفه ، وإنما هناك أمارات على أنه أبو بكر ، والله أعلم.

الخلاصة : هذا خبر باطل لا أصل له ، والصحيح في ذلك ما رواه الشيخان من وجوه في شربه عليه‌السلام العسل عند زينب ، وكذا يليه في الصحة خبر مارية المتقدم برقم ٢٢٣٨.

وانظر «فتح القدير» ٢٥٥١ و«الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٣٦ بتخريجي والله الموفق.

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) ص : ١١.

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) النساء : ١٦.

(٥) المعارج : ١٩.

(٦) غافر : ٦٧.


(١٤٧٥) وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطّاب قال : بلغني بعض ما آذى به رسول الله نساؤه ، فدخلت عليهنّ ، فجعلت أستقرئهنّ ، واحدة واحدة ، فقلت : والله لتنتهنّ ، أو ليبدلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ ، فنزلت هذه الآية. والمعنى : واجب من الله (إِنْ طَلَّقَكُنَ) رسوله (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ) أي : خاضعات لله بالطاعة (مُؤْمِناتٍ) مصدّقات بتوحيد الله (قانِتاتٍ) أي : طائعات (سائِحاتٍ) فيه قولان : أحدهما : صائمات ، قاله ابن عباس ، والجمهور. وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله عزوجل : (السَّائِحُونَ) (١). والثاني : مهاجرات ، قاله زيد بن أسل وابنه. «والثيبات» جمع ثيّب ، وهي المرأة التي قد تزوّجت ، ثم ثابت إلى بيت أبويها ، فعادت كما كانت غير ذات زوج. «والأبكار» : العذارى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨))

قوله عزوجل : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وقاية النّفس : بامتثال الأوامر ، واجتناب النّواهي ، ووقاية الأهل : بأن يؤمروا بالطاعة ، وينهوا عن المعصية. وقال عليّ رضي الله عنه : علّموهم وأدّبوهم ، قوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قد ذكرناه في البقرة (٢) قوله (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) وهم خزنتها (غِلاظٌ) على أهل النّار (شِدادٌ) عليهم. وقيل : غلاظ القلوب شداد الأبدان.

(١٤٧٦) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : خزنة النّار تسعة عشر ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، وقوّته أن يضرب بالمقمعة ، فيدفع بتلك الضّربة سبعين ألفا ، فيهوون في قعر جهنّم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) أي : لا يخالفونه فيما يأمر (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فيه قولان : أحدهما : لا يتجاوزون ما يؤمرون. والثاني : يفعلونه في وقته لا يؤخّرونه ، ولا يقدّمونه. ويقال لأهل النّار : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ).

قوله عزوجل : (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قرأ أبو بكر عن عاصم ، وخارجة عن نافع (نَصُوحاً) بضمّ النون. والباقون بفتحها. قال الزّجّاج : فمن فتح فعلى صفة التّوبة ، ومعناه : توبة بالغة في النّصح ،

____________________________________

(١٤٧٥) صحيح. أخرجه الطبري ٣٤٤٢٦ من حديث أنس عن عمر ، وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. وكرره الطبري ٣٤٤٢٧ وإسناده صحيح.

(١٤٧٦) باطل ، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح واه ، وراويته هو الكلبي ، وقد أقر أنه روى عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا ليس له أصل عن ابن عباس.

__________________

(١) التوبة : ١١٢.

(٢) البقرة : ٢٣.


و«فعول» من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف. تقول : رجل صبور ، وشكور. ومن قرأ بالضمّ ، فمعناه : ينصحون فيها نصوحا ، يقال : نصحت له نصحا ، ونصاحة ، ونصوحا. وقال غيره : من ضمّ أراد : توبة نصح لأنفسكم. وقال عمر بن الخطّاب : التوبة النّصوح : أن يتوب العبد من الذّنب وهو يحدّث نفسه أنّه لا يعود. وسئل الحسن البصريّ عن التّوبة النّصوح ، فقال : ندم بالقلب ، واستغفار باللسان ، وترك بالجوارح ، وإضمار أن لا يعود. وقال ابن مسعود : التوبة النّصوح تكفّر كلّ سيئة ، ثم قرأ هذه الآية.

قوله عزوجل : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) قد بيّنّا معنى «الخزي» في آل عمران (١) وبيّنّا معنى قوله عزوجل : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) في الحديد (٢) (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله تعالى أن يتمّم لهم نورهم ، ويبلّغهم به الجنّة. قال ابن عباس : ليس أحد من المسلمين إلّا يعطى نورا يوم القيامة. فأمّا المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق ممّا رأى من إطفاء نور المنافق ، فهم يقولون : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

قوله عزوجل : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) قد شرحناه في براءة (٣).

قوله عزوجل : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) قال المفسّرون منهم مقاتل : هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن أغضبتا ربّهما لم يغن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما شيئا. قال مقاتل : اسم امرأة نوح «والهة» وامرأة لوط «واهلة».

قوله عزوجل : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) : نوحا ولوطا عليهما‌السلام (فَخانَتاهُما).

(١٤٧٧٧) قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبيّ قطّ ، إنما كانت خيانتهما في الدّين ، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تدلّ على الأضياف ، فإذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار ، وإذا نزل بالنهار دخّنت لتعلم قومه أنه قد نزل به ضيف. وقال السّدّيّ : كانت خيانتهما : كفرهما.

____________________________________

(١٤٧٧) أخرجه الحاكم ٢ / ٤٩٦ والطبري ٣٤٤٦١ و ٣٤٤٦٢ و ٣٤٤٦٤ من طرق عن ابن عباس ، وهو صحيح ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

__________________

(١) آل عمران : ١٩٢.

(٢) الحديد : ١٢.

(٣) التوبة : ٧٣.


وقال الضّحّاك : نميمتهما ، وقال ابن السّائب : نفاقهما.

قوله عزوجل : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، أي : يدفعا عنهما من عذاب الله شيئا. وهذه الآية تقطع طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره. ثم أخبر أنّ معصية الغير لا تضرّ المطيع بقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم. وقال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذّر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما. ثم ضرب لهما هذا المثل يرغّبهما في التّمسّك بالطاعة. وكانت آسية قد آمنت بموسى. قال أبو هريرة : ضرب فرعون لامرأته أوتادا في يديها ورجليها ، وكانوا إذا تفرّقوا عنها أظلّتها الملائكة ، فقالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فكشف الله لها عن بيتها في الجنّة حتى رأته قبل موتها ، قوله : (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ عمله : جماعه. والثاني : أنه دينه رويا عن ابن عباس ، قوله : (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني أهل دينه المشركين.

قوله عزوجل : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) قد ذكرنا فيه قولين في سورة الأنبياء (١) فمن قال : هو فرج ثوبها ، قال «الهاء» في قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ) ترجع إليه ، وذلك أنّ جبريل مدّ جيب درعها ، فنفخ فيه ، ومن قال : هو مخرج الولد ، قال : «الهاء» كناية عن غير مذكور ، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها.

قوله عزوجل : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) وفيه قولان : أحدهما : أنه قول جبريل (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) (٢). والثاني : الكلمات هي التي تضمّنتها كتب الله المنزّلة. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وعاصم الجحدريّ «بكلمة ربها» على التوحيد (وَكُتُبِهِ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ؛ والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «وكتابه» على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وخارجة عن نافع «وكتبه» جماعة ، وهي التي أنزلت على الأنبياء ، ومن قرأ «وكتابه» فهو اسم جنس على ما بيّنّا في خاتمة البقرة (٣) وقد بيّنّا فيها القنوت مشروحا (٤). ومعنى الآية (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ، ولذلك لم يقل : من القانتات.

__________________

(١) الأنبياء : ٩٢.

(٢) مريم : ١٩.

(٣) البقرة : ٢٨٥.

(٤) البقرة : ١١٦.


سورة الملك

وهي مكيّة كلّها بإجماعهم

(١٤٧٨) قال ابن مسعود : هي المانعة من عذاب القبر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

قوله عزوجل : (تَبارَكَ) قد شرحناه في الأعراف (١).

قوله عزوجل : (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) قال ابن عباس : يعني : السّلطان يعزّ ويذلّ.

قوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قال الحسن : خلق الموت المزيل للحياة ، والحياة التي

____________________________________

(١٤٧٨) أخرجه الطبراني ١٠٢٥٤ عن ابن مسعود قال : «كنا نسميها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المانعة» وقال الهيثمي ٧ / ١٢٧ ـ ١٢٨ : رجاله ثقات اه وصححه الحاكم ٢ / ٤٦٨ ووافقه الذهبي. وأخرجه النسائي في «اليوم والليلة» ٧١٦. وورد من حديث ابن عباس مرفوعا : أخرجه الترمذي ٢٨٩٠ والبيهقي في «الدلائل» ٧ / ٤١ من حديث ابن عباس ، وضعفه الترمذي بقوله : غريب من هذا الوجه ، وكذا ضعفه البيهقي فقال : تفرد به يحيى بن عمرو النكري ، وهو ضعيف. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وتفرد ابن مردويه به يدل على وهنه.

وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٥٩ و ٢٥٦٠ بتخريجنا.

__________________

(١) الأعراف : ٥٤.


هي ضدّ الموت (١) قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قد شرحناه في هود (٢) ، قال الزّجّاج : والمعلّق ب (أَيُّكُمْ) مضمر تقديره : ليبلوكم ، فيعلم أيّكم أحسن عملا وهذا علم وقوع. وارتفعت «أي» بالابتداء ، ولا يعمل فيها ما قبلها ، لأنها على أصل الاستفهام ، ومثله (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) (٣). والمعنى : خلق الحياة ليختبركم فيها. وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم. وقال غيره : اللام في «ليبلوكم» متعلّق بخلق الحياة دون خلق الموت ، لأنّ الابتلاء بالحياة. قوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي : خلقهنّ مطابقات ، أي : بعضها فوق بعض (ما تَرى) يا ابن آدم (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) قرأ حمزة والكسائيّ : «من تفوّت» بتشديد الواو من غير ألف. وقرأ الباقون بألف. قال الفرّاء : وهما بمنزلة واحدة ، كما تقول : تعاهدت الشيء وتعهّدته والتّفاوت : الاختلاف. وقال ابن قتيبة : التّفاوت : الاضطراب والاختلاف ؛ وأصله من الفوت ؛ وهو أن يفوت شيء شيئا ، فيقع الخلل ، ولكنه متّصل بعضه ببعض.

قوله عزوجل : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) كرّر البصر (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) وقرأ أبو عمرو ، وحمزة والكسائيّ «هل ترى» بإدغام اللام في التاء ، أي : هل ترى فيها فروجا وصدوعا.

قوله عزوجل : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي : مرّة بعد مرّة (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) قال ابن قتيبة : أي : مبعدا ، من قولك : خسأت الكلب : إذا باعدته (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي : كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه. وقال الزّجّاج : قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) قد شرحناه في حم السّجدة (٤). قوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي : يرجم بها مسترقو السّمع. وقد سبق بيان هذا المعنى (٥) (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) : في الآخرة (عَذابَ السَّعِيرِ) وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله : (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي : صوتا مثل صوت الحمار. وقد بيّنّا معنى الشّهيق في هود (٦) (وَهِيَ تَفُورُ) أي : تغلي بهم كغلي المرجل (تَكادُ تَمَيَّزُ) أي : تتقطّع من تغيّظها عليهم (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي : جماعة منهم (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) وهذا سؤال توبيخ.

قوله عزوجل : (إِنْ أَنْتُمْ) أي : قلنا للرّسل : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : في ذهاب عن الحقّ بعيد. قال الزّجّاج : ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) أي : سماع من يعي ويفكّر (أَوْ نَعْقِلُ)

__________________

(١) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ١٨١ : قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قيل : المعنى خلقكم للموت والحياة ، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدّم الموت على الحياة ، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم. قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار ، والحياة عكس ذلك. قلت : وفي التنزيل (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) السجدة : ١١ وقال : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : ٥٠] وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة.

(٢) هود : ٧.

(٣) الكهف : ١٢.

(٤) فصلت : ١٢.

(٥) الحجر : ١٨.

(٦) هود : ١٠٦.


عقل من يميّز وينظر (ما كُنَّا) من أهل النار (فَسُحْقاً). وهو منصوب على المصدر ، المعنى : أسحقهم الله سحقا ، أي : باعدهم الله من رحمته مباعدة ، والسّحيق : البعيد. وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «فسحقا» أي : بعدا. وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : السّحق : واد في جهنّم يقال له : سحق.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) قد شرحناه في سورة الأنبياء (١) (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو : الجنّة. ثم عاد إلى خطاب الكفّار ، فقال عزوجل : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيخبره جبريل بما قالوا ، فيقول بعضهم : أسرّوا قولكم حتى لا يسمع إله محمّد (٢).

قوله عزوجل : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي : ألا يعلم ما في الصدور خالقها؟! و (اللَّطِيفُ) مشروح في الأنعام (٣) و (الْخَبِيرُ) في سورة البقرة (٤).

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) أي : مذلّلة سهلة لم يجعلها ممتنعة بالحزونة والغلظ.

قوله عزوجل : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : طرقاتها ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثاني : جبالها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، واختاره الزّجّاج ، قال : لأنّ المعنى : سهّل لكم السّلوك فيها ، فإذا أمكنكم السّلوك في جبالها ، فهو أبلغ في التذليل. والثالث : في جوانبها ، قاله مقاتل ، والفرّاء ، وأبو عبيدة ، واختاره ابن قتيبة ، قال : ومنكبا الرّجل : جانباه.

قوله عزوجل : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي : إليه تبعثون من قبوركم.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

ثم خوّف الكفّار فقال : (أَأَمِنْتُمْ) قرأ ابن كثير : «وإليه النشور أأمنتم» وقرأ نافع ، وأبو عمرو :

__________________

(١) الأنبياء : ٤٩.

(٢) عزاه المصنف لابن عباس ، وكذا الواحدي في «الأسباب» ٨٣٥. ساقه بدون إسناد ، وهو باطل ، فإن سباق الآيات وسياقها يدل على أن المراد بالآية المؤمنون.

(٣) الأنعام : ١٠٣.

(٤) البقرة : ٢٣٤.


«النشور آمنتم» بهمزة ممدودة. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «أأمنتم» بهمزتين ، (مَنْ فِي السَّماءِ) قال ابن عباس : أمنتم عذاب من في السماء ، وهو الله عزوجل؟! و (تَمُورُ) بمعنى : تدور. قال مقاتل : والمعنى : تدور بكم إلى الأرض السّفلى.

قوله عزوجل : (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهي : الحجارة ، كما أرسل على قوم لوط (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي : كيف كانت عاقبة إنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : كفّار الأمم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : إنكاري عليهم بالعذاب.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أي : تصفّ أجنحتها في الهواء ، وتقبض أجنحتها بعد البسط ، وهذا معنى الطّيران ، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط (ما يُمْسِكُهُنَ) أن يقعن (إِلَّا الرَّحْمنُ).

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

قوله عزوجل : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) هذا استفهام إنكار. ولفظ «الجند» موحّد ، فلذلك قال عزوجل : «هذا الذي هو» والمعنى : لا جند لكم (يَنْصُرُكُمْ) أي : يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم ، (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) وذلك أنّ الشيطان يغرّهم ، فيقول : إنّ العذاب لا ينزل بكم ، (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) المطر وغيره (إِنْ أَمْسَكَ) الله ذلك عنكم (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ) أي : تماد في كفر (وَنُفُورٍ) عن الإيمان.

ثم ضرب مثلا ، فقال عزوجل : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) قال ابن قتيبة : أي لا يبصر يمينا ، ولا شمالا ؛ ولا من بين يديه. يقال : أكبّ الله فلانا على وجهه ، بالألف ، وكبّه الله لوجهه ، وأراد : الأعمى. قال المفسّرون : هذا مثل للمؤمن ، والكافر ، و«السّويّ» : المعتدل ، أي : الذي يبصر الطريق. وقال قتادة : هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبّا على وجهه ، والمؤمن يمشي سويّا.

قوله عزوجل : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنهم لا يشكرون ، قاله مقاتل : والثاني : أنهم يشكرون قليلا ، قاله أبو عبيدة.

قوله عزوجل : (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : خلقكم (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون الوعد : بالعذاب (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) أي : رأوا العذاب قريبا منهم (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال الزّجّاج : أي : تبيّن فيها السّوء. وقال غيره : قبّحت بالسّواد (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) فيه قولان : أحدهما : أن «تدّعون» بالتشديد ، بمعنى تدعون بالتخفيف ، وهو «تفتعلون» من الدعاء. يقال : دعوت ، وادّعيت ، كما يقال : خبرت واختبرت ، ومثله : يدّكرون ، ويذكرون ، هذا قول الفرّاء ، وابن قتيبة. والثاني : أنّ المعنى : هذا الذي كنتم من أجله تدّعون الأباطيل والأكاذيب ، تدّعون أنكم إذا متّم لا تبعثون؟! وهذا اختيار الزّجّاج.


وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة والضّحّاك ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : «تدعون» بتخفيف الدال ، وسكونها ، بمعنى تفعلون من الدّعاء. وقال قتادة : كانوا يدعون بالعذاب.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

قوله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) بعذاب (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين (١). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «معي» بفتح الياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم ، والكسائيّ : «معي» بالإسكان (أَوْ رَحِمَنا) فلم يعذّبنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) أي يمنعهم ويؤمّنهم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ومعنى الآية : إنّا مع إيماننا ، بين الخوف والرّجاء : فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟! أي : لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) الذي نعبد (فَسَتَعْلَمُونَ) وقرأ الكسائيّ : «فسيعلمون» بالياء عند معاينة العذاب من الضّالّ نحن أم أنتم.

قوله عزوجل : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) قد بينّاه في الكهف (٢) (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي : بماء ظاهر تراه العيون ، وتناله الأرشية.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧١ : يقول الله تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي : خلّصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنّكال ، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) كما قال : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ثم قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي : ذاهبا في الأرض إلى أسفل ، فلا ينال بالفؤوس الحداد ، ولا السواعد الشداد ، والغائر عكس النابع. ولهذا قال : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي : نابع وسائح جار على وجه الأرض ، أي : لا يقدر على ذلك إلا الله عزوجل. فمن فضله وكرمه أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض ، بحسب ما يحتاج العباد إليه ، من القلة والكثرة ، فله الحمد والمنّة.

(٢) الكهف : ٤١.


سورة القلم

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

إلّا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله عزوجل : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) إلى قوله عزوجل : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

قوله عزوجل : (ن) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص : (ن وَالْقَلَمِ) النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو ، وهذا اختيار الفرّاء. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يبين النون من «نون». وبها قرأ الكسائيّ ، وخلف ، ويعقوب ، وهو اختيار الزّجّاج. وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وقتادة ، والأعمش : «نون والقلم» بكسر النون وقرأ الحسن ، وأبو عمران ، وأبو نهيك : «ن والقلم» برفع النون ..

وفي معنى (نون) سبعة أقوال (١) : أحدها : أنها الدّواة.

(١٤٧٩) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أول ما خلق الله القلم ، ثم خلق النّون ،

____________________________________

(١٤٧٩) صدره قوي بشواهده ، وعجزه باطل. أخرجه ابن عدي ٦ / ٢٦٩ من طريق محمد بن وهب عن الوليد بن مسلم به ، وأعله بمحمد بن وهب ، وحكم ببطلانه ، ووافقه الذهبي في «الميزان» ٤ / ٦١. وأخرجه الآجري في «الشريعة» ٣٥٨ من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن الحسين أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف الحسن بن يحيى الخشني ، وكذا ذكره ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٤٢٨ من هذا الوجه ونسبه لابن أبي حاتم وقال : غريب جدا. ولقوله «أول ما خلق الله القلم» شواهد كثيرة والمنكر فيه لفظ «النون وهي الدواة» ويشهد لصدره حديث عبادة بن الصامت : أخرجه أبو داود ٤٧٠٠ والترمذي ٢١٥٦ وأحمد ٥ / ٣١٧ والآجري ٣٥٩. وحديث ابن عباس : أخرجه أبو يعلى ٢٣٢٩ والبيهقي ٩ / ٣ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٩٠ وقال : رواه البزار ، ورجاله ثقات. وانظر «الجامع لأحكام القرآن»

__________________

(١) الراجح في هذه الأقوال القول الأول ، يدل على ذلك ذكر القلم ، والله تعالى أعلم.


وهي الدّواة» وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ، وبه قال الحسن وقتادة.

والثاني : أنه آخر حروف الرحمن ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : أنه الحوت الذي على ظهر الأرض ، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس ، وهو مذهب مجاهد ، والسّدّيّ ، وابن السّائب (١). والرابع : أنه لوح من نور ، قاله معاوية بن قرّة. والخامس : أنه افتتاح اسمين «نصير» ، و«ناصر» قاله عطاء. والسادس : أنه قسم بنصرة الله للمؤمنين ، قاله القرظيّ. والسابع : أنه نهر في الجنّة ، قاله جعفر الصّادق.

وفي «القلم» قولان (٢) : أحدهما : أنه الذي كتب به في اللّوح المحفوظ. والثاني : أنه الذي يكتب به الناس. وإنما أقسم به ، لأنّ كتبه إنما تكتب و (يَسْطُرُونَ) بمعنى : يكتبون.

وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الملائكة. وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان : أحدهما : أنه الذّكر ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أعمال بني آدم ، قاله مقاتل. والقول الثاني : أنهم جميع الكتبة ، حكاه الثّعلبيّ ، قوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي : ما أنت بإنعام ربّك عليك بالإيمان والنّبوّة بمجنون. قال الزّجّاج : هذا جواب قولهم : إنك لمجنون. وتأويله : فارقك الجنون بنعمة الله.

قوله عزوجل : (وَإِنَّ لَكَ) بصبرك على افترائهم عليك. ونسبتهم إيّاك إلى الجنون (لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ولا منقوص ، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فيه ثلاثة أقوال (٣) :

أحدها : دين الإسلام ، قاله ابن عباس. والثاني : أدب القرآن ، قاله الحسن. والثالث : الطّبع الكريم. وحقيقة «الخلق» : ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب ، فسمّي خلقا ، لأنه يصير كالخلقة في صاحبه. فأمّا ما طبع عليه فيسمى : «الخيم» فيكون الخيم : الطّبع الغريزيّ. والخلق : الطّبع المتكلّف. هذا قول الماوردي.

(١٤٨٠) وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن. تعني : كان على ما أمره الله به في القرآن.

____________________________________

٦٠٦٤ و ٦٠٦٥ و«أحكام القرآن» ٢١٦٨.

الخلاصة : هو باطل بهذا اللفظ ، وذكر القلم قوي له شواهد.

(١٤٨٠) صحيح. أخرجه مسلم ٧٤٦ وأبو داود ١٣٤٢ و ١٣٤٣ وعبد الرزاق ٤٧١٤ و ٤٧٥١ من حديث عائشة مطولا. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٩٢ من حديث عائشة بلفظ : أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ القرآن : قد أفلح المؤمنون.

__________________

(١) هذه الروايات جميعا مصدرها الإسرائيليات ، وهي من أباطيل الإسرائيليين وترّهاتهم.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧٣ : وقوله : (وَالْقَلَمِ) الظاهر أنه جنس القلم يكتب به كقوله : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) فهو قسم منه تعالى ، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ١٩٩ : أصح الأقوال ما ذكرته عائشة في صحيح مسلم.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧٥ : ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن ، أمرا ونهيا ، سجية له ، وخلقه تطبعه ، وترك طبعه الجبلّيّ فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء والكرم ، والشجاعة ، والصفح ، والحلم ، وكل خلق جميل.


قوله عزوجل : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) يعني : أهل مكّة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى : سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب ببدر. (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : الضّالّ ، قاله الحسن. والثاني : الشيطان ، قاله مجاهد. والثالث : المجنون ، قاله الضّحّاك. والمعنى : الذي قد فتن بالجنون. والرابع : المعذّب ، حكاه الماورديّ.

وفي الباء قولان : أحدهما : أنها زائدة ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة. وأنشدوا :

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج

نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج (١)

والثاني : أنها أصلية ، وهذا قول الفرّاء ، والزّجّاج. قال الزّجّاج : ليس كونها لغوا بجائز في العربية في قول أحد من أهلها.

وفي الكلام قولان للنّحويين : أحدهما : أنّ «المفتون» هاهنا : الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب : ليس هذا معقود رأي ، أي : عقد رأي ، تقول : دعه إلى ميسوره ، أي : يسره. والمعنى : بأيّكم الجنون. والثاني : بأيّكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها ، أم بفرقة الكفّار؟ فيكون المعنى : في أيّ الفرقتين المجنون. وقد ذكر الفرّاء نحو ما شرحه الزّجّاج. وقد قرأ أبيّ بن كعب ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : «في أي المفتون». ثم أخبر أنه عالم بالفرقتين بما بعد هذا.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

قوله عزوجل : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) وذلك أنّ رؤساء أهل مكّة دعوه إلى دين آبائه ، فنهاه الله أن يطيعهم (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) فيه سبعة أقوال (٢) : أحدها : لو ترخص فيرخصون ، قاله ابن عباس.

__________________

(١) البيت لراجز من بني جعدة ، كما في «مجاز القرآن» ٢ / ٥ و«الخزانة» ٤ / ١٦٠ والفلج : موضع بنجد.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ١٨٢ : وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم ، فيلبون لك في عبادتك إلهك ، كما قال جل ثناؤه (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) وإنما هو مأخوذ من الدهن شبّه التليين في القول بتليين الدهن.

وقال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٠٥ : وقال أهل اللغة : الإدهان هو التلبيس ، معناه : ودوا لو تلبس إليهم في عملهم وعقدهم فيميلون إليك. وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة ، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة ، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ائذنوا له ، بئس أخو العشيرة هو ، أو ابن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت : يا رسول الله ، قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول! فقال لي : «يا عائشة ، إن شر الناس منزلة من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».

قلت : حديث صحيح. أخرجه البخاري ٦٠٥٤ و ٦١٣١ ومسلم ٢٥٩١ وأبو داود ٤٧٩١ والترمذي ١٩٩٦ وأحمد ٦ / ٣٨ والحميدي ٢٤٩ وابن حبان ٤٥٣٨ والبيهقي ١٠ / ٣٤٥ والبغوي ٣٥٦٣ من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن عائشة به.


والثاني : لو تصانعهم في دينك فيصانعون في دينهم ، قاله الحسن. والثالث : لو تكفر فيكفرون ، قاله عطيّة ، والضّحّاك ، ومقاتل. والرابع : لو تلين لهم فيلينون لك ، قاله ابن السّائب. والخامس : لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون ، قاله زيد بن أسلم. والسادس : ودّوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم. وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدّة ، ويعبدوا الله مدّة ، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة : هو من المداهنة. والسابع : لو تقاربهم فيقاربوك ، قاله ابن كيسان.

قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) وهو كثير الحلف بالباطل (مَهِينٍ) وهو الحقير الدّنيء. وروى العوفيّ عن ابن عباس قال : المهين : الكذّاب. واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الوليد بن المغيرة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : الأخنس بن شريق ، قاله عطاء ، والسّدّيّ. والثالث : الأسود بن عبد يغوث ، قاله مجاهد.

قوله عزوجل : (هَمَّازٍ) قال ابن عباس : هو المغتاب. وقال ابن قتيبة : هو العيّاب.

قوله عزوجل : (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي : يمشي بين الناس بالنّميمة ، وهو نقل الكلام السيء من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم (١) ، قوله : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) فيه قولان : أحدهما : أنه منع ولده وعشيرته الإسلام ، قاله ابن عباس. والثاني : منّاع للحقوق في ماله ، ذكره الماورديّ.

قوله عزوجل : (مُعْتَدٍ) أي ظلوم (أَثِيمٍ) فاجر (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي مع ما وصفناه به.

وفي «العتلّ» سبعة أقوال : أحدها : أنه العاتي الشديد المنافق ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الموفر الجسم ، قاله الحسن. والثالث : الشديد الأشر ، قاله مجاهد. والرابع : القويّ في كفره ، قاله عكرمة. والخامس : الأكول الشّروب القوي الشديد ، قاله عبيد بن عمير. والسادس : الشديد الخصومة بالباطل ، قاله الفرّاء. والسابع : أنه الغليظ الجافي ، قاله ابن قتيبة.

وفي «الزّنيم» أربعة أقوال (٢) : أحدها : أنه الدّعيّ في قريش وليس منهم ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وهذا معروف في اللغة أنّ الزّنيم : هو الملصق في القوم وليس منهم ، وبه قال الفرّاء ، وأبو عبيدة ؛ وابن قتيبة. قال حسّان :

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الرّاكب القدح الفرد

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧٦ : (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يعني : الذي يمشي بين الناس ، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبرين قال : «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة». وقال الزمخشري في «الكشاف» ٤ / ٥٩١ : (حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحقّ والباطل ، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومثله قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤](مَهِينٍ) من المهانة وهي القلة والحقارة ، يريد القلة في الرأي والتمييز. أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس (هَمَّازٍ) عياب طعان ، وعن الحسن : يلوي شدقيه في أقفية الناس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) مضرب نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم. والنميم والنميمة : السعاية.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧٨ : الأقوال في هذا كثيرة وترجع إلى ما قلناه ، وهو أن الزنيم هو : المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس ، وغالبا يكون دعيّا ولد زنا ، فإنه في الغالب يتسلّط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره.


والثاني : أنه الذي يعرف بالشّرّ ، كما تعرف الشاة بزنمتها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث : أنه الذي له زنمة مثل زنمة الشاة. وقال ابن عباس : نعت فلم يعرف حتى قيل : زنيم ، فعرف ، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها. ولا يعلم أنّ الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد ، لأنه وصف بالحلف ، والمهانة ، والعيب للناس ، والمشي بالنّميمة ، والبخل ، والظلم ، والإثم ، والجفاء ، والدّعوة ، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة ، قال الزّجّاج : والزّنمتان : المعلقتان عند حلوق المعزى. وقال ابن فارس : هي التي تتعلّق من أذنها. والرابع : أنه الظلوم ، رواه الوالبيّ عن ابن عباس.

قوله عزوجل : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «أن كان» على الخبر ، أي : لأن كان. والمعنى لا تطعه لماله وبنيه. وقرأ ابن عباس بهمزتين ، الأولى : مخففة. والثانية : ملينة ، وفصل بينهما بألف أبو جعفر. وقرأ حمزة : «أأن كان» بهمزتين مخففتين على الاستفهام ، وله وجهان : أحدهما : ألأن كان ذا مال تطيعه؟ ـ! والثاني : ألأن كان ذا مال وبنين؟! (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) يكفر بها؟ فيقول : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ذكر القولين الفرّاء. وقرأ ابن مسعود : «أن كان» بهمزة واحدة مقصورة. ثم أوعده فقال عزوجل : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) الخرطوم : الأنف. وفي هذه السّمة ثلاثة أقوال : أحدها : سنسمه بالسيف ، فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش ، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف ، قاله ابن عباس. والثاني : سنلحق به شيئا لا يفارقه ، قاله قتادة ، واختاره ابن قتيبة. والثالث : أنّ المعنى : سنسوّد وجهه. قال الفرّاء : و«الخرطوم» وإن كان قد خصّ بالسّمة ، فإنه في مذهب الوجه ، لأنّ بعض الوجه يؤدّي عن البعض. وقال الزّجّاج : سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النّار من اسوداد وجوههم. وجائز ـ والله أعلم ـ أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبيّن بها عن غيره.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١))

قوله عزوجل : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) يعني : أهل مكّة ، أي : ابتليناهم بالجوع ، والقحط (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) حين هلكت جنّتهم.


وهذه الإشارة إلى قصّتهم (١)

ذكر أهل التفسير أنّ رجلا كان بناحية اليمن له بستان ، وكان مؤمنا. وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وكان يأخذ منه قدر قوته ، وكان يتصدّق بالباقي. وقيل : كان يترك للمساكين ما تعدّاه المنجل ، وما يسقط من رؤوس النّخل ، وما ينتثر عند الدّباس ، فكان يجتمع من هذا شيء كثير ، فمات الرجل عن ثلاثة بنين ، فقالوا : والله إنّ المال لقليل ، وإنّ العيال لكثير ، وإنما كان أبونا يفعل هذا إذ كان المال كثيرا ، والعيال قليلا ، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا. فعزموا على حرمان المساكين ، وتحالفوا بينهم ليغدون قبل خروج الناس ، فليصرمنّ نخلهم ، فذلك قوله عزوجل : (إِذْ أَقْسَمُوا) أي : حلفوا (لَيَصْرِمُنَّها) أي : ليقطعن نخلهم (مُصْبِحِينَ) أي : في أول الصباح. وقد بقيت من الليل ظلمة لئلّا يبقى للمساكين شيء.

وفي قوله عزوجل : (وَلا يَسْتَثْنُونَ) قولان : أحدهما : لا يقولون : إن شاء الله ، قاله الأكثرون. والثاني : لا يستثنون حقّ المساكين ، قاله عكرمة ، (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) أي : من أمر ربّك. قال الفرّاء : الطّائف لا يكون إلّا بالليل. قال المفسّرون : بعث الله عليها نارا بالليل ، فاحترقت ، فصارت سوداء ، فذلك قوله عزوجل : (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : كالرّماد الأسود ، قاله ابن عباس. والثاني : كالليل المسودّ ، قاله الفرّاء. وكذلك قال ابن قتيبة : أصبحت سوداء كالليل محترقة. والليل : هو الصّريم ، والصّبح أيضا : صريم ، لأنّ كلّ واحد منهما ينصرم عن صاحبه. والثالث : أصبحت قد ذهب ما فيها من الثمر ، فكأنه قد صرم ، أي : قطع ، وجذّ حكاه ابن قتيبة أيضا.

قوله عزوجل : (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي : نادى بعضهم بعضا لمّا أصبحوا (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) يعني : الثّمار والزّروع والأعناب (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي : قاطعين للنّخل ، (فَانْطَلَقُوا) أي : ذهبوا إلى جنّتهم (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) قال ابن قتيبة : يتشاورون ب (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ).

قوله : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) فيه ثمانية أقوال : أحدها : على قدرة ، قاله ابن عباس. والثاني : على فاقة ، قاله الحسن في رواية. والثالث : على جد ، قاله الحسن في رواية ، وقتادة ، وأبو العالية ، والفرّاء! ومقاتل. والرابع : على أمر مجمع قد أسّسوه بينهم ، قاله مجاهد ، وعكرمة. والخامس : أنّ الحرد ، اسم الجنّة ،

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ٢١٠ : قال بعض العلماء : على من حصد زرعا أو جدّ ثمره أن يواسي منها من حضره ، وذلك معنى قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١] وأنه غير الزكاة. وقال بعضهم : وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. وقيل : إنما نهى عن ذلك خشية الحياة وهوام الأرض.

قلت : الأول أصح ، والثاني : حسن ، وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان ، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥] وفي الصحيح : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» متفق عليه. اه.


قاله السّدّيّ. والسادس : أنه الحنق والغضب على المساكين ، قاله الشّعبي ، وسفيان ، وأنشد أبو عبيدة :

أسود شرى لاقت أسود خفيّة

تساقوا على حرد دماء الأساود (١)

والسابع : أنه المنع ، مأخوذ من حاردت السّنّة فليس فيها مطر ، وحاردت النّاقة فليس لها لبن ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة. والثامن : أنه القصد. يقال : حردت حردك ، أي : قصدت قصدك ، حكاه الفرّاء ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. وأنشدوا :

قد جاء سيل كان من أمر الله

يحرد حرد الجنّة المغلّه

أي : يقصد قصدها. قال ابن قتيبة : وفيها لغتان : حرد ، وحرد ، كما يقال : الدّرك ، والدّرك.

وقوله : (قادِرِينَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : قادرين على جنّتهم عند أنفسهم ، قاله قتادة. والثاني : قادرين على المساكين ، قاله الشّعبي. والثالث : أنّ المعنى : منعوا وهم قادرون ، أي : واجدون ، قاله ابن قتيبة ، قوله : (فَلَمَّا رَأَوْها) محترقة (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي : قد ضللنا طريق جنّتنا ، فليست هذه. ثم علموا أنها عقوبة ، فقالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي : حرمنا ثمر جنّتنا بمنعنا المساكين (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعدلهم ، وأفضلهم (لَوْ لا) أي : هلّا (تُسَبِّحُونَ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : هلّا تستثنون عند قولكم : (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) قاله ابن جريج والجمهور. والمعنى : هلّا قلتم : إن شاء الله. قال الزّجّاج : وإنما قيل للاستثناء : تسبيح ، لأنّ التسبيح في اللغة : تنزيه الله عزوجل عن السّوء. والاستثناء تعظيم لله ، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلّا بمشيئة الله. والثاني : أنه كان استثناؤهم قول : «سبحان الله» قاله أبو صالح. والثالث : هلّا تسبّحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم ، حكاه الثّعلبي. وقوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) فنزّهوه أن يكون ظالما فيما صنع ، وأقرّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بمنعنا المساكين (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي : يلوم بعضهم بعضا في منع المساكين حقوقهم. يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا. ويقول الآخر : أنت فعلت ، ثم نادوا على أنفسهم بالويل ، فقالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) حين لم نصنع ما صنع آباؤنا ، ثم رجعوا إلى الله تعالى فسألوه أن يبدّلهم خيرا منها ، فذلك قوله : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها). وقرأ قوم : «يبدلنا» بالتخفيف ، وهما لغتان. وفرّق قوم بينهما ، فقالوا : التبديل : تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية. والإبدال : إزالة الشيء ووضع غيره مكانه. ونقل أنّ القوم أخلصوا ، فبدّلهم الله جنّة العنقود منها وقر بغل (٢).

قوله عزوجل : (كَذلِكَ الْعَذابُ) ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا. وهاهنا قصة أهل الجنّة. ثم قال عزوجل : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يعني : المشركين. ثم ذكر ما للمتّقين عنده بما بعد هذا ، فقال المشركون : إنّا لنعطى في الآخرة أفضل ممّا يعطون ، فقال تعالى مكذّبا لهم : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) قال الزّجّاج : هذه ألف الاستفهام مجازها هاهنا مجاز التوبيخ والتقرير.

قوله عزوجل : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي : كيف تقضون بالجور ، (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) أنزل من عند الله (فِيهِ) هذا (تَدْرُسُونَ) أي : تقرؤون ما فيه (إِنَّ لَكُمْ) في ذلك الكتاب (لَما تَخَيَّرُونَ) أي : ما تختارون وتشتهون. وقرأ أبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري ، وأبو عمران : «أن لكم» بفتح الهمزة. وهذا تقريع

__________________

(١) البيت للأشهب بن رميلة الذي كان يهاجي الفرزدق ، كما في «الكامل» للمبرد ٤٣٨ و«الخزانة» ٢ / ٥٠٨.

(٢) وقر بغل : حمل بغل.


لهم ، وتوبيخ على ما يتمنّون من الباطل ، (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ) أي : ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على ما تدّعون بأيمان بالغة ، أي : مؤكّدة. وكلّ شيء متناه في الجودة والصحة فهو بالغ. ويجوز أن يكون المعنى : بالغة إلى يوم القيامة ، أي : تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. قال الفرّاء : والقرّاء على رفع «بالغة» إلّا الحسن فإنه ينصبها على مذهب المصدر ، كقوله عزوجل : (حَقًّا). ومعنى الآية : هل لكم أيمان علينا بالغة بأنّ لكم ما تحكمون؟! لمّا كانت اللام في جواب «إن» كسرتها.

قوله عزوجل : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الكفيل ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والمعنى : أيّهم كفل بأنّ لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير. والثاني : أنه الرسول ، قاله الحسن.

قوله عزوجل : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) يعني : الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى ، والمعنى : ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا. وقيل : يشهدون لهم بصدق ما ادّعوا (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في أنها شركاء لله. وإنما أضيف الشرك إليهم لادّعائهم أنهم شركاء لله.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧))

(يَوْمَ يُكْشَفُ) المعنى : فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق. قرأ الجمهور : «يكشف» بضمّ الياء ، وفتح الشين. وقرأ ابن أبي عبلة ، وعاصم الجحدريّ ، وأبو الجوزاء ، بفتح الياء ، وكسر الشين. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن عباس : «تكشف» بتاء مفتوحة ، وبكسر الشين. وقرأ ابن مسعود ، وأبو مجلز ، وابن يعمر ، والضّحّاك : «نكشف» بنون مفتوحة مع كسر الشين. وهذا اليوم هو يوم القيامة. وقد روى عكرمة عن ابن عباس : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : يكشف عن شدّة ، وأنشدوا :

وقامت الحرب بنا على ساق

وهذا قول مجاهد ، وقتادة.

قال ابن قتيبة : وأصل هذا أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجدّ فيه ، شمّر عن ساقه ، فاستعيرت السّاق في موضع الشدّة ، هذا قول الفرّاء ؛ وأبي عبيدة ، واللغويين. وقد أضيف هذا الأمر إلى الله تعالى.

(١٤٨١) فروي في «الصّحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه «يكشف عن

____________________________________

(١٤٨١) صحيح. أخرجه البخاري ٧٤٣٩ و ٤٩١٩ وابن حبان ٧٣٧٧ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٧٤٥ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢٢١ من حديث أبي سعيد. وأخرجه مسلم ١٨٣ من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم به مطوّلا. وأخرجه أحمد ٣ / ١٦ ـ ١٧ من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن زيد بن أسلم به


ساقه» ، وهذا إضافة إليه ، لأنّ الكلّ له وفعله. وقال أبو عمر الزّاهد : السّاق : يراد بها النّفس (١) ، ومنه قول عليّ رضي الله عنه : أقاتلهم ولو تلفت ساقي ، أي : نفسي. فعلى هذا يكون المعنى : يتجلّى لهم.

قوله تعالى : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يعني : المنافقين (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) كأنّ في ظهورهم سفافيد الحديد. قال النّقّاش : وليس ذلك بتكليف لهم أن يسجدوا ، وهم عجزة ، ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي : خاضعة (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي : تغشاهم (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يعني : بالأذان في دار الدنيا ، ويؤمرون بالصلاة المكتوبة (وَهُمْ سالِمُونَ) أي : معافون ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد. وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة. وكان كعب يقول : والله ما نزلت هذه الآية إلّا في الذين يتخلّفون عن الجماعات (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني : القرآن. والمعنى : خلّ بيني وبينه. قال الزّجّاج : أي : لا تشغل قلبك به ، كله إليّ فأنا أكفيك أمره. وذكر بعض المفسّرين أنّ هذا القدر من الآية إلى قوله : «الحديث» منسوخ بآية السيف. وما بعد هذا مفسّر في الأعراف (٢) إلى قوله عزوجل : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) فإنها مفسّرة والتي تليها في الطّور (٣).

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

قوله عزوجل : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : اصبر على أذاهم لقضاء ربّك الذي هو آت. وقيل : معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف.

قوله عزوجل : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) وهو يونس. وفي ما ذا نهي أن يكون مثله قولان : أحدهما : أنه العجلة ، والغضب ، قاله قتادة. والثاني : الضّعف عن تبليغ الرّسالة ، قاله ابن جرير. قال ابن الأنباري : وهذا لا يخرج يونس من أولي العزم ، لأنها خطيئة. ولو قلنا : إنّ كلّ مخطئ من الأنبياء ليس من أولي العزم ، خرجوا كلّهم إلّا يحيى. ثم أخبر عن عقوبته إذ لم يصبر ، فقال عزوجل : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) قال الزّجّاج : مملوء غمّا وكربا.

قوله عزوجل : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ) وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة : «لو لا أن تداركته» بتاء خفيفة ، وبتاء ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال. وقرأ أبو هريرة ، وأبو المتوكّل : «تداركه» بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال. وقرأ أبيّ بن كعب : «تتداركه» بتاءين خفيفتين (نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فرحمه بها ، وتاب عليه من معاصيه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) وقد بيّنّا معنى «العراء» في الصّافّات (٤). ومعنى الآية : أنه نبذ غير مذموم لنعمة الله عليه بالتّوبة والرّحمة. وقال ابن جريج : نبذ بالعراء ، وهي أرض المحشر ، فالمعنى : أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي : استخلصه واصطفاه ، وخلّصه

____________________________________

مطوّلا. وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٧٣ من طريق هشام بن سعد عن زيد به.

__________________

(١) هذه الأقوال جميعا يردها الحديث الصحيح المتقدم ، ولم يسق المصنف لفظه.

(٢) الأعراف : ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٣) الطور : ٣٩ ـ ٤٠.

(٤) الصافات : ١٤٥.


من الذّمّ (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) فردّ عليه الوحي ، وشفّعه في قومه ونفسه ، قوله : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قرأ الأكثرون بضمّ الياء ، من أزلقته ، وقرأ أهل المدينة ، وأبان بفتحها من زلقته أزلقه ، وهما لغتان مشهورتان في العرب. قال الزّجّاج : يقال : زلق الرّجل رأسه أزلقه : إذا حلقه. وفي معنى الآية للمفسّرين قولان (١) :

(١٤٨٢) أحدهما : أنّ الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعين ، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئا ، ثم يرفع جانب خبائه ، فتمرّ به النّعم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ، فما تذهب إلّا قليلا حتى يسقط منها عدّة ، فسأل الكفّار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعين ، فعصم الله نبيّه ، وأنزل هذه الآية ، وهذا قول الكلبي ، وتابعه قوم من المفسّرين تلقّفوا ذلك من تفسيره ، منهم الفرّاء.

والثاني : أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظرا سديدا يكاد يزلقه من شدّته ، أي : يلقيه إلى الأرض. وهذا مستعمل في كلام العرب. يقول القائل : نظر إليّ فلان نظرا كاد يصرعني. وأنشدوا :

يتقارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزيل مواطئ الأقدام

أي : ينظر بعضهم إلى بعض نظرا شديدا بالعداوة يكاد يزيل الأقدام ، وإلى هذا ذهب المحقّقون ، منهم ابن قتيبة ، والزّجّاج. ويدل على صحته أنّ الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن ، وهو قوله تعالى : (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) والقوم كانوا يكرهون ذلك أشدّ الكراهة ، فيحدّون النظر إليه بالبغضاء. وإصابة العين ، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان ، لا مع البغض فلا يظنّ بالكلبي أنه فهم معنى الآية. قوله : (وَما هُوَ) يعني : القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) أي : موعظة.

____________________________________

(١٤٨٢) عزاه المصنف للكلبي ، وهو متهم بالكذب ، فهذا خبر باطل ، لا أصل له.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٨٢ : وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق ، بأمر الله ـ عزوجل ـ. وقال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ٢٢٢ : أخبر الله بشدة عداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين ، فعصم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال القشيري : وفي هذا نظر ، لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض.

قلت : أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرناه ، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك ، يقال : زلقه ، يزلقه ، أزلقه ، إذا نحّاه وأبعده. فمعنى الكلمة إذا التنحية والإزالة ، وذلك لا يكون في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بهلاكه وموته.


سورة الحاقّة

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

(الْحَاقَّةُ) : القيامة. قال الفرّاء : إنما قيل لها : حاقّة ، لأنّ فيها حواقّ الأمور. وقال الزّجّاج : إنما سمّيت الحاقّة ، لأنها تحقّ كلّ إنسان بعمله من خير وشرّ.

قوله عزوجل : (مَا الْحَاقَّةُ) هذا استفهام ، معناه التفخيم لشأنها ، كما تقول : زيد ، ما زيد؟ على التعظيم لشأنه. ثم زاد في التهويل بأمرها ، فقال عزوجل : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) أي : لأنك لم تعاينها ، ولم تدر ما فيها من الأهوال. ثم أخبر عن المكذّبين بها ، فقال عزوجل : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) قال ابن عباس : القارعة : اسم من أسماء يوم القيامة. قال مقاتل : وإنما سمّيت بالقارعة ، لأنّ الله تعالى يقرع أعداءه بالعذاب. وقال ابن قتيبة : القارعة : القيامة لأنها تقرع ، يقال : أصابتهم قوارع الدّهر. وقال الزّجّاج : لأنها تقرع بالأهوال. وقال غيرهم : لأنها تقرع القلوب بالفزع.

فأما (بِالطَّاغِيَةِ) ففيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها طغيانهم وكفرهم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبو عبيدة وابن قتيبة. قال الزّجّاج : ومعنى الطّاغية عند أهل اللغة : طغيانهم. و«فاعلة» قد يأتي بمعنى المصادر ، نحو عاقبة ، وعافية. والثاني : بالصّيحة الطّاغية ، قاله قتادة. وذلك أنها جاوزت مقدار الصّياح ، فأهلكتهم. والثالث : أنّ الطّاغية : عاقر النّاقة ، قاله ابن زيد. والرّيح الصّرصر قد فسّرناها في حم السّجدة (١). والعاتية : التي جاوزت المقدار. وجاء في التفسير أنها عتت على خزّانها يومئذ ، فلم يكن لهم عليها سبيل.

__________________

(١) فصلت : ١٦.


قوله عزوجل : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أي أرسلها وسلّطها. والتّسخير : استعمال الشيء بالاقتدار.

وفي قوله عزوجل : (حُسُوماً) ثلاثة أقوال (١) : أحدها : تباعا ، قاله ابن عباس. قال الفرّاء : الحسوم : التّباع ، يقال في الشيء إذا تتابع فلم ينقطع أوله عن آخره : حسوم. وإنما أخذ ـ والله أعلم ـ من حسم الدّاء : إذا كوي صاحبه ، لأنه يحمى ثم يكوى ، ثم يتابع الكيّ عليه. والثاني : كاملة ، قاله الضّحّاك. فيكون المعنى : أنها حسمت الليالي والأيام فاستوفتها على الكمال ، لأنها ظهرت مع طلوع الشمس ، وذهبت مع غروبها. قال مقاتل : هاجت الريح غدوة ، وسكنت بالعشيّ في اليوم الثامن ، وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم ، ثم بعث الله طيرا أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر. والثالث : أنها حسمتهم ، فلم تبق منهم أحدا ، أي : أذهبتهم وأفنتهم ، هذا قول ابن زيد ، قال الزّجّاج : وهذا هو الذي توجبه اللغة.

قوله عزوجل : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها) أي : في تلك الليالي والأيام (صَرْعى) وهو جمع صريع ، لأنهم صرعوا بموتهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) أي : أصول نخل (خاوِيَةٍ) أي : بالية. وقد بيّنّا هذا في سورة القمر (٢).

قوله عزوجل : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من بقاء ، قاله الفرّاء. والثاني : من بقيّة ، قاله أبو عبيدة. قال : وهو مصدر كالطّاغية. والثالث : هل ترى لهم من أثر؟ قاله ابن قتيبة ، قوله : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) قرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، والكسائيّ ، وأبان : بكسر القاف ، وفتح الباء. والباقون : بفتح القاف ، وإسكان الباء. فمن كسر القاف أراد به : من يليه ويحفّ به من جنوده وأتباعه. ومن فتحها أراد من كان قبله من الأمم الكافرة. وفي «المؤتفكات» ثلاثة أقوال : أحدها : قرى قوم لوط. والمعنى : وأهل المؤتفكات ، قاله الأكثرون. والثاني : أنهم الذين ائتفكوا بذنوبهم ، أي : هلكوا بالذّنوب التي أعظمها الإفك ، وهو الكذب ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنه قارون وقومه ، حكاه الماوردي.

قوله عزوجل : (بِالْخاطِئَةِ) قال ابن قتيبة : أي : بالذنوب ، وقال الزّجّاج : الخاطئة : الخطأ العظيم (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي : كذّبوا رسلهم (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي : زائدة على الأخذات ، قوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي : تجاوز حدّه حتى علا على كلّ شيء في زمن نوح (حَمَلْناكُمْ) يعني : حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم (فِي الْجارِيَةِ) وهي : السفينة التي تجري في الماء (لِنَجْعَلَها) أي : لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوح ، ونجاة من حملنا معه (تَذْكِرَةً) أي : عبرة ، وموعظة (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي

__________________

(١) قال الزمخشري رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣ : قوله تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً). والصرصر : الشديدة الصوت لها صرصرة. وقيل الباردة من الصرّ ، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر : فهي تحرق لشدة بردها (عاتِيَةٍ) شديدة العصف والعتو استعارة ، أو عتت على عاد ، فما قدروا على ردّها بحيلة ، من استتار ببناء ، أو لياذ بجبل ، أو اختفاء في حفرة. فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم والحسوم لا يخلو من أن يكون حاسم كشهود وقعود أو مصدرا كالشكور والكفور ، فإن كان جمعا فمعنى قوله : (حُسُوماً) نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة ، أو متتابعة هبوب الرياح : ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء.

وتحسم حسوما : تستأصل استئصالا.

(٢) القمر : ٢٠.


أذن واعية أي أذن تحفظ ما سمعت ، وتعمل به. وقال الفرّاء : لتحفظها كلّ أذن ، فتكون عظة لمن يأتي بعده.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

قوله عزوجل : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وفيها قولان : أحدهما : أنها النّفخة الأولى ، قاله عطاء. والثاني : الأخيرة ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. قوله : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي : حملت الأرض والجبال وما فيها (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي : كسرتا ، ودقّتا دقّة واحدة ، لا يثني عليها حتى تستوي بما عليها من شيء ، فتصير كالأديم الممدود. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في الأعراف عند قوله عزوجل : (جَعَلَهُ دَكًّا) (١). قال الفرّاء : وإنما قال : فدكّتا ، ولم يقل : فدككن ، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد ، كقوله عزوجل : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) (٢) وأنشدوا :

هما سيّدانا يزعمان وإنّما

يسوداننا أن يسّرت غنماهما (٣)

والعرب تقول : قد يسّرت الغنم : إذا ولدت ، أو تهيّأت للولادة.

قوله عزوجل : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) لنزول من فيها من الملائكة (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) فيه قولان : أحدهما : أنّ وهيها : ضعفها وتمزّقها من الخوف ، قاله مقاتل. والثاني : أنه تشقّقها ، قاله الفرّاء : (وَالْمَلَكُ) يعني : الملائكة ، فهو اسم جنس (عَلى أَرْجائِها) أي : على جوانبها. قال الزّجّاج : ورجاء كلّ شيء : ناحيته ، مقصور. والتثنية : رجوان ، والجمع : أرجاء. وأكثر المفسّرين على أنّ المشار إليها السماء. قال الضّحّاك : إذا انشقت السماء كانت الملائكة على حافّتها حتى يأمرهم الله تعالى ، فينزلون إلى الأرض ، فيحيطون بها ، ومن عليها. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : على أرجاء الدنيا.

قوله عزوجل : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) فيه ثلاثة أقوال (٤) : أحدها : فوق رؤوسهم ، أي : العرش

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

(٢) الأنبياء : ٣٠.

(٣) البيت لأبي أسيدة الدبيري ، كما في «اللسان» يسبر ـ.

(٤) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٨٩ : أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة ويحتمل أن


على رؤوس الحملة ، قاله مقاتل. والثاني : فوق الذين على أرجائها ، أي : أنّ حملة العرش فوق الملائكة الذين هم على أرجائها. والثالث : أنهم فوق أهل القيامة ، حكاهما الماورديّ ، (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (ثَمانِيَةٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ثمانية أملاك.

(١٤٨٣) وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أمدّهم الله بأربعة أملاك آخرين ، وهذا قول الجمهور.

والثاني : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدّتهم إلا الله عزوجل ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة. والثالث : ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إلا الله عزوجل ، قاله مقاتل.

(١٤٨٤) وقد روى أبو داود في «سننه» من حديث جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، أنّ ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام».

قوله عزوجل : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) على الله لحسابكم (لا تَخْفى) عليه. قرأ حمزة ، والكسائيّ : «لا يخفى» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. والمعنى : لا يخفى عليه (مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي : نفس خافية ، أو فعلة خافية.

(١٤٨٥) وفي حديث أبي موسى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأمّا عرضتان فجدال ، ومعاذير ، وأمّا الثالثة ، فعندها تتطاير الصّحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله ، وكان عمر بن الخطّاب يقول : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتزيّنوا للعرض الأكبر ، يومئذ لا تخفى منكم خافية. قوله : (فَيَقُولُ هاؤُمُ) قال الزّجّاج : «هاؤم» أمر للجماعة بمنزلة هاكم. تقول للواحد : ها يا رجل ، وللاثنين : هاؤما يا رجلان. وللثلاثة : هاؤم يا رجال. قال المفسّرون : إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسرورا بنجاته. وذكر مقاتل أنها نزلت في أبي

____________________________________

(١٤٨٣) ضعيف. أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» ١٤٨ والطبري ٣٤٧٩٣ من طريق محمد بن إسحاق قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكره. وهذا معضل. وأخرجه البيهقي في «البعث والنشور» ٦٦٩ والطبراني في «المطوّلات» ٣٦٠ من حديث أبي هريرة في أثناء حديث الصور الطويل. وفي إسناده إسماعيل بن رافع وهو ضعيف ، قال ابن عدي : أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء اه.

(١٤٨٤) حسن. أخرجه أبو داود ٤٧٢٧ وابن طهمان في «مشيخته» ٢٣٨ / ٢ من حديث جابر ، وإسناده حسن لأجل إبراهيم بن طهمان ، فهو وإن روى له البخاري ومسلم ، فقد تكلم فيه غير واحد. لكن لأصله شواهد.

انظر «الصحيحة» ١٥١.

(١٤٨٥) ضعيف. أخرجه أحمد ٤ / ٤١٤ وابن ماجة ٤٢٧٧ والطبري ٣٤٧٩٥ عن الحسن عن أبي موسى ، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما ، وأخرجه الترمذي ٢٤٢٥ عن الحسن عن أبي هريرة ، وهذا منقطع أيضا ، الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئا. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري ٣٤٧٩٧ ، وهذا ضعيف أيضا ، فإن عامة مراسيل قتادة إنما هي عن الحسن ، فالحديث مداره على الحسن ، ولم تتعدد مخارجه ، فهو ضعيف والراجح فيه الوقف ، والله أعلم. وقد أخرجه الطبري وغيره من قول ابن مسعود غير مرفوع ، وهو أصح والله أعلم.

وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٨٠ بتخريجنا.

__________________

يكون المراد بهذا العرش ، العرش العظيم ، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء ، والله أعلم بالصواب اه.


سلمة بن عبد الأسد (١).

قوله عزوجل : (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي : علمت وأيقنت في الدنيا (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي : أبعث ، وأحاسب في الآخرة (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) أي : في حالة من العيش (راضِيَةٍ) قال الفرّاء : أي : فيها الرضى. وقال الزّجّاج : أي : ذات رضى يرضاها من يعيش فيها. وقال أبو عبيدة : مجازها مجاز مرضيّة ، قوله : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي : عالية المنازل (قُطُوفُها) أي : ثمارها (دانِيَةٌ) أي : قريبة ممن يتناولها ، وهي جمع قطف. والقطف : ما يقطف من الثمار. قال البراء بن عازب : يتناول الرجل الثمرة وهو نائم.

قوله عزوجل : (كُلُوا) أي : يقال لهم : كلوا (وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ) أي : قدّمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية ، وهي أيام الدنيا. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) قال مقاتل : نزلت في الأسود بن عبد الأسد ، قتله حمزة ببدر ، وهو أخو أبي سلمة. وقيل : نزلت في أبي جهل (٢).

قوله عزوجل : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) وذلك لما يرى فيه من القبائح (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب ، إنما كلّه عليه. وكان ابن مسعود ، وقتادة ، ويعقوب ، يحذفون الهاء من «كتابيه» ، و«حسابيه» في الوصل. قال الزّجّاج : والوجه أن يوقف على هذه الهاءات ، ولا توصل ، لأنها أدخلت للوقف. وقد حذفها قوم في الأصل ، ولا أحبّ مخالفة المصحف ، وكذلك قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (٣).

قوله عزوجل : (يا لَيْتَها) يعني : الموتة التي ماتها في الدنيا (كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي : القاطعة للحياة ، فكأنه تمنّى دوام الموت ، وأنه لم يبعث للحساب.

قوله (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) فيه قولان : أحدهما : ضلّت عني حجّتي ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. والثاني : زال عني ملكي ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (خُذُوهُ) أي : يقول الله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أي : اجمعوا يده إلى عنقه (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي : أدخلوه النّار. وقال الزّجّاج : اجعلوه يصلى النّار. قوله : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) وهي : حلق منتظمة (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) وقال ابن عباس : بذراع الملك. وقال نوف الشّاميّ : كلّ ذراع سبعون باعا ، الباع أبعد مما بينك وبين مكّة ، وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان : كلّ ذراع سبعون ذراعا. وقال مقاتل : ذرعها سبعون ذراعا بالذّراع الأول. ويقال : إنّ جميع أهل النار في تلك السّلسلة.

قوله عزوجل : (فَاسْلُكُوهُ) أي : أدخلوه. قال الفرّاء : وذكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه ، فذلك سلكه فيها. والمعنى : ثم اسلكوا فيه السّلسلة ، ولكنّ العرب تقول : أدخلت رأسي في القلنسوة ، وأدخلتها في رأسي. ويقال : الخاتم لا يدخل في يدي ، وإنما اليد تدخل في الخاتم ، وإنما استجازوا ذلك ، لأن معناه معروف.

قوله عزوجل : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) أي : لا يصدّق بوحدانيته وعظمته (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ

__________________

(١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية ، ليس بشيء.

(٢) الصحيح عموم الآية في كل من يؤتى كتابه بشماله.

(٣) القارعة : ١٠.


الْمِسْكِينِ) أي : لا يطعمه ، ولا يأمر بإطعامه (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي : قريب ينفعه ، أي : يشفع له (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) في ثلاثة أقوال : أحدها : أنه صديد أهل النّار ، قاله ابن عباس. قال مقاتل : إذا سال القيح ، والدّم ، بادروا أكله قبل أن تأكله النار. والثاني : شجر يأكله أهل النار ، قاله الضّحّاك ، والرّبيع. والثالث : أنه غسالة أجوافهم ، قاله يحيى بن سلام. قال ابن قتيبة : وهو «فعلين» من «غسلت» كأنه غسالة.

قوله عزوجل : (إِلَّا الْخاطِؤُنَ) يعني : الكافرين.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣))

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ) «لا» ردّ لكلام المشركين ، كأنه قيل : ليس الأمر كما يقول المشركون (أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ) وقال قوم : «لا» زائدة مؤكّدة والمعنى : أقسم بما ترون ، وما لا ترون ، فأراد جميع الموجودات. وقيل : الأجسام والأرواح (إِنَّهُ) يعني : القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فيه قولان : أحدهما : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله الأكثرون. والثاني : جبريل ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. قال ابن قتيبة : لم يرد أنه قول الرّسول ، وإنما أراد أنه قول الرّسول عن الله تعالى ، وفي الرّسول ما يدلّ على ذلك ، فاكتفى به من أن يقول عن الله ، قوله : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) وقرأ ابن كثير : «يؤمنون» و«يذكّرون» بالياء فيهما. قال الزّجّاج : «ما» مؤكّدة ، وهي لغو في باب الإعراب. والمعنى : قليلا تؤمنون. وقال غيره : أراد نفي إيمانهم أصلا. وقد بيّنّا معنى «الكاهن» في الطّور (١) قال الزّجّاج : وقوله عزوجل : «تنزيل» مرفوع ب «هو» مضمرة يدل عليها قوله عزوجل : «وما هو بقول شاعر» هو تنزيل.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

قوله عزوجل : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) أي : لو تكلّف محمّد أن يقول علينا ما لم نقله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي : لأخذناه بالقوة والقدرة ، قاله الفرّاء ، والمبرّد ، والزّجّاج. قال ابن قتيبة : إنما أقام اليمين مقام القوة ، لأنّ قوة كلّ شيء في ميامنه.

قوله عزوجل : (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) وهو عرق يجري في الظّهر حتى يتّصل بالقلب ، فإذا انقطع بطلت القوى ، ومات صاحبه. قال أبو عبيدة : الوتين : نياط القلب ، وأنشد الشّمّاخ :

إذا بلّغتني وحملت رحلي

عرابة فاشرقي بدم الوتين

وقال الزّجّاج : الوتين : عرق أبيض غليظ كأنه قصبة.

قوله عزوجل : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي : ليس منكم أحد يحجزنا عنه ، وإنما قال تعالى : (حاجِزِينَ) لأنّ أحدا يقع على الجمع ، كقوله عزوجل : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢) ،

__________________

(١) الطور : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٨٥.


هذا قول الفرّاء ، وأبي عبيدة ، والزّجّاج. ومعنى الكلام : لا يتكلّف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلّف ذلك لعاقبناه ، ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه (وَإِنَّهُ) يعني : القرآن (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) في يوم القيامة. يندمون إذا لم يؤمنوا به (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) إضافة إلى نفسه لاختلاف اللفظين ، كقوله عزوجل : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) (١). وقال الزّجّاج : المعنى : وإنه لليقين حقّ اليقين ، وقد شرحنا هذا المعنى ، وما بعدها في الواقعة (٢).

__________________

(١) يوسف : ١٠٩.

(٢) الواقعة : ٩٥ ـ ٩٦.


سورة المعارج

ويقال لها : سورة سأل سائل ، ويقال لها : سورة الواقع. وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

قوله عزوجل : (سَأَلَ سائِلٌ) ، قال المفسّرون :

(١٤٨٦) نزلت في النّضر بن الحارث حين قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (١) ، وهذا مذهب الجمهور ، منهم ابن عباس ، ومجاهد. وقال الرّبيع بن أنس : هو أبو جهل. قرأ أبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر : «سال» بغير همز. والباقون : بالهمز. فمن قرأ : «سأل» بالهمز ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : دعا داع على نفسه بعذاب واقع. والثاني : سأل سائل عن عذاب واقع لمن هو؟ وعلى من ينزل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل الاستهزاء ، فتكون الباء بمعنى «عن» ، وأنشدوا :

فإن تسألوني بالنّساء فإنّني

خبير بأدواء النّساء طبيب (٢)

____________________________________

(١٤٨٦) حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ٦٤٠ عن ابن عباس وإسناده على شرط البخاري ، فيه المنهال صدوق ربما وهم وقد أخرجه له البخاري. وأخرجه الحاكم ٢ / ٥٠٢ عن الأعمش عن سعيد بن جبير قوله ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورمز له الذهبي في «التلخيص» أنه على شرط البخاري وزاد السيوطي نسبته في «الدر» ٦ / ٤١٥ للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. وتقدم في الأنفال.

__________________

(١) الأنفال : ٣٢.

(٢) البيت لعلقمة بن عبدة ، وهو في ديوانه ١١ و«أدب الكاتب» ٥٠٥.


والثالث : سأل سائل عذابا واقعا ، والباء زائدة.

ومن قرأ بلا همز ففيه قولان : أحدهما : أنه من السّؤال أيضا ، وإنما ليّن الهمزة ، يقال : سأل ، وسال ، وأنشد الفرّاء :

تعالوا فسألوا يعلم النّاس أيّنا

لصاحبه في أوّل الدّهر نافع

والثاني : المعنى : سال واد في جهنّم بالعذاب للكافرين ، وهذا قول زيد بن ثابت ، وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرّحمن. وكان ابن عباس في آخرين يقرءون «سال سيل» بفتح السين ، وسكون الياء من غير ألف ولا همز. وإذا قلنا : إنه من السؤال ، فقوله عزوجل : «للكافرين» جواب للسؤال ، كأنه لمّا سأل : لمن هذا العذاب؟ قيل : للكافرين. والواقع : الكائن. والمعنى : أنّ العذاب الذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) قال الزّجّاج : المعنى : ذلك العذاب واقع من الله للكافرين.

قوله عزوجل : (ذِي الْمَعارِجِ) فيه قولان : أحدهما : أنها السّموات ، قاله ابن عباس. وقال مجاهد : هي معارج الملائكة. قال ابن قتيبة : وأصل «المعارج» الدّرج ، وهي من عرج : إذا صعد. قال الفرّاء : لمّا كانت الملائكة تعرج إليه ، وصف نفسه بذلك. قال الخطّابيّ : المعارج : الدّرج ، واحدها :

معرج ، وهو المصعد ، فهو الذي يصعد إليه بأعمال العباد ، وبأرواح المؤمنين. فالمعارج : الطّرائق أي يصعد فيها. والثاني : أنّ المعارج : الفواضل والنّعم ، قاله قتادة.

قوله عزوجل : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) قرأ الكسائيّ : «يعرج» بالياء. والرّوح وفي «الرّوح» قولان : أحدهما : أنه جبريل ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه روح الميّت حين تقبض ، قاله قبيصة بن ذؤيب.

قوله عزوجل : (إِلَيْهِ) أي : إلى الله تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والقرظيّ ، وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إلى أن يفصل بين الخلق.

(١٤٨٧) وفي الحديث : «إنه ليخفّف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة». وقيل : بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عزوجل لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة ، والحقّ يفرغ منه في ساعة من نهار. وقال عطاء : يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا. فعلى هذا يكون المعنى : ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقيل : المعنى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) في يوم (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير.

والثاني : أنه مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو صعده غيرهم قطعه في

____________________________________

(١٤٨٧) حسن بشاهده ورد من حديث أبي سعيد. أخرجه أحمد ٣ / ٧٥ وأبو يعلى ١٣٩٠ من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج به وإسناده ضعيف ، ابن لهيعة ودراج ضعيفان. وأخرجه الطبري ٣٤٨٦٧ وابن حبان ٧٣٣٤ من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج به ، وقد توبع ابن لهيعة هاهنا فانحصرت العلة في دراج. وله شاهد من حديث أبي هريرة : أخرجه ابن حبان ٧٣٣٣ وأبو يعلى ٦٠٢٥ وإسناده على شرط البخاري ومسلم ، وهو صحيح إن كان سمعه يحيى بن أبي كثير من أبي سلمة ، فهو وإن روى عنه ، فإنه كثير الإرسال أيضا ، وبكل حال الحديث حسن.


خمسين ألف سنة ، وهذا معنى قول مجاهد.

قوله عزوجل : (فَاصْبِرْ) أي : اصبر على تكذيبهم إيّاك (صَبْراً جَمِيلاً) لا جزع فيه ، وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم ، ثم نسخ بآية السيف ، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) يعني : العذاب (بَعِيداً) غير كائن (وَنَراهُ قَرِيباً) كائنا ، لأنّ كلّ ما هو آت قريب. ثم أخبر متى يكون فقال عزوجل : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) وقد شرحناه في الكهف (١) (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي : كالصّوف ، فشبّهها في ضعفها ولينها بالصّوف. وقيل : شبّهها به في خفّتها وسيرها ، لأنه قد نقل أنها تسير على صورها ، وهي كالهباء. قال الزّجّاج : «العهن» الصّوف. واحدته : عهنة ، ويقال : عهنة ، وعهن ، مثل : صوفة ، وصوف. وقال ابن قتيبة : «العهن» الصّوف المصبوغ.

قوله عزوجل : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠)) قرأ الأكثرون : «يسأل» بفتح الياء. والمعنى : لا يسأل قريب عن قرابته ، لاشتغاله بنفسه. وقال مقاتل : لا يسأل الرجل عن قرابته ، ولا يكلّمه من شدّة الأهوال. وقرأ معاوية ، وأبو رزين ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة ، وأبو جعفر بضمّ الياء. والمعنى : لا يقال للحميم : أين حميمك؟

قوله عزوجل : (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي : يعرّف الحميم حميمه حتى يعرفه ، وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه ، ولا يكلّمه اشتغالا بنفسه. يقال : بصّرت زيدا كذا : إذا عرّفته إيّاه. قال ابن قتيبة : معنى الآية : لا يسأل ذو قرابة عن قرابته ، ولكنهم يبصّرونهم ، أي : يعرّفونهم. وقرأ قتادة ، وأبو المتوكّل ، وأبو عمران «يبصرونهم» بإسكان الباء ، وتخفيف الصاد ، وكسرها.

قوله عزوجل : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يعني : يتمنّى المشرك لو قبل منه هذا الفداء (يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ) وهي الزّوجة (وَفَصِيلَتِهِ) قال ابن قتيبة : أي : عشيرته. وقال الزّجّاج : هي أدنى قبيلته منه. ومعنى (تُؤْوِيهِ) تضمّه ، فيودّ أن يفتدي بهذه المذكورات (ثُمَّ يُنْجِيهِ) من ذلك الفداء (كَلَّا) لا ينجيه ذلك (إِنَّها لَظى) قال الفرّاء هو اسم من أسماء جهنّم فلذلك لم يجر لها ذكر (٢) ، وقال غيره : معناها في اللغة : اللهب الخالص ، وقال ابن الأنباري : سمّيت لظى لشدة توقّدها وتلهّبها ، يقال : هو يتلظّى ، أي : يتلهّب ويتوقّد. وكذلك النار تتلظّى يراد به هذا المعنى. وأنشدوا :

جحيما تلظّى لا تفتّر ساعة

ولا الحرّ منها غابر الدّهر يبرد

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) قرأ الجمهور «نزّاعة للشوى» بالرفع على معنى : هي نزّاعة. وقرأ عمر بن الخطّاب ، وأبو رزين ، وابن عبد الرّحمن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن أبي عبلة ، وحفص عن عاصم «نزّاعة» بالنصب. قال الزّجّاج : وهذا على أنها حال مؤكّدة ، كما قال تعالى : (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) ويجوز أن ينصب على معنى «إنها تتلظى نزاعة». وفي المراد ب الشّوى أربعة أقوال : أحدها : جلدة الرأس ، قاله مجاهد. والثاني : محاسن الوجه ، قاله الحسن ، وأبو العالية. والثالث : العصب ، والعقب ، قاله ابن جبير. والرابع : الأطراف : اليدان ، والرّجلان ، والرأس ، قاله الفرّاء ، والزّجّاج.

قوله عزوجل : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ) عن الإيمان (وَتَوَلَّى) عن الحق. قال المفسّرون : تقول : إليّ يا

__________________

(١) الكهف : ٢٩.

(٢) فاطر : ٣١.


مشرك ، إليّ يا منافق (وَجَمَعَ فَأَوْعى) قال الفرّاء : أي جمع المال في وعاء فلم يؤدّ منه زكاة ، ولم يصل منه رحما.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

قوله عزوجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) قال مقاتل : عنى به أميّة بن خلف الجمحي (١). وفي الهلوع سبعة أقوال : أحدها : أنه الموصوف بما يلي هذه الآية ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة ، والزّجّاج. والثاني : أنه الحريص على ما لا يحلّ له ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : البخيل ، قاله الحسن ، والضّحّاك. والرابع : الشّحيح ، قاله ابن جبير. والخامس : الشّره ، قاله مجاهد. والسادس : الضّجور ، قاله عكرمة ، وقتادة ، ومقاتل ، والفرّاء. والسابع : الشديد الجزع ، قاله ابن قتيبة.

قوله عزوجل : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : إذا أصابه الفقر (جَزُوعاً) لا يصبر ، ولا يحتسب (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) أصابه المال (مَنُوعاً) يمنعه من حقّ الله (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) وهم أهل الإيمان بالله. وإنما استثنى الجمع من الإنسان ، لأنه اسم جنس (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وفيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الذين يحافظون على المكتوبات ، وهو معنى قول ابن مسعود. والثاني : أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة ، قاله عقبة بن عامر ، واختاره الزّجّاج. قال : ويكون اشتقاقه من الدائم ، وهو السّاكن ، كما جاء في الحديث أنه :

__________________

(١) الصحيح عموم الآية ، ولفظ «آل» في «الإنسان» لاستغراق الجنس. وقال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ٢٥١ : قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) يعني الكافر ، عن الضحاك ، والهلع في اللغة : أشد الحرص ، وأسوأ الجزع وأفحشه والمعنى : أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرّ ما أعطي العبد شحّ هالع وجبن خالع» اه. قلت : حسن. أخرجه أبو داود ٢٥١١ والبخاري في «التاريخ» ٦ / ٨ ـ ٩ وابن حبان ٣٢٥٠ وأبو نعيم ٩ / ٥٠ وأحمد ٢ / ٣٠٢ و ٣٢٠ من حديث أبي هريرة وإسناده حسن فيه عبد العزيز بن مروان ، وهو صدوق ، والحديث جوّده العراقي في «الإحياء» ٣ / ٢٥٣.


(١٤٨٨) نهى عن البول في الماء الدّائم.

والثالث : أنهم الذين يكثرون فعل التّطوع ، قاله ابن جبير. (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في الذّاريات (١) وبيّنّا معنى «يوم الدين» في «الفاتحة». وما بعد هذا قد شرحناه في المؤمنين (٢) إلى قوله عزوجل : «لأماناتهم» قرأ ابن كثير وحده : «لأمانتهم» (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «بشهادتهم» على التوحيد. وقرأ حفص عن عاصم : «بشهاداتهم» جمعا ، (قائِمُونَ) أي : يقيمون فيها بالحقّ ولا يكتمونها ، (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ).

(١٤٨٩) نزلت في جماعة من الكفّار جلسوا حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستهزئون بالقرآن ، ويكذّبون به. قال الزّجّاج : والمهطع : المقبل ببصره على الشيء لا يزايله ، وكانوا ينظرون إلى النبيّ نظرة عداوة. وقد سبق الخلاف في قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ) (٣).

قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ). قال الفرّاء : العزون : الحلق ، الخلق الجماعات ، واحدتها : عزة.

(١٤٩٠) وكانوا يجتمعون حول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : لئن دخل هؤلاء الجنّة ، كما يقول محمّد ، فلندخلنّها قبلهم ، فنزل قوله تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وطلحة بن مصرّف ، والأعمش ، والمفضّل عن عاصم «أن يدخل» بفتح الياء ، وضمّ الخاء. وقال أبو عبيدة : عزين جمع عزة ، مثل ثبة ، وثبين ، فهي جماعات في تفرقة.

قوله عزوجل : (كَلَّا) أي : لا يكون ذلك (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) فيه قولان :

أحدهما : من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، فالمعنى : لا يستوجب الجنّة أحد بما يدّعيه من الشّرف على غيره ، إذ الأصل واحد ، وإنما يستوجبها بالطاعة.

والثاني : إنّا خلقناهم من أقذار. فبما يستحقّون الجنّة ولم يؤمنوا؟!

(١٤٩١) وقد روى بشر بن جحّاش عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه تلا هذه الآية (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ثم

____________________________________

(١٤٨٨) صحيح. أخرجه البخاري ٢٣٩ ومسلم ٢٨٢ وأبو داود ٦٩ والترمذي ٦٨ والنسائي ١ / ٤٩ وأحمد ٢ / ٣٤٦ من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» ١ / ٨٣ للكمال ابن الهمام بتخريجي.

(١٤٨٩) انظر الحديث الآتي.

(١٤٩٠) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٤٠ بدون سند ، ولم يعزه لأحد إنما ذكره نقلا عن المفسرين ، فهو واه ، ليس بشيء.

(١٤٩١) ضعيف ، أخرجه البيهقي في «الشعب» ٣٤٧٣ عن جعفر بن محمد الفريابي ثنا صفوان ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا جرير بن عثمان الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصق يوما ... فذكره» رجاله ثقات سوى عبد الرحمن بن ميسرة ، فقد وثقه العجلي وابن حبان على قاعدتهما في توثيق المجاهيل ، وقال علي المديني : مجهول ، والقول قول ابن المديني ، فإنه إمام هذا الشأن.

قلت : ولفظ «بصق في كفه» غريب ، بل هو منكر ، وراويه لا يحتمل التفرد بمثل هذا. وأخرجه ابن ماجة ـ

__________________

(١) الذاريات : ١٩.

(٢) المؤمنون : ٧ ـ ٨.

(٣) إبراهيم : ٤٣ ، والقمر : ٨.


بزق ، وقال : يقول الله عزوجل : أنّى تعجزني ، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سوّيتك ، وعدّلتك ، مشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد ، فجمعت ، ومنعت ، حتى إذا بلغت التّراقي قلت : أتصدّق ، وأنّى أوان الصّدقة؟!».

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ) قد تكلّمنا عليه في الحاقّة (١) والمراد بالمشارق ، والمغارب : مشرق كلّ يوم ومغربه ، (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي : نخلق أمثل منهم ، وأطوع لله حين عصوا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) مفسّر في الواقعة (٢) (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) أي : يلهوا في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا) وقرأ ابن محيصن «يلقوا يومهم الذي يوعدون» وهو يوم القيامة. وهذا لفظ أمر ، معناه الوعيد. وذكر المفسّرون أنه منسوخ بآية السيف. وإذا قلنا : إنه وعيد بلقاء يوم القيامة ، فلا وجه للنّسخ ، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) أي : يخرجون بسرعة كأنهم يستبقون.

قوله عزوجل : (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) قرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم بضمّ النون والصاد. قال ابن جرير : وهو واحد الأنصاب ، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها. فعلى هذا يكون المعنى : كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يسرعون. وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ بفتح النون وسكون الصاد ، وهي في معنى القراءة الأولى ، إلّا أنه مصدر. كقول القائل : نصبت الشيء أنصبه نصبا. قال قتادة : معناه : كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون. وقال ابن جرير : تأويله : كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون. وقرأ ابن عباس ، وأبو مجلز ، والنّخعيّ «نصب» برفع النون ، وإسكان الصاد. وقرأ الحسن ، وأبو عثمان النّهديّ ، وعاصم الجحدريّ «إلى نصب» بفتح النون والصاد جميعا. قال ابن قتيبة : النّصب : حجر ينصب أو صنم ، يقال : نصب ، ونصب ، ونصب. وقال الفرّاء : النّصب والنّصب واحد ، وهو مصدر ، والجمع : الأنصاب. وقال الزّجّاج : النّصب ، والنّصب : العلم المنصوب. قال الفرّاء : والإيفاض : الإسراع.

قوله عزوجل : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) قرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وعمرو بن دينار «ذلّة ذلك اليوم» بغير تنوين ، وبخفض الميم. وباقي السّورة قد تقدّم بيانه (٣).

____________________________________

٢٧٠٧ وأحمد ٤ / ٢١٠ والطبراني ١١٩٣ من طرق عن حريز بن عثمان به. وأخرجه الطبراني ١١٩٤ من طريق ثور بن يزيد الرحبي عن عبد الرحمن بن ميسرة به. وقال البوصيري في «الزوائد» إسناده صحيح؟! واضطرب الألباني فحسن إسناده في «الصحيحة» ١٠٩٩ في حين صححه برقم ١١٤٣؟!! وما تمسك به الألباني قول أبي داود : شيوخ حريز كلهم ثقات ، وفيما قاله نظر ، فابن المديني نص على الرجل بعينه في حين عبارة أبي داود عامة ، على أن علي المديني أثبت وأعلم في الرجال من أبي داود ، وقاعدة أبي داود فيها نظر ، فإن شعبة أثبت من حريز ، وهو مع تعنته في الرجال روى عن ضعفاء ومثل هذا كثير.

__________________

(١) الحاقة : ٣٨.

(٢) الواقعة : ٦٠.

(٣) المعارج : ٤٢.


سورة نوح

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

قوله تعالى : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي : بأن أنذر قومك. و«العذاب الأليم» : الغرق.

قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وعليّ بن نصر عن أبي عمرو «أن اعبدوا الله» بضمّ النون. وقرأ عاصم ، وحمزة ، وعبد الوارث عن أبي عمرو «أن اعبدوا الله» ، بكسر النون. قال أبو عليّ : من ضمّ كره الكسرة قبل الضمّة.

قوله عزوجل : (وَأَطِيعُونِ) أثبت الياء في الحالين يعقوب.

قوله عزوجل : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) «من» هاهنا صلة. والمعنى : يغفر لكم ذنوبكم ، قاله السّدّيّ ومقاتل. وقال الزّجّاج : إنما دخلت «من» هاهنا لتختصّ الذنوب من سائر الأشياء. ولم تدخل لتبعيض الذنوب ، ومثله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض. والمعنى يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان (وَيُؤَخِّرْكُمْ) أي : عن العذاب (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو منتهى آجالهم. والمعنى : فتموتوا عند منتهى آجالكم غير ميتة المعذّبين (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنه أجل الموت ، قاله مجاهد. فيكون المعنى : إنّ أجل الله الذي أجّلكم إليه لا يؤخّر إذا جاء ، فلا يمكنكم حينئذ الإيمان. والثاني : أنه أجل البعث ، قاله الحسن. والثالث : أجل

__________________

(١) الحج : ٣٠.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٠١ : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : يمدّ في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما نهاكم عنه أوقعه بكم وقد يستدل بهذه الآية من يقول : إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة ، كما ورد به الحديث : «صلة الرحم تزيد في العمر» وقوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة ، فإنه إذا أمر الله تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع ، فإنه العظيم الذي قهر كل شيء ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.


العذاب ، قاله السّدّيّ ومقاتل.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤))

قوله عزوجل : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي : تباعدا من الإيمان (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان والطاعة (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلّا يسمعوا صوتي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي : غطّوا بها وجوههم لئلّا يروني (وَأَصَرُّوا) على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بك واتّباعي (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي : أعلنت لهم بالدّعاء. قال ابن عباس : بأعلى صوتي (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) أي : كرّرت الدعاء معلنا (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) قال ابن عباس : يريد أكلّم الرجل بعد الرجل. في السّرّ ، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) قال المفسّرون (١) : منع الله عنهم القطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فقال لهم نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الشرك ، أي : استدعوا مغفرته بالتوحيد (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) قد شرحناه في أوّل الأنعام (٢) ومعنى الكلام أنه أخبرهم أنّ الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة.

قوله عزوجل : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) فيه أربعة أقوال : أحدها : لا ترون لله عظمة ، قاله ابن عباس. والثاني : لا تخافون لله عظمة ، قاله الفرّاء وابن قتيبة. والثالث : لا ترون لله طاعة ، قاله ابن زيد. والرابع : لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد ، قاله الزّجّاج.

قوله (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي : وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إيّاكم من نطفة ، ثم من علقة شيئا بعد شيء إلى آخر الخلق. قال ابن الأنباري : الطّور : الحال ، وجمعه : أطوار. وقال ابن فارس : الطّور : التارة ، طورا بعد طور ، أي : تارة بعد تارة. وقيل : أراد بالأطوار : اختلاف

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٠١ : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) أي ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب ، فإنه من تاب إليه تاب عليه. ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك ، ولهذا قال : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي : متواصلة الأمطار. ولهذا يستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء ، لأجل هذه الآية. وهذا مقام الدعوة بالترغيب.

(٢) الأنعام : ٦.


المناظر والأخلاق ، من طويل ، وقصير ، وغير ذلك ، ثم قرّرهم ، فقال عزوجل : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «طباق» بتنوين القاف ، وكسرها من غير ألف. وقد بيّنّا هذا في سورة الملك (١).

قوله عزوجل : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) فيه قولان (٢) : أحدهما : أن وجه القمر قبل السموات ، وظهره قبل الأرض ، يضيء لأهل السموات ، كما يضيء لأهل الأرض ، وكذلك الشمس ، هذا قول عبد الله بن عمر. والثاني : أنّ القمر في السماء الدنيا. وإنما قيل : «فيهن» لأنهنّ كالشيء الواحد ، ذكره الأخفش والزّجّاج ، وغيرهما. وهذا كما تقول : أتيت بني تميم ، وإنما أتيت بعضهم ، وركبت في السّفن ، قوله : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) يستضيء بها العالم (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني : أنّ مبتدأ خلقكم من الأرض ، وهو آدم (نَباتاً) قال الخليل : معناه : فنبتّم نباتا ، وقال الزّجّاج : «نباتا» محمول في المصدر على المعنى ، لأنّ المعنى أنبتكم : جعلكم تنبتون نباتا. قال ابن قتيبة : هذا مما جاء فيه المصدر على غير المصدر ، لأنه جاء على نبت ، ومثله (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٣) فجاء على «بتّل».

قال الشاعر :

وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأن تتبّعه اتّباعا (٤)

فجاء على اتّبعت.

وقال الآخر :

وإن شئتم تعاودنا عوادا

فجاء على «عاودنا» ، وإنما تجيء المصادر مخالفة للأفعال ، لأنّ الأفعال وإن اختلفت أبنيتها ، واحدة في المعنى.

قوله عزوجل : (سُبُلاً فِجاجاً) قال الفرّاء : هي الطّرق الواسعة.

قوله عزوجل : (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ) قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وعاصم «وولده» بفتح اللام والواو. وقرأ الباقون «ولده» بضمّ الواو ، وسكون اللام. قال الزّجّاج : وهما بمعنى واحد ، مثل العرب ، والعرب ، والعجم ، والعجم. وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «وولده» بكسر الواو ، وإسكان اللام. قال المفسّرون : المعنى : أنّ الأتباع ، والفقراء اتّبعوا رأي الرؤساء والكبراء.

__________________

(١) الملك : ٣.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٠٢ : المقصود أن الله سبحانه (خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي فاوت بينهما في الاستنارة ، فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة ، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها ، وقدّر القمر منازل وبروجا وفاوت نوره ، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ، ليدل على مضي الشهور والأعوام. كما قال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

(٣) المزمل : ٨.

(٤) البيت للقطامي ، وهو في ديوانه ٣٥ و«اللسان» ـ تبع ـ.


قوله عزوجل : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) وقرأ أبو رجاء ، وأبو عمران : «كبارا» برفع الكاف ، وتخفيف الباء. وقرأ أبو يعمر ، وأبو الجوزاء ، وابن محيصن «كبارا» بكسر الكاف مع تخفيف الباء والمعنى «كبيرا» يقال : كبير وكبار وكبّار وقد شرحنا هذا في أوّل ص. ومعنى «المكر» : السّعيّ في الفساد : وذلك أنّ الرؤساء منعوا أتباعهم عن الإيمان بنوح (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي : لا تدعنّ عبادتها (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) قرأ أبو جعفر ، ونافع بضمّ الواو. والباقون بفتحها. وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم. وجاء في التفسير أنّ هذه أسماء قوم صالحين ، كانوا بين آدم ونوح ، فنشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة ، فقال لهم إبليس : لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم ، وأشوق للعبادة ، ففعلوا. ثم نشأ قوم بعدهم ، فقال لهم إبليس : إنّ الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم ، فعبدوهم وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت. وسمّيت تلك الصورة بهذه الأسماء ، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمّين بهذه الأسماء. وقيل : إنما هي أسماء لأولاد آدم ، مات منهم واحد ، فجاء الشيطان فقال : هل لكم أن أصوّر لكم صورته ، فتذكرونه بها؟ فصوّرها. ثم مات آخر ، فصوّر لهم صورته ، إلى أن صوّر صورا خمسة. ثم طال الزمان ، وتركوا عبادة الله ، فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئا؟ فقالوا : من نعبد؟ قال : هذه آلهتكم ، وآلهة آبائكم ، ألا ترونها مصوّرة في مصلّاكم؟! فعبدوها.

وقال الزّجّاج : هذه الأصنام كانت لقوم نوح ، ثم صارت إلى العرب ، فكان «ودّ» لكلب ، و«سواع» لهمدان ، و«يغوث» لمذحج ، و«يعوق» لكنانة و«نسر» لحمير ، وقال مقاتل : إنما كان «سواع» لهذيل و«يعوق» لهمدان «ويغوث» لبني غطيف ، وهم حيّ من بني مراد. وقيل : لمّا جاء الطّوفان غطّى على هذه الأصنام وطمّها التراب ، فلمّا ظهرت بعد الطّوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين ، قال الواقديّ : كان «ودّ» على صورة رجل ، و«سواع» على صورة امرأة ، و«يغوث» على صورة أسد ، و«يعوق» على صورة فرس ، و«نسر» على صورة النّسر من الطير.

قوله عزوجل : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) فيه قولان : أحدهما : وقد أضلّت الأصنام كثيرا من الناس ، أي : ضلّوا بسببها. والثاني : وقد أضلّ الكبراء كثيرا من الناس. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) يعني : الكافرين (إِلَّا ضَلالاً) وهذا دعاء من نوح عليهم ، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) «ما» : صلة. والمعنى من خطيئاتهم : أي من أجلها ، وسببها وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم» وقرأ أبو الجوزاء ، والجحدريّ «خطيئتهم» من غير ألف (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) قال ابن السّائب : المعنى : سيدخلون في الآخرة نارا ، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال ، لأنّ الوعد حقّ ، هذا قول الأكثرين. وقال الضّحّاك : فأدخلوا نارا في الدنيا ، وذلك أنهم كان يغرقون من جانب ، ويحترقون في الماء من جانب.

قوله عزوجل : (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي : لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله.


قوله عزوجل : (دَيَّاراً) قال ابن قتيبة : أي : أحدا. يقال : ما بالمنازل ديّار ، أي : ما بها أحد ، وهو من الدّار ، أي : ليس بها نازل دارا. وقال الزّجّاج : أصلها : «ديوار» فيعال ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت إحداهما في الأخرى. وإنما دعا عليهم نوح ، لأنّ الله عزوجل أوحى إليه أنه (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١).

قوله عزوجل : (يُضِلُّوا عِبادَكَ) وذلك أنّ الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح ، فيحذّره تصديقه.

قوله عزوجل : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) قال المفسّرون : إنّ الله تعالى أخبر نوحا أنهم لا يلدون مؤمنا ، فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة.

قوله عزوجل : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) قال الحسن : وذلك أنهما كانا مؤمنين. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وسعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، والجحدريّ ، والجونيّ «ولوالدي» ساكنة الياء على التوحيد. وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، والزّهريّ ، والنّخعيّ «ولولديّ» من غير ألف على التثنية ، قوله : (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) وقرأ حفص عن عاصم «بيتي» بفتح الياء. وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : منزله ، قاله ابن عباس. والثاني : مسجده ، قاله الضّحّاك. والثالث : سفينته ، حكاه الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) هذا عامّ في كلّ من آمن (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) يعني : الكافرين (إِلَّا تَباراً) أي : هلاكا ومنه قوله عزوجل : (تَبَّرْنا تَتْبِيراً) (٢).

__________________

(١) هود : ٣٦.

(٢) الفرقان : ٣٩.


سورة الجنّ

كلّها مكّيّة بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

قوله عزوجل : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في (الأحقاف) (١) وبيّنّا هنالك سبب استماعهم. ومعنى «النّفر» وعددهم ، فأمّا قوله عزوجل : (قُرْآناً عَجَباً) فمعناه : بليغا يعجب منه لبلاغته (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي : يدعو إلى الصّواب من التوحيد والإيمان (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا) أي : لن نعدل بربّنا أحدا من خلقه. وقيل : عنوا إبليس ، أي : لا نطيعه في الشّرك بالله.

قوله عزوجل : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) اختلف القرّاء في اثنتي عشرة همزة في هذه السّورة ، وهي : «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنّا ظننا» ، «وأنه كان رجال» ، «وأنهم ظنوا» ، «وأنّا لمسنا» ، «وأنّا كنّا» ، «وأنّا لا ندري» ، «وأنّا منّا» ، «وأنّا ظننا أن لن نعجز الله» ، «وأنّا لمّا سمعنا» ، «وأنّا منّا» ، ففتح

__________________

(١) الأحقاف : ٢٩.


الهمزة في هذه المواضع ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، وحفص عن عاصم ، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «وأنه تعالى» ، «وأنه كان يقول» ، «وأنه كان رجال» ، وكسر الباقيات. وقرأ الباقون بكسرهن. وقال الزجاج : والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه : «أن» بالفتح ، وما كان من قول الجن قيل : «إن» بالكسر ، معطوف على قوله عزوجل : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) وعلى هذا يكون المعنى : وقالوا : إنه تعالى جدّ ربّنا ، وقالوا : إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح ، فذكر بعض النّحويين : يعني الفرّاء ، أنه معطوف على الهاء في قوله عزوجل : (فَآمَنَّا بِهِ) وبأنه تعالى جدّ ربّنا. وكذلك ما بعد هذا. وهذا رديء في القياس ، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلّا بإظهار الخافض. ولكن وجهه أن يكون محمولا على معنى آمنّا به ، فيكون المعنى : وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربّنا.

وللمفسّرين في معنى (تَعالى جَدُّ رَبِّنا) سبعة أقوال : أحدها : قدرة ربّنا ، قاله ابن عباس. والثاني : غنى ربّنا ، قاله الحسن. والثالث : جلال ربّنا ، قاله مجاهد ، وعكرمة. والرابع : عظمة ربّنا ، قاله قتادة. والخامس : أمر ربّنا ، قاله السّدّيّ. والسادس : ارتفاع ذكره وعظمته ، قاله مقاتل. والسابع : ملك ربّنا وثناؤه وسلطانه ، قاله أبو عبيدة.

قوله : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) فيه قولان : أحدهما : أنه إبليس ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثاني : أنه كفّارهم ، قاله مقاتل. و«الشّطط» : الجور ، والكذب ، وهو : وصفه بالشريك ، والولد ، ثم قالت الجنّ : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) وقرأ يعقوب : «أن لن تقوّل» بفتح القاف ، وتشديد الواو. والمعنى : ظنناهم صادقين في قولهم : لله صاحبة وولد ، وما ظننّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن ، يقول الله عزوجل : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) وذلك أنّ الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال : أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح.

(١٤٩٢) ومنه حديث كردم بن أبي السّائب الأنصاري ، قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب ، فأخذ حملا من الغنم ، فوثب الراعي فنادى : يا عامر الوادي جارك ، فنادى مناد لا نراه : يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتدّ حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة ، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) الآية.

____________________________________

(١٤٩٢) ضعيف جدا. أخرجه العقيلي ١ / ١٠١ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية ، والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٣٦٤ من طريق فروة ثنا القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري ، وإسناده ضعيف جدا ، فيه عبد الرحمن بن إسحاق ، وهو ضعيف متروك ، وأبوه إسحاق بن الحارث ، ضعفه أحمد وغيره ، ولم يرو عنه سوى ابنه. وقال ابن حبان : منكر الحديث ، فلا أدري التخليط منه أو من ابنه. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ١٩ / ١٩١ ـ ١٩٢ وأبو الشيخ في «العظمة» ١١٢٢ من طريق القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق به. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٢٩ وقال : وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ، وهو ضعيف. والظاهر أنه خفي عليه حال أبيه إسحاق ، وقد ضعفه أحمد وغيره كما نقل الذهبي في «الميزان» ١ / ١٨٩. الخلاصة : الإسناد ضعيف جدا ، والمتن منكر.


وفي قوله عزوجل : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) قولان : أحدهما : أنّ الإنس زادوا الجنّ رهقا لتعوّذهم بهم ، قاله مقاتل. والمعنى : أنهم لمّا استعاذوا بسادتهم قالت السادة : قد سدنا الجنّ والإنس. والثاني : أنّ الجنّ زادوا الإنس رهقا ، ذكره الزّجّاج. قال أبو عبيدة : زادوهم سفها وطغيانا. وقال ابن قتيبة : زادوهم ضلالا. وأصل الرّهق : العيب. ومنه يقال : فلان يرهق في دينه.

قوله عزوجل : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) بقول الله عزوجل : ظنّ الجنّ (كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. وقالت الجنّ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي : أتيناها (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السّمع (وَشُهُباً) جمع شهاب ، وهو النّجم المضيء (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي : كنّا نستمع ، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمينا بالشّهب. ومعنى «رصدا» قد أرصد له المرمى به (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بإرسال محمّد إليهم ، فيكذّبونه ، فيهلكون (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) وهو أن يؤمنوا فيهتدوا ، قاله مقاتل.

والثاني : أنه قول كفرة الجنّ ، والمعنى : لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض بحدوث الرّجم بالكواكب ، أم صلاح؟ قاله الفرّاء. ثم أخبروا عن حالهم ، فقالوا : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) وهم المؤمنون المخلصون (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) فيه قولان : أحدهما : المشركون. والثاني : أنهم أهل الشرّ دون الشّرك (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) قال الفرّاء : أي : فرقا مختلفة أهواؤنا. وقال أبو عبيدة : واحد الطّرائق : طريقة ، وواحد القدد : قدّة ، أي : ضروبا وأجناسا ومللا. قال الحسن ، والسّدّيّ : الجنّ مثلكم ، فمنهم قدريّة ، ومرجئة ، ورافضة.

قوله عزوجل : (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : أيقنّا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي : لن نفوته إذا أراد بنا أمرا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي : أنه يدركنا حيث كنّا (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) وهو القرآن الذي أتى به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آمَنَّا بِهِ) أي : صدّقنا أنه من عند الله عزوجل ، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) أي : نقصا من الثواب (وَلا رَهَقاً) أي : ولا ظلما ومكروها يغشاه (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) قال مقاتل : المخلصون لله (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) وهم المردة. قال ابن قتيبة : القاسطون : الجائرون. يقال : قسط : إذا عدل ، إذا جاور ، وأقسط : إذا عدل. قال المفسّرون : هم الكافرون (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي : توخّوه ، وأمّوه. ثم انقطع كلام الجنّ. قال مقاتل : ثم رجع إلى كفّار مكّة فقال عزوجل : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) يعني : طريقة الهدى ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن ، ومجاهد وقتادة والسدّي ، واختاره الزجاج ، قال : لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة ، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى : وذهب قوم إلى أن المراد بها طريقة الكفر ، قال محمّد بن كعب ، والرّبيع ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، وابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى : لو آمنوا لوسّعنا عليهم (لِنَفْتِنَهُمْ) أي : لنختبرهم (فِيهِ) فننظر كيف شكرهم. والماء الغدق : الكثير. وإنما ذكر الماء مثلا ، لأنّ الخير كلّه يكون بالمطر ، فأقيم مقامه إذ كان سببه.

وعلى الثاني : يكون المعنى : لو استقاموا على الكفر فكانوا كفّارا كلّهم ، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدراجا ، ثم نعذبهم على ذلك. وقيل : لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم ، كقوم نوح ، قوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) يعني : القرآن (يَسْلُكْهُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «نسلكه» بالنون. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ يسلكه بالياء. (عَذاباً صَعَداً) قال ابن قتيبة : أي :


عذابا شاقا. يقال : تصعّدني الأمر : إذا شقّ عليّ. ومنه قول عمر : ما تصعّدني شيء ما تصعّدتني خطبة النّكاح. ونرى أصل هذا كلّه من الصّعود ، لأنه شاقّ ، فكني به عن المشقّات. وجاء في التفسير أنه جبل في النار يكلّف صعوده ، وسنذكره عند قوله عزوجل : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (١) إن شاء الله تعالى.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

قوله عزوجل : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) فيها أربعة أقوال : أحدها : أنها المساجد التي هي بيوت للصّلوات ، قاله ابن عباس. قال قتادة : كانت اليهود والنّصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا ، فأمر الله عزوجل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم. والثاني : الأعضاء التي يسجد عليها العبد ، قاله سعيد بن جبير ، وابن الأنباري ، وذكره الفرّاء. فيكون المعنى ، لا تسجدوا عليها لغيره. والثالث : أنّ المراد بالمساجد هاهنا : البقاع كلّها ، قاله الحسن. فيكون المعنى : أنّ الأرض كلّها مواضع للسجود ، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. والرابع : أنّ المساجد : السجود ، فإنها جمع مسجد. يقال : سجدت سجودا ، ومسجدا ، كما يقال : ضربت في الأرض ضربا ، ومضربا ، ثم يجمع ، فيقال : المساجد ، والمضارب. قال ابن قتيبة : فعلى هذا يكون واحدها : مسجدا ، بفتح الجيم. والمعنى : أخلصوا له ، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجنّ فقال عزوجل : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَدْعُوهُ) أي : يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في الأحقاف (٢) (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) قرأ الأكثرون : بكسر اللام ، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر ، وابن محيصن «لبدا» بضمّ اللام ، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفرّاء : ومعنى القراءتين واحد. يقال : لبدة ، ولبدة. قال الزّجّاج : والمعنى : كادوا يركب بعضهم بعضا. ومنه اشتقاق اللّبد الذي يفترش. وكلّ شيء أضفته إلى شيء فقد لبّدته. وقرأ قوم منهم الحسن ، والجحدريّ : «لبّدا» بضمّ اللام مع تشديد الباء. قال الفرّاء : فعلى هذه القراءة تكون صفة للرجال ، كقولك : ركّعا وركوعا ، وسجّدا وسجودا. وقال الزّجّاج : هو جمع لا بد ، مثل راكع ، وركّع.

وفي معنى الآية ثلاثة أقوال (٣) : أحدها : أنه من إخبار الله تعالى عن الجنّ يحكي حالهم.

__________________

(١) المدثر : ١٧.

(٢) الأحقاف : ٢٩.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٢٧٣ : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : ذلك خبر من الله عن أن رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قام يدعوه كادت العرب تكون عليه جميعا في إطفاء نور الله.


والمعنى : أنه لمّا قام يصلي كاد الجنّ لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضا ، حرصا على سماع القرآن ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والثاني : أنه من قول الجنّ لقومهم لمّا رجعوا إليهم ، فوصفوا لهم طاعة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وائتمامهم به في الركوع ، والسجود ، فكأنهم قالوا : لمّا قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبدا. وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس. والثالث : أنّ المعنى : لمّا قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدّعوة تلبّدت الإنس والجنّ ، وتظاهروا عليه ، ليبطلوا الحقّ الذي جاء به ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد.

قوله عزوجل : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) قرأ عاصم ، وحمزة «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال مقاتل : إنّ كفّار مكّة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه ، فنزلت هذه الآية (١).

قوله عزوجل : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) أي : لا أدفعه عنكم (وَلا) أسوق إليكم (رَشَداً) أي : خيرا ، أي : إنّ الله تعالى يملك ذلك ، لا أنا (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي : إن عصيته لم يمنعني منه أحد ، وذلك أنهم قالوا له : اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) قد بيّنّاه في الكهف (٢) قوله : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) فيه وجهان ، ذكرهما الفرّاء : أحدهما : أنه استثناء من قوله عزوجل : (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) إلا أن أبلغكم. والثاني : لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلّغ رسالته. وبالأول قال ابن السّائب. وبالثاني قال مقاتل. وقال بعضهم : المعنى : لن يجيرني من عذاب الله إلّا أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به ، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بترك الإيمان والتوحيد.

قوله عزوجل : (حَتَّى إِذا رَأَوْا) يعني : الكفار (ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الدنيا ، وهو القتل ، وفي الآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي : جندا ونصيرا ، أهم ، أم المؤمنون؟ (قُلْ إِنْ أَدْرِي) أي : ما أدري (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) من العذاب (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي : غاية وبعدا. وذلك لأنّ علم الغيب لله وحده (فَلا يُظْهِرُ) أي : فلا يطلع على غيبه الذي يعلمه أحدا من الناس (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) لأنّ من الدليل على صدق الرّسل إخبارهم بالغيب. والمعنى : أنّ من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أنّ من زعم أن النجوم تدلّه على الغي فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال عزوجل : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي : من بين يدي الرسول (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي : يجعل له حفظة من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشياطين ، فتلقيه إلى الكهنة ، فيتكلّمون به قبل أن يخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس. وقال الزّجّاج يسلك

__________________

ووافقه ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥١٠ : واختيار ابن جرير ، وهو الأظهر لقوله بعده (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحقّ واجتمعوا على عداوته : (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أي : إنما أعبد ربي وحده لا شريك له ، وأستجير به وأتوكل عليه.

(١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فهذا خبر لا شيء.

(٢) الكهف : ٢٧.


من بين يدي الوحي. والرّصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.

قوله عزوجل : (لِيَعْلَمَ) فيه خمسة أقوال (١) : أحدها : ليعلم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ جبرائيل قد بلّغ إليه ، قاله ابن جبير. والثاني : ليعلم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ الرسل قبله (قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) وأنّ الله قد حفظها فدفع عنها ، قاله قتادة. والثالث : ليعلم مكذّبو الرسل أنّ الرسل قد أبلغوا رسالات ربّهم ، قاله مجاهد. والرابع : ليعلم الله عزوجل ذلك موجودا ظاهرا يجب به الثواب ، فهو كقوله عزوجل : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) (٢) قاله ابن قتيبة. والخامس : ليعلم النبيّ أنّ الرّسل قد أتته ، ولم تصلّ إلى غيره ، ذكره الزّجّاج. وقرأ رويس عن يعقوب «ليعلم» بضمّ الياء على ما لم يسمّ فاعله. وقال ابن قتيبة : ويقرأ «لتعلم» بالتاء ، يريد : لتعلم الجنّ أنّ الرّسل قد بلّغت عن إلههم بما رجوا من استراق السّمع ، قوله : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أي : علم الله ما عند الرّسل (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فلم يفته شيء حتى الذّرّ والخردل.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٢٧٧ : وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول من قال : ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم.

(٢) آل عمران : ١٤٢.


سورة المزّمّل

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إلّا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال : سوى آيتين منها ، قوله عزوجل (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) والتي بعدها (١). وقال ابن يسار ، ومقاتل : فيها آية مدنيّة ، وهي قوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) (٢).

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو العالية ، وأبو مجلز ، وأبو عمران ، والأعمش «المتزمّل» بإظهار التاء. وقرأ عكرمة ، وابن يعمر : «المزمل» بحذف التاء ، وتخفيف الزاي. قال اللغويون : «المزّمّل» الملتفّ في ثيابه ، وأصله «المتزمّل» فأدغمت التاء في الزاي ، فثقّلت. وكلّ من التفّ بثوبه فقد تزمّل. قال الزّجّاج : وإنما أدغمت فيها لقربها منها.

(١٤٩٣) قال المفسّرون : وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزمّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به. وقال السّدّيّ : كان قد تزمّل للنّوم. وقال مقاتل : خرج من البيت وقد لبس ثيابه ، فناداه جبريل : يا

____________________________________

(١٤٩٣) صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٥٦ ومسلم ١٦٠ والواحدي في «أسباب النزول» ٥ من حديث عائشة مطوّلا ، وتقدّم في «الجزء الأول من هذا الكتاب». وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٩٨ بتخريجنا.

__________________

(١) المزمل : ١٠ ـ ١١.

(٢) المزمل : ٢٠.


أيّها المزّمّل. وقيل : أريد به متزمّل النّبوة. قال عكرمة في معنى هذه الآية : زمّلت هذا الأمر ، فقم به. وقيل : إنما لم يخاطب بالنبيّ والرسول هاهنا ، لأنه لم يكن بعد قد بلغ ، وإنما كان في بدء الوحي.

قوله عزوجل : (قُمِ اللَّيْلَ) أي : للصلاة. وكان قيام الليل فرضا عليه (إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ) هذا بدل من الليل ، كما تقول : ضربت زيدا رأسه. فإنما ذكرت زيدا لتوكيد الكلام ، لأنه أوكد من قولك : ضربت رأس زيد. والمعنى : قم من الليل النّصف إلّا قليلا ، وهو قوله : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) أي : من النّصف (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي : على النّصف. قال المفسّرون : انقص من النّصف إلى الثّلث ، أو زد عليه إلى الثّلثين ، فجعل له سعة في مدّة قيامه ، إذا لم تكن محدودة ، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين فشقّ ذلك عليه وعليهم ، فكان الرجل لا يدري كم صلّى ، وكم بقي من الليل ، فكان يقوم الليل كلّه مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآية ، هذا مذهب جماعة من المفسّرين. وقالوا : ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها سوى هذه السورة. وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام اللّيل في حقّه بقوله عزوجل : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) (١) ونسخ في حقّ المؤمنين بالصلوات الخمس وقيل : نسخ عن الأمّة ، وبقي فرضه عليه أبدا. وقيل : إنما كان مفروضا عليه دونهم. وفي مدّة فرضه قولان : أحدهما : سنة ، قال ابن عباس : كان بين أول (المزّمّل) وآخرها سنة. والثاني : ستة عشر شهرا ، حكاه الماورديّ.

قوله عزوجل : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) قد ذكرنا التّرتيل في الفرقان (٢).

قوله عزوجل : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) وهو القرآن. وفي معنى ثقله ستة أقوال (٣) :

(١٤٩٤) أحدها : أنه كان يثقل عليه إذا أوحي إليه ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت : لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.

والثاني : أنّ العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : أنه يثقل في

____________________________________

(١٤٩٤) صحيح. وهو قطعة من حديث عائشة في خبر مطول.

أخرجه البخاري ٢ والترمذي ٣٦٣٨ والنسائي ٢ / ١٤٦ ـ ١٤٧ وأحمد ٦ / ٢٥٧ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٣٧ وفي «الدلائل» ٧ / ٥٢ ـ ٥٣ وأبو نعيم في «الدلائل» ١ / ٢٧٩ من طرق عن مالك. وأخرجه مالك ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ والبغوي في «شرح السنة» ٣٦٣١ عن هشام بن عروة به. وأخرجه البخاري ٣٢١٥ ومسلم ٢٣٣٣ وأحمد ٦ / ١٥٨ والبيهقي في «الأسماء» ٤٢٦ والحميدي ٦ / ٢٥ من طرق عن هشام بن عروة به.

__________________

(١) الإسراء : ٧٩.

(٢) الفرقان : ٣٢.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٢٨١ : وأولى الأقوال في ذلك أن يقال : إن الله وصفه بأنه قول ثقيل ، فهو كما وصفه به ثقيل محمله ثقيل العمل بحدوده وفرائضه. وقال ابن العربي رحمه‌الله في «الأحكام» ٤ / ٣٢٨ : والقول : ثقله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلقيه الملك إليه هو الأولى لأنه جاء : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].


الميزان يوم القيامة ، قاله ابن زيد. والرابع : أنه المهيب ، كما يقال للرجل العاقل : هو رزين راجح ، قاله عبد العزيز بن يحيى. والخامس : أنه ليس بالخفيف ولا السّفساف ، لأنه كلام الربّ عزوجل ، قاله الفرّاء. والسادس : أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه ، كما تقول : هذا كلام رصين ، وهذا قول له وزن : إذا استجدته ، ذكره الزّجّاج.

قوله عزوجل : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) قال ابن مسعود ، وابن عباس : هي قيام الليل بلسان الحبشة. وهل هي في وقت مخصوص من الليل ، أم في جميعه؟ فيه قولان :

أحدهما : أنها في جميع الليل. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال : الليل كلّه ناشئة. وإلى هذا ذهب اللغويون. قال ابن قتيبة : ناشئة الليل : ساعاته الناشئة ، من نشأت : إذا ابتدأت. وقال الزّجّاج : ناشئة الليل : ساعات الليل ، كلّ ما نشأ منه ، أي : كلّ ما حدث. قال أبو عليّ الفارسيّ : كأنّ المعنى : إنّ صلاة ناشئة الليل ، أو عمل ناشئة الليل.

والثاني : أنها في وقت مخصوص من الليل. وفيه خمسة أقوال (١) : أحدها : أنها ما بين المغرب والعشاء ، قاله أنس بن مالك. والثاني : أنها القيام بعد النوم ، وهذا قول عائشة ، وابن الأعرابي. وقد نصّ عليه الإمام أحمد في رواية المروذي. والثالث : أنها ما بعد العشاء ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو مجلز. والرابع : أنها بدء الليل ، قاله عطاء ، وعكرمة. والخامس : أنها القيام من آخر الليل ، قاله يمان ، وابن كيسان.

قوله عزوجل : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) قرأ ابن عامر ، وأبو عمرو «وطاء» بكسر الواو مع المدّ ، وهو مصدر واطأت فلانا على كذا مواطأة ، وأراد أنّ القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلّي ولسانه وسمعه على التفهّم للقرآن والإحكام لتلاوته. ومنه قوله تعالى : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) (٢). وقرأ الباقون «وطأ» بفتح الواو مع القصر. والمعنى : إنه أثقل على المصلّي من ساعات النهار ، من قول العرب : اشتدّت على القوم وطأة السلطان : إذا ثقل عليهم ما يلزمهم.

(١٤٩٥) ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر». ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة. وقرأ ابن محيصن «أشد وطاء» بفتح الواو ، والطاء ، وبالمدّ.

قوله عزوجل : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي : أخلص للقول وأسمع له ، لأنّ الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة ، ويفرغ القلب لفهم التلاوة ، فلا يكون دون سمعه وتفهّمه حائل.

قوله عزوجل : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي : فراغا لنومك وراحتك ، فاجعل ناشئة الليل

____________________________________

(١٤٩٥) متفق عليه ، وتقدّم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥١٤ : والغرض : أن ناشئة الليل هي : ساعاته وأوقاته ، وكل ساعة منه تسمى ناشئة ، وهي الآنات والمقصود : أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان ، وأجمع على التلاوة ، وأجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش.

(٢) التوبة : ٣٧.


بعبادتك ، قاله ابن عباس ، وعطاء. وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن مسعود ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة «سبخا» بالخاء المعجمة. قال الزّجّاج : ومعناها في اللغة صحيح. يقال سبخت القطن بمعنى نفشته. ومعنى نفّشته : وسّعته ، فيكون المعنى : إنّ لك في النهار توسّعا طويلا.

قوله عزوجل : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي : بالنّهار أيضا (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) قال مجاهد : أخلص له إخلاصا. وقال ابن قتيبة : انقطع إليه ، من قولك : بتّلت الشيء : إذا قطعته. وقال الزّجّاج : انقطع إليه في العبادة. ومنه قيل لمريم : البتول ، لأنها انقطعت إلى الله عزوجل في العبادة. وكذلك صدقة بتلة : منقطعة من مال المصّدّق. والأصل في مصدر تبتّل تبتيلا. وإنما قوله عزوجل «تبتيلا» محمول على معنى : تبتّل ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم «ربّ» بالرفع. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم بالخفض. وما بعد هذا قد سبق إلى قوله عزوجل : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من التكذيب لك والأذى (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) لا جزع فيه. وهذه الآية عند المفسّرين منسوخة بآية السيف ، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) أي : لا تهتمّ بهم ، فأنا أكفيكهم (أُولِي النَّعْمَةِ) يعني : التّنعّم.

وفيمن عني بهذا ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المطعمون ببدر ، قاله مقاتل بن حيّان. والثاني : أنهم بنو المغيرة بن عبد الله ، قاله مقاتل بن سليمان. والثالث : أنه المستهزئون ، وهم صناديد قريش ، حكاه الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) قالت عائشة : فلم يكن إلّا اليسير حتى كانت وقعة بدر ، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وليس بصحيح.

قوله عزوجل : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً) وهي القيود ، واحدها : نكل. وقد شرحنا معنى «الجحيم» في البقرة (١) (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) وهو الذي لا يسوغ في الحلق. وفيه للمفسّرين أربعة أقوال : أحدها : أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج ، قاله ابن عباس ، وعكرمة. والثاني : الزّقّوم ، قاله مقاتل. والثالث : الضّريع ، قاله الزّجّاج. والرابع : الزّقّوم والغسلين والضّريع ، حكاه الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) قال الزّجّاج : هو منصوب بقوله عزوجل : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) والمعنى : ينكّل الكافرين ويعذّبهم (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) أي : تزلزل وتحرّك أغلظ حركة.

قوله عزوجل : (وَكانَتِ الْجِبالُ) قال مقاتل : المعنى : وصارت بعد الشدة ، والقوة (كَثِيباً) قال الفرّاء : «الكثيب» : الرّمل. و«المهيل» : الذي تحرّك أسفله ، فينهال عليك من أعلاه. والعرب تقول : مهيل ومهيول ، ومكيل ومكيول. وقال الزّجّاج : الكثيب جمعه : كثبان ، وهي : القطع العظام من الرّمل. والمهيل : السائل.

قوله عزوجل : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) يعني أهل مكّة (رَسُولاً) يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (شاهِداً عَلَيْكُمْ) بالتبليغ وإيمان من آمن ، وكفر من كفر وعصى (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) وهو موسى عليه‌السلام. والوبيل : الشديد. قال ابن قتيبة : هو من قولك : استوبلت إذا استوخمته المكان ويقال : كلأ مستوبل

__________________

(١) البقرة : ١١٩.


أي : لا يستمرأ. قال الزّجّاج : الوبيل : الثقيل الغليظ جدا. ومنه قيل للمطر العظيم : وابل. قال مقاتل : والمراد بهذا الأخذ الوبيل : الغرق. وهذا تخويف لكفّار مكّة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم ، كما نزل بفرعون :

قوله عزوجل : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً) أي : عذاب يوم. وقال الزّجّاج : المعنى : بأيّ شيء تتحصّنون من عذاب يوم من هوله يشيب الصغير من غير كبر. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو عمران «نجعل الولدان» بالنون.

قوله عزوجل : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال الفرّاء : السماء تذكّر وتؤنّث. وهي هاهنا في وجه التذكير. قال الشاعر :

فلو رفع السّماء إليه قوما

لحقنا بالسّماء مع السّحاب

قال الزّجّاج : وتذكير السماء على ضربين : أحدهما : على أنّ معنى السماء معنى السّقف. والثاني : على قولهم : امرأة مرضع على جهة النّسب. فالمعنى : السماء ذات انفطار ، كما أنّ المرضع ذات الرّضاع. وقال ابن قتيبة : ومعنى الآية : السماء منشقّ به ، أي : فيه ، يعني في ذلك اليوم.

قوله عزوجل : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) وذلك أنه وعيد بالبعث ، فهو كائن لا محالة.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

(إِنَّ هذِهِ) يعني : آيات القرآن (تَذْكِرَةٌ) أي : تذكير وموعظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

قوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أي : أقل (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) قرأ ابن كثير ، وأهل الكوفة بفتح الفاء والثاء. والباقون : بكسرهما.

قوله عزوجل : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) يعني : المؤمنين (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يعلم مقاديرهما ، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) وفيه قولان :

أحدهما : لن تطيقوا قيام ثلثي الليل ، ولا ثلث الليل ، ولا نصف الليل ، قاله مقاتل.

والثاني : لن تحفظوا مواقيت الصلاة ، قاله الفرّاء ، قاله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي : عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) عليكم (مِنَ الْقُرْآنِ) يعني : في الصلاة ، من غير أن يوقّت وقتا. وقال الحسن : هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. ثم ذكر أعذارهم فقال عزوجل : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) فلا يطيقون قيام الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) وهم المسافرون للتجارة (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : من رزقه فلا يطيقون قيام الليل (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهم المجاهدون فلا يطيقون قيام


الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ذكروا أنّ هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس ، فذلك قوله عزوجل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : الصلوات الخمس في أوقاتها (١) (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وقد سبق بيانه (٢). قال ابن عباس : يريد سوى الزّكاة في صلة الرّحم وقرى الضّيف ، (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي : تجدوا ثوابه في الآخرة. (هُوَ خَيْراً) قال أبو عبيدة : المعنى : تجدوه خيرا. قال الزّجّاج : ودخلت «هو» فصلا. وقال المفسّرون : ومعنى «خيرا» أي : أفضل مما أعطيتم ؛ (وَأَعْظَمَ أَجْراً) من الذي تؤخّرونه إلى وقت الوصيّة عند الموت.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥١٨ : وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة ، قال : وهذا يدل لمن قال : إن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصب والمخرّج لم تبيّن إلا بالمدينة ، والله أعلم.

(٢) الحديد : ١٨.


سورة المدّثّر

وهي مكّيّة بإجماعهم

قال مقاتل : فيها من المدني آية ، وهي قوله عزوجل : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

فأمّا سبب نزولها ، روى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله قال :

(١٤٩٦) حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت

____________________________________

(١٤٩٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٢٣ و ٤٩٢٤ ومسلم ١٦١ ح ٢٥٧ و ٢٥٨ وأحمد ٣ / ٣٠٦ و ٣٩٢ والطبري ٣٥٣٠٩ وابن حبان ٣٤ و ٣٥ وأبو عوانة ١ / ١١٢ و ١١٤ و ١١٥ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ١٥٥ ـ ١٥٦ من طرق عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل قبل؟ قال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قلت : إنهم ـ

__________________

(١) المدثر : ٣١.


بطن الوادي ، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني ، وعن شمالي ، فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو في الهواء ، يعني : جبريل عليه‌السلام ، فأقبلت إلى خديجة ، فقلت : دثّروني دثّروني ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ).

(١٤٩٧) قال المفسّرون : فلمّا رأى جبريل وقع مغشيا عليه ، فلمّا أفاق دخل إلى خديجة ، ودعا بماء فصبّه عليه ، وقال : دثّروني ، فدثّروه بقطيفة ، فأتاه جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو عمران ، والأعمش «المتدثّر» بإظهار التاء ، وقرأ أبو رجاء ، وعكرمة ، وابن يعمر «المدثر» بحذف التاء ، وتخفيف الدال. قال اللغويون : وأصل «المدّثّر» المتدثّر ، فأدغمت التاء ، كما ذكرنا في المتزمّل ، وهذا قول الجمهور من التّدثير بالثياب ، وقيل المعنى : يا أيّها المدّثّر بالنّبوة ، وأثقالها. قال عكرمة : دثّرت هذا الأمر فقم به ..

قوله عزوجل : (قُمْ فَأَنْذِرْ) كفّار مكّة العذاب إن لم يوحّدوا (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي : عظّمه عما يقول عبدة الأوثان (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فيه ثمانية أقوال (١) :

أحدها : لا تلبسها على معصية ، ولا على غدر. قال غيلان بن سلمة الثّقفي :

وإنّي بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع (٢)

روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس.

والثاني : لا تكن ثيابك من مكسب غير طاهر ، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث : طهّر نفسك من الذنب ، قاله مجاهد! وقتادة. ويشهد له قول عنترة :

فشككت بالرّمح الأصمّ ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم

أي : نفسه ، وهذا مذهب ابن قتيبة. قال : المعنى : طهّر نفسك من الذنوب ، فكنّى عن الجسم

____________________________________

يقولون : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت ، فقال : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ قال : «جاورت ...» الحديث ، وفيه «وصبوا عليّ ماء باردا». وأخرجه البخاري ٤ و ٣٢٣٨ و ٤٩٢٥ و ٤٩٥٤ و ٦٢١٤ ومسلم ١٦١ ح ٢٥٥ وأحمد ٣ / ٣٠٦ والترمذي ٣٣٢٥ والطبري ٣٥٣٠٧ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ١٣٨ و ١٥٦ وأبو نعيم في «الدلائل» ١ / ٢٧٨ من طرق عن الزهري عن أبي سلمة به.

(١٤٩٧) انظر ما قبله.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٢١ (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي : اغسلها بالماء. وقال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون ، فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه. وهذا القول اختاره ابن جرير وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب. وقال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٤٠ : ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب المعلومة فهي تتناول معنيين : أحدهما : تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب لغلام من الأنصار : وقد رأى ذيله مسترخيا : يا غلام ، ارفع إزارك ، فإنه أتقى وأنقى وأبقى اه. والمعنى الثاني : غسلها من النجاسة ، وهو ظاهر منها صحيح فيها.

(٢) البيت لغيلان بن سلمة الثقفي ، كما في «الجامع لأحكام القرآن» ١٩ / ٥٩ و«تفسير الطبري» ١٢ / ٢٩٨ و«اللسان» ـ ثوب ـ.


بالثياب ، لأنها تشتمل عليه. قالت ليلى الأخيليّة وذكرت إبلا :

رموها بأثواب خفاف فلا ترى

لها شبها إلّا النّعام المنفّرا

أي : ركبوها ، فرموها بأنفسهم! والعرب تقول للعفاف : إزار ، لأنّ العفيف كأنه استتر لمّا عفّ. والرابع : وعملك فأصلح ، قاله الضّحّاك. الخامس : خلقك فحسّن ، قاله الحسن ، والقرظي. والسادس : وثيابك فقصّر وشمّر ، قاله طاوس. والسابع : قلبك فطهّر ، قاله سعيد بن جبير. ويشهد له قول امرئ القيس.

فإن تك قد ساءتك منّي خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

أي : قلبي من قلبك.

والثامن : اغسل ثيابك بالماء ، ونقّها ، قاله ابن سيرين ، وابن زيد.

قوله عزوجل : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعاصم إلّا أبا بكر ، ويعقوب ، وابن محيصن ، وابن السّميفع «والرّجز» بضمّ الراء. والباقون بكسرها. ولم يختلفوا في غير هذا الموضع. قال الزّجّاج : ومعنى القراءتين واحد. وقال أبو عليّ : قراءة الحسن بالضمّ ، وقال : هو اسم صنم. وقال قتادة : صنمان : إساف ، ونائلة. ومن كسر ، الرّجز : العذاب. فالمعنى : ذو العذاب فاهجر.

وفي معنى : «الرّجز» للمفسّرين فيه ستة أقوال (١) : أحدها : أنه الأصنام ، والأوثان ، قاله ابن عباس. ومجاهد ، وعكرمة وقتادة ، والزّهري ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثاني : أنه الإثم ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : الشرك ، قاله ابن جبير ، والضّحّاك. والرابع : الذّنب ، قاله الحسن. والخامس : العذاب ، قاله ابن السّائب. قال الزّجّاج : الرّجز في اللغة : العذاب ، ومعنى الآية : اهجر ما يؤدّي إلى عذاب الله. والسادس : الشيطان ، قاله ابن كيسان.

قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) فيه أربعة أقوال (٢) : أحدها : لا تعط عطيّة تلتمس بها أفضل منها ، قاله

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٢١ : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) على كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك ، كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) ، (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٣٠٣ : وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قول من قال : معنى ذلك : ولا تمنن على ربك من أن تستكثر عملك الصالح. قال : وإنما قلت ذلك أولى بالصواب لأن ذلك في سياق آيات تقدم فيهن أمر الله بنيه بالجدّ في الدعاء إليه ، والصبر على ما يلقى من الأذى فيه ، فهذه بأن تكون من أنواع تلك ، أشبه منها بأن تكون من غيرها.

وقال ابن العربي رحمه‌الله في «الأحكام» ٤ / ٢٤٢ : وأما من قال : أراد به العمل ، أي لا تستكثر به على ربك فهو صحيح ، فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.

وأما قوله : «لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها» فهذا لا يليق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) [الروم : ٣٩]. وقد روي عن عائشة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها. وفي الحديث : «لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت». قلت : صحيح.

أخرجه البخاري ٢٥٦٨ و ٥١٧٨ وأحمد ٢ / ٤٢٤ وابن حبان ٥٢٩١ من حديث أبي هريرة وأخرجه الترمذي ١٣٣٨ وصححه ابن حبان ٩٢٩٢ من حديث أنس ، وفي الباب من حديث ابن عمر أخرجه البخاري ٥١٧٩


ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة. قال المفسّرون : معناه : أعط لربّك وأرد به الله ، فأدّبه بأشرف الآداب. ومعنى «لا تمنن» : لا تعط شيئا من مالك لتعطى أكثر منه. وهذا الأدب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة ، وليس على أحد من أمّته إثم أن يهدي هدية يرجو بها ثوابا أكثر منها. والثاني : لا تمنن بعملك تستكثره على ربّك ، قاله الحسن. والثالث : لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه ، قاله مجاهد. والرابع : لا تمنن على الناس بالنّبوّة لتأخذ عليها منهم أجرا ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (وَلِرَبِّكَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : لأجل ربّك. والثاني : لثواب ربّك. والثالث : لأمر ربّك. والرابع : لوعد ربّك (فَاصْبِرْ) فيه قولان : أحدهما : على طاعته وفرائضه. والثاني : على الأذى والتكذيب.

قوله عزوجل : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) أي : نفخ في الصّور. وهل هذه النّفخة هي الأولى أو الثانية؟ فيه قولان : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي : تعسّر الأمر فيه (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) غير هيّن ، قوله : (ذَرْنِي) قد شرحناه في المزّمّل (١) (وَمَنْ خَلَقْتُ) أي : ومن خلقته (وَحِيداً) فيه قولان (٢) : أحدهما : خلقته وحيدا في بطن أمّه لا مال له ولا ولد ، قاله مجاهد. والثاني : خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد ، قاله الزّجّاج.

(١٤٩٨) قال ابن عباس : جاء الوليد بن المغيرة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه ، فقال : يا عمّ إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ، فإنك أتيت محمّدا تتعرّض لمقالته ، فقال : قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا. قال : فقل منه قولا يبلغ قومك أنّك منكر له ، قال : وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ، والله ما يشبهها الذي يقول ، والله إنّ لقوله حلاوة ، وإنّ عليه طلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى. قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكّر فيه. فقال : هذا سحر يؤثر : يأثره عن غيره ،

____________________________________

(١٤٩٨) أخرجه الحاكم ٢ / ٥٠٦ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٤٢ عن ابن عباس ، وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي ، ورجاله رجال الصحيح. وورد عن عكرمة مرسلا ، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٣٣٨٤. وفي إسناده راو مجهول. وورد موصولا عن ابن عباس من وجه آخر أخرجه الطبري ٣٥٤٢٠ وفيه عطية العوفي واه لكن تعدّد طرقه يفيده قوة ، والله أعلم. وانظر ما بعده. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٦٠٦ بتخريجنا.

__________________

ومسلم ١٤٢٩ وغيرهما. ومعنى الكراع : مستدق الساق من الرجل.

قال ابن العربي : وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة ، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب ، لأنها باب من أبواب المذلة. وكذلك قول من قال : إن معناه لا تعط عطية تنتظر ثوابها ، فإن الانتظار تعلق بالأطماع. وذلك في حيزه بحكم الامتناع.

(١) المزمل : ١١.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٢٢ : يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا ، فكفر بأنعم الله ، وبدلها كفرا وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها ، وجعلها من قول البشر. وقد عدد الله نعمه حيث قال : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خرج من بطن أمه لا مال له ولا ولد ، ثم رزقه الله (مالاً مَمْدُوداً).


فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ... الآيات كلّها.

(١٤٩٩) وقال مجاهد : قال الوليد لقريش : إنّ لي إليكم حاجة فاجتمعوا في دار النّدوة ، فقال : إنكم ذوو أحساب وأحلام ، وإنّ العرب يأتونكم ، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا على شيء واحد. ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا : نقول : إنه شاعر. فعبس عندها ، وقال : قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر. فقالوا : نقول : إنه كاهن ، قال : إذن يأتونه فلا يجدونه يحدّث بما يحدّث به الكهنة ، فقالوا : نقول : إنه مجنون ، قال : إذن يأتونه فلا يجدونه مجنونا. فقالوا : نقول : إنه ساحر. قال : وما الساحر؟ قالوا : بشر يحبّبون بين المتباغضين ، ويبغّضون بين المتحابّين ، قال : فهو ساحر ، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبيّ إلّا قال : يا ساحر ، فاشتدّ ذلك عليه ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) إلى قوله عزوجل : (وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) وذكر بعض المفسّرين أن قوله عزوجل : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) منسوخ بآية السيف. ولا يصحّ.

قوله عزوجل : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) في معنى الممدود ثلاثة أقوال : أحدها : كثيرا ، قاله أبو عبيدة. والثاني : دائما ، قاله ابن قتيبة. والثالث : غير منقطع ، قاله الزّجّاج.

وللمفسّرين في مقداره أربعة أقوال : أحدها : غلّة شهر بشهر ، قاله عمر بن الخطّاب. والثاني : ألف دينار ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير. قال الفرّاء : ونرى أنّ الممدود : جعل غاية للعدد ، لأنّ الألف غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف. والثالث : أربعة آلاف ، قاله قتادة. والرابع : أنه بستان كان له بالطّائف لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَبَنِينَ شُهُوداً) أي : حضورا معه لا يحتاجون إلى التّصرّف والنّفر فيغيبوا عنه.

وفي عددهم أربعة أقوال : أحدها : عشرة ، قاله مجاهد. والثاني : ثلاثة عشر ، قاله ابن جبير. والثالث : اثنا عشر ، قاله السّدّيّ. والرابع : سبعة ، قاله مقاتل. قوله : (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي : بسطت له العيش ، وطول العمر ، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) فيه قولان : أحدهما : أيطمع أن أدخله الجنّة. قاله الحسن. والثاني : أن أزيده من المال والولد ، قاله مقاتل.

إلى قوله : (كَلَّا) أي : لا أفعل فمنعه الله المال والولد حتى مات فقيرا ، (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي : معاندا.

وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه القرآن ؛ قاله ابن جبير. والثاني : الحقّ ، قاله مجاهد. والثالث : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله السّدّيّ.

قوله عزوجل : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال الزّجّاج : سأحمله على مشقّة من العذاب وقال غيره :

____________________________________

(١٤٩٩) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٤٢ معلقا عن مجاهد. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٢ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ من طريق محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير ، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد ، وأصل الخبر له شواهد كثيرة. ورد من مرسل ابن زيد ، أخرجه الطبري ٣٥٤٢٤. وورد من مرسل قتادة مختصرا ، أخرجه الطبري ٣٥٤٢١. وورد من مرسل الضحاك ، أخرجه الطبري ٣٥٤٢٣.

رووه بألفاظ متقاربة مختصرا ومطوّلا ، فالخبر صحيح في الأصل وانظر ما قبله.


سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له منها. وقال ابن قتيبة : «الصّعود» : العقبة الشّاقّة ، وكذلك «الكؤود».

(١٥٠٠) وفي حديث أبي سعيد عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله عزوجل : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال : جبل من نار يكلّف أن يصعده ، فإذا وضع يده عليه ذابت ، فإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت. يصعد سبعين خريفا ، ثم يهوي فيه كذلك أبدا.

(١٥٠١) وذكر ابن السّائب أنه جبل من صخرة ملساء في النار ، يكلّف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلّف أن يصعدها ، فذلك دأبه أبدا ، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد ، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد ، فيصعدها في أربعين سنة.

قوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ) أي : تفكّر ماذا يقول في القرآن (وَقَدَّرَ) القول في نفسه (فَقُتِلَ) أي : لعن (كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي : لعن على أيّ حال قدّر من الكلام. وقيل : «كيف» هاهنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ. فإنما كرّر تأكيدا (ثُمَّ نَظَرَ) في طلب ما يدفع به القرآن ، ويردّه (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) قال اللغويون : أي : كرّه وجهه وقطّب. يقال : بسر الرجل وجهه ، إذا قبضه. وأنشدوا لتوبة :

وقد رابني منها صدود رأيته

وإعراضها عن حاجتي وبسورها (١)

قال المفسّرون : كرّه وجهه ، ونظر بكراهية شديدة ، كالمهتمّ المتفكّر في الشيء (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الإيمان (وَاسْتَكْبَرَ) أي : تكبّر حين دعي إليه (فَقالَ إِنْ هذا) أي : ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي : يروى عن السّحرة (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي : من كلام الإنس ، وليس من كلام الله تعالى ، فقال الله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي : سأدخله النّار. وقد ذكرنا «سقر» في سورة القمر (٢) ، قوله : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) لعظم شأنها (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي : لا تبقي لهم لحما إلّا أكلته ، ولا تذرهم إذا أعيدوا فيها خلقا جديدا (لَوَّاحَةٌ) أي : مغيّرة يقال : لاحته الشمس ، أي : غيّرته. وأنشدوا :

____________________________________

(١٥٠٠) ضعيف. وصدر الحديث أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٣٨٢ من طريق عبد الله بن سليمان عن منجاب بن الحارث أنا شريك عن عمار الذهني عن عطية العوفي عن أبي سعيد ، وعطية ضعيف. وأخرجه الطبري ٣٥٤١٢ من طريق شريك به. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٣١ : أخرجه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه عطية ، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد ٣ / ٧٥ والترمذي ٣٣٢٦ والحاكم ٢ / ٥٠٧ والطبري ٣٥٤١٣ والبيهقي في «البعث» ٥١٣ من حديث أبي سعيد بلفظ «الصعود جبل في النار يكلف الكافر أن يصعد فيه سبعين خريفا ، ثم يهوي فيه كذلك أبدا». وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن درّاج.

وقال ابن كثير : وفيه غرابة ونكارة ، قلت : إسناده ضعيف لضعف درّاج في روايته عن أبي الهيثم ، وتابعه عطية عند الطبري ٣٥٤١٢ وعطية ضعيف ، والحديث صححه الحاكم! وسكت الذهبي ، ولعل سبب سكوت الذهبي عليه هو كون الحديث في مقام الترهيب ، وقد تساهل أهل العلم في ذلك والله أعلم.

وانظر «فتح القدير» ٢٦٠٧ بتخريجنا ولله الحمد والمنة.

(١٥٠١) عزاه المصنف لابن السائب ، وهو الكلبي ، وقد كذّبه غير واحد ، وهو ساقط الرواية.

__________________

(١) البيت لتوبة بن الحميّر ، وهو في «مجاز القرآن» ٢ / ٢٧٥. و«الأغاني» ١٠ / ٢٧٢.

(٢) القمر : ٤٨.


يا ابنة عمّي لاحني الهواجر

وقرأ ابن مسعود ، وابن السّميفع ، وابن عبلة «لوّاحة» بالنصب.

وفي «البشر» قولان : أحدهما : أنه جمع بشرة ، وهي جلدة الإنسان الظاهرة ، وهذا قول مجاهد ، والفرّاء ، والزّجّاج. والثاني : أنهم الإنس من أهل النار ، قاله الأخفش ، وابن قتيبة في آخرين.

قوله عزوجل : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) وهم خزنتها.

(١٥٠٢) مالك ومعه ثمانية عشر ، أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصّياصي يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، يسع كفّ أحدهم مثل ربيعة ومضر. قد نزعت منهم الرّحمة. فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل : يخوّفكم محمّد بتسعة عشر ، ما له من الجنود إلّا هؤلاء! أيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، ثم يخرجون من النّار! فقال أبو الأشد (١) قال مقاتل : اسمه : أسيد بن كلدة. وقال غيره : كلدة بن خلف الجمحي : يا معشر قريش : أنا أمشي بين أيديكم وأدفع عشرة بمنكبي الأيمن ، وتسعة بمنكبي الأيسر ، فندخل الجنّة ، فأنزل الله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) لا آدميين ، فمن يطيقهم ومن يغلبهم؟! (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) في هذه القلّة (إِلَّا فِتْنَةً) أي : ضلالة (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) حتى قالوا ما قالوا (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أنّ ما جاء به محمّد حقّ ، لأنّ عدّتهم في التّوراة تسعة عشر ، (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا) من أهل الكتاب (إِيماناً) أي : تصديقا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم به موافقا لما في كتابهم (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي : ولا يشكّ هؤلاء في عدّة الخزنة.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه النّفاق ، ذكره الأكثرون. والثاني : أنه الشكّ ، قاله مقاتل ، وزعم أنهم يهود أهل المدينة ، وعنده أنّ هذه الآية مدنيّة. والثالث : أنه الخلاف ، قاله الحسين بن الفضل. وقال : لم يكن بمكّة نفاق. وهذه مكّيّة. فأمّا «الكافرون» فهم مشركو العرب ، (ما ذا أَرادَ اللهُ) أي : أيّ شيء أراد الله (بِهذا) الحديث والخبر (مَثَلاً) والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه ومعنى الكلام : يقولون ما هذا من الحديث (كَذلِكَ) أي : كما أضلّ من أنكر عدّة الخزنة ، وهدى من صدّق (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وأنزل في قول أبي جهل : أما لمحمّد من الجنود إلّا تسعة عشر : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) يعني : من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار. وذلك أنّ لكلّ واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلّا الله عزوجل ، وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشرة قولا محتملا ، فقال : التسعة عشر : عدد يجمع أكثر القليل ، وأقلّ الكثير ، لأنّ الآحاد أقلّ الأعداد ، وأكثرها تسعة ، وما سوى الآحاد كثير. وأقلّ الكثير : عشرة ، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقلّ الكثير ، وأكثر القليل. ثم رجع إلى ذكر النار فقال عزوجل : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى) أي : ما

____________________________________

(١٥٠٢) لا أصل له بهذا اللفظ. ذكره الزمخشري في «الكشاف» ٤ / ٦٥١ فقال الحافظ : لم أجده. والظاهر أن مصدره مقاتل ، حيث ذكره المصنف في أثناء الخبر ، أو يكون الكلبي ، وكلاهما ممن يضع الحديث.

__________________

(١) وقع في المطبوع : أبو الأسدين ، وسيأتي في سورة الانفطار ، الآية ٦ : أبو الأشدين ، والتصويب عن «معالم التنزيل» ٤ / ٣٨٥ و«الكشاف» ٤ / ٦٥١ و«تفسير الماوردي» ٤ / ١٤٥.


النار في الدنيا إلّا مذكّرة بنار الآخرة (كَلَّا) أي : حقا (وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «إذا أدبر» وقرأ نافع ، وحمزة ، وحفص ، والفضل عن عاصم ، ويعقوب وخلف ، «إذ» بسكون الذال من غير ألف بعدها «أدبر» بسكون الدال ، وبهمزة قبلها. وهل معنى القراءتين واحد ، أم لا؟ فيه قولان (١) : أحدهما : أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال : دبر الليل ، وأدبر ، ودبر الصيف وأدبر ، هذا قول الفرّاء. والأخفش ، وثعلب. والثاني : أنّ «دبر» بمعنى خلف ، و«أدبر» بمعنى ولّى. يقال : دبرني فلان : جاء خلفي ، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة.

قوله عزوجل : (إِذا أَسْفَرَ) أي : أضاء وتبيّن (إِنَّها) يعني : سقر (لَإِحْدَى الْكُبَرِ) قال ابن قتيبة : الكبر ، جمع كبرى ، مثل الأول والأولى ، والصّغر والصّغرى. وهذا كما يقال : إنها لإحدى العظائم. قال الحسن : والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها.

وقال ابن السّائب ، ومقاتل : أراد بالكبر : دركات جهنّم السبعة.

قوله عزوجل : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) قال الزّجّاج : نصب «نذيرا» على الحال. والمعنى : إنها لكبيرة في حال الإنذار. وذكّر «النذير» ، لأنّ معناه معنى العذاب. ويجوز أن يكون «نذيرا» منصوبا متعلّقا بأول السّورة ، على معنى : قم نذيرا للبشر.

قوله عزوجل : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدل من قوله عزوجل : «للبشر» ، (أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أن يتقدّم في طاعة الله أو يتأخّر عن معصيته ، قاله ابن جريج. والثاني : أن يتقدّم إلى النار ، أو يتأخّر عن الجنة ، قاله السّدّيّ. والثالث : أن يتقدّم في الخير ، أو يتأخّر إلى الشّرّ ، قاله يحيى بن سلام. والرابع : أن يتقدّم في الإيمان ، أو يتأخّر عنه. والمعنى : أنّ الإنذار قد حصل لكلّ أحد ممن أقرّ أو كفر.

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

قوله عزوجل : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : كلّ نفس بالغة مرتهنة بعملها لتحاسب عليه (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) وهم أطفال المسلمين ، فإنه لا حساب عليهم ، لأنه لا ذنوب عليهم ، قاله عليّ رضي الله عنه واختاره الفرّاء. والثاني : كلّ نفس من أهل النار مرتهنة في النار ، إلّا أصحاب

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٣١٥ : والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان بمعنى ، وذلك أنه محكي عن العرب ، قبح الله ما قبل وأبر ، ودبر الصيف وأدبر ، وكذلك قبل وأقبل ، وأخرى أن أهل التفسير لم يميزوا في تفسيرهم بين القراءتين وذلك دليل على أنهم فعلوا ذلك كذلك ، لأنهما بمعنى واحد.


اليمين ، وهم المؤمنون ، فإنهم في الجنة ، قاله الضّحّاك. والثالث : كلّ نفس مرتهنة بعملها لتحاسب عليه إلّا أصحاب اليمين ، فإنهم لا يحاسبون ، قاله ابن جريج.

قوله عزوجل : (يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) قال مقاتل : إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) قال الفرّاء : وهذه الآية تقوّي أنهم الولدان لأنهم لم يعرفوا الذنوب فسألوا ما سلككم في سقر؟ قال المفسّرون : سلككم بمعنى : أدخلكم. وقال مقاتل : ما حبسكم فيها؟ (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) لله في دار الدنيا (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي : لم نتصدّق لله (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أهل الباطل والتكذيب (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي : بيوم الجزاء والحساب (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) وهو الموت. يقول الله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين. وهذا يدلّ على أنّ نفع الشفاعة لمن آمن. قوله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)؟ يعني : كفّار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه. والمعنى : لا شيء لهم في الآخرة إذ أعرضوا عن القرآن ولم يؤمنوا به ، ثم شبّههم في نفورهم عنه بالحمر ، فقال عزوجل : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) قرأ أبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر ، والمفضّل عن عاصم بفتح الفاء. والباقون بكسرها. قال أبو عبيدة ، وابن قتيبة : من قرأ بفتح الفاء أراد : مذعورة ، استنفرت فنفرت ، ومن قرأ بكسر الفاء أراد : نافرة : قال الفرّاء : أهل الحجاز يقولون : حمر مستنفرة. وناس من العرب يكسرون الفاء. والفتح أكثر في كلام العرب. وقراءتنا بالكسر. أنشدني الكسائيّ :

احبس حمارك إنّه مستنفر

في إثر أحمرة عمدن لغرّب

«وغرّب» موضع.

وفي «القسورة» سبعة أقوال : أحدها : أنه الأسد ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس : وبه قال أبو هريرة ، وزيد بن أسلم ، وابنه. قال ابن عباس : الحمر الوحشيّة إذا عاينت الأسد هربت منه ، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هربوا منه ، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة ، والزّجّاج. قال ابن قتيبة : كأنّه من القسر والقهر. والأسد يقهر السّباع. والثاني : أنّ القسورة : الرّماة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال أبو موسى الأشعري ، ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل ، وابن كيسان. والثالث : أنّ القسورة : حبال الصّيادين ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع : أنهم عصب الرّجال ، رواه أبو حمزة عن ابن عباس. واسم أبي حمزة : نصر بن عمران الضّبعيّ. والخامس : أنه ركز الناس ، وهذا في رواية عطاء أيضا عن ابن عباس. وركز الناس : حسّهم وأصواتهم. والسادس : أنه الظّلمة والليل ، قاله عكرمة. والسابع : أنه النّبل ، قاله قتادة.

قوله عزوجل : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن سرّك أن نتّبعك ، فليصبح عند رأس كلّ رجل منّا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتّباعك ؛ قاله الجمهور (١). والثاني : أنهم أرادوا براءة من النار أن لا يعذّبوا بها ، قاله أبو صالح. والثالث : أنهم قالوا : كان الرجل إذا أذنب في بني إسرائيل وجده مكتوبا إذا أصبح في رقعة.

__________________

(١) عزاه المصنف للجمهور. وهو عند الطبري ٣٥٥١٩ عن قتادة. وعزاه السيوطي في «الدر» ٦ / ٤٦١ لعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.


فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية ، قاله الفرّاء. فقال الله تعالى : (كَلَّا) أي : لا يؤتون الصّحف (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي : لا يخشون عذابها. فالمعنى : أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدّلالة (كَلَّا) أي : حقّا. وقيل : معنى (كلّا) : ليس الأمر كما يريدون ويقولون (إِنَّهُ) يعني القرآن (تَذْكِرَةٌ) أي : تذكير وموعظة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الهاء عائدة على القرآن فالمعنى : فمن شاء أن يذكر القرآن ويتّعظ به ويفهمه ، ذكره. ثم ردّ المشيئة إلى نفسه فقال عزوجل : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : إلّا أن يريد لهم الهدى (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) أي : أهل أن يتّقى (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي : أهل أن يغفر لمن تاب.

(١٥٠٣) روى أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تلا هذه الآية ، فقال : «قال ربّكم عزوجل : أنا أهل أن أتّقى ، فلا يشرك بي غيري. وأنا أهل لمن اتّقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له».

____________________________________

(١٥٠٣) ضعيف ، في إسناده سهيل بن أبي حزم ضعيف ، ومداره عليه. قال الحافظ في «التهذيب» قال أحمد : روى أحاديث منكرة ، وقال ابن معين : صالح. وقال البخاري : لا يتابع في حديثه ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال ابن حبان : ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات. أخرجه ابن ماجة ٤٢٩٩ وأبو يعلى ٣٣١٧ من طريق هدبة بن خالد ثنا سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس به. وأخرجه الترمذي ٣٣٢٥ وأحمد ٣ / ١٤٢ و ٢٤٣ والدارمي ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ والحاكم ٢ / ٥٠٨ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩ من طرق عن سهيل بن أبي حزم به. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وسهيل ليس بالقوي في الحديث ، وقد تفرّد سهيل بهذا الحديث عن ثابت.

الخلاصة : هو حديث ضعيف.

وانظر «فتح القدير» ٢٦١٢ و«الجامع لأحكام القرآن» ٦١٨٠ بتخريجنا.


سورة القيمة

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ) اتّفقوا على أنّ المعنى «قسم» واختلفوا في «لا» فجعلها بعضهم زائدة ، كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (١) وجعلها بعضهم توكيدا للقسم كقولك : لا والله لا أفعل ، وجعلها بعضهم ردّا على منكري البعث. ويدل عليه أنه «أقسم» على كون البعث. قال ابن قتيبة : زيدت «لا» على نيّة الردّ على المكذّبين ، كما تقول : لا والله ما ذاك كما تقول : ولو حذفت جاز ، ولكنه أبلغ في الردّ. وقرأ ابن كثير إلّا ابن فليح «لأقسم» بغير ألف بعد اللام فجعلها لاما دخلت على «أقسم» ، وهي قراءة ابن عباس ، وأبي عبد الرّحمن ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة. وابن محيصن. قال الزّجّاج : من قرأ «لأقسم» فاللام لام القسم والتوكيد. وهذه القراءة بعيدة في العربية ، لأنّ لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون ، تقول : لأضربنّ زيدا. ولا يجوز : لأضرب زيدا.

قوله عزوجل : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال الحسن : أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقال قتادة : حكمها حكم الأولى.

وفي «النّفس اللّوامة» ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنها المذمومة ، قاله ابن عباس. فعلى هذا : هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم. والثاني : أنها النّفس المؤمنة ، قاله الحسن. قال : لا ترى المؤمن

__________________

(١) الحديد : ٢٩.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٢٨ : إن المقسم عليه متى كان منفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي ، والمقسم عليه هاهنا إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بعث الأجساد ، ولهذا قال : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قال قتادة رحمه‌الله وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير واختاره ابن جرير.


إلّا يلوم نفسه على كلّ حال. والثالث : أنها جميع النفوس. قال الفرّاء : ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيرا قالت : هلّا زدت. وإن كانت عملت سوءا قالت : ليتني لم أفعل (١). قوله عزوجل : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) المراد بالإنسان هاهنا : الكافر.

وقال ابن عباس : يريد أبا جهل.

(١٥٠٤) وقال مقاتل : عديّ بن ربيعة وذلك أنه قال : أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «نعم» ، فاستهزأ منه ، فنزلت هذه الآية. قال ابن الأنباري : وجواب القسم محذوف ؛ كأنه : ليبعثنّ ليحاسبنّ ، فدلّ قوله عزوجل : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) على الجواب ، محذوف.

وقوله عزوجل : (بَلى) وقف حسن. ثم يبتدأ (قادِرِينَ) على معنى : بلى نجمعها قادرين ، ويصلح نصب «قادرين» على التكرير : بلى فليحسبنا قادرين (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) وفيه قولان : أحدهما : أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير ، وحافر الحمار ، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة ، كالكتابة والخياطة ، هذا قول الجمهور. والثاني : نقدر على تسوية بنانه كما كانت ، وإن صغرت عظامها ، ومن قدر على جمع صغار العظام ، كان على جمع كبارها أقدر ، هذا قول ابن قتيبة ، والزّجّاج. وقد بيّنا معنى البنان في الأنفال (٢).

قوله عزوجل : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) فيه قولان : أحدهما : يكذّب بما أمامه من البعث والحساب ، قاله ابن عباس. والثاني : يقدّم الذّنب ويؤخّر التوبة ، ويقول : سوف أتوب ، قاله سعيد بن جبير. فعلى هذا : يكون المراد بالإنسان : المسلم. وعلى الأول : الكافر.

قوله عزوجل : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي : متى هو؟ تكذيبا به ، وهذا هو الكافر ، (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) قرأ أهل المدينة ، وأبان عن عاصم «برق» بفتح الراء ، والباقون بكسرها : قال الفرّاء : العرب تقول : برق البصر يبرق ، وبرق يبرق : إذا رأى هولا يفزع منه. و«برق» أكثر وأجود. قال الشاعر :

فنفسك فانع ولا تنعني

وداو الكلوم ولا تبرق (٣)

بالفتح. يقول : لا تفزع من هول الجراح التي بك. قال المفسّرون : يشخص بصر الكافر يوم القيامة ، فلا يطرف لما يرى من العجائب التي كان يكذّب بها في الدنيا. وقال مجاهد : برق البصر عند الموت.

قوله عزوجل : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) قال أبو عبيدة : خسف وكسف بمعنى واحد ، أي : ذهب ضوءه.

____________________________________

(١٥٠٤) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٤٣ بدون إسناد. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٦٥٩ : ذكره الثعلبي والبغوي والواحدي بغير إسناد. فالخبر باطل لا أصل له ، ولم ينسبه هؤلاء إلى قائل ، ولم يذكره السيوطي في «الدر» ولا في «أسباب النزول» ولا ذكره الطبري ، وكل ذلك دليل على وضعه ، والله أعلم. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦١٨١.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٣٢٧ : وهذه الأقوال التي ذكرناها عن ـ النفس اللوامة ـ وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها ، فمتقاربات المعاني ، وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات.

(٢) الأنفال : ١٢.

(٣) البيت لطرفة بن العبد ، في ديوانه : ٢١٨ ، و«اللسان» ـ برق.


قوله عزوجل : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) إنما قال : «جمع» لتذكير القمر ، هذا قول أبي عبيدة. وقال الفرّاء : إنما لم يقل : جمعت ، لأنّ المعنى : جمع بينهما وفي معنى الآية قولان :

أحدهما : جمع بين ذاتيهما. وقال ابن مسعود : جمعا كالبعيرين القرينين. وقال عطاء بن يسار : يجمعان ثم يقذفان في البحر. وقيل : يقذفان في النار. وقيل : يجمعان ، فيطلعان من المغرب. والثاني : جمع بينهما في ذهاب نورهما ، قاله الفرّاء ، والزجاج.

قوله عزوجل : (يَقُولُ الْإِنْسانُ) يعني : المكذّب بيوم القيامة (أَيْنَ الْمَفَرُّ) قرأ الجمهور بفتح الميم ، والفاء ، وقرأ ابن عباس ، ومعاوية ، وأبو رزين ؛ وأبو عبد الرحمن ، والحسن ، وعكرمة ، والضّحّاك والزّهريّ ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : بكسر الفاء. قال الزّجّاج : فمن فتح ، فالمعنى : أين الفرار؟ ومن كسر ، فالمعنى : أين مكان الفرار؟ تقول : جلست مجلسا بالفتح ، يعني : جلوسا. فإذا قلت : مجلسا بالكسر. فأنت تريد المكان.

قوله عزوجل : (كَلَّا لا وَزَرَ) قال ابن قتيبة : لا ملجأ. وأصل الوزر : الجبل الذي يمتنع فيه (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي : المنتهى والمرجع. (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) فيه ستة أقوال : أحدها : بما قدّم قبل موته ، وما سنّ من شيء فعمل به بعد موته ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس. والثاني : ينبّأ بأوّل عمله وآخره. قاله مجاهد. والثالث : بما قدّم من الشّرّ ، وأخّر من الخير. قاله عكرمة. والرابع : بما قدّم من فرض ، وأخّر من فرض ، قاله الضّحّاك. والخامس : بما قدّم من المعصية ، وأخّر من الطاعة. والسادس : بما قدم من أمواله ، وما خلف للورثة قاله زيد بن أسلم. قوله عزوجل : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال الفرّاء : المعنى : بل على الإنسان من نفسه بصيرة ، أي رقباء يشهدون عليه بعمله ، وهي : الجوارح. قال ابن قتيبة : فلمّا كانت جوارحه منه ، أقامها مقامه. وقال أبو عبيدة : جاءت الهاء في «بصيرة» في صفة الذّكر ، كما كانت في : رجل راوية ، وطاغية ، وعلّامة.

قوله عزوجل : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ).

وفي المعاذير قولان : أحدهما : أنه جمع عذر ، فالمعنى : لو اعتذر ، وجادل عن نفسه ، فعليه من يكذّب عذره ، وهي : الجوارح ، وهذا قول الأكثرين. والثاني : أنّ المعاذير جمع معذار ، وهو : السّتر. والمعاذير : السّتور. فالمعنى : ولو أرخى ستوره ، هذا قول الضّحّاك ، والسّدّيّ ، والزّجّاج. فيخرج في معنى «ألقى» قولان : أحدهما : قال ، ومنه : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) (١) ، وهذا على القول الأول. والثاني : أرخى ، وهذا على القول الثاني.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

قوله عزوجل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ)

__________________

(١) النحل : ٣٦.


(١٥٠٥) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التنزيل شدة ، وكان يشتدّ عليه حفظه ، وكان إذا نزل عليه الوحي يحرّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي ، مخافة أن لا يحفظه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. معناها : لا تحرّك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال ابن قتيبة : أي : ضمّه وجمعه في صدرك (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي : جمعناه (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي : جمعه. قال المفسّرون : يعني : اقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته (١). قال ابن عباس : فاتّبع قرآنه ، أي : اعمل به. وقال قتادة : فاتّبع حلاله وحرامه (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) فيه أربعة أقوال : أحدها : نبيّنه بلسانك ، فتقرؤه كما أقرأك جبريل. وكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب ، قرأه كما وعده الله ، قاله ابن عباس. والثاني : إنّ علينا أن نجزي به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد ، قاله الحسن. والثالث : إنّ علينا بيانه : ما فيه من الأحكام ، والحلال ، والحرام ، قاله قتادة. والرابع : علينا أن ننزّله قرآنا عربيا ، فيه بيان للناس ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (كَلَّا) قال عطاء : أي : لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه ، وقال ابن جرير : والمعنى : ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تبعثون ، ولكن دعاكم إلى قيل ذلك محبّتكم للعاجلة.

قوله عزوجل : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «بل يحبون العاجلة ويذرون» بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. والمراد : كفار مكّة ، يحبّونها ويعملون لها «ويذرون الآخرة» أي : يتركون العمل إيثارا للدنيا عليها.

قوله عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي : مشرقة بالنّعم (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) روى عطاء عن ابن عباس قال : إلى الله ناظرة. قال الحسن : حقّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وهذا مذهب عكرمة. ورؤية الله عزوجل حقّ لا شكّ فيها. والأحاديث صحيحة صحاح ، قد ذكرت جملة منها في «المغني» و«الحدائق».

قوله عزوجل : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) قال ابن قتيبة : أي : عابسة مقطّبة.

قوله عزوجل : (تَظُنُ) قال الفرّاء : أي : تعلم ، و«الفاقرة» يقال : إنه الدّاهية. قال ابن قتيبة : إنه من فقارة الظّهر ، كأنها تكسره ، يقال : فقرت الرجل إذا كسرت فقاره ، كما يقال : رأسته : إذا ضربت رأسه ، وبطنته : إذا ضربت بطنه. قال ابن زيد : والفاقرة : دخول النار. قال ابن السّائب : هي أن تحجب عن ربّها ، فلا تنظر إليه.

____________________________________

(١٥٠٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٢٩ والبغوي في «التفسير» ٢٢٩٧ بترقيمنا عن قتيبة بن سعيد بن عن ابن عباس.

وأخرجه البخاري ٥ و ٤٩٢٧ و ٤٩٢٨ و ٥٠٤٤ و ٧٥٢٤ ومسلم ٤٤٨ والترمذي ٣٣٢٩ والنسائي في «التفسير» ٦٥٤ من طريق موسى بن أبي عائشة به.

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «الأحكام» ٤ / ٣٤٩ : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع ، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت في الصحيح. وهذا يعضد ما تقدم في سورة المزمل من قوله : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أن قراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمد صوته مدّا. وهذا المعنى صحيح. وذلك أن المتلقن من حكمه الأوكد أن يصغي إلى الملقن بقلبه ولا يستعين بلسانه ، فيشترك الفهم بين القلب واللسان ، فيذهب روح التحصيل بينهما ، ويخزل اللسان بتجرد القلب للفهم ، فيتيسر التحصيل ، وتحريك اللسان يجرد القلب عن الفهم ، فيتعسر التحصيل بعادة الله التي يسّرها.


(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

قوله عزوجل : (كَلَّا) قال الزّجّاج : «كلا» ردع وتنبيه. المعنى : ارتدعوا عمّا يؤدّي إلى العذاب. وقال غيره : معنى «كلّا» : لا يؤمن الكافر بهذا.

قوله عزوجل : (إِذا بَلَغَتِ) يعني : النّفس. وهذه كناية عن غير مذكور. و (التَّراقِيَ) العظام المكتنفة لنقرة النّحر عن يمين وشمال. وواحدة التّراقي ترقوة ، ويكنّى ببلوغ النّفس التّراقي عن الإشفاء على الموت ، (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه قول الملائكة بعضهم لبعض : من يرقى روحه ، ملائكة الرّحمة ، أو ملائكة العذاب؟ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ومقاتل. والثاني : أنه قول أهله : هل من راق يرقيه بالرّقى؟ وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وبه قال عكرمة ، والضّحّاك ، وأبو قلابة ، وقتادة ، وابن زيد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج.

قوله عزوجل : (وَظَنَ) أي : أيقن الذي بلغت روحه التّراقي (أَنَّهُ الْفِراقُ) للدنيا (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أمر الدنيا بأمر الآخرة ، رواه الوالبيّ عن ابن عباس : وبه قال مقاتل. والثاني : اجتمع فيه الحياة والموت ، قاله الحسن. وعن مجاهد كالقولين. والثالث : التفّت ساقاه في الكفن ، قاله سعيد بن المسيّب. والرابع : التفّت ساقاه عند الموت ، قاله الشّعبيّ. والخامس : الشّدة بالشّدة ، قاله قتادة. آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة.

قوله عزوجل : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي : إلى الله المنتهى ، قوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) قال أبو عبيدة : «لا» هاهنا في موضع «لم». قال المفسّرون هو أبو جهل (وَلكِنْ كَذَّبَ) بالقرآن (وَتَوَلَّى) عن الإيمان (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي : رجع إليهم يتبختر ويختال. قال الفرّاء : (يَتَمَطَّى) أي : يتبختر ، لأنّ الظّهر هو المطا ، فيلوي ظهره متبخترا. وقال ابن قتيبة : أصله يتمطّط ، فقلبت الطاء فيه ، كما قيل : يتظنّى ، أي : يتظنّن ، ومنه المشية المطيطاء. وأصل الطاء في هذا كلّه دال. إنما هو مدّ يده في المشي إذا تبختر. يقال : مططت ومددت بمعنى.

قوله عزوجل : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) قال ابن قتيبة : هو تهديد ووعيد. وقال الزّجّاج : العرب تقول : أولى لفلان : إذا دعت عليه بالمكروه ، ومعناه : وليك المكروه يا أبا جهل.

قوله عزوجل : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) يعني : أبا جهل (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) قال ابن قتيبة : أي : يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب ، يقال : أسديت الشيء ، أي : أهملته. ثم دلّ على البعث ب قوله عزوجل : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «تمنى» بالتاء. وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب «يمنى» بالياء. وعن أبي عمرو كالقراءتين. وقد شرحنا هذا في النجم (١) (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) بعد النّطفة (فَخَلَقَ) فيه الرّوح ، وسوّى خلقه (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي :

__________________

(١) النجم : ٢٤.


خلق من مائه أولادا ذكورا وإناثا (أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي فعل هذا (بِقادِرٍ) على أن يحيي الموتى وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري «يقدر» (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) وهذا تقرير لهم ، أي : إنّ من قدر على الابتداء قدر على الإعادة.

(١٥٠٦) قال ابن عباس : إذا قرأ أحدكم هذه الآية ، فليقل : اللهمّ بلى.

____________________________________

(١٥٠٦) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا كما في «الدر» ٦ / ٤٧٩. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. أخرجه أبو داود ٨٨٧ عن عبد الله بن محمد الزهري به. وأخرجه أحمد ٢ / ٢٤٩ والترمذي ٣٣٤٧ مختصرا والبيهقي ٢ / ٣١٠ من طريق إسماعيل بن أمية به.

وقال الترمذي : هذا حديث إنما يروى بهذا الإسناد عن هذا الأعرابي عن أبي هريرة ، ولا يسمى اه.

وأخرجه الحاكم ٢ / ٥١٠ من طريق إسماعيل بن أمية عن أبي اليسع عن أبي هريرة به وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! في حين قال الذهبي في «الميزان» ٤ / ٥٨٩ : أبو اليسع لا يدرى من هو. وأخرجه عبد الرزاق ٣٦٥٨ في «التفسير» عن إسماعيل بن أمية مرسلا ، وهو الصحيح. الخلاصة : الحديث ضعيف بصيغة الأمر ، وأما كونه مستحب فهو حسن كما في حديث موسى بن أبي عائشة أخرجه أبو داود ٨٨٤ والبيهقي ٢ / ٣١٠ وعبد الرزاق في «التفسير» عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة : أن رجلا حدثهم أنه سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


سورة الإنسان

سورة هل أتى : ويقال لها : سورة الدهر

وفيها ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها مدنيّة كلّها ، قاله الجمهور منهم ، مجاهد وقتادة. والثاني : مكيّة ، قاله ابن يسار ، ومقاتل ، وحكي عن ابن عباس. والثالث : أنّ فيها مكّيّا ومدنيّا.

ثم في ذلك قولان : أحدهما : أن المكّيّ منها آية ، وهي قوله عزوجل : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) وباقيها جميعه مدنيّ ، قاله الحسن وعكرمة. والثاني : أنّ أوّلها مدنيّ إلى قوله عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) (٢) ومن هذه الآية إلى آخرها مكّيّ ، حكاه الماورديّ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣))

قوله تعالى : (هَلْ أَتى) قال الفرّاء : معناه : قد أتى. و«هل» تكون خبرا ، وتكون جحدا ، فهذا من الخبر ، لأنك تقول : هل وعظتك؟ هل أعطيتك؟ فتقرّره بأنك قد فعلت ذلك. والجحد ، أن تقول : وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسّرين ، وأهل اللغة. وفي هذا الإنسان قولان : أحدهما : أنه آدم عليه‌السلام. والحين الذي أتى عليه : أربعون سنة ، وكان مصوّرا من طين لم ينفخ فيه الرّوح ، هذا قول الجمهور. والثاني : أنه جميع الناس ، روي عن ابن عباس ، وابن جريج ، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس ، ويكون الحين زمان كونه نطفة ، وعلقة ، ومضغة.

قوله عزوجل : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) المعنى : أنه كان شيئا ، غير أنه لم يكن مذكورا.

قوله عزوجل : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني : ولد آدم (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) قال ابن قتيبة : أي : أخلاط. يقال : مشجته ، فهو مشيج ، يريد : اختلاط ماء المرأة بماء الرجل.

قوله تعالى : (نَبْتَلِيهِ) قال الفرّاء : هذا مقدّم ، ومعناه التأخير ، لأنّ المعنى : خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه. قال الزّجّاج : المعنى : جعلناه كذلك لنختبره وقوله عزوجل : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ)

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٩ / ١٧٠ : قال الجمهور : مدنية وقيل : فيها مكي ، من قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [الإنسان : ٢٣] إلى آخر السورة وما تقدّمه مدني.

(٢) الإنسان : ٢٣.


أي بيّنّا له سبيل الهدى بنصب الأدلّة ، وبعث الرسول (١) (إِمَّا شاكِراً) أي : خلقناه إمّا شاكرا (وَإِمَّا كَفُوراً) وقال الفرّاء : بيّنّا له الطريق إن شكر ، أو كفر.

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

قوله عزوجل : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة «سلاسل» بغير تنوين ، ووقفوا بألف ، ووصله أبو عمرو بألف من غير تنوين والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بألف. قال مكّيّ بن أبي طالب النّحوي : «سلاسل» و«قوارير» أصله أن لا ينصرف ، ومن صرفه من القرّاء ، فإنها لغة لبعض العرب. وقيل : إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف ، فصرفه لاتّباع خطّ المصحف. قال مقاتل : السلاسل في أعناقهم ، والأغلال في أيديهم. وقد شرحنا معنى «السّعير» في سورة النّساء (٢).

قوله عزوجل : (إِنَّ الْأَبْرارَ) واحدهم برّ ، وبارّ ، وهم الصادقون. وقيل : المطيعون. وقال الحسن : وهم الذين لا يؤذون الذّرّ (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) أي : من إناء فيه شراب (كانَ مِزاجُها) يعني :

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٣٥ : وقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بيناه له ووضحناه وبصّرناه به ، كقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) وكقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، أي بينا له طريق الخير وطريق الشر ، وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد ومجاهد ـ في المشهور عنه ـ والجمهور.

(٢) النساء : ١٠.


مزاج الكأس (كافُوراً) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الكافور المعروف ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، فعلى هذا في المراد «بالكافور» ثلاثة أقوال : أحدها : برده ، قاله الحسن. والثاني : ريحه ، قاله قتادة. والثالث : طعمه ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنه اسم عين في الجنّة ، قاله عطاء ، وابن السّائب. والثالث : أنّ المعنى : مزاجها كالكافور لطيب ريحه ، وأجازه الفراء ، والزجاج.

قوله عزوجل : (عَيْناً) قال الفرّاء : هي المفسّرة للكافور ، وقال الأخفش : هي منصوبة على معنى : أعني عينا. وقال الزّجّاج : الأجود أن يكون المعنى : من عين ، قوله : (يَشْرَبُ بِها) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يشرب منها. والثاني : يشربها ، والباء صلة. والثالث : يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها.

وفي هذه العين قولان : أحدهما : أنها الكافور الذي سبق ذكره. والثاني : التّسنيم ، و (عِبادُ اللهِ) هاهنا : أولياؤه (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) قال مجاهد : يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنّة. قال الفرّاء : حيث ما أحبّ الرجل من أهل الجنّة فجّرها لنفسه.

قوله عزوجل : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال الفرّاء : فيه إضمار «كانوا» يوفون بالنّذر. وفيه قولان (١) : أحدهما : يوفون بالنّذر إذا نذروا في طاعة الله ، قاله مجاهد ، وعكرمة. والثاني : يوفون بما فرض الله عليهم ، قاله قتادة. ومعنى «النّذر» في اللغة : الإيجاب. فالمعنى يوفون بالواجب عليهم ، قوله : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) قال ابن عباس : فاشيا. وقال ابن قتيبة : فاشيا منتشرا. يقال : استطار الحريق : إذا انتشر ، واستطار الفجر : إذا انتشر الضوء. وأنشدوا للأعشى :

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٣٦ : وقوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي : يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.

وقال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٩ / ١١٥ : أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة : بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة ، وغيره من الواجبات. والنذر : حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه في شيء يفعله ، وإن شئت قلت : النذر : هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقد قال الله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج : ٢٩] ـ أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم امتثال أمر الله بإحرامهم الحج. وهذا يقوي قول قتادة. قال ابن العربي رحمه‌الله في «الأحكام» ٤ / ٣٥٣ : النذر مكروه بالجملة ، ثبت في الصحيح عن مالك عن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال تعالى : لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أكن قدّرته له ، إنما يستخرج به من البخيل» ـ قلت : حديث صحيح. أخرجه أحمد ٢ / ٢٤٢ والحميدي ١١١٢ والطحاوي في «المشكل» ٨٤٢ من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله تعالى. وأخرجه أبو داود ٣٢٨٨ من طريق مالك به ولم يقل : «قال الله تعالى : ...» وأخرجه البخاري ٦٦٩٤ والنسائي ٧ / ١٠٦. من طريق أبي الزناد به ، وليس فيه «قال الله تعالى».

وأخرجه البخاري ٦٦٩٤ ومسلم ١٦٤٠ والنسائي ٧ / ١٦ ـ ١٧ والترمذي ١٥٣٨ وابن ماجة ٢١٢٣ وأحمد ٢ / ٣٧٣ و ٤١٢ و ٤٦٣ وابن أبي عاصم في «السنة» ٣١٢ وابن حبان ٤٣٧٦ والحاكم ٤ / ٣٠٤ والبيهقي ١٠ / ٧٧ من طريق عبد الرحمن الأعرج به. ولم يقل : «قال الله تعالى». قال ابن العربي : وذلك لفقه صحيح ، وهو أن الباري سبحانه وعد بالرزق على العمل ومنه مفروض ، ومنه مندوب ، فإذا عين العبد ليستدر به الرزق ، أو يستجلب به الخير ، أو يستدفع به الشر لم يصل إليه به ، فإن وصل فهو لبخله. والله أعلم.


فبانت وقد أسأرت في الفؤاد

صدعا على نأيها مستطيرا (١)

وقال مقاتل : كان شرّه فاشيا في السموات ، وانشقّت ، وتناثرت الكواكب ، وفزعت الملائكة ، وكوّرت الشمس والقمر في الأرض ، ونسفت الجبال ، وغارت المياه ، وتكسّر كلّ شيء على وجه الأرض من جبل ، وبناء ، وفشا شرّ يوم القيامة فيهما.

قوله عزوجل : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

(١٥٠٧) أحدهما : نزلت في عليّ بن أبي طالب. آجر نفسه يسقي نخلا بشيء من شعير ليلة حتى أصبح ، فلما قبض الشعير طحن ثلثه ، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه ، فلمّا استوى أتى مسكين ، فأخرجوه إليه ، ثم عمل الثلث الثاني ، فلما تمّ أتى يتيم ، فأطعموه ، ثم عمل الثلث الباقي ، فلمّا تمّ جاء أسير من المشركين ، فأطعموه وطووا يومهم ذلك ، فنزلت هذه الآيات ، رواه عطاء عن ابن عباس.

(١٥٠٨) والثاني : أنها نزلت في أبي الدّحداح الأنصاري صام يوما ، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين ، ويتيم ، وأسير ، فأطعمهم ثلاثة أرغفة ، وبقي له ولأهله رغيف واحد ، فنزلت فيهم هذه الآية ، قاله مقاتل.

وفي هاء الكناية في قوله عزوجل (عَلى حُبِّهِ) قولان : أحدهما : ترجع إلى الطعام ، فكأنهم كانوا يؤثرون وهم محتاجون إليه ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والزّجّاج ، والجمهور. والثاني : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله الدّارانيّ. وقد سبق معنى «المسكين واليتيم» (٢). وفي الأسير أربعة أقوال (٣) : أحدها : أنه المسجون من أهل القبلة ، قاله مجاهد ، وعطاء وسعيد بن جبير. والثاني : أنه الأسير المشرك ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : المرأة ، قاله أبو حمزة الثّماليّ. والرابع : العبد ، ذكره الماورديّ.

____________________________________

(١٥٠٧) موضوع. ذكره الواحدي في «الأسباب» ٨٤٤ عن عطاء عن ابن عباس معلقا بدون إسناد. وأخرجه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس ، ومن رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ...) الآية فذكره بتمامه ، وزاد في أثناءه أشعارا لعلي وفاطمة. قاله الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٦٧٠. وأخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» ١ / ٣٩٠ عن الأصبغ بن نباتة ... فذكره بشعره وزيادة بعض الألفاظ ، ثم قال : وهذا لا نشك في وضعه. وكذا قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ١ / ١٥٤ ـ ١٥٥ : ومن الحديث الذي ينكره قلوب المحققين : ما روي عن ابن عباس ... فذكره ثم قال : هذا حديث مزوّق ، وقد تطرف فيه صاحبه حتى يشبّه على المستمعين ، والجاهل يعض على شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة ، ولا يدري أن صاحب هذا الفعل مذموم.

ـ وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٢٠٨ بتخريجي.

(١٥٠٨) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فهذا خبر لا شيء ، وذكر نزول السورة ليس له أصل في هذا الخبر ، وقد ورد في أبي الدحداح غير هذه الآية ، وتقدم.

__________________

(١) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس ، وهو في ديوانه ٩٣.

(٢) البقرة : ٨٣.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٣٧ : قال عكرمة : هم العبيد ، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك ، وقد أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث ، حتى إنه كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول : «الصلاة وما ملكت أيمانكم».


فصل : وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الآية تضمّنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك. قال : وهذا منسوخ بآية السيف. وليس هذا القول بشيء ، فإنّ في إطعام الأسير المشرك ثوابا ، وهذا محمول على صدقة التطوع. فأمّا الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفّار ، ذكره القاضي أبو يعلى.

قوله عزوجل : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي : لطلب ثواب الله. قال مجاهد ، وابن جبير : أما إنهم ما تكلّموا بهذا ، ولكن علمه الله من قلوبهم ، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب.

قوله عزوجل : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) أي : بالفعل (وَلا شُكُوراً) بالقول (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) أي : ما في يوم (عَبُوساً) قال ابن قتيبة : أي : تعبس فيه الوجوه ، فجعله من صفة اليوم ، كقوله عزوجل : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (١) ، أراد : عاصف الرّيح : فأمّا «القمطرير» فروى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أنه الطويل. وروى عنه العوفيّ أنه قال : هو الذي يقبّض فيه الرجل ما بين عينيه ووجهه. فعلى هذا يكون اليوم موصوفا بما يجري فيه ، كما قلنا في «العبوس» لأنّ اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين. وقال مجاهد ، وقتادة : «القمطرير» الذي يقلّص الوجوه ، ويقبض الحياة ، وما بين الأعين من شدّته. وقال الفرّاء : هو الشديد. يقال : يوم قمطرير ، ويوم قماطر ، وأنشدني بعضهم.

بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا

عليكم إذا ما كان يوم قماطر

وقال أبو عبيدة : العبوس ، والقمطرير ، والقماطر ، والعصيب ، والعصبصب : أشدّ ما يكون من الأيام ، وأطوله في البلاء.

قوله عزوجل : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) بطاعتهم في الدنيا (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) أي : حسنا وبياضا في الوجوه ، (وَسُرُوراً) لا انقطاع له. وقال الحسن : النضرة في الوجوه والسّرور في القلوب (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) على طاعته ، وعن معصيته (جَنَّةً وَحَرِيراً) وهو لباس أهل الجنّة (مُتَّكِئِينَ فِيها) قال الزّجّاج : هو منصوب على الحال ، أي : جزاهم جنّة في حال اتّكائهم فيها. وقد شرحنا هذا في الكهف (٢).

قوله عزوجل : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً) فيؤذيهم حرّها (وَلا زَمْهَرِيراً) وهو البرد الشديد. والمعنى : لا يجدون فيها الحرّ والبرد. وحكي عن ثعلب أنه قال : الزمهرير : القمر ، وأنشد :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزّمهرير ما زهر

أي : لم يطلع القمر.

قوله عزوجل : (وَدانِيَةً) قال الفرّاء : المعنى : وجزاهم جنّة ، ودانية عليهم ظلالها ، أي : قريبة منهم ظلال أشجارها (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) قال ابن عباس : إذا همّ أن يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول ما يريد. وقال غيره : قرّبت إليهم مذلّلة كيف شاؤوا ، فهم يتناولونها قياما ، وقعودا ، ومضطجعين ، فهو كقوله عزوجل : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٣). فأمّا «الأكواب» فقد شرحناها في (الزّخرف) (٤) قوله : (كانَتْ قَوارِيرَا) أي : تلك الأكواب هي قوارير ، ولكنها من فضة. قال ابن عباس : لو ضربت فضة الدنيا حتى جعلتها مثل جناح الذّباب ، لم ير الماء من ورائها ، وقوارير الجنة من فضة في صفاء

__________________

(١) إبراهيم : ١٨.

(٢) الكهف : ٣١.

(٣) الحاقة : ٢٣.

(٤) الزخرف : ٧١.


القارورة. وقال الفرّاء. وابن قتيبة : هذا على التشبيه ، المعنى : كأنها من فضة ، أي : لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير. وكان نافع ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم يقرءون «قواريرا قواريرا» فيصلونهما جميعا بالتنوين. ويقفون عليهما بالألف. وكان ابن عامر وحمزة يصلانهما جميعا بغير تنوين ، ويقفان عليهما بغير ألف. وكان ابن كثير يصل الأول بالتنوين ، ويقف بغير ألف. ويصل الثاني بغير تنوين وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ «سلاسل» و«قوارير قوارير» يصل الثلاثة بغير تنوين ، ويقف على الثلاثة بالألف. وكان أبو عمرو يقرأ الأول «قواريرا» فيقف عليه بألف ، ويصل بغير تنوين. وقال الزّجّاج : الاختيار عند النّحويين أن لا تنصرف «قوارير» لأنّ كلّ جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف. ومن قرأ «قواريرا» يصرف الأول لأنّه رأس آية ، ويترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية. ومن صرف الثاني : أتبع اللفظ اللفظ ، لأنّ العرب ربما قلبت إعراب الشيء لتتبع اللفظ اللفظ ، كما قالوا : جحر ضبّ خرب. وإنما الخرب من نعت الجحر.

قوله عزوجل : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو عمران ، والجحدري ، وابن يعمر «قدّروها» برفع القاف ، وكسر الدال ، وتشديدها. وقرأ حميد ، وعمرو بن دينار «قدروها» بفتح القاف ، والدال ، وتخفيفها. ثم في معنى الآية قولان : أحدهما : قدّروها في أنفسهم ، فجاءت على ما قدّروا ، قاله الحسن. وقال الزّجّاج : جعل الإناء على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم. والثاني : قدّروها على مقدار لا يزيد ولا ينقص ، قاله مجاهد. وقال غيره : قدروا الكأس على قدر ريّهم ، لا يزيد عن ريّهم فيثقل الكفّ ، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة ، وهذا ألذّ الشراب. فعلى هذا القول يكون الضمير في «قدّروا» للسّقاة والخدم. وعلى الأول للشاربين.

قوله عزوجل : (وَيُسْقَوْنَ فِيها) يعني في الجنة (كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) والعرب تضرب المثل بالزّنجبيل والخمر ممزوجين. قال المسيّب يصف فم امرأة :

فكأنّ طعم الزّنجبيل به

إذ ذقته وسلافة الخمر (١)

وقال آخر :

كأنّ القرنفل والزّنجبيل

باتا بفيها وأريا مشارا (٢)

الأري : العسل. والمشار : المستخرج من بيوت النّحل. قال مجاهد : الزّنجبيل : اسم العين التي منها شراب الأبرار. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : الزّنجبيل معرّب. قال : وقال الدّينوري : ينبت في أرياف عمان ، وهي عروق تسري في الأرض ، وليس بشجرة تؤكل رطبا ، وأجود ما يحمل من بلاد الصّين. قال الزّجّاج : وجائز أن يكون فيها طعم الزّنجبيل ، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور. وقيل : شراب الجنّة على برد الكافور ، وطعم الزّنجبيل ، وريح المسك.

قوله عزوجل : (عَيْناً فِيها) قال الزّجّاج : يسقون عينا. وسلسبيل : اسم العين ، إلّا أنه صرف لأنه رأس آية. وهو في اللغة : صفة لما كان في غاية السّلاسة. فكأن العين وصفت وسمّيت بصفتها. وقرأت

__________________

(١) هو في آخر ديوان الأعشى ابن أخت المسيب بن علس.

(٢) البيت في ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس ٩٣.


على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قوله عزوجل (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) قيل : هو اسم أعجميّ نكرة ، فلذلك يصرف. وقيل : هو اسم معرفة ، إلّا أنه أجري ، لأنه رأس آية. وعن مجاهد قال : حديدة الجرية. وقيل : سلسبيل : سلس ماؤها ، مستفيد لهم. وقال ابن الأنباري : السّلسبيل صفة الماء ، لسلسه وسهولة مدخله في الحلق. يقال : شراب سلسل ، وسلسال ، وسلسبيل. وحكى الماوردي : أن عليا عليه‌السلام قال : المعنى : سل سبيلا إليها ، ولا يصح.

قوله عزوجل : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) قد سبق بيانه (١) (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي : في بياض اللؤلؤ وحسنه ، واللؤلؤ إذا انتثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما. وإنما شبّهوا باللؤلؤ المنثور ، لانتشارهم في الخدمة. ولو كانوا صفّا لشبّهوه بالمنظوم. قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) يعني : الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً) لا يوصف (وَمُلْكاً كَبِيراً) أي : عظيما واسعا لا يريدون شيئا إلّا قدروا عليه ، ولا يدخل عليهم ملك إلّا باستئذان.

قوله عزوجل : (عالِيَهُمْ) قرأ أهل المدينة ، وحمزة ، والمفضّل عن عاصم بإسكان الياء ، وكسر الهاء. وقرأ الباقون بفتح الياء ، إلّا أنّ الجعفيّ عن أبي بكر قرأ «عاليتهم» بزيادة تاء مضمومة. وقرأ أنس بن مالك ، ومجاهد وقتادة «عليهم» بفتح اللام ، وإسكان الياء من غير تاء ، ولا ألف.

قال الزّجّاج : فأمّا تفسير إعراب «عاليهم» بإسكان الياء ، فيكون رفعه بالابتداء ، ويكون الخبر (ثِيابُ سُندُسٍ) وأمّا «عاليهم» بفتح الياء ، فنصبه على الحال من شيئين ، أحدهما من الهاء والميم ، والمعنى : يطوف على الأبرار ولدان مخلّدون عالي الأبرار ثياب سندس ، لأنه قد وصف أحوالهم في الجنّة ، فيكون المعنى : يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء. ويجوز أن يكون حالا من الولدان. المعنى : إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علوّ الثياب. وأمّا «عاليهم» فقد قرئت بالرفع وبالنصب ، وهما وجهان جيّدان في العربية ، إلّا أنهما يخالفان المصحف ، فلا أرى القراءة بهما ، وتفسيرها كتفسير «عاليهم».

قوله عزوجل : (ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) قرأ ابن عامر ، وأبو عمرو ، «خضر» رفعا «وإستبرق» خفضا. وقرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم «خضر» خفضا «وإستبرق» رفعا. وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم «خضر وإستبرق» كلاهما بالرفع. وقرأ حمزة ، والكسائيّ «خضر وإستبرق» كلاهما بالخفض. قال الزّجّاج : من قرأ خضر بالرفع ، فهو نعت الثياب ، ولفظ الثياب لفظ الجمع ، من قرأ «خضر» فهو من نعت السّندس ، والسّندس في المعنى راجع إلى الثياب. ومن قرأ «وإستبرق» رفعا فهو نسق على «ثياب» والمعنى : عليهم إستبرق. ومن خفض عطفه على السّندس ، فيكون المعنى : عليهم ثياب من هذين النوعين وقد بيّنّا في الكهف (٢) معنى السّندس ، والإستبرق والأساور.

قوله عزوجل : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) فيه قولان : أحدهما : لا يحدثون ولا يبولون عن شرب خمر الجنّة. قاله عطية. والثاني : لأنّ خمر الجنّة طاهرة ، وليست بنجسة كخمر الدنيا ، قاله الفرّاء : وقال أبو قلابة : يؤتون بعد الطعام بالشّراب الطّهور فيشربون فتضمر بذلك بطونهم ، ويفيض من

__________________

(١) الواقعة : ١٧.

(٢) الكهف : ٣١.


جلودهم عرق مثل رشح المسك.

قوله عزوجل : (إِنَّ هذا) يعني : ما وصف من نعيم أهل الجنّة (كانَ لَكُمْ جَزاءً) بأعمالكم (وَكانَ سَعْيُكُمْ) أي : عملكم في الدنيا بطاعة الله (مَشْكُوراً) قال عطاء : يريد : شكرتكم عليه ، وأثيبكم عليه أفضل الثواب (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) ، أي : فصّلناه في الإنزال ، فلم ننزله جملة واحدة (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) قد سبق بيانه في مواضع (١). والمفسّرون يقولون : هو منسوخ بآية السيف ، ولا يصحّ ، قوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي : من مشركي أهل مكّة (آثِماً أَوْ كَفُوراً) «أو» بمعنى الواو ، كقوله : (أَوِ الْحَوايا) (٢). وقد سبق بيان هذا.

وللمفسّرين في المراد بالآثم وفي الكفور ثلاثة أقوال : أحدها : أنهما صفتان لأبي جهل. والثاني : أنّ الآثم : عتبة بن ربيعة ، والكفور الوليد بن المغيرة. والثالث : الآثم : الوليد. والكفور : عتبة ، وذلك أنهما قالا له : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج. قوله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي : اذكره بالتوحيد في الصلاة (بُكْرَةً) يعني : الفجر (وَأَصِيلاً) يعني : العصر. وبعضهم يقول : الظّهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) يعني : المغرب والعشاء. (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) وهي : صلاة الليل كلّ فريضة عليه ، وهي لأمّته تطوّع (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني : كفّار مكّة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي يعني : الدّار العاجلة ، وهي الدنيا (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) يعني : أمامهم (يَوْماً ثَقِيلاً) أي : عسيرا شديدا. والمعنى : أنهم يتركون الإيمان به ، والعمل له. ثم ذكر قدرته ، فقال عزوجل : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي : خلقهم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. قال ابن قتيبة : يقال : امرأة حسنة الأسر ، أي : حسنة الخلق كأنها أسرت أي : شدّت. وأصل هذا من الإسار ، وهو : القدّ. الذي تشد به الأقتاب يقال : ما أحسن ما أسر قتبه ، أي : ما أحسن ما شدّه بالقد. وروي عن أبي هريرة قال : مفاصلهم. وعن الحسن قال : أوصالهم بعضا إلى بعض بالعروق والعصب ، قوله : (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) أي : إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم ، فجعلناهم بدلا منهم (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) وقد شرحنا الآية في المزّمّل (٣).

قوله عزوجل : (وَما تَشاؤُنَ) إيجاد السبيل (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ذلكم ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، «وما يشاءون» بالياء.

قوله عزوجل : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) قال المفسّرون : والرّحمة هاهنا : الجنّة (وَالظَّالِمِينَ) المشركين. قال أبو عبيدة : نصب «الظالمين» بالجوار ، المعنى : ولا يدخل الظالمين في رحمته. وقال الزّجّاج : إنما نصب «الظالمين» لأنّ قبله منصوبا. المعنى : يدخل من يشاء في رحمته ، ويعذّب الظالمين ، فيكون قوله عزوجل : (أَعَدَّ لَهُمْ) تفسيرا لهذا المضمر ، وقرأ أبو العالية ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي عبلة «والظالمون» رفعا.

__________________

(١) الطور : ٤٨ ، والقلم : ٤٨.

(٢) الأنعام : ١٤٦.

(٣) المزمل : ١٩.


سورة المرسلات

وهي مكّيّة كلّها في قول الجمهور

وحكي عن ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل أن فيها آية مدنيّة ، وهي قوله عزوجل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١)) فيه أربعة أقوال (٢) : أحدها : أنها الرياح يتبع بعضها بعضا ، رواه

__________________

(١) المرسلات : ٤٨.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٤١ : توقف ابن جرير في (الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) هل هي الملائكة ،


أبو العبيدين عن ابن مسعود ، والعوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة. والثاني : أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه ، رواه مسروق عن ابن مسعود ، وبهذا قال أبو هريرة ومقاتل. وقال الفرّاء : هي الملائكة.

فأمّا قوله عزوجل : (عُرْفاً) فإنها : أرسلت بالمعروف ، ويقال : تتابعت كعرف الفرس. والعرب تقول : يركب الناس إلى فلان عرفا واحدا : إذا توجّهوا إليه فأكثروا. قال ابن قتيبة : يريد أنّ الملائكة متتابعة بما ترسل به. وأصله من عرف الفرس ، لأنه طرف مستو ، بعضه في إثر بعض فاستعير للقوم يتبع بعضهم بعضا. والثالث : أنهم الرّسل بما يعرفون به من المعجزات ، هذا معنى قول أبي صالح ، ذكره الزّجّاج. والرابع : أنها الملائكة والريح ، قاله أبو عبيدة. قال : ومعنى «عرفا» : يتبع بعضها بعضا. يقال : جاءوني عرفا.

وفي «العاصفات» قولان : أحدهما : أنها الرياح الشديدة الهبوب ، قاله الجمهور. والثاني : الملائكة ، قاله مسلم بن صبيح. قال الزّجّاج : تعصف بروح الكافر.

وفي «النّاشرات» خمسة أقوال : أحدها : أنها الرياح تنشر السحاب ، قاله ابن مسعود ، والجمهور. والثاني : الملائكة تنشر الكتب ، قاله أبو صالح. والثالث : الصّحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، قاله الضّحّاك. والرابع : البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح ، قاله الرّبيع. والخامس : المطر ينشر النبات ، حكاه الماوردي.

وفي «الفارقات» أربعة أقوال (١) : أحدها : الملائكة تأتي بما يفرّق بين الحقّ والباطل ، قاله الأكثرون. والثاني : آي القرآن فرّقت بين الحلال والحرام ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن كيسان. والثالث : الريح تفرّق بين السحاب فتبدّده ، قاله مجاهد. والرابع : الرسل ، حكاه الزّجّاج.

وفي «الملقيات ذكرا» قولان : أحدهما : الملائكة تبلّغ ما حمّلت من الوحي إلى الأنبياء ، وهذا مذهب ابن عباس ، وقتادة ، والجمهور. والثاني : الرسل يلقون ما أنزل عليهم إلى الأمم ، قاله قطرب.

قوله عزوجل : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «عذرا» خفيفا «أو نذرا» ثقيلا. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص ، وخلف «عذرا أو نذرا» خفيفتان. قال الفرّاء : وهو مصدر ، مثقّلا كان أو مخفّفا. ونصبه على معنى : أرسلت بما أرسلت به إعذارا من الله وإنذارا. وقال الزّجّاج : المعنى : فالملقيات عذرا أو نذرا. ويجوز أن يكون المعنى : فالملقيات ذكرا للإعذار والإنذار. وهذه المذكورات مجرورات بالقسم. وجواب القسم (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) قال المفسّرون : إنّ ما توعدون به من أمر الساعة ، والبعث ، والجزاء لواقع ، أي : لكائن. ثم ذكر متى يقع فقال عزوجل : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي : محي نورها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) : شقّت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) قال الزّجّاج : أي : ذهب بها كلّها بسرعة. يقال : انتسفت الشيء : إذا أخذته بسرعة.

__________________

ولم يرجح ـ وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح كما قاله ابن مسعود اه.

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٤٢ : يعني الملائكة ، ولا خلاف هاهنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، فتفرق بين الحقّ والباطل ، والهدى والغي ، والحلال والحرام ، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق ، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره.


قوله عزوجل : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) قرأ أبو عمرو «وقّتت» بواو مع تشديد القاف. ووافقه أبو جعفر ، إلّا أنه خفّف القاف. وقرأ الباقون : «أقّتت» بألف مكان الواو مع تشديد القاف. قال الزّجّاج : وقّتت وأقّتت بمعنى واحد. فمن قرأ «أقّتت» بالهمز ، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو. وكلّ واو انضمّت ، وكانت ضمّتها لازمة ، جاز أن تبدل منها بهمزة. وقال الفرّاء : الواو إذا كانت أول حرف ، وضمّت ، همزت. تقول : صلّى القوم أحدانا. وهذه أجوه حسان. ومعنى «أقّتت» : جمعت لوقتها يوم القيامة. وقال ابن قتيبة : جمعت لوقت ، وهو يوم القيامة. وقال الزّجّاج : جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمّة.

قوله عزوجل : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي : أخّرت. وضرب الأجل لجمعهم ، يعجّب العباد من هول ذلك اليوم. ثم بيّنه فقال عزوجل : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق. ثم عظّم ذلك اليوم بقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالبعث. ثم أخبر الله تعالى عمّا فعل بالأمم المكذّبة ، فقال : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) يعني بالعذاب في الدنيا حين كذّبوا رسلهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) والقرّاء على رفع العين في «نتبعهم» ، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين. قال الفرّاء : «نتبعهم» مرفوعة. ويدلّ على ذلك قراءة ابن مسعود «وسنتبعهم الآخرين». ولو جزمت على معنى : ألم نقدر على إهلاك الأوّلين وإتباعهم الآخرين كان وجها جيدا. وقال الزّجّاج : الجزم عطف على «نهلك» ، ويكون المعنى : لمن أهلك أوّلا وآخرا. والرفع على معنى : ثم نتبع الأول والآخر من كلّ مجرم. وقال مقاتل : ثم نتبعهم الآخرين : يعني : كفار مكّة كذّبوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن جرير : الأوّلون : قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، والآخرون : قوم إبراهيم ، ولوط ، ومدين.

قوله عزوجل : (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) يعني : المكذّبين. فإن قيل : ما الفائدة في تكرار قوله عزوجل : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)؟ فالجواب : أنه أراد بكلّ آية منها غير ما أراد بالأخرى ، لأنه كلّما ذكر شيئا قال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا.

قوله عزوجل : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف. وقرأ الباقون بإدغامها.

قوله عزوجل : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي : ضعيف (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني : الرّحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) وهو مدّة الحمل (فَقَدَرْنا) قرأ أهل المدينة ، والكسائيّ «فقدّرنا» بالتشديد. وقرأ الباقون : بالتخفيف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان :

أحدهما : أنهما لغتان بمعنى واحد. قال الفرّاء : تقول العرب : قدر عليه ، وقدّر عليه. وقد احتجّ من قرأ بالتخفيف فقال : لو كانت مشدّدة لقال : فنعم القادرون ، فأجاب الفرّاء فقال : قد تجمع العرب بين المعنيين ، كقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١). قال الشاعر :

وأنكرتني وما كان الّذي نكرت

من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا (٢)

يقول : ما أنكرت إلّا ما يكون في الناس.

__________________

(١) الطارق : ١٧.

(٢) البيت للأعشى الكبير ديوانه : ١٠١ من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة.


والثاني : أنّ المخفّفة من القدرة والملك ، والمشدّدة من التقدير والقضاء. ثم بيّن لهم صنعه ليعتبروا فيوحّدوه ، فقال عزوجل : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) قال اللغويون : الكفت في اللغة : الضّمّ. والمعنى : أنها تضمّ أهلها أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها. قال ابن قتيبة : يقال : اكفت هذا إليك ، أي : ضمّه. وكانوا يسمّون بقيع الغرقد : كفتة ، لأنه مقبرة يضمّ الموتى.

وفي قوله عزوجل : (أَحْياءً وَأَمْواتاً) قولان : أحدهما : أنّ المعنى : تكفتهم أحياء وأمواتا ، قاله الجمهور. قال الفرّاء : وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم ، كأنك قلت : ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات ، فإذا نوّنت نصبت كما يقرأ (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً) (١) وقال الأخفش : انتصب على الحال.

والقول الثاني : أنّ المعنى : ألم نجعل الأرض أحياء بالنبات والعمارة ، وأمواتا بالخراب واليبس ، هذا قول مجاهد ، وأبي عبيدة.

قوله عزوجل : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ) قد سبق بيانه (شامِخاتٍ) أي : عاليات (وَأَسْقَيْناكُمْ) قد سبق معنى «أسقينا» (٢) ومعنى «الفرات» (٣) والمعنى : إنّ هذه الأشياء أعجب من البعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) في الدنيا ، وهو النار (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو عمران ، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي. قال ابن قتيبة : «والظّل» هاهنا : ظلّ من دخان نار جهنّم سطع ، ثم افترق ثلاث فرق ، وكذلك شأن الدّخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعّب ، فيقال لهم : كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب ، كما يكون أولياء الله في ظلّ عرشه ، أو حيث شاء من الظّلّ ، ثم يؤمر بكلّ فريق إلى مستقرّه من الجنة والنار (لا ظَلِيلٍ) أي : لا يظلّكم من حرّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشدّ عليكم من حرّ الشمس. قال مجاهد : تكون شعبة فوق الإنسان ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن شماله ، فتحيط به. وقال الضّحّاك : الشّعب الثلاث : هي الضّريع ، والزّقوم ، والغسلين. فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار.

قوله عزوجل : (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أي : لا يدفع عنكم لهب جهنّم. ثم وصف النّار فقال عزوجل (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ) ، وهو جمع شررة ، وهو ما يتطاير من النار متفرّقا (كَالْقَصْرِ) قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنيّة. وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهو قول الجمهور. وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، ومجاهد ، وأبو الجوزاء «كالقصر» بفتح الصاد. وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال : كنّا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقلّ فنرفعه للشتاء ، فنسمّيه : القصر. قال ابن قتيبة : من فتح الصاد أراد : أصول النّخل المقطوعة المقلوعة. وقال الزّجّاج : أراد أعناق الإبل. وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وعائشة ، وعكرمة ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكّل ، وابن يعمر «كالقصر» بفتح القاف ، وكسر الصاد. وقرأ ابن مسعود ، وأبو هريرة ، والنّخعيّ «كالقصر» برفع القاف والصاد جميعا. وقرأ أبو الدّرداء ، وسعيد بن جبير «كالقصر» بكسر القاف ، وفتح الصاد ، وقرأ أبو العالية ، وأبو عمران ، وأبو نهيك ، ومعاذ القارئ «كالقصر» بضمّ القاف وإسكان الصاد.

__________________

(١) البلد : ١٤ ـ ١٥.

(٢) الحجر : ٢٢ ، الجن : ١٦.

(٣) الفرقان : ٥٣ ، فاطر : ١٢.


قوله عزوجل : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «جمالات» بألف ، وكسر الجيم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم «جمالة» على التوحيد. وقرأ رويس عن يعقوب «جمالات» بضمّ الجيم. وقرأ أبو رزين ، وحميد ، وأبو حيوة «جمالة» برفع الجيم على التوحيد. قال الزّجّاج : من قرأ «جمالات» بالكسر ، فهو جمع جمال ، كما تقول : بيوت ، وبيوتات ، وهو جمع الجمع ، فالمعنى : كأنّ الشّرارات كالجمالات. ومن قرأ «جمالات» بالضمّ ، فهو جمع «جمالة» ، وهو القلس من قلوس سفن البحر ، ويجوز أن يكون جمع جمل وجمال وجمالات ، ومن قرأ جمالة فهو جمع جمل وجمالة ، كما قيل : حجر ، وحجارة. وذكر ، وذكارة. وقرئت «جمالة» على ما فسّرناه في جمالات بالضمّ. و«الصّفر» هاهنا : السّود. يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصّفرة : إبل صفر. وقال الفرّاء : الصّفر : سود الإبل لا يرى الأسود من الإبل إلّا وهو مشرب صفرة ، فلذلك سمّت العرب سود الإبل : صفرا ، كما سمّوا الظّباء : أدما لما يعلوها من الظّلمة في بياضها ، قال الشاعر :

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ سور أولادها كالزّبيب

قوله عزوجل : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) قال المفسّرون : هذا في بعض مواقف القيامة. قال عكرمة : تكلّموا واختصموا ، ثم ختم على أفواههم ، فتكلّمت أيديهم ، وأرجلهم ، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذون لهم فيعتذرون. وقال ابن الأنباري : لا ينطقون بحجّة تنفعهم. وقرأ أبو رجاء ، والقاسم بن محمّد ، والأعمش ، وابن أبي عبلة «هذا يوم لا ينطقون» بنصب الميم.

قوله عزوجل : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : بين أهل الجنّة وأهل النار (جَمَعْناكُمْ) يعني : مكذّبي هذه الأمّة (وَالْأَوَّلِينَ) من المكذّبين الذين كذّبوا أنبياءهم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب ، أي : إن قدرتم على حيلة ، فاحتالوا لأنفسكم. ثم ذكر ما للمؤمنين ، فقال عزوجل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ) يعني : ظلال الشجر ، وظلال أكنان القصور (وَعُيُونٍ) الماء وهذا قد تقدّم بيانه ، إلى قوله عزوجل : (كُلُوا) أي : ويقال لهم : كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله. ثم قال لكفّار مكّة : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) في الدنيا إلى منتهى آجالكم (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي : مشركون بالله.

قوله عزوجل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) فيه قولان : أحدهما : أنه حين يدعون إلى السجود يوم القيامة ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني : أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم : اركعوا ، أي صلّوا (لا يَرْكَعُونَ) أي : لا يصلّون. وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين ، وهو الأصحّ.

(١٥٠٩) وقيل : نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة ، فقالوا : لا نحني ، فإنها مسبّة علينا ، فقال : «لا خير في دين ليس فيه ركوع».

قوله عزوجل : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي : إن لم يصدّقوا بهذا القرآن ، فبأيّ كتاب بعده يصدّقون ، ولا كتاب بعده.

____________________________________

(١٥٠٩) ضعيف. أخرجه أبو داود ٣٠٢٦ وأحمد ٤ / ٢١٨ من حديث عثمان بن أبي العاص وليس فيه سبب نزول ، وحسّن إسناده الأرناؤوط في «جامع الأصول» ٦١٧٥. وخالفه الألباني فذكره في ضعيف أبي داود ٦٥٢ و«الضعيفة» ٤٣١٩ وعلته عنعنه الحسن ، وهو مدلس.


سورة النّبأ

ويقال لها : سورة عمّ يتساءلون

وهي مكيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أصله «عن ما» فأدغمت النون في الميم ، وحذفت ألف «ما» كقولهم : فيم ، وبم.

(١٥١٠) قال المفسّرون : لمّا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل المشركون يتساءلون بينهم ، فيقولون : ما الذي أتى به؟ ويتجادلون ، ويختصمون فيما بعث به ، فنزلت هذه الآية. واللفظ لفظ استفهام. والمعنى :

____________________________________

(١٥١٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٥٩٩٧ عن الحسن قوله. وأخرج الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما غير ذلك ، وكل ذلك ضعيف ، لا حجة فيه لأنه مجرد اجتهاد منهم.


تفخيم القصة ، كما يقولون : أيّ شيء زيد؟ إذا أردت تعظيم شأنه. ثم بيّن ما الذي يتساءلون عنه ، فقال عزوجل : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) يعني : عن الخبر العظيم الشأن. وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : القرآن ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، والفرّاء. قال الفرّاء : فلما أجاب صارت «عمّ» كأنها في معنى : لأيّ شيء يتساءلون عن القرآن. والثاني : البعث ، قاله قتادة. والثالث : أنه أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حكاه الزّجّاج.

قوله عزوجل : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) من قال : إنه القرآن ، فإنّ المشركين اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : هو شعر ، وقال بعضهم : أساطير الأوّلين ، إلى غير ذلك. وكذلك من قال : هو أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأمّا من قال : إنه البعث والقيامة ، ففي اختلافهم فيه قولان :

أحدهما : أنهم اختلفوا فيه لمّا سمعوا به ، فمنهم من صدّق وآمن ، ومنهم من كذّب ، وهذا معنى قول قتادة. والثاني : أنّ المسلمين والمشركين اختلفوا فيه ، فصدّق به المسلمون ، وكذّب به المشركون ، قاله يحيى بن سلام.

قوله عزوجل : (كَلَّا) قال بعضهم : هي ردع وزجر. وقال بعضهم : هي نفي لاختلافهم ، والمعنى : ليس الأمر على ما قالوا ، (سَيَعْلَمُونَ) عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وعيد على إثر وعيد. وقرأ ابن عامر «ستعلمون» في الحرفين بالتاء. ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده ، فقال عزوجل : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي : فراشا وبساطا (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) للأرض لئلّا تميد (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي : أصنافا ، وأضدادا ، ذكورا ، وإناثا ، سودا وبيضا ، وحمرا (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) قال ابن قتيبة : أي : راحة لأبدانكم. وقد شرحنا هذا في الفرقان (١) وشرحنا هناك قوله عزوجل : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً).

قوله عزوجل : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي : سببا لمعاشكم. والمعاش : العيش ، كلّ شيء يعاش به ، فهو معاش. والمعنى : جعلنا النهار مطلبا للمعاش. وقال ابن قتيبة : معاشا ، أي : عيشا ، وهو مصدر (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) قال مقاتل : هي السّموات ، غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبين كلّ سماءين مثل ذلك ؛ وهي فوقكم يا بني آدم. فاحذروا أن تعصوا فتخرّ عليكم.

قوله عزوجل : (وَجَعَلْنا سِراجاً) يعني : الشمس (وَهَّاجاً) قال ابن عباس : هو المضيء. وقال اللغويون : الوهّاج : الوقّاد. وقيل : الوهّاج يجمع النّور والحرارة.

قوله عزوجل : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها السموات ، قاله أبيّ بن كعب ، والحسن ، وابن جبير. والثاني : أنها الرّياح ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ومقاتل. قال زيد بن أسلم : هي الجنوب. فعلى هذا القول تكون «من» بمعنى «الباء» ، وتقديره : بالمعصرات. وإنما قيل للرّياح : معصرات ، لأنها تستدرّ المطر. والثالث : أنها السّحاب ، رواه الوالبيّ عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية. والضّحّاك ، والرّبيع ، قال الفرّاء : السّحابة المعصر : التي تتحلّب بالمطر ولمّا يجتمع ، مثل الجارية المعصر ، قد كادت تحيض ، ولمّا تحض. وكذلك قال ابن قتيبة : شبّهت السحاب بمعاصير الجواري ، والمعصر : الجارية التي قد دنت من الحيض. وقال

__________________

(١) الفرقان : ٤٧.


الزّجّاج : إنما قيل للسّحاب : معصرات ، كما قيل : أجزّ الزّرع ، فهو مجزّ ؛ أي : صار إلى أن يجزّ ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر.

قوله عزوجل : (ماءً ثَجَّاجاً) قال مقاتل : أي : مطرا كثيرا منصبّا يتبع بعضه بعضا. وقال غيره : يقال : ثجّ الماء يثجّ : إذا انصبّ (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي : بذلك الماء (حَبًّا وَنَباتاً) وفيه قولان :

أحدهما : أنّ الحبّ : ما يأكله الناس ، والنبات : ما تنبته الأرض مما يأكل الناس والأنعام ، هذا قول الجمهور. قال الزّجّاج : كلّ ما حصد حبّ ، وكلّ ما أكلته الماشية من الكلإ ، فهو نبات.

والثاني : أنّ الحبّ : اللؤلؤ ، والنبات : العشب. قال عكرمة : ما أنزل الله من السّماء قطرا ، إلّا نبت به في البحر لؤلؤا ، وفي الأرض عشبا.

قوله عزوجل : (وَجَنَّاتٍ) يعني : بساتين (أَلْفافاً) قال أبو عبيدة : أي : ملتفّة من الشجر ليس بينها خلال ، الواحدة : لفّاء ، وجنّات لفّ ، وجمع الجمع : ألفاف. قال المفسّرون : فدلّ بذكر المخلوقات على البعث. ثم أخبر عن يوم القيامة فقال عزوجل : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي : يوم القضاء بين الخلائق (كانَ مِيقاتاً) لمّا وعد الله من الثواب والعقاب. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ) من قبوركم (أَفْواجاً) أي : زمرا زمرا من كلّ مكان (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «وفتّحت» بالتشديد. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ بالتخفيف ، وإنما تفتح لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) أي : ذات أبواب (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) عن أماكنها (فَكانَتْ سَراباً) أي : كالسّراب ، لأنها تصير هباء منثورا فيراها الناظر كالسّراب بعد شدّتها وصلابتها (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) قال المبرّد : مرصادا يرصدون به ، أي : هو معدّ لهم يرصد بها خزنتها الكفّار. وقال الأزهريّ : المرصاد : المكان الذي يرصد فيه الراصد العدوّ. ثم بيّن لمن هي مرصاد فقال عزوجل : (لِلطَّاغِينَ) قال ابن عباس : للمشركين (مَآباً) أي : مرجعا.

قوله عزوجل : (لابِثِينَ) وقرأ حمزة «لبثين» والمعنى : فيهما واحد. يقال : هو لابث بالمكان ، ولبث. ومثله طامع ، وطمع ، وفاره ، وفره. وأما الأحقاب فجمع حقب ، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في الكهف (١).

فإن قيل : ما معنى ذكر الأحقاب ، وخلودهم في النار لا نفاد له؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أنّ هذا لا يدل على غاية ، لأنه كلّما مضى حقب تبعه حقب ولو أنه قال : (لابِثِينَ فِيها) عشرة أحقاب أو خمسة دلّ على غاية ، هذا قول ابن قتيبة ، والجمهور. وبيانه أنّ زمان أهل الجنة والنار يتصوّر دخوله تحت العدد ، وإن لم يكن له غاية. كقوله : بكرة وعشيا ، مثل هذا أنّ كلمات الله تعالى داخلة تحت العدد وإن لم تكن لها نهاية.

والثاني : أنّ المعنى : أنهم يلبثون فيها أحقابا (لا يَذُوقُونَ) في الأحقاب (بَرْداً وَلا شَراباً) فأمّا خلودهم في النار فدائم. هذا قول الزّجّاج. وبيانه أنّ الأحقاب حدّ لعذابهم بالحميم والغسّاق ، فإذا انقضت الأحقاب عذّبوا بغير ذلك من العذاب.

__________________

(١) الكهف : ٦٠.


وفي المراد «بالبرد» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه برد الشراب. روى أبو صالح عن ابن عباس قال : لا يذوقون فيها برد الشراب ، ولا الشراب. والثاني : أنه الرّوح والراحة ، قاله الحسن ، وعطاء. والثالث : أنه النّوم ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، وأنشدوا :

فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (١)

قال ابن قتيبة : النّقاخ : الماء ، والبرد : النّوم ، سمّي بذلك لأنه تبرد فيه حرارة العطش. وقال مقاتل : لا يذوقون فيها بردا ينفعهم من حرّها ، ولا شرابا ينفعهم من عطش (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «غساقا» بالتخفيف. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، والمفضّل ، وحفص عن عاصم بالتشديد وقد تقدّم (٢) ذكر الحميم ، والغسّاق (جَزاءً وِفاقاً) قال الفرّاء : وفقا لأعمالهم وقال غيره : جوزوا جزاء وفاقا لأعمالهم على مقدارها ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) فيه قولان : أحدهما : لا يخافون أن يحاسبوا ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، قاله الجمهور. والثاني : لا يرجون ثواب حساب ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي : بما جاء به الأنبياء قال الفرّاء : الكذّاب بالتشديد لغة يمانيّة فصيحة ؛ يقولون : كذّبت به كذّابا ، وخرّقت القميص خرّاقا ، وكلّ «فعّلت» فمصدره في لغتهم مشدّد. قال لي أعرابيّ منهم على المروة يستفتيني : الحلق أحبّ إليك ، أم القصّار؟ وأنشدني بعض بني كلاب :

لقد طال ما ثبّطتني عن صحابتي

وعن حوج قضاؤها من شفائيا

وأما أهل نجد ، فيقولون : كذّبت به تكذيبا. وقال أبو عبيدة : الكذّاب أشدّ من الكذاب ، وهما مصدر المكاذبة. قال الأعشى :

فصدقتها وكذبتها

والمرء ينفعه كذابه

قوله عزوجل : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) قال الزّجّاج : «كلّ» منصوب بفعل مضمر تفسيره : أحصيناه ، والمعنى : وأحصينا كلّ شيء ، و (كِتاباً) توكيد ل «أحصيناه» ، لأنّ معنى «أحصيناه» و«كتبناه» فيما يحصل ويثبت واحد. فالمعنى : كتبناه كتابا. قال المفسّرون : وكلّ شيء من الأعمال أثبتناه في اللّوح المحفوظ (فَذُوقُوا) أي : فيقال لهم : ذوقوا جزاء فعالكم (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الذين لم يشركوا (مَفازاً) وفيه قولان : أحدهما : متنزّها ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : فازوا بأن نجوا من النار بالجنة ، ومن العذاب بالرّحمة ، قاله قتادة. قال ابن قتيبة : «مفازا» في موضع «فوز» قوله : (حَدائِقَ) قال ابن قتيبة : الحدائق : بساتين نخل ، واحدها : حديقة.

قوله عزوجل : (وَكَواعِبَ) قال ابن عباس : الكواعب : النّواهد. قال ابن فارس : يقال : كعبت المرأة كعابة ، فهي كاعب : إذا نتأ ثديها. وقد ذكرنا معنى «الأتراب» في ص (٣).

قوله عزوجل : (وَكَأْساً دِهاقاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الملأى ، رواه أبو صالح عن ابن

__________________

(١) البيت لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان العرجي ، وهو في دواوينه ١٠٩ و«شواهد الكشاف» ٣٤.

(٢) ص : ٥٧.

(٣) ص : ٥٢.


عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد. والثاني : أنها المتتابعة. رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير. وعن مجاهد كالقولين. والثالث : أنها الصّافية ، قاله عكرمة.

قوله عزوجل : (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي : في الجنة إذا شربوها (لَغْواً) وقد ذكرناه في الطّور (١) وغيرها ، (وَلا كِذَّاباً) أي : لا يكذّب بعضهم بعضا ، لأنّ أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلّموا بالباطل وأهل الجنّة منزّهون عن ذلك. قال الفرّاء. وقراءة عليّ رضي الله عنه «كذّابا» بالتخفيف ، كأنه ـ والله أعلم ـ لا يتكاذبون فيها. وكان الكسائيّ يخفّف هذه ويشدّد ، «وكذّبوا بآياتنا كذّابا» لأنّ «كذّبوا» يقيّد «الكذاب» بالمصدر ، وهذه ليست مقيّدة بفعل يصيّرها مصدرا ، وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أنّ الكذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة. وقال أبو عليّ الفارسي : «الكذاب» بالتخفيف مصدر «كذب» ، مثل «الكتاب» مصدر «كتب».

قوله عزوجل : (جَزاءً) قال الزّجّاج : المعنى : جازاهم بذلك جزاء ، وكذلك (عَطاءً) لأنّ معنى أعطاهم وجازاهم واحد. و (حِساباً) معناه : ما يكفيهم ، أي : فيه كلّ ما يشتهون. يقال : أحسبني كذا بمعنى كفاني. (رَبِّ السَّماواتِ) قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والمفضّل «ربّ السموات والأرض وما بينهما الرحمن» برفع الباء من «ربّ» والنون من الرّحمن على معنى : هو ربّ السموات. وقرأ عاصم ، وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من «ربّك». وقرأ حمزة والكسائيّ بكسر الباء ورفع النون ، واختار هذه القراءة الفرّاء. ووافقه على هذا جماعة ، وعلّلوا بأنّ الربّ قريب من المخفوض ، والرحمن بعيد منه.

قوله عزوجل : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) فيه قولان : أحدهما : لا يملكون الشفاعة إلّا بإذنه قاله ابن السّائب. والثاني : لا يقدر الخلق أن يكلّموا الربّ إلّا بإذنه ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) فيه سبعة أقوال (٢) :

(١٥١١) أحدها : أنه جند من جند الله تعالى ، وليسوا بملائكة ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال مجاهد : هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون.

والثاني : أنه ملك أعظم من السموات والجبال ، والملائكة ، قاله ابن مسعود ، ومقاتل بن سليمان. وروى عطاء عن ابن عباس قال : الرّوح : ملك ما خلق الله ملكا أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّا ، وقامت الملائكة كلّهم صفّا واحدا ، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم.

____________________________________

(١٥١١) باطل ، أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» ٤١٢ من حديث ابن عباس ، وفي إسناده مجاهيل والمتن منكر ، ولو صح لما اختلف المفسرون في معنى الروح في هذه الآية. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٢٣٣ بتخريجنا.

__________________

(١) الطور : ٢٣.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» : والصواب من القول أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح ، والروح : خلق من خلقه وجائز أن يكون بعض الأشياء التي ذكرت. والله أعلم أي ذلك هو. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٤٩ : هو جبريل ، قاله الشعبي وسعيد بن جبير ويستشهد لهذا القول ، بقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وتوقف ابن جرير فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها ، والأشبه ـ والله أعلم ـ أنهم بنو آدم.


والثالث : أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النّفختين قبل أن تردّ إلى الأجساد ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والرابع : أنه جبريل عليه‌السلام قاله الشّعبيّ ، وسعيد بن جبير ، والضّحّاك. والخامس : أنهم بنو آدم ، قاله الحسن ، وقتادة. والسادس : أنه القرآن ، قاله زيد بن أسلم. والسابع : أنهم أشرف الملائكة ، قاله مقاتل بن حيّان.

قوله عزوجل : (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قال الشّعبيّ : هما سماطان ، سماط من الرّوح ، وسماط من الملائكة. فعلى هذا يكون المعنى : يوم يقوم الرّوح صفّا ، والملائكة صفّا. وقال ابن قتيبة : معنى قوله عزوجل : (صَفًّا) صفوفا.

قوله عزوجل : (لا يَتَكَلَّمُونَ) يعني : الخلق كلّهم (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في الكلام (وَقالَ صَواباً) أي : قال في الدنيا صوابا ، وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسّرين. وقال مجاهد : قال حقّا في الدنيا ، وعمل به (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الكائن الواقع بلا شكّ (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي : مرجعا إليه بطاعته. ثم خوّف كفّار مكّة ، فقال عزوجل : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) وهو عذاب الآخرة ، وكلّ آت قريب (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي : يرى عمله مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرّا ، (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) قال الحسن : إذا سمع الله الخلائق يوم القيامة وقضى الثّقلين الجنّ والإنس وأروا منازلهم قال لسائر الخلق : كونوا ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. وحكى الزّجّاج أنّ معنى : يا ليتني كنت ترابا. يا ليتني لم أبعث. وحكى الثّعلبيّ عن بعض أشياخه. أنه رأى في بعض التفاسير أنّ الكافر هاهنا : إبليس ، وذلك أنه عاب آدم ، لأنه خلق من التراب فتمنّى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم ، فقال : يا ليتني كنت ترابا.


سورة النّازعات

مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

قوله عزوجل : (وَالنَّازِعاتِ) فيه سبعة أقوال (١) : أحدها : أنها الملائكة تنزع أرواح الكفّار ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وروى عطيّة عن ابن عباس قال : هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، وبه قال مسروق. والثاني : أنه الموت ينزع النّفوس ، قاله مجاهد. والثالث : أنها النّفس حين تنزع ، قاله السّدّيّ. والرابع : أنها النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب ، قاله الحسن ، وقتادة ، وأبو عبيدة ، والأخفش ، وابن كيسان. والخامس : أنها القسيّ تنزع بالسّهم ، قاله عطاء وعكرمة. والسادس : أنها الوحوش تنزع وتنفر ، حكاه الماورديّ. والسابع : أنها الرّماة ، حكاه الثّعلبيّ.

وقوله عزوجل : (غَرْقاً) اسم أقيم مقام الإغراق. قال ابن قتيبة : والمعنى : والنّازعات إغراقا ، كما يغرق النازع في القوس ، يعني : أنه يبلغ به غاية المدّ ..

قوله عزوجل : (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنها حين تنشط أرواح الكفّار حتى تخرجها بالكرب والغمّ ، قاله عليّ عليه‌السلام. قال مقاتل : ينزع ملك الموت روح الكافر ، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه ، فيعذّبه في حياته ، ثم ينشطها من حلقه ـ أي : يجذبها ـ كما ينشط السّفّود من الصوف المبتلّ. والثاني : أنها تنشط. أرواح المؤمنين بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنها ، قاله ابن عباس. وقال الفرّاء : الذي سمعته

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٥١ : قال ابن مسعود : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) : الملائكة ، يعنون حين تنتزع أرواح بنو آدم ، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتفرق في نزعها ، ومن تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط. وهو الصحيح وعليه الأكثرون اه ..


من العرب : كأنما أنشط من عقال ، بألف. تقول : إذا ربطت الحبل في يد البعير : نشطته ، فإذا حللته قلت : أنشطته.

والقول الثاني : أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج ، وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا. وبيانه أنّ المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك. والثالث : أنّ النّاشطات : الموت ينشّط نفس الإنسان ، قاله مجاهد. والرابع : النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي : تذهب ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة ، والأخفش. ويقال لبقر الوحش : نواشط ، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال أبو عبيدة : والهموم تنشط بصاحبها. قال هميان بن قحافة :

أمست همومي تنشط المناشطا

الشّام بي طورا وطورا واسطا

والخامس : أنها النّفس حين تنشط بالموت ، قاله السّدّيّ.

قوله عزوجل : (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) فيه ستة أقوال :

أحدها : أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين ، قاله عليّ عليه‌السلام. قال ابن السّائب : يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء. فأحيانا ينغمس ، وأحيانا يرتفع ، يسلّونها سلّا رفيقا ، ثم يدعونها حتى تستريح. والثاني : أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين ، كما يقال للفرس الجواد : سابح : إذا أسرع في جريه ، قاله مجاهد ، وأبو صالح ، والفرّاء. والثالث : أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم ، روي عن مجاهد أيضا. والرابع : أنها السفن تسبح في الماء ، قاله عطاء. والخامس : أنها النجوم ، والشمس ، والقمر ، كلّ في فلك يسبحون ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة. والسادس : أنها الخيل ، حكاه الماوردي.

قوله عزوجل : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، قاله عليّ عليه‌السلام ومسروق. والثاني : أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، قاله مجاهد ، وأبو روق. والثالث : سبقت بني آدم إلى الإيمان ، قاله الحسن.

والقول الثاني : أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقا إلى لقاء الله ، فيقبضونها وقد عاينت السرور ، قاله ابن مسعود. والثالث : أنه الموت يسبق إلى النّفوس ، روي عن مجاهد أيضا. والرابع : أنها الخيل ، قاله عطاء. والخامس : أنها النجوم يسبق بعضه بعضا في السّير ، قاله قتادة.

قوله عزوجل : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) قال ابن عباس : هي الملائكة. قال عطاء : وكّلت بأمور عرّفهم الله العمل بها. وقال عبد الرّحمن بن سابط : يدبّر أمر الدنيا أربعة : جبريل ، وهو موكّل بالرّياح والجنود. وميكائيل ، وهو موكّل بالقطر والنبات. وملك الموت ، وهو موكّل بقبض الأنفس. وإسرافيل ، وهو ينزل بالأمر عليهم. وقيل : بل جبريل للوحي ، وإسرافيل للصّور. وقال ابن قتيبة : فالمدبّرات أمرا : تنزل بالحلال والحرام. فإن قيل : أين جواب هذه الأقسام ففيه جوابان : أحدهما : أنّ الجواب قوله عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) ، قاله مقاتل. والثاني : أنّ الجواب مضمر ، تقديره : لتبعثنّ ، ولتحاسبنّ ، ويدلّ على هذا قوله عزوجل (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) قاله الفرّاء.

قوله عزوجل : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ، وهي النّفخة الأولى التي تموت منها جميع الخلائق.


و«الرّاجفة» صيحة عظيمة فيها تردّد واضطراب كالرّعد إذا تمحّض. و«ترجف» بمعنى : تتحرّك حركة شديدة (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي : النّفخة الثانية ردفت الأولى ، أي : جاءت بعدها وكلّ شيء جاء بعد شيء فهو يردفه (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي : شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال يوم القيامة أيضا (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي : ذليلة لمعاينة النار. قال عطاء : وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام. ويدلّ على هذا أنه ذكر منكري البعث ، فقال عزوجل : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) قرأ ابن عامر وأهل الكوفة «أإنا» بهمزتين مخفّفتين على الاستفهام ، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية ، وفصل بينهما بألف وأبو عمرو. (فِي الْحافِرَةِ) وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الحافرة : الحياة بعد الموت. والمعنى : أنرجع أحياء بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس ، وعطيّة ، والسّدّيّ. قال الفرّاء : يعنون : أنردّ إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول : أتيت فلانا ، ثم رجعت على حافرتي ، أي : رجعت من حيث جئت. قال أبو عبيدة : يقال : رجع فلان في حافرته ، وعلى حافرته : إذا رجع من حيث جاء ، وهذا قول الزّجّاج. والثاني : أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، فسمّيت حافرة ، والمعنى : محفورة ، كما يقال : (ماءٍ دافِقٍ) (١) و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢) وهذا قول مجاهد والخليل. فيكون المعنى : أإنّا لمردودون إلى الأرض خلقا جديدا؟!

قال ابن قتيبة : «في الحافرة» أي : إلى أول أمرنا. ومن فسّرها بالأرض ، فإلى هذا يذهب ، لأنّا منها بدأنا. قال الشاعر :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعار

كأنه قال : أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصّبا «بعد ما شبت وصلعت».

والثالث : أنّ الحافرة : النار ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم «ناخرة» قال الفرّاء : وهما بمعنى واحد في اللغة. مثل طمع ، وطامع وحذر ، وحاذر. وقال الأخفش : هما لغتان. وقال الزّجّاج : يقال : نخر العظم ينخر ، فهو نخر. مثل عفن الشيء يعفن ، فهو عفن. وناخرة على معنى : عظاما فارغة ، يجيء فيها من هبوب الرياح كالنّخير. قال المفسّرون : والمراد أنهم أنكروا البعث ، وقالوا : نردّ أحياء إذا متنا وبليت عظامنا؟! (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي : إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا ممّا يعدنا به محمّد ، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه ، فقال عزوجل : (فَإِنَّما هِيَ) يعني النّفخة الأخيرة (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي : صيحة في الصّور يسمعونها من إسرافيل وهم في بطون الأرض فيخرجون (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) وفيها أربعة أقوال (٣) : أحدها : أنّ السّاهرة : وجه الأرض ، قاله ابن عباس : ومجاهد ، وعكرمة والضّحّاك ، واللغويون. قال الفرّاء : كأنها سمّيت بهذا الاسم ، لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. والثاني : أنه جبل عند بيت المقدس ، قاله وهب بن منبّه. والثالث : أنها جهنّم ، قاله قتادة. والرابع : أنها أرض الشام ، قاله سفيان.

__________________

(١) الطارق : ٦.

(٢) الحاقة : ٢١.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٥٢ : وهذه الأقوال كلها غريبة ، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.


(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

قوله عزوجل : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) أي : قد جاءك. وقد بيّنّا هذا في طه (١) وما بعده إلى قوله عزوجل : (طُوىً (١٦) اذْهَبْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «طوى اذهب» غير مجراة. وقرأ الباقون «طوى» منونة ، (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) وقرأ ابن كثير ، ونافع ، «تزّكّى» بتشديد الزاي ، أي : تطّهّر من الشّرك (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي : أدعوك إلى توحيده ، وعبادته (فَتَخْشى) عذابه (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) وفيها قولان : أحدهما : أنها اليد والعصا ، قاله جمهور المفسّرين. والثاني : أنها اليد قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (فَكَذَّبَ) أي بأنها من الله ، (وَعَصى) نبيّه (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي : أعرض عن الإيمان (يَسْعى) أي : يعمل بالفساد في الأرض (فَحَشَرَ) لمّا اجتمعوا (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي : أنا لا ربّ فوقي. وقيل أراد أنّ الأصنام أرباب ، وأنا ربّها وربّكم. وقيل : أراد : أنا ربّ السّادة والقادة.

قوله عزوجل : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) فيه أربعة أقوال (٢) : أحدها : أنّ الأولى قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٣) والآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والشّعبي ، ومقاتل ، والفرّاء. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن عباس : وكان بينهما أربعون سنة. قال السّدّيّ : فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة. قال الفرّاء : فالمعنى : أخذه الله أخذا نكالا للآخرة والأولى. والثاني : المعنى : جعله الله نكال الدنيا والآخرة ، أغرقه في الدنيا ، وعذّبه في الآخرة ، قاله الحسن ، وقتادة. وقال الرّبيع بن أنس : عذّبه الله في أول النهار بالغرق ، وفي آخره بالنّار. والثالث : أنّ الأولى : تكذيبه وعصيانه. والآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) قاله أبو رزين. والرابع : أنها أول أعماله وآخرها ، رواه منصور عن مجاهد. قال الزّجّاج : النّكال : منصوب ، مصدر مؤكّد ، لأنّ معنى أخذه الله : نكل الله به نكال الآخرة والأولى : فأغرقه في الدنيا ويعذّبه في الآخرة.

قوله عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي فعل بفرعون (لَعِبْرَةً) أي عظة (لِمَنْ يَخْشى) الله.

ثم خاطب منكري البعث ، فقال عزوجل : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) قال الزّجّاج : ذهب بعض النّحويين إلى أنّ قوله عزوجل : (بَناها) من صفة السماء ، فيكون المعنى : أم السماء التي بناها. وقال

__________________

(١) طه : ٩.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٥٣ : قال تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي انتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) هذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله : (نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي : الدنيا والآخرة. لا شك فيه.

(٣) القصص : ٣٨.


قوم : السماء ليس ممّا توصل ، ولكن المعنى : أأنتم أشدّ خلقا ؛ أم السماء أشدّ خلقا. ثم بيّن كيف خلقها ، فقال عزوجل (بَناها) قال المفسّرون : أخلقكم بعد الموت أشد عندكم ، أم السماء في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد. ومعنى : «بناها» رفعها. وكلّ شيء ارتفع فوق شيء فهو بناء. ومعنى (رَفَعَ سَمْكَها) رفع ارتفاعها وعلوّها في الهواء (فَسَوَّاها) بلا شقوق ، ولا فطور ، ولا تفاوت ، يرتفع فيه بعضها على بعض (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي : أظلمه فجعله مظلما. قال الزّجّاج : يقال : غطش الليل وأغطش ، وغبش وأغبش ، وغسق وأغسق ، وغشي وأغشى ، كلّه بمعنى أظلم.

قوله عزوجل : (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي : أبرز نهارها. والمعنى : أظهر نورها بالشمس. وإنما أضاف النّور والظّلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد خلق السماء (دَحاها) أي : بسطها. وبعض من يقول : إنّ الأرض خلقت قبل السماء يزعم أنّ «بعد» هاهنا بمعنى «قبل» ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) (١) وبعضهم يقول : هي بمعنى «مع» ، كقوله عزوجل : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (٢) ، ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل والسماء ، ثم دحيت بعد كمال السماء ، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في البقرة (٣). ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله عزوجل : (دَحاها).

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) أي : فجّر العيون منها (وَمَرْعاها) وهو ما يأكله الناس والأنعام (وَالْجِبالَ أَرْساها) قال الزّجّاج : أي : أثبتها (مَتاعاً لَكُمْ) أي : للإمتاع ، لأنّ معنى أخرج منها ماءها ومرعاها : أمتع بذلك. وقال ابن قتيبة : «متاعا لكم» أي : منفعة.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

قوله عزوجل : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) والطّامّة : الحادثة التي تطمّ على ما سواها ، أي : تعلو فوقه ، وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : النّفخة الثانية التي فيها البعث. والثاني : أنها حين يقال لأهل النار : قوموا إلى النار. والثالث : أنها حين يساق أهل الجنّة إلى الجنّة ، وأهل النار إلى النار.

قوله عزوجل : (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي : ما عمل من خير وشرّ (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي : لأبصار الناظرين. قال مقاتل : يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق. وقرأ أبو مجلز ، وابن السّميفع «لمن ترى» بالتاء. وقرأ ابن عباس ، ومعاذ القارئ «لمن رأى» بهمزة بين الراء والألف.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) في كفره (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) قال الزّجّاج : أي هي المأوى له. وهذا جواب (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ) فإنّ الأمر كذلك.

قوله عزوجل : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) قد ذكرناه في سورة الرّحمن (٤).

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

(٢) القلم : ١٣.

(٣) البقرة : ٢٩.

(٤) الرحمن : ٤٦.


قوله عزوجل : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي : عمّا تهوى من المحارم. قال مقاتل : هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر مقامه للحساب ، فيتركها.

قوله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) قد سبق في الأعراف (١) (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي : لست في شيء من علمها وذكرها. والمعنى : إنك لا تعلمها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي : منتهى علمها (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) وقرأ أبو جعفر «منذر» بالتنوين. ومعنى الكلام : إنما أنت مخوّف من يخافها. والمعنى : إنما ينفع إنذارك من يخافها. وهو المؤمن بها. وأما من لا يخافها فكأنه لم ينذر (كَأَنَّهُمْ) يعني : كفّار قريش (يَوْمَ يَرَوْنَها) أي : يعاينون القيامة (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا. وقيل : في قبورهم (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي : قدر آخر النهار من بعد العصر ، أو أوّله إلى أن ترتفع الشمس. قال الزّجّاج : والهاء والألف في «ضحاها» عائد إلى العشيّة. والمعنى : إلّا عشيّة ، أو ضحى العشيّة. قال الفرّاء :

فإن قيل : للعشيّة ضحى ، إنما الضّحى لصدر النهار؟.

فالجواب : أنّ هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا : آتيك العشيّة ، أو غداتها ، أو آتيك الغداة أو عشيّتها ، فتكون العشيّة في معنى «آخر» ، والغداة في معنى «أول». أنشدني بعض بني عقيل :

نحن صبحنا عامرا في دارها

عشيّة الهلال أو سرارها

أراد : عشيّة الهلال ، أو عشيّة سرار العشيّة ، فهذا أشدّ من قولهم : آتيك الغداة أو عشيّتها.

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧.


سورة عبس

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى).

(١٥١٢) قال المفسّرون : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، وأميّة وأبيّا ابني خلف ، ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويرجو إسلامهم ، فجاء ابن أمّ مكتوم الأعمى ، فقال : علّمني يا رسول الله ممّا علّمك الله ، وجعل يناديه ، ويكرّر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقطعه كلامه ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقبل على القوم يكلّمهم ، فنزلت هذه الآيات ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرمه بعد ذلك ، ويقول : مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي.

____________________________________

(١٥١٢) أصله محفوظ. أخرجه الطبري ٣٦٣٩ من حديث ابن عباس بنحوه ، وإسناده واه عطية العوفي واه ، وعنه مجاهيل. وذكره ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٥٥٦ وقال : فيه غرابة ونكارة. لكن أصل الحديث قوي له شواهد.

وله شواهد كثيرة ، وأحسن شيء في هذا الباب : ما أخرجه الترمذي ٣٣٣١ وابن حبان ٥٣٥ والحاكم ٢ / ٥١٤ والطبري ٣٦٣١٨ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٤٥ من حديث عائشة قالت : «أنزل (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ويقول : أترى بما تقول بأسا ، فيقال : لا ففي هذا أنزل». وإسناده صحيح على شرط مسلم ، وصححه الحاكم على شرطهما ، لكن قال : وأرسله جماعة عن هشام بن عروة عن عروة ليس فيه ذكر عائشة.

قلت : والمرسل ، أخرجه مالك ١ / ٢٠٣ ، ومراسيل عروة جياد. وله شاهد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٦٣٢٢. وله شاهد من مرسل الضحاك ، أخرجه الطبري ٣٦٣٢٥. وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن زيد ، أخرجه الطبري ٣٦٣٢٦. وله شاهد من مرسل مجاهد والحسن ، أخرجه الطبري ٣٦٣٢٢.

الخلاصة : رووه بألفاظ متقاربة ، والمعنى متحد ، وأن الآيات نزلت في شأن ابن أم مكتوم.

فالحديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» ٢٢٦٣.


(١٥١٣) وذهب قوم ، منهم مقاتل ، إلى أنه إنما جاء ليؤمن ، فأعرض عنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتغالا بالرؤساء ، فنزلت فيه هذه الآيات.

ومعنى : (عَبَسَ) قطّب وكلح (وَتَوَلَّى) أعرض بوجهه (أَنْ جاءَهُ) أي : لأن جاءه. وقرأ أبيّ بن كعب ، والحسن ، وأبو المتوكّل ، وأبو عمران ، «آن جاءه» بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة. وقرأ ابن مسعود ، وابن السّميفع «أأن» بهمزتين مقصورتين مفتوحتين. و (الْأَعْمى) هو ابن مكتوم ، واسمه عمرو بن قيس. وقيل : اسمه عبد الله بن عمرو (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي : يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح ، وما يتعلمه منك ، وقال مقاتل : لعله يؤمن (أَوْ يَذَّكَّرُ) أي : يتّعظ بما يتعلّمه من مواعظ القرآن (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) قرأ حفص عن عاصم «فتنفعه» بفتح العين ، والباقون بضمّها. قال الزّجّاج : من نصب ، فعلى جواب «لعل» ، ومن رفع ، فعلى العطف على «يزكّى».

قوله عزوجل : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) قال ابن عباس : استغنى عن الله وعن الإيمان بماله. قاله مجاهد : «أما من استغنى» عتبة ، وشيبة ، (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى). قرأ ابن كثير ، ونافع «تصدّى» بتشديد الصاد. وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، «تصدّى» بفتح التاء ، والصاد وتخفيفهما وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمرو بن دينار : «تتصدّى» بتاءين مع تخفيف الصاد ، قال الزّجّاج : والأصل : تتصدّى ، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين ، ومن قرأ «تصّدّى» بإدغام التاء ، فالمعنى أيضا : تتصدّى ، إلّا أنّ التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد. قال ابن عباس : «تصدّى» تقبل عليه بوجهك. وقال ابن قتيبة : تتعرّض. وقرأ ابن مسعود وابن السّميفع ، والجحدري «تصدى» بتاء واحدة مضمومة ، وتخفيف الصاد.

قوله عزوجل : (وَما عَلَيْكَ) أي : أيّ شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام؟ يعني : أنه ليس عليه إلّا البلاغ.

قوله (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) فيه قولان : أحدهما : يمشي. والثاني : يعمل في الخير ، وهو ابن أمّ مكتوم (وَهُوَ يَخْشى) الله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرّف ، وأبو الجوزاء «تتلهى» بتاء واحدة خفيفة مرفوعة. قال الزّجّاج : أي : تتشاغل عنه. يقال : لهيت عن الشيء ألهى عنه : إذا تشاغلت عنه.

قوله عزوجل : (كَلَّا) أي : لا تفعل ذلك : (إِنَّها) في المكني عنها قولان : أحدهما : آيات القرآن ، قاله مقاتل. والثاني : هذه السّورة ، قاله الفرّاء. «والتذكرة» بمعنى التذكير (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) مفسر في آخر المدّثّر (١). ثم أخبر بجلالة القرآن عنده فقال عزوجل : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أي : هو في صحف ، أي : في كتب مكرّمة ، وفيها قولان : أحدهما : أنها اللّوح المحفوظ ، قاله مقاتل. والثاني : كتب الأنبياء ، ذكره الثّعلبيّ. فعلى هذا يكون معنى (مَرْفُوعَةٍ) عالية القدر ، وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء.

____________________________________

(١٥١٣) هذا قول ضعيف ليس بشيء ، والصواب ما تقدم. انظر الروايات المتقدمة.

__________________

(١) المدثر : ٥٥.


وفي معنى (مُطَهَّرَةٍ) أربعة أقوال : أحدها : مطهّرة من أن تنزل على المشركين ، قاله الحسن. والثاني : مطهّرة من الشرك والكفر ، قاله مقاتل : والثالث : لأنه لا يمسّها إلّا المطهّرون ، قاله الفرّاء. والرابع : مطهّرة من الدّنس ، قاله يحيى بن سلام.

قوله عزوجل : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) فيهم قولان : أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله الجمهور. والثاني : أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله وهب بن منبّه.

وفي معنى «سفرة» ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنهم الكتبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة : والزّجّاج. قال الزّجّاج : واحدهم : سافر ، وسفرة ، مثل كاتب ؛ وكتبة ، وكافر ، وكفرة ، وإنما قيل للكتاب : سفر ، وللكاتب : سافر ، لأنّ معناه أنّه يبيّن الشيء ، ويوضحه. يقال : أسفر الصّبح : إذا أضاء. وسفرت المرأة : إذا كشفت النّقاب عن وجهها. ومنه : سفرت بين القوم ، أي : كشفت ما في قلب هذا ، وقلب هذا ، لأصلح بينهم. والثاني : أنهم القرّاء ، قاله قتادة. والثالث : أنهم السّفراء ، وهم المصلحون ، قال الفرّاء : تقول العرب : سفرت بين القوم ، أي : أصلحت بينهم ، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله ، كالسّفير الذي يصلح بين القوم. قال الشاعر :

وما أدع السّفارة بين قومي

وما أمشي بغشّ إن مشيت

قوله عزوجل : (كِرامٍ) أي : على ربّهم (بَرَرَةٍ) أي : مطيعين. قال الفرّاء : واحد «البررة» في قياس العربية : بارّ ، لأنّ العرب لا تقول : فعلة ينوون به الجمع إلّا الواحد ، ومنه فاعل ، مثل كافر ، وكفرة ، وفاجر ، وفجرة.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

قوله عزوجل : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي : لعن ، والمراد بالإنسان هاهنا : الكافر.

وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أشار إلى كلّ كافر ، قاله مجاهد. والثاني : أنه أميّة بن خلف ، قاله الضّحّاك. والثالث : عتبة بن لهب ، قاله مقاتل.

وفي قوله عزوجل : (ما أَكْفَرَهُ) ثلاثة أقوال : أحدها : ما أشدّ كفره ، قاله ابن جريج. والثاني : أيّ شيء أكفره؟ قاله السّدّيّ. فعلى هذا يكون استفهام توبيخ. والثالث : أنه على جهة التعجّب. وهذا التعجّب يؤمر به الآدميّون والمعنى : اعجبوا أنتم من كفره ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ثم فسّره عزوجل : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ). وفي معنى «فقدّره» ثلاثة أقوال : أحدها : قدّر أعضاء رأسه. وعينيه ، ويديه ، ورجليه ، قاله ابن السّائب. والثاني : قدّره أطوارا : نطفة ، ثم علقة ، إلى آخر خلقه ، قاله مقاتل.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٥٦ : قال ابن جرير : والصحيح أن السفرة الملائكة ، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه ومنه يقال : السفير : الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.


والثالث : فقدّره على الاستواء ، قاله الزّجّاج.

قوله : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) فيه قولان (١) : أحدهما : سهّل له العلم بطريق الحقّ والباطل ، قاله الحسن ، ومجاهد. قال الفرّاء. والمعنى : ثم يسّره للسبيل. والثاني : يسّر له السبيل في خروجه من بطن أمّه ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل ، قوله عزوجل : (فَأَقْبَرَهُ) قال الفرّاء : أي جعله مقبورا ، ولم يجعله ممّن يلقى للسّباع والطير ، فكأنّ القبر مما أكرم به المسلم. ولم يقل : قبره ، لأنّ القابر هو الدّافن بيده. والمقبر الله ، لأنه صيّره مقبورا. فليس فعله كفعل الآدمي. والعرب تقول : بترت ذنب البعير ، والله أبتره. وعضبت قرن الثّور ، والله أعضبه وطردت فلانا عني ، والله أطرده ، أي : صيّره طريدا. وقال أبو عبيدة : أقبره : أي أمر أن يقبر ، وجعل له قبرا. قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لمّا قتل صالح بن عبد الرّحمن : أقبرنا صالحا ، فقال : دونكموه. والذي يدفن بيده هو القابر. قال الأعشى :

لو أسندت ميتا إلى نحرها

عاش ولم يسلم إلى قابر (٢)

قوله عزوجل : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي : بعثه. يقال : أنشر الله الموتى فنشروا ، ونشر الميّت : حيي هو بنفسه ، واحدهم ناشر. قال الأعشى :

حتّى يقول النّاس ممّا رأوا

يا عجبا للميّت النّاشر

قوله عزوجل : (كَلَّا) قال الحسن : حقّا (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) به ربّه ، ولم يؤدّ ما فرض عليه. وهل هذا عامّ أم خاصّ؟ فيه قولان (٣) : أحدهما : أنه عامّ. قال مجاهد : لا يقضي أحد أبدا كلّ ما افترض الله عليه. والثاني : أنه خاصّ للكافر لم يقض ما أمر به من الإيمان والطاعة ، وقاله يحيى بن سلام ولمّا ذكر خلق ابن آدم ، ذكر رزقه ليقبو ويسد بالنّبات على البعث ، فقال عزوجل : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) قال مقاتل : يعني به عتبة بن أبي لهب. ومعنى الكلام : فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته؟ ثم بيّن فقال عزوجل : (أَنَّا) قرأ ابن كثير ، ونافع ؛ وأبو عمرو ، وابن عامر «إنا» بالكسر. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ (أَنَّا صَبَبْنَا) بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء ، ووافقهم رويس على فتحها في الوصل ، فإذا ابتدأ كسر. قال الزّجّاج : من كسر «إنا» فعلى الابتداء والاستئناف ، ومن فتح ، فعلى البدل من الطعام ، المعنى : فلينظر الإنسان إلى أنّا صببنا. قال المفسّرون : أراد بصبّ الماء : المطر

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٥٧ : قال العوفي ، عن ابن عباس : ثم يسّر عليه خروجه من بطن أمه ، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد : هذه كقوله (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي وضحناه وبيناه وسهلنا عليه علمه وهذا هو الأرجح.

(٢) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس ، ديوانه ١٣٩ من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٥٧ : قال ابن جرير : كلا ، ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر ، من أنه قد أدى حقّ الله عليه في نفسه وماله ، (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) يقول : لم يؤد ما فرض عليه من الفرائض لربه عزوجل ، ولم أجد للمتقدمين فيه كلاما سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك ـ والله أعلم ـ أن المعنى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي : بعثه (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) : لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا ، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا ، فإذا تناهى لذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.


(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) بالنبات (شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) يعني جميع الحبوب التي يتغذّى بها (وَعِنَباً وَقَضْباً) قال الفرّاء : هو الرّطبة. وأهل مكّة يسمّون القتّ : القضب. قال ابن قتيبة ويقال : إنه سمّي بذلك ، لأنه يقضب مرة بعد مرة ، أي : يقطع ، وكذلك القصيل ، لأنه يقصل ، أي : يقطع.

قوله عزوجل : (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً) قال الفرّاء : كلّ بستان عليه حائط ، فهو حديقة ، وما لم يكن عليه حائط لم يقل : حديقة. والغلب : ما غلظ من النّخل. قال أبو عبيدة : يقال : شجرة غلباء : إذا كانت غليظة. وقال ابن قتيبة : الغلب : الغلاظ الأعناق. وقال الزّجّاج : هي المتكاثفة ، العظام.

قوله عزوجل : (وَفاكِهَةً) يعني : ألوان الفاكهة (وَأَبًّا) فيه قولان : أحدهما : أنه ما ترعاه البهائم. قاله ابن عباس ، وعكرمة ، واللغويون. قال الزّجّاج : هو جميع الكلأ التي تعتلفه الماشية. والثاني : أنه الثّمار الرّطبة ، رواه الوالبي عن ابن عباس.

قوله : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) قد بيّنّاه في السّورة التي قبلها (١).

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

قوله عزوجل : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)) وهي الصّيحة الثانية. قال ابن قتيبة : الصّاخّة تصخّ صخّا ؛ أي : تصمّ. يقال : رجل أصخّ ، وأصلخ : إذا كان لا يسمع. والدّاهية صاخّة أيضا. وقال الزّجّاج : هي الصّيحة التي تكون عليها القيامة ، تصخّ الأسماع ، أي : تصمّها ، فلا تسمع إلّا ما تدعى به لإحيائها. ثم فسّر في أيّ وقت تجيء فقال عزوجل : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) قال المفسّرون : والمعنى (٢) : لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه ، لعظم ما هو فيه. قال الحسن : أول من يفرّ من أخيه هابيل ، ومن أمّه وأبيه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح. وقال قتادة : يفرّ هابيل من قابيل ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمّه ، وإبراهيم من أبيه ، ولوط من صاحبته ، ونوح من ابنه.

قوله عزوجل : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) قال الفرّاء : أي : يشغله عن قرابته. وقال ابن قتيبة : أي : يصرفه ويصدّه عن قرابته ، يقال : اغن عني وجهك ، أي : اصرفه ، واغن عني السّفيه. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، والزّهري ، وأبو العالية ، وابن السّميفع ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة «يعنيه» بفتح الياء ، والعين غير معجمة. قال الزّجّاج : معنى الآية : له شأن لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره ، وكذلك قراءة من قرأ «يعنيه» بالعين ، معناه له شأن لا يهمّه معه غيره.

__________________

(١) النازعات : ٣٣.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٥٩ : يراهم ويفرّ منهم ، ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم ، والخطب جليل. وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة : أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق ، يقول : نفسي ، نفسي ، لا أسأله اليوم إلا نفسي.


(١٥١٤) وقد روى أنس بن مالك قال : قالت عائشة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنحشر عراة؟ قال : نعم. قالت : واسوءتاه ، فأنزل الله عزوجل : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

قوله عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أي : مضيئة قد علمت ما لها من الخير (ضاحِكَةٌ) لسرورها (مُسْتَبْشِرَةٌ) أي : فرحة بما نالها من كرامة الله عزوجل (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي : غبار. وقال مقاتل : أي : سواد وكآبة (تَرْهَقُها) أي : تغشاها (قَتَرَةٌ) أي : ظلمة. وقال الزّجّاج : يعلوها سواد كالدّخان. ثم بيّن من أهل هذه الحال ، فقال عزوجل : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) وهو جمع كافر وفاجر.

____________________________________

(١٥١٤) صحيح دون لفظ «وا سوأتاه» فإنه منكر ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٤٦ من طريق إبراهيم بن هراسة ثنا عائذ بن شريح الكندي ، قال : سمعت أنس بن مالك ، قال : قالت عائشة. وفيه لفظة منكرة وهي «واسوءتاه» وإسناده ضعيف لضعف عائذ.

وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ٥٥٩ والطبري ٣٦٣٩٢ من طريق الفضل بن موسى ، عن عائذ بن شريح ، عن أنس قال : سألت عائشة رضي الله عنها : إني ساءلتك عن حديث فتجزني أنت به ، ...» فذكره بنحوه والمتن غريب بهذا اللفظ. وقال أبو حاتم : عائذ بن شريح ضعيف ، في حديثه ضعف. وقال ابن طاهر : ليس بشيء. فالإسناد ضعيف ، والمتن ضعيف.

وأصل حديث عائشة دون ذكر لفظ «واسوءتاه» أخرجه البخاري ٦٥٢٧ ومسلم ٢٨٥٩. وورد من حديث عائشة ـ دون ذكر اللفظة. أخرجه النسائي في «التفسير» ٦٦٨ والحاكم ٤ / ٥٦٤ وإسناده صحيح ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٢٥ من طريق بريد بن عبد ربه عن بقية عن الزبيدي عن الزهري عن عروة عن عائشة.

وورد من وجه آخر من حديث سودة : أخرجه الحاكم ٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥ والطبراني في «الكبير» ٢٤ / (٩١) والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٢٥ من طريق إسماعيل بن أبي أويس ثنا أبي عن محمد بن أبي عياش عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيه محمد بن أبي عياش مجهول ، وثّقه ابن حبان وحده. وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي!؟

وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٣٣٣ : ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن أبي عياش وهو ثقة! كذا قال رحمه‌الله ، والصواب أنه مجهول ، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل ، وقد اضطرب ، فرواه تارة عن أم سلمة به ، أخرجه الطبراني في «الأوسط» ١٠ / ٣٣٢ / ١٨٣٢٠.


سورة التّكوير

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

(١٥١٥) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أحبّ أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).

____________________________________

(١٥١٥) أخرجه الترمذي ٣٣٣٣ وأحمد ٢ / ٣٧ وابن حبان في «المجروحين» ٢ / ٢٥ من طريق عبد الرزاق.

وأخرجه الحاكم ٢ / ٥١٥ من طريق هشام بن يوسف الصنعاني وكلا الطريقين عن عبد الله بن بحير القاضي قال سمعت عبد الرحمن بن زيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... الحديث. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٢٧ من طريق علي بن محمد الفقيه عن المؤمل بن حسن ثنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا إبراهيم بن خالد ثنا عبد الله بن بحير به.

وإسناده غير قوي ، عبد الله بن بحير مختلف فيه ، وثقه ابن معين ، وفرق ابن حبان بين عبد الله بن بحير بن ريسان ، وبين أبي وائل القاص ، في حين عدهما ابن حجر والذهبي واحدا ، وشيخه وإن روى عنه غير واحد ، فقد وثّقه ابن حبان وحده ، وروى حديثين فقط. وصححه الألباني في «الصحيحة» ١٠٨١ ، وفي ذلك نظر ، قال ابن حبان : أبو وائل القاص ، اسمه عبد الله بن بحير الصنعاني ، وليس هو ابن بحير بن ريسان ، ذاك ثقة ، وهذا يروي عن عروة بن محمد بن عطية ، وعبد الرحمن بن يزيد ، العجائب التي كأنها معمولة لا يجوز الاحتجاج به ، ثم أسند هذا الحديث ، وحديثا آخر. وكذا فرق بينهما أبو أحمد الحاكم ، فقال في الكنى في فصل من عرف بكنيته ، ولا يوقف على اسمه ، قلت : وذكره البخاري في «التاريخ» ٨ / ٩ في الكنى ، فقال : أبو وائل القاص الصنعاني ، سمع عروة بن محمد ، روى عنه إبراهيم بن خالد. ولم يذكر البخاري فيه جرحا أو تعديلا. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٣٤ أن الترمذي رواه موقوفا ، وهذا لم أجده في المرفوع ، ولعل الوقف صواب ، فإن في المتن غرابة ، لكن لا أجزم بذلك لأنه إن كان كما قال ابن حبان ، فهو خبر واه ، وإلا فحسن غريب ، فالله أعلم. فالجزم بصحته من الألباني ، من غير بحث وتمحيص في الإسناد غير جيد ، والله أعلم.


وفي قوله عزوجل : (كُوِّرَتْ) أربعة أقوال : أحدها : أظلمت ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وكذلك قال الفرّاء : ذهب ضوؤها ، وهذا قول قتادة ، ومقاتل. والثاني : ذهبت ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وكذلك قال مجاهد : اضمحلّت. والثالث : غوّرت ، روي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وابن الأنباري ، وهذا من قول الناس بالفارسيّة : كور بكرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : هو بالفارسيّة كور بور.

والرابع : أنها تكوّر مثل العمامة ، فتلف وتمحى ، قاله أبو عبيد. قال الزّجّاج : ومعنى «كوّرت» جمع ضوؤها ، ولفّت كما تلفّ العمامة. يقال : كوّرت العمامة على رأسي أكوّرها : إذا لففتها. قال المفسّرون : تجمع الشمس بعضها إلى بعض ، ثم تلفّ ويرمى بها في البحر. وقيل : في النار. وقيل : تعاد إلى ما خلقت منه.

قوله عزوجل : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي : تناثرت ، وتهافتت. يقال : انكدر الطائر في الهواء : إذا انقضّ (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) عن وجه الأرض ، واستوت مع الأرض (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) قال المفسّرون وأهل اللغة : النّوق الحوامل ، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها : العشار لذلك ، وذلك الوقت أحسن زمان حملها ، وهي تضع إذا وضعت لتمام في سنة ، فهي أنفس ما للعرب عندهم ، فلا يعطّلونها ، إلّا لإتيان ما يشغلهم عنها ، وإنما خوطبت العرب بأمر العشار ، لأنّ أكثر عيشهم ومالهم من الإبل ، ومعنى «عطّلت» سيّبت وأهملت ، لاشتغالهم عنها بأهوال القيامة.

قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ) يعني : دوابّ البرّ (حُشِرَتْ) وفيه قولان : أحدهما : ماتت ، قاله ابن عباس. والثاني : جمعت إلى يوم القيامة ، قاله السّدّيّ. وقد زدنا هذا شرحا في الأنعام (١).

قوله عزوجل : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «سجرت» بتخفيف الميم ، وقرأ الباقون بتشديدها. وفي المعنى ثلاثة أقوال : أحدها : أوقدت فاشتعلت نارا ، قاله عليّ وابن عباس. والثاني : يبست ، قاله الحسن. والثالث : ملئت بأن صارت بحرا واحدا ، وكثر ماؤها ، قاله ابن السّائب والفراء ، وابن قتيبة.

قوله عزوجل : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) فيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : قرنت بأشكالها. قاله عمر رضي الله عنه ، الصالح مع الصالح في الجنّة ، والفاجر مع الفاجر في النّار ، وهذا قول الحسن ، وقتادة. والثاني : ردّت الأرواح إلى الأجساد ، فزوّجت بها ، قاله الشّعبي. وعن عكرمة كالقولين. والثالث : زوّجت أنفس المؤمنين بالحور العين ، وأنفس الكافرين بالشياطين ، قاله عطاء ، ومقاتل.

قوله عزوجل : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) قال اللغويون : الموؤودة : البنت تدفن وهي حيّة ، وكان هذا من فعل الجاهلية. يقال : وأد ولده ، أي : دفنه حيّا. قال الفرزدق :

ومنّا الّذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم يؤاد

يعني : صعصعة بن صوحان ، وهو جدّ الفرزدق. قال الزّجّاج : ومعنى سؤالها تبكيت قاتلها في

__________________

(١) الأنعام : ١١١.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٦٣ : أي جمع كل شكل إلى نظيره ، كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) ، وعن مجاهد قال : الأمثال من الناس جمع بينهم ، واختاره ابن جرير ، وهو الصحيح.


القيامة ، لأنّ جوابها : قتلت بغير ذنب. وقيل : سئلت : طلبت ، كما تقول : سألته حقّي وإنما طلبت لتبكيت قاتلي. ومثل هذا التبكيت قوله عزوجل : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) (١) وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرّحمن ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وهارون عن أبي عمرو «سألت» بفتح السين ، وألف بعدها (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بإسكان اللام ، وضمّ التاء الأخيرة. وسؤالها هذا أيضا تبكيت لقاتليها. قال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت ، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة ، فتمخّضت على رأس الحفيرة ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة ، وإن ولدت غلاما حبسته.

قوله عزوجل : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قرأ نافع ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وابن عامر ، ويعقوب «نشرت» بالتخفيف ، والباقون بالتشديد. والمراد بالصّحف : صحائف أعمال بني آدم نشرت للحساب (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) قال الفرّاء : يعني نزعت ، فطويت. وفي قراءة عبد الله «قشطت» بالقاف ، وهكذا تقول قيس ، وتميم ، وأسد ، بالقاف. وأمّا قريش ، فتقوله بالكاف ، والمعنى واحد. والعرب تقول : القافور ، والكافور ، والقسط ، والكسط. وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللّغات ، كما يقال : جدث ، وجدف. قال ابن قتيبة : كشطت كم يكشط الغطاء عن الشيء ، فطويت. وقال الزّجّاج : قلعت كما يقلع السقف. و (سُعِّرَتْ) أوقدت. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «سعّرت» مشددة. قال الزّجّاج : المعنى واحد. إلّا أنّ معنى المشدّد : أوقدت مرة بعد مرة. و (أُزْلِفَتْ) قرّبت من المتقين. وجواب هذه الأشياء (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي : إذا كانت هذه الأشياء علمت في ذلك الوقت كلّ نفس ما أحضرت من عمل ، فأثيبت على قدر عملها. وروي عن عمر بن الخطّاب أنه قال في قوله عزوجل : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) : لهذا جرى الحديث. وقال ابن عباس : من أول السّورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة ، ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة ، والمعنى : أقسم (بِالْخُنَّسِ) وفيها خمسة أقوال :

أحدها : أنها خمسة أنجم تخنس بالنهار فلا ترى ، وهي : زحل ، وعطارد ، والمشتري ، والمرّيخ. وبه قال مقاتل ، وابن قتيبة. وقيل : اسم المشتري : البرجس. واسم المرّيخ : بهرام. والثاني : أنها النّجوم ، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق ، وبه قال أبو عبيدة. والثالث : أنها بقر الوحش ، قاله ابن مسعود. والرابع : الظّباء ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. والخامس : الملائكة ، حكاه الماوردي. والأكثرون على أنها النّجوم. قال ابن قتيبة : وإنما سمّاها خنّسا ، لأنها تسير في البروج

__________________

(١) المائدة : ١١٦.


والمنازل ، كسير الشمس والقمر ، ثم تخنس ، أي : ترجع ، بينا يرى أحدها في آخر البروج كرّ راجعا إلى أوّله ، وسمّاها كنّسا ، لأنها تكنس ، أي : تسير كما تكنس الظّباء. وقال الزّجّاج : تخنس ، أي : تغيب ، وكذلك تكنس تدخل في كناسها ، أي : تغيب في المواضع التي تغيب فيها. وإذا كان المراد الظّباء فهي تدخل الكناس ، وهو الغصن من أغصان الشجر. ووقف يعقوب على «الجواري» بالياء.

قوله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) فيه قولان : أحدهما : ولّى ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، والفرّاء. والثاني : أقبل ، قاله ابن جبير ، وقتادة. قال الزّجّاج : يقال : عسعس الليل : إذا أقبل. وعسعس : إذا أدبر. واستدلّ من قال : إنّ المراد : إدباره ب قوله عزوجل : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط :

حتى إذا الصّبح لها تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

وفي قوله عزوجل : (تَنَفَّسَ) قولان : أحدهما : أنه طلوع الفجر ، قاله عليّ رضي الله عنه وقتادة. والثاني : طلوع الشمس ، قاله الضّحّاك. وقال الزّجّاج : معناه : إذا امتدّ حتى يصير نهارا بيّنا. وجواب القسم في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) وما بعده قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني : أنّ القرآن نزل به جبريل. وقد بيّنّا هذا في الحاقّة (١). ثم وصف جبريل ب قوله عزوجل : (ذِي قُوَّةٍ) وهو كقوله عزوجل : (ذُو مِرَّةٍ) وقد شرحناه في النّجم (٢) (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) يعني : في المنزلة (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) أي : في السموات تطيعه الملائكة. فمن طاعة الملائكة له : أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخلها ورأى ما فيها ، وأمر خازن جهنّم ففتح له عنها حتى نظر إليها. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن مسعود ، وأبو حيوة «ثم أمين» بضمّ الثاء. ومعنى «أمين» على وحي الله ورسالاته. وقال أبو صالح : أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن.

قوله عزوجل : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب لأهل مكّة. قال الزّجّاج : وهذا أيضا من جواب القسم ، وذلك أنه أقسم أنّ القرآن نزل به جبريل ، وأنّ محمّدا ليس بمجنون كما يقول أهل مكّة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) قال المفسّرون : رأى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل على صورته بالأفق. وقد ذكرنا هذا في سورة النّجم (٣).

قوله عزوجل : (وَما هُوَ) يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلَى الْغَيْبِ) أي : على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض (بِضَنِينٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، ورويس «بظنين» بالظاء ، وقرأ الباقون بالضاد. قال ابن قتيبة : من قرأ بالظاء ، فالمعنى : ما هو بمتّهم على ما يخبر به عن الله ، ومن قرأ بالضاد ، فالمعنى : ليس ببخيل عليكم بعلم ما غاب عنكم مما ينفعكم. وقال غيره : ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه.

قوله عزوجل : (وَما هُوَ) يعني : القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) قال مقاتل : وذلك أنّ كفّار مكّة قالوا : إنما يجيء به الشيطان ، فيلقيه على لسان محمّد.

__________________

(١) الحاقة : ٤٠.

(٢) النجم : ٦.

(٣) تقدم في سورة النجم : ٧.


قوله عزوجل : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) قال الزّجّاج : معناه : فأيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم؟ قوله : (إِنْ هُوَ) أي : ما هو ، يعني : القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي : موعظة للخلق أجمعين (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) على الحقّ والإيمان. والمعنى : أنّ القرآن إنما يتّعظ به من استقام على الحقّ. وقد بيّنّا سبيل الاستقامة ، فمن شاء أخذ في تلك السبيل. ثم أعلمهم أنّ المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا ، وقد بيّنّا هذا في سورة الإنسان (١).

(١٥١٦) قال أبو هريرة : لمّا نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قالوا : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فنزل قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) وقيل : القائل لذلك أبو جهل. وقرأ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه ، وأبو المتوكّل ، وأبو عمران : «وما يشاءون» بالياء.

فصل : وقد زعم بعض ناقلي التفسير أنّ قوله عزوجل : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) وقوله عزوجل في (عبس) (٢) : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) ، وقوله عزوجل في سورة الإنسان (٣) وفي سورة المزّمّل (٤) : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) كلّه منسوخ بقوله عزوجل : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ولا أرى هذا القول صحيحا ، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجّه النّسخ. فأمّا إذ أخبر أنّ مشيئتهم لا تقع إلّا بعد مشيئته ، فليس للنّسخ وجه.

____________________________________

(١٥١٦) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» ٦ / ٥٣٢ عن أبي هريرة ، ولم أقف على إسناده ، وتفردهما به دليل وهنه. وورد عن سليمان بن موسى قوله ، وهو أصح. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٤٧ والطبري ٣٦٥٤٩ و ٣٦٥٥٠ عن سليمان بن موسى به.

__________________

(١) الإنسان : ٣٠.

(٢) عبس : ١٢.

(٣) الإنسان : ٢٩.

(٤) المزمل : ١٨.


سورة الانفطار

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

قوله عزوجل : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انفطارها : انشقاقها. و (انْتَثَرَتْ) بمعنى تساقطت. و (فُجِّرَتْ) بمعنى فتح بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا. وقال الحسن : ذهب ماؤها ، و (بُعْثِرَتْ) بمعنى أثيرت. قال ابن قتيبة : قلبت فأخرج ما فيها. يقال : بعثرت المتاع وبحثرته : إذا جعلت أسفله أعلاه.

قوله عزوجل : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) هذا جواب الكلام. وقد شرحناه في قوله عزوجل : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (١).

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه عني به أبو الأشد (٢) ، وكان كافرا ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. وقد ذكرنا اسمه في المدّثّر (٣). والثاني : أنه الوليد بن المغيرة ، قاله عطاء. والثالث : أنه أبيّ بن خلف ، قاله عكرمة. والرابع : أنه أشار إلى كلّ كافر ، ذكره الماورديّ.

قوله عزوجل : (ما غَرَّكَ) قال الزّجّاج : أي : ما خدعك وسوّل لك حتى أضعت ما وجب عليك؟. وقال غيره : المعنى : ما الذي أمّنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذ لم يعاقبك عاجلا؟ وقيل

__________________

(١) القيامة : ٣٠.

(٢) تقدم الكلام عليه في سورة المدثر : ٣٠.

(٣) المدثر : ٣٠.


للفضيل بن عياض : لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة ، وقال : ما غرّك بربّك الكريم ، ماذا كنت تقول؟ قال : أقول : غرّني ستورك المرخاة. وقال يحيى بن معاذ : لو قال لي : ما غرّك بي؟ قلت : برّك سالفا وآنفا. وقيل : لمّا ذكر الصّفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته ، كان كأنه لقّن عبده الجواب ، ليقول : غرّني كرم الكريم.

قوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَكَ) ولم تك شيئا (فَسَوَّاكَ) إنسانا تسمع وتبصر (فَعَدَلَكَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «فعدّلك» بالتشديد. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ «فعدلك» بالتخفيف. قال الفرّاء : من قرأ بالتخفيف. فوجهه ـ والله أعلم ـ : فصوّرك إلى أيّ صورة ما شاء ، إمّا حسن ، وإمّا قبيح ، وإمّا طويل ، وإمّا قصير. وقيل : في صورة أب ، في صورة عمّ ، في صورة بعض القرابات تشبيها. ومن قرأ بالتشديد ، فإنه أراد ـ والله أعلم ـ : جعلك معتدلا ، معدّل الخلق. وقال غيره : عدّل أعضاءك فلم تفضل يد على يد ، ولا رجل على رجل ، وعدل بك أن يجعلك حيوانا بهيما.

قوله عزوجل : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال الزّجّاج : يجوز أن تكون «ما» زائدة. ويجوز أن تكون بمعنى الشّرط والجزاء ، فيكون المعنى : في أيّ صورة ما شاء أن يركّبك فيها ركّبك. وفي معنى الآية أربعة أقوال : أحدها : في أيّ صورة من صور القرابات ركّبك ، وهو معنى قول مجاهد. والثاني : في أيّ صورة ، من حسن ، أو قبيح أو طويل ، أو قصير ، أو ذكر ، أو أنثى ، وهو معنى قول الفرّاء. والثالث : إن شاء أن يركّبك في غير صورة الإنسان ركّبك ، قاله مقاتل. وقال عكرمة : إن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة خنزير. والرابع : إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير. وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبله ، وإن شاء في صورة كلب بالبخل ، أو خنزير بالشرّ ، ذكره الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) وقرأ أبو جعفر بل يكذبون «بالياء» أي : بالجزاء والحساب ، فيزعمون أنه غير كائن. ثم أعلمهم أنّ أعمالهم محفوظة ، فقال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) أي : من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم (كِراماً) على ربّهم (كاتِبِينَ) يكتبون أعمالكم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) من خير وشرّ ، فيكتبونه عليكم.

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنّة (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) وفيهم قولان : أحدهما : أنهم المشركون. والثاني : الظّلمة. ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم : يا ليت شعري ما لنا عند الله؟ فقال له : اعرض عملك على كتاب الله ، فإنك تعلم ما لك عنده ، فقال : وأين أجده؟ قال : عند قوله عزوجل : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) قال سليمان : فأين رحمة الله؟ قال : قريب من المحسنين.

قوله عزوجل : (يَصْلَوْنَها) يعني : يدخلون الجحيم مقاسين حرّها (يَوْمَ الدِّينِ) أي : يوم الجزاء على الأعمال (وَما هُمْ عَنْها) أي : الجحيم (بِغائِبِينَ) وهذا يدلّ على تخليد الكفّار. وأجاز بعض العلماء أن تكون «عنها» كناية عن يوم القيامة ، فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث. ويشتمل هذا على الأبرار والفجّار. ثم عظّم ذلك اليوم ب قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) ثم كرّر ذلك تفخيما لشأنه ، وكان ابن السّائب يقول : الخطاب بهذا للإنسان الكافر ، لا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.


قوله عزوجل : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو «يوم» بالرفع ، والباقون : بالفتح. قال الزّجّاج : من رفع «اليوم» ، فعلى أنه صفة لقوله عزوجل : (يَوْمُ الدِّينِ). ويجوز أن يكون رفعه بإضمار «هو» ، ونصبه على معنى : هذه الأشياء المذكورة تكون (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) قال المفسّرون : ومعنى الآية أنه لا يملك الأمر أحد إلّا الله ولم يملّك أحدا من الخلق شيئا كما ملّكهم في الدنيا. وكان مقاتل يقول : لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة. والقول على الإطلاق أصحّ ، لأنّ مقاتلا فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين. والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه.


سورة المطفّفين

وفيها ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها مكّيّة ، قاله ابن مسعود ، والضّحّاك ، ويحيى بن سلام. والثاني : مدنيّة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل ، إلّا أنّ ابن عباس ، وقتادة قالا : فيها ثمان آيات مكيّة ، من قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) (٢) إلى آخرها. وقال مقاتل : فيها آية مكّيّة ، وهي قوله عزوجل : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣). والثالث : أنها نزلت بين مكّة ، والمدينة ، قاله جابر بن زيد وابن السّائب ، وذكر هبة الله بن سلامة المفسّر أنها نزلت في الهجرة بين مكّة والمدينة ، نصفها يقارب مكّة ، ونصفها يقارب المدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

قوله عزوجل : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).

(١٥١٧) قال ابن عباس : لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وقال السّدّيّ : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان ، يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية (٤). وقد شرحنا معنى «الويل» في البقرة (٥) قال ابن قتيبة : المطفّف : الذي لا يوفّي الكيل ، يقال : إناء طفّان : إذا لم يكن مملوءا. وقال الزّجّاج : إنما قيل : مطفّف ،

____________________________________

(١٥١٧) حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ٦٧٤ وابن ماجة ٢٢٢٣ والحاكم ٢ / ٣٣ والطبري ٣٦٥٧٧ والواحدي ٨٤٨ من حديث ابن عباس ، وإسناده حسن. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وهو حديث حسن صحيح ، وقد صححه السيوطي في «الدر» ٦ / ٥٣٦. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ٢٢٦٦.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٧١ : سورة المطففين مدنية.

(٢) المطففين : ٢٩.

(٣) المطففين : ١٣.

(٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٥٠ بدون إسناد عن السدي ، فهو لا شيء. وقال الحافظ في «تخريجه» ٤ / ٧١٨ : لم أجده.

(٥) البقرة : ٧٩.


لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلّا الشيء الطّفيف ، وإنما أخذ من طفّ الشيء ، وهو جانبه.

قوله عزوجل : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) أي : من الناس. ف «على» بمعنى «من» في قول المفسّرين واللغويين. قال الفرّاء : «على» ، و«من» يعتقبان في هذا الموضع ، لأنك إذا قلت : اكتلت عليك ، فكأنك قلت : أخذت ما عليك كيلا ، وإذا قلت : اكتلت منك كيلا ، فهو كقولك : استوفيت منك. قال الزّجّاج : المعنى : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل ، وكذلك إذا اتّزنوا ، ولم يذكر «إذا اتّزنوا» ، لأنّ الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ، فأحدهما يدل على الآخر (وَإِذا كالُوهُمْ) أي : كالوا لهم (أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي : وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ) أي : ينقصون في الكيل ، والوزن. فعلى هذا لا يجوز أن يقف على «كالوا» ، ومن الناس من يجعل «هم» توكيدا لما كالوا ، ويجوز أن يقف على «كالوا» والاختيار الأول. قال الفرّاء : سمعت أعرابيّة تقول :

إذا صدر الناس أتينا التاجر ، فيكيلنا المدّ والمدّين إلى الموسم المقبل.

قوله عزوجل : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)؟! قال الزّجّاج : المعنى : لو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني به يوم القيامة (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) اليوم منصوب بقوله عزوجل «مبعوثون». قال المفسّرون : والظّنّ هاهنا بمعنى العلم واليقين. ومعنى يقوم الناس ، أي : من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي : لأمره ، أو لجزائه وحسابه. وقيل يقومون بين يديه لفصل القضاء.

(١٥١٨) وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : في هذه الآية : «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». وقال كعب : يقفون ثلاثمائة عام. قال مقاتل : وذلك إذا أخرجوا من قبورهم.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

قوله عزوجل : (كَلَّا) ردع وزجر ، أي : ليس الأمر على ما هم عليه ، فليرتدعوا. وهاهنا تمّ الكلام عند كثير من العلماء. وكان أبو حاتم يقول : «كلا» ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقّا» (إِنَّ

____________________________________

(١٥١٨) صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٣٨ والبغوي في «التفسير» من طريق إبراهيم بن المنذر به. وأخرجه مسلم ٢٨٦٢ من طريق معن به. وأخرجه الطبراني ٣٠ / ٩٤ من طريق مالك به. وأخرجه البخاري ٦٥٣١ ومسلم ٢٨٦٢ والترمذي ٢٤٢٢ وابن ماجة ٤٢٧٨ ، وأحمد ٢ / ١٠٥ و ١٢٥ وابن أبي شيبة ١٣ / ٢٣٣ وابن حبان ٧٣٣١ والطبري ٣٦٥٨٥ و ٣٦٥٨٩ والبغوي ٤٢١١ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٤٢ من طرق عن نافع به.


كِتابَ الفُجَّارِ) قال مقاتل : إنّ كتاب أعمالهم (لَفِي سِجِّينٍ) وفيها أربعة أقوال : أحدها : أنها الأرض السابعة ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن زيد ، ومقاتل. وروي عن مجاهد قال : «سجين» صخرة تحت الأرض السابعة ، جعل كتاب الفاجر تحتها ، وهذه علامة لخسارتهم ، ودلالة على خساسة منزلتهم. والثاني : أن المعنى : إنّ كتابهم لفي سفال ، قاله الحسن. والثالث : لفي خسار ، قاله عكرمة. والرابع : لفي حبس ، فعّيل من السّجن ، قاله أبو عبيدة.

قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) هذا تعظيم لأمرها. وقال الزّجّاج : أي : ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.

قوله عزوجل : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : ذلك الكتاب الذي في سجّين كتاب مرقوم ، أي : مكتوب. قال ابن قتيبة : والرّقم : الكتاب. قال ابن ذؤيب (١) :

عرفت الدّيار كرقم الدّواة

يزبره الكاتب الحميري

وأنشده الزّجّاج : «يذبرها» بالذال المعجمة ، وكسر الباء. قال الأصمعيّ : يقال : زبر : كتب ، وذبر : قرأ. وروى أبو عمرو عن ثعلب ، عن ابن الأعرابي ، قال : الصواب : زبرت ـ بالزاي ـ كتبت. وذبرت ـ بالذال ـ أتقنت ما حفظت. قال : والبيت يزبرها ، بالزاي والضمّ. وقال ابن قتيبة : يروى «يزبرها» و«يذبرها» وهو مثله ، يقال : زبر الكتاب يزبره ، ويذبره. وذبره يذبره ، ويذبره. وقال قتادة : رقّم له بشرّ ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر. وقيل : المعنى : إنه مثبت لهم كالرّقم في الثوب ، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به.

قوله عزوجل : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا منتظم بقوله عزوجل (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) ، وما بينهما كلام معترض. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزوجل : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر «بل ران» بفتح الراء مدغمة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «بل ران» مدغمة بكسر الراء. وقرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللام «ران» بفتح الراء وقرأ حمزة والكسائيّ بإدغام اللام بكسر الراء ، قال اللغويون : أي : غلب على قلوبهم يقال : الخمر ترين على عقل السّكران. قال الزّجّاج : قرئت بإدغام اللام في الراء ، لقرب ما بين الحرفين ، وإظهار اللام جائز ، لأنه من كلمة ، والرأس من كلمة أخرى. ويقال : ران على قلبه الذّنب يرين رينا : إذا غشي على قلبه ، ويقال : غان يغين غينا ، والغين كالغيم الرقيق ، والرّين كالصدإ يغشى على القلب. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول : الغين يقال : بالراء ، وبالغين ، ففي القرآن (كَلَّا بَلْ رانَ).

(١٥١٩) وفي الحديث : «إنه ليغان على قلبي» وكذلك الرّاية تقال بالراء ، وبالغين ، والرّميصاء تكتب «بالغين» ، وبالراء ، لأنّ الرّمص يكتب بهما. قال المفسّرون : لمّا كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم. قال الحسن : هو الذّنب على الذّنب حتى يعمى القلب.

____________________________________

(١٥١٩) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٠٢ وأبو داود ١٥١٥ وأحمد ٤ / ٢٦٠ والنسائي في «اليوم والليلة» ٤٤٢ وابن حبان ٩٣١ من حديث الأغرّ المزني بزيادة «وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة». وانظر «تفسير القرطبي» ٥١٢.

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب خويلد بن خالد ، جاهلي إسلامي ، «ديوان الهذليين» ١ / ٦٤.


قوله عزوجل : (كَلَّا) أي : لا يصدّقون. ثم استأنف (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال ابن عباس : إنهم عن النّظر إلى ربّهم يومئذ لمحجوبون ، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته. وقال مالك بن أنس : لمّا حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشّافعيّ : لمّا حجب قوما بالسّخط دلّ على أنّ قوما يرونه بالرّضى (١). وقال الزّجّاج : وهذه الآية دليل على أنّ الله عزوجل يرى في القيامة. ولو لا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولا خسّت منزلة الكفّار بأنهم يحجبون عن ربّهم. ثم بعد حجبهم عن الله يدخلون النار ، فذلك قوله عزوجل : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).

قوله عزوجل : (ثُمَّ يُقالُ) أي : تقول خزنة النار : (هذَا) العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلَّا) أي : لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محمل (كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) فقال عزوجل : (لَفِي عِلِّيِّينَ) وفيها سبعة أقوال (٢) : أحدها : الجنة ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : أنه لوح من زبرجدة خضراء معلّق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنها السماء السابعة ، وفيها أرواح المؤمنين ، قاله كعب ، وهو مذهب مجاهد ، وابن زيد. والرابع : أنها قائمة العرش اليمنى ، وقال مقاتل : ساق العرش. والخامس : أنه سدرة المنتهى ، قاله الضّحّاك. والسادس : أنه في علو وصعود إلى الله عزوجل قاله الحسن. وقال الفرّاء : في ارتفاع بعد ارتفاع. والسابع : أنه أعلى الأمكنة ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) هذا تعظيم لشأنها.

قوله عزوجل : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها.

قوله عزوجل : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي : يحضر المقرّبون من الملائكة ذلك المكتوب ، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى علّيين. وما بعد هذا قد سبق بيانه (٣) إلى قوله عزوجل (يَنْظُرُونَ) ففيه قولان : أحدهما : إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.

والثاني : إلى أعدائهم حين يعذّبون.

قوله عزوجل : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) وقرأ أبو جعفر ، ويعقوب «تعرف» بضمّ التاء ، وفتح الراء «نضرة» بالرفع. قال الفرّاء : بريق النعيم ونداه. قال المفسّرون : إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم ، لما ترى من الحسن والنّور. وفي «الرّحيق» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه الخمر ، قاله الجمهور. ثم اختلفوا أيّ الخمر هي على أربعة أقوال : أحدها : أجود

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٧٤ : وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه‌الله في غاية الحسن ، وهو استدلال بمفهوم الآية ، كما دلّ عليه منطوق قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عزوجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة ، وفي روضات الجنان الفاخرة. اه.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٧٤ ـ ٥٧٥ : أي مصيرهم إلى عليين ، وهو بخلاف سجين ، والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو ، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ، ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) ثم قال مؤكدا لما كتب لهم (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) وهم الملائكة.

(٣) الانفطار : ١٣.


الخمر ، قاله الخليل بن أحمد. والثانية : الخالصة من الغشّ ، قاله الأخفش. والثالث : الخمر البيضاء ، قاله مقاتل. والرابع : الخمر العتيقة ، حكاه ابن قتيبة.

والقول الثاني : أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك ، قاله الحسن.

والثالث : أنه الشراب الذي لا غشّ فيه ، قاله ابن قتيبة ، والزّجّاج.

وفي قوله عزوجل : (مَخْتُومٍ) ثلاثة أقوال : أحدها : ممزوج ، قاله ابن مسعود. والثاني : مختوم على إنائه ، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد. والثالث : أنه ختام ، أي : عاقبة ريح ، وتلك العاقبة هي قوله عزوجل : (خِتامُهُ مِسْكٌ) ، أي عاقبته. هذا قول أبي عبيدة.

قوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة «ختامه» بكسر الخاء ، وبفتح التاء ، وبألف بعدهما ، مرفوعة الميم. وقرأ الكسائيّ «خاتمه» بخاء مفتوحة ، بعدها ألف ، وبعده تاء مفتوحة. وروى الشّيزري عنه «خاتمه» مثل ذلك ، إلّا أنه يكسر التاء. وقرأ أبيّ بن كعب ، وعروة ، وأبو العالية : «ختمه مسك» بفتح الخاء والتاء وبضمّ الميم من غير ألف. وللمفسّرين في قوله تعالى : (خِتامُهُ مِسْكٌ) أربعة أقوال : أحدها : خلطه مسك ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد. والثاني : أنّ ختمه الذي يختم به الإناء مسك ، قاله ابن عباس. والثالث : أنّ طعمه وريحه مسك ، قاله علقمة. والرابع : أنّ آخر طعمه مسك ، قاله سعيد بن جبير ، والفرّاء ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج في آخرين.

قوله عزوجل : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي : فليجدّوا في طلبه ، وليحرصوا عليه بطاعة الله. والتّنافس : كالتّشاحّ على الشيء ، والتّنازع فيه.

قوله عزوجل : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه اسم عين في الجنة ، قال ابن مسعود : وهي عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا ، وتمزج لأصحاب اليمين. والثاني : أنّ التّسنيم الماء ، قاله الضّحّاك. قال مقاتل : وإنما سمّي تسنيما ، لأنه يتسنّم عليه من جنّة عدن ، فينصبّ عليهم انصبابا ، فيشربون الخمر من ذلك الماء. قال ابن قتيبة : يقال : إنّ التّسنيم أرفع شراب في الجنة. ويقال : إنه يمتزج بماء ينزل من تسنيم ، أي : من علو. وأصل هذا من سنام البعير ، ومن تسنيم القبور. وهذا أعجب إليّ ، لقول المسيّب بن علس في وصف امرأة :

كأنّ بريقتها للمزاج

من ثلج تسنيم شيبت عقارا

أراد : كأنّ بريقتها عقارا شيبت للمزاج من ثلج تسنيم ، يريد : جبلا. قال الزّجّاج : المعنى : ومزاجه من تسنيم عينا تأتيهم من تسنيم ، أي : من علو يتسنّم عليهم من الغرف. ف «عينا» في هذا القول منصوبة ، كما قال عزوجل : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً) (١). ويجوز أن تكون «عينا» منصوبة بقوله : يسقون عينا ، أي : من عين. وقد بيّنّا معنى «يشرب بها» في «هل أتى» (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

__________________

(١) البلد : ١٤ ـ ١٥.

(٢) الدهر : ٦.


قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي : أشركوا (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مثل عمّار ، وبلال ، وخبّاب وغيرهم (يَضْحَكُونَ) على وجه الاستهزاء بهم (وَإِذا مَرُّوا) يعني : المؤمنين (بِهِمْ) أي : بالكفار (يَتَغامَزُونَ) أي : يشيرون بالجفن والحاجب استهزاء بهم (وَإِذَا انْقَلَبُوا) يعني : الكفّار (إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي : متعجّبين بما هم فيه يتفكّهون بذكرهم. وقرأ أبو جعفر ، وحفص عن عاصم ، وعبد الرّزاق عن ابن عامر «فكهين» بغير ألف. وقد شرحنا معنى القراءتين في «يس» (١) قوله : (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي : رأوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) يقول الله تعالى : (وَما أُرْسِلُوا) يعني الكفّار (عَلَيْهِمْ) أي : على المؤمنين (حافِظِينَ) يحفظون أعمالهم عليهم ، أي : لم يوكّلوا بحفظ أعمالهم (فَالْيَوْمَ) يعني : في الآخرة (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) إذا رأوهم يعذّبون في النّار. قال أبو صالح : يقال لأهل النّار وهم فيها : اخرجوا ، وتفتح لهم أبوابها ، فإذا أقبلوا يريدون الخروج ، غلّقت أبوابها دونهم. والمؤمنون (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إليهم فذلك قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إليهم عذاب عدوّهم. قال مقاتل : لكلّ رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذّبون ، فيحمدون الله على ما أكرمهم به ، فهم يكلّمون أهل النار ويكلّمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها ، فتسدّ حينئذ الكوى.

قوله تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وهارون عن أبي عمرو «هل ثوب» بإدغام اللام. أي : هل جوزوا وأثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الاستفهام بمعنى التقرير.

__________________

(١) يس : ٥٥.


سورة الانشقاق

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤))

قوله عزوجل : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١)) قال المفسّرون : انشقاقها من علامات الساعة. وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي : استمعت وأطاعت في الانشقاق ، من الإذن ، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه ، وأنشدوا :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (١)

(وَحُقَّتْ) أي : حقّ لها أن تطيع ربّها الذي خلقها (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) قال ابن عباس : تمدّ مدّ الأديم ، ويزاد في سعتها. وقال مقاتل : لا يبقى جبل ولا بناء إلّا دخل فيها.

قوله عزوجل : (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الموتى والكنوز (وَتَخَلَّتْ) أي : خلت من ذلك ، فلم يبق في باطنها شيء. واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال : أحدها : أنه متروك ، لأنّ المعنى معروف قد تردّد في القرآن. والثاني : أنه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) ، كقول القائل : إذا كان كذا وكذا فيا أيّها الناس ترون ما عملتم ، فيجعل : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) هو الجواب ، وتضمر فيه الفاء ، فكأنّ المعنى : ترى الثواب والعقاب إذا السماء انشقّت ، ذكر القولين الفرّاء. والثالث : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقّت» قاله المبرّد. والرابع : أنّ الجواب مدلول عليه بقوله عزوجل : «فملاقيه». فالمعنى : إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) فيه قولان : أحدهما : إنك عامل لربّك عملا ، قاله ابن

__________________

(١) البيت لقعنب بن ضمرة بن أم صاحب ، كما في «الاقتضاب» ٢٩٢ و«اللسان» ـ أذن ـ.


عباس. والثاني : ساع إلى ربّك سعيا ، قاله مقاتل. قال الزّجّاج : و«الكدح» في اللغة : السّعي ، والدّأب في العمل باب الدنيا والآخرة. قال تميم بن مقبل :

وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وفي قوله عزوجل : (إِلى رَبِّكَ) قولان : أحدهما : عامل لربّك. وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني : إلى لقاء ربّك ، قاله ابن قتيبة.

وفي قوله عزوجل : (فَمُلاقِيهِ) قولان : أحدهما : فملاق عملك. والثاني : فملاق ربّك ، ذكرهما الزّجّاج.

قوله عزوجل : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) وهو أن تعرض عليه سيّئاته ، ثم يغفرها الله له.

(١٥٢٠) وفي «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من نوقش الحساب هلك ، فقلت : يا رسول الله ، فإنّ الله يقول : «فسوف يحاسب حسابا يسيرا»؟! قال : ذلك العرض».

قوله عزوجل : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) يعني : في الجنّة من الحور العين والآدميّات (مَسْرُوراً) بما أوتي من الكرامة (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) قال المفسّرون : تغلّ يده اليمنى إلى عنقه ، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) قال الزّجّاج : يقول : يا ويلاه ، يا ثبوراه ، وهذا يقوله كلّ من وقع في هلكة.

قوله عزوجل : (وَيَصْلى سَعِيراً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائيّ «ويصلّى» بضمّ الياء ، وتشديد اللام. وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «ويصلى» بفتح الياء خفيفة ، إلّا أنّ حمزة والكسائيّ يميلانها. وقد شرحناه في سورة النّساء (١). قوله عزوجل : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) يعني في الدنيا (مَسْرُوراً) باتّباع هواه ، وركوب شهواته (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي : لن يرجع إلى الآخرة ، ولن يبعث وهذه صفة الكافر. قال اللغويون : الحور في اللغة : الرجوع ، وأنشدوا للبيد :

وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

____________________________________

(١٥٢٠) صحيح. أخرجه البخاري ١٠٣ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢١٤ عن سعيد بن أبي مريم به. عن عائشة. وأخرجه البخاري ٤٩٣٩ ومسلم ٢٨٧٦ ح ٧٩ والترمذي ٣٣٣٧ وأحمد ٦ / ٤٧ والطبري ٣٦٧٣٦ وابن حبان ٧٣٦٩ والقضاعي ٣٣٨ من طرق عن أيوب عن ابن أبي مليكة. وأخرجه البخاري ٤٩٣٩ و ٦٥٣٦ والترمذي ٢٤٢٦ و ٣٣٣٧ والطبري ٣٦٧٣٩ و ٣٦٧٤٠ من طرق عن ابن أبي مليكة به.

__________________

(١) النساء : ١١.


قوله عزوجل : (بَلى) قال الفرّاء : المعنى : بلى ليحورون ، ثم استأنف ، فقال عزوجل : (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) قال المفسّرون : بصيرا به على سائر أحواله.

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ) قد سبق بيانه.

وأمّا «الشّفق» فقال ابن قتيبة : هما شفقان : الأحمر ، والأبيض ، فالأحمر : من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب ، ويبقى الشّفق الأبيض إلى نصف الليل. وللمفسّرين في المراد «بالشّفق» هاهنا ستة أقوال : أحدها : أنه الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس.

(١٥٢١) وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الشّفق : الحمرة» ، وهذا قول عمر ، وابنه ، وابن مسعود ، وعبادة ، وأبي قتادة ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأنس ، وابن المسيّب ، وابن جبير ، وطاوس ، ومكحول ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، والشّافعي ، وأبي عبيد ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. قال الفرّاء : سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ كأنه الشّفق ، وكان أحمر.

والثاني : أنه النهار. والثالث : الشمس ، روي القولان عن مجاهد. والرابع : أنه ما بقي من النهار ، قاله عكرمة. والخامس : السّواد الذي يكون بعد ذهاب البياض ، قاله أبو جعفر بن محمّد بن عليّ. والسادس : أنه البياض ، قاله عمر بن عبد العزيز.

قوله عزوجل : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي : وما جمع وضمّ. وأنشدوا :

إنّ لنا قلائصا حقائقا

مستوسقات لو يجدن سائقا (١)

قال أبو عبيدة : (وَما وَسَقَ) ما علا فلم يمنع منه شيء ، فإذا جلّل الليل الجبال ، والأشجار ، والبحار ، والأرض ، فاجتمعت له ، فقد وسقها. وقال بعضهم : معنى : «ما وسق» : ما جمع مما كان منتشرا بالنهار في تصرّفه إلى مأواه.

قوله عزوجل : (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) قال الفرّاء : اتّساقه : واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، إلى ستّ عشرة.

قوله عزوجل : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قرأ ابن كثير ، وحمزة والكسائيّ «لتركبن» بفتح التاء والباء جميعا ، وفي معناه قولان : أحدهما : أنه خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم في معناه قولان : أحدهما : لتركبنّ سماء بعد سماء ، قاله ابن مسعود ، والشّعبي ، ومجاهد. والثاني : لتركبنّ حالا بعد حال ، قاله ابن عباس ، وقال : هو نبيّكم.

والقول الثاني : أنّ الإشارة إلى السماء. والمعنى : أنها تتغير ضروبا من التّغيير ، فتارة كالمهل ، وتارة كالدّهان ، روي عن ابن مسعود أيضا.

____________________________________

(١٥٢١) الصحيح موقوف. أخرجه الدارقطني ١ / ٢٦٩ من حديث ابن عمر ، وفي إسناده عتيق بن يعقوب ، وهو لم يسمع من مالك. وورد من وجه آخر موقوفا ، أخرجه الدار قطني ١ / ٢٦٩ ، وهو الراجح ، وكذا روي عن جماعة من الصحابة موقوفا ، وهو أصح ، والله أعلم.

__________________

(١) الرجز في «ملحق ديوان العجاج» ٨٤ ، وهو في «مجاز القرآن» ٢ / ٢٩١ و«اللسان» وسق.


قرأ عاصم ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «لتركبنّ» بفتح التاء وضمّ الباء ، وهو خطاب لسائر الناس ومعناه : لتركبنّ حالا بعد حال. وقرأ ابن مسعود ، وأبو الجوزاء ، وأبو الأشهب «ليركبنّ» بالياء ، ونصب اللام. وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو عمران ، وابن يعمر «ليركبنّ» بالياء ، ورفع الباء. و«عن» بمعنى «بعد». وهذا قول عامّة المفسّرين واللغويين ، وأنشدوا للأقرع بن حابس :

إنّي امرؤ قد حلبت الدّهر أشطره

وساقني طبق منه إلى طبق

ثم في معنى الكلام خمسة أقوال (١) : أحدها : أنه الشدائد ، والأهوال ، ثم الموت ، ثم البعث ، ثم العرض ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الرّخاء بعد الشدّة ، والشدّة بعد الرّخاء ، والغنى بعد الفقر ، والفقر بعد الغنى ، والصحة بعد السّقم ، والسّقم بعد الصحة ، قاله الحسن. والثالث : أنه كون الإنسان رضيعا ثم فطيما ثم غلاما ثم شابا ثم شيخا ، قاله عكرمة. والرابع : أنه تغيّر حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا ، فيرتفع من كان وضيعا ، ويتّضع من كان مرتفعا ، وهذا مذهب سعيد بن جبير. والخامس : أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأوّلين ، قاله أبو عبيدة. وكان بعض الحكماء يقول : من كان اليوم على حالة ، وغدا على حالة أخرى ، فليعلم أنّ تدبيره إلى سواه.

قوله عزوجل : (فَما لَهُمْ) يعني : كفّار مكّة (لا يُؤْمِنُونَ) بمحمّد والقرآن ، وهو استفهام إنكار (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) فيه قولان : أحدهما : لا يصلّون ، قاله عطاء ، وابن السّائب. والثاني : لا يخضعون له ، ويستكينون ، قاله ابن جرير ، واختاره القاضي أبو يعلى. قال : وقد احتجّ بها قوم على وجوب سجود التلاوة ، وليس فيها دلالة على ذلك ، وإنما المعنى : لا يخشعون ، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن ، والسّجود يختصّ بمواضع منه.

قوله عزوجل : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) بالقرآن ، والبعث ، والجزاء (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب. قال ابن قتيبة : «يوعون» : يجمعون في قلوبهم. وقال الزّجّاج : يقال : أوعيت المتاع في الوعاء ، ووعيت العلم.

قوله عزوجل : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : أخبرهم بذلك. وقال الزّجّاج : اجعل للكفّار بدل البشارة للمؤمنين بالجنّة والرّحمة ، العذاب الأليم. و«الممنون» عند أهل اللغة : المقطوع.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٥١٦ : والصواب من التأويل قول من قال : لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال ، وأمرا بعد أمر من الشدائد ، والمراد بذلك ـ وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجها ـ جميع الناس ، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا.


سورة البروج

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) قد ذكرنا البروج في الحجر (١) (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) هو يوم القيامة بإجماعهم وفي قوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) فيه أربعة وعشرون قولا (٢) :

(١٥٢٢) أحدها : أنّ الشّاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، رواه أبو هريرة عن

____________________________________

(١٥٢٢) ضعيف ، والراجع وقفه ، أخرجه الحاكم ٢ / ٥١٩ والبيهقي ٣ / ١٧٠ من حديث أبي هريرة ، وإسناده ضعيف ، لضعف علي بن زيد ، وخالفه يونس فرواه موقوفا ، وصحح الحاكم الموقوف ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا.

والموقوف أخرجه الطبري ٣٦٨٣٨ ، بإسناد على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة. وورد عند الطبري ٣٦٨٥٠ من طريق ابن حرملة عن سعيد أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن سيد الأيام الجمعة ، وهو الشاهد ، والمشهود : يوم عرفة» وهذا مرسل ، وهو معلول ، فقد كرره الطبري ٣٦٨٥٣ عن سعيد قوله. وأخرجه الطبري ٣٦٨٥٢ من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الشاهد ...» فذكره. وفي إسناده محمد بن إسماعيل ، وهو واه. وورد موقوفا منجما بألفاظ

__________________

(١) الحجر : ١٦.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٨٢ : قال البغوي : الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة اه. وتوقف ابن جرير ولم يرجّح.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبه قال عليّ ، وابن عباس في رواية ، وابن زيد. فعلى هذا سمّي يوم الجمعة شاهدا ، لأنه يشهد على كلّ عامل بما يعمل فيه ، وسمّي يوم عرفة مشهودا ، لأنّ الناس يشهدون فيه موسم الحجّ ، وتشهده الملائكة. والثاني : أنّ الشّاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم النّحر ، قاله ابن عمر. والثالث : أنّ الشّاهد : الله عزوجل ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه الوالبيّ عن ابن عباس. والرابع : أنّ الشّاهد : يوم عرفة ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والخامس : أنّ الشّاهد : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس ، وبه قال الحسن بن عليّ. والسادس : أنّ الشاهد : يوم القيامة ، والمشهود : الناس ، قاله جابر بن عبد الله. والسابع : أنّ الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم القيامة ، قاله الحسن. والثامن : أنّ الشاهد : يوم التروية ، والمشهود : يوم عرفة ، قاله سعيد بن المسيّب. والتاسع : أنّ الشاهد : هو الله ، والمشهود : بنو آدم ، قاله سعيد بن جبير. والعاشر : أنّ الشاهد : محمّد ، والمشهود : يوم عرفة ، قاله الضّحّاك. والحادي عشر : أنّ الشاهد آدم ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني عشر : أنّ الشاهد : ابن آدم ، والمشهود : يوم القيامة ، رواه ليث عن مجاهد ، وبه قال عكرمة. والثالث عشر : أنّ الشاهد : آدم ، وذريّته ، والمشهود يوم القيامة ، قاله عطاء بن يسار. والرابع عشر : أنّ الشاهد : الإنسان ، والمشهود : الله عزوجل ، قاله محمّد بن كعب. والخامس عشر : أنّ الشاهد : يوم النّحر ، والمشهود : يوم عرفة ، قاله إبراهيم. والسادس عشر : أنّ الشاهد : عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، والمشهود : أمّته ، قاله أبو مالك. ودليله قوله عزوجل : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١). والسابع عشر : أنّ الشاهد : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشهود : أمّته ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، وبيانه : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢). والثامن عشر : أنّ الشاهد : هذه الأمّة ، والمشهود : سائر الناس ، قاله الحسين بن الفضل ، ودليله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٣). والتاسع عشر : أنّ الشاهد : الحفظة ، والمشهود : بنو آدم ، قاله محمّد بن عليّ التّرمذيّ ، وحكي عن عكرمة نحوه. والعشرون : أنّ الشاهد : الحقّ ، والمشهود : الكون ، قاله الجنيد. والحادي والعشرون : أنّ الشاهد ، الحجر الأسود ، والمشهود : الحجّاج. والثاني والعشرون : أنّ الشاهد : الأنبياء والمشهود : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيانه : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية (٤). والثالث والعشرون : أنّ الشاهد :

____________________________________

مختلفة عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وهذا الاختلاف يدل على الاضطراب الخلاصة : الحديث ضعيف بهذا اللفظ. وقد ورد من حديث أبي هريرة مرفوعا وعجزه ؛ وما طلعت الشمس ولا غربت في يوم أفضل منه ، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ، لا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه» ، وعجزه هذا محفوظ.

أخرجه الترمذي ٣٣٣٩ والبغوي في «شرح السنة» بإثر ١٠٤٢ عن عبد بن حميد عن روح بن عبادة وعبيد الله بن موسى به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٥٨ من طريق يحيى بن نصر والطبري ٣٦٨٥١ من طريق مهران كلاهما عن موسى بن عبيدة به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة ، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٦٨٣.

__________________

(١) المائدة : ١١٧.

(٢) النساء : ٤١.

(٣) البقرة : ١٤٣.

(٤) آل عمران : ٨١.


الله عزوجل ، والملائكة ، وأولو العلم ، والمشهود : لا إله إلّا الله ، وبيانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (١) ، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثّعلبيّ. والرابع والعشرون : أنّ الشاهد : الأنبياء والمشهود : الأمم ، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله.

وفي جواب القسم أقوال : أحدها : أنه قوله عزوجل : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) قاله قتادة ، والزّجّاج.

والثاني : أنه قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) ، كما أنّ القسم في قوله عزوجل : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ... (قَدْ أَفْلَحَ) ، حكاه الفرّاء. والثالث : أنه متروك ، وهذا اختيار ابن جرير.

قوله عزوجل : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي : لعنوا. والأخدود : شقّ يشقّ في الأرض ، والجمع : أخاديد. وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار ، وألقوا فيها من لم يكفر.

واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال (٢) :

(١٥٢٣) أحدها : أنه ملك كان له ساحر فبعث إليه غلاما يعلّمه السّحر ، فكان الغلام يمرّ على راهب ، فأعجبه أمره ، فتبعه ، فعلم به الملك ، فأمره أن يرجع عن دينه ، فقال : لا أفعل ، فاجتهد الملك في إهلاكه ، فلم يقدر ، فقال الغلام : لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. اجمع الناس في صعيد واحد ، واصلبني على جذع ، وارمني بسهم من كنانتي ، وقل : بسم الله ربّ الغلام ، ففعل ، فمات الغلام ، فقال الناس : آمنّا بربّ الغلام ، فخدّ الأخاديد ، وأضرم فيها النار ، وقال : فمن لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها ، ففعلوا ، وهذا مختصر الحديث ، وفيه طول ، وقد ذكرته في «المغني» و«الحدائق» بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٥٢٤) والثاني : أنّ ملكا من الملوك سكر ، فوقع على أخته ، فلمّا أفاق قال لها : ويحك : كيف المخرج؟ فقالت له : اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أنّ الله عزوجل قد أحلّ نكاح الأخوات ، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسوه ، خطبتهم فحرّمته. ففعل ذلك ، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه ، فبسط فيهم السّوط ، ثم

____________________________________

(١٥٢٣) صحيح. أخرجه مسلم ٣٠٠٥ وابن حبان ٨٧٣ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٤٥٩ ـ ٤٦٠ من طريق هدبة بن خالد به. من حديث صهيب. وأخرجه الطبري ٣٦٨٧٤ من طريق حرمي بن عمارة ثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه الترمذي ٣٣٤٠ وعبد الرزاق ٩٧٥١ والطبراني ٧٣١٩ من طريق معمر عن ثابت به. وأخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٦٦١ وأحمد ٦ / ١٧ و ١٨ والطبراني ٧٣٢٠ من طرق عن حماد بن سلمة به.

(١٥٢٤) موقوف. أخرجه الطبري ٣٦٨٦٨ عن علي موقوفا ، وإسناده ضعيف ، فيه إرسال بين ابن أبزى وبين علي.

__________________

(١) آل عمران : ١٨.

(٢) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٩ / ٢٥٦ : قال علماؤنا : أعلم الله عزوجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية ، ما كان يلقاه من وحّد قبلهم من الشدائد ، يؤنّسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام ، والمشقات التي كانوا عليها ليتأسوا بمثل هذا الغلام ، في صبره وتصلبه في الحقّ وتمسكه به ، وبذله نفسه في حقّ إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره ، قال ابن العربي : وهذا منسوخ عندنا. قلت : ليس بمنسوخ عندنا ، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى ، قال تعالى مخبرا عن لقمان : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] اه.

قلت : ذكر المصنف أقوالا عن الصحابة والتابعين والمفسرين ، والحجة في المرفوع الآتي.


جرّد السيف ، فأبوا ، فخدّ لهم أخدودا ، وأوقد فيه النار ، وقذف من أبى قبول ذلك ، قاله عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه.

(١٥٢٥) والثالث : أنهم أناس اقتتل مؤمنوهم وكافروهم ، فظهر المؤمنون ، ثم تعاهدوا أن لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدر الكفار ، فأخذوهم ، فقال لهم رجل من المؤمنين : أوقدوا نارا ، واعرضوا عليها ، فمن تابعكم على دينكم ، فذاك الذي تحبّون ، ومن لم يتابعكم أقحم النار فاسترحتم منه. ففعلوا ، فجعل المسلمون يقتحمونها ، ذكره قتادة.

(١٥٢٦) والرابع : أنّ قوما من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة ، فأرسل إليهم جبّار من عبدة الأوثان ، فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا ، فخدّ لهم أخدودا ، وألقاهم فيه ، قاله الرّبيع بن أنس.

(١٥٢٧) والخامس : أنّ جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعد ما رفع عيسى ، فخدّ لهم خدّا ، وأوقد فيه النار ، فأحرقهم كلّهم ، فأنزل الله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وهم : يوسف بن ذي نواس وأصحابه ، قاله مقاتل.

والسادس : أنهم قوم كانوا يعبدون صنما ، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم ، فعلموا بهم ، فخدّوا لهم أخدودا ، وقذفوهم فيه ، حكاه الزّجّاج.

واختلفوا في الذين أحرقوا على خمسة أقوال : أحدها : أنهم كانوا من الحبشة ، قاله عليّ عليه‌السلام. والثاني : من بني إسرائيل ، قاله ابن عباس. والثالث : من أهل اليمن ، قاله الحسن. قال الضّحّاك : كانوا من نصارى اليمن ، وذلك قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة. والرابع : من أهل نجران ، قاله مجاهد. والخامس : من النّبط ، قاله عكرمة.

وفي عددهم ثلاثة أقوال : أحدها : اثنا عشر ألفا ، قاله وهب. والثاني : سبعون ألفا ، قاله ابن السّائب. والثالث : ثمانون رجلا ، وتسع نسوة ، قاله مقاتل.

قوله عزوجل : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) هذا بدل من «الأخدود» كأنه قال : قتل أصحاب النار ، و«الوقود» مفسّر في البقرة (١) وقرأ أبو رزين العقيليّ ، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ ، والحسن ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن يعمر وابن أبي عبلة «الوقود» بضمّ الواو (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي : عند النار. وكان الملك وأصحابه جلوسا على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر ، فمن أبى ألقوه (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي : حضور ، فأخبر الله عزوجل في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التّحريق بالنار ، ولم يرجعوا عن دينهم.

قوله عزوجل : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) وقرأ ابن أبي عبلة «نقموا» بكسر القاف. قال الزّجّاج : أي : ما

____________________________________

(١٥٢٥) أخرجه الطبري ٣٦٨٦٩ عن قتادة قال حدثنا أن عليا رضي الله عنه كان يقول : «هم أناس بمزارع اليمن ، اقتتل مؤمنوها وكفارها ...» فذكره. وهذا ضعيف ، قتادة عن علي منقطع.

(١٥٢٦) مرسل. أخرجه الطبري ٣٦٨٧٥ عن الربيع بن أنس به.

(١٥٢٧) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متهم ، والصحيح في ذلك حديث صهيب ، وتقدم برقم ١٥٢٣.

__________________

(١) البقرة : ٢٤.


أنكروا عليهم إيمانهم. وقد شرحنا معنى «نقموا» في المائدة (١) وبراءة (٢) وشرحنا معنى (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) في البقرة (٣).

قوله عزوجل : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : لم يخف عليه ما صنعوا ، فهو شهيد عليهم بما فعلوا.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : أحرقوهم ، وعذّبوهم. كقوله عزوجل : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (٤) (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) من شركهم وفعلهم ذلك (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) بما أحرقوا المؤمنين ، وكلا العذابين في جهنّم عند الأكثرين وقد ذهب الرّبيع بن أنس في جماعة إلى أنّ النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم ، فذلك عذاب الحريق في الدنيا. قال الرّبيع : وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسّهم النار. وحكى الفرّاء أنّ المؤمنين نجوا من النار ، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة.

قوله عزوجل : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) لأنهم فازوا بالجنّة. وقال بعض المفسّرين : فازوا من عذاب الكفّار ، وعذاب الآخرة.

قوله عزوجل : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) قال ابن عباس : إنّ أخذه بالعذاب إذا أخذ الظّلمة والجبابرة لشديد.

قوله عزوجل : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) فيه قولان : أحدهما : يبدئ الخلق ويعيدهم ، قاله الجمهور. والثاني : يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وقد شرحنا في هود (٥) معنى «الودود» و«المجيد».

قوله عزوجل : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وقد قرأ حمزة ، والكسائيّ ، والمفضّل عن عاصم «المجيد» بالخفض ، وقرأ غيرهم بالرفع ، فمن رفع «المجيد» جعله من صفات الله عزوجل ، ومن كسر جعله من صفة العرش.

قوله عزوجل : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ) أي : قد أتاك حديث (الْجُنُودِ) وهم الذين تجنّدوا على أولياء الله. ثم بيّن من هم ، فقال عزوجل : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي مكّة (فِي تَكْذِيبٍ) لك وللقرآن ، أي : لم يعتبروا بمن كان قبلهم (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي : كريم ، لأنه كلام الله ، وليس كما يقولون : شعر ، وكهانة ، وسحر. وقرأ أبو العالية ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وابن السّميفع «بل قرآن مجيد» بغير تنوين وبخفض «مجيد» (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) وهو اللّوح المحفوظ ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب ، فهو محفوظ عند الله ؛ محروس به من الشياطين ، ومن الزيادة فيه والنّقصان منه. وقرأ نافع «محفوظ» رفعا على نعت القرآن فالمعنى : إنه محفوظ من التّحريف والتّبديل.

__________________

(١) المائدة : ٥٩.

(٢) التوبة : ٧٤.

(٣) البقرة : ١٢٩ و ٢٦٧.

(٤) الذاريات : ١٣.

(٥) هود : ٩٠.


سورة الطّارق

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

قوله عزوجل : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) قال ابن قتيبة : الطّارق : النجم ، سمّي بذلك ، لأنه يطرق ، أي : يطلع ليلا ، وكلّ من أتاك ليلا ، فقد طرقك ، ومنه قول هند ابنة عتبة :

نحن بنات طارق

نمشي على النّمارق

تريد : إنّ أبانا نجم في شرفه وعلوّه.

قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) قال المفسّرون : وذلك أنّ هذا الاسم يقع على كلّ ما طرق ليلا ، فلم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدري ما المراد به حتى تبيّنه بقوله عزّ من قائل : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) يعني : المضيء ، كما بيّنا في الصّافّات (١) وفي المراد بهذا النّجم ثلاثة أقوال : أحدها : أنه زحل ، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : هو زحل ، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء ، هبط ، فكان معها ، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد. والثاني : أنه الثّريّا ، قاله ابن زيد. والثالث : أنه اسم جنس ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ.

قوله عزوجل : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو المتوكّل «إنّ» بالتشديد «كلّ» بالنّصب (لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم وحمزة ، وأبو حاتم عن يعقوب «لمّا» بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف. قال الزّجّاج : هذه الآية جواب القسم ، ومن خفّف فالمعنى : لعليها حافظ و«ما» ومن شدّد ، فالمعنى : إلّا ، قال : فاستعملت «لما» في موضع «إلا» في موضعين : أحدهما : هذا. والآخر : في باب القسم. تقول : سألتك لما فعلت ، بمعنى : إلّا فعلت. قال المفسّرون : المعنى : ما

__________________

(١) الصافات : ١٠.


من نفس إلّا عليها حافظ. وفيه قولان : أحدهما : أنهم الحفظة من الملائكة ، قاله ابن عباس. قال قتادة : يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شرّ. والثاني : حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلّمه إلى المقادير ، قاله الفرّاء. ثم نبّه على البعث ب قوله عزوجل : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) أي : من أيّ شيء خلقه ربّه؟ والمعنى : فلينظر نظر التفكر والاستدلال ليعرف أنّ الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته.

قوله جلّ جلاله : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) قال الفرّاء : معناه : مدفوق ، كقول العرب. سرّ كاتم ، وهمّ ناصب ، وليل نائم ، وعيشة راضية. وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا. قال الزّجّاج : ومذهب سيبويه وأصحابه أنّ معناه النّسب إلى الاندفاق ، والمعنى : من ماء ذي اندفاق.

قوله عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) وقرأ ابن مسعود ، وابن سيرين ، وابن السّميفع ، وابن أبي عبلة «الصّلب» بضمّ الصاد ، واللام جميعا. يعني : يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. قال الفرّاء : يريد يخرج من الصّلب والتّرائب. يقال : يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير. بمعنى : يخرج منهما. وفي «التّرائب» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه موضع القلادة ، قاله ابن عباس. قال الزّجّاج : قال أهل اللغة أجمعون : التّرائب : موضع القلادة من الصّدر ، وأنشدوا لامرئ القيس :

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسّجنجل

قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي : السّجنجل : المرآة بالرّوميّة. وقيل : هي سبيكة الفضّة ، وقيل : السّجنجل : الزّعفران ، وقيل : ماء الذّهب. ويروى البيت : «بالسّجنجل». والثاني : أنّ التّرائب : اليدان والرّجلان والعينان ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والثالث : أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر ، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر ، حكاه الزّجّاج.

قوله عزوجل : (إِنَّهُ) الهاء كناية عن الله عزوجل (عَلى رَجْعِهِ) الرّجع : ردّ الشيء إلى أول حاله.

وفي هذه الهاء قولان : أحدهما : أنها تعود على الإنسان. ثم في المعنى قولان : أحدهما : أنه على إعادة الإنسان حيّا بعد موته قادر ، قاله الحسن ، وقتادة. قال الزّجّاج : ويدل على هذا القول قوله عزوجل : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ). والثاني : أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصّبا ، ومن الصّبا إلى النّطفة قادر ، قاله الضّحّاك. والقول الثاني : أنها تعود على الماء. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : ردّ الماء في الإحليل ، قاله مجاهد. والثاني : على ردّه في الصّلب ، قاله عكرمة ، والضّحّاك. والثالث : على حبس الماء فلا يخرج ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) تختبر السّرائر التي بين العبد وبين ربّه حتى يظهر خيرها من شرّها ، ومؤدّيها من مضيّعها ، فإنّ الإنسان مستور في الدنيا ، لا يدرى أصلّي ، أم لا؟ أتوضّأ ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كلّ سرّ ، فكان زينا في الوجه ، أو شينا. وقال ابن قتيبة : تختبر سرائر القلوب. قوله عزوجل : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) أي : فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله (وَلا ناصِرٍ) ينصره.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))


قوله عزوجل : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي : ذات المطر ، وسمّي المطر رجعا لأنه يجيء ويرجع ويتكرّر (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أي : ذات الشّقّ. وقيل لها هذا ، لأنها تتصدّع وتتشقّق بالنبات ، هذا قول المفسّرين وأهل اللغة في الحرفين.

قوله عزوجل : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) يعني به القرآن ، وهذا جواب القسم. والفصل : الذي يفصل بين الحقّ والباطل بالبيان عن كلّ واحد منهما (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي : باللّعب. والمعنى : إنه جدّ ، ولم ينزل باللّعب. وبعضهم يقول : الهاء في «إنه» كناية عن الوعيد المتقدّم ذكره.

قوله عزوجل : (إِنَّهُمْ) يعني مشركي مكّة (يَكِيدُونَ كَيْداً) أي : يحتالون وهذا الاحتيال في المكر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اجتمعوا في دار النّدوة. (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي : أجازيهم على كيدهم بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون ، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف ، وفي الآخرة بالنّار. (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) هذا وعيد من الله عزوجل لهم. ومهّل وأمهل لغتان جمعتا هاهنا. ومعنى الآية : مهّلهم قليلا حتى أهلكهم ، ففعل الله ذلك ببدر ، ونسخ الإمهال بآية السيف. قال ابن قتيبة : ومعنى «رويدا» مهلا ، ورويدك. بمعنى أمهل. قال الله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي : قليلا ، فإذا لم يتقدّمها «أمهلهم» كانت بمعنى «مهلا». ولا يتكلّم بها إلّا مصغّرة ومأمورا بها ، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر.

قال الشاعر :

كأنّها مثل من يمشي على رود

أي : على مهل.


سورة الأعلى

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

وفي معنى (سَبِّحِ) خمسة أقوال (١) : أحدها : قل : سبحان ربّي الأعلى ، قاله الجمهور. والثاني : عظّم. والثالث : صلّ بأمر ربّك ، روي القولان عن ابن عباس. والرابع : نزّه ربّك عن السّوء ، قاله الزّجّاج. والخامس : نزّه اسم ربّك وذكرك إيّاه أن تذكره وأنت معظّم له ، خاشع له ، ذكره الثّعلبي.

وفي قوله عزوجل : (اسْمَ رَبِّكَ) قولان : أحدهما : أنّ ذكر الاسم صلة ، كقول لبيد بن ربيعة :

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والثاني : أنه أصلي ، وقال الفرّاء : قوله : سبّح اسم ربّك وسبّح باسم ربّك ، سواء في كلام العرب.

قوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي : فعدّل الخلق. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في «الانفطار» (٢) : (وَالَّذِي قَدَّرَ) وقرأ الكسائيّ وحده «قدر» بالتخفيف (فَهَدى) فيه سبعة أقوال (٣) : أحدها :

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٥٤٣ : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : معناه : نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان فكانوا إذا قرءوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى ، فبين بذلك أن معناه عندهم كان معلوما : عظم اسم ربك ، ونزهه.

(٢) الانفطار : ٧.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٥٩٢ : وقوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها ، وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) أي : قدّر قدرا ، وهدى الخلائق إليه. اه.

وتوقف الطبري فلم يرجح ، وقال : الخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به حجة.


قدّر الشّقاوة والسعادة ، وهدى للرّشد والضّلالة ، قاله مجاهد. والثاني : جعل لكلّ دابّة ما يصلحها وهداها إليه ، قاله عطاء. والثالث : قدّر مدّة الجنين في الرّحم ثم هداه للخروج ، قاله السّدّيّ. والرابع : قدّرهم ذكورا وإناثا ، وهدى الذكر لإتيان الأنثى ، قاله مقاتل. والخامس : أنّ المعنى : قدّر فهدى وأضلّ ، فحذف «وأضلّ» ، لأنّ في الكلام دليلا عليه ، حكاه الزّجّاج. والسادس : قدّر الأرزاق ، وهدى إلى طلبها. والسابع : قدّر الذّنوب ، وهدى إلى التوبة ، حكاهما الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي : أنبت العشب ، وما ترعاه البهائم فجعله : بعد الخضرة (غُثاءً) قال الزّجّاج ، أي : جفّفه حتى جعله هشيما جافّا كالغثاء الذي تراه فوق ماء السّيل. وقد بيّنّا هذا في سورة المؤمنون (١). فأمّا قوله عزوجل : (أَحْوى) فقال الفرّاء : الأحوى : الذي قد اسودّ من القدم ، والعتق ، ويكون أيضا : أخرج المرعى أحوى : أسود من الخضرة ، فجعله غثاء كما قال عزوجل : (مُدْهامَّتانِ) (٢).

قوله عزوجل : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) قال مقاتل : سنعلّمك القرآن ، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبدا.

قوله عزوجل : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : إلّا ما شاء الله أن تنساه ثم تذكره بعد. حكاه الزّجّاج. والثالث : أنه استثناء ألّا يقع ، قال الفرّاء : لم يشأ أن ينسى شيئا ، فإنما هو كقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (٣) ، ولا يشاء.

قوله عزوجل : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) من القول والفعل (وَما يَخْفى) منهما (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي : نسهّل عليك عمل الخير (فَذَكِّرْ) أي : عظ أهل مكّة (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) وفي «إن» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الشّرطية ، ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : إن قبلت الذّكرى ، قاله يحيى بن سلام. والثاني : إن نفعت وإن لم تنفع ، قاله عليّ بن أحمد النّيسابوريّ. والثاني : أنها بمعنى «قد» ، فتقديره : قد نفعت الذّكرى ، قاله مقاتل. والثالث : أنها بمعنى «ما» فتقديره : فذكّر ما نفعت الذّكرى ، حكاه الماورديّ.

قوله عزوجل : (سَيَذَّكَّرُ) أي سيتّعظ بالقرآن (مَنْ يَخْشى) الله (وَيَتَجَنَّبُهَا) ويتجنّب الذّكرى (الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي : العظيمة الفظيعة لأنها أشدّ من نار الدنيا (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) حياة تنفعه. وقال ابن جرير : تصير نفس أحدهم في حلقه ، فلا تخرج فتفارقه فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

قوله عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ) قال الزّجّاج : أي : صادف البقاء الدائم ، والفوز (مَنْ تَزَكَّى) فيه خمسة أقوال : أحدها : من تطهّر من الشرك بالإيمان ، قاله ابن عباس. والثاني : من أعطى صدقة الفطر ، قاله أبو سعيد الخدري ، وعطاء ، وقتادة. والثالث : من كان عمله زاكيا ، قاله الحسن ، والرّبيع. والرابع : أنها

__________________

(١) المؤمنون : ٤١.

(٢) الرحمن : ٦٤.

(٣) هود : ١٠٧.


زكوات الأموال كلّها ، قاله أبو الأحوص. والخامس : تكثر بتقوى الله. ومعنى الزّاكي : النّامي الكثير ، قاله الزّجّاج.

قوله عزوجل : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) قد سبق بيانه (١). وفي قوله عزوجل : (فَصَلَّى) ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الصّلوات الخمس ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : صلاة العيدين ، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث : صلاة التطوع ، قاله أبو الأحوص. والقول قول ابن عباس في الآيتين ، فإنّ هذه السّورة مكّيّة بلا خلاف ، ولم يكن بمكّة زكاة ، ولا عيد.

قوله عزوجل : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) قرأ أبو عمرو ، وابن قتيبة ، وزيد عن يعقوب «بل يؤثرون» بالياء ، والباقون بالتاء ، واختار الفرّاء والزّجّاج التاء ، لأنها رويت عن أبيّ بن كعب : «بل أنتم تؤثرون». فإن أريد بذلك الكفّار ، فالمعنى : أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة ، لأنهم لا يؤمنون بها. وإن أريد به المسلمون ، فالمعنى : يريدون الاستكثار من الدنيا على الاستكثار من الثواب. قال ابن مسعود : إنّ الدنيا عجّلت لنا ، وإنّ الآخرة نعتت لنا ، وزويت عنا ، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.

قوله عزوجل : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ) يعني الجنة أفضل (وَأَبْقى) أي : أدوم من الدنيا.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) في المشار إليه أربعة أقوال : أحدها : أنه قوله عزوجل : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) قاله قتادة. والثاني : هذه السّورة ، قاله عكرمة ، والسّدّيّ. والثالث : أنه لم يرد السّورة ، ولا ألفاظها بعينها ، وإنما أراد أنّ الفلاح لمن تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى ، في الصّحف الأولى ، كما هو في القرآن ، قاله ابن قتيبة. والرابع : أنه من قوله عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى قوله : (وَأَبْقى) قاله ابن جرير.

ثم بيّن الصّحف الأولى ما هي ، فقال : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) وقد فسّرناها في النّجم (٢).

__________________

(١) الأحزاب : ٣١.

فائدة : قال ابن العربي رحمه‌الله في «الأحكام» ٤ / ٣٨٠ : الذكر حقيقته إنما هو في القلب ، لأنه محمل النسيان الذي هو ضده ، والضدان إنما يتضادان في المحل الواجب ، فأوجب الله بهذه الآية النية في الصلاة خصوصا ، وإن كان قد اقتضاها عموما قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات» والصلاة أم الأعمال ورأس العبادات ، ومحل النية في الصلاة مع تكبيرة الإحرام ، فإن الأفضل في كل نية بفعل أن تكون مع الفعل لا قبله ، وإنما رخّص في تقديم نية الصوم لأجل تعذر اقتران النية فيه بأول الفعل عند العجز ، لوجوده والناس في غفلة ، وبقيت سائر العبادات على الأصل.

وتوهم بعض القاصرين عن معرفة الحقّ أن تقديم النية على الصلاة جائز ، بناء على ما قال علماؤنا من تجويز تقديم النية على الوضوء في الذي يمشي إلى النهر في الغسل ، فإذا نسي واغتسل يجزئه ـ قال : فكذلك الصلاة. وهذا القائل ممن دخل في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) [الملك : ٢٢] وقد بيناه ، وحققنا أن الصلاة أصل متفق عليه في وجوب النية ، والوضوء فرع مختلف فيه ، فكيف يقاس المتفق عليه على المختلف فيه ، ويحمل الأصل على الفرع؟

وإذا قلنا : إنه الذكر باللسان المخبر عن ذكر القلب المعبر عنه بأنه مشروع في الصلاة مفتتح به في أولها باتفاق من الأئمة ، لكنهم اختلفوا في تعينه ، فمنهم من قال : إنه كل ذكر ، منهم أبو حنيفة ، وقال أبو يوسف : يجزئه «الله الكبير» والله أكبر ، والله الأكبر. وقال الشافعي : يجزئه الله أكبر والله أكبر. وقال مالك : لا يجزئه إلا قوله :

الله أكبر. ونعوّل الآن هنا على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلّوا كما رأيتموني أصلي» وهو إنما كان يكبر ولا يتعرض لكل ذكر ، فتعين التكبير بأمره باتباعه في صلاته ، فهو المبين لذلك كله.

(٢) النجم : ٣٦.


سورة الغاشية

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ) أي : قد أتاك ، قال قطرب. وقال الزّجّاج : المعنى : هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك.

وفي «الغاشية» قولان : أحدهما : أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، وابن قتيبة. والثاني : أنها النار تغشى وجوه الكفار ، قاله سعيد بن جبير ، والقرظي ، ومقاتل.

قوله عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي : ذليلة وفيها قولان : أحدهما : أنها وجوه اليهود والنّصارى ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه جميع الكفّار ، قاله يحيى بن سلام.

قوله عزوجل : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام ، كعبدة الأوثان ، وكفّار أهل الكتاب ، مثل الرّهبان وغيرهم ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : أنهم الرّهبان ، وأصحاب الصّوامع ، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم. والثالث : عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال ، لأنها لم تعمل لله في الدنيا ، فأعملها وأنصبها في النار ، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن. وقال قتادة : تكبّرت في الدنيا عن طاعة الله ، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب. قال الضّحّاك : يكلّفون ارتقاء جبل من حديد في النار. وقال ابن السّائب : يخرّون على وجوههم. وقال مقاتل : عاملة في النار تأكل من النار ، ناصبة للعذاب. والرابع : عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة ، قاله عكرمة والسّدّيّ. والكلام هاهنا على الوجوه ، والمراد أصحابها. وقد بيّنّا معنى «النّصب» في قوله عزوجل : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) (١).

قوله عزوجل : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) قرأ أهل البصرة وعاصم إلّا حفصا «تصلى» بضمّ التاء. والباقون

__________________

(١) الحجر : ٤٨.


بفتحها. قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظّى على أعداء الله ، (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي : متناهية في الحرارة. قال الحسن : قد أوقدت عليها جهنّم منذ خلقت ، فدفعوا إليها وردا عطاشا.

قوله عزوجل : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) فيه ستة أقوال : أحدها : أنه نبت ذو شوك لاطئ بالأرض ، وتسمّيه قريش «الشّبرق» فإذا هاج سمّوه : ضريعا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة. والثاني : أنه شجر من نار ، رواه الوالبي عن ابن عباس. والثالث : أنها الحجارة ، قاله ابن جبير. والرابع : أنه السّلم ، قاله أبو الجوزاء. والخامس : أنه في الدنيا : الشّوك اليابس الذي ليس له ورق ، وهو في الآخرة شوك من نار ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه ، قاله ابن كيسان.

قال المفسّرون : لمّا نزلت هذه الآية قال المشركون : إنّ إبلنا لتسمن على الضّريع ، فأنزل الله تعالى : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وكذّبوا ، فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا ، وحينئذ يسمّى شبرقا ، لا ضريعا ، فإذا يبس وسمّي ضريعا لم يأكله شيء.

فإن قيل : إنه قد أخبر في هذه الآية : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وفي مكان آخر (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (١) فكيف الجمع بينهما؟

فالجواب : أنّ النار دركات ، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات ، فمنهم من طعامه الزّقّوم ، ومنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصّديد. قاله ابن قتيبة.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

قوله عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي : في نعمة وكرامة (لِسَعْيِها) في الدنيا (راضِيَةٌ) والمعنى : رضيت بثواب عملها (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) قد فسّرناه في «الحاقّة» (٢) (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ورويس «لا يسمع» بياء مضمومة. «لاغية» بالرفع. وقرأ نافع كذلك إلّا أنه بتاء مضمومة ، والباقون بتاء مفتوحة ، ونصب «لاغية» لا تسمع فيها كلمة لغو (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكلّلة بالزّبرجد ، والدّرّ ، والياقوت ، مرتفعة ما لم يجيء أهلها ، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها ، تواضعت له حتى يجلس عليها ، ثم ترتفع إلى موضعها (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) عندهم. وقد ذكرنا «الأكواب» في الزّخرف (٣) (وَنَمارِقُ) وهي الوسائد ، واحدها : نمرقة بضمّ النون. قال الفرّاء : وسمعت بعض كلب تقول : نمرقة ، بكسر النون والراء (مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى جنب بعض ، والزّرابيّ : الطّنافس التي لها خمل رقيق (مَبْثُوثَةٌ) كثيرة. وقال ابن قتيبة : مبثوثة كثيرة مفرّقة. قال

__________________

(١) الحاقة : ٣٦.

(٢) الحاقة : ٢٢.

(٣) الزخرف : ٧١.


المفسّرون : لمّا نعت الله سبحانه وتعالى ما في الجنة ، عجب من ذلك أهل الكفر ، فذكّرهم صنعه ، فقال عزوجل : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ).

(١٥٢٨) وقال قتادة : ذكر الله ارتفاع سرر الجنة ، وفرشها ، فقالوا : كيف نصعدها ، فنزلت هذه الآية. قال العلماء : وإنما خصّ الإبل من غيرها لأنّ العرب لم يروا بهيمة قطّ أعظم منها ، ولم يشاهدوا الفيل إلّا الشّاذّ منهم ، ولأنها كانت أنفس أموالهم وأكثرها ، لا تفارقهم ولا يفارقونها ، فيلاحظون فيها العبر الدالّة على قدرة الخالق ، من إخراج لبنها من بين فرث ودم وعجيب خلقها ، وهي على عظمها مذلّلة للحمل الثقيل ، وتنقاد للصبي الصغير ، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها. وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران الجونيّ ، والأصمعيّ عن أبي عمرو «الإبل» بإسكان الباء وتخفيف اللام. وقرأ أبيّ بن كعب ، وعائشة ، وأبو المتوكّل ، والجحدريّ ، وابن السّميفع ، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «الإبلّ» بكسر الباء ، وتشديد اللام. قال هارون : قال أبو عمرو «الإبلّ» بتشديد اللام : السّحاب الذي يحمل الماء.

قوله عزوجل : (كَيْفَ خُلِقَتْ) وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة «خلقت» بفتح الخاء ، وضمّ التاء. وكذلك قرءوا : «رفعت» و«نصبت» و«سطحت».

قوله عزوجل : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عمد (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) على الأرض لا تزول ولا تتغير (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي : بسطت. والسّطح : بسط الشيء ، وكلّ ذلك يدلّ على خالقه (فَذَكِّرْ) أي : فعظ (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي : واعظ ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير ، ويدلّ عليه قوله عزوجل : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي : بمسلّط ، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان. ثم نسختها آية السيف. وقرأ أبو رزين ، وأبو عبد الرحمن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة والحلوانيّ عن ابن عامر «بمسيطر» بالسين. وقد سبق بيان «المسيطر» في قوله عزوجل (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (١).

قوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) هذا استثناء منقطع معناه : لكن من تولّى (وَكَفَرَ) بعد التذكير. وقرأ ابن عباس ، وعمرو بن العاص ، وأنس بن مالك ، وأبو مجلز ، وقتادة ، وسعيد بن جبير «ألا من تولّى» بفتح الهمزة وتخفيف اللام (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو أن يدخله جهنّم ، وذلك أنهم قد عذّبوا في الدنيا بالجوع ، والقتل ، والأسر ، فكان عذاب جهنّم هو الأكبر (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وعائشة ، وعبد الرحمن ، وأبو جعفر «إيّابهم» بتشديد الياء ، أي : رجوعهم ومصيرهم بعد الموت (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) قال مقاتل : أي : جزاءهم.

____________________________________

(١٥٢٨) أخرجه الطبري ٣٧٠٤٣ عن قتادة قوله ، فهو ضعيف.

__________________

(١) الطور : ٣٧.


سورة الفجر

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

قوله تعالى : (وَالْفَجْرِ) قال ابن عباس : الفجر : انفجار الظّلمة عن الصّبح ، وانفجر الماء : انفتح. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : الفجر : ضوء النهار إذا انشقّ عنه الليل ، وهو مأخوذ من الانفجار ، يقال : انفجر النهر ينفجر انفجارا : إذا انشق فيه موضع لخروج الماء : ومن هذا سمي الفاجر فاجرا ، لأنه خرج عن طاعة الله.

وللمفسّرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال : أحدها : أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار ، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو انفجار الصبح كلّ يوم ، وبهذا قال عكرمة ، وزيد بن أسلم ، والقرظيّ. والثاني : صلاة الفجر ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والثالث : النهار كلّه ، فعبّر عنه بالفجر ، لأنه أوّله ، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس. والرابع : أنه فجر يوم النّحر خاصّة قاله مجاهد. والخامس : أنه فجر أول يوم من ذي الحجّة ، قاله الضّحّاك. والسادس : أنه أول يوم من المحرّم تنفجر منه السّنة قاله قتادة.

قوله عزوجل : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) فيها أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه عشر ذي الحجّة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني : أنها العشر الأواخر من رمضان ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والثالث : العشر الأول من رمضان ، قاله الضّحّاك. والرابع : العشر الأول من المحرّم ، قاله يمان بن رئاب.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٥٦١ : والصواب من القول في ذلك عندنا : أنها عشر الأضحى ، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه. ووافقه ابن كثير رحمه‌الله.


قوله عزوجل : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف «والوتر» بكسر الواو ، وفتحها الباقون ، هما لغتان ، قال الفرّاء الكسر لقريش وتميم وأسد ، والفتح لأهل الحجاز. وللمفسّرين في «الشفع والوتر» عشرون قولا :

(١٥٢٩) أحدها : أنّ الشّفع : يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النّحر ، رواه أبو أيّوب الأنصاري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١٥٣٠) والثاني : أنّ الشّفع يوم النّحر ، والوتر : يوم عرفة. رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبه قال ابن عباس ، عكرمة والضّحّاك.

(١٥٣١) والثالث : أنّ الشّفع والوتر : الصلاة ، منها الشّفع ، ومنها الوتر ، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال قتادة.

والرابع : أنّ الشّفع : الخلق كلّه ، والوتر : الله تعالى ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية مسروق ، وأبو صالح. والخامس : أنّ الوتر : آدم شفع بزوجته ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والسادس : أنّ الشّفع يومان بعد يوم النّحر ، وهو النّفر الأول ، والوتر : اليوم الثالث ، وهو النّفر الأخير ، قاله عبد الله بن الزّبير ، واستدلّ بقوله عزوجل : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (١). والسابع : أنّ الشّفع : صلاة الغداة ، والوتر : صلاة المغرب ، حكاه عطيّة. والثامن : أنّ الشّفع : الركعتان من صلاة المغرب ، والوتر : الرّكعة الثالثة ، قاله أبو العالية ، والرّبيع بن أنس. والتاسع : أنّ الشّفع والوتر : الخلق كلّه ، منه شفع ، ومنه وتر ، قاله ابن زيد ومجاهد في رواية. والعاشر : أنه العدد ، منه شفع ، ومنه وتر ، وهذا والذي قبله مرويّان عن الحسن. والحادي عشر : أنّ الشّفع : عشر ذي الحجّة ، والوتر : أيام منى الثلاثة ، قاله الضّحّاك. والثاني عشر : أنّ الشّفع : هو الله ، لقوله عزوجل : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (٢) والوتر : هو الله ، لقوله عزوجل : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، قاله سفيان بن عيينة.

____________________________________

(١٥٢٩) ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الكبير» ٤٠٧٣ من حديث أبي أيوب ، وقال في «المجمع» ٧ / ١٣٧ فيه واصل بن السائب وهو متروك. وانظر «تفسير القرطبي» ٦٣٢٢ بتخريجنا.

(١٥٣٠) أخرجه النسائي في «التفسير» ٦٩١ و ٦٩٢ وأحمد ٣ / ٣٢٧ والطبري ٣٧٠٧٣ والحاكم ٤ / ٢٢٠ والبزار ٢٢٨٦ «كشف» من حديث جابر ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٣٧ : رجال أحمد والبزار رجال الصحيح غير عياش بن عقبة ، وهو ثقة ا ه. قلت : ومداره على أبي الزبير ، وهو مدلس ، وقد عنعن ، فالإسناد ضعيف. وقال الحافظ ابن كثير ٤ / ٦٠٠ رجاله لا بأس بهم ، وعندي أن المتن في رفعه نكارة ، والله أعلم اه. وهو كما قال : فإن هناك روايات أخرى مرفوعة وموقوفة على خلاف ذلك ، فلو صح مرفوعا لما اختلف الصحابة والتابعون في تفسير هذه الآيات ، والله أعلم.

(١٥٣١) ضعيف. أخرجه الترمذي ٣٣٤٢ وأحمد ٤ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ والطبري ٣٧٠٩٩ والحاكم ٢ / ٥٢٢ من حديث عمران بن حصين ، وإسناده ضعيف فيه راو لم يسم ، وضعفه الترمذي بقوله : غريب اه وقد سقط الراوي الذي لم يسم من إسناد الحاكم فجرى على ظاهره ، وحكم بصحته! وسكت الذهبي! وهو من صنع أحد الرواة ، ورجح ابن كثير رحمه‌الله ٤ / ٦٠٠ كونه مقوفا ، وهو كما قال. والله أعلم.

__________________

(١) البقرة : ٢٠٣.

(٢) المجادلة : ٧.


والثالث عشر : أنّ الشّفع : هو آدم وحوّاء. والوتر : الله تعالى ، قاله مقاتل بن سليمان. والرابع عشر : أنّ الشّفع : الأيّام والليالي ، والوتر : اليوم الذي لا ليلة بعده ، وهو يوم القيامة ، قاله مقاتل بن حيّان. والخامس عشر : الشّفع : درجات الجنان ، لأنها ثمان ، والوتر : دركات النار لأنها سبع ، فكأنّ الله تعالى أقسم بالجنة والنار ، قاله الحسين بن الفضل. والسادس عشر : الشّفع : تضادّ أوصاف المخلوقين بين عزّ وذلّ ، وقدرة وعجز ، وقوة وضعف ، وعلم وجهل ، وموت وحياة. والوتر : انفراد صفات الله عزوجل ، عزّ بلا ذلّ ، وقدرة بلا عجز ، وقوة بلا ضعف ، وعلم بل جهل ، وحياة بلا موت ، قاله أبو بكر الورّاق. والسابع عشر : أنّ الشّفع : الصّفا والمروة ، والوتر : البيت. والثامن عشر : أنّ الشّفع : مسجد مكّة والمدينة ، والوتر : بيت المقدس. والتاسع عشر : أنّ الشّفع : القران في الحجّ والتّمتّع ، والوتر : الإفراد. والعشرون : الشّفع : العبادات المتكررة كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والوتر : العبادة التي لا تتكرر ، كالحجّ ، حكى هذه الأقوال الأربعة الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قرأ ابن كثير ، ويعقوب «يسري» بياء في الوصل والوقف ، وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائيّ «يسر» بغير ياء في الوصل والوقف. قال الفرّاء ، والزّجّاج : الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات ، ولاتّباع المصحف. وفي قوله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قولان : أحدهما : أنّ الفعل له ، فيه قولان : أحدهما : إذا يسري ذاهبا ، قاله الجمهور ، وهو اختيار الزّجّاج. والثاني : إذا يسري مقبلا ، قاله قتادة.

والقول الثاني : أنّ الفعل لغيره ، والمعنى : إذا يسري فيه ، كما يقال : ليل نائم ، أي : ينام فيه ، قاله الأخفش ، وابن قتيبة. وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال : أحدها : أنه عامّ في كلّ ليلة ، وهذا الظاهر. والثاني : أنه ليلة المزدلفة ، وهي ليلة جمع : قاله مجاهد وعكرمة. والثالث : ليلة القدر ، حكاه الماورديّ.

قوله عزوجل : (هَلْ فِي ذلِكَ) أي هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي : لذي عقل ، وسمّي العقل حجرا ، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح ، وسمّي عقلا ، لأنه يعقل عمّا لا يحسن ، وسمّي العقل النّهى ، لأنه ينهى عمّا لا يحلّ. ومعنى الكلام : أنّ من كان ذا لبّ علم أنّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء ، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته ، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته. وجواب القسم قوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فاعترض بين القسم ، وجوابه قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) فخوّف أهل مكّة بإهلاك من كان أشدّ منهم. وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر «بعاد إرم» بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة. وفي (إِرَمَ) أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه اسم بلدة ، قال الفرّاء. ولم

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٥٦٧ : وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي : أنها اسم قبيلة من عاد ، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها ، وترك إجرائها. ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جد لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها ، كما يقال : هذا عمرو وزبيد وحاتم طيء ، وأعشى همدان ، ولكنها اسم قبيلة منها ، فيما أرى.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٠٢ : ومن زعم أن المراد بقوله (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) مدينة إما دمشق ، أو الاسكندرية ، أو غيرهما ، ففيه نظر ، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان ، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك


يجر «إرم» لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها دمشق ، قاله سعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، وخالد الرّبعي. والثاني : الإسكندريّة ، قاله محمّد بن كعب. والثالث : أنها مدينة صنعها شدّاد بن عاد ، وهذا قول كعب. وسيأتي ذكره إن شاء الله.

والقول الثاني : أنه اسم أمّة من الأمم ، ومعناه : القديمة ، قاله مجاهد. والثالث : أنه قبيلة من قوم عاد ، قاله قتادة ومقاتل. قال الزّجّاج : وإنما لم تنصرف «إرم» لأنها جعلت اسما للقبيلة ففتحت ، وهي في موضع خفض. والرابع : أنه اسم لجدّ عاد ، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، قاله ابن إسحاق. قال الفرّاء : فإن كان اسما لرجل على هذا القول ، فإنما ترك إجراؤه ، لأنه كالعجميّ ، وقال أبو عبيدة : هما عادان ، فالأولى : وهي إرم ، وهي التي قال الله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (١) وهل قوم هود عاد الأولى ، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في النّجم (٢).

وفي قوله عزوجل : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) أربعة أقوال (٣) : أحدها : لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان ، ثم يرجعون إلى منازلهم ، فلا يقيمون في موضع ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والفرّاء. والثاني : أنّ معنى ذات العماد : ذات الطّول ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال مقاتل ، وأبو عبيدة. قال الزّجّاج : يقال : رجل معمد : إذا كان طويلا. والثالث : ذات القوة والشدة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، قاله الضّحّاك. والرابع : ذات البناء المحكم بالعماد ، قاله ابن زيد. وقيل : إنما سمّيت ذات العماد لبناء بناه بعضهم.

قوله عزوجل : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وأبو عمران : «لم تخلق» بتاء مفتوحة ورفع اللام «مثلها» بنصب اللام. وقرأ معاذ القارئ ، وعمرو بن دينار : «لم نخلق» بنون مفتوحة ورفع اللام «مثلها» بنصب اللام. وفي المشار إليها قولان : أحدهما : لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطّول والقوّة ، وهذا معنى قول الحسن. والثاني : المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد ، قاله عكرمة.

__________________

القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم ، قال : وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية من ذكر مدينة يقال لها : إرم ذات العماد ، مبنية بلبن الذهب والفضة وقصورها ودورها وبساتينها ، وأن حصباءها لآلئ وجواهر ، وترابها بنادق المسك ، وأنهارها سارحة ، وثمارها ساقطة ، ودورها لا أنين بها ، وأنها تنقل ، فتارة تكون في أرض الشام ، وتارة باليمن ، وتارة بغير ذلك من البلاد ، فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.

(١) النجم : ٥٠.

(٢) النجم : ٥٠.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٥٦٨ : وأشبه الأقوال في ذلك بما دل عليه ظاهر التنزيل ، قول من قال : عني بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة ، لأن المعروف من كلام العرب من العماد ، ما عمد به الخيام من الخشب ، والسواري التي يحمل عليها البناء ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح. وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ، وما وجد إلى ذلك سبيل ، دون الأنكر ، فقد وجه أهل التأويل قوله (ذاتِ الْعِمادِ) إلى أنه عني به طول أجسامهم. ولا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه.

قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٠١ ـ ٦٠٢ : وقوله : (ذاتِ الْعِمادِ) لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد وقال مجاهد : كانوا أهل عمود لا يقيمون ، وقال العوفي ، عن ابن عباس : إنما قيل لهم (ذاتِ الْعِمادِ) لطولهم ، واختار الأول ابن جرير رحمه‌الله ، ورد الثاني فأصاب.


وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة. وهذه الإشارة إلى ذلك.

(١٥٣٢) روى وهب بن منبّه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت ، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن ، وحول الحصن قصور كثيرة. فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله ، فلم ير خارجا ولا داخلا ، فنزل عن دابّته ، وعقلها ، وسلّ سيفه ، ودخل من باب الحصن ، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما والبابان مرصّعان بالياقوت الأبيض والأحمر ، فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين ، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها ، وإذا قصور ، كلّ قصر منها فيه غرف وفوق الغرف غرف مبنيّة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت. ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة ، يقابل بعضها بعضا ، مفروشة كلها باللؤلؤ ، وبنادق من مسك وزعفران. فلمّا عاين ذلك ، ولم ير أحدا ، هاله ذلك ، ثم نظر إلى الأزقّة فإذا هو في كلّ زقاق منها شجر قد أثمر ، وتحت الشجر أنهار مطّردة يجري ماؤها من قنوات من فضة. فقال الرجل : إنّ هذه هي الجنة ، فحمل معه من لؤلؤها ، ومن بنادق المسك والزّعفران ورجع إلى اليمن ، فأظهر ما كان معه. وبلغ الأمر إلى معاوية ، فأرسل إليه. فقصّ عليه ما رأى ، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار ، فلما أتاه قال له : يا أبا إسحاق : هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال : نعم أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شدّاد بن عاد ، والمدينة : «إرم ذات العماد» ، قال : فحدّثني حديثها ، فقال : إنّ عادا المنسوب إليه عاد الأولى ، كان له ولدان : شديد ، وشدّاد. فلما مات ملكا بعده ، ثم مات شديد وبقي شدّاد ، فملك الأرض ، ودانت له الملوك ، وكان مولعا بقراءة الكتب ، فكان إذا مرّ بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها

____________________________________

(١٥٣٢) قال الحافظ في «تخريجه» ٤ / ٧٤٨ : أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبي صالح عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فذكره مطوّلا. قال الحافظ : آثار الوضع لائحة عليه! وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٠٢ : وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة (إرم ذات العماد) هاهنا مطوّلة جدا ، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الإعرابي فقد يكون قد اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال ، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وليس كذلك ، وهذا مما يقطع بعدم صحته ، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطر الذهب والفضة ، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء ، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات ، ويطنزون بهم ، والذي نجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية ، وكنوزا كثيرة ، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله ، فأما على الصفة التي زعموها ، فكذب وافتراء وبهت ، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم ، والله سبحانه الهادي للصواب.

وقال الشوكاني رحمه‌الله في «فتح القدير» ٤ / ٥٣٠ : وهذا كذب على كذب وافتراء ، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء ، وفاقرة عظمى ، ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترءون على الكذب ، تارة على بني إسرائيل ، وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين ، وتارة على رب العالمين ، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز ، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المخولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه ، فحرفوا وبدلوا وغيروا ، وقال : ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتاب الذي سميته «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة». اه. قلت : هو كتاب مطبوع متداول ، وعمدة هذا الكتاب «موضوعات ابن الجوزي» و«اللآلئ المصنوعة» للسيوطي.


عتوّا على الله تعالى ؛ فأمر بصنع «إرم ذات العماد» فأمّر على عملها مائة قهرمان مع كلّ قهرمان ألف من الأعوان ، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدّوه بما في بلادهم من الجواهر ، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا ما يوافقه حتى وقعوا على صحراء عظيمة نقيّة من التلال ، وإذا هم بعيون مطّردة فقالوا : هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها ، فوضعوا أساسها من الجزع اليمانيّ ، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة ، وكان عمر شدّاد تسعمائة سنة ، فلمّا أتوه وقد فرغوا منها قال : انطلقوا ، واجعلوا عليها حصنا ، واجعلوا حول الحصن ألف قصر ، عند كلّ قصر ألف علم يكون في كلّ قصر من تلك القصور وزير من وزرائي ، ففعلوا ، فأمر الوزراء ـ وهم ألف وزير ـ أن يتهيؤوا للنّقلة إلى «إرم ذات العماد» ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ، ثم ساروا إليها ، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه ، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا ، ولم يبق منهم أحد.

وروى الشّعبيّ عن دغفل الشّيباني عن علماء حمير قالوا : لمّا هلك شدّاد بن عاد ومن معه من الصّيحة ، ملك بعده ابنه مرثد بن شدّاد ، وقد كان أبوه خلّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه ، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت ، وأمر بدفنه فحفرت له حفيرة في مغارة ، فاستودعه فيها على سرير من ذهب ، وألقى عليه سبعين حلّة منسوجة بقضبان الذهب ، ووضع عند رأسه لوحا عظيما من ذهب وكتب عليه :

اعتبر يا أيّها المغرور

بالعمر المديد

أنا شدّاد بن عاد

صاحب الحصن المشيد

وأخو القوّة والبأساء

والملك الحشيد

دان أهل الأرض لي

من خوف وعدي ووعيدي

وملكت الشرق والغرب

بسلطان شديد

وبفضل الملك والعدّة

فيه والعديد

فأتى هود وكنّا

في ضلال قبل هود

فدعانا لو قبلناه

إلى الأمر الرّشيد

فعصيناه ونادى

ما لكم هل من محيد

فأتتنا صيحة تهوي

من الأفق البعيد

فتوافينا كزرع

وسط بيداء حصيد

قوله عزوجل : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) أي قطعوه ونقبوه. قال ابن إسحاق : والوادي : وادي القرى. وقرأ الحسن : «بالوادي» بإثبات الياء في الحالين (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) مفسّر في سورة ص (١) (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) يعني : عادا ، وثمود ، وفرعون ، عملوا بالمعاصي ، وتجبّروا على أنبياء الله (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) القتل والمعاصي (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) قال ابن قتيبة : وإنّما قال : سوط عذاب ، لأنّ التعذيب قد يكون بالسّوط ، وقال الزّجّاج : أي جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب. (إِنَّ

__________________

(١) ص : ١٢.


رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي : يرصد من كفر به بالعذاب ، والمرصد : الطريق ، وقد شرحناه في قوله عزوجل : (كانَتْ مِرْصاداً) (١).

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

قوله عزوجل : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) فيمن عنى به أربعة أقوال : أحدها : عتبة بن ربيعة ، وأبو حذيفة بن المغيرة ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : أبيّ بن خلف ، قاله ابن السّائب. والثالث : أميّة بن خلف ، قاله مقاتل. والرابع : أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث ، قال الزّجّاج : وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر (فَأَكْرَمَهُ) بالمال (وَنَعَّمَهُ) بما وسّع عليه من الإفضال (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فتح ياء «ربي» «أكرمني» «ربي» أهانني» أهل الحجاز ، وأبو عمرو ، أي : فضّلني بما أعطاني ، ويظنّ إنما ، أعطاه من الدنيا لكرامته عليه (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) بالفقر (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر «فقدّر» بتشديد الدال ، والمعنى : ضيّق عليه بأن جعله على مقدار البلغة (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي هذا الهوان منه لي حين أذلّني بالفقر.

وأعلم أنّ من لا يؤمن بالبعث ، فالكرامة عنده زيادة الدنيا ، والهوان قلّتها.

قوله عزوجل : (كَلَّا) أي : ليس الأمر كما ظنّ. قال مقاتل : ما أعطيت من أغنيت هذا الغنيّ لكرامته عليّ ، ولا أفقرت من أفقرت لهوانه عليّ. وقال الفرّاء : المعنى : لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا ، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين : الفقر ، والغنى. ثم أخبر عن الكفّار فقال عزوجل : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) قرأ أهل البصرة «يكرمون» و«يحضّون» و«يأكلون» و«يحبّون» بالياء فيهن ، والباقون بالتاء. ومعنى الآية : إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم. والآية تحتمل معنيين : أحدهما : أنهم كانوا لا يبرّونه. والثاني : لا يعطونه حقّه من الميراث ، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان. ويدل على المعنى الأول قوله عزوجل : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) وقرأ أبو جعفر ، وأهل الكوفة «تحاضون» بألف مع فتح التاء. وروى الشّيزري عن الكسائيّ كذلك إلّا أنه ضمّ التاء. والمعنى : لا يأمروه بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة. ويدل على المعنى قوله عزوجل : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) قال ابن قتيبة : التّراث : الميراث ، والتاء فيه منقلبة عن واو ، كما قالوا : تجاه ، والأصل : وجاه ، وقالوا : تخمة ، والأصل : وخمة. و (لَمًّا) أي : شديدا ، وهو من قولك : لممت بالشيء : إذا جمعته ، وقال الزّجّاج : هو ميراث اليتامى.

__________________

(١) النبأ : ٢١.


قوله عزوجل : (وَتُحِبُّونَ الْمالَ) أي : تحبون جمعه (حُبًّا جَمًّا) أي : كثيرا فلا تنفقونه في خير (كَلَّا) أي : ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثم أخبر عن تلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم ، فقال عزّ من قائل : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي : مرّة بعد مرّة ، فتكسّر كلّ شيء عليها. قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) قد ذكرنا هذا المعنى في قوله عزوجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) (١).

قوله عزوجل : (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي : تأتي ملائكة كلّ سماء صفّا على حدة ، قال الضّحّاك : يكونون سبعة صفوف ، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ).

(١٥٣٣) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنّم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرّونها». قال مقاتل : يجاء بها فتقام عن يسار العرش.

قوله عزوجل : (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم يجاء بجهنّم (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي : يتّعظ الكافر ويتوب. وقال مقاتل : هو أميّة بن خلف (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي : كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ) العمل الصالح في الدنيا (لِحَياتِي) في الآخرة التي لا موت فيها (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) قرأ الكسائيّ ، ويعقوب ، والمفضّل «لا يعذّب» و«لا يوثق» بفتح الذال والثاء ، والباقون بكسرها ، فمن فتح ، أراد : لا يعذّب عذاب الكافر أحد ، ومن كسر أراد : لا يعذّب عذاب الله أحد ، أي كعذابه ، وهذه القراءة تختصّ بالدنيا ، والأولى تختصّ بالآخرة.

قوله عزوجل : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال (٢) :

أحدها : في حمزة بن عبد المطّلب لما استشهد يوم أحد ، قاله أبو هريرة ، وبريدة الأسلميّ. والثاني : في عثمان بن عفّان حين أوقف بئر رومة ، قاله الضّحّاك. والثالث : في خبيب بن عديّ لمّا صلبه أهل مكّة ، قاله مقاتل. والرابع : في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه ، حكاه الماورديّ. والخامس : في جميع المؤمنين ، قاله عكرمة. وفي معنى (الْمُطْمَئِنَّةُ) ثلاثة أقوال : أحدها : المؤمنة ، قاله ابن عباس. وقال الزّجّاج : المطمئنّة بالإيمان. والثاني : الرّاضية بقضاء الله ، قاله مجاهد. والثالث : الموقنة بما وعد الله ، قاله قتادة.

واختلفوا في أيّ حين يقال لها ذلك على قولين : أحدهما : عند خروجها من الدنيا ، قاله الأكثرون. والثاني : عند البعث يقال لها : ارجعي إلى صاحبك ، وإلى جسدك ، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وعكرمة والضّحّاك.

وفي قوله عزوجل : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً) أربعة أقوال : أحدها : ارجعي إلى صاحبك الذي كنت في جسده ، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة والضّحّاك. والثاني : (ارْجِعِي

____________________________________

(١٥٣٣) صحيح. أخرجه مسلم ٤ / ٢١٨٤ ، والترمذي ٢٥٧٣ من حديث ابن مسعود. وانظر «فتح القدير» ٢٧١٣.

__________________

(١) البقرة : ٢١٠.

(٢) قلت : الصواب أنها عامة كما قال القرطبي وحمزة رضي الله عنه منهم ، ثم إن السورة مكية.


إِلى رَبِّكِ) بعد الموت في الدنيا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : ارجعي إلى ثواب ربّك ، قاله الحسن. والرابع : يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى الدنيا ارجعي إلى الله تعالى بتركها ، حكاه الماورديّ.

قوله عزوجل : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي : في جملة عبادي المصطفين. قال أبو صالح : يقال لها عند الموت : ارجعي إلى ربّك ، فإذا كان يوم القيامة قيل لها : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) وقال الفرّاء : ادخلي مع عبادي. وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضّحّاك ، وأبو العالية ، وأبو عمران «في عبدي» على التوحيد. قال الزّجّاج : فعلى هذه القراءة ـ والله أعلم ـ يكون المعنى : ارجعي إلى ربّك ، أي : إلى صاحبك الذي خرجت منه ، فادخلي فيه.


سورة البلد

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

قوله عزوجل : (لا أُقْسِمُ) قال الزّجّاج : المعنى : أقسم. و«لا» دخلت توكيدا ، كقوله عزوجل : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (١) وقرأ عكرمة ، ومجاهد ، وأبو عمران ، وأبو العالية : «لأقسم» قال الزّجّاج : وهذه القراءة بعيدة في العربية ، وقد شرحنا هذا في أوّل القيامة (٢).

قوله عزوجل : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) فيه ثلاثة أقوال : و(البلد) هاهنا : مكة (٣).

أحدها : حلّ لك ما صنعته في هذا البلد من قتل وغيره ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. قال الزّجّاج : يقال : رجل حلّ ، وحلال ، ومحلّ ، قال المفسّرون : والمعنى : إنّ الله تعالى وعد نبيّه أن يفتح مكّة على يديه بأن يحلّها له ، فيكون فيها حلّا. والثاني : وأنت محلّ بهذا البلد غير محرم في دخوله ، يعني : عام الفتح ، حلالا ، قاله الحسن ، وعطاء. والثالث : وأنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلّون إخراجك وقتلك ، ويحرّمون قتل الصيد ، حكاه الثّعلبي.

قوله عزوجل : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه آدم. وما ولد ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة والثاني : إنّ الوالد إبراهيم ، وما ولد : ذريته (٤) ، قاله أبو عمران الجونيّ.

__________________

(١) الحديد : ٢٩.

(٢) القيامة : ١.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ٢٠ / ٥٤ : و (الْبَلَدِ) هي مكة ، أجمعوا عليه ، أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه لكرامتك عليّ وحبي لك.

(٤) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٥٨٧ : والصواب من القول في ذلك ، ما قاله الذين قالوا : إن الله أقسم بكل والد وولده. لأنّ الله عمّ كل والد وما ولد. وغير جائز أن يخصّ ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر ، أو عقل. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٠٧ : وقال مجاهد ، وأبو صالح ، وقتادة والضحاك وسفيان الثوري ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والحسن البصري ، وخصيف ، وشرحبيل بن سعيد وغيرهم :


والثالث : أنه عامّ في كلّ والد وما ولد ، حكاه الزّجّاج.

قوله عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) هذا جواب القسم. وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال : أحدها : أنه اسم جنس ، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني : أنه أبو الأشد الجمحي ، وقد سبق ذكره ، قاله الحسن.

(١٥٣٤) والثالث : أنه الحارث بن عامر بن نوفل ، وذلك أنه أذنب ذنبا ، فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكفّارة ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات ، والنّفقات منذ دخلت في دين محمّد ، قاله مقاتل.

والرابع : آدم عليه‌السلام ، قاله ابن زيد. والخامس : الوليد بن المغيرة ، حكاه الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (فِي كَبَدٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : في نصب ، رواه الوالبي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيدة ، وأنهم قالوا : في شدّة. قال الحسن : يكابد الشّكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء ، ولا يخلو من أحدهما ، ويكابد مصائب الدنيا ، وشدائد الآخرة. وقال ابن قتيبة : في شدّة غلبة ومكابدة لأمور الدنيا والآخرة ، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر ، وهي معاناته. والثاني : أنّ المعنى : خلق منتصبا يمشي على رجلين ، وسائر الحيوان غير منتصب ، رواه مقسم عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والضّحّاك ، وعطيّة ، والفرّاء ، فعلى هذا يكون معنى الكبد : الاستواء والاستقامة. والثالث : في وسط السماء ، قال ابن زيد (١) : (لقد خلقنا الإنسان) يعني : آدم (في كبد) أي : في وسط السماء.

قوله عزوجل : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) يعني الله عزوجل أي : أيحسب أن لن نقدر على بعثه ، ومعاقبته؟! (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي : كثيرا ، قال أبو عبيدة : هو فعل من التّلبّد ، وهو المال الكثير بعضه على بعض ، قال ابن قتيبة : وهو المال كان بعضه على بعض. قال الزّجّاج : وهو فعل للكثرة ، كما يقال : رجل حطم : إذا كان كثير الحطم. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وعائشة ، وأبو عبد الرّحمن ، وقتادة ، وأبو العالية ، وأبو جعفر «لبّدا» بضمّ اللام ، وتشديد الباء مفتوحة. وقرأ عمر بن الخطّاب ، وأبو المتوكّل ، وأبو عمران «لبدا» برفع اللام وتسكين الباء خفيفة. وقرأ عثمان بن عفّان ، والحسن ، ومجاهد «لبدا» برفع اللام والباء وتخفيفهما. وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو الجوزاء «لبدا» بكسر اللام ، وفتح الباء مخفّفة. وفيما قال لأجل ذلك قولان : أحدهما : أنه أراد : أهلكت مالا كثيرا في عداوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ابن السّائب ، فكأنه استطال بما أنفق. والثاني : أنفقت في سبيل الله وفي الكفّارات مالا كثيرا ، قاله مقاتل. فكأنه ندم على ما أنفق.

قوله عزوجل : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) يعني الله عزوجل. والمعنى : أيظنّ أنّ الله لم ير نفقته ، ولم يحصها؟! وكان قد ادّعى إنفاق ما لم ينفق.

____________________________________

(١٥٣٤) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط ، كذبه غير واحد ، فهذا خبر لا شيء.

__________________

يعني بالوالد : آدم ، وما ولد : ولده ، قال : وهذا الذي ذهب إليه مجاهد حسن قوي ، لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن ، أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر وولده.

(١) اسمه عبد الرحمن.


قوله عزوجل : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) المعنى : ألم نجعل به ما يدلّ على أنّ الله قادر على بعثه؟! قوله عزوجل : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : سبيل الخير والشرّ ، قاله عليّ ، والحسن ، والفرّاء. وقال ابن قتيبة : يريد طريق الخير والشرّ. وقال الزّجّاج : النّجدين : الطريقين الواضحين والنّجد : المرتفع من الأرض ، فالمعنى : ألم نعرّفه طريق الخير والشر كتبيّن الطريقين العاليين. والثاني : سبيل الهدى والضّلال ، قاله ابن عباس. وقال مجاهد : هو سبيل الشّقاوة والسّعادة. والثالث : الثّديين ليتغذّى بلبنهما ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال ابن المسيّب ، والضّحّاك ، وقتادة.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

قوله عزوجل : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال أبو عبيدة : فلم يقتحم العقبة في الدنيا. وقال ابن قتيبة : فلا هو اقتحم العقبة. قال الفرّاء : لم يضم إلى قوله عزوجل : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) كلاما آخر فيه «لا» ، والعرب لا تكاد تفرد «لا» في كلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر ، كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) ، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). ومعنى : «لا» موجود في آخر هذا الكلام ، فاكتفى بواحدة من الأخرى ، ألا ترى أنه فسّر اقتحام العقبة ، فقال : (فَكُّ رَقَبَةٍ). (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) فسّرها بثلاثة أشياء. فكأنّه قال في أول الكلام : فلا فعل ذا ، ولا ذا ولا ذا. وذهب ابن زيد في آخرين إلى أنّ المعنى : أفلا اقتحم العقبة؟

على وجه الاستفهام ، والمعنى : فهلّا أنفق ماله في فكّ الرّقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟! فأمّا : الاقتحام فقد بيّناه في (ص) (١). وفي العقبة سبعة أقوال : أحدها : أنه جبل في جهنّم ، قاله ابن عمر. والثاني : عقبة دون الجسر ، قاله الحسن. والثالث : سبعون دركة في جهنّم ، قاله كعب. والرابع : الصّراط ، قاله مجاهد ، والضّحّاك والكلبي. والخامس : نار دون الجسر ، قاله قتادة. والسادس : طريق النّجاة ، قاله ابن زيد. والسابع : أنّ ذكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النّفس والهوى والشيطان في أعمال البرّ ، فجعله كالذي يتكلّف صعود العقبة. يقول : لم يحمل على نفسه المشقّة بعتق الرّقبة ، والإطعام ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوري في آخرين.

قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) قال سفيان بن عيينة : كلّ ما فيه «وما أدراك» ، فقد أخبره به ، وكلّ ما فيه «وما يدريك» فإنه لم يخبره به. قال المفسّرون : المعنى : وما أدراك ما اقتحام العقبة؟. ثم بيّنه فقال عزوجل : (فَكُّ رَقَبَةٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، إلّا عبد الوارث ، والكسائيّ ، والدّاجوني عن ابن ذكوان «فكّ» بفتح الكاف «رقبة» بالنصب «أو أطعم» بفتح الهمزة والميم وسكون الطاء من غير ألف ، فعل ماض. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة «فكّ» برفع الكاف «رقبة» بالخفض «أو إطعام» بألف ، ومعنى فكّ الرّقبة : تخليصها من أسر الرّقّ ، وكلّ شيء أطلقته فقد فككته ومن قرأ «فكّ رقبة»

__________________

(١) ص : ٥٩.


على الفعل ، فهو تفسير اقتحام العقبة بالفعل ، واختاره الفرّاء ، لقوله عزوجل : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قال ابن قتيبة : والمسغبة : المجاعة. يقال : سغب يسغب سغوبا : إذا جاع (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قرابة (١) (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي : ذا فقر كأنه لصق بالتراب. وقال ابن عباس : هو المطروح في التراب لا يقيه شيء. ثم بيّن أنّ هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان بقوله عزوجل : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) و«ثم» هاهنا بمعنى الواو ، كقوله عزوجل : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) (٢).

قوله عزوجل : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على فرائض الله وأمره (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي بالتّراحم بينهما. وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في الواقعة (٣) قال الفرّاء : و«المؤصدة» : المطبقة. قال مقاتل : يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ، ولا يخرج منها غمّ ، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. وقال ابن قتيبة : يقال : أوصدت الباب واصدته : إذا أطبقته. وقال الزّجّاج : المعنى : أنّ العذاب مطبق عليهم. قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائيّ ؛ وأبو بكر عن عاصم «موصدة» بغير همزة هاهنا وفي «الهمزة» (٤). وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين.

__________________

(١) قال ابن العربي في «الأحكام» ٤ / ٤٠٢ : قوله تعالى : (ذا مَقْرَبَةٍ) يفيد أن الصدقة على القريب أفضل منها على البعيد ، ولذلك بدأ به قبل المسكين ، وذلك عند مالك بالنفل. والمتربة : الفقر البالغ الذي لا يجد صاحبه طعاما إلا التراب ، ولا فراشا سواه. والله أعلم.

(٢) يونس : ٤٦.

(٣) الواقعة : ٧ ، ٨.

(٤) الهمزة : ٨.


سورة الشمس

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

قوله عزوجل : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١)) في المراد «بضحاها» ثلاثة أقوال :

أحدها : ضوؤها ، قاله مجاهد ، والزّجّاج. والضّحى : حين يصفو ضوء الشمس بعد طلوعها. والثاني : النهار كلّه ، قاله قتادة ، وابن قتيبة. والثالث : حرّها ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل قوله : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) فيه قولان :

أحدهما : إذا تبعها ، قاله ابن عباس في آخرين. ثم في وقت اتّباعه لها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه في أول ليلة من الشهر يرى القمر إذا سقطت الشمس ، قاله قتادة. والثاني : أنه في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس ، حكاه الماوردي. والثالث : أنه في النّصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النّور ، حكاه عليّ بن أحمد النّيسابوري.

والقول الثاني : إذا ساواها ، قاله مجاهد. وقال غيره : إذا استدار ، فتلا الشمس في الضياء والنّور ، وذلك في الليالي البيض.

قوله عزوجل : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) في المكنّى عنها قولان : أحدهما : أنها الشمس ، قاله مجاهد ، فيكون المعنى : والنهار ، إذا بيّن الشمس ، لأنها تتبيّن إذا انبسط النهار. والثاني : أنها الظّلمة فتكون كناية عن غير مذكور ، لأنّ المعنى معروف ، كما تقول : أصبحت باردة ، وهبّت شمالا ، وهذا قول الفرّاء ، واللغويين قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي : يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق. (وَالسَّماءِ وَما بَناها) في «ما» قولان : أحدهما : بمعنى «من» تقديره «ومن بناها» ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وأبو عبيدة. وبعضهم يجعلها بمعنى الذي. والثاني : أنها بمعنى المصدر ، تقديره : وبناها ، وهذا مذهب قتادة ، والزّجّاج. وكذلك القول في «وما طحاها» «وما سوّاها» وقد قرأ أبو عمران الجوني في آخرين «ومن بناها» ومن طحاها» «ومن سوّاها» كلّه بالنون. قال أبو عبيدة : ومعنى «طحاها» بسطها يمينا وشمالا ، ومن كلّ


جانب ، قال ابن قتيبة : يقال : خير طاح ، أي : كثير متّسع.

وفي المراد «بالنّفس» هاهنا قولان : أحدهما : آدم ، قاله الحسن. والثاني : جميع النفوس ، قاله عطاء. وقد ذكرنا معنى «سوّاها» في قوله عزوجل : (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ). قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الإلهام : إيقاع الشيء في النّفس. قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها ، وقال ابن زيد : جعل ذلك فيها بتوفيقه إيّاها للتقوى ، وخذلانه إيّاها للفجور.

قوله عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) قال الزّجّاج : هذا جواب القسم. والمعنى : لقد أفلح ، ولكنّ اللام حذفت لأنّ الكلام طال ، فصار طوله عوضا منها. وقال ابن الأنباري : جوابه محذوف. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : قد أفلحت نفس زكّاها الله عزوجل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل ؛ والفرّاء ، والزّجّاج. والثاني : قد أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال ، قاله قتادة ، وابن قتيبة. ومعنى (زَكَّاها) : أصلحها وطهّرها من الذنوب. قوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فيه قولان : كالذي قبله.

فإن قلنا : إنّ الفعل لله ، فمعنى «دسّاها» : خذلها ، وأخملها ، وأخفى محلّها بالكفر والمعصية ، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح.

وإن قلنا : الفعل للإنسان ، فمعنى «دسّاها» : أخفاها بالفجور. قال الفرّاء : ويروى أنّ «دسّاها» دسّسها لأنّ البخيل يخفي منزله وماله. وقال ابن قتيبة : والمعنى : دسّى نفسه ، أي : أخفاها بالفجور والمعصية. والأصل من دسّست ، فقلبت السين ياء ، كما قالوا : قصّيت أظفاري ، أي : قصصتها. فكأنّ النّطف بارتكاب الفواحش دسّ نفسه ، وقمعها ، ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها ، وكانت أجواد العرب تنزل الرّبا للشّهرة. واللّئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها. وقال الزّجّاج : معنى «دسّاها» جعلها قليلة خسيسة.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

قوله عزوجل : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي : كذّبت رسولها بطغيانها. والمعنى : أنّ الطّغيان حملهم على التكذيب. قال الفرّاء : أراد بطغواها : طغيانها ، وهما مصدران ، إلّا أنّ الطّغوى أشكل برءوس الآيات ، فاختير لذلك. وقيل : كذّبوا العذاب (إِذِ انْبَعَثَ) أي : انتدب (أَشْقاها) وهو : عاقر النّاقة يعقرها (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) وهو صالح (ناقَةَ اللهِ) قال الفرّاء : نصب الناقة على التحذير ، وكلّ تحذير فهو نصب. وقال ابن قتيبة : احذروا ناقة الله وشربها. وقال الزّجّاج : المعنى : ذروا «ناقة الله» وذروا «سقياها» قال المفسّرون : سقياها : شربها من الماء. والمعنى : لا تتعرّضوا ليوم شربها (فَكَذَّبُوهُ) في تحذيره إيّاهم العذاب بعقرها (فَعَقَرُوها) وقد بيّنا معنى «العقر» في الأعراف (١) (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) قال الزّجّاج : أي : أطبق عليهم العذاب. يقال : دمدمت على الشيء : إذا أطبقت فكرّرت الإطباق. وقال المؤرّج : الدّمدمة : إهلاك باستئصال.

__________________

(١) الأعراف : ٧٧.


وفي قوله عزوجل : (فَسَوَّاها) قولان : أحدهما : سوّى بينهم في الإهلاك ، قاله السّدّيّ ، ويحيى بن سلام. وقيل : سوّى الدّمدمة عليهم. والمعنى : أنه أهلك صغيرهم ، وكبيرهم. والثاني : سوّى الأرض عليهم. قال مقاتل : سوّى بيوتهم على قبورهم. وكانوا قد حفروا قبورا فاضطجعوا فيها ، فلمّا صيح بهم فهلكوا زلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم.

قوله عزوجل : (وَلا يَخافُ عُقْباها) قرأ أبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر «فلا» بالفاء ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام. وقرأ الباقون بالواو ، وكذلك هي في مصاحف مكّة ، والكوفة ، والبصرة.

وفي المشار إليه ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنه الله عزوجل ، فالمعنى : لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم ، ولا يخشى عقبى ما صنع ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : أنه الذي عقرها ، فالمعنى : أنه لم يخف عقبى ما صنع ، وهذا مذهب الضّحّاك والسّدّيّ ، وابن السّائب. فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : إذ انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها. والثالث : أنه نبي الله صالح لم يخف عقباها ، حكاه الزّجّاج.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦١٥ : قال ابن عباس : لا يخاف الله من أحد تبعة ، وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه ، والله أعلم.


سورة الليل

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

قوله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) قال ابن عباس : يغشى بظلمته النهار. وقال الزّجّاج : يغشى الأفق ، ويغشى جميع ما بين السماء والأرض قوله : (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي : بان وظهر من بين الظّلمة ، (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣)) في «ما» قولان. وقد ذكرناهما عند قوله عزوجل : (وَما بَناها) (١). وفي «الذّكر والأنثى» قولان : أحدهما : آدم وحوّاء ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والثاني : أنه عامّ ، ذكره الماوردي. قوله عزوجل : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هذا جواب القسم. قال ابن عباس : إنّ أعمالكم لمختلفة ، عمل للجنة ، وعمل للنار. وقال الزّجّاج : سعي المؤمن والكافر مختلف ، بينهما بعد. وفي سبب نزول هذه السّورة قولان :

(١٥٣٥) أحدهما : أنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه اشترى بلالا من أميّة بن خلف وأبيّ بن خلف ببردة وعشرة أواق ، فأعتقه ، فأنزل الله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) إلى قوله عزوجل : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) يعني : سعي أبي بكر ، وأميّة وأبيّ ، قاله عبد الله بن مسعود.

(١٥٣٦) والثاني : أنّ رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال ، وكان الرجل إذا

____________________________________

(١٥٣٥) أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٥٣ عن عبد الله بن مسعود به ، وإسناده ضعيف ، فيه انقطاع بين أبي إسحاق السبيعي وابن مسعود.

(١٥٣٦) واه. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية والواحدي في «أسباب النزول» ٨٥٢ وفي «الوسيط» ٤ / ٥٠٢ من طريق حفص عن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس مطوّلا. ولم يذكر اسم «أبو الدحداح». وإسناده واه لأجل حفص بن عمر بن ميمون ، ضعفه الحافظ في «التقريب» وأخرجه ابن ـ

__________________

(١) الشمس : ٥.


صعد النّخلة ليأخذ منها الثمر ، فربما سقطت الثمرة ، فيأخذها صبيان الفقير ، فينزل الرجل من نخلته حتى يأخذ الثمرة من أيديهم ، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتى يخرجها ، فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب النّخلة ، فقال : «تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟» فقال الرجل : إنّ لي نخلا وما فيه نخلة أعجب إليّ منها ، ثم ذهب الرجل ، فقال رجل ممّن سمع ذلك الكلام : يا رسول الله أتعطيني نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال : نعم ، فذهب الرجل ، فلقي صاحب النّخلة ، فساومها منه ، فقال له : أما شعرت أنّ محمّدا أعطاني بها نخلة في الجنّة؟ فقلت : ما لي نخلة أعجب إليّ منها ، فقال له : أتريد بيعها؟ قال : لا ، إلّا أن أعطى بها ما لا أظنّني أعطى ، قال : ما مناك؟ قال : أربعون نخلة ، فقال : أنا أعطيك أربعين نخلة ، وأشهد له ناسا ، ثم ذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إنّ النخلة قد صارت في ملكي ، وهي لك ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صاحب الدّار ، فقال : النّخلة لك ولعيالك ، فأنزل الله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) إلى قوله عزوجل : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عطاء : الذي اشتراها من الرجل أبو الدّحداح ، أخذها بحائط له ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله عزوجل : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أبو الدّحداح ، وصاحب النّخلة.

قوله عزوجل : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) قال ابن مسعود : يعني : أبا بكر الصّدّيق وهذا قول الجمهور. وقال عطاء : هو أبو الدّحداح. وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة أقوال : أحدها : أعطى من فضل ماله ، قاله ابن عباس. والثاني : أعطى الله الصّدق من قلبه ، قاله الحسن. والثالث : أعطى حقّ الله عليه ، قاله قتادة.

وفي قوله عزوجل : (وَاتَّقى) ثلاثة أقوال : أحدها : اتّقى الله ، قاله ابن عباس. والثاني : اتّقى

البخل ، قاله مجاهد. والثالث : اتّقى محارم الله التي نهى عنها ، قاله قتادة.

وفي «الحسنى» ستة أقوال : أحدها : أنه «لا إله إلّا الله» ، رواه عطيّة عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والثاني : الخلف ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن. والثالث : الجنّة ، قاله مجاهد. والرابع : نعم الله عليه ، قاله عطاء. والخامس : بوعد الله أن يثيبه ، قاله قتادة ، ومقاتل. والسادس : الصّلاة ، والزّكاة ، والصّوم ، قاله زيد بن أسلم.

قوله عزوجل : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ضمّ أبو جعفر سين «اليسرى» وسين «العسرى» وفيه قولان : أحدهما : للخير ، قاله ابن عباس. والمعنى : نيّسر ذلك عليه. والثاني : للجنّة ، قاله زيد بن أسلم.

قوله (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) قال ابن مسعود : يعني بذلك أميّة وأبيّ ابني خلف. وقال عطاء : هو صاحب النّخلة.

____________________________________

حبان. والجمهور على أنها نزلت في أبي بكر والله أعلم.

ثم إن السورة مكية ، وذاك أنصاري؟! وورد بمعناه دون ذكر نزول الآية من حديث جابر. أخرجه أحمد ٣ / ٣٢٨ وقال الهيثمي في «المجمع» ٣ / ١٢٧ : رواه أحمد والبزار ، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل ، وفيه كلام وقد وثق.

ـ قلت : ضعفه غير واحد لسوء حفظه ، وهو غير حجة. ورواية عطاء : وفيها اسم الرجل أبو الدحداح ، هي من رواية علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء مرسلا ، ومعلقا ، فهو لا شيء.


قال المفسّرون : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بالنّفقة في الخير والصّدقة. وقال قتادة : بحقّ الله عزوجل ، قوله : (وَاسْتَغْنى) أي عن ثواب الله فلم يرغب فيه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) وقد سبقت الأقوال فيها.

وفي «العسرى» قولان : أحدهما : النّار ، قاله ابن مسعود. والثاني : الشّرّ ، قاله ابن عباس. والمعنى : سنهيؤه للشّرّ فيؤدّيه إلى الأمر العسير ، وهو عذاب النار.

ثم ذكر أنّ ما أمسكه من ماله لا ينفعه ، فقال عزوجل : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) الذي يبخل به عن الخير (إِذا تَرَدَّى) وفيه قولان : أحدهما : إذا تردّى في جهنّم ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والمعنى : إذا سقط فيها. والثاني : إذا مات فتردّى في قبره ، قاله مجاهد.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

قوله عزوجل : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) قال الزّجّاج : المعنى : إنّ علينا أن نبيّن طريق الهدى من طريق الضّلال. قوله : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي : فليطلبا منّا (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) أي : تتوقّد وتتوهّج (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) يعني : المشرك (الَّذِي كَذَّبَ) الرّسول (وَتَوَلَّى) عن الإيمان. قال أبو عبيدة : و (الْأَشْقَى) بمعنى الشّقيّ. والعرب تضع «أفعل» في موضع «فاعل». قال طرفة :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

قال الزّجّاج : وهذه الآية هي التي من أجلها زعم أهل الإرجاء أنه لا يدخل النار إلّا كافر ، وليس كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها ، ولأهل النار منازل. فلو كان من لا يشرك لا يعذّب لم يكن في قوله عزوجل (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) فائدة. وكان «ويغفر ما دون ذلك» كلاما لا معنى له.

قوله عزوجل : (وَسَيُجَنَّبُهَا) أي : يبعد عنها ، فيجعل منها على جانب (الْأَتْقَى) يعني : أبا بكر الصّدّيق في قول جميع المفسّرين ، (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي : يطلب أن يكون عند الله زاكيا ، ولا يطلب الرّياء ، ولا السّمعة (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي : لم يفعل ذلك مجازاة ليد أسديت إليه.

(١٥٣٧) وروى عطاء عن ابن عباس أنّ أبا بكر لمّا اشترى بلالا بعد أن كان يعذّب قال المشركون : ما فعل أبو بكر ذلك إلّا ليد كانت لبلال عنده ، فأنزل الله تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي : إلّا طلبا لثواب ربّه. قال الفرّاء : و«إلّا» بمعنى «لكن» ونصب «ابتغاء» على إضمار إنفاقه. فالمعنى : وما ينفق إلّا ابتغاء وجه ربّه.

قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي : بما يعطى في الجنّة من الثّواب.

____________________________________

(١٥٣٧) ذكره الواحدي ٨٥٧ عن عطاء عن ابن عباس بدون إسناد.

__________________

(١) النساء : ٤٨.


سورة الضّحى

وهي مكّيّة بإجماعهم اتّفق المفسّرون : على أنّ هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدّة. ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال :

(١٥٣٨) أحدها : أنّ اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذي القرنين ، وعن أصحاب الكهف ، وعن الرّوح ، فقال : سأخبركم غدا ، ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي.

والثاني : لقلّة النّظافة في بعض أصحابه. وقد ذكرنا هذين القولين في سورة مريم (١). والثالث : لأجل جرو كان في بيته ، قاله زيد بن أسلم (٢).

وفي مدّة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في مريم (٣).

(١٥٣٩) وروى البخاريّ ومسلم في «الصحيحين» من حديث جندب قال : قالت امرأة من قريش

____________________________________

(١٥٣٨) تقدم في سورة الكهف ، وأنكر الحافظ في «الفتح» ٨ / ٧١٠ كون نزول الضحى ، كان بسبب سؤالهم عن ذي القرنين ، وقال ما معناه : الزمن بين نزول السورة ، وسؤالهم إياه غير متحد ، ويجوز أن يكون قريبا.

(١٥٣٩) صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٥٠ والبغوي في «التفسير» ٢٣٤٩ بترقيمنا عن أحمد بن يونس به. من حديث جندي. وأخرجه البخاري ١١٢٥ و ١١٢٤ و ٤٩٨٣ والترمذي ٣٣٤٥ والطبري ٣٧٥٠٤ وابن حبان ٦٥٦٦ والطبراني ١٧٠٩ والبيهقي ٣ / ١٤ وفي «الدلائل» ٧ / ٥٨ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥٠٧ وفي «أسباب النزول» ٨٥٨ من طرق عن سفيان عن الأسود بن قيس به. وأخرجه البخاري ٤٩٥١ ومسلم ١٧٩٧ ح ١١٥ ـ

__________________

(١) مريم : ٦٥ ، وتقدّم الحديث ، وهو حديث ضعيف ، والصواب ما رواه الشيخان وهو الآتي من حديث جندب البجلي.

(٢) ضعيف جدا ، هو مرسل ، وله علة ثانية ، وهي كونه من رواية ابنه عبد الرحمن ، وهو واه.

وصح هذا السياق ، لكن ليس فيه نزول سورة الضحى عقب ذلك. فقد أخرج مسلم ٢١٠٥ وأبو داود ٤١٥٧ والنسائي ٧ / ١٨٦ وأحمد ٦ / ٣٣٠ وأبو يعلى ٧٠٩٣ و ٧١١٢ من طريق الزهري عن ابن السباق عن ابن عباس عن ميمونة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصبح يوما واجما فقالت ميمونة : يا رسول الله! لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة ، فلم يلقني. أم والله ما أخلفني» فظل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومه ذاك على ذلك ، ثم وقع في نفسه جر وكلب تحت فسطاط لنا ، فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه ، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له : قد كنت وعدتني أن تلقاني في البارحة قال : «أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، ولا صورة». وأخرجه مسلم ٢١٠٤ وأحمد ٦ / ١٤٢ ـ ١٤٣ وأبو يعلى ٤٥٠٨ من حديث عائشة بنحوه.

(٣) مريم : ٦٦.


للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أرى شيطانك إلّا قد ودعك ، فنزلت (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ، جندب : هو ابن سفيان ، والمرأة : يقال لها : أمّ جميل امرأة أبي لهب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

وفي المراد «بالضّحى» أربعة أقوال : أحدها : ضوء النهار ، قاله مجاهد. والثاني : صدر النهار ، قاله قتادة. والثالث : أول ساعة من النهار إذا ترحّلت الشمس ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل. والرابع : النهار كلّه ، قاله الفرّاء.

وفي معنى «سجى» خمسة أقوال (١) : أحدها : أظلم. والثاني : ذهب ، رويا عن ابن عباس. والثالث : أقبل ، قاله سعيد بن جبير. والرابع : سكن ، قاله عطاء ، وعكرمة ، وابن زيد. فعلى هذا : في معنى «سكن» قولان : أحدهما : استقرّ ظلامه ، قال الفرّاء : «سجى» يعني أظلم وركد في طوله. كما يقال : بحر ساج ، وليل ساج : إذا ركد وأظلم. ومعنى : ركد : سكن. قال أبو عبيدة ، يقال : ليلة ساجية ، وساكنة ، وشاكرة. قال الحادي :

يا حبّذا القمراء والليل السّاج

وطرق مثل ملاء النّساج

قال ابن قتيبة : «سجى» بمعنى سكن ، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده.

والثاني : سكن الخلق فيه ، ذكره الماورديّ.

والخامس : امتدّ ظلامه ، قاله ابن الأعرابي.

قوله عزوجل : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) وقرأ عمر بن الخطّاب ، وأنس ، وعروة ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وأبو حاتم عن يعقوب «ما ودعك» بتخفيف الدال. وهذا جواب القسم. قال أبو عبيدة : «ما ودّعك» من التوديع كما يودّع المفارق ، و«ما ودعك» مخفّفة من ودعه يدعه (وَما قَلى) أي : أبغض.

قوله عزوجل : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) قال عطاء ، أي خير لك من الدنيا. وقال غيره : الذي لك في الآخرة أعظم ممّا أعطاك من كرامة الدنيا.

قوله عزوجل : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) في الآخرة من الخير (فَتَرْضى) بما تعطى. قال عليّ

____________________________________

والطبري ٣٧٥٠٥ والطبراني ١٧١٠ و ١٧١١ وأحمد ٤ / ٣١٢ والبيهقي ٣ / ١٤ من طريقين عن الأسود بن قيس به. وفي الباب أحاديث ، وهذا الحديث أصحها إسنادا وأحسنها متنا.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٢٢ : وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه : والليل إذا سكن بأهله ، وثبت بظلامه ، كما يقال : بحر ساج أي ساكنا.


والحسن : هو الشفاعة في أمّته حتى يرضى.

(١٥٤٠) قال ابن عباس : عرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يفتح على أمّته من بعده كفرا كفرا ، فسرّ بذلك ، فأنزل الله عزوجل : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

قوله عزوجل : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) فيه قولان : أحدهما : جعل لك مأوى إذ ضمّك إلى عمّك أبي طالب ، فكفاك المؤونة ، قاله مقاتل. والثاني : جعل لك مأوى لنفسك أغناك به عن كفالة أبي طالب ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فيه ستة أقوال : أحدها : ضالا عن معالم النّبوة ، وأحكام الشريعة ، فهداك إليها ، قاله الجمهور منهم الحسن ، والضّحّاك. والثاني : أنه ضلّ وهو صبيّ صغير في شعاب مكّة ، فردّه الله إلى جدّه عبد المطّلب ، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس. والثالث : أنه لمّا خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته ، فعدل به عن الطريق ، فجاء جبريل ، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة ، وردّه إلى القافلة ، فمنّ الله عليه بذلك ؛ قاله سعيد بن المسيّب. والرابع : أنّ المعنى : ووجدك في قوم ضلّال ، فهداك للتوحيد والنّبوة ، قاله ابن السّائب. والخامس : ووجدك نسيا ، فهداك إلى الذّكر. ومثله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (١) قاله ثعلب. والسادس : ووجدك خاملا لا تذكر ولا تعرف ، فهدى الناس إليك حتى عرفوك ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، ومحمّد بن عليّ التّرمذيّ.

قوله عزوجل : (وَوَجَدَكَ عائِلاً) قال أبو عبيدة : أي : ذا فقر. وأنشد :

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغنيّ متى يعيل (٢)

أي : يفتقر. قال ابن قتيبة : العائل : الفقير ، كان له عيال ، أو لم يكن يقال : عال الرجل : إذا افتقر. وأعال : إذا كثر عياله.

وفي قوله : (فَأَغْنى) قولان : أحدهما : أرضاك بما أعطاك من الرّزق ، قاله ابن السّائب ، واختاره الفرّاء فقال : لم يكن غناه عن كثرة المال ، ولكنّ الله رضّاه بما آتاه. والثاني : فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب ، قاله جماعة من المفسّرين.

قوله عزوجل : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) فيه قولان : أحدهما : لا تحقر ، قاله مجاهد. والثاني : لا تقهره على ماله ، قاله الزّجّاج.

____________________________________

(١٥٤٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٧٥١٣ من طريق الأوزاعي يحدث عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، وإسناده ضعيف الأوزاعي لم يسمعه من إسماعيل كما يدل على ذلك عبارة الراوي عنه ، وكرره ٣٧٥١٤ وفيه رواد بن الجراح ضعيف.

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٥٧٦ عن ابن عباس مرفوعا ، وإسناده ضعيف فيه معاوية بن أبي العباس مجهول ، والموقوف أصح من المرفوع ، فالخبر لا يصح مرفوعا ولا موقوفا. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٧٤٦ بتخريجنا.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) البيت لأحيحة بن الجلاح الأوسي ، وهو في «جمهرة أشعار العرب» ١٢٥ و«اللسان» ـ عيل ـ.


قوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ) فيه قولان : أحدهما : سائل البرّ ، قاله الجمهور. والمعنى : إذا جاءك السائل ، فإمّا أن تعطيه ، وإمّا أن تردّه ردّا ليّنا. ومعنى (فَلا تَنْهَرْ) لا تنهره ، يقال : نهره وانتهره : إذا استقبله بكلام يزجره. والثاني : أنه طالب العلم ، قاله يحيى بن آدم في آخرين.

قوله عزوجل : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) في النّعمة ثلاثة أقوال : أحدها : النبوّة. والثاني : القرآن ، رويا عن مجاهد. والثالث : أنها عامّة في جميع الخيرات ، وهذا قول مقاتل.

(١٥٤١) وقد روي عن مجاهد قال : قرأت على ابن عباس. فلمّا بلغت «والضّحى» قال : كبّر إذا ختمت كلّ سورة حتى تختم. وقرأت على أبيّ بن كعب فأمرني بذلك.

(١٥٤٢) قال عليّ بن أحمد النّيسابوريّ : ويقال : إنّ الأصل في ذلك أنّ الوحي لمّا فتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال المشركون : قد هجره شيطانه وودعه ، اغتمّ لذلك ، فلمّا نزل «والضّحى» كبّر عند ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرحا بنزول الوحي ، فاتّخذه الناس سنّة.

____________________________________

(١٥٤١) ضعيف جدا. وله علتان ، ابن أبي بزة ، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله ضعيف منكر الحديث ، وشيخه عكرمة مجهول ، لم يرو عنه غيره ، ولم يوثقه أحد ، وذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» ٧ / ١١ من غير جرح أو تعديل ، حتى ابن حبان لم يدخله في الثقات. أخرجه الحاكم ٣ / ٣٠٥ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥١٤ والذهبي في «الميزان» ١ / ١٤٥ / ٥٦٤ والبغوي في «التفسير» ٢٣٦٢ بترقيمنا. كلهم من طريق أحمد البزي به. وقال الذهبي في «الميزان» في البزي : إمام في القراءة ثبت ، ثم ذكر له حديثا غير هذا فقال : قال أبو حاتم : هذا حديث باطل. وقال العقيلي : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم ضعيف الحديث ، لا أحدث عنه ـ وقال ابن أبي حاتم : روى حديثا منكرا. ثم أسند الذهبي هذا الحديث ، وقال : هذا حديث غريب ، وهو مما أنكر على البزي ، قال أبو حاتم : هذا حديث منكر. وقال العقيلي في «الضعفاء» ١ / ١٢٧ : منكر الحديث ، يوصل الأحاديث.

قلت : وعكرمة بن سليمان مجهول كما تقدم ، لم يوثقه أحمد ، ولا روى عنه سوى البزي ، وهو ضعيف ، فيزيد هذا من جهالته. وقال الحافظ ابن كثير رحمه‌الله ٤ / ٦٢٠ : أحمد البزي ضعفه أبو حاتم ، لكن ورد عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة ، فقال : أحسنت ، وأصبت السنة حكاه أبو شامة المقدسي ، في «شرح الشاطبية» ، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. كذا قال رحمه‌الله؟!! ولعل هذا لا يصح عن الشافعي ، فإن خبرا واهيا ، لا يصلح للاحتجاج به ، وبخاصة إدخال شيء في الصلاة ، ليس منها ، والدليل على عدم صحته عن الشافعي ، أنه ليس في مذهب الشافعية تكبير في الصلاة عند الانتقال من سورة إلى سورة بعد الضحى ، والأشبه أن هذه السنة هي سنة عكرمة بن سليمان ذاك الشيخ المجهول ، فحملها عنه البزي ، ثم حملها عنه آخرون. ولو ثبت هذا عند الشافعي لرواه في المسند أو السنن أو الأم ، بل لو صح هذا لرواه الأئمة الستة وغيرهم لاشتهاره ، والصواب أن هذا سنة شيخ مجهول ، والله أعلم.

والخلاصة : الإسناد ضعيف ، والمتن منكر كما قال أبو حاتم وغيره ، وهذا مما ينبغي أن يشتهر لو صح ، فلما لم يرو إلا بهذا الطريق علم أنه شبه موضوع.

(١٥٤٢) تقدم أن هذا الحديث صحيح دون ذكر التكبير ، انظر الحديث رقم ١٥٣٩ ولا أصل له بهذا اللفظ ـ قال ابن كثير رحمه‌الله ٤ / ٦٢١ : لم يرو ذلك بإسناد وقد مضى في الذي قبله ، الكلام على التكبير مما يغني عن الإعادة هنا.


سورة الشرح

وهي مكّيّة بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) الشّرح : الفتح بإذهاب ما يصدّ عن الإدراك. والله تعالى فتح صدر نبيّه للهدى والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصدّ (١) عن إدراك الحقّ. ومعنى هذا الاستفهام التقرير ، أي : فعلنا ذلك (٢) (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي : حططنا عنك إثمك الذي سلف في الجاهلية ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والضّحّاك ، والفرّاء ، وابن قتيبة في آخرين. وقال الزّجّاج : المعنى : أنه غفر ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال ابن قتيبة : وأصل الوزر : ما حمله الإنسان على ظهره ، فشبّه بالحمل فجعل مكانه. وبمعنى (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أثقله حتى سمع نقيضه ، أي : صوته. وهذا مثل ، يعني : أنه لو كان حملا يحمل لسمع نقيض الظّهر منه. وذهب قوم إلى أنّ المراد بهذا تخفيف أعباء النّبوة التي يثقل القيام بها الظّهر ، فسهّل الله له ذلك حتى تيسّر عليه الأمر. وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى.

قوله عزوجل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) فيه خمسة أقوال :

(١٥٤٣) أحدها : ما روى أبو سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية ،

____________________________________

(١٥٤٣) ضعيف. أخرجه أبو يعلى ١٣٨٠ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥١٦ من طريق ابن لهيعة به. وإسناده واه ، فيه ـ

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٢٤ ـ ٦٢٥ : يقول تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ، يعني أما شرحنا لك صدرك؟ أي نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٣٣ : والصواب من القول في ذلك عندنا ، قول من قال : التين : هو التين الذي يؤكل ، والزيتون : هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت ، لأن ذلك معروف عند العرب ، إلا أن يقول قائل : أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون ، والمراد من الكلام : القسم بمنابت التين ، ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا ، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة في ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوز خلافه ، لأن دمشق هي منابت التين ، وبيت المقدس منابت الزيتون.


فقال : قال الله عزوجل : إذا ذكرت ذكرت معي. قال قتادة : فليس خطيب ، ولا متشهّد ، ولا صاحب صلاة إلّا يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله ، وهذا قول الجمهور.

والثاني : رفعنا لك ذكرك بالنّبوة ، قاله يحيى بن سلام. والثالث : رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا ، حكاه الماورديّ. والرابع : رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء. والخامس : بأخذ الميثاق لك على الأنبياء ، وإلزامهم الإيمان بك ، والإقرار بفضلك ، حكاهما الثّعلبيّ.

قوله عزوجل : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ضمّ سين «العسر» وسين «اليسر» أبو جعفر و«العسر» مذكور في الآيتين بلفظ التعريف. و«اليسر» مذكور بلفظ التنكير ، فدلّ على أنّ العسر واحد ، واليسر اثنان. قال ابن مسعود ، وابن عباس في هذه الآية : لن يغلب عسر يسرين. قال الفرّاء : العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين ، كقولك : إذا كسبت درهما فأنفق درهما ، فالثاني غير الأول ، وإذا أعادتها معرفة ، فهي من قولك : إذا كسبت درهما فأنفق الدّرهم ، فالثاني هو الأول. ونحو هذا قال الزّجّاج : ذكر العسر بالألف واللام ، ثم ثنّى ذكره ، فصار المعنى : إنّ مع العسر يسرين. وقال الحسين بن يحيى الجرجانيّ ـ ويقال له : صاحب النّظم ـ : معنى الكلام : لا يحزنك ما يعيّرك به المشركون من الفقر «فإنّ مع العسر يسرا» عاجلا في الدنيا ، فأنجزه بما وعده الله ، بما فتح عليه ، ثم ابتدأ فصلا آخر فقال : «إنّ مع العسر يسرا» والدليل على ابتدائه تعرّيه من الفاء والواو ، وهو وعد لجميع المؤمنين أي إنّ مع عسر المؤمنين يسرا في الآخرة ، فمعنى قولهم : لن يغلب عسر يسرين : لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا ، واليسر الذي وعدهم في الآخرة ، إنما يغلب أحدهما ، وهو يسر الدنيا. فأمّا يسر الآخرة ، فدائم لا ينقطع ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(١٥٤٤) «شهرا عيد لا ينقصان» ، أي : لا يجتمعان في النّقص. وحكي عن العتبي قال : كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغمّ ، فألقي في روعي بيت من الشعر ، فقلت :

أرى الموت لمن أصبح

مغموما له أروح

فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفا يهتف :

ألا يا أيّها المرء الذي

الهمّ به برّح

وقد أنشد بيتا لم

يزل في فكره يسبح

إذا اشتدّ بك العسر

ففكّر في «ألم نشرح»

فعسر بين يسرين

إذا أبصرته فافرح

فحفظت الأبيات وفرّج الله غمّي.

______________________________________

ابن لهيعة ضعيف ، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف أيضا. وأخرجه الطبري ٣٧٥٣٢ وابن حبان ٣٣٨٢ من طريق عمرو بن الحارث عن دراج به. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٨ / ٢٤٥ وقال : رواه أبو يعلى وإسناده حسن.

كذا قال؟! مع أن في إسناد أبي يعلى ابن لهيعة ، ودراج.

(١٥٤٤) صحيح. أخرجه البخاري ١٩١٢ ومسلم ١٠٨٩ وأبو داود ٢٣٢٣ والترمذي ٦٩٢ وابن ماجة ١٦٥٩ وأحمد ٥ / ٣٨ و ٤٧ و ٤٨ والطيالسي ٨٦٣ والطحاوي ٢ / ٥٨ وابن حبان ٣٢٥ والبيهقي ٤ / ٢٥٠ من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا.


قوله عزوجل : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي : فادأب في العمل ، وهو من النّصب ، والنّصب : التعب ، الدّؤوب في العمل. وفي معنى الكلام ستة أقوال أحدها : فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، قاله ابن مسعود. والثاني : فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، ومقاتل. والثالث : فإذا فرغت من جهالة عدوّك فانصب لعبادة ربّك ، قاله الحسن وقتادة. والرابع : فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك ، قاله مجاهد. والخامس : فإذا فرغت من التشهّد فادع لدنياك وآخرتك ، قاله الشّعبيّ والزّهريّ. والسادس : إذا صحّ بدنك فاجعل صحتك نصبا في العبادة ، ذكره عليّ بن أبي طلحة.

قوله (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال الزّجّاج : اجعل رغبتك إلى الله عزوجل وحده.


سورة التّين

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله الجمهور ، منهم الحسن ، وعطاء. والثاني : أنها مدنيّة ، حكاه الماورديّ عن ابن عباس ، وقتادة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

قوله عزوجل : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) فيها سبعة أقوال (١) : أحدها : أنه التين المعروف ، والزيتون المعروف ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وإبراهيم. وذكر بعض المفسّرين أنه إنما أقسم بالتين لأنها فاكهة مخلّصة من شائب التّنغيص ، وهو يدل على قدرة من هيّأه على تلك الصفة ، وجعل الواحد منه على مقدار اللّقمة ، وإنما أقسم بالزيتون لكثرة الانتفاع به. والثاني : أنّ التين : مسجد نوح الذي بني على الجودي. والزيتون : بيت المقدس ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والثالث : التين : المسجد الحرام ، والزيتون : المسجد الأقصى ، قاله الضّحّاك. والرابع : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : بيت المقدس ، قاله كعب ، وقتادة ، وابن زيد. والخامس : أنهما جبلان ، قاله عكرمة في رواية. وروي عن قتادة قال : التين : الجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون : الجبل الذي عليه بيت المقدس. والسادس : أنّ التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد إيلياء ، قاله القرظيّ. والسابع : أنّ التين : جبال ما بين حلوان إلى همذان ، والزيتون : جبال الشام ، حكاه الفرّاء. فأمّا (وَطُورِ سِينِينَ) فالطّور : جبل. وفيه قولان (٢) : أحدهما : أنه الجبل الذي كلّم الله موسى عليه ، قاله كعب الأحبار في الأكثرين. والثاني : أنه جبل بالشام ، قاله قتادة.

فأمّا (سِينِينَ) فهو لغة في سيناء. وقد قرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأبو العالية ، وأبو مجلز «وطور سيناء» ممدودة مهموزة ، مفتوحة السين. وقرأ ابن مسعود ،

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٣٤ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : طور سينين : جبل معروف ، لأن الطول هو جبل ذو النبات ، فإضافته إلى سينين تعريف له ، ولو كان نعتا للطور كما قال من قال : معناه : حسن أو مبارك لكان الطور منونا ، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك.


وأبو الدّرداء ، وأبو حيوة «وطور سيناء» مثلهم إلّا أنهم كسروا السين. وقرأ أبو رجاء ، والجحدريّ «سينين» كما في القرآن ، لكنّهما فتحا السين. وقال ابن الأنباري : «سينين» هو سيناء.

واختلفوا في معناه ؛ فقيل : معناه : الحسن. وقيل : المبارك. وقيل : إنه اسم للشجر الذي حوله. وقد شرحنا هذا في سورة المؤمنون (١) قال الزّجّاج : وقد قرئ هاهنا «وطور سيناء» وهو أشبه لقوله عزوجل : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ). وقال مقاتل : كلّ جبل فيه شجر مثمر فهو سينين ، وسيناء بلغة النّبط.

قوله عزوجل : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) يعني : مكّة يأمن فيه الخائف في الجاهلية ، والإسلام (٢). قال الفرّاء : ومعنى «الأمين» الآمن. والعرب تقول للآمن : أمين.

قال الشاعر :

ألم تعلمي يا أسم ويحك أنّني

حلفت يمينا لا أخون أميني

يريد آمني.

قوله عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) هذا جواب القسم. وفي المراد بالإنسان هاهنا خمسة أقوال (٣) : أحدها : أنه كلدة بن أسيد ، قاله ابن عباس. والثاني : الوليد بن المغيرة ، قاله عطاء. والثالث : أبو جهل بن هشام. والرابع : عتبة ، وشيبة ، حكاهما الماورديّ. والخامس : أنه اسم جنس ، وهذا مذهب كثير من المفسّرين ، وهو معنى قول مقاتل.

قوله عزوجل : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فيه أربعة أقوال (٤) : أحدها : في أعدل خلق. والثاني : منتصب القامة ، رويا عن ابن عباس. والثالث : في أحسن صورة ، قاله أبو العالية. والرابع : في شباب وقوة ، قاله عكرمة.

قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) فيه قولان (٥) : أحدهما : إلى أرذل العمر ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وإبراهيم ، وقتادة. وقال الضّحّاك : إلى الهرم بعد الشباب ، والضّعف بعد

__________________

(١) المؤمنون : ٢٠.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٢٨ : وقال بعض الأئمة : هذه محال ثلاثة ، بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار ، فالأولى محلة التين والزيتون ، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى عليه‌السلام والثاني : طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه‌السلام والثالث : مكة : وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا ، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) والقول الخامس هو الصواب : أنه اسم جنس ولم يكن المراد منه إنسان باسمه.

(٤) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٣٨ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن معنى ذلك. لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأعدلها ، لأن قوله : (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) إنما هو نعت لمحذوف ، وهو في تقويم أحسن تقويم ، فكأنه قيل : لقد خلقناه في تقويم أحسن تقويم.

(٥) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٢٨ : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : إلى أرذل العمر. روي هذا عن ابن عباس وعكرمة ، واختاره ابن جرير الطبري ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ، لأن الهرم قد يصيب بعضهم إنما المراد (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إلى النار ، كقوله (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).


القوّة. والسّافلون : هم الضعفاء ، والزّمنى ، والأطفال ، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا ، قال الفرّاء : وإنما قال : «سافلين» على الجمع ، لأنّ الإنسان في معنى جمع. تقول : هذا أفضل قائم ، ولا تقول : قائمين ، لأنك تريد واحدا ، فإذا لم ترد واحدا ذكرته بالتوحيد وبالجمع. والثاني : إلى النّار ، قاله الحسن ، وأبو العالية ، ومجاهد. والمعنى : إنّا نفعل هذا بكثير من الناس. تقول العرب : أنفق فلان ماله على فلان ، وإنما أنفق بعضه ، ومثله قوله عزوجل : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١) لم يرد كلّ ماله. ثم استثنى من الإنسان فقال عزوجل : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ معنى الإنسان الكثير. وللمفسّرين في معنى الاستثناء قولان : أحدهما : إلّا الذين آمنوا ، فإنهم لا يردّون إلى الخرف ، وأرذل العمر وإن عمّروا طويلا ، وهذا على القول الأول. قال ابن عباس : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. وقال إبراهيم النّخعي : إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل ، وهو قوله عزوجل : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) وقال ابن قتيبة : المعنى : إلّا الذين آمنوا في وقت القوّة والقدرة ، فإنهم في حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات ، لأنّ الله عزوجل يعلم أنه لو لم يسلبهم القوّة لم ينقطعوا عن أفعال الخير ، فهو يجري لهم أجر ذلك. والثاني : إلّا الذين آمنوا ، فإنهم لا يردّون إلى النّار. وهذا على القول الثاني. وقد شرحنا معنى «الممنون» في «ن» (٢).

قوله عزوجل : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) فيه قولان : أحدهما : فما يكذّبك أيّها الإنسان بعد هذه الحجّة «بالدّين» أي : ما الذي يجعلك مكذّبا بالجزاء؟! ، وهذا توبيخ للكافر ، وهو معنى قول مقاتل. وزعم أنها نزلت في عديّ بن ربيعة. والثاني : فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبيّن له خلقنا الإنسان على ما وصفنا ، قاله الفرّاء. فأمّا «الدّين» فهو الجزاء. والمشار إليه بذكره إلى البعث ، كأنه استدلّ بتقلّب الأحوال على البعث.

قوله عزوجل : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي : بأقضى القاضين. قال مقاتل : يحكم بينك وبين مكذّبيك. وذكر بعض المفسّرين : أنّ معنى هذه الآية تسليته في تركهم والإعراض عنهم. ثم نسخ هذا المعنى بآية السيف.

__________________

(١) الليل : ١٨.

(٢) ن : ٣.


سورة العلق

وتسمّى : سورة القلم ، وسورة اقرأ ، وهي مكّيّة بإجماعهم. وهي أول ما نزل من القرآن. وقيل : إنما أنزل عليه في أول الوحي خمس آيات منها ، ثم نزل باقيها في أبي جهل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

قوله تعالى : (اقْرَأْ) قرأ أبو جعفر بتخفيف الهمزة في الحرفين. قال أبو عبيدة : المعنى : «اقرأ اسم ربّك» والباء زائدة.

وقال المفسّرون : المعنى : اذكر اسمه مستفتحا به قراءتك. وإنما قال عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ) لأنّ الكفار كانوا يعلمون أنه الخالق دون أصنامهم. والإنسان هاهنا : ابن آدم. والعلق : جمع علقة ، وقد بيّنّاها في سورة الحجّ (١) قال الفرّاء : لمّا كان الإنسان في معنى الجمع جمع العلق مع مشاكلة رؤوس الآيات ..

قوله تعالى : (اقْرَأْ) تكرير للتأكيد. ثم استأنف فقال عزوجل : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) قال الخطّابي : الأكرم : الذي لا يوازيه كريم ، ولا يعادله في الكرم نظير. وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم ، كما جاء الأعزّ والأطول ، بمعنى العزيز والطّويل. وقد سبق تفسير الكريم.

قوله عزوجل : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي : علّم الإنسان الكتابة بالقلم (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) من الخطّ ، والصّنائع ، وغير ذلك. وقيل : المراد بالإنسان هاهنا : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

قوله عزوجل : (كَلَّا) أي : حقّا. وقال مقاتل : (كَلَّا) لا يعلم أنّ الله علّمه. ثم استأنف فقال

__________________

(١) مضى في أول سورة الحج.


عزوجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) يعني : أبا جهل. وكان إذا أصاب مالا أشر وبطر في ثيابه ، ومراكبه ، وطعامه قوله : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) قال ابن قتيبة : أي : أن رأى نفسه استغنى. و«الرّجعى» المرجع.

قوله عزوجل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) معنى : أرأيت : تعجيب المخاطب ، وإنما كرّرها للتأكيد والتّعجيب. والمراد بالناهي هاهنا : أبو جهل.

(١٥٤٥) قال أبو هريرة : قال أبو جهل : هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم. قال : فبالّذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقال له : ها هو ذاك يصلّي. فانطلق ليطأ على رقبته ، فما فجأهم إلّا وهو ينكص على عقبيه ، ويتّقي بيديه ، فأتوه ، فقالوا : ما لك يا أبا الحكم؟ فقال : إنّ بيني وبينه خندقا من نار ، وهولا وأجنحة. وقال نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» ، فأنزل الله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) إلى آخر السّورة.

(١٥٤٦) وقال ابن عباس : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ، فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا؟! فانصرف إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزبره (١) ، فقال أبو جهل : والله إنك لتعلم ما بها ناد أكثر منّي ، فأنزل الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال ابن عباس : والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله.

قال المفسّرون : والمراد بالعبد هاهنا : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : كانت الصلاة صلاة الظّهر.

قوله عزوجل : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) يعني المنهي وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يعني : النّاهي ، وهو أبو جهل ، قال الفرّاء : والمعنى : أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلّى ، وهو كاذب متولّ عن الذّكر ، وأيّ شيء أعجب من هذا؟! وقال ابن الأنباري : تقديره : أرأيته مصيبا.

قوله عزوجل : (أَلَمْ يَعْلَمْ) يعني أبا جهل (بِأَنَّ اللهَ يَرى) ذلك فيجازيه (كَلَّا) أي : لا يعلم ذلك (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عن تكذيب محمّد وشتمه وإيذائه (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) السّفع : الأخذ ، والنّاصية : مقدّم شعر الرأس. قال أبو عبيدة : يقال : سفعت بيده ، أي : أخذت بها. وقال الزّجّاج : يقال : سفعت بالشيء : إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. والمعنى : لنجرّنّ ناصيته إلى النّار.

____________________________________

(١٥٤٥) صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٩٧ والبغوي في «التفسير» ٢٣٧٢ من طريق عبيد الله بن معاذ ومحمد بن الأعلى القيسي من حديث أبي هريرة.

وأخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٦٨٣ وأحمد ٢ / ٣٧٠ وابن حبان ٦٥٧١ والبيهقي ٢ / ١٩ وأبو نعيم في «الدلائل» ١٥٨ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥٢٩ من طرق عن معتمر بن سليمان به. وأخرجه الطبري ٣٧٦٨٧ من طريق ابن ثور عن أبيه عن نعيم بن أبي هند به.

(١٥٤٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٥٨ وعبد الرزاق في «التفسير» ٣٦٦٠ والطبري ٣٧٦٨٩ من حديث ابن عباس.

__________________

(١) فزبره : نهره وأغلظ عليه. قلت : وما زالت هذه الآية التي نزلت في شأن أبي جهل مستمرة شاملة لكل من يمنع الصلاة بأي شكل من الأشكال ، سواء كانت بالقوة ، أو بمجرد تخويف ، أو تهديد وسواء كان في الأماكن العامة أو بالأماكن الخاصة ، وسواء كان مباشر ، أو بصورة غير مباشرة ، فهؤلاء كلهم آباء جهل وهم أشد الناس عذابا يوم القيامة إذ لا يعبدون الله ، وإذا عبدوا كانوا يراءون الناس ، ومع ذلك يصدون عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. نسأل الله السلامة ، وحسن الختام.


قوله عزوجل : (ناصِيَةٍ) قال أبو عبيدة : هي بدل ، فلذلك جرّها. قال الزّجّاج : والمعنى : بناصية صاحبها كاذب خاطئ ، كما يقال : نهاره صائم ، وليله قائم ، أي : هو صائم في نهاره ، قائم في ليله (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي : أهل ناديه ، وهم أهل مجلسه فليستنصرهم (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال عطاء : هم الملائكة الغلاظ الشّداد ، وقال مقاتل : هم خزنة جهنّم. وقال قتادة : الزّبانية في كلام العرب : الشّرط. قال الفرّاء : كان الكسائيّ يقول : لم أسمع للزّبانية بواحد ، ثم قال بأخرة : واحد الزّبانية : زبنيّ ، فلا أدري أقياسا منه أو سماعا. وقال أبو عبيدة : واحد الزّبانية : زبنية ، وهو كلّ متمرّد من إنس ، أو جان. يقال : فلان زبنية عفرية. قال ابن قتيبة : وهو مأخوذ من الزّبن ، وهو الدّفع ، كأنهم يدفعون أهل النّار إليها. وقال ابن دريد : الزّبن : الدّفع. يقال : ناقة زبون : إذا زبنت حالبها. ودفعته برجلها. وتزابن القوم : تدارؤوا. واشتقاق الزّبانية من الزّبن. والله أعلم.

قوله عزوجل : (كَلَّا) أي : ليس الأمر على ما عليه أبو جهل (لا تُطِعْهُ) في ترك الصلاة (وَاسْجُدْ) أي : صلّ لله (وَاقْتَرِبْ) إليه بالطاعة ، وهذا قول الجمهور أنّ قوله عزوجل : (وَاقْتَرِبْ) خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد قيل : إنه خطاب لأبي جهل : ثم فيه قولان : أحدهما : أن المعنى : اسجد أنت يا محمّد ، واقترب أنت يا أبا جهل إلى النّار ، قاله زيد بن أسلم. والثاني : واقترب يا أبا جهل تهدّدا له ، رواه أبو سليمان الدّمشقي عن بعض القدماء وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي قدّمناه.

(١٥٤٧) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدّعاء».

____________________________________

(١٥٤٧) صحيح. أخرجه مسلم ٤٨٢ والنسائي ٢ / ٢٢٦ وأحمد ٢ / ٤٢١ وأبو يعلى ٦٦٥٨ وابن حبان ١٩٢٨ وأبو عوانة ٢ / ١٨٠ والبيهقي ٢ / ١١٠ من طرق عن ابن وهب به. من حديث أبي هريرة. وأخرجه أبو داود ٨٧٥ عن أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو ، ومحمد بن سلمة به. وأخرجه البغوي في «شرح السنة» ٦٥٩ وفي «التفسير» ٢٣٧٣ من طريق أبي داود سليمان بن الأشعث به.


سورة القدر

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنها مدنيّة ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل. قال الماورديّ : الأول قول الأكثرين. وقال الثّعلبي : الثاني قول الأكثرين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

قوله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) يعني : القرآن (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وذلك أنه أنزل جملة في تلك الليلة إلى بيت العزّة ، وهو بيت في السماء الدنيا. وقد ذكرنا هذا الحديث في أول كتابنا. والهاء في «إنا أنزلناه» كناية عن غير مذكور. وقال الزّجّاج : قد جرى ذكره في قوله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ).

فأمّا (لَيْلَةُ الْقَدْرِ) ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال : أحدها : أنّ القدر : العظمة ، من قولك : لفلان قدر ، قاله الزّهري. ويشهد له قوله عزوجل : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١). والثاني : أنه من الضّيق ، أي : هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون ، قاله الخليل بن أحمد ، ويشهد له قوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (٢). والثالث : أنّ القدر : الحكم كأن الأشياء يقدّر فيها ، قاله ابن قتيبة. والرابع : لأنّ من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر ، قاله أبو بكر الورّاق. والخامس : لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر ، وتنزل فيها رحمة ذات قدر ، وملائكة ذوو قدر ، حكاه شيخنا عليّ بن عبيد الله.

فصل (٣) : اختلف العلماء هل ليلة القدر باقية ، أم كانت في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة؟ والصحيح بقاؤها.

__________________

(١) الأنعام : ٩١ ، والزمر : ٦٧.

(٢) الطلاق : ٧.

(٣) قال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٣٣ ، في الصحيح فيها وترجيح سبل النظر الموصلة إلى الحق منها : أنا نقول : إن الله تبارك وتعالى قال : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) فأفاد هذا بمطلقه ، لو لم يكن كلام سواه ، أنها في العام كله ، لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فأنبأنا الله أنه أنزله في ليلة من العام ، فقلنا : من يقم الحول يصب ليلة القدر ، ثم نظرنا إلى قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فأفادنا ذلك أن تلك الليلة هي من شهر رمضان ، ثم أخبر في الصحيح أنها في العشر الأواخر ، وتواطأت روايات الصحابة على أنها في العشر الأواخر ، وخبأها عن التعيين ليكون ذلك أبرك على الأمة في القيام في طلبها شهرا أو أياما ، فيحصل مع ليلة القدر ثواب غيرها ، فهذه سبل النظر المجتمعة من القرآن والحديث أجمع ـ على ما سيأتي ـ فتبصروها لمما ، واسلكوها أمما إن شاء الله.


وهل هي في جميع السّنة ، أم في رمضان؟ وفيه قولان : أحدهما : في رمضان ، قاله الجمهور والثاني : في جميع السّنة ، قاله ابن مسعود.

واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختصّ ببعضه دون بعض؟ على قولين : أحدهما : أنها في العشر الأواخر ، قاله الجمهور ، وأكثر الأحاديث الصّحاح تدلّ عليه.

(١٥٤٨) وقد روى البخاريّ في أفراده من حديث ابن عباس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، في تاسعة تبقى ، أو سابعة تبقى ؛ أو في خامسة تبقى».

(١٥٤٩) وفي حديث أبي بكرة قال : ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلّا في العشر الأواخر ، فإني سمعته يقول : «التمسوها في تسع يبقين ، أو سبع يبقين ، أو خمس يبقين ، أو ثلاث يبقين ، أو آخر ليلة».

والقول الثاني : أنها في جميع رمضان ، قاله الحسن البصري.

واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختصّ ليالي الوتر دون الشّفع؟ على قولين :

أحدهما : أنها تختصّ الأفراد ، قاله الجمهور. والأحاديث الصّحاح كلّها تدلّ عليه.

(١٥٥٠) وقد أخرج البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها».

والثاني : أنها تكون في الشّفع كما تكون في الوتر ، قاله الحسن. وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا : هي ليلة ثماني عشرة.

واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخصّ الليالي بها على خمسة أقوال : أحدها : أنّ الاخصّ بها ليلة إحدى وعشرين.

(١٥٥١) فروى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري قال : اعتكف

____________________________________

(١٥٤٨) صحيح. أخرجه البخاري ٢٠٢١ من حديث ابن عباس ولم أره بهذا اللفظ لا في الموطأ ولا في مسلم.

ـ وانظر الحديث الآتي عن أبي سعيد الخدري.

(١٥٤٩) صحيح. أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥٣٥ ـ ٥٣٦ من طريق عبد الله بن حامد بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي ٧٩٤ والحاكم ١ / ٤٣٨ وأحمد ٥ / ٣٦ و ٣٩ و ٤٠ وابن خزيمة ٢١٧٥ والطيالسي ٨٨١ والبيهقي في «الشعب» ٣٦٨١ من حديث أبي بكرة ، وإسناده صحيح.

(١٥٥٠) صحيح. أخرجه البخاري ٢٠٢٧ وأبو داود ١٣٨٢ وابن خزيمة ٢٢٤٣ وابن حبان ٣٦٧٣ والبيهقي ٤ / ٣٠٩ من طرق عن مالك به. من حديث أبي سعيد. وأخرجه البخاري ٢٠١٨ من طريق ابن أبي حازم والدراوردي عن يزيد به. وأخرجه مسلم ١١٦٧ ح ٢١٥ وابن خزيمة ٢١٧١ وابن حبان ٣٦٨٤ والبيهقي ٤ / ٣١٤ ـ ٣٠٥ من طريق عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم به. وأخرجه البخاري ٢٠٤٠ وأحمد ٣ / ٧ و ٢٤ والحميدي ٧٥٦ من طرق عن أبي سلمة به. وأخرجه البخاري ٦٦٩ و ٨١٣ و ٢٠١٦ ومسلم ١١٦٧ ح ٢١٦ وأحمد ٣ / ٦٠ و ٧٤ و ٩٤ والطيالسي ٣١٨٧ وعبد الرزاق ٨٦٨٥ وابن أبي شيبة ٣ / ٧٦ ـ ٧٧ ـ وابن حبان ٣٦٨٥ من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. وأخرجه مالك ١ / ٣١٩ والبغوي في «شرح السنة» ١٨١٩ عن يزيد بن عبد الله به.

(١٥٥١) هو الحديث المتقدم ١٥٥٠.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشر الأوسط واعتكفنا معه ، فلمّا أصبحنا صبيحة عشرين رجع ، ورجعنا معه ، وأري ليلة القدر ، ثم أنسيها ، فقال : «إنّي رأيت ليلة القدر ، ثم أنسيتها وأراني أسجد في ماء وطين ، فمن اعتكف فليرجع إلى معتكفه ، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشيّة ، وكان سقف المسجد عريشا من جريد ، فوكف المسجد فو الذي هو أكرمه ، وأنزل عليه الكتاب لرأيته يصلي بنا المغرب ليلة إحدى وعشرين ، وإنّ جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين ، وهذا مذهب الشّافعي.

والثاني : أنّ الأخصّ بها ليلة ثلاث وعشرين.

(١٥٥٢) وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ليلة ثلاث وعشرين : «اطلبوها الليلة».

(١٥٥٣) وروى ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين».

(١٥٥٤) وروى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن أنيس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أريت ليلة القدر ، ثم نسيتها ، وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين. قال : فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين ، فصلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبصرته وإنّ أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. قال : وكان عبد الله بن أنيس يقول : ليلة ثلاث وعشرين.

(١٥٥٥) والثالث : ليلة خمس وعشرين وروى هذا المعنى أبو بكرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والرابع : ليلة سبع وعشرين.

(١٥٥٦) روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من كان متحرّيا

____________________________________

(١٥٥٢) صحيح. أخرجه ابن ماجة ١٦٥٦ وأحمد ٢ / ٢٥١ وابن حبان ٢٥٤٨ والبيهقي ٤ / ٣١٠ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥٣٤ من حديث أبي هريرة ، وإسناده على شرط الشيخين.

(١٥٥٣) صحيح. أخرجه البخاري ٢٠١٥ ومسلم ١١٦٥ ح ٢٠٥ وابن حبان ٣٦٧٥ والبيهقي ٤ / ٣١٠ و ٣١١ من طرق عن مالك به ـ وأخرجه مالك ١ / ٣٣١ والبغوي في «شرح السنة» ١٨١٧ عن نافع به. وأخرجه البخاري ١١٥٨ وأحمد ٢ / ١٧ وعبد الرزاق ٧٦٨٨ وابن خزيمة ٢١٨٢ والبيهقي ٤ / ٣١٠ ـ ٣١١ من طريق عن نافع به. وأخرجه البخاري ٦٩٩١ ومسلم ١١٦٥ ح ٢٠٧ وأحمد ٢ / ٣٧ والدارمي ٢ / ٢٨ والبيهقي ٤ / ٣١١ من طريق الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به. وأخرجه ابن خزيمة ٢٢٢٢ من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به. وأخرجه مسلم ١١٦٥ ح ٢٠٨ وأحمد ٢ / ٨ و ٣٦ وعبد الرزاق ٧٦٨١ من طرق عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.

(١٥٥٤) صحيح. أخرجه مسلم ١١٦٨ وأبو داود ١٣٧٩ ومالك ١ / ٣٢٠ وأحمد ٣ / ٤٩٥ وعبد الرزاق في «المصنف» ٧٦٨٩ و ٧٦٩٠ و ٧٦٩٤ وابن نصر في «قيام رمضان» ٤٠ والطحاوي في «المعاني» ٣ / ٨٦ ـ ٩٠ والبيهقي ٤ / ٣٠٩ من حديث عبد الله بن أنيس. وأخرجه أبو داود ١٣٨٠ وابن نصر في «قيام رمضان» ٣٩ وابن خزيمة ٢٢٠٠ والبيهقي ٤ / ٣٠٩ والبغوي في «شرح السنة» ١٨٢٠ وفي «التفسير» ٤ / ٥١١ من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مرني بليلة من هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصليها فيه ، فقال : «انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه ...». ورجاله ثقات ، وابن إسحاق صرح بالتحديث. وانظر «أحكام القرآن» ٢٣٤٢ ـ ٢٣٤١.

(١٥٥٥) هو الحديث المتقدم برقم ١٥٤٩.

(١٥٥٦) صحيح. أخرجه مسلم ١١٦٥ ح ٢٠٧ وأحمد ٢ / ٢٧ من حديث ابن عمر. وانظر «فتح الباري» ٤ / ٢٦٤


فليتحرّها ليلة سبع وعشرين ، يعني : ليلة القدر ، وهذا مذهب عليّ وأبيّ بن كعب.

(١٥٥٧) وكان أبيّ يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، وبه قال ابن عباس ، وعائشة ، ومعاوية. واختاره أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

وروى ابن عباس : أنه استدلّ على ذلك بشيئين : أحدهما : أنه قال : إنّ الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف ، يشير إلى قوله عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ) الآيات (١). ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله عزوجل. (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) (٢) ثم يصلّي الجمعة على رأس سبعة أيام. وجعل السموات سبعا ، والأرضين سبعا ، والمثاني سبعا (٣) ، فلا أرى ليلة القدر إلّا ليلة السابعة. والثاني : أنه قال : قوله عزوجل : (سَلامٌ) هي الكلمة السابعة والعشرون ، فدلّ على أنها كذلك.

واحتجّ بعضهم فقال : ليلة القدر كرّرت في هذه السّورة ثلاث مرّات ، وهي تسعة أحرف ، والتسعة إذا كرّرت ثلاثا فهي سبع وعشرون ، وهذا تنبيه على ذلك.

والقول الخامس : أنّ الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان ، قاله أبو رزين العقيلي.

وروى أيّوب عن أبي قلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر.

فأمّا الحكمة في إخفائها فليتحقّق اجتهاد العباد في ليالي رمضان طمعا منهم في إدراكها ، كما أخفى ساعة الجمعة ، وساعة الليل ، واسمه الأعظم ، والصلاة الوسطى ، والوليّ في الناس.

قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) هذا على سبيل التعظيم والتّشوّق إلى خيرها.

قوله عزوجل : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال مجاهد : قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر ، وهذا قول قتادة ، واختيار الفرّاء ، وابن قتيبة ، والزّجّاج.

(١٥٥٨) وروى عطاء عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح

____________________________________

وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٤٢١.

(١٥٥٧) صحيح. أخرجه مسلم ٢ / ٨٢٨ ح ٢٢٠ والحميدي ٣٧٥ وابن خزيمة ٢١٩١ وابن حبان ٣٦٨٩ والبيهقي ٤ / ٣١٢ من طرق عن سفيان بن عيينة عن عبدة بن أبي لبابة ، وعاصم عن زر بن حبيش به.

وأخرجه مسلم ٧٦٢ ح ١٨٠ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥٣٥ من طرق شعبة عن عبدة بن أبي لبابة عن زر به مختصرا. وأخرجه أبو داود ١٣٧٨ والترمذي ٧٩٣ وعبد الرزاق ٧٧٠٠ وابن خزيمة ٢١٩٣ وابن حبان ٣٦٩١ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥٣٣. وأخرجه ابن أبي شيبة ٣ / ٧٦ من طريق أبي خالد وعامر الشعبي عن زر به.

وأخرجه مسلم ٧٦٢ ح ١٧٩ وابن حبان ٣٦٩٠ من طريق الأوزاعي عن عبدة عن زر به. وهم جميعا من حديث زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : يا أبا المنذر أخبرنا عن ليلة القدر ، فإن ابن مسعود عبد الله يقول : من يقم الحول يصبها فقال : رحم الله أبا عبد الرحمن ، أما إنه قد علم أنها في رمضان ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا. هي والذي أنزل القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة سبع وعشرين ، فقلنا : يا أبا المنذر أنى علمت هذا؟ قال : بالآية التي أخبرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحفظناها وعددناها هي والله لا تنس ، قال قلنا : وما الآية؟ قال : تطلع الشمس كأنها طاس ليس لها شعاع.

(١٥٥٨) ضعيف جدا. ذكره المصنف عن عطاء عن ابن عباس ولم أره عنه مسندا.

وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٦٤ والبيهقي في «الشعب» ٣٦٦٨ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن ـ

__________________

(١) المؤمنون : ١٢.

(٢) عبس : ٢٥.

(٣) الفاتحة : وهي سبع آيات.


على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ، وتمنّى أن يكون ذلك في أمّته ، فأعطاه الله ليلة القدر ، وقال : هي خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيليّ السلاح في سبيل الله عزوجل. وذكر بعض المفسّرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحقّ أن يقال له : عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها.

قوله عزوجل : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) (١) قال أبو هريرة : الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصا.

وفي «الرّوح» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه جبريل ، قاله الأكثرون.

(١٥٥٩) وفي حديث أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلّون ويسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزوجل.

والثاني : أنّ الرّوح : طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، قاله كعب ، ومقاتل بن حيّان.

والثالث : أنه ملك عظيم يفي بخلق من الملائكة ، قاله الواقديّ.

قوله عزوجل : (فِيها) أي : في ليلة القدر (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : بما أمر به وقضاه (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) قال ابن قتيبة : أي : بكلّ أمر. قال المفسّرون : يتنزّلون بكلّ أمر قضاه الله في تلك السّنة إلى قابل. وقرأ ابن عمر ، وابن عباس وأبو العالية ، وأبو عمرو الجونيّ «من كل امرئ» بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة منوّنة ، وبوصل اللام من غير همز.

ولهذه القراءة وجهان : أحدهما : من كلّ ملك سلام. والثاني : أن تكون «من» بمعنى «على» تقديره : على كلّ أمر من المسلمين سلام من الملائكة ، كقوله عزوجل : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) والقراءة الموافقة لخطّ المصحف هي الصواب. ويكون تمام الكلام عند قوله عزوجل «من كل أمر» ثم ابتدأ فقال عزوجل : (سَلامٌ هِيَ) أي : ليلة القدر سلام.

وفي معنى السّلام قولان : أحدهما : أنه لا يحدث فيها داء ولا يرسل فيها شيطان ، قاله مجاهد. والثاني : أنّ معنى السّلام : الخير والبركة ، قاله قتادة. وكان بعض العلماء يقول : الوقف على «سلام» على معنى تنزّل الملائكة بالسّلام.

____________________________________

كثير» ٤ / ٥٦٧ ، وهذا مرسل ، فهو واه. وأخرجه الطبري ٣٧٧١٣ عن مجاهد موقوفا عليه ، وهو أصح. الخلاصة : المرفوع واه ، والصواب عن أهل التفسير. وانظر «أحكام القرآن» ٢٣٣٧.

(١٥٥٩) ضعيف جدا. أخرجه البيهقي في «الزهد» ٣٧١٧ من حديث أنس بأتم منه ، وفيه صرح بن حوشب وهو متروك متهم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٣٤ : أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة ينزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.


قوله عزوجل : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة «مطلع» بفتح اللام. وقرأ الكسائيّ بكسرها. قال الفرّاء : والفتح أقوى في قياس العربية ، لأنّ المطلع بالفتح : الطّلوع ، وبالكسر : الموضع الذي تطلع منها ، إلّا أنّ العرب تقول : طلعت الشمس مطلعا ، بالكسر ، وهم يريدون المصدر ، كما تقول : أكرمتك كرامة ، فتجتزئ بالاسم من المصدر. وقد شرحنا هذا المعنى في «الكهف» (١) عند قوله عزوجل : (مَطْلِعَ الشَّمْسِ). شرحا كافيا ، ولله الحمد.

__________________

(١) الكهف : ٩.


سورة البيّنة

وتسمى سورة لم يكن (١). وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، قاله الجمهور. والثاني : مكّيّة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره يحيى بن سلام.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

قوله عزوجل : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني اليهود والنّصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) أي : ومن المشركين ، وهم عبدة الأوثان (مُنْفَكِّينَ) أي : منفصلين وزائلين ـ يقال : فككت الشيء ، فانفكّ ، أي : انفصل ـ والمعنى : لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) أي : أتتهم ، فلفظه لفظ المستقبل ، ومعناه الماضي. و (الْبَيِّنَةُ) الرّسول ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنه بيّن لهم ضلالهم وجهلهم. وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ معنى الآية : لم يختلفوا أنّ الله يبعث إليهم نبيّا حتى بعث فافترقوا. وقال بعضهم : لم يكونوا ليتركوا منفكّين عن حجج الله حتى أقيمت عليهم البيّنة ، والوجه هو الأول. والرسول هاهنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى (يَتْلُوا صُحُفاً) أي : ما تضمّنته الصّحف من المكتوب فيها ، وهو القرآن. ويدلّ على ذلك أنه كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه لا من كتاب. ومعنى «مطهّرة» أي : من الشّرك والباطل. (فِيها) أي : في الصّحف (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي : عادلة مستقيمة تبيّن الحقّ من الباطل ، وهي الآيات. قال مقاتل : وإنما قيل لها : كتب لما جمعت من أمور شتّى.

__________________

(١) أخرج البخاري ٤٩٥٩ و ٤٩٦٠ ومسلم ٧٩٩ والترمذي ٣٧٩٢ وأحمد ٣ / ٨٥ وابن سعد ٢ / ٣٤٠ وعبد الرزاق ٢٠٤١١ وأبو يعلى ٢٩٩٥ وابن حبان ٧١٤٤ من حديث أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبيّ بن كعب : «إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، قال : وسماني لك؟ قال نعم ، فبكى».


قوله عزوجل : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني : من لم يؤمن منهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى : لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث ، قاله الأكثرون. والثاني : القرآن ، قاله أبو العالية. والثالث : ما في كتبهم من بيان نبوّته ، ذكره الماورديّ. وقال الزّجّاج : وما تفرّقوا في كفرهم بالنبيّ إلّا من بعد أن تبيّنوا أنه الذي وعدوا به في كتبهم.

قوله عزوجل : (وَما أُمِرُوا) أي : في كتبهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ). أي : إلا أن يعبدوا الله. قال الفرّاء : والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيرا ، كقوله عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (١) ، و (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) (٢). وقال في الأمر : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) (٣).

قوله عزوجل : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : موحّدين لا يعبدون سواه (حُنَفاءَ) على دين إبراهيم (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) المكتوبة في أوقاتها (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) عند وجوبها (وَذلِكَ) الذي أمروا به هو (دِينُ الْقَيِّمَةِ) قال الزّجّاج : أي دين الأمّة القيّمة بالحقّ. ويكون المعنى : ذلك الدّين دين الملّة المستقيمة (٤).

قوله عزوجل : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قرأ نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمزة في الكلمتين وقرأ الباقون بغير همز فيهما. قال ابن قتيبة : البريّة : الخلق. وأكثر العرب والقرّاء على ترك همزها لكثرة ما جرت عليه الألسنة ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بريت العود ، ومنهم من يزعم أنها من البرى وهو التراب أي خلق من التراب ، وقالوا : لذلك لا يهمز ، وقال الزّجّاج : لو كانت من البرى وهو التراب لما قرنت بالهمز ، وإنما اشتقاقها من برأ الله الخلق ، وقال الخطّابيّ : أصل البريّة الهمز ، إلّا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها. وما بعده ظاهر إلى قوله عزوجل : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) قال مقاتل : رضي الله عنهم بطاعته (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه. وكان بعض السّلف يقول : إذا كنت لا ترضى عن الله ، فكيف تسأله الرضى عنك؟!

قوله عزوجل : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي خافه في الدنيا ، وتناهى عن معاصيه (٥).

__________________

(١) النساء : ٢٦.

(٢) الصف : ٨.

(٣) الصف : ٨.

(٤) الأنعام : ٧١.

(٥) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٤٣ : وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان ، ولهذا قال : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). قال ابن العربي رحمه‌الله في «الإحكام» ٤ / ٤٣٧ : أمر الله عباده بعبادته ، وهي أداء الطاعة له بصفة القربة ، وذلك بإخلاص النية بتجريد العمل عن كل شيء إلا لوجهه ، وذلك هو الإخلاص. وإذا ثبت هذا فالنية واجبة في التوحيد ، لأنها عبادة ، فدخلت تحت هذا العموم دخول الصلاة ، فإن قيل : فلم خرجت عنه طهارة النجاسة ، وذلك يعترض عليكم في الوضوء؟ قلنا : إزالة النجاسة معقولة المعنى ، لأن الغرض منها إزالة العين لكن بمزيل مخصوص فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبد ، كالعدة جمعت بين براءة الرحم والتعبد ، حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين تحقق براءة رحمهما قطعا ، وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد التعبد ، بدليل أنه لو أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء ، وخرج منه ريح بطل وضوءه.


سورة الزّلزلة

وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل ، والجمهور. والثاني : مكّيّة ، قاله ابن مسعود ، وعطاء وجابر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

قوله عزوجل : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي : حرّكت حركة شديدة ، وذلك عند قيام الساعة. وقال مقاتل : تتزلزل من شدّة صوت إسرافيل حتى ينكسر كلّ ما عليها من شدّة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل ، أو بناء ، أو شجر ، ثم تتحرك وتضطرب ، فتخرج ما في جوفها. وفي وقت هذه الزّلزلة قولان : أحدهما : أنها تكون في الدنيا ، وهي من أشراط الساعة ، قاله الأكثرون. والثاني : أنها زلزلة يوم القيامة ، قاله خارجة بن زيد في آخرين. قال الفرّاء : حدّثني محمّد بن مروان ، قال : قلت للكلبي : أرأيت قول الله عزوجل : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها)؟ فقال : هذه بمنزلة قوله عزوجل : (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (١) فأضيف المصدر إلى صاحبه. وأنت قائل في الكلام : لأعطينّك عطيتك ، تريد عطيّة. والزّلزال بالكسر المصدر ، وبالفتح : الاسم. وقد قرأ أبو العالية ، وأبو عمران ، وأبو حيوة والجحدريّ «زلزالها» بفتح الزاي.

قوله عزوجل : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) فيه قولان (٢) : أحدهما : ما فيها من الموتى ، قاله ابن عباس. والثاني : كنوزها ، قاله عطيّة. وجمع الفرّاء بين القولين ، فقال : لفظت ما فيها من ذهب ، أو فضّة أو ميت.

قوله عزوجل : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) فيه قولان : أحدهما : أنه اسم جنس يعمّ الكافر والمؤمن ،

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٤٣ : أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حقّ تقواه ، وعبده كأنه يراه ، وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه. وقال ابن جرير رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٥٨ : يقول : لمن خاف الله في الدنيا في سرّه وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه.

(٢) نوح : ١٨.


وهذا قول من جعلها من أشراط الساعة ، لأنها حين ابتدأت لم يعلم الكلّ أنها من أشراط الساعة ، فسأل بعضهم بعضا حتى أيقنوا. والثاني : أنه الكافر خاصّة ، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة ، لأنّ المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها لأنه لا يؤمن بالبعث ، فلذلك يسأل.

قوله عزوجل : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال الزّجّاج : «يومئذ» منصوب بقوله عزوجل : (إِذا زُلْزِلَتِ وَأَخْرَجَتِ) ففي ذلك اليوم تحدّث بأخبارها ، أي : تخبر بما عمل عليها.

(١٥٦٠) وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنّ أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا.

قوله عزوجل : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) قال الفرّاء : تحدّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها. قال ابن عباس : أوحى لها ، أي : أوحى إليها ، وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها. وقال أبو عبيدة : «لها» بمعنى «إليها». قال العجّاج :

وحى لها القرار فاستقرّت

قوله عزوجل : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) أي : يرجعون عن موقف الحساب (أَشْتاتاً) أي : فرقا. فأهل الإيمان على حدة وأهل الكفر على حدة (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وعائشة ، والجحدريّ : «ليروا» بفتح الياء. قال ابن عباس : أي ليروا جزاء أعمالهم. فالمعنى : أنهم يرجعون عن الموقف فرقا لينزلوا منازلهم من الجنّة والنّار. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : تحدّث أخبارها بأنّ ربّك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس أشتاتا. فعلى هذا : يرون ما عملوا من خير أو شرّ في موقف العرض.

____________________________________

(١٥٦٠) يشبه الحسن ، أخرجه الترمذي ٢٤٢٩ و ٣٣٥٣ والنسائي في «التفسير» ٧١٣ وأحمد ٢ / ٣٧٤ وابن حبان ٧٣٦٠ من طرق عن ابن المبارك عن يحيى بن أبي سليمان به. إسناده لين ، رجاله ثقات سوى يحيى بن أبي سليمان. قال البخاري : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : مضطرب الحديث ليس بالقوي يكب حدثه ، ووثقه ابن حبان والحاكم ، وقال ابن عدي : هو ممن تكتب أحاديثه وإن كان بعضها غير محفوظ. وذكر له ابن عدي أحاديث فيها غرابة ، وليس هذا منها ، وقد روى عنه غير واحد من الثقات كشعبة وابن أبي ذئب وغيرهما ، فالرجل غير متفق على ضعفه كما ترى ، ـ وقال الحافظ في «التقريب» : لين الحديث ، ولحديثه شواهد بمعناه.

قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه الحاكم ٢ / ٥٣٢ : من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٤ / ٥٤٢ من طريق شعبة عن يحيى به. وصححه الحاكم ، وقال الذهبي : يحيى هذا منكر الحديث قاله البخاري. قلت : أخذ الذهبي رحمه‌الله بالأشد ، فقد تفرد البخاري بجرحه ، في حين خالفه أبو حاتم فلينه ، وابن حبان والحاكم فوثقاه. وله شاهد من حديث أنس ، أخرجه البيهقي في «الشعب» ٧٢٩٦ لكنه من طريق رشدين بن سعد عن يحيى بن أبي سليمان ، ورشدين واه ، وهذا من أوهامه كونه عن أنس ، والمحفوظ عن سليمان عن سعيد عن أبي هريرة. فهذا شاهد لا يفرح به. وله شاهد من حديث ربيعة الجرشي ، أخرجه الطبراني ٤٥٩٦ ، وفيه ابن لهيعة ضعيف ، وربيعة مختلف في صحبته ، والجمهور على أن له صحبة. ويشهد لأصل معناه حديث مسلم ١٠١٣ والترمذي ٢٢٠٨ وابن حبان ٦٦٩٧ من حديث أبي هريرة ـ وقد ورد في تعليق ابن كثير رحمه‌الله السابق ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقيء الأرض ...» الحديث.


قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) قال المفسّرون : من يعمل في الدنيا مثقال ذرّة من الخير أو الشرّ يره ، وقرأ أبان عن عاصم «ير» بضمّ الياء في الحرفين. وقد بيّنّا معنى «الذّرّة» في سورة النّساء وفي معنى هذه الرّؤية قولان : أحدهما : أنه يراه في كتابه. والثاني : يرى جزاءه.

(١٥٦١) وذكر مقاتل : أنها نزلت في رجلين كانا بالمدينة ، كان أحدهما يستقلّ أن يعطي السائل الكسرة ، أو التّمرة ، وكان الآخر يتهاون بالذّنب اليسير ، فأنزل الله عزوجل هذا يرغّبهم في القليل من الخير ، ويحذّرهم اليسير من الشرّ.

____________________________________

(١٥٦١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فخبره هذا لا شيء.


سورة العاديات

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله ابن مسعود ، وعطاء ، وعكرمة ، وجابر. والثاني : مدنيّة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

قوله عزوجل : (وَالْعادِياتِ) فيه قولان :

أحدهما : أنها الإبل في الحجّ ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وعبيد بن عمير ، والقرظيّ ، والسّدّيّ. وروي عن عليّ أنه قال : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال هذا في صفة وقعة بدر. قال : وما كان معنا يومئذ إلّا فرس. وفي بعض الحديث أنه كان معهم فرسان.

والثاني : أنها الخيل في سبيل الله ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، وقتادة ، وعطيّة ، والرّبيع ، واللغويون. وكان ابن عباس يذهب إلى أنّ هذا كان في سريّة ،

(١٥٦٢) فروى عكرمة عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خيلا ، فلم يأته خبرها شهرا ، فنزلت (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) ضبحت بمناخرها (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قدحت بحوافرها الحجارة فأورت نارا (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) صبحت القوم بغارة (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أثارت بحوافرها التراب (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال : صبحت الحيّ جميعا.

(١٥٦٣) وقال مقاتل : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريّة إلى حيّين من كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري ، فأبطأ عنه خبرها ، فجعل اليهود والمنافقون إذا رأوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناجوا ، فيظنّ الرجل أنه قد قتل أخوه أو أبوه ، أو عمّه ، فيجد من ذلك ، فنزلت : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً)

____________________________________

(١٥٦٢) أخرجه ابن مردويه كما في «الدر» ٦ / ٦٥١ عن ابن عباس به ، ولم أقف على إسناد ، وتفرد ابن مردويه به دليل وهنه.

(١٥٦٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فخبره هذا لا شيء.


فأخبر الله عزوجل كيف فعل بهم. قال الفرّاء : الضّبح : أصوات أنفاس الخيل إذا عدون. وقال ابن قتيبة : الضّبح : صوت حلوقها إذا عدت. وقال الزّجّاج : ضبحها : صوت أجوافها إذا عدت.

قوله عزوجل : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) فيه خمس أقوال (١) : أحدها : أنها الخيل توري النار بحوافرها إذا جرت ، وهذا قول الجمهور. قال الزّجّاج : إذا عدت الخيل بالليل ، فأصابت بحوافرها الحجارة ، انقدحت منها النّيران. والثاني : أنها نيران المجاهدين إذا أوقدت ، روي عن ابن عباس. والثالث : مكر الرجال في الحرب ، قاله مجاهد ، وزيد بن أسلم. والرابع : نيران الحجيج بالمزدلفة ، قاله القرظيّ. والخامس : أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأقيمت بها الدلائل على الحقّ وفضح بها الباطل ، قاله عكرمة.

قوله عزوجل : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) هي التي تغير على العدوّ عند الصباح ، هذا قول الأكثرين. وقال ابن مسعود : فالمغيرات صبحا حين يفيضون من جمع.

قوله عزوجل : (فَأَثَرْنَ بِهِ) قال الفرّاء : يريد به الوادي ولم يذكر قبل ذلك ، وهذا جائز ، لأنّ الغبار لا يثار إلا من موضع. والنّقع : الغبار ، ويقال : التراب. وقال الزّجّاج : المعنى : فأثرن بمكان عدوهنّ ، ولم يتقدّم ذكر المكان ، ولكن في الكلام دليل عليه ، قوله : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال المفسّرون : المعنى : توسّطن جمعا من العدوّ ، فأغارت عليهم. وقال ابن مسعود : فوسطن به جمعا ، يعني مزدلفة.

قوله عزوجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم. والإنسان هاهنا : الكافر. قال الضّحّاك : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقال مقاتل : نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وفي «الكنود» ثلاثة أقوال :

(١٥٦٤) أحدها : أنه الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده ، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني : أنه الكفور ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضّحّاك. والثالث : لوّام لربّه يعدّ المصيبات ، وينسى النّعم ، قاله الحسن. قال ابن قتيبة : والأرض الكنود : التي لا تنبت شيئا.

قوله عزوجل : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله عزّ

____________________________________

(١٥٦٤) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٧٨٤٠ وكذا الطبراني ٧٧٧٨ و ٧٩٥٨ من حديث أبي أمامة ، وإسناده ضعيف جدا لضعف جعفر بن الزبير ، بل هو متروك ، وكذبه شعبة.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٤٥ : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) يعني : ألقت ما فيها من الموتى ، قاله غير واحد من السلف ، وهذه كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وكقوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) ، وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل فيقول : في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيء» اه.


وجلّ ، تقديره : وإنّ الله على كفره لشهيد. والثاني : أنها ترجع إلى الإنسان ، تقديره : إنّ الإنسان شاهد على نفسه أنه كنود ، روي القولان عن ابن عباس (١).

قوله عزوجل : (وَإِنَّهُ) يعني : الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ) يعني : المال (لَشَدِيدٌ).

وفي معنى الآية قولان : أحدهما : وإنه من أجل حبّ المال لبخيل ، هذا قول الحسن ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. قال أبو عبيدة : ويقال للبخيل : شديد ، ومتشدّد قال طرفة.

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الباخل المتشدّد

والثاني : وإنه للخير لشديد الحبّ ، وهذا اختيار الفرّاء. قال : فكأنّ الكلمة لمّا تقدّم فيها الحبّ ، وكان موضعه أن يضاف إليه «شديد» ، حذف الحبّ من آخره لمّا جرى ذكره في أوّله ، ولرؤوس الآيات. ومثله : (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (٢) فلمّا جرى ذكر الرّيح قبل اليوم طرحت من آخره.

قوله عزوجل : (أَفَلا يَعْلَمُ) يعني : الإنسان المذكور (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أي : أثير وأخرج (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي : ميّز واستخرج. والتّحصيل : تمييز ما يحصل. وقال ابن عباس : أبرز ما فيها ، وقال ابن قتيبة : ميّز ما فيها من الخير والشّرّ. وقال أبو سليمان الدّمشقي : المعنى : لو علم الإنسان الكافر ما له في ذلك اليوم لزهد في الكفر ، وبادر إلى الإسلام. ثم ابتدأ فقال عزوجل : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) وقال غيره : إنّما قرئت «إن» بالكسر لأجل اللام ، ولو لاها كانت مفتوحة بوقوع العلم عليها.

فإن قيل : أليس الله خبيرا بهم في كلّ حال ، فلم خصّ ذلك اليوم؟

فالجواب أنّ المعنى : أنه يجازيهم على أفعالهم يومئذ ، ومثله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) (٣) ، معناه : يجازيهم على ذلك ، ومثله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (٤).

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٦٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بالموريات التي توري النيران قدحا ، فالخيل توري بحوافرها ، والناس يورونها بالزند ، واللسان مثلا يوري بالمنطق ، والرجال يورون بالمكر مثلا ، وكذلك الخيل تهيج الحرب بين أهلها إذا التقت في الحرب ، ولم يضع الله دلالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فكل ما أورت النار قدحا ، فداخلة فيما أقسم به لعموم ذلك بالظاهر.

(٢) إبراهيم : ١٨.

(٣) النساء : ٦٣.

(٤) غافر : ١٦.


سورة القارعة

وهي مكّيّة بإجماعهم

وقد ذكرنا تفسير فاتحتها في أول «الحاقّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

قوله عزوجل : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) قال الزّجّاج اليوم منصوب على الظّرف. المعنى : يكون يوم يكون الناس (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه غوغاء الجراد ، قاله الفرّاء. قال ابن قتيبة : غوغاء الجراد : صغاره ، ومنه قيل لعامّة الناس : غوغاء. والثاني : أنه طير ليس ببعوض ولا ذبّان ، قاله أبو عبيدة. والثالث : أنه ما تهافت في النار من البعوض ، قاله ابن قتيبة. وكذلك قال الزّجّاج : الفراش ما يرى كصغار البقّ يتهافت في النار. وشبّه الناس في وقت البعث به وبالجراد المنتشر ، لأنهم إذا بعثوا ماج بعضهم في بعض. وذكر الماوردي : أنّ هذا التشبيه للكفار ، فهم يتهافتون في النار يوم القيامة تهافت الفراش.

فأمّا «المبثوث» فهو المنتشر المتفرّق.

قوله عزوجل : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) وقد شرحناه في (سأل سائل) (١) ، و«المنفوش» الذي قد ندف. قال مقاتل : وتصير الجبال كالصّوف المندوف. فإذا رأيت الجبل قلت : هذا جبل : فإذا مسسته لم تر شيئا ، وذلك من شدّة الهول.

قوله عزوجل : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) ، أي : رجحت بالحسنات ، وقد بيّنا هذه الآية في أوّل الأعراف (٢) وبيّنّا معنى «عيشة راضية» في الحاقّة (٣).

قوله عزوجل : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) ، قرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرّف ، والجحدري «فإمه»

__________________

(١) المعارج : ٩.

(٢) الأعراف : ٨.

(٣) الحاقة : ٢١.


بكسر الهمزة. فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أمّ رأسه هاوية ، يعني : أنه يهوي في النار على رأسه ، هذا قول عكرمة ، وأبي صالح. والثاني : أنها كلمة عربية ، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قالوا : هوت أمّه ، قاله قتادة. والثالث : أنّ المعنى ، فمسكنه النار. وإنما قيل لمسكنه : أمّه ، لأنّ الأصل السّكون إلى الأمّهات. فالنّار لهذا كالأمّ ، إذ لا مأوى له غيرها ، هذا قول ابن زيد ، والفرّاء ، وابن قتيبة ، والزّجّاج ، ويدل على صحة هذا.

(١٥٦٥) ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إذا مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين ، فتقول له : ما فعل فلان؟ فإذا قال : مات ، قالوا : ذهب به إلى أمّه الهاوية ، فبئست الأمّ ، وبئست المربية.

قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) يعني : الهاوية. قرأ حمزة ، ويعقوب «ما هي» بحذف الهاء الأخيرة في الوصل ، وإثباتها في الوقف. وقرأ الباقون بإثباتها في الحالين. قال الزّجّاج : الهاء في «هيه» دخلت في الوقف ، لتبيين فتحة الياء ، فالوقف «هيه» والوصل هي نار. والذي يجب اتّباع المصحف. والهاء فيه ثابتة فيوقف عليها ، ولا توصل ، قوله : (نارٌ حامِيَةٌ) أي : حارّة قد انتهى حرّها.

____________________________________

(١٥٦٥) تفرد ابن مردويه برفعه ، كما في «الدر» ٦ / ٦٥٦ وهو غير حجة فيما ينفرد به. وأخرجه الحاكم ٢ / ٥٣٣ عن الحسن مرسلا ، ومراسيل الحسن واهية. وورد من كلام أبي أيوب موقوفا عليه كما في «الدر» ٦ / ٦٥٦ ، وهو أصح ، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٨٠٢ بتخريجنا.


سورة التّكاثر

وهي مكّيّة بإجماعهم وفي سبب نزولها قولان :

(١٥٦٦) أحدهما : أنّ اليهود قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، فألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا ، فنزلت هذه فيهم ، قاله قتادة.

(١٥٦٧) والثاني : أنّ حيين من قريش : بني عبد مناف ، وبني سهم كان بينهما لحاء ، فقال هؤلاء : نحن أكثر سيّدا ، وأعزّ نفرا. وقال أولئك مثل هذا ، فتعادّوا السّادة والأشراف أيّهم أكثر ، فكثّرهم بنو عبد مناف ، ثم قالوا : نعدّ موتانا ، فزاروا القبور ، فعدّوا موتاهم ، فكثّرهم بنو سهم ، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية ، فنزلت هذه فيهم قاله ابن السّائب ، ومقاتل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ) وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وابن عباس ، والشّعبي ، وأبو العالية ، وابن عمران ، وابن أبي عبلة : «أألهاكم» بهمزتين مقصورتين على الاستفهام. وقرأ معاوية ، وعائشة «آلهاكم» بهمزة واحدة ممدودة استفهاما أيضا. ومعنى ألهاكم : شغلكم عن طاعة الله وعبادته.

وفي المراد بالتّكاثر ثلاثة أقوال : أحدها : التّكاثر بالأموال والأولاد ، قاله الحسن. والثاني : التّفاخر بالقبائل والعشائر ، قاله قتادة. والثالث : التّشاغل بالمعاش والتجارة ، قاله الضّحّاك.

وفي قوله عزوجل : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) قولان : أحدهما : حتى أدرككم الموت على تلك الحال ، فصرتم في المقابر زوّارا ترجعون منها إلى منازلكم من الجنة أو النار ، كرجوع الزائر إلى منزله. والثاني : حتى زرتم المقابر فعددتم من فيها من موتاكم.

____________________________________

(١٥٦٦) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٧٨٦٩ ، ٣٧٨٧٠ عن قتادة ، وليس فيه ذكر اليهود ، والخبر ضعيف لإرساله ، وذكر اليهود يبطل الخبر لأن المصنف نقل الإجماع على أن السورة مكية ، وأخبار يهود مدنية.

(١٥٦٧) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل ، وكلاهما ممن يضع الحديث ، فهذا خبر لا شيء.


قوله عزوجل : (كَلَّا) قال الزّجّاج ، هي ردع وتنبيه. والمعنى : ليس الأمر الذي ينبغي أن يكونوا عليه التّكاثر.

قوله عزوجل : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) هذا وعيد والمعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت. وقيل : العلم الأول : يقع عند نزول الموت. والثاني : عند نزول القبر.

قوله عزوجل : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) المعنى : لو تعلمون الأمر علما يقينا لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر ، والتّفاخر. وجواب «لو» محذوف وهو ما ذكرنا. ثم أوعدهم وعيدا آخر فقال عزوجل. (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «لترون» «ثم لترونها» بفتح التاء. فيها وقرأ ابن عامر والكسائيّ (لترون الجحيم) بضمّ التاء (ثم لترونها) بفتح التاء ، وقرأ مجاهد ، وعكرمة ، وحميد ، وابن أبي عبلة «لترون» ثم «لترونها» بضمّ التاء فيهما من غير همز ، (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي : مشاهدة ، فكان المراد ب «عين اليقين» نفسه ، لأنّ عين الشيء : ذاته.

قوله عزوجل : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) اختلفوا ، هل هذا السؤال عامّ ، أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنه خاصّ للكفار ، قاله الحسن. والثاني : عامّ ، قاله قتادة. وللمفسّرين في المراد بالنّعيم عشرة أقوال :

(١٥٦٨) أحدها : أنه الأمن والصحة ، رواه ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتارة يأتي موقوفا عليه ، وبه قال مجاهد والشّعبي.

(١٥٦٩) والثاني : أنه الماء البارد ، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثالث : أنه خبز البرّ والماء العذب ، قاله أبو أمامة. والرابع : أنه ملاذ المأكول والمشروب ، قاله جابر بن عبد الله. والخامس : أنه صحة الأبدان ، والأسماع ، والأبصار ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : هو العافية. والسادس : أنه الغداء ، والعشاء ، قاله الحسن. والسابع : الصحة والفراغ ، قاله عكرمة. والثامن : كلّ شيء من لذّة الدنيا ، قاله مجاهد. والتاسع : أنه إنعام الله على الخلق بإرسال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله القرظيّ. والعاشر : أنه صنوف النّعم ، قاله مقاتل.

والصّحيح أنه عامّ في كلّ نعيم ، وعامّ في جميع الخلق ، فالكافر يسأل توبيخا إذا لم يشكر المنعم ، ولم يوحّده. والمؤمن يسأل عن شكرها.

(١٥٧٠) وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول الله تعالى : «ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهنّ وأسأله عمّا سوى ذلك ، بيت يكنّه ، وما يقيم به صلبه من الطعام ، وما يواري به عورته من اللباس».

____________________________________

(١٥٦٨) لا يصح مرفوعا ، إنما هو من كلام ابن مسعود ، كذا أخرجه الطبري ٣٧٨٨٤. وورد من قول مجاهد برقم ٣٧٨٨١ و ٣٧٨٨٣ عن الشعبي من قوله ، وهو الصواب والمرفوع فيه انقطاع وضعف. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٨٠٩.

(١٥٦٩) جيد. أخرجه الترمذي ٣٣٥٨ والحاكم ٤ / ١٣٨ والطبري ٣٧٨٩٩ والبيهقي ٤٦٠٧ من طرق عن عبد الله بن العلاء بن زبر عن الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، ورجاله رجال البخاري سوى الضحاك بن عبد الرحمن ، وهو ثقة. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٧١٤.

(١٥٧٠) أخرجه البيهقي ١٠٣٦٨ بسند قوي عن الحسن مرسلا. وله شاهد من حديث عثمان ، أخرجه الترمذي ٢٤٤٤ والحاكم ٤ / ٤١٢ والطبراني ١ / ٩١ ، وإسناده حسن ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.


سورة العصر

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله ابن عباس ، وابن الزّبير ، والجمهور. والثاني : مدنيّة ، قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

قوله عزوجل : (وَالْعَصْرِ) فيه ثلاثة أقوال (١) :

أحدها : أنه الدّهر ، قاله ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، والفرّاء ، وابن قتيبة. وإنما أقسم بالدّهر لأنّ فيه عبرة للناظر من مرور الليل والنهار على تقدير لا ينخرم. والثاني : أنه العشيّ ، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها ، قاله الحسن وقتادة. والثالث : صلاة العصر ، قاله مقاتل.

قوله عزوجل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) قال الزّجّاج : هو جواب القسم. والإنسان هاهنا بمعنى الناس ، كما تقول : كثر الدّرهم في أيدي الناس تريد الدّراهم. والخسر والخسران في معنى واحد. قال أهل المعاني : الخسر : هلاك رأس المال أو نقصه. والإنسان إذا لم يستعمل نفسه وعمره فيما يوجب له الرّبح الدائم ، فهو في خسران ، لأنه عمل في إهلاك نفسه وعمره ، وهما أكبر رأس ماله ، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : صدّقوا الله ورسوله ، وعملوا بالطاعة (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي : بالتوحيد ، والقرآن ، واتّباع الرّسول (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على طاعة الله ، والقيام بشريعته. وقال إبراهيم في تفسير هذه السّورة : إنّ الإنسان إذا عمّر في الدنيا لفي نقص وضعف ، إلّا المؤمنين ، فإنهم يكتب لهم أجور أعمالهم التي كانوا يعملون في شبابهم وصحّتهم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٥٧ : العصر : الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم ، من خير وشر ، وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : هو العشي ، والمشهور الأول. وقال الشافعي رحمه‌الله : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. وقال الزمخشري في «الكشاف» ٤ / ٨٠٠ : أقسم بصلاة العصر لفضلها ، بدليل قوله تعالى (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وقوله عليه الصلاة والسلام : «من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله» متفق عليه ، ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس على تجارتهم ومكاسبهم آخر النهار ، واشتغالهم بمعايشهم.


سورة الهمزة

وهي مكّيّة بإجماعهم

قال هبة الله المفسّر : وقد قيل : إنها مدنيّة. واختلف المفسّرون هل نزلت في حقّ شخص بعينه ، أم نزلت عامّة؟ على قولين : أحدهما : نزلت في حقّ شخص بعينه.

ثم فيه ستة أقوال (١) : أحدها : الأخنس بن شريق ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال السّدّيّ ، وابن السّائب. والثاني : العاص بن وائل السّهمي ، قاله عروة. والثالث : جميل بن عامر ، قاله ابن أبي نجيح. والرابع : الوليد بن المغيرة ، قاله ابن جريج ، ومقاتل. والخامس : أميّة بن خلف ، قاله ابن إسحاق. والسادس : أبيّ بن خلف ، حكاه الماوردي.

والقول الثاني : أنها نزلت عامّة لا في شخص بعينه ، قاله مجاهد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

قوله عزوجل : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) اختلفوا في الهمزة واللّمزة هل هما [بمعنى واحد ، أم مختلفان؟] على قولين : أحدهما : أنهما مختلفان.

ثم فيهما سبعة أقوال : أحدها : أنّ الهمزة : المغتاب ، واللّمزة : العيّاب ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ الهمزة : الذي يهمز الإنسان في وجهه. واللّمزة : يلمزه إذا أدبر عنه ، قاله الحسن ، وعطاء ، وأبو العالية. والثالث : أنّ الهمزة : الطعّان في الناس ، واللّمزة : الطعّان في أنساب الناس ، قاله مجاهد. والرابع : أنّ الهمزة : بالعين ، واللّمزة : باللسان ، قاله قتادة. والخامس : أنّ الهمزة : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللّمزة : الذي يلمزهم بلسانه ، قاله ابن زيد. والسادس : أنّ الهمزة : الذي يهمز بلسانه ، واللّمزة : الذي يلمز بعينه ، قاله سفيان الثّوري. والسابع : أنّ الهمزة : المغتاب ، واللّمزة : الطّاعن على الإنسان في وجهه ، قاله مقاتل.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٦٨٨ : والصواب من القول في ذلك ، أن يقال : إن الله عم بالقول كل همزة لمزة ، كل من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها.


والقول الثاني : أنّ الهمزة : العيّاب الطّعّان ، واللّمزة مثله. وأصل الهمز واللّمز : الدّفع ، قاله ابن قتيبة ، وكذلك قال الزّجّاج : الهمزة اللّمزة : الذي يغتاب الناس ويعضهم ، قال ابن فارس : والعضيهة الكذب والبهتان قال الشاعر :

إذا لقيتك عن كره تكاشرني

وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزة

قوله عزوجل : (الَّذِي جَمَعَ مالاً) قرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، وروح : «جمّع» بالتشديد. والباقون بالتخفيف.

قوله عزوجل : (وَعَدَّدَهُ) قرأ الجمهور بتشديد الدال. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وابن يعمر بتخفيفها. وللمفسرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : أحصى عدده ، قاله السّدّيّ.

والثاني : أعدّه لما يكفيه في السّنين ، قاله عكرمة. قال الزّجّاج : من قرأ «عدّده» بالتشديد ، فمعناه : عدّده للدّهور. ومن قرأ «عدده» بالتخفيف ، فمعناه : جمع مالا وعدّده. أي : وقوما اتّخذهم أنصارا.

قوله عزوجل : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أخلده بمعنى يخلده ، والمعنى : يظنّ ماله مانعا له من الموت ، فهو يعمل عمل من لا يظنّ أنه يموت (كَلَّا) أي : لا يخلده ماله ولا يبقى له (لَيُنْبَذَنَ) أي : ليطرحنّ (فِي الْحُطَمَةِ) وهو اسم من أسماء جهنّم. سمّيت بذلك لأنها تحطم ما يلقى فيها ، أي : تكسره ، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم. ويقال للرجل الأكول : إنه لحطمة. وقرأ أبو بكر الصّدّيق ، وعمر بن الخطّاب ، وأبو عبد الرّحمن ، والحسن ، وابن أبي عبلة ، وابن محيصن : «لينبذانّ» بألف ممدودة ، وبكسر النون ، وتشديدها ، أي : هو وماله.

قوله عزوجل : (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي : تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها. وقال الفرّاء : يبلغ ألمها للأفئدة. والاطّلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد ، والعرب تقول : متى طلعت أرضنا؟ أي : بلغت. وقال ابن قتيبة : تطّلع على الأفئدة ، أي : تقوى عليها وتشرف. وخصّ الأفئدة ، لأنّ الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه ، فأخبر أنهم في حال من يموت ، وهم لا يموتون. وقد ذكرنا تفسير «المؤصدة» في سورة البلد (١).

قوله عزوجل : (فِي عَمَدٍ) قرأ حمزة والكسائيّ ، وخلف ، وعاصم إلّا حفصا بضمّ العين ، وإسكان الميم. وقرأ الباقون بفتحهما. قال الفرّاء وهما حيطان للعمود ، وقرأ هارون عن ابن عمرو بضمّ العين وإسكان الميم. قال المفسّرون : وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. و«في» بمعنى الباء. والمعنى : مطبقة بعمد. قال قتادة : وكذلك هو في قراءة عبد الله. وقال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ، ثم شدّت بأوتاد من حديد ، حتى يرجع عليهم غمّها وحرّها. و«ممدّدة» صفة العمد ، أي : أنها ممدودة مطوّلة ، وهي أرسخ من القصيرة. وقال قتادة : هي عمد يعذّبون بها في النار. وقال أبو صالح : «عمد ممددة» قال : القيود الطّوال.

__________________

(١) البلد : ٢٠.


سورة الفيل

وهي مكّيّة بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) فيه قولان : أحدهما : ألم تخبر ، قاله الفرّاء. والثاني : ألم تعلم ، قاله الزّجّاج. ومعنى الكلام معنى التّعجب. وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة وفي سبب قصدهم لذلك قولان (١) : أحدهما : أنّ أبرهة بنى بيعة وقال : لست منتهيا حتى أضيف إليها حجّ العرب ، فسمع بذلك رجل من بني كنانة ، فخرج ، فدخلها ليلا ، فأحدث فيها ، فبلغ ذلك أبرهة ، فحلف ليسرنّ إلى الكعبة فيهدمها ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ قوما من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النّجاشي فنزلوا في جنب بيعة فأوقدوا نارا ، وشووا لحما ، فلمّا رحلوا هبّت الرّيح فاضطرم المكان نارا ، فغضب النّجاشي لأجل البيعة ، فقال له كبراء أصحابه ـ منهم حجر بن شراحيل ، وأبو يكسوم ـ : لا تحزن ، فنحن نهدم الكعبة ، قاله مقاتل. وقال ابن إسحاق : أبو يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم. وقيل : كان أبرهة صاحب جيشه وقيل : وزيره ، وحجر من قوّاده.

ذكر الإشارة إلى القصّة

ذكر أهل التفسير أنّ أبرهة لمّا سار بجنوده إلى الكعبة ليهدمها خرج معه بالفيل ، فلمّا دنا من مكّة أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس ، فأصابوا إبلا لعبد المطّلب ، وبعث بعض جنوده ، فقال : سل عن شريف مكّة ، وأخبره أني لم آت لقتال ، وإنما جئت لأهدم هذا البيت ، فانطلق حتى دخل مكّة ، فلقي عبد المطّلب بن هاشم ، فقال : إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلّا أن تقاتلوه ، إنما جاء لهدم هذا البيت ، ثم ينصرف عنكم ، فقال عبد المطّلب : ما له عندنا قتال ، وما لنا به يد ، إنّا سنخلي بينه وبين ما جاء له ، فإنّ هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه‌السلام ، فإن يمنعه ، فهو بيته

__________________

(١) انظر قصة أصحاب الفيل في «دلائل النبوة» للبيهقي ١ / ٨٥ و«السيرة النبوية» لابن هشام ١ / ٤٣ و«تفسير السمرقندي» ٣ / ٥١٢ ـ ٥١٥ و«تفسير ابن كثير» ٤ / ٥٨٧ ـ ٥٩١ و«تفسير البغوي» ٤ / ٤٩٤ ـ ٤٩٧. و«الدر» ٦ / ٦٧٢ ـ ٦٧٦ وخبر أبرهة ومحاولته هدم الكعبة ، خبر مشهور بل متواتر وشهرته تغني عن الإسناد والله تعالى أعلم.


وحرمه ، وإن يخلّ بينه وبين ذلك ، فو الله ما لنا به قوّة. قال : فانطلق معي إلى الملك ، فلمّا دخل عبد المطّلب على أبرهة أعظمه ، وأكرمه ، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له التّرجمان ، فقال : حاجتي أن يردّ عليّ مائتي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ولقد زهدت الآن فيك ، حين جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمنّه ، فلم تكلّمني فيه ، وكلّمتني لإبل أصبتها. فقال عبد المطّلب : أنا ربّ هذه الإبل ، ولهذا البيت ربّ سيمنعه. فأمر بإبله فردّت عليه ، فخرج ، وأخبر قريشا ، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشّعاب ورؤوس الجبال خوفا من معرّة الجيش إذا دخل ، ففعلوا ، فأتى عبد المطّلب الكعبة ، فأخذ بحلقة الباب ، وجعل يقول :

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكا

امنعهم أن يخربوا قراكا

وقال أيضا :

لا همّ إنّ المرء يمنع

رحله وحلاله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم عدوا محالك

جرّوا جميع بلادهم

والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم

جهلا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع

بتنا فأمر ما بدا لك

ثم إنّ أبرهة أصبح متهيئا للدخول ، فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى ، فضربوه ، فأبى ، فوجّهوه إلى اليمن راجعا ، فقام يهرول ، ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك ، فوجّهوه إلى الحرم ، فأبى ، فأرسل الله طيرا من البحر.

واختلفوا في صفتها ، فقال ابن عباس : كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير ، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عكرمة : كانت لها رؤوس كرؤوس السّباع. وقال ابن إسحاق : كانت أمثال الخطاطيف.

واختلفوا في ألوانها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها كانت خضراء ، قاله عكرمة ، وسعيد بن جبير. والثاني : سوداء ، قاله عبيد بن عمير. والثالث : بيضاء ، قاله قتادة. وقال : وكان مع كلّ طير ثلاثة أحجار ، حجران في رجليه ، وحجر في منقاره.

واختلفوا في صفة الحجارة فقال بعضهم : كانت كأمثال الحمّص والعدس. وقال عبيد بن عمير : بل كان الحجر كرأس الرجل وكالجمل ، فلمّا غشيت القوم أرسلتها عليهم ، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك. وكان الحجر يقع على رأس الرجل ، فيخرج من دبره. وقيل : كان على كلّ حجر اسم الذي وقع عليه ، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم ، وبعث الله على أبرهة داء في جسده ، فتساقطت أنامله ، وانصدع صدره قطعتين عن قلبه ، فهلك ، ورأى أهل مكّة الطير قد أقبلت من ناحية البحر ، فقال عبد المطّلب : إنّ هذه الطير غريبة. ثم إنّ عبد المطّلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم ، فرجع يركض وهو يقول : هلك القوم جميعا ، فخرج عبد المطّلب وأصحابه فغنموا أموالهم. وقيل : لم ينج من القوم إلّا أبو يكسوم ، فسار ، وطائر يطير على رأسه من فوقه ، ولا يشعر به ، حتى دخل على النّجاشي ، فأخبره بما أصاب القوم ، فلما أتمّ كلامه رماه الطائر فمات ، فأرى الله تعالى النّجاشي كيف


كان هلاك أصحابه.

واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين هذه القصة على ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد عام الفيل ، وهو الأصحّ. والثاني : كان بينهما ثلاث وعشرون سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أربعون سنة ، حكاه مقاتل.

قوله عزوجل : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) وهو ما أرادوا من تخريب الكعبة (فِي تَضْلِيلٍ) أي : في ذهاب. والمعنى : أنّ كيدهم ضلّ عمّا قصدوا له ، فلم يصلوا إلى مرادهم (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ).

وفي «الأبابيل» خمسة أقوال : أحدها : أنها المتفرّقة من هاهنا وهاهنا ، قاله ابن مسعود ، والأخفش. والثاني : أنها المتتابعة التي يتبع بعضها بعضا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل. والثالث : الكثيرة ، قاله الحسن ، وطاوس. والرابع : أنها الجمع بعد الجمع ، قاله عطاء ، وأبو صالح ، وكذلك قال أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج : «الأبابيل» : جماعات في تفرقة. والخامس : المختلفة الألوان ، قاله زيد بن أسلم. قال الفرّاء ، وأبو عبيدة : «الأبابيل» لا واحد لها.

قوله عزوجل : (تَرْمِيهِمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي وابن يعمر وحميد وأبو حنيفة «يرميهم» بالياء. وقد بيّنّا معنى «سجّيل» في هود (٢) ومعنى «العصف» في سورة الرّحمن (٣) عزوجل.

في معنى «مأكول» ثلاثة أقوال : أحدها : أن يكون أراد به أنه أخذ ما فيه من الحبّ فأكل ، وبقي هو لا حبّ فيه. والثاني : أن يكون أراد العصف مأكول البهائم ، كما يقال للحنطة : هذا المأكول ولمّا يؤكل. وللماء : هذا المشروب ولمّا يشرب ، يريد أنهما مما يؤكّل ويشرب ، ذكرهما ابن قتيبة. والثالث : أنّ المأكول هاهنا : الذي وقع فيه الأكّال. فالمعنى : جعلهم كورق الزّرع الذي جفّ وأكل : أي : وقع فيه الأكّال ، قاله الزّجّاج.

__________________

(١) قال الحافظ ابن كثير في «السيرة النبوية» ١ / ٢٠٣ : كون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد عام الفيل هو قول الجمهور.

وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٤٧٦. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «التفسير» ٤ / ٦٥٩ : سورة الفيل : هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيهم وأضلّ عملهم وردهم بشر خيبة ، وكانوا قوما نصارى ، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان ، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ، ولسان حال القدر يقول : لم ننصركم يا معشر قريش لخيرتكم عليهم ، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خاتم الأنبياء.

(٢) هود : ٨٢.

(٣) الرحمن : ١٢.


سورة قريش

ويقال لها : سورة لإيلاف

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله الجمهور. والثاني : مدنيّة ، قاله الضّحّاك ، وابن السّائب.

واختلف القرّاء في «لإيلاف» (١) فقرأ ابن عامر «لإلاف» بغير ياء بعد الهمزة ، مثل : لعلاف. وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير همز. وروى حمّاد بن أحمد عن الشموني (٢) بهمزتين مخففتين ، الأولى : مكسورة ، والثانية : ساكنة على وزن لفعلان. وقرأ الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة ، مثل لعيلاف.

وفي لام «لإيلاف» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها موصولة بما قبلها ، المعنى : فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش. وما قد ألفوا من رحلة الشتاء ، والصيف هذا قول الفرّاء والجمهور. والثاني : أنها لام التعجّب ، كأنّ المعنى : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت ، قاله الأعمش ، والكسائيّ. والثالث : أنّ معناها متّصل بما بعدها. المعنى : فليعبد هؤلاء ربّ هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، لأنهم كانوا في الرّحلتين آمنين ، وإذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله فلا يتعرّض لهم ، قال الزّجّاج : وهذا الوجه قول النّحويين الذي ترتضي أقوالهم. وقال ابن قتيبة : بعض الناس يذهب إلى أنّ هذه السورة وسورة الفيل واحدة ، وأكثر الناس على أنهما سورتان ، وإن كانتا متّصلتي الألفاظ. والمعنى : أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر ، وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة ، رحلة في الشتاء ، ورحلة في الصيف إلى الشام. ولو لا هاتان الرّحلتان لم يكن به مقام. ولو لا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرّف ، فلما قصد أصحاب الفيل هدم الكعب أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم ، فذكّرهم الله نعمته بالسورتين. والمعنى : أنه أهلك أولئك ليؤلّف قريشا هاتين الرّحلتين اللّتين بها معاشهم ، ومقامهم بمكّة. تقول : ألفت موضع كذا : إذا لزمته ، وألفنيه الله ، كما تقول : لزمت موضع كذا وكذا ، وألزمنيه الله ، وكرّر «لإيلاف» للتوكيد ، كما تقول : أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس. وقال الزّجّاج : يقال : ألفت المكان ألفا ، وآلفته إيلافا بمعنى واحد.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٧٠٠ : والصواب من القراءة في ذلك عندي من قرأه (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة من آلفت الشيء أولفه إيلافا ، لإجماع الحجة من القراء عليه.

(٢) في الأزهرية «محمد بن حبيب الأشموني عن أبي يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم».


وأمّا قريش فهم ولد لنضر بن كنانة ، وكل من لم يلده النضر فليس بقرشيّ. وقيل : هم ولد فهر بن مالك بن النّضر فمن لم يلده فهر فليس بقرشيّ. وإنما سمّوا قريشا لتجارتهم وجمعهم المال. والقرش : الكسب. يقال : هو يقرش لعياله ، ويقترش ، أي : يكتسب. وقد سأل معاوية ابن عباس لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال ابن عباس : بدابّة تكون في البحر يقال لها : القريش لا تمرّ بشيء من الغثّ والسمين إلّا أكلته. وأنشد :

وقريش هي التي تسكن البحر

بها سمّيت قريش قريشا

تأكل الغثّ والسّمين ولا تترك

فيه لذي الجناحين ريشا

وقال ابن الأنباري : قال قوم : سمّوا قريشا بالاقتراش ؛ وهو وقوع الرّماح بعضها على بعض. قال الشاعر :

ولمّا دنا الرّايات واقترش القنا

وطار مع القوم القلوب الرّواجف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

قوله عزوجل : (إِيلافِهِمْ) قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن كثير ، والوليد بن عتبة عن ابن عامر ، والثّعلبي عن ابن ذكوان ، عنه «إلا فهم» بهمزة مكسورة من غير ياء بعدها ، مثل : علّافهم. وروى الخزاعي عن ابن فليح ، وأبان بن تغلب عن عاصم «إلفهم» بسكون اللام أيضا. ورواه الشموني إلّا حمّادا بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ، ورواه حمّاد كذلك إلّا أنه حذف الياء. وقرأ الباقون بهمزة ، بعدها ياء ساكنة مثل «عيلافهم». وجمهور العلماء على أنّ الرّحلتين كانتا للتجارة ، وكانوا يخرجون إلى الشّام في الصيف ، وإلى اليمن في الشتاء لشدّة برد الشام. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانوا يشتون بمكّة ، ويصيفون بالطّائف. قال الفرّاء : والرحلة منصوبة بإيقاع الفعل عليها.

قوله عزوجل : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي : ليوحّدوه (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي : بعد الجوع ، كما تقول : كسيتك من عري ، وذلك أنّ الله آمنهم بالحرم ، فلم يتعرّض لهم في رحلتهم ، وكان ذلك سببا لإطعامهم بعد ما كانوا فيه من الجوع. وروى عطاء عن ابن عباس قال : كانوا في ضرّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرّحلتين ، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغنيّ والفقير حتى استغنوا.

قوله عزوجل : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم ، إن حضروا حماهم ، وإن سافروا قيل : هؤلاء أهل الحرم ، فلا يعرض لهم أحد.


سورة الماعون

ويقال لها : سورة أرأيت

وفيها قولان : أحدهما : مكّيّة ، قاله الجمهور. والثاني : مدنيّة ، روي عن ابن عباس ، وقتادة. وقال هبة الله المفسّر : نزل نصفها بمكّة في العاص بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبيّ المنافق.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

قوله عزوجل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ستة أقوال : أحدها : أنها نزلت في رجل من المنافقين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنها نزلت في عمرو بن عائذ ، قاله الضّحّاك. والثالث : في الوليد بن المغيرة ، قاله السّدّيّ. والرابع : في العاص بن وائل ، قاله ابن السّائب. والخامس : في أبي سفيان بن حرب ، قاله ابن جريج. والسادس : في أبي جهل ، حكاه الماورديّ.

وفي «الدّين» أربعة أقوال : أحدها : أنه حكم الله عزوجل ، قاله ابن عباس. والثاني : الحساب ، قاله مجاهد ، وعكرمة. والثالث : الجزاء ، حكاه الماورديّ. والرابع : القرآن ، حكاه بعض المفسّرين. و (يَدُعُ) بمعنى يدفع. وقد ذكرناه في قوله عزوجل : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) والمعنى : أنه يدفع اليتيم عن حقّه دفعا عنيفا ليأخذ ماله. وقد بيّنّا فيما سبق أنهم كانوا لا يورّثون الصغير ، وقيل : يدفع اليتيم إبعادا له ، لأنه لا يرجو ثواب إطعامه (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي : لا يطعمه ، ولا يأمر بإطعامه لأنه مكذّب بالجزاء.

قوله عزوجل : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (١) نزل هذا في المنافقين الذين

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٦٧ : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) إما عن فعلها بالكلية كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق وأبو الضحى ، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا ، وإما عن أدائها بأركانها


لا يرجون لصلاتهم ثوابا ، ولا يخافون على تركها عقابا. فإن كانوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّوا رياء ، وإن لم يكونوا معه لم يصلّوا ، فذلك قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) وقال ابن مسعود : والله ما تركوها البتّة ولو تركوها البتّة كانوا كفّارا ، ولكن تركوا المحافظة على أوقاتها. وقال ابن عباس : يؤخّرونها عن وقتها. ونقل عن أبي العالية أنه قال : هو الذي لا يدري عن كم انصرف ، عن شفع ، أو عن وتر. وردّ هذا بعض العلماء فقال : هذا ليس بشيء ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سها في صلاته (١) ، ولأنه قال عزوجل : (عَنْ صَلاتِهِمْ) ولم يقل : في صلاتهم ، ولأنّ ذاك لا يكاد يدخل تحت طوق ابن آدم.

قلت : ولا أظنّ أبا العالية أراد السّهو النادر ، وإنما أراد السّهو الدائم ، وذلك ينبئنا عن التفات القلب عن احترام الصلاة ، فيتوجه الذمّ إلى ذلك لا إلى السّهو. وفي (الْماعُونَ) ستة أقوال :

(١٥٧١) أحدها : الإبرة ، والماء ، والنّار ، والفأس ، وما يكون في البيت من هذا النحو ، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية. وروى عنه أبو صالح أنه قال : الماعون : المعروف كلّه حتى ذكر القدر ، والقصعة ، والفأس. وقال عكرمة : ليس الويل لمن منع هذا ، إنما الويل لمن جمعهنّ ، فرأى في صلاته ، وسها عنها ، ومنع هذا. قال الزّجّاج : والماعون في الجاهلية : كلّ ما كان فيه منفعة كالفأس ، والقدر ، والدّلو ، والقدّاحة ، ونحو ذلك ، وفي الإسلام أيضا.

والثاني : أنه الزّكاة ، قاله عليّ ، وابن عمر ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة. والثالث : أنه الطاعة ، قاله ابن عباس في رواية. والرابع : المال ، قاله سعيد بن المسيّب ، والزّهريّ. والخامس : المعروف ، قاله محمّد بن كعب. والسادس : الماء ، ذكره الفرّاء عن بعض العرب قال : وأنشدني :

يمجّ صبيره الماعون صبّا

والصّبير : السّحاب.

____________________________________

(١٥٧١) ضعيف جدا. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» ٤ / ١٦٨ من حديث أبي هريرة ، وإسناده ضعيف جدا لضعف عمرو بن شبيب ، وفي الإسناد مجاهيل. وحسبه أن يكون من كلام أبي هريرة. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٨٢٣ بتخريجنا.

__________________

وشروطها على الوجه المأمور به ، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها فاللفظ يشمل ذلك كله ، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية.

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «التفسير» ٢٠ / ١٩٥ : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع له السهو في صلاته ، فضلا عن غيره ، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهود في كتبهم قال ابن العربي : لأن السلامة من السهو محال. اه.

قلت : قوله وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع له السهو ، ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها ، ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين ، وتقدم.


سورة الكوثر

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : مدنيّة ، قاله الحسن ، وعكرمة ، وقتادة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

وفي «الكوثر» ستة أقوال : أحدها : أنه نهر في الجنة.

(١٥٧٢) روى البخاريّ في أفراده من حديث أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافّتاه قباب الدّرّ المجوّف. قلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربّك عزوجل : فإذا طينه ، أو طينته مسك أذفر.

(١٥٧٣) وروى مسلم أيضا في أفراده من حديث أنس أيضا قال : أغفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسّما فقلنا له : لم ضحكت؟ فقال : «إنه أنزلت عليّ آنفا سورة» فقرأ : بسم الله الرّحمن الرّحيم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) حتى ختمها. وقال : «هل تدرون ما الكوثر؟» فقالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «هو نهر أعطانيه الله ربّي عزوجل في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمّتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم كواكب السماء ، يختلج العبد منهم ، فأقول : يا ربّ إنه من أمّتي ، فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

والثاني : أنّ الكوثر : الخير الكثير الذي أعطي نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس. والثالث : العلم والقرآن ، قاله الحسن. والرابع : النّبوة ، قاله عكرمة. والخامس : أنه حوض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يكثر الناس

____________________________________

(١٥٧٢) صحيح. أخرجه البخاري ٦٥٨٠ وأحمد ٣ / ١٩١ و ٢٨٩ وأبو يعلى ٢٨٧٦ والطبري ٣٨١٧٣ والطيالسي ٢٨١٣ من طرق عن همام عن قتادة عن أنس بن مالك به. وأخرجه أحمد ٣ / ١٠٣ وابن المبارك في «الزهد» ١٦١٢ والطبري ٣٨١٧٢ من طريق ابن أبي عدي عن حميد به. وأخرجه النسائي في «التفسير» ٧٢٦ وأحمد ٣ / ١١٥ و ٢٦٣ والآجري في «الشريعة» ٩٤٩ و ٩٥٠ وابن أبي شيبة ١١ / ٤٣٧ وابن حبان ٦٤٧٢ وأبو نعيم في «صفة الجنة» ٣٢٧ من طرق عن حميد به.

وأخرجه البخاري ٤٩٦٤ وأبو داود ٤٧٤٨ والترمذي ٣٣٥٦ و ٣٣٥٧ وأحمد ٣ / ١٦٤ و ٢٠٧ وابن ماجة ٤٣٠٥ والطبري ٣٨١٧٠ و ٣٨١٧١ من طرق عن قتادة به.

(١٥٧٣) صحيح. أخرجه مسلم ٤٠٠ والبغوي في «التفسير» ٢٤٠٣ عن أبي بكر بن أبي شيبة به عن أنس.

ـ وأخرجه النسائي ٢ / ١٣٣ ـ ١٣٤ وأبو عوانة ٢ / ١٢١ من طريق علي بن مسهر به.


عليه ، قاله عطاء. والسادس : أنه كثرة أتباعه ، وأمّته ، قاله أبو بكر بن عيّاش.

قوله عزوجل : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها صلاة العيد. وقال قتادة : صلاة الأضحى. والثاني : أنها صلاة الصّبح بالمزدلفة ، قاله مجاهد. والثالث : الصلوات الخمس ، قاله مقاتل.

وفي قوله عزوجل : (وَانْحَرْ) خمسة أقوال (١) : أحدها : اذبح يوم النّحر ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ومجاهد والجمهور. والثاني : وضع اليمنى على اليسرى عند النحر في الصلاة رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس وهو قول عليّ رضي الله عنه ، قال ابن جرير : فيكون المعنى ضع اليمنى على اليسرى عند النّحر في الصلاة. والثالث : أنه رفع اليدين بالتكبير إلى النّحر ، قاله أبو جعفر محمّد بن عليّ. والرابع : أنّ المعنى : صلّ لله ، وانحر لله ، فإنّ ناسا يصلّون لغيره ، وينحرون لغيره ، قاله القرظيّ. والخامس : أنه استقبال القبلة بالنّحر ، حكاه الفرّاء.

قوله عزوجل : (إِنَّ شانِئَكَ) اختلفوا فيمن عنى بذلك على خمسة أقوال (٢) :

أحدها : أنه العاص بن وائل السّهميّ.

(١٥٧٤) قاله ابن عباس : نزلت في العاص بن وائل ، لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على باب المسجد فوقف يحدّثه حتى دخل العاص المسجد ، وفيه أناس من صناديد قريش ، فقالوا له : من الذي كنت تحدّث؟ قال : ذلك الأبتر ، يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان قد توفّي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا يسمّون من ليس له ابن : أبتر ، فأنزل الله عزوجل هذه السورة. وممن ذهب إلى أنها نزلت في العاص سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة.

والثاني : أنه أبو جهل ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أبو لهب ، قاله عطاء. والرابع : عقبة بن أبي معيط ، قاله شمر بن عطيّة. والخامس : أنه عنى به جماعة من قريش ، قاله عكرمة. والشّانئ : المبغض ، و (الْأَبْتَرُ) : المنقطع عن الخير.

____________________________________

(١٥٧٤) لم أره مسندا ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٧٢ عن ابن عباس بدون إسناد.

وورد بنحوه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، ذكره الشوكاني في «فتح القدير» ٦١٧٤ وهذا إسناد ساقط. وكون الآية نزلت في العاص بدون هذه القصة. أخرجه الطبري ٢٨٢١٦. من مرسل سعيد بن جبير ، ٣٨٢١٧ من مرسل مجاهد و ٣٨٢١٨ من مرسل قتادة. وهو الراجح.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٧٢٤ : وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة وكذلك نحرك ، اجعله له دون الأوثان ، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له.

وحظك به من إعطائه إياك الكوثر ، قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٧٤ : وهذا الذي قاله أبو جعفر الطبري ، في غاية الحسن وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظي ، وعطاء.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٧٤ : يعني عدوك ، وهذا يعم جميع من أنصف بذلك ممن ذكر وغيرهم. وقال الطبري رحمه‌الله ١٢ / ٧٢٦ : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبره أن مبغض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الأقل الأذل المنقطع عقبه ، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس ، وإن كانت الآية نزلت في شخص معين.


سورة الكافرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، والجمهور. والثاني : مدنيّة ، روي عن قتادة. ذكر سبب نزولها : اختلفوا على ثلاثة أقوال (١) :

(١٥٧٥) أحدها : أنّ رهطا من قريش منهم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث لقوا العباس بن عبد المطّلب ، فقالوا : يا أبا الفضل : لو أنّ ابن أخيك أسلم بعض آلهتنا لصدّقناه بما يقول ولآمنّا بإلهه ، فأتاه العبّاس فأخبره فنزلت هذه السورة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(١٥٧٦) والثاني : أنّ عتبة بن ربيعة ، وأميّة بن خلف لقيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا يا محمّد : لا ندعك حتى تتبع ديننا ، ونتبع دينك ، فإن كان أمرنا رشدا كنت قد أخذت بحظّك منه ، وإن كان أمرك رشدا كنّا قد أخذنا بحظّنا منه ، فنزلت هذه السّورة ، قاله عبيد بن عمير.

(١٥٧٧) والثالث : أنّ قريشا قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن سرّك أن نتبع دينك عاما ، وترجع إلى ديننا عاما ، فنزلت هذه السورة ، قاله وهب. قال مقاتل في آخرين : نزلت هذه السورة في أبي جهل وفي المستهزئين ، ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد. وأما قوله عزوجل : (لا أَعْبُدُ) فهو في موضع

____________________________________

(١٥٧٥) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح ليس بثقة ، روى الكلبي وأبو صالح عن ابن عباس تفسير ليس له أصل عنه. راجع ترجمتهما في «الميزان». وانظر ما بعده.

(١٥٧٦) عزاه المصنف لعبيد بن عمير ، وهو تابعي ، فهو مرسل. وأخرجه الطبري ٣٨٢٢٦ عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا به ، وهذا مرسل. ويشهد له ما بعده.

(١٥٧٧) مرسل. أخرجه عبد الرزاق ٣٧٢٧ عن وهب بن منبه مرسلا. ويشهد له ما قبله.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٧٥ : هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون وهي آمرة بالإخلاص فيه ، فقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) يشمل كل كافر على وجه الأرض ولكن المواجهون بهذا الخطاب هم كفار قريش. وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية.


«من» ولكنه جعل مقابلا لقوله عزوجل : (ما تَعْبُدُونَ) وهي الأصنام.

وفي تكرار الكلام قولان (١) : أحدهما : أنها لتأكيد الأمر ، وحسم أطماعهم فيه ، قاله الفرّاء. وقد أنعمنا شرح هذا في سورة الرّحمن (٢). والثاني : أنّ المعنى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) في حالي هذه (وَلا أَنْتُمْ) في حالكم هذه ، (عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) فيما أستقبل ، وكذلك أنتم ، فنفى عنه وعنهم ذلك في الحال والاستقبال ، وهذا في قوم بأعيانهم ، أعلمه الله عزوجل أنهم لا يؤمنون ، كما ذكرنا عن مقاتل ، فلا يكون حينئذ تكرارا ، هذا قول ثعلب ، والزّجّاج. وقوله عزوجل : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فتح ياء «ولي» نافع ، وحفص ، وأبان عن عاصم. وأثبت ياء «ديني» في الحالين يعقوب. وهذا منسوخ عند المفسّرين بآية السيف.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٧٦ : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في المستقبل قاله البخاري وقيل أن ذلك تأكيد محض. وثم قول رابع ، نصره أبو العباس ابن تيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) نفي الفعل لأنها جملة فعلية (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) نفي قبوله لذلك بالكلية ، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفي الفعل ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا ، وهو قول حسن. واستدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) على أن الكفر كله ملة واحدة ، فورث اليهود من النصارى ، وبالعكس ، لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان.

(٢) الرحمن : ١٣.


سورة النّصر

وهي مدنيّة بإجماعهم

(١٥٧٨) وفي أفراد مسلم من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت جميعا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

قوله عزوجل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) أي : معونته على الأعداء. (وَالْفَتْحُ) : فتح مكّة قال الحسن : لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة قالت العرب : أما إذ ظفر محمّد بأهل الحرم ، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله أفواجا. قال أبو عبيدة : والأفواج : جماعات في تفرقة.

قوله عزوجل : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فيه قولان : أحدهما : أنه الصلاة ، قاله ابن عباس. والثاني : التسبيح المعروف ، قاله جماعة من المفسّرين. قال المفسّرون : نعيت إليه نفسه بنزول هذه السّورة ، وأعلم أنه قد اقترب أجله ، فأمر بالتسبيح والاستغفار ليختم له عمره بالزيادة في العمل الصالح (١). قال ابن عباس : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : داع من الله ، ووداع من الدنيا. قال قتادة : وعاش بعد نزول هذه السّورة سنتين.

____________________________________

(١٥٧٨) صحيح ، أخرجه مسلم ٣٠٢٤ والنسائي في «التفسير» ٧٣٣ عن ابن عباس به.

__________________

(١) أخرجه النسائي في «التفسير» ٧٣٢ والطبراني ١١٩٠٣ من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس.


سورة المسد

وهي مكّيّة بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

(١٥٧٩) وسبب نزولها ما رواه البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصّفا فقال : «يا صباحاه». فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك؟ فقال : أرأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبّحكم ، أو ممسيكم ، أما كنتم تصدّقوني؟» قالوا : بلى. قال : «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد». قال أبو لهب : تبّا لك ، ألهذا دعوتنا جمعا؟ فأنزل الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) ومعنى : تبّت خسرت يدا أبي لهب (وَتَبَ) أي : وخسر هو. قال الفرّاء : الأول : دعاء ، والثاني : خبر ، كما يقول الرجل : أهلكك الله وقد أهلكك ، وجعلك الله صالحا وقد جعلك. وقيل : ذكر يديه ، والمراد نفسه ، ولكن هذا عادة العرب يعبّرون ببعض الشيء عن جميعه ، كقوله عزوجل : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٢). وقال مجاهد : «تبت يدا أبي لهب وتبّ» ولد أبي لهب. فأمّا أبو لهب فهو عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : إنّ اسمه عبد العزّى. وقرأ ابن كثير وحده «أبي لهب» بإسكان الهاء. قال أبو عليّ : يشبه أن يكون كالسّمع والسّمع ، والنّهر والنّهر.

فإن قيل : كيف كنّاه الله عزوجل ، وفي الكنية نوع تعظيم؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه إن صحّ أنّ اسمه عبد العزّى ، فكيف يذكره الله بهذا الاسم وفيه معنى الشّرك؟! والثاني : أنّ كثيرا من الناس اشتهروا بكناهم ، ولم يعرف لهم أسماء. قال ابن قتيبة : خبّرني غير واحد عن الأصمعي أنّ أبا عمرو بن العلاء ، وأبا سفيان بن العلاء اسماهما كناهما ، فإن كان اسم أبي لهب كنيته ، فإنما ذكره بما لا يعرف إلّا به.

قوله عزوجل : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) ، قال ابن مسعود :

____________________________________

(١٥٧٩) متفق عليه ، وتقدم في سورة الشعراء ، الآية : ٢١٤.

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

(٢) الحج : ١٠.


(١٥٨٠) لمّا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقربيه إلى الله عزوجل قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقّا ، فإني أفتدي بمالي ، وولدي ، فقال الله عزوجل : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) قال الزّجّاج : و«ما» في موضع رفع. المعنى : ما أغنى عنه ماله وكسبه أي : ولده. وكذلك قال المفسّرون : المراد بكسبه هاهنا : ولده. و«أغنى» بمعنى يغني (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي : تلتهب عليه من غير دخان (وَامْرَأَتُهُ) أي : ستصلى امرأته ، وهي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان. وفي هذا دلالة على صحة نبوّة نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام ، لأنه أخبر بهذا المعنى أنه وزوجته يموتان على الكفر ، فكان ذلك ، إذا لو قالا بألسنتهما : قد أسلمنا ، لوجد الكفّار متعلقا في الرّدّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير أنّ الله علم أنهما لا يسلمان باطنا ولا ظاهرا ، فأخبره بذلك.

قوله عزوجل : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : أنها كانت تمشي بالنّميمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسّدّيّ ، والفرّاء. قال ابن قتيبة : فشبّهوا النّميمة بالحطب ، والعداوة والشّحناء بالنار ، لأنهما يقعان بالنّميمة ، كما تلتهب النار بالحطب. والثاني : أنها كانت تحتطب الشّوك ، فتلقيه في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلا ، رواه عطيّة عن ابن عباس. وبه قال الضّحّاك ، وابن زيد. والثالث : أنّ المراد بالحطب : الخطايا ، قاله سعيد بن جبير. والرابع : أنها كانت تعيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، وكانت تحتطب فعيّرت بذلك ، قال قتادة. وليس بالقويّ ، لأنّ الله تعالى وصفه بالمال. وقرأ عاصم وحده (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بالنصب.

قال الزّجّاج : من نصب «حمّالة» فعلى الذّم. والمعنى : أعني : حمّالة الحطب. والجيد : العنق. والمسد في لغة العرب : الحبل إذا كان من ليف المقل. وقد يقال لما كان من أوبار الإبل من الحبال : مسد. قال الشاعر :

ومسد أمرّ من أيانق (٢)

وقال ابن قتيبة : المسد عند كثير من الناس : اللّيف دون غيره ، وليس كذلك ، إنما المسد : كلّ ما ضفر وفتل من اللّيف وغيره.

واختلف المفسّرون : في المراد بهذا الحبل على ثلاثة أقوال (٣) : أحدها : أنها حبال كانت تكون

____________________________________

(١٥٨٠) لم أقف له على إسناد ، وذكره ابن كثير في «التفسير» ٤ / ٦٨١ بصيغه التمريض بقوله : وذكر عن ابن مسعود. والصواب في هذا الحديث المتقدم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٨١ : كانت عونا لزوجها على كفره ، وجحوده وعناده ، فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم ، ولهذا قال تعالى : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) يعني تحمل الحطب فتلقي على زوجها يزداد على ما هو فيه ، وهي مهيأة لذلك مستعدة له.

(٢) هو صدر بيت لعمارة بن طارق وعجزه :

صهب عتاق ذات مخ زاهق

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٧٣٨ : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو حبل جمع من أنواع مختلفة. قال ابن كثير رحمه‌الله : وقال بعض أهل العلم في قوله تعالى : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) في عنقها حبل من نار جهنم ترفع به إلى شفيرها ثم ترمى إلى أسفلها. ثم كذلك دائما.


بمكّة ، رواه العوفي عن ابن عباس وقال الضّحّاك : حبل من شجر كانت تحتطب به. والثاني : أنه قلادة من ودع ، قاله قتادة. والثالث : أنه سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا ، قاله عروة بن الزّبير ، وقال غيره : المراد بهذا الحبل : السّلسلة التي ذكرها الله تعالى في النار ، طولها سبعون ذراعا. والمعنى : أنّ تلك السّلسلة قد فتلت فتلا محكما ، فهي في عنقها تعذّب بها في النار.


سورة الإخلاص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

وفيها قولان : أحدهما : أنها مكّيّة ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وجابر. والثاني : مدنيّة ، روي عن ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك.

(١٥٨١) وقد روى البخاريّ في أفراده من حديث أبي سعيد الخدري أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده إنّها لتعدل ثلث القرآن».

(١٥٨٢) وروى مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّها تعدل ثلث القرآن». وفي سببها نزولها ثلاثة أقوال :

(١٥٨٣) أحدها : أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انسب لنا ربّك ، فنزلت هذه السورة ، قاله أبيّ بن كعب.

(١٥٨٤) والثاني : أنّ عامر بن الطّفيل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلام تدعونا يا محمّد؟ قال : إلى الله عزوجل. قال : صفه لي ، أمن ذهب هو ، أو من فضّة ، أم من حديد ، فنزلت هذه السورة ، قاله ابن عباس.

(١٥٨٥) والثالث : أنّ الذين قالوا هذا ، قوم من أحبار اليهود قالوا : من أي جنس هو ، وممّن

____________________________________

(١٥٨١) صحيح. أخرجه البخاري ٥٠١٣ و ٦٦٤٣ و ٧٣٧٤ ومالك ١ / ٢٠٨ وأحمد ٣ / ٣٥ وأبو داود ١٤٦١ والنسائي ٢ / ١٧١ وابن حبان ٧٩١ كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وانظر «تفسير القرطبي» ٦٥٢٢.

(١٥٨٢) صحيح. أخرجه مسلم ٨١٢ وأحمد ٢ / ٤٢٩ من حديث أبي هريرة. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٨٧١ بتخريجنا.

(١٥٨٣) حسن. أخرجه الترمذي ٣٣٦٤ وأحمد ٥ / ١٣٤ والحاكم ٢ / ٥٤٠ والطبري ٢٨٢٩٨ والواحدي ٨٨٠ من حديث أبي العالية عن أبيّ بن كعب به ، وإسناده لا بأس به ، وله شواهد. وورد من مرسل أبي العالية : أخرجه الطبري ٣٨٣٠٠. وورد من حديث جبير : أخرجه أبو يعلى ٢٠٤٤ والطبري ٣٨٣٠١ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٨١ وفي «الوسيط» ٤ / ٥٧٠ ـ ٥٧١. وإسناده ضعيف ، فيه مجالد بن سعيد ، وهو ضعيف. وورد من مرسل عكرمة ، أخرجه الطبري ٣٨٢٩٩ ، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.

(١٥٨٤) عزاه البغوي في «التفسير» ٤ / ٥٤٤ لأبي صالح وأبي ظبيان عن ابن عباس ، وأبو صالح متهم في روايته عن ابن عباس ، وراوية أبي ظبيان ابنه قابوس ، وهو ضعيف. ولا يصح هذا الخبر ، وتقدم ذكر أربد في سورة الرعد.

(١٥٨٥) لم أره عن الضحاك مسندا ، ومرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٨٣٠٣ ، ولا يصح هذا الخبر ، فإن السورة


ورث الدنيا ، ولمن يورّثها؟ فنزلت هذه السورة ، قاله قتادة ، والضّحّاك. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ «أحد الله» وقرأ أبو عمرو «أحد الله» بضمّ الدال ، ووصلها باسم الله. قال الزّجّاج : هو كناية عن ذكر الله عزوجل. والمعنى : الذي سألتم تبيين نسبته هو الله. و«أحد» مرفوع على معنى : هو أحد ، فالمعنى : هو الله ، وقرئت «أحد الله الصمد» بتنوين أحد ، وقرئت «أحد الله الصمد» بترك التنوين ، وقرئت بإسكان الدال «أحد الله» وأجودها الرفع بإثبات التنوين ، وكسر التنوين لسكونه وسكون اللام في «الله» ، ومن حذف التنوين ، فلالتقاء الساكنين أيضا ، ومن أسكن أراد الوقف ثم ابتدأ «الله الصمد» وهو أردؤها.

فأمّا «الأحد» فقال ابن عباس ، وأبو عبيدة : هو الواحد. وفرّق قوم بينهما. وقال أبو سليمان الخطّابي : الواحد : هو المنفرد بالذّات ، فلا يضاهيه أحد.

والأحد : هو المنفرد بالمعنى ، لا يشاركه فيه أحد. وأصل «الأحد» عند النّحويين : الوحد ، ثم أبدلوا عن الواو الهمزة وفي «الصّمد» أربعة أقوال:

(١٥٨٦) أحدها : أنه السّيد الذي يصمد إليه في الحوائج ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : (الصَّمَدُ) : السّيّد الذي كمل في سؤدده. وقال أبو عبيدة : هو السيّد الذي ليس فوقه أحد. والعرب تسمي أشرافها : الصّمد. قال الأسدي :

لقد بكّر النّاعي بخيري بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيد الصّمد

وقال الزّجّاج : هو الذي ينتهي إليه السّؤدد ، فقد صمد له كلّ شيء أي قصد قصده. وتأويل صمود كلّ شيء له : أنّ في كلّ شيء أثر صنعه. وقال ابن الأنباري : لا خلاف بين أهل اللغة أنّ الصّمد : السيّد الذي ليس فوقه أحد تصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم.

والثاني : أنه الذي لا جوف له ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وقتادة ، والسّدّيّ. وقال ابن قتيبة : وكان الدال من هذا التفسير مبدلة من تاء ، والمصمت من هذا. والثالث : أنه الدائم. والرابع : الباقي بعد فناء الخلق ، حكاهما الخطّابي وقال : أصحّ الوجوه الأول ، لأنّ الاشتقاق يشهد له ، فإنّ أصل الصّمد : القصد. يقال : أصمد صمد فلان ، أي اقصد قصده. فالصّمد : السيّد الذي يصمد إليه في الأمور ، ويقصد في الحوائج.

قوله عزوجل : (لَمْ يَلِدْ) قال مقاتل : لم يلد فيورّث (وَلَمْ يُولَدْ) فيشارك ، وذلك أنّ مشركي العرب قالوا : الملائكة بنات الرّحمن. وقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النّصارى : المسيح ابن الله ، فبرّأ الله نفسه من ذلك.

وقوله عزوجل : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) قرأ الأكثرون بالتثقيل والهمز. ورواه حفص بالتثقيل وقلب الهمز واوا. وقرأ حمزة بسكون الفاء. والكفء : المثل المكافئ. فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ولم يكن له أحد كفوا ، فقدّم وأخّر لتتّفق رؤوس الآيات.

____________________________________

مكية ، وأخبار اليهود وسؤالاتهم مدنية ، والراجح في ذلك الحديث ١٥٨٣.

(١٥٨٦) لم أقف عليه ، وتفرد المصنف بذكره دون سائر المفسرين أمارة لوهنه أو وضعه لخلوه عن كتب الحديث والأثر والتفسير ، ولو صح مرفوعا ما اختلف المفسرون في تأويل «الصمد».


سورة الفلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة في آخرين. والثاني : أنها مكّيّة ، رواه كريب عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وجابر. والأول أصحّ ، ويدل عليه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر وهو مع عائشة ، فنزلت عليه المعوّذتان.

(١٥٨٧) فذكر أهل التفسير في سبب نزولهما : أنّ غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزل به اليهود حتى أخذ مشاطة رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدّة أسنان من مشطه ، فأعطاها اليهود فسحروه فيها. وكان الذي تولّى ذلك لبيد بن أعصم اليهودي. ثم دسّها في بئر لبني زريق ، يقال لها : بئر ذروان. ويقال : ذي أروان ، فمرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانتثر شعر رأسه ، وكان يرى أنه يأتي النساء وما يأتيهنّ ، ويخيّل إليه أن يفعل الشيء ، وما يفعله ، فبينا هو ذات يوم نائم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما للآخر : ما بال الرجل؟ قال : طبّ. قال : وما طبّ؟ قال : سحر. قال : ومن سحره؟ قال : لبيد بن الأعصم. قال : وبم طبّه؟ قال : بمشط ومشاطة. قال : وأين هو؟ قال : في جفّ طلعة تحت راعوفة في بئر ذروان. والجفّ : قشر الطّلع. والرّاعوفة : صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت. فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقّي عليها ، فانتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا عائشة أما شعرت أنّ الله أخبرني بدائي ، ثم بعث عليّا ، والزّبير ، وعمّار بن ياسر ، فنزحوا ماء تلك البئر ، ثم رفعوا الصخرة ، وأخذوا الجفّ ، وإذا فيه مشاطة رأسه ، وأسنان مشطه ، وإذا وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبرة ، فأنزل الله عزوجل المعوّذتين ، فجعل كلّما قرأ آية انحلّت عقدة. ووجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خفّة حين انحلّت العقدة الأخيرة ، وجعل جبريل يقول : بسم الله أرقيك من كلّ شيء يؤذيك ، ومن حاسد وعين ، والله يشفيك. فقالوا : يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث فنقلته؟ فقال : «أمّا أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن أثير على الناس شرّا».

____________________________________

(١٥٨٧) ذكره الحافظ ابن كثير ٤ / ٦١٤ ـ ٦١٥ بأتم منه ، ونسبه للثعلبي ، وقال : هكذا أورده بلا إسناد ، وفيه غرابة ، وفي بعضه نكارة شديدة. ولبعضه شواهد مما تقدم ، والله أعلم. وانظر ما بعده.


(١٥٨٨) وقد أخرج البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها حديث سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد بيّنّا معنى «أعوذ» في أول كتابنا. وفي (الْفَلَقِ) ستة أقوال (١) :

أحدها : أنه الصّبح ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والقرظي وابن زيد ، واللغويون قالوا : ويقال : هذا أبين من : فلق الصّبح وفرق الصّبح. والثاني : أنه الخلق كلّه. رواه الوالبي عن ابن عباس. وكذلك قال الضحاك : العلق : الخلق كله. والثالث : سجن في جهنّم ، روي عن ابن عباس أيضا. وقال وهب والسّدّيّ : جبّ في جهنّم. وقال ابن السّائب : واد في جهنّم. والرابع : شجرة في النار ، قاله عبد الله بن عمر. والخامس : أنه كلّ ما انفلق عن شيء كالصبح ، والحبّ ، والنّوى ، وغير ذلك ، قاله الحسن. قاله الزّجّاج : وإذا تأمّلت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق ، كالأرض بالنبات ، والسّحاب بالمطر. والسادس : أنه اسم من أسماء جهنّم ، قاله أبو عبد الرّحمن عبد الله بن يزيد الحبلي.

قوله عزوجل : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) وقرأ ابن السّميفع ، وابن يعمر : «خلق» بضمّ الخاء ، وكسر اللام. فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه عامّ ، وهو الأظهر. والثاني : أنّ شرّ ما خلق : إبليس وذرّيته ، قاله الحسن. والثالث : جهنّم ، حكاه الماوردي.

وفي «الغاسق» أربعة أقوال : أحدها : أنه القمر ، روت عائشة قالت : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر ، فقال :

(١٥٨٩) «استعيذي بالله من شرّه فإنه الغاسق إذا وقب» ، رواه التّرمذي ، والنّسائي في كتابيهما. قال ابن قتيبة : ويقال : الغاسق : القمر إذا كسف فاسودّ. ومعنى (وَقَبَ) دخل في الكسوف.

____________________________________

(١٥٨٨) صحيح. أخرجه البخاري ٣١٧٥ و ٦٠٦٣ ومسلم ٢١٨٩ وابن ماجة ٣٥٤٥ وأحمد ٦ / ٦٣ وابن حبان ٦٥٨٤ عن عائشة قالت : مكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي ، قالت عائشة : فقال لي ذات يوم «يا عائشة إن الله تعالى أفتاني في أمر استفتيته فيه ، أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجليّ والآخر عند رأسي ، فقال الذي عند رجليّ للذي عند رأسي : ما بال الرجل؟ قال : مطبوب يعني مسحورا ، قال : ومن طبه؟ قال : لبيد بن أعصم ، قال : وفيم؟ قال في جفّ طلعة ذكره في مشط ومشاطة تحت رعوفة في بئر ذروان ، فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هذه البئر التي أريتها كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين ، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء ، فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخرج ، قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله ، فهلا ـ تعني تنشّرت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّا الله فقد شفاني ، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا ، قالت : «ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود» لفظ البخاري بحروفه في الرواية الثانية ، فعليك به ، ودع الروايات الواهية والضعيفة.

(١٥٨٩) ضعيف. أخرجه أحمد ٦ / ٢٠٦ والبغوي في «شرح السنة» ١٣٦١ من طريق وكيع عن ابن أبي ذئب عن خالد بن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة به. وأخرجه الترمذي ٣٣٦٦ وأحمد ٦ / ٦١ و ٢٠٦ و ٢١٥ و ٢٣٧ و ٢٥٢ وأبو يعلى ٤٤٤٠ وأبو الشيخ في «العظمة» ٦٨١ والحاكم ٢ / ٥٤١. والطبري ٣٨٣٧٧ من طرق عن ابن أبي ذئب به. ـ

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٧٤٨ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عزوجل أمر نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) والفلق من كلام العرب : فلق الصبح.

وقال ابن كثير رحمه‌الله وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار البخاري في «صحيحه» رحمه‌الله تعالى.


(١٥٩٠) والثاني : أنه النّجم ، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثالث : أنه الليل ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والقرظي ، والفرّاء ، وأبو عبيد ، وابن قتيبة ، والزّجاج. قال اللغويون : ومعنى «وقب» دخل في كلّ شيء فأظلم. و«الغسق» الظّلمة. وقال الزّجّاج : الغاسق : البارد ، وقيل للّيل : غاسق ، لأنه أبرد من النهار. والرابع : أنه الثّريّا إذا سقطت ، وكانت الأسقام ، والطّواعين تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها ، قاله ابن زيد.

فأمّا (النَّفَّاثاتِ) فقال ابن قتيبة : هنّ السّواحر ينفثن ، أي : يتفلن إذا سحرن ، ورقين. قال الزّجّاج : يتفلن بلا ريق ، كأنه نفخ. وقال ابن الأنباري : قال اللغويون : تفسير نفث : نفخ نفخا ليس معه ريق ، ومعنى تفل : نفخ نفخا معه ريق. وقال ذو الرّمّة :

ومن جوف ماء عرمض الحفل فوقه

متى تحس منه ماتح القوم يتفل

وقد روى ابن أبي سريج «النّافثات» بألف قبل الفاء مع كسر الفاء وتخفيفها. وقال بعض المفسّرين : المراد بالنّفّاثات هاهنا : بنات لبيد أعصم اليهودي سحرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ) يعني : اليهود حسدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد ذكرنا حدّ الحسد في البقرة. والحسد : أخسّ الطبائع. وأوّل معصية عصي الله بها في السماء حسد إبليس لآدم ، وفي الأرض حسد قابيل لهابيل.

____________________________________

وقد توبع الحارث عند أحمد في الرواية ٦ / ٢١٥ ، تابعه المنذر بن أبي المنذر ، وهو مجهول وأخشى أن يكون أخذه الحارث عن المنذر ، وهو محتمل ، فالمتن غريب. وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي : حسن صحيح!

قلت : والمتن غريب لأن عامة أهل التفسير والأثر على أن المراد بذلك الليل إذا دخل. أخرجه الطبري ٣٨٣٦٤ عن ابن عباس لكن سنده واه ، وكرره عن الحسن ٣٨٣٦٥ وكرره ٣٨٣٦٦ عن القرظي ، وكرره ٣٨٣٦٨ عن مجاهد والحسن ، وكرره ٣٨٣٦٩ و ٣٨٣٧٠ عن الحسن. وكرره ٣٨٣٧١ عن ابن عباس بسند رجاله ثقات لكن فيه إرسال ، وهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، وهو الذي اختاره البخاري في «صحيحه». فقال ٨ / ٧٤١ «فتح» : وقال مجاهد : الفلق : الصبح ، وغاسق الليل إذا وقب غروب الشمس. قلت : فهذا ما عليه عامة أهل العلم ، ولو ثبت الحديث عند البخاري لرواه ولو تعليقا أو تبويبا.

(١٥٩٠) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٨٣٧٥ عن أبي هريرة مرفوعا ، وإسناده ضعيف ، فيه محمد بن عبد العزيز ، وهو متروك ، وقال الحافظ ابن كثير ٤ / ٦٩٤ : لا يصح رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٨٩٣.


سورة النّاس

وفيها قولان : أحدهما : أنها مدنيّة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنها مكّيّة ، رواه أبو كريب عن ابن عباس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

فإن قيل : لم خصّ الناس هاهنا بأنه ربّهم ، وهو ربّ كلّ شيء؟ فعنه جوابان جوابان : أحدهما : لأنهم معظّمون متميّزون على غيرهم. والثاني : لأنه لمّا أمر بالاستعاذة من شرّهم أعلم أنه ربّهم ، ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرّهم. ولمّا كان في الناس ملوك قال عزوجل : (مَلِكِ النَّاسِ) ولمّا كان فيهم من يعبد غيره قال عزوجل : (إِلهِ النَّاسِ). و (الْوَسْواسِ) الشيطان ، وهو (الْخَنَّاسِ) يوسوس في الصدور ، فإذا ذكر الله ، خنس ، أي : كفّ وأقصر. قال الزّجّاج : الوسواس هاهنا : ذو الوسواس. وقال ابن قتيبة : الصدور هاهنا : القلوب. قال ابن عباس : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل ، وسوس ، فإذا ذكر الله ، خنس.

قوله عزوجل : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) الجنّة : الجنّ. وفي معنى الآية قولان : أحدهما : يوسوس في صدور الناس جنّتهم وناسهم ، فسمّى الجنّ هاهنا ناسا ، كما سمّاهم رجالا في قوله عزوجل : (يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) وسمّاهم نفرا بقوله عزوجل : (اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) هذا قول الفرّاء. وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوسا للجنّ ، كما يوسوس للإنس. والثاني : أنّ الوسواس : الذي يوسوس في صدور الناس ، هو من الجنّة ، وهم من الجنّ. والمعنى : من شرّ الوسواس الذي هو من الجنّ. ثم عطف قوله عزوجل : (وَالنَّاسِ) على (الْوَسْواسِ) والمعنى : من شرّ الوسواس ، ومن شرّ الناس كأنه أمر أن يستعيذ من الجنّ والإنس (١) ، وهذا قول الزّجّاج.

تمّ الكتاب بحمد الله ومنّه.

__________________

(١) فائدة : أخرج البخاري ٥٠١٦ ومسلم ٢١٩٢ ح ٥١ وأبو داود ٣٩٠٢ وأحمد ٦ / ١٨١ و ٢٥٦ و ٢٦٣ وابن حبان ٢٩٦٣ من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتهما.


فهذا آخر «زاد المسير» ، والحمد لله على الإنعام الغزير ، وإذ قد بلغنا بحمد الله مرادنا فيما أمّلنا ، فلا يعتقدنّ من رأى اختصارنا أنّا أقللنا ، فقد أشرنا بما ذكرنا إلى ما تركنا ودللنا ، فليكن الناظر في كتابنا متيقظا لما أغفلنا ، فإنّا ضمنّا الاختصار مع نيل المراد ، وقد فعلنا. ومن أراد زيادة بسط في التفسير ، فعليه بكتابنا «المغني» في التفسير. فإن أراد مختصرا ، فعليه بكتابنا المسمّى ب «تذكرة الأريب في تفسير الغريب». والحمد لله ربّ العالمين ، أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا وصلواته على سيدنا محمّد النبيّ وآله أجمعين ، وعلى أبيه آدم ، وذريّته الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين ، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.

ووافق الفراغ من هذا المجلّد وهو آخر الكتاب يوم الاثنين حادي والعشرين شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وثمانين وثمان مائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خليفة غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدّعوات ، ونقل هذا المجلّد جميعه من أصل ثم من أصل المصنّف وعليه سماع المصنّف وهو الشيخ الإمام العالم الأوحد جمال الدّين أبو الفرج عبد الرّحمن بن عليّ ابن الجوزي مصنّفه رضي الله عنه وأرضاه والحمد لله ربّ العالمين.

بلغ مقابلته بحسب الطاقة والإمكان ونعوذ بالله من الزّيادة والنّقصان.



الفهارس

١ ـ فهرس الأحاديث القدسية................................................ ٥١٥

٢ ـ فهرس الأحاديث والآثار النبوية........................................... ٥١٦

٣ ـ فهرس قوافي الأشعار..................................................... ٥٣٣

٤ ـ فهرس أنصاف الأبيات.................................................. ٥٤٩

٥ ـ المصادر والمراجع........................................................ ٥٥٠



١ ـ فهرس الأحاديث القدسية

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم أبدا............................. ٢ / ٢٧٧

ادخلوا الجنة (لأصحاب الأعراف) ، فإني قد غفرت لكم.................... ٢ / ١٢٥

إذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه............................. ٢ / ٤٢٩

أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما المؤمن فقال : مطرنا بفضل الله........ ٤ / ٢٢٩

أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت................... ٣ / ٤٤١

أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟.......................................... ٢ / ٢٧٧

أنا أبلغهم عنكم....................................................... ١ / ٣٤٧

أنا أهل أن أتّقى فلا يشرك بي غيري...................................... ٤ / ٣٦٧

أنا العزيز ، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز.............................. ٣ / ٥٠٧

أنا عند ظن عبدي بي.................................................. ٤ / ٢٦٤

أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه................................. ٣ / ٤٧٠

أنا الملك ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟.................................... ٤ / ٢٦

أنا الملك ، أين ملوك الأرض؟............................................. ٤ / ٢٦

انفخ نفخة الفزع (يقولها عزوجل لإسرائيل).................................. ٤ / ٣٧

أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟.................................... ٤ / ٣٤٠

إني خلقت عبادي حنفاء............................................... ٣ / ٤٢٣

ثلاث لا أسأل عبدي عن شكرهن ، وأسأله عما سوى ذلك................ ٤ / ٤٨٦

قسمت الصلاة بيني وبين عبدي......................................... ٢ / ٥٤٢

كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام الكاتبين شهودا................... ٤ / ٤٩

لم تقنط عبادي؟ نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم.......................... ٢ / ٥٣٦

من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها... ٢ / ٩٧

هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة؟!.............................. ٤ / ٢١٤

يا آدم ، قم فابعث بعث النار........................................... ٣ / ٢٢١

يا ابن آدم ، استطعمتك فلم تطعمني..................................... ٤ / ١٧٤

يا أهل الجنة ، هل رضيتم؟.............................................. ٢ / ٢٧٧

يا داود ، إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة............................ ٢ / ١٠٣

يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى؟....................................... ٣ / ٥٨٢


٢ ـ فهرس الأحاديث والآثار النبوية

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

 ـ الألف ـ

أتعطوني كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم

 ٣ / ٥٦٠

آخر آية أنزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

 ١ / ١٣

اتق الله

٣ / ٤٦٧

 آخر آية أنزلت : واتقوا

 ١ / ١٣

اتق الله حيثما كنت

 ٢ / ٤٠٧

 آخر آية نزلت : لقد جاءكم

 ١ / ١٣

اتق الله واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله

 ٤ / ٢٩٨

آخر آية نزلت : يستفتونك

١ / ١٣

اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله

 ٢ / ٥٣٩

آخر سورة نزلت جميعا : إذا جاء

 ١ / ١٣ ، ٤ / ٥٠١

 أجاز صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمحرم قتل الحية والعقرب

 ١ / ٥٨٥

آذني أصلي عليه

 ٢ / ٢٨٦

 اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم

٤ / ١١٣

آلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا

٣ / ٤٦٠ ، ٤ / ٣٠٥

اجتنبوا السبع الموبقات

 ١ / ٣٩٦

الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه

 ١ / ٢٥٤

أجدني مغموما

 ٣ / ٢٠٦

ائتني بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك

 ٣ / ٢٨١

أجدني مكروبا

 ٣ / ٢٠٦

ابتغوها في العشر الأواخر في الوتر منها

٤ / ٤٧٠

 أجورهم : يدخلهم الجنة

 ١ / ٥٠٣

أبطأت عليّ حتى ساء ظني واشتقت إليك

 ٣ / ١٤٠

أحب صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرى جبريل على حقيقته

 ٤ / ١٨٤

 أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من الفداء

 ٢ / ٢٢٤

 أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود

 ٣ / ٥٦٣

 أبوك وأبو عائشة واليا الناس من بعدي

 ٤ / ٣٠٧

احبسوا عليّ الركب

٢ / ٢٧٥

 أتبع السيئة الحسنة تمحها

٢ / ٤٠٧

احترسوا من الناس بسوء الظن

٤ / ١٥١

أتحلف

 ١ / ٢٩٧

أحسنت

 ١ / ٥٧٧

 أتدرون ما أخبارها

 ٤ / ٤٧٨

 اختصم يهود المدينة ونصارى نجران

 ١ / ١٠٢

أتدرون ما المعيشة الضنك

 ٣ / ١٨٠

 أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان

 ٢ / ١٦٧

أتدري ما الجمعة؟

 ٤ / ٢٨٢

أخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفا من تراب فرماهم به

 ٢ / ٢٤٧

أتردين عليه حديقته؟

 ١ / ٢٠٣

 اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذّن

 ٢ / ٢٣٢

أتركهم حتى يتوب تائبهم

 ٢ / ٦٥

 اخرج يا أبا بكر ، فهذا حين دلكت الشمس

 ٣ / ٤٥

أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين

 ١ / ٢٥٥

 اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق

 ٣ / ٤٨٤

أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟

 ١ / ٢٠٤

 اخرجوا إلى أرض المحشر

 ٤ / ٢٥٤


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

اخرجوا إليه واكتموا

 ٢ / ٢٠٣

اذهب فخذ سيفك

 ٢ / ١٨٧

أخّرهم إلى ليلة الجمعة

٢ / ٤٧٢

اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه

 ٢ / ٢٧٤

ادعوا لي المقداد

 ١ / ٤٧٢

أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم

 ٤ / ٥٠٢

ادعوا لي المقداد

 ١ / ٤٥٢

اربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا

٢ / ١٢٩

إذا أحب الله عبدا قال : يا جبريل إني أحب فلانا فأحبوه

 ٣ / ١٤٩

 ارجع اليه فادعه

 ٢ / ٤٨٨

إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم

 ٢ / ٥٢٣

ارفق به وأحسن إليه

 ٤ / ٢٥٢

إذا أخذتم الساحر فاقتلوه

٣/١٦٧

أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر

 ١ / ٤٢٣

إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت ذنوبه

 ٤ / ١٤

أري صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يدخل مكة هو وأصحابه

 ٣ / ٣٤

إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة

 ٣ / ٤٩٧

أري صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني أمية على المنابر فساءه

 ٣ / ٣٥

إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا

 ٤ / ٢٠٣

أري صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام قبل خروجه الى الحديبية قائلا يقول له : لتدخلن المسجد الحرام

 ٤ / ١٣٧

إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار

 ٣ / ١٣٢

أريت ليلة القدر ثم أنسيتها

 ٤ / ٤٧١

إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب

 ٢ / ٤٦٩

استشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس يوم خرج إلى بدر

 ١ / ٥٣٤

إذا ظننتم فلا تحققو

ا ٤ / ١٥١

استعيذي بالله من شره ، فإنه الغاسق إذا وقب

 ٤ / ٥٠٨

إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم

 ١ / ٢٢

اسجدوا للرحمن

 ٢ / ٤٩٥

إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان

 ٢ / ١٨٥

اسق ثم أرسل إلى جارك

 ١ / ٤٢٨

إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة

 ٤ / ٤٧٣

اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر

 ١ / ٤٢٨

 إذا مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين

 ٤ / ٤٨٤

اسقه عسلا

 ٢ / ٥٧٠

إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة

 ٢ / ٥٠٠

 أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا

 ٢ / ٣٠٢

إذن ترعد له آنف كبيرة

 ٤ / ٢٨٦

اشهدوا

 ٤ / ١٩٦

أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر

أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله

 ٤ / ٣٣١

اصبروا فإني لم أومر بالقتال

 ٣ / ٢٤٠

إذن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه

 ٤ / ٢٨٦

أضعفوا على العباس الفداء

 ٢ / ٢٢٦

اذهب إلى قريش فأخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد ، وإنما جئنا زوار

ا ٤ / ١٢٦

 اطلبوها الليلة (ليلة ثلاث وعشرين)

 ٤ / ٤٧١

اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة

٤ / ١٤٣

اعتكف صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشر الأوسط واعتكفنا معه

 ٤ / ٤٧٠

اذهب فاذكرها عليّ

 ٣ / ٤٦٨

أعوذ بك من دعاء لا يسمع

 ١ / ١١١

اذهب فاطرحه في القبض

 ٢ / ١٨٦

أقتلته بعد ما قال : آمنت!

 ١ / ٤٥٣

أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله

 ٤ / ٣٣١

اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران

 ١ / ٢٤

إذن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه

 ٤ / ٢٨٦

 أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد

 ٤ / ٤٦٨

اذهب إلى قريش فأخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد ، وإنما جئنا زوار

ا ٤ / ١٢٦

اصبروا فإني لم أومر بالقتال

 ٣ / ٢٤٠

اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة

٤ / ١٤٣

أضعفوا على العباس الفداء

 ٢ / ٢٢٦

اذهب فاذكرها عليّ

 ٣ / ٤٦٨

 اطلبوها الليلة (ليلة ثلاث وعشرين)

 ٤ / ٤٧١

اذهب فاطرحه في القبض

 ٢ / ١٨٦

اعتكف صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشر الأوسط واعتكفنا معه

 ٤ / ٤٧٠

أعوذ بك من دعاء لا يسمع

 ١ / ١١١

أقتلته بعد ما قال : آمنت!

 ١ / ٤٥٣

اقرءوا الزهراوين : البقرة وآل عمران

 ١ / ٢٤

 أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد

 ٤ / ٤٦٨


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

اكتب : لا يستوي القاعدون

 ١ / ٤٥٤

اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي

 ٣ / ٤٦٣

ألا احتطت فإن البضع ما بين السبع والتسع

٢ / ٤٤١ ، ٣ / ٤١٦

اللهم هل بلغت

 ٣ / ١٥٢

ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم

 ٣ / ١٢٩

ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا؟ أظننتم

 ١ / ٣٤٢

ألا أخبركم بخير من ذلك؟

 ١ / ٣٢٧

ألم أنه عن القتال

 ٣ / ٤٤٤

ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله الذي وفّ

ى ٤ / ١٩٢

ألم يقل الله : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم

 

ألا أراكم تضحكون؟

 ٢ / ٥٣٦

إلى الله عزوجل (أدعكم)

 ٤ / ٥٠٥

ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم

 ٢ / ٢٥٨

إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله

 ١ / ٥٠٧

ألا إن كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع

١ / ٢٤٨

إليّ عباد الله ، أنا رسول الله

 ١ / ٣٣٥

ألا أنبئكم بأكبر الكبائر

 ١ / ٣٩٧ ، ٣٩٨

 أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا

 ٤ / ٥٠٧

ألا رجل صالح يحرسني الليلة

١ / ٥٦٨

أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم

٢ / ٢٥٢

ألّا يحج بعد العام مشرك

 ٢ / ٢٣٢

أما إني لو قلت نعم لوجبت

١ / ٥٩١

التمسوها في العشر الأواخر من رمضان

 ٤ / ٤٧٠

أما ترضى أن تكون مثل نبي الله

 ٢ / ٢٨١

التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين

 ٤ / ٤٧٠

أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب

 ٣ / ٥١٣

الذي في عينيه بياض

 ٣ / ١٩٧

أما ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك

 ٣ / ٤٣٣

الذين إذا رأوا ذكر الله عزوجل

 ٢ / ٣٣٧

 أما والله لا يسألوني خطة فيها تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها

٤ / ١٢٦

 ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون

 ٤ / ٢٤٦

أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصفح عنهم

 ١ / ١٠١

ألك بينة؟ ١ / ٢٩٧ الله أخبرني

٢ / ٢٢٦

أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلاب

 ١ / ٥١٤

الله (يمنعني منك)

 ١ / ٥٦٨

أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين

 ٣ / ٢٨

اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا

 ٣ / ٤٢٧

أمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا

 ١ / ٦٠٤

اللهم ارزق ثعلبة مالا

 ٢ / ٢٨٢

أمسك عليك زوجك واتق الله

٣ / ٤٦٧

اللهم اشدد وطأتك على مضر

 ٤ / ٣٥٤

أمسلمة جئت؟

 ٤ / ٢٦٦

اللهم أعني على قريش بسنين كسني يوسف

 ٣ / ٢٦٨

أن أبا لبابة ربط نفسه إلى سارية

٢ / ٢٠٣

اللهم اكفنيهما بما شئت

 ٢ / ٤٨٧

أن إبليس جاء حواء فقال : ما يدريك

 ٢ / ١٧٧

اللهم أنجز ما وعدتني

 ٢ / ١٩١

إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي

 ٤ / ٤٠

اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه

 ١ / ٥٤٧

 إن الإسلام لا يقال

 ٣ / ٢٢٥

اللهم صلّ على آل أبي أوفى

 ٣ / ٥٥١

أن الأولى كانت نسيانا من موسى

 ٣ / ٩٩

اللهم لا نبغيها ، ما أعطاكم الله خير

 ١ / ٩٩

اللهم لا يعلون علينا

 ١ / ٣٢٨

اللهم هؤلاء أهلي

 ١ / ٢٨٩


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه

 ٣ / ٥٥

 أن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم

 ٣ / ٥٢

 إن الله تعالى أعطاني السبع الطول مكان التوراة

 ٤ / ١٤١

أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك

 ١ / ٣٩٨ ، ٣ / ٣٢٨

 إن الله تعالى أنزل على إبراهيم عشر صحائف

 ٤ / ١٩١

 أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إلى غار ، فانطبقت عليهم صخرة

 ٢ / ٤٢٨

 إن الله تعالى بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا

 ٣ / ٤٦٠

 أن جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبا سفيان

 ٢ / ٢٠٣

إن الله تعالى حاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة

 ٣ / ٢٥٤

أن جبريل جعل يدس الطين في فم فرعون

 ٢ / ٣٤٨

إن الله عزوجل خلق آدم من قبضة قبضها

 ١ / ٥١

إن الجنة لا يدخلها العجائز

 ٣ / ١٩٧

إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب

 ٣ / ١١٥

إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين

 ١ / ٢٠٩

 إن الله تعالى في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب

٢ / ٥٠١

أن داود سأل ربه أن يريه الميزان

٢ / ١٠٣

 إن الله قد صدّقك

 ٤ / ٢٨٧

إن الدخان يجيء فيأخذ بأنفاس الكفار

 ٤ / ٨٨

إن الله قد منعني أن أقبل صدقتك

 ٢ / ٢٨٢

إن ربكم حيي كريم

 ١ / ٤٦

 إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا

 ٤ / ١٩٠

إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز

٣ / ٥٠٧

إن الله كتب عليكم الحج

 ١ / ٥٩٠

إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا

١ / ٥٧٤

إن الله لا يقبض العلم انتزاعا

 ٣ / ٥٢

إن الرجل يقول في الجنة : ما فعل صديقي

 ٣ / ٣٤٣

إن الله لا يقبل إلا الطيب

١ / ٥٩٠

أن زكريا كان نجارا

 ٣ / ١٢٠

 إن الله لم يمسخ قوما أو يهلك قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة

 ١ / ٥٦٣

إن الزمان قد استدار لهيئته يوم خلق الله السموات والأرض

 ١ / ١٦٥ ، ٢ / ٢٣٤

 إن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد

 ١ / ١٧٩

إن شئت أنبأتك بأبواب الخير

 ٣ / ٤٤٠

إن الله تعالى يجعل البحار كلها نارا

٤ / ١٧٦

إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه وعن العدو

 ٣ / ٨٨

 إن الله عزوجل يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الناس

 ٢ / ١٠٣

إن عفريتا من الجن تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي

 ٣ / ٥٧٥

إن الله تعالى يسلم على أهل الجنة

٣ / ٤٧١

أن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا

 ٣ / ١٠٣

 إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة

 ١ / ٢٢٢

 إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب

 ٤ / ١٧٨

 إن الله تعالى ينزل في كل ليلة ويوم

 ١ / ١١٠

إن فعلت تؤمنون؟

 ٤ / ١٩٦

 أن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله ٢

 / ٥٣١

إن فعلت تصدقوني؟

٢ / ٦٥

أن تجعل لله ندا وهو خلقك

 ١ / ٣٩٨ ، ٣ / ٣٢٨

إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب

 ٣ / ١٩٦

أن تزاني حليلة جارك

 ١ / ٣٩٨ ، ٣ / ٣٢٨

إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته

 ٤ / ١٥٢

أن تصدّق وأنت صحيح شحيح

 ١ / ٣٠٣

إن كان وسادك إذا لعريض

 ١ / ١٤٩


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف

٢ / ٤٤٥

أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين

 ٢ / ٥٣

إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوّفة

٤ / ٢١٦

انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شقتين

 ٤ / ١٩٦

إن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلمهما

٤ / ١٦٠

انصرفوا أيها الناس ، فقد عصمني الله تعالى

 ١ / ٥٦٨

إن ملكا كان يجيب عنك ، فلما رددت

١ / ٤٩١

نطلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين الى سوق عكاظ

 ٢ / ٥٢٦ ، ٤ / ١١٢

إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء

انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه

 ٢ / ٢٩٧

إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا

انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ

٤ / ٢٦٦

إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل

٣ / ٩٤

انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود

 ٤ / ١٤٩

إن موسى كان رجلا حييا

 ٣ / ٤٨٦

انظر في ذلك

 ١ / ٤٦٥

إن هذه الآية نزلت في القدرية

 ٤ / ٢٠٣

أنفقه على نفسك

 ١ / ١٨٠

إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم

 ٣ / ١١٠

أنفقها على خادمك

 ١ / ١٨٠

أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى

 ١ / ٣١٠

أنفقها على قرابتك

 ١ / ١٨٠

أن يطعمها إذا طعم ويكسوها

١ / ٢٠٠

أنفقها على والديك

 ١ / ١٨٠

أنا أكرم ولد آدم على ربه

٢ / ٤٥١

أنفقها في سبيل الله ، وهو أحسنها

 ١ / ١٨٠

الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور

إنك قلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي

 ٢ / ٢٢٦

أنا بين خيرتين : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم

إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها

١ / ٣١٤

إنا حاملوك على ولد الناقة

٣ / ١٩٧

إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر

 ٤ / ١٦٥

أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره

 ٤ / ١٢٨

إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حقّ

١ / ٤١٦

أنا على ملّة إبراهيم

 ١ / ٣٠٤

إنكن أكثر أهل النار

 ٢ / ٤٤٦

أنا فرطكم على الحوض

 ٣ / ١٦١

إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة

 ٤ / ٣٠١

أنا المنذر

٢ / ٤٨٤

إنما ذلكم الله

 ٤ / ١٤٤

أنت صاحب هذا الكلام؟

 ٤ / ٢٨٦

إنما سمّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء

٣ / ٩٧

أنت القائل : أتجعل نهبي ونهب العبيد

 ٣ / ٥٣٠

إنما سمى الله البيت : العتيق ، لأن الله أعتقه

 ٣ / ٢٣٤

أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدى من بعدي

 ٢ / ٤٨٤

إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا ما قاله لقمان

 ٢ / ٤٩

أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت

 ١ / ٢٢٦

إنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن

 ٤ / ١١٢

أنتم خصماء الله

 ٤ / ٢٠٣

إنه أنزلت عليّ آنفا سورة

 ٤ / ٤٩٧

أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، هكذا تجدون حدّ الزاني

 ١ / ٥٤٧

إنه أول من سن القتل

 ١ / ٥٣٦

إنه ذهب في حاجة الله ورسوله

 ٤ / ١٢٧

إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان

 ٤ / ٢٥٠


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

 إنه طلوع الشمس من مغربها

 ٢ / ٩٥

أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون

 ٤ / ٣١٨

إنه عبد الله وروحه وكلمته إلى مريم

 ١ / ٢٩٢

أول ما نزل من القرآن : اقرأ

 ١ / ١٢

إنه كان ذهبا وفضة

 ٣ / ١٠٤

أول من يكسى من أهل النار يوم القيامة إبليس

 ٣ / ٣١٤

إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب

 ١ / ٣١٦

أي ذلك كتبت فهو كذلك

 ٢ / ٥٨٤

إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة

 ٤ / ٣٣٦

أي شيء تحبون؟

 ٢ / ٦٥

إنه ليغان على قلبي

 ٤ / ٤١٥

أي عم ، قل معي : لا إله إلا الله ، أحاج لك بها عند الله

 ٢ / ٣٠٤

إنه ملك كان له ساحر فبعث إليه غلاما

 ٤ / ٤٢٥

أيام الله : نعم الله

 ٢ / ٥٠٤

إنه واد في جهنم

 ٣ / ١٣٨

ايت بني النجار فأقرئهم مني السلام وقل

 ١ / ٤٥٠

أنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها

 ٣ / ٥٢٤

أيكم أحسن عقلا ، وأروع عن محارم الله عزوجل

 ٢ / ٣٥٩

إنها تعدل ثلث القرآن

 ٤ / ٥٠٥

أيكم يحتمل خبيبا عن خشبته وله الجنة

 ١ / ١٧١

إنها الحنظلة

 ٢ / ٥١٢

أيما حلف كان في الجاهلية

 ١ / ٤٠١

إنها ذات وبر وريش

 ٣ / ٣٦٩

أين الذهب الذي تركته عند أم الفضل

 ٢ / ٢٢٦

إنها (الزهرة) فتنت ملكين

 ١ / ٩٥

أين ترون أن أصلي بكم

 ١ / ١١٠

إنها في علم الله قليل

 ٣ / ٤٣٤

أيها الناس ، البيعة ، البيعة

 ٤ / ١٣٣

إنها النخلة

 ٢ / ٥١٠

 ـ الباء ـ

إنهم قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم

 ٢ / ١٢٣

بئس عبد الله

 ٢ / ٥٤٦

إني أراه من شراب شربته عند سودة

 ٤ / ٣٠٦

الباقيات الصالحات : لا إله إلا الله

 ٣ / ٨٨

إني أشهدك أن سريتي هذه عليّ حرام رضى لك

 ٤ / ٣٠٥

بخ بخ ، ذاك مال رابح

 ١ / ٣٠٤

إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني؟

 ٤ / ١١٢

برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف

 ٤ / ٢٦٠

إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها

 ٤ / ٤٧١

البرق : مخاريق يسوق بها الملك السحاب

 ١ / ٤٠

إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرّج الله عنه

 ٣ / ٢١٠

بالسيف

 ٣ / ٥٧٢

إني لست بشاعر ولا ينبغي لي

 ٣ / ٥٣١

بشر الكنازين بكيّ في الجباه

 ٢ / ٢٥٦

إني لما خرجت ، جاء جبريل عليه‌السلام

 ٢ / ٥٣٦

بشراهم : الجنة

 ٢ / ٣٣٩

إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله

 ١ / ٤٩٩

بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أميرا على الموسم ليقيم للناس

 ٢ / ٢٣١

أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟

 ١ / ٥٤٧

بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بعض فراعنة العرب يدعوه

 ٢ / ٤٨٧

الأوّاه : الخاشع الدعّاء المتضرّع

 ٢ / ٣٠٦

بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية الى بني العنبر وأمر عليهم عيينة

 ٤ / ١٤٥

أوفاهما وأطيبهما

 ٣ / ٣٨٢

أو فعلته؟

 ٤ / ٢٥١

أو ليس قد بيّن الله تعالى ذلك

 ١ / ٥٠٤

أول سورة أعلنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة

 ٤ / ١٨٣


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلاما يقال له مدلج إلى عمر

 ٣ / ٣٠٤

تنزيه الله عن كل سوء

 ٣ / ٧

بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم

 ٤ / ١٤٦

توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصلّ

 ٢ / ٤٠٥

بعثنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية ، فغنمنا إبلا

 ٢ / ١٨٨

التيمم : ضربة للوجه والكفين

 ١ / ٤١٣

البكر بالبكر ، جلد مائة وتغريب عام

 ٣ / ٢٧٦

 ـ الثاء ـ

البكر تستأمر في نفسها

 ١ / ٣٤٠

 ثماني عشرة سنة

 ٣ / ٢٠٥

بل إلى كتاب الله

 ١ / ٢٦٩

 ـ الجيم ـ

بل أنا وا رأساه

 ٣ / ٢٠٧

جاء الحقّ وزهق الباطل

 ٣ / ٤٩

بل تحسن صحبته ما بقي معنا

 ٤ / ٢٨٧

جاء رجل فقال : حدثني يا محمد عن إلهك

 ٢ / ٤٨٧

بلى فانكحيه فإني قد رضيته لك

 ٣ / ٤٦٥

جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

 ٤ / ٢٤١

بلى والله ، لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم

 ٢ / ٣٠٥

جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري

 ٤ / ٣٥٨

بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها

 ١ / ٥٦٩

جبل من نار يكلف أن يصعده

 ٤ / ٣٦٣

البيت المعمور : في السماء الدنيا

 ٤ / ١٧٥

جعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة

 ٣ / ٢٣٧

البيت المعمور : في السماء السابعة

 ٤ / ١٧٥

جلس في فروة بيضاء فاخضرت

 ٣ / ٩٧

بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوّف

 ٤ / ٤٩٧

جنان الفردوس أربع ، ثنتان من ذهب

 ٣ / ١١٣

بينما أنا في الحطيم (أو في الحجر)

 ٣ / ٨

الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين

 ٣ / ١١٣

بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون

 ٣ / ٣٧٠

جنتان من ذهب وجنتان من فضة

 ٤ / ٢١٥

بيني وبينكم التوراة

 ١ / ٢٦٩

 ـ الحاء ـ

 ـ التاء ـ

حاربت يهود

 ٤ / ٢٥٣

تحب ذلك؟

 ٢ / ٣٠٧

الحج عرفة

 ١ / ١٦٤

تخرج الدابة معها خاتم سليمان وعصا موسى

 ٣ / ٣٧٠

حجي عنه

 ٤ / ١٩٣

تخرج الدابة من شعب أجياد

 ٣ / ٣٧٠

حرّض صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصف الأول فازدحموا

 ٢ / ٥٣٢

تدرون أي يوم ذلك؟

 ٣ / ٢٢١

حرّق صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخل بني النضير وقطع

 ٤ / ٢٥٥

تسع ، أعظمهن الإشراك بالله

 ١ / ٣٩٧

الحزن : الجوع

 ٣ / ٥١٣

تسم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن

 ٣ / ٣٧١

حسدته صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود على مقامه بالمدينة

 ٣ / ٤٣

تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار

 ٣ / ٤٦

الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام

 ٢ / ٣٤

تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ

 ٣ / ٢٧١

الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر

 ٣ / ٧٩

تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟

 ٤ / ٤٥٤

 ـ الخاء ـ

تقعد أيام أقرائها

 ١ / ١٩٨

خالق الناس بخلق حسن

 ٢ / ٤٠٧


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا

 ١ / ٣٨٢

رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم

 ٢ / ٢١٤

خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعود سعد بن عبادة ، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ

 ٤ / ١٤٧

رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام أنه هاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء

 ٤ / ١٠٤

خلق الله تعالى آدم بعد العصر يوم الجمعة

 ١ / ٥١

رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم كأن قائلا يقول له :

خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعا

 ١ / ٥١

لتدخلن المسجد الحرام

 ٤ / ١٢٦

خلق الله عزوجل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد

 ٢ / ١٢٦،٤ / ٤٦

رأيت ربي عزوجل فقال لي : فيم يختصم الملأ الأعلى؟

 ٣ / ٥٨٢

خلق فرعون في بطن أمه كافرا

 ٤ / ٢٩١

الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له

 ٢ / ٣٣٨

خلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا

 ٤ / ٢٩١

ربح البيع يا أبا يحيى

 ١ / ١٧٣

خيّر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة بين المقام مع زوجها وفراقه

 ١ / ٣٩١

رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني

 ٢ / ٤٥٠

خيرات الأخلاق حسان الوجوه

 ٤ / ٢١٦

رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد

 ٢ / ٣٩١

خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم

 ٢ / ١٠

الركعتان قبل صلاة الفجر

 ٤ / ١٨٢

 ـ الدال ـ

رمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر بسهم ، فأقبل السهم

 ٢ / ١٩٦

دثروني

 ٤ / ٣٥٩

رميتهم بالسرقة على غير بينة!

 ١ / ٤٦٦

دخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المقدس وصلّى فيه بالأنبياء

 ٣ / ٨

الروح : جند من جند الله تعالى

 ٤ / ٣٩١

دخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما

 ٣ / ٤٩

 ـ الزاي ـ

دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش بسنين كسني يوسف

 ٤ / ٨٩

 الزيادة : النظر إلى وجه الله عزوجل

 ٢ / ٣٢٦

دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى

 ١ / ١١٣

 ـ السين ـ

دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى

 ٤ / ١٨٥

سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له

 ٣ / ٥١١

دواب الأرض

 ١ / ١٢٧

سأخبركم غدا

 ٤ / ٤٥٦

 ـ الذال ـ

سأقضي بينكما بكتاب الله

 ٤ / ١٨١

 ذكرك أخاك بما يكره

 ٤ / ١٥٢

سأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه عزوجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته

 ١ / ٢٧٠

ذلك الى الله عزوجل

 ٣ / ٥٢

سأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره

 ١ / ٣٥٨

ذلك العرض

 ٤ / ٤٢٠

سألت ربي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة

 ٢ / ٤٠

 ـ الراء ـ

سبأ رجل من العرب

 ٣ / ٣٥٨

رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إدريس في السماء الرابعة

 ٣ / ١٣٥

سبحان مقلب القلوب

 ٣ / ٤٦٦

رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها

 ٤ / ١٨٦


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

سبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ريحانة القرظية فلم يدن منها حتى أسلمت

 ٣ / ٤٧٧

صدق الله وكذب بطن أخيك

 ٢ / ٥٧٠

سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أثر فيه

 ٣ / ١٦٦

صدقة تصدّق الله بها عليكم

 ١ / ٤٦٠

سدرة المنتهى فوق السماء السابعة

 ٤ / ١٨٧

الصراط المستقيم : الإسلام

 ٢ / ٣٢٥

سدرة المنتهى في السماء السادسة

 ٤ / ١٨٧

الصراط المستقيم : كتاب الله

 ١ / ٢٠، ٢ / ٣٢٥

سقتني حفصة شربة عسل

 ٤ / ٣٠٥

صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا

 ١ / ١١٨

سلاني

 ١ / ٢٦٦

صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذي قرد ، فصف الناس خلفه

 ١ / ٤٥٩

سلوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم

 ١ / ٥٩٠

صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق

 ١ / ٢١٦

سمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد الخيل : زيد الخير

 ٣ / ٥٧١

صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد

 ١ / ٥٢٠

سنوا بهم سنة أهل الكتاب

 ١ / ٥١٩

الصمد : السيد الذي يصمد إليه في الحوائج

 ٤ / ٥٠٦

سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين ، لعل الله يغفر لهم

 ٢ / ٢٨٤

الصور : قرن ينفخ فيه ثلاث نفخات

 ٢ / ٤٥

سوّموا ، فإن الملائكة قد سومت

 ١ / ٣٢١

الصوم جنة ، والصدقة تكفّر الخطيئة

 ٣ / ٤٤٠

 ـ الشين ـ

 ـ الضاد ـ

 شاهت الوجوه

 ٢ / ١٩٥

 الضبع صيد ، وفيه كبش إذا قتله المحرم

 ١ / ٥٨٥

الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة

 ٤ / ٤٢٣

ضحك الله الليلة ، أو عجب من فعالكما

 ٤ / ٢٥٩

شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة

 ٢ / ٤٩٤

ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله

 ٣ / ٤٩٨

شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر

 ١ / ٢١٤

ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا

 ٢ / ٢٣١

الشفع والوتر : الصلاة ، منها الشفع ومنها الوتر

 ٤ / ٤٣٨

 ـ الطاء ـ

الشفع : يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النحر

 ٤ / ٤٣٨

الطاء : طور سيناء ، والسين الإسكندرية

 ٣ / ٣٣٤

الشفع : يوم النحر ، والوتر : يوم عرفة

 ٤ / ٤٣٨

طلق إحداهما

 ١ / ٣٩٠

الشفق : الحمرة

 ٤ / ٤٢١

الطوفان : الموت

 ٢ / ١٤٨ ، ٣ / ٤٠٢

شهرا عيد لا ينقصان

 ٤ / ٤٦١

طولها ستون ذراعا

 ٣ / ٣٧٠

شيبتني هود وأخواتها

 ٢ / ٣٥٥

 ـ العين ـ

 ـ الصاد ـ

عبد سوء

 ٢ / ٥٤٧

 صالح صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود على أرضهم وعلى الحلقة

 ٤ / ٢٥٥

عجب ربك من شاب ليست له صبوة

 ٣ / ٥٣٨

صدق الله عزوجل : إنما أموالكم وأولادكم فتنة

 ٤ / ٢٩٤

عرضت عليّ أمتي وأعلمت من يؤمن بي

 ١ / ٣٥١

عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم

 ٢ / ٤٢٨

علام تشتمني أنت وأصحابك؟

 ٤ / ٢٥٠

على ملّة إبراهيم

 ١ / ٢٦٩


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

عليّ وفاطمة وولداها

 ٤ / ٦٤

فيه جمع أبوك

 ٤ / ٢٨٢

عليكم منازلكم ، فإنما يكتب آثاركم

 ٣ / ٥١٩

 ـ القاف ـ

عمدا فعلته يا عمر

 ١ / ٥٢٠

 قال جبريل : ألا أراك وضعت اللأمة

 ٣ / ٤٥٨

العيادة فواق ناقة

 ٣ / ٥٦٢

قال جبريل : إنا لا ندخل بيتا فيه كلب

 ١ / ٥١٥

 ـ الغين ـ

قال ذو الخويصرة : اعدل يا رسول الله

 ٢ / ٢٦٩

 الغاسق : النجم

 ٤ / ٥٠٩

قال علي : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي

 ٤ / ٢٤٩

غدا أخبركم بذلك

 ٣ / ٧٦

قال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا

 ١ / ١٨٣

غراما : دائما

 ٣ / ٣٢٧

قال عمر : لو اتخذنا من مقام إبراهيم

 ١ / ١٠٩

غشيها فراش من ذهب

 ٤ / ١٨٧

قالت اليهود : من يأتيك من الملائكة؟

 ١ / ٩٠

غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض؟

 ١ / ٤٧٧

قام قيام ليلة بآية يرددها

 ١ / ٦٠٦

 ـ الفاء ـ

قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا

 ١ / ٢٦٨

 فأخرجوا التوراة ، فإني مكتوب فيها

 ١ / ٢٦٩

قد أذنت لك

 ٢ / ٢٦٦

فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة

 ٤ / ٤٧٨

قد حرمت عليه

 ٤ / ٢٤٢

فأنت الحبر السمين

 ٢ / ٥٣

قد سمع الله ما تقول ، فإن شاء أجابك

 ١ / ٤٨٠

فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها

 ٢ / ٥٦٤

قد فعلت

 ٣ / ١٣٩

فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته

 ٢ / ٥٢٧

قد قبلتك

 ٣ / ٤٦٥

فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد

 ٤ / ٥٠٢

قد كنت أحب أن أراك على غير جوار

 ٣ / ٣٢٩

فأين أنت من شباب أهل مكة؟

 ٤ / ٢٦٦

القرن : أربعون سنة

 ٢ / ٩

فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء

 ١ / ١٣

القرن : مائة سنة

 ٢ / ١٠

فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحضر أربعا

 ١ / ٤٥٩

قسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين

 ٤ / ٢٥٧

فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه

 ٣ / ٥٠٧

قضى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار

 ٣ / ٢٠٣

فلا تعد إليه

 ٤ / ٢٥١

قل : لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة

 ٣ / ٣٨٨

فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربه

 ٣ / ٤٤٣

قل له : إن رسول الله يقول : بعني كذا

 ٣ / ١٨٢

فما حملك على ما صنعت؟

 ٤ / ٢٦٧

قلتم كذا وكذا

 ٢ / ٢٧٥

فما رأيت عبقريا يفري فري عمر

 ٣ / ١٢٨

قم يا فلان ، فإنك منافق

 ٣ / ٤٨٤

فما يدريكم أنها إناث؟

 ٤ / ٧٥

قم يا فلان ، قم يا فلان

 ٤ / ٢٤٧

فهلموا إلى التوراة

 ١ / ٢٦٩

القنطار : اثنا عشر ألف أوقية

 ١ / ٢٦٤

فيؤمر الملك بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله

 ٤ / ٢٩١

القنطار : ألف ومائتا أوقية

 ١ / ٢٦٤

القنطار : ألف ومائتا دينار

 ١ / ٢٦٤

القوة : الرمي

 ٢ / ٢٢١


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

 قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد

 ٣ / ٤٨١

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران

 ٤ / ٢٩٤

قيام العبد من الليل

 ٣ / ٤٤٠

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير

 ٤ / ٢٨٤

قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا

 ١ / ٦٩

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراوح بين قدميه ، يقوم على رجل

 ٣ / ١٥٠

قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبيّ

 ٤ / ١٤٧

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع صوته بالقرآن بمكة

 ٣ / ٦٠

 ـ الكاف ـ

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستحلف المرأة بالله : ما خرجت من بغض زوج

 ٤ / ٢٧٢

كاتب الحسنات على يمين الرجل

 ٤ / ١٥٩

كان (إسرائيل) يسكن البدو فاشتكى عرق النسا

 ١ / ٣٠٥

كاد يصيبنا في خلافك بلاء

 ٢ / ٢٢٥

كان يصعد لإدريس من العمل مثلما يصعد

 ٣ / ١٣٥

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس على المنبر أذّن بلال

 ٤ / ٢٨٢

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بمكة عند الصفا فجهر بالقرآن

 ٣ / ٦١

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره

 ٢ / ٢٨٦

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطعم معه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة

 ٣ / ٤٧٩

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سئل : لمن هذا الأمر من بعدك؟ لم يخبر بشيء

٤ / ٧٩

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان يشتد عليه حفظه

 ٤ / ٣٧١

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى بالمسجد الحرام قام رجلان

 ٢ / ٢٠٩

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتب : باسمك اللهم

 ٣ / ٦٠

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى رفع بصره إلى السماء

 ٣ / ٢٥٥

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحنهن بشهادة أن لا إله إلا الله

 ٤ / ٢٧٢

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة يبايع الناس

 ٤ / ١٣٣

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما يناجي عتبة وأبا جهل وأمية ..

كان ثعلبة يقول : إنما يعطي محمد من يشاء

 ٢ / ٢٦٩

فجاء ابن أم مكتوم

 ٤ / ٣٩٩

كان جبريل يتمثل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل

 ٤ / ١٨٤

كانا من جلد حمار ميت

 ٣ / ١٥٣

كان (خلقه القرآن

 ٤ / ٣١٩

كانت الأولى من موسى نسيانا

 ٣ / ٩٥

كان ذو الكفل رجلا لا ينزع عن ذنب

 ٣ / ٢٠٨

كانت الملائكة تحج إلى البيت قبل آدم

 ١ / ١١١

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه

 ٢ / ٢١٩

كانوا أهل قرية لئاما

 ٣ / ١٠١

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب

 ١ / ٥٩٤

كانوا مائة ألف يزيدون عشرين ألفا

 ٣ / ٥٥٤

كان ليعقوب أخ مؤاخ ، فقال له ذات يوم

 ٢ / ٤٦٥

الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين

 ١ / ٣٩٧

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزمل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به

 ٤ / ٣٥٢

الكبائر سبع : الإشراك بالله أولهن

 ١ / ٣٩٦

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوذ من بوار الأيم

 ٣ / ٣١٥

الكبائر : الشرك بالله ، وقتل النفس

 ١ / ٣٩٧

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثقل عليه إذا أوحي إليه

 ٤ / ٣٥٣

كتب صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هجر يدعوهم الى الإسلام

 ١ / ٥٩٤

كان يجاء بالغنيمة فيقسمها صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة

 ٢ / ٢١١

كذا أنزلت عليّ فاكتبها

 ٢ / ٥٥

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهز بالقراءة في الصلوات كلها

 ١ / ٢٦

كذب إبراهيم ثلاث كذبات

 ٢ / ٤٥٧ ،

٣ / ١٩٦

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه

 ٤ / ٢٤٧

كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا

 ٣ / ٥٣٠

كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم

 ٣ / ٤١١


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيي بن زكريا

 ١ / ٢٧٩

لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها

 ٢ / ٩٥

كل خير أرجوه من ربي

 ٣ / ١٩٧

لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر

 ٤ / ١٠٠

كل شيء بقدر حتى العجز والكيس

 ٤ / ٢٠٤

لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ

 ٣ / ٥٧

كل مال أديت زكاته فليس بكنز

 ٢ / ٢٥٤

لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم

 ٣ / ٤١٠

كل مولود يولد على الفطرة

 ٢ / ١٣ ، ٣ / ٤٢٢

لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها

 ١ / ٥٣٧

كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم

 ١ / ٣٠٠

لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها

 ٢ / ٩٥

كلمة التقوى : لا إله إلا الله

 ٤ / ١٣٦

لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك

 ١ / ١٨١

كلهم في الجنة

 ٣ / ٥١١

لا تمككوا على غرمائكم

 ٤ / ١٣٥

كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح

 ١ / ٢٢١

لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة

 ٣ / ٢٧٥

كنا نتعلم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشر

 ١ / ١١

لا حاجة لي فيه

 ٤ / ٣٠٥

كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد

 ٣ / ٤٤٩

لا خير في دين ليس فيه ركوع

 ٤ / ٣٨٦

الكنود : الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده

 ٤ / ٤٨٤

لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب

 ١ / ٢٣

كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم

 ١ / ٣٢٣

لا ، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله

 ١ / ٢٩٨

 ـ اللام ـ

لا نبرح حتى نناجزهم

 ٤ / ١٢٦

 لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله

 ٣ / ٣١٨

لا ، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني

 ٢ / ٢٣٢

لا أجد ما أحملكم عليه

 ٢ / ٢٨٩ ، ٣ / ٢١

لا يبقى على رأس مائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد

 ٣ / ٩٧

لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء

 ١ / ٣٤٣

لا يتم بعد حلم

 ٢ / ٢١٢

لا إله إلا الله

 ٣ / ٥٥٧

لا يخضد شوكها

 ٤ / ٢٢٢

لا ، بل أستأني

 ٣ / ٣٣

لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة

 ٣ / ٤٥٨

لا ، بل لكل من عبد من دون الله

 ٣ / ٢١٥

لا يضرك بأيهما بدأت

 ٣ / ٥٣٠

لا ، بل للناس كافة

 ٢ / ٤٠٥

لا يقبل الله دعاء من قلب غافل لاه

 ١ / ١٤٦

لا ، بل هم الذين يصلون وهم مشفقون

 ٣ / ٢٦٥

لا ينحني له

 ٢ / ٤٧٤

لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم

 ١ / ٢٤٤

لأستغفرن لك ما لم أنه عنك

 ٢ / ٣٠٤

لا تجالسوهم ولا تكلموهم

 ٢ / ٢٩٠

لأمثلن بكذا وكذا منهم

 ١ / ٣٢٤

لا تجعلوا بيوتكم مقابر

 ١ / ٢٤

لئن ظفرت بقاتل حمزة لأمثلنّ به مثلة

 ٢ / ٥٩٤

لا تحلفوا بآبائكم

 ١ / ٣٦٧

لسرادق النار أربعة جدر كثف

 ٣ / ٨٠

لا تذكري لعائشة ما رأيت

 ٤ / ٣٠٥

لعن صلى‌الله‌عليه‌وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه

 ١ / ٢٤٧

لا تذكريه لأحد

 ٤ / ٣٠٥

لعن صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزهرة وقال : إنها فتنت ملكين

 ١ / ٩٥


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

لعن صلى‌الله‌عليه‌وسلم العاضهة والمستعضهة

 ٢ / ٥٤٥ ، ٣ / ١٦٧

لما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن صلّى هو وأصحابه فأطال القيام

 ٣ / ١٥٠

لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة

 ٣ / ٢٥٤

لما هزم الله المشركين يوم بدر

 ٢ / ٢٢٤

لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة

 ٣ / ٤٥٩

لما يئس (من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم

 ٤ / ١١٣

لقد ختمت بما تكلمت به يا ابن الخطاب

 ٣ / ٢٥٨

لمن عمل بها من أمتي

 ٢ / ٤٠٥

لقد ذهبتم فيها عريضة

 ١ / ٣٢٥

لو اتبع آخرهم أولهم التهب عليهم الوادي نارا

 ٤ / ٢٨٤

لقد عجب من فعالكما أهل السماء

 ٤ / ٢٥٩

لو أعطاني لأوفيته ، إني لأمين في السماء أمين في الأرض

 ١ / ٣٦٣

لقريش

 ٤ / ٧٩

لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة

 ١ / ٢٠٠

لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما

 ٢ / ٢٥

لو أن يوسف قال : إني حفيظ عليم إن شاء الله ، لملك من وقته

 ٢ / ٤٥٠

لم أومر بذلك

 ١ / ٥٧٦

لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا

 ١ / ١٠٦

لم نأت لقتال أحد إنما جئنا لنطوف بهذا البيت

 ٤ / ١٢٦

لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا

 ٤ / ١٩٣

لم يدخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المقدس ولم يصلّ فيه

 ٣ / ٨

لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم

 ١ / ٣٣٤

لم يصافح صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البيعة امرأة

 ٤ / ٢٧٤

لو كان على أبيك دين قضيته أفكان ذلك يجزئ عنه؟

 ١ / ١٦٨

لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شك ولا سأل

 ٢ / ٣٥٠

لو لا أن بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا

 ١ / ٧٧

لم ينظر موسى إلى الله

 ٤ / ٧٠

لو لا أن تحزن النساء ، أو تكون سنة بعدي لتركته

 ٢ / ٥٩٤

لما أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم العمرة استنفر من حول المدينة

 ٤ / ١٣٠

ليت شعري ما فعل أبواي؟

 ١ / ١٠٦

لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر

 ١ / ٣٤٧

ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم

 ١ / ٥٥٧

لما انصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق وضع عنه اللأمة واغتسل

 ٣ / ٤٥٨

ليلة خمس وعشرين

 ٤ / ٤٧١

لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا

 ١ / ٥٦٧

ليهنك العلم يا أبا المنذر

 ١ / ٢٢٩

لما بويع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة

 ٢ / ٢٠٤

 ـ الميم ـ

لما تزوج صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب دعا القوم فطعموا

 ٣ / ٤٧٨

 المؤمن أكرم على الله عزوجل من بعض الملائكة

 ٣ / ٤٠

لما حاصر صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريظة سألوه أن يصالحهم

 ٢ / ٢٠٢

ما أخت خالك منك؟

 ٣ / ١٩٧

لما دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل مكة بالجرب فقحطوا

 ٢ / ٣٢٢

ما أدري تبعا ، نبي أو غير نبي

 ٤ / ٩٣

لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت

 ٤ / ١٨٧

لما قدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وليس في يده سعة

 ٤ / ٦٤

لما كان يوم الفتح أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن

 ٤ / ١٥٢

لما مات النجاشي أمرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة عليه

 ١ / ١٠٣


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

 ما أردت بما أرى

 ٢ / ٢٩٧

ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر

 ١ / ٥٣٤

ما الذي أثنى الله به عليكم؟

 ٢ / ٣٠٠

ما هزم قوم إذا بلغوا اثني عشر ألفا من قلة

 ٢ / ١٩٥

ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا

 ٢ / ٢٩٤

ما يغني عنه قميصي من عذاب الله تعالى

 ٢ / ٢٨٦

ما أنا بالذي يسأل ربه هذا

 ٣ / ٥٢

ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين

 ٣ / ٤٦٨

ما أوحي إليّ في هذا شيء

 ٤ / ٢٤٢

متعنا بنفسك يا أبا بكر

 ٤ / ٢٥١

ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا

 ٤ / ١٤٤

متعها ولو بقلنسوتك

 ١ / ٢١٢

ما بهذا بعثت وقد أبلغتكم ما أرسلت به

 ٣ / ٥٢

مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين

 ١ / ٤٨٩

ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها

 ١ / ٣٢٦

مرا بثعلبة وبفلان

 ٢ / ٢٨٢

ما ترى يا ابن الخطاب

 ٢ / ٢٢٤

مرجت عهودهم وأماناتهم

 ٣ / ٣٢٤

ما توضأ عبد فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة ، إلا غفر له

 ١ / ٥٢٣

مرحبا بمن عاتبني فيه ربي

 ٤ / ٣٩٩

ما خلأت ، ولكن حبسها حابس الفيل

 ٤ / ١٢٦

مررت بقبر أمي فصليت ركعتين

 ٢ / ٣٠٣

ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة

 ١ / ٢٣٠

مستقرها تحت العرش

 ٣ / ٥٢٤

ما شبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أيام تباعا

 ١ / ١٧٩

معاذ الله ، ما بذلك بعثني

 ١ / ٢٩٨

ما ظنك باثنين الله ثالثهما

 ٢ / ٢٦١

المعدة بيت الداء ، والحمية رأس الدواء

 ٢ / ١١٤

ما عليّ لو فعلت والله يعلم أني لكاره

 ٣ / ٤٢

المغضوب عليهم : اليهود

 ١ / ٢١

ما عند رسول الله ما يطعمك هذه الليلة

 ٤ / ٢٥٩

مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله

 ٢ / ٣٧

ما عندنا اليوم شيء

 ٣ / ٢١

المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ

 ١ / ٣٦٩

الماعون : الإبرة والماء والنار والفأس

 ٤ / ٤٩٦

ملعون من أتى النساء في أدبارهن

 ١ / ١٩٣

ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية

 ٢ / ٥٢٧

ملك من الملائكة موكل

ما لي أراك محزونا؟

 ١ / ٤٣٠

بالسحاب

 ١ / ٣٩

ما لي أراكم سكوتا؟

 ٤ / ٢٠٩

من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ (إذا الشمس كورت)

 ٤ / ٤٠٥

ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار

 ٢ / ١٢١

من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أحبني

 ١ / ٤٣٦

ما من أحد يلقى الله تعالى إلا وقد هم بخطيئة

 ٢ / ٤٣٠

من أعطاكه؟

 ١ / ٥٦١

ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع

 ١ / ٣٥٣

من أغلق بابه فهو آمن

 ٣ / ٤٤٤

ما من مسلم إلا وله في السماء بابان

 ٤ / ٩١

من توضأ وضوئي ، ثم صلّى الظهر غفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح

 ٢ / ٤٠٧

ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم

 ١ / ١٤٦

من حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا

 ٣ / ٦٣

من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف

 ٣ / ٦٣

من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف

 ٣ / ٦٣

من رغب عن سنتي فليس مني

 ١ / ٥٧٧

من زوجك؟

 ٣ / ١٩٧

من سره أن يقوم له الرجال صفونا

 ٣ / ٥٧١


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

 من طاف بالبيت لم يرفع قدما ولم يضع أخرى إلا كتب الله له بها حسنة

 ١ / ٣٠٦

نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور

 ٢ / ٢١٥

من عقر جواده

 ٢ / ١٣٥

نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر

 ٤ / ٢٩٤

من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر

 ٢ / ١٨٦

نعم

 ٣ / ٤٤

من كان متحريا فليتحرها ليلة سبع وعشرين

 ٤ / ٤٧١

نعم ، (نهيت عن القتال في الشهر الحرام)

 ١ / ١٥٦

من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين

 ٤ / ٤٧١

نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما

 ٣ / ٢٥١

من لعن شيئا لم يكن للعنه أهلا رجعت

 ١ / ٥٦٦

نعم ، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم

 ٣ / ٥٣٣

من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا

 ٣ / ٤٠٨

النعيم : الأمن والصحة

 ٤ / ٤٨٦

من مخاطبة العبد ربه

 ٤ / ٤٩

النعيم : الماء البارد

 ٤ / ٤٨٦

من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها

 ٣ / ١٥٤

نفاعا حيثما توجهت

 ٣ / ١٣٠

من نوقش الحساب هلك

 ٤ / ٤٢٠

نهى (أن تنكح المرأة على عمتها

 ١ / ٣٩٢

من هؤلاء؟

 ٢ / ٢٩٣

نهى (عن البول في الماء الدائم

 ٤ / ٣٣٩

من وجد الزاد والراحلة

 ١ / ٣٠٨

نهى (عن قتل النساء والصبيان

 ١ / ٥٤٤

من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه‌الله

 ٤ / ٢٥٩

نهى (عن متعة النساء

 ١ / ٣٩٢

مه يا عائشة ، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش

 ٤ / ٢٤٦

نور يقذفه الله في القلب فينفتح القلب

 ٢ / ٧٥

 ـ النون ـ

 ـ الهاء ـ

 ناد : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة

 ٢ / ٢٤٧

 هات المفتاح

 ١ / ٤٢٣

ناولني حصيات

 ٢ / ٢٤٧

هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني

 ٢ / ٢٨٢

ناولني كفا من حصباء

 ٢ / ١٩٥

هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو

 ٢ / ٢٣٧

نبزهم الرافضة

 ٤ / ١٥٠

هذا ما أوحي إليّ أنه محرم على المسلمين وعلى اليهود

 ٢ / ٨٩

نبقها مثل قلال هجر ، وورقها مثل آذان الفيلة

 ٤ / ١٨٦

هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو أن هذا الدين معلق بالثريا لتناوله رجال من فارس

 ٤ / ١٢٤

نبي ضيعه قومه

 ١ / ٥٣١

هذه أمتي ، بالحقّ يأخذون ويعطون

 ٢ / ١٧٣

نحن الآخرون السابقون يوم القيامة

 ١ / ١٧٨

هذه لكم ، وقد أعطي القوم مثلها

 ٢ / ١٧٣

نحن معاشر الأنبياء لا نورث

 ٣ / ١١٨

هل أعطاك أحد شيئا؟

 ١ / ٥٦١

النخلة لك ولعيالك

 ٤ / ٤٥٤

هل تدرون ما الكوثر؟

 ٤ / ٤٩٧

نزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وبينه وبين الماء رملة

 ٢ / ١٩٢

هل تدرون ما قال ربكم؟

 ٤ / ٢١٤ ، ٢٢٩

نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما

 ١ / ٦٠٣

هل تدرون مم أضحك؟

 ٤ / ٤٩

نزلت في المؤذنين

 ٤ / ٥٢


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

هل تعرف هذا الكتاب؟

 ٤ / ٢٦٧

والله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله

 ٤ / ٢٧١

هل جئتم في عهد؟

 ٤ / ١٣٤

وإليك نسعى ونحفد

 ٢ / ٥٧٢

هل جعل لكم أحد أمانا؟

 ٤ / ١٣٤

وأنا اقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم

 ٢ / ٢٩٣

هل عندكن شيء؟

 ٤ / ٢٥٨

وأي شيء أقول فيه! هو عبد الله

 ١ / ٥٠٢

هل متعتها بشيء؟

 ١ / ٢١٢

وتجعلون رزقكم ، قال : شكركم

 ٤ / ٢٢٩

هل مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا؟

 ٣ / ٥٠٧

وجدني في أهل غنيمة بشق

 ٢ / ٥٥١

هلا قلت : إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد

 ٤ / ١٤٩

الورود : الدخول ، لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها

 ٣ / ١٤٣

هلك المصرون

 ٢ / ٤٢٦

وفّى عمل يومه بأربع ركعات في أول النهار

 ٤ / ١٩٢

هم الجن ، وان الشيطان لا يخبل أحدا في داره

 ٢ / ٢٢١

ولا تجزي عن أحد بعدك

 ٢ / ٢٥٠

هم اليوم أربعة

 ٤ / ٣٣١

ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه

 ٣ / ٤٠٩

هم قوم هذا

 ١ / ٥٦٠

وما تصنع بها؟

 ٤ / ٢٥١

همّت يهود بالغدر فأخبرني الله بذلك

 ٤ / ٢٥٣

وما هي يا عبد الله؟

 ١ / ١٨٧

هو قرن ينفخ فيه

 ٢ / ٤٥

وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر

 ٤ / ٢٦٧

هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل

 ١ / ٩٩

وممّ ذاك؟

 ٣ / ٤٦٥

هو مسجدي هذا

 ٢ / ٢٩٨

ومن صاحبكم

 ١ / ٥٠٢

هو نهر أعطانيه ربي عزوجل في الجنة

 ٤ / ٤٩٧

ويأتيك من لم تزوده بالأخبار

 ٣ / ٥٣١

 ـ الواو ـ

ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره خير من كثير

 ٢ / ٢٨١

 والذي بعثني بالحق ، لو فعلا لأمطر الوادي

 ١ / ٢٨٩

ويسعى بذمتهم أدناهم

 ٢ / ٢٣٩

والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن

 ٤ / ٥٠٥

ويل : واد في جهنم

 ١ / ٨٢

والذي نفسي بيده ، لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا

 ٤ / ٤٦٧

 ـ الياء ـ

والذي نفسي بيده ، ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها

 ١ / ١٧

 يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام

 ٤ / ٤٤٤

والله لأرضينك ، وإني مسر إليك سرا فاحفظيه

 ٤ / ٣٠٥

يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب العظيم

 ٢ / ١٠٣،

والله لأمثلن بسبعين منهم

 ٢ / ٥٩٤

يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : أعرضوا عليه صغار ذنوبه

 ٣ / ٣٣٠

والله لو باعني أو أسلفني لقضيته

 ٣ / ١٨٢

يؤتى يوم القيامة بناس إلى الجنة

 ٣ / ١٣٢

يا أبا المنذر ، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟

 ١ / ٢٢٩


طرف الحديث

الجزء / الصفحة

طرف الحديث

الجزء / الصفحة

يا أبا ذر ، أتدري فيما انتطحتا؟

 ٢ / ٢٥

يا معشر الشباب ، عليكم بالباءة

 ٣ / ٢٩٣

يا أبا ذر ، تدري أين ذهبت الشمس؟

 ٢ / ٥٦٣

يا معشر قريش ، اشتروا أنفسكم من الله

 ٣ / ٣٥٠

يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض

 ١ / ١٥٥

يا مقداد ، أقتلت رجلا قال : لا إله إلا الله

 ١ / ٤٥٢

يا ثوبان ، ما غير وجهك؟

 ١ / ٤٣٠

يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة

 ٢ / ٢٨٢

يا جابر ، لا أراك ميتا من وجعك هذا

 ١ / ٥٠٤

يا يهودي ، إن الإسلام يسبك الرجال

 ٣ / ٢٢٥

يا جبريل ، لم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟

 ١ / ٤٧٨

يأجوج أمة ، ومأجوج أمة

 ٣ / ١٠٩

يا جبريل ، ما يمنعك أن تزورنا

 ٣ / ١٣٩

يأمر الله عزوجل إسرافيل بالنفخة الأولى

 ٤ / ٣٧

يا جد ، هل لك في جلاد بني الأصفر؟

 ٢ / ٢٦٦

يبسطها ويمدها مد الأديم

 ٢ / ٥٢٠

يا رب ، كيف أصنع؟ إنما أنا وحدي يجتمع عليّ الناس

 ١ / ٥٦٨

يتجلى لهم الرب

 ٤ / ١٦٤

يا رب ، كيف بالغضب

 ٢ / ١٨١

يجزئك الثلث

 ٢ / ٢٠٣

يا رحمن يا رحيم

 ٣ / ٦٠

يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل

 ١ / ١١٩

يا صباحاه

 ٤ / ٥٠٢

يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا

 ٣ / ٢١٧

يا عائشة ، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي

 ٤ / ٥٠٧

يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره

 ١ / ٥٥١

يا عبد الله ، هذه مؤمنة

 ١ / ١٨٧

يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار

 ٢ / ١٢١

يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب

 ٣ / ٥٥٧

يطوي الله عزوجل السموات يوم القيامة

 ٤ / ٢٦

يا عماه ، إن الله قد عصمني من الجن والإنس

 ١ / ٥٦٨

يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات

 ٤ / ٣٣١

يا عمر ، إن أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم

 ٤ / ١٠٩

يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما

 ٤ / ٢١١

يا عمر ، ضع سيفك

 ٤ / ٩٨

يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه

 ٤ / ٢٦

يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب؟

 ١ / ٣٩٦

يقرّب إليه فيكرهه ، فإذا أدني منه شوى

 ٢ / ٥٠٨

يا فلان ، أخرج فإنك منافق

 ٢ / ٢٩٣

يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه

 ٤ / ٤١٤

يا فلان ، يا فلان ، اشهدوا

 ٤ / ١٩٦


٣ ـ فهرس القوافي القافية

القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

 ـ الألف ـ

الأعداء

 

 ٢ / ٢٢٠

جزى

 أبو النجم

 ١ / ٦٠٥

السواء

 

 ٢ / ٢٢٠

العلا

 أبو النجم

 ١ / ٦٠٥

 ـ الباء ـ

وإن شرا فا

 

 ١ / ٢٦

العجب

 

 ٣ / ٥٦٠

إلا أن تا

 

 ١ / ٢٦

الذّنب

 

 ٣ / ٥٦٠

ألا تا

 

 ١ / ٢٦

صبّا

 

 ٤ / ٤٩٦

ألا فا

 

 ١ / ٢٦

مخضّبا

 الأعشى

 ٣ / ٦٤

السرى

 

 ٣ / ١٠٢

واصبا

 أبو الأسود الدؤلي

 ٢ / ٥٦٤

ما مضى

 

 ٣ / ١٥٤

دائبا

 

 ٢ / ٢٦٠

اليمنى

 

 ٣ / ٣٨٣

طنبا

 أوس بن حجر

 ٢ / ٥٢٧

يبلى

 

 ٣ / ٣٨٣

صليبا

 الهذلي

 ١ / ٥٠٩

 ـ الهمزة ـ

قريبا

 الأعشى

 ٢ / ١٤٥

وراءها

 قيس بن الخطيم

 ٤ / ٢٠٤

يتذبذب

 النابغة الذبياني

 ١ / ٤٤

نساء

 زهير بن أبي سلمى

 ١ / ٦٦

مذهب

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٥٠٧

السواء

 زهير بن أبي سلمى

 ١ / ٢٩٠

ومذنب

 الكميت بن زيد

 ٢ / ٢٣

بقاء

 زهير بن أبي سلمى

 ١ / ٢٩٠

ومعرب

 الكميت بن زيد

 ٤ / ٢٩

نشاء

 زهير بن أبي سلمى

 ١ / ٤٣١

فتصوّبوا

 النابغة الجعدي

 ٢ / ١٧٩

كفاء

 حسان بن ثابت

 ١ / ٩١

يغضبوا

 ابن الضريبة

 ٢ / ٣٦٦

هواء

 حسان بن ثابت

 ٢ / ٥١٨

وعقرب

 

 ١ / ٣٣١

ضوضاء

 الحارث بن حلزة

 ١ / ٤٣٧

أرغب

 

 ٢ / ٥٠٦

مبوؤها

 إبراهيم بن هرمة

 ٢ / ١٣٤

والمهلّب

 

 ٣ / ٨٣

الأحياء

 عدي بن الرعلاء

 ١ / ٢٧١

عاتب

 

 ١ / ٣٨٦

البناء

 

 ٢ / ١٢٣

صاحب

 

 ١ / ٣٨٦

سارب

 

 ٢ / ٤٨٥


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

الأسباب

 

 ٢ / ٤٢٩

الكواكب

 بشر بن أبي خازم

 ٢ / ٥٢٧

الطرب

 الكميت

 ١ / ٢٨٠

المعذّب

 امرؤ القيس

 ٤ / ١٦٢

غضبوا

 ابن قيس الرقيات

 ٢ / ٢٨٠

تطيّب

 امرؤ القيس

 ٤ / ١٦٢

العرب

 ابن قيس الرقيات

 ٢ / ٢٨٠

تطيّب

امرؤ القيس

 ٤ / ١٦٢

منقضب

 ذو الرمة

 ٢ / ٥٢٧

لغرّب

 

 ٤ / ٣٦٦

ولا ندب

 ذو الرمة

 ٢ / ٥٣٣

عائبي

 أبو الغول الطهوي

 ١ / ٤٠٢

الكذوب

 ابن الزبعرى

 ١ / ٢٧

العقارب

 جرير

 ٢ / ٨٩

مجيب

 كعب بن سعد الغنوي

 ١ / ٣٦ و ١٤٦ و ٣٤٨

الكتائب

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٢٨٠

وقليب

 كعب بن سعد الغنوي

 ٢ / ٢٣٨

الكواكب

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٥٦٥

دبيب

 علقمة بن عبدة

 ١ / ٣٩

بالحواجب

 القناني

 ٢ / ٣٨٥

فصليب

 علقمة بن عبدة

 ١ / ٢٣٢ و ٢٩٠ و ٤٣٠ و ٤ / ٢٠٤

وبالشراب

 امرؤ القيس

 ٣ / ٢٩

طبيب

 علقمة بن عبدة

 ٣ / ٣٢٦ و ٤ / ٣٣٥

بالإياب

امرؤ القيس

٤ / ١٦٤

لبيب

 المضرب بن كعب

 ١ / ٥٠٦

السحاب

 

 ٤ / ٣٥٦

لغريب

ضابئ البرجمي

٢ / ٢٥٥

نشب

 عمرو بن معديكرب

 ١ / ٢٤٢ و ٢ / ٣٨٢

يصوب

 

 ١ / ٤٩

النّقب

 دريد بن الصمة

 ١ / ٥٢٧

ذنوب

 

 ١ / ١٧٥ و ٢ / ١٣٨

والذّهب

 مالك بن نويرة

 ٤ / ٢١٤

الذّنب

 

 ١ / ٥٥

طبيب

 

 ٢ / ١١٥

تأويب

 سلامة بن جندل

 ٣ / ٥١٣

تشيب

٢ / ١١٥

بالكوب

 عدي بن زيد

 ٤ / ٨٣

ذنوب

 

 ٤ / ١٧٤

كالزبيب

 

 ٤ / ٣٨٦

القليب

 

 ٤ / ١٧٤

 ـ التاء ـ

وغاربه

 أبو الغمر الكلابي

 ١ / ٤٧٠

طولت

 

 ٤ / ٢٩

وأخاطبه

 ذو الرمة

 ٢ / ٥٣٠

أمئيت

 

 ٤ / ٢٩

وملاعبة

 ذو الرمة

 ٢ / ٥٣٠

فكررت

 

 ٤ / ٢٩

ثاقبه

 

 ١ / ٣٦

ثلثت

 

 ٤ / ٢٩

كذابه

 الأعشى

 ٤ / ٣٩٠

سبعت

 

 ٤ / ٢٩

طلابها

 أبو ذؤيب

 ١ / ٣١٦

مقيتا

 أحيحة بن الجلاح

 ١ / ٤٤١

جوابها

 الفرزدق

 ١ / ٣٥٨ و ٢ / ٣٩٨

أتيتا

 

 ٢ / ٤٢٦

ثوابها

 

 ١ / ٣٣١

هيتا

 

 ٢ / ٤٢٦

أبي كعب

 

 ٣ / ٢١٣

القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص


 

القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

أسكتا

 

 ٢ / ٤٢٦

فافرح

 

 ٤ / ٤٦١

لهيّتا

 

 ٢ / ٤٢٦

ورمحا

 ابن الزبعرى

 ١ / ٥٢٢ و ٤ / ٢٢٢

البغت

 يزيد بن ضبة

 ٢ / ٢١

الصروحا

 أبو ذؤيب الهذلي

 ٣ / ٣٦٥

ودعوت

 قيس لبنى

 ٢ / ٥٠٣

شيحا

المضرس بن ربعي

٤ / ١٦٢

وقضيت

 قيس لبنى

 ٢ / ٥٠٣

أكدح

 تميم بن مقبل

 ١ / ٤١٦ و ٣ / ٤٢٠ و ٤ / ٤٢٠

سريت

 رؤبة

 ٤ / ١٥٤

يبرح

 ذو الرمة

 ١ / ٤١

ليت

 رؤبة

 ٤ / ١٥٤

أملح

 

 ١ / ٣٨ و ١٠٠

ميت

 

 ١ / ٢٧١

أروح

 

 ٣ / ٨٣

واستقيت

 

 ١ / ٢٧١

الطوائح

 نهشل بن حري

 ٢ / ٥٢٩

مشيت

 

 ٤ / ٤٠١

الرياح

 الهذلي

 ١ / ١٩٩

مقيت

 

 ١ / ٤٤١

مذبوح

 أبو ذؤيب الهذلي

 ٣ / ٨١

برّت

كثير عزة

 ١ / ١٩٦ و ٥٨١

الريح

 

 ٢ / ١٣١

تقلّت

كثير عزة

٢ / ٢٦٧

وأستريح

 

 ٢ / ١٣١

ملّت

 كثير عزة

 ٤ / ٧٢

كشوحها

 النمر بن تولب

 ١ / ٣٢٣

فاستقرّت

 العجاج

 ٤ / ٤٧٨

راح

 جرير

 ١ / ٥٠ و ٣ / ٣٠٢ و ٤١٤

فاقفعلت

 

 ١ / ٢٣

جناحي

 جرير

 ٣ / ٣٨٣

واللاتي

 

 ١ / ٣٨١

بقرواح

 أوس بن حجر

 ١ / ٤٧٠

لداتي

 

 ١ / ٣٨١

القماح

 بشر بن أبي خازم

 ٣ / ٥١٨

 ـ الجيم ـ

والجناح

 

 ٣ / ١٥٦

الفلج

 

 ٣ / ٢٣١ و ٤ / ٣٢٠

رزاح

 

 ٤ / ٨٥

بالفرج

 

 ٣ / ١٢٦ و ٢٣١

و ٤ / ٣٢٠

وذبائح

 

 ٢ / ٤٥٦

الساج

 

 ٤ / ٤٥٧

 ـ الدال ـ

النساج

 

 ٤ / ٤٥٧

من أحد

 منظور الوبري

 ١ / ٢٨٧

تأججا

 

 ٣ / ٣٢٩

من أسد

 منظور الوبري

 ١ / ٢٨٧

تهملج

 النابغة الجعدي

 ٣ / ٣٧٢

في العدد

 منظور الوبري

 ١ / ٢٨٧

 ـ الحاء ـ

الصّمد

 سبرة الأسدي

 ٤ / ٥٠٦

أروح

 

 ٤ / ٤٦١

معدّ

 الحارث بن دوس

 ٤ / ١٩٨

برّح

 

 ٤ / ٤٦١

وبرد

 

 ٢ / ٥٦٨

يسنح

 

 ٤ / ٤٦١

الممتاد

 رؤبة

 ١ / ٦٠١

نشرح

 

 ٤ / ٤٦١


 

القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

تغريد

 

 ٤ / ٢٥

وقعود

 

 ٣ / ١٩٩

بإقليد

 

 ٤ / ٢٥

أمده

 الطرماح

 ١ / ٢٧٣

بردا

 العرجي

 ١ / ٥٨٣ و ٤ / ٣٩٠

عهد

 الحكم بن عبدل

 ١ / ٤٧٠

بعدا

 

 ١ / ٢٣

العبد

 المقنع الكندي

 ٢ / ١٧٨

وجدا

 

 ١ / ٢٣

عن خدّ

 

 ٢ / ٢٠٨

جهدا

 

 ١ / ٢٣

أصدّي

 

 ٢ / ٢٠٨

بها بدّا

 

 ١ / ٥٠٩

ضحى

 غد عدي بن زيد

 ٢ / ٦٦

محمدا

 الأعشى

 ١ / ٣٨١

المتردّد

عدي بن زيد

٣ / ١٥٣

مخلدا

 حطائط بن يعفر

 ٢ / ٣٨٣

متهجّد

 النابغة الذبياني

 ٣ / ٤٧

جلمدا

 الأحوص

 ٣ / ٣٠

يرشد

 النابغة الذبياني

 ٣ / ٤٧

جامدا

 الأحوص

 ٣ / ٣٠

نقعد

 امرؤ القيس

 ٣ / ١٥٤

الذائدا

 

 ١ / ٤٦٤

قدي

 حميد الأرقط

 ٣ / ٥٥١

واحدا

 

 ١ / ٤٦٤

موقد

 الحطيئة

٤ / ٧٨

باردا

 

 ١ / ٥٢٢ و ٤ / ٢٢٢

يوأد

 الفرزدق

 ٤ / ٤٠٦

نكدا

 

 ٢ / ١٣٢

[مخلدي]

 طرفة

 ٣ / ٤٢٠

صردا

 

 ٢ / ٥٥٢

تزوّد

 طرفة

 ٣ / ٥٣١

بددا

 

 ٢ / ٥٥٢

بأوحد

 طرفة

 ٣ / ٤٢١ و ٤ / ٤٥٥

الوالدة

 

 ٢ / ٣٤٦

المتشدّد

 طرفة

 ٤ / ٤٨٢

جيدها

 

 ٢ / ٣٩٠

باليد

 

 ٢ / ٤٨٩

والبعد

 الحطيئة

 ١ / ٥٥٥

المتعمّد

 

 ٣ / ١٦٤

قدّوا

 الحطيئة

 ٢ / ٢٣٨

أم خالد

الأشهب بن رميلة

 ٤ / ١٩ و ١ / ٣٧

الفرد

 حسان بن ثابت

 ٤ / ٣٢١

الأساود

 الأشهب بن رميلة

 ٤ / ٣٢٤

يخلّد

 حسان بن ثابت

 ٣ / ١١٣

وتالد

 متمم بن نويرة

 ١ / ٣٥١

ويولد

 

 ٢ / ١٧١

رماد

 حسان بن ثابت

 ٣ / ٣٦١

يبرد

 

 ٤ / ٣٣٧

الأوتاد

 الأسود بن يعفر

 ٣ / ٥٦١

سبد

 الراعي النميري

 ٢ / ٢٧٠

وغادي

 

 ١ / ١١٢

سود

 الأعشى

 ١ / ٣٢٣

فقد

 النابغة الذبياني

 ١ / ٤٧

بعيد

 عروة بن حزام

 ٢ / ١٣٠

البرد

 

 ٢ / ٣٩٢

ومحصود

 

٢ / ٣٢٧ و ٣ / ٥٧٩

شديد

 أبو زبيد الطائي

 ٢ / ١٥٧

المجلود

 

 ٢ / ٤٢٠

المنجود

 أبو زبيد الطائي

 ٢ / ٤٤٤

تعود

 

 ٣ / ١٩٩

بمردود

 هانئ بن شكيم

 ٢ / ٤٧١


 

القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

وثمود

 

 ١ / ٤١

الحير

 

 ٤ / ٩٥

جحود

 

 ١ / ٤١

سمرا

 الفرزدق

 ١ / ٣٣٥

رود

 

 ٤ / ٤٣٠

قدرا

 ذو الرمة

 ١ / ٥٠١

 المديد

 

 ٤ / ٤٤٢

تمرا

 

 ٢ / ٢٠٩

 المشيد

 

 ٤ / ٤٤٢

وزبرا

 

 ٢ / ٢٠٩

الحشيد

 

 ٤ / ٤٤٢

خضرا

 

 ٤ / ٢١٧

وعيدي

 

 ٤ / ٤٤٢

أحمرا

 امرؤ القيس

 ٢ / ٦٠

 شديد

 

 ٤ / ٤٤٢

بيقرا

 امرؤ القيس

 ٤ / ١٨٠

والعديد

 

 ٤ / ٤٤٢

أضمرا

 الفرزدق

 ٢ / ٣٣٥

 هود

 

 ٤ / ٤٤٢

مسكّرا

 الفرزدق

 ٣ / ٢٣

الرشيد

 

 ٤ / ٤٤٢

أبجرا

 الأبيرد الرياحي

 ٣ / ٥٤١

محيد

 

 ٤ / ٤٤٢

وأقهرا

 المخبل السعدي

 ٣ / ٥٤٥

 البعيد

 

 ٤ / ٤٤٢

المنفّرا

 ليلى الأخيلية

 ٤ / ٣٦٠

حصيد

 

 ٤ / ٤٤٢

موفّرا

 

 ٢ / ٤٢٩

حدادها

 الأعشى

 ١ / ١٥١

مشارا

 الأعشى

 ١ / ٣٤٠ و ٤ / ٣٧٩

[فادها]

 الأعشى

 ١ / ٣٨٧

نارا

 أبو دؤاد الإيادي

 ١ / ٤٠١

 ـ الراء ـ

[واستنارا]

 الراعي النميري

 ٢ / ٩٤

أو مضر

 لبيد

 ١ / ٣٨

ووقارا

 أبو عريف الكلبي

 ٢ / ٢٤٧

اعتذر

 لبيد

 ٢ / ٢٨٧ و ٢٨٨

و ٤ / ٤٣١

الإزارا

 ابن أحمر

 ٢ / ٣٦٠

أنتصر

 امرؤ القيس

 ١ / ٢٥٩ و ٢ / ٥١٦

عقارا

 المسيب بن علس

 ٤ / ٤١٧

نكر

 عبيدة بن همام

 ١ / ٢٩٨ و ٤٣٧

إعصارا

 

 ١ / ٢٤٠

نسر

 النمر بن تولب

 ١ / ٥١٣

حمارا

 

 ١ / ٣٠٩

درر

 النمر بن تولب

 ٤ / ٢٠٧

مستعارا

 

 ٢ / ١١٦ و ٤٣٥

معتصر

 ابن أحمر

 ٢ / ٤٤٥

إكبارا

 

 ٢ / ٤٣٦

الضجر

 

 ١ / ١٧٢

نفرا

 الربيع بن منيع الفزاري

 ٣ / ٥٣٢

الشّجر

 

 ٢ / ٥٥٢

والقمرا

 جرير

 ٤ / ٩٢

ضرر

 

 ٢ / ٥٥٢

سكرا

 

 ٢ / ٥٦٩

اعتكر

 

 ٤ / ٣٧٨

كفورا

 الأسود بن عامر بن جوين

 ١ / ٤٣٧

زهر

 

 ٤ / ٣٧٨

 كبيرا

 أمية بن أبي الصلت

 ٢ / ١٢٨

المسير

 

 ٤ / ٩٥

سريرا

 أمية بن أبي الصلت

 ٢ / ١٢٨

صورا

 أمية بن أبي الصلت

 ٢ / ١٢٨


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

ذكورا

 الأعشى

 ٤ / ١١٦

لصبور

 

 ٢ / ٥١٦

مستطيرا

 الأعشى

 ٤ / ٣٧٧

كثير

 

 ٢ / ٥٧١

والفقيرا

 

 ١ / ١٧٥

قذور

 

 ٢ / ٥٧١

كسيرا

 

 ٣ / ٥٧١

يضرّه

 النابغة الذبياني

 ١ / ٣٣٩ و ٢ / ٣٨١

ستر

 مسكين الدارمي

 ١ / ٣٨

مرّه

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٣٨١

الخدر

 مسكين الدارمي

 ١ / ٣٨

 يسرّه

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٣٨١

 وقر

 مسكين الدارمي

 ١ / ٣٨

نشورها

 خالد بن زهير الهذلي

 ١ / ٦٨ و ٣٤٠

الدهر

 حاتم الطائي

 ٢ / ١٣٩

وبسورها

 توبة بن الحميّر

 ٤ / ٣٦٣

 الفقر

 حاتم الطائي

 ٢ / ١٣٩

الجمر

 عمران بن حطان

 ١ / ١٠٦

الصّدر

 حاتم الطائي

 ٤ / ٢٣٠

الجزر

 خرنق بنت هفان

 ١ / ٤٩٨

الفجر

 أبو صخر الهذلي

 ٢ / ٤٧٠

الأزر

 خرنق بنت هفان

 ١ / ٤٩٨

الشّكر

 أبو صخر الهذلي

 ٣ / ٢٠٩

شهر

 زهير بن أبي سلمى

 ٢ / ٢٩٨ و ٥٥٢

 أجر

 

 ١ / ٥٥

لا يفري

 زهير بن أبي سلمى

 ٣ / ٢٥٨ و ٤ / ٢٦٥

يعصر

 

 ٢ / ٤٤٤

البحر

 ذو الرمة

 ٢ / ٣١٦

المقادر

 ذو الرمة

 ٣ / ٦٤

الخمر

 المسيب بن علس

 ٤ / ٣٧٩

القصائر

 كثير عزة

 ٤ / ٢١٦

عمرو

 عبد الرحمن المحاربي

 ٣ / ٢١٢

البحاتر

 كثير عزة

 ٤ / ٢١٦

بنكر

 زيد بن عمرو بن نفيل

 ٣ / ٣٩٥

عامر

 

 ٢ / ٤٢٩

ضرّ

 زيد بن عمرو بن نفيل

 ٣ / ٣٩٥

الهواجر

 

 ٤ / ٣٦٤

بالغدر

 

 ١ / ٨٨

قماطر

 

 ٤ / ٣٧٨

أبي بكر

 

 ١ / ٢٢٥

الصّفر

 الأعشى

 ١ / ٢٤٦

وذا ظفر

 

 ٢ / ٨٨

الزفر

 أعشى باهلة

 ١ / ٣١٢ و ٤ / ٥٠

ولا ظفري

 

 ٢ / ٨٨

الغمر

 أعشى باهلة

 ٤ / ٢٢٥

بني صخر

 

 ٢ / ٤٦٤

الصدور

 العباس بن مرداس

 ٢ / ٣٤٥ و ٣ / ٢٢٤

إلى وكر

 

 ٢ / ٥١٦

بور

 ابن الزبعرى

 ٣ / ٣١٥

الصّدر

 

 ٣ / ١٤٨

القدور

 

 ١ / ١١٤ و ٢ / ٢٣٦ و ٣٦٦

والنّكر

 

 ٤ / ٢٦٥

صور

 

 ١ / ٢٣٦

وحمير

 لبيد

 ١ / ٢٩

لمغرور

 

 ١ / ٢٦٣

المسحّر

 لبيد

 ٣ / ٢٩

الصّور

 

 ٢ / ٤٥

منكر

 عبيد بن وهب العبسي

 ٣ / ٧٢

الحميري

 أبو ذؤيب

 ٤ / ٤١٥


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

لعامر

 الراعي النميري

 ١ / ٤٤

عزّ بزّا

 الخنساء

 ١ / ٤٨٧ و ٢ / ٣١٩

عامر

 الراعي النميري

 ٣ / ٢٢٦

اللمزة

 زياد الأعجم

 ٢ / ٢٦٩ و ٤ / ٤٨٩

بالجرائر

 الشنفري

 ٢ / ٤٣

مبزي

 رؤبة

 ١ / ٧٠

الناشر

 الأعشى

 ٢ / ١٣١ و ٤ / ٤٠٢

بالرجز

 رؤبة

 ١ / ٧٠

قابر

 الأعشى

 ٤ / ٤٠٢

 ـ السين ـ

للحوافر

 زيد الخيل

 ٢ / ٥٦٣

الأخماس

 رؤبة

 ٢ / ٢٩

المواطر

 

 ١ / ٢٢

وإبلاس

 رؤبة

 ٢ / ٢٩

المقادر

 

 ١ / ٢٢

بسّا

 

 ٤ / ٢١٩

المقادر

 

 ٣ / ٢٤٦

مكرسا

 العجاج

 ٢ / ٢٩

وانتظاري

 عدي بن زيد

 ١ / ٤٩

وأبلسا

 العجاج

 ٢ / ٢٩

اعتصاري

 عدي بن زيد

 ٢ / ٤٤٥

تنفسا

 علقمة بن قرط

 ٤ / ٤٠٨

نهار

 ربيع بن زياد

 ١ / ٢٩٣

وعسعسا

 علقمة بن قرط

 ٤ / ٤٠٨

الأسحار

 ربيع بن زياد

 ١ / ٢٩٣

التباسا

 النابغة الجعدي

 ١ / ٣٦

الساري

 الأخطل

 ٤ / ١٧٨

لباسا

 النابغة الجعدي

 ٤ / ٢١١

إزاري

 

 ١ / ١٤٨

بئيسا

 ذو الإصبع العدواني

 ٢ / ١٦٤

وعار

 

 ٤ / ٣٩٥

رأس

 

 ٣ / ٢١٣

قدر

 جرير

 ١ / ٣٨

المجلس

 المهلهل

 ١ / ٨٩ و ٣ / ٤٣

عوري

 ابن مقبل

 ٢ / ٥٢٤

الجلّس

 

 ١ / ٧٨

دعر

 ابن مقبل

 ٣ / ٣٨٢

الفوارس

 ذو الرمة

 ٣ / ٧١

بالسّور

 

 ٣ / ٢٣١

نفسي

 الخنساء

 ٤ / ٧٨

منثور

 الفرزدق

 ٣ / ٣٩

بالتأسي

 الخنساء

 ٤ / ٧٨

القدور

 

 ١ / ٢٥٩

حندس

 

 ٣ / ٨٢

أظفور

 

 ٢ / ٨٨

السندس

 

 ٣ / ٨٢

زور

 

 ٢ / ١٢٨

الجواميس

 جرير

 ٢ / ٥٦٣

غدور

 

 ٢ / ٢٥٥

 ـ الشين ـ

الأمير

 

 ٣ / ٥٦٨

قريشا

 

 ٤ / ٤٩٤

دارها

 

 ٤ / ٣٩٨

ريشا

 

 ٤ / ٤٩٤

سرارها

 

 ٤ / ٣٩٨

 ـ الزاي ـ

الأجراز

 

 ٣ / ٦٥


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

 ـ الصاد ـ

أطمعا

 

 ٢ / ٥١٧

وتبوص

 امرؤ القيس

 ٣ / ٥٥٩

ممنعا

 

 ٤ / ١٦٢

خميص

 

 ١ / ٣٠ و ١٩٢ ٢ / ١٣٦ و ٥٦٣ و ٤ / ٢٠٤

اتباعا

 القطامي

 ٤ / ٣٤٣

حريص

 

 ٢ / ١٢٢

ذراعا

 

 ٢ / ٣٨٩

 ـ الضاد ـ

قد ينعا

 الأحوص أو يزيد

 ٢ / ٦١

 تقضى

 رؤبة

 ١ / ٢٥٠

مضطجعا

 الأعشى

 ٢ / ٢٩١

بعضا

 رؤبة

 ١ / ٢٥٠

والصلعا

 الأعشى

 ٢ / ٣٨٥ و ٤ / ٣٨٤

بالمعضّى

 رؤبة

 ٢ / ٥٤٤

خدوعا

 

 ١ / ٢٩٤

أرضى

 

 ٢ / ٣٦٨

رفعه

 الأضبط بن قريع

 ١ / ٥٦١

ما مضى

 

 ٣ / ١٥٤

تدفع

 أبو ذؤيب الهذلي

 ١ / ٢٢٧

بعض

 طرفة

 ٣ / ١٢٢

ترقع

 أبو ذؤيب الهذلي

 ١ / ٥٤٤

نقضي

 

 ٢ / ٤١٦

تبّع

 أبو ذؤيب الهذلي

 ٤ / ٤٧

عرضي

 

 ٢ / ٤١٦

يجزع

 أبو ذؤيب الهذلي

 ٤ / ١٧٩

تبيضّضي

 

 ٢ / ٤٢٩

الخشّع

 جرير

 ٢ / ٤١٦

 ـ الطاء ـ

وتقطّع

 أوس بن حجر

 ٢ / ٤٦٤

المناشطا

 هميان بن قحافة

 ٤ / ٣٩٤

أتقنّع

 غيلان بن سلمة

 ٤ / ٣٥٩

واسطا

 هميان بن قحافة

 ٤ / ٣٩٤

مدمع

 

 ١ / ٥٠٢

 ـ العين ـ

أطمع

 

 ٢ / ١٦٦

 خدع

 سويد بن أبي كاهل

 ١ / ٣١

مجمع

 

 ٢ / ٣٤١ و ٣ / ١٦٦

رتع

 سويد بن أبي كاهل

 ٢ / ٤١٧

نوازع

 النابغة الذبياني

 ١ / ٤١

المستمع

 

 ١ / ٥٤

سابع

 النابغة الذبياني

 ١ / ٥٨

جذع

 

 ٢ / ١٤٩

الأصابع

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٤٣٤

أضع

 

 ٢ / ١٤٩

ساطع

 لبيد

 ١ / ١٧٥ و ٣ / ٣٩٧ و ٤ / ٤٢٠

بصاع

 

 ٢ / ٤٢٩

الأصابع

 لبيد

 ٢ / ٥٠٧

مدفعا

 امرؤ القيس

 ١ / ٤٣٦ و ٢ / ٣٦٤

الزعازع

 الفرزدق

 ٢ / ١٥٨

أشنعا

 مقاس العائذي

 ٢ / ٣٩

الطوالع

 الفرزدق

 ٤ / ٧٨

المقنعا

 جرير

 ١ / ٤٣٤

الودائع

 بيهس العذري

 ٣ / ٩٥

مصنعا

 

 ٢ / ٤٥٦

طالع

 عبد الله بن رواحة

 ٣ / ١٩٨

المضاجع

 عبد الله بن رواحة

 ٣ / ١٩٨

مجاشع

 

 ٢ / ١٠٧

نافع

 

 ٤ / ٣٣٦


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

وجيع

 عمرو بن معديكرب

 ١ / ٤٨٧

الرواجف

 

 ٤ / ٤٩٤

صديع

 عمرو بن معديكرب

 ٢ / ٥٤٥

مختلف

 عمرو بن امرئ القيس

 ٢ / ٢٥٥

رجوع

 قيس بن ذريح

 ٢ / ٣٤٣

أو المرار الأسدي

٣ / ٥٠١ و ٤ / ١٥٩

رجوعها

 الأحوص

 ٣ / ٢٦٢

طرف

 جرير

 ٣ / ١٩٤

مصرعي

 خبيب بن عدي

 ١ / ١٧٠

تنغرف

 قيس بن الخطيم

 ٣ / ٢٨٣

ممزّع

 خبيب بن عدي

 ١ / ١٧٠

خلاف

 

 ١ / ٣٥٣

والأقرع

 العباس بن مرداس

 ٣ / ٥٣٠

الأعراف

 

 ٢ / ١٢٣

بجائع

 امرأة من قشير

 ١ / ٣٧٣

 ـ القاف ـ

فارع

 مقيس بن صبابة

 ١ / ٤٥٠

المصطلق

 

 ٣ / ١٠٠

راجع

 مقيس بن صبابة

 ١ / ٤٥٠

وانطلق

 

 ٣ / ١٠٠

القصاع

 الحطيئة

 ١ / ٢١١

نطق

 

 ٣ / ١٠١

ربوع

 الشماخ

 ٢ / ٩٩

تلق

 

 ٣ / ٢٨٤

القنوع

 الشماخ

 ٣ / ٢٣٩

طارق

 هند بنت عتبة

 ٤ / ٤٢٨

 ـ الفاء ـ

النمارق

 هند بنت عتبة

 ٤ / ٤٢٨

 قاف

 

 ١ / ٢٦ و ٤ / ١٥٧

ساق

 

 ٤ / ٣٢٥

[الأكفّا]

 

 ٢ / ٥٠٥ و ٥٠٦

بالمضيق

 

 ٣ / ٣٣٣

أوجفا

 العجاج

 ٢ / ٤٠٦

السرادقا

 الفرزدق

 ٣ / ٨٠

فزلفا

 العجاج

 ٢ / ٤٠٦

حقائقا

 

 ٤ / ٤٢١

احقوقفا

 العجاج

 ٢ / ٤٠٦

سائقا

 

 ٤ / ٤٢١

دنفا

 العجاج

 ٣ / ٤٦

دقيقا

 

 ١ / ١١٢

تزحلفا

 العجاج

 ٣ / ٤٦

لبيقا

 

 ١ / ١١٢

الوظيفا

 الهذلي

 ٢ / ٥٠٦

يبرق

 ذو الرمة

 ١ / ٤١

مشرف

 الفرزدق

 ١ / ٥٣٢

الغرق

 العباس بن عبد المطلب

 ٣ / ٥٢٥

مجلّف

 الفرزدق

 ٣ / ١٦٤

شرق

 

 ٣ / ٣٣٧

تقصّف

 

 ٢ / ٤٧٠

وتنطلق

 

 ٣ / ٣٣٧

المخلّف

 

 ٢ / ٤٧٠

تذوق

 حميد بن ثور

 ٢ / ٤٩٠

وزائف

 المزرد

 ٣ / ٧٨

إبريق

 عدي بن زيد

 ٤ / ٢٢١

نزاحف

 

 ١ / ٢٨٦

يذوق

 

 ١ / ٢٨١

تحانف

 

 ١ / ٢٨٦

أطيق

 

 ٣ / ٣٩٢

كاسف

 

 ٢ / ٥٠٩


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

تشقّق

 عقفان بن قيس

 ٢ / ٨٨

قراكا

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

تفتّق

 الشماخ أو المزرد

 ٣ / ١٧

الدوالك

 ذو الرمة

 ٣ / ٤٦

تبرق

 طرفة

 ٤ / ٣٦٩

 ـ اللام ـ

موثق

 

 ١ / ٤٢

الطفل

 لبيد

 ١ / ٢٤

متألق

 

 ١ / ٤٢

سأل

 لبيد

 ١ / ٤٩

أيانق

 عمارة بن طارق

 ٤ / ٥٠٣

وعجل

 لبيد

 ٢ / ١٨٧

شقاق

 بشر بن أبي خازم

 ١ / ٥٧٠

فاضمحلّ

 لبيد

 ٢ / ٤٩٠

مراق

 عوف بن الأحوص

 ٢ / ٤٣

[غفل]

 لبيد

 ٣ / ٤٧

العراق

 

 ٢ / ١٢٨

وحائل

 الطرماح

 ٢ / ٥٢٩

مهراق

 

 ٢ / ١٢٨

مقبلا

 أوس بن حجر

 ١ / ٢٠٥

طبق

 الأقرع بن حابس

 ٤ / ٤٢٢

أعضلا

 أوس بن حجر

 ١ / ٢٠٥

 ـ الكاف ـ

أسهلا

 عمر بن أبي ربيعة

 ١ / ٥٠٠

حلالك

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

المغفلا

 

 ١ / ٣٨١

محالك

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

أرملا

 

 ٢ / ٤٦٧

عيالك

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

المطافلا

 

 ١ / ٥٩

جلالك

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

الأوعالا

 الفرزدق

 ١ / ٧٨

بدا لك

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

الأبطالا

 الفرزدق

 ٣ / ٢٣

مكّا

 

 ٤ / ١٣٥

خيالا

 الأخطل

 ٢ / ٤٨ و ٤ / ١٧٩

وعكّا

 

 ٤ / ١٣٥

ميكالا

 جرير

 ١ / ٩١

عذلكا

 

 ١ / ١١٦

أبوالا

 أمية بن أبي الصلت

 ١ / ١٧٥

مثلكا

 

 ١ / ١١٦

مقالا

 الحطيئة

 ٣ / ١٢٢

مباركا

 أبو خالد القناني

 ١ / ١٦

الأبطالا

 

 ٢ / ٣٨٩

إيثاركا

 أبو خالد القناني

 ١ / ١٦

الطوالا

 

 ٢ / ٣٨٩

أنا ذلكا

 خفاف بن ندبة

 ١ / ٢٧

وقبالا

 

 ٤ / ٢٢٣

عزائكا

 الأعشى

 ١ / ١٩٨

والجبالا

 

 ٤ / ٢٢٣

نسائكا

 الأعشى

 ١ / ١٩٨

فصلا

 عدي بن زيد

 ١ / ٧١

مالكا

 

 ١ / ٢٩٧

يخون إلى

 الأعشى

 ٢ / ١٣٣

سواكا

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

حملا

 الأخطل

 ٢ / ٥٧٥

حماكا

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

معقولا

 الراعي النميري

 ٢ / ٤٢٠

عاداكا

 عبد المطلب

 ٤ / ٤٩١

تحويلا

 ابن رواحة

 ٣ / ١١٣


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

السبيلا

 

 ١ / ٣٠٩

الأمل

 الراعي النميري

 ٣ / ٣٧٩

الجبلّة

 

 ٣ / ٣٤٧

الزّلل

 القطامي

 ٤ / ٣٦

أمر الله

 

 ٤ / ٣٢٤

حملوا

 

 ٢ / ٤٦٤

المغلّه

 

 ٤ / ٣٢٤

الإبل

 

 ٢ / ٤٦٤

قالها

 الخنساء

 ١ / ٢٩٠

معازيل

 عبدة بن الطبيب

 ٢ / ١٧٩

أوعالها

 الخنساء

 ١ / ٢٩٠

يعيل

 أحيحة بن الجلاح

 ٢ / ٢٤٩ و ٤ / ٤٥٨

أمثالها

 الخنساء

 ١ / ٢٩٠

طويل

 مجنون ليلى

 ٢ / ٤٩٠

ما لها

 الخنساء

 ٢ / ٤٦٤

أقول

 

 ١ / ١١١ و ٢ / ١٤١

حبالها

 الأعشى

 ١ / ٣١١

قليل

 

 ١ / ٢٣٩

أطفالها

 الأعشى

 ٢ / ٤٦٧

جزيل

 

 ٢ / ٣٢٧

إبقالها

 عامر بن جوين الطائي

 ٢ / ٤٤٤ و ٣ / ١٤

 فمطيل

 

 ٢ / ٣٢٧

ثعل

 ابن همام السلولي

 ١ / ٢٩٤

أو كلّه

 

 ٢ / ١١٣

يستهلّ

 تأبط شرا

 ٢ / ٣٨٦

فلا أحلّه

 

 ٢ / ١١٣

البقل

 زهير بن أبي سلمى

 ٣ / ٢٥٩

آجله

 توبة بن مضرس

 ١ / ٥٣٩

فيستعلوا

 زهير بن أبي سلمى

 ٤ / ٢١٧

كاهله

 ابن ميادة

 ٢ / ٥١

القتل

 

 ١ / ٨٤

أنامله

 ضابئ البرجمي

 ٢ / ٤٨٩

رحل

 

 ٤ / ٢٤٣

[حلائله]

 ضابئ البرجمي

 ٣ / ١٥٤

أصل

 

 ٤ / ٢٤٣

حواصله

 

 ٢ / ٥٦٨

منزل

 ورقة بن نوفل

 ١ / ٩٠

نواصله

 

 ٣ / ٢٦٢

وأطول

 الفرزدق

 ٢ / ١٥٣ و ٣ / ٤٢١

يستبيلها

 الفرزدق

 ١ / ٥٥

أول

 معن بن أوس

 ٢ / ١٨٨ و ٣ / ٤٢١

قبيلها

 الأعشى

 ٣ / ٥٤

لأميل

 الأحوص

 ٣ / ٤٢١

والأهل

 المنخل

 ٢ / ٤١٦

العواذل

 الهذلي

 ٤ / ٢٤٣

قبلي

 أبو ذؤيب الهذلي

 ٢ / ٥٠٦

والوسائل

 

 ١ / ٥٤٤

بالمهل

 ذو الرمة

 ٣ / ٣١٦

البطل

 الأعشى

 ١ / ٣٤

رسل

 

 ١ / ٨١ و ٣ / ٢٤٦

وينتعل

 الأعشى

 ٢ / ١٢٢

لا أقلي

 

 ٣ / ٨٥

عجل

 الأعشى

 ٤ / ١٧٦

التبقل

 أبو النجم

 ١ / ٧١

ما يئل

 الأعشى

 ٣ / ٩٣

ونهشل

 أبو النجم

 ١ / ٧١

هطل

 الأعشى

 ٣ / ٤١٨

مقتّل

 امرؤ القيس

 ١ / ٢٥٩

الأصل

 الأعشى

 ٣ / ٤١٨

بكلكل

 امرؤ القيس

 ١ / ٢٥٩


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

يفعل

 امرؤ القيس

 ٢ / ٣٤٣

[بالرجال]

 عدي بن زيد

 ٣ / ٥٣٨

تنجلي

 امرؤ القيس

 ٢ / ٣٩٨

بخيال

 تميم بن مقبل

 ٤ / ٢٨

مرحّل

 امرؤ القيس

 ٢ / ٣٩٨

الذليل

 سري السقطي

 ١ / ١٧٩

تنسل

 امرؤ القيس

 ٤ / ٣٦٠

وقيل

 سري السقطي

 ١ / ١٧٩

كالسجنجل

 امرؤ القيس

 ٤ / ٤٢٩

القتيل

 عنترة الطائي

 ٢ / ٢٠٨

ممحل

 عبد قيس بن خفاف

 ١ / ٢٧٩

عقيل

 الراعي

 ٣ / ١٠١

فانزل

 عبد قيس بن خفاف

 ١ / ٢٧٩

برسول

 كثير عزة

 ٣ / ٣٣٦

الأعزل

 لبيد

 ٢ / ٢٧٠

بالعقول

 

 ٢ / ١١٦

بهيضل

 أبو كبير الهذلي

 ٢ / ٥٢٢

قلله

 جميل بن معمر

 ٢ / ٤٣٥

فانزل

 عنترة العبسي

 ٣ / ١٨٠

برجله

 أم الأحنف

 ١ / ١١٦

المتحوّل

 هدبة بن خشرم

 ٣ / ٣٩٢

هزله

 أم الأحنف

 ١ / ١١٦

يتفل

 ذو الرمة

 ٤ / ٥٠٩

مثله

 أم الأحنف

 ١ / ١١٦

ذائل

 النابغة الذبياني

 ١ / ٩٣

خليله

 ابن رواحة

 ٣ / ٢٢٢

عوامل

 الهذلي

 ١ / ٤٦٤

 ـ الميم ـ

بالأصائل

 أبو ذؤيب الهذلي

 ٢ / ١٨٤

 إبرهم

 عبد المطلب

 ١ / ١٠٧

حابل

 

 ١ / ٣٢٥

ينتقم

 الأعشى

 ١ / ٢٩٦

والأغلال

 أمية بن أبي الصلت

 ١ / ٣٤

حرم

 الأعشى

 ٢ / ٣٤٧

الأذيال

 أمية بن أبي الصلت

 ١ / ٥٩

حطم

 الحطم البكري

 ١ / ٥٠٧

إسرال

 أمية بن أبي الصلت

 ١ / ٥٩

غنم

 الحطم البكري

 ١ / ٥٠٧

العقال

 أمية بن أبي الصلت

 ٢ / ٥٢٤

وضم

 الحطم البكري

 ١ / ٥٠٧

أمثالي

 امرؤ القيس

 ١ / ٢١٠

لم ينم

 الحطم البكري

 ١ / ٥٠٧

ميّال

 امرؤ القيس

 ٢ / ٣٢٦

كالزّلم

 الحطم البكري

 ١ / ٥٠٧

إذلال

 امرؤ القيس

 ١ / ٢٧٦ و ٢ / ٣٢٦

القدم

 الحطم البكري

 ١ / ٥٠٧

وأوصالي

 امرؤ القيس

 ١ / ٥٣٨ و ٢ / ٤٦٤

من صمم

 المثقب العبدي

 ٢ / ١٨

أغوال

 امرؤ القيس

 ٣ / ٥٤٣

كم وكم

 

 ١ / ١٦٣ و ٤ / ٢٠٨

مالي

 زيد الخيل

 ٢ / ٣٨٣

القوم

 

 ٣ / ١٩٦

دلال

 أمية بن عائذ الهذلي

 ٢ / ١٨١

اليوم

 

 ٣ / ١٩٦

الهلال

 جرير

 ٢ / ٤١٦ و ٣ / ٣٣٥

سلّما

 وضاح اليمن

 ١ / ٢٧٧ و ٣ / ٥٦٧

المحال

 الأعشى

 ٢ / ٤٨٨

أينما

 النمر بن تولب

 ١ / ٤٣٦

يبالي

 الأعشى

 ٢ / ٤٨٨

مبهما

 حاتم الطائي

 ١ / ٥١٤

هلال

 لبيد

 ٢ / ٥٣٠

 


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

بمنطقها فما

 حميد بن ثور

 ١ / ٢٥٩ و ٣ / ٣٥٥

قائم

 عبد المطلب

 ١ / ١٠٧

موشّما

 حميد بن ثور

 ٢ / ١٠٩

رواغم

 

 ١ / ٤٤٥

لها ابنما

 الملتمس

 ٢ / ٢٥٣

والغلام

 أوس بن غلفاء

 ١ / ٢٨٠

ميسما

 المتلمس

 ٣ / ٥٦

السلام

 المثقب العبدي

 ٢ / ٥٥٢

لصمّما

 المتلمس

 ٣ / ١٦٥

أثام

 بلعاء بن قيس

 ٣ / ٣٢٩

وأزنما

 العوام بن شوذب

 ٤ / ٢٨٨

الحمام

 

 ١ / ٢٥٩

وتمما

 

 ١ / ١٨

السلام

 

 ٢ / ٩٦

يتندما

 

 ١ / ٣١٨

السّقم

 العرجي

 ٢ / ٤٦٤

درهما

 

 ٢ / ٤٠١

والرّحم

 

 ٣ / ١٠٣

الدما

 

 ٢ / ٤٠١

والحرم

 

 ٤ / ٧٨

راهما

 هند بنت عتبة

 ٣ / ٥٦٧

مذءوم

 حسان بن ثابت

 ٢ / ١٠٧

عرواهما

 هند بنت عتبة

 ٣ / ٥٦٧

يتيم

 

 ١ / ٨٤

حماهما

 هند بنت عتبة

 ٣ / ٥٦٧

حكيم

 

 ٢ / ٢١٩

تراهما

 هند بنت عتبة

 ٣ / ٥٦٧

والحتوم

 

 ٢ / ٤٦٩

غنماهما

 أبو أسيدة الدبيري

 ٤ / ٣٣٠

محروم

 

 ٣ / ١٤٢

سلاما

 جرير

 ١ / ٧٨

سمه

 رؤبة

 ١ / ١٦

لماما

 جرير

 ٢ / ١٠٩

مقدّمه

 

 ١ / ١٦

غراما

 بشر بن أبي خازم

 ٣ / ٣٢٨

سمه

 

 ١ / ١٦

ألاما

 أم عمير الحنفي

 ٣ / ٥٥٢

حمامها

 لبيد

 ٤ / ٣٦

الطعاما

 

 ١ / ٥٨

عقيمها

 كثير عزة

 ٢ / ٥٢٩

[السناما]

 

 ٣ / ٨٥

نسيمها

 

 ٢ / ١٣١

ولا ذمما

 

 ٢ / ٢٣٨ و ٢٣٩

همّي

 رؤبة

 ١ / ٣٦

 هامة

 يزيد بن مفرغ

 ١ / ٤٣٢

غمّي

 رؤبة

 ١ / ٣٦

غمامه

 يزيد بن مفرغ

 ٤ / ٩٢

عكم

 الحطيئة

 ١ / ٢٩٨

طعم

 

٣ / ١٦٩

الرجم

 النابغة الجعدي

 ١ / ١٣٢ و ٣ / ٢٣

عقم

 

 ٣ / ٢٤٦

أم الهيثم

 عنترة العبسي

 ١ / ٦٥

منظم

 

 ١ / ٢٣٩

مخرم

 عنترة العبسي

 ٢ / ٢٣٣ و ٣٢٤ و ٣ / ١٤٢

يقدم

 

 ٢ / ٥١٤

لم تحرم

 عنترة العبسي

 ٣ / ٥٦٨

جاحم

 الأعشى

 ١ / ١٠٦

مكلمي

 عنترة العبسي

 ٤ / ٢٤٢

راغم

 الأعشى

 ٢ / ٣٤٦

إبراهم

 عبد المطلب

 ١ / ١٠٧

 


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

بمحرّم

 عنترة العبسي

 ٤ / ٣٥٩

 ـ النون ـ

المذمّم

 الأعشى

 ١ / ١٧٢

شزن

 الأعشى

 ١ / ٢٤١

من الدم

 الأعشى

 ٢ / ٤١٧

أنكرن

 الأعشى

 ١ / ٢٦٧

التكلم

 زهير بن أبي سلمى

 ١ / ٣٣١

يأتين

 الأعشى

 ١ / ٢٦٧

المرجّم

 زهير بن أبي سلمى

 ٣ / ٧٤

قد عدن

 الأعشى

 ٢ / ٢٧٧

المتخيّم

 زهير بن أبي سلمى

 ٣ / ١٤٣

الجمعين

 

 ٢ / ٤٥

مجثم

 زهير بن أبي سلمى

 ٣ / ٣٢٧

النقعين

 

 ٢ / ٤٥

زهدم

 سحيم بن وثيل

 ٢ / ٤٩٦

الصورين

 

 ٢ / ٤٥

مطعم

 أبو وجزة السعدي

 ٣ / ٥٥٩

ومينا

 عدي بن زيد

 ١ / ٦٥

بمعظم

 

 ١ / ١١٩

أين أينا

 عبيد بن الأبرص

 ١ / ١٦٣ و ٤ / ٢٠٨

وأنعمي

 

 ١ / ٢٢٧

لحنا

 مالك بن أسماء

 ٤ / ١٢١

لمأثم

 

 ١ / ٣٣١

عريانا

 سوار بن المضرب

 ٢ / ١١٠

لم تكلم

 

 ٣ / ٩٣

ومسانا

 أمية بن أبي الصلت

 ٢ / ٢٦٨

النواسم

 ذو الرمة

 ١ / ٣٣

عمرانا

 

 ٢ / ٣٤٦

أم القاسم

 ابن الرقاع

 ١ / ٧٠ و ٤٣٤

أحيانا

 

 ٤ / ٧٤

جاسم

 ابن الرقاع

 ١ / ٢٢٩

العالمينا

 الحطيئة

 ١ / ١٨

بنائم

 ابن الرقاع

 ١ / ٢٢٩

سبعينا

 لبيد

 ١ / ١٩

بنائم

 جرير

 ٢ / ٣٤٠ و ٣ / ٥٠٠

الجاهلينا

 عمرو بن كلثوم

 ١ / ٣٥

بدارم

 الفرزدق

 ٤ / ٨٥

لاعبينا

 عمرو بن كلثوم

 ١ / ٤٠

والأداهم

 

 ٢ / ١٣٧

جنينا

 عمرو بن كلثوم

 ١ / ٤٣٨

سلّام

 الحطيئة

 ١ / ٩٣

العيونا

 عمرو بن كلثوم

 ٣ / ١٢٧

شمام

 الفرزدق

 ١ / ١٦٣

مأمونا

 عمران بن حطان

 ١ / ٩٠

بالسهام

 لبيد

 ١ / ٣٥٠

لينا

 تميم بن مقيل

 ١ / ٣١٣

النعام

 حسان بن ثابت

 ٢ / ٢٣٩

سجّينا

 تميم بن مقبل

 ٢ / ٣٩٣

الأيام

 جرير

 ٣ / ٢٥

شجينا

 المسيب بن زيد مناة

 ١ / ٤٣٠ و ٣ / ٢٢٤ و ٤ / ٢٠٤

أقوام

 

 ١ / ١٣٨

دفينا

 أبو طالب

 ٢ / ١٩

لأقوام

 

 ١ / ١٩٥

عيونا

 أبو طالب

 ٢ / ١٩

أحلام

 

 ١ / ١٩٥

دينا

 أبو طالب

 ٢ / ١٩

الأقدام

 

 ٤ / ٣٢٧

مبينا

 أبو طالب

 ٢ / ١٩

الرحيم

 جرير

 ١ / ١٢٠ و ٢ / ٣١٣

جنونا

 حسان بن ثابت

 ٢ / ٢٥٥


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

آمينا

 

 ١ / ٢٣

حقّان

 

 ٢ / ٤٠٤

لما جينا

 

 ١ / ٥٩

بالإحسان

 

 ٣ / ١٠١

إسرائينا

 

 ١ / ٥٩

الكثبان

 

 ٤ / ٢٢١

تشكونا

 

 ١ / ٨٤

والحزن

 

 ٤ / ٢٣٧

يوصينا

 

 ١ / ٨٤

لم يكن

 

 ٤ / ٢٣٧

جافونا

 

 ١ / ٨٤

اللعين

 الشماخ

 ١ / ١٢٧

لما جينا

 

 ١ / ١١٠

الوتين

 الشماخ

 ٤ / ٣٣٣

اسماعينا

 

 ١ / ١١٠

يليني

 المثقب العبدي

 ١ / ١٤٠ و ٣١٦ و ٢ / ٣٦٧ و ٥٧٦ و ٣ / ٥١٨

متينا

 

 ١ / ٣١١

يبتغيني

 المثقب العبدي

 ١ / ١٤٠ و ٣١٦

القرينا

 

 ٣ / ٥٥٩

 الحزين

 المثقب العبدي

 ٢ / ٣٠٦

والعيونا

 

 ٤ / ٢٢٢

والزيتون

 أبو طالب

 ٢ / ٦٠

إنّه

 ابن قيس الرقيات

 ٣ / ١٦٥

تخوفيني

 أبو حية النميري

 ٣ / ٣٩٥

المباين

 المعطل الهذلي

 ٢ / ٤٣٦

تستتليني

 

 ٢ / ٣٢٩

المساكن

 

 ٢ / ٣٤٦

أميني

 

 ٤ / ٤٦٤

دانوا

 الفند الزماني

 ١ / ٢٥٠

 ـ الهاء ـ

أذنوا

 قعنب بن أم صاحب

 ١ / ٥٨٧ و ٤ / ٤١٩

فشفاها

 ليلى الأخيلية

 ١ / ٢٠٦

دفنوا

 قعنب بن أم صاحب

 ٢ / ١٤١ و ٣ / ٥٠٦

سقاها

 ليلى الأخيلية

 ١ / ٢٠٦ و ٢٨٠ و ٣ / ٩٩

رهين

 النابغة الذبياني

 ١ / ٣٤

قلاها

 

 ١ / ٣١٣

الظنون

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٣٨٠

[عيناها]

 

 ١ / ٥٢٢

فيهون

 كثير عزة

 ٢ / ١٠٢

ابتناها

 

 ٣ / ٤٠٧

ميزانه

 

 ٢ / ١٠٣

حاديها

 طفيل الغنوي

 ١ / ٦٠

بشنّ

 النابغة الذبياني

 ٢ / ٢١٧ و ٤ / ١٧٠

لاقيها

 حسان بن ثابت

 ٢ / ٣٦٤

الفرقدان

 عمرو بن معديكرب

 ١ / ٤٤٨

نبنيها

 

 ٢ / ١٧١

طهيان

 الأحول الكندي

 ١ / ٥٩٨ و ٣ / ٧٠

المدّه

 رؤبة

 ١ / ١٦

والشّبهان

 الأحول الكندي

 ٣ / ٢٣١

تألهي

 رؤبة

 ١ / ١٦

بأرسان

 امرؤ القيس

 ٢ / ٣٩٢

ولهله

 رؤبة

 ١ / ٣٥

رماني

 ابن أحمر

 ٤ / ١٥٩

مهمه

 رؤبة

 ١ / ٣٥

الأركان

 

 ٢ / ٣٩١

العمّه

 رؤبة

 ١ / ٣٥

باني

 

 ٢ / ٣٩١


القافيه

الشاعر

ج / ص

القافيه

الشاعر

ج / ص

 ـ الياء ـ

شفائيا

 

 ٤ / ٣٩٠

بدا ليا

 عبد الله بن معاوية

 ١ / ٣٢٩

معاوية

 علي بن أبي طالب

 ٢ / ٨٩

باقيا

 النابغة الجعدي

 ٢ / ٢٠٩

الحاويه

 علي بن أبي طالب

 ٢ / ٨٩

الخواليا

 عنترة العبسي

 ٢ / ٣٥٨

أنجيه

 سحيم بن وثيل

 ٢ / ٤٦١

ذاليا

 عنترة العبسي

 ٢ / ٣٥٨

كالأرشيه

 سحيم بن وثيل

 ٢ / ٤٦١

لجاميا

 الفرزدق

 ٢ / ٤٣٠

قنسريّ

 العجاج

 ١ / ٤٨

ورائيا

 سوار بن المضرب

 ٢ / ٤٦٨ و ٥٠٧

دواريّ

 العجاج

 ١ / ٤٨

ضاحيا

 أمية بن أبي الصلت

 ٣ / ٥٥٣

غنيّ

 

 ٢ / ١٣٩

ناهيا

 

 ٣ / ٥٣٠


٤ ـ أنصاف الأبيات التي لم تعرف قوافيها

الشاعر

الجزء / الصفحة

لمن الظعائن سيرهن تزحف

الأعشى

٢ / ١٩٤

وشر المنايا ميت بين أهله

١ / ٨٩

فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم

١ / ١٦٥

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا

١ / ١٩٢ و ٢ / ١٣٦ و ٤ / ٢٠٤

تخاطأت إليك أحشاؤه

٣ / ٢٢

وإن شئتم تعاودنا عوادا

٤ / ٣٤٣

يمجّ صبيرة الماعون صبا

٤ / ٤٩٦


٥ ـ المصادر والمراجع

أهم المراجع والمصادر في التخريج :

١ ـ صحيح البخاري. بترقيم فؤاد عبد الباقي ، طبع دار المعرفة.

٢ ـ صحيح مسلم. بترقيم فؤاد عبد الباقي ، طبع دار إحياء التراث العربي.

٣ ـ سنن أبي داود. بترقيم محيي الدين عبد الحميد ، طبع دار إحياء السنة النبوية.

٤ ـ سنن الترمذي. بترقيم أحمد شاكر ثم فؤاد عبد الباقي ثم إبراهيم عطوة عوض ، طبع دار إحياء التراث العربي.

٥ ـ سنن النسائي جزء وصفحة ، طبع دار القلم.

٦ ـ سنن ابن ماجة. بترقيم فؤاد عبد الباقي ، طبع دار الفكر.

٧ ـ سنن الدارمي جزء وصفحة ، طبع دار صادر.

٩ ـ مسند الطيالسي. بترقيم دار الباز ، طبع دار المعرفة.

١٠ ـ صحيح ابن حبان. بترقيم شعيب الأرناؤوط ، طبع مؤسسة الرسالة.

١١ ـ مستدرك الحاكم جزء وصفحة ، طبع دار المعرفة.

١٢ ـ سنن الدارقطني. طبع مكتبة المتنبي.

١٣ ـ سنن البيهقي. طبع دار الفكر.

١٤ ـ موطأ الإمام مالك. بترقيم فؤاد عبد الباقي ، طبع دار الكتب العلمية.

١٥ ـ مسند الشافعي. طبع دار الكتب العلمية.

١٦ ـ مجمع الزوائد. طبع دار الكتاب العربي.

١٧ ـ مسند الفردوس للديلمي. طبع دار الكتب العلمية.

١٨ ـ الكامل لابن عدي. طبع دار الفكر.

١٩ ـ العلل المتناهية لابن الجوزي. طبع دار الكتب العلمية.

٢٠ ـ سيرة ابن هشام. طبع دار المكتبة التوقيفية.

٢١ ـ المنتقى لابن الجارود. بترقيم عبد الله عمر البارودي ، طبع دار الجنان.

٢٢ ـ المطالب العالية لابن حجر. بترقيم حبيب الرحمن الأعظمي ، طبع دار المعرفة.

المراجع اللغوية المعتمدة في هذا العمل :

١ ـ لسان العرب ، طبع دار بيروت.

٢ ـ القاموس المحيط. طبع دار الفكر.

٣ ـ مختار الصحاح للرازي. طبع دار الكتاب العربي.


٤ ـ المغرب للمطرّزي. طبع مكتبة أسامة بن زيد.

٥ ـ المصباح المنير للفيومي. طبع دار الفكر.

كتب الرجال المعتمدة :

١ ـ الجرح والتعديل ، للرازي.

٢ ـ الكامل في الضعفاء ، لابن عدي.

٣ ـ الضعفاء ، للعقيلي.

٤ ـ المجروحون ، لابن حبان.

٥ ـ ميزان الاعتدال ، للذهبي.

٦ ـ لسان الميزان ، لابن حجر.

٧ ـ تقريب التهذيب ، لابن حجر.

٨ ـ الضعفاء والمتروكون ، لابن الجوزي.

٩ ـ وفيات الأعيان ، لابن خلكان.

١٠ ـ الوافي بالوفيات ، للصفدي.

١١ ـ الديباج المذهب ، لابن فرحون.

١٢ ـ جذوة الاقتباس ، لابن القاضي.

١٣ ـ تذكرة الحفاظ ، للذهبي.

١٤ ـ بغية الملتمس ، لابن عميرة الضبي.

الكتب المعتمدة في الحكم على الحديث :

١ ـ نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية ، للإمام الحافظ جمال الدين الزيلعي رحمه‌الله.

٢ ـ الدراية في تلخيص نصب الراية ، لابن حجر.

٣ ـ تلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير ، لابن حجر.

٤ ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، لابن الجوزي.

٥ ـ العلل ، لابن أبي حاتم الرازي.

زاد المسير في علم التفسير - ٤

المؤلف:
الصفحات: 551