
____________________________________
الآيات : (٤٧ ـ ٥٤)
(إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ
مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
لا
يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ
قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا
مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ
قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى
فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ
عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو
دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)
(٥٤)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ
مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ).
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الآية السابقة قد توعدت المشركين بقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وهؤلاء المشركون لا يصدقون بيوم القيامة ، ولا يؤمنون
بالبعث ، وكانوا يسألون النبيّ عن يوم البعث سؤال المنكر بقولهم : متى هو؟ .. فكانت
هذه الآية جوابا عن سؤال يدور فى رءوسهم ، منكرا هذا اليوم .. وقد جاء الجواب على
سبيل القصر ، وجعل علم السّاعة من أمر الله وحده ، لا يعلمها إلا هو ، كما يقول
الله تعالى : (قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي .. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) (٨٧ : الأعراف) ..
فقوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) حكم قاطع بأن علم الساعة ، وتحديد وقتها ، هو من أمر الله
وحده ، لا يعلمها إلا هو ..
وقوله تعالى : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ
أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) هو توكيد لعلم الله الشامل الذي يقع فى محيطه كلّ شىء فى
هذا الوجود ، لا علم الساعة وحده ..
فهذه الثمرات التي
تخرجها الأرض ، هى فى علم الله .. ثمرة ثمرة ، بل قبل أن تكون ثمرة .. فهو سبحانه
الذي أخرج نبتها من الأرض ، وهو سبحانه الذي أطلع من النّبتة هذا الزّهر ، وهو
سبحانه الذي أخرج من هذا الزهر ، الثمر ، وأنضجه ..
والأكمام ؛ جمع
كمّ ، وهو كأس الزهرة قبل أن تتفتح ..
هذا فى عالم
النبات ، وكذلك الشأن فى عالم الحيوان والإنسان .. فما حملت أنثى حملا ، ولا وضعته
، إلا والله سبحانه وتعالى عالم بما تحمل كل أنثى ، وما تضع من حمل ، كما يقول
سبحانه فى آية أخرى : (اللهُ
يَعْلَمُ
ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ .. وَكُلُّ
شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨ : الرعد).
وعلم الله بما
تحمل كل أنثى وما تضع من حمل ، لا يمنع من أن يعلم الناس من هذا العلم ، ما يقع
لحواسهم ، من حمل الحوامل من إنسان وحيوان .. فعلم الله سبحانه علم قديم ، واقع
قبل أن يقع الحمل وبعده ، وهو علم شامل لكل ذات حمل ، ووضع .. على خلاف علم
العلماء ، فإنه علم حادث بعد أن يقع الحمل ، ثم هو علم محدود ، لا يقع إلا على ما
يكون تحت حواسهم ، وهو قليل قليل إلى ما يقع لحواسهم ، مما فى عالم البحار ،
والطير ، والوحش ، والهوامّ والحشرات .. وغيرها كثير كثير .. فالعلم الشامل الكامل
، هو علم الله وحده.
قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي ويوم القيامة ينادى الحقّ سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين
الضالين : أين شركائى الذين كنتم تعبدون من دونى؟ فيخرسون عن الجواب ، ويقوم
شركاؤهم الذين عبدوهم من دون الله ، فينطقون عنهم قائلين : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي تبرأنا إليك يا الله منهم ، من قبل أي فى الدنيا ، وليس
الآن منّا من شهيد يشهد معهم موقفهم هذا ، ويقف إلى جوارهم .. وهذا هو بعض السر فى
التعبير بالفعل الماضي : (قالُوا) بدلا من يقولون ، الذي يعبّر به عما يتوقّع ..
يقال : آذنه بكذا
.. أي أعلمه وأخبره.
قوله تعالى :
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).
أي وغاب عنهم ، أي
عن هؤلاء العابدين الضالين ، ما كانوا يعبدون
من دون الله ، حيث
يتلفتون فلا يجدون لهم أثرا فى هذا اليوم الذي يرجونهم له .. وأيقنوا أن لا محيص
لهم ، ولا نجاة من العذاب الواقع بهم ، وقد تخلى عنهم أولياؤهم الذين كانوا
يعبدونهم من دون الله ..
والظّنّ هنا بمعنى
العلم واليقين.
والمحيص : المفرّ
، والخلاص من هذا المأزق.
قوله تعالى :
(لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ).
تشرح هذه الآية
والآيات التي بعدها ، النفس الإنسانية ، وتكشف عن داء الطمع والشّره ، وحب
الاستكثار من المال والمتاع ، المتمكن منها ، دون أن يقف بها الأمر عند حدّ
القناعة ، أو الشبع .. بل إنها كلّما كثر لديها ما تشتهى من مال ومتاع ، ازدادت
جوعا وطلبا ..
كالحوت لا يكفيه
شىء يلقمه
|
|
يصبح ظمآن وفى
البحر فمه
|
ـ (لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل من طلب الخير لنفسه ، من مال ومتاع ، وولد ،
وجاه وسلطان .. إلى غير ذلك مما يطلبه الناس ، ويتنافسون فيه ..
وسميت هذه المطالب
خيرا ، لأنها فى أصلها من نعم الله ، وهى فى ذاتها خير ، ولكنها حين تصبح غاية لا
وسيلة ، تكون فتنة وبلاء.
والمراد بدعاء
الخير ، هو طلبه واستدعاؤه ، والسّعى الجادّ لتحصيله ، لأنّ هذه الأشياء إنما
يطلبها الإنسان ، لأنها غائبة عنه ، فهو يستدعيها إليه ، ويهتف بها من أعماقه أن
تجيبه ، وتدنو منه.
ـ (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ
قَنُوطٌ) أي وإن ألمّ به الشرّ ـ مجرد إلمام ، مع هذه النعم الكثيرة
التي بين يديه ـ جأر بالشكوى ، وعلا صياحه بالسخط والضيق ، وكاد يؤدّى به ذلك إلى
إعلان الحرب على ربه! لأنه يائس من رحمة الله ، سيىء الظن بفضل الله وإحسانه ..
فهذا موقف من لا
يؤمن بالله ، ولا يحسن الظن به ، ولا يعلّق الأمل والرجاء فيه .. إنه يقيس الأمور
ويقدّرها ، حسب مجرياتها بالنسبة له ، وحسب الأسباب التي بين يديه منها ، غير ناظر
إلى قدرة الله ، وإلى تعلق مصائر الأمور بمشيئته ..
أما للؤمن الذي
يعمر الإيمان بالله قلبه ، فإنه إذ يسعى سعيه فى الحياة ، يتقبّل فى رضى واستسلام
، كلّ ما يقع له من خير أو شر .. فهو مع الخير قانع ، راض ، شاكر ، ومع الضّر صابر
، مترقب مواقع رحمة ربه من قريب ، لا يبيت فى كل شدة إلا مع أمل ، فى رحمة من ربه
تكشف هذا الضرّ الذي نزل به .. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧ : يوسف).
قوله تعالى :
(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما
أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ
لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ).
أي أن هذا الإنسان
الذي مسه الضر ، فبات يائسا قانطا من رحمة الله ـ إذا أذاقه الله سبحانه رحمة منه
، وكشف عنه الضر الذي مسه ، لم يجعل هذا إلى الله سبحانه ، ولم يضفه إلى فضله وإلى
فضله وإحسانه ، بل يزيّن
له ضلاله وغروره ،
أن هذا الخير الذي أصابه بعد الضرّ ـ هو من عمله ، وحسن تدبيره ، فيقول : (هذا لِي) أي هذا من كسبى ، وحسن تدبيرى ، فهو لى ، وليس لله فيه شىء
، فلا يكون منه حمد لله ، ولا ذكر لفضله وإحسانه .. ثم يمضى فى غروره وضلاله ،
فيدخل على نفسه الشكّ فى أمر البعث والحساب والجزاء ، كى يطلق العنان لشهواته
ونزواته ، غير عامل أي حساب ليوم الحساب : (وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً)!.
ثم إذا به بعد أن
ألقى بذور الشك فى يوم القيامة ، وغرسها فى مشاعره ، يعود فيروى هذه البذور
بالآمال الكاذبة ، والأمانىّ الباطلة ، حتى يخيل إليه منها أنها قد استوت على
سوقها ، ثم أزهرت وأثمرت .. فيحدّث نفسه بهذا الحديث الكاذب : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي
عِنْدَهُ لَلْحُسْنى)! هكذا ينتقل به الضلال ، من وهم إلى وهم ، ومن خداع إلى
خداع ، حتى يرد موارد الهلاك!.
(وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً)!.
إنه مجرد ظنّ!
يحتمل أن تقوم الساعة ، أو لا تقوم!.
وماذا لو قامت
الساعة!.
إنه لا خوف عليه
منها! وماذا يخيفه؟ إن له عند الله فى الآخرة ـ إن كانت هناك آخرة ـ مثل ما كان له
فى الدنيا أو أكثر!! ..
وهكذا يزين الضلال
لأهله!
وقد أبطل الله
سبحانه هذه الأمانى الباطلة ، وردّها على أهلها حسرة وندامة ،
فقال سبحانه : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) .. فهذا ما يلقاه الكافرون فى هذا اليوم .. إنهم سيلقون
أعمالهم السيئة حاضرة بين أيديهم ، وسيحاسبون عليها ، ثم يقضى عليهم بالعذاب
الغليظ ، الذي يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، خالدين فيه أبدا.
قوله تعالى :
(وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو
دُعاءٍ عَرِيضٍ).
وهذه صورة من صور
الإنسان ، ومكره بنعم ربه .. وكفره بإحسانه إليه ..
فهذا الإنسان ـ وله
فى الإنسانية أشباه كثيرون ـ إذا أنعم الله عليه نعمة منه ، شغل بالحياة مع هذه
النعمة عن الله ، ونسى ما لله من حقوق عليه ، بل ربما ذهب إلى أبعد من هذا ، فاتخذ
من هذه النعمة سلاحا يحارب به الله سبحانه ، ليفسد فى الأرض ، ويقطع ما أمر الله
به أن يوصل ..
فإذا مسّ هذا
الإنسان ضرّ ، عاد إلى الله ، يدعوه لجنبه أو قاعدا أو قائما ، ويقطع على نفسه
العهود والمواثيق ، لئن أنجاه الله من هذا البلاء ، وكشف عنه هذا الضرّ ، ليكونن
من المؤمنين الشاكرين .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي يستكثر من الدعاء والتضرع إلى الله ، والإنابة إليه .. إنه
لا يذكر الله ولا يعرفه إلّا فى الشدّة .. أما فى الرخاء. فهو معرض عن الله ، أو
محارب لله ..
قوله تعالى :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ).
هو رد على تلك
الأمانى الباطلة ، التي يعيش فيها أهل الغواية والضلال ، ممن يقيمون أمرهم فى
الإيمان باليوم الآخر ـ على حرف .. فيقولون إن كانت هناك آخرة ـ ولا نظن ـ فإن لنا
عند الله هناك ما كان لنا فى الدنيا ، من مال وجاه وسلطان .. وإن لم تكن آخرة ـ وهو
ما نظن ـ فقد أخذنا أمرنا على هذا ، فلا يضيرنا أنه لم يجىء هذا اليوم ، فليس لنا
شىء فيه ، ولا متعلّق لنا به.
وهنا فى هذه الآية
يكشف الله سبحانه وتعالى للمشركين عن موقفهم من رسول الله ، ومن كتاب الله الذي
بين يديه .. فهم فى شك من رسول الله ، وفى حيرة من أمرهم فيه ، بين التصديق
والتكذيب ، أشبه بهذه الظنون التي تدور فى رءوس المشركين عن يوم البعث ، وقد جاءهم
القرآن ، وهم على هذا الشعور ، يحاسبهم به ، ويسفّه منطقهم فيه.
فهم قد وقفوا من
الرسول موقف الشك والارتياب ، بين التصديق والتكذيب ، كما كان ذلك شأنهم مع اليوم
الآخر .. فليكن هذا.!
ولكن لما ذا
يرجّحون جانب التكذيب على جانب التصديق؟ هذا هو الذي لا يقبله منطق! فهل يقبلون
مثلا إذا جاءهم من يخبرهم أنه رأى جيشا مغيرا وراء هذا الجبل ، يريد الهجوم عليهم ـ
هل يقبلون أن يقيموا أمرهم على الشك ، فى هذا الخبر ، ولو كان كاذبا من كاذب؟ وهل
يقبلون أن يخلو شعورهم من كل حذر وحيطة؟ إن منطق الحياة يدعوهم إلى الأخذ بالأحوط
، وإلى أن يعدّوا العدّة كاملة للقاء هذا العدو .. فإن كان هناك عدو ، كانوا قد
أعدوا العدة للقائه ، فلم يبغتهم بخيله ورجله .. وإن لم يكن هناك عدوّ ، فلا خسران
عليهم فيما فعلوا ..
وهنا ، إنسان يقول
لهم : إنه رسول الله ، وإنه يحمل إليهم كتابا من ربهم
يدعوهم فيه إلى
الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، وينذرهم عذاب يوم عظيم ، هو يوم القيامة ..
وهذا الرسول ، إما
أن يكون صادقا ، أو كاذبا.
فإن هم أقاموا
أمرهم معه على أنه صادق ، وآمنوا بالله وباليوم الآخر ، وأعدّوا العدة للقاء هذا
اليوم ، فإن كان صادقا حقّا فقد نجوا ، وخلصوا بأنفسهم من عذاب هذا اليوم .. وإن
كان كاذبا ، فما خسروا شيئا .. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه ،
على لسان مؤمن آل فرعون : (أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ
رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (٢٨ : غافر).
وفى هذا المعنى
يقول أبو العلاء المعرى.
قال المنجّم
والطبيب كلاهما
|
|
لا تبعث الأجساد
قلت إليكما
|
إن صحّ قولكما
فلست بخاسر
|
|
أو صحّ قولى
فالخسار عليكما
|
وقوله تعالى : (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ
بَعِيدٍ).
الاسم الموصول (مِنْ) مفعول به لقوله تعالى : (أَرَأَيْتُمْ) أي أعلمتم من أضل منكم ، إن كان هذا الرسول من عند الله ،
ثم كفرتم به؟ ويكون قوله تعالى : (إِنْ كانَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) جملة اعتراضية شرطية ، وجواب الشرط محذوف ، دلّ عليه
السياق.
وقد جىء بهم مع
ضمير الغائب بدلا من ضمير المخاطب فى قوله تعالى : (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) ليروا بأعينهم العبرة فى هذا الذي يعرض عليهم من أهل
الشقاق ، وهو صورة منتزعة منهم .. وفى هذا ما يدعوهم إلى أن ينظروا فى وجه هذا
الغريب. وأن يطيلوا النظر إليه ، والحال أنهم إنما ينظرون إلى أنفسهم فى شخصه.
ولو جاء النظم
هكذا : قل أرأيتم من أضل منكم إن كان هذا الرسول من عند الله ، ثم كفرتم به ـ لنفروا
نفار الحمر الوحشية ، ولما استقبلوا هذه الدعوة التي يدعون إليها ، إلا بالصد
والإعراض ، أو بالسب والشمّ ، فيفوت بذلك الغرض المقصود من الإمساك بهم فى هذا
الموقف ، لينظروا فى تلك المرآة ، التي يرون شخوصهم مائلة فيها!
قوله تعالى :
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .. أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ..)
أي أن هؤلاء
المشركين ، الذين شكّوا فى رسول الله ، وفى آيات الله التي بين يديه ـ سيريهم الله
آياته فى الآفاق البعيدة عنهم ، وفى ذات أنفسهم ، وستكشف لهم هذه الآيات التي
يرونها ، أن هذا الرسول حق ، وأن الكتاب الذي بين يديه حقّ.
والآيات التي رآها
المشركون فى الآفاق وفى أنفسهم كثيرة .. منها هذا المجتمع الجديد الذي قام لدعوة
الإسلام فى المدينة ، واجتمع فيه المهاجرون والأنصار .. ومنها ازدياد قوة الإسلام
، وشوكة المسلمين ، يوما بعد يوم .. ومنها انتصار المسلمين يوم بدر وهم قلة ،
وانتصارهم يوم الخندق بغير حرب .. ومنها جلاء اليهود عن المدينة ، وإنزالهم من
صياصيهم .. ومنها فتح خيبر .. ثم منها فتح مكة .. ففى هذه الآيات رأى كثير من
المشركين أن هذا الدين هو دين الله ، وأن الرسول رسول الله ، وأن الكتاب كتاب الله
، فجاءوا من كل فج يطلبون الإسلام ، ويدخلون فى دين الله أفواجا.
وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
هو دعوة للنبىّ
الكريم أن يصبر على أذى قومه ، وعلى موقفهم المتعنت منه ؛ وحسبه فى هذا أن الله
شهيد على ما يعملون ، وسيجزيهم عليه ..
قوله تعالى :
(أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ).
بهذه الآية تختم
السورة الكريمة ، وفيها كشف عن الداء الذي يخامر المشركين ، ويفسد عليهم رأيهم فى
رسول الله ، وفيما يدعوهم إليه ، وهذا الداء هو إنكارهم للبعث ، واستبعادهم إعادة
الأجساد بعد أن تصير عظاما ورفاتا ..
وفى قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ
لِقاءِ رَبِّهِمْ) إخبار من الله سبحانه وتعالى بما فى نفوس هؤلاء المشركين
من أمر البعث من شك وريبة فهم لهذا فى شك من لقاء ربّهم ، ومن محاسبتهم ومجازاتهم
على ما يعملون فى دنياهم ..
وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) .. تهديد لهؤلاء المشركين بما يلقاهم من شكّهم فى لقاء
ربّهم يوم القيامة ، حيث يرون أعمالهم ، وقد أحصاها الله عليهم ، وحاسبهم على كل
صغيرة وكبيرة منها .. فالله سبحانه وتعالى محيط بكل شىء علما.
٤٢ ـ سورة الشورى
نزولها : مكية ..
بإجماع.
عدد آياتها : ثلاث
وخمسون آية.
عدد كلماتها :
ثمانمائة وست وستون كلمة ..
عدد حروفها :
ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمان وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
تكاد سور الحواميم
تكون سورة واحدة فى نظمها وفى مضمونها .. فهى جميعها مكية النزول ، وقد خلت من
القصص ، ومن التشريع ، وجاءت مساقاتها كلّها فى مواجهة المشركين بشركهم وضلالهم ،
وتكذيبهم لرسول الله ، وشكّهم فى البعث ، وفى لقاء ربهم .. ولقد لقيهم القرآن
الكريم فى هذه السّور بكل طريق ، ودخل على مشاعرهم وتصوراتهم من كل باب ، فلم يدع
خاطرة تدور فى رءوسهم من خواطر الشكّ والارتياب إلّا كشف لهم عنها ، وأراهم باطلها
وضلالها .. ثم نصب لهم معالم الهدى ، ودعاهم إلى أخذ الطريق القاصد إليه .. وإلا
فالنار موعدهم ..
وهذه السورة ـ سورة
الشورى ـ تتصل بسورة فصلت التي سبقتها اتصالا وثيقا ، فتعيد على أسماع المشركين
عرض تلك القضايا التي عرضتها السورة السابقة من شركهم بالله ، وتكذيبهم لرسول الله
، وارتيابهم فى البعث ، والحساب والجزاء .. وفى هذا العرض المتجدّد ، يرى المشركون
تلك القضايا ، وقد طلعت عليهم بمعاول جديدة ، تهدم تلك الجدر المتداعية من بناء
معتقداتهم الفاسدة ، حتى لتكاد تسقط عليهم ، وتدفنهم تحت أنقاضها ..
بسم الله الرحمن الرحيم
____________________________________
الآيات : (١ ـ ١٢)
(حم (١) عسق (٢)
كَذلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٣)
لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ(٥) وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
أَمِ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ
الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
(١٢)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(حم عسق.)
هذه أحرف خمسة
بدأت بها السورة الكريمة .. وذلك العدد هو غاية ما بدىء به من حروف مقطعة ، على
حين قد بدئت بعض السور بحرف واحد مثل (ص) و (ق) و (ن) كما بدئت بعض السور بحرفين مثل : (طه) و (طس) و (يس) و (حم) وبعضها بثلاثة أحرف مثل : (الم) و (الر) و (طسم) وبعضها بأربعة أحرف مثل (المص) و (المر) ..
ومما يلفت النظر
فى هذا ، أن الكلمة العربية قد تبنى على حرف واحد ، مثل «ق» فعل أمر من «وقى» أو
حرفين مثل «قل» فعل أمر من قال ، أو ثلاثة أحرف .. مثل «قرأ وسجد» أو أربعة أحرف
مثل «بعثر» وزلزل أو خمسة أحرف مثل «تلعثم» ..
وعلى هذا يمكن أن
ينظر إلى هذه الحروف المقطّعة على أنها أفعال ، أو أسماء ، ذات دلالات خاصة ،
يعرفها النبىّ ؛ ويرى فى أضوائها ما لا يراه غيره ؛ وقد يشاركه فى هذه الرؤية بعض
المؤمنين الراسخين فى العلم منهم .. وفى هذه الرؤية ينكشف كثير من الأسرار
والمعارف ، التي تحويها هذه الأحرف فى كيانها .. فهى أشبه بصناديق مغلقة على كنوز
من الأسرار والمعارف ، يأخذ منها النبىّ ما شاء ، على حين لا تأذن بشىء منها إلا
لذوى البصائر من عباد الله الصالحين المقرّبين ، ثم تظل مغلقة على أسرارها ؛ دون
من ليسوا من أهلها ..
وعلى هذا الفهم ،
نستطيع أن نردّ الإشارة فى قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. إلى هذه الأحرف ، وأن
الله سبحانه
وتعالى قد أوحى إلى نبيه الكريم بهذه الأحرف التي تحمل فى كيانها دلالات يعرف
النبىّ تأويلها ، بما آتاه الله من علم ، شأنه فى هذا شأن الأنبياء من قبله ،
الذين أوحى الله سبحانه وتعالى إليهم بمثل ما أوحى إليه به من هذه الأحرف ، التي
هى رموز إلى أمور يعرفون هم تأويلها ، ويشاركهم بنسب مختلفة فى المعرفة بعض
أتباعهم وحواريهم ، من الراسخين فى العلم.
فالمراد ـ والله
أعلم ـ بما يوحى به الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ هنا ، هو بعض ما يوحى إليه ، لا
كلّه ، وهو تلك الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السور ، لا كلّ ما أوحى به إليه.
وفى قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) .. إشارة إلى أن هذا الوحى الذي تلقى به النبىّ صلوات الله
وسلامه عليه هذه الأحرف ، لم يكن عن طريق الملك الذي اعتاد أن يلقاه ، فيتلقّى منه
ما أذن الله بوحيه إليه من آياته وكلماته. وإنما كان كلاما من ربّه ، على تلك
الصفة التي أشار إليها سبحانه فى قوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) .. أي إلهاما منه سبحانه ، حيث يجد الرسول كلمات ربّه
قائمة فى صدره ، مستولية على كيانه كلّه .. وهذا ما يشير إليه الرسول فى قوله : «إن
روح القدس نفخ فى روعى» ..
ومن هنا كان لهذه
الأحرف هذا المقام الكريم ، فى كتاب الله الكريم ، فكانت تلك الأحرف على رأس
السّور التي نزلت معها ..
هذا ، وسنزيد
الأمر بيانا فى آخر السورة ، عند تفسير قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ).
قوله تعالى :
(لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .. إشارة إلى ما لقدرة الله سبحانه وتعالى ، من سلطان قاهر
، يخضع له كل موجود فى هذا الوجود .. فهو ـ سبحانه ـ الخالق المالك المدبّر لكل ما
فى السموات وما فى الأرض .. وهو (الْعَلِيُّ) الذي يعلو بسلطانه على كل سلطان ..
العظيم الذي تذل
لعظمته كل عظمة ، وكل عظيم ..
قوله تعالى :
(تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
أي إنه لجلال الله
سبحانه ولعظمته ورهبوته ، تكاد السماوات يتفطرن من (وْقِهِنَّ) أي يتشققن ويسقطن من علوّهن ، فيقع بعضهن على بعض.
فالضمير فى (فَوْقِهِنَّ) يعود إلى السموات .. أي أنها تكاد تسقط من عليائها ، هيبة
وجلالا لله سبحانه .. وان الانفطار ، وهو التشقق ، هو من الخشية والجلال لهذا
القرآن الموحى به إلى النبي ، والذي لا يتأثر به هؤلاء المشركون ، أصحاب القلوب
القاسية .. وأن التشقق الذي يكاد يفتت السماوات ، لا يقع ـ وحسب ـ من الجهة
المواجهة للأرض ، لما نزل عليها من كلام الله ، بل يبلغ أقطارها العليا ، وينفذ
إلى أعلى سماء فيها ..
وقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ) أي أن الملائكة وهم من عالم السماء. ـ عالم النور والطهر ـ.
يسبحون بحمد ربّهم ، ويتقربون إليه ، ويبتغون مرضاته ، بالعبادة والتسبيح : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ) .. (وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).
وقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) .. أي أن من عبادة الملائكة وتسبيحهم لله ، استغفارهم لمن
فى الأرض .. إذ كان أهل الأرض متلبسين بالخطايا والذنوب .. فهم النقطة السوداء فى
هذا الوجود النورانى ، المشّع ولاء وخضوعا لله رب العالمين ..
والمراد بمن فى
الأرض هم المؤمنون ، كما يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٥ : الشورى) وكما
يقول سبحانه : (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) (٧ : غافر)
وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ) .. أي أنه سبحانه يقبل استغفار الملائكة لمن يستغفرون لهم
من المؤمنين ، فيغفر الله سبحانه وتعالى لهم ، فهو سبحانه (الْغَفُورُ) أي كثير المغفرة (الرَّحِيمُ) ، أي واسع الرحمة ، تسع رحمته كل شىء.
قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ..
هو معطوف على
محذوف مفهوم من قوله تعالى : (أَلا إِنَّ اللهَ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ـ أي أنه سبحانه
يغفر للذين تابوا وآمنوا ، وأما الذين أشركوا بالله ، واتخذوا من دونه أولياء ،
ولم يدخلوا فى دين الله ، ولم يتوبوا إليه ـ فالله (حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي ممسك بهم ، قائم عليهم ، متول حسابهم وجزاءهم .. وليس
النبي بمسئول عنهم بعد أن بلغهم رسالة ربه .. (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (٤٠ : الرعد).
قوله تعالى :
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ .. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ).
فى هذه الآية
إشارة إلى أن هناك وحيا من نوع آخر ، غير الوحى الأول الذي جاء فى مطلع السورة فى
قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..
وقد قلنا ـ حسب
فهمنا ـ إن الوحى الذي أشار إليه قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو وحي من الله بدون وساطة ملك ، وأنه المشار إليه فى قوله
تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ ، إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) فهذا الوحى ، وحي من الله بدون وساطة .. وقلنا إن هذا
الوحى من الله سبحانه ، هو واقع على الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن
الكريم .. أما الوحى بوساطة الملك فقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً
عَرَبِيًّا) .. وهذا يشمل القرآن الكريم كلّه ، عدا تلك الحروف المقطعة
.. ولهذا وصف بأنه قرآن عربى ، أي يقرأ ويفهم عند من يحسن العربية ويفهم لغتها ..
ولهذا أيضا اتبع بالعلة التي من أجلها كان وحي هذا القرآن ، وهى التبليغ والإنذار
: (لِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى) أي أهل مكة (وَمَنْ حَوْلَها) أي ومن حولها من أهل القرى والخيام ..
ووصف مكة بأنها أم
القرى ، إشارة إلى أنها ستكون قبلة المسلمين فى صلاتهم ، ومجتمعهم فى حجّهم ..
وقوله تعالى : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) .. أي وتنذر الناس بلقاء ربهم (يَوْمَ الْجَمْعِ) أي يوم القيامة ، حيث يبعث الله الناس من قبورهم ، ويحشرون
إلى ربهم ، فيجتمعون جميعا ، لا يغيب فرد واحد منهم.
وقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) الجملة حال من يوم الجمع ، أي أن هذا اليوم آت لا شك فيه
..
وقوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ) أي أن هذا الجمع الذي يضم الناس جميعا ، سينقسم هناك إلى
فريقين : فريق فى الجنة ، وفريق فى السعير .. فلينظر الإنسان إلى نفسه ، وإلى أىّ
فريق من الفريقين ينتسب .. فإن كان من المؤمنين المصدّقين بالله وبرسوله ، وباليوم
الآخر ـ فهو من فريق أهل الجنة ، وإن كان من المكذبين الضالين ، فهو فى الفريق
المدعوّ إلى السعير ..
قوله تعالى :
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).
أي أن الله سبحانه
وتعالى ، قد قضى فى عباده أن يكون فريق منهم فى الجنة ، وفريق فى السعير ، كما
يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (٢ : التغابن) ..
هكذا كانت مشيئة الله فى عباده .. ولو شاء الله سبحانه لجعل الناس أمة واحدة ،
ولأدخلهم يوم القيامة مدخلا واحدا ..
وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي
رَحْمَتِهِ) أي أنّ من أراد الله سبحانه بهم خيرا ، هداهم إلى الإيمان
، وأدخلهم فى رحمته ،
وأنزلهم منازل
جناته ورضوانه .. فضلا منه وإحسانا ، وكرما .. جعلنا الله منهم ..
وقوله تعالى : (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ
وَلا نَصِيرٍ) .. اختلف فيه النظم ، فجاء على غير ما يقتضيه ظاهر المقام
، الذي يقضى بأن يكون المعادل لقوله تعالى : (وَلكِنْ يُدْخِلُ
مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) ـ هو : «ويحرم من
يشاء منها» ..
فما سرّ هذا؟
السرّ ـ والله
أعلم ـ هو أن الله سبحانه ، هو صاحب المشيئة المطلقة التي لا معقب لها ، وهو
سبحانه بهذه المشيئة يفعل ما يشاء فى خلقه ، فيعذّب من يشاء ، ويرحم من يشاء .. (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ
يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٩ : الأنعام) ..
تلك هى مشيئة الله
المطلقة الغالبة (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٦٨ : القصص) ..
ومع هذه المشيئة
الغالبة المطلقة لله سبحانه ، فقد جعل جلّ شأنه للإنسان ـ فضلا منه وكرما ـ مشيئة
، تقود فطرته ، لتلقى مع مشيئة الله ، وتجرى فى محيطها العام المتدفق ..
ولكن الإنسان ـ وبمشيئة
الله الغالبة ـ أفسد فطرته ، فجمعت به إرادته عن أن يستقيم على سواء السبيل ، فكان
بهذا ظالما ، جائرا عن قصد السبيل القويم .. فالظالم هو الوصف الذي يرد على كل
إنسان عاقل رشيد مريد ، إذا هو كان فى موقع انحرف فيه عن طريق الحق الذي قام عليه
الوجود كلّه ..
وهذا الانحراف ،
هو بمشيئة لله سابقة غالبة ، ولكنّ للإنسان كسبا فى هذا الانحراف ، ومشيئة متلبسة
به ..
فالأمر فى ظاهره ،
هو : أن هذا الظلم والانحراف من كسب الإنسان ، وهو فى باطنه بمشيئة غالبة لله ،
وقدر سابق! ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣ : الأنبياء)
..
قوله تعالى :
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
أي أن هؤلاء
الظالمين ، قد اتخذوا من دون الله أولياء يرجون نصرهم .. ويبتغون العزّة عندهم .. (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) وحده ، لا يملك معه أحد نصرا ، ولا عزّا .. (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤ : الكهف).
وقوله تعالى : (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) إشارة إلى البعث ، وأنه حقيقة مقررة ، وأن إنكار المنكرين
لا ينفعهم من لقاء هذا اليوم ، ولا يصرفه عنهم ، بل إنهم مبعوثون ، ومحاسبون حسابا
عسيرا .. (أَلا يَوْمَ
يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) (٨ : هود).
وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تأكيد للبعث ، وأن إحياء الموتى واقع فى قدرة الله التي لا
يعجزها شىء.
قوله تعالى :
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ، ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي ، عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) .. الذي هو من صفات الله سبحانه وتعالى ، الذي يحيى الموتى
، وبقدر على كل شىء ، وإليه مردّ الحكم فيما اختلفتم فيه .. فهو سبحانه الذي يقضى
فى هذا الاختلاف الذي خرجتم به أيها الظالمون عن دعوة الحقّ ، وعن طريق الإيمان.
وقوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) .. أي قل لهم أيها النبي : ذلكم المتصف بتلك الصفات ، هو
ربى الذي آمنت به ، والذي أدعوكم إليه ، الذي عليه توكلت ، فجعلت ولائى له ،
ومعتمدى عليه ، والذي إليه أرجع فى كلّ أمورى ، وأتوب إليه من كل ذنب.
قوله تعالى :
(فاطِرُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ).
هو من عطف البيان
على قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) .. أي ربى الذي عليه توكلت وإليه أنيب ، هو (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي خالقهما ، وموجدهما ابتداء ، على غير مثال سبق ..
ومنه الفطرة ، وهى أصل الخلقة.
ويمكن أن يكون هذا
وما بعده من قول الرسول الكريم ، استكمالا لقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) .. ويمكن أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى ، تعقيبا على
إقرار الرسول بوحدانية ربّه ، وتوكّله عليه .. أي أن هذا الرّبّ الذي اتّخذه
الرسول ربّا له ، وتوكّل عليه ، وأناب إليه ـ هو فاطر السماوات والأرض.
وقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي هذا الربّ الذي خلق السموات والأرض ، هو الذي خلقكم ،
وهو الذي (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي جعل لكم من جنسكم ، ومن طبيعتكم أزواجا
لتسكنوا إليها ،
وتألفوا الحياة معها ، كما أنه سبحانه قد جعل لكم من الأنعام أزواجا ، ذكرا وأنثى
؛ لتتوالد ، وتتكاثر ، وتنتشر بينكم ، وتتسع لحاجتكم منها ، ركوبا ، وحملا ،
وطعاما.
وقوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ).
الذّرء : إظهار
عوالم المخلوقات ، التي كانت مكنونة فى علم الله سبحانه وتعالى ـ ومنه الدّرأة ،
وهى بياض الشيب ، لأنه ظهر بعد خفاء.
ومعنى الآية
الكريمة ، أن الله سبحانه بهذا التزاوج بين الرجل والمرأة ، كثرّ نسل الإنسان ،
وأظهر به ما قدّر من مخلوقات بشرية ، من أصلاب الآباء ، وأرحام الأمهات.
والضمير فى (فِيهِ) يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى : (أَزْواجاً) أي تزاوجا بين الذكر والأنثى ، فى عالم الأحياء ، من إنسان
وحيوان .. فكأن هذا التزاوج هو الظرف ، أو الوعاء الذي تتشكل فيه عوالم الأحياء ،
أي يكثّركم فى هذا التزاوج ..
وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
هو مبالغة فى نفى
المثلية عن الله سبحانه وتعالى ، وذلك ينفى المثلية عن مثله ـ تعالى الله سبحانه
أن يكون له مثل .. فإذا انتفت المثلية عن المثل ، وهذا المثل ـ أيا كان ـ لا يساوى
من يماثله ـ فإن انتفاءها عن الأصل الذي يقاس عليه المثل ـ أولى ـ بمعنى أنه ليس
كمثل مثل الله شىء فى هذا الوجود ، فما بالك بمن يطلب ليكون مثل الله ذاته؟ ذلك
مستحيل بعد مستحيل ..
قوله تعالى :
(لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
المقاليد : جمع
مقلد ، وهو ما يحيط بالشيء ، ومنه القلادة ، لأنها تحيط بالعنق.
أي أن الله سبحانه
وتعالى ، له السلطان القائم على السموات والأرض ، وبيده سبحانه تصريفهما ، لا يملك
أحد معه من الأمر شيئا.
____________________________________
الآيات : (١٣ ـ ١٦)
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ
اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ
إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ
مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ).
أي ومن نعم الله
سبحانه وتعالى ، الذي خلقكم وجعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من الأنعام أزواجا
ـ أنه شرع لكم دينا هو دينه الذي ارتضاه ، وهو الدين الذي وصّى به نوحا ، وهو الذي
جاءكم به نبيكم محمّد ، وحيا من ربه ، وهو ما وصى به الله سبحانه الأنبياء ،
إبراهيم وموسى ، وعيسى ، عليهمالسلام.
وقوله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) هو بيان لما وصى الله سبحانه به أنبياءه عليهمالسلام ، وهو أن يقيموا الدين ، وأن يبلّغوه أقوامهم ، وأن يكونوا
جميعا على هذا الدين ، دين الله الذي ارتضاه لهم جميعا ، والّا يتفرقوا فيه ،
فيكون لكل نبى ، ولكل قوم دين .. إن دين الله واحد ، هو الإسلام ، كما يقول سبحانه
: (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١٩ : آل عمران)
وكما يقول سبحانه : (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ) (١٥٣ : الأنعام)
.. وكما يقول جل شأنه فيما أخذه من ميثاق على الأنبياء جميعا : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ). (٨١ : آل عمران) وكما يقول النبي الكريم : «الأنبياء
أبناء علّات ، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد».
وهذه الوصاة
للأنبياء ، هى وصاة ملزمة لأقوامهم باتباع دين الله هذا ، وهو الإسلام الذي كمل به
الدّين ، والذي أدركوه وبين أيديهم بعض منه .. ومطلوب من أهل الكتاب ـ اليهود
والنصارى ـ أن يؤمنوا بهذا الدين كلّه ، وألا يتفرقوا فيه ، فيذهب كل فريق ببعض
منه ، فيكون لكل جماعة دين من دين الله الواحد.
وهنا سؤال ، وهو :
لما ذا اختلف النظم فى هذا المقطع من الآية الكريمة ، فلم يجر على نسق واحد؟ فقال
تعالى : (ما وَصَّى بِهِ
نُوحاً) ثم قال سبحانه : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) ولم يجىء النظم هكذا : «وما وصّيناك به» بل جاء هكذا : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) .. فما سر هذا؟
الجواب : ـ والله
أعلم ـ من وجوه : فأولا أن ما أوحى الله به سبحانه وتعالى إلى النبي من آياته
وكلماته ، لم يكن مجرّد وصاة .. بل إنه يحمل مع هذه الوصاة المعجزة التي تدلّ على
أنه كلام الله ، على حين أن ما كان يوحى إلى الأنبياء من وصايا لم يكن كلاما يحمل
فى طياته معجزة متحدية .. وهذا هو بعض السر فى كلمة (أَوْحَيْنا) المقابلة لكلمة (وَصَّيْنا) .. إذ أن الوحى فيه إشارات ، ولطائف ، لا تنكشف إلا لذوى
البصائر والأفهام ، على خلاف الوصاة فإنها تجىء صريحة واضحة الدّلالة ، تعطى
كلماتها كلّ ما فيها مرة واحدة.
وثانيا : أن هذا
الوحى يحتاج إلى عقل بتدبّر هذه الكلمات الموحى بها ، وهذا يعنى أن المبلّغ إليهم
هذا الوحى ، ينبغى أن يتدبروه ويعقلوه ، وأن يستخلصوا منه مواقع العبر والعظات ،
وأن يأخذوا منه الأدلة والبراهين على ما يدعوهم إليه من الإيمان بالله ، واليوم
الآخر ، والتصديق برسوله ، وملائكته وكتبه ورسله ..
وهذا يعنى ـ من
جهة أخرى ـ أن المبلّغين برسالات الرسل السابقين لم يكونوا مطالبين باستخلاص
الدليل والبرهان على صدق الرسول ، وعلى صدق ما جاءهم به من وصايا ، إذ كان مع
الرسول آية صدقه التي بين يديه من المعجزة أو المعجزات المادية ، التي يمكّن الله
سبحانه وتعالى له منها ..
وثالثا : فى الوحى
بالشيء رفق ولطف بالموحى إليه ، ومخاطبته بالإشارة دون العبارة .. وهذا يعنى أن
الذين يخاطبون بهذا الوحى هم فى درجة من الفطنة والذكاء وكمال العقل ، بحيث لا
يؤخذون بالزجر والقهر ، وإنما يقادون بالحكمة ، والمنطق ، وهذا ما يتفق والرسالة
الإسلامية ، التي كمل بها دين الله ، والتي من شأنها أن تلتقى بأوفر الناس حظّا من
الكمال الإنسانى ..
وسؤال آخر ..
وهو : لما ذا لم
يجىء ذكر الأنبياء على نسق فى الترتيب الزمنى ، فجاء ذكر رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، بعد نوح ، وقبل إبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام؟ ..
ثم لما ذا وقد سبق
ذكره ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إبراهيم وموسى وعيسى ـ لما ذا لم يسبق نوحا أيضا؟
والجواب ـ والله
أعلم ـ من وجوه كذلك :
فأولا : قدّم
النبىّ صلوات الله وسلامه عليه ، على إبراهيم وموسى وعيسى ، لأن رسالته هى مجمع
رسالات الأنبياء عليهمالسلام ، وكتابه الذي أنزل عليه هو المهيمن على الكتب السماوية ..
إذ قد جمعت الرسالة الإسلامية ما تفرق فى الرسالات السابقة ، فكان الإسلام هو
الدين كلّه ، دين الله الذي كان لكل نبى نصيب منه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى
: (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١٩ : آل عمران) وقوله
سبحانه : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ) (٣٣ : التوبة)
وقوله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْياناً وَكُفْراً) (٦٨ : المائدة)
وقوله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) (٨٥ : آل عمران).
وهذا يعنى أن من
آمن بالرسالات السابقة ، وأقامها على وجهها ، لا بد أن يسلمه ذلك إلى الإيمان
بالإسلام ، لأنها من الإسلام ، مادة وروحا .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ) (٤٨ : المائدة).
وثانيا : قدم نوح ـ
عليهالسلام ـ لأنه أول
الأنبياء أصحاب الرسالات ، وقد كانت له دعوة إلى الله ، وكان له قوم يدعوهم إلى
الله ، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذكر القرآن .. وبهذا تعتبر رسالته
مفتتح الرسالات إلى دين الله ، وهو الإسلام .. فكان تقديمه لازما لهذا الاعتبار ..
وثالثا : أن تقديم
نوح لم يكن إلا لمجرد الإشارة إلى أن دعوة الإسلام دعوة قديمة قدم الإنسانية ، يوم
بلغت الإنسانية مبلغ الخطاب والتكليف ، ولم يكن لنوح حين جاء الإسلام ، قوم أو
كتاب ، حتى يكون لتقديم الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على دعوة نوح حجة على
قومه ، وهيمنة على كتابه ، على خلاف من هم من أتباع إبراهيم وموسى وعيسى ، فقد
كانوا بمشهد من عصر النبوة ، وبمسمع من دعوة النبي ، وهم لهذا مطالبون باتباع هذا
النبي والإيمان به ، وبكتابه المهيمن على ما فى صحف إبراهيم ، وعلى التوراة
والإنجيل .. فقد كان اليهود أتباع موسى ، وكتابه التوراة ، وكان النصارى أتباع
عيسى ، وكتابه الإنجيل ، وكان المشركون على دين
إبراهيم ، وإن
كانوا جميعا قد تنكّبوا الطريق السّوىّ للدين الذي يدينون به ..
وقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) ـ هو نحس للمشركين
وتبكيت لهم ، وازدراء لغرورهم الذي أراهم فى أنفسهم هذا الذي باعد بينهم وبين كتاب
الله ، ورسول الله ، فأنفوا أن يستجيبوا لبشر مثلهم ، وأن يتناولوا من يده الدواء
الذي يشفى عللهم ، ويذهب بأسقامهم .. لقد كبر عليهم هذا ، ورأوه مما ينزل بقدرهم
وينال من مكانتهم .. وإنه لعجيب غاية العجب ، أن يكون هذا موقفهم من كتاب هو
المهيمن على الكتب السماوية كلها ، ومن رسول هو خاتم الرسل ، ورسالته خاتم رسالات
السماء ، ومن دين هو مجتمع دين الله؟ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ) .. فهذا هو الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لهم.
واصطفى لحمله إليهم صفوة أنبيائه ، وخاتم رسله .. فكيف يستقبلون هذه المنّة
العظيمة بهذا الكبر الأحمق ، وهذا الغرور السفيه؟.
وقوله تعالى : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) .. هو تعقيب على موقف هؤلاء المشركين من دعوة الله سبحانه
وتعالى ، التي يدعو بها رسوله الناس إلى الله .. إذ ليس كلّ مدعوّ مستجيبا لهذه
الدعوة ، ولكن الله سبحانه وتعالى يختار من بين المدعوين من يدخلهم فى ضيافتهم ،
ويأخذ بيدهم إلى رحاب كرمه وإحسانه ، فيستجيبون للداعى مسرعين ، فى غير تردّد أو
إبطاء ، وهناك آخرون من بين المترددين والمبطئين سوف يلحقون بهؤلاء السابقين ،
ويدخلون فى ضيافة الله سبحانه ، إذا هم نزعوا أقدامهم من هذا الموقف المتردد الذي
هم فيه ، وأخذوا طريقهم
إلى الله .. إن
الله سبحانه ـ سيهديهم إليه ، وبيسر لهم سبل الوصول إلى رحاب فضله وإحسانه .. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) .. وهكذا تختلف منازل الناس عند الله .. فأناس يجتبيهم
ويختارهم ، ويحملهم حملا على مطايا الفضل ومراكب الإحسان .. وأناس ينتظر بهم حتى
يكون منهم سعى إليه ، واتجاه إلى مواقع رحمته .. وعندئذ تلقاهم عناية الله على أول
الطريق ، فتقودهم إليه ، وتنزلهم منازل رضوانه .. وأناس قعدوا حيث هم فأركسوا فى
ضلالهم .. إنهم لم يكونوا من أهل الاجتباء ، فتخف بهم مراكب اللّجا إلى الله ، ولم
يكونوا من ذوى القدرة على السباحة والعوم ، الذين تمسك أيديهم بحبل الله ، فيسلمهم
ذلك الحبل إليه .. بل كانوا من غير هؤلاء وأولئك ، ممن لم يرد الله لهم النجاة ،
فكانوا من المغرقين.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).
قوله تعالى :
(وَما تَفَرَّقُوا
إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).
أي أن أهل الكتاب ـ
من اليهود والنصارى ـ كانوا على حال واحدة من الكفر والضلال ، قبل مبعث الرسل
إليهم ، فلما بعث الله فيهم الرسولين الكريمين ـ موسى وعيسى ـ وجاءهم العلم على
يديهما ، وبيّنا لهم الهدى من الضلال ـ تفرقوا شيعا ، فكانوا يهود ونصارى ، وما
كان اليهود : مؤمنين ، وكافرين ، ومنافقين ، وكان النصارى : مؤمنين وكافرين
ومشركين .. وهكذا تنازع القوم أمرهم ، وفرقوا دينهم ، كما يقول الله سبحانه وتعالى
فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما
أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ .. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩ : الأنعام).
وقوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ..
أي ولو لا ما سبق
من قضاء الله ، فى أن يؤخر حساب هؤلاء المختلفين من أهل الكتاب ، إلى أجل مسمّى ،
موقوت لهم ، وهو يوم القيامة ـ لو لا هذا الذي سبق من قضاء الله (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، أي لفصل بينهم ، وأخذ كل منهم بما يستحق من جزاء فى هذه
الدنيا ، فنجّى الذين آمنوا ، ووقع بأس الله بالقوم الظالمين.
وقوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ
مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) ـ الضمير فى (مِنْهُ) يعود إلى (الدِّينِ) فى قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) وهو دين الإسلام ، الذي يدعو إليه رسول الله بالكتاب الذي
أنزل إليه من ربه ..
والذين أورثوا
الكتاب من بعدهم ، هم أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، الذين عاصروا الدعوة
الإسلامية ، فهؤلاء الذين يدينون باليهودية والنصرانية ، هم الذين أوتوا الكتاب من
بعد آبائهم الذين أورثوهم ـ مع هذا الكتاب الذي فى أيديهم ـ فرقة فيه ، واختلافا
عليه ، وهم لما ورثوا من فرقة وخلاف فى دينهم ـ فى شك وارتياب من هذا الدين
الإسلامى الذي يدعون إليه ، إذ كان دينهم الذي هو من هذا الدين ، قد تغيرت معالمه
، وطمست وجوهه ، فلما التقى بدين الله الذي يردّ أصل دينهم إليه ـ لم يجدوه ملتئما
معه ، ولا آخذا سبيله ، فكان ذلك الشك المريب منهم فى دين الله!
قوله تعالى :
(فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ
اللهُ
مِنْ كِتابٍ ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ، اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ،
لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ،
اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
«الفاء» فى قوله
تعالى : (فَلِذلِكَ) ـ للسببية ،
والإشارة إلى هذا الخلاف الذي وقع بين أهل الكتاب فى دينهم ، والذي أدى بهم إلى
الشك والارتياب فى النبي ؛ وفيما يدعو إليه من دين الله ..
أي فلأجل هذا فلا
تلتفت إلى أهل الكتاب ، ولا تقف طويلا معهم ، إذ كانوا وتلك حالهم من الشك
والارتياب .. (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ
كَما أُمِرْتَ) أي فقم بدعوتك ، واصدع بما تؤمر ، مستقيما عليه ، غير ناظر
إلى ما يجىء إليك من القوم من جدل ومراء .. (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ) فإن ما يجادلون به ، هو أهواء وضلالات .. (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ
مِنْ كِتابٍ) أي قل آمنت بهذا الكتاب ، وبما أنزل الله من كتاب سماوى
سابق لهذا الكتاب الذي بين يدىّ.
كما يقول الله
تعالى لنبيه الكريم : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ
وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ
رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٨٤ : آل عمران).
وتنكير الكتاب فى
قوله تعالى : (مِنْ كِتابٍ) وجرّه بمن الدالة على الاستغراق ـ للإشارة إلى أن النبي
مؤمن بكل كتاب نزل من عند الله.
قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي أمرت لأدعوكم إلى دين الله ، بالعدل والإحسان ، لا
أكرهكم عليه ، ولا أجادلكم إلا بالتي هى أحسن.
وقوله تعالى : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي أن الرب الذي أدعوكم إليه ليس ربىّ وحدى ، حتى يكون لى
مصلحة خاصة فى دعوتكم إليه ، فهو سبحانه ربكم كما هو ربى .. وفى هذا تعريض باليهود
الذين يجعلون الله سبحانه وتعالى ربّا لهم وحدهم ، يؤثرهم بما عنده من خير وإحسان
، فيسمونه ربّ إسرائيل ،
ويسمونه رب الجنود
، ويجعلونه قائدا لجيشهم فى الحرب ، كما تصرح بذلك التوراة التي فى أيديهم ، فى
أكثر من موضع منها ..
وقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي أن ما نعمله من خير أو شر ، هو لنا وحدنا ، ومجزيّون به
، على الخير خيرا والسوء سوءا .. وكذلك ما تعملونه أنتم ، هو لكم ، تجزون به ، إن
خيرا فخير وإن شرا فشر .. (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨ : المدثر).
وقوله تعالى : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا جدل بينا وبينكم حتى تحاجونا ونحاجّكم .. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ).
وقوله تعالى : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي أن الله سبحانه وتعالى ، هو الذي يقضى فيما بيننا
وبينكم من خلاف ، يوم يجمع بيننا جميعا ، يوم القيامة ، فيقضى بالحق ، ويجزى كلّا
بما هو أهل له .. (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) والمرجع ..
قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).
(الَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يجادلون فى دينه ، وفى كتابه الذي أنزله على رسوله .. (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي يجادلون فى دينه من بعد أن استجاب له الناس ، وآمنوا به
، واطمأنوا إلى دين .. فهذا الجدل وإن كان قد يقبل من غير المؤمنين بالله ، فإنه
غير مقبول من المؤمنين به ، المستجيبين له من أهل الكتاب إذ لا يتفق إيمان بالله ،
وجدل فيه.
واليهود هم
المقصودون بهذا الحديث ، وهم الذين وقع عليهم غضب الله فى الدنيا ، والعذاب الشديد
فى الآخرة .. فهم مؤمنون بالله ، ولكن إيمانهم هذا مشوب بالباطل والضلال ، بما
بدلوا وحرفوا فى دين الله ..
ولقد كانوا يعرفون
صدق النبي ، ويعرفون صدق الدين الذي جاء به ،. ولكنهم جحدوا هذا ، حسدا وبغيا ،
فأوردوا أنفسهم موارد الهلاك ، وماتوا ظمأ دون أن يردوا الماء الحاضر بين أيديهم
.. وفى هذا يقول الله تعالى فيهم : (وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ
مُهِينٌ) (٨٩ ـ ٩٠ البقرة).
وفى إسناد الفعل :
(اسْتُجِيبَ لَهُ) إلى غير فاعله ، ولم يسند إلى الفاعل هكذا : «من بعد ما
استجابوا» ـ إشارة إلى أن استجابتهم لم تكن استجابة خالصة من الشك والارتياب ،
ولهذا لم يسند فعل الاستجابة إليهم.
وقوله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هذا الجدل الذي يجادل به أهل الكتاب من اليهود ، وهذه
الحجج التي يوردونها للاحتجاج على الرسول بها ـ هى حجج داحضة ، أي باطلة ، توقع
الممسك بها فى مزالق الكفر والضلال .. والدّحض من الأرض : الزلق ، الذي تزلّ به
الأقدام .. وعليهم غضب فى الدنيا ، ولهم عذاب شديد فى الآخرة
____________________________________
الآيات : (١٧ ـ ٢٠)
(اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا
الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ
بَعِيدٍ
(١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
مَنْ
كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)
(٢٠)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ) ..
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، أن الآية التي قبلها توعّدت الذين يجادلون فى الله وفى آيات الله ، من
بعد ما استجابوا له ، وآمنوا به ـ توعدتهم ببطلان حجتهم عند الله ، وبحلول غضبه
سبحانه عليهم فى الدنيا ، وعذابه الشديد لهم فى الآخرة ـ فكان قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) ـ كان ذلك بيانا
لمضمون ما تقرر فى الآية السابقة ، وأن الذين يحاجون فى الله وفى الكتاب الذي
أنزله من بعد ما استجيب لله منهم ـ حجتهم واهية باطلة ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد
، لأن الله سبحانه هو الذي أنزل هذا الكتاب بالحق ، وأقامه فى الأرض ميزان عدل وحق
بين الناس .. وبهذا الميزان ـ ميزان الحق والعدل ـ ستوزن أعمال الناس يوم القيامة (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ
هاوِيَةٌ) (٦ ـ ٩ : القارعة).
وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ) استفهام يراد به التقرير ، والإنذار بقرب الساعة ، وأن
المؤمنين بها ، على رجاء اللقاء بيومها ..
قوله تعالى :
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ،
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ
لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ).
أي أن الذين لا
يؤمنون بالآخرة ، ولا يرجون لقاء الله ، يستعجلون الساعة ، استعجال التكذيب والتحدّى
، ويقولون : (أَيَّانَ يَوْمُ
الدِّينِ)؟ أي متى هذا اليوم؟.
وفى تعدية الفعل (يَسْتَعْجِلُ) بحرف الجر «الباء» وهو فعل متعد بنفسه ، إذ يقال مثلا :
يستعجل الذين لا يؤمنون بالآخرة الآخرة ـ والله يقول : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (١ ـ النحل) ـ إشارة
إلى تضمين الفعل معنى المطالبة بها للتعجيز .. أي يطالب بالآخرة ، ويستعجلون يومها
، أولئك الذين لا يؤمنون بها ..
واستعجال الذين لا
يؤمنون بالآخرة ليوم القيامة ، لأنهم يستعبدون وقوعه ، كما أنهم لا يدرون ما
يأتيهم منه من أهوال إذا وقع .. (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ) (١٣ ـ ١٤ :
الذاريات) ..
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) ـ هو بيان لموقف
المؤمنين من يوم القيامة ، وهو موقف الخائف المشفق ، لأنه يوم الحساب والجزاء ،
ويوم الأهوال والشدائد : (يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢ : الحج).
وفى النظم القرآنى
ما يبدو فى ظاهره ، أنه جاء على غير الترتيب الذي
يقع فى نفس المؤمن
، من مشاهد القيامة .. فالظاهر أن يؤمن المؤمن أولا بأن الساعة حق ، ثم تكون خشيته
، ويكون إشفاقه من لقائها .. ولكن النظم القرآنى قدم الخشية للقيامة ، والإشفاق منها
، على العلم بها وبأنها حق .. هذا ما يبدو فى ظاهر الأمر ..
والذي ينظر فى
النظم القرآنى ، يرى أن الإشفاق قد تقدمه الإيمان ، فالذين يشفقون من الساعة هم
الذين آمنوا بالله وباليوم الآخر .. كما يقول سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) .. إذ لا يكون المؤمن مؤمنا بالله إلا إذا كان مؤمنا
باليوم الآخر .. أما العلم فهو مادة من المعرفة التي يؤيدها الدليل ، ويدعمها
البرهان ، حيث يجىء إلى الإيمان الغيبى ، فيؤكده ، ويثبت دعائمه فى القلب ..
وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي
السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ـ هو حكم على
الذين يشكّون فى الساعة ، ويكذبون بها ، ويمارون ويجادلون فيها ـ حكم عليهم
بالضلال البعيد عن الحق : (فَما ذا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟) (٣٢ : يونس) وماذا
بعد الضلال إلا البلاء وسوء المصير؟.
قوله تعالى :
(اللهُ لَطِيفٌ
بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ).
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) يشير إلى ما لله سبحانه وتعالى من لطف بعباده ، ورحمة بهم
، إذ بعث فيهم رسوله ، وأنزل إليهم كتابه هدّى ورحمة ..
وقوله تعالى : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) ـ إشارة إلى أن
هذا الرزق الذي يسوقه الله سبحانه من لطفه ورحمته ، هو رزق الإيمان ، والهدى ، ففى
هذا الرزق تزكية النفوس وطهارتها بالإيمان وتقبلها للهدى ، واتصالها بالملأ الأعلى
، واستعدادها لدخول هذا الملأ ، فى جنات النعيم ..
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ـ إشارة إلى أنه
سبحانه هو صاحب السلطان ، المتصرف فى ملكه كما يشاء ، لا ينازعه أحد فيما يسوق من
لطفه ورحمته إلى من يشاء من عباده.
قوله تعالى :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ).
أي هذا رزق الله ـ
من هدى ونور ـ ممدود مبسوط .. فمن كان يريد الهدى والإيمان ، ويعمل للآخرة ، ويغرس
فى مغارس الإحسان ، يزد له الله سبحانه وتعالى فيما غرس ، ويبارك عليه ، ويضاعف له
الجزاء أضعافا مضاعفة .. ومن أعرض عن الآخرة ، وعمل للدنيا ، وغرس فى مغارسها ،
أخذ ثمر ما غرس فى دنياه ، واستوفى نصيبه منه ، حتى إذا جاء إلى الآخرة ، جاءها
ولا نصيب له فى خيرها .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ ، لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)! (١٨ ـ الإسراء)
____________________________________
الآيات : (٢١ ـ ٢٦)
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)
تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
(٢٣)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى
قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)
(٢٦)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
هو إضراب على موقف
المشركين من قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى).
ففى هذا دعوة
للمشركين إلى الإيمان بهذا الدين الذي شرعه الله لهم ، وإذ هم أبوا أن يستجيبوا
لهذه الدعوة ، فقد أضرب الله سبحانه عن دعوتهم إلى هذا الدين الذي شرعه لهم ، ثم
كشف سبحانه عن العلة التي تمسك بهم عن الاستجابة
لهذه الدعوة ، وهى
أنهم على شريعة شرعها لهم رؤساؤهم ، وسادتهم ، وهى شريعة باطلة من مبتدعات أهوائهم
، ونضيح ضلالانهم ، لم يأذن بها الله ، ولم يرسل بها رسولا من عنده ..
وفى إطلاق الشركاء
على زعماء الباطل ، ودعاة الضلال ، إشارة إلى أنهم يدينون بهذه الشريعة الباطلة ،
ويسبحون فى ضلالها ، مع أتباعهم .. فهم جميعا ـ أتباعا ومتبوعين ـ على سواء فى هذا
الضلال ..
وقوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ) ـ كلمة الفصل ، هى
الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى بأن يؤجل عذابهم إلى يوم القيامة (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (١٧ : النبأ)
ولو لا هذه الكلمة
لقضى بينهم فى الدنيا ، ولأخذهم العذاب كما أخذ الظالمين قبلهم ..
وقوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي أن هؤلاء الظالمين إذا لم يقع بهم العذاب الدنيوي ،
فإنه ينتظرهم عذاب أليم فى الآخرة ..
قوله تعالى :
(تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)
هو انتقال بهؤلاء
المشركين الظالمين من موقفهم فى هذه الدنيا ، إلى يوم القيامة ، حيث يرون العذاب ،
فيقع فى نفوسهم أنهم صائرون إليه ، وأن ما أنذروا به فى الدنيا قد وقع .. فقد
كانوا لا يؤمنون بالبعث ، ولا يؤمنون بالعذاب .. وها هو ذا يوم البعث .. ومن ورائه
العذاب المرصود لهم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣ : الكهف)
وقوله تعالى : (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) الضمير للعذاب الذي جاء ذكره فى الآية السابقة فى قوله
تعالى : (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ... وفى عدم ذكره ، والإشارة إليه بضميره ـ إشارة إلى أنه
شىء مهول ، وأن ما رأوا منه ليس إلا إشارة دالة عليه ، أما ما غاب عن أعينهم منه ،
فهو الذي سيعرفونه حين يلقونه ويعيشون فيه ، وهو مما لا يحدّه وصف ، من هول وبلاء
..
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) .. هو بيان لما يلقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات فى هذا
اليوم ، من نعيم فى روضات الجنّات ، التي عرضها السموات والأرض (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من عطائه الممدود ، بلا حساب.
وقوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ـ الإشارة هنا ،
إلى ما ينال المؤمنون من عطاء ربّهم ، وما يتلقون من فضله وإحسانه .. فذلك هو
الفضل الكبير حقا ، الذي يعدل القليل منه كلّ ما فى الدنيا من مال ومتاع .. والله
ذو الفضل العظيم.
قوله تعالى :
(ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .. قُلْ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)
الإشارة بذلك ،
بدل من الإشارة فى قوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ) أي ذلك الفضل الكبير ، هو ذلك الذي يبشر الله به عباده
الذين آمنوا وعملوا الصالحات ... يبشرهم به على لسان رسوله فيما ينزّل عليه من
آيات ربّه ، ويبشرهم به عند لقاء الموت حيث تلقاهم الملائكة بما أعدّ الله لهم من
نعيم فى الآخرة ، وحيث يرون بأعينهم مقامهم فى الدار الآخرة ، ويبشرهم به يوم
البعث ، حيث
يقومون ونورهم
يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، كما يقول الله تعالى : (يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢ : الحديد)
قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).
أي أن هذا الخير
الكثير الذي يحمله النبىّ إلى المؤمنين ، ويسوق إليهم ما يبشرهم به ربهم ، من فضل
وإحسان يلقونه فى الآخرة (فِي رَوْضاتِ
الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) ـ هذا كله لا يطلب
النبي منهم عليه أجرا ، فإن يكن ثمة أجر فهو رعاية حرمة القربى بينه وبينهم ، وما
ينبغى أن يكون بينه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وبينهم من رحمة ومودة ،. وها هو ذا
ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يصلهم بأعظم صلات الودّ بما يقدم إليهم من هذا الخير
العظيم الذي يكفل لهم حياة طيبة كريمة فى الدنيا ، ونعيما ورضوانا فى الآخرة ..
ثم هاهم أولاء
يلقونه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالقطيعة ، ويرمونه بالعداوة ، غير مراعين
للقرابة حقّا ، أو حافظين لها عهدا ، أو مبقين على شىء من الإنصاف معه .. فلو أنهم
أنصفوا القرابة ، لما كان لهم أن يذهبوا إلى هذا المدى الذي ذهبوا إليه ، من قطيعة
النبي ، والكيد له ، والتربص به .. لأنه صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يكن قاطعا
لهم ، أو متوجها بكيد إليهم ، أو متربصا بسوء بهم ، بل إنه ليمد إليهم يدا كريمة
بالخير والمعروف ، ويوجه إليهم دعوة رفيقة حانية ، تدعوهم إلى هذا الخير والمعروف
..
وكان من شريعة
الإنصاف إن لم يقبلوا هذه الدعوة ، أن يردّوها برفق وأن يدعوا صاحب الدعوة وشأنه
مع من يستجيبون لدعوته ، ويطعمون
من مائدته ، لا أن
يزعجوه ويزعجوا ضيف الله الذين دعاهم إليه!.
هذا وجه من وجوه
تأويل هذا المقطع من الآية الكريمة ..
ووجه آخر .. وهو
أن النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يسأل قومه أجرا على ما يحمله إليهم من
رحمة الله ، وفضله وإحسانه ، وإنما ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه ـ هو مودة فى
سبيل القربى ، إذ آثرهم على غيرهم ، وجعلهم أول من يمد يده الكريمة إليهم بالنور
الذي معه .. فهو منهم ، وهم أولى الناس ببرّه وإحسانه ..
وفى هذا يقول الله
تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨ : التوبة) ..
وقد بدأ النبىّ
رسالته ، وما تحمل من هدى وخير ، بدعوة قومه إليها ، فكانوا أول من استفتح بهم
النبي الكريم دعوته ، كما أمره الله سبحانه بذلك فى قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤ : الشعراء).
هذا ، ومن بعض
التأويلات لهذا المقطع من الآية الكريمة أن المراد بالمودة فى القربى ، هى مودة آل
البيت رضى الله عنهم ، وهى الأجر الذي يطلبه النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من
المؤمنين .. أي لا أسألكم أيها المؤمنون من أجر لى ، ولكن أسألكم المودة لآل بيتي.
فهو الأجر الذي أسألكم إياه ، على ما أقدم إليكم من خير ، وما أحمل لكم من هدى ..
وهذا التأويل بعيد
.. وذلك من وجوه :
فأولا : أن مودة
المؤمنين بعضهم لبعض ، هى من دين المؤمنين ، فالمؤمنون
كما يقول الله
تعالى : (بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) .. وهم بهذا الولاء متوادّون ، أو ينبغى أن يكونوا متوادين
.. وأولى المؤمنين بمودة المؤمنين وولائهم ، أقربهم إلى رسول الله .. فآل بيت رسول
الله داخلون فى هذه المودة العامة التي بينهم وبين المؤمنين ، من باب أولى .. (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)! فحبّ آل بيت رسول الله ومودتهم ، من إيمان كل مؤمن ، فلا
يحتاج هذا إلى ذكر خاص ..
وثانيا : الأجر
الذي يطلبه النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ينبغى أن يكون لحساب الدعوة
الإسلامية ، لا لشخصه ، ولا لذى قربى منه .. وهذا التأويل يجعل الأجر محصورا فى
هذا المعنى المحدود ، الذي يذهب بكثير من جلال هذا الأجر الذي لا يوفّيه أجر مما
فى هذه الدنيا من مال ومتاع. فالأجر الذي يطلبه النبىّ إنما يطلبه من الله ، كما
يقول سبحانه على لسان أنبيائه.
(وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ).
(١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥
، ١٦٤ ١٨٠ : الشعراء)
وثالثا : هذه
الآية مكية ، وكان من آل بيت رسول الله كثيرون ممن لم يدخلوا فى الإسلام ، كعميه
أبى طالب ، والعباس ، بل ومنهم من كان يؤذى النبي أذى ، بالغا ، ويكيد له كيدا
عظيما ، كأبى لهب ، فلم يكن من المقبول ـ والأمر هكذا ـ أن تجىء دعوة السماء بمودة
آل البيت الذين لم تتضح معالمهم فى الإسلام بعد .. وأولى من هذا أن تكون الدعوة
بالمودة عامة ، بين النبي وقومه جميعا ، وخاصة المشركين منهم ، ويكون معناها
الدعوة إلى التخفف من عداوتهم للنبىّ ، وكيدهم له ، وتركه وشأنه ، مراعاة لتلك
القرابة التي بينه وبينهم .. إذ لم يكن منه مساءة لهم ، بل كان ودودا لهم ، رحيما
بهم ، يريد لهم الخير ، ويؤثرهم به ..
ورابعا : أن
الخطاب عام موجه إلى المشركين بصفة خاصة ، الذين
يحاجهم القرآن ،
ويتهددهم بالنار ، ويعرض لهم فى مقابلها الجنة ، وما يلقى المؤمنون فيها .. (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ
مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ..
أي لا أسالكم أجرا
على هذا الخير الذي تنالونه من هذه الدعوة التي أدعوكم إليها ، والتي إن استجبتم
لها بلغتم منازل الرضوان ، ونزلتم حيث ينزل عباد الله المكرمون فى جنات النعيم ..
وذلك كله فى غير مقابل منّى ، إلا أن ترعوا ما بينى وبينكم من قرابة ، هى التي
جعلتنى أبدأ بكم ، وأوثركم على غيركم ، وهذا من شأنه أن يحملكم على رعاية هذه
القرابة ، فلا تكونوا أنتم أول كافر بي ، ثم لا تكونوا أنتم أول من يسعى بالضر
والأذى إلىّ ..
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ
فِيها حُسْناً) ..
هو دعوة إلى
المشركين الذين يقفون هذا الموقف العدائى من النبي ، أن يأخذوا جانب الخير الذي
يدعوهم إليه ، وأن يتقبلوا منه هذه المودة التي يؤثرهم بها .. فمن استجاب منهم
لهذه الدعوة ، وآثر الإحسان على السوء ، والإيمان على الكفر ، فإنه سيلقى جزاء
إحسانه إحسانا مضاعفا من الله ..
وفى قوله تعالى : (يَقْتَرِفْ) وفى استعمال هذا الفعل فى مقام الإحسان ، على أنه يستعمل
غالبا فى مجال الشرّ والمساءة (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) (١١٣ : الأنعام)
فى هذا إشارة إلى أن اليد
التي تعمل السوء ،
تستطيع أن تفعل الإحسان ، وأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر ، هو نفسه يمكن أن يسلك
طريق الخير .. وإذن فإنه لا حجاز بين المشركين وبين الإيمان ، وأنهم إذا كانوا
يلبسون رداء الشرك الآن ، فإنهم قادرون على أن ينزعوا هذا الثوب ، وأن يتزبّوا
بزىّ الإيمان .. فى لحظة واحدة.
وهذا ما يشير إليه
التعقيب على هذا بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
شَكُورٌ) فهذه مغفرة الله الواسعة ، مبسوطة لمن يجيئون إليه ،
تائبين من ضلالهم ، متبرئين من شركهم ، حيث تشملهم الرحمة والمغفرة .. وحيث يشكر
الله لهم ما صنعوا بأنفسهم من إحسان .. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
شَكُورٌ) وإنه ليس أخسر صفقة ، ولا أضلّ سبيلا ، ممن يرى ـ وهو
المذنب الغارق فى الذنوب ـ يد المغفرة مبسوطة له ، ويد الإحسان ممدودة إليه ، ثم
يحمد حيث هو ، متلطخا بآثامه ، غارقا فى ضلاله.
قوله تعالى :
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ
اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ).
هو إضراب على موقف
المشركين الذين دعوا إلى أن يخرجوا من موقفهم العدائى للرسول ـ إلى المحاسنة
والمودة ، إن لم يكن لأنه رسول الله ، فلأنه منهم ، وهم قومه ، وأولى الناس به ـ ولكنهم
أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة التي تأتيهم من جهة القرابة والنسب ، بعد أن رفضوا
الدعوة التي جاءتهم من قبل السماء ، هدى ونورا.
فهاهم أولاء ماضون
فى كيدهم للنبىّ ، وعدوانهم عليه ، واتهامهم له بالكذب : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً) .. فهذا هو كل ما استقبلوا به الدعوة الكريمة إلى المودة
فى القربى.
إنه اتهام صريح
للنبىّ بأنه كاذب افترى هذا القرآن الذي يدعوهم إليه ، بدعوة الله ..
وقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى
قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) .. هو تهديد للمشركين بقبض هذه اليد الممدودة لهم بالهدى ،
ورفع هذه المائدة المبسوطة لهم بالخير .. وإذا هذا القرآن الذي نزل على النبي قد
ختم عليه فى قلبه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فاحتواه كله ، وغربت شمسه فيه ، فلم
يخرج منه شىء لهؤلاء المشركين ، بل يتركون وما هم فيه من ظلام وضلال ، وهذا ما
يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا
وَكِيلاً إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) (٨٦ ـ ٨٧ :
الإسراء) .. والله سبحانه وتعالى قادر على أن يمحو هذا الباطل المجسد فى هؤلاء
المشركين ويقطع دابرهم ، فلا ترى منهم أحدا ، فبكلمة من كلمات الله ، يمحو سبحانه
هذا الباطل ، ويقضى على أهله ، ويحقّ الحق ، ويثبت دعائمه.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي أنه سبحانه إذ يقضى قضاءه فى هؤلاء المشركين ، فإنما
يقضى بعلمه الذي يكشف ما تنطوى عليه الصدور ، فيهلك الضالين الظالمين ، وينجّى
المؤمنين المتقين.
والمشيئة هنا فى
قوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ
يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) مشيئة غير واقعة ، لأنها معلقة بشرط غير واقع .. فالله
سبحانه لم يشأ أن يختم هذا الختم على قلب النبي .. وهذا مثل قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ
بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وقوله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
ما فَعَلُوهُ) (١١٢ : الأنعام).
وقوله جل شأنه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) (١١٨ : هود).
قوله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ، وَيَعْلَمُ
ما تَفْعَلُونَ) هو بيان شارح لقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) فهذه الآية ـ كما قلنا ـ دعوة للمشركين الذين اقترفوا
السيئات ، أن يعودوا إلى أنفسهم ، ويقيموها على طريق الهدى ، ويقترفوا الحسنات ،
كما اقترفوا السيئات .. ثم كان أن تهدّدهم الله بما يقولون من منكر القول فى رسول
الله ، وذلك ما حكاه القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً) ، ثم تهددهم بذهاب هذا النور الذي طلع فى ظلام ليلهم إليهم
، فقال تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ
يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).
وفى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) عودة إلى المشركين بعرض هذا النور عليهم بعد أن آذنهم الله
بزواله عنهم ، وفى هذا وصل لتلك الدعوة التي دعوا إليها باقتراف الحسنة ، وبيان
شارح لها ، على اعتبار أن هذا التهديد اعتراض واقع فى ثنايا هذه الدعوة ..
ففى قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ
فِيها حُسْناً .. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) دعوة إلى التوبة ، وإلى اقتراف الحسنات بعد اقتراف السيئات
.. وفى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بيان للجهة التي يتوجه إليها التائبون بتوبتهم .. إنها إلى
الله وحده .. فهم إنما يقدمون أعمالهم إلى الله ، ويتوجهون بتوبتهم إليه ، وعندئذ
يجدون الله سبحانه هو الذي يتلقاها منهم. وفى هذا إغراء باللّجأ إلى الله ، وإطلاق
الإنسان من أىّ ولاء لغير الله .. وذلك
فى أول الطريق إلى
الله .. فإذا آمن بالله ، آمن برسول الله ، وجعل ولاءه لله ولرسوله ، وللمؤمنين.
وفى تعدية الفعل (يقبل)
بحرف الجر «عن» مع أنه يتعدى بمن ، فيقال قبل فلان من فلان كذا ، ولم يقبل منه كذا
ـ فى هذا إشارة إلى تضمين الفعل معنى الحمل ، بمعنى أن الله سبحانه هو الذي يحمل
التوبة عن عباده التائبين ، وإن جاءت توبتهم محملة بالذنوب ، مثقلة بالأوزار ، فإن
التوبة ترفع عن كاهلهم ما أثقلهم من ذنوب قد حملها الله عنهم.
وقوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي أنه سبحانه إذ يحمل التوبة عن عباده ، ويتلقاها بما
تحمل من أوزار وسيئات ، فإنه سبحانه ، يعفو عن تلك السيئات ويتجاوز عنها ، ويغفرها
لأصحابها .. فهو سبحانه الذي يقبل التوبة ، وهو سبحانه الذي يملك العفو عن السيئات
.. وهو سبحانه الذي يعلم ما يعمل الناس من خير أو شر ..
وفى الآية الكريمة
دعوة إلى العصاة والمذنبين أن يلوذوا برحمة الله ، ومغفرته ، وأن يوجهوا وجوههم
إليه تائبين من ذنوبهم ، نادمين على ما فرط منهم ، فالله سبحانه وتعالى يلقاهم
بالرحمة والمغفرة ..
ففى الصحيح ، من
رواية عبد الله بن مسعود ، رضى الله عنه ، قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه ، من
أحدكم ، كانت راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ،
فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها ، قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة
عنده ، فأخذ بخطامها ، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدى وأنا ربك»!! (أخطأ من
شدة الفرح).
هذا ، وليست
التوبة ، كلمة يلفظ بها اللسان ، وإنما هى نية منعقدة على الندم على ما وقع من
ذنوب ، وعلى العزم على تجنب المعصية.
روى عن جابر بن
عبد الله ، أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال : «اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك ، وكبر (أي تكبيرة
الإحرام للصلاة) ـ فلما فرغ من صلاته ، قال له علىّ كرم الله وجهه : يا هذا ، إن
سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى توبة! فقال : يا أمير
المؤمنين .. وما التوبة؟ قال : اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب
بالندامة ، ولتضييع الفرائض ، الإعادة ، وردّ المظالم ، وإذابة النفس فى الطاعة
كما ربيتها فى المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة ، كما أذقتها حلاوة المعصية ،
والبكاء بدل كل ضحك ضحكته».
قوله تعالى :
(وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (وَيَعْفُوا عَنِ
السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) ـ أي وهو سبحانه ،
يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنه سبحانه يقبل على عباده التائبين ،
ويقبلهم .. فمعنى الاستجابة هنا القبول ، ولهذا عدّى الفعل «يستجيب» لتضمنه معنى
القبول .. أما الكافرون فلا يقبل عليهم الله سبحانه ولا يقبلهم ولهم عذاب شديد ..
ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أنهم يستجيبون لله ، ويقبلون عليه تائبين .. وفى هذا
إشارة إلى أن تقديم توبته سبحانه وإقباله على التائبين قبل أن يتوبوا ـ هى دعودة
من الله سبحانه وتعالى إلى العصاة ، وقد قبلت توبتهم قبل أن يتوبوا ، وما عليهم
إلا أن يستجيبوا لله ، ويقبلوا هذا العطاء العظيم ، من الرب الكريم.
____________________________________
الآيات : (٢٧ ـ ٣٥)
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(٢٨) وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ
يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤)
وَيَعْلَمَ
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)
(٣٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).
[الناس : بين الغنى والفقر]
ما معنى بسط الرزق
هنا؟ ولما ذا يقع البغي من الناس مع بسط الرزق لهم؟
بسط الرزق معناه
فى اللغة ، سعته وكثرته ، من مال ومتاع.
والمراد ببسط
الرزق هنا سعته وكثرته للناس جميعا ، بحيث لا يكون هناك فقير أو محتاج ، بل كل
إنسان مكفول له الرزق الواسع ، الذي يعيش فيه مستغنيا به عن غيره ..
ويبدو فى ظاهر
الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد ـ يبدوا أنه
مجتمع سعيد ، يعيش فى رفه ورغد ، ويحيا فى سلام وأمن .. إذ ما ذا يبتغى الإنسان
أكثر من أن تسدّ مطالبه وتقضى حوائجه؟ ..
ولكن نظرة وراء
هذا الظاهر ، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى ـ إذا كان له وجود ـ تفسده سعة
الرزق ، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل .. إذ ليست كلّ حاجة الإنسان فى أن
يأكل ويشرب ، وأن يجد المأوى والملبس ، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب
القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها .. فهناك وراء مطالب الجسد ، مطالب العواطف ،
والنزعات ، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون .. هو جوع الأثرة ،
والتعالي ، وحبّ التملك والسلطان .. والإنسان فى سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا
.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان ، لا ليسدّ جوع بطنه ، وإنما ليشبع جانبا
من جوع أثرته ، وتسلطه ، وقهره ، وتعاليه .. فهو لا يرضيه أبدا أن يكون فى مستوى
الناس .. إنه يريد الامتياز عليهم ، والتعالي فوقهم ، وهو فى سبيل هذا يسلب غيره ،
بل يسفك دمه إن استطاع.
وهذا واقع الحياة
والمشاهد فيها .. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء ، هى موطن الفتنة المتحركة ، التي
توقد نار الحروب ، فيما بينهما ، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى
عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة ، وتمتصّ البقية الباقية من دمها ، وتأخذ
اللقمة من فمها .. هكذا الناس فى أفرادهم ، وجماعاتهم وأممهم .. الأغنياء يتسلطون
على الفقراء ، والأقوياء يعتدون على الضعفاء .. لا لشىء إلا إشباعا لشهوة التسلط
والعدوان .. وفى هذا يقول الشاعر العربي الجاهلى ، الذي يضرب المثل بقبيلة (بِكْرٌ) حين أخصبت أرضها وكثر خيرها ، فبغت وتسلطت .. يقول :
إن الذئاب قد
اخضرّت براثنها
|
|
والناس كلّهم
بكر إذا شبعوا
|
فكان من حكمة الله
سبحانه وتعالى ، أن وزع الأرزاق بين الناس بقدر ، فلم يعط الناس جميعا حاجتهم ،
فوسّع على بعض ، وضيّق على بعض ، حتى يعمر الكون ، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا ، وحتى
يشغلوا بمطالب العيش ، وحتى يكون فى هذا الشغل ما يصرف جانبا من عدوان بعضهم على
بعض إلى السعى والعمل فى وجوه الأرض .. إذ لو أنهم كفوا جميعا السعى فى طلب الرزق
، لكان شغلهم كله ، هو البغي والعدوان .. فالذين بسط الله سبحانه وتعالى لهم الرزق
، هم غالبا مثار بغى وعدوان ، وقليل منهم من يشكر الله ، ويذكر فضله ، فيرعى حق
الله فيما خوّله من نعم ، وبسط له من رزق. وهذا مشاهد فى الدول الاستعمارية الآن
.. إنها مصدر إزعاج لأمن الإنسانية وسلامتها ..
وقد ضرب الله
سبحانه مثلا لطغيان أصحاب المال وتسلطهم ، بقارون ، فقال تعالى: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى
فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (٧٦ : القصص)!
كما ضرب سبحانه
وتعالى مثلا بالخصمين اللذين اختصما إلى داود ـ عليهالسلام ـ فقال تعالى على
لسان أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣ : ص)
وفى قوله تعالى : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي أنه سبحانه ينزل من الرزق ما تقضى به حكمته ، فيبسط
الرزق لمن يشاء ويقدره لمن يشاء ، كما يقول سبحانه : (اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) (٦٢ : العنكبوت).
وقوله تعالى : (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) ـ إشارة إلى أن
الله سبحانه وتعالى إنما لم يبسط الرزق لعباده ، لأنه خبير عليم بهم ، بصير مقدّر
لما هو أصلح لهم .. ولو أنه سبحانه بسط لهم الرزق لبغوا فى الأرض ، ولما صلح لهم
أمر فيها ..
قوله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) ..
والغيث ـ وهو رزق
من رزق الله ـ إنما ينزل بقدر ، وحساب ، حسب تقدير حكمة الله .. فهذا الغيث ينزل
فى مواقع دون مواقع ، فيكون حيث نزل الغيث ، الخصب والنماء والخير الكثير. ويكون
حيث لا غيث ، الجدب والقحط .. وهكذا يكون الغنى والفقر ، والرخاء والشدة .. وبهذا
يعتدل ميزان الناس فى الحياة ، ويتوازن موقفهم على جانبى الرجاء واليأس ، والأمن
والخوف فلا يكونون على حال واحدة أبدا ، إذ لو كانوا على هذه الحال أو تلك ، لا
يتحولون عنها لملوا هذه الحياة ، ولسئموا المقام فيها ، ولجمدت مشاعرهم عليها.
وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ) أي ينزل الغيث على عباده بعد أن يئسوا ، وظنوا أن لا غياث
لهم مما هم فيه ، من جدب يسوقهم إلى التهلكة .. فإذا أصابهم الغيث بعد هذا الكرب
العظيم ، زغردت فى صدورهم بلابل البهجة والمسرة ، وأقبلت عليهم الحياة بمواكب
الأعراس ، تزف إليهم بشائر الرزق والرحمة .. (وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ) أي ببثها هنا وهناك ، فيكون فيها الحياة للأرض ، والغذاء
والرّى للإنسان ، والحيوان ، والنبات ..
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي أن الله سبحانه هو (الْوَلِيُّ) أي الناصر والمعين ، لا ناصر لكم غيره ، ولا معين لكم سواه
، حين تمدون أيديكم إلى من ينصر ، وترفعون أبصاركم إلى من يعين .. وهو سبحانه (الْحَمِيدُ) أي المستحق للحمد وحده ، على ما أنعم من نعم ، وما أفاض من
خير.
وفى الحديث الشريف
: أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال لوفد
«فزارة» وقد شكوا
إليه الجدب : «إن الله عزوجل ليضحك من شعفكم وأزلكم وقرب غياثكم» فقال أعرابى منهم : أو يضحك ربنا عزوجل؟ قال : «نعم» فقال الأعرابىّ : لا نعدم من ربّ يضحك خيرا ،
فضحك النبي صلىاللهعليهوسلم من قوله.
قوله تعالى :
(وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ).
أي ومن آثار قدرة
الله ورحمته ، أنه خلق السموات والأرض ، وخلق ما بث ونشر فيهما من مخلوقات .. وهو
سبحانه قادر على جمع هذه المخلوقات المنتشرة فى عوالم الوجود ، فى السموات وفى
الأرض .. ثم إذا شاء سبحانه ، جمعهم جميعا من أقطار السموات والأرض ، وهم أحياء ،
ثم بعد أن يموتوا ويبعثوا ..
وفى الآية إشارة
إلى أن فى العوالم الأخرى ـ غير عالم الأرض ـ مخلوقات حية ، على صور وأشكال لا
يعلمها إلا الله ، وأنها تموت وتحيا .. وهى فى سلطان الله سبحانه .. يبسطها
ويقبضها ، ويميتها ويحييها .. وليس ما على هذه الأرض من صور الحياة إلا صورة من
صور لا حصر لها ، من صور الحياة ، فى هذا الوجود العظيم.
قوله تعالى :
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).
__________________
أي أن الله سبحانه
وتعالى لا يسوق لعباده إلا الخير ، وهذا شأنه سبحانه وتعالى فيما خلق من مخلوقات
فى هذا الوجود .. ولكنّ الناس لهم إرادة عاملة ، ولهم كسب هو ثمرة هذه الإرادة ..
وهم بهذه الإرادة يحسنون ويسيئون ، ويستقيمون على طريق الحق ، ويركبون طرق الضلال
.. فما كان منهم من إحسان ، قابلهم معه إحسان من الله إليهم ، وما كان منهم من
إساءة ردّت إليهم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٧٩ : النساء).
أما قوله تعالى فى
سورة النساء : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ..) (٧٨ : النساء)
فهذا ردّ على المشركين ، الذين كانوا يتطيرون بالنبيّ .. ولهذا جاء قوله تعالى : بعد
ذلك : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ليروا فى هذا أن ما أصابهم من سوء لم يكن من النبىّ ، الذي
لا يملك دفع سوء عن نفسه ، كما لا يستطيع سوقه إلى أحد ، وإنما الذي يملك هذا وذاك
هو الله وحده .. وأن ما أصابهم أو يصيبهم من سوء ، هو من عند أنفسهم ابتداء ، وأنه
من عند الله ابتداء وانتهاء!!
وقوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ، يعفو عن كثير من
السيئات ، ويتجاوز عن كثير من الذنوب ، إذ لو أخذ سبحانه الناس بذنوبهم لأهلكهم
جميعا ، كما يقول سبحانه : (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٦١ : النحل).
وكما يقول (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (٤٥ : فاطر).
قوله تعالى :
(وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ).
أي أن الله سبحانه
وتعالى إذ يعفو عن كثير من الذنوب ، ولم يعجّل بجزاء أهلها عليها ـ فليس ذلك لما
يكون للمذنبين من جاء أو سلطان ، فسلطان الله فوق كل سلطان ، وقوته فوق كلّ قوة ،
وليس لأحد عاصم يعصمه من بأس الله ، أو يدفع عنه عذابه ، فى الدنيا أو فى الآخرة ،
ولكنّ الله سبحانه يمهل الظالمين ، ويمدّ لهم فى الضلالة ، ليزدادوا إثما .. وفى
هذا يقول الله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) .. (٧٥ : مريم) ويقول سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨ : آل عمران).
روى عن الإمام
أحمد عن عقبة بن عامر ، رضى الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : «إذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا ما يحبّ
فإنما هو استدراج » ثم تلا قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا
بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤ : ٤٥ الأنعام).
قوله تعالى :
(وَمِنْ آياتِهِ
الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ).
أي ومن الآيات
الدالة على قدرة الله ، وعلى بسطة سلطانه ، وعلى فضله وإحسانه على عباده ، هذه (الْجَوارِ) أي السفن الجارية على الماء ، كالجبال فى ضخامتها ،
وارتفاعها فوق سطح الماء .. فهى المعالم الوحيدة القائمة فوق وجه الماء ، كما تقوم
الجبال على اليابسة ..
فهذه الجواري ،
إنما تجرى بقدرة الله سبحانه وتعالى ، بهذه الرياح
__________________
المسخرة ، التي
تجريها وتدفعها فوق الماء .. ولو شاء الله سبحانه لأمسك هذه الريح ، فسكنت وسكن مع
سكونها جريان هذه الفلك ، فتظل رواكد على سطح الماء .. لا تتحرك ..
وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ شَكُورٍ) .. أي إن فى هذه السفن الجارية على الماء لآيات ، لا آية
واحدة ، لكل صبار ، أي كثير الصبر ، يجد من صبره ما يعينه على الوقوف الطويل ،
الدارس ، المتوسم ، فى آيات الله ، فيرى فى كل معلم من معالم هذا الوجود آيات من
قدرة الله ، وشواهد من إبداعه ، وحكمته ، وتدبيره .. وهذا هو بعض السرّ فى جمع
الآيات ، إذ لا يمكن أن يرى فى هذه الفلك وجريها على الماء ، تلك الآيات منها ،
إلا الدارس ، المتأمل ، الذي يعينه صبره على الوقوف الطويل ، والنظر المتفحص ..
أما من ينظر نظرا عابرا فى معالم هذا الوجود ، فإنه لا يرى إلا صورا وأشباحا ..
إنه نظر جامد ، أشبه بالمرءاة تظهر عليها صور الأشياء ، ثم لا تمسك منها بشىء ..
والله سبحانه وتعالى يقول فى أصحاب هذا النظر البارد الفاتر ، الساهم : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٠٥ : يوسف) ..
وفى قوله تعالى : (شَكُورٍ) إشارة أخرى إلى أنّ هذه الآيات التي يراها المتأملون
الدارسون ، لا تكون آيات وشواهد إلا إذا صادفت قلبا مؤمنا ، يردّ هذه الآيات التي
تكشفت له ، إلى قدرة الله ، وتدبيره ، وحكمته ، فيفيض قلبه تسبيحا بحمد الله وشكرا
له .. أما من يرى هذه الآيات بعين لا تكتحل بنور الإيمان ، فإن هذه الآيات لا تحيا
فى وجدانه ، ولا تعيش فى مشاعره ، فلا ينفعل بها ، ولا يهتز لروعتها وجلالها ،
الذي يرى فيه المؤمنون بعض جلال الله ، وروعة حكمته!
قوله تعالى :
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (يُسْكِنِ الرِّيحَ) أي إن يشأ الله سبحانه يسكن الريح فلا تتحرك ، وتظل السفن
رواكد على ظهر الماء ، أو إن يشأ (يُوبِقْهُنَّ بِما
كَسَبُوا).
ويوبقهن : أي
يهلكهن ، والضمير يعود إلى الجواري وهى السفن .. وأصله من الإباق ، وهو الفرار
والهروب ، يقال أبق العبد ، أي هرب ، وأفلت من سلطان صاحبه .. ومعنى هذا أن هذه
السفن وهى تجرى على سطح الماء ، لا ممسك لها إلا الله سبحانه ، وأنه سبحانه لو شاء
لأفلت زمامها من يد أصحابها ، بأن يرسل عليها ريحا عاصفة ، يضطرب لها البحر ،
ويفور ، فتغرق ، أو لا يستطيع أحد أن يمسك زمامها ولا يدرى أحد أين وجهتها .. وفى
هذا الهلاك لراكبيها ..
وفى قوله تعالى : (بِما كَسَبُوا) إشارة إلى أن ما يحدث لهذه الجواري من غرق ، أوتيه ، إنما
هو بما كسب أصحابها من سيئات ، كما يقول سبحانه فى آية سابقة : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). (٣٠)
وقوله تعالى : (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) ـ معطوف على قوله
تعالى (أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا) أي وإن يشأ الله يعف عن كثير من سيئات المسيئين ، فلا يعجل
لهم الجزاء فى الدنيا ، فتمضى سفنهم فى ريح رخاء حتى تبلغ مأمنها .. ثم يكون
الحساب والجزاء فى يوم الحساب والجزاء ..
ويجوز أن يكون
المعنى : ويعفو عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين
الذين أخذوا ببعض
ذنوبهم ، لا كلّها ، لأن ذنوبهم أكثر من أن تستوفى منهم بأى عذاب ينزل بهم فى هذه
الدنيا ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤٥ : فاطر).
قوله تعالى :
(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ..
هو معطوف على
محذوف مفهوم من قوله تعالى : (وَيَعْفُ عَنْ
كَثِيرٍ) أي ويعف عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين فى الدنيا فلا
يعجل لهم العذاب ، وذلك ليعذبهم فى الآخرة ، وليعلم الذين يجادلون فى آيات الله ،
ويكذبون بالبعث والجزاء ـ ليعلموا يومئذ ما لهم من محيص ، أي ما لهم من مفر ، ولا
ملجأ ..
____________________________________
الآيات : (٣٦ ـ ٤٣)
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى
الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
(٤٣)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ،
لِلَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
فى الآية الكريمة
تهوين من شأن الدنيا ، واستخفاف بمتاعها ، إلى جانب ما فى الحياة الآخرة من جزاء
كريم ، ونعيم خالد لا يفنى.
فقوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) ـ هو حكم على هذه
الحياة الدنيا ، بأن كل ما يناله الإنسان منها من مال أو جاه أو سلطان ـ هو متاع ،
أي زاد لا يلبث أن ينفد ، أو ثوب لا بد أن يبلى .. فكل ما فى الحياة الدنيا إلى
نفاد ، وزوال .. وإن كثر وعظم ..
وقوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي والذي يبقى ولا ينفد ، هو ما تقبّله الله من أعمال
صالحة ، حيث يكون ثوابها عند الله نعيما لا يفنى ، ورزقا لا ينفد ..
وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) ـ أي أن هذا الذي
عند الله من جزاء حسن ، هو للذين آمنوا ، وتوكلوا على ربهم ، وأسلموا أمرهم له ..
وهو كأنه جواب عن سؤال تقديره : لمن هذا الذي عند الله فكان الجواب : للذين آمنوا
، وعلى ربهم يتوكلون.
قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا ،
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ـ أي هذا الذي عند
الله من خير ، هو للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر
الإثم والفواحش ، وإذا ما غضبوا هم يغفرون.
وكبائر الإثم ، هى
كبائر الذنوب ، كالقتل ، والربا ، وشرب الخمر ، والزنا ، ونحوها .. والفواحش : هى
المنكرات ، من قول ، أو فعل .. وصورتها البالغة فى الفحش ، تتمثل فى الزنا ، ولهذا
غلب على الزنا ، الوصف بالفاحشة.
وفى قصر التجنب
على كبائر الإثم ، وكبائر الفواحش ـ إشارة إلى أن الصغائر معفوّ عنها ، فضلا من
الله وإحسانا ، كما يقول سبحانه : (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ
واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢ : النجم).
فكل ابن آدم خطاء
، وخير الخطائين التوابون ، وليس من طبيعة الإنسان أن يتجنب الخطأ تجنبا مطلقا ،
ولكن الذي تحتمله الطبيعة البشرية هو أن يكون منه الإحسان إلى جانب الإساءة ، وأن
يتجنب الكبائر ، إذ كان وجهها القبيح ظاهرا ظهورا بينا .. أما الصغائر ، فإنها
كثيرا ما تعرض للإنسان ، وكثيرا ما يختلط عليه أمرها .. ولهذا يقول الرسول الكريم
: «فقاربوا وسدّدوا» أي اجتهدوا فى أن تكونوا أقرب شىء إلى الاستقامة والسداد.
وقوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) هو صفة أخرى من صفات
الذين آمنوا ..
وهى أنهم إذا ما استغضبوا ، وغضبوا ، غفروا لمن كان منه المساءة التي أغضبتهم.
وفى قرن المغفرة
بالغضب ، إشارة إلى أن المغفرة التي تكون والإنسان فى حال الاستثارة والغضب ، هى
المحمودة فى باب المغفرة ، لأنها تجىء عن مجاهدة ومغالبة للنفس ، إذ يقهر فيها
الإنسان شهوة الانتقام ، وبلوى فيها زمام هواه إلى حيث الصفح والمغفرة : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥ : فصلت).
وقرن المغفرة
بالغضب ، أبلغ من قرنها بالإساءة .. فقد يساء إلى الإنسان ، ولا يغضب ، ولا تتحرك
فى نفسه داعية الانتقام ، فتكون مغفرته حينئذ مغفرة لم يتكلف لها الإنسان مجاهدة ،
ولم يحمل فى سبيلها مئونة ..
وفى ذكر المغفرة
هنا ، إغراء بها ، إذ كانت فى معرض مغفرة الله سبحانه وتعالى لما يقع من الإنسان
من اللمم ، ومن صغائر الذنوب.
قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
هو استكمال لصفات
الذين آمنوا .. فهؤلاء المؤمنون ، من صفاتهم أن يستجيبوا لربهم ، أي يمتثلوا
أوامره ، ويجتنبوا نواهيه .. ومن امتثالهم لأمر ، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة .. وإقامة الصلاة ، هى الركن الأول من أركان الدين بعد الإيمان بالله.
وإيتاء الزكاة ، هو الركن الثاني بعد إقامة الصلاة ..
وفى قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ـ إشارة إلى أن من
صفات
المؤمنين أن
يكونوا على كلمة سواء فيما بينهم من شئون .. فتكون طريقهم واحدة ، ووجهتهم واحدة ،
ويدهم واحدة ، وموقفهم واحدا ، فلا يذهب كل واحد منهم مذهبا ، ولا تركب كل جماعة
طريقا .. فهذا من شأنه أن يوهن قوة الجماعة الإسلامية ، ويفتّ فى عضدها ، ويوقع
الشحناء بين جماعاتها وأفرادها ..
هذا ، ولم تجىء
الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامى ، دعوة قاهرة ملزمة ، من غير أن يقوم إلى جانبها
الوجود الذاتي للإنسان ، والهاتف الشعورى المنبعث من ذاته ، إلى هذه الوحدة ، بل قام
مع هذه الدعوة ، بل أمام هذه الدعوة ، دعوة إلى الشورى بين الجماعة الإسلامية ، فى
الأمر الذي يعرض لها ، ويتطلب وحدة جماعتها .. فهذا الأمر يتلقاه المسلمون جميعا ،
ويتدارسونه فيما بينهم ، ويقلّبون الرأى فيه ، وفى هذا العرض للأمر ، ما يكشف لهم
عن وجه الرأى فيه ، وما يأخذون أو يدعون منه .. وعندئذ يكون رأيهم قائما على وجهة
واحدة ، هى الوجهة التي رضيها الجميع ، ونسجوا رايتها من تلك الخيوط التي اجتمعت
من آرائهم ، فكان لكل إنسان مكانه من هذه الراية التي يسير تحت ظلها .. وبهذا تكون
مسيرة المسلمين تحت هذه الراية ، مسيرة ينتظمها شعور واحد ، ويحكمها رأى واحد ،
وتحتويها عزيمة واحدة ، فيكون منهم بهذا نسيج واحد متلاحم ، أشبه بنسيج هذه الراية
التي تشكلت من مجتمع آرائهم. وهذا هو بعض السر فى أن جاء النظم القرآنى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) بدلا من أن يجىء مثلا هكذا : وكانوا أمة واحدة ، أو مجتمعا
واحدا .. ذلك أنه لن تكون الأمة أمة واحدة ، ولن يكون المجتمع مجتمعا واحدا ، إلا
إذا توحدت المشاعر ، ولن تتوحد المشاعر ، إلا إذا تلاقت الآراء وتوحدت ، ولن
تتلاقى الآراء وتتوحد ، إلا مع عرضها ، وتنخّلها ، وذلك لا يكون إلا بالتشاور
بينهم ،
وعرض رأى كل ذى
رأى ، فى صراحة مطلقة ، وحرية كاملة ..
[الشورى فى الإسلام .. منهجا وتطبيقا]
ولا بد هنا من
وقفة مع هذا المبدأ العظيم ، الذي قرره الإسلام ، ليكون مادة أولى ، من مواد هذا
الدستور السماوي الذي يحكم الجماعة الإسلامية ، ويدين به الفرد والجماعة على
السواء .. ذلك هو مبدأ الشورى.
فالشورى شريعة من
شرائع الرسالة الإسلامية ، حيث ينعقد بها الإجماع ، الذي هو أصل من أصول التشريع
الأربعة ، المعتمدة فى الإسلام ، وهى الكتاب ، والسنة ، والقياس ، والإجماع .. حيث
لا يكون الإجماع على أمر إلا بعد تمحيصه وتقليب وجوه الرأى فيه ، وتقديم الحجج
والأدلة بين يدى كل رأى ، حتى ينتهى الأمر الذي يجمع عليه بالتقاء آراء ذوى الرأى
فيه من المسلمين ، وهم الذين أطلق عليهم أهل الحل والعقد ..
وليس المراد بأهل
الحلّ والعقد طبقة خاصة من الناس ، أو طائفة معينة من طوائفهم ، بل هم فى كيان
المجتمع الإسلامى كله ، فى كل زمان ومكان ، لا يختص بهم موطن ، ولا يحصرهم زمن ..
فحيث كان المسلمون فهم جميعا المجتمع الإسلامى ، وفيهم أهل الحل والعقد .. أي
أصحاب الرأى والنظر .. فكل ذى رأى ونظر ، هو من أهل الحل والعقد ، وله أن يأخذ
مكانه فى الأمر الذي يعرض للمسلمين ، وأن يدلى برأيه ، وبحجته التي تدعم هذا الرأى
، كما أن له أن ينظر فى رأى غيره ، وأن يقول رأيه فيه ، معدّلا أو مجرّحا .. كل
ذلك بالحجة القائمة على الحق والعدل ، لا الهوى وحبّ الغلب ..
والرأى الذي ينتهى
إليه المسلمون ، أو أولو الحل والعقد فيهم ، هو ملزم لجماعتهم ، لا يجوز لأحد منهم
الخروج عليه .. وليس فى هذا الإلزام جور على ذاتية الفرد ، أو عدوان على حقه فى
النظر فى الأمور ، ووزنها بميزان إدراكه
وتقديره ، بل إن
هذا الإلزام هو حماية للشخص من أن يتّبع هواه ، أو أن يذهب مذهبا غير مأمون العاقبة
، لو أنه أخذ برأيه ، وترك رأى الجماعة ، إذ كان رأيها هو الرأى الذي تلاقت عنده
الآراء ، ونخلته العقول ..
وإذا كان الإجماع
هو الوجه البارز من وجوه الشورى ، فإن للشورى وجوها أخرى .. إذ ليس كل أمر يعرض
للجماعة الإسلامية ، ينتهى بالتشاور فيه ، إلى إجماع فى الرأى ، على نحو الإجماع
المعروف فى الشريعة .. بل قد يقع الخلاف فى الرأى على أمر من الأمور ، ثم يرجح
جانب فيه على جانب ، فيؤخذ بالجانب الراجح ، ويترك الجانب المرجوح ..!
على أن الذي
يعنينا هنا ليس هو صور الشورى ، وأشكالها ، وإنما الذي يعنينا ، وله المقام الأول
، هو مبدأ الشورى ذاتها ، من حيث اعتبارها حقيقة من حقائق الإسلام ، وحكما من
أحكامه العاملة التي يأخذ المسلم نفسه بها ، ويقيم حياته عليها ..
ففى قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) خبر يراد به الأمر ، من حيث اقترن بركنين من أركان الدين ،
وتوسطهما ، وهما إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، المأمور بهما شرعا .. فكان حكم
الشورى حكمهما ، من حيث الوجوب والإلزام ..
وفى مجىء الشورى
بعد إقامة الصلاة ، وقبل إيتاء الزكاة ، إشارة إلى أمور :
أولا : أن الصلاة
أقوال وأفعال ، والشورى كذلك أقوال تعقبها أفعال .. أما الزكاة فهى أفعال خالصة ..
فناسب أن تقترن الشورى بالصلاة لمشاكلتها فى صورتها ، وأن تتقدم من أجل هذا على
الزكاة.
وثانيا : أن
الصلاة يؤديها المؤمن منفردا ، أو فى جماعة .. وهو فى حال انفراده يؤديها على
الصورة التي يراها ، من حيث الطول والقصر فى أفعالها ، قياما ، وركوعا ، وسجودا ..
أما فى حال أدائها فى جماعة ، فإنه ليس له هذا الخيار ، بعد أن يأخذ مكانه فى
الجماعة ، وينتظم فى عقدها ، فهو والجماعة من وراء الإمام ، الذي يجب أن يلزموا
متابعته فى كل حركاته وسكناته ..
والشورى ، صورة
مقاربة للصلاة من هذا الوجه الذي صورناها به ..
فإذا كان الإنسان
خاليا مع رأيه إزاء أمر من الأمور العارضة له ، كان له أن يتصرف فى هذا الأمر على
الوجه الذي يراه بعقله ، ويؤديه إليه اجتهاده .. أما إذا دخل مع جماعة المسلمين فى
أمر عام ، وأخذ مكانه بينهم وانتظم رأيه مع آرائهم على طريق سواء ، لم يكن له أن
يخرج عن هذا الرأى الذي انتظمت وراءه آراؤهم ، والذي يتمثل لهم حينئذ فى صورة
الإمام الذي يأتمون به فى الصلاة .. فكما لا يخرج المأموم فى الصلاة عن متابعة
الإمام ، ولا يجوز له أن يستجيب لإرادته فى أن بطيل أو يقصّر ، فى قيام ، أو ركوع
، أو سجود ـ كذلك لا يجوز أن يخرج المؤمن عن الرأى الذي اجتمع عليه المسلمون بعد
تشاورهم فيه ، وإن كان على خلاف ما يرى. فالرأى الذي أجمع عليه المسلمون هنا هو من
رأى الإسلام ، والسبيل التي يسلكها المسلمون ـ متابعة لهذا الرأى ـ هى سبيل الله
.. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥ : النساء).
وثالثا : أن
الصلاة فريضة عامة ، تجب على كل مسلم ومسلمة وجوب عين ،
ـ وكذلك التشاور
بين المسلمين ، أمر ملزم لهم جميعا ، وحقّ يؤديه كل مسلم ومسلمة للجماعة الإسلامية
، وإنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أخذ مكانه بين الجماعة الإسلامية وإبداء
الرأى الذي يراه ، فى أي أمر يعرض لهم ، كما أنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين
أن يأخذ مكانه فى صلاة الجماعة بين الصفوف المنتظمة فى الصلاة .. وهذا ما يشير
إليه قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ) .. ففى تنكير الشورى دليل على إطلاقها وعمومها .. وأنها
ليست شورى على صفة خاصة معروفة بأهلها .. فكل مسلم ومسلمة أهل للشورى ، كما هو أهل
للصلاة فى جماعة ..
ورابعا : أن
الصلاة يجب أن يسبقها من المسلم قبل الدخول فيها إعداد لها ، وذلك بالتطهر ،
والوضوء .. وكذلك الشورى ، يجب أن تسبقها طهارة النفس من الهوى ، وخلوها من الدخل
.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف «الدين النصيحة» قيل لمن يا رسول الله؟ : قال
: «لله ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم» ..
ولن تكون النصيحة
نصيحة إلا إذا جاءت من قلب سليم ، وعن نية خالصة من الغش والنفاق ..
وخامسا : أن
للصلاة وقتا ، فإذا جاء وقتها أذّن المؤذن بها ، ودعا المسلمين إليها .. وكذلك
للشورى وقتها .. فإذا حزب المسلمين أمر ، تنادوا به ، واجتمعوا له ، وتشاوروا فيه
..
ذلك هو بعض السر
فى قرن المشورة بإقامة الصلاة .. ووراء ذلك أسرار وأسرار لا تنتهى ..
أما وصلها بالزكاة
من طرفها الآخر ، فإنه يشير كذلك إلى أمور .. منها :
أولا : أن القرآن
الكريم لم يعبّر فى هذا المقام عن الزكاة بلفظ الزكاة ، بل جاء بها فى هذا النظم
الكريم : (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فجعلها إنفاقا من رزق ، وهذا الرزق من الله سبحانه وتعالى
.. وكذلك «الشورى» هى إنفاق من رزق ، هو مما وهب الله من عقل ، ومما رزق أهل العقل
من علم ومعرفة .. وهذا يعنى أن إبداء الرأى من ذوى الرأى ، أمر واجب عليهم ، وهو
الزكاة المطلوبة منهم فى هذا المقام ، لما آتاهم الله من فضله ، من علم ، وحكمة ،
وحسن تدبير ..
فمن رأى فى أمر من
أمور المسلمين خللا ، وكان عنده من الرأى والتدبير حا يصلح به هذا الخلل ثم أمسك
رأيه ، وحبس نصحه ، كان آثما .. شأنه فى هذا شأن من كان ذا مال وسعة ، ثم لم ينفق
من ماله فى سبيل الله ، وفى سدّ حاجات ذوى الحاجة من المؤمنين ..
وثانيا : لم يقيد
النص القرآنى هنا الإنفاق بالشيء الذي ينفق منه ، من مال أو نحوه ، بل جعله ،
إنفاقا مطلقا ، يشمل كل ما يرزقه الله الإنسان من خير .. فسمّاه سبحانه رزقا ،
ليشمل المال وغير المال ، من رأى ، وعلم ، وفنّ .. خلا يستبد المؤمن وحده ، برزق
رزقه الله إياه ، وفيه فضل وسعة لغيره من المسلمين ..
وثالثا : كذلك لم
يقيد النص القرآنى ما ينفق من هذا الرزق بحدّ محدود ، كالزكاة ، بل جعله إنفاقا
مطلقا .. لأنه فى مقام «الشورى» لا يكون الإنفاق بقدر محدود مما يملك الإنسان من
علم ، ومما عنده من معرفة ، بل إنه مطلوب منه فى تلك الحال أن ينفق كل ما لديه ،
وأن يبذل كل ما عنده ، غير ممسك بشىء من رأيه ، أو محتجز شيئا من جهده ، واجتهاده
..
ونقرأ الآية
الكريمة :
(وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).
وننظر مرة أخرى فى
قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ) وفى مقام هذا المقطع من الآية ، بين ما سبقها ، وما جاء
بعدها من كلمات الله ، فنرى كيف احتفاء الإسلام بالشورى ، وكيف أنه أفسح لها مكانا
بين فريضتين من فرائضه ، هما الصلاة والزكاة ، اللتان آخى بينهما فى كل موضع جاء
فيه ذكرهما فى القرآن الكريم .. كما يقول سبحانه : (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ) (٣ : البقرة)
ويقول جلّ شأنه : (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣ : البقرة)
ويقول سبحانه : (وَكانَ يَأْمُرُ
أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) (٥٥ : مريم) ويقول
عزّ من قائل : (وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١ : مريم) .. ويقول
تبارك اسمه : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ
اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (١ ـ ٤ : المؤمنون)
.. والفصل بين الصلاة والزكاة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) ـ ليس فصلا ، لأن
الإعراض عن اللغو هنا ، هو من تمام الصلاة التي يحفها الخشوع والخشية .. أما الفصل
بين الصلاة والزكاة بالشورى ، فهو لما للشورى من منزلة فى ذاتها ، وأنها جديرة بأن
تكون فى هذا المقام ، وأن تتوسط أعظم فريضتين من فرائض الإسلام ، وأهم ركنين من
أركانه ، بعد الإيمان بالله.
والسؤال هنا : لما
ذا كانت الشورى بهذه المنزلة من الإسلام؟ ولما ذا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية
بهذا القدر ، وتنوّه بها إلى هذا الحدّ؟
ولقد أشرنا من قبل
إلى ما للشورى من آثار فى بناء المجتمع ، وفى حياطة هذا البناء ، وفى دفع العوارض
التي تعرض له ، وتهدّد وجوده ..
ونريد هنا أن ننظر
إلى المجتمع الإسلامى ، الذي يقوم أمره على الشورى ، وما للشورى من آثار مادية ،
ونفسية ، وروحية ، وعقلية. فى حياطته ، ودعم بنائه.
فالمسلمون مطالبون
.. ديانة .. كما هم مطالبون سياسة وتدبيرا .. أن يقيموا أمرهم كله على الشورى ..
وهذا من شأنه أن يجعلهم دائما فى تواصل وفى تواص بالنصح ، ومشاركة فى السراء
والضرّاء ، حيث يجد المرء أنه مطالب بأن يكشف لأخيه عن المشكلات التي تعرض له ،
فيجد من صاحبه الرأى والنصيحة يبذلها له فى إخلاص ، بل ويسعى معه فى دفع الضرّ عنه
، ما استطاع ، حسبة لله ، وأداء لحق وجب عليه ..
فإذا كان الأمر
العارض من البلايا العامة ، التي تمسّ المجتمع ، أو طائفة من المجتمع ، تنادى لها
المسلمون جميعا ، وتداعوا عليها بالرأى ، والعمل معا ، وحمل كلّ منهم همها ، وشارك
فيها بكل ما وسعه من جهد .. هذا ما يقضى به الدّين ، إلى جانب ما تقضى به ضرورات
أخرى كثيرة ..
وآثار هذه
المشاركة كثيرة عميقة ..
فأولا : أنها
توحّد مشاعر المجتمع الإسلامى وتشدّ المسلمين بعضهم إلى بعض .. وتجعل منهم جسدا
واحدا ، فلا يشعر أحدهم أنه بمنجاة من الخطر الذي يهدّد أي عضو من أعضاء الجماعة
.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله تعالى : «مثل المؤمنين فى توادّهم
وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالحمّى
والسهر» ..
وثانيا : فى عرض
مشكلات المجتمع على الجماعة ، وطلب الرأى والنصيحة من أفرادها ـ تربية للفرد على
أداء وظيفته الاجتماعية معها ، وإفساح مكان له فيها .. وهذا من شأنه أن يهيىء
للفرد فرصا طيبة ، يبرز فيها وجوده ، ويربّى فيها ملكاته ، وينمى قواه المدركة ،
حتى يكون أهلا لأن يأخذ مكانه منها ، وهذا بدوره ، داعية قوية تدعوه إلى طلب العلم
والمعرفة ، وإلى لقاء الجماعة بما حصل من علم ، وما وعى من معرفة ..
وثالثا : فى عرض
الآراء ، وفى تقليب وجوهها ، تصحيح لكثير من الآراء الخاطئة ، وبالتالى تصحيح
للمشاعر التي تتوالد عن هذه الآراء ، والتي لو شارك المرء الجماعة فى عمل من
الأعمال ، وهو بهذه الآراء ، وتلك المشاعر ، لكان آلة متحركة بغير وعى ، عاملة
بغير شعور ، إن لم يكن جسدا غريبا ، يعوق مسيرة الجماعة ، ويقلل من جهدها .. ولهذا
كانت دعوة الله سبحانه إلى النبىّ الكريم ، بأن يقيم أمره فى المسلمين على الشورى
، فيقول سبحانه: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ .. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (١٥٩ : آل عمران)
.. والرسول صلوات الله وسلامه عليه ـ بما أراه ربه ـ فى غنى عن المشورة ، وعن أخذ
الرأى من أحد ، فإنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما وصفه الحق جلّ وعلا : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٣ : النجم) ..
ولكن هكذا أقام الله سبحانه أن النبىّ مع الجماعة الإسلامية على المشورة ، حتى
تصحح الآراء الخاطئة على ضوء المشورة ، وحتى يشترك الجميع مع النبىّ فى إقامة
الرأى ، وفى حمل تبعة العمل ، وتحمل المسئولية فيما ينجم عنه .. وقد رأينا النبىّ
صلوات الله وسلامه عليه ـ بين يدى غزوة «بدر» يدعو الناس إليه قائلا : «أيها الناس
.. أشيروا علىّ» .. وذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه ، حين خرج
بالمسلمين من
المدينة للقاء عير أبى سفيان ، لم يكن مخرجه لحرب قريش .. فلما أفلتت العير ، جاءت
قريش لتستنقذ العير أولا ، ثم لتحارب النبي ثانيا .. فلما خلصت لها العير اتجهت إلى
الحرب .. فكان هذا موقفا جديدا بالنسبة للنبى والمسلمين ، ولم ير صلوات الله
وسلامه عليه أن يلزم المسلمين رأيا فيه ، فطلب رأيهم فى الحرب ولقاء قريش ، أو
العودة إلى المدينة .. فكان الرأى الذي أجمع عليه المسلمون ، هو الحرب ، ولقاء
العدوّ .. وقد كانت الحرب ، وكان النصر!
هذه هى بعض ملامح الشورى ، فى الإسلام.
وهى .. كما ترى .. وثيقة من أروع
الوثائق ، ودستور من أقوم الدساتير فى بناء المجتمع. وفى وصل مشاعر أفراده بعضها
ببعض ، وفى صبّ آراء أفراده فى مجرى واحد ؛ يفيض بالخير والبركة عليهم جميعا ..
***
قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ إِذا
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).
هو استكمال لصفات
الذين آمنوا .. فإن من صفاتهم ـ إلى جانب ما ذكر لهم من صفات ـ أنهم لا يقبلون
الظلم ، ولا ينزلون على حكم الظالمين ، بل إنهم حرب على الظلم وأهله ، يبذلون فى
سبيل ذلك كل جهدهم ؛ وما ملكت أيديهم حتى إنهم ليقدّمون أنفسهم ، ويبيعونها بيع
السماح من أجل إقرار الحق ، وإعلاء كلمته ، والضرب على يد الباطل ، وتنكيس رايته
.. وليس الجهاد فى سبيل الله ، والاستشهاد فى ميدان الجهاد ، إلا صورة من صور دفع
الظلم فى أبشع صوره ؛ وردّ البغي فى أقبح وجوهه .. لأن حرب الشرك والكفر هى
حرب على الظالمين
والباغين ، الذين يسعون فى الأرض فسادا ، ويبغون فى الأرض بغير الحق ..
وسواء أكان البغي
الذي يصيب المؤمن بغيا واقعا عليه هو فى ذات نفسه ، أو واقعا على الجماعة
الإسلامية ، فإن المؤمن مطالب ـ ديانة ، إن لم يكن حمية وأنفة ـ أن يدفع هذا البغي
، ويرد ذلك العدوان .. فالبغى منكر غليظ ، والمؤمن حرب على المنكر ، أيّا كان ،
وبأى سلاح يقدر عليه ، وفى الحديث الشريف : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن
لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه .. وذلك أضعف الإيمان» .. فأدنى منازل
الحرب للظلم ، هو إنكاره بالقلب ، وازدراؤه وازدراء أهله .. وهذه منزلة لا يصير
إليها المؤمن إلا إذا أعجزته القدرة عن الجهر باللسان ، والتشنيع على الظلم
والظالمين ، كما أنه لا يقف المؤمن عند حدّ الحرب باللسان ، إلا إذا لم يملك القوة
المادية التي يضرب بها فى وجه البغي والباغين ..
وفى قوله تعالى : (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) .. وفى الإتيان بضمير الفصل «هم» ـ إشارة إلى أن من وقع
عليهم البغي يجب أن يكونوا هم أول المتصدين له ، العاملين على دفعه ، لا ينتظرون
حتى يتولى عنهم غيرهم الأخذ بحقهم ، والانتصاف لهم ممن ظلمهم ، وإن كان هذا لا
يمنع المؤمنين جميعا أن يساندوهم ويشدوا ظهرهم .. وفى إسناد دفع الظلم ، ورد البغي
، إلى من وقع عليه ظلم وبغى ـ هو إعلان لإنكار هذا المنكر ، ممن وقع عليه ، وإلا
كان سكوته عليه ، هو رضا به ، وتقبلا له ، الأمر الذي لا يقيم حجة لغيره أن ينتصر
له ، ويقف فى المعركة معه ..
وفى التعبير عن
التصدّى للعدوان ، ودفع البغي بقوله تعالى : (يَنْتَصِرُونَ)
بدلا من التعبير
بلفظ مثل : يدفعون ، أو يردّون ، أو نحو هذا ـ تحريض لمن وقع عليه البغي أن يتحرك
لرد هذا العدوان ـ لأنه ، إن فعل ـ فسيكون على موعد مع النصر ، الذي وعده الله
سبحانه وتعالى إياه فى قوله جل شأنه : (ثُمَّ بُغِيَ
عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ. إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠ : الحج)
قوله تعالى :
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ .. إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
هو تحريك لمشاعر
أولئك الذين بغى عليهم أهل البغي أن يأخذوا بحقهم ، وأنه إذا كان العفو سنّة كريمة
، وعملا مبرورا ، فإنه لا يكون كذلك حتى يجىء عن قدرة على من بغى ، فيكون العفو
هنا ، عن فضل وإحسان ، ممن بغى عليه ، الأمر الذي يرى منه الباغي أن هناك يدا
قادرة على أن تقطع هذه اليد التي بغت ، فلا يتمادى بعد هذا فى بغيه ، بل ينزجر
ويندحر ، ولا يطل برأسه من جحره بعد هذا أبدا ..
ففى وصف البغي
بالسيئة ، إشارة إلى أنه من المنكر الذي ينبغى على المؤمن محاربته ..
وفى وصف ردّ
العدوان ودفع البغي بالسيئة ، إشارة إلى أن من أساء ، لا ينبغى أن يتحرج المؤمن من
الإساءة إليه ، وإلحاق الضرر به ، كما أساء هو إلى غيره. وساق إليه الضرّ والأذى
.. فالسيئة هنا ، إنما هى سيئة بالإضافة إلى من بدأ بالإساءة .. فما هى إلا عمله
قد ردّ إليه .. وفى قوله تعالى : (سَيِّئَةٌ مِثْلُها) إشارة إلى أن الجزاء ، هو من جنس العمل ..
وقوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللهِ) ـ إشارة إلى الأخذ
بما هو أولى من
جزاء السيئة بسيئة مثلها ، وهو العفو عن المسيء ، وذلك بعد القدرة عليه ، ووقوعه
ليد من بغى عليه .. فإن العفو مع القدرة ـ كما قلنا ـ هو عقوبة للمعتدى ، ووقعها
على النفوس الحية أقسى وأمر من كل عقوبة ..
وفى قوله تعالى : (وَأَصْلَحَ) ـ إشارة إلى أن
لمن أراد أن يأخذ بالعفو أن يسلك الطريق الذي يراه فى هذا المقام ، فله أن يعفو
عفوا عامّا ، وأن يعفو عن بعض ، ويأخذ ببعض ، حسب ما يرى من المعفوّ عنه ، ومن
الظروف والأحوال المحيطة به ..
وفى قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ـ إشارة إلى
المنتصر بعد ظلمه ، ألا يتجاوز حدود الأخذ بحقه ممن ظلمه ، وإلا كان ظالما ،
وانتقل بذلك من مبغىّ عليه إلى باغ ، ومن مظلوم إلى ظالم ، وقد كان الله سبحانه
نصيرا له ، فأصبح مخذولا من الله ، مذموما : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ).
قوله تعالى :
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
هو عرض شارح لقوله
تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) .. وهو تحريك أيضا لمشاعر الثورة على البغي ، ودفع لما يجد
أهل السلامة والصلاح فى صدورهم من حرج فى أن ينالوا أحدا بسوء ، حتى ولو كان مسيئا
.. وهذا خروج على سنن العدل ، ومجافاة لطبيعة الحياة ، وإطلاق لأيدى السفهاء أن
يعيثوا فى الأرض فسادا ، وأن يبتلى بهم الأنقياء والأبرار ابتلاء عظيما .. ولهذا
جاء الإسلام يقرر هذه الحقيقة ، ويعطى أهله حق الدفاع عن أنفسهم ، بلا بغى أو
عدوان ،
حتى يكون لهم من
ذلك وقاية من آفات ذوى الشر والعدوان ..
ولقد كانت دعوة
المسيح ـ عليهالسلام ـ إلى اليهود ، أن
«من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ، ومن نازعك رداءك ، فاخلع له ثوبك
أيضا» ـ كانت تلك الدعوة بلاء من الله لليهود ، ونقمة منه سبحانه ، بعد أن بغوا
وأفسدوا فى الأرض .. وكانت تلك الجرعات المرة القاسية التي قدمها السيد المسيح لهم
ـ هى من بقايا الكئوس المرة القاسية ، التي تجرعها الناس من سموم كيدهم ، ومكرهم!.
فليس ثمة من سبيل
؛ ولا لوم ، على من انتصر من بعد ظلمه ، فانتصف ممن ظلمه. وأخذ بحقه منه .. وإنما
السبيل واللوم على من بدأ بالظلم ، وبغى على الناس .. أو على من انتصر من بعد ظلمه
، فجاوز الحد ، وانتهى به ذلك إلى أن يكون من الظالمين الباغين .. فهؤلاء لهم عذاب
أليم ، هو قصاص من العدل الإلهى ، ينتصف فيه سبحانه للمظلوم من ظالمه ..
قوله تعالى :
(وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
الواو للقسم ،
واللام واقعة فى جواب القسم .. والإشارة إلى الصبر والمغفرة. أي إن الصبر والمغفرة
من عزم الأمور.
وعزم الأمور ، هو
موجبها ، ولازمها ، الذي هو ملاكها ، الذي تقوم عليه ، بحيث لا يتم لها وضع صحيح
إلّا به .. فلكل أمر عزيمة ، هى السبب أو الأسباب الموصلة إليه .. وفى الحديث : «إن
الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه» .. وهى فرائضه ، وما أوجبه الله
سبحانه على عباده.
وفى إسناد عزم
الأمور إلى الفاعل ، أي فاعل الصبر والمغفرة ، بدلا من إسناده إلى ذات الصبر
والمغفرة ـ إشارة إلى أن المعوّل عليه فى إعطاء القيمة للصبر
والمغفرة هو
الفاعل لها ، وأنه بقدر صبره ومغفرته يتحقق للصبر والمغفرة ، الصفة المناسبة التي
تكون له منهما .. ومن حكم العرب : «خير من الخير معطيه ، وشر من الشر فاعله» ..
والآية الكريمة
تعقيب على هذه القضية العامة ، التي تنتظم الناس جميعا ، فهم بين ظالمين معتدين ،
ومتتصفين من الظالمين المعتدين .. وهذا يعنى أنهم فى حرب متصلة لا تنقطع أبدا ..
يوقد الظالمون المعتدون نارها ، ويزيدها المظلومون المعتدى عليهم ضراما ،
بالاشتباك فى صراع مع من ظلمهم واعتدى عليهم .. وهذه فتنة وابتلاء للناس .. وأنه
إذا كان من حقّ المظلومين أن ينتصفوا من ظالميهم ، فإن عليهم أن يذكروا أنهم فى
وجه فتنة وابتلاء ، وأنه من الحكمة أن يعالجوا الأمر برفق ، وأن يأتوا إليه لإطفاء
ناره ، لا لتأججها .. وهذا أمر متروك لتقدير الإنسان ، على ألا يخرج به الحال أبدا
إلى الظلم والبغي. فإن شاء صبر ، وعفا ، وإن شاء انتصف وانتصر ..
____________________________________
الآيات : (٤٤ ـ ٥٠)
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)
وَتَراهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما
لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما
لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)
فَإِنْ
أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
إِنْ
عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً
فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ
الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)
(٥٠)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ).
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الآيات السابقة ، عرضت قضية الظلم ، وما يقع من بغى الناس بعضهم
على بعض ، وتوعدت الظالمين الباغين بالعذاب الأليم .. وهنا فى هذه الآية ، إشارة
إلى أن المصدر الأول للظلم والبغي ، إنما يأتى من جهة الكفر بالله ، والضلال عن
سبيله ، وأن الكافرين الظالمين هم الذين لا يجدون لله وقارا ، ولا يخشون له بأسا ،
فهم لذلك يطلقون العنان لقوى الشر الكامنة فيهم ، فيعتدون على حرمات الله ، وعلى
عباد الله ، فى غير تحرج أو تأثم ..
فهؤلاء الظالمون
المعتدون ، هم ممن أضلهم الله .. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي ليس له نصير ينصره من بعد ضلاله وخذلان الله له ..
وقوله تعالى : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) هو عرض للظالمين فى موقف الحساب والجزاء ، وأنهم فى هذا الموقف
فى كرب وبلاء ،
يتنادون بالويل والثبور ، وينظر بعضهم إلى بعض فى يأس قاتل ، متسائلين: (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)؟ أي هل هناك من سبيل إلى الخروج مما نحن فيه ، والعودة إلى
الحياة الدنيا ، لنصلح ما أفسدنا ، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل؟ وهيهات هيهات!!
قوله تعالى :
(وَتَراهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي وفى هذا الموقف ـ موقف الحساب والجزاء ـ يرى الرائي ،
الظالمين وهم يعرضون على النار ، ويقفون بين يديها ـ يراهم خاشعين فى مهانة وذلة
وضراعة .. (يَنْظُرُونَ مِنْ
طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي لا يستطيعون أن يفتحوا أبصارهم على هذا الهول الذي يغفر
لهم فاه ، بل إن أبصارهم ليصعقها هذا الهول ، فترتدّ عنه ، ويدعوها الخوف منه ،
ومحاذرة الوقوع ليده ، أن تنظر لترى أين موقعها منه ، فلا تكاد تلمحه حتى ترتد عنه
.. وهكذا تظل أبصارهم مشدودة إلى هذا الهول ، تتحسسه ، فى مخالسة ، كما يتحسس
الأعمى حية التفت بعنقه.!
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
.. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ)
أي أن المؤمنين
حين يرون هذا الموقف الذي يكون عليه الظالمون يوم القيامة .. ينظرون إلى أنفسهم ،
فيحمدون الله أن عافاهم من هذا البلاء ، ويقولون فيما يقولون : (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أنه ليس خسرانا هذا الخسران الذي يفوت الإنسان من حظوظ
الحياة الدنيا ، فى نفسه ، وأهله ، وماله .. وإنما الخسران حقّا هو هذا الخسران
الذي يلقاه الظالمون
فى هذا اليوم ،
حيث قد صفرت أيديهم من كل شىء ، وتقطعت بينهم وبين أهليهم الأسباب ، فلا يلقاهم
أحد من أولادهم وأهليهم إلا معرضا عنهم ، مشغولا بنفسه وبما يعانيه ـ إن كان من
أهل النار ـ أو مشتغلا عنهم بنعيم الجنة ، ومنازعة أهلها طيّب الأحاديث ، وكئوس
النعيم ـ إن كان من أهل الجنة ..
وفى التعبير
بالماضي عن حديث المؤمنين فى هذا اليوم ، إشارة إلى أن هذا الحديث ، واقع من نفوس
المؤمنين موقع اليقين وهم فى هذه الدنيا .. فهم يؤمنون بأن هذا هو الذي لا بد أن
يكون يوم القيامة ..
قوله تعالى :
(وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما
لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) ـ هو من قول
المؤمنين فى الآخرة ، وهو قولهم فى الدنيا ، وإيمانهم به .. فالمؤمنون على يقين
بأن الظالمين لا نصير لهم ، ولا مدافع عنهم فى هذا اليوم ، فإنهم ممن أضلهم الله ،
وسلك بهم مسالك الطريق إلى جهنم ، فليس لهم سبيل إلى طريق آخر إلى غير هذا المورد
الذي هم مساقون إليه ..
قوله تعالى :
(اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ .. ما لَكُمْ
مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)
هو دعوة إلى
الظالمين ، المنحرفين عن طريق الهدى ، أن يستجيبوا لربهم ، وأن يقبلوا على ما
دعاهم إليه من الإيمان به على لسان رسوله ، وذلك (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا مرد لهم فيه
إلى الحياة الدنيا ، وليس لهم فيه من ملجأ يفرون إليه من هذا العذاب المحيط بهم
فيه ، وليس لهم فى هذا اليوم من يقوم فيهم مقام المنكر عليهم ، ما هم فيه من ضلال
، فقد انتهت رسالة
الرسل. فلا وعد
ولا وعيد ، ولا بشير ولا نذير ..
قوله تعالى :
(فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا
إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)
أي فإن أعرض هؤلاء
الظالمون المدعوون إلى الاستجابة لله ، عن قبول هذه الدعوة : (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي فإنك أيها النبي لست مرسلا إليهم لتقوم على حفظهم من
شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) أي ما عليك إلا أن تبلغهم رسالة ربك ، وتدعوهم إليه ،
وتحذرهم بأسه وعقابه ، وتبشرهم برحمته ورضوانه .. فإن هم استجابوا لله ، بعد أن
تبين لهم الرشد من الغى ، فقد رشدوا ونجوا ، وإن أبوا أن يستجيبوا لله ، فليس لك
أن تتولى حفظهم ، وتأخذ بهم قسرا إلى طريق النجاة .. فإنه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) .. وإنّ على كل إنسان أن يتولى حفظ نفسه ، ووقايتها ،
وإقامتها على الطريق الذي يختاره لها .. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها
حافِظٌ) (٤ : الطارق) أي
ما كل نفس إلا قائم عليها حافظ ، مطلوب منه أن يتولى حفظها ، وهو هذا العقل الذي
أودعه الله فيها ، فإذا لم يوقظ الإنسان هذا الحارس ، وينبهه إلى أداء وظيفته ، ثم
دخل عليه من يستبدّ به ، ويستولى عليه ، ويورده موارد الهلاك ، فلا يلومنّ إلا
نفسه ..
قوله تعالى : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ
مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ).
مناسبة هذا لما
قبله ، هى أن ما سبق من قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما
أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) ـ يشير ضمنا إلى
ما فى بعض النفوس من فساد ، لا تجد معه مساغا لطعم الخير ، ولا اشتهاء له ، وأن
ذلك طبيعة غالبة فى الإنسان ، كذلك من طبيعة الإنسان أنه إذا مسته رحمة من عند
الله ، وأصابه خير ـ كسعة فى الرزق ، أو نماء فى الثمر ، والولد ـ لبسته الفرحة ،
وإن مسه ضر بما قدمت يداه نسى ما ألبسه الله تعالى إياه من نعم ، ولم يعد يذكر لله
إلا هذا الضرّ الذي أصابه بما صنعت يداه ..
وفى إفراد الإنسان
فى قوله تعالى : (وَإِنَّا إِذا
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) ـ إشارة إلى كل
فرد من أفراد هذا الجنس البشرى ـ فأل هنا للجنس ـ إذ أن كل إنسان أيا كان ـ مؤمنا
كان أو كافرا ـ يفرح بالخير إذا أصابه ، ويهشّ له ، وتطيب نفسه به ..
أما عود الضمير
جمعا على الإنسان فى قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فذلك لأنه ليس كل إنسان فى حيّز هذا الشرط وجوابه ، فيكفر
بالله ، أو يسىء الظن به فى حال الضر ، بل إن الواقعين فى حيز هذا الشرط وجوابه ،
هم الذين لا يؤمنون بالله مطلقا ، أو لا يؤمنون به إيمانا وثيقا ، مثل أولئك الذين
يعبدون الله على حرف ، كما يقول الله تعالى فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ
هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١١ : الحج) فكثير
من الناس يقفون هذا الموقف من ربهم .. إن أصابهم خير ، رضوا به واطمأنوا إليه ،
وإن أصابهم شر بما قدمت أيديهم ، أنكروا من الله ما كانوا يعرفون .. وقليل من
الناس ، وهم المؤمنون بالله حقّا ـ لا تختلف حالهم مع الله أبدا .. فهم على إيمان
به ، وحمد له ، فى السراء
والضراء على
السواء .. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم : (وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧ : البقرة) ..
وجواب الشرط هنا
هو قوله تعالى : (فَإِنَّ الْإِنْسانَ
كَفُورٌ) أي وإن يصبهم شر بما قدمت أيديهم ، فهم جميعا هذا الإنسان
الكافر الجحود .. وقد جىء بالجواب جملة اسمية ، للإشارة إلى أن هذا الحكم ليس حدثا
عارضا فى مجرى حياة الإنسان ، بل إن ذلك جبلّة وطبيعة فيه ، وأنه إذا كان ثوب
النعمة الذي لبسه حينا من الزمن قد ستر منه هذه الطبيعة ـ فإن الضر الذي أصابه
ونزع عنه هذا الثوب ـ قد كشف عنه ما كان مستورا منه ، فظهر على حقيقته ، وهو
الكفران والجحود! ..
وفى قوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ـ إشارة إلى أن ما
يصيب الإنسان من ضرّ هو من صنع يده .. كما يقول الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٧٩ : النساء) ..
وأنّ تبدّل أحوال الناس من نعمة وعافية إلى سوء وبلاء ، هو بما كسبت أيديهم .. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٥٣ : الأنفال) ..
قوله تعالى
(لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
ومناسبة هذه الآية
لما قبلها ، أن الآية السابقة أشارت إلى ما يصيب الناس من خير وشر ، وقد أضافت
الخير إلى الله سبحانه ، وأضافت الضرّ إلى كسب الناس ، وحتى لا يقع فى وهم الناس ـ
وخاصة من لا يعرفون الله ولا يقدرونه حقّ قدره ـ أن ما يصيب الناس من ضرّ هو مسوق
إليهم من عند غير الله ـ حتى لا يقع هذا الوهم ، جاء قوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليدفع هذا الوهم ، وليقرر أن كل ما فى السموات وما فى
الأرض ، وما يجرى فيهما من أمور ـ هو من عند الله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) (٧٨ : النساء) ..
فالله سبحانه يخلق
ما يشاء ، ويهب ما يشاء لمن يشاء .. فيعطى ويمنع ، ويثيب ويعاقب ..
(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً
وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) ..
فهذا بعض تصريف
الله فيما تتعلق به نفوس الناس ، من حبّ الولد .. فبعض الناس يهبهم الله إناثا ،
وبعضهم يهبهم ذكورا ، وبعضهم يهبه الذكور والإناث معا : (يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) أي يجعلهم أزواجا ، ذكرا وأنثى ، لا أن يتزوج بعضهم بعضا ،
وقد جاء النص القرآنى : (ذُكْراناً وَإِناثاً) للإشارة إلى ما يقع فى نسبة الذكور والإناث من اختلاف ،
عند من يرزقون الذكور والإناث .. فقد يرزق الإنسان ذكرا وأنثى ، أو ذكرا وعددا من
الإناث ، أو عددا من الذكور وأنثى ، أو أعدادا متساوية من الذكور والإناث ..
وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) ـ إشارة إلى الصنف
الرابع
الذي تكمل به
الصورة ، التي يكون عليها حال الناس جميعا فى هذا الرزق المقسوم من الولد ..
فالناس فى هذا
الرزق أربعة أصناف ، لا يتجاوزونها ..
بعضهم يرزق الإناث
، ولا ذكور ، وبعضهم يرزق الذكور ، ولا إناث .. وبعضهم يرزق الذكور والإناث ،
وبعضهم عقيم ، لا يرزق ذكورا ولا إناثا ..
وفى قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) تعقيب على هذا الرزق الذي بين يديه سبحانه ، والذي يهب منه
ما يشاء لمن يشاء .. فهو العليم ، بما يهب ، ولمن يهب ، وهو القدير على ما يشاء من
عطاء ومنع .. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤ : الأعراف) ..
____________________________________
الآيات : (٥١ ـ ٥٣)
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ
الْأُمُورُ)
(٥٣)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) ..
[مفهوم جديد .. للحروف فى أوائل السور]
بهذه الآية ،
والآيتين التي بعدها ، تختم السورة الكريمة .. وبهذا الختام ، يتم التلاقي بين
بدئها وختامها .. فقد بدئت السورة بقوله تعالى : (حم عسق كَذلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وختمت ببيان الصور التي يتم بها الاتصال بين الله ورسله ،
والتي يتلقّون بها كلماته وآياته .. وأن هذه الصور لا تخرج عن أحوال ثلاث ..
الصورة الأولى :
أن يكون ذلك الاتصال بين الله ورسله (وَحْياً) أي رمزا وإشارة ، بحيث لا يعرف دلالة ما يوحى الله سبحانه
به إلى الرسول ـ إلا الرسول وحده ..
والصورة الثانية :
أن يكون الاتصال بأن يكلم الله الرسول بكلماته التي يريد سبحانه إلقاءها إليه ،
وذلك من وراء حجاب ، أي من غير أن يرى الرسول ذات المتكلم ، سبحانه وتعالى ، حيث
لا يمكن أن تقع هذه الرؤية لأبصارنا المحدودة الكاملة ، التي لا تتعامل إلا مع ما
هو محدود ، والله سبحانه وتعالى منزّه عن التجسد ، والحدّ .. ولهذا كان قول الله
لموسى حين قال : (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) .. (قالَ لَنْ تَرانِي
وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً
فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣ الأعراف).
الصورة الثالثة :
أن يكون ذلك بوساطة رسول من عالم الرّوح ، يرسله الله سبحانه وتعالى ، حاملا آياته
وكلماته التي أذن بها له ـ إلى الرسول البشرى ، فيتلقاها النّبى من رسول السماء.
وقد أشرنا فى أول
هذه السورة ، عند تفسير قوله تعالى : (حم عسق) .. إلى أن هذه الأحرف المقطعة ، هى صورة من صور الوحى ،
وهى الصورة الأولى التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً) فهى ـ أي هذه الأحرف ـ من هذا الوحى الرمزى ، الذي هو سرّ
بين الله سبحانه وتعالى وبين رسوله صلوات الله وسلامه عليه ..! وهذا يعنى أن هذه
الأحرف معروفة الدّلالة لرسول الله ، وإلا لما كان لوحيها إليه حكمة .. وهذا بدوره
يدعونا إلى القول بأن الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السّور القرآنية ـ يجرى
عليها هذا المفهوم الذي فهمنا عليه هذه الأحرف المقطعة هنا فى تلك السورة.
والسؤال هنا ، هو
:
إذا كانت هذه الأحرف
وحيا خاصا من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم ، لا يعرف دلالتها إلا الرسول ،
فلما ذا كانت قرآنا ، يتلى ، ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
وقبل أن نجيب على
هذا نسأل : أكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، يعرف دلالة هذه الحروف؟
والجواب على هذا
بالإيجاب ، وذلك من وجهين :
فأولا : فى قوله
تعالى فى أول السورة : (حم عسق كَذلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. وقد عاد اسم
الإشارة
إلى هذه الأحرف ،
وإلى أنها صورة من صور الوحى ، التي يتصل فيها النبىّ بربّه جلّ وعلا.
وثانيا : فى قوله
تعالى : فى ختام السورة : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ...) الآية» .. إشارة إلى أن هذا الوحى هو مما كلم الله به نبيه
.. والكلام لا يكون كلاما حتى تكون له دلالة مفهومة عند من يلقى إليه هذا الكلام
.. لأن الكلام نقد متداول بين معط وآخذ ، ولن تنم عملية المبادلة حتى يكون لهذا
النقد قيمة معترف بها بين الطرفين ، أو الأطراف المتعاملة به .. وقيمة اللغة هى فى
دلالتها ، وفى تحديد مفهومها بين المتخاطبين بها ..
فكلام الله سبحانه
وتعالى لرسله ، سواء كان وحيا ، أو من وراء حجاب ، أو عن طريق رسول سماوى ينقله
إلى الرسول البشرى ـ هذا الكلام الإلهى لا بدّ أن يكون واضح الدلالة ، بيّن
المفهوم عند الرسول المتلقى لهذا الكلام ، قبل كل شىء .. ثم لا يمنع ذلك من أن
يكون للناس ـ وخاصة قوم الرسول ـ مشاركة فى هذا الفهم ، على اختلاف فى درجات هذا
الفهم. من الألف إلى الياء .. على حين تبقى للرسول درجة خاصة من الفهم لا يشاركه
فيها غيره!
ونعود إلى الاجابة
على سؤالنا آنفا ، وهو : إذا كانت هذه الأحرف المقطعة ، وحيا خاصا من الله سبحانه
وتعالى إلى رسوله الكريم ـ فلما ذا كانت قرآنا يتلى ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا
مفهوم له؟
والجواب على هذا
.. والله أعلم .. هو :
أولا : أن اختصاص
الرسول الكريم ، بفهم خاص ، لبعض كلمات وآيات
من كلمات الله
وآياته ، التي يتلقاها وحيا من ربه ـ ليس هذا الفهم الخاص بالذي يعزل هذه الآيات
أو الكلمات عن آيات القرآن وكلماته .. إذ أن هناك آيات وكلمات ، تختلف مفاهيم أهل
اللغة فيها ، وفى تحديد دلالتها ، وهى من المتشابه الذي أشار إليه سبحانه وتعالى
فى قوله : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ..
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ .. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) (٧ : آل عمران) ـ ومع
ذلك فهى قرآن يقرأ ويتعبد به.
وثانيا : حكمة هذه
الحروف المقطعة ـ وهى المتشابه ـ أنها دعوة إلى الايمان بالغيب ، والتسليم بالتعبد
بهذه الأحرف ، دون أن يكون للعقل سلطان معها ، بعد أن استوفى العقل حقّه ، وأعمل
كلّ سلطانه مع المحكم من الآيات ، واستبان له ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أنها من
عند الله .. فكان حمله على الإيمان بما لا مفهوم له عنده من كلمات الله ، وإحالة
ما لم يفهمه على ما فهم ـ كان ذلك دعوة مجددة له إلى الإيمان القائم على الولاء
والتسليم المطلقين .. فذلك هو الإيمان فى صميمه ، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) .. وهذا ما نجده فى بعض أعمال الحج ؛ التي يقف العقل
أمامها دون أن يجد لها مفهوما يلتقى مع منطقه .. كالطواف ، والسعى ، ورمى الجمرات
، ولمس الحجر الأسود أو تقبيله .. وهذه كلها ، وكثير غيرها من أعمال الحجّ ، هى من
الإيمان القائم على التسليم المطلق لأمر الله ، وبمعزل عن سلطان العقل ، بعد أن
امتلأ القلب إيمانا ويقينا بما تلقى من العقل من إشارات مضيئة من الحجج والبراهين
، أضاءت له معالم الطريق الى
الله ، وإقامته
مقاما آمنا مطمئنا على الإيمان به .
وثالثا : فى
اختصاص الرسول صلوات الله وسلامه عليه بهذا العلم الذي تحمله إليه هذه الأحرف
المقطعة ، وغيرها من الآيات المتشابهة .. فى هذا ـ فوق أنه مزيد فضل وإحسان من
الله سبحانه لنبيه الكريم ـ هو تثبيت للنبىّ ، فى مقام الدعوة إلى الله ، وفى
الصبر على ما يكابد من آلام فى سبيل هذه الدعوة ، وما يلقى من ضرّ فيما يسوق إليه
المشركون والمعاندون من كيد ..
ففى هذه الأحرف ،
يرى الرسول ـ فيما أراه الله منها ، من أنباء الغيب ـ الطريق الذي تسير فيه دعوته
، وما يلقى على هذا الطريق من مواقع الهزيمة والنصر ، وما ينتهى إليه هذا الطريق
من إعزاز لدين الله ، وانتصار لجند الله ، وإعلاء لكلمة الله .. وفى هذا ما يعين
الرسول الكريم على احتمال الخطوب والأهوال ، حيث يجد النصر قريبا منه ، يلوح له
برايات الأمان ، وينتظر سفينته التي تزأر من حولها الأمواج ، وقد أعدلها مرفأ
الأمن والسلام ..
هذا ، ويلاحظ أن
هذه الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم ـ قد انتظمها جميعا أمران
:
الأمر الأول :
أنها جاءت على رأس هذه السور .. وهذا يعنى أنها مفاتح لها ، يفتح بها هذا الخير
الذي تحمله كل سورة فى آياتها وكلماتها من مواعظ ، وأحكام .. ثم يعنى ـ من جهة
أخرى ـ أنها ذات منزلة خاصة ، إذ كانت وحيا مباشرا من الله سبحانه ، على خلاف ما
تلقى الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من آيات ربه وكلماته ، بواسطة الرسول
السماوي ، جبريل عليهالسلام.
الأمر الثاني ،
الذي انتظم هذه الأحرف ، أنه قد أعقبها ، واتصل بها ،
__________________
ذكر القرآن ،
تنويها به ، أو بيانا لما يحمل من هدى ونور ، أو إشارة إلى منّة من منن الله على
عباده المتقين. أو قسما بجلاله وعظمته ، أو تشريفا للأدوات التي تخدم هذا الكتاب ،
وتعمل فى كتابته.
وما ورد من الحروف
المقطعة فى أوائل السور ، هو قوله تعالى :
(الم ذلِكَ الْكِتابُ
لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). (البقرة) ـ (الم. اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) .. (آل عمران) ـ (المص كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف) .. (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (يونس) .. (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود). (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (يوسف) (المر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ
وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) (الرعد) (الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) (إبراهيم) (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ
مُبِينٍ) (الحجر) .. (كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا) (مريم) .. (طه) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (طه) ـ (طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (الشعراء) .. (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ
مُبِينٍ) (النمل) (طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (القصص) (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت) (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم). (الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (لقمان) .. (يس .. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (يس) ..
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) (ص) .. (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (غافر) .. (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ)
(فصلت) .. (حم. عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الشورى) .. (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (الزخرف ، والدخان)
(حم. تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجاثية ،
والأحقاف) .. (ق. وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) (ق) .. (ن .. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) (ن).
هذا ويلاحظ عند
النظر فى هذه المفاتح .. أمور .. منها :
أولا : اشتراك بعض
السور فى صورة الحروف التي بدئت بها ، مثل (الم) فقد بدئت بها «البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان»
.. و (الر) التي بدئت بها سور : «يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر» ، و
(طسم) وقد بدئت بها سورتا «الشعراء والقصص» و (حم) التي كانت بدءا لست سور ، هى : غافر ، وفصلت ، والزخرف ،
والدخان ، والجاثية. والأحقاف.
والسؤال هنا هو :
إذا كانت هذه المفاتح ، تحمل دلالات خاصة ، هى سرّ بين الله سبحانه وتعالى وبين
الرسول الكريم ، على هذا التأويل الذي تأولناها عليه ـ فكيف يتفق أن تتكرر هذه
المفاتح؟ وما داعية تكرارها إذا كان السر الذي تحمله ، هو فى أىّ منها؟
والجواب على هذا ـ
والله أعلم ـ هو ، أن هذا التكرار فى صورة الحروف ، لا يعنى أن تكون محامل الأسرار
فيها متماثلة من كل وجه .. وقد قلنا إن هذه الحروف ، هى إشارات موحية ، وإيماءات
دالة .. وعلى هذا ، فإنه ليس من الحتم اللازم أن تتحد الإشارتان أو الإشارات فى
الصورة ، ثم لا يكون اختلاف فى المحتوى والمضمون .. فالكلمة مثلا تختلف دلالتها
باختلاف الحال المتلبس بها ، والحركة بالعين أو اليد ، قد تقع على صورة واحدة ولكن
مفهومها يختلف ، حسب تأويل المتلقى لها .. والأحلام مثلا ، تتفق فى
صورتها ويختلف
تأويلها .. حسب الأشخاص ، وحسب الأحوال الشخص الواحد ..
هذه صورة تقربنا
من فهم ما نقول به ، من أن الاتفاق فى صورة الحروف المكرّرة ، لا يعنى الاتفاق فى
دلالتها .. بل إن لكل صورة منها دلالة خاصة .. مع العلم بأن الله سبحانه قد وصف
هذه الكلمات بأنها وحي ، وأنها مما كلم الله به رسله ، وقد قلنا إن الكلام لا يكون
كلاما إلا إذا كان ذا دلالة مفهومة بين المتكلم ، والمتلقى لهذا الكلام .. فكيف
بكلام الله سبحانه وتعالى ، وما يبلغه من موقع الفهم عند من يكرمه الله ، وبكلمة
بكلماته ..؟
وسؤال آخر .. وهو
إذا كان لكل صورة من صور هذه الحروف المكررة تأويلا خاصا ، ودلالة خاصة .. أفما
كان من الأولى ـ وفى اللغة متسع لهذا ـ أن يكون لكلّ دلالة صورة من اللفظ خاصة بها؟
والجواب على هذا ـ
والله أعلم ـ أن هذا الاشتراك فى اللفظ والاختلاف فى المعنى ، هو من مظاهر اللغة
العربية التي نزل القرآن بلسانها ، بمعنى أن الكلمة الواحدة قد تحمل دلالتين أو
أكثر ، مثل كلمة العين ، التي تدل على عين الماء ، والعين المبصرة.
وهذا الاشتراك ليس
عن قصور فى مادة اللغة ، وإنما هو من بلاغة هذه اللغة وذكاء أهلها .. حيث يفرّقون
فى اللفظ المشترك بين المعنى الذي تقتضيه داعية الحال ، وبين المعنى الذي لا مقتضى
له فى تلك الحال ، كما أنهم إذ يأخذون بالمعنى المراد للفظ المشترك فى الحال الداعية
له ، لا يقطعونه عن المعنى أو المعاني الأخرى التي يحملها فى كيانه ..
فإذا جاء القرآن
الكريم مستعملا اللفظ المشترك فى تلك الحروف المقطعة ـ كان جاريا فى هذا على أسلوب
اللغة التي نزل بها ، وأنه كما جاء باللفظ المشترك
فى الوحى الموحى
به بوساطة الملك السماوي ، جاء كذلك فى الوحى الموحى به من عند الله سبحانه وتعالى
، بغير واسطة .. والله أعلم.
***
قوله تعالى :
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
الإشارة هنا إلى
قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ..) أي وكما أرسل الله
رسولا علويّا يوحى بإذنه ما يشاء إلى أنبيائه ، كذلك أرسل هذا الرسول ، إلى النبىّ
الكريم ، يحمل إليه من آيات ربه وكلماته ، ما أذن الله سبحانه وتعالى به من وحي ..
وفى هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور الوحى ، والتي كانت هى الصورة الغالبة على
تلقّى رسول الله ما يتلّقى من وحي ربه .. أما الصورة الأخرى التي كان يتلقى فيها
النبي كلمات ربه ، فهى ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى أول هذه السورة بقوله : (حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. فالإشارة هنا ، إلى هذه الأحرف المقطعة التي تلقاها
النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وحيا من ربه ، دون وساطة رسول سماوى .. على ما
ذهبنا إليه من تأويل لهذه الآية ، والذي نرجو أن يكون على منهج الحق والصواب.
والروح فى قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يحتمل دلالتين : أولاهما : الدلالة على رسول الوحى ، وهو
جبريل عليهالسلام ، فهو روح من عند الله .. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيه
: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٣ ـ ١٩٤
الشعراء)
وثانيتهما :
الدلالة على القرآن الكريم ، فهو كلام الله .. وكلامه سبحانه وتعالى روح منه. كما
يقول سبحانه وتعالى عن مريم : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (١٢ : التحريم) ..
ثم يقول سبحانه عن هذه النفخة : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) (١٧١ : النساء)
فالنفخة التي تلقتها مريم من روح الله ، هى الكلمة التي ألقاها الله سبحانه وتعالى
إليها ..
وهذا يعنى أن
القرآن روح ، من روح الله ، وأن الذي حمله إلى الرسول روح من روح الله كذلك .. فهو
روح ، يحمله روح .. وهذا يعنى من جهة أخرى ، أن القرآن الكريم حياة وروح تلبس
النفوس المستعدة لاستقبالها ، كما تلبس الحياة والأرواح الأجساد ، بعد أن يتم
تكوينها ، وتصبح مهيأة لاستقبالها .. وكما أن كل جسد يلبس من الأرواح بقدر ما هو
مستعدّ له ، كذلك النفوس ، يفاض عليها من روح القرآن ، على قدر ما هى مستعدة له ،
ومهيأة لقبوله ..
وقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ) ـ هو بيان لحال
النبي قبل أن يتلقى رسالة السماء ، وما تحمل إليه من كلمات ربه .. وأنه ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ لم يكن قبل هذا التلقي يدرى شيئا عن هذا الكتاب ، أي القرآن
الذي تلقاه من ربه .. كما يقول الله سبحانه : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣ : يوسف)
وفى قوله تعالى : (وَلَا الْإِيمانُ) ـ ما يسأل عنه ،
وهو : ما الإيمان الذي كان لا يعرفه النبي قبل النبوة؟ وعلى أي دين كان يدين؟
ولا شك أن الرسول ـ
صلوات الله وسلامه عليه ـ كان على دين الفطرة
وهو دين إبراهيم عليهالسلام .. فقد كان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مؤمنا بإله واحد ،
قائم على هذا الوجود ، متفرد بالخلق والأمر .. أما ما لم يكن يعرفه النبي من
الإيمان ، فهو ما يتصل بالشريعة التي تتصل بهذا الإيمان ، والتي جاء القرآن الكريم
مبيّنا لها .. فالإيمان : قول ، وعمل .. عقيدة ، وشريعة .. وقد كان النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعرف الجانب
العقيدى ، ويتعبد لله عليه ، قبل البعثة .. أما الجانب التشريعي ، فلم يكن يعلم
منه شيئا إلى أن تلقاه وحيا من ربه ، فى أحكام الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج
، وفيما أحل الله ، أو حرم ..
فنفى علم النبي
بالإيمان قبل الوحى ، ليس على إطلاقه ، وإنما هو نفى لتمام العلم بالإيمان كله ،
عقيدة وشريعة ..
قوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ
مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) .. الضمير فى جعلناه ، يعود إلى الروح الموحى به من أمر
الله ، أو إلى الكتاب ..
وفى قوله تعالى : (جَعَلْناهُ نُوراً) ـ إشارة إلى ما
يحمل القرآن من هدى ونور ، يكشف معالم الطريق إلى الله ..
وفى قوله تعالى : (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ـ إشارة أخرى إلى
أن هذا النور ، لا يهتدى به إلا من شاء الله سبحانه وتعالى له الهداية من عباده ،
فهو رزق من رزق الله ، (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)
وفى قوله سبحانه :
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ـ إشارة ثالثة إلى
أن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو نور من هذا النور ، وأنه معلم من معالم
الحق ، يهدى إلى الحق ، وإلى طريق مستقيم ، وذلك فى سنته القولية والعملية .. وهذا
يعنى أن السنة المطهرة ـ قولية وعملية ـ هى من هذا النور السماوي.
وقوله تعالى : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هو بدل من (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ـ أي أن هذا
الصراط المستقيم الذي يهدى إليه الرسول من شاء الله سبحانه وتعالى لهم الهداية من
عباده ـ هذا الصراط ، هو صراط الله ، ودينه القويم ، الذي رضيه لعباده ، كما يقول
سبحانه : (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ) (١٥٣ الأنعام)
وقوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) تعقيب على ما تقرر فى قوله تعالى : (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ) وهو أنه سبحانه ـ بما له من سلطان مطلق فى هذا الوجود كله
، فى أرضه وسمائه ـ يردّ إليه كل أمر ، ويرجع إليه كل شىء .. فلا يقع أمر إلا
يإذنه ، وعلمه وتقديره. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ..
***
٤٣ ـ سورة الزخرف
نزولها : مكية ..
إجماعا.
عدد آياتها : تسع
وثمانون آية.
عدد كلماتها :
ثمانمائة وثلاث وثلاثون .. كلمة.
عدد حروفها :
ثلاثة آلاف وأربعمائة .. حرف :
مناسبة السورة لما قبلها
جاء فى أول سورة
الشورى : (حم ، عسق كَذلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .. وقد قلنا فى تأويل هذه الآية : إن الوحى المشار إليه
هنا ، هو الوحى بتلك الحروف المقطعة ، التي هى من كلام الله سبحانه وتعالى ، لنبيه
الكريم ، من غير وساطة ملك ، وإن هذا الوحى هو أشبه بالرمز والإشارة ، بحيث لا
يفهم ماوراء الرمز والإشارة إلا الرسول صلىاللهعليهوسلم ..
ثم جاء قوله تعالى
: فى أول سورة الزخرف هذه : (حم وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فكان فى هذا إشارة إلى ما يوحى إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من آيات الله
وكلماته ، عن طريق الرسول السماوي ، جبريل عليهالسلام ، مع ما تلقاه وحيا مباشرا من ربه ..
وهذا الوحى به عن
هذا الطريق ، ـ طريق الرسول السماوي ـ هو الذي يشارك أهل اللسان العربي ، النبىّ ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ فى فهم دلالات
ألفاظه ، ومعانى آياته ، لأنه بلسانهم الذي يتكلمون به ، وبألفاظهم التي يتعاملون
بها .. فليس إذن كلّ القرآن من هذا الوحى
الرمزى ، الذي
اختصّ النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بفهمه والعمل به ، دون أن يطالب غيره من
المؤمنين بالبحث عن دلالته ، وإن كانوا مطالبين بالتعبد بتلاوته.
ومن جهة أخرى ،
فإنه قد جاء فى ختام سورة الشورى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) .. ثم كان قوله تعالى فى مفتتح سورة الزخرف : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ) ـ بيانا لهذا
النور ، الذي يهدى إلى صراط الله ، وهو أنه قرآن كريم ، بلسان عربى مبين ، وأنه
بهذا اللسان هو نعمة جليلة أنعم الله بها على العرب ، الذين كان معهم وحدهم مفاتح
الطريق إلى هذا النور ، وكان إليهم قيادة الناس جميعا إلى الهدى .. ثم كان قوله
تعالى بعد ذلك : (أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) ـ تهديدا لهؤلاء
الذين جعل الله إلى أيديهم مفاتح هذا النور ؛ أن يصرف عنهم هذا العطاء الجزيل ،
إذا هم لم يقبلوه ، ويحسنوا الانتفاع به .. وبهذا ، وبكثير غيره مما سنراه عند
وقوفنا بين يدى هذه السورة ، نجد التآخى بين السورتين ، ذلك التآخى الموصول بين
آيات القرآن كلها ، وسوره .. آية آية ، وسورة سورة ..
***
بسم الله الرحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات : (١ ـ ٨)
(حم
(١)
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)
إِنَّا
جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
وَكَمْ
أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧)
فَأَهْلَكْنا
أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)
(٨)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(حم وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ).
ورد هذا المقطع : (حم) بدءا لست سور من القرآن الكريم ، هى : غافر ، وفصلت ،
والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف .. وهذا الاتفاق فى اللفظ ـ كما قلنا ـ لا
يلزم منه الاتفاق فى المحتوى والمضمون ، الذي ينكشف للنبى منها .. فهذه الأحرف ،
هى رمز وإشارة إلى معان وأمور يعرفها النبي ، على حين تظل هذه المعاني وتلك الأمور
، غيبا لا يعلمه إلا هو ، والراسخون فى العلم من أمته.
وقوله تعالى : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) .. معطوف على قوله تعالى : (حم) المقسم به .. وبين المتعاطفين ، اختلاف ، واتفاق .. فهما
مختلفان : لأن
أحدهما رمز وإشارة
، وهو (حم) والآخر ، كلام بيّن القصد ، واضح الدلالة ، وهو (الْكِتابِ الْمُبِينِ) .. وهما متفقان لأنهما ـ الخفي والجلى ـ كلاهما من عند
الله ، ومن كلام الله ..
هذا ، وأوثر أن
أفهم قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما
تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ
بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٨ ـ ٤٣ : الحاقة)
ـ أوثر أن أفهم القسم بما يبصرون وما لا يبصرون ، على أن ما يبصرون ، هو ما تتضح
لهم دلالته من ألفاظ القرآن ، وما لا يبصرون ، هو ما لا يرون له دلالة أصلا ، وهى
تلك الحروف المقطعة ، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بهما معا ، كما جاء القسم فى
قوله تعالى : (حم وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ) وفى أمثالها .. فهو قسم بالخفّى والظاهر من آيات الله ..
ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع أن يشمل القسم ، ما يبصرون وما لا يبصرون ، من آيات
الله القرآنية والكونية .. على السواء ..
ومما يستأنس به فى
هذا المقام ، أنه قد جاء بعد هذا القسم ، نفى صفة الكهانة عن الرسول الكريم ، وأن
ما يقوله من ألفاظ لا يفهمون دلالتها ـ كهذه الحروف المقطعة ـ ليس هو من قبيل كلام
الكهان الذي يجىء كله رموزا ، وطلاسم ، وإنما هو قول رسول كريم ، تلقاه وحيا منزلا
من رب العالمين.
قوله تعالى :
(إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
أي أن الله سبحانه
، وتعالى قد أكرم هذه الأمة العربية ، ببركة هذا
النبىّ الذي هو
صفوة خلق الله ، فجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، وجعل لغتها هى اللغة التي تحمل
دين الله كاملا ، وهو الإسلام ، فجاء القرآن الكريم بلغة العرب ، ليكون لهم حظّهم
الكامل منه ، وليكونوا هم أول من يقطف من كرمه ، ويطعم من ثمره ..
وفى قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ـ إشارة إلى
الحكمة من جعل القرآن الكريم قرآنا عربيا ، وهى لكى يتمكن العرب من الاتصال به ،
وإدراك معانيه ، وعقلها ، حتى يفيدوا منه ، وينتفعوا بما فيه من خير .. وهذا يعنى
أن العقل هو الوسيلة التي يتوسل بها إلى الإفادة من القرآن ، وأن من يجىء إليه
متخليا عن عقله ، غير متدبر لآياته ، لا ينال من خيره شيئا ..
قوله تعالى :
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).
هو وصف للقرآن
الكريم ، وأنه مودع فى أم الكتاب عند الله ، وحسبه بهذا علوّا وشرفا ، وإنه علىّ
فى ذاته ، حكيم فى أحكامه ، ومن شأن من يتصل به أن يستعلى بإنسانيته عن مستوى أهل
الجهالة والضلال ، وأن يتزيّا بزىّ الحكمة ، التي هى العقل المتحرر من الأوهام
والخرافات ، المستنير بنور العلم والمعرفة ..
وقد وصف القرآن
الكريم هنا بصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى ، هما ، العلىّ والحكيم .. لأن
القرآن كلام الله ، من صفات الله .. فكل ما لله سبحانه وتعالى من صفات الكمال ، هو
لكل صفة من صفاته ..
هذا هو القرآن
الذي يدعى العرب إلى تعقله ، وتدبره ، والحياة معه بعقولهم وقلوبهم .. فما ذا كان
منهم إزاء هذه الدعوة؟ لقد تلبّثوا كثيرا ، ووقفوا طويلا على حال من التردد بين
الإقدام والإحجام ، حتى إذا تبخرت سحب الضلال المتكاثفة حولهم ، تحت أشعة هذه
الشمس الطالعة فى سمائهم ـ صحوا صحوة مشرقة ، اهتزت لها أنفسهم من أقطارها ،
فاندفعوا وراء راية القرآن ، اندفاع السيل الهادر ، وقد اكتسح بقوته ما بين يديه
من حواجز ومعوقات.
قوله تعالى :
(أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ).
هو استفهام يحمل
التهديد لهؤلاء المشركين من العرب ، الذين لم يلتفتوا إلى هذا القرآن الذي بين
أيديهم ، ولم يمدّوا أيديهم إلى تناول قطوفه الدانية ـ فما ذا يظنون؟ أيحسبون أن
هذا الخير سيظل محبوسا على قوم لم يربدوه ، وهناك نفوس كثيرة تشتهيه ، وتنتظر حظها
منه؟ إنهم إن لم يبادروا إلى هذا الخير ، ويمسكوا به ، فإنه يوشك أن يتحول عنهم ،
وإذا هم إن طلبوه وجدوا غيرهم قد سبقهم إليه ، وأخذ مقام الصدارة التي كان من
شأنها أن تكون لهم ..
وهذا ما يشير إليه
قوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨ : محمد)
والذكر : هو
القرآن الكريم ..
وضرب الذكر عنهم
صفحا : صرفه عنهم .. أي تحوّل القرآن الكريم عنهم ، وتنحيته جانبا .. وصفحة الوجه
، وصفحة السيف : جانبه ، وكذلك الصفحة من كل شىء .. وفى التعبير عن صرف القرآن عن
المشركين ، وتحوله عنهم ـ فى التعبير عن هذا بضربه عنهم ـ إشارة إلى أن القرآن
الكريم متجه
إليهم ، راغب فى
الاتصال بهم ، والحياة معهم ، وأنه لا يتحول عنهم إلا مكرها .. وهذا يعنى أن هذه
النعمة لا تتحول أبدا عن الأمة العربية ؛ لأن القرآن لا يضرب أبدا ، لمقامه العظيم
عند الله ، ولأنه صفة من صفاته جل وعلا ، وأنه إذا كان هؤلاء المشركون قد استقبلوا
القرآن الكريم هذا الاستقبال العدائى ، فإنه سيجد منهم آخر الأمر ، الأمة التي
تحتفى به أعظم احتفاء ، وتنزله من نفسها أكرم منزل .. وهذا هو بعض السر فى التعبير
بضرب الذكر عنهم صفحا ، أي جانبا .. بمعنى أنه لا ينصرف عنهم انصرافا كاملا ، بل
ينصرف عنهم بجانب منه ، أشبه بالمغاضب ، الذي يريد العتبى ممن أغضبه ، وينتظر
مصالحته ..! وقد صالح العرب القرآن ، وأعتبوه ، وأدّبوا المتطاولين عليه ، وقتلوا
من أجل ذلك أبناءهم ، وآباءهم ، وإخوانهم ، وباعوا أنفسهم بيع السماح لله ، فى
سبيل نصرة دين الله الذي جاء به ..
وفى الاستفهام
بقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) إنذار وتنبيه ، يشعر بالحرص على هداية هؤلاء المشركين ، مع
أنّ إسرافهم فى الضلال والعناد ، كان يقضى بأن يصرف القرآن عنهم ، من غير إنذار ،
أو إعذار!
قوله تعالى :
(وَكَمْ أَرْسَلْنا
مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) هو عزاء للنبى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وتسلية له مما
يلقى من تأتى قومه عليه ، وسخريتهم منه ، واستهزائهم به .. فهو ـ صلوات الله
وسلامه عليه ـ ليس بدعا من الرسل فى هذا الذي يناله من قومه من أذى .. فهذا شأن
أنبياء الله ورسله جميعا مع أقوامهم : (وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
(وَكَمْ) هنا خبرية ، يراد بها التكثير .. أي ما أكثر ما أرسلنا من
نبى فى الأولين ، أي السابقين .. فكانت حالهم أنهم لا يلقون النبي المرسل إليهم
إلا بالاستهزاء ، والتحدّى ، والأذى ..
قوله تعالى :
(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ
مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ).
هو تهديد ، ووعيد
للمشركين ، فقد أهلك الله المكذبين بالرسل من قبلهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة
وبطشا .. فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين من
قبلهم؟ أم أنهم أخذوا على الله عهدا أن يكونوا بمنجاة من عذاب الله؟.
وقوله تعالى : (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) ـ أي مضى المثل
الذي يرى فيه المشركون العبرة والعظة ، وهو ما حدثهم به القرآن الكريم من مصارع
القوم الظالمين ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وأصحاب مدين ، وقوم لوط ..! كما يقول
الله سبحانه : (فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ .. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً .. وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ .. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ .. وَمِنْهُمْ
مَنْ أَغْرَقْنا .. وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) (٤٠ : العنكبوت)
____________________________________
الآيات : (٩ ـ ١٩)
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
وَالَّذِي
نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ
تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ
(١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
وَجَعَلُوا
لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ
مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦)
وَإِذا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)
(١٩)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)
أي أن هؤلاء
المشركين يختانون أنفسهم ، ويخادعون عقولهم ، فهم ـ مع علمهم بأن الله سبحانه هو
خالق هذا الوجود ، والقائم عليه ـ لا يقيمون أنفسهم على هذا العلم ، ولا يأخذون به
، بل يتبعون أهواءهم ، ويتجهون مع الريح التي تهبّ عليهم من أهوائهم .. فلو سألهم
سائل : (مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟) لقالوا فى غير تردد : خلقهن الله .. ثم إنهم من جهة أخرى
لا يعطون الخالق ما ينبغى له من صفات الكمال والجلال ، والتفرد بالخلق والأمر ، بل
يجعلون له أندادا وأعوانا ، وينسبون إليه بنين وبنات .. بغير علم ..
وفى قوله تعالى : (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ـ إشارة إلى ما
ينبغى أن يكون عليه الإقرار الصحيح منهم ، بعد أن أقروا بأن الله هو الذي خلق
السموات والأرض .. فإن الذي خلق السموات والأرض ، ينبغى أن يكون عزيزا متفردا بالعزة
، فلا يحتاج إلى معين من صاحبة أو ولد ، ولا يدخل على عزته ضيم بمشاركة شريك .. كما
ينبغى أن يكون عليما محيطا علمه بكل شىء .. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ؟) (١٤ : الملك)
فقوله تعالى : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ـ هو ـ وإن لم يكن
مما نطق به القوم مقالا ، فقد نطقوا به حالا والتزاما .. فإن إقرارهم بأن الله هو
الذي خلق السموات والأرض ، يقضى بأن يكون لله العزة المطلقة ، والعلم الشامل.
قوله تعالى :
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
هو إلفات لهؤلاء
المشركين ، وهم فى موقف الاعتراف الملجئ لهم ، إلى القول بأن الله هو الذي خلق
السموات والأرض ـ إلفات لهم إلى أن الله الذي خلق السموات والأرض ، هو الله الذي
جعل لهم هذه الأرض مهدا ، أي موطنا ممهدا ، كأنه المهد الذي يهيأ للوليد ساعة يولد
، حيث يقوم على هذا المهد من يرعى هذا الوليد ، ويسهر على راحته. فهذه الأرض هى
المهد الذي يحتوى الناس ، والذي تحفه عناية الله ورعايته ، بما يمدهم به ـ سبحانه ـ
من نعمه ، وما يفيض عليهم من فضله ، وأنه لو لا هذه الأمداد لم يكن للناس حياة ..
وفى قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ـ إشارة إلى بعض
هذه النعم التي أنعم الله سبحانه بها على الناس ، وهم فى هذا المهاد الممهّد ..
فمن هذه النعم ،
تلك السبل ، وهذه المسالك التي فى البر وفى البحر ، والتي بها يعرفون وجوه الأرض ،
وينتقلون من مكان إلى مكان دون أن يضلوا .. فهم يضربون فى كل وجه من وجوه الأرض ،
ثم يعودون إلى مواطنهم ، كما تعود الطير آخر النهار إلى أعشاشها ..
قوله تعالى :
(وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ
تُخْرَجُونَ).
أي ومن نعم الله
العزيز العليم ، هذا الماء الذي ينزله من السماء بقدر
وحساب ، حسب علمه
وحكمته .. وهذا الماء المنزل من السماء ، هو الذي يبعث الحياة فى كل حى ، ويمسك
الحياة على كل حى ..
وفى قوله تعالى : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) إشارة إلى أن هذه البلاد العامرة ، بما تزخر به من عوالم
الحياة من نبات ، وحيوان ، وإنسان ـ هذه البلاد ، قد كانت مواتا ، لا أثر للحياة
فيها ، شأنها فى هذا شأن المقابر .. فلما نزل هذا الماء بقدرة القادر وتقديره ،
دبّت الحياة فى الأرض الموات ، وقامت المدن والقرى ، وهذا هو بعض السر فى قوله
تعالى : (فَأَنْشَرْنا) الذي يشير إلى أن هذه البلاد العامرة نشرت من عالم الموات
، وأنها كانت مطوية فى التراب فنشرها الله ، وأخرج منها هذه الحياة الدافقة ..
وقوله تعالى : (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ـ إشارة إلى أن
بعث الموتى من القبور ، هو صورة من هذا النشور ، الذي نشرت به الحياة فى الأرض
الموات ..
وفى وصف البلدة
بأنها ميتة ، إشارة إلى أن هذا الموت يحوى فى كيانه حياة ، ولكنها حياة ميتة ،
وستظل هكذا ميتة إلى أن يأذن الله لها بالحياة والنشور ، بما ينزل من السماء من
ماء فتحيا به الأرض بعد موتها .. وفى إفراد البلدة ، وتنكيرها ـ إشارة إلى الوقوف
بالنظر عند بلدة واحدة من تلك البلاد القائمة ، حتى تستخلص منها العبرة والعظة ،
من غير أن يتشتت النظر ويتوزع فى كل بلد .. فإذا وقعت للإنسان العبرة والعظة فى
البلد الواحد ، كانت كل بلدة بعد هذا ، هى هذا البلد .. فهى أولا بلدة ، ثم هى بعد
ذلك بلاد كثيرة ، تشمل ما وقع عليه النظر وما لم يقع!.
قوله تعالى :
(وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ
ما
تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ
إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).
أي ومن نعم الله
العزيز العليم ، كذلك ، أنه خلق الأزواج كلها ، من جميع ما على الأرض من مخلوقات ،
من عوالم النبات ، والحيوان ، والإنسان ـ فهذه المخلوقات كلها متزاوجة من ذكر
وأنثى ، وهى بهذا التزاوج تتوالد فتتكاثر ، كما يتوالد ويتكاثر الإنسان .. وبهذا
يعتدل ميزان الحياة بين الأحياء ، ويكون تكاثر النبات والحيوان فى البر والبحر
مكافئا لتوالد الإنسان وتناسله ، وبهذا يجد الإنسان كفايته مما على الأرض.
وفى قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) ـ إشارة إلى ما
سخر الله سبحانه للإنسان من أدوات الركوب ، فى البر والبحر ، والتي بها ينتقل
الإنسان من مكان إلى مكان لم يكن ليبلغه مشيا على رجليه إلا بشق النفس.
وقوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).
الضمير فى ظهوره
يعود إلى الاسم الموصول (ما) أي لتستووا على ظهور ما جعل الله لكم من الفلك والأنعام من
أدوات حمل وركوب.
والاستواء على
الظهور ، هو التمكن منها ، والاقتدار عليها ، واقتيادها من زمامها إلى الوجهة التي
يريدها الإنسان ..
ففى قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) ـ إشارة إلى أن
هذا الجعل يحمل معه تذليل هذه المخلوقات وتسخيرها للإنسان ، وأنه لو لا هذا لما
كان للإنسان أن ينتفع بها ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) (٣٢ : إبراهيم) أي
ذللها لتجرى بسلطانه لا بسلطانكم عليها .. كما يشير إليه قوله تعالى : (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ
إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي ما كنا قادرين على قيادة هذه المخلوقات ، التي هى أقوى
قوة منا ، لو لا أن سخرها الله سبحانه وتعالى لنا ، وملّكنا أمرها ، والتصرف فيها
..
فاللام فى قوله
تعالى : (لِتَسْتَوُوا) هى لام التعليل الكاشفة عن العلة التي من أجلها سخر الله
هذه المخلوقات .. فقد سخرها سبحانه ليستوى الإنسان على ظهورها ، ويملك تصريفها حيث
يشاء ..
وفى العطف بثم فى
قوله تعالى : (ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) ـ إشارة إلى أن
ذكر هذه النعمة ، إنما يكون على أتمه وأكمله ، حين يكون الإنسان متلبسا بها ،
معايشا لها ، مستظلا بظلها ، طاعما من ثمرها ..
عندئذ يكون إحساسه
بهذه النعمة كاملا ، ويكون ذكر المنعم بها قائما على شعور مدرك ، يقدّر هذه النعمة
، ومالها من أثر بالغ فى الحال التي هو فيها مع هذه النعمة ، فيجد لذلك قلبا
منشرحا ، ولسانا رطبا طلقا ، يسبح بحمد الله ، ويشكر له .. ولهذا جاء العطف بالحرف
«ثم» الذي يفيد التراخي ، والذي يشير إلى أن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله ،
والنعمة غائبة عنه ، فإنه لا ينبغى أن يغفل والنعمة حاضرة بين يديه ، يعيش فيها
وينعم بها ..
قوله تعالى :
(وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ).
معطوف على قوله
تعالى : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) .. فهو من مقول القول .. أي وتقولوا .. إنا إلى ربنا
لمنقلبون .. أي راجعون إليه ، بعد رحلتنا فى هذه الحياة الدنيا ..
وذكر الرجوع إلى
الله فى هذا المقام ، هو أنسب الأوقات الداعية إليه ، حيث المشابهة قوية بين هذه
الرحلة التي يقطعها الإنسان على ظهر السفينة أو الدابة ، ثم يعود بعدها إلى مستقره
، الذي خرج منه. فكذلك الحياة الدنيا ، هى رحلة بدأها الإنسان من يوم أن كان له
وجود فيها ، هذا الوجود الذي خرج من عالم قائم وراء هذه الدنيا ، ثم لا يلبث أن
يعود من حيث بدأ إلى هذا العالم الذي خرج منه. (إِنَّ إِلى رَبِّكَ
الرُّجْعى) (٨ : العلق)
قوله تعالى :
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ).
هو معطوف على
محذوف ، هو جواب لسؤال مقدر ، وهو : ماذا كان من أمر المشركين إزاء هذه النعم التي
بين أيديهم؟ وهل قالوا ما هو مطلوب منهم وهذا المقام ، من ذكر الله ، والتسبيح
بحمده ، حين استووا على ظهور هذه الأدوات المسخرة لهم؟ وكان الجواب : إنهم لم
يقولوا هذا ، بل استقبلوا تلك النعم بالجحود والكفران .. فلقد جعل سبحانه وتعالى
لهم من الفلك والأنعام ما يركبون ، وجعلوا هم له من عباده جزءا ، بأن أشركوا به ،
وأضافوا إليه معبودات أخرى يعبدونها معه ، ونسبوا إليه الولد .. وهذا ضلال عظيم ،
وكفران مبين ، إذ كيف يكون المخلوق بعضا من الخالق؟ وكيف يكون الله أبعاضا ،
وأجزاء فالولد بضعة من أبيه ، وفلذة من أفلاذه!.
قوله تعالى :
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟).
استفهام إنكارى ،
يكشف عن ضلال المشركين ، وفساد منطقهم .. فإنهم ـ وفد أراهم ضلالهم المبين أن
ينسبوا الولد إلى الله ـ استغواهم الغى ،
فنزلوا بقدر الله
سبحانه عن أن يكون مساويا لهم ، فجعلوا لله البنات ، وجعلوا لهم هم البنين وقالوا
إن الملائكة بنات الله ، ولم يروا أن يكون هؤلاء الملائكة ذكورا .. وهذا منطق سقيم
إذ كيف يكون الذكور والإناث من خلق الله ، ثم يكون لهم هم أن يختاروا ما يشتهون
منها ، ويدعون لله ما لا يشتهون؟ (أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٥٣ : ١٥٤
الصافات).
(لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ .. سُبْحانَهُ هُوَ
اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤ : الزمر).
قوله تعالى :
(وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ) هو تسفيه للمشركين ، ولقسمنهم تلك الجائرة. إنهم لا يرضون
أن يكون البنات ممن يولد لهم فإذا ولد لأحدهم أنثى امتلأت نفسه غمّا وكمدا .. فكيف
ينسب إلى الله من هو ـ حسب تقديرهم هدا ـ مصدر همّ وغم؟ أهذا أدب مع الله ، عند من
يعترف بوجود لله؟ إنهم لو أنكروا الله أصلا ، ولم يعترفوا بوجوده ، لكان لذلك منطق
عندهم أما أنهم يعترفون بالله ، ثم ينزلونه من أنفسهم هذه المنزلة التي لا يرضونها
لأنفسهم ، فذلك هو الضلال المبين ، الذي لا يمكن أن يقام له منطق ، حتى من الضلال
نفسه!
وفى قوله تعالى : (بُشِّرَ أَحَدُهُمْ) إشارة إلى أن (بِالْأُنْثى) نعمة من نعم الله ، وأن ورودها على لإنسان من البشريات
المسعدة ، التي من شأنها أن تشرح الصدر ، وتسر القلب. ولكن القوم لجهلهم وضلالهم ،
يضيقون بهذه النعمة ، ويشقون بلقائها.
وقوله تعالى : (بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) ـ إشارة إلى ما
نسبه المشركون
إلى الله من ولد ،
حين جعلوا الملائكة بنات الله ، وأن هذه النسبة من شأنها أن تجعل تماثلا بين الله
، وبين خلقه. إذ كان الوالد والأولاد على صورة متشابهة أو متقاربة ، أو متماثلة ..
جنسا ، وهيئة ، ولونا ، وشكلا ..
قوله تعالى :
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ).
ينشأ : يربى ،
ويشبّ ، ويكبر ..
والحلية : الزينة
، وما يتحلّى به من حلى ، وثياب .. وهذا من شأن النساء غالبا ..
والآية تنكر على
المشركين ـ فى أسلوب استفهامى ـ أن يجعلوا لله سبحانه الجانب الضعيف ، من
المخلوقات وهو جانب الأنوثة ، على حين يجعلون لأنفسهم الجانب القوى ، وهو جانب
الذكورة ..
إذ المعروف فى
عالم الأحياء ، أن الذكر أقوى من الأنثى ، وأشدّ بأسا ، فى مجال الصراع والخصام ..
والمراد بالإبانة
فى قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ
غَيْرُ مُبِينٍ) الكشف والتجلية والإفصاح عن القوة ، حين تدعو دواعيها ،
وتعرض فى مجال الامتحان.
والآية معطوفة على
قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) ..
أي أم اتخذ ممن
ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين ، وترك لكم أن تتخذوا من تجعلون منهم فرسان
قتال وأبطال حروب؟.
قوله تعالى :
(وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟
سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ). وهو بيان شارح للعباد الذين جعلهم المشركون جزءا من الله
، فهذا الجزء هو الملائكة ، وقد جعلوا هؤلاء الملائكة إناثا .. فالمشركون يعملهم
هذا ، قد اقترفوا جرما غليظا ، يضم فى كيانه ثلاث جرائم : نسبة الولد إلى الله ،
وجعل أولاد الله إناثا ، ووصف الملائكة بأنهم إناث .. وكل هذا زور وبهتان .. لا
منطق له من العقل ، ولا مستند له من الكتاب.
وقوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟) إنكار لهذا القول الذي يقوله المشركون فى الملائكة ، إذ
قالوه بغير علم .. إنهم لم يشهدوا خلقهم حتى يعلموا من أمرهم شيئا يقولونه فيهم ..
وقوله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ!) تهديد ووعيد للمشركين وأنهم سيحاسبون على هذا القول الذي
يقولونه فى الملائكة ، والذي سيكتب على أنه شهادة منهم فى هذا الأمر .. وإذ كانت
تلك الشهادة زورا ، فإنهم سيماقبون عليها عقاب شاهد الزور!
____________________________________
الآيات : (٢٠ ـ ٢٥)
(وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)
وَكَذلِكَ
ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
(٢٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) ..
هو معطوف على
جرائم المشركين التي عرضتها الآيات السابقة .. وجريمتهم هنا أنهم يذهبون مذهب
السفسطة ، والمماحكة ، فيعترفون بأن الله سبحانه مشيئة عامة غالبة .. وهذا حق ،
ولكنه حق أرادوا به باطلا ، فجعلوا عبادتهم الملائكة مشيئة لله فيهم ، وأن الله لو
شاء لهم أن يعبدوا غيرها لعبدوه .. فهم ـ والحال كذلك ـ قائمون على أمر الله ، غير
خارجين على مشيئته .. وهذا مكر سيىء منهم ، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ..
ونعم إن لله
سبحانه وتعالى كلّ شىء .. وإنهم لن يملكوا مع الله نفسا يتنفسونه إلا بأمره
ومشيئته .. ولكن أين مشيئتهم هم؟ أليست لهم مشيئة عاملة ، يأخذون بها الأمور أو
يدعونها؟ إنهم لو عطلوا مشيئتهم فى كل أمر لكان لهم أن يقولوا هذا القول .. ولكنهم
إذا حضرهم الطعام مدوا أيديهم إليه ، وأخذوا منه ما يسد جوعهم ، فإذا شبعوا رفعوا
أيديهم عنه .. فلم يمدّون أيديهم إلى الطعام ، ولا يقولون لو شاء الله أن نأكل
لأكلنا؟ هذه أقرب
صورة من صور
مشيئتهم ، إلى ما لا يحصى من السور التي تتحرك فيها تلك المشيئة ، فى أقوالهم
وأفعالهم .. فكيف يجعلون أفعالهم الضالة وأقوالهم المنكرة من مشيئة لله ، ولا
يجعلون لمشيئتهم وجودا هنا ، مع أنها موجودة فى كل حال معهم؟ إن ذلك ـ كما قلنا ـ مكر
بالله ، وتبرير لكل جناية يجنونها على الناس أو على أنفسهم ..
ومن جهة أخرى ،
فإن هؤلاء الغواة الضالين لو جروا على منطقهم الذي يجعلون به لله سبحانه وتعالى
مشيئة عامة شاملة ، لكان مؤدّى هذا أن بعبدوا الله وحده ، وأن يتبرءوا من كل شريك
له ، إذ كان سبحانه ، صاحب السلطان المطلق ، والمشيئة النافذة .. وإنه لضلال سفيه
أن يعبد المرء من لا سلطان له ولا مشيئة ، ويدع صاحب السلطان ، ورب المشيئة! ولكن
هكذا يزيّن الضلال لأهله سوء أعمالهم ، فيرونها حسنة .. وفى هذا يقول الله سبحانه
على لسان أهل الضلال : (سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
شَيْءٍ) (١٤٨ : الأنعام)
ويقول سبحانه على لسانهم كذلك : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ
يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ؟) (٤٧ : يس).
وقوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) .. الإشارة بذلك إلى هذا القول الذي يقولونه باطلا وزورا ،
ويضيفون فيه عبادتهم الملائكة إلى مشيئة الله .. فهذا الذي يقولونه لا علم لهم به
.. لأنهم لا يعلمون ما هى مشيئة الله ، ولا يقدرونها قدرها ، فهم إذا أساءوا ،
ووضعوا موضع المساءلة والحساب ؛ قالوا هذا من مشيئة الله فينا ، وإذا كانوا فى
عافية من أمرهم ، لم يلتفتوا إلى هذه المشيئة ، ولم يضيفوا إليها شيئا مما هم فيه
، بل جعلوه من كسب أيديهم ، كما قال قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٧٨ : القصص) ..
وكما يقول
الضالون فيما ذكره
الله تعالى على لسان كل ضال : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ
السَّيِّئاتُ عَنِّي) (٩ ـ ١٠ : هود)
وقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) توكيد لجهل القوم وضلالهم ، وسفاهة منطقهم فيما يقولون عن
مشيئة الله .. فهو قول لا مستند له من علم ، أو عقل ، وإنما هو قائم على الوهم
والتخمين .. (إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا يخرصون ، أي يرجمون بالغيب .. وإن من يبنى
معتقده ، ويقيم دينه على مثل هذه الأوهام والظنون ، لا يصل إلى حق أبدا ، والله
سبحانه وتعالى يقول : (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (١٠ ـ ١١ :
الذاريات).
قوله تعالى :
(أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ
مِنْ عِلْمٍ) أي ليس عندهم بما
يقولون علم ذاتىّ ، اهتدوا إليه بعقولهم ، ولا علم من كتاب آتاهم الله إياه ، قبل
هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول رب العالمين ..
فالمراد
بالاستفهام هنا ، النفي ..
قوله تعالى :
(بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)
أي إنه ليس لهم
علم من ذات أنفسهم ، ولا من كتاب جاءهم قبل هذا الكتاب ، وإنما كل ما عندهم ، هو
ضلال ورثوه عن آبائهم ، وقالوا لمن يسألهم عن دينهم الذي يدينون به ، ويعبدون عليه
الملائكة من دون الله ، على اعتبار أنهم ، بنات الله ـ قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على دين .. فالأمة
فى اللغة تجىء
بمعنى الدين ، حيث تجتمع الجماعة عليه ، وتكون أمة تنتسب إليه ، كما تنتسب
بقومينها ، فكما يقال الأمة العربية ، يقال كذلك الأمة الإسلامية .. يقول النابغة
الذبياني :
حلفت فلم أترك لنفسك
ريبة
|
|
وهل يأثمن ذو
أمة وهو طائع؟
|
أي وهل يحلفنّ
كاذبا متأثما من كان ذا دين؟
وفى قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) ـ إشارة إلى ما
بلغ بهم استسلامهم لموروثات آبائهم من ثقة ، فيما ورثوه عنهم ، فتلقوه فى اطمئنان
، دون أن ينظروا فيه بعقولهم ، وأن يكشفوا عما فيه من حق أو باطل .. وإن هذا لا
يكون إلا من سفيه أحمق ، يعطل عقله ، ويزهد فيه ، ويسترخصه ، فلا يعيش إلا من هذا
الغذاء الذي هو فضلة مما ترك الآكلون ، وقد تعفّن وفسد!! فهل هذا شأنهم مع ما
ورثوا عن آبائهم من أموال ومتاع؟ ألم يقلّبوا هذه الأموال والأمتعة بين أيديهم؟
ألم يطرحوا منها ما هو غير صالح؟ ألم يأخذوا الصالح منها ، ويعملوا على الإفادة
منه؟ فما بالهم مع ما تلقوا عن آبائهم من عادات ومعتقدات هى مما يتصل بعقولهم ، ـ ما
بالهم قد قبلوه على علاته ، وأخذوه دون نظر فيه : (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟) (١٧٠ : البقرة)
قوله تعالى :
(وَكَذلِكَ ما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
أي ليس هذا شأن
هؤلاء المشركين وحدهم ، بل هو شأن أهل الضلال جميعا فى الأمم السابقة ، ما جاءهم
من نذير إلا تلقوه بهذا القول الضالّ المضلّ : (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)!
وهكذا يقيم الضلال
له مجرّى آسنا ، يتوارد عليه من منبعه إلى مصبّه
أصحاب العقول
السقيمة ، والنفوس الخبيثة ، كما يسقط خسيس الطير على الجيف.
واختصاص المترفين
بالذكر هنا ، لأنهم هم الذين يقومون دائما فى وجه كل دعوة تخرج بالنّاس عما هم فيه
من حال إلى حال ، فإن هذا التحول يؤذن أهل الترف والغنى بأن يخرجوا عما هم فيه ..
ومن هنا كان أكثر الناس حربا وأشدهم عداوة لدعوات الإصلاح ، هم أصحاب المال ،
والجاه والسلطان ، حيث لا يريدون تحوّلا عن حالهم التي هم فيها.
قوله تعالى :
(قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).
أي أنه إذا جاء
الرسول ، يحاجّ هؤلاء المترفين ، ويردّ عليهم قولهم هذا الذي يقولونه عن موروثاتهم
من آبائهم ، فقال لهم : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟) أي أنظلّون ممسكين بهذا الذي ورثتموه عن آبائكم ، ولو
دعوتكم إلى ما هو خير منه طريقا ، وأهدى سبيلا؟ ـ فلا يتلقى الرسول منهم إلّا
إصرارا على ما هم فيه ، وإلّا كفرا وتكذيبا بما يدعوهم إليه ..
وفى مخاطبة الرسول
لهم فردا ، وردّهم على الرسل جمعا ـ فى هذا إشارة إلى أن هذا هو الجواب الذي تلقاه
الرسل جميعا من المترفين من أقوامهم.
قوله تعالى :
(فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
هو إنذار لهؤلاء
المشركين ، وتهديد لهم بأن يلقوا ما لقى المكذبون قبلهم من نقمة الله ، ومن عذابه
فى الدنيا والآخرة .. وفى هذا وعد كريم للنبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالنصر
والتأييد.
____________________________________
الآيات : (٢٦ ـ ٣٥)
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوا
لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣)
وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤)
وَزُخْرُفاً
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)
(٣٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ).
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الله سبحانه قد ذكر فى الآيات السابقة ما كان من الأقوام
السابقين من تكذيب لرسلهم ، وكفر بما أرسلوا
به إليهم .. فناسب
أن يجىء ذكر إبراهيم ـ أبى الأنبياء ـ وموقفه هو من قومه ، بعد أن كذبوه ، وأنكروا
عليه ما يدعوهم إليه من عبادة الله رب العالمين ..
فإبراهيم عليهالسلام ، يتبرأ من دين أبيه وقومه ، كما تبرءوا هم من الدّين الذي
يدعوهم إليه .. (إِنَّنِي بَراءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ) ..
وقوله تعالى :
(إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).
إلا هنا بمعنى لكن
.. أي لكن الذي (فَطَرَنِي) أي خلقنى ابتداء ، هو الذي سيهدين إلى الحقّ ، ويقيمنى على
طريق الهدى ..
ويجوز أن تكون (إِلَّا) دالة على الاستثناء ، وفى هذا إشارة إلى أن هذه الأصنام
التي كانوا يعبدونها ، لم تكن عندهم إلا أربابا مع الله .. فهم كانوا يعبدون هذه
الأصنام لتقربهم إلى الله. ولهذا صحّ عندهم أن يدخل الله سبحانه وتعالى فى
معبوداتهم التي يتبرأ إبراهيم من عبادتها. ثم يجىء الاستثناء منها لله ، سبحانه ،
الذي هو المعبود الحقّ الذي يعبده إبراهيم ، ويطلب الهداية منه ..
قوله تعالى :
(جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً
فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
الضمير فى جعلها
يعود إلى مضمون قوله : (إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) .. فمضمون هذا القول هو الإيمان بالله وحده ، والإقرار
بتفرده سبحانه بالخلق والأمر .. لا شريك له .. ومضمون هذا المضمون ، كلمة واحدة هى
«التوحيد» فالكلمة التي جعلها إبراهيم ميراثا منه لذريته من بعده
هى كلمة التوحيد ،
وهى الإسلام ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ
فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢ : البقرة)
وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .. أي لعلّ ذرية إبراهيم يرجعون إلى هذا الميراث الذي تركه
فيهم ، ويذكرون ما وصّاهم به من الإيمان بالله وحده ، والا يموتوا الا وهم مسلمون
..
وإذ كان مشركو
العرب ، من ذرّيّة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ فإن لهم ميراثهم
من كلمته تلك ، وإنهم إذا كانوا قد وجدوا آباءهم على دين غير دين أبيهم الأكبر
إبراهيم ـ فإن أباهم هذا قد ترك فيهم ميراثا خيرا من هذا الميراث ، ودينا أقوم من
هذا الدين الذين تلقوه عن آبائهم .. إن آباءهم قد ضيّعوا هذا الميراث ، فليمدّوا
هم أيديهم لتلقيه ، والانتفاع به ..
(بَلْ مَتَّعْتُ
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ).
(بَلْ) إضراب عن كلام محذوف ، دلّ عليه قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي
عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .. وهنا كلام كثير يقتضيه المقام ، فكان سؤال ، وهو : هل
رجع عقب إبراهيم إلى كلمته تلك؟ وهل أقاموا دينهم عليها؟ وكان جواب : «كلا» لم
يرجعوا إلى كلمته ، ولم يستقيموا على دينه .. ثم كان سؤال ، وهو : «ما ذا فعل الله
بهم؟» وكان جواب هو : كلا .. «بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين»
أي أن الله سبحانه وتعالى قد ترك هؤلاء المشركين كما ترك آباءهم من قبل ، فلم يبعث
فيهم رسولا ، فعاشوا كما تشاء لهم أهواؤهم ، مطلقين من كلّ قيد ، يتمتعون ويأكلون
كما تأكل الأنعام ، غير منذرين ، أو مبشّرين .. وقد ظلّوا هكذا ، معفين من
التكاليف
الشرعية حتى جاءهم
الحق ، وهو القرآن الكريم ، وجاءهم رسول مبين .. هو رسول الله ، صلوات الله وسلامه
عليه.
وهذا الإعفاء من
التكاليف للشرعية ، هو دليل مرض ، وليس علامة صحة .. فهو يشير إلى أنّ الذين اعفوا
من هذه التكاليف ليسوا أهلا للتكاليف .. شأنهم فى هذا شأن أصحاب الأعذار من
الأطفال ، والمرضى ، والبلهاء والمجانين ..
وفى دعوة هؤلاء
المشركين إلى دين الله ، وإلى حمل ما يدعون إليه من التكاليف الشرعية ، إشارة إلى
أنهم أهل لهذه الدعوة ، وأنهم قد بلغوا مبلغ الرجال القادرين على حمل المسئوليات ،
وتلقى الجزاء عليها ثوابا ، وعقابا ..
قوله تعالى :
(وَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ).
أي أنه حين جاءهم
الحقّ ، وهو القرآن الكريم ، لم ينظروا فيه ، ولم يقفوا عنده ، بل بادروا بالإعراض
عنه ، والتكذيب له ، وتحديد موقفهم منه ، وهو الكفر بكل ما جاء فيه ..
قوله تعالى :
(وَقالُوا لَوْ لا
نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).
أي وقالوا تعليلا
لتكذيبهم بالقرآن ، وبأنه سحر .. (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؟ أي لو كان هذا القرآن من عند الله ، فلم لم يكن المبعوث
به إليهم من السّماء ، سيّدا من ساداتهم فى مكة أو الطائف؟ ولم يقع الاختيار على
رجل نشأ فيهم يتيما فقيرا ، لم يكن له فيهم رياسة فى سلم أو حرب؟.
وقوله تعالى :
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
هو رد على هذا
المنطق السقيم السفيه ، الذي تجرى عليه مقابيس الأمور عند هؤلاء المشركين ، وأنهم
لا يفرّقون بين مطالب الجسد وحاجة الروح ، ولا ما هو من غذاء الأجسام ، وغذاء
العقول ..! فالإنسان العظيم عندهم هو من جمع ما جمع من مال ، وما استكثر من عتاد
ورجال ، وإن كان لا حظّ له من عقل سليم ، أو خلق قويم.
وقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ). إنكار على المشركين ما أنكروه على النبىّ أن يكون موضع
هذا الإحسان العظيم ، وحامل هذا النور القدسىّ السماوي .. إنهم ليسوا هم الذين
يقسمون هذه الرحمة ، بل هى بيد الله سبحانه وتعالى ، يضعها حيث يشاء ، وتختصّ بها
من عباده من يشاء.
وهذه هى حظوظهم
التي بين أيديهم من الدنيا .. هى بيد الله .. يعطى منها ما يشاء لمن يشاء .. فليست
حظوظهم منها على سواء .. فكل له منها ما قسم الله له .. فبعضهم غنىّ واسع الغنى
كثير المال ، وبعضهم فقير ، لا يملك شيئا ، وبعضهم كثير المال لا ولد له ، وبعضهم
كثير الأولاد ولا مال له ، وبعضهم سقيم امتلأت يداه بالمال ، وبعضهم صحيح صفرت
يداه من المال. وهكذا .. هم فى معيشة الحياة الدنيا درجات بعضها فوق بعض .. وذلك
لأمر أراده الله ، وهو أن يعيش النّاس فى هذه المستويات المختلفة ، حتى يملأوا كلّ
فراغ فيها ، وحتى تتدافع بهم تيارات الحياة ، كما تتدافع الأمواج على صدر المحيط.
وقوله تعالى : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً
سُخْرِيًّا) .. إشارة إلى أن هذا
الاختلاف بين
الناس فى حظوظ الحياة ، هو الذي جعل لكل واحد منهم مكانه فيها .. فهذا خادم ، وذاك
مخدوم ، وذلك مرءوس ، وهذا رئيس .. وهذا ينسج وذلك يلبس ، وهذا يخبز وذاك يأكل ..
وهكذا .. كلّ إنسان يخدم ويخدم ، من طريق مباشر أو غير مباشر :
الناس الناس من
بدو ومن حضر
|
|
بعض لبعض وإن لم
يشعروا خدم
|
قوله تعالى : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) .. الرحمة هنا هى القرآن الكريم ، الذي هو رحمة من رحمة
الله ، التي أشار إليها سبحانه فى قوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) فهذا القرآن ، وما يحمل إلى الناس من خير ، هو خير من كل
ما يجمع الناس جميعا من مال ، وما يقتنون من متاع ، وما يرزقون من بنين ..
قوله تعالى :
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً).
تكشف هذه الآية
وما بعدها عن الطبيعة البشرية التي يستهوبها حبّ المال ، وتفتنها شهوته .. فالنّاس
جميعا ـ إلا من عصم الله ـ أضعف من أن يقاوموا شهوة المال ، وأن يقهروا سلطانه
المتمكن من نفوسهم ..
وفى قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ
فِضَّةٍ) بيان لتجربة عملية يمكن أن يمتحن بها الناس ، ويرى فيها
هذا الطبع الغالب عليهم ، من حبّ المال وفتنته .. وتلك التجربة هى أن يساق المال
بغير حساب ، لكل من يكفر بالرحمن ، حتى يتخذ هؤلاء الكافرون لبيوتهم سقفا من فضة ،
ومعارج ـ أي سلالم ـ من فضة ، عليها
يظهرون ، أي
يصعدون بها على ظهور هذه البيوت ، كذلك يتخذون لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة
كذلك ، يتكئون عليها ، ويسمزون فوقها ، كما يجلبون إلى هذه البيوت ألوانا من
المتاع والزخرف حتى تفيض وتمتلىء ..
هذه هى التجربة
المفترضة .. فماذا يكون الشأن لو أنها وقعت فعلا ، فكان لكل من يكفر بالرحمن ، هذا
العطاء ، يساق إليه بغير حساب؟.
والجواب الذي
تعطيه التجربة ، هو أن يتحول الناس إلى الكفر ، ويتزاحموا على طريقه ، حتى يكون
لهم هذا المال الذي يعطاه كل كافر ..
وهذا ما يشير إليه
قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) .. فالأمة التي سيكون الناس عليها ، هى أمة الكفر ،
والدّين الذي سيدينون به هو الكفر ، لو فرض ووقع جواب هذا الشرط ، وهو أن يكون
لبيوتهم سقف من فضة ومعارج عليها يظهرون .. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد لعباده
الخير ، فعافاهم من هذا الابتلاء ، ودفع عنهم تلك الفتنة ، فجعل متاع الدنيا قسمة
بينهم ، ينال منه الكافرون والمؤمنون على السواء .. كلّ حسب ما قدّر له .. دون أن
يكون المال من حظ المؤمنين وحدهم ، أو الكافرين وحدهم .. فإنه لا حساب للإيمان أو
الكفر ، فيما يساق إلى الناس من متاع الدنيا ، لأن هذا المتاع ـ مهما كثر ـ لا يصح
أن يكون معيارا يقوم عليه ميزان الإيمان أو الكفر ..
وقوله تعالى : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) .. أي ما كل ذلك مما يساق إلى الناس من مال ، وما يقيم لهم
هذا المال من زينة الحياة الدنيا وزخرفها ـ ما كل ذلك إلا متاع هذه الحياة الدنيا
وزاد أهلها .. أما الآخرة فلها زاد غير هذا الزاد ، هو التقوى .. فالمتقون وحدهم
هم
الذين ستكون لهم
الآخرة ، وما فيها من نعيم مقيم .. أما من سواهم ، فلا شىء لهم من هذا النعيم ..
وليس لهم فى الآخرة إلا النار ..
والجنة ونعيمها ،
لا يقوم متاع الدنيا كلها بلحظات قليلة منه ، والنار وعذابها ، لا يكفى مال الدنيا
كلها لدفع ساعة منه ..
____________________________________
الآيات : (٣٦ ـ ٤٤)
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا
قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)
وَلَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
أَفَأَنْتَ
تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا
نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ
الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)
فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)
وَسْئَلْ
مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ
آلِهَةً يُعْبَدُونَ)
(٤٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ..
عشا عن الشيء يعشو
، عشوا : فعل فعل الأعشى ، وهو كليل البصر ..
والعشو عن ذكر
الرحمن ، الإعراض عنه ، مع قيام الحجج والبراهين بين يديه ، كما يعشو بعض الناس فى
ضوء النهار لآفة تعرض لأبصارهم ..
فالذى يعرض عن ذكر
الرحمن هنا ، هو من قامت بين يديه الدلائل ، والحجج على صدق الرسول ، وصدق ما جاء
به من عند الله .. فهذا المعرض عن ذكر الله ، يقيّض الله له شيطانا ، أي يسوق
ويهيىء له شيطانا (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي ملازم له ، مسلط عليه ، يقوده إلى حيث يشاء .. فهو
شيطان مع الشيطان حيث يكون ..
وفى اختصاص صفة
الرحمن بالذكر هنا من بين صفات الله سبحانه وتعالى ـ تذكير بهذه الرحمة المنزلة من
الرحمن ، وهى القرآن ، وهى التي يعرض عنها أصحاب القلوب المريضة ، فيتسلط عليهم
الشيطان ، ويملك أمرهم .. وإنها لمفارقة بعيدة أن يرى الإنسان يد الرحمن الرحيم
تمتد إليه بالرحمة ، ثم ينظر فيرى يد الشيطان الرجيم تمتد إليه بالبلاء والشقاء ..
ثم يكون له ـ مع هذا ـ موقف للنظر والاختيار .. ثم يكون فى الناس من يمد يده إلى
الشيطان مبايعا على أن يصحبه إلى حيث ما يرى رأى العين من شقاء وبلاء!.
قوله تعالى
(وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ..
الضمير فى (إِنَّهُمْ) للشياطين ، أي وإن الشياطين ليصدون المشركين عن سبيل الله
، ويدفعون بهم إلى طرق الغواية والضلال ، ويزينونها لهم حتى ليحسبون أنهم مهتدون.
فقوله تعالى : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) جملة حالية ، تكشف عن الحال الشعورية التي يكون عليها
المشركون وهم يركبون طرق الضلال .. فهم يساقون إلى الضلال وقد خيل إليهم أنهم
قائمون على الهدى ، مستمسكون بالعروة الوثقى!.
قوله تعالى :
(حَتَّى إِذا جاءَنا
قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) ..
حتى : حرف غاية ،
لما تضمنه قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ـ أي أن الشيطان
يظل فى هذه الحياة قرينا لصاحبه هذا الذي لزمه ، وأمسك بزمامه ـ إلى أن يجىء يوم الحساب
والجزاء .. وهنا يتخلى الشيطان عن صاحبه ، ويتخلى صاحبه عنه ، ويتولى كلّ منهما
رجم صاحبه بكل منكر ، وقذفه بكل تهمة .. وفى هذا يقول الله تعالى ، عن الكافرين
أصحاب الشياطين : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩ : فصلت) ويقول
سبحانه عن الشيطان : (وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢٢ : إبراهيم)
ويقول سبحانه وتعالى عن إخوان السوء ، ورفاق الضلال : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧ : الزخرف) ..
وقوله تعالى : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ) ـ هو بيان لما
فى نفس هذا الضال
الذي عشى عن ذكر الرحمن ، وأصبح من قرناء الشيطان ـ من ضيق بصاحبه ، ومن حسرة وندم
على تلك الصلة التي كانت بينهما ، والتي أوقعته فيما هو فيه اليوم من بلاء وعذاب
.. ولهذا فهو يتمنى أن لو لم يجمعهما فلك ، وأن لو كان كلّ منهما فى عالم غير
العالم الذي يعيش فيه صاحبه ..
فقوله تعالى : (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) ـ إشارة إلى
استحالة الالتقاء بينهما ، كما يستحيل التقاء مشرق الشمس شتاء بمشرقها صيفا ..
مثلا ..
وأما قوله تعالى :
(وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ـ فهو اعتراض بين
الآيتين ، يراد به الإلفات إلى أن الحكم الذي يقع على الواحد من أتباع الشيطان ،
هو حكم عام يشمل أتباع الشياطين جميعا ، وأنهم كلهم قرناء سوء ، كلما كثرت أعدادهم
؛ زاد إغواؤهم ، وإضلال بعضهم بعضا ، حيث تشتد داعية الإغراء والإغواء ، كلما كثرت
الأعداد المتزاحمة على موارد الغواية والضلال.
قوله تعالى :
(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).
الخطاب هنا
للفريقين .. التابعين والمتبوعين .. إنه لن ينفعهم اشتراكهم جميعا فى العذاب ..
ولن يشفى ما بصدور الضالين من نقمة وحنق على من كانوا سببا فى إغوائهم وإضلالهم ـ أن
يلقى هؤلاء المغوون ما يلقون من عذاب وبلاء .. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان
التابعين ، وهم يطلبون مزيدا من العذاب لمن كانوا سببا فى فتنتهم وبلائهم : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا
هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) فيجيبهم سبحانه بقوله :
(قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ
وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨ : الأعراف)
ويقول سبحانه على لسان أئمة الكفر ، ودعاة الضلال ، وهم يردّون على أتباعهم الذين
يتمنون لهم عذابا فوق العذاب : (إِنَّا كُلٌّ فِيها
إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٨ : غافر).
فالمراد بقوله
تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ) ليس نفى مجرد النفع ، وإنما المراد به النفع الذي يخلصهم
من هذا العذاب ، ويخرجهم من هذا البلاء .. إذ لا شك أن فى رؤية التابعين مشاركة
سادتهم لهم فى العذاب ، بعض العزاء لهم ، وإن كان هذا لا يخفف من العذاب الذي هم
فيه شيئا.
قوله تعالى :
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
الاستفهام هنا
يراد به النفي .. أي إنك أيها النبىّ لن تسمع الصمّ ، ولن تهدى العمى ، ولن تنقذ
من كان فى ضلال مبين ..
وفى هذا عزاء
للنبىّ الكريم عن مصابه فى هؤلاء الضالين المفسدين من قومه .. الذين ركبوا رءوسهم
، ومضوا يتخبطون فى طرق الغواية والضلال ، غير ملتفتين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى
النجاة ، ويرفع لهم بين يديه نورا كاشفا من نور الله ..
وفى هذا أيضا
تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون
أنهم مهتدون .. فليتركهم النبىّ مع قرنائهم هؤلاء ، فإنه ـ صلوات الله وسلامه عليه
ـ لم يبعث ليسمع الصمّ أو يهدى العمى .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ
ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١ : النمل).
قوله تعالى :
(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ).
أي أن هؤلاء الصمّ
، العمى ، الذين ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ـ هؤلاء
هم واقعون تحت بأس الله ، مأخوذون بعذابه .. فى الدنيا وفى الآخرة ..
ففى قوله تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا
مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) ـ إشارة إلى أنهم
لن يفلتوا من قبضة الله ، ولن يخلصوا من العقاب الراصد لهم ، سواء أكان ذلك فى
حياة النبىّ أو بعد موته .. فإنه إن ذهب الله سبحانه بالنبيّ ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ ورفعه تعالى إليه ، فإن انتقام الله سبحانه واقع بهم ، وليس على النبىّ أن
يشهد هذا الانتقام ، وإنما حسبه أن الله سبحانه آخذ له بحقه من هؤلاء الذين ظلموه
، وبغوا عليه ..
وقوله تعالى : (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) إشارة أخرى إلى ما قد يحل بالمشركين من انتقام الله فى
الدنيا ، مما توعدهم الله به ، ومما يراه النبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيهم
، وذلك بما كان من قتل رءوس المشركين يوم بدر ، ومن خزيهم يوم الخندق ، ثم ذلّتهم وانكسارهم
يوم الفتح .. فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شىء ، غالب على أمره .. ولكن أكثر
الناس لا يعلمون ..
قوله تعالى :
(فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
هو تعقيب على ما
توعد الله سبحانه وتعالى به المشركين ، من انتقام على
تكذيبهم للرسول ،
واستهزائهم به ، واستكثارهم عليه أن يكون مبعوث الله إليهم ، دون سادتهم وأشرافهم.
وفى هذا التعقيب
دعوة من الله سبحانه إلى النبي الكريم ألّا يحفل بهؤلاء المشركين ، وألا يفتّ ذلك
من عزمه ، وألا يقف به ذلك عن المضىّ فى سبيله ، مستمسكا بالذي أوحى إليه من ربه
.. وفى هذا يقول له الله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠ : المزمل).
ويقول له سبحانه : (وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى
بِاللهِ وَكِيلاً) (٤٨ : الأحزاب).
وفى قوله تعالى : (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تحريض للنبىّ ، وتثبيت لقلبه .. ليمضى فى طريقه ، مع كتاب
الله الذي بين يديه .. فإنه به على صراط مستقيم .. صراط الله الذي له ما فى
السموات وما فى الأرض .. ومن كان على هذا الصراط فهو على طريق النجاة ، والفلاح ..
إنه على نور من ربه .. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠ : النور).
قوله تعالى :
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ)
هو تحريض كذلك ،
وشدّ لعزم النبىّ على الاستمساك بهذا الكتاب الذي بين يديه ، فإن فيه ذكرا للنبىّ
، ولقومه ، وتمجيدا له ولهم على مرّ الأزمان .. إذ كان القرآن بلسان النبىّ ولسان
قومه ، وكان الرسول المبلغ لرسالة القرآن عربيا من هؤلاء العرب .. وإنه مادام
للقرآن ذكر ، ولرسالة القرآن ذاكرون ـ وهذا ما قدر الله له أن يكون إلى آخر الزمان
ـ فإن ذكر الرسول باق ، وذكر قومه باق كذلك .. فما آمن مؤمن بالله ، ولا
دان ذو دين
بالإسلام ، إلا كان إيمانه برسول الله ، وبكتاب الله ، من تمام إيمانه بالله ..
وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى على النبىّ صلوات الله وسلامه عليه ، إذ رفع
فى العالمين ذكره ، وأعلى فى المصطفين من عباده منزلته ، كما يقول سبحانه : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤ : الانشراح) ..
كما أنه إحسان عظيم ، ونعمة سابغة على الأمة العربية ، التي اختارها الله سبحانه
وتعالى ، لتكون الأفق الذي تطلع فيه شمس الهداية المرسلة إلى العالمين ، وليكون
لسانها اللسان الذي ينقل إلى الناس هذا الهدى المرسل إليهم من ربهم .. وهذا ما
يشير إليه قوله تعالى. (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣ : الزخرف)
وقوله تعالى : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) .. إلفات إلى هذه النعمة العظيمة التي امتنّ الله بها على
الأمة العربية ، إذ اختارها لحمل هذه الأمانة العظيمة .. وإنها لمسئولة عن حفظ هذه
الأمانة ، وعن حراستها من كل عاد يعد وعليها ، كما أنها مسئولة عن أداء هذه
الأمانة إلى أهلها ، وإزاحة المعوقات والعلل من طريقها ، وإلا كان الحساب العسير
على أي تقصير أو تفريط يقع من أولئك الذين حملوا هذه الأمانة .. أفرادا وجماعات.
إن الدعوة إلى
الإسلام ، هى مسئولية هذه الأمة التي جاءت شريعة الإسلام بلسانها .. وإنه لشرف
عظيم لهذه الأمة ، يكسو أفرادها وجماعاتها على مدى الأجيال ، أثواب العزّة والفخار
..
ولهذا الشرف
العظيم ثمن عظيم ، يؤديه كل من يريد أن يتحلى بهذا الشرف ، بما يبذل من جهد ، ومال
، وجهاد فى سبيل الله ، وتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن دين الله ، وكتاب الله ..
قوله تعالى :
(وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ) ..
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الآية السابقة أشارت إلى هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها
على الأمة العربية ، بأن جعل خاتم الرسل منها ، وجعل خاتم الرسالات دينها وشريعتها
، وجعل لها القوامة على هذا الدين ، وتلك الشريعة .. وهذا من شأنه أن يثير فى نفوس
العرب حمية وغيرة على هذا الدين واجتماعا على نصرته والدعوة له ، لا أن يكون منهم
العدوّ الراصد له ، المتربص به ، الخارج على طريقه ..!!
فقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ـ إلفات إلى هؤلاء
المشركين الذين يعبدون ما يعبدون من دون الله ، من أوثان ، وكواكب ، وملائكة ،
وإلى أن ما هم عليه من هذا المعتقدات ليس من دين الله فى شىء .. وأن دين الله هو
إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية المبرأة عن الشريك ، والصاحبة والولد .. فمن أىّ
رسول من رسل الله تلقى المشركون هذا الدين الذي يدينون به؟ أكان من رسل الله من
دعا إلى عبادة غير الله؟ وحاش لله أن يحمل رسول من رسل الله دعوة إلى عبادة غير
الله!! إذ كيف يكون رسولا لله من يدعو لغير الله؟
والسؤال من النبىّ
لرسل الله هنا ، ليس سؤالا مباشرا ، بحيث يسأل الرسل ويتلقى الجواب منهم .. وإنما
هو سؤال بالنظر فيما قصّ الله سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسل ، ومحامل
رسالاتهم إلى أقوامهم .. فقد كانت دعوة كل رسول إلى قومه : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ
إِلهٍ غَيْرُهُ).
فهذا نوح ـ عليهالسلام ـ يقول لقومه : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٢٦ : هود).
وهذا هود ـ عليهالسلام ـ يقول لقومه : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٥٠ : هود).
وصالح ـ عليهالسلام ـ يقول لقومه : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٦١ : هود) ..
وإبراهيم ـ عليهالسلام ـ يقول لأبيه
وقومه : (ما ذا تَعْبُدُونَ؟ أَإِفْكاً
آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) (٨٥ ؛ ٨٦ :
الصافات).
وشعيب ـ عليهالسلام ـ يهتف بقومه : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٨٤ : هود).
وهكذا كانت دعوة
الرسل إلى أقوامهم ، تدور كلها حول تصحيح معتقدهم فى الله ، وإقامة وجوههم إلى
الله وحده لا شريك له ..
وفى نظر الرسول ـ عليه
الصلاة والسلام ـ إلى أخبار الرسل مع أقوامهم يجد أن دعوتهم قائمة على توحيد الله
، وتحرير العقول من ضلالات الشرك به. وكأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذا ، قد سأل
الرسل ، وتلقى الجواب منهم.
وليس الرسول ـ عليه
الصلاة والسلام ـ فى حاجة إلى أن يسأل عن أمر هو عالم به ، ولكن هذا السؤال منه ،
هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يشاركوا فى هذا السؤال ، وأن يتلقوا الجواب عليه ،
حتى يكون لهم من ذلك علم يصححون به معتقداتهم الفاسدة ، التي جاء رسول الله ـ عليه
الصلاة السلام ـ لعلاج ما بها من أدواء ، كما جاء رسل الله جميعا بدواء تلك
الأدواء.
____________________________________
الآيات : (٤٦ ـ ٥٦)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
وَما
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ
بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا
أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا
لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)
(٥٦)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ) ..
مناسبة هذه القصة
هنا ، هو هذا الشبه القريب بين فرعون ، وبين فراعين قريش ، الذين كانوا ينظرون إلى
النبىّ من سماء عالية ، من الغرور الكاذب ، والوهم الخادع ، فيكذّبون رسول الله ،
ويهزءون به ، لا لشىء إلا لأنه ليس أكثرهم مالا ، ولا أوسعهم غنى ، وإنهم لينكرون
أن يختار الله لرسالته من لا يختارونه هم للرياسة عليهم ، والسيادة فيهم .. (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!) (٣١ : الزخرف).
وقصة موسى مع
فرعون ، هنا ، هى مرآة يرى المشركون على صفحتها
وجوههم المنكرة فى
شخص فرعون ، وماركبه من غرور واستعلاء ، حتى أورده ذلك وقومه موارد الهلاك ..
قوله تعالى :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) .. هو رجع لصدى هذه الضحكات الهازئة الساخرة التي كان
المشركون يلقون بها النبي ، كلما طلع عليهم بآية من آيات الله .. كما يقول الله
تعالى فى آية تالية من هذه السورة : (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي يضجون بالضحك الهازئ ، الساخر .. وكما يقول سبحانه : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ؟
وَتَضْحَكُونَ؟ وَلا تَبْكُونَ؟) (٥٩ ـ ٦٠ : النجم).
قوله تعالى :
(وَما نُرِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ).
هو إشارة إلى ما
كان بين يدى موسى من آيات عجبا ، عرضها على فرعون وملائه ، آية آية .. ليكون لهم
فى هذا مزدجر ، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا ، وضلالا .. وفى قوله تعالى : (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) ـ إشارة إلى
الآثار التي كانت تحدثها هذه الآيات فى حياة القوم .. فكانت تنتقل بهم من سيىء إلى
أسوأ .. كما يقول الله سبحانه : (فَأَخَذْناهُمْ
بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (٤٢ : الأنعام).
والمراد بالآيات
هنا هى تلك الآيات التي أرسلها الله عليهم بالبلاء بعد البلاء .. كما يقول سبحانه
: (فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ
مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣ : الأعراف).
قوله تعالى :
(وَقالُوا يا أَيُّهَا
السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ).
أي أنهم كانوا
كلما نزل بهم البلاء ، وأحاط بهم الكرب ، جاءوا إلى موسى يسألونه أن يرفع عنهم هذا
البلاء ، على أن يؤمنوا بالله الذي يؤمن به هو ، ويدعوهم إليه ..
وفى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) ـ إشارة كاشفة عما
فى نفوسهم من إصرار على الكفر ، وإن نطقت ألسنتهم بالإيمان .. فهم لا يرون فى موسى
إلا ساحرا كبيرا. وأنه قادر بسحره هذا على أن يسوق إليهم البلاء ، وأن يمسكه إذا
شاء .. فهم بهذه الصفة يتعاملون معه .. أما دعواه بأنه رسول من رب العالمين ، فهذا
ادعاء لم يصحّ عندهم ، وإن قبلوه منه ، فهو إلى أن ينكشف البلاء عنهم .. (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ
قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا
كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٤ ـ ١٣٥ :
الأعراف).
وفى قوله تعالى : (رَبَّكَ) ـ اعتراف ضمنى
منهم ، بأنهم على ما هم عليه من كفر بالله .. فهو رب موسى .. وليس ربّهم .. وهو
الذي عهد إلى موسى بهذا السحر الذي بين يديه ، وعلّمه إياه ..
قوله تعالى :
(فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ).
أي فلما استجاب
الله لموسى فيما طلبه من رفع البلاء عنهم ، لم يستقيموا على العهد الذي عاهدوا
موسى عليه ، من الإيمان بالله ، بعد رفع البلاء عنهم .. بل نكثوا العهد ، وأمسكوا
بما هم عليه من كفر ..
قوله تعالى :
(وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (إِذا هُمْ
يَنْكُثُونَ) .. أي لم يكتفوا بنكث العهد ، بعد أن رفع عنهم البلاء ،
الذي كان مشتملا عليهم ، ولم يشكروا الله على العافية ، بل ازدادوا كفرا وضلالا ،
فجمع فرعون قومه ، وحشدهم بين يديه ، ليعيد إليهم ثقتهم فيه ، وإيمانهم به ، بعد
هذه الزلزلة العاتية التي أصابتهم من هذا البلاء الذي لم يجدوا من فرعون حيلة
يحتال بها لدفعه ، حتى اضطروا إلى الوقوف بين يدى موسى موقف التذلل والرجاء ،
طالبين إليه كشف الضر عنهم ، فكان لهم ما طلبوا!! وهذا موقف من شأنه أن يذهب بهيبة
فرعون ، ويتحيّف سلطانه القائم فى قومه ، فكان هذا التدبير الذي جاء عقب هذه
التجربة التي دخل فيها القوم بيد موسى ، ثم أخرجوا منها بيد موسى أيضا ..
(وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ .. قالَ يا قَوْمِ : أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ .. وَهذِهِ
الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي .. أَفَلا تُبْصِرُونَ؟).
ومن أنكر على
فرعون هذا الملك الذي له؟ إنه هو الذي ينكر على نفسه هذا الملك ، بعد أن رأى كيف
تهزه الأحداث ، وتزلزله النكبات ، وتكاد تبتلعه الأمواج المضطربة ، وهو لا يملك
لذلك دفعا!! فأين سلطانه؟ وأين جبروته؟ لقد تعرّى من كل شىء ، وأصبح فى هذه المحنة
نبتة هزيلة ، تعصف بها الرياح فيما تعصف به من نبات وأعشاب! إنه يلوذ بموسى عدوّه
، طالبا أن يمد إليه يده ليدفع عنه هذا البلاء الذي نزل به ..
إن فرعون هنا يفكر
بصوت عال ـ كما يقولون ـ فهو بهذا الحديث إلى قومه ، يكشف عما يشعر به من ضياع
لسلطانه ، وذهاب لهيبته. وهو بهذا الحديث يتحسس وجوده الذي ذهب ، وسلطانه الذي ضاع
.. تماما كما يفعل من صحا من حلم مزعج ، رأى فيه أنه سقط من قمة جبل فتحطم ،
وتبدّد
أشلاء ، إنّه
ليتحسس جسده ليرى إن كان حيّا أو هو فى عالم الأموات ، وإن كان هو فى يقظة أو فى
حلم!.
وفى قوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) طلب من فرعون لمزيد من الصفعات على وجهه ، ليتأكد له أنه
موجود على قيد الحياة ، وأنه لا يزال قائما على كرسى الملك .. وإن من شك فى ذلك
فلينظر .. فها هو ذا فرعون .. وها هو ذا عرش فرعون .. وها هو ذا قائم على كرسى
مملكته!! إنه الغريق الذي احتواه اليمّ ، وقد بئس الذي ينظرون إليه من نجاته ،.
وهو يهتف بهم : أنا هنا .. ما زلت حيّا .. فلا تهيلوا التراب علىّ!!.
قوله تعالى :
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) ..
أم هنا للإضراب
على تلك المشاعر التي يراها فرعون تتحرك فى صدور قومه ، من استخفاف به ، وإكبار
لموسى .. فهو يقول لهم : لا تظنوا هذه الظنون بموسى ، ولا تجعلوه معى على كفة
ميزان .. إنه ليس مثلى ، ولا خيرا منّى .. بل أنا خير من هذا الذي هو مهين ، لا
ملك معه ، ولا سلطان له ، ولا منطق مستقيم على لسانه ..
ومن قال من القوم
إن موسى خير منه؟.
إن فرعون نفسه هو
الذي يقول هذا ، وإنه ليرى موسى ، وقد نازعه سلطانه ، بل وانتزعه منه .. وإن فرعون
لينزل من سمائه العالية ، ويرضى أن يكون هو وموسى على كفتى ميزان .. على أن تكون
كفته أرجح من كفة موسى .. أنا خير منه!!.
لقد نفذ القرآن
الكريم بهذه الكلمات القليلة ، إلى أغوار النفس الإنسانية
ورصد حركاتها
وسكناتها ، وكشف عما يندس فى مساربها من خواطر وتصورات ، وما يزدحم فى أعماقها من
رؤى وخيالات ..
وهذا وجه من وجوه
الإعجاز القرآنى ، يطالع من ينظر فيه متأملا ، آيات بينات ، تشهد بأن هذا القرآن
هو من كلام رب العالمين ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. تنزيل
من حكيم حميد ..
قوله تعالى :
(فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ).
إن فرعون إذ يجلس
على كرسى عرشه ، فزعا مضطربا ، ليرى ـ بلمح الخاطر ـ يد موسى تكاد تمتد إليه
وتنتزعه من هذا العرش ، ثم يرى هذه اليد عطلا من كل حلىّ ، على حين يرى يديه هو قد
حليتا بأساور من ذهب ، مما يدل على أنه الملك الجدير بالجلوس على هذا العرش ـ وهنا
يجدها فرعون فرصة ليضع فى كفة ميزانه ثقلا جديدا تثقل به كفته ، على حين تخف كفة
موسى .. فيقول : (أَنَا خَيْرٌ مِنْ
هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) .. ثم أنا خير من هذا الذي لم تحلّ يده بحلية من ذهب ، شأن
الملوك وأصحاب السلطان .. فلو أن هذا الإنسان كان رسولا من عند الله حقّا لما ضنّ
عليه ربه بأن يلقى عليه أسورة من ذهب ، كأمارة على أنه موفد من جهة عالية ، ذات
بأس ، وذات سلطان! فإن لم يكن أهلا لأن ينال من ربه هذه المكرمة ، أفلا جاء معه
ملك أو ملائكة من السماء ، يشهدون له أنه رسول من عند الله؟ فإذا لم يكن هذا أو
ذاك ، فبأى وجه يكون لموسى مقام بيننا ومكانة فينا؟.
واقتران الملائكة
: هو اتصالهم ومرافقتهم لموسى.
قوله تعالى :
(فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).
أي أن فرعون استخف
بعقول قومه ، واستصغر أحلامهم ، فتحدث إليهم بهذا الحديث الذي لا يقبله عقل ، ولا
يستسيغه عاقل .. ومع هذا فقد تلقاه القوم بالتسليم والطاعة ، ولم يقم من بينهم
قائم ينكر هذا القول المنكر ، ويسفه هذا المنطق السفيه .. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ..) أي كانوا على ما
كان عليه فرعون من سفاهة ، وجهل ، فراجت عندهم هذه البضاعة الفاسدة! وهكذا يستغلظ
الضلال ، وتنتشر سحبه القائمة فى المواطن التي تقبل الباطل ، وتستجيب له .. تماما
كالبرك والمستنقعات ، تتداعى عليها الهوامّ والحشرات ، وتتوالد وتتكاثر فى أعداد
لا تعدّ ولا تحصى ..
وإنها ليست
مسئولية داعية الضلال وحده ، بل هى كذلك مسئولية .. الذين يستجيبون له ، ولا
ينكرون عليه المنكر الذي يدعوهم إليه .. ومن هنا كان الأمر بالمعروف ، والنهى عن
المنكر مسئولية منوطة بكل مجتمع إنسانىّ ، فى أفراده وجماعاته ، إذ كانت الجماعة
أشبه بالجسد ، فيما يعرض له من عوارض العلل والآفات .. فأى عضو فى الجماعة ، يعرض
له عارض من عوارض الفساد ، يهدد الجماعة كلها بتلك الآفة ، التي إن لم تجد من يطبّ
له منها ، سرت عدواها فى المجتمع كله ، وتهددت وجوده ..
قوله تعالى :
(فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ).
وهكذا كانت عاقبة
الجماعة كلها .. داعية الضلال ، ومن ضلّ بضلاله .. لقد أخذهم الله جميعا بعذابه ،
فأغرقهم كما أغرق فرعون ..
وفى قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ، قد أمهل هؤلاء
الضالين ، ومدّ لهم فى ضلالهم ، حتى يكون لهم فسحة من الوقت ، يراجعون فيها أنفسهم
، ويعدّلون موقفهم المنحرف .. فلما لم يكن لهم فى هذا الإمهال ، وفى تلك المطاولة
، إلا الإمعان فى الضلال ، والإسراف فى العناد ـ أخذهم الله بذنوبهم ، ولم يكن لهم
من دون الله من ولى ولا نصير.
فقوله تعالى : (آسَفُونا) أي أسخطونا عليهم .. والله سبحانه وتعالى «حليم» فلا يغضب
الله إلا على من أخذه بحمله ثم لم يزده الحلم إلا سفها وجهلا ..
قوله تعالى :
(فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ).
أي أن العذاب الذي
أخذ به هؤلاء الضالون ، المسرفون فى الضلال ، كانا عذابا يضرب به المثل من بعدهم ،
ويرى الخلف عبرة وعظة فيما نزل بهذا السلف ..
____________________________________
الآيات : (٥٧ ـ ٦٥)
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧)
وَقالُوا
أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ
عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُونَ
(٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا
تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ
الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى
بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ)
(٦٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ).
يصدّون : أي
يتصايحون ، ويكثرون من الضجيج ، شأن الجماعة يطلع عليها أمر على غير ما تتوقع ،
وهى فى مأزق حرج ، فتتعلق بهذا الأمر الذي ترى فيه فرجا ومخرجا ، فتصيح بصيحات
الفرح المجنون ، الذي تختلط فيه الأصوات ، فلا يعرف الكلمات مدلول ، وإن عرف
للإشارة والحركات مفهوم ، يدل على الفرحة والابتهاج.
ومناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن قصة موسى مع فرعون انتهت بتلك النهاية التي كانت مثلا فيما
تنتهى إليه طريق الضالين ، المكذبين بآيات الله وبرسل الله .. وإن فى هذا المثل
لعبرة لمعتبر ، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وفى عيسى بن مريم
مثل بارز ، لمن يتعقل الأمثال ، وينتفع بها ..
ففى ميلاده هذا
الميلاد العجيب ، من غير أب ـ مثل شاهد على قدرة الله ، وعلى أنه سبحانه يخلق ما
يشاء ، على غير مثال سبق من تلك المخلوقات ، التي تجرى على طريق الأسباب الظاهرة
لنا .. فالله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات جميعا ..
وفى هذا الميلاد
العجيب ، الذي يبدو لنا من خلق عيسى عليهالسلام من غير أب ، إشارة دالة على أكثر من أمر ..
فأولا : أن صفة
هذا الميلاد الذي يكاد ينفرد به عيسى من بين بنى الإنسان ؛ لا يصحّ أن يكون داعية
لبعض الناس إلى عبادته ، وإلى رفعه عن مقام المخلوقين من مخلوقات الله .. فما هو
إلا عبد من عباد الله ، وخلق من خلقه .. وأنه إذا كان قد ولد من غير أب ، فالإنسان
ـ أصلا ـ خلق من غير أب وأم .. (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩ ؛ آل عمران)
فعيسى وآدم عند الله على سواء .. كلاهما مخلوق لله .. سواء منهما من خلق ابتداء من
غير أب ولا أم ، أو من خلق من أمّ دون أب ..
ومن هنا ، فلا
يكون لأولئك الذين يعبدون عيسى ، ويجعلون له نسبة خاصة بالله ـ لا يكون لهم حجة يتخذونها
من ميلاده الذي جاء على تلك الصفة ..
وأنه إذا كانت لهم
حجة ، فهى من واردات الأوهام والضلالات ، كتلك الحجج التي يقيمها عبّاد الأحجار
والأصنام والكواكب ، والملائكة على معبوداتهم .. فالذى يعبد الحجر لا يعدم أن يجد
له منطقا يعبده عليه ، تماما كالذى يعبد الشمس ، أو القمر ، أو الملائكة ، أو الجن
.. فكل
معبود من تلك
المعبودات له عند من يعبده وجه يعبده عليه ، ومنطق يتعامل به معه ..
وثانيا : أن ميلاد
عيسى على غير الأسلوب الذي ولد عليه سائر الناس ، دليل على قدرة الله التي لا
تحكمها الأسباب .. وأن الله سبحانه قادر على كل شىء ..
وأنه سبحانه بهذه
القدرة قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم ، وأن يحيى هذه الأجساد بعد أن أبلاها
البلى ، وذهب التراب بمعالمها ..
وفى قوله تعالى : (ابْنُ مَرْيَمَ) دون ذكر عيسى باسمه ، أو لقبه «المسيح» ـ فى هذا إشارة إلى
أنه ابن امرأة ، هى مولود من مواليد الإنسانية .. فهو ـ أيّا كان ميلاده ـ ثمرة من
شجرة الإنسانية ، موصول نسبه بنسبها .. أيّا كان لون هذه الثمرة ، أو طعمها!!.
وفى قوله تعالى : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ـ إشارة إلى هذا
اللغط والصخب ، الذي أثاره المشركون عند ضرب هذا المثل فى تشبيه خلق عيسى بخلق آدم
، كما يقول الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩ : آل عمران)
.. فقد انتهزها المشركون فرصة يشغبون بها على النبي ، ويأخذون منها الحجة عليه من
لسانه ، بهذا المثل الذي ضربه ..
فهو سبحانه يقول
لهم : إن عيسى بشر مثل سائر البشر ، وإنه مولود من الإناء الذي يولد منه كل إنسان
، وهو رحم الأم .. وهم ـ أي المشركون ـ يقولون للنبى : هذا عيسى ، هو بشر ـ كما
تقول ـ وقد عبده من هم أهل كتاب سماوى ، ولا بد أن تكون هذه العبادة عن دعوة من
الله لهم ـ وإذن فعبادة غير الله
جائرة عند الله ..
ونحن إنما نعبد الملائكة الذين هم بنات الله .. والذين نتمثلهم فى هذه الأصنام
التي نسميها بأسمائهم ، كهبل ، واللّات ، والعزّى ، ومناة .. فأىّ خير؟ آلهتنا تلك
التي هى بنات الله؟ أم المسيح الذي هو ابن مريم؟ وإذا كان الله قد رضى لأهل الكتاب
أن يعبدوا ابن امرأة ، أفلا يرضى الله لنا أن نعبد الملائكة .. وهن بنات الله؟.
هذا منطق القوم
الذي استخرجوه من هذا المثل الذي ضرب لهم فى خلق عيسى .. وهو منطق قائم على
المماحكة والسفسطة .. إنهم أمسكوا بمقدمات باطلة ، ثم خلصوا منها إلى نتائج فاسدة
..
فمن قال لهم إن
عبادة الذين يعبدون المسيح قائمة على الحق؟ إنها كفر وشرك بالله ، مثل كفرهم
وشركهم ، بما يعبدون من هذه الآلهة التي أقاموها بأيديهم ، وسموها بأسماء الملائكة
كما يقول الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (١٩ ـ ٢٢ النجم)
..
إن عبادة الذين
يعبدون المسيح قضية أخرى .. لم يكن من شأن الدعوة الإسلامية أن تعرض لها فى هذا
الدور الذي تواجه فيه هؤلاء المشركين من قريش .. وتعلّق المشركين بهذه القضية فى
هذا الوقت ، ودعوة النبي إلى الدخول معهم فى مناقشتها والفصل فيها ـ هو مما يجعل
المعركة بين النبي وبين المشركين تنتقل إلى ميدان آخر ، يقفون هم فيه موقف
المتفرجين .. وهذا من شأنه أن يغمد سيوف الحق التي تضرب فى وجوههم ، من قبل أن
توقع الهزيمة بهم .. ولهذا جاء القرآن الكريم مبطلا مكرهم هذا بقوله سبحانه : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ..
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .. أي ما ضربوا هذا
المثل الذي يوقع
الشبه بينهم وبين أتباع المسيح الذين يعبدونه ، من جهة ، وبين آلهتهم التي
يعبدونها ، وبين المسيح ـ من جهة أخرى ـ ما ضربوا هذا المثل إلا جدلا ، أي لأجل
الجدل الذي يصرف عن الحق ، وبعمّى السبل عنه .. وهذا شأن القوم فى أكثر أمورهم ..
فهم قوم خصمون .. أي شديد والجدل فى الخصومة .. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم
: (وَتُنْذِرَ بِهِ
قَوْماً لُدًّا) (٩٧ : مريم) أي
شديد والدد والعناد فى الخصومة ..
وفى قوله تعالى : (قَوْمُكَ) إشارة إلى قوم آخرين ، لهم خصومة فى ابن مريم ، وهم أتباع
المسيح الذين يعبدونه ..
قوله تعالى :
(إِنْ هُوَ إِلَّا
عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ..
هذا هو مقطع القول
فى المسيح ، بلا جدل ، ولا مماحكة .. ما هو إلا عبد من عباد الله ، ورسول من رسله
، أنعم الله عليه بالرسالة ، وجعله معلما من معالم الهدى لبنى إسرائيل ، بعد أن
ماجوا فى الفتن ، وغرقوا فى الضلال .. فإذا ضل فيه الضالون ، وفتن به المفتتنون ،
فليس فى هذا حجة يحتج بها المشركون على النبي ، ويتخذون منها ذريعة لتبرير منكرهم
الذي هم فيه ، من عبادة الملائكة الذين نصبوا لهم هذه التماثيل ، وأطلقوا عليها ما
أطلقوا من أسماء ..
قوله تعالى :
(وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ).
هو ردّ على
المشركين الذين ينظرون إلى الملائكة نظرة ترفعهم إلى مقام
الألوهية .. بهذا
النسب الذي ينسبونهم به إلى الله .. وهذا نظر فاسد .. فإنه مهما يكن مقام المخلوق
فى المخلوقات ، فإنه عبد من عباد الله ، وخلق من خلقه ، يعبد الله ويسبح بحمده ،
شأنه فى هذا شأن كل مخلوق لله .. (لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧٢ ـ ١٧٣ :
النساء).
فهذا هو المسيح ـ على
ما يرى الناس من عجيب مولده ـ وهؤلاء هم الملائكة ـ على ما يرى الناس من عظمة
خلقهم ، وقربهم من ربهم ـ إنهم جميعا عبيد لله : (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦ : التحريم) .. فكيف
يعبد العبد مع السيد ، ويؤلّه المخلوق مع الخالق!
وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) ـ أي أنه لو شاء
الله لجعل الناس على صورة الملائكة ، خلقا وتكوينا ، ولأقامهم على خلافة الأرض
ملائكة لا بشرا .. فإن الذي خلق الملائكة جندا فى السماء قادر على أن يخلق ملائكة
ليكونوا خلفاء فى الأرض .. وفى هذا تذكير للناس بهذه الخلافة التي لهم على هذه
الأرض .. وأن الله سبحانه وتعالى قد جعلها للناس دون الملائكة الذي طمعوا فيها ،
ورأوا أنهم أحق من البشر بها ، كما يقول الله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠ : البقرة) وفى
هذا ما يرى منه هؤلاء المشركون الذين يعبدون الملائكة أنهم إنما يعبدون خلقا مثلهم
، أرادوا مرّة أن يكون لهم ما للإنسان من هذا السلطان الذي له فى هذه الأرض .. فكيف
يجوز فى عقل عاقل أن يعبد الإنسان من كان يطمع فى أن
يكون فى منزلته؟
.. أليس ذلك تدلّيا وسقوطا؟ وبلى إنه التدلّى السفيه ، والسقوط المهين! قوله تعالى
:
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).
هو تعقيب على قوله
تعالى فى شأن عيسى : (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ).
وهذا التعقيب يجب
أن يكون من كل عاقل على ما سمع من قول الله تبارك وتعالى فى شأن عيسى ، وأنه عبد
من عباد الله ، وأنه إذا كان المشركون المعاندون قد تعلقوا بحبال الضلال من هذا
المثل ، واستخرجوا منه هذا المنطق الفاسد الذي تصابحوا به فرحا ـ فإن العاقل ليجد
فى هذا المثل دليلا يستدلّ به على البعث ، فيزداد إيمانا به ، ويقينا بأن الساعة
آتية لا ريب فيها ..
أي (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي وانه ، أي ابن مريم ـ فى الميلاد الذي ولد به ـ ليفيد
علما بالساعة ، أي بالبعث ، حيث يتجلى فى خلقه على تلك الصورة بعض من مظاهر قدرة
الله ، وأن البعث الذي ينكره المشركون ، استعظاما له ، إذ يقولون : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٧٨ : يس).
ويقولون : (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣ : ق) ـ هذا
البعث ، هو أمر واقع تحت سلطان قدرة الله التي لا يعجزها شىء .. فمن نظر إلى ميلاد
المسيح الذي جاء على غير تلك الأسباب التي يعرفها الناس ، لم ينكر البعث وإعادة
الحياة إلى من فى القبور ، وإن جاء على غير ما يعرف الناس من أسباب .. وهذا هو
العلم الذي يستدل به أولو النظر ، على إمكان البعث ، والحساب ، والجزاء ، إذا هم
نظروا نظرا مستبصرا فى ميلاد المسيح على تلك الصورة الفريدة التي ولد بها ..
وقوله تعالى : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) هو تعقيب على قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ) ..
بمعنى أنه إذا كان
ميلاد المسيح يفيد علما بإمكان البعث ، ومجىء الساعة ـ فإنه يجب الا يمترى فيها
الممترون ، وألا يجادل فيها المجادلون ، وألا يكذب بها المكذبون ، وبين أيديهم
الدلائل والشواهد عليها ..
وقوله تعالى : (وَاتَّبِعُونِ .. هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) معطوف على قوله تعالى : (فَلا تَمْتَرُنَّ
بِها) أي فدعوا المراء
والجدل فى الساعة ، والتكذيب بها ، واتبعون فيما أدعوكم إليه أيها المشركون من
الإيمان بالله ، واليوم الآخر .. فهذا هو الصراط المستقيم ، الذي يسلك بمن يأخذ
طريقه عليه ، إلى غايات الأمن ، والسلامة ، والنجاة ..
قوله تعالى :
(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ
الشَّيْطانُ .. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ..
هو معطوف على قوله
تعالى : (وَاتَّبِعُونِ هذا
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي اتبعونى ولا تتبعوا ما يدعوكم إليه الشيطان ، الذي
يصدكم عن اتباع هذا الصراط المستقيم الذي أدعوكم إليه .. فأنا أدعوكم إلى الخير ،
وأرتاد لكم طريق النجاة ، لأنى محبّ لكم ، حريص على سلامتكم ونجاتكم .. أما
الشيطان ، فهو عدو ظاهر العداوة لكم ، لا يدعوكم إلا إلى ما فيه بلاؤكم وهلاككم.
قوله تعالى :
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى
بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ..
أي أنه لما جاء
عيسى إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات ، بما أجرى الله سبحانه وتعالى على يديه من
معجزات ، وبما أجرى على لسانه من الكلم الطيب الحكيم ، الذي يشفى سقم العقول ،
وآفات القلوب ـ لما جاء إلى بنى إسرائيل (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي أن هذا الذي جئتكم به من آيات بينات ، هو مما أمرنى
الله سبحانه وتعالى أن أحمله إليكم من عنده لأطبّ لكم به من عللكم وأدوائكم
العقيلة والروحية والجسدية .. (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ـ أي ولأكشف لكم
عن مواقع الحق فيما اختلفتم فيه من التوراة ، وأحكامها .. وهذا ما يشير إليه
سبحانه وتعالى فى آية أخرى على لسان المسيح : (وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٥٠ : آل عمران).
فالمسيح لم يجىء
إلى بنى إسرائيل داعيا لهم أن يعبدوه من دون الله ، كما ذهب إلى ذلك أهل الضلال
ممن عبدوه ، وجعلوه إلها .. وفى هذا يقول الله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ
اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ
كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما
أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٦ ـ ١١٧ :
المائدة).
قوله تعالى :
(فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ) أي أنه قد وقع الخلاف بين بنى إسرائيل فى شأن المسيح ، وفى
مفهوم
دعوته التي جاءهم
بها ، فكانوا فى ذلك أحزابا وشيعا.
ففريق منهم بهته
وكذبه ، ورماه وأمه بالفحش والزور من القول .. وقالوا إنه ابن زنى ، وإن أمه جاءت
به من سفاح!
وفريق غالى فيه ،
ورفعه إلى مقام الألوهية .. فقالوا إنه الله تجسد فى مريم ، وجاء على صورة المسيح!
وهكذا هلك
الفريقان فيه ..
وبين هذين
الفريقين فرق أخرى كثيرة ، بعضها مبالغ ، وبعضها مقتصد ..
وفى قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ
عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) وعيد لهذه الفرق المنحرفة جميعها .. فكلّ جائر ، حائد عن
طريق الحقّ فى المسيح ، وفى المفهوم الذي فهموه عليه .. فهو ليس إلها ولا ابن إله
، كما زعم أنصاره وأتباعه .. وهو ليس ابن زنى ، ولا كذابا ، ولا دجالا ، كما رماه
بذلك المفترون الضالون من اليهود .. وإنما هو كما قال الله سبحانه وتعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا
عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ).
____________________________________
الآيات : (٦٦ ـ ٧٣)
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧)
يا
عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)
الَّذِينَ
آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)
يُطافُ
عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ
الْأَعْيُنُ
وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
وَتِلْكَ
الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ)
(٧٣)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).
هو عودة بالخطاب
إلى المشركين ، بعد أن ضرب لهم المثل بالمسيح بن مريم ، وبما كان منهم من شغب فى
هذا المثل ، وما كان من بنى إسرائيل من خلاف فى شأنه .. وفى هذا الخطاب الاستفهامى
تهديد للمشركين بما سيحل بهم ، إذا هم أمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال .. فماذا
ينتظرون؟ إنه ليس وراء هذا الانتظار إلا أن يموتوا على شركهم ، وإلا أن يجدوا
أنفسهم فجأة ، وعلى غير توقع منهم ـ أنهم بين يدى عذاب الله ، الذي أعدّ للضالين
المكذبين ..
قوله تعالى :
(الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)
الأخلاء : جمع
خليل .. وهو الصاحب الذي اتصل الودّ بينه وبين صاحبه ..
والمعنى : أنه فى
يوم القيامة يشغل كل إنسان بأمر نفسه ، لما يرى من أهوال هذا اليوم .. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٤ ـ ٣٧ : عبس)
.. هذا شأن الناس جميعا .. أما أهل الضلال ، وإخوان السوء ، فإن لهم إلى هذا الشأن
شأنا آخر .. وهو أنهم
يترامون بالتهم ،
ويتقاذفون باللعنات .. كل منهم يلقى باللأئمة على صاحبه ويقول له أنت الذي دعوتنى
إلى كذا وكذا من المعاصي ، وأنت الذي زينت لى كذا وكذا من الشرور ، كما يقول الله
سبحانه على لسان المستضعفين ، ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ
عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ). (٣٨ : الأعراف).
وكما يقول سبحانه
عن أهل الضلال جميعا : (ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥ : العنكبوت)
..
وقوله تعالى : (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) استثناء من هذا الحكم العام : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) .. فليس كل الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو .. وإنما هذا
الحكم واقع على إخوان السوء ، وأهل الضلال .. أما أهل الإيمان ، والتقوى ،
المتحابون فى لله ، المجتمعون على ذكره وطاعته ـ فهؤلاء يلقى بعضهم بعضا بالحمد
والثناء ، حيث كان بعضهم لبعض ناصحا وهاديا ..
قوله تعالى :
(يا عِبادِ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ..
هو دعاء من رب
كريم ، لعباده المتقين ، الذين استخلصهم سبحانه من بين هذه الجموع المتخاصمة
الملاعنة من أهل الفسق والضلال ..
فأهل المحشر جميعا
بعضهم عدو لبعض إلا المتقين ، الذين ينادون من قبل الرحمن بقوله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ..
وفى نداء المتقين
من بين هذا المعترك الصاحب من حولهم ، وفى إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى : (يا عِبادِ) ؛ لطف من لطف الله بهم ، حيث تسكن بهذا النداء الكريم
نفوسهم المضطربة ، وتطمئن قلوبهم الواجفة ، لما يرون من تناهش أهل الضلال حولهم ،
وتراميهم بالعداوة والشنآن .. فإذا سمعوا هذا النداء الكريم بأن لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون أمنوا من خوف ، واطمأنوا من فزع .. إنهم ناجون وحدهم من بين الركب الذي
تتخبط به السفينة فى متلاطم الأمواج ، وتوشك أن تهوى إلى القاع!.
قوله تعالى :
(الَّذِينَ آمَنُوا
بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ).
هو وصف لهؤلاء
العباد ، الذين ناداهم الحق جل وعلا بقوله : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) .. فهم إنما استحقوا هذا التكريم من الله سبحانه وتعالى ،
بندائهم ، وبإضافاتهم إلى ذاته جل وعلا .. لأنهم آمنوا بآيات الله .. وكانوا
مسلمين ..
وفى وصفهم
بالإيمان ، ثم وصفهم بأنهم كانوا مسلمين قبل أن يكونوا مؤمنين ـ فى هذا إشارة إلى
أنهم قبل أن يؤمنوا على يد الرسل ، ويصدّفوا بآيات الله التي فى أيديهم ـ كانوا
مسلمين ، أي على فطرتهم السليمة ، التي لم تفسدها الأهواء الموروثة ، لقل كانوا
على السلامة والبراءة ، حتى إذا التقوا برسل الله ، ونظروا فيما معهم من آيات ،
استجابوا لدعوة الحق ، وآمنوا بآيات الله .. أشبه بالأرض الطيبة ، التي احتفظت بكل
ما فيها خير ، حين لم تجد الماء الذي يحيى مواتها ، حتى إذا غائها الغيث ، اهتزت
وربت وأنبتت من كل زوج كريم .. وليس كذلك الأرض الخبيثة ، فإنها حين
لا تجد الماء ،
حيث تنضح بكل ما فيها من خبث ، فتصبح منبتا للحسك والشوك ، ومأوى للآفات والهوام
..
وقوله تعالى :
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ).
بعد أن يجتمع
المؤمنون على هذا النداء الكريم من ربهم ، يدعوهم الله سبحانه وتعالى إلى ضيافته
فى الجنة .. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي حيث تلقون المسرة والحبور مع أزواجكم اللاتي آمنّ معكم
..
وبهذا يكمل أنسهم
، ويتم نعيمهم ..
قوله تعالى :
(يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ
الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) ..
فى الانتقال من
الخطاب فى قوله (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) إلى الغيبة ، فى قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) بدلا من «يطاف عليكم» ـ فى هذا إلفات للأنظار إلى هذا
النعيم الذي يساق إلى عباد الله المتقين ، الذين استضافهم سبحانه وتعالى فى رحاب
كرمه ، وأنزلهم منازل رضوانه .. وفى هذا ما يبعث فى قلوب المكذبين والضالين ، من
حسرات ، إلى ما هم فيه من آلام ، وأحزان ، كما أنه يضاعف من نعيم أهل هذا النعيم ،
حيث ينظرون إلى أنفسهم وإلى ما هم فيه من عافية ، وحيث يلقى غيرهم صنوف البلاء
والهوان ..
وفى قوله تعالى : (بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) ـ إشارة إلى
الطعام
وهو فى آنية
الطعام ، وهى الصحاف ، جمع صحفة .. وإلى الشراب وهو فى آنية الشراب ، وهى الأكواب
: جمع كوب .. وهى جميعا من ذهب ..
وقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) ـ إشارة أخرى إلى
أن وراء هذه الأطعمة والأشربة التي يطاف على أهل الجنة بها ـ وراء هذه الأطعمة كل
ما تشتهى الأنفس من طيبات .. فلا يطلب أحد شيئا إلا وجده حاضرا بين يديه ، كما
يقول الله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (٣١ : فصلت) ..
وقوله تعالى : (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ـ إشارة ثالثة إلى
ما للأعين من متع خاصة ، تجدها فيما ترى من آيات الله ، وبديع صنعه فى هذه المنازل
الكريمة ، التي استضافهم الله سبحانه وتعالى فيها ..
هذا ، وقد تأول
بعض المفسرين قوله تعالى : (وَتَلَذُّ
الْأَعْيُنُ) بأنه النظر إلى الله سبحانه وتعالى ، حيث لا يكمل نعيم أهل
الجنة إلا بالنظر إلى الله سبحانه ، فيتجلى الله سبحانه وتعالى على أهل الجنة ،
فيكون لهم من ذلك ما لا يحيط به الوصف من رضا ورضوان ..
هذا وقد أشرنا فى
أكثر من موضع إلى أن هذه الأوصاف الحسية التي يذكرها القرآن لنعيم الجنة ، من
ألوان الطعام والشراب ، وأنواع اللباس والحلىّ ـ كلها مما يساق إلى أهل الجنة ،
الذين كانوا يشتهون هذه الأمور فى الدنيا ، ثم تقصر أيديهم عنها ، أو كانوا يحرمون
أنفسهم منها ، ابتغاء مرضاة الله!.
فكان من تمام
إكرامهم ، أن يجدوا بين أيديهم كل ما كان من نعيم الدنيا ، الذي فاتهم حظهم منه ..
عجزا ، أو استعلاء ..
قوله تعالى :
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ).
الإشارة إلى الجنة
هنا ، هى دعوة لأهلها إلى أن يزفّوا إليها ، وأن ينالوا منها ما يشاءون .. فقد
أصبحت ملكا لهم ، يتصرفون فيها تصرف المالك فيما ملك ..
وقد عبّر القرآن
عن الملك بالميراث ، لأمرين :
أولا : أن الوارث
لا يبخل على نفسه بالتمتع بكل ما ورث ، حيث لا يشتد حرصه عليه ، لأن ما ورثه قد
جاء إليه من غير عناء .. وفى هذا دعوة إلى أهل الجنة أن ينالوا من هذا النعيم
الموروث ما يشاءون ، غير مضيقين على أنفسهم فى شىء ..
وثانيا : أن هذه
الجنة التي نزل المؤمنون رحابها ، وورثوا نعيمها ـ هى فضل من فضل الله عليهم ،
وإحسان من إحسانه إليهم ، وأن أعمالهم الصالحة التي عملوها فى الدنيا ليست هى
الثمن الذي يكافىء هذا النعيم العظيم .. وأن هذه الأعمال لم تكن إلا سببا ووسيلة
يتوسلون بها إلى مرضاة الله .. كما يتوسل الوارث إلى مورثه بسبب من قرابة ونسب ،
فتكون هذه القرابة سببا لميراث ما يرث ، وإن لم يكن له فيما ورثه من عمل ..
أما قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ـ فهو لتحقيق
أمرين كذلك ..
أولهما : الاحتفاء
بالأعمال الصالحة ، والإشارة بقدرها ، وإلى أنها تثمر ثمرا طيبا .. وأن من يغرس فى
مغارسها لا بد أن يجنى منها ثمرا طيبا مباركا ..
وثانيهما : تكريم
العاملين ، وإطعامهم من ثمرة عملهم .. ففى هذا لذة مضاعفة لهذا الثمر الذي غرسوا
مغارسه ، وتعهدوها بالعمل .. على خلاف ما يناله الإنسان عفوا من غير عمل له ..
فإنه وإن كان طيبا كريما ، يجد فيه المرء هناءته وسعادته ـ فإنه يقوم معه شعور فى
النفس بأنه ليس ملكا خالصا لصاحبه ، وأنه أشبه بالضيف الوارد عليه .. وفى هذا ما
يزعج الإنسان عما يجد فيه من هناءة وسعادة ..
وفى التعبير
القرآنى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ما يجعل هذه الجنة ونعيمها ، ملكا ، مصفّى من كل شائبة ،
معزولا عن كل شعور يعزل الإنسان عن هذا النعيم ، أو يقطعه عنه .. فهى ميراث ينفق
منه الإنسان كيف يشاء ، وينال منه ما يريد .. وهى ثمرة عمل وجهد .. ومن حق العامل
أن ينعم بما عمل!.
____________________________________
الآيات : (٧٤ ـ ٨٣)
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)
أَمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
قُلْ
إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١)
سُبْحانَ
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(٨٢) فَذَرْهُمْ
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)
(٨٣)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ).
هو بيان لما يلقى
أهل الضلال والكفر من عذاب وبلاء فى الآخرة ، بعد هذا البيان الذي كشف عما
للمؤمنين المتقين عند الله من جنات ونعيم .. فالناس فى الآخرة فريقان : فريق فى
الجنة ، وفريق فى السعير .. فريق يتلقى الكرامة والتكريم ، وفريق يلقى الهوان
والعذاب ..
وفى التعبير عن
أهل الضلال بالمجرمين ، إشارة إلى أنهم أصحاب جنايات جنوها على أنفسهم وعلى غيرهم
من عباد الله .. وأن هذا العذاب الذي يعذّبون به فى الآخرة بالخلود فى نار جهنم ـ إنما
هو جزاء لهذه الجرائم التي اقترفوها فى دنياهم ..
قوله تعالى :
(لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).
هو صفة للعذاب
الذي يخلد فيه المجرمون .. فهو عذاب لا ينقطع عنهم أبدا ، ولا يفتر أو يضعف أبدا ،
بل هو متصل دائما ، وعلى حال واحدة من الشدة والبلاء ، وإن اختلف صورا وألوانا.
وقوله تعالى : (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) حال كاشفة عن هؤلاء المجرمين وهم يصلون هذا العذاب الأليم
.. والإبلاس : هو الوجوم ، والجمود ، من شدة الحزن واليأس .. فهم أجسام قد تبلدت
فيها العقول ، وجمدت منها المشاعر ، وذهلت النفوس ..
قوله تعالى :
(وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ).
أي أن هذا العذاب
الذي هم فيه ، لم يكن لظلم وقع عليهم ، حيث يراهم الرائي فيستفظع هذا العذاب ،
الذي لا ينقطع أبدا ، ويخيل إليه أنه ليس هناك من ذنب يستحق هذا العذاب الذي لا
تحتمله السموات والأرض .. وكلا فإنهم لم يظلموا ، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم ،
فأوردوها هذا المورد ، وسعوا بها إلى هذا البلاء ، فكفروا بالله ، وحاربوا الخالق
، وخرجوا بهذا على الولاء لله ، والانقياد لرب العالمين ، الذي انقاد له الوجود
كله ..
قوله تعالى :
(وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ).
مالك ، هو الملك
الموكّل بالنار من عند الله سبحانه وتعالى ، وهو الذي يقوم على أهل النار ، كما
يقوم السبحان على المسجونين ..
وفى قولهم : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ما يكشف البلاء النازل بهم ، كما يكشف اليأس الذي وقع فى
نفوسهم من أن ينالوا من الله خيرا .. فهم لا يرجون الله فى هذا اليوم ، ولا يطمعون
فى رحمته ، حتى إنهم لينادون مالكا : (يا مالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنا رَبُّكَ) ولم يقولوا «ليقض علينا ربنا» ـ إنهم على يأس من أن ينسبوا
إلى الله ، وأن يقبل الله منهم قولا .. وذلك من ضلالهم الذي صحبهم فى آخرتهم. فلم
يقدروا الله قدره .. ولم يروا سعة رحمته ..
وقوله تعالى : (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) ـ هو ردّ مالك على
ما طلبوه منه أن يسأل ربه القضاء عليهم ، وإهلاكهم ، حتى ينقطع عنهم هذا العذاب ..
وقول مالك : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) .. أبلغ من قوله إنكم لن تموتوا أو لن
يقضى عليكم ، لأن
قوله : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) يدل على أنهم لن يموتوا ، ولن يقضى عليهم ، كما يدل فى نفس
الوقت على أنهم لن يتحولوا عن حالتهم تلك التي هم فيها .. إنهم ماكثون فيما هم فيه
من عذاب أليم ، وعلى تلك الحال التي هم عليها ..
أما لو قيل لهم لن
يقضى عليكم ، أو لن تموتوا ، فقد يظلون أحياء ، ولكن فى غير صحبة هذا العذاب الذي
معهم! وإن كان ذلك بعيدا عن محامل اللفظ ، إلّا أن المكروب يتعلق بأوهى الأسباب ،
وفى هذا القول متعلق لهم ، وإن كان متعلقا كاذبا .. فجاء قوله تعالى : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) ليقطع حتّى هذا الوهم الذي يتعلقون به!.
قوله تعالى :
(لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ..
يكاد يجمع
المفسرون على أن هذا الخطاب موجه إلى أهل النار ، وأنه من مقول القول الذي ردّ به
مالك عليهم ، وأن جمع الضمير فى قوله (جِئْناكُمْ) لأن مالكا إنما يتحدث إليهم بلسان الملائكة الذين هو منهم
، والذين جاوءا إلى هؤلاء المشركين بالحق من ربهم ، فيما حملوا إلى رسل الله من
آيات الله!
وهذا مردود من
وجهين :
فأولا : فى قوله
تعالى : (وَلكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ما يشير إلى أن بعضا من المخاطبين بهذا الحديث غير كارهين
للحق ، بل هم مستعدون لقبوله ، والانتفاع به ..
وهذا لا يتفق مع
أهل النار ، الذين قيل إن هذا الخطاب موجّه إليهم ، إذ ليس فيهم أحد لم يكن كارها
للحق ، مجانبا له ، بل ومحاربا لكل من
يتجه إليه .. ولو
كان على غير تلك الصفة لما ورد هذا المورد ، ولما لقى هذا المصير المشئوم!!
وثانيا : أن قوله
تعالى فى الآية التالية : (أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ). ـ هو ـ وبإجماع المفسرين ـ خطاب إلى المشركين!
وهذا الخطاب ـ كما
ترى متصل بالكلام الذي سبقه ، إذ هو إضراب عنه ، وإنشاء لخطاب آخر معهم .. كما
سنرى ..
وعلى هذا ، فإن قوله
تعالى :
(لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ـ هو خطاب. من
الله سبحانه وتعالى للمشركين ، على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه ..
وفى هذا الخطاب
ردّ على هؤلاء المشركين ، الذين يدعون إلى هذه النار التي يعذّب فيها المجرمون ،
الذين نادوا مالكا قائلين : (لِيَقْضِ عَلَيْنا
رَبُّكَ) هؤلاء المشركون يدعون فى هذه اللحظة إلى تلك النار ، وهم
إذ يطلبون وجها للفرار منها ، يلقاهم هذا القول الذي يمسك بهم ، ويدفعهم دفعا إلى
جهنم : (لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) .. والمخاطبون بهذا إنما هم أكثر المشركين الذين كانوا إلى
هذا الوقت يقفون من الله هذا الموقف العنادي ، فأبوا أن يستمعوا لآيات الله ، وأن
يستجيبوا لها .. أما الذين استجابوا للرسول ، وآمنوا بالله ، فقد كانوا قلة قليلة
منهم ..
ولهذا صح أن
يخاطبوا بقوله تعالى : (وَلكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ..
قوله تعالى :
(أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ).
هو إضراب عن هذا
الخطاب الذي وجه إليهم ، والذي كان من شأنه أن يحدث لهم ذكرا ، وأن ينقادوا للحق ،
ويذعنوا له .. وأما ولم يكن لهم من هذا الحديث عبرة وعظة ، فقد كان من التدبير
الحكيم أن يطوى عنهم هذا الحديث ، وأن يواجهوا بهذا الواقع الذي هم فيه ، وهو أنهم
قد أبرموا أمرهم وأحكموه على هذا الضلال ، والله سبحانه قد أحكم أمره ، على أن
يأخذ المجرمين يجرمهم .. وفى هذا وعيد لهم بما سيلقون من عذاب أليم ، يوم لا يغنى
مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
قوله تعالى :
(أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ).
هو إضراب أيضا عن
الخطاب الذي وجه إليهم فى قوله تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) .. حيث أن هذا الوعيد الذي يحمله الخطاب إليهم لم يلق منهم
إلا استهزاء ، واستخفافا ، لأنهم على ظنّ بأن لا بعث ، ولا حساب ، ولا جزاء ..
وأنه إذا كان بعث وحساب وجزاء ـ فأين هى أعمالهم التي يحاسبون عليها؟ ومن رآها
منهم وأحصاها عليهم؟ وإذا كان هناك من يرى أعمالهم الظاهرة التي يعملونها على مشهد
من الناس ، فأين من يعلم ما يعملونه فى الخفاء ، وما يضمرونه فى الصدور؟.
فجاء قوله تعالى :
(أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟) ليكشف عن هذا الوسواس ، الذي توسوس به لهم ظنونهم الكاذبة
، عن علم الله سبحانه وتعالى ، وليقرر لهم الحقيقة التي غابت عنهم ، وهى أن كل شىء
عملوه فى السرّ أو فى الجهر ، يعلمه الله الذي لا تخفى عليه خافية .. بل وليس هذا
فحسب ، بل إن أعمالهم كلها ـ سرها وجهرها ـ مسجلة فى كتب يكتبها رسل من عند الله
موكّلون بهم .. (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨ : ق)
قوله تعالى :
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).
هو بيان للموقف
الذي يتخذه النبي من دعوى المشركين بأن لله ولدا ، وهم الملائكة الذين نسبوهم إلى
الله ، ثم عبدوهم من دونه ..
فلو أنه سلّم بهذا
الأمر جدلا ، وكان للرحمن ولد كما يزعمون ـ فهذا لا يجعل للولد مكانا متقدما على
الوالد ، حتى يؤثر بالعبادة من دونه .. فالوالد مقدّم على الولد رتبة وزمانا ..
فهو بهذا معبود قبل أن يوجد الولد .. فإذا وجد الولد بعد هذا ، فليس له أن يزيل
الوالد عن مكانه! وعلى هذا ، فإنه لو سلّم للمشركين بما يقولونه من أن لله ولدا ،
فإن هذا لا يعطيهم حجّة على عبادة الولد دون الوالد .. ولهذا كان أن واجههم النبي
بما ينبغى أن يكون عليه الأمر ـ على فرض التسليم بدعواهم الباطلة ـ وهو أن النبىّ
أول العابدين لله ، دون التفات إلى هذا الولد على فرض التسليم به ..!
وهذا الأسلوب فى
محاجّة الخصم ، هو أبلغ الأساليب فى إفجامه ، وقطع حجته ، وذلك بإقامة الحجة عليه
من واقع إقراره واعترافه ، عملا بالمثل القائل : «من فمك أدينك».
قوله تعالى :
(سُبْحانَ رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
هو تنزيه لله
سبحانه وتعالى عن هذا القول الذي يقوله المشركون بالله ، من نسبة الولد إليه ،
والذي سلم به جدلا ، لإظهار فساد منطقهم حتى مع هذا المدعى الباطل الذي يدّعونه
على الله .. أما الله سبحانه وتعالى فهو منزه عن أن يكون له ولد .. تعالى الله عن
ذلك علوّا كبيرا.
قوله تعالى :
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ..
هو استصغار لأحلام
هؤلاء المشركين ، وأنهم أشبه بالأطفال ، يخوضون ويلعبون ، فلا معتبر لما يقولون ..
لأنهم يرمون بالكلام على عواهنه ، دون أن يكون لعقولهم نظر فيه ، أو تقدير له ،
ولهذا فإن الأولى بالنبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن ينصرف عنهم ، وأن يدعهم
لما هم فيه من لهو ولعب ، حتى تقع بهم الواقعة ، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون
..
____________________________________
الآيات : (٨٤ ـ ٨٩)
(وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
وَلا
يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)
وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ
إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
فَاصْفَحْ
عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
(٨٩)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).
هو بيان لقدرة
الله ، وجلاله ، وعظمة ملكه ، واقتدار سلطانه ..
فهو سبحانه ،
المتفرد بالألوهة فى السماء .. لا شريك له فيها .. وبهذا يدين له أهل السماء
بالعبودية ..
وهو سبحانه ،
المتفرد بالألوهة فى الأرض .. لا شريك له فيها .. وبهذا يدين له أهل الأرض بالولاء
ويخصّونه بالعبادة .. وأنه إذا كان فى الناس من ضلّ وغوى ، فانحرف عن هذا الوضع
الذي يتخذه أهل السماء والأرض ، فإنهم ـ مع هذا ـ مقهورون لله ، واقعون تحت سلطانه
.. طوعا أو كرها ، كما يقول سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣ : مريم) وكما
يقول جل شأنه ، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (١٥ : الرعد).
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ـ إشارة إلى
الصفتين الكريمتين اللتين يتجلّى الله سبحانه وتعالى بهما على ملكه فى السموات
والأرض .. وهما : الحكمة والعلم فكل ما خلق الله سبحانه ، موزون بميزان الحكمة ،
مقدر بقدرها .. وكل ما فى السموات والأرض ، واقع فى علم الله (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ
فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (٣ : سبأ) وهكذا
كل أمر ـ صغر أو كبر ـ إنما ملاكه الحكمة والعلم .. فبالحكمة يقوم الأمر ، وبالعلم
تضبط مصادره وموارده ، ولهذا كان مما طلب به «يوسف» القيام على تدبير خزائن الأرض ـ
أنه حفيظ عليم ، فقال للملك : (اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ .. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥ : يوسف) والحفظ
شعبة من شعب الحكمة!.
قوله تعالى :
(وَتَبارَكَ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
هو تسبيح بحمد
الله وتقديس لجلاله ، بلسان كل مخلوق فى السموات والأرض .. فهو سبحانه ـ المتفرد
بالألوهة فى السماء ، والأرض .. ومن ثمّ كان كل من فى السموات والأرض لسان حمد لله
، وتسبيح لله ، وولاء لجلاله.
وفى قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تذكير للناس ـ وهم يشهدون جلال الله ، وعظمته فى هذا الملك
العظيم الذي له وحده ـ تذكير لهم بيوم الحساب والجزاء ، الذي لا يعلمه إلا هو ..
وذلك يوم يرجعون إلى الله ، ويجزى كل امرئ بما عمل ..
قوله تعالى :
(وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ) المراد بالمدعوّين من دون الله هنا ، هم الملائكة ، الذين
يعبدهم المشركون فى هذه الأصنام التي سموها بأسماء أطلقوها على بعض الملائكة ، مثل
اللات ، والعزى ، ومناة ، وغيرها ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (٢٧ : النجم)
وهؤلاء الملائكة
الذين يعبدهم المشركون فى تلك الأصنام التي يتمثلونها فيهم ـ وبتلك الأسماء التي
يسمونهم بها ـ هؤلاء الملائكة ، لا يملكون الشفاعة لأحد ، كما يتوهم هؤلاء
المشركون إذ يقولون عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣ : الزمر)
ويقولون فيهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ) (١٨ : يونس).
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) هو استثناء من عموم النفي الواقع على شفاعة الملائكة .. أي
أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق ، فآمن بالله ، ويرسل الله ، وباليوم
الآخر .. كما يقول الله تعالى : (لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٨ : الزخرف) ..
فهؤلاء الذين كرهوا
الحق وأنكروه ؛
ليس للملائكة شفاعة فيهم .. وهم أكثر المشركين .. أما من شهد بالحق من هؤلاء
المشركين ـ وهم أقلية ـ وآمنوا بالله ، وأخلصوا دينهم لله له ، فإن للملائكة شفاعة
فيهم ، تنال العاصين منهم .. وتلك الشفاعة ، هى الاستغفار لهم كما يقول الله تعالى
: (وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧ : غافر). فهذا
من شفاعة الملائكة للعصاة من المؤمنين .. وهى شفاعة مقبوله عند الله سبحانه وتعالى
..
وقوله تعالى : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
يمكن أن يكون حالا
من الاسم الموصول «الذين» أي أن الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق ..
وهم يعلمون هذا .. أي يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.
ويمكن أن يكون
حالا من الاسم الموصول (مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ) أي لا تشفع للملائكة إلا لمن شهد بالحق ، أي شهادة قائمة
على علم ، يملأ القلب إيمانا واطمئنانا ، لا مجرد شهادة ينطق بها اللسان دون أن
تقع من القلب موقعا ..
قوله تعالى :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
أي أن هؤلاء
المشركين إذا سئلوا عمن خلقهم ، لما وجدوا بين أيديهم إلا جوابا واحدا ، وهو أن
الله هو الذي خلقهم .. إنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن الملائكة الذين يعبدونهم ،
هم الذين خلقوهم ، وخلقوا من فى السموات والأرض .. بل إنهم ليعلمون أن الملائكة من
خلق الله ، وإن كانوا أبناء لله عندهم.
ومع هذا الإقرار
منهم بخلق الله لهم ، فإنهم لا يعبدون رب السموات والأرض ، الذي خلقهم ويعبدون
خلقا من خلقه .. وهذا منطق معكوس ، لا يلتقى أوله مع آخره .. ولذا جاء قوله تعالى
: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) منكرا على هؤلاء
المشركين هذا
الإفك والافتراء الذي جعلوا منه دينا يدينون به ، ولا مستند له من منطق ، حتى
منطقهم هم الذي ينتزع قضاياه من الوهم والضلال ..
قوله تعالى :
(وَقِيلِهِ يا رَبِّ
إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ).
القيل : معناه
القول .. والضمير المضاف إليه هذا القول ، هو للنبى صلوات لله وسلامه عليه ..
ومقول القول هو قوله تعالى : (يا رَبِّ إِنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ).
وهو مثل قوله
تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (٣٠ : الفرقان)
وقد اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فى الربط بين هذه الآية وما قبلها .. كما اختلف
القرّاء فى قراءة (وَقِيلِهِ) فقرىء بفتح اللام ، وقرىء بكسرها ، وقرىء بضمها .. ولكل
قراءة تأويل تؤول عليه ..
ولا نريد أن نعرض
لهذه المقولات ، فهى مبسوطة فى كتب التفاسير ، يرجع إليها من شاء مزيدا من العلم ،
أو الرياضة الذهنية ..
والذي نراه فى
تأويل هذه الآية ، ونرجو أن يكون بتوفيق الله صوابا ، هو ـ والله اعلم ـ أن الواو
فى قوله تعالى : (وَقِيلِهِ) .. هى بمعنى «مع» .. وعلى هذا تكون الآية مرتبطة بقوله
تعالى : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) .. فهذا الاستفهام ينكر عليهم أن يعبدوا غير الله ، وأن
ينصرفوا إلى غير خالفهم وخالق السموات والأرض ، الذي شهدت له بذلك ألسنتهم .. ومع
هذا فهم يعبدون غير الله ، بشهادة الواقع الذي هم فيه ، وبشهادة الرسول الذي خبر
حالهم ، وعرف الداء المتمكن منهم ، فقال شاكيا إلى ربه : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا
يُؤْمِنُونَ ..)
وتحرير المعنى ،
هو : إلى أين ينصرف هؤلاء المشركون ، مع شركهم الذي هم فيه ، ومع ما يرى الرسول من
حالهم فى المستقبل ، وأنهم ممن لا يرجى صلاحهم ، أو يتوقّع شفاؤهم من هذا الداء
الذي معهم؟.
ولهذا جاء قوله
تعالى بعد ذلك :
(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
ـ جاء رداّ على
قول النبي : (يا رَبِّ إِنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) وداعيا له إلى الرفق بهم ، ومقابلة جهلهم بالحلم ،
وسفاهتهم بالمغفرة والصفح .. وأنهم كلما قالوا فحشا وهجرا قال لهم سلاما ومغفرة ،
كما يقول سبحانه فى وصف عباد الرحمن : (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣ : الفرقان)
وكما يقول جل شأنه لنبيه الكريم : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩ : الأعراف).
وفى هذا ما يشير
إلى أن هؤلاء المشركين ينتظر منهم خير كثير ، وسيكون منهم بناة الإسلام ، ومادة
دولته التي ستظهر عما قريب .. وقد كان ، فدخل كثير من هؤلاء المشركين فى دين الله
، حتى أنه إذا جاء يوم الفتح لم يبق مشرك من قريش ـ خاصة ـ لم يدخل فى الإسلام.
وفى قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي أنهم هم الآن على جهل يزيّن لهم هذا الباطل الذي هم فيه
، ويغذيهم بهذا السفه الذي ترمى به أفواههم .. ولكنهم مع الزمن ، ومع ما يأخذهم به
الرسول الكريم من حلم ، وصفح ومغفرة ، سيعلمون بعد جهل ، ويؤمنون بعد كفر ..
ويصبحون جندا من جنود الله ، ورايات من رايات الإسلام التي تخفق فى آفاق الأرض ..
وليس هذا من الوعيد ، كما يذهب إلى ذلك جمهور المفسرين .. فإن السورة قد ختمت بهذا
الختام الذي يدعو النبي إلى الصفح والمغفرة والمسالمة .. ولا يتفق مع هذا
أن يلقى النبىّ
المشركين بالصفح والمسالمة ، ثم يلقاهم الله سبحانه بعد ذلك بالوعيد ..
هذا ، والله اعلم.
***
ونود هنا ، بعد
ختام هذه السورة أن نشير إلى أمر كان ملفتا للنظر .. فقد كثر فى هذه السورة ذكر
الاسم الكريم (الرَّحْمنِ) الذي تكرر فى سبعة مواضع من السورة هى :
(وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ...) الآية : (١٧)
(وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ...) الآية : (١٩)
(وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ...) الآية : (٢٠)
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ...) الآية (٣٣)
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ...) الآية : (٣٦)
(وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ ..) (٤٥).
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ...) الآية : (٨١)
ولذكر (الرَّحْمنِ) موقعه فى الآية التي ذكر فيها ، كما له حكمته التي تلتمس
من هذا الذكر فى هذا الموضع .. فحيث ذكر «الرحمن» جلّ وعلا ، كانت تجليات الرحمة ،
ورحمات الرحمن ، مبسوطة لكل طالب ، طالبة لكل
معرض فمن فاته حظه
من رحمة الله فى هذا المقام فهو الشقي المحروم من كل خير ..
ولكن الذي نريد أن
نقف بين يديه موقف النظر والاعتبار ، هو هذا الإكثار من ذكر هذا الاسم الكريم فى
تلك السورة ..
وبادىء ذى بدء ،
فإن تكرار هذا الذكر للاسم الكريم (الرَّحْمنِ) هو تأكيد لتلك الدعوة التي يدعو إليها الرحمن عباده ،
ويبسط بها يده تبارك وتعالى إليهم بالرحمة ، يلقاهم بها على كل طريق من طرق
الغواية والضلال التي يركبونها .. فهذا الذكر نداءات متتابعة ، إلى موارد هذه
الرحمة الواسعة .. وهذا التكرار فى ذاته ، هو رحمة من رحمة الله ..
ثم إنه ـ من جهة
أخرى ـ كانت السورة كلها معرضا لمواجهة المشركين بعبادتهم الملائكة ، على أنهم
أبناء الله ، وأنهم كانوا يعرفون الله تعالى ، ويعترفون بأنه خالق السموات والأرض ـ
كما أنه كان من أكثر أسماء الله عندهم هو اسم (الرَّحْمنِ) ولهذا كان الحديث إليهم عن الله باسم (الرحمن) إشارة إلى
أنه هو الإله لذى يدعون إلى عبادته ، وأن اسمه (الرَّحْمنِ) وأنه ليس له ولد .. ولهذا أنكروا أن يكون الرحمن الذي
يعرفونه ، هو الرحمن الذي يدعوهم النبي إلى عبادته ، كما يقول الله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا
لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ
نُفُوراً) (٦٠ : الفرقان) إن
الرحمن فى تصورهم هو أب لقبيلة كبيرة ، هى الملائكة!!.
ومن جهة ثالثة ،
فإن موقف هذه السورة من المشركين ، هو موقف ملاطفة ، وموادعة ، على مسيرة لدعوة
التي كثرت فيها القوارع التي يقرع بها
القرآن عناد
المشركين ، ويسفّه أحلامهم ، ويفضح جهلهم .. فكانت هذه السورة أشبه بالهدنة التي
يراجع فيها المتحاربون موقفهم ، وقد ينتهى الأمر إلى الصلح ، والسلام .. ومن أجل
هذا كثر فى السورة ذكر الرحمن الذي يذكّر بالرحمة التي ينبغى أن تكون بين النبي
وأهله .. ولهذا دعى النبي إلى أن يصفح عنهم ، وأن يلقاهم بالموادعة والسلام ، وقد
وعد بأنهم سيعلمون بعد الجهل ، ويؤمنون بعد الكفر ، فكان ختام السورة قوله تعالى :
(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلامٌ .. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ..
***
٤٤ ـ سورة الدخان
نزولها : مكية ..
باتفاق.
عدد آياتها : تسع
وخمسون .. آية ..
عدد كلماتها :
ثلاثمائة وست وأربعون .. كلمة.
عدد حروفها : ألف
وأربعمائة وواحد وثلاثون .. حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الزخرف»
التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) .. وقد قلنا إن هذا الختام يتّسق مع السورة التي كانت
تمثّل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية فى مواجهة المشركين ، وأن هذه المرحلة كانت
أشبه بالهدنة بعد هذا الصراع الذي كان محتدما بين النبي والمشركين ..
وقد بدئت سورة «الدخان»
، بذكر القرآن الكريم ، وأنه نزل فى ليلة مباركة ، يفرق فيها كل (أَمْرٍ حَكِيمٍ) وهذا البدء ، هو تحريك لمسيرة الدعوة ، بعد تلك الهدنة ،
ومن أول المسيرة يواجه المشركون بالقرآن الكريم ، وما يحمل إليهم من خير وبركة ،
وأنه إذا كان قد أنذرهم وتوعدهم بالعذاب ، فإنما ذلك لأنه حريص على هدايتهم ، ضنين
بهم على النار التي أعدت للكافرين ..
بسم الله الرحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات : (١ ـ ١٦)
(حم (١)
وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ
كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ
عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)
رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
(٨)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ
هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ(١٢)
أَنَّى
لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ
(١٣)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا
الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)
(١٦)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(حم وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ) ..
الليلة المباركة
هى ليلة القدر ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ) .. وليلة القدر ليلة من ليالى شهر رمضان الذي أنزل فيه
القرآن ، كما يقول الله سبحانه : (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (١٨٥ : البقرة) ..
وقد ذهب بعض
المفسرين إلى أنها ليلة النصف من شعبان. تلك الليلة التي اعتاد كثير من المسلمين
الاحتفاء بها ، وتلاوة بعض الأدعية المرتبة لها ، باعتبارها الليلة التي بفرق فيها
كل أمر حكيم ، وتقدر فيها الأرزاق والأعمار ..
وهذا بعيد عن
مفهوم الآيات الكريمة التي تنطق صراحة بأن الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن
هى ليلة القدر ، وأن شهر رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن ، وليس لشهر شعبان ولا
ليلة النصف منه أي إشارة فى القرآن الكريم ..
وعلى هذا ، فإن
ليلة النصف من شعبان ، ليست من الليالى الإسلامية ذات الشأن الخاص ، وإنما هى ليلة
من ليالى الزمن ، غير موسومة بسمة خاصة ، تمتاز بها على غيرها من الليالى ..
أما ليلة القدر ،
وهى الليلة التي أنزل فيها القرآن ، فهى ليلة باركها الله سبحانه وتعالى ،
واصطفاها من بين الليالى ، كما يصطفى من يشاء من عباده للنبوة .. فهى ليلة مباركة
، لأنها كانت ظرفا حاويا للرحمة المنزلة من السماء إلى الأرض ، وهى القرآن الكريم
..
ومعنى : (أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي ابتدأ نزوله فى ليلة القدر ، وابتداء النزول مؤذن
بنزوله كله تباعا بعد ذلك ..
وقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) ـ إشارة إلى أن
إنذار الناس ،
وتنبيهم من غفلتهم
، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ـ هو مما اقتضته رحمة الله بعباده .. والمراد
بالإنذار ما تحمله كلمات الله وآياته من تحذير من عذابه ، وتخويف بعقابه ، وذلك
ليستقيم الناس على الطريق السوىّ ، وليرجعوا إلى الله ، بعد أن تقطعت بهم السبل
إليه ..
وفى الاقتصار على
الإنذار ، مع أن رسالات السماء تحمل بين يديها ـ مع النذر التي تحملها إلى
المشركين ، والمكذبين ـ بشريات برضوان الله ، وجنات عرضها السموات والأرض أعدت
للمتقين ـ فى هذا إشارة إلى أن رسالات السماء إنما تجىء وقد ركب الناس رءوسهم ،
وتنكبوا عن طريق الحق ، وجرفهم تيار الضلال إلى حيث بشرف بهم على الهلاك ، فكان من
شأن من يخفّ للنجدة ، والإنقاذ ، أن ينفخ نفخة النذير ، وأن يصرخ فى هذا الموكب
المتجه إلى حافة الهلاك : أن قفوا ، وإلا فهو الهلاك وسوء المصير .. فإذا كان من
هؤلاء الضالين استماع لهذا النذير ، واستجابة لدعوته ـ كان للحديث عن الحياة
الجديدة التي يحياها الناس مع الايمان بالله والاستقامة على طريق الحق ، وما وراء
هذه الحياة من نعيم مقيم فى جنات عرضها السموات والأرض ، أعدت للمتقين ـ كان لهذا
الحديث آذان تسمع ، وقلوب تفقه ، وصدور تنشرح ، ونفوس تتهيأ للبذل والتضحية فى
سبيل هذا المعتقد الذي اعتقدته ، واطمأنت إليه ..
هذا ، ومن مبادئ
الشريعة : أنّ دفع المضار مقدم على جلب المصالح. وعلى هذا فالإنذار من الخطر هو
المطلوب أولا .. ثم يكون الاتجاه بعد هذا إلى جلب المنافع ..
قوله تعالى :
(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).
فرق الأمر : قطعه
، والفصل فيه .. ومنه الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل ..
والمعنى : أنه فى
هذه الليلة المباركة يقضى ويفصل كل أمر حكيم ، أي محكم ، لا ينقض ، ولا يبدل ..
والمراد بالأمر
الحكيم هنا ، هو القرآن الكريم ، الذي ابتدأ نزوله فى ليلة القدر ، وسمّى حكيما ،
لأنه قائم على الحكمة الإلهية ، مقدر بقدرها ، ولأنه كلام الله الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. (لا تَبْدِيلَ
لِكَلِماتِ اللهِ ..) (٦٤ : يونس).
وما يضاف إلى هذه
الليلة المباركة ، من البركة ، ومن القضاء بكل أمر حكيم فيها ، هو خاص بهذا الكوكب
الأرضى ، وبالإنسان الذي يقوم على خلافة الله فيه ، حيث لكل عالم نظامه الزمنى ،
وأوقاته المباركة ..
وقوله تعالى : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) منصوب على الاختصاص ، أي أخص وأعنى بهذا الأمر الحكيم ـ أمرا
صادرا من عندنا ، هو القرآن الكريم ..
وهنا سؤال ، وهو
كيف خصّ وصف الأمر بالحكمة هنا ، مع أن كل أمر يقضى به الله هو موصوف بالحكمة من
غير وصف؟
والجواب على هذا ـ
والله أعلم ـ أن وصف الأمر بالحكمة ليس وصفا مخصصا له ، وإنما هو وصف مؤكد للوصف
القائم فى ذات الأمر ومبين له ..
كما يقال فى وصف
العسل مثلا بأنه حلو ، وفى وصف المسك بأنه طيّب الريح.! ..
وسؤال آخر .. وهو
: كيف خصصت هذه الليلة بأنها يفرق فيها كل أمر حكيم؟ وهل يعنى هذا أنها الليلة
التي يقضى فيها الله سبحانه وتعالى بما يقضى ، ثم لا يكون له سبحانه قضاء فى غيرها؟
وكيف وهو سبحانه يقول : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ؟) (٢٩ : الرحمن).
والجواب على هذا ـ
والله أعلم ـ أن هذه الليلة ، كما قلنا ، خاصة بالعالم الأرضى ، وعلى هذا ، فإن ما
يقضى به فى هذه الليلة من عند الله يكون خاصا بهذا العالم ، وبالمخلوقات ، والكائنات
الموجودة فيه .. وهذا يعنى أن مقدرات ما يجرى على هذا العالم الأرضى فى مدة عام
مقبل يفرق ، ويقضى به فى هذه الليلة إلى مثلها فى العام القادم .. وهذا الذي يقضى
وإن كان قد قضى به أزلا ، فإن القضاء به فى تلك الليلة معناه نقله من اللوح
المحفوظ إلى جند الله من الملائكة الموكلين بإنفاذ ما قضى الله به ..
وقد كان مما قضى
الله سبحانه وتعالى فى تلك الليلة نزول القرآن ، وبعثة الرسول الكريم ، وذلك فى
عام البعثة النبوية .. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ، مشيرا إلى أنه مما قضى الله به فى عباده أن يبعث فى
هؤلاء الأميين رسولا منهم ، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
.. وذلك ليقيم الحجة على عباده ، وليأخذهم بذنوبهم إذا هم عصوا رسله وردوا الهدى
الذي يحملونه من الله إليهم .. كما يقول سبحانه : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥ : الإسراء)
وقوله تعالى :
(رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .. تعليل لبيان الحكمة التي من أجلها يرسل الله سبحانه
وتعالى الرسل إلى عباده .. فهو سبحانه إنما يرسلهم رحمة منه ، وفضلا وإحسانا ..
وإلا فإن مع كل إنسان رسولا يدعوه إلى
الإيمان بالله ،
وهو عقله ، الذي لو أحسن النظر به ، ووجهه نحو الاتجاه الصحيح لعرف ربه ، وآمن به
.. ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم ، أنه لم يدعهم لعقولهم التي
قد تضل وتزيغ ، فبعث إلى هذه العقول رسولا من عنده ، ينبه الغافل منها ، ويوقظ
النائم ، ويهدى الضال الحائر .. (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١٦٥ : النساء)
وفى وصف الله
سبحانه وتعالى بأنه : (السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) ـ إشارة إلى إن
هاتين الصفتين اللتين لله سبحانه ، قد جعل منهما للإنسان ما يقابلهما ، رحمة منه
وفضلا وإحسانا ..
فالإنسان من شأنه
أن يسمع ، وأن يكون سميعا ، ومن شأنه أن يعلم وأن يكون عليما .. وبهذا يرتفع إلى
هذا المستوي الكريم ، الذي أقامه الله سبحانه وتعالى فيه ، خليفة له على الأرض ..
وإن خير ما يسمعه
الإنسان ، من كلام ، وخير ما يتعلم من علم ، هو العلم المودع فى كتاب الله .. فمن
كانت له أذنان فليسمع ، ومن كان له قلب فليعقل!.
قوله تعالى :
(رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).
هو بدل من قوله
تعالى : (مِنْ رَبِّكَ) .. أي إنا أرسلناك رحمة من ربك ، رب السموات والأرض وما
بينهما ..
وفى قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ـ استدعاء لهؤلاء
المشركين
الذين سئلوا من
قبل فى آخر السورة السابقة : «الزخرف» : (مَنْ خَلَقَهُمْ) فقالوا : (اللهُ). (الآية ٨٧) ـ دعوة لهم أن يصححوا قولهم هذا الذي أنطقهم
الواقع به ، من غير أن يكون له رصيد من وعى ، وإدراك ، ونظر فى ملكوت السموات
والأرض .. ولهذا ، فإن هذا القول لم يقع من أنفسهم موقع اليقين ، أي المستيقن ،
المحقق ، الذي تدعمه الأدلة والبراهين .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟ (٢٠ ـ ٢١ : الذاريات).
فالآية الكريمة
دعوة إلى العلم الذي يقوم على النظر المتأمل ، والعقل المتيقظ ، والإدراك الفاقة
.. فهذا العلم هو الذي يقيم فى كيان الإنسان يقينا بما علم ، وعن هذا اليقين تتحرك
نوازع الإنسان ، وتتجه إرادته ، وتمضى عزيمته ، وفى صحبته شعلة من هذا العلم ،
تضىء له الطريق ، وتكشف له معالم الحق والخير ..
وفى قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ـ هو منطق
المستيقن ، الذي علم عن يقين ، أن الله رب السموات والأرض وما بينهما .. فمن علم
هذا واستيقنه ، أسلمه هذا العلم إلى أن يعلم ويستيقن أن رب السموات والأرض وما
بينهما ، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وأنه سبحانه هو الذي يحيى ويميت ، وأنه سبحانه رب الناس
جميعا .. السابقين والحاضرين واللاحقين ..
قوله تعالى :
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
يَلْعَبُونَ) ..
هو إضراب عن
الحديث إلى هؤلاء المشركين ، الذين دعوا ليسمعوا
كلام الله ، وليكونوا
من السامعين ـ فلم يسمعوا ، ولم يعقلوا .. فكان أن صرف الله سبحانه ، النبىّ عنهم
، لأنهم ليسوا أهلا لأن يقوم فيهم هذا المقام .. فهم فى شك يفسد عليهم كل أمر يتصل
بالرسول ، وما يتلوه عليهم .. وهم لهذا لا يستمعون إليه إلا استماع الأطفال الذي
يشغلهم اللعب عن كل حديث فيه جدّ ..
قوله تعالى :
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا
اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ
جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ، يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ..
اختلف المفسرون فى
هذا العذاب الذي يغشى الناس .. وأكثر المفسرين على أنه كان ضربا من العذاب أخذ
الله به المشركين ، استجابة لدعوة يقال إن النبي صلىاللهعليهوسلم دعا بها على مضر ، فقال : «اللهم اشدد وطأت ك على مضر
واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف » وقد اشتد القحط وعم الجدب ، حتى أكلوا الجيف والعلهز . قالوا وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان
يحدّث الرجل صاحبه ولا يراه لكثرة الدخان .. ثم إنهم جاءوا إلى الرسول مستشفعين ،
فشفع لهم ، وكشف الله الضر عنهم .. فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا ..
__________________
وقيل ـ وهو رأى
قلة من المفسرين ـ إن هذا الدخان الذي يغشى الناس هو ما يطلع على الناس يوم
القيامة من أهوالها ومرجفاتها ..
والرأى الأول هو
الذي نقول به ، وذلك لأمرين :
أولهما : ما جاء
بعد ذلك من قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا
الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ ..)
وعذاب الآخرة لا
يكشف عن أهل النار ليختبر بهذا الكشف ما عندهم من وفاء أو نكث بما عاهدوا الله
عليه ، إن كشف الضر عنهم .. فالآخرة دار جزاء ، وليست دار ابتلاء واختبار .. وهذا
يعنى أن الكشف المراد هنا ، هو كشف عذاب وقع بالقوم فى الحياة الدنيا ..
وثانيهما : ما جاء
بعد ذلك أيضا فى قوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى .. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) .. فهو وعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المشركين الذين
نقضوا ما عاهدوا الله عليه ، بأن يؤمنوا إذا كشف الضرّ عنهم .. فلما كشف عنهم
الضرّ عادوا إلى ما نهوا عنه.
وهذا يعنى أن
الفعل الذي وقع الوعيد عليه كان فى الدنيا ، لأنه لا وعيد على ما يقع من الناس فى
الآخرة ..
وقد يسأل سائل
فيقول : كيف يقع عذاب على هؤلاء المشركين ، وقد وعد الله سبحانه وتعالى النبي
الكريم ألا يعذّب قومه وهو فيهم ، كما يقول الله تعالى. (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣ : الأنفال)
فكيف هذا؟.
والجواب ـ والله
اعلم ـ أن هذا العذاب الذي لقيه المشركون من قحط أو قتل ، ليس هو العذاب الذي كان
يؤخذ به أقوام الرسل من قبل ، والذي
كان بلاء شاملا
يستأصل القوم ، ويأتى على كل شىء ، فلا تبقى منهم باقية .. كما حلّ بقوم نوح ،
وعاد ، وثمود ، وأصحاب مدين ، وقوم لوط .. وإنما هذا العذاب الذي نزل بالمشركين ،
لم يكن إلا وجها من وجوه الحياة التي كانوا يتقلبون فيها .. فإذا نزل بهم قحط ،
فقد عرفوا هذا القحط من قبل وذاقوا العذاب منه .. وإن أصيبوا فى أنفسهم فى معركة ،
من المعارك كيوم بدر ؛ فما أكثر المعارك التي أريقت فيها دماؤهم وأزهقت أرواحهم ..
ولكن الذي يجعل لهذا العذاب الذي ينزل بالمشركين طعما جديدا ، هو أنه يأتى على يد
النبىّ ، بدعائه عليهم ، وذلك فيما أصابهم من قحط ، أو على يد أصحابه يوم بدر .. فهذا
هو الذي يجعل لهذا العذاب حسابا خاصا عندهم ، وأثرا مضاعفا فى نفوسهم. هذا ما يشير
إليه القرآن الكريم ؛ فى قوله تعالى : (قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ
أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا
إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢ : التوبة) ..
فالنبىّ والمسلمون معه ، إنما يتربص بهم ، وينتظر أن يحلّ بهم عذاب من عند الله ،
وهو هذا القحط الذي حلّ بهم ، أو أن يحلّ بهم عذاب بأيدى المؤمنين ، وهو ما أصابهم
على أيدى المسلمين من خزى وهو ان فى ميادين القتال ، حتى لقد انتهى الأمر بدخول
المسلمين عليهم ، مكة ، واستسلامهم للنبىّ ، وإسلامهم لله رب العالمين ..
ومن جهة أخرى ،
فإن هؤلاء المشركين قد دخلوا جميعا فى الإسلام ، ولم يمت منهم على الكفر إلا أعداد
قليلة بالنسبة لمجموعهم ، سواء من مات منهم فى ميدان القتال بأيدى المسلمين ، أو
من مات حتف أنفه .. وهذا من شأنه ألّا يوقع حكما عاما على هؤلاء المشركين بالعذاب
الأليم يوم القيامة ، وذلك لأنهم سيصبحون عما قليل فى عداد المؤمنين بالله .. وعلى
هذا فإن
ما يتهددهم به
القرآن من عذاب ، هو العذاب الدنيوي ، الذي يرونه رأى العين ، والذي يكون فيه عبرة
وعظة ، تفتح لهم الطريق إلى الإيمان بالله ، كما يقول الله سبحانه عن غزوة بدر : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ .. إِنَّ
فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣ : آل عمران).
وقوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ
جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) .. هو استبعاد لأن يقع فى نفوس المشركين شىء من العبرة
والتذكر من هذا الابتلاء الذي ابتلوا به من القحط ، الذي كان آية على صدق النبىّ ،
وعلى صلته بربّه ، إذ كان هذا القحط دعوة مستجابة له من الله ، كما كان رفع هذا
البلاء عنهم استجابة أخرى للنبىّ من الله سبحانه وتعالى .. فهو معجزة من معجزات
النبىّ ، المادية ، بعد أن ملأ النبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ الدنيا عليهم ،
بالمعجزة الكبرى ، التي تطلع عليهم من آيات الله وكلماته .. فما ذا تفعل هذه الآية
فى نفوس تحدّت الرسول وما بين يديه من كتاب مبين ، تنطق آياته وكلماته بالمعجزات
التي لا تنتهى؟ لقد تولوا عنه ، وأعرضوا عن الاستماع إليه ، والنظر فيما بين يديه
، واتهموه بالكذب والافتراء والجنون ، وقالوا (مُعَلَّمٌ) أي علمه غيره ، و (مَجْنُونٌ) يهذى بهذا الذي اختطفه من علم العلماء!!
وفى وصف الرسول
الكريم بأنه (مُبِينٌ) ، إشارة إلى القرآن الكريم الذي بين يديه ، والذي فيه
البيان المبين إلى الهدى ودين الحق ، وأنه بهذا القرآن يقدم الحجة الدامغة ،
والسلطان المبين ، كما يقول سبحانه : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (٤٤ : النحل).
وقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً
إِنَّكُمْ عائِدُونَ) .. هو حكم
كاشف عن حال هؤلاء
المشركين مع تلك التجربة ، وأنهم سينكثون هذا العهد الذي عاهدوا الله عليه ، لو
أنه كشف عنهم العذاب ..
وفى قوله تعالى : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) .. هو إشارة إلى أنهم كانوا أثناء تلك المحنة قد اتجهوا
إلى الله ، وأخذوا طريقهم إلى الإيمان به ، فلما كشف الضرّ عنهم عادوا إلى ما
كانوا عليه من الكفر ، وانسحبوا من هذا الطريق الذي وضعوا أقدامهم عليه .. وهكذا
شأن أهل الضلال ، إذا مسّهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين ، فإذا كشف الضرّ عنهم
تولوا عنه معرضين .. وفى هذا يقول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها ، رِيحٌ عاصِفٌ
وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ
دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (٢٢ ـ ٢٣ : يونس).
وقوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى
إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي إننا منتقمون منكم أيها الضالون الناكثون للعهد ، وذلك
يوم نبطش بكم البطشة الكبرى ، وهذه البطشة الكبرى هى يوم بدر ، حيث قتل من رءوس
المشركين وسادتهم سبعون قتيلا ، وأسر منهم سبعون مقاتلا ..!
____________________________________
الآيات : (١٧ ـ ٣٣)
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا
إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
أَنْ
تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ
تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ
أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)
فَأَسْرِ
بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
كَمْ
تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ
(٢٧)
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدِ
اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ
الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)
(٣٣)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)
قلنا فى أكثر من
موضع ، إن القرآن الكريم يجمع فى كثير من المواقف ، بين مشركى قريش ، وبين فرعون
وآله ، وذلك لما بين الفريقين من تشابه كبير فى الكبر ، والاستعلاء والعناد ، مع
الجهل الذي يدفع بهذه القوى الغاشمة الجامحة ، إلى حيث يلقون مصارعهم على يديها ..
وإنه كما فتن قوم
فرعون بأنفسهم ، وبما زين لهم الجهل والغرور ، فرأى فرعون فى نفسه أنه إله ، ورأى
الملأ من حوله أنهم أشباه آلهة ـ كذلك فتن المشركون من قريش بأنفسهم ، ورأوا أنهم
أكبر من أن يتلقوا شيئا من إنسان ، ولو كان هذا الإنسان مرسلا من رب العالمين ..
وفى قوله تعالى : (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) إشارة إلى موسى ـ عليهالسلام ـ وأنه الرسول
الكريم الذي جاء إلى فرعون وملائه ..
وفى وصف موسى
بالكرم ، لما فى يديه من معجزات كثيرة ، عاد على الناس خيرها ، فعاشوا فى ظلها كما
يعيش الناس فى ظل جناب كريم معطاء .. فقد كان بين يدى موسى من المعجزات : العصا ،
التي أخرج بها بنى إسرائيل من العذاب المهين ، والتي فجر بها الماء من الحجر ..
كما كان من معجزاته المنّ والسلوى ، الذي كان طعام بنى إسرائيل إلى أن عافوه ،
وزهدت فيه نفوسهم الخبيثة ..
وقد كان يمكن أن
يكون لفرعون نصيب عظيم من هذا الخير الذي بين يدى موسى ، لو أنه صدّقه ، وآمن
بالله ..
قوله تعالى :
(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ
عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)
هو بيان لمضمون
الرسالة التي حملها هذا الرسول الكريم إلى قوم فرعون ، وهو أن يؤدّوا إليه عباد
الله ، أي يطلقوهم ، ويرسلوهم معه إلى حيث يخرج بهم من هذا البلاء الذي هم فيه ..
وفى التعبير عن
بنى إسرائيل بقوله تعالى : (عِبادَ اللهِ) ـ إشارة إلى أنهم
ليسوا عبيدا لفرعون ، ولا لقوم فرعون ، وإنما هم عبيد لله .. وهذا رسول الله
يطلبهم لينقلوا من هذه العبودية للناس ، إلى العبودية لله.
وفى التعبير عن
إرسال بنى إسرائيل مع موسى بقوله تعالى : (أَدُّوا إِلَيَّ
عِبادَ اللهِ) ـ إشارة إلى أنهم
أمانة لله فى يد القوم ، وأن عليهم أن يؤدوا هذه الأمانة عند طلبها .. وهذا يعنى
أن الضعيف أمانة فى يد القوى ، وأن عليه أن يرعاه
ويحفظه ، وألّا
يضيّع إنسانيته بالقهر والبغي ، فيتحول فى يده إلى إنسان قد فقد وجوده .. إنسان قد
مسخت إنسانيته فاستخذى وذلّ .. وهذا هو الضياع ، الذي هو الموت بالحياة!
وفى وصف موسى
بالأمانة فى قوله تعالى : (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) ـ إشارة أخرى إلى
أنه سيحفظ أمانة الله فى عباده ، إذا صاروا إلى يده ، وألا يضيّعهم كما ضيعهم
فرعون ، بل إنه سيصلح ما أفسد فرعون منهم ، ويطبّ لما رماهم به من داء اغتال كل
معانى الإنسانية فيهم ..
قوله تعالى :
(وَأَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)
هو من مضامين هذه
الرسالة ، ومن مقول القول الذي واجه به موسى القوم .. وهو أنه قد جاءهم بسلطان
مبين ، أي سلطان ظاهر ، يعلو كل سلطان .. ومن كان هذا شأنه فلا يصحّ أن يلقاه
القوم متعالين .. فإنه ـ وهو أعلى منهم سلطانا وأقوى قوّة ـ قد جاءهم طالبا راجيا
، ولم يأتهم آمرا مستعليا ..
وفى التعبير عن
السلطان الذي يلقى به القوم ـ فى التعبير عن هذا بفعل المستقبل (آتِيكُمْ) ـ إشارة إلى أن
هذا السلطان الذي معه لم يره القوم بعد ، وأنهم إذا شاءوا أن يروه أراهم إياه ..
وفى هذا يقول الله
تعالى ، فيما كان بين فرعون وموسى : (قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ!
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ
بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٣٠ ـ ٣٣ :
الشعراء)
فالسلطان المبين
الذي جاء به موسى ، هو عصاه ، ويده ، ولم يكن فرعون
ومن معه يرون فى
العصا واليد سلطانا .. فلما سألوا موسى أن يريهم هذا السلطان ـ ألقى عصاه ، ونزع
يده .. فكانتا آيتين من آيات الله!!
قوله تعالى :
(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ)
هو أيضا من مقول
القول من موسى إلى فرعون وملائه. يقول لهم .. إنى مستعيذ بالله ، ومستجير بربي
وربكم أن تأخذكم العزة بالإثم ، فتمتد أيديكم إلىّ بالأذى ، أو أن تتطاول علىّ
ألسنتكم بالفحش من القول ، فترجمونى بقوارص الكلم ، وبذيئه ..
فالمراد بالرجم
هنا ، القذف بالكلمات البذيئة ، من غير حساب ..
وفى قوله : (وَرَبِّكُمْ) مع أنهم لا يعترفون بربّ موسى ربّا لهم ـ إلزام لهم
بالاعتراف برب موسى ، وإن لم يقبلوه ربّا لهم .. فذلك هو الحق الذي يقال ، سواء
قبله القوم أم رفضوه ..
وقوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي
فَاعْتَزِلُونِ) أي وإن لم تصدقونى ، وتسلّموا بما جئتكم به ، ودعوتكم إليه
، فليكن الأمر بينى وبينكم على ما كان عليه من قبل ، وهو أن تكفّوا عنى ، وتدعونى
وشأنى ، بعد أن بلغتكم رسالة ربى ..
قوله تعالى :
(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ).
أي دعا موسى ربه :
أن هؤلاء قوم مجرمون ، وأنهم قد استحقّوا بإجرامهم أن يلقوا جزاء المجرمين .. وهذا
ما يشير إليه قوله تعالى على لسان موسى فى موضع آخر : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ
فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ
أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) (٨٨ ـ ٨٩ يونس) ..
وقوله تعالى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) ـ هو جواب لنداء
موسى ربّه ، ودعائه إياه أن يأخذ هؤلاء المجرمين بجرمهم .. ولم يصرح القرآن الكريم
بالجزاء الذي طلب موسى من ربه أن يجزى به القوم المجرمين ، وإنما اقتصر على عرض
القوم وهو فى تلبسهم بالكفر الذي هو الجريمة التي يدانون بها .. وفى هذا ما يشير إلى
أن عقابهم على هذا الجرم أمر مفروغ منه ، وأنه لا يحتاج إلى طلب ، إذ كانت تلك
الجريمة الشنيعة تنادى بالويل والهلاك لمن ألمّ بها ..
ولهذا جاء قوله
تعالى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي
لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) معطوفا بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب ـ على قوله
تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) ـ وذلك مما يشعر
بأن الدعاء واستجابة الدعاء ، أمر واحد .. بمعنى أن الجريمة وعقابها مترابطان
متلازمان .. فحيث كانت هذه الجريمة ، كان العقاب مصاحبا وملازما لها ..
وفى قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) بذكر الليل مع أنّ السّرى ، لا يكون إلا ليلا ـ فى هذا ما
يشير إلى ما ينبغى أن يكون عليه موسى وقومه ، من الحذر ، وهم يأخذون طريقهم ليلا ،
فارّين هربا من وجه فرعون ..
فقد يكون السير
ليلا ؛ فاضحا لأهله ، إذا هم أحدثوا جلبة وضوضاء ..
وأصل السّرى من
السرّ ، وسمى السير بالليل سرّى لأن الليل يكتم تحرك الأشياء ، ويسترها عن الأعين
..
وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) بيان للحكمة من السير ليلا ، إذ أن هناك من يتربص بالقوم ،
ويتتبع آثارهم وأخبارهم ..
قوله تعالى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ
جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) ..
الرهو : المستوي ،
المتسع ، من كل شىء.
وهذا أمر لموسى من
ربه ، أن يترك البحر قائما فيه الطريق الذي أحدثه بعصاه .. لأنه سيطبق وشيكا على
فرعون وجنوده ، بعد أن يجاوزه موسى وقومه ..
وسمى فرعون وقومه
هنا جندا ، لأنهم كانوا فى معركة مع موسى ، وقد انتهت هذه المعركة ، وكانوا من
المفرقين ..
والآيات هنا تختصر
الأحداث ، وتطويها طيّا ، لأن تفصيل هذه الأحداث ، قد جاء به القرآن فى مواضع أخرى
، فكانت الإشارة إليها هنا مغنية عن الشرح والتفصيل.
قوله تعالى :
(كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ).
هذا بيان لما خلّف
هؤلاء الهالكون غرقا ، فقد خلقوا وراءهم جنات مثمرة ، وعيونا جارية ، وزروعا مونقة
، وحياة طيبة ، ومعيشة راضية .. وهو
شىء كثير أفاضه
الله على القوم من فضله ، فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا .. وها هم أولاء قد
خلّفوه وراءهم ، يعيش فيه غيرهم ، وينعم به سواهم .. فما أغنى عنهم أموالهم ولا
أولادهم من الله من شىء ..!
قوله تعالى :
(كَذلِكَ ..
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ).
أي بمثل هذا
الإحسان العظيم إليهم ، كان عقابنا الشديد لهم ، فنزعنا هذه النعم من أيديهم ،
وأورثناها قوما آخرين من بعدهم ، وهم أبناؤهم الذين صارت إليهم هذه الأرض ، وما
خلّف المفرقون فيها من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ..
وسمّى الأبناء
الوارثون لهؤلاء المغرّقين ـ سمّوا قوما آخرين ، لأن آباءهم كانوا على حال من
الضلال ، بحيث لا يكاد يجمعهم بأبنائهم أي وجه من وجوه الشبه .. فمهما ورث أبناؤهم
من بعدهم من الكفر والضلال ، فإن المسافة بينهم وبين أبنائهم ستظل دائما بعيدة ،
لأن آباءهم قد بلغوا فى هذا الضلال غاية لا يبلغها أحد ..
هذا ويذهب كثير من
المفسرين إلى أن القوم الآخرين ، هم بنو إسرائيل .. وهذا غير معقول ، لأن بنى
إسرائيل قد خرجوا من هذه الأرض ، فرارا من العذاب ، الذي سلّط عليهم فيها ، وقد
تحدث القرآن عن تيههم فى الصحراء أربعين سنة ، ثم عن حياتهم فى أرض كنعان ، بعد
موت موسى ..
ثم إن المراد
بالميراث هنا ليس هو الوارث ، ولهذا جاء مجهلا بقوله تعالى (قَوْماً آخَرِينَ) ..
وإنما المراد ، هو
الإخبار عن هلاك فرعون ، وإخلاء يده مما كان يعتزّ به من ملك وسلطان ، كما يقول
الله سبحانه على لسانه : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟) (٥١ : الزخرف)
فلقد ذهب كل ذلك ، ولم يغن عنه شيئا ، بل وصار ميراثا لغيره ..
قوله تعالى :
(فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).
أي لقد أهلكهم
الله وأخذهم بعذابه ، فلم يأس عليهم أحد ، ولم تبكهم عين ، ولم يحزن من أجلهم قلب
.. بل ذهبوا كما يذهب الوباء ، يتنفس بعده الناس أنفاس العافية والرجاء ..
فليس لهؤلاء
الهلكى أولياء فى السماء ، ولا فى الأرض .. فهم أعداء الله ، وأعداء ملائكته ،
وأعداء رسله ، وأعداء الإنسانية كلها ..
راحوا فما بكت
الدنيا لمصرعهم
|
|
ولا تعطّلت
الأعياد والجمع
|
وقوله تعالى : (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) ـ أي لم يكونوا
ممن يمهلون بالجزاء إلى يوم القيامة ، بل كان عذابهم معجّلا فى الدنيا ، ولهم فى
الآخرة عذاب عظيم ..
وهذا يعنى أمرين :
أولهما : أنّ جرم
هؤلاء المجرمين قد بلغ من الشناعة حدا بحيث لا يسعه عذاب الآخرة ، فكان عذابهم فى
الدنيا ، وفى الآخرة جميعا ..
وثانيهما : أن
هؤلاء المشركين من قريش ، لن يعجّل لهم العذاب ، كما عجّل
لقوم فرعون ، بل
إنهم منظرون إلى يوم القيامة .. وفى هذا رحمة من الله بهم ، وإكرام لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من ربه فى قومه
.. فإن هذا الانتظار بهم ، سيفسح لهم مجالا لإصلاح ما فسد منهم ، واللحاق بإخوانهم
الذين سبقوهم إلى الإيمان .. وقد كان .. فدخل هؤلاء المشركون فى دين الله ، وكانوا
جندا من جنود الله ، للجهاد فى سبيل الله ، وإعلاء رأية دين الله ..
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ نَجَّيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ
عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)
فى هذا بيان لما
كان لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان ، فى نجاة بنى إسرائيل ، أجداد هؤلاء اليهود
الذين يقفون من دين الله موقف المتربص به ، والمتحفز للانقصاض عليه .. فقد نجّى
الله سبحانه وتعالى آباءهم الأولين من العذاب المهين الذي أخذهم به فرعون ..
فليذكر اليهود نعمة الله عليهم ، وليكونوا أولياء لأوليائه .. وإلا فالويل لمن
يحادّ الله ، ورسل الله!
قوله تعالى :
(وَلَقَدِ
اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما
فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)
أي ومن نعم الله
وإحسانه على بنى إسرائيل أنه سبحانه قد اختارهم على أهل زمانهم ، ليكونوا موضع
امتحان وابتلاء ، فجعل فيهم الأنبياء الذين جاءوهم بالآيات البينات من عند الله ..
وفى هذه البينات
ابتلاء لهم أي ابتلاء .. فقد تتابعت آلاء الله عليهم ،
وكثرت نعمه فيهم
.. وإنه على قدر الإحسان يكون الحساب .. وقد خرج بنو إسرائيل من هذا الامتحان
بأخسر صفقة ، إذ كشف ذلك منهم عن نفوس خبيثة ، وقلوب مريضة ، وطبائع شرسة ـ فكان
أن أخذهم الله بالبأساء والضراء ، وأنزل بهم الضربات القاصمة ، فكانوا عبرة وعظة
لمن يكفر بنعم الله ، ويستنبت من إحسانه وفضله أنيابا ومخاب ينهش بها عباد الله ..
فلقد لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت .. وفى هذا يقول الله
تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَواضِعِهِ) (١٣ : المائدة) ..
ويقول جل شأنه : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٧٨ : المائدة) ..
ويقول سبحانه فيهم
: (وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ
الْعَذابِ .. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٧ : الأعراف)
..
وفى قوله تعالى (عَلى عِلْمٍ) إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ، إنما كان اختياره لبنى
إسرائيل ، واختصاصهم بكثرة الأنبياء الذين أرسلوا فيهم ، والآيات التي جاءوهم بها
، وتظاهر النعم عليهم ـ إنما كان ذلك على علم منه سبحانه وتعالى بما سيكون من
هؤلاء المناكيد ، من كفر بهذه الآيات ، وتكذيب لرسل الله ، وإعنات لهم ، كما يقول
سبحانه وتعالى فيهم : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧ : البقرة) ..
ففى قوله تعالى : (عَلى عِلْمٍ) ردّ على من لا يعرف قدر الله سبحانه وتعالى ، ولا يعنو
لجلاله وعظمته ، فيسوء ظنّه بالله ، حين يرى آثام بنى إسرائيل ، وشناعاتهم ،
ومفاسدهم فى الأرض ، ثم يرى كثرة الرسل الذين بعثهم الله فيهم ، وكثرة الآيات التي
جاءوهم بها ، مما لم يكن لأمة من الأمم ، أو شعب من الشعوب ..
فكان قوله تعالى :
(عَلى عِلْمٍ) ردّا على من يظن هذا الظن فى الله ، ويرى ـ عن جهل ـ أن
اختيار الله سبحانه لهؤلاء القوم ، واختصاصهم بالرسل والشرائع والمعجزات ، لم يكن
واقعا موقعه الصحيح ، إذ لم يثمر إلا هذا الثمر النكد الخبيث!! وكلا .. ثم كلا ..
تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا .. فقد كان اختيار هؤلاء القوم لرسالات السماء
ابتلاء لهم وامتحانا ، وتجربة للإنسانية ، تعمل فيها السماء أسلحتها فى النفس
البشرية ، لتخرج منها ما كمن فيها من آفات وعلل .. وقد تخيرت السماء لهذه التجربة
أخبث ما فى الإنسانية من نفوس ، وأرذلها من جماعة ، فبعثت بالأطباء والأساة يحملون
الدواء لكل داء .. فلم تتقبل نفوسهم الخبيثة أي دواء ، ولم تستجب له .. فعاشت
بدائها .. وماتت به! ..
____________________________________
الآيات : (٣٤ ـ ٤٨)
(إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ
مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦)
أَهُمْ
خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ
كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما
إِلاَّ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي
مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ
اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ
فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
ثُمَّ
صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما
كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)
(٥٠)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ).
الإشارة هنا (هؤُلاءِ) إلى مشركى قريش ، الذين استمعوا إلى هذا الحديث من أمر
فرعون وموسى ، وما كان من استكبار فرعون وعتوّه ، وما أخذه الله به من عذاب ونكال
.. ثم ما كان من إحسان الله سبحانه إلى بنى إسرائيل وفضله عليهم ، ثم مكرهم بآيات
الله ، وتكذيبهم لرسله .. فكان أن لعنهم الله ، ومزّق شملهم ، وفرق جماعتهم ..
وقطّعهم فى الأرض أمما ..
وهؤلاء المشركون
.. ماذا هم فاعلون مع رسول الله ، وما يحمل إليهم من آيات ربه؟ فهذا سؤال يسأله
الذين استمعوا إلى هذا الحديث الذي
تحدث به القرآن عن
فرعون وموسى ، وعن بنى إسرائيل وآيات الله إليهم .. فكان الجواب :
(إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) ـ هذا هو الداء
المتمكن من القوم ، وهو إنكارهم للبعث ، والحساب والجزاء ، وذلك لاستبعادهم أن
تعود الحياة مرة أخرى إلى الموتى ، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا .. إنهم على يقين
من أنهم لم يبعثوا ، وإنهم ليقولون لمن يحدثهم عن البعث : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى
وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) .. أي ما هى إلا موتة واحدة ، لا حياة بعدها .. وهم بهذا
يردّون على تصور خاطئ للبعث ـ ففى تصورهم هذا ، أن البعث بعقبه موت .. لأنه حياة
بعد موت ، وهذه الحياة ـ فى تصورهم ـ سيعقبها موت .. ثم حياة .. ثم موت ، وهكذا ..
ولهذا جزموا بأنه لا موت بعد أن يموتوا ، بمعنى أنه لا بعث ، ولا موت بعد البعث.
إن كان هناك بعث!!
وفى التعبير عن
الحياة بعد الموت بالنشر ، تشبيه للموت بأنه طىّ لحياة الإنسان ، كما تطوى الصحف
على ما ضمّت عليه من كلمات .. فإذا أريد النظر فى هذه الكلمات مرة أخرى ، نشرت هذه
الصحف ، بعد طيّها ..
فالموت ليس إلا
طيّا لصفحة الحياة ، مع بقاء الحياة كامنة فى هذه الصحف المطوية ، ونشر الصحف بعد
طيّها أمر هين ، لا يحتاج إلى عناء ومعالجة ، كما أنه لا يدعو إلى استبعاده
وإنكاره!!.
قوله تعالى :
(فَأْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
هو من تحدّيات
المشركين المنكرين للبعث ، لمن يحدثونهم عن البعث ، ويدعونهم إلى الإيمان .. إنهم
يؤكدون أنه لا موت إلا الموتة الأولى ، التي تنهى حياتهم تلك ، ثم لا حياة ولا موت
بعد هذا .. ثم إن لهم على هذا شهودا من الواقع .. فهؤلاء آباؤهم الذين أودعوهم
القبور ، لم يعد أحد منهم. فإن كان الذين يقولون بالبعث على يقين من هذا القول ،
فليأتوا على هذا ببرهان ، وذلك بأن يجيئوا لهم بآبائهم هؤلاء الذين ذهبوا .. فإذا
لم يرجع هؤلاء الذين ذهبوا ، فكيف يرجعون هم إذا ذهبوا؟ ذلك منطقهم الذي جعل البعث
عندهم أبعد من أن يتصوّر ..
إنهم كانوا يؤمنون
بأن لهذا الوجود ربّا قائما عليه ، هو الذي خلقه ، وهو الذي يدبر أمره ، وإن كان
هذا الإيمان قد اختلط بشوائب كثيرة أو قلبلة من الأهواء الفاسدة ..
ولكن الشيء الذي
لا يتصورونه ، ولا يصدقون به ، هو البعث .. وهو الداء الذي أفسد عليهم إيمانهم
بالله ، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا ، بتهددهم فيه الفناء الأبدى
المطلّ عليهم من كل وجه ..
وهذا قسّ ، بن
ساعدة الإيادى ، من حكماء العرب ، وخطبائهم المعدودين وقد نسب إليه أنه كثيرا ما
كان يخطب فى الناس فيقول :
«إن فى السماء
لعبرا ، وإن فى الأرض لخبرا .. سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، .. البعرة تدلّ
على البعير ، والأثر يدلّ على المسير ..»
ومن هذا العبارات
وأمثالها يقيم قسّ الأدلة والبراهين على وجود إله قائم على هذا الكون .. فإذا جاء
إلى الموت لم ير فيه إلا حكما واقعا على الأحياء ، وأنه سفر بلا عودة ، وذهاب ولا
إياب .. وينسب إليه أنه كان يقول :
فى الذاهبين
الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومى
نحوها
|
|
يمضى الأكابر
والأصاغر
|
أيقنت أنى لا
محا
|
|
لة حيث صار
القوم صائر
|
لا يرجع الماضون
لا
|
|
ولا يبقى من
الباقين ناظر
|
فهو ـ كما ينطق
هذا الشعر ـ لا يرى عودة للموتى ، وإن كان يرى أن لا بقاء لحىّ فى هذه الحياة.!
قوله تعالى :
(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا
مُجْرِمِينَ).
هو تهديد لهؤلاء
المشركين المكذبين برسول الله ، وبما يتلو عليهم من آيات الله ،. وأنهم ليسوا أحسن
حالا من قوم تبع الذين أهلكهم الله وبدد شملهم ، فلم يغن عنهم ما كانوا فيه من عزة
وقوة ومنعة ..
وقوم تبع ، هم
الذين كانوا يسكنون اليمن ، قبل أن يشملها الخراب والدمار ، بانهيار سدّ مأرب ..
وتبّع هو الجدّ الأعلى لقومه ..
وقد ذكر القرآن
الكريم فى موضع آخر ما أخذ الله به هؤلاء القوم ـ قوم تبع ، من نكال وبلاء ، بعد
أن كفروا بنعمة الله ، وبطروا معيشتهم .. وفى هذا يقول الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ
آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا
لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ
خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا
وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) : (١٥ ـ ١٧ : سبأ).
وليس قوم تبع إلا
جماعة من تلك الجماعات الكثيرة التي أهلكها الله سبحانه وتعالى ، وأخذها بعذابه
الأليم فى الدنيا ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ..
فمن قبل قوم تبّع
، أهلك الله قوم نوح ، وأهلك عادا ، وثمود ، وأصحاب مدين وقوم لوط .. وهؤلاء ممن
ذكر القرآن أخبارهم .. وهناك كثيرون من الأفراد والجماعات لم يذكروا .. إذ ليس
المقصود من الذكر إلا العبرة والعظة. وفى هذا القليل الذي ذكر ، عبرة وعظة لأولى
الألباب ..
قوله تعالى :
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الآيات السابقة ، ذكرت إنكار المشركين للبعث ، وما لهم على هذا
الإنكار من حجج باطلة .. وقد تهددهم الله سبحانه وتعالى وتوعّدهم بالهلاك فى
الدنيا ، كما أهلك الظالمين المكذبين قبلهم ..
وهذه الآية ، والآية
التي بعدها ، هى تعقيب على ما هدّد له به المكذبين من
بلاء .. وذلك أن
الله سبحانه أقام هذا الوجود على الحق ، كما خلقه بالحق الذي ينتظم كل ذرة فى هذا
الوجود .. ولهذا فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل سلطان الحق قائما على
هذا الوجود ، وأن يقطع دابر الباطل إذا هو طاف بحمى الحق ، واعترض سبيله .. وهذا
ما يشير إليه القرآن الكريم فى أكثر من موضع ، فيقول الله سبحانه وتعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (١٨ : الأنبياء)
ويقول سبحانه : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٧ ـ ٨ : الأنفال)
وإذن ، فهذه
الضربات التي تنزل بأهل الباطل ، فى هذه الدنيا ، هى وقاية للحق من أن يغتاله
الباطل .. فإذا كانت الآخرة ، كان القضاء المبرم على الباطل وأهله جميعا .. وفى
هذا اليوم ينطق الوجود كله بحمد الله ، أن قضى على الباطل والشر والضلال ، وكل ما
من شأنه أن يخرج على طريق الحق .. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥ : الزمر)
قوله تعالى :
(إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى
شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ).
الميقات : اسم
زمان ، والمراد به وقت الموعد الذي يكون فيه الحساب والجزاء .. وهو يوم القيامة.
ففى هذا اليوم ـ يوم
القيامة ـ يصفّى حساب الناس جميعا .. فيجمع أهل الباطل على مختلف صورهم ، ويلقى
بهم فى جهنم ليكونوا حطبا لها .. وبهذا يتخلص الحق من كل ما علق به من شوائب ..
وفى هذا اليوم يتعرّى أهل
الضلال من كل سلطان
يدفع عنهم هذا المصير ، الذي هم صائرون إليه .. إنه لا ناصر لهم من دون الله ،
يخلصهم من هذا العذاب الأليم ..
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) هو استثناء من الضمير فى قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) .. أي لا ناصر لأحد فى هذا اليوم ، ولا مخلّص له من عذابه
؛ إلا من رحمهالله من عباده ، فهذاه إلى الإيمان ، ووفقه لطاعته .. فكل من
زحزح عن النار وأدخل الجنة ، فذلك برحمة من الله وفضل وإحسان .. وفى هذا يقول
النبي الكريم : «لا يدخل أحد الجنة بعمله» (قيل ولا أنت يا رسول الله) قال : «ولا
أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته»
وقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) .. فهاتان الصفتان من صفات الله ، التي يتجلى بها الله
سبحانه وتعالى على أهل المحشر يوم القيامة .. فبعزته ـ سبحانه ـ يملك أمر هذا
اليوم ، ويقضى فيه بما شاء فى الظالمين ، وأهل البغي والعدوان ، فلا يكون لهم مع
سلطان الله سبحانه سلطان ، ولا مع عزته عزة .. وبرحمته ـ سبحانه ـ يدخل من يشاء من
عباده الجنة ، ويصفى عليهم ما يشاء من فضله وإحسانه .. كما يقول سبحانه : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١ : الإنسان).
قوله تعالى :
(إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ
الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ..
تحدّث هذه الآيات
عن صورة من صور العذاب الذي أعد للظالمين ، يوم
القيامة .. وقد
جاءت هذه الصورة من العذاب ، مفردة ، حيث تحصر فى إطارها إنسانا ظالما ، باغيا ،
من هؤلاء الظلمة الباغين .. فيبدو فى هذه الصورة وكأن العذاب الجهنّمى قد احتواه
وحده ، وفى شخصه هذا يرى كل ظالم أثيم أنه هذا الإنسان الشقي المنكود ، يتقلب وحده
فى هذا العذاب الذي تقشعر من هوله الجبال!.
وشجرة الزقوم ،
كما وصفها القرآن الكريم هى شجرة : (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) .. وإن شجرة تغتذى من جهنم ، وتمتد أصولها وفروعها بين
جمرها ولهيبها ، لهى شجرة أقوى من جهنم ، وأعتى من النار .. فكيف بثمرها هذا الذي
تختصر وجودها كله فيه؟ إن هذا الثمر هو طعام الأثيم!! .. وإنه كالمهل ، أي خثارة
الزيت بعد غليانه ..
وقوله تعالى : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ
الْجَحِيمِ) ـ هو تنكيل بهذا
الأثيم ، ومضاعفة لما يلقى من ذلة وهو ان فى هذا اليوم ، حيث يساق إلى جهنم بين
زبانيتها سوقا عنيفا ، ثم يعتل عتلا ، ثم لا يلقى به حيث يقع ، بل يدفع به دفعا
حتى يبلغ سواء الجحيم ، أي وسطها ، ومركز دائرتها .. وبهذا يتلّقى من العذاب أقساه
وأشده ..
وقوله تعالى : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ
عَذابِ الْحَمِيمِ) ـ هو عذاب إلى هذا
العذاب ، الذي يأكل هذا الأثيم أكلا ، ثم يلفظه ، ثم يأكله .. وهكذا .. وما يصبّ
فوق رأسه ليس ماء ، وإنما هو عذاب .. ولكنه من حميم ، أي من ذوب جهنم ، ونضيج
عرقها!! ..
والحميم : الماء
الحار الذي يغلى .. ومنه الحمّى ، لاشتداد حرارة المريض بها ..
وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ) ـ هو مما يساق إلى
هذا الأثيم ، من ألوان العذاب .. فهو إذ يشوى بنار جهنم ، يصبّ فوق رأسه ما ينضح
عليه من لهيبها من عرق ، ليتبرّد به. ثم يلقى فى أذنه بهذه التحايا التي كان
يتلقاها فى دنياه من ندمائه وأتباعه .. وإنها لتحايا تملأ قلبه حسرة وكمدا .. (ذُقْ)! وأي شىء يذوق؟ مهلا يغلى فى بطنه ، وحميما يصبّ فوق رأسه
، ونارا تقطّع له منها أثواب فوق أثواب!.
هذا هو نعيمه الذي
ينعم به ، وتلك هى التحايا التي يحيّا بها ، والكؤوس التي يتناولها من يد السقاة
والندمان!! وإنه مع هذا هو العزيز الكريم .. يحضره فى هذا البلاء المشتمل عليه ـ ما
كان له فى دنياه من عزة ومنعة فى قومه ، وما كان له من كرامة فيهم ، وإكرام منهم
.. فهذان شاهدان من أهله ـ عزته وكرامته ـ يشهدان هوانه ، وذلته .. وإنه ليس أشد
إيلاما للنفس ، ولا إزعاجا للفؤاد ، من أن يفتضح المرء فى أهله ، وأن يعرّى على
أعينهم ، مع ما كان له فيهم من عزة وكرامة ..
قوله تعالى :
(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ
بِهِ تَمْتَرُونَ).
عاد الخطاب إلى
الجماعة ، بعد أن شهدوا أنفسهم فردا فردا ، فى شخص هذا العتلّ الأثيم ، الذي تجرع
كئوس العذاب والهوان ألوانا مترعة .. فهذا العذاب ، هو الذي كان يمترى فيه ، أي
يجادل فيه هؤلاء الضالون ، الذين كانوا يجادلون من يحدثهم عن اليوم الآخر ،
ويحذرهم من لقاء ربهم فيه ، على ما هم عليه من شرك وضلال ..
____________________________________
الآيات : (٥١ ـ ٥٩)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ
سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣)
كَذلِكَ
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها
بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ(٥٥) لا يَذُوقُونَ
فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦)
فَضْلاً
مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
فَارْتَقِبْ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)
(٥٩)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).
هذه الآيات والتي
بعدها ، تعرض الصورة المقابلة لأهل الضلال والمنكر ، وما يلقون فى جهنم من عذاب
وهوان .. وفى المقابلة بين الصورتين تتضح المعالم فى كلّ منهما ، ويرى كلّ فى
الصورة المقابلة ، ما يضاعف ما هو فيه من بلاء أو نعيم ..
فأهل النار ، إذ
يرون أصحاب الجنة ، وما هم فيه من نعيم ورضوان ، يزداد بلاؤهم وتتضاعف محنتهم ،
ويشتد عذابهم وحسرتهم .. وأصحاب «الجنة» إذ يرون أهل النار ، وما هم فيه من محن
وشدائد ، يعظم نعيمهم ، ويتضاعف رضوانهم ، فلا يجدون غير أن يسبّحوا بحمد ربهم أن
عافاهم من هذا البلاء .. (وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ .. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا
يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٤ ـ ٣٥ : فاطر).
ولهذا كان أصحاب
الجنة وأصحاب النار ، على مشهد من بعضهم ، حيث يرى
بعضهم بعضا ،
ويتحدث بعضهم إلى بعض ، دون أن يصل إلى أصحاب الجنة شىء من عذاب أهل النار ، ودون
أن يصل شىء من نعيم الجنة وريحها إلى أهل النار .. (وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ .. قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠ : الأعراف).
قوله تعالى :
(يَلْبَسُونَ مِنْ
سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ .. مُتَقابِلِينَ).
وحيث يلبس أهل
النار من النار أثوابا ، يلبس أصحاب الجنة حللا من سندس وإستبرق.
والسندس .. الرقيق
من الديباج وهو ما كان سداه ولحمته من الحرير .. والإستبرق : الغليظ من الحرير ..
وإذ يتدابر أهل
النار ، فلا ينظر بعضهم إلى بعض ، لما وقع بينهم من عداوة ، ولما يشهدون من العذاب
الذي يعذب به المعذبون ـ فإن أصحاب الجنة ، يواجه بعضهم بعضا ، ويأنس بعضهم بالنظر
إلى بعض ، وبما يصافح أنظارهم من آيات الرضا والبهجة ، التي تملأ الصدور ، وتفيض
على الوجوه .. (عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٣ ـ ٢٤ :
المطففين)
قوله تعالى :
(كَذلِكَ ..
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ).
أي كذلك شأنهم
الذي هم فيه .. وأكثر من هذا ، فقد زوجهم الله سبحانه وتعالى ، بحور عين من حور
الجنة ، وعرائسها ..
والحور : جمع
حوراء .. وهى التي فى عينها حور ، وهو شدة سواد العين مع شدة بياضها ، وهذا من
مفاتن المرأة ، يقول جرير :
إن العيون التي
فى طرفها حور
|
|
قتلننا ثم لا
يحيين قتلانا
|
والعين : جمع
عيناه ، وهى الواحدة من بقر الوحش ، وذلك لسعة عينيها وجمالها ، وبها تشبه المرأة
الحسناء ، ذات العيون الفاتنة.
قوله تعالى :
(يَدْعُونَ فِيها
بِكُلِّ فاكِهَةٍ .. آمِنِينَ).
أي يرزقون فيها من
كل فاكهة يطلبونها ، مما تشتهيه أنفسهم ..
وقد عبر عن الطلب
بالدعاء ، لأنه التماس ورجاء من رب كريم .. وعدّى الفعل بالباء مع أنه يتعدى بنفسه
، لتضمنه معنى الهتاف بالفاكهة .. فما هى إلا أن يهتف بها أحدهم حتى تكون حاضرة
بين يديه ، من غير أن يحملها إليه أحد ، أو يمد إليها هو يده .. بل يجدها بين يديه
، وهو آمن ، ساكن ، لا يلتفت ، ولا يتحرك.
قوله تعالى :
(لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).
هو تعليل لقوله
تعالى : (آمِنِينَ) .. أي أنهم فى أمان من أن يزعجهم عن هذا النعيم الذي هم
فيه ، أىّ خاطر يخطر لهم ، من انقطاع هذا النعيم بالموت ، أو بالتحول عنه إلى غيره
.. فهم فى أمان من الموت .. (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ) أبدا ، فإنها حياة خالدة ، ونعيم خالد .. فلا يتحولون أبدا
عن هذا النعيم إلى ما يقابله من عذاب الجحيم الذي يصلاه أهل النار ، فقد وقاهم الله
هذا العذاب وأنقذهم منه ، فلا يتعرضون له أبدا ..
وفى قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) إشارة إلى قول المكذبين باليوم
الآخر : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى
وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) .. أي أن أهل الجنة قد ذاقوا هذه الموتة الأولى ، التي
كانوا على إيمان بالحياة والبعث بعدها ، فكان هذا الإيمان سببا فى خلاصهم من عذاب
النار ، كما كان سببا فى هذا النعيم الذي هم فيه .. ومذاق هذه الموتة عندهم ، غير
مذاقها عند من يكذبون بالبعث .. حيث يجد المؤمنون بالبعث ، أن هذا الموت سبيل إلى
الحياة الآخرة ، وإلى لقاء الله ، وإلى ما أعد الله للمؤمنين المحسنين من جزاء
كريم ، على حين يجد المكذبون باليوم الآخر ، أن الموت هو حكم عليهم بالفناء الأبدى
، الذي يتحولون بعده إلى تراب فى هذا التراب .. إنه الضياع الأبدى لهم ، والفراق
الذي لا لقاء بعده للأهل والولد! فهم يعذبون بالموت فى الدنيا ، كما يقول الله
سبحانه وتعالى : (وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥ : التوبة) وهم
كذلك يعذبون بهذا الموت فى الآخرة ، إذ كان هو الذي انتقل بهم إلى هذا العذاب
الجهنمى الذي يتجرعون كئوسه ألوانا ..
فهذا الموت ، الذي
ذاقه المؤمنون فى الدنيا ، هو سبب مسراتهم التي يسرّون بها فى الجنة ، إذ يذكرونه ـ
وهم فى الجنة ـ فيذكرون أنه هو الذي أوصلهم إلى هذا النعيم ، فلو لا الموت لما كان
البعث ..
قوله تعالى :
(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
هو تعليل لقوله
تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي أن ما قضى الله سبحانه وتعالى به فى أهل الجنة ، من
أنهم
لا يذوقون الموت ،
ولا يتحولون عن هذا النعيم الذي هم فيه ، إنما كان ذلك فضلا من فضل الله ، وإحسانا
من إحسانه ، ورحمة من رحمته ، إلى عباده المؤمنين .. وحسبهم بهذا فوزا .. فذلك هو
الفوز العظيم ، الذي لا يعدله فوز ..
قوله تعالى :
(فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..
الضمير فى (يَسَّرْناهُ) يراد به القرآن الكريم .. والمراد بتيسيره .. بلسان النبي
، تمكين العرب من الالتقاء بهذا القرآن ، والأخذ عنه ، وتلقى الهدى منه ، لأنه
بلسانهم ، الذي هو لسان النبي المبعوث فيهم ..
وفى قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .. تذكير لهؤلاء المشركين بنعمة الله عليهم ، إذ أنزل
عليهم كتابا من عنده ، باللسان الذي يتكلمون به .. ولو جاءهم بغير هذا اللسان ،
لما كان لهم سبيل إلى الاتصال به ، والحياة فى رياضه النضرة ، والاقتطاف من ثماره
الطيبة المباركة ..
فهذه نعمة جليلة
من نعم الله على الأمة العربية ، وإنه لجدير بها أن تلتقى بهذه النعمة ، وأن تأخذ
حظها منها .. فهو كتاب الله إليهم ، ورحمته فيهم ..
وقد ذكر القرآن
بضميره ، دون أن يكون لهذا الضمير مرجع ، لأن القرآن أشهر من أن يذكر ، إذ هو حجة
قائمة على المؤمنين ، وغير المؤمنين جميعا ..
قوله تعالى :
(فَارْتَقِبْ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ).
العطف بالفاء هنا يشير
إلى أن الأمر بين النبي ، وقومه ، لم ينته إلى نهايته بعد ، وأنهم مازالوا فى هذا
الامتحان مع القرآن الكريم ، فلينتظر النبي ما يكون منهم ، وليصبر على أذاهم ، ولا
ييأس من استجابتهم له ، وذلك لأنهم (مُرْتَقِبُونَ) لم يقطعوا برأى بعد فيما يدعوهم إليه ، وإن كانوا مقيمين
على كبر وعناد .. وهكذا كان شأن قريش مع النبي ، إنهم لا يكذبون النبي ، ولا
يشكّون فى أنه رسول الله ، ولكنّ كبرهم وعنادهم هو الذي كان يقطع عليهم الطريق
إليه .. وإنهم لينتظرون ما تأنى به الأيام .. ولن تأتى الأيام إلا بما يسوء
المعاندين والمكابرين منهم .. ويخيب ظنونهم ، حيث يبدو لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون .. إنهم سيبعثون ، وقد كانوا لا يتوقعون بعثا ، وإنهم ليحاسبون ، وقد
كانوا لا يرجون حسابا ، وإنهم ليعذبون فى النار ، وقد كانوا فى تكذيب بهذا العذاب
، وفى شك منه ..
وإذا كان القوم لم
يرتقبوا شيئا من هذا كله ، فإنهم مكرهون على هذا الارتقاب ، إذ لا مفرّ لهم منه ..
ولقد أدّى بهم
ارتقابهم فى الدنيا إلى أن رأوا كلمة الله تعلو ، وشهدوا جند الحقّ ينتصرون ، وإذا
ظل الشرك ينسخ شيئا فشيئا حتى تدول دولته ، ويجىء فتح الله والنصر ، ويدخل الناس
فى دين الله أفواجا .. وهنا يرى النبىّ قومه وقد استجابوا لدعوته ، وأصبحوا جميعا
جندا من جنود الحق الذي يدعو إليه .. فكان ذلك يوم النصر والفتح ، الذي تحقق فيه
للنبى ما وعده به ربّه يوم اصطفاه لحمل الرسالة ، فقال سبحانه : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).
***
٤٥ ـ سورة الجاثية
نزولها : مكية ..
بإجماع.
عدد آياتها : سبع
وثلاثون .. آية ..
عدد كلماتها :
أربعمائة وثمانون آية ..
عدد حروفها :
ألفان ومائة وتسعون حرفا ..
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الدخان
بقوله تعالى : (فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ
مُرْتَقِبُونَ) .. وقد قلنا إن هذا الختام هو دعوة إلى النبي أن ينتظر ما
ستأتى به الأيام من قومه ، ولن ييأس منهم .. كما أن هذا الختام هو دعوة للمشركين
أن يأخذوا حظّهم من هذه الرحمة المنزلة عليهم من السماء ، والتي يسر الله سبحانه
وتعالى مواردهم إليها ، فجعل القرآن بلسان عربى مبين ، ولو كان بغير اللسان العربي
، لما كان لهم سبيل إليه ..
وهنا تبدأ «سورة
الجاثية» بالحديث عن هذا القرآن ، وأنه كتاب منزّل من الله العزيز الحكيم .. ثم
تعرض الآيات بعد هذا بعض ما اشتمل عليه هذا القرآن من هدى ، ونور .. فكان هذا
البدء متلاقيا مع ختام السورة قبلها ، معانقا له.
بسم الله الرحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات : (١ ـ ٥)
(حم (١)
تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣)
وَفِي
خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
(٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(حم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).
مضى تفسير (حم) فى مطلع أكثر من سورة من الحواميم .. وقد جاء بدء سورة
غافر ، هكذا :
(حم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
والاختلاف بين
مطلع السورتين ، فى وصف الله سبحانه وتعالى هنا بالحكمة بعد العزة ، على حين جاء
الوصف فى سورة غافر ، بالعلم بعد العزة ..
وهذا الاختلاف
يقتضيه المقام هنا وهناك .. ففى سورة غافر ، كان العلم مطلوبا للكشف عما يدور فى
نفوس المشركين من هواجس ، وما يبّيتون من مكر ..
وهنا الحكمة
مطلوبة ، حيث تعرض الآيات القرآنية مشاهد من هذا الوجود فى أرضه وسمائه ، .. وكل
مشهد منها تتجلّى فيه الحكمة الإلهية التي أبدعت هذا الوجود وأقامته على أكمل نظام
وأروعه ..
قوله تعالى :
(إِنَّ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ..
هو عرض عام للوجود
كله ، فى السموات والأرض .. ففى كل نظرة ينظر بها المؤمن فى هذا الوجود ، يرى آيات
دالة على قدرة الله ، وعلمه ، وحكمته ..
فالكون كله ـ فى
نظر المؤمن بالله ـ هو كتاب مفتوح ، يقرأ فى صفحاته آيات تحدث عن جلال الله ،
وعظمته ، وكماله ..
وفى كل شىء له
آية
|
|
تدلّ على أنه
الواحد
|
أما غير المؤمن
فلا يرى فيما يرى من هذا الوجود ، إلا أشباحا تتحرك ، وكائنات تظهر وتختفى .. وقد
ينبهر بما يرى ، ويفتن بما يملأ عينيه من جمال ، ولكنه يظل حيث هو فى تعامله مع
كائنات الوجود وعوالمه ، دون أن يصله شىء من هذا بخالق الكون ومبدعه!
قوله تعالى :
(وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وهذه نظرة فى أفق
محدود من آفاق الوجود .. إنها نظرة ينظر بها الإنسان إلى نفسه .. وكيف خلق؟ ومن أين
جاء؟ ثم نظرة أخرى يتجاوز بها حدود نفسه ، إلى عوالم الأحياء التي تدب على الأرض
وتعيش فيها. فهى عوالم كثيرة ،
مختلفة الأشكال
والصور ، بعضها يعيش على اليابسة ، وبعضها يعيش فى الماء ، وبعضها يسبح فى الجو ..
وفى كل عالم منها أجناس كثيرة لا تكاد تقع تحت حصر ..
ففى هذه النظرة
القائمة على حدود الإنسان وما يحيط به من كائنات حية ، يرى المؤمن ما يملأ قلبه
يقينا بما لله سبحانه وتعالى من حكمة ، وعلم ، وقدرة ، حيث تصنع القدرة الإلهية من
تراب هذه الأرض ، تلك الكائنات المنتشرة فى كل أفق من آفاقها ، والتي تملأ وجه
الأرض حياة ، وحركة ، وجمالا ..
قوله تعالى :
(وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
وهذه نظرة أخرى
فيما وراء الحياة وصورها المختلفة ، فى الإنسان والحيوان .. نظرة فى هذه الحركة
الدائمة بين الليل والنهار ، حيث يخلف أحدهما الآخر ، كما يقول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٦٢ : الفرقان).
وعلى امتداد هذه
النظرة فى الليل والنهار ، حيث تلبس الأرض ثوبا من ضياء بالنهار ، ثم تخلعه لترتدى
ثوبا أسود بالليل ـ على امتداد هذه النظرة ، ترى السماء وقد نزل منها الغيث الذي
ينزع عن الأرض ثوب الموت ، ويلبسها ثوب الحياة ، كما ترى الرياح التي تدفع السحب ،
وتسوقها إلى كل اتجاه.
فهذه النظرة تحوى
فى أعماقها نظرات معطية لكثير من الدلائل والآيات الدالة على قدرة الله .. وإنها
لن تتجلى إلا لأولى العقول السليمة ، والمدركات
القوية النافذة ..
الذين يتفكرون فى خلق السموات والأرض ، ثم ينتهى بهم التفكير إلى الإيمان بالله ،
والإقرار بوحدانيته ، وتفرده بالخلق والأمر ..
____________________________________
الآيات : (٦ ـ ١١)
(تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ
يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ
تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ
آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ
جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠)
هذا
هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)
(١١)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ
يُؤْمِنُونَ).
آيات الله ، هى
تلك الآيات التي ذكرت من أول السورة .. وليست آيات الله محصورة فى هذه الآيات ،
وإنما عبّر عن هذه الآيات بما يفيد حصر آيات الله كلّها على هذا النمط العالي من
الكمال والجلال ، والإعجاز .. فكل آية من كتاب الله ، تمثل آيات الله كلّها فى
إحكامها وإعجازها.
وقوله تعالى : (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) جملة حالية من قوله تعالى : (آياتُ اللهِ) أي هذه آيات الله متلوّة عليك بالحقّ الذي تحمله فى
كيانها.
وفى إسناد تلاوة
آيات الله على النبي ، إلى الله سبحانه وتعالى ، مع أن الذي يتلوها عليه هو جبريل ـ
فى هذا تشريف للنبىّ ، واحتفاء به ، وتكريم له .. وحسبه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ
من الشرف والرفعة ، أن ينكشف الحجاب بينه وبين ربّه جلّ وعلا وأن يخلى جبريل مكانه
بين الله سبحانه ، وبين عبده محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فلا يسمع الرسول
إلّا كلمات ربّه ، من ربّه وإن كان جبريل هو الذي يحملها إليه.
وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ
وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) استفهام إنكارى تقريعىّ ، يسفّه موقف المشركين من آيات الله
، واتهامهم لها ، وشكّهم فيها وتوقفهم عن الإيمان بها. فأى حديث بعد حديث الله ،
وأي آيات بعد آيات الله ، ينتظر القوم أن يأتيهم ببيان أجلى من هذا البيان ، وحجة
أبلغ وأصدق من هذه الحجة ، ليؤمنوا به ، ويطمئنوا إليه؟.
إن الله سبحانه
وتعالى هو الذي يتحدث بآياته تلك التي يتلوها الرسول عليهم .. فالله سبحانه وتعالى
يتلوها على الرسول ، والرسول يتلوها عليهم ، ويبلغهم إياها .. ولو أنهم أحسنوا
الاستماع ، وفتحوا لما يسمعون آذانهم وقلوبهم ، لسمعوا الحقّ جلّ وعلا ، يتلو
عليهم هذه الآيات التي يتلوها الرسول عليهم ، ولا رتفع الحجاب بينهم وبين ربّهم ..
فإن كلمات الله تأخذ طريقها مباشرة إلى القلوب المهيأة لها ، المستعدّة لا
ستقبالها.
قوله تعالى :
(وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
هو تهديد ووعيد
بالويل والبلاء ، لمن يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يلقاها ضائفا بها ، متكرّها
لها ، مستعليا ومستكبرا ، على الإقبال عليها ، والنظر فى وجهها ، فلا يأبه لما
يتلى عليه منها ، بل يمضى كأن لم يسمع شيئا ، كان فى أذنيه صمما ..
والأفاك : صيغة
مبالغة من الإفك ، والافتراء ، وقلب الحقائق ..
والأثيم : صيغة
مبالغة كذلك من الإثم ، وهو اقتراف المنكر ، واجتراح السيئات .. وهاتان الصفتان
هما الآفتان اللتان تتسلطان على أهل الزيغ والضلال ، فلا يكون منهم قبول للحق ،
ولا تجاوب معه .. إذ كيف يجد الحق له مكانا فى نفوس لا تستمرئ إلا الإفك ، ولا
تستطيب إلا الإثم؟ ..
وقوله تعالى : (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) .. إما أن يكون من الإصرار ، وهو التمسك والتشبث بما مع
المشركين من شرك .. ويكون المعنى : ثم يصر على الكفر ، ويتشبث به ، مستصحبا معه
الكبر والاستعلاء .. وهذا مثل قوله تعالى فى قوم نوح : (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (٧ : نوح) ..
وإما أن يكون من
الصرّ ، وهو تجّهم الوجه ، ضيقا وتكرها .. ومنه قوله تعالى :
(فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٢٩ : الذاريات)
..
ومنه الصّر ، وهى
الريح الباردة التي يجمد منها الدم فى العروق .. ومنه الصّرصر ، وهى الريح العاصفة
الباردة ..
وقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ـ هو بيان لهذا
الويل ، الذي توعد الله سبحانه وتعالى به كل أفاك أثيم ، ذلك الذي يسمع آيات الله
تتلى عليه ، ثم يلقاها متكرها مستكبرا ..
فالذى يساق إلى
هذا الأفاك الأثيم من بشريات فى يوم القيامة ، هو العذاب الأليم .. فهذا هو النعيم
الذي يبشّر به ، ويزفّ إليه ..! فكيف إذا انتقل من هذا النعيم الجهنمّى إلى العذاب
الموعود به؟ .. وهذا أسلوب من الأساليب البلاغية التي تكشف عن جسامة الأمر ،
وفداحة الخطب ، وذلك يوصفه بغير صفته.
قوله تعالى :
(وَإِذا عَلِمَ مِنْ
آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).
هو معطوف على تلك
الأوصاف التي وصف بها الأفاك الأثيم فى الآية السابقة .. فهو لا يسمع آيات الله ،
ولا يعقلها ، ثم إنه إذا سمع شيئا من آيات الله ـ عرضا ـ ووقع له منها بعض العلم ـ
عفوا ، من غير قصد ـ لم ينتفع بهذا العلم ، بل يتخذ منه مادة للسخرية والاستهزاء
.. لأنه لم يكن حين استمع لآيات الله يقصد استماعا ، ولا يبغى علما .. ومن هنا لم
يكن لما وقع له من علم ، ثمر ينتفع به ، أو خير يرجى منه .. بل لقد فتح له هذا
العلم طريقا جديدا من طرق الضلال التي يسلكها ..
وفى قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بضمير الجماعة العائد على المفرد ـ فى هذا ما يشير إلى أن
استهزاء المستهزئ ، وسخرية الساخر بآيات الله ، لم تكن تتحق صورتها ، إلا بمشاركة
ممن يستمع له ، ويجرى معه فى استهزائه وسخريته ، سواء أكان ذلك بمجرد الاستماع
والاستحسان ، أو بتجاذب حبل الحديث معه ، ومدّه بمدد جديد من السخرية والاستهزاء
..
فالسخرية
والاستهزاء ، لا يكون لهما وجود بعمل فردىّ ، وإنما الذي يعطيهما الحياة ، هو
المشاركة الصامتة ، أو الناطقة ، ومن هنا كانت كلمة السوء فى مجلس من المجالس ،
مأثما يحيط بأهل المجلس جميعا ، إن هم سكتوا على كلمة السوء ، ولم يقم فيهم من
ينكرها على صاحبها ، ويكبته ويخزيه ..
وفى قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ـ وفى وصف العذاب
بأنه عذاب مهين لهم ، مذلّ لكبرهم ـ هو رد على استهزائهم بآيات الله ، واستخفافهم
بها ..
قوله تعالى :
(مِنْ وَرائِهِمْ
جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
أي أن العذاب
المهين ، الذي سيأخذ المستهزئين بآيات الله ، المستخفّين بها ـ هو عذاب جهنم ،
التي تطلع عليهم وهم فى غفلة عنها .. إنها تأنى من وراء تلك الحجب من الضلال التي
حجبتهم عن اليوم الآخر ، فلم يروه ، ولم يعملوا على اتقائه ، والفرار منه ..
ثم إن فى وصف جهنم
بأنها من ورائهم ، وفيما يشير إليه هذا الوصف من غفلتهم عنها ـ تقريرا للحقيقة
الواقعة ، وهى أن جهنم وإن كانت أمامهم ، تنتظرهم على الموعد الذي يلاقونها عنده ـ
فإنها لا تأنى إلا بعد زمن متأخر عن يومهم هذا الذي هم فيه ..
وقوله تعالى : (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا
شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) جملة حالية ، تكشف عن تعرية القوم من كل واق يقيهم هذا
العذاب الذي يمد يده لا ختطافهم ، وهم فى غفلة عنه ..!
وقد يكون الإنسان
فى غفلة عن خطر يتهدده ، ولكن هناك ما يحميه من هذا الخطر ، ويردّه عنه ، كأن يكون
فى حصن قد أحكم بناءه ، وأقام الحراس عليه ، أو قد يكون له أولياء يخفّون لنجدته
إذا دهمه خطر!.
أما هؤلاء
المشركون ، المكذبون بآيات الله ، والمستهزءون بها ، فلا شىء لهم من هذا .. فهم عن
هذا الخطر فى غفلة .. ، ولا حارس يقوم على حراستهم .. والمال الذي فى أيديهم ،
والذي كان من شأنه أن يكون ذا غناء لهم فى هذه الشدة ـ قد خلت أيديهم منه.
وآلهتهم التي
عبدوها من دون الله ، وكان لهم متعلق بها ، ورجاء فيها ـ قد أنكرتهم ، وخلّت بينهم
وبين ما حل بهم من بلاء ..
فكيف يكون لهم
نجاة من هذا العذاب الذي يسوقهم أمامه؟
وفى قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .. استكمال لصورة هذا العذاب الذي يلقاه هؤلاء المشركون ..
فهو عذاب مهين ، وهو مع ما يسوق إليهم من ذلة وهوان ـ عظيم فى وقعه ، شديد فى
بلائه ..
قوله تعالى :
(هذا هُدىً
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ..
الإشارة هنا ، إلى
القرآن الكريم ، وإلى ما تحمل آياته الكريمة المباركة من هدى ونور .. وفى هذا دعوة
لهؤلاء الضالين الذين جلسوا مجلس الاستهزاء والسخرية بآيات الله ، والذين تتهددهم
جهنم بعذابها وهم فى غفلة عنها ـ فى هذا دعوة لهم إلى أن يهتدوا بهذا الهدى الذي
بين أيديهم ، وأن
يأخذوا به طريق
النجاة من النار ، التي تكاد تمسك بهم من خلف .. فإن هم لم يفعلوا ، فهذه جهنم ،
وهذا عذابها ..!
والرجز : القذر ،
والمنكر المكروه من كل شىء ..
وفى وصف العذاب
بأنه مخلّق من القذر ، إشارة إلى ما يساق إلى أهل النار من طعام وشراب ، هو فى
أصله مستقذر تعافه النفوس .. فكيف به إذا كان مع استقذاره مقتطعا من النار.
____________________________________
الآيات : (١٢ ـ ١٥)
(اللهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
وَسَخَّرَ
لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)
قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ
قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
(١٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(اللهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الآية السابقة عليها ، أشارت إلى القرآن الكريم ، ونبهت إلى أنه
الهدى لكل من طلب الهدى .. ثم تهددت الآية أولئك الذين يكفرون بربّهم ، ولا يقبلون
على هذا الهدى الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إليهم ..
وهذه الآية ، تجىء
بعد هذا ، لتحثّ أولئك الذين استمعوا للآية السابقة ، ووقفوا موقف التدبّر والتبصر
ـ على أن يسرعوا الخطا إلى الله ، وان يستجيبوا لما يدعوهم إليه الرسول ، من خير
وهدى .. وإنهم إذ يتجهون إلى الله ليجدون هذه الدعوة المجدّدة إليهم ، والكاشفة
لهم عن جلال ربهم وعظمته وقدرته ، وماله من فضل وإحسان إليهم .. فهو سبحانه ، الذي
سخر البحر ، ومكّن الناس من أن يجعلوه طريقا ذلولا تجرى الفلك عليه ، كما تجرى
الدواب على اليابسة .. كل هذا بأمر الله وحكمته .. فهو سبحانه الذي قدّر بحكمته أن
تطفو بعض الأجسام على الماء ، حسب قانون محكم لا يتخلف أبدا .. ومن عجب أنه بحكم
هذا القانون ، أن يلقى بالحصاة الصغيرة فى الماء فتغوص فيه ، على حين أنه يلقى فوق
ظهره بالسفينة محملة بالدواب ، والناس ، والأمتعة ، فتظلّ سابحة فوقه!
قوله تعالى :
(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
وهذا الإله الذي
يدعى إليه العباد ، هو الذي سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض ، وأتاح لهم
الانتفاع به فى كل وجه من وجوه الانتفاع ، حسب استعدادهم وقدرتهم على التصرف فيه
..
ففى السماء ،
النجوم ، والكواكب .. وهى مسخرة بأمر الله سبحانه وتعالى ، فى دورانها فى أفلاكها
، على ما يرى الناس منها ، فى جميع الأوقات .. وهى قائمة على ما أقامها الله عليه
، من إرسال أضوائها ، وأنوارها على الأرض ، دون أن يكون للناس شأن ، أو حول ، فى
تحويل مداراتها ، أو تغيير نظامها .. ثم إن للناس مع هذا أن ينتفعوا بكل ما أمكنهم
الانتفاع به منها .. فإذا كشف لهم العلم عن إمكان اختزان الطاقة الحرارية للشمس ،
واستخدام هذه الطاقة فى إدارة المحركات ، وتسيير البواخر ، والقاطرات ، والسيارات
، وغيرها ـ فذلك مما سخر الله للناس ، ويسر لهم الانتفاع به .. وقل مثل هذا فى كل
ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من عالم السماء ..
وفى الأرض .. ما
لا يحصى من قوى الطبيعة المختزنة فيها ، والتي جعل الله مفاتحها فى يد الإنسان ،
بما يكشف له العلم من أسرار ..
فهذا البناء
الشامخ للمدنية ، وما تزخر به الحياة فى هذا العصر من ألوان لا حصر لها ـ هو مما
أودعه الله سبحانه وتعالى فى هذه الأرض ، وهو ما استطاعت يد الإنسان أن تطوله ..
وهناك ذخائر كثيرة لا تزال مطوّية فى صدر الطبيعة ، تنتظر يد الإنسان القادر على
الوصول إليها ، وكشف الستر عنها ..
وقوله تعالى : (جَمِيعاً مِنْهُ) حالان من لفظ «ما» فى قوله تعالى : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي سحر كل هذا مجتمعا ، فى حال أنه من الله سبحانه وتعالى
.. أي من فضله وإحسانه ..
هذا ؛ وقد رأى بعض
أصحاب الجدل والمراء ، من طوائف المعتزلة والمتصوفة وغيرهم ، أن فى قوله تعالى : (مِنْهُ)
يشير إلى أن هذا
الوجود فى أرضه وسمائه ، هو من ذات الله ، وأن هذه العوالم هى ظل الله ، وتجلّياته
، أو هى الله ذاته .. إلى
غير ذلك من
المقولات ، التي تنتهى إلى القول بوحدة الوجود ، وأنه ليس ثمة خالق ومخلوق ..
ولا شك أن هذا
تعسف فى التأويل ، فضلا عن فساد المعنى المستنبط من هذا التأويل .. فإن الجار
والمجرور «منه» متعلق بمحذوف ، هو مضاف إلى الله سبحانه وتعالى ، أي ذلك كله ، من
فضل الله ، ورحمته ..
وفى قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) دعوة إلى إعمال الفكر ، فى مواجهة هذه القوى المسخرة ، حتى
ينسج الإنسان من هذه الخيوط المتنائرة هنا وهناك ، ثوبا قشيبا ، يتزين به ، ويكون
سمة له ، وشارة تفرق بينه وبين عالم الحيوان ، الذي يعيش على ما تعطيه الطبيعة ،
دون أن يكون له أثر يذكر فى تحوير شىء أو تبديله ..
قوله تعالى :
(قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ..
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن بعض الوجوه المنكرة من المشركين
الذين إذا علموا من آيات الله شيئا اتخذوها هزوا ، ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى
لم يمسك رحمته عنهم ، بل ساق إليهم آياته ، تحمل إليهم الهدى ، وتدعوهم إليه ،
وتغريهم بالإيمان بالله ، بما تعرض عليهم من دلائل قدرته ، وسوابغ نعمه ..
ثم إنه لكى يكون
من المشركين الضالين إصاخة إلى هذه الدعوة الكريمة من الله سبحانه وتعالى لهم ، ثم
يكون منهم نظر فيما يدعون إليه من النظر فى آيات الله ، وفيما سخر للناس فى
السموات وفى الأرض من نعم ـ لكى يكون من المشركين هذا ، كان على المؤمنين ألا
يدخلوا معهم فى مجال الخصومة الحادة ،
والجدل العنيف ،
فإن ذلك من شأنه أن يثير فى القوم دوافع الكبر والاستعلاء ، وأن يشغلوا بالمؤمنين
، وبالانتصار عليهم فى المقاولة والمصاولة ـ عن النظر فى أنفسهم والإفادة من آيات
الله التي تتلى عليهم ..
ومن أجل هذا جاء
قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) ـ جاء داعيا
المؤمنين إلى أن يتجاوزوا عن سفاهة هؤلاء المشركين ، وألا يلقوا سفههم بسفه مثله ،
حتى تتاح الفرصة لهؤلاء المشركين أن يستمعوا إلى آيات الله ، فى جوّ لا تنعقد فيه
سحب الجدل والخصام ، التي تحجب عنهم الرؤية الصحيحة لآيات الله .. وبهذا تقام
الحجة عليهم ، بعد هذا البلاغ المبين لدعوة الله .. فإذا لم يستجيبوا بعد هذا ، لم
يكن لهم عذر يعتذرون به ، ووقعوا تحت طائلة العقاب الذي هم أهل له .. وهذا ما يشير
إليه قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ قَوْماً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) .. فلقد أزيلت الحواجز التي تحجز القوم عن الاستماع إلى
آيات الله ، حتى لقد احتمل المسلمون ما احتملوا من سفههم وتطاولهم عليهم ، كى
يهيئوا لهم الجوّ الصالح للاستماع ، والنظر ، والتأمل ، فإذا كان بعد هذا ثمة حاجز
يحجزهم عن الإيمان بالله ، فهو من عند أنفسهم ، وكان كفرهم وضلالهم من صنع أيديهم
، التي حجبوا بها نور الحق عنهم ..
وفى قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) .. وفى تنكير «قوم» إشارة إلى قوم بأعيانهم ، وأن أمرهم مع
تنكيرهم ، أظهر من أن يدلّ عليه ، وأن يعرّف به .. وهؤلاء القوم ، هم أولئك
المشركون ، الذين دعى المؤمنون إلى أن يغفروا لهم ، وأن يتجاوزوا عن سيئاتهم
وسفاهاتهم ..
فهؤلاء القوم قد
امتنّ الله سبحانه وتعالى عليهم بهذه المنة العظيمة ، بفضل مقام رسول الله فيهم ،
فلم يعجّل الله سبحانه وتعالى لهم العذاب ، بل أمهلهم إلى آخر لحظة من حياتهم ،
حتى تكون أمامهم فسحة من الوقت ،
يصلحون فيها
أنفسهم ، ويصححون عقيدتهم .. ثم إنه ـ سبحانه ـ بعد أن أفسح لهم المقام فى هذه
الحياة الدنيا ، صرف عنهم الدواعي التي تشغلهم عن الاستماع إلى آيات الله التي
تتلى عليهم ، أو تحول بينهم وبين النظر فيها ، فدعا الله سبحانه وتعالى الذين
آمنوا ، أن يغفروا لهم ، وألا يدخلوا معهم فى جدل .. وهذا كله دليل على مزيد من
الفضل والإحسان إلى هؤلاء القوم .. فإذا لم يستقبلوا هذا الفضل وذلك الإحسان
بالإقبال على الله ، والاستجابة لما يدعوهم سبحانه وتعالى إليه ، من هدى ـ لم يكن
لهم بعد هذا إلا العقاب الأليم ..
وأيام الله ، التي
لا يرجوها هؤلاء المشركون ولا يتوقعونها ، هى الأيام الواقعة فى الحياة الآخرة ،
والمراد بها الحياة الآخرة ، ذاتها ، وإنما عبّر عنها بالأيام ، لأن الأيام دلالة
على وحدة من وحدات الزمن فى الحياة الدنيا ، وهناك فى الحياة الآخرة أيام ذات
دلالة على الزمن ، وإن اختلفت تلك الأيام عن أيام الدنيا فى مقدارها .. وهذا ما
يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله عن أهل الجنة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢ : مريم) ..
وفى إضافة أيام الآخرة إلى الله سبحانه وتعالى ، مع أن الأيام كلها هى أيام الله ـ
إشارة إلى شرف هذه الأيام ، وإلى عظم قدرها ، وأن أيام الحياة الدنيا إذا ووزنت
بها لا تساوى شيئا ، كما يقول الله سبحانه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (٦٤ : العنكبوت)
.. وكما يقول سبحانه : (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦ : الرعد).
فللأيام أقدار
وأوزان عند الله ، كأقدار الناس وأوزانهم ، فالناس كلّهم عباد الله ، ولكن الله
سبحانه يضيف إلى ذاته أهل ودّه ، ومحبته ، تكريما لهم وتشريفا .. فيقول سبحانه : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (١٧ ـ ١٨ : الزمر)
قوله تعالى :
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).
هو تعقيب على
الآيات السابقة ، وما حملت إلى المشركين من دعوة إلى الإيمان ، وما دعت إليه
المؤمنين من الرفق بالمشركين والتجاوز عن جهلهم وسفاهتهم .. فمن استجاب لأمر الله
، وعمل صالحا ، فله جزاء عمله ، ومن أعرض عن الله سبحانه وتعالى ، وركب طرق الباطل
والضلال ، فسيلقى جزاء كفره وضلاله .. فهناك يوم يرجع فيه الناس جميعا إلى الله ،
ويحاسبون على كل ما عملوا ، ويجزون عن الإحسان إحسانا ورضوانا ، وعن السوء عذابا
ونكالا ..
____________________________________
الآيات : (١٦ ـ ٢٢)
(وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ
عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)
هذا
بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ
سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ)
(٢٢)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).
مناسبة هذه الآية
وما بعدها مما فيه ذكر لبنى إسرائيل ، هى أن الآيات السابقة عليها قد وضعت بين يدى
المشركين من قريش هذا الهدى الذي أرسله الله إليهم ، وتلك الرحمة التي ساقها لهم
على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهم يقفون من هذا الهدى وتلك الرحمة ، موقف الشك ،
والاتهام ، والتردد ، وإن ذلك يوشك أن يعرّضهم لعقاب الله ، وينزلهم منازل سخطه
وغضبه ـ فناسب ذلك أن يلفتوا إلى بنى إسرائيل الذين يجاورونهم ، ويعيشون بينهم ،
وإلى ما آتاهم الله من الحكم والنبوة ، وما رزقهم من طيبات ، حيث أنزل عليهم المنّ
والسلوى ، وكانوا بهذا مثلا فريدا فى الناس بكثرة الأنبياء الذين بعثوا فيهم ،
وبالملوك الذين جمعوا بين الملك والنبوة ، فحكموهم بسياسة الملك ، وحكمة النبوة ..
ثم يتلك المعجزات الكثيرة التي جاءتهم من الله سبحانه على يد الأنبياء والرسل ..
فهذه الألطاف والنعم لم تجتمع لمجتمع كهؤلاء القوم ، ومع هذا فقد تحولت تلك النعم
فى أيدى القوم إلى بلاء ونقم ، حيث مكروا بآيات الله وكفروا بها ، فرماهم الله
سبحانه وتعالى ، باللعنة ، وأمطرهم برجوم من سخطه
وغضبه ، وجعل منهم
القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما مضطربا قلقا ، لا
يجدون فيه إلى الأمن والسلام سبيلا ، إذ قطّعهم فى الأرض أمما ، وسلّط عليهم الناس
فى كل مجتمع يعيشون فيه ، كما يقول سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) (١٦٧ : الأعراف).
فهذا التفضيل الذي
فضّل الله به بنى إسرائيل ، هو ابتلاء لهم ، كشف عن نفوسهم الخبيثة ، وطباعهم
الشرسة ، كما يكشف الغيث المنزّل من السماء عن معدن الأرض السبخة التي يصيبها
الماء الغدق ، فإذا هى بعد قليل قد أصبحت مستنقعا آسنا متعفنا ، يؤذى كل من يلم به
..
ففى هذا المثل ،
يرى المشركون عاقبة من يكفر بنعم الله ، ويمكر بآياته .. وها هم أولاء بين يدى نعم
الله وآياته .. فماذا هم فاعلون؟ أيكفرون ويمكرون ، فيلقوا جزاء الكافرين ..
الماكرين .. أم يشكرون ويؤمنون ، فيكون لهم جزاء الشاكرين المؤمنين؟ ذلك ما تكشف
عنه التجربة التي لم يخرجوا منها بعد ..
قوله تعالى :
(وَآتَيْناهُمْ
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ..
هو معطوف على قوله
تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ...) أي وآتيناهم كذلك بينات من الأمر ..
والبينات : هى
المعجزات التي تكشف لهم الطريق إلى الأمر الذي يدعون إليه ، ويؤمرون باتباعه ، وهو
دين الله وشريعته ..
وقوله تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ
ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ـ أي أن هذه
الآيات البينات ، وهذا العلم الذي تحمله تلك الآيات البينات ، قد كان سببا فى
اختلافهم ، فآمن فريق منهم ، وكفر فريق ، وشكّ فريق ، وقد كانوا من قبل هذا العلم
على طريق واحد ، هو طريق الغواية والضلال ..
وفى قوله تعالى : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) ـ إشارة إلى أن
هذا الاختلاف والتفرق الذي حدث بينهم حين جاءهم العلم ، إنما هو عن بغى وعدوان
منهم ، وإلا فقد كان من شأن هذا العلم أن يجمعهم على الهدى ، وأن يقيمهم على طريق
الحق ، لو سلمت نفوسهم من داء البغي والعدوان.
وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم لن يذهب من غير حساب
وجزاء ، بل إن الله سبحانه وتعالى سيحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه ،
فيجزى أهل الضلال بضلالهم ، وأهل الإحسان بإحسانهم.
قوله تعالى :
(ثُمَّ جَعَلْناكَ
عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) ..
هو معطوف على قوله
تعالى : (وَآتَيْناهُمْ
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) .. أي ثم بعد أن آتينا بنى إسرائيل ما آتيناهم من بينات من
دين الله وشريعته ، جعلناك أيها النبي على شريعة من الأمر ، فاتبعها ..
وفى العطف بثم ،
إشارة إلى تراخى الزمن ، بين ما أنزل الله سبحانه
على بنى إسرائيل
من آيات ومعجزات ، وبين بعثه الرسول ، وما أنزل الله الله سبحانه وتعالى عليه من
آياته وكلماته ..
وفى قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ
الْأَمْرِ) ـ إشارة إلى أن
الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يؤت مجرد آيات ، وبينات من الدين ، وإنما
أوتى الدّين كلّه ، وأنه قد جعل القائم على شريعة هذا الدين ، حيث يرد الواردون
إليه ، فيجدون الرّى من هذا المورد ، ويحمل كل وارد ما استطاع حمله منه ..
والشريعة : مورد
الماء .. وفى تشبيه الشريعة الإسلامية بمورد الماء ، إشارة إلى أمور :
أولها : أن القرآن
الكريم ، الذي هو مصدر هذه الشريعة ، هو شىء واحد ، أشبه بالماء ... طبيعة واحدة ،
لا يختلف بعض عن بعض من حيث هو ماء يرده الواردون للسقيا منه .. وكذلك آيات الله
وكلماته ، كلها على سواء فى جلالها وإعجازها وما فيها للأرواح من حياة.
وثانيها : أن
إعجاز القرآن ، يبدو فى كل آية من آياته ، كما يبدو فى القرآن كله .. كالماء تكشف
القطرة منه عن جوهره كله ..
وثالثها : أن ما
أوتيه الرسل من المعجزات ، هو بينات من الدين الذي يدعون إليه ، وليس بيّنة واحدة
، إذ كانت كل معجزة تختلف عن أختها فى صورتها ، وفى آثارها فى الناس .. وهذا ما
يشير إليه قوله تعالى عن الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملائه .. : (ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) (٤٨ : الزخرف) ..
أما ما أوتيه
الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فهو بيّنة واحدة ، وآية واحدة ، وهذا ما يشير
إليه قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ
رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (١ ـ ٣ : البينة)
كما يشير إليه الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فى قوله : «ما من نبى من
الأنبياء إلا أوتى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا
أوحى إلىّ ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
وفى قوله تعالى : (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ـ إشارة إلى أن
هذه الشريعة ، لا يتجه إليها ، ولا يرد مواردها إلا من كانت معهم عقولهم التي
ينظرون بها إلى هذه الشريعة ، ثم يؤديهم هذا النظر إلى العلم الذي يكشف لهم الطريق
إليها .. أما من زهد فى عقله ، وصحب هواه ، فلن يتعرف إلى هذه الشريعة ، ولن يرد
مواردها.
قوله تعالى :
(إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ..
الضمير فى (إِنَّهُمْ) يعود إلى المذكورين فى قوله تعالى فى الآية السابقة (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) .. وهم المشركون الذين استولى عليهم الجهل ، واستبدّ بهم
العمى ، فانقادوا لأهوائهم ، ولم يلتفتوا إلى هذا الهدى الذي يدعون إليه ..
فهؤلاء الضالون ،
ينبغى على النبي أن يدعهم وما اختاروا لأنفسهم ، بعد أن أنذرهم ، ومدّ إليهم حبل
النجاة ، فأعرضوا عنه ، وأن يستقيم هو على طريقه ، وألا يشغل نفسه بهم .. فإنه مسئول
عن نفسه أولا ، وأن هؤلاء الضالين لن يغنوا عن النبي شيئا ، إذا هو شغل بهم ،
وقصّر ـ وحاشاه ـ
فى حق ربه .. وأنه
إنما يتولى المؤمنين ، الذين استجابوا لله وللرسول ، ويعمل على ما يعينهم على البر
والتقوى .. أما الظالمون فإنما يتولى بعضهم بعضا .. لا ولاية لهم من الله ، ولا من
رسوله ، ولا من المؤمنين .. أما المؤمنون فإن بعضهم أولياء بعض ، والله ورسوله
أولياء لهم ، كما يقول سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٥٥ : المائدة) ..
قوله تعالى :
(هذا بَصائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ..
الإشارة هنا إلى
القرآن الكريم ، وهو الشريعة التي جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ النبىّ قائما عليها
..
فهذا القرآن هو (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) ـ أي مراد ومسرح
للعقول ، حيث يقيم لها من النظر فيه ، بصائر ، تتهدى إلى الحق ، وتتعرف إلى مواقع
الهدى ..
والبصائر : جمع
بصيرة ، والبصيرة ، قوة من قوى الإدراك المستنير المشرق .. يرى بها الإنسان من
عالم الحق ، ما يرى البصر من عالم الحسّ ..
وفى تسمية القرآن
بأنه (بَصائِرُ) إشارة إلى أنه هو ذاته عيون مبصرة ، وأنه بقدر ما يفتح
الله للناس منه ، بقدر ما يكون لهم من نور تستبصر به عقولهم ، وبقدر ما يحصلون من (هُدىً) وما ينالون من (رَحْمَةٌ).
وقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ـ إشارة إلى أن
هذا القرآن ، وما فيه من بصائر للناس جميعا وهدى ورحمة لهم ـ لا يرد مورده ، ولا
يرتوى من هذا المورد إلا من جاء إليه بقلب سليم ، مهيأ لاستقبال الخير وتقبله ..
قوله تعالى :
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ .. ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ..
هو تهديد لهؤلاء الذين
دعوا إلى الحق ، فلم يستجيبوا ، ورفعت لهم معالم الاستبصار ، فلم يبصروا ـ فهؤلاء
لهم عذاب شديد ، على حين أن الذين آمنوا واهتدوا سيلقون من الله سبحانه ورحمة
ورضوانا .. فهذا هو ميزان الناس عند الله إنه ميزان عدل ، لا يسوى فيه بين من (اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي اقترفوا الآثام والمنكرات ، وبين الذين آمنوا وعملوا
الصالحات .. فهؤلاء غير أولئك ، فى الدنيا وفى الآخرة جميعا .. إنهم ليسوا سوآء
عند الله فى الدنيا أو فى الآخرة .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ) (٢٨ : ص) ..
فالمؤمنون على هدى
من ربهم فى الدنيا ، وفى الآخرة ، يؤنسهم الإيمان فى الدنيا ، ويملأ قلوبهم أمنا
وطمأنينة ، وهم بهذا الإيمان يلقون ربهم فى الآخرة ، فينزلهم منازل رحمته ورضوانه.
أما الكافرون وأهل
الضلال ، فهم من كفرهم وضلالهم ، لا يجدون برد الطمأنينة فى الدنيا ، ولا ريح
الرحمة فى الآخرة .. وذلك هو الخسران المبين ..
وفى قوله تعالى : (اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) إشارة إلى أن اقتراف السيئات ، لا يكون إلا بجرح فضيلة من
الفضائل ، وبعدوان على حق من الحقوق ..
فالاجتراح من
الجرح ، الذي يجىء عن طريق العدوان ، والذي يوقع صاحبه تحت حكم القصاص منه ، كما
يقول سبحانه : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) (٤٥ : المائدة).
قوله تعالى :
(وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ) ـ يمكن أن يكون
معطوفا على قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) وتكون الآيات الواقعة بين المتعاطفين ، اعتراضا يراد به
الإلفات إلى موقف الناس من آيات الله الكونية أو الكلامية ، وأنهم ليسوا سواء فى
موقفهم من تلك الآيات ، فبعضهم مؤمن مهتد ، وكثير منهم فاسقون ..
ولكلّ من الفريقين
حسابه عند الله ، حيث لا يسوّى بين المؤمنين ، وبين الكافرين الظالمين ..
ثم يجىء بعد هذا
قوله تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) استكمالا لعرض آيات الله الدالة على قدرته ، وعلمه ،
وحكمته ..
ويجوز أن تكون
الواو هنا للحال ، لا للعطف ، ويكون الحال من الفاعل ، وهو الله سبحانه ، فى قوله
تعالى : (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) .. أي أيظن الذين كفروا بالله ، واقترفوا ما اقترفوا من
آثام ـ أن يجعلهم الله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات على سواء فى الحياة ، وفى
الممات ، وفيما بعد الممات؟. أيظنون هذا وقد خلق الله السموات والأرض بالحق؟ إن
هذا ظنّ فاسد ، وما يبنى عليه من تصورات وأحكام لا يكون إلا فاسدا .. فإن هذا الوجود
الذي خلقه الله من مادة الحق ، وأقامه على الحق ، لا يمكن أن يدخل عليه ما يغيّر
صورة الحق.
وإن مما يغير صورة
الحق أن يسّوى بين المحسنين والمسيئين .. وهذا ما لا يكون أبدا واقعا فى ملك الله.
وقوله تعالى : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) معطوف على محذوف دلّ عليه السياق ، أي وخلق الله السموات
والأرض بالحقّ ، وأرسل رسله بالبينات ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس
بالقسط ، ولتقوم عليهم الحجة ، (وَلِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ).
وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) جملة حالية من فاعل الفعل (كَسَبَتْ) المراد به الناس جميعا .. أي أن الجزاء الذي يجزى به الناس
، لا يدخل عليه جور ، ولا يتلبس به ظلم .. فالمحسن ينال جزاء إحسانه ، من غير أن
ينقص منه شىء .. بل سيضاعف له الجزاء .. والمسيء سينال جزاء إساءته وما كسبت يداه
، دون أن يؤخذ بجريرة أحد .. (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١٦٤ : الأنعام).
____________________________________
الآيات : (٢٣ ـ ٣٥)
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ
إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا
ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا
يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ(٢٧) وَتَرى كُلَّ
أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(٢٨) هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ
قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما
لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ
لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)
(٣٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ).
هو عرض لصورة واحد
من صور هؤلاء الضالين ، الذين عموا عن آيات الله ، بعد هذا العرض العام الذي لا حت
فيه صور المبطلين ، الذين خرجوا عن
سنن الحق الذي خلق
الله سبحانه وتعالى به السموات والأرض ، والذي فرّق به الله سبحانه بينهم وبين
المؤمنين ، فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ..
ففى هذه الصورة
المفردة لواحد من آحاد الضالين المكذبين ، يرى كلّ واحد من أهل الزيغ والضلال
وجوده فى هذه الصورة ، وينكشف له الداء المسلط عليه ..
فهذا المكذب بآيات
الله ، المعرض عن دعوة الهدى التي يدعوه إليها رسول الله ـ إنما يتبع هواه ،
وينقاد له ، انقياد المؤمنين لله .. فالإله الذي يعبده هذا السفيه الضال ، هو ما
يقيمه له هواه ، ويصوره له سفهه ، من معبودات يتخذها من دون الله ، من أصنام وغير
أصنام.
والاستفهام هنا
تعجبى ، يراد به الاستهزاء والسخرية من هذا الضال ، وفضحه على الملأ وهو عاكف على
هذا الضلال الذي يعبده من دون الله .. أي إن لم تكن قد رأيت هذا الإنسان المنكود
الضال الذي يعبد هواه ، فها هو ذا ، فانظر إليه!!
واتخاذ الهوى إلها
، إنما هو بالانقياد لهوى النفس ، والامتثال لما تأمر به ..
وفى الأثر : «الهوى
إله معبود».
وقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) جملة حالية من فاعل (اتَّخَذَ) وهو هذا الذي اتخذ هواه إلها معبودا من دون الله .. أي أنه
قد اتخذ إله هواه ، فى الحال التي أضله الله فيها على علم .. وهذا يعنى أنه ، مع
ما جاءه من العلم الذي بلّغه الرسول إياه ، وكشف له به معالم الطريق إلى الله ـ قد
اتبع هواه ، وركب مركب الضلال ..
وفى إسناد الإضلال
لهذا الضال إلى الله سبحانه وتعالى ، إنما هو بسبب
ما كان من إعراض
هذا الضال عن آيات الله ، وعن العلم الذي جاءه منها .. وهذا ما يشير إليه قوله
تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١١٥ : التوبة)
وقوله سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ .. وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥ : الصف).
وقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) ـ معطوف على قوله
تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ) أي وأضله الله إذ دعاه إلى الهدى فلم يستجب لدعوته ، وختم
على سمعه وقلبه ، أي أغلقهما ، وأطبقهما على ما فيهما من ضلال ، فلم تنفذ كلمة
الحق إلى أذنه ، ولم يدخل نور الهدى إلى قلبه ..
فالختم على الشيء
: إغلاقه على ما فيه ..
وقوله تعالى : (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) .. الغشاوة ما يغشى العين من ظلام ، فيحجبها عن أن ترى
الأشياء رؤية كاشفة .. وهذا من الأدواء التي رمى الله سبحانه وتعالى بها أهل
الضلال ، حيث يحجب أبصارهم عن النظر فى آيات الله ، نظرا يكشف ما فيها من حق ،
وهدى ، يهدى إلى الله ، وإلى طريق مستقيم ..
وقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ)؟ أي أنه لا سبيل إلى هداية هذا الإنسان التعس الشقي ، بعد
أن أضله الله سبحانه وتعالى ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة! إن الله
سبحانه قد رماه بهذه الآفات ، وحال بينه وبين أن ينال خيرا من هذا الخير الممدود
على مائدة الهدى .. فمن ذا الذي يمكن أن يرد بهذا الضال موارد الهدى؟ ومن ذا الذي
يفضّ هذا الختم الذي ختم الله به على سمعه وقلبه؟ ومن ذا الذي يرفع هذه الغشاوة
التي ضربها الله على بصره؟ والله سبحانه وتعالى يقول : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧ : الكهف)
وقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ـ دعوة إلى الوقوف
عند هذا المشهد ، الذي يرى فيه هذا الإنسان الذي اتخذ إلهه هواه ، وأضلّه الله بعد
أن جاء العلم ، وختم الله على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ..
فليأخذ كل إنسان
لنفسه عظة من هذا المشهد ، ولينظر إلى نفسه ، فإن كان بالمكان الذي فيه هذا الضّال
فليحاول أن ينخلع عن هذا المكان ، وليمدّ يده إلى الله طالبا العون منه .. فإنه لا
يطلب العون إلا منه ، ولا يرحى الخلاص إلا على يده سبحانه.
قوله تعالى :
(وَقالُوا ما هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
تلقى هذه الآية
أصحاب الزيغ والضلال ، بعد أن أرتهم أنفسهم فى واحد منهم ، قد رماه الله بتلك
الآفات المهلكة ، التي حجبته عن كل هدّى ، وحالت بينه وبين كل سبيل إلى النجاة ..
والآية الكريمة
معطوفة على محذوف ، يفهم من قوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ).
أي أن هؤلاء
المشركين الضالين ، لم يستجيبوا لهذه الدعوة التي تدعوهم إلى التذكر والتدبّر فى
أمرهم .. فلم يتذكروا ولم يتدبروا ، بل أمسكوا بكل ما فى كيانهم من ضلال ، وقالوا
ما كانوا يقولونه من قبل ، من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ، وأنه ليس إلا هذه
الحياة الدنيا ، ولا حياة بعدها.
(وَقالُوا : ما هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ).
أي إن حياتنا ما
هى إلا هذه الحياة الدنيا .. (نَمُوتُ وَنَحْيا) .. أي
لا نرى فيها إلا
هذه الصور المكررة من حياة وموت ، وموت وحياة .. أحياء يموتون ، ومواليد يردّون
إلى الحياة ..! ولا شىء غير هذا .. (وَما يُهْلِكُنا
إِلَّا الدَّهْرُ) وهكذا تمضى بنا الأزمان والدهور ، فتحتوى كلّ حىّ ، وتضمّه
فى كيانها ، وتدرجه فى أكفان العدم الأيدى ..
وما المرء إلا
كالشهاب وضوئه
|
|
يحور رمادا بعد
إذ هو ساطع
|
وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي إن هذا القول الذي يقولونه ، ويقيمون تصوراتهم وأفكارهم
عليه ، إنما هو من واردات الظنّ الذي لا يستند إلى شىء من العلم. (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً) (٣٦ : يونس)
قوله تعالى :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا
بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
أي ومن مقولات
هؤلاء الضّالين ، القائمة على الظّن الفاسد ، أنهم إذا تليت عليهم آيات الله
تحدّثهم عن البعث ، والحساب والجزاء أنكروا هذا الحديث ، وردّوه بلا حجّة ، إلا
هذه الحجة الفاسدة ، وهى أنهم لن يصدّقوا هذا الحديث ، ولن يأخذوا به إلا إذا ردّ
إليهم آباؤهم الذين ذهبوا ، وأن يروهم رأى العين أحياء بينهم! وهذا منطق لا يقبله
عقل .. إذ كيف يقوم الأموات من القبور ، ويعودون إلى الحياة مرة أخرى ، ويعيشون فى
الناس ، ويشاركونهم الحياة فى هذه الدنيا؟ أهذا مما تحتمله الحياة؟. وهل بعث
الأموات من قبورهم ليكونوا فى هذه الحياة الدنيا مرة أخرى ـ مما لا تتسع له
الحياة.؟. إن الحياة الدنيا لا تتسع إلا لأهلها الأحياء فيها ، فإذا ذهبوا جاء
غيرهم ليأخذ
مكانهم .. وهكذا
.. ولو أنه كان من تدبير الله سبحانه أن يردّ الموتى إلى الحياة الدنيا ، ويجعل
لهم مقاما فيها لما كان من هذا التدبير أن يموتوا ، ولظلوا أحياء أبد الدهر ..
وهذا لا يكون إلا إذا لم يكن من هؤلاء الأحياء الخالدين توالد .. لأن التوالد
معناه أن يبقى الخلف ويذهب السلف ..
وانظر كيف يمكن أن
تكون الحياة ليومنا هذا ، لو طلع علينا الأموات الذين ضمتهم الأرض ، واحتواهم
التراب ، منذ كان للناس وجود على هذه الأرض؟ يقول المعرّى ، وقد وقع فى خاطره هذا
التصور :
لو هبّ سكان
القبور من الثرى
|
|
أعيا المحل على
المقيم الساكن
|
لغدوا وقد ملأ
البسيطة بعضهم
|
|
ورأيت معظمهم
بغير أماكن!!
|
فأين هى الأرض
التي تتسع لأجيال الناس ، وهى تكاد تضيق بهذا الجيل من الناس؟.
فهذا القول الذي
يقوله المشركون ، ويتحدون به دعوتهم إلى الإيمان بالحياة الآخرة ـ قول فاسد ، لا
منطق له .. بل إن هؤلاء المشركين أنفسهم لهم أول الذين يدفعونه لو أنه تحقق ، وطلع
عليهم موتاهم من الآباء والأجداد ..
وسمّى قولهم هذا
حجة ، لأنه لا حجة عندهم إلا هو .. فهو كل بضاعتهم فى هذا المقام ..
قوله تعالى :
(قُلِ اللهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ..
هو ردّ على مقولة
هؤلاء المشركين ، وتقرير للحق الذي لا ريب فيه ، دون إقامة وزن لهذه التّرهات التي
يهذون بها ..
(اللهُ يُحْيِيكُمْ) أي هو سبحانه الذي أوجدكم فى هذه الحياة ، وأخرجكم من عالم
الموات إلى عالم الحياة ، وأمسك عليكم هذه الحياة التي ألبسكم إياها (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وهو سبحانه الذي يميتكم ، وينزع عنكم ثوب الحياة الذي
ألقاه عليكم ..
(ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ـ وهو سبحانه الذي
يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى ، لا إلى هذه الدنيا ، وإنما ليدعوكم إلى دار أخرى ،
غير تلك الدار ويجمعكم فيها ..
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .. أي أن أكثر الناس هم الذين يكذبون بالبعث ، وينكرون
اليوم الآخر .. وذلك لما ركبهم من جهل ، وما غشيهم من ضلال ..
قوله تعالى :
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ) ..
أي أن هذا الذي
يكون من حياة وموت ، وبعث ، هو من تدبير الله ، ومن تصريفه فى ملكه ، لا يسأل عما
يفعل .. فمن أسلم نفسه لله ،
فقد فاز ونجا ،
ومن أبى أن يسلم نفسه لله ، فقد خاب وخسر .. وذلك يوم تنكشف له الحقيقة ، ويجد
اليوم الذي كان يكذب به ، والنار التي توعّد الله بها المكذبين ..
قوله تعالى :
(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ
جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) ..
هو معطوف على قوله
تعالى : (يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ) أي وفى هذا اليوم ـ يوم القيامة ـ يخسر المبطلون ، وفى هذا
اليوم ، (تَرى كُلَّ أُمَّةٍ
جاثِيَةً) ..
والخطاب للنبى صلىاللهعليهوسلم ، وهو خطاب لكل من هو من شأنه أن يرى فى هذا اليوم ، ويجد
من نفسه القدرة على النظر إلى ما حوله ، فى هذا الهول الذي يشتمل على الناس ..
والجثو : الإناخة
على الركب .. حيث تنحلّ عزائم الناس من الهول المحيط بهم فى هذا اليوم ، فلا
تحملهم أرجلهم ، فيجثون على ركبهم ..
أي فى هذا اليوم
ترى كل أمة قد اجتمعت ، وجنت على ركبها ..
وقوله تعالى : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) .. هو جواب عن سؤال يعرض لبيان سبب هذا الجثو ، ولهذا وقع
الفصل بين الجملتين .. فكأنه قيل : لم تجثو هذه الأمم؟ فكان الجواب : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي أن هذا الاجتماع ، والاستشهاد من الأمم ، لأن كل أمة
مدعوة إلى كتابها ، الذي تحاسب به ، على حسب شريعتها التي دعيت
إليها .. فلكل أمة
شريعة ، ولكل أمة حسابها على هذه الشريعة .. من حيث اتباعها والاستقامة عليها ، أو
تضييعها. والخروج عنها ..
وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) .. لم تعطف هذه الجملة على ما سبقها ، لأنها فى تقدير جواب
على سؤال مقدر .. فكأنه قيل : لم تدعى الأمم إلى كتابها؟ فكان الجواب : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) .. فهذا هو يوم الحساب والجزاء ، بما تنطق به هذه الكتب
التي فى أيدى الناس من كل أمة ..
قوله تعالى :
(هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) ..
أي أنه حين تجتمع
الأمم ، وتدعى كل أمة إلى تناول كتابها ، يقال للناس وهم يأخذون كتبهم : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِّ) أي يتحدث إليكم بالحق ..
وفى تعدية الفعل
ينطق بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنه ينطق من علوّ ، لأنه حق ، وحيث كان الحق
، فهو على رأس كل أمر ..
وقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي أن فى هذا الكتاب الذي فى أيديكم أعمالكم التي عملتموها
فى دنياكم ، فلا تعجبوا أن تجدوا فى هذا الكتاب كل شىء كان منكم ، لأننا كنا نكتب
ما كنتم تعملون ، كما يقول سبحانه فى موضع آخر : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى
وَنَكْتُبُ
ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢ : يس) ..
والاستنساخ ، نقل
من أصل ينسخ منه ، ويؤخذ عنه ما ينقل .. والأصل هو اللوح المحفوظ .. وهذا يعنى أن
الملائكة الموكلين يحفظ أعمال الناس وتسجيلها إنما ينسخون هذه الأعمال من اللوح
المحفوظ ، التي سبق علم الله بها ، فهى تجرى على ما كان فى علم الله ، وعلى ما
سجّل فى الكتاب الإمام ، وهو اللوح المحفوظ ، كما يقول سبحانه. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ
مُبِينٍ) ..
قوله تعالى :
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) ..
ويبدأ بالذين
آمنوا وعملوا الصالحات ، فلا ينتظر بهم حتى يفصل فى الكافرين والضالين ، وذلك ليروا
وجه الخلاص والنجاة من أول الأمر ، وبذلك تخلو نفوسهم من هواجس القلق ، والفزع ،
لما يرون مما يحلّ بالظالمين ، من بلاء ..
فهؤلاء الذين
آمنوا وعملوا الصالحات ، يدخلهم ربهم فى رحمته ، ويفيض عليهم من إحسانه ، وينزلهم
منازل رضوانه. و (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ) الذي لا فوز مثله ..
قوله تعالى :
(وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ
قَوْماً مُجْرِمِينَ) ..
وإذ يدعى الذين
آمنوا إلى جنات النعيم ، وإذ يخلو الموقف إلا من من الضالين والمكذبين والكافرين ـ
عندئذ يدعى الضالون والكافرون ، يدعون إلى المساءلة والحساب ، وقد عرفوا مقدما
المصير الذي هم صائرون إليه ، فيقال لهم على سبيل التقريع والتنديم : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى
عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) وفى هذا مواجهة لهم بالاتهام ، وحكم عليهم بالإدانة فيما
اتهموا به ..
قوله تعالى :
(وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).
هو مما يقال
للكافرين وأهل الضلال فى موقف الحساب .. وهو معطوف على قوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً
مُجْرِمِينَ) أي وكنتم إذا قيل لكم : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) أنكرتم هذا القول ، ورددتموه على قائليه ، وقلتم فى تجاهل
غبىّ : (ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ؟) إنها لا تقع فى تصورنا إلا من قبيل الظن ، الذي لا يبلغ
بصاحبه مبلغ اليقين. فكيف ندع حياة نحن فيها ، ونتعامل مع حياة أخرى ، لا نراها
إلا من وراء أوهام وظنون؟.
قوله تعالى :
(وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
أي أنه ظهر
للكافرين ما كانوا يعملون من سيئات ، وانكشف لهم وجهها القبيح الذي ينادى عليهم
بالويل والثبور .. (وَحاقَ بِهِمْ) أي حل وأحاط بهم ، هذا اليوم الذي كانوا يستهزئون به ،
وينكرون أن يكون واقعا أبدا ..
قوله تعالى :
(وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما
لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ..
أي ومما يقال
للكافرين فى هذا اليوم ، هذا القول الذي يملأ قلوبهم حسرة ويأسا .. إنهم سيتركون
فى هذا الهول ، كما يترك الشيء المنسيّ ، وذلك لأنهم أهملوا النظر فى يومهم هذا ،
ولم يذكروا أبدا أنهم على وعد معه .. وإن النار لهى مأواهم ، ومنزلهم الذي ينزلونه
فى هذا اليوم ، وإنه لا ناصر لهم يخرجهم من هذا البلاء النازل بهم ..
قوله تعالى :
(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ
لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ).
الإشارة إلى هذا
العذاب الذي يعذّب به الكافرون ، وأنه إنما كان بسبب اتخاذهم آيات الله هزوا ، حيث
كانوا ، إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها ، واستخفوا بها ، وأطلقوا ألسنتهم
بالهذر من القول فيها .. إنهم يفعلون هذا وملء كيانهم كبر وغرور بالحياة الدنيا ،
وما يتقلبون فيه منها من متاع ..
وفى قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا
هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) وفى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ـ إشارة إلى تنوع مواقع
المساءات التي تأتيهم من كل جهة .. فتارة يواجهون بما يسيئهم ، وتارة تجيئهم
المساءات من حيث لا يشعرون .. فهم إذ يواجهون بهذا التقريع لما كان منهم من الهزؤ
بآيات الله ، والغرور بدنياهم ـ يجيئهم صوت من بعيد بهذه الصاعقة التي تنصب على
رءوسهم :
(فَالْيَوْمَ لا
يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي أنه لا خروج لهم من هذه النار التي ألقوا فيها ، ولا
يسمع منهم عذر ، ولا يقبل لهم اعتذار.
____________________________________
الآيتان : (٣٦ ـ ٣٧)
(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦)
وَلَهُ
الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(٣٧)
____________________________________
التفسير :
بهاتين الآيتين
الكريمتين تختم السورة ، فيلتقى ختامها مع بدئها ، ويكون أشبه بالتعقيب عليه ..
فقد بدأت السورة بالإشارة إلى القرآن الكريم ، وبأنه منزل من الله العزيز الحكيم.
ثم تلا ذلك الإشارة إلى السموات والأرض وما فيهما من آيات المؤمنين .. وكان مؤدّى
هذا ، أن كثيرا من الناس ، نظروا فى آيات الله القرآنية ، والكونية ، فرأوا فيها
آيات من جلال الله ، وعظمته ، وقدرته ، فآمنوا بالله ، وانشرحت صدورهم ، واطمأنت
قلوبهم بهذا الإيمان ، ومن أجل هذا فهم يحمدون الله ، ويشكرون له ، أن هداهم
للإيمان ..
فالحمد لله وحده ،
لا شريك له ، هو سبحانه المستحق للحمد ، لأنه رب السموات والأرض. وهو المتفرد
بالحكم والسلطان فيهما ، بعزته ، وحكمته .. فالعزة ، سلطان غالب قاهر ، والحكمة ،
ميزان حق وعدل فى يد العزة الغالبة القاهرة ، فلا ظلم ولا جور من سلطان العزة
الغالبة القاهرة ..
***
٤٦ ـ سورة الأحقاف
نزولها : مكية
بإجماع
عدد آياتها : خمس
وثلاثون آية
عدد كلماتها :
ثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة
عدد حروفها :
ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الجاثية
بحمد الله ، من عباده المؤمنين ، الذين نظروا فى آيات الله القرآنية والكونية ،
وفرأوا فيها دلائل قدرة الله ، وعلمه ، وحكمته .. ومن ثمّ كان إيمانهم بالله ،
وحمدهم له ، أن هداهم إلى الإيمان ..
وهنا تبدأ سورة
الأحقاف ، فتكشف عن الوجه الآخر من وجوه الناس ، وموقفهم من آيات الله .. وهؤلاء
هم المشركون ، الكافرون ، الذين عرضت عليهم آيات الله ، فأعرضوا عنها ، وتليت
عليهم آياته ، فصمّووا آذانهم عنها ..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات : (١ ـ ٦)
(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ
لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥)
وَإِذا
حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)
(٦)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(حم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) .. مضى تفسير
هاتين الآيتين فى أول السورة السابقة : (الجاثية).
قوله تعالى :
(ما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ).
أي أن خلق السموات
والأرض وما بينهما ، كان خلقا قائما على الحق ،
متلبسا به ، فما
خلق شىء فى هذا الوجود إلا بحكمة وتقد. وما خلق شىء عبثا أو لهوا ، كما يقول
سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) .. فكل ذرة فى هذا الوجود ، لها مكانها فيه ، ولها وظيفتها
التي تؤديها لانتظام نظامه ، واتساق حركته : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٣ : الملك).
وقوله تعالى : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) معطوف على قوله تعالى : (بِالْحَقِّ) أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وبتقدير
أجل مسمّى لكل مخلوق خلق .. فكل مخلوق خلق لغاية ، وحكمة .. وكل مخلوق له أجل
ينتهى به دوره ، كما يقول سبحانه وتعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ) (٤٩ : يونس) وكما
يقول سبحانه : (لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتابٌ) (٣٨ : الرعد).
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا
مُعْرِضُونَ) .. جملة حالية ، تكشف عن موقف بعض مخلوقات الله التي خرجت
عن سنن الحق الذي قام عليه الوجود كله .. فهؤلاء الذين كفروا ، لم يقفوا عند حدّ
كفرهم ، وانحرافهم عن جادة الطريق ، بل إنهم ـ مع كفرهم وضلالهم ـ لم يقبلوا دعوة
الهدى ، ولم يستمعوا إلى هذا النذير ، الذي جاء ينذرهم ويحذرهم عاقبة كفرهم
وضلالهم ..
وفى الجمع بين
كتاب الله المنزّل من الله العزيز الحكيم ، وبين السموات والأرض والحق الذي خلقا
به ـ فى هذا الجمع ، إشارة إلى أن آيات الله القرآنية ، وآياته الكونية ، على سواء
، فى أنها جميعا من الحق ، وأن ما يتلوه أصحاب الألباب من صحف الكون ، هو شبيه بما
يتلونه من كتاب الله ، وآياته .. فمن لم تنفذ العبرة والعظة إلى قلبه عن طريق
السمع ، بما يتلى عليه من
آيات الله وكلماته
كان له من نظره فى آيات الله الكونية ، ما يفتح له الطريق إلى الله .. أما من أغمض
عينيه عن آيات الله الكونية ، وأصم أذنيه ، عن آيات الله القرآنية فهيهات أن تنفذ
إلى قلبه شعاعة من هدى ، أو قبسة من نور ..
قوله تعالى :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
المراد بالاستفهام
فى قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟) هو إلفات المشركين إلى هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من
دون الله ، وإعادة النظر إليهم ، نظرا فاحصا محقّقا ، وذلك ليجيبوا على ما يسألون
عنه فى شأن هؤلاء المعبودين .. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء المشركين ، كانوا فى
غفلة عن معبوداتهم تلك ، وأنهم إنما يعبدونها عن تقليد ، بلا وعى أو تفكير ..
ولهذا طلب إليهم أن يعيدوا النظر فى معبوداتهم تلك ، وأن يتحققوا من صفاتها ، وما
تملك بين أيديها من قوّى ..
وقوله تعالى : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) ..
هو السؤال الذي
يطلب إلى المشركين الإجابة عليه ، بعد أن استعدوا لهذا الامتحان ، بالنظر إلى
معبوداتهم ، والكشف عن حقيقتها ..
والسؤال هو : (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)؟ أي ماذا لهؤلاء المعبودين من مخلوقات فى الأرض؟ وأىّ شىء
خلقوه منها؟ (أَرُونِي ما ذا
خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟) إنه لا شىء لهم فيما على هذه الأرض من مخلوقات ، كبر شأنها
أم
صغر .. إنهم لن
يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له .. كما يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). (٧٣ : الحج) ..
وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) هو إضراب عن السؤال السابق ، بعد أن عرف الجواب عنه ، وهو
الصمت والوجوم .. وإنشاء لسؤال آخر ، فربما وجد المشركون جوابا له ، بعد أن عجزوا
عن الإجابة عن السؤال الأول ..
(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ
فِي السَّماواتِ؟) أي إذا لم يكن لهؤلاء المعبودين شىء مما خلق الله سبحانه
وتعالى فى الأرض من مخلوقات .. فهل لهم شركة مع الله فيما خلق فى السموات؟ وإنه لا
جواب على هذا إلا العجز الصامت ، والوجوم المطبق! ..
فإن كان هناك من
يكابر ، ويأبى إلا أن يجعل لهذه المعبودات سلطانا فى السموات أو فى الأرض ، فليأت
بكتاب من عند الله من الكتب التي سبقت القرآن الكريم ، وتقدمت نزوله .. فإن لم يكن
كتاب فليكن (أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي أثر ولو قليل من علم ، مصدره أهل الذكر والعلم .. وهذا
ما يشير إليه قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٨ : الحج) ..
وفى السؤال عما
للمعبودين فى الأرض بلفظ «الخلق» وعما لهم فى السموات بلفظ «الشرك» ـ فى هذا
مراعاة لمقتضى الحال التي عليها المشركون مع آلهتهم .. حيث يبدو لهم من معبوداتهم
أن لها تدبيرا وتصريفا مستقلا فى شئون الحياة .. كما كان فرعون يدّعى أنه بألوهيته
، هو الذي يمد قومه بأسباب الحياة ، وما ينزل عليهم من مطر ، أو ينبت من نبات ..
وكما كان
يدهى «النمرود»
أنه يحيى ويميت ، وفى هذا يقول الله تعالى : (إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) (٢٥٨ : البقرة).
أما العالم العلوي
، فإن دعوى خلق شىء من عوالمه ، أكبر من أن يتسع لها ادعاء ، على حين يمكن أن
تدّعى الشركة ، وأن ينسج لها ثوب ملفق من الوهم والخيال .. حيث لا يطالب الشريك
بالتصريف فى شىء ، منفردا عن شريكه ..
قوله تعالى :
(وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) ..
هو تعقيب على هذا
الموقف الذي وقف منه المشركون مع معبوداتهم ، موقف امتحان وابتلاء .. وقد تكشف لهم
من هذا الامتحان أن معبوداتهم تلك ، لا تملك شيئا من هذا الوجود فى أرضه أو سمواته
.. وإذن فما أضل من يعبدها ، ويرجو العون منها .. إنها لا تستجيب لمن يدعوها ، ولو
امتد دعاؤه ، وطال وقوفه بين يديها إلى يوم القيامة .. إنها لا تملك شيئا ، ولن
تملكه ، حالا أو مستقبلا .. وطلب شىء ممن لا يملك شيئا ، هو السفه الجهول ،
والضلال المبين ..
وقوله تعالى : (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) جملة حالية ، تكشف عن غفلة هذه المعبودات ، عن دعاء من
يدعونها .. إنها لا تسمع ، ولو سمعت ما استجابت ، لأنها فى قيد العجز المطلق ،
الذي لا تملك معه من أمر الله فى عباده شيئا .. وفى هذا يقول الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦ : الإسراء)
ويقول سبحانه :
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) (١٤ : فاطر).
وفى التعبير عن
عدم الاستجابة بالغفلة ، إشارة إلى استخفاف هذه المعبودات بعابديها ، وأنها لا
تلتفت إليهم ، ولا تأبه لدعائهم ، حتى ولو كان من شأنها أن تسمع وتعقل.
قوله تعالى :
(وَإِذا حُشِرَ
النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ).
أي وليس هذا الذي
تلقى به هذه المعبودات عابديها ، من استخفاف بهم ، وشغل عنهم ـ ليس هذا كل ما
هنالك .. بل إن لهذا الحساب بقية فى الآخرة ، حيث تنتظر هذه المعبودات من عبدوها
فى موقف الحساب والجزاء ، وهناك تقف منهم موقف العداوة والخصومة ، حيث تشهد عليهم
بأنهم كانوا كافرين بالله ، مفترين عليها بتأليهها ، وعبادتها ، وجعلها أندادا لله
سبحانه .. وهذه جريمة شنيعة ، ألصقها هؤلاء المشركون بتلك المعبودات ، وإن من حق
هذه المعبودات أن تطلب القصاص من عابديها ، الذين عرضوها فى معرض البهتان والضلال
..
____________________________________
الآيات : (٧ ـ ١٤)
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ(٧) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ
أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ
الرُّسُلِ
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ
وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ
يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
وَمِنْ
قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً
عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
إِنَّ
الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)
(١٤)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).
أي أن هؤلاء
المشركين الذين انكشف لهم ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ، من ضعف وعجز
عن أن تملك لهم ضرا أو نفعا ـ لم يكن لهم من العقل والرأى ما يحولهم عن موقفهم هذا
الذي جمدوا عليه مع آلهتهم ، وحتى إنهم إذا تليت عليهم آيات الله بينة بيان الصبح
، مشرقة إشراق الضّحى ، خدعوا أنفسهم عنها ، وقالوا هذا سحر
مبين .. إذ لم
يستطيعوا أن ينكروا سلطان هذه الآيات ، أو يدفعوا حجتها القائمة عليهم ، إذ كان
سلطانها أكبر من أن يدفع ، وكانت حجتها أقوى من أن ترد ـ فكان هروبهم منها وفرارهم
من بين يديها ، مستندا إلى هذا الادعاء الباطل ، بأن هذه الآيات من السحر المبين ،
الذي يملك «محمد» من أعاجيبه وحيله ، مالا يملكون ..
وفى إظهار الضمير
فى «عليهم» «وآياتنا» كشف للحقيقة المنطوية فيهما .. فضمير المشركين ، يطوى تحت
كيانه وجها منكرا من وجوه الناس ، هم (الَّذِينَ كَفَرُوا) .. وضمير الآيات البينات ، يضم تحت جناحيه ، الحق المبين
..
وفى قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ
لَمَّا جاءَهُمْ) ـ إشارة إلى أن
هذا الحق الذي طلع على المشركين من تلك الآيات البينات التي تليت عليهم ـ كان من
الظهور والبيان بحيث يرونه رأى العين ، حتى إنه ليتمثل لهم منه كائن شخصى ، عاقل ،
يجىء إليهم ، ويخاطبونه ، ويشيرون إليه قائلين (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).
قوله تعالى :
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ .. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً
هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
هو إضراب عن
مقولتهم عن القرآن ، هذا سحر مبين» وعدول عن هذا القول إلى قول آخر ، إذ لم
يطمئنوا إلى هذا القول فى القرآن .. فهو آيات بينة المعنى ، واضحة القصد ، وكلمات
محددة الدلالة ، صريحة المعنى ، فمن أين يكون بينها وبين السحر جامعة تجمعها به ،
والعهد بالسحر ، أنه
خفايا وأسرار ،
تطلع من وراء ستر محجبة ، لا يعرف الطريق إليها إلا أصحابها ، الذين يخيّلون للناس
منها ما يخيلون ..
فالقول بأن هذا
القرآن مفترى على الله أقرب إلى القبول فى باب الجدل والمراء من القول بأنه سحر ..
ولكن هذا القول لا يلبث أن ينكشف زيفه وبطلانه إذا وضع موضع الاختيار ، إذا قيل
لقائليه : ما لكم لا تأتون بعشر سور مثله مفتريات ، أو بسورة واحدة مفتراة؟ وماذا
يحول بينكم وبين الافتراء ، والمجال فيه متسع فسيح لمن يشاء أن يرد موارده؟.
وقد ردّ الله
سبحانه وتعالى على مقولتهم تلك ، فى غير هذا الموضع من القرآن الكريم ، فقال تعالى
: (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (١٣ : هود) ..
وهنا ، فى هذا
الموقف يلقاهم ، رد آخر فى قوله تعالى : (قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) .. وهذا الرد يتجه إلى الافتراء من حيث هو كذب على الله ،
وعدوان عليه سبحانه وتعالى ، وأن من افترى على الله فقد تعرض لسخطه ونقمته ، وأنه
لا أحد يدفع عن المفترى على الله سخط الله ، وعذاب الله! فلم يفترى النبي على الله
، ولم يعرض نفسه لهذا البلاء؟ وما الثمن الذي أخذه من وراء هذه المجازفة؟.
وقوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) هو تهديد للمشركين بقولهم هذا الذي يقولونه فى كلمات الله
وآياته ..
وأفاض فى الحديث :
توسع فيه ، وأكثر منه .. حتى يجاوز الحدود ، ويخرج عنها ، كما يفيض السائل من
الإناء ، ويسيل فى كل مسيل ..
وإفاضة القوم فى
القرآن ، هو مقولاتهم الكثيرة فيه ، وهى مقولات
باطلة لا حدود لها
، وهذا يعنى أن مقولاتهم فى القرآن مقولات باطلة ، تتسع لكل قول .. ولو أنهم قالوا
قولا حقا ، لما كان لهم إلا قولة واحدة ، هى أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه
الحق من ربهم ..
وقوله تعالى : (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ) .. تهديد ووعيد آخر للمشركين ، وأنهم فى موضع الحساب
والمسألة من الله تعالى ، وأنهم مأخوذون بما يقولون من مفتريات على آيات الله ،
وعلى رسول الله.
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ـ دعوة إلى هؤلاء
المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم ، وأن يطلبوا النجاة من هذا الموقف المهلك الذي هم
فيه ، وأن يفرّوا إلى الله ، وأن يطلبوا المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم ..
وفى هذه الدعوة ـ إشارة
إلى أن الرسول الكريم ، إنما جاء رحمة للناس من ربه ، وأنّ ربه غفور رحيم ، يقبل
التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات .. وأن هؤلاء المشركين فى معرض المغفرة
والرحمة ، إذا هم طلبوا مغفرة الله ورحمته ..
قوله تعالى :
(قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..
هو دعوة أخرى إلى
هؤلاء المشركين ، أن يعيدوا النظر فى هذا النبىّ ، وفيما يدعوهم إليه .. إنه بشر
مثلهم ، شأنه فى هذا شأن المرسلين من قبله إلى أقوامهم .. وهو إنما يبلغ ما يتلقاه
من ربه ، شأنه فى هذا أيضا شأن كل رسول قبله .. فهو ليس بدعا من الرسل ، أي ليس
على صورة غريبة ، خارجة عما
جاء عليه الرسل من
قبله ، سواء فى شخصه ، أو فى مضمون ما أرسل به .. فماذا ينكر القوم منه؟
وفى قوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا
بِكُمْ) .. هو تقرير لبشرية الرسول ، وأنه ليس إلا عبدا من عباد
الله ، لا يعلم الغيب ، ولا يملك لنفسه ، ولا لأحد ضرّا ولا نفعا ، إلا ما شاء
الله ..
(قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨ : الأعراف)
..
قوله تعالى :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..
هو تحريض للمشركين
من قريش على أن يسبقوا إلى هذا الخير الذي يدعوهم النبىّ إليه ، وأن يسارعوا إلى
أخذ حظهم منه ، قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من أهل الكتاب الذين يعرفون أنه الحقّ من
ربهم ، وأن بعضا منهم ـ ممن لا يستبد به الحسد ، ولا تغلبه شقوته ـ سيؤمن بهذا
القرآن ، ويهتدى بهديه ..
وتحرير معنى الآية
.. ماذا يكون موقفكم أيها المشركون ، إذا كان هذا القرآن من عند الله ، وقد كفرتم
به ، على حين أن بعضا من اليهود قد عرف وجه الحق فيه ، ورأى من آيات الحقّ منه ،
مثل ما رأى فى الكتاب الذي معه ، فآمن بالله ، وصدق بهذا القرآن واستكبرتم أنتم
حين عرفتم الحقّ ولم تؤمنوا ـ ماذا يكون موقفكم ، وقد فاتكم هذا الخير الذي
أعطيتموه ظهركم؟
ألا يكون منكم
إلّا الانطلاق فى هذا الضلال الذي أنتم فيه إلى غاياته؟ إن ذلك عدوان منكم على
الحق ، وظلم مبين منكم لأنفسكم ، والله لا يهدى القوم الظالمين ، الذين يرون الحقّ
، ويأبون أن يأخذوا طريقهم معه!
هذا ، وقد كاد
يكون إجماع من المفسرين على أن هذه الآية قد نزلت فى عبد الله ابن سلام ، وهو من
اليهود الذين دخلوا فى الإسلام ، ويأتون على هذا بأخبار ومرويات من الأحاديث فى
كتب الصحاح كالبخارى ومسلم ، وغيرهما ..
والسورة مكية ،
وليس هناك شاهد قوىّ يشهد بأن هذه الآية مدنية ـ كما يقول بذلك الذين يذكرون سبب
نزولها ـ بل إن هناك أكثر من شاهد بأنها مكية ..
فأولا : أن السياق
متصل ، بحيث يجعل الآية فى مواجهة هؤلاء المشركين الذين يخاجون النبىّ ويرمونه
بالكذب والافتراء وفى هذه المواجهة يرى المشركون أن موقفهم من الرسول ، ومن القرآن
، سينتهى بهم إلى أن يسبقهم أهل الكتاب إلى هذا الرسول الذي كانوا يتمنون على لله
أن يكون لهم كتاب مثل أهل الكتاب .. وكانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) (١٥٧ : الأنعام)
وها هم أولاء قد جاءهم الكتاب ، ويوشك أن يفلت من أيديهم
وثانيا : أن فى
هذه لآية المكية ، دعوة غير مباشرة إلى أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا الرسول ،
وبالكتاب الذي أنزل إليه من ربه وفى هذه الدعوة إرهاص بالمواجهة التي سيواجه فيها
الرسول والقرآن أهل الكتاب ، فيما بعد ، وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى دعوة أهل
الكتاب إليه ، وهو فى الطريق إليهم ، قبل أن يلقاهم لقاء مباشرا
وإذن فليس هناك
داعية إلى القول بأن هذه الآية مدنية ، وبالتالى أنها نزلت فى عبد الله بن سلام أو
غيره .. وإن الذي ينظر فى الأحاديث والمرويات ، التي ذكرت فى هذا المقام ، يرى
فيها اختلافا ، وتضاربا ، بحيث ينقض بعضها بعضها ، ويهدم بعضها بعضا مما يجعل
مجاوزتها والعدول عنها ، أولى من الوقوف عندها ، وأخذ شىء منها ..
قوله تعالى :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ
يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) ..
أي ومن الشّبه
والضلالات التي أضلت المشركين عن الإيمان بالله والاستجابة للرسول ـ أن كثيرا من
الذين سبقوهم إلى الإيمان بالله ، والاستجابة للرسول ، كانوا من الفقراء ،
والمستضعفين ، كبلال ، وعمار ، وصهيب ، وغيرهم ممن سبقوا إلى الإسلام .. وهذا عند
المشركين من الأدلة الناطقة بأن هذا الذي يدعو إليه محمد ، ليس مما تهفو إليه نفوس
أصحاب الجاه ، والمنزلة .. فى الناس ، وأنه لو كان كذلك لما سبق إليه الأرقاء
والمستضعفون فيهم وكيف .. وهم السابقون إلى عايات السيادة والمجد ، يسبقهم عبيدهم
وإماؤهم إلى أمر ، ثم يكونون هم وراءهم ، يأخذون مكانهم فى الصفوف المتأخرة فيه؟
وإذن فهذا الذي يدعو إليه محمد ليس إلا إفكا مفترى ، ولهذا كان المنخدعون به ، هم
أولئك الأرقاء والأدلاء من بينهم وهكذا تأمرهم أحلامهم ، وتسوّل لهم أنفسهم!!
قوله تعالى :
(وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) ..
هو رد على مقولة
المشركين فى القرآن بأنه إفك قديم. أي أن هذا القرآن ليس إفكا قديما كما يدعون ..
فلقد سبقه كتاب موسى ، الذي هو إمام أي هدى يهتدى به الناس ، ورحمة من الله إليهم
.. وهذا القرآن هو مصدق لما فى كتاب موسى ، لينذر هؤلاء المشركين الذين ظلموا
أنفسهم بالإعراض عنه ، ويبشر المحسنين ، الذين أحسنوا إلى أنفسهم بهذا الخير الذي
ساقوه إليها من هذا الكتاب ..
وفى قوله تعالى : (لِساناً عَرَبِيًّا) مقابلة لقوله تعالى عن كتاب موسى (إِماماً وَرَحْمَةً) .. أي أنه إذا كان كتاب موسى إماما ورحمة ، فإن هذا للكتاب
لسان عربى ، ومن هذا اللسان العربي يتفجر ينابيع الهدى والرحمة .. وفى هذا تنويه
باللسان العربي ، من حيث هو لغة ، فكيف إذا كان هذا اللسان يحمل آيات الله البينة
، وكلمات الله المعجزة؟
قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) ..
هو بيان للمحسنين
، ولما يحمل إليهم القرآن الكريم من بشريات .. وقد جاء هذا البيان على تلك الصورة
التقديرية المؤكدة ، إظهارا لمزيد الاعتناء بهم والتنويه بشأنهم ، وبشأن الجزاء
الكريم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم .. فالمحسنون ، هم الذين قالوا ربنا الله
، أي آمنوا به ، ثم استقاموا على شريعة الله ، فامتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه
.. فهؤلاء هم المحسنون ، وهم الذين لا خوف عليهم مما يخيف أهل الشرك والضلال يوم
القيامة ، وهم الذين لا يحزنون يوم تمتلىء قلوب أهل الشرك والضلال حزنا وكمدا على
ما فرطوا
فى جنب الله ..
إنهم أصحاب الجنة لهم فيها دار الخلد ، فلا يتحولون عنها أبدا ، جزاء ما عملوا فى
دنياهم من طيبات ..
____________________________________
الآيات : (١٥ ـ ٢٠)
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ
لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(١٥)
أُولئِكَ
الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا
يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ
مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)
أُولئِكَ
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ)
(٢٠)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ
ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ
وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي
أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ).
فى هاتين الآيتين
مباحث :
أولا : مناسبتهما
لما قبلهما :
وتبدو هذه
المناسبة فيما تضمنته الآيات السابقة من الإشارة إلى القرآن الكريم ، وأنه يحمل
النذير بالعذاب إلى الذين ظلموا ، والبشرى بالجنة والرضوان للذين آمنوا وأحسنوا ..
ثم ما جاء بعد ذلك من تعقيب بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ...) وما فى هذا التعقيب من بيان لما أعد الله للذين آمنوا
واستقاموا من جزاء كريم فى الآخرة ، وأنهم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ... ثم كان قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ..) دعوة مرافقة للدعوة إلى الإيمان بالله ، وإحسان العمل فى
سبيل مرضاته ، وأن من الإحسان ، الإحسان إلى الوالدين ، فلن يكون الإنسان من
المحسنين ، إذا فاته الإحسان إلى أبويه .. وفى أكثر من موضع من القرآن الكريم ،
اقترن الأمر بطاعة الله ، بطاعة الوالدين ، والإحسان إليهما : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٢٣ : الإسراء) ..
(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٣ ـ ١٤ لقمان).
وثانيا : المراد
بالإنسان فى قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أهو مطلق الإنسان أم هو إنسان بالذات؟ ..
أكثر المفسرين على
أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه ، وأنه هو الإنسان المقصود هنا.
ومستندهم فى هذا ، أن أبا بكر رضى الله عنه ، هو الذي آمن ، وآمن معه والداه ، أول
الدعوة الإسلامية ، وأنه ـ رضى الله عنه ـ كان فى أول الدعوة الإسلامية فى
الأربعين من عمره ، إذ كان ـ كما يقولون ـ أصغر سنّا من النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بنحو عامين ..
والذي نراه ـ ونرجو
أن يكون صوابا ـ هو أن المراد بالإنسان ، هو مطلق هذا الإنسان ، الذي وصاه الله
بوالديه إحسانا .. فهذه الوصاة بالإحسان إلى الوالدين موجهة إلى كل إنسان .. ولكن
كما يتردد بعض الناس فى قبول دعوة إلى الله إلى الإيمان به ، أو يرفض هذه الدعوة ـ
كذلك يتردد بعض الناس فى امتثال أمر الله بالإحسان إلى الوالدين ، أو لا يستجيب
لهذه الدعوة أبدا .. وكما يتوب الله سبحانه وتعالى على العصاة ويتجاوز عن سيئاتهم
، ويقبلهم فى أهل الإيمان والإحسان ، كذلك يقبل الله سبحانه من يراجع نفسه ، ويقبل
بالإحسان إلى والديه بعد أن فرّط وقصر ..
ففى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ...) فى هذا ما يشير إلى شىء من التقصير فى حق الوالدين ، وإلى
مطاولة الزمن وعدم المبادرة بالإحسان إليهما منذ مطلع الصبا والشباب ، حتى امتدّ
هذا التفريط والتقصير إلى أن بلغ هذا الإنسان أشده ، وبلغ أربعين سنة ، حيث استوفى
غاية ما يمكن أن
يبلغه من سلامة
إدراك ، وحسن تقدير .. وعندها ثاب إلى رشده ، وأقبل على والديه ، يصلح من أمره
معهما ما أفسده بتقصيره وتفريطه .. ثم هو فى هذا الموقف ، وقد بلغ من العمر أربعين
سنة ، ينظر إلى ذريته نظرة أبويه إليه ، فيذكر فضلهما عليه ، وإحسانهما إليه ، وما
يؤثرانه به من خير وبرّ ، كما يؤثر هو ذريته من خيره وبره .. وهذا من شأنه أن يحرك
عاطفته الجامدة نحو أبويه ، ويؤدى ما قصر فيه من حقهما ، كما يود أن يؤدى له
أبناؤه ما يجب عليهما له من طاعة وولاء ..
فالإنسان هنا ، هو
الإنسان الذي قصر فى حق والديه ، ثم عاد فأحسن صحبتهما ، وأدى ما يجب عليه نحوهما
.. وبهذا تقبل الله عنه أحسن ما عمل ، وتجاوز عما كان منه من تقصير .. (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ
الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ..
ثالثا : فى قوله
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ..)
الآية ما يدل على
أن الآية السابقة ليست خيرا عن إنسان واحد بعينه ، وإنما هى خبر عن كل إنسان كان
على هذا الوصف من أبويه .. فرّط فى حقهما ، وقصر فى الإحسان إليهما ، ثم كانت منه
توبة إلى الله ، وإحسان إليهما .. وهذا مثل قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠ : الفرقان).
رابعا : من
العبارات التي تحتاج إلى شرح :
قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً
وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي حملته واجدة ما تكره من آلام الحمل والولادة ، لا ما
تكره من الحمل نفسه ، فهى ـ مع هذه
الآلام التي تجدها
ـ حريصة على أن تحمل جنينها ، وأن تتحمل هذه المكاره فى سبيله .. فهى بهذا إنما
ترضى طبيعة الأنثى فيها ، وإن كانت تقاسى ما تقاسى من آلام فى الحمل ، وفى الوضع
..
وقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً) أي مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا .. وقد جمع بين مدة الحمل
ومدة الفطام معا ، للإشارة إلى أن الأمّ تعالى من المشقات وتتحمل من الآلام فى مدة
الرضاع والقيام على شئون وليدها ، نفس المشقات والآلام التي كانت تعانيها وتحتملها
أثناء الحمل والولادة ، وإن اختلفت طعومها وألوانها ..
قوله تعالى :
(وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ
مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ..
فى هذه الآية بيان
للصنف الثاني من الأبناء ، وهم الذين مضوا فى عقوقهم لأبويهم إلى آخر أيام حياتهم
، فلم يكن لهم عند بلوغهم غاية ما يبلغه الإنسان من كمال عقلى ، وتوازن شعورى ،
بعد أن يبلغ أشده ، وتذهب فورة الشباب ، ويسكن جنون الصبا ـ لم يكن لهم عند هذا
واعظ من أنفسهم ، يعظهم ، ويقيم وجوههم على الطريق القويم ..
ثم إنه ليس الذي
كان من عقوق هنا هو مجرّد التقصير فى حق الأبوين ، بل تجاوز هذا إلى العدوان
عليهما ، إذ يدعوانه إلى الخير ، ويمدان إليه أيديهما بالإحسان ، حين يطلبان إليه
أن يؤمن بالله ، وأن يخرج من هذا الضلال الذي اشتمل عليه ، وقاده إلى عذاب جهنم ،
فيلقاهما بهذا الردع
والزجر ، ويرمى فى
وجهيهما بهذه القولة الآثمة : (أُفٍّ لَكُما)!!
وفى قوله تعالى : (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ
خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) ـ استفهام إنكارى
، ينكر به هذا الابن الضال العاق ، على والديه أن يدعواه إلى الإيمان بالله ، وأن
يحدثاه عن البعث والحياة بعد الموت ، وأن هذا أمر لا يصدقه عقل ، وقد مضت القرون ،
ولم يبعث الموتى من قبورهم .. فكيف يكون هناك بعث؟ ولو كان ذلك أمرا كائنا لبعث
الذين ماتوا من آلاف السنين .. هذا هو منطق الضالّين الأغبياء!
وقوله تعالى : (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ
آمِنْ .. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) .. إشارة إلى ما فى قلب الوالدين من حرص على نجاة هذا
الولد العاق ، وإن رماهما بما يسوء من منكر القول .. إنه يقول لهما : (أُفٍّ لَكُما) وهما يستغيثان الله من أجله ، ويطلبان من الله أن يهديه
ويصلح أمره!.
قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) ..
أي أن هذا الصف من
الذين عقّوا آباءهم ، وخرجوا عن طاعتهم ، كما أنهم حادّوا الله ، وحادوا عن طريق
الهدى ـ هؤلاء قد حق عليهم القول ، ووقعوا تحت حكم الله على أهل الضلال والكفر فى
الأمم السابقة من الجن والإنس .. وأولئك هم الخاسرون ، الذين خسروا أنفسهم ،
فكانوا من أصحاب الجحيم ..
هذا ، ويقال إن
هاتين الآيتين ، نزلتا فى عبد الرحمن بن أبى بكر ،
كما نزلت الآيتان
السابقتان عليهما ، فى أبى بكر رضى الله عنه .. وهذا مردود لما يأنى :
أولا : لأن عبد
الرحمن بن أبى بكر قد أسلم ، وأنه لو صحّ منه هذا الموقف قبل إسلامه ، لكان إسلامه
دافعا عنه هذا الحكم الذي تضمنته الآية ، والذي سلك أهله فى سلك الفاسقين الذين حق
عليهم القول ، ولكان ثوب الإسلام الذي لبسه ، ساترا له ، إلى أن يلقى ربه بما هو
عليه من عمل ..
وثانيا : لأن أبا
بكر ـ الذي قيل إن الآيتين السابقتين نزلتا فيه ـ قد كان من دعائه قوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) .. فكيف يكون من أبى بكر هذا الدعاء ، ثم يكون من ذريته من
يفضحه الله بهذا الخزي على الملأ ، ويلبسه ثوب جهنم فى الدنيا؟ أيتفق هذا وما لأبى
بكر عند الله من هذا المقام الكريم الذي سجله القرآن فى أكثر من موضع؟
قوله تعالى :
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
أي ولكل من هذين
الصنفين من الأبناء ، درجاتهم ومنازلهم عند الله ، بحسب أعمالهم ، التي يوفون
جزاءها بالحق ، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان ، وأهل الإساءة بالإساءة ، .. ولا يظلم
ربك أحدا ..
قوله تعالى :
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ) ..
هو عرض لمشهد من
مشاهد القيامة ، يرى فيه الكافرون وقد وقفوا موقف الحساب ، والمساءلة ، على ما كان
منهم فى حياتهم الدنيا ، من بغى ، واستكبار فى الأرض بغير الحق.
إن الكافرين
والضالين ، إذ يعرضون على النار فى هذا اليوم ، ويساقون إلى العذاب الأليم فيها ،
يقال لهم وهم على شفيرها : هذا جزاؤكم ، فلقد أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا ،
واستمتعتم بها ، ولم تدخروا منها شيئا لهذا اليوم .. لقد كانت معكم عقول تعقلون
بها ، وآذان تسمعون بها ، وأعين تبصرون بها ، فما استعملتم شيئا من هذا فى سبيل
التعرف على الله ، والاهتداء إليه ، بل صرفتم هذا كله إلى مواقع الكفر والضلال : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) الذي تهدر فيه آدميتكم ، وتذهب كرامتكم ، فلا يكون لكم إلا
الهوان والإذلال ، إذ كنتم ولا عقل معكم ، ولا سمع ، ولا بصر! وهذا ما يشير إليه
قوله تعالى فى هذه السورة : (وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ
وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ
بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (الآية : ٢٦).
فالطيبات التي
أذهبها الكافرون فى حياتهم الدنيا ، هى تلك القوى التي أودعها الله سبحانه وتعالى
فيهم ، من عقل ، وسمع ، وبصر ، ونحوها مما يكون به الإنسان إنسانا ، والتي يكشف
بها مواقع الهدى والخير .. وقد عطل الكافرون هذه القوى ، وأفسدوها حين صرفوها فى
وجوه الفساد ، وفى اصطياد اللذات وجلب الشهوات ..
____________________________________
الآيات : (٢١ ـ ٢٨)
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
قالُوا
أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ
عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
وَلَقَدْ
أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا
نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا
عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)
(٢٨)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ) ..
كانت الآية
السابقة مواجهة للمشركين ، بما يلقى الكافرون من عذاب وبلاء فى الآخرة .. وهنا فى
هذه القصة مواجهة لهم بما لقى الكافرون المكذبون بآيات الله ورسله من بلاء ونكال
فى الدنيا .. فإذا لم يصدّق المشركون بالآخرة وبما ينتظرهم عندها من عذاب جهنّم ،
فإنه لا مفر لهم من أن يصدقوا بهذا الواقع الذي يرونه بين أيديهم من مصارع الضالين
، وما رماهم الله سبحانه وتعالى به من مهلكات فى هذه الدنيا.
وأخو عاد ، هو «هود»
عليهالسلام ، وعاد هم قومه ، وسمّى أخاهم ، لأنه منهم ، وليس غريبا
عنهم ..
والأحقاف ، جمع
حقف ، وهو الكثيب من الرمل ، يستطيل ، ويمتد فى غير استقامة ..
وقد كانت منازل
عاد على مثل هذه الأماكن ، وهى فى جنوب اليمن ، وفيها إرم ، ذات العماد ..
وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي مضت النذر التي رآها القوم ، أو سمعوا أخبارها من
آبائهم .. فالنذر التي بين يديه هى الأحداث القريبة ، والتي من خلفه ، هى الأحداث
البعيدة .. كما يقول الله سبحانه على لسان هود مذكرا قومه بما حدث لقوم نوح : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ
مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) (٦٩ : الأعراف).
وقوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) هو النذير الذي أنذر به هود قومه ، وهو تحذيرهم من أن
يعبدوا غير الله .. فإنهم لو عبدوا غير الله لساءت عاقبتهم ، ولحل بهم العذاب
الأليم فى الدنيا والآخرة جميعا ..
قوله تعالى :
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) ..
هذا هو رد القوم
على دعوة رسولهم لهم ، وتحذيرهم من الخطر الداهم الذي سيقع بهم ، إذا هم أمسكوا
بكفرهم وضلالهم ، ولم يخلصوا دينهم لربهم ..
(قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) ..
والاستفهام إنكارى
، إذ ينكرون على هود هذه الدعوة التي يدعوهم إليها ، ويتهمونه بأنه إنما جاء
ليضلهم عن آلهتهم ، ويصرفهم عنها ، ويفسد ما بينهم وبينها ..
وقوله تعالى : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ) هو تحدّ لرسولهم ، مع تكذيبهم له ، واتهامهم إياه ، وبأنه
إنما جاء ليفسد عليهم دينهم الذي ارتضوه .. وأنه إذا كان صادقا فيما يهددهم به من
عذاب الله ، فليأت به!
قوله تعالى :
(قالَ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ) ..
هو ردّ «هود» على
هذا التحذير .. إنه لا يعلم ما سيطلع عليهم فى غدهم من خير وشر ، فذلك علمه عند
الله ، وإنما هو رسول يبلغ رسالة ربه إليهم .. وإن كان الذي يتوقعه فيهم ، هو أن
يحل بهم العذاب ، لأنهم فى جهل مطبق ، لا يرون معه طريق الحق أبدا .. ومن كان هذا
شأنه ، فهو فى معرض البلاء والنقمة من الله سبحانه ..
قوله تعالى :
(فَلَمَّا رَأَوْهُ
عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا .. بَلْ هُوَ
مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) ..
العارض : السحاب
الذي اعترض فى الأفق فسدّه.
والضمير فى قوله
تعالى : (رَأَوْهُ) يعود إلى العذاب الذي أنذروا به ، وقد جاءهم فى صورة رحمة
، وهو السحاب المطر ، وذلك ليكون العذاب أشد وقعا حيث يجيئهم على حال كانوا
يتوقعون فيها الخير والعافية من جهته ..
(فَلَمَّا رَأَوْهُ
عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي فلما رأوا السحاب مقبلا نحو أوديتهم فرحوا واستبشروا ،
وقالوا هذا عارض ممطرنا ..!!
وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ
رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) هو رد على قولهم هذا عارض ممطرنا ، وهو بلسان الحال
والواقع .. إنه ليس سحابا ممطرا بل إن الذي ترونه هو ريح عاصفة ، محملة بالأتربة
والرمال ، حتى ليخيّل إليكم منها أنها سحاب مقبل بالغيث ، وهى فى الحقيقة مرسلة
إليكم بالعذاب الأليم ..
وقوله تعالى :
(تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) ..
أي أن هذه الريح
لا تمر على شىء إلا دمرته ، وذهبت بمعالم الحياة والخير فيه .. إنها آية من عند
الله ، مسلطة على أعداء الله ، ترميهم بالهلاك والدمار ..
كما يقول الله
سبحانه وتعالى فى وصف هذه الريح فى آية أخرى : (ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢ : الذاريات)
وفيها يقول سبحانه أيضا :
(وَأَمَّا عادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ
أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٦ ـ ٨ : الحاقة)
..
وفى قوله تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ) وعيد وتهديد للمشركين ، الذين يأخذون موقف قوم عاد ، من
التكذيب للرسول ، والتحدي له .. وقد عرفوا ورأوا بأعينهم مساكن قوم عاد ، وقد
أصبحت معلما من معالم الخراب ، وإن الذي حلّ بقوم عاد لموشك أن يحل بهم ، إن لم
يتحولوا عن موقفهم هذا الذي هم فيه ..
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..
الضمير فى (مَكَّنَّاهُمْ) يراد به قوم هود ، وأما ضمير المخاطب فى (مَكَّنَّاكُمْ) فيراد به المشركون من قريش .. «وإن» هنا للنفى بمعنى «ما»
أي ما مكناكم فيه .. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد مكن لقوم عاد فى الأرض ،
وأمدهم بأنعام وبنين ، وكانوا على حال من الأمن والكفاية أكثر مما عليه هؤلاء
المشركون ..
وهذا ما يشير إليه
قوله تعالى فى موضع آخر : (مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ ما لَمْ
نُمَكِّنْ
لَكُمْ) (٦ : الأنعام» ومع
هذا فلم يغن عنهم ذلك شيئا ، ولم يردّ عنهم بأس الله إذ جاءهم .. فهل يغنى ما مع
المشركين ـ وهو قليل إلى جانب ما كان بين يدى قوم عاد ـ هل يغنى عنهم ما معهم شيئا
من عذاب الله؟ ..
ثم إن الله سبحانه
وتعالى قد جعل لقوم عاد ، سمعا ، وأبصارا ، وأفئدة ، وهى نعم من نعم الله ، كان من
الخير لهم أن يفيدوا منها ، وأن يرسلوها فى آفاق الوجود ، فتجىء إليهم بالهدى يكشف
لهم معالم الطريق إلى كل خير .. ولكنهم عطلوا حواسهم تلك ، أو وجهوها إلى وجوه
الشر والفساد ، فلم يجئهم منها إلا ما هو شر وفساد ..
وقوله تعالى : (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) ـ بيان العلة التي
كان بسببها تعطيل هذه الحواس ، وتلك المدركات ، فلم تغن عن أصحابها شيئا ، ولم
تجلب لهم أي نفع ، وهذه العلة هى ما كان فى كيان القوم من فساد ، بحيث أفسد كل شىء
كانوا يستقبلونه من حواسهم ومدركاتهم .. إنهم كانوا على إصرار لما حملوا من كفر
وضلال .. ولهذا كانوا كلما تأتيهم آية من آيات الله ، عن طريق سمعهم أو أبصارهم أو
أفئدتهم ـ تغيرت معالمها ، وانقلبت حقيقتها فى كيانهم ، فرأوا النور ظلاما ،
والهدى ضلالا ، والخير شرّا .. وهكذا النفوس الخبيثة ، يخبث فيها كل طيب ، ويعوّج
على صفحتها كل مستقيم .. شأن المرايا المحدّبة ، أو المقعرة ، تتغير على صفحتها
الصور الواقعة عليها ، وتتبدل حقائقها ..
وقوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به ، ويستعجلون
وقوعه ، ويقولون لرسولهم فى استهزاء واستخفاف ، وتحدّ : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ).
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الخطاب للمشركين ، وهو تهديد ووعيد لهم بأن يصيروا إلى هذا
المصير الذي حلّ بالقرى التي حولهم ، كفرى عاد ، وثمود ، وقوم لوط ..
وقوله تعالى : (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) .. هو حديث عن أهل هذه القرى التي أهلكها الله .. فما أهلك
الله سبحانه أهل هذه القرى حتى بعث إليها رسلا منهم ، يبلغونهم رسالة ربهم ،
وينذرونهم بأسه وعذابه ، إن لم يؤمنوا بربهم ، ويستقيموا على طريقه المستقيم ..
وتصريف الآيات ،
تنويعها ، واختلاف وجوهها ، وتباين معارضها ، حتى تتوارد أنظارهم على هذه الآيات ،
فيكون لهم مع كل آية نظر ، ويكون لهم من كل نظر عبرة ومزدجر ..
وفى قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ـ إشارة إلى أن
تصريف هذه الآيات وتنويعها ، إنما كانت غايته أن تتيح للقوم أكثر من فرصة للتأمل
والنظر ، لعلهم ينتفعون بهذا ، ويرجعون عما هم فيه من كفر وضلال .. ولكنهم لم
ينتفعوا ، ولم يرجعوا ، فحق عليهم القول بما ظلموا ، وأتاهم العذاب من حيث لا
يشعرون ..
والترجّى ـ كما
أشرنا فى أكثر من موضع ـ إنما هو منظور فيه إلى الناس ، وإلى أن هذا الذي يساق
إليهم من آيات مختلفة الأشكال والألوان ، كان يمكن أن يناط به الرجاء ، وتتعلق به
الآمال فى إصلاح القوم ، ولكنهم قطعوا بأيديهم حبل الرجاء الممتد إليهم من تلك
الآيات! ..
قوله تعالى :
(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ
وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) ..
لو لا ، حرف تحضيض
، بمعنى هلّا ، وفى هذا استدعاء لآلهتهم التي عبدوها من دون الله ، وحثّ لها على
أن تخفّ لنجدتهم ، واستنقاذهم مما رماهم الله به من عذاب ، وما صب عليهم من بلاء!.
فأين آلهتكم تلك؟
وهل هناك حال أدعى من هذه الحال لمدّ يد العون إليهم ، وانتشالهم من بين هذه
الأمواج المطبقة عليهم؟.
وقوله تعالى : (قُرْباناً آلِهَةً) أي اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله ، كما يقول الله
تعالى عن المشركين : (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣ : الزمر) ..
وفى تقديم القربان
على الآلهة ، إشارة إلى أنهم لم يكونوا ينظرون إلى هذه المعبودات أول الأمر على
أنها آلهة ، وإنما كان نظرهم إليها على أنها وسائل يتوسلون بها إلى الله ،
ويتقربون بها إليه ، ويقولون فيما يقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ) (١٨ : يونس) ..
ولكن ما إن يمضى الزمن بهم حتى تتحول هذه الوسائل إلى آلهة تعبد من دون الله ،
وتصبح مستأثرة بمشاعرهم ، مستولية على عقولهم .. وليس لله سبحانه مكان فى شعورهم ،
أو موضع فى قلوبهم ..
قوله تعالى : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) ـ هو إضراب عن
دعوة هذه المعبودات إلى نصرة عابديها .. إنهم لن ينصروهم ، ولن يجدوا لهم
ظلّا فى هذا
الموقف .. فقد ضلوا عنهم ، وتاهوا فى زحمة هذا الكرب العظيم ..
وقوله تعالى : (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا
يَفْتَرُونَ) ـ الإشارة إلى تلك
الحال التي عليها هؤلاء الكافرون ، وما أحاط بهم من بلاء لا يجدون له دفعا .. فهذا
هو عاقبة كذبهم ، وافترائهم على الله ..
____________________________________
الآيات : (٢٩ ـ ٣٥)
(وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا
إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا
أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا
قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)
(٣٥)
____________________________________
التفسير :
[بيعة العقبة .. وليلة الجن]
قوله تعالى :
(وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ..
مناسبة هذه الآية
وما بعدها للآيات التي سبقتها ، هى أن الآيات السابقة كانت تذكيرا بدعوة نبىّ من
أنبياء الله هو هود عليهالسلام ، وموقف قومه من هذه الدعوة ، وتكذيبهم له وتحدّيهم لما
ينذرهم به .. ثم كان من هذا ، البلاء الذي أحاط بهم ، وأتى على كل عامر فيهم ـ فناسب
أن يذكر فى هذا المقام موقف المشركين من دعوة النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وتكذيبهم
له ، واستهزاؤهم به ، وأخذه وأصحابه بكل ما استطاعوا من كيد وضر ، حتى لقد هاجر
كثير من المسلمين فرارا بدينهم ، وحتى لقد ضاق صدر النبي ، وغامت نفسه فى مكة ،
ولم يعد يحتمل لقاء المشركين ، والنظر فى وجوههم المنكرة ، فخرج إلى الطائف ،
يلتمس عند أهلها «ثقيف» شيئا من العزاء والرجاء فى تصديقه والاستجابة له .. وفى
الطائف وجد النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وحوها أشدّ ضلالا ونكرا من وجوه قريش
، إذ رده القوم ردّا سفيها ، ولم يكتفوا بهذا بل أغروا به صبيانهم وإماءهم وعبيدهم
يرجمونه بأفواههم وبأيديهم ..
وبين الطائف ومكة
نزل الرسول الكريم منزلا يبيت فيه ، عند موضع يقال له «نخلة» وكان معه غلامه زيد
بن حارثة الذي صحبه فى رحلته إلى
الطائف .. وفى هذا
المنزل بات النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مع آيات ربه ، يرتّلها ، ويتلقى منها
أمداد الصبر ، والعزم ، بما يتلو من قصص الأنبياء السابقين ، وما احتملوا فى سبيل
الدعوة إلى الله من سفهاء قومهم وشياطينهم ..
وما يكاد النبىّ
تختم تلاوته ، ويفرغ من صلاة الصبح ، حتى يستقبل مع أضواء الفجر ، سفير السماء إليه
من ربه ، يحمل إليه قرآنا ينبئه بما كان فى ليلته تلك ، وأنه لم يكن وحده فى هذا
المنقطع من الأرض ، وأنه إذا كان قد وجد من الناس إعراضا عنه ، وزهدا فيما بين
يديه وعلى فمه من آيات الله ـ فإن لله سبحانه جنودا غير الناس ، يعمر بها كل قفر
.. فهاهم أولاء جند من جنود الله ، قد جاءوا إليه يستمعون القرآن ، ويحسنون
الاستماع إليه ، وينتفعون بما استمعوا منه ، فيؤمنون برسول الله ، ويصدقونه ، ثم
لا يقفون عند هذا ، بل يصبحون دعاة يدعون بدعوته ، ويبلغون رسالته إلى من لم تبلغه
من قومهم ..
(وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ).
وإذن ، فالنبى ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ لم يكن وهو فى هذا المكان المنعزل ، بعيدا عن موقع الدعوة ، بل
إنه قائم عليها ، حيث تجد آذانا تسمع ، وعقولا تعقل ، وقلوبا تؤمن .. وأنه إذا لم
يكن الرسول هو الذي يسعى إلى من يدعوهم إلى رسالته ، فإن طالبى الهدى قد سمعوا هم
إليه ، حين آنسوا بشائر النور ، واستشعروا ريح الخير .. وهكذا شأن أهل الخير ،
وطلاب الكمال الإنسانى ، ينشدون الهدى ، ويرتادون مواقعه ،
ويستنبئون أنباءه
، حتى إذا لا حت لهم بشائره ، ولمعت بروق غيوته ـ أقبلوا عليه مسرعين ، فى لهفة
وشوق ، لا يثيهم عن وجهتهم إليه بعد الشقة ، ولا قلة الزاد ، ولا تربص الأعداء ..
وكما يسعى الكائن الحي إلى رزقه ، ويطرق من أجله كل باب يخيل إليه أن وراءه شيئا
يشبع جوعه ، أو يطفىء ظمأه ـ كذلك يفعل الراشدون والعقلاء من الناس ، حيث يسعون فى
طلب غذائهم الروحي ، والعقلي ، كما يسعون فى طلب حاجة الجسد ، وما يكفل له الحياة
الهنيئة الطيبة ..
وإذا كان النبي ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ قد وجد فى هذا الخبر السماوي الذي يحمل له أنباء هذا الوفد
الكريم ، الذي بات فى ضيافته ، يتلقى أكرم وأطيب ما يتلقاه ضيف من مضيفه ، من بر
وإحسان .. حيث قضى هذا الضيف ليلة مباركة يستمع فيها إلى ما يتلو الرسول من آيات
الله ، ويتلقى من أنوار هذه الآيات ونفحاتها حياة مجددة للأرواح ، مطهرة للقلوب ،
مزكية للنفوس ـ وإذا كان النبي الكريم ، قد وجد فى هذا الخبر السماوي ما آنس وحشته
، وثبت فؤاده ، وآسى جراح نفسه مما أصابه من يد السفهاء وأفواههم من رميات عمياء
حمقاء ـ فإنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ رأى فى نور هذه الآيات ، ومضات مشرقة
واضحة على طريق دعوته ..
أن هذه الدعوة
ستأخذ لها مطلعا جديدا تطلع منه ، وأنها ستلتقى بوجوه أخرى لم يكن فى حساب الدعوة
أن تلتقى بها فى هذه المرحلة من مسيرتها .. وأنه كما صرف الله إلى النبىّ نفرا من
الجن يستمعون القرآن ، ويؤمنون به ، ويحملون دعوته إلى قومهم ، كذلك سيصرف إليه
نفرا من الناس ، يجلسون إليه ، ويستمعون إلى ما يكون من آيات الله ، ويؤمنون بما
يتلى عليهم ، ثم ينقلبون
إلى قومهم منذرين
، داعين إلى الله ، فاتحين الطريق إلى تلك الدعوة لتأخذ مكانها بين من يؤمنون بها
، ويدافعون عنها ..
وفى بيعة العقبة
الأولى ، نرى هذا النفر الكريم من الأنصار ، وقد انفرد برسول اللهصلىاللهعليهوسلم فى مكان منعزل خارج مكة ، بعيد عن أهل الموسم الذين امتلأت
بهم شعاب مكة وساحاتها ، وعلى خوف من قريش ، وعيونها الراصدة لحركات النبي ، ولكل
من يطلب لقاءه ، أو ينشد أخباره من أهل الموسم .. ثم جلسوا بين يديه يستمعون فى
رهبة وخشوع إلى آيات الله ، التي كان قد وقع فى آذانهم بشىء منها ، فيما كانت
تتناقله الركبان ، وتردده الألسنة .. ثم ما أن انتهى النبىّ من تلاوة ما تيسر من
آيات الله ، حتى وجدت الجماعة نور الإيمان يملأ قلبها ، وبرد اليقين يثلج صدرها ..
فمدوا أيديهم إلى الرسول الكريم ، يبايعونه على الإيمان بالله ، والدعوة إلى الله
، والنصرة لدين الله ..
ويحدث التاريخ أن
رجال العقبة الأولى كانوا اثنى عشر رجلا ، يذكرون بأسمائهم .. وأنهم كتموا أمرهم
عمن شهدوا الموسم من قومهم ، فلما انتهى موسم الحج ، ورجعوا إلى المدينة ، ذاع
أمرهم ، وكثر أعداد الداخلين فى الإسلام من أهل المدينة ، من الأوس والخزرج ..
ثم إنه لما كان
الموسم التالي ، جاء كثير من المسلمين إلى مكة ولم يكن همهم أن يشهدوا الموسم بقدر
ما كان من همهم أن يلتقوا برسول الله ، وأن يبايعوه ، ويتلقوا هدى السماء منه ..
وفى ليلة من ليالى
الموسم كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه على موعد للقاء القوم عند العقبة ، على
نحو ما كان من لقائه إخوانهم فى الموسم السابق ..
وهناك فى أخريات
الليل ، توافد القوم أفرادا على هذا المكان ، حتى إذا اكتمل جمعهم ، وكانوا ثلاثة
وسبعين رجلا وامرأتين ـ كما يقول ابن إسحاق ـ تحدث إليهم الرسول الكريم ، وتلا
عليهم ما تيسر من آيات الله ، ثم أقبلوا يبايعون رسول الله ، على الإيمان بالله ،
والسمع والطاعة فى المكره والمنشط ، والجهاد فى سبيل الله ، وأن يمنعوا رسول الله
يمنعون منه أنفسهم وأهليهم ..
وهكذا تلتقى بيعة
العقبة الأولى بليلة الجن فى «نخلة» ويستقبل النبىّ الكريم فى ليلة العقبة نفرا من
الإنس ، وقد صرفهم الله سبحانه وتعالى إليه ليستمعوا القرآن ، فلما حضروه واستمعوا
إليه ، آمنوا به ، ثم ولّوا إلى قومهم منذرين ..
وكما أن النبىّ ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ لم ير الجن. ولم يعرف وجوههم ، فإنه صلوات الله وسلامه عليه ،
لم يكد يرى شخوص هؤلاء النفر من الإنس ، أو يعرف وجوههم ، إذ جاءوا إليه فى ستر من
الليل وفى تهامس وتخافت ، أشبه بالحجاب المضروب بينهم ..
ومن جهة أخرى ،
فإن فى قوله تعالى على لسان الجن : (يا قَوْمَنا إِنَّا
سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ـ فى هذا إشارة
أخرى إلى بيعة العقبة ، وإلى تلك الدعوة التي حملها أهل البيعة إلى قومهم بالمدينة
، حيث مجتمع اليهود ، وحيث كان كتاب موسى «التوراة» هو الكتاب السماوي الذي يعرف
أهل المدينة شيئا عنه ، مما كان يحدث به اليهود عن كتابهم ، وعن نبيهم موسى عليهالسلام .. ولا شك أن حديث أصحاب البيعة إلى قومهم إنما كان يحمل
إليهم مع أنباء النبي الجديد الذي ظهر فى العرب ، ومعه كتاب منزل من ربه ، يتلوه
على الناس ـ كان يحمل إليهم مع هذا حديثا مقارنا لهذا
الكتاب والكتاب
الذي بين يدى اليهود ، وهو التوراة ..
ولعلّ هذا هو
السرّ ، فى اختصاص كتاب موسى بالذكر ، دون الإنجيل ، وهو أقرب عهدا بالقرآن ..!!
ومن عجب أننا لا
نجد أحدا من المفسرين فيما بلغ علمنا ـ قد التفت إلى ما وراء ليلة الجن هذه ، وما
تومىء إليه من اتجاه مسيرة الدعوة الإسلامية ، بعد تلك الليلة ، وما بينها وبين
بيعة العقبة من مشابه ، وخاصة بعد أن أصبحت بيعة العقبة أمرا واقعا ، يأخذ مكانه
البارز فى حياة الدعوة الإسلامية ..
من عجب ألا يلفت
أحد من المفسرين إلى شىء من هذا ، على حين اتسع لهم مجال القول ، وانفسحت أمامهم
آفاق الخيال .. فتحدثوا أحاديث عجبا عن هذا النفر من الجنّ الذين استمعوا إلى
الرسول ، فذكروا عددهم ، وأسماءهم واحدا واحدا ، والقبيلة التي ينتسبون إليها من
قبائل الجنّ ، والوطن الذي يعيشون فيه ، وهو «نصيبين» من أرض الشام .. إلى غير ذلك
من الأخبار التي تنطق الآيات القرآنية بكذبها .. فالقرآن يحدّث بأن النبيصلىاللهعليهوسلم ، لم ير لهؤلاء الجن وجها ، ولم يحس لهم ركزا ، حتى جاءه
خبر السماء بقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ..)
فهذا إخبار للنبى
بأمر لم يقع منه موقع الحس والمشاهدة .. وأكثر من هذا ما نجده فى قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) .. فهذا خبر صريح بأن النبي لم يكن يعلم من أمر هذا النفر
من الجن شيئا ، وأن الله سبحانه قد أوحى إليه بأن الجن قد استمعوا إليه» .. (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً) .. فعلم النبي عن هؤلاء الجن إنما كان بما أوحى إليه الله
سبحانه وتعالى من خبرهم ، وما أعلمه من أمرهم ..
فكيف يقال ـ مع
هذا ـ إن عددهم كان كذا ، وأن أسماءهم هى كيت وكيت ، وأن موطنهم هو كذا ، وأن
قبيلتهم هى كيت؟.
كيف يقال هذا ،
والنبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يحدّث بشىء منه قطعا ، لأنه لا يحدث إلا بما
يعلم ، وهو لم يعلم من أمر هؤلاء الجنّ شيئا ، حتى أعلمه الله سبحانه ، أن جماعة
من الجن قد استمعوا إليه ، دون أن يراهم ، أو يشعر بهم!.
ونعود إلى شرح ما
فى الآيات من مفردات ، وعبارات ..
قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ) ـ صرف الشيء حوله
من حال إلى حال ، ومن موقف إلى موقف ، وصرف الشيء إلى الشيء توجيهه إليه .. ومنه
تصريف الرياح ، أي إطلاقها من مهابتها التي تهبّ منها إلى الجهات الموجهة إليها ..
وهذا يعنى أن الله
سبحانه وتعالى ، قد وجّه هؤلاء النفر من الجنّ ، إلى حيث كان النبي صلىاللهعليهوسلم ، يتلو القرآن ..
النفر : الجماعة
التي تصلح للنفير من ثلاثة إلى عشرة.
قوله تعالى : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي كانوا بمحضر منه ، بكيانهم كلّه ، حسّا ومعنى ، فالحضور
هنا حضور تجتمع له ملكات الحاضر كلها .. ولهذا كان من الجن هذا الإدراك السّريع ،
والفهم الفاقة لما استمعوا إليه من آيات الله ، وإنه ما إن وقع لآذانهم شىء من
القرآن ، حتى خشعوا بين يديه ، وقالوا بلسان واحد : (أَنْصِتُوا) .. وهذا الإنصات الخاشع اليقظ ، هو الذي يفتح المدركات إلى
آيات الله ، ويجعل للبصائر بصرا هاديا إلى مواقع العبرة والعظة منها ، ولهذا جاء
قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) (٢٠٤ : الأعراف)
.. فالرحمة إنما ترجى لمن يمتلىء قلبه بإيمان الله وخشيته ، ولن يقع الإيمان
والخشية إلا لمن يتلقاها من آيات الله وكلماته .. ولا يتلقى من آيات الله وكلماته
شيئا إلّا من أنصت خاشعا ، ونظر مفكرا ، واستمع متدبّرا ..
قوله تعالى :
(فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ من تلاوة ما كان يتلى من القرآن ..
وفى التعبير ،
بالفعل (قُضِيَ) بدلا من فرغ ، أو انتهى ، ونحوهما مما يدلّ على بلوغ
الغاية ـ إشارة إلى أن حقّا يقضى ، ومطلوبا يطلب .. فالنبى صلىاللهعليهوسلم كان يقصد بتلاوة القرآن فى ليلته تلك ذكر ربه ، وإرواء
قلبه ، بكلمات الله ويأته .. والجنّ الذين استمعوا. قد كان مجلسهم للاستماع ، إنما
هو لا لنماس خير ، وطلب هدى .. وقد قضى النبي الكريم مأربه ، بتلاوة ما تيسر له من
القرآن ، كما قضى الجنّ طلبتهم فيما جاءوا له ، من التماس الخير والهدى ..
***
قوله تعالى :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
عاد القرآن الكريم
إلى مواجهة المشركين ، بعد أن ساق إليهم هذا الخبر العجيب الذي يحدّث عن استماع
الجن لهذا القرآن ، الذي ، كذبوا به ، وسخروا من الرسول الذي يتلوه عليهم ، مع أن
الكتاب كتابهم ، واللسان الذي ينطق به لسانهم ، والرسول الذي يتلوه عليهم بشر
مثلهم ، وواحد من قومهم! فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا الخسران خسران؟
ففى مواجهة القرآن
للمشركين بعد هذا ، وفى لقائهم بما شبّه عليهم من أمر البعث ، الذي كان السبب
الأول فى تكذيبهم للرسول ، وإنكارهم لكل ما جاءهم به ـ فى هذا ما يجعل هؤلاء
المشركين يلقون قضية البعث لقاء مجدّدا ، قد يفتح لكثير منهم الطريق إلى الحق
والهدى .. فقد رأوا ما بين يدى الله من قدرة قادرة ، ملك بها هذا الوجود زمانا
ومكانا وخلقا وتصريفا ، وأنه سبحانه الذي خلق السموات والأرض ، وما عليهما ، وما
فيهما ، وما بينهما .. فكيف ينكر عاقل على الله ـ وتلك بعض مظاهر قدرته ـ أن يحيى
الموتى ، ويبعثهم من قبورهم؟ (أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟) فهؤلاء الموتى لم يكونوا شيئا ، فإعادتهم إلى الحياة بعد
الموت ، أيسر ، وأقرب ـ فى حدود النظرة الإنسانية ـ من خلقهم الأول ، ولم يكونوا
شيئا!!
وقوله تعالى :
(بَلى) أداة يجاب بها فى الإثبات للمستفهم عنه ، الواقع فى حين
استفهام منفىّ .. أي بلى ، قادر على أن يحيى الموتى .. وهذا الجواب ، هو الجواب
الحق ، الذي ينطق به الوجود كلّه ، وهو حجة ملزمة للمشركين ، سواء أنطقوا به أو لم
ينطقوا ..
وقوله تعالى :
(إِنَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير للجواب ، وتأكيد له ..
قوله تعالى :
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا
قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) :
ومن هذه المواجهة
للمشركين بأمر البعث ، وتقريره على تلك الصورة القاطعة الملزمة ـ ينتقل المشركون
المكذبون بالبعث فى سرعة خاطفة ـ لا إلى البعث ، بل إلى ماوراء البعث ، من حساب
وجزاء ، وإذا هم بين يدى جهنم التي كانوا يكذبون بها ، ويكفرون بيومها ـ : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ..
وقوله تعالى : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) .. هو سؤال تأنيب ، وتقريع ، وإيلام للمشركين المكذبين
بيوم الدين ، وبما أنذروا به من عذاب الله فى هذا اليوم ..
والمشار إليه هنا
، هو العذاب .. أي أليس هذا العذاب بالحق؟ إنكم لم تظلموا شيئا ، فهذا جزاء ما
عملتم ..
وقوله تعالى : (قالُوا بَلى!) هو إقرار منهم ، يدينون به أنفسهم ، وبأن هذا العذاب
الواقع بهم هو من صنع أنفسهم ، وبما كسبت أيديهم!
وقوله تعالى : (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) هو دفع بالمشركين إلى أودية جهنم ، وإطعام لهم مما فيها من
ألوان العذاب والنكال .. فليذوقوه حميما وغساقا ، فليس لهم اليوم هنا هنا حميم ،
ولا طعام إلا من غسلين ..
قوله تعالى :
(فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ..
بَلاغٌ .. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ..
وبهذه الآية
الكريمة تختم السورة بهذا التوجيه الكريم من الله سبحانه لرسوله ـ صلوات الله
وسلامه عليه ـ يدعوه فيه إلى أن يصبر على ما يلقى من
أذى المشركين ،
وعنادهم ، وألا يستعجل لهم العذاب فى الدنيا ، فإن العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة
قريب ، وأنه حين يقع بهم ، لا يحسبون حسابا لأيام الدنيا التي عاشوها ، وقطعوا
فيها أعمارهم ، فإنه أيّا كانت أعمارهم تلك من الطول ، فسيرونها يومئذ لم تكن غير
ساعة من نهار .. وأنهم ولدوا صباح يوم ، ثم أخذهم عذاب الآخرة فى ضحى هذا اليوم!
فهل من يرى هذا الزمن على حقيقته يستعجل العذاب لأهل العذاب؟ ..
وفى قوله تعالى : (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ
الرُّسُلِ) ـ ما يسأل عنه ..
فأولا : من هم
أولو العزم من الرسل؟ وهل من الرسل ما لا يتصف بهذه الصفة؟ ثم ألا يكون عدم اتصاف
الرسول بتلك الصفة مما ينافى المهمة المنتدب لها من السماء؟ ..
اختلف المفسرون فى
تحديد أولى العزم من الرسل .. والرأى على أنهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ،
ومحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم ..
ولا شك أن الرسول ـ
صلوات الله وسلامه عليه ، ـ وهو المقصود بهذا الأمر ، كان يعرف عن يقين من هم أولو
العزم من الرسل .. أما غير الرسول فإنه ليس مطالبا بأن يعرف من هم أولو العزم من
الرسل ، إذ لم يكن لغير الرسول شىء فى هذا الأمر الموجه إليه من ربه ، إذ كان
امتثال هذا الأمر ، والوفاء به ، هو مما يطالب به النبي وحده ، لما أتاه الله من
فضله ، من نفس عظيمة تتسع لهذا الأمر العظيم ، والله سبحانه وتعالى يقول : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) (٢٨٦ : البقرة) ..
وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون لنا فى رسول الله أسوة ، فى مقام الصبر على ما
نبتلى به من شدائد.
أما أن يكون هناك
من الرسل من لا يتصف بهذه الصفة ، فذلك ما صرح به القرآن فى قوله تعالى عن آدم عليهالسلام : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥ : طه) وقوله
تعالى عن يونس عليهالسلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٤٨ : القلم) ..
فالرسل ـ عليهم
الصلاة والسلام ـ وإن كانوا أكمل الناس كمالا ، وأكرمهم مقاما ، هم ـ فى كمالهم
ومقامهم الذي لا يساميه أحد من البشر ـ درجات ، بعضها فوق بعض ، كما يقول سبحانه :
(تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٢٥٣ : البقرة) ..
وإذا كان فى الرسل
ـ عليهمالسلام ـ الفاضل والمفضول
، فإن هذا ـ كما قلنا ـ لا ينقص من قدر المفضول ، إذ كان ـ وهو فى مقامه هذا ـ على
هامة الكمال المتاح للبشر ، من غير رسل الله ..
وثانيا : فى دعوة
الرسول إلى أن يتشبه فى الصبر بمن سبقه من أولى العزم من الرسل ـ فى هذا ما يفهم
منه أن غاية الرسول من الصبر هو أن يكون كأحد هؤلاء الرسل الكرام ـ والسؤال هنا :
كيف يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى مقام من يطلب الأسوة للحاق بغيره من
أولى العزم ، وهو خاتم النبيين ، وإمام المرسلين؟.
والجواب على هذا
من وجهين :
أولا : أن الأمر
بالصبر هنا يحمل تهديدا للمشركين ، وأن على النبي ألا يستعجل لهم العذاب ، الذي هو
قريب منهم .. فالمراد بالصبر ليس صبر المعاناة والاحتمال وحسب ، وإنما المراد به
أوّلا ، هو صبر الانتظار ، والإمهال ،
كما يقول سبحانه :
(فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧ : الطارق) ..
وقد كان الرسل فى
هذا فريقين ، فريقا استعجل العذاب لقومه ، بعد أن بلغهم رسالة ربه ، كما يقول الله
سبحانه على لسان نوح : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢٦ : نوح) ..
وكما فعل يونس ، حين زايل موقفه من قومه قبل أن يؤمنوا بالله ، وتركهم لمصيرهم ،
الذي يصير إليه الضالون المكذبون .. وفريقا صبر وانتظر ، حتى جاء أمر الله فى قومه
، كما فعل إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، فلم يدع أحد منهم ربّه بأن يهلكهم ، على كثرة
ما ساقت إليهم أقوامهم من ألوان العنت والأذى ..
أما النبي صلوات
الله وسلامه عليه ، فإنه قد جاوز هذه الغاية إلى غاية أخرى ، فكان لسانه دائما
داعيا إلى الله بهداية قومه ، والصفح عنهم .. حتى فى أشد أحوالهم إعناتا وأذى له
.. كما كان ذلك فى موقفه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يوم أحد ، وقد شجه المشركون ،
وأسالوا دمه ، وكسروا رباعيته ، فما زاد أن وجّه وجهه إلى السماء ، وبسط يديه إلى
ربه قائلا : «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون».
وثانيا : أن فى
قوله تعالى : (وَلا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ) ـ إشارة صريحة إلى
إلى أن الصبر المطلوب هنا ، هو صبر الإمهال والانتظار ، لا صبر الاحتمال والمعاناة
، ـ كما أشرنا إلى إلى ذلك من قبل ـ وهذا يعنى أن الأمر بالصبر الموجه إلى النبي
من ربه سبحانه وتعالى ، إنما يراد به تهديد المشركين بالعذاب الذي ينتظرهم ، والذي
يطلب إلى النبي ألا يستدعيه لهم ، ولا يستعجل وقوعه بهم ، فهم سائرون إليه ،
وسيلقونه عما قريب .. إنها ساعة من نهار ، ثم يلقاهم العذاب الذي يستعجلونه ..
وعلى هذا ، فإن
الصبر المطلوب من النبىّ ، منظور فيه إلى قومه ، وإلى أنهم لن يعذّبوا فى الدنيا ،
وإنما سيؤجل عذابهم إلى الآخرة ، كما فعل بأقوام أولى العزم من الرسل ..
***
٤٧ ـ سورة محمد
نزولها : مدنية
بالإجماع
عدد آياتها : ثمان
وثلاثون آية
عدد كلماتها :
خمسمائة وتسع وثلاثون كلمة
عدد حروفها :
ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الأحقاف
بقوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ..
وبدئت سورة «محمد»
بعدها بقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ..
فكان هذا البدء ـ كما
ترى ـ أشبه بالوصف الكاشف عن القوم الفاسقين ، فهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
، الذين أضل الله أعمالهم ..
فالسورتان ، أشبه
بسورة واحدة ، فى تجاوب آياتها والتحام معانيها ..
بسم الله الرحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات : (١ ـ ٩)
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا
الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ
(٣) فَإِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ
لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ
يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)
(٩)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ..
هكذا تبدأ السورة
بهذه المواجهة ، التي تلقى المشركين والكافرين
بهذا الخبر
المشئوم ، الذي يسدّ عليهم منافذ النجاة ، ويدعهم فى متاهات الضلال يتخبطون ، وقد
تقطعت بهم الأسباب ، وأفلت من أيديهم كلّ متعلق كانوا يتعلقون به ، من أوهام وظنون
..
ويبدو هذا اللقاء
بالكافرين وكأنه أول وجه يلقاهم على طريق ضلالهم ، ثم لا يكون منه إليهم إلا أن
يلقى إليهم بهذا الخبر المزعج ، وأنهم فى وجه عاصفة وشيك التقاؤهم بها ، وهلاكهم
بين يديها .. ذلك على حين أن هؤلاء الكافرين ، قد كان لهم قبل هذا أكثر من لقاء مع
آيات الله ، ومع رسول الله ، يدعوهم إلى الله ، ويكشف لهم طريق الهدى ، ويحذرهم
عاقبة ما هم فيه من ضلال .. ولكن هكذا يجىء اللقاء بهم هنا ، وكأنه يضرب صفحا عن
كل هذه المواقف التي كانت لآيات الله ولرسول الله معهم إذ لم يكن لهذا كله ، أثر
فيهم ، ولا نفع لهم .. وإذن فليستقبلوا ما كانوا .. يستحقون أن يستقبلوا به من أول
الأمر .. فهذا هو حسابهم وجزاؤهم .. أما ما قدّم إليهم من قبل من وسائل الهداية ،
وسبل النجاة ، فهو مما يقيم الحجة عليهم ، ويقطع كل عذر لهم عند أنفسهم ، كما أنه
مما يملأ قلوبهم حسرة وكمدا ، حين ينكشف لهم الأمر ، ويحلّ بهم البلاء ، ويرون أن
وسائل النجاة من هذا البلاء ، قد كانت بين أيديهم ، وتحت سمعهم وأبصارهم ، فلم
يلتفتوا إليها ، ولم يمدّوا أيديهم لها ..
وإنه ليس أشدّ
إبلاما للإنسان من أن تكون السلامة فى يده ، ثم يلقى بنفسه إلى التهلكة!!.
ثم إنه مما يزيد
فى حسرة هؤلاء الذين كفروا ، أنهم لم يهلكوا أنفسهم وحسب ، بل إنهم أهلكوا أهليهم
وإخوانهم ، إذ كانوا دعوة من دعوات الضلال لهم ، وبمحادتهم لله ورسوله. وهذا ما
يشير إليه قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١٥ : الزمر).
وقوله تعالى : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) هو حكم على الكافرين بفساد أعمالهم كلها ، وردّ الله
سبحانه وتعالى لها ، وعدم قبولها منهم ، حتى ولو كانت مما يحسب فى الأعمال الصالحة
.. فكل عمل لا يزكيه الإيمان بالله ، هو عمل ضائع ، ضال .. لا يعرف له طريقا إلى
مواقع الرضا والقبول من الله.
قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ).
هو بيان للوجه
الآخر من وجوه الناس ، وهم الذين آمنوا بالله ، ثم أتبعوا إيمانهم بالله ، الأعمال
الصالحة ، التي هى ثمرة الإيمان بالله ، فمن آمن بالله ، كان مطلوبا منه ، بمقتضى
هذا الإيمان ، أن يستجيب لله ، وأن يستقيم على طريق الحق والخير ، بامتثال أوامره
، واجتناب نواهيه ..
وقوله تعالى : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) هو إيمانهم بالرسالة الإسلامية التي جاء بها النبىّ ، بعد
الإيمان الذي تلقاه المؤمنون من الرسالات السماوية السابقة ، أو دلّتهم عليه
عقولهم ..
فمن كان مؤمنا
بالله قبل الرسالة المحمدية ، كان من شأن إيمانه هذا ، أن يدعوه إلى الإيمان بتلك
الرسالة لأنها دعوة مجددة إلى الإيمان بالله .. والإيمان بالله ، طريق واحد ،
يلتقى عليه المؤمنون جميعا .. وإنه ليس للمؤمنين بالله طريقان ، بل هو طريق واحد
.. فمن كان على غير هذا الطريق فهو ليس من المؤمنين ، كما يقول الله سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥ : النساء).
وعلى هذا ، فإن من
بلغته الرسالة الإسلامية ، من المؤمنين ، من أهل الكتاب ، أو الفلاسفة والحكماء ،
ثم لم يؤمن بهذه الرسالة ، فهو ليس مؤمنا وليس على طريق المؤمنين ..
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) .. إشارة إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ، إنما يؤمنون
ـ إذ يؤمنون بما أنزل على محمد ـ بالحقّ المنزل من ربهم .. فمن أنكر هذا الحق
المنزل من عند الله ، فليعلم أن ما عنده من إيمان ليس من الحقّ ، إذ لو كان حقا لا
لتقى مع هذا الحقّ ، فالحقّ ، لا يصادم الحق ، ولا تختلف طريقه معه ..
وقوله تعالى : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) .. هو خبر لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ) أي أن الذين آمنوا هذا الإيمان ، وعملوا الصالحات ، كفّر
الله عنهم ما كان منهم من سيئات ، قبل أن يؤمنوا بالرسالة المحمدية ، فهو إيمان مجدّد
لإيمانهم ، ومصحح له ، إذ كان هو الدّين كله ، وبه تمّ الدين الذي جمع كلّ ما جاء
به الرسل ، كما يقول الله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١٩ : آل عمران)
وكما يقول الله جل شأنه : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ) (١٣ : الشورى)
وكما يقول جل شأنه : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (٨٥ : آل عمران).
وفى قوله تعالى : (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) ـ إشارة إلى ما
يثمره الإيمان بدين الإسلام ، إذ يجمع قلوب المؤمنين به ، ويقيم مشاعرهم على أمر
واحد ، فلا يكون منهم التفات إلى هذا الدين أو ذاك ، إذ أن الإيمان بالإسلام إيمان
بجميع رسالات السماء ،
وتصديق بكل رسل
الله .. سواء أكان هذا الإيمان بالإسلام من أهل الكتاب ، أو ممن لا كتاب لهم ..
وبهذا الإيمان يستريح بال المؤمن ، ويطمئن قلبه ، ولا تنزع به نازعة من عداوة أو
بغضة أو مجافاة ، لأى دين من الديانات السماوية ، إذ كانت كلّها مجملة فى الإسلام
، مطوية تحت جناحه .. ولعلّ هذا معنى من معانى كلمة «الإسلام» التي كانت عنوانا
لهذا الدين ، الذي يجد من يدين به ، السلام بين مشاعره ، كما يجد السلام مع الناس!
وذلك صلاح البال على تمامه وكماله ..
والبال هو الحال
والشأن ، الذي يكون عليه الإنسان ، يقال : ما بال فلان؟ أي ما شأنه؟ وما حاله؟.
قوله تعالى :
(ذلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا
الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) ..
الإشارة هنا (ذلِكَ) مشاربها إلى ما تقرر فى الآيات السابقة ، من أن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد ، سيهديهم الله ويصلح بالهم ، وأن
الذين كفروا قد أضل الله سعيهم ، وأفسد مشاعرهم ، وأزعج خواطرهم ـ فهذا الذي فيه
المؤمنون من هدى وإصلاح بال ، وما عليه الكافرون من ضلال وسوء حال ، هو بسبب أن
كلّا من الفريقين قد سلك الطريق الذي يصل به إلى هذا الذي هو فيه .. فالذين كفروا
اتبعوا الباطل ، فكان أمرهم إلى الخذلان والبوار ، والذين آمنوا اتبعوا الحق
المنزل عليهم من ربهم ، وهو القرآن ، فكان أمرهم إلى الأمن والهدى والسلام ..
وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ) ـ الضمير فى (أَمْثالَهُمْ)
يصحّ أن يكون
عائدا إلى الناس ، بمعنى أنه بمثل هذه الأمثال يضرب الله للناس الأمثال ، التي
تكشف لهم أحوالهم ..
ويجوز أن يكون
الضمير عائدا إلى الكافرين ، والمؤمنين ، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يضرب للناس أمثال
الكافرين والمؤمنين ، ليكون لهم العبرة والعظة ، فيما يرون من هؤلاء وأولئك ..
قوله تعالى :
(فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمالَهُمْ) ..
بعد أن بينت
الآيات السابقة حال كلّ من الكافرين والمؤمنين ، وأن الكافرين قد أضل الله أعمالهم
، وأفسد أحوالهم ، وأنه سبحانه قد هدى المؤمنين وأصلح بالهم ـ بعد هذا جاءت
النتيجة اللازمة لهذا البيان ، وهو أن الناس فريقان : كافرون ومؤمنون ، وأعداء لله
، وأولياء لله .. ومن ثمّ كان لا بد أن يقف المؤمنون فى وجه أعداء الله ، وأن
يعملوا على حماية أنفسهم من شرهم ، إذ كان أهل الشر والفساد ـ دائما ـ حربا على
أهل الخير والسلامة ، شأن المصاب بداء خبيث ، فإنه يكون خطرا على من يخالطه أو
يتصل به ..
وعلى هذا ، فإن
على المؤمنين ، إذا التقوا بالكافرين فى ميدان قتال ، أن يوطنوا أنفسهم على أن
تكون الغلبة لهم ، فإن انتصارهم انتصار للحق والخير ، وهو انتصار لله ، ولدين الله
، وأن هزيمتهم تمكين للباطل ، وتسليط للبغى والعدوان ، على مواقع الخير والحق ..
وقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فاضربوا الرقاب .. وقد أقيم مصدر الفعل مقام الفعل ،
للإشارة إلى أنه لا يكون للمؤمنين فى لقاء الكافرين أي فعل أو شأن ، إلا الضرب ،
والضرب للرقاب ..
والمصدر هو أصل
لما يشتق منه من أفعال وصفات ، وأسماء .. وهذا يعنى أنه جامع لكل معنى يشتق منه ..
وهذا يعنى أن تسليط المصدر على شىء ، هو قصر كل معطيات المصدر على هذا الشيء وحده
، دون التفات إلى شىء غيره ..
وهنا فى هذا
المصدر (فَضَرْبَ الرِّقابِ) .. قد سلّط المصدر على الرقاب ، فكان هذا قاضيا بألا يكون
للمؤمنين شأن فى موقف القتال مع الذين كفروا ـ إلا الضرب ، والضرب فى الرقاب ، دون
غيرها ..
والمراد بضرب
الرقاب ، الضرب فى موطن القتل ، لا فى موطن آخر ، كالأطراف ونحوها ، حيث لا يكون
القتل محققا بضربها ..
هذا ، وليس الضرب
للرقاب أمرا لازما لا بد منه ، إلا إذا أمكن ، وسنحت الفرصة للمؤمن من ضرب الكافر
الضربة القاتلة .. أما حين لا يمكن ضرب العنق ، أو الضرب فى مقتل ، فليضرب حيث
أمكنه الضرب ، فى الأطراف أو غيرها ..
أما فائدة الأمر
بضرب الرقاب ، فهو لعزل شعور المسلمين عن الاستبقاء على من أمكنتهم الفرصة فيهم من
الكافرين ، وقدروا على قتلهم ، يريدون بذلك أسرهم ، وجعلهم من مغانم الحرب .. وهذا
من شأنه ألا يقيم نظر المسلم على الجهاد فى سبيل الله ، وجعله خالصا له ، إذ كان
ينظر إلى ما يقع ليده من مغانم ، وهذا بدوره يدعو المسلم إلى الحرص على حياته ،
والنجاة من القتل ، حتى
يأخذ حظه من تلك
المغانم ، وهذا من شأنه أن يضعف من بلاء المسلم فى القتال ، ومن نكابته فى العدوّ
.. وهذا ، وهذا ، وكثير غيره ، مما يخفّ به ميزان المجاهد فى سبيل الله ، وتذهيب
به ريح المجاهدين ، إذا نظر المجاهد فى ميدان القتال إلى نفسه ، وطلب لها السلامة
، أو الغنيمة ، ولم يكن مطلبه الأول هو الانتصار على العدوّ ، أو الاستشهاد فى
ميدان القتال ..
وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثاقَ) ..
(حَتَّى) حرف غاية ، لبيان الحدّ الذي يجب أن يقف فيه المسلم عن قتل
الكافر ، فى ميدان القتال ، وهو أن يرى الكافر وقد أثخنته الجراح ، وسقط فى ميدان
المعركة .. ، ولم يعد قادرا على المشاركة فيها ـ هنا لا يجوز للمسلم أن يقتل هذا
المثخن بالجراح ، بل كل ما يفعله ، هو أن يتحقق من أنه لن ينهض ليحارب من جديد ،
وذلك بأن يشد وثاقه ، أو يضربه ضربة تعجزه عن القيام ، ولا تقضى عليه ..
فشدّ الوثاق ، قد
يكون على حقيقته ، إن أمكن ، وقد يكون بتعجيز الجريح عن أن ينهض ، ويعود إلى قتال
المسلمين مرة أخرى ، فى هذه المعركة ..
وهذا وجه من وجوه
الإسلام المشرقة ـ وكل وجوه الإسلام وضيئة مشرقة ـ وما فيه من معانى الإنسانية
الرفيعة السامية ، التي تراود أحلام الفلاسفة والأخلاقيين ، ولا يجدون لها فى عالم
الواقع مكانا ..
فالإسلام فى حربه
للكافرين ـ وهم حرب على كل حق وخير ـ لا يريد قتلهم ، ولا يشتهى إراقة دمائهم ،
ولو كان من همّه هذا لما ردّ سيفه عمن كانوا لساعتهم حربا على المسلمين ، يقتلونهم
ويسفكون دماءهم ، ثم أغمدت سيوفهم ، وتكسرت رماحهم ، وأصبحوا فى عجز قاهر لهم أن
يضربوا بسيوفهم أو يطعنوا برماحهم! ..
إن غاية الإسلام من
حرب أعدائه هو دفع شرّهم ، ووقاية المسلمين من الخطر الذي يتهددهم من جهة عدوّهم
.. فإذا لم يكن ثمة خطر ، فلا حرب ، ولا قتل ، فإذا كان خطر ، فهى الحرب ، والقتال
والقتل .. فإذا زال الخطر غمدت السيوف ، وأطفئت نار الحرب ..
هذا هو الإسلام فى
حربه .. إنها الحرب لطلب السلامة والسلام ، وليست حربا للبغى ، والتسلط ..
فأى ميزان أعدل
وأقوم من هذا الميزان فيما بين الناس والناس؟
وأي أمن وأي سلام
كهذا الأمن والسلام ، الذي يجده المجتمع الإنسانى فى ظل مبدأ كهذا المبدأ ، الذي
يفرضه الإسلام على أتباعه فى وجه العداوة وفى ردّ العدوان ، مما تسوقه إليهم
الحياة على يد الأعداء والمعتدين؟
يقول الرسول
الكريم فى شرح هذا المبدأ ، وتوكيده ..
«لا تقتلوا شيخا
فانيا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأت»
وكان صلوات الله
وسلامه عليه ، يوصى من يبعثهم للجهاد بقوله : «اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون فى
سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا
الولدان ولا أصحاب الصوامع»
إنها حرب الإسلام
، غايتها الإصلاح ، ودفع الخطر ، وبتر الأعضاء الفاسدة من المجتمع الإنسانى .. ولو
كان من همّ الإسلام الحرب للغلب والقهر والتسلط ، لما كان معها إلا التدمير لكل
شىء ، والقتل لكل نفس ..
وقد تلقى المسلمون
من دينهم ، ومن هدى نبيهم هذا الأدب الإنسانى العالي ، فى حرب عدوّهم ، فلم تسكرهم
حميّا النصر ، ولم تجر على دينهم
ومروءتهم شهوة
الانتقام والتشفّى .. بل كانوا على هذا الأدب الرباني فى السلم والحرب ، وفى حال
الهزيمة والنصر ..
يقول أبو بكر رضى
الله عنه ، وهو يودّع يزيد بن أبى سفيان وكان أحد القواد الأربعة ، الذين وجههم
أبو بكر لحرب الروم فى الشام :
«إنى موصيك بعشر
خلال .. لا تقتل امرأت ، ولا صبيّا ، ولا كبيرا هرما ، ولا تقطع شجرا مثمرا ، ولا
تخرّب عامرا ، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمّا كله ، ولا تعقرنّ نخلا ولا تحرقه
، ولا تغلل ، ولا نخن».
وقوله تعالى :
(فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) .. هو تعقيب على قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثاقَ) .. إذ المراد بشدّ الوثاق ـ كما قلنا ـ هو عزل الذين
يثخنون بالجراح عن القتال ، ثم أخذهم فى الأسرى ، وإنزالهم على حكم الأسر .. إذ
ليس الجريح من الأسرى إلا واحدا منهم ، فلا يؤخذ بحكم المقاتلين ، فيجهز عليه ..
وهذا ما جاء فى قوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) .. لتقريره ، ولدفع ما يقع من شبهة فى معاملة الجرحى ،
وإلحاقهم بالمحاربين الذين تضرب رقابهم ..
فهؤلاء الجرحى من
مقاتلى العدوّ ، يؤسرون ، ثم يؤخذون بحكم الأسرى على إطلاقه ، وهو إما أن يمنّ
عليهم ، ويطلق سراحهم ، تفضلا عليهم ، وإحسانا إليهم ، ومقابلة إساءتهم وعدوانهم
بهذا الفضل والإحسان ؛ وإما قبول الفدية منهم ، وهو عوض مالىّ ، أو عيني ، أو
شخصىّ .. وذلك بأن يفرض على تخليص الأسير من الأسر قدر من المال ، أو السلاح ، أو
المتاع ، أو بتخليص أسير فى يد العدو من أسرى المسلمين ..
والأمر فى هذا كله
متروك لولىّ الأمر ، القائم على شئون الحرب الدائرة بين المسلمين ، وبين العدوّ ،
فهو الذي يقدّر الأمر فى شأن أسرى العدو ، أفرادا أو جماعات ، بالعفو والمنّ ، أو
الفداء ..
قوله تعالى :
(حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) ـ هو غاية للحكم
الذي جاء به الأمر فى قوله تعالى:
(فَضَرْبَ الرِّقابِ) .. فهذا الحكم قائم على المسلمين الذين يلتقون بالكافرين
فى ميدان القتال .. إنهم مأمورون أمرا إليها بأن يضربوا الضربات القاتلة للأعداء ،
غير ملتفتين إلى أخذهم أسرى ، الأمر الذي يحملهم على أن يتحروا ضرب المواطن غير
المميتة منهم ، حتى يكونوا مغنما من مغانم الحرب .. ومن جهة أخرى تشير هذه الغاية
إلى أن حكم الضرب فى رقاب الكافرين ، إنما هو فى حال الحرب ، أما إذا انتهت الحرب
، وخمدت نارها ، فليس للمسلم أن يبدأ بعدوان ، أو أن يقتل أحدا من الكافرين إذا
لقيه وأمكنته الفرصة منه .. إذ لا يستباح دم الكافر إلا إذا كان فى حرب على
المسلمين .. أما فى غير الحرب ، فإن لدمه حرمة يجب على المسلمين رعايتها ،
وصيانتها ..
وهكذا يقيم
الإسلام فى نفوس أتباعه هذه المشاعر الإنسانية العالية حتى مع عدوهم ، الذي كان فى
وقت ما حربا عليهم ، والذي لا يزال على فيه الحرب والعدوان ، إذا أمكنته الفرصة ..
وأوزار الحرب :
أثقالها ، وأعباؤها ، وما يحمل المسلمون منها فى مصادمة عدوهم ، ودفع شره عنهم ..
فإذا انتهت الحرب ، وأخلى العدو ميدان
القتال ، بالفرار
، أو الأسر .. فقد رفع عن المسلمين المقاتلين ما كانوا يحملون من أعباء ثقال .. وهنا
تنتهى أحكام الحرب ، ويعود المسلمون إلى موقفهم الأول من الكافرين .. وهو أن لا
قتل ولا أسر لمن يقع لأيديهم من الكافرين فى غير الحرب ..
وفى إسناد الفعل (تَضَعَ) إلى (الْحَرْبُ) مع أن الذي يضع الأوزار ، والأعباء هم المحاربون ـ فى هذا
إشارة إلى أن الحرب هى سبب هذه الأوزار وتلك الأعباء ، وأنها هى التي جلبتها ،
وألقت بها على كاهل المحاربين ..
وفى هذا تشنيع على
الحرب ، وتنفير منها ، وتصوير لها فى صورة كريهة ، حيث لا تحمل إلى المتلبسين بها
إلا ما يبهظهم ويثقل كواهلهم ..
ثم إن فى تسمية
أعباء الحرب ، وأثقالها ، أوزارا ، تشنيعا آخر على الحرب ، وتأثيما لها ، وأنها ـ أيّا
كانت شىء ـ كريه ، لا يطلبه المسلم ، ولا يسعى إليه ، ولا يرغب فيه ، إلا إذا لم
يكن منه بد ، كدفع عدوان ، أو إطفاء فتنة ..
وهنا يدخل المسلم
الحرب ، من باب المحظور الذي يباح عند الضرورة ، فيتعاطى منها بحساب ، على قدر ما
يدفع الضرر ، فى غير شهوة ، ولا إسراف ..
أفرأيت وجها للحرب
، أقرب إلى السلام ، وأدنى إلى العافية ، من هذه الحرب التي يكون الإسلام طرفا
فيها؟ إنها حرب يتمنى أن يعيش فيها الناس ، ما يعيش فيه السلام العالمى اليوم ،
الذي قل أن يمسى أو يصبح فى غير حرب ..
ذلك أن العالم
اليوم إذا أظلّه صباح يوم أو مساؤه بغير حرب معلقة أو سافرة ، كانت الحرب الخفية
مشبوبة الأوار ، فى صدور تغلى مراجلها بالعداوة والبغضاء ، وفى نفوس تتحرق مشاعرها
شهوة إلى إراقة الدماء ، وإزهاق الأرواح ، وإبادة الأمم والشعوب!.
قوله تعالى : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ
مِنْهُمْ) ـ الإشارة هنا إلى
ما يطالب به المؤمنون من لقاء العدو فى ميدان القتال ، ومن توجيه الضربات القاتلة
له ، الفاضية على كل كيد يكيد به للإسلام والمسلمين ، ولو كان فى ذلك تعريض كثير
من المؤمنين للاستشهاد فى سبيل الله .. فذلك ابتلاء من الله للمؤمنين ، وإنزالهم
هذا المنزل الكريم الذي يلبسون فيه ثوب المجاهدين فى سبيل الله ، الواقفين فيه
موقف جنود الله ، المدافعين عن حرماته .. ولو لا هذا الصدام بينهم وبين أهل الكفر
والضلال ، لما وقفوا هذا الموقف الكريم ، ولما نالوا هذا الشرف العظيم ..
فهذه الحرب بين
المؤمنين والكافرين ، هى لحساب المؤمنين قبل كل شىء ، إذ هى التي أنزلتهم هذه
المنزلة العالية ، وأحلّتهم هذا المحل الكريم .. وما كان الله سبحانه وتعالى بحاجة
إلى جنود يجاهدون فى سبيله ، ويقفون فى وجه هؤلاء الكافرين المحادّين له سبحانه ..
إذ لو شاء الله سبحانه وتعالى (لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي لسلط عليهم آفة مهلكة من الآفات ، أو لما جاء بهم إلى
هذه الحياة الدنيا ، أو لهداهم إلى الحق ، وكانوا فى المؤمنين .. ولكن هكذا شاءت
مشيئة الله سبحانه .. فجعل الشرّ فى طريق الخير ، وجعل الكافرين فى وجه المؤمنين ،
وذلك ليتيح للمؤمنين فرصة العمل لما يرفع منزلتهم عند الله ، ويعلى قدرهم ،
وينزلهم منازل رضوانه ..
فهؤلاء الكافرون ،
والمشركون ، والضالون ، وهذه الآفات والشرور المبثوثة بين الناس ، إنما هى
القرابين التي يتقرب بها المؤمنون والصالحون من عباد الله ، إلى الله ، بالتصدّى
لها ، وإعلان الحرب عليها .. وبهذا ينالون من ثواب لله ورضوانه بقدر ما يعملون ..
ولو لا هذا لما كان ثمة عمل يمتاز به الخبيث من الطيب! وهذا ما يشير إليه قوله
تعالى : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي هذا الاختلاف بين الناس ، وهذا الصدام الذي يقع بين
المؤمنين والكافرين منهم ، إنما هو ابتلاء وامتحان لهم ، حيث يكشف احتكاك بعضهم
ببعض عن معدن كل منهم ، كما يقول الله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) (٣١ : محمد) ..
هذا ، وأرى شفاها
تتحرك عليها عبارات التساؤل أو الإنكار ، لهذا الذي نقوله ، من أن وجود أهل الضلال
فى هذه الدنيا ، هو سبيل من السبل التي يتخذها المؤمنون للتقرب إلى الله ، ولرفع
درجاتهم عند الله بجهادهم ، وقتلهم ، أو الاستشهاد فى سبيل الله على أيديهم .. وقد
يقول قائل : ما ذنب هؤلاء الضالين فى تقديمهم على مذبح القربان لله؟ وأ لهذا كنت
الغاية من خلقهم؟.
وقول : وماذا ينكر
المنكرون من هذا؟ ولم لا يكون هؤلاء المشركون والكافرون والضالون جميعا قربانا
يتقرب إلى الله بجهادهم من أهل الإيمان؟.
وقد يقول قائل : أهذا
ممكن أن يكون فى شأن الإنسان ، الذي كرمه الله سبحانه ، ورفعه على سائر مخلوقات
الأرض ، وجعله خليفة له فيها؟.
ونقول : نعم ، هذا
ممكن .. فإن هذا الإنسان الذي كرّمه الله سبحانه وتعالى ، وفضله على كثير من خلقه
، وجعله خليفة له فى الأرض ـ هذا الإنسان ، قد نزع بيده هذا الثوب الكريم الذي
ألبسه الله إياه ، وتخلى عن عقله الذي هو التاج الذي نال به شرف الانتماء إلى
الإنسانية .. وقد عطل وظيفة هذا العقل ، فلم ينظر به فى آيات الله الكونية ، ولم
ير من خلال هذا النظر وجه خالقه ، ولم يتعرف إلى ما للخالق سبحانه من جلال وقدرة ،
ثم إنه حين جاءته آيات الله على يد رسله لم يتنبه من غفلته ، ولم يحد عن طريق
ضلاله ، بل ازداد كفرا بالله ، ومحادّة له ـ فكان بهذا على غير صورة الإنسان الذي
كرمه الله ، وخلقه فى أحسن تقويم. إنه حينئذ هو الإنسان فى أسفل سافلين ، ومن هنا
كان إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان ، ومن هنا أيضا كان حيوانا يقدّم على مذبح
التقرب إلى الله ، إذا هو أعمل قرونه ومخالبه وأنيابه فى عباد الله .. وأولياء
الله .. فإن هو أمسك شره ، فلم يعرض لعباد لله بأذى ، ترك وشأنه ، كما تترك الوحوش
فى الغابات.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ).
هو تنويه خاص بشأن
الذين يستشهدون فى سبيل الله. فهؤلاء الشهداء لن يضل الله أعمالهم ، بل سيقيمها
على طريقه المستقيم ، حيث تنزل منازل الرضا والقبول من الله رب العالمين .. فهم
داخلون أولا فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) ثم هم مختصون ثانيا بهذا لذكر ، الذي يقيمهم بعد موتهم ،
مقام الأحياء ، الذين لم يفارقوا هذه الدنيا ، وذلك بإصلاح بالهم ، على حين يقيمهم
مقام أهل الجنة قبل أن يدخلها أحد غيرهم ، فهم ساعون إلى الجنة ، آخذون طريقهم
التي يعرفونها ، إليها ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَ
الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩ : آل عمران)
قوله تعالى :
(سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) ـ هو بيان لقوله
تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) .. أي أن الله سبحانه وتعالى سيهدى الذين قتلوا فى سبيل
الله ، ويقيم بين أيديهم من أعمالهم الدليل الذي يأخذ بهم إلى الجنة التي أعدها
الله لهم ، وعرّفهم الطريق إليها .. وهذا مثل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٩ : يونس).
فأعمل الشهداء ،
مستنيرة مبصرة ، تعرف طريقها إلى مقام الرضا والقبول ، وأصحاب هذه الأعمال ، وهم
الشهداء ، يتبعون أعمالهم تلك ، ويأخذون طريقهم على هديها ، حيث تنتظرهم عند الله
فى جنات النعيم التي أعدها سبحانه لأصحاب هذه الأعمال الطيبة كما يقول سبحانه : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١٢ : الحديد)
فالذى يسعى بين أيديهم هو هذا النور المشع مما فى أيمانهم ، وهو سجل أعمالهم ،
التي صارت كتبا تناولوها بأيديهم اليمنى.
قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ).
هو التفات من الله
سبحانه وتعالى إلى المؤمنين ، ودعوة منه جل شأنه إلى أن يكونوا جميعا فى هذه
المنزلة التي أعدها للمجاهدين فى سبيله ..
فالمؤمنون الذين
يقاتلون فى سبيل الله إنما ينصرون الله .. فهم جند الله ، الذين يحاربون من حارب
الله ..
ونصر المؤمنين لله
، إنما هو بنصر دينه ، وإقامة شريعته ، ودفع الضلال والشرك والإثم ، وكل ما يعترض
سبيل الله ، ويخالف ما أمر به ..
وفى إسناد نصر
الله إلى المؤمنين تكريم لهم ، ورفع لقدرهم ، وإنزالهم منزلة المعين لله ، المؤيّد
له ، والله سبحانه غنى عن كل معين ومؤيد .. إذ كل شىء فى هذا الوجود هو منه ، وله
.. لا يملك أحد شيئا .. فكيف يطلب النصر من خلقه الذين لا يقوم وجودهم لحظة واحدة
إلا بحفظه ، ورعايته؟ إن ذلك ـ كما قلنا ـ هو تكريم للمؤمنين ، وإحسان من الله
إليهم. كما فى قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) .. فالله سبحانه هو المعطى لكل ما فى أيدى الناس .. ثم هو
سبحانه ـ فضلا وإحسانا منه ـ يدعوهم إلى أن يقرضوه مما أعطاهم!!.
وفى قوله تعالى : (يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) ـ إشارة إلى أن
نصر المؤمنين لله ، ليس نصرا على حقيقته ، وإنما هو مظهر من مظاهر الطاعة والولاء
لله .. وإلا فإن النصر الحقيقي هو الذي يمنحه الله سبحانه وتعالى المؤمنين ،
ويمدهم بالأسباب الممكنة لهم منه .. فهو سبحانه الذي ينصرهم على عدوهم ، وثبت
أقدامهم فى مواقع القتال ؛ على حين يملأ قلوب الذين كفروا رعبا وفزعا .. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠ : الأنفال) ..
ومع أن هذا النصر من عند الله ، فإنه محسوب للمؤمنين ، يلقون عليه أحسن الجزاء فى
جنات النعيم.
قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ).
هو فى مقابل قوله
تعالى للمؤمنين : (يَنْصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) فإنه ـ سبحانه ـ إذ ينصر المؤمنين ويثبت أقدامهم ـ يخذل
الكافرين ، وينزلهم منازل البوار والتعس ، ويبطل أعمالهم ، فلا يقبل منهم عدلا ولا
صرفا. فكل عمل للكافرين إلى ضلال ، وضياع .. وإذ كان الإنسان من وراء عمله ، ينظر
إليه ، ويتبع آثاره ليجى ثمرة ما عمل ، فإن الكافرين ستقودهم أعمالهم التي أصلها
الله ، إلى الضلال ، وإلى عذاب السعير.
وفى التعبير عن
التّعس والخسران ، بالمصدر (فَتَعْساً لَهُمْ) ، وعن ضلال الأعمال ، بالفعل (وَأَضَلَّ
أَعْمالَهُمْ) .. فى هذا ما يشير إلى أن التّعس والبوار والخسران ، صفة
ملازمة لهم ، مستولية على كيانهم كله ، فى أقوالهم وأفعالهم ، وفى ماديات حياتهم
ومعنوياتها .. فالمصدر ـ كما قلنا ـ يجمع كل معانى الأحداث المشتقة منه .. على نحو
ما أشرنا إليه فى قوله تعالى (فَضَرْبَ الرِّقابِ). أما ضلال أعمال الكافرين ، فهو حدث متسلط على أعمالهم ،
فكن ما يقع منهم من عمل تسلط عليه الضلال ، وطواه تحت جناحه ..
وفى التعبير
بالماضي «أضل» بدلا من المضارع «يضل» ـ إشارة أخرى إلى أن الكافر محكوم مقدما على
كل عمل من أعماله بالضلال ، دون نظر فى وجه العمل ، فإنه يستوى فى ذلك الحسن
والقبيح ، والخير والشر ، من أعمال الكافرين .. إذ كل أعمالهم قبيحة ، وكل أفعالهم
شر .. هكذا تقع أعمال المشركين تحت حكم الضلال ، وقوعا مطلقا ، فلا ينتظر فى الحكم
عليها حتى ينكشف وجهها ، ويعرف الحسن والقبيح منها .. إنها كلها قبيحة الوجوه ،
منكرة الوجود ، قبل أن تولد! ..
قوله تعالى :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ..
هذا بيان للسبب
الذي من أجله كل الحكم عليهم بالبوار والخسران ، وبإبطال كل عمل يعملونه ، ولو كان
مما يعدّ فى الأعمال الصالحة .. إنهم «كرهوا ما أنزل الله» .. وهو القرآن الكريم ،
الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله ، ويحمل إليهم الهدى والنور ..
وكراهيتهم لما
أنزل الله ، هى التي دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف العدائىّ لرسول الله ، ولآيات
الله التي يتلوها عليهم .. فإن من كره شيئا تجنبه ،
وعاداه .. على
خلاف من أحب الشيء ، فإنه يدنو منه ، ويقاربه ويختلط به ، ويأنس إليه ..
وإحباط الأعمال ،
هو إفسادها ، ووأدها فى مهدها .. ومنه الحديث الشريف :
«إن من الربيع ما
يقتل حبطا أو بلمّ» .. والقتل الحبط ، هو أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ وتموت متخمة!
____________________________________
الآيات : (١٠ ـ ١٥)
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما
تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ
مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)
(١٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) ..
هو تهديد ووعيد
للمشركين الذين كذبوا رسول الله ، وأنكروا عليه ما دعاهم إليه من الإيمان بالله
وحده ، والإيمان باليوم الآخر ، وبالحساب والجزاء ..
وقد حمل هذا
الوعيد إلى المشركين فى هذا الاستفهام الإنكارى الذي يرميهم بالعمى والغفلة عن
النظر فيما حولهم ، وفيما أصاب المكذبين برسل الله قبلهم ، من عذاب ونكال .. لقد
دمر الله على هؤلاء المكذبين ، وأنى بنيانهم من القواعد ، وأن للكافرين عند الله
أمثال هذا التدمير ..
وفى قوله تعالى : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وفى تعدية الفعل بحرف الاستعلاء «على» ـ إشارة إلى أن هذا
التدمير ، قد وقع عليهم من جهة عالية ، متمكنة ، منهم ، بحيث يكونون تحت رمياتها
التي لا تخطىء الهدف أبدا ..
وفى قوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) بجمع أمثال ، بدلا من قوله ـ مثلها ـ إشارة إلى أن ما يرمى
به الكافرون من مهلكات ، ليس على صورة واحدة ، بل إن لكل أمة ، ولكل جماعة لونا من
ألوان الهلاك .. كما يقول الله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ أَغْرَقْنا) (٤٠ : العنكبوت)
..
فهى ألوان من
الهلاك ، مختلفة الأشكال ، وإن كانت متفقة فى الآثار ..
قوله تعالى :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ..
فى الآية إشارة
ضمنية إلى أن المؤمنين بالله واليوم الآخر ، لا يصيبهم شىء من هذا البلاء المسلط
على الكافرين .. وذلك بسبب (بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي ناصرهم ودافع المكروه عنهم .. أما الذين كفروا فلا ناصر
لهم ولا معين يعينهم ..
فإنه لا يملك
النفع والضر إلا الله سبحانه وتعالى ، وقد لاذ المؤمنون بحمى الله ، فلم يصل إليهم
ضر ، ولم يصبهم مكروه ، على حين ركن المشركون والكافرون إلى ما يعبدون من دون الله
، فلم تغن عنهم آلهتهم من الله من شىء ..
قوله تعالى :
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ
وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ..
ومن آثار ولاية
الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه يدحلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار .. فهم فى
الدنيا ، فى أمن من أن يحلّ بهم ما يحل بالكافرين من البلاء العام الشامل الذي
يأتى على كل شىء .. وهم فى الآخرة ، ينعمون فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ..
وفى قوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ـ إشارة إلى أن
الإيمان الذي يثمر هذه الثمرات الطيبة لأهله ، إنما هو الإيمان الذي يصدّقه العمل
الصالح فليس الإيمان مجرد قول باللسان ، وتصديق بالقلب ، فهذا إيمان لا ثمرة له ،
وإنما تظهر ثمرة
الإيمان ، فيما يكون عليه سلوك المؤمن ، وما تكسب جوارحه ..
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ
وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) ..
كان مقتضى السياق
أن يكون نظم الآية هكذا مثلا .. والذين كفروا لهم عذاب جهنم ..
ولكن النظم
القرآنى ، المعجز ، يضع الأمر موضعه ، فيصل حياة الكافرين فى الدنيا ، بحياتهم فى
الآخرة .. إنهم على طريق واحد فى دنياهم وأخراهم جميعا ..
فهم فى الدنيا ،
يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وهم فى الآخرة يلقون فى عذاب جهنم ..
والناظر المدقق فى
الحالين يرى أنهما على سواء ، وإن بدا الاختلاف بينهما بعيدا فى عينى من لا بصيرة
له ..
فالإنسان ليس جسدا
حيوانيا ، غايته أن يأكل كما تأكل البهائم ، وإنما الإنسان إنسان ، لأن له روحا يهفو
إلى الملأ الأعلى ، ويتشوف إلى مطالع النور منه ، ولهذا الروح مطالب يجب أن يؤديها
الإنسان له ، حتى تظل أسبابه موصولة بالملأ الأعلى ، آخذة طريقها إليه .. وإلا
انقطعت تلك الأسباب ، وأصبح الإنسان جسدا حيوانيا ، لا شىء من معالم الإنسانية فيه
.. وهذا عذاب وبلاء للإنسان .. إذ أنه يعيش فى الناس حيوانا ممسوخا فى جسد إنسان ،
أو إنسانا مردودا فى طبائع الحيوان ..
وفى قوله تعالى : (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما
تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) ـ إشارة إلى
أن ما يتمتع به
الكافرون من متع فى اتصال الرجال بالنساء ، هو عند الكافرين متعة حيوانية ،
يستجيبون فيها لغريزة الحيوان لحفظ النوع .. على حين أن المؤمنين يجدون فى قضاء
هذه المتعة شيئا أكثر من حفظ النوع .. إنهم يرونها نعمة من نعم الله ، كما يرون
فيها بعض قدرة الله فى خلق الإنسان ، وتطوره فى هذا الخلق ، من ماء دافق ، إلى
إنسان رشيد عاقل ..
فقوله تعالى : (يَتَمَتَّعُونَ) أي يتناكحون ، وينزو الذكر منهم على الأنثى كما ينزو ذكر
الحيوان على أنثاه.
فمتعتهم الجنسية
متعة حيوانية ، لإشباع حاجة الجسد ، وحفظ النوع .. وأكلهم أكل حيوانى ، لإشباع
البطون ، وحفظ الحياة ..
وتبدو لنا من
الآية الكريمة صورة مسعدة مشرقة ، لأولئك الذين يعيشون فى هذه الدنيا على ذلك
الزاد الطيب من المعاني الكريمة ، والمثل الرفيعة ، والمبادئ القويمة ، وإن فاتهم
كل شىء من ماديات الحياة ومتاعها ..
إنهم فى نعيم يملأ
حياتهم المقفرة من متاع الدنيا ، بألوان من البهجة والمسرة ، لا يجد أحد مثلها إلا
فى الجنة التي وعد الله المتقين من عباده .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦ : الرعد)
قوله تعالى :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) ..
هو تهديد للمشركين
من قريش ، الذين آذوا النبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وآذوا أهله وأصحابه ، حتى
اضطر ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى
الهجرة من بلده ،
وأهله ، والبيت الحرام الذي تعلّق به قلبه ..
فكثير من القرى ،
كانت أشد قوة من هذه القرية ـ مكة ـ أهلكها الله ودمّرها على أهلها ، ولم يكن لهم
من ناصر ينصرهم من بأس الله إذ جاءهم .. وهذه القرية قد فعلت فعل القرى الظالمة
التي أهلكها الله ، فهل إذا أراد الله هلاك أهلها ـ أهناك من يدفع عنهم ما يرميهم
الله سبحانه وتعالى به من إمهلكات؟ ..
وفى إضافة القرية
إلى النبىّ ، إشارة إلى أنها قريته ، وهو صاحبها ، وأولى الناس بها ، وإن أخرج
منها .. إنها ستفتح عما قريب ذراعيها للنبىّ ، وتستقبله استقبال الأرض الجديب
جاءها الغيث ، وإنها لتكون عما قريب البلد الإسلامى الأول ، الذي يوجه النبىّ
والمؤمنون معه ، وجوههم إلى البيت الحرام فيه .. وفى الآية إشارة إلى أن هذه
القرية لن يحل بها من الدمار والخراب ما حلّ بقرى القوم الظالمين ، ففى إضافتها
إلى النبىّ الكريم ، ضمان لها من كل سوء إلى يوم القيامة ، إنها قرية النبىّ ،
وستظل قريته إلى يوم الدين ..
قوله تعالى :
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ) ..
المراد بالاستفهام
هنا ، النفي ، بمعنى أنه لا يستوى من كان على بينة من ربه ، وعلى هدى منه ، ومعرفة
به ـ لا يستوى من كان هذا شأنه ، ومن زين له سوء عمله ، فرأى القبيح حسنا ، والشر
خيرا ، والهدى ضلالا .. إنه لشتان بين هذا ، وذاك .. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٩ : الزمر). (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) (٣٥ ـ ٣٦ : القلم).
وفى إفراد (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ) إشارات :
أولها : أن الذي
يكون على بينة من ربه ، وعلى هدى منه ، إنما هو إنسان استقلّ بنظره ، وأحقكم إلى
عقله ، ولم يكن منقادا لهوى غيره ، أو منساقا وراء هوى نفسه.
وثانيها : أن
المؤمنين ـ وإن كانوا ذواتا كثيرة متعددة ـ كل منهم له كيانه ووجوده الذاتي
المتحرر من التبعية الاعتقادية ـ هم جميعا ذلك المؤمن الذي على بينة من ربه .. فكل
مؤمن يرى وجوده ووجهه فى هذا المؤمن ..
وثالثها : أن
المؤمن الذي يكون على بينة من ربه يرجح ميزانه موازين غير المؤمنين جميعا ..
وفى إفراد (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وجمع (وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ) ـ فى هذا أكثر من
إشارة كذلك ..
فأولا : إفراد
الذي زين له سوء عمله مع بناء فعله للمجهول ، يشير إلى أن هذا التزيين ، وإن كان
يرد على الإنسان من جهة تزين له المنكر ، وتغريه به ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى
: (وَقَيَّضْنا لَهُمْ
قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (٢٥ : فصلت) ..
ـ هذا التزيين وإن
كان يرد على الإنسان من خارج ـ فإنه لا يدفع عنه حمل المسئولية ، ولا يعفيه من
الحساب والجزاء ، إذ كان لكل إنسان ذاتيته ووجوده .. والله سبحانه وتعالى يقول :
(كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١ : الطور)
ويقول سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨ : المدثر).
وثانيا : فى جمع (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ـ إشارة إلى أهل
الضلال
والفساد ، يغرى
بعضهم بعضا ، ويغوى بعضهم بعضا ، وإذا هم جميعا يتبادلون أهواءهم بينهم ، فكل منهم
يأخذ بهوى الآخرين .. وهذا هو المصدر الذي يجىء منه التزيين ، كما يقول سبحانه : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً) .. (١١٢ : الأنعام).
قوله تعالى :
(مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ،
وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ، وَلَهُمْ فِيها مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ
، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) ..
هذا تعقيب على
الآية السابقة : (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ؟) ..
ففى قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ ..) الآية ـ فى هذا ، جواب على هذا السؤال الذي أثارته الآية
السابقة .. وقد جاء هذا الجواب فى صورة سؤال يحتاج هو الآخر إلى جواب ، ولكن جواب
هذا السؤال قريب واضح ، يكاد يمسك باليد ..
فما هى إلا نظرة
يلقيها الإنسان إلى أهل الجنة وما يلقون فيها من نعيم ، وإلى أهل النار ، وما يساق
إليهم من عذاب ، حتى يرى هذا البعد البعيد بين حال هؤلاء وأولئك .. أصحاب الجنة ،
وأصحاب النار .. من كان على بينة من ربه ، ومن زين له سوء عمله فرآه حسنا .. ومن
هنا كان من المناسب ، ذكر الجنة ، وما فيها من ألوان النعيم ..
وقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ) .. هو استفهام يردّ به على الاستفهام فى قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) .. والتقدير : كلا .. ليس من كان على بينة من ربه ، كمن
زين له سوء عمله ،
وكيف يكونان
متماثلين؟ أمثل الجنة التي وعد المتقون ، ينعمون فيها بما يشاءون كمثل النار التي
يلقى فيها المجرمون ، يطعمون من جمرها ، ويشربون من لهيبها؟
ويلاحظ فى الآية
الكريمة أن عرض المقابلة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، لم يكن متطابقا ، فقد
جاءت الجنة مقابلة لأصحاب النار هكذا : «مثل الجنة التي وعد المتقون .. كمن هو
خالد فى النار؟ ولو جاءت المقابلة على وجه التطابق ، لجاء النظم هكذا : أمثل
الجنّة التي وعد المتقون .. كمثل النار التي وعد المكذّبون المجرمون؟ أو هكذا :
أمثل أصحاب الجنة التي ينعمون بطيباتها .. كمثل أصحاب النار الذين يتقلبون على
جمرها؟
فما وجه هذا؟ وما
سرّه؟
الجواب ـ والله
أعلم ـ من وجوه :
فأولا : ليس
المهمّ فى بلاغة المقابلة بين الأمور ـ لكى تتضح وجوه الخلاف بينها ، ومن ثمّ تتضح
سمة كل مقابل فى وجه مقابله ـ ليس المهم فى بلاغة المقابلة هنا ، هو التطابق بين
الصورتين ، الموجبة والسالبة ، كما فى العمل «الفتوغرافى» .. وإنما الصميم من
البلاغة ، هو أن يقع التطابق فيما وراء الغلاف الخارجي ، أو السطح الظاهري للأشياء
.. بحيث يبلغ أعماقها ، وينفذ إلى جوهرها ..
وثانيا : هنا فى
هذه الصورة التطابقية التي جاءت بها الآية الكريمة ، لأصحاب الجنّة وأصحاب النار ـ
نرى صورتين متطابقتين أتم التطابق وأكمله وأروعه ..
ففى صورة النعيم ،
نرى جنّة!
وهذه الجنة موصوفة
بصفتين :
أولاهما : أنها
للمتقين الذين وعدهم الله إياها ..
وثانيهما : أن
فيها أنهارا من ماء غير آسن ، وأنهارا من لبن لم يتغير
طعمه ، وأنهارا من
خمر لذّة للشاربين ، وأنهارا من عسل مصفّى ، كما أن فيها ما يشتهى أهلها من
الثمرات ..
فاللون الغالب
البارز فى هذه الصورة ، هو لون الجنة .. أما أصحابها فهم لون أقل بروزا وظهورا من
الجنة ذاتها ..
وهذا يعنى ـ فى
مقام الإحسان ـ المبالغة فى إكرام هؤلاء الضيف المدعوّين من الله سبحانه ،
الموعودين بالنعيم فى جناته .. فإنه بمقدار الاهتمام بالإعداد لاستقبال الضيف ،
يكون مقدار منزلته عند مضيفه.
وفى صورة الإعداد
لاستقبال الضيف ـ أي ضيف ـ يعرف ـ من لم يكن يعرف ـ قدر هذا الضيف ومنزلته ، وإن
لم يعرف من يكون ، وما الجهة التي يجىء منها ..
وفى الصورة
المقابلة لصورة النعيم .. ما ذا نرى؟
نرى اللون الغالب
فيها ، والذي يكاد يغطى الصورة كلّها ، هو أصحاب النار ، وما يلقون فيها من عذاب
ونكال ..
فهناك أناس خالدون
فى النار ، مقيمون إقامة دائمة فيها ، شرابهم ماء يغلى فيقطع الأمعاء .. هذا هو كل
ما فى الصورة!
ولكن كلمة «النار»
، وإن أخذت حيزا ضئيلا من الصورة ، فإنها تلقى على الصورة كلها ظلالا كثيفة كئيبة
، تتراقص عليها واردات جهنم كلها ، وما يساق إلى أهلها من ألوان العذاب والنكال ..
ومن تلك الواردات هذا الماء الجهنمى الذي يقطع أمعاء من يدخل إلى أمعائهم ..
ومن جهة أخرى ،
فإن إبراز أصحاب النار فى النار ، وتلونهم باللون الغالب الواضح فيها ـ إشارة إلى
أن أصحاب النار قد أصبحوا بعضا من النار ،
بل إنهم الشاهد
المبين عنها وعن أفعالها وآثارها .. إنهم حطب جهنم .. فهم إذن هذا اللهب المتسعّر
منها ، وأنه لو لا هذا الخطب لما كانت هذه النار .. وهل نار بغير وقود؟
فإذا نظرنا إلى
الصورتين : صورة النعيم ، والصورة المقابلة لها على نحو نظرتنا هذه ، وجدنا الجنة
وأهلها ، والنار وأصحابها ، ورأينا التقابل كاملا بين الصورتين ، وذلك بما يجريه
العقل من عمليات منطقية ، تقيم المتقابلين على ما يقضى به التطابق بينهما ..
فإذا كانت هنا جنة
، فليكن هناك نار ..
وإذا كان فى النار
أهلها وما يكابدون من عذابها ، فليكن فى الجنة أهلها وما ينعمون به من خيراتها ..
وهكذا تتبادل
الصورتان ، فتأخذ كل منهما من الأخرى عكس ما تعطى .. من الصفات أو الذوات ..
قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ
، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى)
هو من صفات هذه
الجنة ، وما فيها من ألوان النعيم.
فإذا كان فى جنات
الدنيا ، جداول تجرى ، أو أنهار تتدفق .. فالجنة التي أعدت للمتقين فيها أنواع
شتّى من الأنهار لم تعرفها الجنّات فى الدنيا ..
ففى الجنة التي
وعد المتقون : (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ
غَيْرِ آسِنٍ) ، أي غير متغير الريح أو الطعم ، فهو ماء جار ، صاف ، طهور
.. عذب فرات ..
وفى هذه الجنة (أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ) أي لبن كأنما حلب لساعته ، لم يمر به زمن ينقل فيه اللبن
من حال إلى حال ، أو أحوال ، أخرى ..
وفى تلك الجنة (أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ) ، أي بلذّ طعمها للشاربين .. فليس فيها من خمر الدنيا هذا
الطعم المرّ اللاذع ، كما أنها لا تخامر العقل ، ولا تذهب باللّب ، كما يقول الله
تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) (٤٧ : الصافات).
وفى الجنة أيضا
أنهار من عسل مصفى أي خالص من أي شائبة تعلق به ..
إنها جنة فيها
مشابه مما عرف الناس من نعيم الدنيا ، ولكن الفرق بعيد ، والبون شاسع بين الحقيقة
والمثال ، بين الكائن الحىّ وظله الواقع على الأرض!
____________________________________
الآيات : (١٦ ـ ١٩)
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى
لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)
فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)
(١٩)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ..
الضمير فى (مِنْهُمْ) يعود إلى مفهوم من الآيات السابقة ، التي أشارت إلى
المشركين ،
وتوعدتهم بالعذاب فى الدنيا والآخرة .. ففى قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ـ فى هذا إشارة
إلى المشركين .. وقوله تعالى : (وَسُقُوا ماءً
حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) ـ فيه إشارة أخرى
إليهم .. فهم الموصوفون بأنهم ممن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم ، وهم
المتوعّدون بأن يسقوا ماء حميما يقطع أمعاءهم ..
فقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي ومن هؤلاء المشركين ، منافقون ، جاءوا يستمعون إليك ..
لا يريدون الهدى ، ولا يطلبون الإيمان ، وإنما يريدون أن يشغبوا ، وأن يشوشوا على
النبي ، إن وجدوا سبيلا إلى الشغب والتشويش ، فإن لم يجدوا سبيلا إلى هذا فى مجلس
النبي صلوات الله وسلامه عليه ، تصيّدوا الأكاذيب والمفتريات ، ثم أذاعوها فى
الناس ، متخذين من حضورهم مجلس القرآن ، دليلا على أنهم يقولون عن علم ، ويتحدثون
عن وقع! ..
وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ
قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً)؟ ..
«حتى» حرف غاية ،
أن غاية هؤلاء الذين يستمعون هذا الاستماع إلى النبي ، وإلى ما يتلو من آيات الله ـ
غايتهم هى أن يقفوا من الذين أوتوا العلم هذا الموقف ، الذي يلقونهم فيه هازئين ،
مشككين فى آيات الله ، وفى المعاني الكريمة التي بين يديها ..
فلو لا حضورهم
مجلس النبي والاستماع إلى ما يتلو من آيات الله ، لما كان لهم سبيل إلى أن يقفوا
هذا الموقف من المؤمنين ، الذين حضروا معهم هذا
المجلس ـ فحضورهم
مجلس النبي له غاية ينتهى إليها ، وتلك الغاية هى الخروج من عند النبي ، وموقفهم
المؤمنين قائلين لهم : (ما ذا قالَ آنِفاً؟) ..
وواضح أن هؤلاء
الذين أشارت إليهم الآية فى قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ـ واضح أن هؤلاء
من المشركين المنافقين الذين جاءوا إلى النبي يستمعون إلى ما يقول ، وهم على شركهم
، وإن أعلنوا إسلامهم ، ودخلوا فى المسلمين ..
ولذين أوتوا العلم
فى قوله تعالى : (قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) هم المسلمون ، الذين دخلوا فى الإسلام مؤمنين ، وكانوا فى
مجلس النبي يستمعون لآيات الله تتلى عليهم .. فهؤلاء المسلمون المؤمنون ، هم أهل
علم بما استمعوا إليه من آيات الله ، وكلماته .. لأنهم استمعوا بآذان مصيغة ،
وقلوب واعية ، وعقول متحررة من التبعية والتقليد الأعمى .. ومن هنا كان لهم هذا
العلم الذي حصلوه من آيات الله التي استمعوا إليها .. وفى هذا تعريض بالمنافقين ،
ووصفهم بالجهل والغباء والبلادة .. وأنهم لو كانوا على حظ من العقل والإدراك ،
لكانوا من الذين أوتوا العلم ، الذين جلسوا فى مجلسهم ، واستمعوا إلى ما استمعوا
إليه ، ولكن شتان بين أذنين تسمعان .. أذن إنسان ، وأذن حيوان!!.
فهؤلاء المنافقون
، الذين استمعوا إلى النبىّ ، قد فضحوا أنفسهم ، وكشفوا عن غبائهم ، إذ جاءوا
يسألون عن مضمون كلام استمعوا إليه ، دون أن يدركوا له معنى ، مع أن هذا الكلام قد
أفاء على من استمعوا إليه ، وأحسنوا الاستماع ـ قد أفاء عليهم علما ، وخلع عليهم
خلعة العلماء ، فكانوا من الذين أوتوا العلم ، يسألهم المشركون المنافقون هذا
السؤال النبىّ : (ما ذا قالَ آنِفاً)؟
وهو سؤال المستهزئ
.. و (آنِفاً) أي من قبل .. فهى كلمة تدل على الزمن الماضي .. منصوبة على
الظرفية ، كأنهم قالوا : ماذا قال عشية ، أو غدوة ، أو صباحا ، أو مساء ..
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) هو الحكم الذي وقع على هؤلاء المنافقين ، بعد موقفهم هذا
من الاستماع إلى القرآن الكريم ، يتلوه الرسول الكريم ، ثم سؤالهم عما سمعوا ، هذا
السؤال المستهزئ المنكر ..
فهؤلاء هم الذين
طبع الله على قلوبهم ، وختم عليها ، فلا تقبل خيرا ، ولا تأذن بخير يدخل إليها ،
ومن أجل هذا فقد أخلوا مع أهوائهم ، تقودهم إلى حيث مواقع الضلال والهلاك ، دون أن
تمتد إليهم يد منقذة .. إنهم قطعوا كل سبب يصل بينهم وبين أية وسيلة من وسائل
الإنقاذ ..
قوله :
(وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).
الذين اهتدوا هم
أولئك المؤمنون الذين أوتوا العلم ، وهم كل المؤمنين .. إذ لا يكون الإيمان إيمانا
إلا عن علم ..
والذين اهتدوا
إنما اهتدوا لأنهم أوتوا علما ، فكان هذا العلم طريقا فسبحا لهم إلى مزيد من العلم
، ومزيد من الهدى .. فكلما ازداد الإنسان معرفة بربه ازداد هدى. وازداد تقوى .. (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ
الْعُلَماءُ) (٢٨ : فاطر) ..
وهذا يعنى أمورا :
أولا : أن على
الإنسان أن يلتمس الهدى ويطلبه من ذات نفسه .. وهو فى هذا إنما يستجيب لفطرته ،
ولداعى عقله .. فإذا لم يتجه إلى هذا الاتجاه ، كان مصادما لفطرته ، معطلا
لمدركاته .. إنه حينئذ يكون أشبه بالحبّة التي أصابها السوس ، أو مسّها العفن
والعطن .. إنها تبذر مع غيرها من الحب ، وتسقى الماء كما يسقى غيرها ، ولكنها تظل
جسما ميتا هامدا فى الأرض ، يأكله الثرى ، على حين يخرج غيرها نباتا ، ثم يكون
زرعا ، مزهرا مثمرا ..
إن كل حبة من تلك
الحبات التي نبتت وازدهرت وأثمرت ، لم تخرج إلى وجه الأرض إلا بما فيها من حياة
كامنة ، وإلا بمجهود ذاتى ، بذلته الحبة حين اختلطت بالماء والتراب ، حتى لكأنها
الأنثى تضع حملها ، فتعانى آلام الطلق ، والوضع!.
والذين (اهْتَدَوْا) أي بذلوا جهدا ذاتيا من أنفسهم ، للاتجاه نحو النور ،
والدخول فى دائرته ـ هؤلاء يزيدهم الله هدى بهذا النور الذي وضعه بين أيديهم ،
فيرون على ضوء هذا النور أكثر مما رأوا ، حيث تهديهم هذه الرؤية إلى نور أعظم ،
فيسعون إليه ، ويدخلون فى دائرته .. وهكذا .. (نُورٌ عَلى نُورٍ ..
يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣٥ : النور)
وفى قوله تعالى : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ إشارة إلى أن
التقوى التي يبلغها المؤمن بإيمانه ، هى مطلب أعظم من مطلب العلم ، وأنها إنما
تنال بعد جهد ، ومصابرة .. ولهذا ، فإنه إذ يبلغ الإنسان الدرجة التي يدخل بها
مدخل المتقين ، يحتفى به فى الملأ الأعلى ، وتخلع عليه خلعة التقوى من الله رب
العالمين ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) .. إنها هبة عظيمة من الله ، وعطاء كريم ، من رب كريم ،
لعباد كرام على الله ، مكرمين فى رحابه ..
وفى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) وقوله تعالى : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ما يشير إلى أن
تحصيل العلم ليس غاية فى ذاته ، وإنما هو وسيلة إلى تحصيل الهدى ، وبالهدى يكون
تحصيل الصفات الطيبة ، التي تكمّل الإنسان ، وتجمّله ، وإنه لا أكمل ، ولا أجمل من
التقوى .. كما يقول سبحانه : (وَلِباسُ التَّقْوى
ذلِكَ خَيْرٌ) (٢٦ : الأعراف)
وقوله سبحانه. (وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) (١٩٧ : البقرة) ..
ومن أجل هذا ـ والله
أعلم ـ جاء فعل الهدى محمولا على فاعله : (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا) .. على حين جاء إتيان التقوى مسندا إلى الفعّال المريد ،
الله رب العالمين : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) لأن التقوى مطلب مسير ، ومقام كريم ، تمتد به يد الرحيم
الكريم ، إلى من أخذوا بالأسباب إلى التقوى ..
قوله تعالى :
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى
لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ).
الاستفهام هنا
إنكارى ، تقريعى ، تهديدى ، ينكر على المشركين موقفهم هذا ، من الإيمان بالله
وبرسول الله ، ويقرّعهم على أنهم لم يفتحوا أبصارهم ولا بصائرهم لهذا النور الذي
بين أيديهم ، ولا إلى هذه المثلاث التي حلّت بالأمم من قبلهم .. ثم يتهددهم
بالعذاب الذي يلقاهم يوم القيامة ، وقد قرب يومها ، وجاءت أشراطها ، أي العلامات
المنذرة بمقدمها ..
فهؤلاء المشركون
.. ما ذا ينتظرون؟ هل ينتظرون ـ إن انتظر بهم ـ إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا
يشعرون؟ ... وإنها لآية لا ريب فيها .. فكيف يكون حالهم إذا جاءتهم ، وقدّموا
للحساب والجزاء؟ .. هل ينفعهم شىء فى هذا اليوم؟ وهل من سبيل إلى أن يصلحوا ما
أفسدوا؟ كلا ، فقد انتهى وقت
العمل ، وجاء وقت
الحساب والجزاء .. لقد انتقلوا من دار العمل والابتداء إلى دار الثواب والعقاب.
وقوله تعالى : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ
ذِكْراهُمْ) .. أي فكيف تنقعهم الذكرى ، إذا جاءتهم الساعة؟ والذكرى هى
العبرة والعظة .. وفى يوم القيامة تكثر العبر والعظات ، وتمتلىء القلوب بالندامة
والحسرة على ما كان من الإنسان من تفريط فى جنب الله ، وتقصير فى رعاية حقه .. فمن
لم يكن مؤمنا قتل نفسه حسرة على أنه لم يكن فى المؤمنين ، ومن كان مؤمنا ندم على
ألا يكون فى المحسنين ، ومن كان فى المحسنين ، ندم على أنه لم يزدد إحسانا .. ولكن
لا شىء ينفع فى هذا اليوم ، إلا ما كان من عمل فى الدنيا. وهذا ما يشير إليه قوله
تعالى. (يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
لِحَياتِي) (٢٣ ـ ٢٤ : الفجر).
قوله تعالى :
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ).
المتقلب : ما
يتقلب فيه الإنسان من شئون الحياة ، والمراد به الحركة .. والمثوى المأوى ، الذي
يثوى إليه الإنسان ، ويسكن إليه ، والمراد به : السكون .. والآية التفات من الله
سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم ، واستدعاء ، واستدناء له من الله ، ليتلقّى ما
يوصيه به ربه ، تاركا هؤلاء المشركين وما هم فيه من عمى وضلال .. إنهم استحبوا
العمى على الهدى ، وآثروا الضلال والشرك ، على الإيمان .. فلبموتوا بشركهم ،
وليلقوا المصير الذي هم أهل له .. أما أنت أيها النبي (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ) .. فالألوهة مقصورة على الله وحده ، لا يشاركه فيها أحد ..
(إِنَّما هُوَ إِلهٌ
واحِدٌ) .. (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ).
والسؤال هنا :
ماذا يراد بالعلم المطلوب من النبي أن يعلمه ، من أنه لا إله إلا الله؟ وهل كان
النبي إلى نزول هذه الآية الكريمة ، لا يعرف هذه الحقيقة؟
إن النبي ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ كان على التوحيد الخالص لله قبل أن يبعث ، فكيف يراد منه أن
يعرف هذه الحقيقة بعد أن بعث؟ وهل الخلاف بينه وبين قومه إلا على عبادة الله وحده
، دون ما يعبدون من آلهة؟.
فما مفهوم هذا
الأمر بالعلم؟
الجواب ـ والله
أعلم ـ من وجوه :
أولا : أن دعوة النبي
من الله سبحانه وتعالى للعلم بأن لا إله إلا الله ـ هو نداء قرب وأنس للنبى من ربه
، يلقى إليه فيه بالوصف الذي ينبغى أن يعلمه من ربه ، فيحققه ، ويؤكده ..
وثانيا : العلم
المطلوب من النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ليس هو العلم المجرد ، وإن كان
مستيقنا ، وإنما هو العلم الذي يعطى ثمرا حاضرا .. والمراد بدعوة النبي هنا بأن
يعلم أن لا إله إلا الله ـ هو ألا يأسى على هؤلاء المشركين والمنافقين ، وألا يحفل
بهم وبكثرتهم وقوتهم ، فإن الله الذي لا إله إلا هو ، معينه ، ومؤيده ، وناصره على
كل عدو له ، وللدين الذي جاء به .. إنه سبحانه صاحب الأمر ، ومالك الملك ..
وثالثا : إذا كان
مطلوبا من النبي أن يذكر ربه ، وأن يجدد له كل حين بهذا الذكر ولاء لربه ، وخضوعا
لجلاله وقدرته ـ إذا كان ذلك مطلوبا من النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهو الذي
تنام عينه ولا ينام قلبه عن ذكر ربه ـ فإن غير النبي أولى بأن يقيم على نفسه من
هذا الأمر حارسا يحرسه من أهواء نفسه ، ووساوس شيطانه ، حتى لا يلهو عن ذكر الله ،
ولا يقطع الصلة بينه وبين ربه ، فتمتد غربته عن ربّه ساعات ، أو أياما ، أو شهورا
، أو سنين!!.
قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) .. أي اطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى ، لذنبك ،
ولذنوب المؤمنين والمؤمنات ، وذلك فى حال استحضارك ذكر ربك ، والإقرار بتفرده
بالألوهة .. فإذا كان ذلك ، كان طلب المغفرة لذنبك ، ولذنوب المؤمنين ، طلبا واقعا
موقع القبول ، لأنه متوجّه به إلى من يملك الأمر كله ..
[النبي .. وما ذنبه الذي يستغفر له؟]
والسؤال هنا : هل
للنبى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ذنوب يطلب لها المغفرة من الله سبحانه وتعالى؟
وكيف يتفق هذا والعصمة الواجبة للنبى؟
والجواب على هذا ـ
والله أعلم ـ من وجهين.
فأولا : عصمة
النبىّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا تقطعه بحال أبدا عن البشرية ، التي لا تسلم ـ
مهما بلغت من السموّ والكمال ـ من عوارض الخطأ ، والتقصير ، وذلك كشاهد على
بشريّتها.
وما يقع من
الأنبياء والرسل من خطأ وتقصير ، هو من الهنات التي تمدّ حسنات إذا صدرت من غيرهم
.. ومثل هذه الهنات لا تجور على عصمة النبىّ ، فإنه ـ مع هذه الهنات ـ لا يزال على
قمة الإنسانية فى أكرم صفاتها ، وأنبل أخلاقها .. وقد استغفر كثير من الأنبياء من
ذنوب سجلها القرآن الكريم عليهم .. كما فى قوله تعالى عن داود عليهالسلام : (وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٣٤ : ص).
وكسليمان ـ عليهالسلام ـ إذ يقول سبحانه
: (وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (١٤٤ : الصافات)
.. ويونس عليهالسلام : (فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤ : الصافات)
..
وإبراهيم أبو
الأنبياء ، عليهالسلام ، يقول عن نفسه : (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢ : الشعراء) ..
فكل ابن آدم خطّاء
، وخير الخطائين التوابون .. والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أبناء آدم ..
وأخطاؤهم هى أخطاء على حدود الكمال المطلق ، الذي لا تطوله يد بشر!
وثانيا : أن فى
دعوة النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى الاستغفار لذنبه ، إشارة إلى أن
الإنسان مهما كان أمره من الإيمان والتقوى ، لا يبلغ أبدا غاية الكمال المطلق ..
فإنه كلما حثّ الخطا إلى هذا الكمال ارتفع صعدا فى منازله ، ووجد منازل لا تنتهى
.. وذكر الله ، واستغفاره ، يبعت فى شعور الذاكر المستغفر ، أنه بين يدى الله الذي
لا إله إلا هو ، وأنه فى حضرة من يعلم السرّ وأخفى ، فتأخذه لذلك خشية ورهبة من كل
زلة زلها ، أو هفوة وقعت منه .. فلا يجد غير الله ملجأ يلجأ إليه ، ليغفر له ما
كان منه .. (وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ). (١٣٥ : آل عمران).
فإذا كان النبي
مطالبا بأن يستغفر لذنبه ، فكيف حالنا نحن؟ وكيف بما نحمل من أوزار لا تستقلّ
بحملها الجبال؟ ثم كيف بأولئك الذين يحسبون ـ إن صدقا وإن خداعا ـ أنهم على هدى ،
وتقوى من الله .. كيف بهم يخلون أنفسهم من التكاليف الشرعية ، بدعوى يدّعونها
لأنفسهم ، أو يدّعيها لهم غيرهم ـ بأنهم من الواصلين .. أي الذين وصلوا إلى غاية
الكمال ، وتحرروا من القيود والحدود ، وفنوا فى المطلق؟ إن من يفنى فى المطلق لا
يكون إنسانا ، ولا ينبغى أن يسكن إلى الناس ، وأن يسكن إليه الناس ..!
وقوله تعالى : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) معطوف على قوله تعالى (لِذَنْبِكَ) أي استغفر لذنبك ،
ولذنب المؤمنين والمؤمنات .. وأعيد حرف الجر «اللام»
للإشارة إلى أن
ذنب النبي غير ذنب المؤمنين والمؤمنات .. وأن ذنب النبي هو ـ فى باب الفضل
والإحسان ـ عدم تحرّى الأخذ بما هو أفضل وأحسن.
وفى اختلاف النظم
القرآنى بين قوله تعالى فى شأن النبي : (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) وبين قوله تعالى فى شأن المؤمنين والمؤمنات : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) من غير أن يضيف إلى المؤمنين والمؤمنات ذنوبا ـ فى هذا
الاختلاف أكثر من إشارة :
فأولا : فى قوله
تعالى فى شأن النبي : (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) ـ إشارة إلى أن ما
كان من النبي صلىاللهعليهوسلم من ذنب ، هو معلوم له .. ذلك أن ما يعدّ من الذنب فى مقامه
ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يشعر به النبي صلىاللهعليهوسلم بمجرد وقوعه ، لأنه شىء مظلم يدخل على هذا الوجود المشرق
بنور الحق .. إنه سرعان ما يجد النبي فى نفسه نخسة لهذا الذنب ، وسرعان ما يتجه
إلى الله سبحانه ، طالبا التوبة والمغفرة .. فإذا غفل النبي ، عن ذنب وقع منه نبهه
الله سبحانه وتعالى إلى ذنبه ، وكشف له عنه ، فى صورة عالية من الأدب الربانىّ .. ومن
هذا عتابه سبحانه وتعالى لنبيه ، فيما كان منه حين أعرض عن ابن أم مكنوم ، الذي
جاء يسأله عن شىء من أمر دينه ، على حين كان النبي مشغولا بالحديث إلى جماعة من
أشراف قريش ، جاءوا يحاجّونه ويجادلونه .. فقال تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (١ ـ ٣ : عبس).
ومن هذا أيضا
عتابه سبحانه للنبى ، وقد أذن لبعض المنافقين الذين جاءوا يستأذنونه فى التخلف عن
الجهاد .. فقال سبحانه : (عَفَا اللهُ عَنْكَ :
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكاذِبِينَ؟) (٤٣ : التوبة).
هذا هو مما يرى فى
حق النبي ذنبا ..
فقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ـ إشارة إلى ذنب
معلوم للنبى ، قد علمه بمراجعة نفسه أو بإعلام الله إياه .. وهذا يعنى أن ذنب
النبي شىء قليل ،
لا يمكن أن تجتمع
منه ذنوب .. فهو ذنب قليل ، كمّا وكيفا ..
وثانيا : فى وقوع
فعل الاستغفار على الذنب ، فى قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) ، إشارة أخرى ، إلى أن هذا الذنب لم يدخل على النبي صلوات
الله وسلامه عليه شىء منه ، بل ظلت ذاتية النبي فى صفائها ونقائها ، وظل هذا الذنب
كائنا يحوم بأجنحته حول حمى النبوة ، دون أن يقدر على اختراق هذا الحمى ..
ففى إفراد الذنب ،
وعزله عن ذنوب المؤمنين ـ تكريم للنبى ، وإعلاء لقدره ، وتنويه بمقامه عند ربه ،
وأنه شىء ، وهذا الذنب شىء آخر .. إن هذا الذنب هو الذي يحتاج إلى معالجة ، أما
النبي الكريم فهو على الصحة والسلامة.
وثالثا : فى قوله
تعالى : (وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) هو مقابل لذنبك .. فالنبى إذ يستغفر لهذا الذنب الذي كان
منه ، عليه كذلك أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات الذين هم غرس يده.
وإن عمل النبىّ ـ أيّا
كان هذا العمل ـ هو عمل مبرور .. وإن ما يعمله النبىّ ويحسب عليه من قبيل الذنب ..
وعمل مبرور كذلك ، وإن لم يستوف غاية البرّ .. شأن عمل النبي هنا ، فى هذا شأن
المؤمن أو المؤمنة ، يتلبسان بالذنوب ، ويختلطان بالآثام .. ثم هما ـ مع ذلك ـ أقرب
إلى الله ، وأدنى إلى رحمته ممن لا يؤمنون بالله ، ولو لم يواقعوا إثما ، أو
يفعلوا منكرا ..
فكما أن الإيمان
يحمى المؤمن من غائلة المعاصي ، التي تقع منه ، وذلك بأن يتوب إلى الله فيتوب الله
عليه ، ويستغفر لذنوبه فيغفر الله له .. على حين أن غير المؤمن لا يقبل منه عمل
أبدا ـ كذلك النبوّة تحمى النبىّ من أن يعلق به ذنب ، أو تتحكك بحماه معصية .. إن
ذنبه طاهر أشبه بطهر المؤمن أو المؤمنة. ـ
وكما يرى النبىّ
المؤمنين أو المؤمنات فى حاجة إلى تطهير مما علق بهم من خطايا وآثام ، كذلك يرى
بعض أعماله التي تعدّ عليه ذنبا ـ فى حاجة إلى تعديل وتقويم وإن كان وجهها قائما
على قبلة الحقّ ، آخذا سمت العدل والإحسان ..
ورابعا : استغفار
النبىّ لذنبه .. استغفار لذات محدّدة معروفة ، هى هذا الذنب ، (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) .. أما استغفاره ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ للمؤمنين
والمؤمنات ، فهو استغفار لتلك الذوات .. ذوات المؤمنين والمؤمنات .. وما تلبس بها
من ذنوب ، وهذا يعنى :
أولا : أن النبىّ
إذ يستغفر لذنبه ، إنما يستغفر لذنب غفره له الله سبحانه وتعالى ، من قبل أن يقع
منه ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢ : الفتح) وقوله
سبحانه : (وَوَضَعْنا عَنْكَ
وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (٢ ـ ٣ الانشراح)
.. فالاستغفار هنا استغفار حمد وشكر ، كما يشير إلى ذلك النبىّ الكريم ، وقد سئل ،
كيف يجهد نفسه فى قيام الليل حتى تورمت قدماه ، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه :
«ا فلا أكون عبدا
شكورا».
ثانيا : أن
استغفاره صلىاللهعليهوسلم .. وللمؤمنين المؤمنات .. ذواتا وذنوبا ، هو بركة ، ورحمة
، تتنزل عليهم ، فتشيع فى قلوبهم السكينة ، وتجلى عن أبصارهم غواشى الجهل والضلال
.. فيثوب العاصي ، ويهتدى الضال ، ويزداد الذين اهتدوا هدى ..
فاستغفار النبىّ
للمؤمنين والمؤمنات ، إنما هو دعاء لهم بالخير والهدى واستدناء لهم من رضا الله
وتوفيقه .. وبهذا يكون للمؤمنين والمؤمنات ، من
هذا الاستغفار ،
داع خفىّ يدعوهم إلى الله سبحانه ، وينهج بهم مناهج الخير والهدى .. لا أنّ هذا
الاستغفار من النبىّ للمؤمنين والمؤمنات ، يغفر لهم ذنوبهم ، ويمحو عنهم سيئاتهم ،
فإن غفران الذنوب ومحوها إنما يكون بعمل ذاتىّ من الإنسان نفسه بأن يتوب إلى الله
ويستغفر لذنبه ، كما يقول سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (٢٥ : الشورى).
وكما يقول جل شأنه
: (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١١٠ : النساء) أو
بأن يعمل المرء عملا صالحا ، فيكون ذلك العمل الصالح طهرة من العمل السيء ، كما
يقول سبحانه : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١٤ : هود) أو أن
يكون ذلك بفضل من الله ونعمة.
وهذا الذي ذهبنا
إليه من أن استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات ، لا يكفر عنهم ذنوبهم ، وإنما
يمدّهم بأمداد الهدى والاستقامة ـ هذا الذي ذهبنا إليه ، هو ما يتفق وروح الشريعة
الإسلامية ، التي تحترم الإنسان ، وتعلى ذاته ، وتجعل إليه وجوده كله ، من غير
قوامة عليه من أحد .. فهو بهذا الوضع إنسان يحمل المسئولية كاملة ، ماله ، وما
عليه ..
ولو كان استغفار
النبىّ للمؤمنين والمؤمنات مكفّرا عنهم سيئاتهم غافرا لذنوبهم وآثامهم .. لكان من
هذا داعية إلى المؤمنين والمؤمنات إلى إخلاء أنفسهم من المسئولية ، ولما كان
للإساءة حساب عندهم ، إذ كان هناك من يستغفر لهم ، ويحمل عنهم ذنوبهم!
ومن جهة أخرى ،
فإنه لو كان معنى استغفار النبي للمؤمنين والمؤمنات ، هو طلب المغفرة لذنوبهم ،
لكان ذلك أمرا مقضيّا للنبى عند ربّه ، ولغفر الله سبحانه وتعالى ذنوب المؤمنين
والمؤمنات جميعا ، لانه دعاء من النبىّ ، وكل دعاء من النبىّ إلى ربّه ، هو دعاء
مستجاب ، لا يتخلف أبدا .. وقد رأيت ما يقضى إليه غفران ذنوب كل مؤمن ومؤمنة ، من
غير عمل منهم.
واستمع بعد هذا
إلى قوله تعالى : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (١٠٣ : التوبة) ..
ففى هذه الآية
الكريمة ، ترى المؤمنين فى مقام الإحسان ، وهم يؤدون زكاة أموالهم إلى النبي ،
فيقبلها النبي منهم ، فيكون لهم من هذه الزكاة طهرة لأنفسهم ، وزكاة لأموالهم : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) .. فإن زكاتهم تلك التي أخذها النبي منهم ، يردّها عليهم
طهرا لأنفسهم ، ونماء لأموالهم .. فهذا إحسان إليهم ، فى مقابل إحسان منهم و : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ؟) (٦٠ : الرحمن) ..
ثم بعد مقابلة هذا
الإحسان بإحسان ، دعا الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم إلى أن يضيف إلى هذا الإحسان
إحسانا ، فضلا وكرما من الله سبحانه ، وذلك بأن يصلى النبي على هؤلاء المتصدقين : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ) فهذه الصلاة ، من النبي على المتصدقين ، هى سكن لهم ،
واطمئنان لقلوبهم ، وزاد من الإيمان يثبت أقدامهم على الخير ، ويفتح أبصارهم إلى
مواقع الإحسان .. أما غفران ذنوبهم ـ كلها أو بعضها ـ فهو موكول إلى الله ، وبما
يقدمون لله سبحانه وتعالى من طاعات وقربات ..
(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)
____________________________________
الآيات : (٢٠ ـ ٣٠)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ
(٢١)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ(٢٣)
أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ
وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ
(٢٦)
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ)
(٣٠)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ).
هذه لفتة من
القرآن الكريم إلى مواقع المسلمين ، ونظرة ينظر بها إلى مجتمعهم الذي أصبح يضم
كثيرا من الجماعات.
لقد كان القرآن
الكريم منذ يوم نزل على النبي ، وهو فى مواجهة دائمة
للمشركين ، يدعوهم
إليه ، ويقيم لهم معالم الطريق إلى الله ، ويفنّد أباطيلهم ، ويفضح سفههم ..
وقد قطعت الرسالة
الإسلامية إلى يوم نزول هذه السورة ـ سورة محمد ـ (وهى مدنية) ـ شوطا بعيدا على
الطريق إلى غايتها ، ودخل كثير من الناس فى دين الله ، فكان من تدبير الحكيم
العليم أن يلفت المسلمين إلى أنفسهم ، وإلى أن يكتشفوا مواقع القوة والضعف منهم ..
فهم ليسوا على حال واحدة من السلامة والعافية فى دينهم ، وإن من الخير لهم ـ وهم
على الطريق ـ أن ينظروا إلى أنفسهم ، وألا يشغلهم النظر الدائم إلى عدوهم ، عن
النظر إلى أنفسهم ، فإنه من الغبن والظلم معا ، أن يرعى الإنسان غيره ويهمل نفسه ،
ففى ذلك تضييع للراعى ولمن يرعاه جميعا ..
وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا
نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ـ إشارة إلى تطلع
أنظار المؤمنين ، إلى آيات الله ، وتعلق قلوبهم بما ينزل من وحي السماء .. فهم على
شوق دائم بهذا النور الذي ينزل من السماء ، فإذا أمسك الوحى عنهم قليلا ، هفت
قلوبهم إليه ، وشاقهم الحنين له ، وباتوا يتمنون على الله أن ينزّل عليهم سورة! (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)!! فلو لا هنا استفهام يراد به الرجاء والتمني ..
هذا هو موقف
المؤمنين من آيات الله .. يرصدون منازلها ، ويشدّون قلوبهم وعقولهم إلى مطالعها ،
وينتظرون فى لهف وشوق هطول غيوثها ..
أما من فى قلوبهم
مرض من المؤمنين ـ فإن لهم مع آيات الله موقفا غير هذا الموقف ، وشأنا غير هذا
الشأن ..
وقوله تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
إن مقام القول سهل
ميسور ، ومجال الكلام واسع فسيح .. وإن وضع القول على محكّ العمل ، هو الذي يكشف
عن معدنه ، وما فيه من صدق أو كذب ، وحق أو باطل ، وصحيح أو زلف.
فهذه السورة التي
كان يتمناها المؤمنون ، قد نزلت إليهم ، وهى سورة محكمة ، أي محددة المعنى ، محكمة
المفهوم ، لا مجال فيها لتأويل ، أو تخريج .. إنها على مفهوم واحد لا اختلاف فيه
.. ولكن هذه السورة المحكمة تحمل إلى المسلمين ابتلاء واختبارا .. إنها تدعوهم إلى
الجهاد فى سبيل الله ، وإلى القتال والقتل فى سبيل الله ..
وهنا تختلف
بالمؤمنين مواقفهم من هذه السورة المحكمة ، التي تحمل دعوة إلى الجهاد فى سبيل
الله ..
فأما المؤمنون
الصادقون ، الذين أخلصوا دينهم لله ، فهم يستبشرون بما تلقوا من آيات الله ، إذ
يتلقون الأمر الصادر إليهم منها بالرضا والقبول ..
وأما الذين فى
قلوبهم مرض ، فيأحذهم لهذا الأمر همّ ثقيل ، إنهم يتمثلون فى تلك الحالة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو على رأس المؤمنين ، يقودهم إلى الجهاد فى سبيل الله
، فيتمثل لهم أنهم فى هذا الجيش الذاهب إلى ميدان القتال ، وتتمثل لهم مصارعهم
هناك ، فيغشاهم لذلك ما يغشى الميت ساعة احتضاره ..
إن آيات التي الله
تنزل من السماء ليست أناشيد تردد ، ولا مزامير ترتّل ، ولكنها رسول هداية ، ودليل
خير ، وقائد يقود إلى العمل فى مواقع الحق والخير ، وداع يدعو إلى البدل ،
والتضحية والفداء ..
وفى الآية الكريمة
، إشارة كاشفة إلى أول عرض من أعراض النفاق ، وأول سحابة تطلع فى سماء المؤمن من
سحبه.
فقد يكون المؤمن
على درجة من الإيمان .. فهو يؤمن بالله ، وبكتاب الله وبرسول الله ، وباليوم الآخر
.. ولكن فى مجال الامتحان ، تضمر هذه المعاني فى نفسه ، وتخفّ موازينها فى كيانه
.. وهذا من شأنه ـ إن تمكن فى قلب المؤمن ـ أن يذهب بإيمانه كلّه .. إن الإيمان
ولاء مطلق .. فى السّرّاء والضرّاء ، فى الرخاء والشدة .. أما الإيمان فى حال
الميسرة والرخاء ، والجزع والتشكك ، أو التردد فى ، حال الشدة والبلاء ـ فذلك هو
الطريق إلى النفاق والكفر.
وهذا أول مرض تكشف
عنه الآية الكريمة فى نظرتها الأولى إلى الجماعة الإسلامية .. إنها أرت المسلمين
بعضا من أنفسهم ، وإن بهم خللا ينبغى أن يعالجوه فيما بينهم ، وأن يتلافوه قبل أن
يستفحل ويعظم ، وتتولد منه مواليد كثيرة من المنافقين ، الذين يكونون حربا خفية
على المسلمين.
وقوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) ـ هو دعوة من الله
سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين ، الذين عرفوا أن فى قلوبهم مرضا ، وذلك لما
وجدوا فى أنفسهم من ضيق وهمّ ، حين استمعوا إلى آيات الله التي تنزلت على النبي ،
داعية إلى القتال ـ هو دعوة من الله سبحانه إلى هؤلاء المؤمنين ، أن يغيروا ما
بأنفسهم ، وأن يصححوا إيمانهم بالله ، وأن يكونوا على ولاء مطلق لله ، فيسمعوا ،
ويطيعوا ، على المكره والمنشط .. فذلك هو الذي يمسك عليهم إيمانهم بالله ، وفى هذا
سلامة لهم ، وصلاح لأمرهم فى الدنيا والآخرة جميعا ..
هذا ، وقد جاءت
الجملة الخبرية : (فَأَوْلى لَهُمْ
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ـ جاءت وأحد
جزميها (المبتدأ) فى آية والجزء الآخر (الخبر) فى آية أخرى.
فما سرّ هذا؟ أو
ما بعض سره؟
يقول المفسرون ،
وعلماء البيان : إن ذلك لمراعاة الفاصلة القرآنية ..
فقوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ) هو فاصلة الآية ، لتتسق مع فواصل الآيات فى هذه السورة ،
وهى تعتمد على اللام ، والهاء ، الميم : (لَهُمْ) أو الهاء والميم : «هم» أو الميم الساكنة وحدها .. مثل (أَعْمالَهُمْ) .. (بالَهُمْ) .. (أَمْثالَهُمْ) ... ومثل : (تَقْواهُمْ) .. (ذِكْراهُمْ) ومثل (مَثْواكُمْ) ...
وهذا قول لا
يستقيم مع إعجاز القرآن ، ومع أوضح وجه من وجوه إعجازه ، وهو النظم ..
فهذا النظم ، لكى
يكون معجزا ، ينبغى أن يعلو على حكم الضرورات ، التي تتحكم فى أعمال البشر ..
والقول بأن الوقوف
بالآية عند قوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ) كان لرعاية الفاصلة ـ هو قول بإخضاع القرآن لحكم الضرورة ،
وعجزه عن أن يخرج من قيدها ..
إنه لا بد أن يكون
لهذا سر ، بل وأسرار ، ليس منها هذا الذي يقال ، عن الفاصلة ورعايتها ..
فما السر؟ وما بعض
السر؟
نقول ـ والله أعلم
ـ : إن هذا الفصل بين المبتدأ والخبر ، مقصور قصدا من القرآن الكريم ، وأنه بغير
هذا الفصل لا يتحقق المعنى كاملا كما قصد إليه القرآن ..
فالله سبحانه
وتعالى ، يلفت المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض ، إلى هذا المرض الذي اندس فى قلوبهم
، ولا يكادون يعرفون أنهم مصابون به .. ولكن بعد أن نزلت السورة المحكمة التي تحمل
أمرا محكما بالقتال ـ عرف الذين فى قلوبهم مرض ، أن فى قلوبهم مرضا ، لما عراهم من
تلك الأوصاف التي
وصفت بها الآية ،
من كان فى قلوبهم مرض .. (رَأَيْتَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ) ..
وفى قوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ) دعوة إلى هؤلاء المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض ـ دعوة لهم
إلى ما هو أولى وأوفق بهم أن يفعلوه فى هذا الموقف .. فإن كلمة (فَأَوْلى لَهُمْ) ، تعنى أن هناك انحرافا لا يصحّ للإنسان أن يظل فيه ، وأن
هناك ما هو أولى به ، وأحق من هذا الموقف ..
وهذا يعنى :
أولا : أنهم على
غير الطريق السوىّ ، الذي ينبغى أن يكون عليه المؤمن .. وأنه من الخير لهم أن
يعيّروا من وضعهم هذا الذي هم فيه ..
وثانيا : أنهم ـ وهم
مؤمنون ـ مطلوب منهم أن يكشفوا عن الآفات التي تعرض لهم ، وتحاول أن تفسد عليهم
إيمانهم ، لأنهم أولى الناس وأجدرهم بأن يكونوا على الصحة والسلامة .. إنهم مؤمنون
بالله ، وإن المؤمن ليبلغ به إيمانه أقصى درجات الكمال البشرىّ ، إذا هو كان على
نية مخلصة ، صادقة ، وعلى وعى وإدراك للحقائق الدينية التي آمن بها ..
وهنا سؤال :
أين خبر المبتدأ :
«فأولى لهم»؟
هذا ما أراد النظم
القرآنى أن يكون مثار بحث وتفكير .. حتى إذا أخذ العقل طريقه للبحث عن هذا الخبر ،
ثم اهتدى إليه ، أو هدى إليه ـ كان له فى النفس موقعه الذي يحقق له وجودا ذاتيا
متمكنا ، فى إدراك الإنسان وشعوره ..
ومرة أخرى .. أين
خبر المبتدأ؟
إن كلمة (فَأَوْلى لَهُمْ) تشير إلى أن المخاطبين بهذا فى وضع غير صحيح مع إيمانهم ..
وأنه من الأولى
لهم أن يتحولوا عما هم عليه ، وأن يتبدّلوا بحالهم حالا أحسن ، وأجمل ..
فما هى تلك الحال؟
قد تكون التوبة
إلى الله ، والاستغفار لما كان منهم من استقبال سيى لآيات الله المحكمات ..
وقد تكون بالعمل
الفورىّ ، بطلب الجهاد فى سبيل الله ، والغزو فى أي وجه يوجههم إليه الرسول ..
وقد تكون ، وتكون
.. مما يراه المؤمن مصححا لإيمانه ، بعد أن كشفت الآية عن ضعف هذا الإيمان .. وذلك
على نحو ما فى قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٤ ، ٣٥ :
القيامة).
حيث جاء المبتدأ
ولا خبر له!
فهذه الحال التي
يرى المؤمن التحول إليها ليصحح إيمانه ـ هذه الحال هى خبر المبتدأ .. أي فأولى لهم
أن يرجعوا إلى الله ، أو فأولى لهم أن يتلقّوا آيات الله سبحانه بالحفاوة والتكريم
والولاء ..
أما قوله تعالى : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) .. فهو الدواء الذي تقدّمه السماء لأولئك المؤمنين ، الذين
يريدون أن يصححوا إيمانهم .. وهو خبر المبتدأ ، الذي طلع من أفق جديد ، فى سماء
آية جديدة .. فإذا التقى به المؤمن بعد هذا ترك جميع الخواطر التي طرفته ، وجاء
إلى هذا الدواء السماوي الذي حملته
الآية الكريمة ،
ليكون الخبر الذي طال البحث عنه ..
إن الخبر الصحيح
للمبتدأ هو : «طاعة وقول معروف» .. وهو الذي يجمع فى كيانه كل ما وقع فى خاطر
الإنسان ، وهو يبحث عن الطريق التي يقيم عليها إيمانه ، ويسلك به المسلك الذي هو
الذي هو أولى بالمؤمن ..!
فالطاعة المطلقة ،
والولاء الخالص ، والتسليم الكامل ، هى الإيمان فى صميمه .. وإنه لا إيمان فى شىء
، أو بشىء ، إلا إذا سكن هذا الشيء فى ضمير الإنسان واستقر فى وجدانه ، وخالط
مشاعره ، وملأ عليه وجوده .. ومن هنا يكون الولاء والتسليم ، والطاعة ..
ومن هنا أيضا ،
كان من أول مبادئ الإسلام التي قامت عليها دعوته ، هو أنه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) .. إذ لا يتفق الولاء والتسليم والطاعة مع الإكراه ..
ونودّ أن تنظر
بنفسك فى وجه الآية الكريمة على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه ..
فلعلك ترى هذا
الذي رأيناه ، أو يفتح الله سبحانه وتعالى لك أبوابا من المعرفة تطّلع منها على ما
لا حصر له من الأسرار ..
(فَأَوْلى لَهُمْ ..
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ).
إننا نرى ـ والله
أعلم ـ أن الوقوف على فاصلة الآية ، هو وقوف محمود ، إن لم يكن لازما!!. فهات رأيك
، أو خذ بما رأينا!
قوله تعالى :
(فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ..
هو تعقيب شارح
لقوله تعالى : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) ..
أي أن الأولى
بالمؤمنين ، هو الطاعة المطلقة ، لما تدعو إليه آيات الله ، وهو القول المعروف ،
أي الحسن الذي يلقى المؤمنون به ما يتنزل عليه من تلك الآيات ـ فهذا عمل باللسان
.. يكشف به ليؤمن عن ظاهره .. فإذا جاء وقت الابتلاء والاختبار ، استكمل المؤمن
إيمانه ، بأن يجعل هذا الكلام الذي نطق به اللسان ، وكشف به عن ظاهر حسن له ـ أن
يجعل هذا الكلام عملا واقعا ، وأن يصدّق فعله قوله .. فإن قولا لا يصدّقه الفعل ،
هو باب من أبواب النفاق ..
فقوله تعالى : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي إذا جاء وقت الابتلاء ، وهو الجهاد ، الذي أمر الله به
المؤمنين ، أصبح هذا الأمر عزيمة لا يجوز للمؤمن أن يترخّص فيها ، أو ينكل عنها ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَلَوْ صَدَقُوا
اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي فإذا جاء أوان الجهاد نكشفت على محكّه حقيقة الإيمان ،
وظهر الصادقون والكاذبون ، فلو أن هؤلاء المؤمنين صدقوا الله فيما أعطوا من إقرار
بالإيمان به ، وجاهدوا فى سبيله ـ لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم ..
فالفاء فى قوله
تعالى : (فَلَوْ صَدَقُوا
اللهَ) هى للتفريع ، والتعقيب على كلام محذوف ، هو جواب «إذا» فى
قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ) ـ ، أي فإذا عزم
الأمر انكشفت أحوال المؤمنين وأقوالهم ، وظهر الصادق والكاذب .. فلو صدق هؤلاء
المتخلّفون ، أو الذين تحدّثهم أنفسهم بالتخلف ـ لو صدقوا الله وجاهدوا ، لكان
خيرا لهم ..
ويلاحظ فى نظم
الآية الكريمة ، أنها لم تأخذ الخط الطبيعي الذي تقوم عليه العلاقات بين الكلمات ،
والترابط بين أجزاء العبارات والجمل .. كما
رأينا ذلك فى
الفصل بين المبتدأ والخبر فى قوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) وكما رأيناه فى هذا التدافع بين أداتي الشرط : إذا ، ولو
..
وقد كشفنا عن بعض
السر فى هذا ، وما يحمل هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة من معان لا يمكن
أن يستقلّ بها نظم آخر ، على أي وجه كان من وجوه النظم ، غير هذا النظم القرآنى ..
ولكن الذي نريد أن
نشير إليه بتلك الملاحظة ، هو أن هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة ـ بصرف
النظر عن المعاني التي يحملها فى فى كيانه ـ هذا النظم يمثل فى صورته اللفظية ، من
تقطّع ، وتوقّف ، وتدافع ، ما تكون عليه أحوال المؤمنين الذين لم يدخل الإيمان فى
قلوبهم دخولا متمكمنا ـ من اضطراب ، وخلخلة ، وتردد ، وتدافع بين مختلف العواطف ،
حين يدعى هؤلاء المؤمنون إلى الجهاد ، وقد عزم الأمر ، وجدّ الجد! فجاء النظم على
صورة هذه المشاعر ، يفرقها ، ويجمعها ، كما تتفرق وتجمع فى هذا المقام! ..
فسبحان من هذا
كلامه .. سبحانه .. عدد كلماته.
قوله تعالى :
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) ..
هو بيان للحال
التي سينتهى إليها أمر هؤلاء المؤمنين ، الذين فى قلوبهم مرض ، وهو أنهم إذا لم
يستجيبوا لدعوة الله سبحانه وتعالى لهم ، ولم يسمعوا ويطيعوا ، ويجاهدوا فى سبيل
الله ـ فإن هذا سينتهى بهم إلى أخذ طريق
غير طريق المؤمنين
، ثم يمضى بهم هذا الطريق رويدا رويدا إلى الخروج عن الإيمان ، إلى ما كانوا عليه
من كفر ..
وفى إسناد فعل
الرجاء «عسى» إلى هذه الجماعة من المؤمنين ، إشارة إلى هذا الأمر الذي وقع عليه
الرجاء ، وهو الإفساد ، وتقطيع الأرحام ـ وأنهم إنما يرجونه هم لأنفسهم ، بتولّيهم
، وإعراضهم عن الله .. وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه ، وخان إنسانيته ، حتى لقد
أصبح ما يتمناه لنفسه ، ويرجوه لها ، هو هذا الشر الصّراح : الإفساد فى الأرض ،
وتقطيع الأرحام!.
وما ذا يكون من
شأن من لا يؤمن بالله ، ولا يرجو لله وقارا؟ .. أتراه يرى لإنسان حرمة ، أو يؤدى
لذى رحم حقّا؟ إنه إنسان ضال ، سفيه الرأى ، غليظ القلب ، متلبد الإحساس .. فهل
يكون منه غير الإفساد ، فى الأرض ، وقطع كل سبب طيب يصل بينه وبين الناس ، من قريب
، أو بعيد ..
واختصاص ذوى
الأرحام بالذكر هنا ـ هو إشارة إلى أن هذا الذي تولّى وأعرض عن الإيمان بالله ، لا
يرجى منه خير لإنسان ، ولو كان فيه خير يرجى ، لكان ذلك فى أهله ، ولما قطع صلة
الرحم بينه وبينهم ..
والمراد بالتولّى
هنا ـ والله أعلم ـ هو الإعراض عن الاستجابة لدعوة الله والرسول إلى الجهاد ..
قوله تعالى :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ..
هو حكم صادر على
هؤلاء الذين دعوا إلى الايمان ـ قولا وعملا ـ
فأعرضوا ، وتولّوا
.. ثم مضوا على غير طريق الإيمان ، فإذا هم فى الكافرين .. فهؤلاء قد لعنهم الله ،
فأصابهم بالصمم والعمى ، فلم يسمعوا كلمة خير ، ولم يروا طريق هدى ..
وانظر :
لقد كان هؤلاء
المؤمنون فى موقف خطاب من ربّ العزة جلّ وعلا فى قوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) ـ كانوا هنا فى
موقف الخطاب ، لأنهم كانوا فى جماعة المؤمنين ، وكانت الدعوة إليهم ليصححوا
إيمانهم ، وليأخذوا السبيل التي يأخذها المؤمنون الصادقون ..
أمّا هنا ، فى
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) فإنهم الآن بعد حكم صدر عليهم ـ وهو أنهم يولّون وجوههم
إلى طريق آخر غير طريق الإسلام ـ فقذف بهم بعيدا عن هذا الموطن الكريم الذي كانوا
فيه بين المؤمنين ، ثم أتبعوا بهذا الحكم الذي يأخذ طريقه معهم إلى حيث انتهى بهم
المطاف : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ..
قوله تعالى :
(أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).
هو سؤال يتردد فى
صدور من ينظرون إلى هؤلاء الذين كانوا على طريق الإيمان ، ثم لم يلبثوا أن انحرفوا
عنه ، وضلوا سواء السبيل .. ثم ألقى بهم بعيدا عن دائرة المؤمنين ..
فكل من كان بمشهد
منهم من المؤمنين ، يسأل هذا السؤال : ما بال هؤلاء الأشقياء ، قد ألقوا بأنفسهم
فى مواقع الهلاك ، وقد كانت آيات الله بين أيديهم؟ أمع آيات الله يكون عمى وضلال؟
وكيف وهى صبح مشرق ، ونور مبين؟ ..
أمران لا ثالث
لهما ، هما العلة التي جاء منها هذا البلاء الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء المناكيد ..
إما لأنهم لم يتدبروا القرآن ، ولم يحسنوا الإصغاء إليه ، والاتصال به ، والأخذ
عنه .. وإما لأنهم تدبروا وأصغوا ، وحاولوا أن يتصلوا بالقرآن ، ولكن كانت قلوبهم
مغلقة ، ومختوما عليها ، فلا ينفذ إليها شعاع من هدى أبدا ..
وسواء أكان هذا أو
ذاك ، فإن الداء منهم ، وفيهم .. وليس من آيات الله ، ولا فى آيات الله .. فما فى
آيات الله هدى ، وحق ونور .. وهذا مثل قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا
الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨ : المؤمنون)
..
ولا يصحّ أن يكون
الاستفهام فى قوله تعالى : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) للتحضيض ، يمعنى هلّا ، لأن التحضيض إنما يكون لمن يرجى
منه إتيان ما يحضّ عليه ، وهؤلاء قد سبق الحكم عليهم بأن الله قد لعنهم فأصمهم
وأعمى أبصارهم .. فكيف يدعون بعد هذا إلى تدبر القرآن؟
وفى قوله تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) ـ جاء النظم على
خلاف الظاهر ، وهو أن يجىء هكذا مثلا : أم على قلوبهم أقفال .. وبذلك يتحقق إضافة
هذه القلوب إلى أهلها ، ونسبتها إلى أصحابها ، هؤلاء الذين لم يتدبروا القرآن ..
فما سرّ هذا النظم القرآنى؟
نقول ـ والله أعلم
ـ : إن من بعض أسرار هذا النظم :
أولا : فصل هذه
القلوب عن أصحابها ، وذلك يحقق للقلوب وجودا ذاتيا مستقبلا ، فتقوم مقام أصحابها ،
وهذا يعنى أن القلب هو الإنسان مختصرا ، وأنه السلطان القائم على كيان الإنسان ،
فإذا أفسد القلب فسد الإنسان ،
وإذا صلح القلب ،
صلح الإنسان .. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ، فى
قوله : «ألا وإن فى الجسد مضغة وإذا صالحات صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد
كله ، ألا وهى القلب»
وثانيا : تنكير
هذه القلوب ، وفى هذا التنكير ، إشارة إلى أنها قلوب فاسدة ، لا يقام لها وزن بين
القلوب السليمة ، فهى ـ والحال كذلك ـ قلوب ـ مجرد قلوب ـ فى صورتها اللحمية ، أما
فى حقيقتها ، فهى هواء ، وهباء!
وثالثا : فى إضافة
الأقفال إلى القلوب (أَقْفالُها) ـ إشارة أخرى إلى
أن لهذه القلوب أقفالا خاصة بها ، مقدرة بقدرها .. فلكل قلب قفله الذي يلائمه ..
قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ..
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ)
سوّل لهم : أي زين
لهم الضلال ، وأصله من السّؤل ، وهو ما يسأل الإنسان غيره لتحقيقه ، (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) .. وسوّل لهم الشيطان : أجاب سؤلهم بالخداع والتضليل ..
وأملى لهم : أي مدّلهم فى حبال الأمل والرجاء فيما يمنّيهم به ..
والآية ترجم أولئك
الذين كانوا قد دخلوا فى الإيمان ، ثم لم يحتملوا تبعاته ، فعادوا إلى الكفر.
ترجمهم الآية بهذه الرجوم والصواعق ، التي تصبّ عليهم لعنة الله ، وتجمع بينهم
وبين الشيطان على مودة وإخاء!!
وفى ارتدادهم على
الأدبار إشارة إلى أنهم كانوا على الإسلام ، وأنهم إذ يولّون وجوههم إلى المسلمين
، يرجعون إلى الوراء شيئا فشيئا ، على أدبارهم ، على
حين أنهم كانوا
يواجهون المسلمين .. ثم ما زالوا كذلك حتى بعدت الشّقّة بينهم وبين المسلمين ،
وانقطعت بينهم الأسباب .. فهم ينظرون إلى المسلمين ، ويحسبون أنفسهم عليهم ،
ولكنهم ـ فى الوقت نفسه ـ يأخذون طريقا بعيدا عنهم ، يسيرون فيه فى وضع مقلوب ـ على
أعقابهم ، فلا يدرون إلى أين تتجه بهم خطواتهم العمياء!!
قوله تعالى :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ
وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ)
الذين كرهوا ما
نزّل الله : هم اليهود ، يقول الله سبحانه : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١٠٥ : البقرة) ..
والذين قالوا ، هم
هؤلاء الذين نحولوا من الإيمان إلى النفاق ، مرتدّين على أدبارهم .. والذي قالوه
هو قولهم : (سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ) .. أي أنه التقى هؤلاء المنافقون مع اليهود لقاء الأولياء
، تقدّموا إلى اليهود يعرضون عليهم أن يكونوا من ورائهم فى حربهم مع المسلمين ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) (١١ : الحشر) هكذا
كان موقف المنافقين من النبي والمسلمين بعد غزوة الخندق (الأحزاب) وكان على رأس
المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول ، الذي خذّل الناس عن القتال يوم أحد .. فلما
أن ردّ الله الأحزاب على أعقابهم خاسرين ، التفت رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى اليهود الذين كانوا قد حزبوا الأحزاب على رسول الله ،
وتحالفوا مع المشركين على أن يكونوا
لهم ظهرا إذا
التحم القتال. إن اليهود إذا ظلوا فى المدينة على ما هم عليه من كفر وحسد ، أفسدوا
على المسلمين أمرهم ، وأوقعوا الفتنة بينهم إن هم عجزوا عن جلب الفتن إليهم من
الخارج .. فكان أن ندب النبي المسلمين إلى حربهم ، وألا يلقوا سلاحهم الذي كانوا
يواجهون به الأحزاب .. فقال صلىاللهعليهوسلم : «من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا فى بنى قريظة»
وهناك حاصرهم النبي والمسلمون ، ثم استسلموا لحكم النبي فيهم ..
وفى أثناء الحصار
الذي ضربه النبي والمسلمون على بنى قريظة ، كان كثير من المنافقين يبعث إلى اليهود
أن يثبتوا فى حصونهم ، وألا يستسلموا ، وألّا يخرجوا من ديارهم .. وأن النبي لو
أخرجهم لخرج المنافقون معهم ، احتجاجا على إخراج اليهود من المدينة ، ولن يسمعوا
لأحد قولا يفرق به بين اليهود وبينهم ، وأن النبي والمسلمين لو قاتلوا اليهود ،
لكان هؤلاء المنافقون مقاتلين معهم .. وهكذا منّى المشركون إخوانهم الذين كفروا من
أهل الكتاب ـ منوهم هذه الأمانى الكاذبة ، التي فضحها الله سبحانه وفضح أهلها ،
فقال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ
قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ
ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١١ ـ ١٢ : الحشر)
قوله تعالى :
(وَاللهُ يَعْلَمُ
إِسْرارَهُمْ)
أي ما أسرّ به
المنافقون واليهود ، بعضهم إلى بعض ، وسيجزيهم عليه جزاء وفاقا ..
قوله تعالى :
(فَكَيْفَ إِذا
تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ).
الفاء هنا للتفريع
على كلام سابق مقدّر ، وتقديره : لقد كان جزاء هؤلاء
المنافقين السوء
والخزي فى الدنيا ، وأنهم إذا كانوا قد احتملوا السوء والخزي فى حياتهم ، فكيف
يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة ، وأخذوهم صفعا على وجوههم ، ور كلا على أدبارهم؟ أيحتملون
هذا البلاء ، الذي يدفع بهم إلى جهنم ، ويلقى بهم فى سعيرها؟.
فالاستفهام هنا
لتهويل العذاب الأخروىّ الواقع بهؤلاء المنافقين ، وأنه عذاب لا يحتمل ، وإنه لمن
العجب أن يرى هؤلاء المنافقون فى النار ، وفيهم أثر للحياة. وهذا مثل قوله تعالى :
(فَما أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ).
وقوله تعالى : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) جملة حالية ، من الملائكة ، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم
وأدبارهم .. أي يضرنهم من أمام ، إذا أقبلوا ، ويضربونهم من خلف ، إذا أدبروا ..
قوله تعالى :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).
الإشارة هنا إلى
هذا الذي يلقاه المنافقون ، من السوء والخزي فى الدنيا ، والعذاب والنكال فى
الآخرة ، وأن ذلك إنما هو بسبب زيغهم وانحرافهم عن الطريق المستقيم ، واتباعهم ما
أسخط الله ، وأغضبه ، وأوجب لعنته ، بما أتوا من منكر القول ، والعمل.
وقوله تعالى : (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم عملا ، حتى
ولو كان مما يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين ، لأنهم غير مؤمنين بالله ،
والإيمان بالله شرط أول فى قبول العمل!
قوله تعالى :
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ).
أي أوقع فى ظن
هؤلاء المنافقين الذين فى قلوبهم مرض ، أن الله تعالى سيستر عليهم نفاقهم ، ولا
يكشف هذا الخبث الذي دسّوه فى قلوبهم ، والذي تغلى مراجله فى صدورهم ، ضغنا على
النبي والمؤمنين ، وشنآنا لهم ، وكيدا ومكرا بهم؟ ـ أحسب هؤلاء المنافقون أن يظل
نفاقهم مستورا ، دون أن يفضحه الله ويفضحهم به على أعين الناس؟ إبهم لواهمون ،
مخدوعون ، بما يصور لهم هذا الوهم ..
وقوله تعالى : (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) ـ أي لن يبدى هذه
الأضغان ، ويكشفها ، فتظهر لأعين الناس ، بعد أن كانت مخبوءة فى الصدور ..
قوله تعالى :
(وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ).
هو معطوف على
محذوف يقدر جوابا على الاستفهام الواقع فى قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) .. أي أن ذلك ظنّ باطل منهم ، وأن الله سبحانه سيخرج
أضغانهم ، ويفضحهم بها على الملأ ، وأنه سبحانه لو شاء أن يسمهم بسمات مادية ،
بطبعها على وجوههم ، فلا يراهم أحد إلا عرف أنهم منافقون ـ لو شاء الله أن يفعل
ذلك بهم لفعله ، ولرآهم النبي رأى العين ، ولرآهم المسلمون معه .. ولكن الله
سبحانه لم نشأ حكمته أن يشاء ذلك ، إذ لو أنه حدث لكان فتنة للناس .. وكيف لا يفتن
الناس إذا كان ما يسرونه فى أنفسهم ، وما يودعونه ضمائرهم ، يظهر مجسدا عليهم؟ ثم
كيف لا يفتنون إذا فعل أحدهم فعلا قبيحا لم يطلع عليه أحد ، ثم إذا هذا الفعل قد
لبس صاحبه ، وأخذ ينادى فى الناس بهذا المنكر الذي فعله صاحبه؟ كيف يكون حال الناس
لو أن هذا كان حادثا فيهم؟ ترى أتحتمل الحياة الإنسانية ـ فى
طبيعتها البشرية ـ
إفرازات العواطف ، والنوازع ، والمشاعر ، واستقبال كل ما هو مختزن فى الضمائر ،
ومستودع الصدور؟ إنه لو كشف للناس عما طوبت عليه صدورهم ، لما جمعتهم جامعة أبدا ،
ولما التقى أحدهم بالآخر إلا على عداوة ، وعدوان .. وفى هذا يقول أبو العتاهية
الشاعر :
أحسن الله بنا
|
|
أن الخطايا لا
تفوح
|
أي أنه لو كان
للذنوب التي نقترفها آثارا مادية تعلق بصاحبها ، وتكشف للناس أمره ، لكان ذلك ،
ابتلاء عظيما .. ولكن الله أحسن إلينا ، إذ عافانا من هذا البلاء.
فقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) ـ هو خطاب للنبى ،
وتهديد للمنافقين الذين ظنوا أن الله سبحانه لن يفضح نفاقهم ، وينزع عنهم هذا
الثوب الزائف الذي لبسوه ، وظهروا به فى سمت المؤمنين .. فالله سبحانه وتعالى قادر
على أن يخرج نفاق المنافقين من طوايا أنفسهم ، وينسج منه وجوها يلبسها هؤلاء
المنافقون بدلا من تلك الوجوه الآدمية التي لهم .. فإذا أطلّ أحد المنافقين بوجهه
هذا الذي نسجه له الله سبحانه ، من نفاقه ـ قال الناس جميعا : هذا منافق .. ولكن
الله سبحانه لم يفعل هذا بالمنافقين ، ليكونوا هكذا ، فتنة للناس وتقريرا لهم
بأنفسهم ..
والسيما : السّمة
، والعلامة ..
وقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ) .. هو معطوف على محذوف ، تقديره : وإذ لم يشأ الله تعالى
أن يريك ـ أيها النبي ـ المنافقين لتعرفهم بسيماهم ، فإنه مطلوب منك أيها النبي أن
تتعرف إلى المنافقين بنظرك الشخصي ، وإنك
لتتعرف عليهم ، من
حديثهم ، وما يجرى على ألسنتهم من زور وبهتان .. فإن كلمة الزور تخرج باهتة ،
عليها مسحة من الخزي والتخاذل ..
فوقوع الفعل «تعرف»
جوابا لقسم ، الأمر الذي أوجب توكيده ـ إشارة إلى أن هذا الفعل واقع لا محالة ،
وخاصة إذا كان القسم الواقع عليه ، من الله سبحانه .. ولهذا فإن هذه الجملة جملة
خبرية ، تحدّث عن أمر سيقع مستقبلا على سبيل القطع والتوكيد .. فهذا وعد موثق مؤكد
من الله تعالى للنبى الكريم ، بأنه سيعرف المنافقين من لحن القول .. والتوثيق
والتوكيد لهذا الخبر ، لا لإزالة شك من النبي فى تحقيق ما يخبر به من ربه ، فإن
الرسول الكريم على ثقة وإيمان مطقين بالله ، وبقدرة الله .. ولكن توكيد هذا الخبر
وتوثيقه ، يحمل أكثر من دلالة :
فأولا : إلفات
النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلفاتا قويا إلى المنافقين. ومراقبتهم مراقبة
دائمة ، وخاصة فيما يجرى على ألسنتهم من كلام ..
وثانيا : أنه إذا
اشتبه على النبي أمر فى أحد مرضى القلوب من المسلمين ، فلا يدعه معلقا فى حبال هذه
الشبهة ، بل ينبغى ، أن يكشف عنه كشفا دقيقا ، بهذا المشير الذي يعرف به أهل
النفاق ، مما يجرى على ألسنتهم من مقولات .. فإذا كشف هذا الاختبار عن هذا الإنسان
أنه منافق ، فهو من المنافقين ، وإلا كان من المؤمنين ، فإنه إذا برىء المؤمن من
النفاق فقد سلم له دينه ، على أي حال كان عليه ..
ولحن القول ، هو
ما يندسّ فى الكلام من معان خفية ، ذات دلالات وإشارات ، يعرفها المنافقون فيما
بينهم ، ويتعاملون بها ، وسمى هذا الضرب من الكلام لحنا ، لأنه يخرج فى صورة خادعة
من النظم ، تتماوج فيها المعاني ، وتتراقص الكلمات ، فتتناغم العبارات ، فتخرج
أشبه باللحن الموسيقى الذي
يسمع منطوقه ، ولا
يكاد يعرف مفهومه إلا لأهل العلم فى هذا الباب ..
وقد كان للمنافقين
من لحن القول هذا ، نماذج ، كشف القرآن الكريم عن بعض منها ، لتكون للنبى
وللمؤمنين معلما من معالم الكشف عن نفاق المنافقين ، فى لحون أقوالهم .. فيقول
سبحانه ، عن مقولة من أقوالهم : (وَيَقُولُونَ
سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، وَراعِنا .. لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ .. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ
لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) (٤٦ : النساء)
فهم يقولون : (سَمِعْنا) .. يقولونها جهرة ، ثم يتبعونها بقولهم سرا (وَعَصَيْنا)! أي يعطون النبي تسليما بالسمع ، لقد سمعوا ما قال ، ويبدو
من هذا أنهم مؤمنون ، ولكن يضمرون فى أنفسهم ، ويحركون على ألسنتهم العصيان لهذا
الذي سمعوه .. وهم يقولون للنبى : «اسمع» أي اسمع منا ما نقول لك ، .. يقولون ذلك
جهرا ، ثم يتبعون ذلك بدعاء خفى على النبي : «غير مسمع» أي أصمّ ، لا تسمع .. وهو
دعاءه أي اسمع .. لا سمعت .. لعنهم الله بما قالوا ..
وهم يقولون فيما
يقولون من خطابهم للنبى : (راعِنا) أي ارعنا ، وانظر إلينا .. ويلوون بها ألسنتهم ، فتخرج
منطوقة هكذا «راعنا» بالتنوين المدغوم .. وهى من الرعونة ، والطيش ، يدعون بها على
رسول الله .. أي ذا رعونة ، مثل لابن ، وتمر ، أي صاحب لبن وتمر ..
وقد رسم الله
سبحانه وتعالى صورة سليمة مستقيمة لهذا الكلام السقيم المعوج ، فقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ ..)
ومن هذه الأساليب
وأمثالها مما ينطق به المنافقون ـ عرف النبىّ المنافقين ، وعزلهم عن المجتمع
الإسلامى .. وكان كثير من المؤمنين ، يعرفون وجوه المنافقين
وجها وجها ، ومن
هؤلاء الصحابىّ حذيفة بن اليمان ، رضى الله عنه .. وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله
عنه ـ بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ـ يسأل حذيفة أن
ينظر إليه ، ليرى إن كان فيه نفاق أم لا .. فيقول : يا حذيفة .. أنت صاحب سرّ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وكنت تعرف المنافقين ، وتعهدهم على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فانظر ما فىّ من النفاق ، فعرفنى به ، فيقول : يا أمير
المؤمنين : لا أعلم فيك نفاقا .. فيقول عمر : انظر ودقق النظر ، فيبكى حذيفة ويبكى
عمر ، رضى الله عنهما ..
وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) أي أنه سبحانه ، لا يؤاخذ على ما تكنّه الضمائر ، وما
تخفيه الصدور ، ولكنه يؤاخذ على ما يقع من أعمال ، إذ هى التي يكون لها آثارها فى
الحياة ، وفى الناس .. وهذا هو بعض السرّ ، فى جعل فاصلة الآية (أَعْمالَكُمْ) على حين جاء فاصلة الآية (٢٦) : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) .. لأن هنا مقاما ، وهناك مقاما .. فهنا حساب للمنافقين
على جرائمهم التي تقع من أعمالهم ، أو أقوالهم ، التي تجرى مجرى الأعمال .. وهناك
محاسبة للمنافقين على أقوال جرت فى الخفاء بينهم وبين اليهود .. فهى سرّ بالنسبة
إلى المؤمنين ، لأنه جرى بعيدا عنهم ، وقد كشف الله سبحانه هذا السرّ ، وفضح أهله
، .. فقال سبحانه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ
وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) ..
____________________________________
الآيات (٣٨ ـ ٣١)
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا
الرَّسُولَ
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ
وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ
يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)
ها
أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ
يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ
وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ
ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)
(٣٨)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) ..
الواو : واو القسم
.. والابتلاء : الاختبار ..
ومناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى الآيات السابقة أشارت إلى أن هناك فى المجتمع الإسلامى منافقين ،
وأصحاب قلوب مرضى ، وأن الله سبحانه لو شاء أن يكشف عنهم ، ويفضح مستورهم لفعل ،
إذ لا شىء يصادم إرادته ، أو يعطّل مشيئه ـ ولو شاء سبحانه ـ لأهلك هؤلاء
المنافقين ، أو لهداهم إلى الإيمان وقتل هذه الآفات الخبيثة التي ترعى كل نبتة خير
فيهم .. ولكنه سبحانه لم يقدّر هذا
ولم يشأه ، بل كان
مما قضت به حكمته أن يجعل إلى الناس أنفسهم مشيئة عاملة ، وإرادة نافذة ، وأن يكون
لهم بتلك الإرادة ، وهذه المشيئة رسالة يؤدونها فى هذه الحياة ، وهى إصلاح الفاسد
، وإقامة المعوج ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان فى الناس الفاسدون ، والمعوجون ..
وهنا يكون الابتلاء والامتحان ، وحين يتصادم المصلحون والمفسدون ، ويتلاقى
المستقيمون والمعوجّون ..
فقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ـ هو خبر مؤكد من
الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين بأنهم لم يتركوا هكذا ، يتحلون بحلية الإيمان ،
وينزلون منازل المؤمنين دون أن يوضعوا موضع الامتحان والابتلاء .. فهذا الامتحان
هو الذي يكشف عن حقيقة الإيمان فى قلوب المؤمنين ، وهل هو إيمان صادق ، انشرح به
الصدر ، واطمأن به القلب ، أم هو مجرد صورة من الشارات والمراسم ..؟ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢ : العنكبوت)
وقوله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ..
حتى غاية لهذا
الامتحان أو الابتلاء .. بمعنى أنكم أيها المؤمنون واقعون ـ لا محالة ـ فى مواقع
ابتلاء ، وأنكم لن تتركوا حتى تدخلوا فى هذا الابتلاء ، وتتجرعوا كؤوسه المرّة ،
فإن صمدتم فى هذا الابتلاء ، وصبرتم على ما تلقون من بأساء وضراء ، فقد أثبتم أنكم
مؤمنون .. وهذا حسبكم من إيمانكم.
وقدم الجهاد على
الصبر ، لأنه أعم منه .. فقد يكون فى المجاهدين من لا صبر له على الجهاد ، فلا
يثبت للأعداء إذا رأى الخطر محدقا به ، ولا يقدم على القتال والهجوم إذا رأى الموت
دانيا منه .. إنه مجاهد فى حواشى المجاهدين ،
وفى مؤخرتهم ..
ومع هذا فلا يحرم أن يدخل تحت هذه الكلمة ، التي تخلع على صاحبها خلعا سنية ، من
الرضا والرضوان .. وفى هذا دليل على شرف الجهاد ، وعلى علوّ منزلة المجاهدين ، وأن
أقلهم فى الجهاد منزلة ، وأبخسهم فى المجاهدين حظا ـ هو من المجاهدين ، الذين لا
يحرمون شرف الجند ، وثواب المجاهدين ..
أما الجهاد الذي
يكون معه الصبر ، فهو الجهاد الكامل ، الذي تم عقده وتوثيقه ، بين الله سبحانه ،
وبين المجاهدين ، وفى هذا العقد يقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ .. وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١ : التوبة).
وفى قوله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ـ إشارة إلى أن
الأفعال هى التي عليها المعوّل فى الكشف عن إيمان المؤمنين وصبر الصابرين ..
فابتلاء الله سبحانه لأخبار المؤمنين ، إنما هو ابتلاء لهم ، وتعرف على أحوالهم ،
من أخبارهم ، التي هى حكاية لأعمالهم ، وتصوير لها .. وهذا يشير أيضا إلى أن
للأعمال آثارها فى الحياة ، وفى الناس ، وأنها تقع تحت حكم الناس عليها والإخبار
عنها بما يرضيهم أو يسخطهم منها .. وهذا يشير مرة أخرى إلى أن المجتمع الإنسانى له
وزنه وله قدره ، فى الحكم على أعمال الناس ، وأن حكمهم على عمل بأنه حسن غير حكمهم
عليه بأنه سيء .. فلهذا وزنه ، ولذلك وزنه عندهم ، وعند الله كذلك ..
قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ).
هو حديث إلى أولئك
المنافقين ، مرة أخرى ، بعد أن تهددتهم الآيات السابقة بفضح نفاقهم ..
فهذا وعيد
للمنافقين ، الذين يمسكون بما معهم من نفاق .. إنهم كفروا بعد أن آمنوا ، وصدّوا
أنفسهم عن سبيل الله بعد أن وردوا عليه ، وشاقّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى
.. هكذا المنافق ، لا تستقيم له على سبيل الإيمان طريق ، ولا تثبت له فيه قدم!
وقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) هو خبر عن هؤلاء المنافقين ، الذين كفروا وصدوا عن سبيل
الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، أي أنهم بفعلهم هذا ، وخروجهم من
الإيمان إلى الكفر والنفاق ـ لن يضر الله شيئا من الضر ، كما أن إيمان المؤمنين لن
ينفعه شيئا من النفع ..
وقوله تعالى : (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي يفسد تدبيرهم ، ولا يقبل لهم أي عمل ، ولو كان من
الأعمال الحسنة فى ذاتها ..
قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) ..
هو دعوة كريمة ،
والتفاتة رحيمة ، من رب كريم رحيم ، إلى عباده المؤمنين ، وقد طال وقوفهم مع حديث
الله سبحانه وتعالى إلى المنافقين ، فشاقهم أن أن يسمعوا حديثا من الله سبحانه
عنهم .. فناداهم الحق جل وعلا ، واستدناهم منه ، ثم أسمعهم ما فيه رشدهم ، وصلاحهم
، وفوزهم .. فى الدنيا والآخرة .. فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ..) الآية»
(أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ..
(وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ ..)
فطاعة الله وطاعة
الرسول ، شرط أول من شروط المؤمن ، فإنه لا إيمان بغير طاعة ، وتسليم ، وانقياد ..
وإن عصيان الله
وعصيان رسوله ، لا يبقى على إيمان ، إذ لا يجتمع إيمان وعصيان ..
وإذا أخلى الإيمان
مكانه من القلوب ، لم يبق غير الكفر ، وغير بطلان العمل ، لمن تبدل الكفر بالإيمان
..
فالآية دعوة
للمؤمنين أن يحفظوا إيمانهم ، ويوثقوه ، بالطاعة لله ورسوله .. وفى الآية تهديد
للمؤمنين الذي لا يلتفتون إلى أنفسهم ولا يحرسونها من النفاق ، أن يدخل عليهم
فيطرد الإيمان من قلوبهم ، ثم لا يكون لهم بعد هذا عمل إلا بطل وفسد! ..
وقوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).
هو دعوة إلى هؤلاء
المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم ـ أن يتوبوا إلى الله من قريب ، وأن يؤمنوا
بالله ، حتى تنالهم مغفرته .. فإن هم أبوا إلا أن يمضوا على كفرهم إلى أن يموتوا ،
فإنهم يموتون على الكفر ، ومن مات منهم على الكفر فلن يغفر الله له ..
قوله تعالى :
(فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ).
فلا تهنوا ، أي لا
تضعفوا ، وتتخاذلوا .. وهو من الوهن ، أي الضعف ..
ولن يتركم أعمالكم
: لا يبطلها كما أبطل أعمال المنافقين والكافرين .. وأصله من الوتر ، وهو الفرد ..
ومعنى هذا أنه لا يقطع أعمالكم عنكم ، بل هى فى صحبتكم ، تجدونها حاضرة يوم
الجزاء.
والآية تعود إلى
أولئك المؤمنين الذي أسمعهم الله سبحانه وتعالى. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) .. ثم تركهم فى هذا الموقف. حتى يتدبروا هذا القول ويأخذ
كل منهم موقفه منه .. إنهم مدعوون إلى أن يسمعوا ويطيعوا .. أما ما يدعون إلى أن
يسمعوه ويطيعوه ، فهو آت ، ولكن بعد أن يأخذ هذا القول مكانه من العقول والقلوب ..
وفى فترة الانتظار
هذه ، يسمع المؤمنون هذا الوعيد الذي يتهدد الله سبحانه وتعالى به أهل الكفر
والنفاق .. (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ) .. إنها صورة كريهة للإنسان ، ونهاية محزنة ، تلك التي
ينتهى إليها من يكفر بالله ، ويموت على الكفر .. ومن هذا الوعيد يتدسس إلى مشاعر
المؤمنين التي دخلت عليهم من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) ـ يتدسس إلى هذه
المشاعر ما يدفع بها بعيدا عن مزالق الكفر .. ولن يكون ذلك إلا بالسمع والطاعة لله
ورسوله ..
وهنا يلقاهم قول
الله تعالى : (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ).
وكأن هذا الخطاب
وارد على سؤال سأله الله سبحانه وتعالى المؤمنين ، بعد
أن أمرهم بطاعته
وطاعة رسوله ، وبعد أن تركهم وقتا يتدبرون فيه ما أمرهم به .. وتقدير السؤال هو :
هل سمعتم ما أمرتم
به؟ وهل أنتم على السمع والطاعة؟ وهل اختبرتم ما فى قلوبكم من إيمان؟ ..
إذن : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمالَكُمْ ..)
فهذا أمر من الله
إليكم ، وهو ألا تهنوا ، أو تتخاذلوا فى موقفكم من العدو ، وألا تطلبوا السلم ..
فإن طلب السلم لا يحمله أعداؤكم إلّا أنه ضعف منكم ؛ وشعور بالهزيمة ، وهذا من
شأنه أن يغرى العدو بكم ، ويشدد وطأته عليكم ، ولا يجيبكم إلى السلم الذي تدعون
إليه ، لأنه يراكم غنيمة ليده ..
هذا ويلاحظ أن ما
طلبه الله سبحانه وتعالى من المؤمنين فى قوله سبحانه : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ) ـ لم يلقهم سبحانه
به لقاء مباشرا ، بل جاء هذا الطلب إلى المؤمنين ، بعد وقفة طويلة معهم على مجتمع
الكافرين والمنافقين ، حيث يرمو من الله بنذر من رجوم البلاء والهلاك ، ثم بعد
دعوتهم إلى أن يجعلوا إيمانهم بالله قائما على الطاعة والولاء لله ورسوله ، وكان
هذا كله تمهيدا لأن يتلقى المسلمون قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) ، وأن يستجيبوا له .. فلا يقع منهم فى ميدان القتال فتور
أو تخاذل ، وبهذا يحاربون ، وقلوبهم على إيمان بالنصر الذي وعد الله المؤمنين ،
فلا يمدون أيديهم مستسلمين للعدو أبدا.
وهذا الأسلوب الذي
جاء عليه الطلب فى قوله : (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) ـ يدل على مزيد من
العناية بهذا الطلب ، وإلفات المخاطبين به إلى ما لهذا المطلوب من قدر وخطر ..
والحق أن قوله
تعالى : (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) هو دعوة إلى ما لا يقوم الإيمان إلّا به ، ولا تقوم
للمؤمنين دولة إلا عليه ، وهو الجهاد فى سبيل الله ومواجهة أعداء الله وأعداء
المؤمنين ـ مواجهتهم بالقوة التي تردّ بأسهم ، وتبطل كيدهم ، حتى يسلم المؤمنون
منهم ، ومن أن يكونوا تحت يدهم ، فيفتنوهم فى دينهم ..
وإنه ليس هناك عدو
يستطيع أن يقف فى وجه المسلمين المجاهدين فى سبيل الله ، إذا هم أعطوا الجهاد حقه
.. مهما كان قليلا عددهم وعدتهم ، بالنسبة إلى عدد عدوهم وعدّته ..
وحق الجهاد ، هو
أن يقوم على نية القتال والقتل فى سبيل الله .. ومن كان من المجاهدين على تلك
النية ، فإنه لا ينظر إلى كثرة العدو ، ولا يقيم موازنة بين جيش المسلمين وجيش
العدوّ ، على أساس العدد والعتاد ، فإن ذلك إن وقع فى شعور المجاهد ، حارب بنفس
متخاذلة ، وبقلب يخفق خفقات الهزيمة .. فذلك كله يجب ألا يكون فى حساب المجاهد شىء
منه .. فهو يجاهد ، ويقاتل فى سبيل الله ، ولن تبرأ ذمته من أداء هذه الأمانة ـ أمانة
الجهاد ـ إلا إذا رجع من جهاده بإحدى الحسنيين ، إما النصر على العدوّ ، والفوز
بالغنائم ، وإما الموت والفوز بالشهادة .. فالمؤمنون بهذه المشاعر هم الأعلون دائما
..
إن المجاهد ـ حقّ
المجاهد ـ هو الذي يقاتل العدوّ بكل ما لديه من قوة ، وأن يكون وجهه للعدو ،
ولأسلحة العدو ، يضرب ويضرب ، وينفذ ضرباته فى العدو ، ويتقى ضربات العدو له ، غير
مبال إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه ..!
[الجهاد .. والحرب النفسية]
والحرب النفسية
أداة من أدوات الحرب ، وسلاح ماض من أسلحة القتال .. وكم تركت هذه الأداة من آثار
سجلها التاريخ لها ، فهزمت الأبطال ، ومزقت الجيوش ، ومكنت الفئة القليلة من أن
تغلب الفئة الكثيرة ..
وهل كان ميزان
المؤمنين ثقيلا فى ميدان القتال ، حتى ليعد الواحد منهم بعشرة من عدوهم ـ هل كان
هذا الميزان ثقيلا إلّا لما امتلأت به مشاعر المؤمنين من إيمان بالله ، وثقة فى
ثوابه ، وتصديق بوعده الذي وعد المجاهدين؟ وهل استخف المؤمنون بالموت ، إلا لما
امتلأت به قلوبهم من إيمان بالحياة الآخرة ، وأن حياتهم الدنيا هذه ، ليست إلا
مرحلة على طريق الحياة الأبدية الخالدة؟.
النفس إذن ، وما
تحمل من مشاعر ، هى التي تحدد موقف المحارب فى جبهة القتال ، وهى التي تزين له
الموت فى الميدان ، أو تغريه بالنجاة والفرار ..
فحبّ الجبان
النفس أورده التقى
|
|
وحبّ الشجاع
النفس أورده الحربا!!
|
فكلا الجبان
والشجاع محبّ لنفسه ، ولكن شتان بين حبّ وحب .. فالجبان يحب نفسه لا بسة جسده ،
ولو كانت مهينة ذليلة ، ترعى المهانة ، وتسام الخسف! والشجاع يجب نفسه عزيزة كريمة
، فإنه إن رأى أنها لن تسكن إليه إلا على مركب الذل والهوان ، ضنّ بها على أن تلقى
الإهانة والإذلال فى هذا المقام ، مقام الجسد ، فأوردها مورد القتل ، لتخلص من هذا
البلاء ، وتأخذ طريقها إلى العالم الآخر ..
__________________
وليست الحرب
النفسية سلاحا يتحصن به المحاربون ، ضد عوامل الوهن والضعف ، التي تدخل عليهم فى
ميدان القتال ، وإنما هى سلاح أيضا يستخدمه المحاربون فى التدسس إلى عدوّهم ،
وإشاعة الرعب فى نفوسهم ، وإشعال نار الفتن بينهم .. وذلك مجال فسيح للعمل
والتدبير ، يحتاج إلى العقل الذكي ، والبصيرة النافذة ، والنظر المتفحص ، وإلا
ارتد هذا السلاح إلى اليد التي تضرب به .. ذلك أن المعركة هنا معركة هنا معركة
داخل النفس البشرية ، التي لا ساحل لها ، ولا نهاية لأعماقها ، والتي هى دائما فى
معرض التقلب والتحول ، وفى معاناة المدّ والجزر .. فمن جاءها على حال غير مواتية
لها ، غير جارية مع الريح التي تجرى فيها ، لم يبلغ منها شيئا ، بل ربما انقلبت
حربا عليه.
وقد اهتدى الإنسان
بطبيعته ، إلى أن تكون النفس ميدانا من ميادين الحرب التي يشتبك فيها مع غيره من
بنى جنسه ، وأن يتخذ منها درعا واقية له .. حيث يدخل المعركة ، وقد صفىّ حسابه
بينه وبين نفسه ، وأجلى عنها كل نوازع الخوف من الموت ، أو الإشفاق على ما يخلّف
وراءه من ولد ، وأهل ، وصديق .. يقول قطرىّ بن الفجاءة : وقد راودته نفسه على أن
يطلب السلامة ، ويدع مواطن الحرب ، وما يتعرض له المحاربون من قتل .. يقول :
أقول لها وقد
طارت شعاعا
|
|
من الأبطال ،
ويحك ، لن تراعى
|
فإنك لو سألت
بقاء يوم
|
|
على الأجل الذي
لك لم تطاع
|
فصبرا فى مجال
الموت صبرا
|
|
فما نيل الخلود
بمستطاع
|
وفى الوقت الذي
يتخذ فيه المحارب ، من الحرب النفسية درعا حصينة ، يتحصن بها ، من عوارض الخوف
والخور ، التي تعرض له ـ فى الوقت الذي يفعل فيه هذا ـ يعمد إلى الهجوم على نفس
عدوّه ، فيريه من بأسه وقوته قبل أن يلقاه ، ما ينخلع به قلبه ، وما تطير منه نفسه
شعاعا ..
سئل عنترة بن شداد
ـ الفارس العربي الجاهلى المعروف ـ سئل عن هذا الرعب الذي يملأ قلوب الأبطال منه ،
وكيف يبلغ رعبهم منه إلى هذا الحدّ الذي يبطل عمل الأبطال ، ويشل حركتهم؟ فقال
عنترة : «أبدأ القتال بأن أعمد إلى أي فارس من عامة الفرسان ، فأضربه ضربة ينخلع
لها قلب الشجاع»!.
ولهذا كان من
سياسة الحرب أن تكون الضربة الأولى ضربة يرمى فيها كلّ من المتحاربين بثقله كله ،
حتى تقع الضربة موقعا قائما وراء تقدير العدو ، الذي ما كان يحسب حسابا لها من هذا
الوجه .. وهنا تكثر دواعى البلبلة والاضطراب ، ثم التفكك والانحلال ، ثم الهزيمة
والاستسلام ، إذا لم يكن الضارب قد تلقى ضربة كهذه الضربة .. وعندئذ تتعادل
الكفتان ، ثم يكون الغلب لمن أمسك بالثقة والطمأنينة فى قلبه ، واحتمل فى صبر وجلد
نار الحرب ، وأهوالها .. إنها الحرب ، وإنها ابتلاء في الأموال والأنفس والثمرات!
إنها قتال وقتل ..!
يروى أن سائلا سأل
عنترة : كيف كان منك أنك لم تفرّ فى معركة قط ، على كثرة ما دخلت فى معارك ، وما
التقيت بأبطال؟
فقال عنترة لسائله
: أعطنى يدك ، وخذ يدى ، وعضّ إبهامى وسأعض إبهامك!! ففعل الرجل ، وفعل عنترة ..
ولكن سرعان ما صرخ الرجل! فبادره عنترة قائلا : «إنك لو لم تصرخ أنت لصرخت أنا»!!
وبهذا تلقى الرجل الجواب الوافي الشافي على سؤاله.
إن عنترة إنسان
قبل أن يكون بطلا ، فهو يخاف ، ويتألم ، ويكره أن يقتل ، أو يجرح .. شأنه فى هذا
شأن الناس ، أبطالا ، وغير أبطال .. ولكنه لبس ثوب البطولة بصبره على المكاره ،
أكثر من خصمه .. فلو أن خصم عنترة صبر صبره على المكروه ، الذي يسقيه كل منهما
لصاحبه ـ لو أنه صبر
هذا الصبر ، لما
استسلم لعنترة ، بل وربما كان عنترة هو الذي يستسلم له.
وكثير من
الحيوانات ، فى مختلف أجناسها ، تستخدم هذا السلاح فى لقاء عدوها .. فتستعرض كل ما
عندها من قوّى جسدية ، ظاهرة ، أو خفية ، حتى تبدو فى صورة مخيفة مفزعة للعدو ..
وقد تكون هذه الحركات قاضية على العدو من غير قتال ، فيجمد فى مكانه ويستسلم لعدوه!.
وإذا كان الجهاد
والقتال فريضة واجبة الأداء على كل قادر من المسلمين ، متى دعت دواعى الجهاد ،
ولزم القتال ـ لأنه لا يقوم أمر الجماعة الإسلامية ، فى المجتمع الإنسانى إلا إذا
كانت ذا قدرة على حماية وجودها ، ودفع الأيدى الباغية عليها ـ نقول إذ كان شأن
الجهاد على تلك الصفة فى الإسلام ، فقد كان من تدبير الإسلام أن التفت التفاتا
قويّا إلى هذا الجانب من الحرب الذي يعرف فى عصرنا هذا ، بالحرب النفسية ، فوضع
بين يدى جند الله ، المجاهدين فى سبيله منهجا متكاملا للتدريب على هذه الحرب ،
واستخدام أسلحتها ، والضرب بهذه الأسلحة حيث تقع الضربة ، فتصيب الصميم مما وقعت
عليه ..
ومن تدبير الإسلام
فى هذا :
أولا : أنه هوّن
على المؤمنين خطب الموت ، وذلك بإيمانهم بالحياة الآخرة إيمانا يشعرون معه أن
الموت ليس إلا انتقالا من عالم إلى عالم أرحب ، وأفسح ،. ومن هنا فلا ينظرون إلى
الموت على أنه فناء أبدى للميت ، وضياع لا نهائى لمن بموت ، كما ينظر إلى ذلك
الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .. إنه ليس معهم إلا هذه الحياة الدنيا ،
وأنهم إذا فارقوها ، فارقوها إلى غير رجعة أبدا .. فهم لهذا أحرص ما يكونون على
حياتهم هذه ، وأشد ما يكون جزعا إذا ذكروا الموت ، أو أحسوا قرب الأجل ..
وثانيا : أنه وعد
المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله ، درجات عالية عند الله ، سبحانه ، حيث ينزلون
منازل الأنبياء والصديقين ، كما يقول سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً) (٦٩ : النساء).
وإنما تتجلى طاعة
الله ورسوله على أتم وجه وأكمله فى ميدان الجهاد فى سبيل الله .. يقول سبحانه : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ
فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٧٤ : النساء) ..
فالأجر العظيم الذي يناله المجاهد من ربه مشروط بأحد شرطين : أن يقتل فى ميدان
القتال ، أو ينتصر على عدوه .. فلا يعود المجاهد إلى أهله إلا منتصرا على العدو ..
فإن لم يشهد نهاية المعركة ، ومات قبل أن يحقق المسلمون النصر ، فإنه يكون قد شارك
بدمه المراق على أرض المعركة ، فى كتابة كلمة النصر ، التي يؤذن بها مؤذن الحق فى
نهاية المعركة ..
وثالثا : أنه توعد
الذين ينتظمون فى صفوف المجاهدين ، ثم إذا التحم القتال ، وتساقطت الرءوس ،
وتناثرت الأشلاء ، وسالت الدماء ـ ركبهم الفزع ، واستبد بهم الجزع ، والتمسوا وجوه
النجاة فى الفرار من الميدان ، أو النكوص على الأعقاب ، أو الدعوة إلى السلم ،
والاستسلام ـ توعد الإسلام من كان فى المجاهدين ، المقاتلين ، ثم أخذ هذا الموقف
المتخاذل ـ توعده بغضب من الله ، وبعذاب أليم فى نار جهنم ، كما يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً
إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) (١٥ ، ١٦ :
الأنفال) ..
والجانب النفسي هو
المنظور إليه هنا ، فى هذا الوعيد الذي يأخذ به الله سبحانه من لبس ثوب الجهاد وانتظم
فى صفوف المجاهدين المقاتلين ، من بلاء ونكال ، الأمر الذي يحبط إيمان المؤمن ،
ويبطل عمله ، ويسلكه مع المنافقين والكافرين .. ذلك أن فرار المجاهدين من بين صفوف
المجاهدين يحدث فتنة ، ويثير خلخلة واضطرابا فى نفوس المجاهدين وفى صفوفهم ،
وسرعان ما تسرى عدوى هذا المقاتل الفارّ إلى كثير غيره ، ممن لم يكن فى حسابهم أن
يفروا ..
إن هذا الفارّ
إنما يمثل ـ من غير قصد ـ صرخة الانهزام فى صفوف المجاهدين ، وإنه لخير له
وللمسلمين المجاهدين ، ألا يشهد مثل هذا الإنسان مواقف القتال ، وألا يكون فى صفوف
المقاتلين .. وأما وقد خرج ، ودخل المعركة ، فإن فراره من القتال ، خيانة لله ،
ولرسوله ، وللمؤمنين ..
ومن أجل هذا ، عزل
الله سبحانه وتعالى المنافقين عن مواقف الجهاد ، ونقىّ جيش المجاهدين من هذه
الأجسام الغريبة التي تدخل على الجسد السليم بأعراض الحمى. من صداع ، وعرق ، وأرق!
فقال سبحانه لنبيه الكريم. (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٨٣ : التوبة) ..
ومن التطبيق
العملي لهذا الذي تسميه الحرب النفسية ـ أن الرسول ـ صلوات الله وسلامه ورحمته
وبركاته عليه ـ حين رجع من غزوة أحد ، وعلم أن قريشا تريد الكرة على المدينة ،
وتنتهز فرصة الهزيمة التي حلت بالمسلمين فى أحد ، فتضرب ضربتها القاضية ، والحديد ساخن
، كما يقولون ـ تقول حين علم الرسول الكريم بهذا دعا أصحابه ، إلى أن يخرجوا إلى
ظاهر المدينة ، للقاء عدوهم ، إن هو سولت له نفسه أن يهجم على المدينة .. وكان مما
اشترطه الرسول
فيمن يشهدون هذا الموقف معه ، أن يكونوا ممن شهدوا القتال فى أحد ، أما من كان فى
المتخلفين ولم يشهد الحرب ، فلا مكان له بينهم .. هذا والمسلمون الذين شهدوا أحدا
كانوا مثخنين بالجراح ، منهوكى القوى ، يعانون من آلام نفسية وجسدية ما تنهدّ به
عرائم الرجال .. ومع هذا ، فقد رأى النبي فى هؤلاء المجاهدين ـ على ما بهم من آلام
وجراح ـ خيرا كثيرا ، وأن أيّا منهم ـ على ما به من ضعف ـ خير من مئات ممن فى
قلوبهم مرض ، من الذين يكثر بهم سواد المجاهدين بالقدر الذي يقلّ به غناؤهم ..!
وقد كان لهذا أثره
النفسي عند المشركين ، فإنهم ما إن علموا بأن محمدا قد خرج بأصحابه وراء القوم حتى
توقفوا عن المسيرة نحو المدينة ، وقد وقع فى أنفسهم أن محمدا يطلبهم ليثأر من
هزيمة أمس فى أحد ـ وطالب الثأر هيهات أن يغلب ، وحسبهم ما ظفروا به من المسلمين
فى معركة الأمس ، فقد تدور الدائرة عليهم فى الكرة التالية.
ورابعا : من
أساليب الحرب النفسية ـ تخويف العدو وإرهابه ، بما يرى فى جيش المجاهدين من أمارات
القوة ، ووسائل الغلب .. وشبيه بهذا ما تقوم به الأمم من عرض قوتها فى تلك العروض
العسكرية ، التي تكشف بها عن بعض عدتها وعتادها ، على حين أنها إذ تكشف عن بعض
قوتها ، فإنها تشير إلى أن وراء هذا الذي أعلنته قوى كثيرة خفية ، أشد أثرا ، وأقوى
فتكا ، من هذا الذي عرف الناس أمره ، وأن ذلك سرّ من أسرارها الحربية ، التي لا
تظهر إلا عند الحرب!!.
ولهذا الجانب من
الحرب النفسية أثر كبير فى كسر شوكة العدو ، وفى قتل مطامعه فى النّيل من عدوه ،
فلا يقدم على العدوان وهو يرى هذه القوى المهيأة للحرب ، الراصدة لكل عدو .. وهذا
ما يشير إليه قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٦٠ : الأنفال).
كل هذا الذي يراه
العدو فى جيش المسلمين ، من استخفاف بالموت ، وإيثار للموت فى سبيل الله على
الحياة ، والثبات فى ميدان المعركة حتى النصر أو الموت ، والإعداد الدائم لعدد
الحرب ورجالها ـ كل هذا يبعث الرعب فى قلوب الأعداء الذين يواجهون مثل هذا الجيش ،
الذي لا يرجع من المعركة إلا منتصرا ، أو مستشهدا .. وإلى هذا يشير الرسول فى قوله
فى مقام تعداد فضل الله سبحانه وتعالى عليه ، إذ يقول : «ونصرت بالرعب مسيرة عام»
أي أن أعداءه المحيطين به ، يجدون فى أنفسهم رهبة له ، ولجيش المسلمين ، وذلك على
امتداد مسيرة عام بينه وبينهم ، لما يتناقل الناس من أخبار المجاهدين المسلمين ،
واسترخاصهم لنفوسهم فى ميدان القتال ، حتى ليكون ذلك حديث الدنيا كلها ..
***
قوله تعالى :
(إِنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ
أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ).
هو تعقيب على قوله
تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا
إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ..
وفى هذا التعقيب
دعوة للمؤمنين إلى أن ينظروا إلى الحياة الدنيا نظرا جادّا متفهّما ، فإنهم لو
نظروا إليها هذا النظر ، لعرفوا أنها لعب ولهو ، وأنها متاع قليل وظل زائل ، وأنها
إذ كانت هكذا هزيلة باهتة ، فإن الحرص عليها ، والتشبث بالحياة فيها على أية صورة
من صور الحياة ، وإن كان فى ثوب الذل والمهانة ـ إن هذا غبن للإنسان ، وجور على
إنسانيته ..
وإذن ، فإنه إذا
كان هناك قتال بين المسلمين وبين عدوّ لهم ، فلا ينبغى أبدا أن يقع فى نفوسهم وهن
أو ضعف ، أو أن يعطوا أيديهم لعدوهم ، ويستسلوا له ، فإن هذا لا يكون إلا من نفوس
تحرص على الحياة ، وتتشبث بالبقاء فيها ، على أي وضع ، ولو سيمت الخسف ، ورعت
المهانة والذلة ..
قوله تعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا
يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) ..
هو بيان لما هو
مطلوب من الإنسان فى هذه الدنيا ، حتى ينال الجزاء الطيب من الله سبحانه وتعالى ،
وينزل فى الآخرة منازل رضوانه ..
وهذا المطلوب من
الإنسان هو الإيمان ، ثم العمل الصالح الذي يبلغ بالإنسان مبلغ التقوى .. فمن آمن
واتّقى أخذ أجره كاملا فى الدنيا والآخرة ..
وإتيان الأجر ، هو
الجزاء الحسن الطيب ، للأعمال الحسنة الطيبة ، كما فى قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧ : العنكبوت).
وقوله تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٣٠ : فاطر)
فالأجر هو جزاء عن عمل طيب ، يؤجر عليه صاحبه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على
لسان ابنة شعيبعليهالسلام : (يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ) (٢٦ : القصص)
وقوله تعالى : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) ـ هو واقع فى جواب
الشرط ، معطوف على قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ
أُجُورَكُمْ) أي أنه إذا حقق المؤمن الإيمان والتقوى فإنه لا يسأل شيئا
من ماله ، الذي بين يديه ، غير ما هو مفروض عليه فيه من زكاة ..
وهذا يعنى :
أولا : أن أداء
الفرائض على وجهها كاملة ، هو غاية المطلوب من الإنسان .. وأنه يأخذ أجره كاملا ،
دون أن يقدم نظير هذا الأجر عوضا له من ماله ..
وثانيا : أنه مهما
حرص الإنسان على أداء الفرائض كاملة مستوفاة شرائطها ، وأركانها ـ فإنه لا يمكن أن
يتحقق له ذلك على كماله وتمامه ، لما يعرض للإنسان من معوقات نفسية ، ومادية ،
تحول بينه وبين الوصول إلى درجة الكمال .. ومن هنا كانت النوافل ، التي تقوم إلى
جانب الفرائض ، ليجبر بها الإنسان ما يقع منه من تقصير فيها .. كما فى النوافل
التي تصحب الصلاة والصوم ، والزكاة ، والحج .. فكل فريضة من هذه الفرائض تصحبها
نوافل ، هى فى حقيقة أمرها ـ تعويض وجبر لما قد يقع ـ ولا بدّ ـ فى أداء الفريضة
من تقصير ..
وثالثا : ما تجبر
به الفرائض من نوافل قد يخفّ أمره على النفوس ، إلا ما كان منها متصلا بالمال ،
الذي هو رغيبة النفوس ، ومتعلق الآمال .. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية
الكريمة بعد هذا ..
(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ).
يسألكموها : أي إن
يسألكم إياها ، أي يطلب إليكم مزيدا من الإنفاق من أموالكم ، غير ما هو مفروض
عليكم من زكاة فيها ..
(فَيُحْفِكُمْ) : أي يشتدّ عليكم فى الطلب ، ويطلب الكثير مما فى أيديكم. وأصله
من الحفا والحفاء ، وهو ما يصيب الراحلة من الإبل ، من طول السفر ، حتى تحفى
أخفافها ، ويتآكل جلدها ولحمها .. يقول الأعشى عن ناقته التي كان يتجه بها إلى
الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ليعلن إسلامه
يقول :
فآليت لا أرنى
لها من كلالة
|
|
ولا من حفى حتى
تلاقى محمدا
|
ويخرج أضغانكم :
الأضغان : جمع ضغن ، وهو ما تنطوى عليه الصدور من كراهية وحقد ..
ومعنى الآية
الكريمة أنه لما يعلم الله سبحانه وتعالى من طبيعة النفوس ، وحرصها على المال ،
وتعلقها به ، فقد كان من رحمته سبحانه وتعالى بالناس أن رفق بهم ، ورضى بالقليل من
أموالهم ينفقونها فى سبيل الله .. ولو أنه سبحانه وتعالى ألزم المؤمنين أن يقدموا
المال فى مقابل الأجر الذي ينالونه من عند الله ، لأتى ذلك على كل ما معهم من مال
، ولما استوفت كلّ أموالهم بعض ما أخذوا من أجر ، ولوقع المؤمنون فى حرج شديد ،
ولأخذوا مأخذ المخالفين المقصّرين .. فكان من حكمة الحكيم العليم ، ورحمة الرحمن
الرحيم ، أن أعطى النفوس حظها من هذا المال ، واكتفى بأخذ القليل منه ، الأمر الذي
لا تضيق به النفوس ، ولا تحرج به الصدور ، وذلك مع إعطائهم أجرهم كاملا ، بما فى
قلوبهم من إيمان وتقوى ..
وفى الآية الكريمة
، إشارة إلى أن هذا المال ، هو مال الله سبحانه وتعالى ، وأن لله سبحانه وتعالى أن
يسأل هذا المال كلّه ، وأن يأخذه جميعه ، دون أن يكون فى هذا ظلم لأحد ، لأنه
سبحانه لم يأخذ شيئا ليس له!!
ومع هذا ، فإنه
سبحانه ، أعطى الكثير متفضّلا منعما ، وأخذ القليل ، رحيما مترفقا .. فسبحانه ،
سبحانه ، يهب فضله وإحسانه لعباده ، ثم يتقبل منهم بعض ما وهب ، ليكون رصيدا لهم
من الفضل والإحسان ، يطهرون به نفوسهم ، ويغسلون به أدرانهم ..
قوله تعالى :
(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).
بهذه الآية
الكريمة تختم السورة ، فتلتقى بالمؤمنين ، بعد أن وضعتهم فى مواجهة أعدائهم من
الكافرين والمشركين ، الذين يحادون الله ورسوله ، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر ،
وأنه مطلوب من المؤمنين أن يعملوا على حماية أنفسهم من هذا العدو المتربص بهم ،
وذلك بالجهاد فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ..
ولمّا كان للمال
سلطانه على النفوس ، فقد جاءت الآيات السابقة تكشف عن هذه المشاعر ، التي يجدها
المؤمنون حين يمتحنون فى أموالهم ، وأن الله سبحانه وتعالى قد شملهم برحمته ، فلم
يدعهم إلى الخروج عن أموالهم جملة ، على سبيل الإلزام والفرض ، بل جعل ذلك دعوة
مطلقة ، يأخذ منها الناس ما تتسع له نفوسهم ، كلّ على حسب ما تسخو به نفسه ،
ويرضاه قلبه .. دون حرج أو إعنات.
وفى قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ
لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) امتحان للمؤمنين ، واستدعاء لما فى نفوسهم من إيمان ، فى
مقام البذل فى سبيل الله ..
وقوله تعالى : (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) هو بيان لما كشف عنه هذا الامتحان من شحّ فى بعض النفوس ،
وضنّ بالبذل
والإنفاق فى سبيل
الله .. وهذا البخل إنما هو عائد على من بخل ، إذ حرم نفسه هذا الخير الكثير الذي
كان ينتظره لو أنه أنفق من هذا المال الذي حبسه ، وضنّ به .. إنه هو المحروم ، وهو
الخاسر فى هذا الموقف ، حيث آثر ما يفنى على ما يبقى ..
وفى تعدية الفعل «يبخل»
بحرف الجر «عن» بدلا من الحرف «على» الذي يستدعيه ظاهر النظم ـ فى هذا إشارة إلى
أن هذا البخل هو حجز للخير عن النفس ، التي كان من حقها على صاحبها أن يسوقه إليها
من هذا المال الذي بخل به ، وهو يظن أنه إنما فعل ذلك ابتغاء لخيرها وإسعادها ..
وقوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) ـ هو تعقيب على
موقف أولئك الذين بخلوا بالإنفاق فى سبيل الله ، ولم يستجيبوا الدعوة الله ، الذي
آتاهم من فضله ، ووسّع لهم من رزقه ـ فالله ـ سبحانه ـ غنىّ عنهم ، وهم الفقراء
إليه .. ولو شاء سبحانه أن يعفيهم من هذا الامتحان ، لفعل ، ولحرمهم الثواب الذي
ينالونه بما ينفقون من مال الله الذي بين أيديهم ..
وقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) .. هو تهديد ووعيد لهؤلاء الباخلين بأموالهم عن الإنفاق
منها فى سبيل الله وأنهم إذا أصروا على موقفهم هذا ، ولم ينفقوا فى سبيل الله ،
كان فى المؤمنين من يقوم مقامهم ، ويسدّ هذا النقص الذي كان منهم .. ثم إن هؤلاء
الذين يلبسون الإيمان ظاهرا وباطنا ، لا يكون منهم تردد ، أو نكوص عن تقبل البذل
والإنفاق ، كما كان من هؤلاء المترددين المنقلبين على أعقابهم ، بل ستثبت أقدامهم
على طريق الإيمان إلى النهاية ..
***
٤٨ ـ سورة الفتح
نزولها : مدينة ..
نزلت بعد صلح الحديبية ..
عدد آياتها : تسع
وعشرون آية ..
عدد كلماتها :
خمسمائة وستون كلمة
عدد حروفها :
ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «محمد» (عليه
الصلاة والسلام) بدعوة المؤمنين إلى البذل والإنفاق فى سبيل الله ، حاملة بين يدى
هذه الدعوة ، إشارة إلى أن هذه الدعوة لا تلقى قبولا من بعض ذوى النفوس التي لم
يتمكن الإيمان منها ، وأن هؤلاء سيخلون مكانهم لغيرهم من المؤمنين الذي صدقوا الله
ورسوله ، وهؤلاء المؤمنون هم الذين يتلقاهم الله سبحانه وتعالى بالقبول ، ويمنحهم
النصر والتأييد الذي وعد عباده المؤمنين ..
وقد جاءت سورة «الفتح»
تزف إلى المؤمنين هذه البشرى بالفتح والنصر الذي أعز الله به نبيه ، وأعز به
المؤمنين معه .. كما يقول سبحانه فى مطلع السورة : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ) .. وكما يقول سبحانه بعد ذلك : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها
وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ..
ومن جهة أخرى ،
فإن سورة «محمد» (صلىاللهعليهوسلم) قد حملت إلى النبي الكريم هذا الأمر الكريم
من ربه : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ
وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ـ فجاءت سورة «الفتح»
مفتتحة بقبول هذا الاستغفار ، وشمول الرسول الكريم بهذا الغفران المطلق ، الشامل
لكل ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..
ومن جهة ثالثة ـ فإن
محمدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ الذي حملت السورة السابقة اسمه ، يناسبه أعظم
المناسبة أن يجىء فى أعقاب سورته سورة «الفتح» إذ كان هذا الفتح لمحمد عليه صلوات
الله وسلامه ورحمته وبركاته ..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات (٣ ـ ١)
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ
نَصْراً عَزِيزاً)
(٣)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً)
الفتح : فى الأصل
الحكم والقضاء بأمر من الأمور ، ومنه قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ) .. أي احكم ، وقوله سبحانه : (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) أي ما يقضى به الله ..
والفتح ، قد غلب
استعماله فى النصر على العدو ، والاستيلاء على بلاده ، التي كانت من قبل مغلقة فى
وجه من يريد دخولها من غير أهلها ـ ومنه قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ).
والمراد بالفتح
هنا : التأييد ، والنصر ، والتمكين ..
وقد نزلت هذه
السورة الكريمة ، بعد صلح الحديبية ، الذي كان يرى كثير من المسلمين عند عقد هذا
الصلح ، أنه أشبه بالاستسلام .. فلقد كان النبىّ صلىاللهعليهوسلم قد دعا أصحابه إلى أن يهيئوا أنفسهم لأداء العمرة ، وكان
ذلك فى السنة السادسة من الهجرة .. فلما تمّ لهم ذلك ، سار بهم النبىّ ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ إلى مكة ، يسوقون الهدى أمامهم ، ويحبسون سيوفهم فى أغمادها.
فلما دنوا من مكة ، كانت قريش قد استعدّت للحرب ، إن دخل النبىّ والمسلمون عليهم
مكة ..
وقد بعث إليهم
النبىّ أنه إنما جاء معتمرا لا محاربا .. ولكن القوم ركبوا رءوسهم ، وأبوا إلّا أن
تكون الحرب ، إن دخل النبىّ والمسلمون مكة .. وقد كادت الحرب تقع ، وخاصة حين جاءت
إلى المسلمين شائعة بأن عثمان ابن عفان ، رضى الله عنه ، قد نالته قريش بسوء ،
وكان الرسول الكريم ، قد بعث عثمان إلى قريش ، يخبرهم بالأمر الذي جاء من أجله
النبىّ والمسلمون .. ثم انتهى الأمر أخيرا إلى عقد صلح يقضى بأن يرجع النبىّ
والمسلمون عامهم هذا ، وأن يعودوا فى العام القابل ، فتخلى لهم قريش مكة ، فيدخلها
النبىّ وأصحابه ثلاثة أيام يقضون فيها عمرتهم ..
وقد كثرت مقولات
المسلمين ، رفضا لهذا الصلح قبل أن يتم ، وتعقيبا عليه بعد أن تمّ .. حتى لقد خلا
عمر بن الخطاب ، بأبى بكر ، رضى الله عنهما ، وأسرّ إليه بما فى نفسه من هذا الصلح
الذي يرى فيه غبنا على المسلمين ، وحتى لقد جاء عمر إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول له :
«يا رسول الله :
ألسنا على الحق؟ أليس القوم على الباطل؟ قال رسول الله : بلى! قال عمر : فلم نعطى
الدنية فى ديننا؟
فقال ـ صلوات الله
وسلامه عليه .. : «أنا عبد الله ولن أخالف أمر ربى ولن يضيّعنى»!
فلما تم الصلح ظلت
كثير من المشاعر المتضاربة تنخس فى صدور المسلمين ، خاصة ، وأن الرسول صلوات الله
وسلامه عليه ، كان قد تحدث إليهم بأنهم سيدخلون مكة ، وأنه رأى فى ذلك رؤيا ،
وفيها يقول الله تعالى : (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) .. ويقول الله سبحانه فى آخر سورة الفتح : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) .. فهذه الرؤيا التي رآها الرسول الكريم رؤيا صادقة ،
ولكنّ تأويلها لم يكن قد جاء زمنه بعد .. إن المسلمين سيدخلون مكة ، آمنين محلّقين
رءوسهم ومقصرين .. هذا هو مضمون الرؤيا ، أما زمنها فلم تحدده الرؤيا ، وقد عاد
المؤمنون من صلح الحديبية ، وهم على عهد مع قريش على دخول البيت الحرام فى العام
القابل .. أما الفتح القريب الذي أشار إليه قوله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً
قَرِيباً) فهو فتح خيبر ، التي فتحها النبي بعد منصرفه من الحديبية ،
وفى طريق عودته إلى المدينة ..
وصلح الحديبية فى
يومه الذي وقع فيه ، وقبل أن تتكشف الأحداث التي أعقبته ـ هذا الصلح هو فى ذاته
فتح مبين ؛ كما يقول سبحانه وتعالى تعقيبا عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً).
وأي فتح أعظم
وأظهر من أن يعود النبىّ بالمسلمين إلى البلد الحرام ، وأن يقيموا على مشارفها ،
فلا تجرؤ قريش على الخروج للقائهم ، بل تنتظر حتى يدخلها عليهم النبىّ والمسلمون ،
وهم الذين أخرجوا النبىّ والمسلمين منها ، وهم الذين تهدّدوا النبىّ والمسلمين ،
وجاءوا إلى المدينة بجيوشهم يريدون أن
يدخلوها على أهلها
فى غزوتى «أحد ، والأحزاب» ..؟
فأى فتح أعظم عند
المسلمين من هذا الفتح ، الذي أدلّ قريشا ، وعرّاها من كل ما كان لها فى نفوس
العرب من عزّة وسلطان؟ .. لقد ذلت قريش ، وأعطت يدها للنبىّ والمسلمين ، ولم يكن
هذا الصلح فى حقيقته إلا حفظا لبقية من هذه العرّة الضائعة ، وسترا لهذا الكبر
المتداعى!! لقد انقلبت موازين القوى فقوى المستضعفون ، وضعف الأقوياء ، وتحول
المدافعون إلى مهاجمين .. وإنه لو وقف الأمر بالمسلمين عند هذا الحدّ لكان ذلك
نصرا لهم ، وفتحا .. ولكن لم يكن هذا الفتح إلا مقدمة لفتوحات كثيرة ، منها فتح
مكة ، ودخول أهلها فى دين الله ..
وفى هذا يقول
الرسول الكريم ، وقد بلغه أن لغطا بين أصحابه يدور حول هذه القضية ، وأنهم لم
يتحقق لهم ما وعدهم الرسول به من دخول مكة. يقول الرسول الكريم :
«بئس الكلام هذا!!
بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، ويسألوكم
القضية ، ويرغبوا إليكم فى الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا»
وقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً) .. هو بيان لما ترتب على هذا الفتح من سوابغ النعمة ،
وفواضل الإحسان ، التي يفيضها بالله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم ..
إن هذا الفتح هو
بداية الخاتمة لجهاد النبي .. صلوات الله وسلامه عليه ، وهو القدم الأولى التي
بضعها النبي على طريق النصر لدعوته ، التي قام عليها
هذه السنين. والتي
احتمل فى سبيلها ما احتمل من عنت قريش ، وإخراجها له من بيته فى البلد الحرام ،
وما أصيب على يديها فى أحبابه وأصحابه الذين استشهدوا فى الحرب معها ..
إنه وقد انكسرت
شوكة قريش فى صلح الحديبية ، فقد بات الأمر وشيكا بانتهاء هذا الصراع المحتدم ،
بين الدعوة الإسلامية ، وبين المتربصين بها ، وأنه بين يوم وليلة ستنحسر هذه
السحابة السوداء من سماء الإسلام ، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا ..
إذن ، فقد أدّى
النبي رسالته ، وحقق ما ندبته السماء له ، ودعته إليه .. وإذن فليتقبل النبىّ عطاء
الله له ، وليسعد بما سيلقى من جزاء كريم ، على هذا الجهاد العظيم ، الذي ظلّ
قائما عليه نحو عشرين عاما ، موصولا لبلها بنهارها ..
فهذا الفتح ، وإن
كان من الله ، فقد أضاف الله سبحانه وتعالى جزاء هذا الفتح إلى الرسول الكريم .. (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ
نَصْراً عَزِيزاً).
فالفتح ، فتح الله
، وهو فتح للنبىّ ، ومغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهداية له إلى صراط الله ،
ثم نصر عزيز ، تختم به الانتصارات التي بدأت بصلح الحديبية ..!
وقد وصف صلح
الحديبية بأنه فتح مبين ، على حين وصف فتح مكة الذي سيلى هذا الفتح ، بأنه نصر
عزيز .. وذلك لأن صلح الحديبية ، لم يكن الفتح فيه من قوة غالبة قاهرة ، إذ كان لا
يزال فى قريش شىء من القوة ،
والاستعداد للقاء
النبىّ والمسلمين .. أما فتح مكة فقد كان تحت قوة قاهرة ، وسلطان غالب ، فلم يكن
فى قريش من تحدّثه نفسه بلقاء النبىّ والمسلمين ، والتصدي لهذا الجيش الغالب الذي
دخل مكة على أهلها ، وأعطاهم الأمان على حياتهم وأموالهم ، إذا هم دخلوا فى دين
الله ، وقد دخل القوم فى دين الله صاغرين .. فهو نصر عزيز غالب ، لا يلقاه القوم
إلا فى ذلّة وانكسار.
إن صلح الحديبية
يقدّم الحساب الختامى لجهاد النبىّ فى سبيل الدعوة ، فيغفر له ربّه كلّ ما ألمّ بحمى
النبوة ، أو طاف بحرمها الطهور ، من غبار هذا الاحتكاك المتصل بالحياة وأهلها.
إن هذا الغفران ،
هو عملية اغتسال بتلك الأنوار القدسية المنزلة على النبىّ من السماء ، فلا يعلق
بها بعد هذا شىء من غبار هذه الأرض .. وبهذا تتم نعمة النبوة ، وتخلص للنبىّ ،
علوّية ، قدسية ، لم يمسسها سوء.
____________________________________
الآيات (٧ ـ ٤)
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)
وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ
بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
وَلِلَّهِ
جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
(٧)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً).
ومن هذا الفتح
المبين ، الذي فتحه الله للنبىّ الكريم ، ومن هذا الخير العظيم المنزّل على النبىّ
من ربّه بسبب هذا الفتح ـ من هذا وذاك ، يأخذ المؤمنون نصيبهم ، إذ كانوا قبسا من
نور النبوّة ، ومشاعل تنير الطريق للناس ، من بين يدى كوكبها المتألق ، ومن خلفه ،
فكان لهم نصيبهم من هذا الخير العظيم ، وذلك النصر العزيز الذي ساقه الله سبحانه
وتعالى إلى النبىّ الكريم قائد هذه الحملة السماوية المباركة.
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) ـ هو بشرى إلى
المؤمنين ، فى مقابل البشرى التي حملها القرآن إلى النبي الكريم فى قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) .. أي إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، وأنزلنا السكينة فى قلوب
المؤمنين ..
وقوله تعالى
للمؤمنين : (لِيَزْدادُوا
إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) هو فى مقابل قوله تعالى للنبىّ : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ..
ولكلّ من النبىّ
والمؤمنين ، مقامه ، ومنزلته من ربّ العالمين ، ومن سوابغ رحمته ، وفواضل إحسانه
..
فالنبىّ له هذا
الفتح المبين ، والمغفرة الشاملة للعامة ، التي لا تبقى على شىء يطوف بحمى النبوّة
من هنات وهفوات ، فيسوّى حسابه على أن تكون له النبوّة خالصة بجلالها وصفائها ،
بعد هذه الرحلة الطويلة التي طوّفت بها فى
دنيا الناس ،
وخالطت فيها وجودهم ، واحتكّت بخيرهم وشرّهم ، وواجهت أخيارهم وأشرارهم ..
أما المؤمنون ،
فإن لهم من هذا الفضل الإلهى ما يحفظ عليهم إيمانهم ، ويزكّيه ، وينقّيه ، وينمّيه
.. (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ).
والسكينة التي
أنزلها الله سبحانه وتعالى على قلوب المؤمنين ، هى ما وقع فى قلوبهم من رضا
وطمأنينة وسكينة ، بعد هذه الموجات التي تدافعت فى صدورهم ، من وساوس الحيرة
والبلبلة ، ساعة صلح الحديبية .. فلقد اضطربت كثير من القلوب ، وزاغت كثير من
الأبصار ، وقصرت كثير من الأفهام عن أن ترى ما وراء هذا الصلح من خير كثير ، وفتح
مبين ، فوقعت فيما وقعت فيه من حيرة وبلبال.
وقد كانت هذه
التجربة القاسية التي عاناها المؤمنون من أحداث الحديبية ـ باعثا يحرك فى قوة وعنف
، ما فى كيانهم من مشاعر ، وما فى عقولهم من مدارك ، ليقابلوا بها هذه المتناقضات
التي بدت لهم من ظاهر موقفهم الذي اتخذوه من النبىّ مع أحداث الحديبية ، حتى إذا
بلغ الأمر غايته من ضيق الصدور ، وحرج النفوس ، طلع عليهم من حيث لم يحتسبوا ولم
يقدروا ـ ما وراء هذا الصلح من خير كثير ، وفتح مبين ، فكان لذلك من السلطان على
العقول ، والأثر فى النفوس ، ما للقائه المكروب المضطرب فى محيط الصحراء ، تطلع
عليه من حيث لا يحتسب قافلة تنتشله من يد هذا الضياع المستبدّ به!! إنه بعث له من
عالم الموتى ، وحياة مجدّدة له بين الأحياء .. وإنها لحياة عزيزة غالية ، تلك
الحياة الجديدة التي لبسها ، وإنه لواجد فيما يستقبل من حياة طعما جديدا لتلك
الحياة ، وحرصا شديدا على ألا ينفق شيئا منها فى غير النافع المفيد ..
كذلك تماما كان
شأن المؤمنين أثناء صلح الحديبية ، ثم بعد هذا الصلح ، وما لقيهم على طريقهم من
فتح مبين ، ونصر عزيز .. فازدادوا إيمانا مع إيمانهم ، ويقينا إلى يقينهم .. وهكذا
يربى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ، ويصنع لهم من الأحداث والمواقف ما يثبت
به خطوهم على طريق الإيمان ، فلا تنال من إيمانهم الأحداث ، ولا تتسرب إلى مشاعرهم
الوساوس ..
وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) هو تعقيب على هذا الخبر الذي تضمن هذا الخير الكثير
والعطاء الجزيل ، الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى على النبي ، ومن معه من المؤمنين
.. فهذا العطاء وذلك الإحسان ، هو من مالك الملك ، ومن بيده ملكوت السموات والأرض
.. وهو سبحانه إذ يخبر بهذا الخبر ، وبعد به ، فإنما هو خبر صادق ، وعدة محققة ،
لأنها ممن له جنود السموات والأرض ، كلها مسخرة له ، عاملة بمشيئته .. مشيئة
العليم الحكيم .. العليم الذي يقضى بعلم ، الحكيم ، الذي يمضى كل أمر بتقدير وحكمة
..
قوله تعالى :
(لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ
فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ
وَساءَتْ مَصِيراً) ..
هو تعليل لقوله
تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ..). فهذه السكينة التي أنزلها الله فى قلوب المؤمنين ، هى
التي أمسكت بهم على طريق الإيمان ، وأمدتهم بعزائم قادرة على ملاقاة الشدائد
والمحن التي ابتلوا بها من
الكافرين حتى
استطاع المسلمون أخيرا أن يهزموا الشرك ، وأن يدكّوا حصونه ..
وفى هذا الصراع
الذي احتدم بين المؤمنين والمشركين والمنافقين ، كان الابتلاء ، الذي أخذ به كل
فريق مكانه ، من الإيمان بالله ، أو الكفر به ، حيث يجزى كل فريق الجزاء الذي
يستحقه من الثواب أو العقاب ..
فالمؤمنون
والمؤمنات ، يدخلهم الله جنات تجرى من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، متجاوزا لهم
عن سيئاتهم ، التي لو حوسبوا عليها ، فلربما حجزتهم عن الجنة ، أو عوّقت مسيرتهم
إليها ..
وفى تقدم إدخال
المؤمنين والمؤمنات الجنة على تكفير السيئات ، وذلك على خلاف الظاهر ، الذي يقضى
بأن يكون تكفير السيئات أولا ، ثم دخول الجنة ، ثانيا ، إذ لا دخول للجنة إلا بعد
تكفير السيئات ـ فى هذا إشارة إلى أن دخول الجنّة أمر مقضىّ به لكل مؤمن ومؤمنة ،
سواء كان ذلك من غير عذاب ، أو بعد أن يستوفى العصاة من المؤمنين عذابهم ، فهم
جميعا موعدون بالجنة ، وحسب المؤمن ـ أيّا كان ـ أن يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة
، كما يقول سبحانه : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) ..
هذه هى القضية ..
أما تكفير السيئات ، فهو إلى رحمة الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما يشير إليه قوله
تعالى فى ختام الآية : (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ
اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) .. أي كان دخول الجنة ، والقرب من الله ، والنعيم برضوانه ـ
(فَوْزاً عَظِيماً) .. أما تكفير السيئات والتجاوز عنها بالعفو والمغفرة ،
فذلك إلى حكمة الله ، وإلى مشيئته فى عباده ، إن شاء غفر ، وإن شاء حاسب وعاقب. أما
المنافقون ، والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، الذين لم يكن نفاقهم وشركهم إلا
عن سوء ظن بالله ، وأنه سبحانه لا يقوم على هذا الوجود ، حسب تقديرهم ، ولا يعلم
ما تكن الضمائر وما تخفى الصدور ـ فهذا الظن الباطل ، هو
الذي أفسد عليهم
صلتهم بالله ، فلم يرجوا له وقارا ، ولم يعملوا له حسابا ، فكان أن ساء مصيرهم ،
ووخمت عاقبتهم ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣ : فصلت)
وقدم المنافقون
والمنافقات على المشركين والمشركات ، فى مقام الإساءة والبلاء ـ لأن النفاق ، أغلظ
إثما ، وأشنع جرما من الشرك ، لأن الشرك وجه واحد من وجوه الشر ، أما النفاق فهو
وجوه كثيرة من الشر ، يعيش بها المنافق ، ويلبسها وجها وجها ، ويتبدّلها حالا بعد
حال ..
قوله تعالى :
(وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
هو بيان لسلطان
الله المتمكن فى هذا الوجود ، وأنه سبحانه ، بيده الأمر كله ، يجزى المحسن إحسانا
، ويضاعف له ، ويجزى المسيء سوءا ، ولا يظلمه : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٣١ : النجم).
____________________________________
الآيات (١٤ ـ ٨)
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨)
لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا
فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ
بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً
(١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ
الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي
قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)
وَمَنْ
لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)
(١٤)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).
هو استئناف لتقرير
خبر آخر عن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وما له عند ربه ـ سبحانه وتعالى ـ من
العطايا الجليلة ، والمواهب العظيمة .. فقد فتح الله سبحانه وتعالى عليه هذا الفتح
المبين ، ووعده بهذا النصر العزيز ، وأتمّ عليه نعمته بغفران ما تقدم من ذنبه وما
تأخر ، وذلك كله واقع من وراء إحسان سبق ، وفضل تقدم من الله سبحانه وتعالى ، وهو
اصطفاؤه سبحانه عبده محمدا للنبوة ، والرسالة ، والتي استحق بقيامه بحق الرسالة ،
وحمل أعبائها ، أن يعطى هذا العطاء الجزيل ، وأن يفتح له هذا الفتح المبين ..
فاصطفاء النبي
الكريم للرسالة ، منحة خالصة من الله سبحانه وتعالى ، وإحسان مبتدأ ، ليس لسعى
النبي دخل فيه ، ولا لجهاده ولا اجتهاده سبيل إليه. فذلك أمر لا يناله أحد بعمل ،
ومطلب لا يبلغه إنسان باجتهاد .. إنه رحمة من رحمة الله ، وفضل من فضله ، يؤتيه من
يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ..
أما ما فتح الله
به للنبىّ ، وما مكّن له من نصر ، وما غفر له من ذنب ـ
فهو ـ وإن كان من
فضل الله ورحمته ـ فإن للنبى سببا متصلا به ، بما كان منه من جهاد وبلاء ، فى القيام
بأمر ربه ، والوفاء بأداء الأمانة التي حملها ..
وقدم المسبّب على
السبب ، أي قدّم الفتح ، والنصر ، ومغفرة الذنب ، على اصطفاء الرسول للرسالة ،
وعلى الجهاد الذي جاهده من أجل الوفاء بها ـ وذلك للإشارة إلى أن هذه الأسباب هى
مجرد أمور ظاهرية ، وأن ما يقضى به الله سبحانه وتعالى فى خلقه لا يتوقف على سبب ،
وأن ما قضى به سبحانه للنبىّ الكريم ، من فتح ونصر ومغفرة لما تأخر من ذنبه وما
تأخر ، هو فضل خالص من فضل الله ، وإحسان مطلق من إحسانه إلى رسوله الكريم ، وأن
الرسالة نعمة أخرى ، وأن حمل أعبائها ، هو شكر لتلك النعمة العظيمة ، التي أقامت
النبي مقام الإمام للناس جميعا ..
قوله تعالى :
(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ..
عزّروه : أي نصروه
، وعزّزوه ، وأيدوه ..
واللام فى قوله
تعالى : (لِتُؤْمِنُوا) لام التعليل ..
وقد قرىء بضمير
الغيبة : ليؤمنوا ، ويعزّروه ، ويوقروه ، ويسبحوه .. واختلف فى مرجع ضمير النصب فى
الأفعال .. والرأى على أنها جميعا عائدة إلى الله سبحانه وتعالى .. فالتعزير ،
والتوقير ، والتسبيح ، كلها عائدة إلى الله سبحانه على هذا الرأى ..
على أننا نخالف
هذا الرأى ، ونرى ـ والله أعلم ـ أن الضمائر ، بعضها
عائد إلى الله
سبحانه وتعالى ، وبعضها عائد إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ..
فالتعزير ، للرسول
، وهو فى الوقت نفسه تعزير لله ، ونصر لرسول الله ، وتأييد لدينه .. ولكن إضافة
هذا التعزير للرسول تكريم له ، لأنه القائم على دين الله ، وحامل راية الجهاد فى
سبيل الله .. ويشهد لهذا قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا
بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ
أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .. (١٥٧ : الأعراف) فالضمائر هنا كلها عائدة إلى الرسول
الكريم من غير شك ، والقرآن الكريم يفسّر بعضه بعضا ..
وأما التوقير فهو
لله ، وللرسول .. وأما التسبيح بكرة وأصيلا ، فهو خالص لله وحده ..
قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ
اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ..
المفسرون على رأى
واحد ، بأن المراد بالمبايعة فى الآية الكريمة ، هو بيعة الشجرة ، وتسمى بيعة
الرضوان ، وهى التي تشير إليها الآية الكريمة بعد هذا ، حسب هذا الرأى .. والآية
هى قوله تعالى :
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) ..
والرأى عندى ـ والله
أعلم ـ أن المبايعة هنا عامة ، تدخل فيها البيعة على الإسلام ، كما تدخل فيها بيعة
الرضوان على القتال ، وكلّ بيعة بين النبي والمؤمنين .. فقد كان الذين يستجيبون
لرسول الله ، ويدخلون فى دين الله ،
ـ كانوا يبايعون
النبىّ ، على الإيمان يا لله ورسوله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ،
والجهاد فى سبيله ، كما بايع الأنصار النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بيعتى العقبة
الأولى ، والثانية ، على هذا الإيمان ، وعلى أن يمنعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم ..
والذي رجّح عندنا
هذا الرأى ، أمور منها :
أولا : أن بيعة
الرضوان كانت لأمر عارض ، وهو قتال المشركين ، إذا ثبت أنهم اعتدوا على «عثمان»
مبعوث رسول الله إليهم .. فلما ظهر أن المشركين لم ينالوا عثمان بأذى ، بل إنهم
عرضوا عليه أن يطوف بالبيت إن أراد ، ولكنه أبى أن يطوف إلا أن يطوف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ لما ظهر هذا ،
انحلّ عقد هذه البيعة ، وبقي المبايعون على عقدهم الأول الذي دخلوا به فى الإسلام
.. فلم يقع فى هذه البيعة نكث ، لأن المسلمين لم يدخلوا فى حرب مع المشركين تحت
حكم هذه البيعة ، ومن ثمّ لم يكن متّجه لهذا التهديد الذي جاء فى قوله تعالى : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى
نَفْسِهِ) وإنما متجهه هو إلى عموم النكث ، وفى جميع المواقف
والأحوال ..
وثانيا : أن بيعة
الرضوان ، قد ذكرت ذكرا خاصا فى قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)
وفى الآية الكريمة
أن الله سبحانه قد رضى عن جميع المؤمنين الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة ، وأن
الله سبحانه ، قد علم ما فى قلوبهم من إذعان لدعوة رسول الله ، وولاء وتسليم له ،
مع ما كانوا يجدون فى صدورهم من حرج ، فى التوفيق بين ما جاءوا له ، وهو دخول
المسجد الحرام ، وبين هذا الصلح الذي
تمّ بينهم وبين
قريش ، ولهذا أنزل الله السكينة عليهم ، وجزاهم جزاء طيبا ، بهذا الفتح القريب ،
وهو فتح خيبر ..
فالمؤمنون الذين
بايعوا الرسول تحت الشجرة ، دخلوا جميعا فى هذا الحكم ، وهو رضا الله عنهم ،
وإنزال السكينة على قلوبهم .. وهذا يقطع بأن أحدا منهم لم ينكث أبدا ..
وفى قوله تعالى : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ـ إشارة إلى أن
مبايعة المؤمنين لرسول الله ، ليست لحساب الرسول ، ولا لشأن من شئونه الخاصة ،
وإنما هى بيعة خالصة لله ، وللجهاد فى سبيل الله ، وما الرسول صلوات الله وسلامه
عليه ، إلّا قائم بأمر الله ، قائد للمجاهدين فى سبيله ..
وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ـ هو توكيد لهذه
الحقيقة ، وهى أن البيعة لله ، وأن الذين أعطوا أيديهم مبايعين لرسول الله ، إنما
أعطوا أيديهم لله ، ويد الرسول التي صافحت هذه الأيدى المبايعة ، هى ـ من غير
تشبيه ـ نيابة عن يد الله ..
وهذا كله من قبيل
التمثيل ، كما فى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) .. فالأمر فى ظاهره ليس بيعا ولا شراء ، ولكنه فى واقعه
بيع ربيح ..
قوله تعالى :
(سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا
فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ
بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ..
هو إخبار من الله
سبحانه وتعالى للنبىّ الكريم ، بما سيلقاه به الذين تخلفوا من الأعراب عن دعوة
الرسول لهم ، فى السير معه إلى مكة ، لزيارة البيت الحرام ، وليكثر بهم أعداد
المسلمين ، ليكون فى ذلك ما يرهب قريشا ، فلا تعترض سبيل النبىّ والمسلمين لزيارة
بيت الله .. ولقد تقاعس هؤلاء الأعراب الذين كانوا يعيشون قريبا من المدينة ،
وتعللوا بأعذار شتى ، وفى تقديرهم أن الذين يصحبون النبىّ فى هذا المسير ، لن
يسلموا من القتل ، ولن يرجعوا إلى أهليهم أبدا ، وإنه لهو الهلاك المحقق لهذه
الجماعة التي استجابت للرسول ، وسارت معه .. إذ كيف يعقل ـ وهذا تقديرهم ـ أن
يواجه النبىّ والمسلمون قريشا بهذا العدد من المسلمين ، الذين لا يتجاوز عددهم
ألفا ، وأن يدخلوا عليهم ديارهم ، ويطئوا بلدهم ، وقد كانت قريش فى الأمس القريب ،
فى موقعة أحد ، تهدد المسلمين ، وتكاد تدخل عليهم المدينة ، وتستولى على ديارهم؟
فلما سار النبىّ
الكريم مسيرته بأصحابه الذين استجابوا له ، وتم صلح الحديبية بينه وبين قريش ،
وأخذ النبىّ بأصحابه طريقه إلى المدينة ، وفتح الله له «خيبر» من غير قتال ، ـ لما
كان هذا أخذ هؤلاء المخلّفون من الأعراب يدبرون أمرهم ، ويعدّون المقولات التي
يلقون بها النبىّ ، والمعاذير التي يعتذرون بها إليه ، عند رجوعه إلى المدينة ..
ومن تلك المقولات
ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم فى قوله تعالى : (شَغَلَتْنا
أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ..
وقد فضح الله
سبحانه وتعالى كذب هذا القول ، وردّه على قائليه ، فقال سبحانه :
(يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي أنه ليست الأموال والأهلون هى التي شغلت هؤلاء الأعراب
عن الاستجابة لدعوة رسول الله ، ولكن
الذي أمسك بهم عن
تلبية هذه الدعوة ، هو ما وقع فى نفوسهم من شبح الخطر الذي يترصد كلّ من يسير هذه
المسيرة ، ويدخل على قريش ديارها ..
وقوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟) ـ هو رد على هؤلاء
المخلّفين ، وعلى سوء ظنهم بالله سبحانه وتعالى ، وجهلهم بما له جل شأنه من سلطان
مطلق فى هذا الوجود ، وأنه سبحانه هو الذي بيده مقاليد السموات والأرض ، وأن أحدا
لا يملك معه ضرّا أو نفعا ..
وقوله تعالى : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً) ، هو تقرير لتلك الحقيقة التي خفيت على هؤلاء المخلفين ،
وأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون ، علم الخبير الذي لا تخفى عليه
خافية ، فى الأرض ولا فى السماء ..
قوله تعالى :
(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ
لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ
ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً).
هذا هو ما انطوت
عليه صدور المخلفين من أوهام وظنون ، تسلطت عليهم ، فأخذوا هذا الموقف الخاسر ،
الذي عزلهم عن مواقع الخير ، وحرمهم ما ناله المؤمنون الذين ساروا فى مسيرة رسول
الله ، من رضا الله عنهم ، ومن هذا الخير الذي امتلأت به أيديهم من غنائم خيبر ..
والبور : الهلاك
.. والقوم البور ، هم الهالكون ، الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا ، وذلك هو
الخسران المبين ..
قوله تعالى :
(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً).
هو بيان للجهة
التي جاء منها هذا الهلاك والبوار لأولئك المخلّفين ، وهو أنهم لم يكونوا مؤمنين
بالله ورسوله ، إذ لو كانوا مؤمنين حقّا لما كان منهم هذا التخلف عن دعوة الرسول
لهم .. إذ الإيمان ـ فى حقيقته ـ ولاء مطلق ، ومتابعة يلا تردد ، ولا مراجعة ..
قوله تعالى :
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ..
هو إلفات إلى
الإيمان الصحيح بالله سبحانه وتعالى ، وهو الإيمان القائم على اليقين بأن الله
سبحانه ، له ملك السموات والأرض ، وأنه وحده سبحانه ، يملك الضر والنفع ، فمن آمن
بالله على هذا المفهوم واستيقنه ، فإنه ـ فى سبيل الاحتفاظ بهذا الإيمان ، والدفاع
عنه ـ يتحدّى الناس جميعا ، لا يخاف سلطانا ، ولا يرهب قوة ..
وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ـ هو دعوة إلى
الذين ساء ظنهم بالله ، أن يقيموا إيمانهم بالله على هذا المفهوم ، فإن هم فعلوا ،
غفر الله سبحانه وتعالى لهم ما كان من تقصير فى حق الله ، وسوء ظنّ به.
____________________________________
الآيات (١٧ ـ ١٥)
(سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا
كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا
لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ
أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)
(١٧)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا
كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا
لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً).
هو إخبار من الله
سبحانه وتعالى ، لما سيكون من هؤلاء المخلّفين ، بعد أن يلتقوا بالنبي ، وقد رجع
من مسيرته منتصرا غانما ، من حيث قدّروا الهزيمة ، والهلاك .. إنهم سيعرضون على
النبي أن يقبلهم فى المجاهدين إذا هو سار مسيرة كتلك المسيرة ، التي يكون منها
الغنم والظفر .. وهذا ما يكشف عما فى قلوبهم من إيمان زائف .. فهم إنما يكونون فى
المؤمنين المجاهدين ، إذا كان من وراء هذا الإيمان والجهاد ، سلامة ومغنم ..
والإيمان ـ فى حقيقته ـ هو بذل ، وتضحية ، غير منظور فيه إلى تحصيل كسب ، أو ظفر
بمغنم ..
وقوله تعالى : (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ
لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) ـ
بيان للغاية التي
يتغيّاها هؤلاء المخلفون من الأعراب ، من هذا العرض الذي يعرضونه على النبي بالسير
معه إلى الجهاد ، وأنهم إنما يسيرون حيث تكون هناك مغانم يملئون أيديهم منها ..
وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللهِ) .. كلام الله : هو حكمه وقضاؤه ، وهو أن تكون المغانم من
حظّ المجاهدين ، لا أولئك الذين يتصيدون الفرص لتقع إلى أيديهم الغنائم من غير
قتال .. وهؤلاء المخلفون لا يخرجون مع المجاهدين إلا إذا كان الخروج إلى مغانم من
غير قتال ، وهذا من شأنه ـ لو حدث ولن يحدث ـ أن يبدل حكم الله الذي جعل الغنائم
المجاهدين ..
وفى هذا النظم
الذي جاء عليه الخبر ، تيئيس للمخلفين أن يكون لهم فى هذه المغانم نصيب ، لأن
أخذهم شيئا منها ، فيه تبديل لكلمات الله ، وإنه لا مبدّل لكلمات الله ..
وقوله تعالى : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) هو تعقيب على قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وتصريح بالحكم الذي تضمنه ، فإن من مضمون قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللهِ) أنهم لن يخرجوا مع المؤمنين ، لأن فى خروجهم تبديلا لكلمات
الله ، ولا مبدل لكلمات الله ..
وقوله تعالى : (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) .. الإشارة هنا هى إلى الحكم الذي جاء فى قوله تعالى : (لَنْ تَتَّبِعُونا) .. أي مثل هذا الحكم الذي قضينا به عليكم ، وهو ألا
تتبعونا ، كان قضاء الله فيكم وحكمه عليكم من قبل هذا الحكم الصريح الذي واجهناكم
به ، أيها المخلفون ، فقد قال الله
من قبل فيكم : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللهِ) ـ ومضمون هذا أنكم
لن تخرجوا معنا ..
هذا ، وقد اضطربت
آراء المفسرين فى هذا ، وكثرت مقولاتهم ، ولم نر فيما رأينا من آراء ومقولات ، ما
نطمئن إليه .. فكان هذا رأينا الذي نرجو أن يكون صوابا .. والله أعلم ..
قوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) ـ هو من مقولات
المخلفين التي يمكن أن يقولوها ، ردّا على قول النبي والمؤمنين لهم : «لن تتبعونا»
ـ وهو ردّ أحمق جهول ، فيه مغالطة فاضحة .. إذ كيف يحسدهم المؤمنون ، وقد دعوا من
قبل إلى الجهاد ، فأبوا وتخلفوا؟ وكيف وطريق الجهاد مفتوح على مصراعيه للمجاهدين
حقّا ، الذين يريدون بجهادهم وجه الله ، وإعلاء دين الله؟.
وقوله تعالى : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا
قَلِيلاً) أي أن هؤلاء الأعراب المخلفين ، إنما هم على عمى وجهل ،
ولو أنهم كانوا على شىء من العلم بدين الله ، وبحقائق هذا الدين ، لما وقفوا هذا
الموقف من الجهاد ، ثم لما كان منهم هذا الاعتراض فى طريق المجاهدين بهذا المنطق
الجهول .. أما مالهم من فقه قليل ، فهو ما كان من أمر الدنيا وشئونها ، ومع هذا
فهو قشور من الفقه ، لا يصل إلى شىء من لباب المعرفة ، وهذا مثل قوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا
، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧ : الروم).
قوله تعالى :
(قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ
تُقاتِلُونَهُمْ
أَوْ يُسْلِمُونَ ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً).
هذه دعوة إلى
هؤلاء المخلفين ، تقطع عليهم مقولتهم للمؤمنين : «بل تحسدوننا» .. وهم فى هذه
الدعوة مدعوون إلى قتال قوم أولى بأس شديد ، وأنهم مطالبون كذلك فى هذا القتال أن
يقفوا موقف المجاهدين حقّا ، وهو ألا يتحولوا عن القتال إلّا إذا استسلم لهم
العدوّ ، ودخل فى دين الله ..
وقد اختلف
المفسّرون فى هؤلاء القوم ذوى البأس الشديد ، الذين سيدعى هؤلاء المخلفون إلى
قتالهم ، حين يندب المؤمنون إلى قتالهم ..
ويذهب كثير من
المفسرين ، إلى أن هؤلاء القوم هم فارس ، والروم .. وهذا غير صحيح من وجهين :
أولهما : أن قتال
فارس والروم لا يكون فيه قتالهم إلى أن يدخلوا فى الإسلام ، بل إنه يكتفى منهم
بقبول الجزية فى حال هزيمتهم ، وإبائهم أن يدخلوا فى الإسلام ، وإنما حكم القتل أو
الإسلام هو فى حقّ العرب وحدهم ، لأنهم هم الذين تقوم عليهم الحجة كاملة ، بتلك
المعجزة التي فى كتاب الله المعجز ، الذي جاء بلسانهم ..
والوجه الآخر ، هو
أن هؤلاء المخاطبين المخلفين ، ينبغى أن تكون دعوتهم إلى قتال هؤلاء القوم بعد زمن
قليل من وقت نزول هذه الآية .. حتى لا يذهب الموت بكثير منهم ، إذ طال الزمن بهم ،
وقتال الفرس والروم جاء بعد نزول هذه الآيات ، بنحو عشر سنين ..
والذي يصحّ عندنا
من هذه المقولات ، هو القول بأن القوم ذوى البأس الشديد ، هم بنو حنيفة ، قوم
مسيلمة الكذاب ، الذين ارتدوا عن الإسلام ،
بعد وفاة النبي ،
صلوات الله وسلامه عليه ، وكان ذلك بعد أربع سنين من نزول هذه الآية ..
وبنو حنيفة ، قد
ارتدّوا عن الإسلام ، بعد وفاة الرسول ، فندب أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ المسلمين
إلى جهادهم ، وقد حاربوا جيوش المسلمين حربا قاسية ، حتى لقد استشهد من المسلمين
أعداد كثيرة ، كان من بينهم سبعون شهيدا من القرّاء وحدهم ، كما يقول ذلك أصحاب
المغازي ..
وهذا كله حديث عن
مستقبل لم يجىء بعد ، وإنما هى أحداث ومواقف سوف تقع تباعا ، ابتداء من نزول هذه
الآيات ..
قوله تعالى :
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً).
رفع الحرج هنا عن
هؤلاء الذين ذكرت الآية الكريمة صفاتهم ، إنما هو فى مقام الجهاد فى سبيل الله ..
فهؤلاء معفون من الجهاد ، بحكم الأعذار التي معهم .. وقد رتّبوا ترتيبا تنازليا ..
فالعمى عذر قاطع ، لا شبهة فيه فى الحرب ، والعرج عذر غير ظاهر ، قد يكون معه عجز
عن القتال أو قدرة عليه ، وأمر ذلك موكول إلى تقدير ولىّ الأمر ، وإلى ضمير صاحب
الآفة ودينه ..
أما المرض ، فهو
عذر يغلب عليه الخلفاء ، وأمره متروك تقديره للمريض نفسه ، وإلى ما يمليه عليه
دينه ..
____________________________________
الآيات (٢٦ ـ ١٨)
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨)
وَمَغانِمَ
كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً
مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(٢٢)
سُنَّةَ
اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ
بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً(٢٤) هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)
(٢٦)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً).
المؤمنون الذين
رضى الله عنهم ، وشملهم بهذا الرضوان العظيم ، هم الذين كانوا مع النبىّ فى
الحديبية ، والذين بايعوه على قتال المشركين ، حين جاءت أخبار من مكة تقول : إن
المشركين قد نالوا عثمان رضى الله عنه ، بسوء ، وقد كان الرسول ـ صلوات الله
وسلامه عليه ـ بعثه إليهم ، ليخبرهم بأن الرسول وأصحابه إنما جاءوا معتمرين زائرين
للبيت الحرام ، ولم يجيئوا لقتال ..
وقوله تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أي أن الله سبحانه وتعالى ، مع هذا الرضوان الذي شمل به
المؤمنين من أهل الحديبية ـ قد فتح عليهم خيبر وملأ أيديهم من مغانمها ، وبهذا
رجعوا ومعهم حظ الدنيا والآخرة جميعا ..
ووصف الفتح بأنه
قريب ، وذلك لقرب زمانه ، إذ كان على أيام من صلح الحديبية ، ثم لقرب تناوله ، إذ
لم يلق المسلمون من أهل خيبر بلاء كثيرا ، بل سرعان ما استسلم يهود خيبر ليد
النبىّ ، ونزلوا على حكمه ..
قوله تعالى :
(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ..
هو معطوف على قوله
تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً
قَرِيباً) .. أي وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها ، فى قتالهم المشركين
، والكافرين والمنافقين ، ومنها غنائم هوازن فى موقعة حنين ، ثم تلك المغانم
الكثيرة فى حرب فارس والروم ..
قوله تعالى :
(وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً
مُسْتَقِيماً) ..
هذا وعد من الله
سبحانه وتعالى للمؤمنين وهم على طريق الجهاد ، بأنه سبحانه ، سيمكّن لهم من مغانم
كثيرة يأخذونها ، وأن هذا الذي أخذوه فى «خيبر» ليس إلا ثمرة معجّلة من ثمار
جهادهم ، وإلا باكورة من بواكير هذا الثمر ..
وقوله تعالى : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) .. المراد بالناس هنا هم من واجههم النبىّ والمسلمون فى
مسيرته تلك ، وهم أهل مكة ، وأهل خيبر ، فهؤلاء ، وهؤلاء ، لم يدخلوا مع المسلمين
فى حرب ، بل عافاهم الله من هذا البلاء ، وأعطاهم ثمرته ، فسلّمت لهم قريش بحق
دخولهم مكة ، والطواف بالبيت الحرام ، واستسلم لهم يهود خيبر ، وسلّموا لهم ما بين
أيديهم من أموال ، وزروع ..
وقوله تعالى : (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) معطوف على محذوف ، يفهم من قوله تعالى : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ
أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي لتكون هذه الغنائم جزاء طيبا لكم ، وليكون منها آية
للمؤمنين ، يرون فيها أن الله سبحانه وتعالى غنىّ عن الجهاد ، وأنه سبحانه قادر
على أن يفتح لهم البلاد ويخضع لهم العباد من غير قتال .. ولكنّ هذا يحرم المجاهدين
فضل الجهاد ، ولا يجعلهم فى مكان هم أولى به من غيرهم ، من رضوان الله ، ومن
الغنائم التي ينالها المجاهدون ..
وقوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) معطوف على قوله تعالى : (وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وليكون لكم من هذه الآية ، من هذه الآية ، ما يملأ
قلوبكم
إيمانا بالله ،
ويقينا بدينه ، حيث ترون آثار لطف الله سبحانه ، وشواهد قدرته ..
قوله تعالى :
(وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً) ..
الأخرى : هى مكة
..
وقوله تعالى : (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) صفة لمكة ..
والمعنى ، أنه إذا
كان لكم فى مغانم خيبر ، وفى غلبكم عليها ـ إذا كان لكم فى ذلك آية ، فإن لكم فى
أهل مكة آية أخرى ، إذ كان المشركون فى صراع طويل معكم ، وكانت الحرب بينكم وبينهم
سجالا ، وأنكم لم تقدروا أن تنالوا منهم الاستسلام لكم .. ثم هاأنتم هؤلاء ترون
وقد جئتموهم لغير حرب ، وفى عدد قليل ، ومع هذا فقد ذلّوا بين أيديكم ، وطلبوا عقد
هدنة معكم ، وليس ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بهم ، وأخذ على أيديهم ،
وأوقع الرعب منكم فى قلوبهم ..
قوله تعالى :
(وَلَوْ قاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً) ..
أي أنكم أيها
المؤمنون لا تقاتلون عدوكم بكثرتكم ، ولكن تقاتلونهم بإيمانكم بالله ، وتوكلكم
عليه ، وإخلاص نيتكم له ، وهذا هو ضمان النصر لكم من ربكم ..
ولو أن هؤلاء
المشركين ـ وهم فى عددهم ، وشوكتهم ، وفى بلدهم وبين أهليهم ـ لو أن هؤلاء
المشركين ، قاتلوكم يوم الحديبية ، لنصركم الله عليهم ، ولولّوا الأدبار منهزمين ،
ثم لا يكون لهم ولىّ يقوم لهم ، ولا ناصر يفزع لنصرهم ..
وهذا حكم مطلق على
ما سيكون بين المسلمين والمشركين ، منذ نزول هذه الآية .. فإن أي لقاء سيلتقى فيه
المسلمون بالمشركين ، لن يكون للمشركين فيه إلا الهزيمة ، التي لا يقيلهم منها
ولىّ ولا نصير ..
وقد تحقق هذا ،
فلم يكن بين المسلمين والمشركين بعد الحديبية حرب ، وإنما كان من المشركين استسلام
، وإسلام ، فى يوم الفتح ..
قوله تعالى :
(سُنَّةَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ..
«سنة» منصوب بفعل
محذوف ، وتقديره ، لقد سنّ الله سبحانه وتعالى بهؤلاء المشركين سنة الله التي قد
خلت من قبل ، وهى سنة الله فيما بين أولياء الله وأولياء الشيطان ، بين أهل الحق ،
وأهل الباطل .. وسنة الله : هى حكمه ، وقضاؤه ..
وحكم الله وقضاؤه
، هو نصرة الحق وخذلان الباطل ، كما يقول سبحانه :
(بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ـ ويقول تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي .. إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ..) (٢١ : المجادلة)
قوله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ..
يجمع المفسرون على
أن ما تشير إليه الآية من كفّ أيدى المشركين عن المؤمنين ، وكف أيدى المؤمنين عن
المشركين ـ إنما هو عن صلح الحديبية ..
ولكن قوله تعالى :
(بِبَطْنِ مَكَّةَ) يردّ هذا القول .. فالمؤمنون لم يدخلوا مكة عام الحديبية ،
بل ولم يظفروا بالمشركين الظفر الذي يمكّن لهم منهم ..
والذي نراه ـ والله
أعلم ـ أن هذا إنما كان يوم الفتح ، حيث دخل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مكة ، على رأس
جيش من عشرة آلاف مقاتل ، وأن قريشا قد فزعت لهذا ، واستسلمت من غير قتال ، طالبة
الأمان من رسول الله ، بعد أن مكن الله له من رقابهم ، فقال لهم صلوات الله وسلامه
عليه قولته الخالدة : «ما تظنون أنى فاعل بكم»؟ ـ إنهم الآن بين يديه ، وفى متناول
سيوف المسلمين ، وإن النبي قد ملكهم ملكا مطلقا ، يتصرف فيهم كيف يشاء ..
ولم يجد القوم
جوابا يجيبون به على هذا التحدّى ، الذي يستئير الحمية ، ولكن لم يكن للقوم بعد
مارأوا من جيش المسلمين ـ لم يكن عندهم بقية من حمية تستثار ، فكان جوابهم للنبى ،
هذا الجواب الذليل المستسلم :
«أخ كريم! وابن أخ
كريم!!» ..
ألا لقد ذلّت جباه
المتكبرين ، ورغمت أنوف المتعالين!!
وقد كان رد النبىّ
الكريم ، سمحا كريما ، كما هو شأنه فى جميع أحواله .. فقال صلوات الله وسلامه عليه
: «أذهبوا فأنتم الطلقاء»!!
لقد أطلقهم بتلك
الكلمة الطيبة الكريمة من الأسر ، وحفظ عليهم دماءهم التي كانت مهدرة!
ولا يعترض على هذا
الرأى الذي ذهبنا إليه ، بأن الآية تحدّث عن أمر
وقع فعلا ، وذلك
فى قوله تعالى : (كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ..) بلفظ الماضي ..
والجواب على هذا
من وجهين :
أولهما : أن
الإخبار عن المستقبل بالفعل الماضي ، إشارة إلى تحققه ، وأنه إن لم يكن قد وقع ،
فهو واقع لا شك فيه ..
وثانيهما : أنه قد
تكون هذه الآية نزلت بعد فتح مكة ، ثم أخذت مكانها من السورة ، لتكون إلى جانب
أحداث الحديبية التي تلقّى فيها الرسول الكريم قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) .. فهذا الفتح يطوى فى كيانه فتح مكة ، وإن كان فتحها لم
يقع بعد ..
قوله تعالى :
(هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ..
هو بيان للسبب
الذي من أجله أخذ سبحانه المشركين بالخزي والخذلان ، وسنّ بهم سنته ـ سبحانه ـ فى
الذين خلوا من قبل .. ذلك لأنهم كفروا بالله ورسوله ، وصدّوا النبي والمسلمين عن
المسجد الحرام ، ومنعوا الهدى أن يبلغ محلّه من البيت العتيق ..
والخطاب للنبى
صلوات الله وسلامه عليه ، وللمؤمنين معه ، الذين واجههم المشركون يوم الفتح ..
وفى هذا إلفات
للنبى وأصحابه إلى حالهم التي كانوا عليها يوم الحديبية وإلى حالهم اليوم من
القوّة ، والتمكن من قريش ، وأن سيف الباطل الذي كانت
تضرب به قريش فى
وجوه المسلمين ، وتلجئهم إلى الفرار من ديارهم ـ هذا السيف قد تحطم على صخرة الحق
، وخذل أهله فى الموقف الحاسم ، فى ساعة العسرة ..
لقد استدار الزمن
، وأصبح الضعفاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ـ أصبحوا
أصحاب هذا البلد الذي أخرجوا منه ، وصار إلى أيديهم أن يخرجوا أو يقتلوا أولئك
الظالمين الضالين الذين أخرجوهم بالأمس من ديارهم ..
هذا بعض ما وقع فى
مشاعر كل من المسلمين والمشركين من تلك المواجهة التي كانت بينهما يوم الفتح ، كلّ
منهما يراجع مسيرة الأحداث التي جرت بينهما ، حتى إذا انتهوا إلى يوم الفتح هذا
وجدوا مفارقات بعيدة بين بدء الأحداث ونهايتها ، حيث انقلبت الموازين ، وتبدلت
الأوضاع ، وأصبح الذين كانوا لا يملكون شيئا ، يملكون كل شىء ، وصار الذين كانوا
يملكون كل شىء لا يملكون شيئا .. و (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ..
قوله تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) هو معطوف على ضمير النصب فى قوله تعالى : (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) أي وصدوكم وأنتم محرمون عن أن أن تطوفوا بالبيت الحرام ،
وصدوا الهدى وهو معكوف عن أن يبلغ محله ..
والهدى ، ما يهدى
للبيت الحرام من بهيمة الأنعام ..
والمعكوف : أي
المحبوس على هذه الغاية ، والموقوف عليها ، فلا يتصرف فيه ببيع ولا بغيره ..
قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ
مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ) ..
جواب لو لا محذوف
، دل عليه المقام ، وهو مقام تهديد للمشركين ، وتذكير لهم ، بجناياتهم الشنيعة على
الدعوة الإسلامية ، وعلى المسلمين .. والتقدير : لو لا هؤلاء الرجال المؤمنون
والنساء المؤمنات الذين يعيشون مع هؤلاء المشركين ولم يعلنوا إيمانهم ، وأنهم قد
يؤخذون بما يؤخذ به المشركون لو وقعت الحرب بينهم وبين المسلمين ـ لو لا هذا
لسلطكم الله عليهم يوم الفتح ، وهم تحت أيديكم ، ولذهبت سيوفكم بكثير من تلك
الرءوس التي كانت تكيد للإسلام وتسوق الأذى والضر إلى أهله ..
وقوله تعالى : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) هو صفة للمؤمنين والمؤمنات ، أي أن هؤلاء الرجال المؤمنين
والنساء المؤمنات ، كانوا يسرّون إيمانهم ، ويمسكون به فى قلوبهم .. خوفا من أهلهم
المشركين ـ فهم فى نظر المؤمنين مشركون ، يؤخذون بما يؤخذ به المشركون ، لأنهم لا
يعلمون عن إيمانهم شيئا ..
وقوله تعالى : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ) ..
المعرّة : المذمة
، والعائبة التي تعيب الإنسان وتنقصه ..
وفى إسناد المعرة
إلى هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين يسرون إيمانهم ، فى قوله تعالى : (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) ـ فى هذا إشارة
إلى أن الذي يتوجه إلى المسلمين باللوم والعيب هم أولئك المؤمنون والمؤمنات أنفسهم
، لأنهم هم الذين يعلمون أنهم مؤمنون ، وأنهم قتلوا بيد إخوانهم المؤمنين ، الذين
خفى عليهم إيمانهم ..
وقوله تعالى : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ) ـ هو تعليل لمفهوم
المخالفة من جواب الشرط المحذوف ، أي لو لا رجال مؤمنون ، ونساء مؤمنات لم تعلموهم
أن تطئوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم ـ لو لا هذا لسلطكم الله على المشركين ،
ولكنه سبحانه لم يسلطكم عليهم ، ليدفع عنكم المعرّة ، بما تصيبون
من المؤمنين
والمؤمنات ، وليدخل فى رحمته من يشاء .. فإن لله سبحانه فى هؤلاء المشركين من
يريدهم لدينه ، ويدخلهم فى رحمته ، ولهذا مدّ لهم فى الأجل ، ودفع عنهم أيدى
المسلمين من أن تقضى عليهم ، وذلك ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، وليدخل فى رحمته
من يشاء من هؤلاء المشركين ..
وقوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو انفصل هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين أرادهم الله
للإيمان ـ لو انفصل هؤلاء وهؤلاء عن كيان المشركين ، الذين لن يؤمنوا بالله أبدا ،
لو انفصلوا عنهم لعذاب الله سبحانه الذين كفروا منهم عذابا أليما ، بأن يسلطكم
عليهم أو يرسل عليهم عذابا من عنده ، ولكن الله سبحانه ـ حماية للمؤمنين والمؤمنات
ودفعا لما يلحقهم من مكروه إذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين الذين يخالطونهم
ويمتزجون بهم ـ لم ينزل عذابه فى الدنيا بهؤلاء المشركين الذين لن يؤمنوا أبدا ،
وأنظرهم إلى يوم الدين ..
وهكذا أكرم الله
المؤمنين ، فلم يفجعهم فى أهليهم من المشركين ، ولم يرهم ما يسوءهم فيهم ، وهكذا
يصنع الله لأوليائه ..
قوله تعالى :
(إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ..
الحمية الغيرة ،
والأنفة ، وهى التي تحتمى بها الحرمات .. وهى محمودة إذا كانت فى جانب الحق ،
والعدل والإحسان ، ومذمومة إذا كانت فى جانب الهوى والسّفه ، والضلال ..
وحمية الجاهلية ،
حمية استعلاء ، وتطاول بغير حق ، لا يضبطها عقل ، ولا تسوسها حكمة ..
أي أنه على حين
امتلأت قلوب المشركين الذين كفروا من حمية الجاهلية ، وغذّوها بهذه المشاعر
الكاذبة الفاسدة ، بما كان لهم من قوة ظاهرة على المسلمين ـ فإن الله سبحانه
وتعالى حين منح المسلمين القوة ، ومكن لهم من هؤلاء الكافرين ، حرس هذه القوة من
أن تكون أداة بغى وعدوان ، فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين ، ونزع ما فى
قلوبهم من حفيظة على المشركين وألزمهم كلمة التقوى ، وهى الكلمة التي عفا الرسول
صلوات الله وسلامه عليه بها عن المشركين ، حين قال لهم : «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ـ
فهذه الكلمة التي لا يقولها فى هذا المقام إلا رسول الله ، وهو أحق بها وأهلها من
دون الناس جميعا ، والمؤمنون هم على هذا المورد الطيب الذي ورده الرسول ، فهم
بهديه مهتدون ، وعلى سنته قائمون ..
____________________________________
الآيات (٢٩ ـ ٢٧)
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما
لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ
فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
(٢٩)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما
لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) ..
هو ردّ من الله
سبحانه وتعالى على ما وقع فى نفوس بعض المسلمين من مشاعر القلق ، والضيق ،
والاتهام ، لما فاتهم من دخول المسجد الحرام يوم الحديبية ، وقد جاءوا إليه وهم
على يقين بأنهم داخلوه ، تصديقا للرؤيا التي رآها النبىّ وأخبرهم بها ..
فقوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) تصديق لرؤيا الرسول الكريم ، وأنها رؤيا من الله ، وأنها
الصدق المطلق ، والواقع المحقق ، وإن كان تأويلها لم يجىء بعد ..
وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ـ هو جواب لقسم
محذوف ، وهذا القسم هو لتأكيد هذا الخبر الذي يخبر الله سبحانه وتعالى به المؤمنين
، وأنهم داخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ، لا تعترضهم قريش ، ولا يقع منها
ما يسوؤهم ، وأنهم سيقضون عمرتهم ، ويحلّقون ويقصرون ، إيذانا بالحلّ من العمرة
وإحرامها ..
والتحليق ، هو أن
يحلق بعضهم لبعض شعورهم.
والتقصير ، هو قصّ
الشعر .. ولو بضع شعرات منه.
وقوله تعالى : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ
مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) ـ أي أن الله
سبحانه وتعالى لم يقدّر للنبى والمسلمين دخول المسجد الحرام هذا العام ، لأمر
أراده ، وحكمة لا يعلمها إلا هو ، فصرف المسلمين عن دخول مكة هذا العام ، وجعل بين
صرفهم عنها ، ودخولهم إياها الذي وعدوا به ـ جعل بين هذا الوقت وذلك ، فتحا قريبا
، هو فتح خيبر ..
فكان للمسلمين من
ذلك فتحان : فتح قريب ، هو فتح خيبر ، وفتح يأتى بعده ، هو فتح مكة ..
قوله تعالى :
(هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي الذي جعل من دون ذلك فتحا قريبا ، هو الله سبحانه ،
الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، ليكون على يديه تبليغ هذا الدين ، الذي سيجعله
الله فوق كلّ دين .. وهذا وعد من الله سبحانه ، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد
الذي لن يخلف أبدا ..
قوله تعالى :
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ
فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).
بهذه الآية
الكريمة تختم سورة «الفتح».
وبهذا الفتح الذي
وعد الله المؤمنين تقوم دولة المسلمين ، ويأخذ مجتمعهم مكانه فى الحياة ، ويرى
الناس وجه الإسلام فى هذا المجتمع.
والصفة التي تغلب
على هذا المجتمع ، ويعرف بها فى الناس ، أنه مجتمع شديد الغلظة على الكفار ، الذين
يحادّون الله ورسوله ، فلا يكون بينه وبين الكافرين ولاء أو مودة يجار فيها على
دين الله ، أو ينتقص بها حق من حقوق المسلمين.
هذا حالهم مع
أعداء الله .. أما هم فيما بينهم فهم رحماء ، تفيض قلوبهم حفانا ورحمة ومودة ،
تجمعهم أخوة بارّة فى الله ، وفى دين الله ..
هذا ما تنطوى عليه
صدورهم ، وتفيض به مشاعرهم ، نحو أعداء الله ، وأوليائه ..
أما ما يراه الناس
من ظاهر أمرهم ، فهو اجتماعهم فى الصلاة ، وتولية وجوههم جميعا لله .. يركعون معا
، ويسجدون معا .. يريدون بذلك مرضاة الله ، ويبتغون فضله وإحسانه ..
فإذا لم يرهم
الرائي فى مقام الصلاة ، رأى منهم أثر هذه الصلاة ، وما يترك السجود على جباههم من
آثار ، هى سمة المسلم المصلّى ، وهى الشارة التي تشير إليه ، وإلى الدين الذي يدين
به ..
وهذا يعنى أن
الصلاة هى شعار المسلم ، وأن من لا يؤديها لا نظهر عليه سمة الإسلام ، ومن هنا
كانت الصلاة الركن الأول الذي يقوم عليه الإسلام بعد الإيمان بالله .. وفى الحديث
: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» .. وفى الحديث أيضا : «العهد بيننا وبينكم
الصلاة فمن تركها فقد كفر» .. يريد تركها عامدا منكرا.
وقوله تعالى : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي هذه الصفة هى صفة المسلمين التي وصفهم الله بها فى
التوراة ..
والإشارة : إما أن
تكون إلى جميع هذه الأوصاف ، وإما أن تكون إشارة إلى قوله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ) ..
وقوله تعالى : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ..
الشطء : أول ما
يبدو من النبات على ظاهر الأرض ، وشاطىء الشيء ، حافته .. أي ومثل المؤمنين الذين
مثّلهم الله سبحانه وتعالى به ، فى الإنجيل ، هو الزرع ، يبدأ بذرة هامدة فى الثرى
، فإذا أصابها الماء ، اهتز كيانها ، ودبّ دبيب الحياة فيها ، وأخذت بهذا الرصيد
القليل من الحياة التي سرت فيها ـ أخذت تحاول جاهدة أن تصافح النور ، وأن تلتمس
لها طريقا إليه ، من بين هذا الظلام المطبق عليها ، ثم سرعان ما يطلع لها لسان
تتحسس به الطريق إلى النور ، وتتذوق به نسمة الحياة ، وإذ شىء أخضر صغير ، لا يكاد
يرى ، يطل على الحياة فى استحياء ثم لا يلبث أن يؤازره آخر مثله ، ثم ثالث ورابع
.. وهذا هو الشط ، وجمعه شطآن ..
وشيئا فشيئا تنمو
هذه الشطآن ، وتعلو ، وبتخلّق لها ساق تقوم عليه ، وأوراق تكسو هذا الساق ، وفروع
وأغصان ، وأزهار وثمار ، حتى يكون من ذلك نخلة باسقة ، أو دوحة عظيمة!.
وهكذا المسلمون ،
بدءوا بذورا كهذه البذور التي طال حبسها عن الأرض ، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع
فغرسها فى الأرض ، وساق إليها الماء ،
وتعهدها بالرعاية
والري ، طالت ، وانداحت ، وأزهرت ، وأثمرت ، وملأت وجه الأرض المغبرّة ، حسنا ،
وجمالا ، وخيرا ..
وشبه المسلمون
بالزرع لأنهم كثير ، ولأن كل واحد منهم له ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة
التي يضمها الحقل ..
وقوله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) ـ هو إشارة إلى
هذا الزرع الطيب ، الذي يملأ العين سرورا ورضا ، وهو فى الوقت نفسه يملأ قلوب
الكافرين حسرة وحسدا ..
وقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) إشارة إلى أن وصف المؤمنين لا يتم إلا بالعمل الصالح وأن
الذين لهم المغفرة والأجر العظيم من الله ، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لا
المؤمنون على إطلاقهم .. وهذا هو السر فى قوله تعالى : (مِنْهُمْ) الذي يعزل الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، عن الذين آمنوا
ولم يعملوا الصالحات .. فهؤلاء غير أولئك ..
(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)
***
٤٩ ـ سورة الحجرات
نزولها : مدينة
عدد آياتها :
ثمانى عشرة آية ..
عدد كلماتها :
ثلاثمائة وأربعون كلمة.
عدد حروفها : ألف
وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا.
مناسبتها للسورة قبلها
كان صدّ المسلمين
عن البيت الحرام ، وقد جاء بهم النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة معتمرا ،
واعدا إياهم أن يدخلوا المسجد الحرام ، وأن يحلقوا ويقصروا ، وقد كان النبي رأى فى
منامه رؤيا تأوّلها هذا التأويل وأخبر أصحابه بها ـ كان هذا الصد داعية إلى إثارة
هياج فى نفوس المسلمين ، وإلى جريان كثير من اللغط على ألسنتهم ـ فجاءت سورة
الحجرات ، بعد أن رأوا من آيات الله مارأوا ، وبعد أن صدقت رؤيا الرسول الكريم ، ودخلوا
المسجد الحرام آمنين ومحلقين ـ جاءت تحمل إليهم هذا الأدب الإلهى الذي يؤدبهم الله
سبحانه وتعالى به ، ويقيمهم على طريقه ، مع النبي الكريم ، وفى الإيمان به إيمان
يقين ، لا يخالطه شىء من ريبة أو شك ، كما سنرى ذلك فيما جاء فى مطلع السورة.
بسم الله الرحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات (١ ـ ٥)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ
فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)
إِنَّ
الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
إِنَّ
الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ)
(٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) :
التقديم بين يدى
الله ورسوله ، هو السبق بقطع الأمر دونهما ، وبعيدا عن الحكم الذي يقرّره الله
سبحانه وتعالى لهم فى كتابه ، وسنة رسوله ..
وفى الآية الكريمة
عتاب للمؤمنين ، الذي لغطوا بما لغطوا به فى صلح الحديبية ، وهو فى الوقت نفسه
تأديب عام لهم ، وإقامتهم بالمكان الذي ينبغى أن يكونوا فيه من أمر الله ورسوله ..
فإذا قضى الله ورسوله أمرا ، لم يكن لمؤمن بالله ورسوله خيار فى هذا الأمر .. فإما
المتابعة فى ولاء ورضا وغبطة ، وإما حلّ لعقد الإيمان الذي عقدوه مع الله ورسوله
.. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ ، إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً).
فقوله تعالى : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ
وَرَسُولِهِ) أي لا يكن لكم أمر
تنفردون به دون
أمر الله ورسوله ، فلا تقطعوا أيها المؤمنون أمرا يقوم على خلاف ما أمر به الله ورسوله.
وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي استقيموا على تقوى الله ، بطاعته وطاعة رسوله ، وامتثال
أمره ، ومتابعة رسوله ..
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يسمع ما تقولون ، ويعلم ما لا تقولون مما تخفونه فى
صدوركم .. فيجازيكم بما كان منكم من حسن أو سوء ..
قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).
هو من تمام أدب
المؤمنين مع رسول الله ، الذي ينبغى أن يكون صوته أعلى الأصوات ، وكلمته رائدة
الكلمات وهاديتها .. ورفع الصوت بين يدى النبي ، فيه استخفاف ، وفيه تجرد من مشاعر
الهيبة والإكبار ، وجفاف من عواطف الحب والولاء .. فالكلمات التي تصدر فى مقام
الجلال والإكبار ، كلمات ضامرة ضاوية ، أمام ما يروعها من هيبة وجلال .. والكلمات
التي تخرج من أفواه المحبين كلمات مستحيية ضارعة بين يدى من يحبّون ..
والمسلمون فى حضرة
النبي الكريم ، يشهدون أروع آيات العظمة والجلال ، وحديثهم إليه ، إنما هو حديث
يفيض من قلوب ملكها الحب ، وخالط شغافها .. وإنه لا يجتمع مع هذا أن يرتفع صوت من
مؤمن فى حضرة الرسول ، فإن ارتفع فلن يكون إلا دون صوت النبي ..
وقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ).
المراد بالقول هنا
، ما يكون بين الأصدقاء والإخوان من معاتبات تنحلّ
فيها عقد ألسنتهم
، ويجهرون فيها بما يتحرجون من الجهر به فى غير خلواتهم مع من يكونون على شاكلتهم
، وفى مستوى مكانتهم بين الناس ..
فالجهر بمثل هذا
القول ، وإن لم يرتفع به الصوت فوق صوت النبي ، فيه دلالة على عدم الاحتشام
والحياء فى حضرة رسول الله ، الأمر الذي لا يليق أن يكون من مؤمن بالله ورسوله ،
ولا يلتقى مع التوقير لرسول الله ، الذي دعا الله سبحانه المؤمنين إليه فى قوله
سبحانه : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ..
وقوله تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تَشْعُرُونَ) ..
حبط الأعمال :
إبطالها ، وحرمان أصحابها الثمرة المرجوة منها ..
والسؤال هنا : كيف
تحبط أعمالهم بعمل يعملونه ولا يشعرون بالآثار المترتبة عليه؟ وهل يؤاخذ الإنسان
على ما يعمله عن غفلة وجهل؟.
والجواب على هذا ـ
والله أعلم ـ أن هذا تحذير من أن يكون من المؤمنين شىء من هذا المنهىّ عنه ،
مستقبلا ، بعد أن نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه .. فالمؤاخذة على ما نهوا عنه ،
إنما تبدأ من بعد تلقّيهم هذا النهى .. ولأن مثل رفع الصوت ، والجهر بالقول ، مما
قد يكون من بعض الناس طبيعة لازمة ، أو عادة متحكمة ، فقد جاء هذا التحذير ليتنبه
المؤمنون وهم بين يدى النبي ، وليحرسوا أنفسهم من أن ينزلقوا ، تحت حكم الطبيعة أو
العادة ، إلى هذا المنزلق الذي تضيع فيه أعمالهم الطيبة من غير أن يشعروا أنهم
يأتون منكرا ، أو يقصدون إساءة أدب فى حضرة الرسول!.
وهذا ، وإن كان من
غير قصد ، هو مزلق إلى ما يكون عن قصد ، ووعى ، بعد أن يصبح ذلك عادة مألوفة ..
قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ..
هو بيان لما لهذا
الأدب الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم بين يدى رسول الله ، من ثواب عظيم ، وأجر كبير
عند الله ..
وقوله تعالى : (يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ
اللهِ) أي يخفضونها حياء وإجلالا .. وفى التعبير عن خفض الصوت
بالغض الذي هو من شأن النظر ، إذ يقال غضّ فلان بصره ولا يقال غض صوته ـ فى هذا
التعبير إعجاز من إعجاز النظم القرآنى ، الذي تحمله كلمات الله متحدية الجنّ
والإنس جميعا .. ذلك أن خفض الصوت إنما يكون عن مشاعر الحياء ، التي من شأنها أن
تنكسر معها حدة البصر ، فلا يستطيع المرء أن يملأ عينيه ممن يهابه ، ويجلّه ،
ويوقره .. فهو إذا نظر غضّ بصره ، وإن هذا الغض من البصر يستولى على مخارج الصوت
أيضا ، فيحبس الصوت عن أن ينطلق إلى غاياته ، بل يكسر حدته ، كما كسرّ حدة النظر
..
ففى قوله تعالى : (يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) إشارة ضمنية إلى غض البصر حياء ، وأن سلطان الحياء هو
المتحكم فى هذا المقام. وهكذا يتسلط الغضّ على الأبصار ، والأفواه جميعا.
وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) إشارة إلى أن قلوب هؤلاء المؤمنين الذين يغضون أصواتهم عند
رسول الله قد أعدها الله سبحانه وتعالى وأرادها لتكون مستقرا ومستودعا للتقوى ،
وهذا هو السر فى تعدية الفعل «امتحن» باللام ، فى قوله تعالى (لِلتَّقْوى) مع أن الأصل فى فعل الامتحان أن يتعدى بالباء ، فيقال :
«امتحنه بكذا ، لا لكذا».
وفى هذا ما يشير
إلى أن تلك القلوب التي يغضّ أصحابها أبصارهم عند رسول الله ، قد امتحنت فعلا
بالتقوى ، وقد نجحت فى هذا الامتحان ، فأصبحت قابلة للتقوى ، متجاوبة معها .. فقد
يمتحن الإنسان بالشيء ، ولا يقبله ، ولا يتجاوب معه .. أما إذا امتحن للشىء ،
واختير له ، فإن ذلك يعنى أنه أهل لهذا الامتحان ، وخاصة إذا كان المتخيّر له ، هو
الحكيم العليم ، رب العالمين ..
ولهذا ، فإن قوله
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) هو خبر لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) بمعنى أن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله هم من أهل
التقوى .. فهذا هو حكمهم عند الله ..
وقوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) خبر ثان لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) بمعنى أنهم أهل التقوى ، وأنهم مجزيّون من الله سبحانه
وتعالى بالمغفرة والأجر العظيم ..
وفى الآيات
الكريمة ما يكشف عن جانب عظيم من أخلاقيات الإسلام ، وآدابه العالية ، فيما يعرف
اليوم بالدبلوماسية السياسية ، التي تفرض على الناس مراسم من الأدب فى حضرة الملوك
، والرؤساء ، والقادة ، والزعماء ، وأصحاب السيادة والسلطان ..
ولكن شتان بين أدب
الإسلام ، الذي ينبع من مشاعر صادقة ، ويفيض من قلوب عامرة بالحب ، خفّاقة بالولاء
، وبين هذا الأدب التمثيلى المصطنع ، الذي لا يتجاوز الكلمات التي ترددها الألسنة
، والحركات التي تصطنعها الأجسام!! إنه أدب أشبه بأدب القرود بين يدى مؤدبها!.
وألا فلتخضع
الرقاب ، وتنخفض الجباه أمام هذا الأدب الإسلامى ، ولتخرس الألسنة التي ترمى
بالتهم فى وجه هذا الدين الذي جمع الفضائل كلها ، والذي يقود ركب الحضارة فى أعلى
مستوياتها ، وأروع مظاهرها .. إنه ليس دين بداوة جافية غليظة ، كما يتخرص
المتخرصون ، بل إنه دين المدنية الخالصة من شوائب الزيف ، وطلاء الخداع!!.
قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ـ هو التفات إلى
النبي الكريم بهذا العذر الذي يقدمه الله سبحانه وتعالى إلى الرسول العظيم ، عن
هذا الجفاء ، وتلك الغلظة ، مما يغلب على أهل البادية ، الذين يجيئون إلى النبي ،
فينادونه من وراء الحجرات التي كان يتخذها النبىّ سكنا له مع أهله .. فهؤلاء
الأعراب لم يتأدبوا بأدب الإسلام ، بعد ، ولم تظهر عليهم آثاره ، وإنهم لجديرون
بأن يقابلوا من النبي بالتسامح ، وأن يعذروا لهذا الجفاء البادي منهم ..
قوله تعالى :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) هو إلفات إلى هؤلاء الأعراب ، وتوجيه حكيم رفيق بهم ، إلى
هذا الأدب الذي لم يألفوه بينهم ..
وفى قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ تطمين لهؤلاء
الأعراب الذين قد يقع منهم هذا الفعل ، وأنهم فى سعة من رحمة الله ومغفرته ، إذا
هم أخذوا بأدب القرآن ، ونزعوا عما غلبتهم عليه طبيعتهم .. كما أنه دعوة إلى النبي
الكريم ، أن يغفر ويرحم ، فقد غفر الله ورحم! ..
____________________________________
الآيات (١٣ ـ ٦)
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)
وَاعْلَمُوا
أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ
لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا
خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ
اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً
وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
(١٣)
____________________________________
التفسير :
فى هذه الآية
استكمال للأدب الذي تحكم به الروابط التي ينبغى أن تقوم بين أفراد المجتمع
الإسلامى ، بعد أن بيّنت الآيات السابقة الأدب الذي ينبغى أن يتأدب به المسلمون فى
حضرة النبي الكريم ..
وقوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ..
النبأ : الخبر ذو
الشأن ، وأصله من النبوّ وهو الظهور ، والخروج عن المألوف ..
قيل إن هذه الآية
نزلت فى شأن الوليد بن عقبة ، وقد بعثه النبىّ إلى بنى المصطلق ، ليجمع مال الصدقة
منهم .. فلما أشرف عليهم .. وكانوا قد علموا بمقدم مبعوث رسول الله إليهم خرجوا
للقائه ، ظنّ أنّهم إنما يريدون به شرّا ، فقفل راجعا ، وأخبر النبىّ والمسلمين أن
القوم قد منعوا الزكاة ، وأنهم همّوا بقتله ، فأعدّ النبىّ العدة لقتالهم ، وقبل
أن يسير النبىّ بالمسلمين إليهم جاءه وفدهم يكذّب ما كان من مقولة الوليد بن عقبة
فيهم ، وأنهم على الإسلام ، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة .. فنزلت هذه الآية مصدقة
لهم ..
وأيّا كان سبب
النزول ، فإن الآية عامة مطلقة ، تحذّر المسلمين من الأنباء الكاذبة التي يرجف بها
المرجفون ، ليشيعوا فى المسلمين قالة السوء ، وليوغروا بها صدورهم على أهل الإيمان
والسلامة فيهم ، وأن هذا من شأنه لو وقع موقع
القبول والتسليم
من المؤمنين ، من غير تبصر أو تمحيص ، لأفسد عليهم أمرهم ، ولنزع الثقة والطمأنينة
من بينهم ..
فما أكثر ما كان
يلقى به المنافقون ، واليهود ، فى محيط المسلمين من أكاذيب وأراجيف وشائعات ،
الأمر الذي يقضى على المسلمين بأن يمحصوا هذه الأخبار ، وألّا يأخذوها مأخذ القبول
والتسليم دون نظر فاخص لها ..
وفى قوله تعالى : (فاسِقٌ) .. إشارة إلى أن المقولة إنما ينظر فيها إلى صاحبها الذي
وردت منه ، فإن كان من أهل الإيمان والثقة استمع لقوله ، وأخذ به ، وإن كان ممن
يتهّم ، استمع إليه ووضع قوله موضع التمحيص ، فلا يحكم على قوله بالردّ ابتداء ،
فقد يكون فى قوله صدق ، أو شىء من الصدق ينتفع به المسلمون ..
وقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) هو بيان .. للعلة التي من أجلها كان الأمر بالتبين والتثبت
لما يجىء للمسلمين من أنباء يحملها قوم لم يعرفوا فى المسلمين بالصدق ، ووثاقة
الإيمان ..
وقوله تعالى : (بِجَهالَةٍ) إلفات للمسلمين إلى ألّا يقيموا أمرا من أمورهم على جهل ،
وعلى عدم رؤية واضحة لهذا الأمر ، فذلك من شأنه إن أصاب مرة أن يخطىء مرات كثيرة.
وقوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ
نادِمِينَ) أي أن الأخذ بالنبإ الوارد من فاسق قبل التثبت منه ، يعود
على المسلمين بالحسرة والندم ، لأنهم وضعوا الأمر فى غير موضعه ، ورتّبوا على هذا
القول الكاذب أمورا لا يمكن إصلاحها بعد أن وقع عليها ما وقع.
قوله تعالى :
(وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ
وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ).
هو إلفات إلى
المؤمنين بأنهم مع الرسول ، فى حراسة من السماء ، وأنه قائم فيهم ، يكشف ما يقع
على طريقهم من خيانات الخائنين ، وأراجيف المرجفين .. ولكن الأمر سيختلف بعد وفاة
النبىّ ، ويكون عليهم حينئذ أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم ، وأن يتثبتوا من الأخبار
التي تحمل إليهم ..
وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ
اللهِ) توجيه للمسلمين ألّا يقدّموا بين يدى الله ورسوله ، وأن
ينتظروا بالأمر غير الجلّى الذي بين أيديهم ، حتى يبينه الرسول لهم ، فإن من الغبن
والضلال معا ، أن يتخبط المرء فى الظلام وهناك مصباح سماوىّ مضىء ، يكشف له كل
خافية ، ويجلى له كل خفىّ ..
وقوله تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) .. بيان لما بين النبىّ وبين المسلمين من فرق بعيد ، فى
حكمه على الأمور ، وحكمهم عليها .. فالنبى ، يرى بنور الله ، ويهتدى بهدى الله ،
فإذا قضى فى الأمر كان قضاؤه الحق ، وحكمه العدل والخير والإحسان .. أما ما يقضى
به المسلمون فى أمورهم ، فهو قضاء قائم على مستوى الفهم البشرى ، الذي قد يصيب وقد
يخطىء ..
ومن هنا كان على
المؤمنين ـ ما دام الرسول فيهم ـ ألا يقطعوا أمرا ذا بال دونه ، وألا يخرجوا عن
أمر يدعوهم إليه ، فإنهم إن فعلوا ، وأكرهوا الرسول على أمر لم يكن موضع رضا منه ـ
لم يجئهم من هذا الأمر إلا ما فيه إعنات لهم ، وإلّا أصابهم منه ما لا يحبون ..
والمثل لهذا ما
يذكره المسلمون من يوم أحد ، وقد أكرهوا النبىّ على الخروج من المدينة ، للقاء
المشركين ، وكان من رأيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يتحصّن بها ، فإن دخلها
عليه المشركون قاتلهم المسلمون ، وقاتل معهم الصبيان والنساء ، وكانت الدور حصونا
لهم .. وقد خرج النبىّ بالمسلمين إلى أحد ، على غير رضا ، وكان الذي حدث!
ومثل آخر ، يذكره
المسلمون من يوم الحديبية ، فلو أن الرسول استجاب لما كان يراه المسلمون يومئذ من
قتال المشركين ، حتى يتمكنوا من دخول مكة ، والطواف بالمسجد الحرام ـ لو أن الرسول
فعل هذا وكان قتال بينهم وبين المشركين ، لسالت دماء غزيرة ، ولذهبت نفوس كريمة من
المؤمنين وربما كانت الدائرة عليهم .. وهاهم أولاء يرون أن الطريق إلى البيت
الحرام قد صار مفتوحا لهم من غير قتال ، وأنهم قد غنموا خيبر أيضا ، إلى جانب هذا
الفتح الذي لم ترق فيه دماء ، ولم تذهب فيه أرواح!
قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
أي ولكنكم أيها
المسلمون لم تخالفوا رسول الله ، ولم تخرجوا عن أمره ، إذ قد حبّب الله سبحانه
وتعالى إليكم الإيمان وزيّنه فى قلوبكم ، وبهذا الحبّ للإيمان ، والولاء لجماله
وجلاله فى نفوسكم ، كنتم على طاعة وولاء لرسول الله ، لأن ذلك من ثمرات الإيمان
الوثيق ، الذي تعلقت به القلوب ، وانتعشت به النفوس ، وذلك الإيمان الذي غرسه الله
فى قلوبكم ، وحببه إليكم ، وزينه لكم ـ قد كرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان ..
إذ لا يجتمع إيمان وكفر ، ولا يلتقى إيمان وفسوق عن أمر الله ورسوله ، وعصيان لله
ورسوله ..
وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) .. إشارة إلى هؤلاء المؤمنين
الذين حبب الله
إليهم الإيمان ، وزينه فى قلوبهم ، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان .. فهؤلاء
المؤمنون هم الراشدون ، الذين قام أمرهم على الرشد والخير والفلاح ..
وفى العدول عن
الخطاب إلى ضمير الغيبة عند الإشارة إلى هؤلاء المؤمنين ـ فى هذا إلفات إليهم ،
وإلى علوّ مقامهم ، وأنهم بحيث ترنو الأبصار إليهم ، وتمتد مطارح النظر نحوهم ..
حتى لكأنهم ـ وهم فى مقام الحضور أجسادا ـ هم بعيدون منزلة ومقاما ..
قوله تعالى :
(فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ـ أي أن هذا الذي
سكبه الله سبحانه وتعالى فى قلوب المؤمنين من حب الإيمان ، وتزيينه فى قلوبهم ،
ومن كراهية الكفر ، وما يجر وراءه من فسوق وعصيان ـ هو فضل من الله ونعمة أنعم بها
على عباده المؤمنين .. (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) ينزل فضله ، ويوفد روافد نعمه حيث قضت حكمته المؤاخية
لعلمه ، الذي لا تخفى عليه خافية.
قوله تعالى :
(وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
كانت الآيات
السابقة دستورا فى الأدب للمسلمين مع النبي ، ثم دستورا بين المسلمين وبين أعدائهم
الذين يدسّون عليهم الأخبار الكاذبة ..
وفى هذه الآية وما
بعدها دستور من الأخلاق ، والأدب والسياسة ، فيما بين المسلمين أنفسهم ..
فالمسلمون ، وقد
فرغوا أو كادوا يفرغون من مواجهة العدو الذي كان يحيط بهم من المشركين ، واليهود ،
والمنافقين ـ فإن ذلك من شأنه أن يتيح فرصة لطبيعة العدوان فى النفس البشرية ،
فإذا لم يجد المسلمون من يقاتلون من أعدائهم ، لم يسلم الأمر من أن يقع الشر بينهم
هم أنفسهم ، ويقاتل بعضهم بعضا .. فتلك هى الطبيعة الإنسانية ، والتي يمثلها قول
الشاعر الجاهلى ، وهو يتحدث عن الخيل التي أعدّها قومه للغارات :
وكنّ إذا أغرن
على جناب
|
|
وأعوزهنّ نهب
حيث كانا
|
نزلن من الرّباب
على حلول
|
|
وضبّة إنه من
حان حانا
|
وأحيانا على بكر
أخينا
|
|
إذا ما لم نجد
إلا أخانا!!
|
ومن هنا نبه
القرآن الكريم إلى حماية المسلمين من هذا الشر الذي قد يرد عليهم من ذات أنفسهم ،
ولم ينبه إلى عدم وقوع الشر والقتال أصلا ، لأن ذلك مما لا تحتمله النفوس احتمالا
لازما مطلقا ..
فالقرآن يسلّم ـ وإن
كان ذلك على غير ما لا يرضاه للمؤمنين ـ يسلّم بالأمر الواقع فى الحياة ، ويفترض
وقوع القتال بين المؤمنين ، ولكنه يدعو إلى إطفاء وقدة هذا الشر ، ويدعو المسلمين
جميعا إلى المشاركة فى إخماده ، قبل أن يتسع ، ويستغلظ.
فيقول سبحانه
وتعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) .. فهاتان طائفتان من المؤمنين ، قد وقع بينهما قتال ، وهم
مع هذا القتال مؤمنون ، لم يخرجهم القتال عن الإيمان ..
إنهم مؤمنون ، وإن
كانوا على هذا المكروه .. وواجب المؤمنين حينئذ ،
هو أن يعملوا على
إصلاح ذات البين بين الطائفتين ، وأن ينزلوهما على ما يقضى به كتاب الله وسنة رسوله
..
وقوله تعالى : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى
الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) .. يشير إلى الخطوة الثانية بعد دعوة الطائفتين إلى الصلح
، وإلى النزول على حكم الله ورسوله الذي يقضى به المسلمون بينهما ـ والخطوة الثانية
هى أنه إذا لم تقبل إحدى الطائفتين النزول على حكم الله ورسوله ، كانت باغية
معتدية ، وكان على المؤمنين أن ينصروا الطائفة الأخرى ، المبغىّ عليها ..
وقوله تعالى : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .. هو بيان للخطوة الثالثة ، بعد أن ينتصر المؤمنون
للطائفة المبغىّ عليها ، وبعد أن تنزل الطائفة المعتدية على حكم الله ورسوله ..
عندئذ لا يترك الأمر هكذا ، باستسلام الفئة الباغية تحت حكم السيف .. فإن ذلك من
شأنه أن يترك آثارا من الضغينة والبغضاء ، لا ينحسم معها شر أبدا ، وإن خمد إلى
حين ..
ومن هنا كانت
الدعوة إلى المصالحة بين الفريقين ، وجمعهما على الإخاء والمودة ، ونزع ما فى
النفوس من سخائم ، وغسل ما نجم عن هذا القتال من آثار ، ومداواة ما كان منها من
جراح ..
وفى قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .. إشارة إلى ما يكون قد وقع فى نفوس المسلمين الذين
قاتلوا الفئة الباغية ، من بغضة لها ، وكراهية لموقفها المتعنت .. الأمر الذي قد
يحمل المسلمين على أن يجوروا عليها ، وينزلوها منزلة العقاب والانتقام .. إن ذلك
من شأنه ـ وهو فى ذاته خارج على سنن الحق والعدل ـ أن يؤجج نار الحقد ، والعداوة
ولا يطفىء نار
الفتنة التي قام المسلمون لإطفائها .. فوجب على المسلمين أن يأخذوا الفئة الباغية
بالعدل ، وأن يقسطوا أي يعدلوا فى حكمهم عليها «إن الله يحب المقسطين» فى كل حال ،
مع الأولياء والأعداء على السواء .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٨ : المائدة)
قوله تعالى :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ..
هو تعقيب على
الآية السابقة ، وعلى ما دعت إليه المؤمنين من حسم الخلاف الذي يقع بين جماعاتهم ،
ثم هو إلفات إلى أن الأخوّة القائمة بين المؤمنين لا تتغير صفتها ، ولا تنقطع
آثارها بتلك العوارض التي تعرض لهم فى حياتهم ، فإنما هى موجات من ريح عابرة ، لا
تلبث أن تفتر ، ثم يعود إلى البحر سكونه ، وصفاؤه ، وجلاله ..
ومن جهة أخرى ،
فإن الفئة الباغية ، لا يزال لها مكانها فى المؤمنين ، ولا تزال لها أخوّتها فيهم
، وإذن فلا يجار عليهم لأنهم جاروا ، ولا يعتدى عليهم ، لأنهم اعتدوا ، وإنما يقبل
منهم قبولهم لما قضى به المؤمنون عليهم ، ثم إن لهم بعد هذا حقهم كاملا لا ينقص
منه شىء .. فالمعتدون والمعتدى عليهم إخوان للمؤمنين جميعا ..
قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا
تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ..
إن من أفتك الآفات
التي تغتال مشاعر الإخاء والمودة بين المجتمعات ، استخفاف جماعة بجماعة ، والنظر
إليها نظرا ساخرا ، فإن ذلك من شأنه أن يغرى هؤلاء المستخفّين المستهزئين بمن
استخفوا بهم ، ونظروا إليهم باستصغار واستهزاء ، ثم هو من جهة أخرى يحمل الجماعة
المستخفّ بها ، المستصغر لشأنها ـ على أن تدافع عن نفسها ، وأن تردّ هذه السخرية ،
وهذا الاستهزاء بالسخرية والاستهزاء ، ممن سخروا منهم ، وهزءوا بهم .. وهذا أول
قدح لشرارة الحرب .. فإن الحرب أولها الكلام ، كما يقولون ..
هذا من جهة ، ومن
جهة أخرى ، فإن هؤلاء المستهزئين الساخرين قد يكونون أقل عند الله شأنا ، من هؤلاء
الذين اتخذوهم غرضا للهزء والسخرية ..
فلا ينبغى
الانخداع بالظاهر ، ووزن الأمور عليها .. فكيف يكون الحال لو أن هؤلاء المستهزأ
بهم كانوا عند الله أفضل وأكرم من هؤلاء المستهزئين؟ ألا يخافون أن ينتقم منهم
الله لأوليائه؟ ألا يستحون أن يستخفّوا بمن هم أثقل منهم ميزانا ، وأكرم منهم
معدنا؟ إن هذا أمر لو لم يؤثمه الدين ، لأنكره العقل ، ورفضته المروءة ، وجفاه
المنطق ، ولفظه العدل والإنصاف.
وفى جمع الرجال
والنساء ، إشارة إلى أن هذه السخرية إنما تكون على غايتها من الشناعة والسوء ، حين
تكون فى صورة جماعية ، إذ أنها تشد أعدادا كثيرة من الناس إلى هذا الشر ، وتوقعهم
فى هذا البلاء.
وقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا
تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ
لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ..
اللّمز هو الغمز
بالمعايب ، والتلويح بها ..
والتنابز بالألقاب
: الترامي بها ..
ومن الآفات التي
تهدد كيان المجتمع ، وتقوض بنيانه ، شيوع الاستخفاف بأنفسهم ، وعدم التحرج من ذكر
بعضهم بعضا بالمقابح والمساويء ، فهذا إنما يكون من إفرازات الجماعات المتحلّلة من
القيم الخلقية ، التي تتبادل المنكرات كما تتبادل السلع الرخيصة فى البيع والشراء
..
ذلك أن الذي يعيب
الناس ، ويرميهم بما يسوء من الألقاب ، لا يسوؤه كثيرا أن يعيبه الناس ، وأن
يرجموه بكل سوء .. وهذا ـ والله أعلم ـ هو ما قصد إليه قوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) بأيقاع الفعل عليهم ، فكأنهم إذ يلمزون غيرهم يلمزون
أنفسهم ضمنا ..
وقوله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ
الْإِيمانِ) أي بئس الاسم الذي يطلق عليكم بعد أن ينزع عنكم الإيمان
الذي خرجتم منه بما كان منكم من لمز لأنفسكم وتنابز بالألقاب بينكم .. فقد كنتم
مؤمنين ، ثم ها أنتم أولاء أصبحتم فاسقين ، أي خارجين عن الإيمان ، بهذا اللغو
الساقط من الكلام .. فبئس هذا الاسم الذي سمّيتم به فاسقين ، بعد أن كنتم مؤمنين
..
قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) ..
أي ومن لم يرجع عن
هذا الترامي بكلمات السوء ، ويستقيم على ما يدعوه إليه دينه ومروءته ، من القول
المعروف ، وتجنب اللغو والسّقط من الكلام ـ ومن لم يرجع عن هذا ، ثم يرضى لنفسه أن
يقيم على الفسق ويهجر الإيمان ، فهو من الظالمين وللظالمين عذاب أليم ، كما يقول
سبحانه : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ
فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) .. (٣١ : الإنسان)
قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ
اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) ..
الظنّ : ما يقع فى
نفس الإنسان من تصورات للأمر ، من واردات خيالاته ، وأوهامه ، دون أن يكون بين
يديه دليل ظاهر ، أو حجة قاطعة ..
والظنون التي ترد
على الناس كثيرة لا تحصى ، إنها خواطر تتردد فى صدور الناس ، ويكون لها دور كبير
فى تصرفاتهم ..
ولهذا جاء النهى
باجتناب كثير من الظن ، لا كلّ الظن ، وهذا يعنى ألا يأخذ الإنسان بكل ما يقع له
من ظنون ، بل يجب أن يكون حذرا فى مواجهة كل ظن ، وعليه أن يمحصه كما يمحص النبأ
الذي يرد عليه من فاسق .. فإن مورد الظنون متّهم ، لأنه مورد يقوم عليه هوى النفس
، ووساوس الشيطان .. وفى الحديث : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا
تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله
إخوانا ..» وفى المأثور : «الظنّ أكذب الحديث» : أي أن الأحاديث الواردة من موارد
الظنون ، هى أحاديث يغلب عليها الكذب أكثر من أي أحاديث أخرى ..
وفى قوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ـ إشارة إلى أن
بعض الظن ، هو الذي يقع تحت حكم المنهي عنه ، لأنه إثم ، إذ كان قائما على باطل ،
وفى الحديث : «إذا حسدت فاستغفر ، وإذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيرت فأمض» ..
وقوله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تتبعوا مساوئ بعضكم ، ولا تكشفوا عما ستره الله من
عيوبكم ..
وقوله تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي ولا يتحدث بعضكم عن بعض بمكروه فى غيبته ..
وقوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) ..
هو تشنيع على
الغيبة ، وازدراء وتنديد بأهلها ، إنهم أسوأ من أخس الحيوانات موقفا ، وأنزلهم منزلة
.. إنهم يأكلون لحم إخوانهم ، والحيوانات تعاف أن يأكل الجنس لحم جنسه .. وليس هذا
وحسب ، بل إنهم ليأكلون هذا اللحم ميتا ، متعفنا ، وكثير من الحيوانات ـ كالأسود
مثلا ـ تعاف أكل الميتة ، ولو ماتت جوعا ..!!
فهذا مثل ضربه
الله سبحانه وتعالى للمغتاب .. فإنه إذ يغتاب شخصا ما ، فإنما ينهش عرضه ، وهو
غائب دون أن يملك صاحبه أن يدفع هذه السهام التي تفرى جلده ، وتنفذ إلى عظمه ..
تماما كشأنه لو كان ميتا ، ثم جاء هذا المغتاب إلى جسده ، وأعمل فيه أسنانه ،
وأكله كما تأكل الذئاب جريحها .. إنه لا يملك من أمره شيئا ..
وقوله تعالى : (فَكَرِهْتُمُوهُ) .. هو تعقيب على هذا الجواب المحذوف الذي تنطق به الحال من
قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)؟ والجواب على هذا ، جواب واحد ، لا خلاف عليه ، وهو : «لا»
.. فكان التعقيب على هذا الجواب : أما هذا (فَكَرِهْتُمُوهُ) .. وأما شبيهه ومثيله فما زال طعمه حلوا فى أفواهكم ،
فاكرهوه كما كرهتم مثيله طبيعة (وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) يقبل توبتكم إن أنتم نزعتم عن هذه المنكرات واستقمتم على
طريق الإيمان ..
وفى الحديث : «يا
معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه .. لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبّعوا
عوراتهم ، فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه فى بيته
..»
قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ)
هو تعقيب عام على
هذه الأحكام وتلك الآداب ، التي كانت خطابا للذين آمنوا ، ليرتلوها ، ويأخذوا
أنفسهم بها .. وليس هذا فحسب ، بل إن عليهم أن يراعوا هذه الأحكام وتلك الآداب مع
غير المؤمنين .. مع الناس جميعا ، من كل أمة ، ومن كل دين .. إنها أخلاق إنسانية ،
يجب أن تكون طبعا وجبلّة فى المؤمن ، يعيش بها فى الحياة كلها ، ومع الناس جميعا ،
فلا تكون ثوابا بلبسه مع المؤمنين ، حتى إذا كان مع غير المؤمنين نزعه .. فإنه بهذا
إنما ينزع كمالا خلعه الله عليه ، ويتعرّى من جلال كساه الله إياه ..
ولهذا جاء الخطاب
هنا للناس جميعا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) والمستمع لهذا الخطاب ، والعامل به ، هم المؤمنون ..
ثم أعقب هذا
الخطاب ، تقرير هذه الحقيقة التي ينبغى أن يعيها المؤمنون : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثى) .. فأنتم أيها الناس ـ مؤمنين وغير مؤمنين ـ إخوة فى
الإنسانية ، إذ كنتم من طينة واحدة ، ومن جرثومة واحدة : «كلكم لآدم وآدم من تراب»
وأنه إذا كان للمؤمنين منزلة عند الله ، وفضل على غير المؤمنين ، فذلك رزق من رزق
الله ، وإن من الخير للمؤمنين أن ينفقوا من هذا الخير على الإنسانية كلها ، وأن
يكونوا الوجه الكريم الطيب ، الرحيم ، فيها ..
وقوله تعالى :
(وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا).
الجعل ، كما قلنا
فى أكثر من موضع ، هو إضافة جديدة تدخل على أصل الشيء ، فهو من متعلقات الموجودات
، وليس له هو وجود ذاتى ..
فتوزّع الناس إلى
شعوب وقبائل ، ليس أمرا ذاتيا ، تتغير به حقيقة الإنسانية فى الناس .. إنهم مهما
اختلفوا شعوبا وأوطانا ، فإنهم إخوة قرابة ونسبا ، وقوله تعالى : (لِتَعارَفُوا) تعليل لهذا التقسيم الذي وقع فى محيط الناس ، فكانوا شعوبا
وقبائل ، وذلك ليتعارفوا ، وليكون لهم فى مجتمع الشعب أو القبيلة ، تماسك وترابط ،
لأنهم فى هذا المحيط الضيق ـ نسبيّا ـ أقدر على أن يتعارفوا ، ويتآخوا ، الأمر
الذي لا يقع ـ إن وقع ـ إلا باهتا ، لا يكاد يحسّ ، لو أن الإنسان كان فردا فى
الإنسانية كلها ..
فلما جعل الله
سبحانه وتعالى لنا من أنفسنا أزواجا نسكن إليها ، وأولادا تقرّ بهم أعيننا ، وتصبّ
فيهم روافد عواطفنا ـ جعل الله لنا المجتمعات التي ننتمى إليها ، والأمم التي
نرتبط بالحياة معها ..
وكما أن الأسرة لا
تعزلنا عن أمتنا ، ولا تقطعنا عن مجتمعنا ، كذلك ينبغى ألا تعزلنا أمتنا عن الأمم
، ولا يقطعنا مجتمعنا عن المجتمعات الأخرى ..
فالاختلاف الواقع
بين الناس ، وتمايزهم شعوبا وأمما ، هو فى الواقع سبب تعارفهم ، وداعية إلى قيام
هذه الوحدات الحية فى كيان المجتمع الإنسانى ، الممثلة فى الشعوب والأمم .. فهذه
الوحدات هى التي غذّت مشاعر العصبية للقومية ، ووثقت من روابط الجماعة التي تضمها
وحدة ، من وطن ، أو لغة ، أو دين ، فتعاونت ، وترابطت ، وصارت أشبه بالكيان
الواحد.
وقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أَتْقاكُمْ) هو استكمال لوجه القضية
التي عرضها القرآن
الكريم فى قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) ـ فقد كان من
داعية هذا الانقسام بين الجماعات الإنسانية ، وانحياز كل جماعة منها إلى موطن خاص
بها ، ولسان تتخاطب به ، ودين تدين به ، وحياة اجتماعية وسياسية تعيش فيها ـ كان
من داعية هذا أن تمايزت الجماعات ، وتفاوتت حظوظها فى الحياة. وكان من هذا تعالى
بعض الشعوب على بعض ، وتفاخرها بما جمعت بين يديها من أسباب القوة والسلطان ـ ولقد
جاء قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ليصحح هذه المفاهيم الخاطئة ، التي دخلت على الناس من
مظاهر التفاوت المادي والعقلي بين جماعاتهم ، وليقيم المفهوم الصحيح الذي هو ميزان
التفاضل بين الناس ، إن كان ثمّة تفاضل، وهو التقوى ، فمن كان لله أتقى ، كان عند
الله ـ وينبغى أن يكون كذلك عند الناس ـ أفضل وأكرم ، ففى مجال التقوى ينبغى أن
يتنافس المنافسون ، وعلى ميزان التقوى يجب أن تقوم منازلهم ، وتتحدد مراتبهم ..
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ـ إشارة إلى أن
التقوى ـ ومحلها القلوب ـ أمر قد يخفى على الناس ، فلا يعرفون من التقىّ ، ولا
مقداره من التقوى .. وإذ كان ذلك شأن الناس ، فإن الله سبحانه وتعالى : (عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يعلم ما تخفى الضمائر ، وما تسرّ الصدور .. وفى هذا إشارة
أيضا إلى أن السخرية بالناس ولمزهم وعيبهم ، وسوء الظن بهم ـ قد يكون عن تقدير
خاطئ وحساب مغلوط ، قائم على حكم الظاهر ، على حين تكون القلوب عامرة بالتقوى ،
مزهرة بالخير .. ولو اطلع هؤلاء اللامزون المتنابزون بالألقاب ، على قلوب الناس ،
لتغيّر رأيهم فيهم .. وإذن فيجب ألا يأخذ الناس بحكم الظاهر ، وألا يحكموا على
الإنسان من ظاهره وحسب .. وهذا ما يشير إليه
قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى
أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ
خَيْراً مِنْهُنَّ) (١١ : الحجرات)
____________________________________
الآيات (١٨ ـ ١٤)
(قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ
يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
(١٨)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
الأعراب ، هم سكان
البادية ، الذين يعيشون فى مضارب الخيام
ويشتغلون بالرعي ،
ويتتبعون مواقع الماء والكلأ .. وقد طبعتهم هذه الحياة المتبدّية ، على الجفاء
والغلظة ، ومن هنا لم يجد الإسلام طريقه إليهم إلا وسط هذه الأحراش النابتة فى
صدورهم ، من النّفار والوحشة .. وفى هذا يقول الله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) (٩٧ : التوبة) ..
وفى المأثور : «من بدا جفا» ..
وقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ) .. هو تصحيح لما يفهمه الأعراب من الإيمان ، ومن حقائقه
التي ضمّ عليها ، فهو ليس كلمة تقال ، وإنما هو عقيدة ، وعمل يقوم فى ظل هذه
العقيدة وهدبها .. فقول الأعراب «آمنا» بمجرد تلفظهم بشهادة «أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله» هو قول غير صحيح .. إن هذا إسلام ، لا إيمان .. وهم بالتلفظ
بالشهادة ، وإقرارهم بالإسلام ، إنما يدخلون فى المسلمين ، وتجرى عليهم أحكامهم ،
وتعصم بهذا دماؤهم ، وأموالهم ، كما فى الحديث الشريف : «أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله ، فإن قالوها عصموا منّى دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على
الله» ..
فقوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) هو ردّ على قول الأعراب آمنا ..
وقوله تعالى : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) هو بيان للقول الحق الذي يقال فى هذا المقام .. فهم مسلمون
، غير مؤمنين ..
وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ) هو بيان للعلة التي من أجلها لم يكن الأعراب مؤمنين ، بل
كانوا مجرد مسلمين .. لأن الإيمان لم يدخل فى قلوبهم بعد ، وأنه ما زال مجرد كلمة
تجرى على ألسنتهم ..
وقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) لا يلتكم : أي لا ينقصكم ، ولا يبخسكم حقكم ..
وفى هذا دعوة إلى
الأعراب أن ينتقلوا من الإسلام إلى الإيمان ، وأن يجعلوا هذه الكلمات التي دخلوا
بها فى الإسلام غرسا طيبا يغرسونه فى قلوبهم ، ومشعلا هاديا يقودهم إلى طريق الخير
والإحسان ، آخذين بما يأمرهم به الله ورسوله ، فإن هم فعلوا كانوا فى المؤمنين حقا
، وكان لهم كل ما للمؤمنين عند الله من رحمة ورضوان .. وإن صفة «الأعراب» التي
وصفوا بها ، لا أثر لها فى أعمالهم ، وإن كان لها أثرها فى تأبّيهم على الإيمان ،
وفتور خطوهم إليه ، وتأخرهم عن اللحاق بركب المؤمنين .. ومع هذا فإنهم فى أي وقت
يدخلون فيه إلى الإيمان دخولا صحيحا ، ويستقيمون على أوامر الله ونواهيه ـ يلحقون
فورا بالمؤمنين ، ويجزون بأعمالهم جزاء من سبقوهم إلى الإيمان .. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز لهم عن هذا الجفاء الذي كان بينهم وبين الإيمان ..
قوله تعالى :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ).
هذا هو الإيمان
الذي فات الأعراب أن يحصّلوه ، وتلك حقيقة المؤمنين التي لم يحققها الأعراب بعد
بإسلامهم ..
فالمؤمنون ، هم
الذين آمنوا بالله ورسوله ؛ فنزل هذا الإيمان فى قلوبهم منزلة اليقين ، لا يزحزحهم
عنه أي عارض من عوارض الحياة ، ولا يغيّر وجهه فى قلوبهم ما يلقاهم على طريق
الحياة من بأساء وضرّاء ، ثقة منهم بالله ، وركونا إليه ، ورضاء بقضائه ، وصبرا
لحكمه .. (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ
ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) .. هذا هو الإيمان فى صميمه .. أمّا الإيمان الذي يهتزّ
كيانه فى قلب الإنسان لأى عارض ، ويتضاءل شخصه عند أي بلاء ، فهو إيمان غير خالص ،
بل هو مشوب بآفات كثيرة من الشك ، وسوء الفهم ، فإذا وضع على محك التجربة
والامتحان ، ظهر ما فيه من ضعف ، فلم يحتمل صدمة التجربة ، ولم يصمد أمام تيار
الامتحان.
وقوله تعالى : (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) .. وهذا هو مجال الامتحان لإيمان المؤمنين .. فمن آمن
بالله ورسوله ، ووقع منه هذا الإيمان موقع القبول واليقين ، لم ينكل عن دعوة
الجهاد فى سبيل الله بماله ونفسه ، بل يقدم ماله ونفسه قربانا لله ، فى رضا وغبطة
..
وفى الآية الكريمة
إشارة إلى أن الجهاد بالمال والنفس ، هو الميدان الذي يمتحن به إيمان المؤمنين ،
والذي به تظهر حقيقة ما فى قلوبهم من إيمان .. فالمؤمن ، قد يصلىّ ، ويصوم ، ويحجّ
، ويزكى ، ولكنه حين يمتحن فى ماله أو نفسه بالجهاد فى سبيل الله ، يضنّ بماله ،
ويحرص على سلامة نفسه ، وعندئذ يعلم حقيقة إيمانه ، وأنه لم يستوف حقيقة الإيمان
بعد .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) ويقول سبحانه : (أَحَسِبَ النَّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ..) (٢ ، ٣ : العنكبوت).
وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) .. هو الوصف الذي يستحقّه الذين آمنوا بالله ورسوله ولم
يرتابوا ، وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وهو أنهم مؤمنون حقا .. قد
صدّق فعلهم قولهم ..
قوله تعالى :
(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..
هو إنكار على
هؤلاء الأعراب ، الذين ادّعوا تلك الدعوى ، بأنهم مؤمنون ، وهم فى حقيقة أمرهم غير
مؤمنين ، إذ أنهم أسلموا ، ولم يدخل الإيمان فى قلوبهم بعد ..
فلمن يقولون هذا
القول؟
أيقولونه لله؟
وكيف يتفق قولهم هذا مع الإيمان بالله؟ إن الإيمان بالله حقا ، يقضى على المؤمن
ألا يقول غير الحق .. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ،
وإنه لن يكذب على الله إلا من استخفّ بجلال الله وعظمة الله ، وعلم الله ، جهلا
منه بما لله سبحانه من كمال مطلق. (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ) (٧ : المجادلة)
قوله تعالى :
(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).
المنّ : الإدلال
بالإحسان على من أحسن إليه .. وهو مما يذهب بثواب الإحسان ، ويفسد مغارسه .. والله
سبحانه وتعالى يقول : (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُها أَذىً) (٢٦٢ ، ٢٦٣ البقرة).
وهذا من جفاء
الأعراب ، ومن بعدهم عن الإيمان ، وفساد تصورهم له .. إنهم يمنّون على النبي
والمؤمنين ، أنهم آمنوا بالله ، واستجابوا لما يدعوهم إليه الرسول ، وإنهم ليعدّون
هذا مأثرة لهم عند الرسول ، ويدا يحسبونها لهم عليه .. وهذا وضع مقلوب للقضية ..
إنهم إن كانوا مؤمنين حقا ، فإن عائدة هذا الإيمان وثمراته راجعة إليهم ، لأنهم
خرجوا بهذا الإيمان من الضلال إلى الهدى ، ومن الظلام إلى النور ، ومن البلاء
والهلاك والعذاب الأليم فى الآخرة ، إلى العافية ، والسلام ، والخلود فى جنات
النعيم .. وتلك نعمة أو نعم لا يقدر أن يقوم بشكرها إنسان ..
وهذا ما يشير إليه
قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها .. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣ : آل عمران)
..
فعجيب أن يمنّ
الآخذ على المعطى ، ويطلب المريض الجزاء من الطبيب الذي طبّ لمرضه ، وشفاه من علته!!
ولكن هكذا يفعل الجهل بأهله ..
وفى قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) ـ بدلا من أن يقال
: يمنون عليك أن آمنوا ، أخذا برأيهم فى أنفسهم ، وبما نطقت به ألسنتهم ـ فى هذا
تكذيب ضمنى لقولهم : «آمنا» بعد أن كذبهم الله تكذيبا صريحا فى قوله تعالى : (لَمْ تُؤْمِنُوا) .. فهو تقرير للأمر الواقع منهم ، وهو الإسلام ، لا
الإيمان ..
وقوله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) ـ هو دعوة لهؤلاء
الأعراب أن يحقّقوا حقيقة الإيمان الذي يدّعونه ، وأنهم إذا كانوا مؤمنين حقّا ،
فليحمدوا الله ، وليشكروا له ، لأنه سبحانه صاحب المنّة عليهم ، أن هداهم للإيمان
.. فهم مسلمون ، وهم بهذا الإسلام يستطيعون أن يخطوا الخطوة التالية إلى الإيمان ،
وأن ينقلوا كلمة الإسلام من ألسنتهم إلى قلوبهم ، وبهذا يكونون مسلمين مؤمنين ..
قوله تعالى :
(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ـ هو تعقيب على
قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) ، وجواب على ما قد يتردد فى أنفسهم من تساؤلات ، مثل أن
يقولوا : ومن يعلم إن كنا صادقين أو كاذبين ، إذا كان مرجع الإيمان إلى ما استقر
منه فى القلوب؟ ومن يكشف ما فى قلوبنا من هذا الإيمان؟ .. فكان الجواب. إن الله
يعلم غيب السموات والأرض ، لا غيب القلوب وحدها ، وهو البصير الذي يرى ما يعمل
العاملون ، مما هو مستقيم على طريق الإيمان ، أو مائل عنه ، فيجزى كلّا بما عمل ..
***
٥٠ ـ سورة «ق»
نزولها : مكية
عدد آياتها : خمس
وأربعون آية ..
عدد كلماتها :
ثلاثمائة وخمس وسبعون كلمة
عدد حروفها : ألف
وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا (مثل الحجرات)!!
مناسبتها لما قبلها
هذه السورة مكية ،
وسورة الحجرات قبلها مدنية ، ومع هذا ، فإن المناسبة بينهما قريبة ، والجامعة
بينهما وثيقة ..
فأولا : كانت سورة
«الفتح» ـ وهى مدنية أيضا ـ أول بشائر النصر ، الذي تعلو به راية الإسلام ، ويتم
به دين الله ، ويرى به النبي والمهاجرون والأنصار ثمرة الجهاد فى سبيل الله ، وما
احتمل النبي وأصحابه من بلاء عظيم .. ثم تلا هذه السورة ، سورة «الحجرات» ، التي
كانت أشبه بتعليق وتعقيب على سورة الفتح ، وعلى ما وقع فيها من أحداث وخاصة فى صلح
الحديبية ..
فجاءت سورة «ق»
تذكر النبي وأصحابه بما كان فى بدء الدعوة الإسلامية ، من عناد المشركين وضلالهم وسفههم
، وأن هؤلاء المشركين الضالين السفهاء قد تحولت بهم الأحوال ، وأوشكوا أن يدخلوا
فى دين الله ، بعد أن كسرت شوكتهم ، وبدأت غشاوة الضلال والسفه تنجلى عن أبصارهم ،
بما رأوا من إعزاز الله لدينه ، ونصره لأوليائه ..
وثانيا : جاء فى
ختام سورة «الحجرات» ما كان من موقف الأعراب
من دين الله ،
وأنهم كانوا من الإسلام فى موقف أشد ضلالا ، وأكثر بعدا من موقف إخوانهم المشركين
أهل مكة .. إذ أن المشركين كانوا يعلمون صدق النبي ، ويدركون حقيقة ما يدعو إليه
من إيمان بالله. أما هؤلاء الأعراب ، فإن جفاء طباعهم ، وغلظة أكبادهم ، حالت
بينهم وبين أن يدركوا حقيقة هذا الدين ، ولم تتسع عقولهم لاستيعاب مراميه ، كما
يقول سبحانه وتعالى فيهم : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ) (٩٧ : التوبة) ـ فجاءت
سورة «ق» تحدثهم عن إخوانهم المشركين ، وما كان لهم من تعلّات على دين الله .. ثم
ها هم أولاء ، وقد دخل كثير منهم فى الإسلام ، ثم الإيمان ، هاهم أولاء قد أصبحوا
فى جند الله المجاهدين فى سبيل الله .. وإذن فليكن لهؤلاء الأعراب أسوة فى إخوانهم
هؤلاء ، الذين كانوا على الشرك والضلال ، ثم أصبحوا وقد لبسوا الإسلام دثارا ،
والإيمان شعارا ..
وهكذا تبدو سورة «ق»
وكأنها تعقيب على سورة «الفتح» واستعادة للماضى وأحداثه ، بين يدى هذا الحاضر
المسعد ، والمستقبل المشرق ، فتعظم تلك النعمة التي يعيش المسلمون فيها مع هذا
الفتح العظيم ، الذي لم يكن يراود أحلامهم ، فى يوم من الأيام ..
بسم الله الرحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات (١١ ـ ١)
(ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢)
أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ
رَجْعٌ
بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)
وَنَزَّلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ(٩)
وَالنَّخْلَ
باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)
رِزْقاً
لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ)
(١١)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) ..
ما يقال عن «ق» هو
ما قيل فيما مضى عن الحروف المقطعة ..
ومطلع السورة هنا
شبيه بمطلع سورة «ص» .. حيث بدئت السورة بالحرف «ص» ثم بالقسم بالقرآن ذى الذكر ،
ثم مواجهة المشركين بمقولاتهم المنكرة فى القرآن الكريم ، وفى الرسول الذي يتلو
آيات الله عليهم ..
والواو فى قوله
تعالى : (وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) للقسم ، والقرآن المجيد ، مقسم به ، ووصف القرآن الكريم
بأنه مجيد ، إشارة إلى صفاء جوهره ، ومجادة ذاته ، والمجيد صفة من صفات الله
سبحانه وتعالى ، كما يقول سبحانه : (وَهُوَ الْغَفُورُ
الْوَدُودُ ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (١٤ ، ١٥ : البروج)
وقد جعل الله سبحانه هذه الصفة لكلامه ، لأن كلام الله سبحانه ، صفة من صفاته ،
والصفة عين الموصوف.
قوله تعالى :
(بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ..
هو إضراب عن
تساؤلات تتردّد فى الوجود كله ، حين يستمع إلى هذا القسم من رب العالمين ، بكلامه
المجيد .. حيث يتلفت الوجود كله إلى مواقع هذا القرآن ، وإلى المتجه الذي يتجه
إليه ، وهل عرف الناس قدره؟ وهل اهتدوا بالنور الذي يطلع عليهم منه؟ .. فكان
الجواب : كلّا .. (بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) .. أي أن الذين جاء إليهم هذا القرآن لم يلتفتوا إليه ،
ولم يأخذوا بشىء منه ، لا لشىء فى هذا القرآن ، ـ لأنهم لم ينظروا فيه أصلا ـ وإنما
لأن الذي جاءهم بهذا القرآن هو رجل منهم ، فكان ذلك حجازا بينهم وبين أن ينظروا فى
شىء من هذا القرآن ، وأن يستمعوا إلى ما يتلى عليهم منه ، لأن الذي يتلوه عليهم
رجل منهم!! وكيف لرجل منهم أن يأخذ هذا المكان منهم ، ويقوم بالسفارة بينهم وبين
الله ، ويصبح صاحب كلمة الله إليهم؟ وأين هم إذن؟ وأين أغنياؤهم وأصحاب السيادة
فيهم؟ .. فلتتخطفهم العقبان ، ولتحرقهم الرجوم .. فذلك أهون عليهم من أن يسودهم
سيد ، أو يقوم عليهم قيّم!! هكذا فكروا وقدروا : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)! وأخذوا يرددون مقولات الدهش والتعجب والإنكار : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ
بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (٢٥ : القمر) (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى
رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١ : الزخرف) .. (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ
مَعَهُ نَذِيراً) (٧ : الفرقان).
وقوله تعالى : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) الإشارة هنا إلى
ما أثار عجب
الكافرين من هذا القرآن المجيد ، وهو أن يجيئهم هذا القرآن على لسان رجل منهم ..
فهذا ـ عندهم ـ مما يثير العجب والدهش ، ثم الإنكار ..
قوله تعالى :
(أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ..
هو مما تسلط عليه
اسم الإشارة ، هذا ، فى الآية السابقة .. فقولهم (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) مشار به إلى ما سبقه من قوله تعالى : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) .. ثم هو مشاربه إلى ما بعده من قوله تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أي أإذا متنا وكنا ترابا تعود إلينا الحياة مرة أخرى؟ (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)! تفكره الحياة ، ولا تصدقه العقول!! فما أبعد ما بين
الحياة وهذا التراب الهامد الذي غربت فيه الحياة! هكذا يقولون ، ساخرين ،
مستهزئين.
قوله تعالى :
(قَدْ عَلِمْنا ما
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) ..
هو ردّ على
استبعاد الكافرين لعودة الحياة إليهم مرة أخرى ، بعد أن يذوبوا فى التراب ،
ويصيروا بعضا منه ..
فالله سبحانه
وتعالى يعلم ما أخذت الأرض منهم ، وما أكلت من ذرّات أجسامهم ، ذرة ذرة .. فإذا
أراد الله سبحانه عودة الحياة إليهم دعا هذه الذرات المتنائرة فى الأرض ، ونظم
منها عقد الحياة من جديد ، كما تنظم حبّات العقد فى خيط جديد بعد أن ينقطع خيطها
الذي بلى فانقطع! فهذه الذرات التي تنائرت فى الأرض ، هى محفوظة فى كتاب حفيظ ، لا
يضيع منه شىء ..
قوله تعالى
(بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ).
هو إضراب آخر
لبيان موقف الكافرين من آيات الله ، بعد أن بين الإضراب السابق موقفهم من الرسول
الذي حمل إليهم هذه الآيات .. إن جنايتهم جناية غليظة مزدوجة .. فهم يتهمون الرسول
الذي حمل إليهم رسالة الله ، وكلماته .. ثم دفع بهم هذا الاتهام إلى أن يخرجوا عن
عقولهم ، وأن يكذّبوا هذا الحق الواضح الذي يملأ عليهم الوجود من آيات الله ..
فإذا كان اتهامهم للرسول مما يجدون له عذرا عند أنفسهم ، متعللين لذلك بما يجدون
فى صدورهم من حرج فى أن يستجيبوا لرجل منهم ، وأن يمتثلوا الدعوة التي يدعوهم
إليها ـ فإن اتهامهم لهذا القرآن الذي يتلى عليهم ، والذي ينطق بالحق المبين
الواضح ، لا يقوم له عذر ، حتى عند أنفسهم ، فهم يكذبون عن عمد ، ويذهبون مذهب
الضلال على علم .. وهذا ما يجعل جرمهم أشنع الجرم وأغلظه ..
وقوله تعالى : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ).
الأمر المريج :
المختلط ، الذي يموج بعضه فى بعض ، ومنه قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) أي خلط بعضهما ببعض ، وجمع بين الملح والعذب ، فى هذه
الأمواج التي تتضارب عند التقائهما .. ومنه قوله تعالى : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ
نارٍ) .. حيث يضطرب اللهب ويتماوج بيد الهواء الذي يسبب عملية
الاحتراق.
والأمر المريج
الذي فيه هؤلاء الكافرون ، هو اضطراب مقولاتهم فى الرسول الكريم ، وفى القرآن
المجيد .. شأنهم فى هذا شأن كل من يركب
متاهات الطرق ،
وطوامسها ، فلا يدرى أىّ اتجاه يتجه .. إنه يتجه تارة يمينا وتارة شمالا ، ومرة
وراء ، ومرة خلفا .. إنه لا يأخذ فى اتجاه حتى تساوره الشكوك. والظنون ، فيعدل عنه
إلى غيره ، الذي يحسب أنه الطريق القاصد ، ثم لا يلبث أن يتهم نفسه فيما حسب ،
فيعدل .. وهكذا ..
هذا شأن الإنسان
وحده مع نفسه .. فإذا كانوا جماعة على ضلال ، كان لكل منهم وجهة ، ولكل سبيل ، ومع
الوجهة وجهات ، ومع السبيل سبل .. أما من كان على الحق ، سواء أكان وحده أو فى
جماعة ، فإن الطريق واحد ، له ولهم ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١٥٣ : الأنعام)
.. وقد شرح الرسول الكريم ، هذه الآية الكريمة فى الحديث الشريف الذي يروى عن ابن
مسعود ، قال : «خطّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطّا بيده ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما» وخط عن يمينه
وشماله ، ثم قال : «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» .. ثم تلا
الآية : (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً ..).
قوله تعالى :
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ). فى هذه الآية لقاء مع الكافرين ، بعيدا عن الرسول وعن
القرآن الذي بين يديه .. إنه لقاء مع عقولهم ، إن كانت لهم عقول ـ فليدعوا الرسول
وما جاءهم به ، ثم لينظروا نظرا مجردا ، لا يرد عليهم منه هذه الشبه التي وردت
عليهم من أهوائهم ، حين نظروا إلى الله سبحانه وتعالى من خلال الرسول ، الذي
يدعوهم إلى الله ، وما أثار هذا من الحسد ودخان الغيرة أن يكون لرجل منهم هذه
النعمة التي أنعم الله بها عليه ..
فليدعوا الرسول ،
وليدعوا ما يتلوه عليهم من آيات الله ، وليكونوا
هم رسل أنفسهم ،
فى دعوتها إلى الله ، والتعرف عليه ..
فلينظروا إلى
السماء فوقهم .. إنها ليست بعيدة عنهم ، بل هى قائمة فوق رءوسهم ، لا تحتاج رؤيتها
إلى أكثر من أن يفتحوا عيونهم عليها .. فإنهم إن فعلوا ، كان عليهم ـ إن كانوا
يريدون الحقّ والهدى ـ أن يجيبوا على هذه الأسئلة التي تطلع عليهم من وراء النظر
إلى السماء : كيف قامت هذه السماء؟ ومن أقامها؟ ومن زينها بالكواكب؟ ومن أحكم
نظامها ، ونظام الجاريات فيها ، فلم تتصادم كواكبها ، ولم تنطفىء أضوؤها وأنوارها
المنبعثة منها على آماد السنين وتطاول الأزمان؟ فهل نظروا إلى السماء فوقهم؟ وهل
أثار هذا النظر عقولهم ، فسألوا أنفسهم تلك الأسئلة؟ وهل بحثوا عن جواب لها؟ إنهم
لم ينظروا ، ولو نظروا ما رأوا شيئا من هذا كله ، لأنهم ينظرون بعيون كليلة ،
وعقول سقيمة ، وقلوب مريضة!
وقوله تعالى (ما لَها مِنْ فُرُوجٍ) الفروج ، الصدوع ، والتشققات التي تكون بين الشيء والشيء
.. والمراد بنفي هذا العارض من الفروج عن السماء أنها على امتدادها ، واتساعها
الذي لا حدود له ، قد قامت بناء راسخا ، متلاحم النسج ، لا تفاوت فيه : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ .. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟) (٣ : الملك)
قوله تعالى :
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ) ..
وإذا كان هؤلاء
الكافرون المشركون قد كلّت أبصارهم عن أن ترى السماء وما فيها من دلائل القدرة ،
والحكمة ، والعلم ، فلينظروا إلى مواطىء أقدامهم .. إلى هذه الأرض التي يمشون
عليها .. إنهم لو نظروا نظرا باحثا متفحصا لرأوا الأرض غير الأرض ، ولرأوا فيها من
آيات الله ، ودلائل قدرته
وحكمته وعلمه ، ما
لم يروه ، وهم يمشون فيها بعيون مقفلة ، وقلوب فارغة ، وعقول لاهية .. إنها كون
فسيح ممدود إلى غايات بعيدة ، تتجاوز هذا القدر المحدود الذي لا يتعدّى مواطىء
أقدامهم ، ولا يخرج عن محيط مغداهم ومراحهم .. وإن هذه الجبال التي تطاول السماء
بين أيديهم ، ليست مجرّد أكوام من الأحجار ، بل هى أوتاد تمسك هذه الأرض أن تميد ،
وتضطرب بما عليها من موجودات .. وإن هذه الزروع والحدائق ، والمروج التي تغطّى وجه
الأرض ، ليست إفرازا من إفرازاتها ، وإنما هى حلل من الجمال ، والبهجة والحسن ،
كساها الله سبحانه وتعالى بها ، حتى تطيب للناس الحياة فيها ، وحتى تفيض عليهم
بهجة وحبورا ، مما تنتعش به النفوس ، وتسعد به القلوب ، فلا يكون حظّ الإنسان من
هذه الزروع مقصورا على الغذاء الذي يملأ البطون ، كما هو حظ الحيوان ، الذي لا
يعنيه من أمر هذه الخيرات إلا أن يملأ بطنه منها ..
قوله تعالى :
(تَبْصِرَةً وَذِكْرى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).
هو بيان للعلة
التي من أجلها قامت السموات والأرض على هذا النظام البديع المتقن ، المحلّى بحلي
الجمال والبهجة .. إن فى هذا كله ما يفتح البصائر إلى مطالع الحق ، ويمدّ العقول
بكمالات المعارف الموصلة إلى الله ، وذلك حين تصادف الإنسان الذي لم تفسد فطرته ،
ولم تنطمس بصيرته ، ولم تستول على عقله الضلالات والسفاهات ..
والعبد المنيب ،
هو العبد المستعدّ لقبول الخير حين يدعى إليه ، ولاتباع سبيل الحق حين يستبين له
وجهه!
قوله تعالى :
(وَنَزَّلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ).
وهذا معرض ثالث من
معارض النظر ، ومراد من مرادات التدبر والتفكّر ..
وأنه إذا كان
هؤلاء الكافرون الضالون ، قد كلّت أبصارهم عن أن تصافح السماء ، وتقع على موقع
العبرة والعظة منها ، وأن يعموا أو يتعلموا عن الأرض وما بين أيديهم من آيات الله
منها ـ إذا كان هذا شأنهم فيما فى السموات والأرض ، فهذا معرض جديد من معارض النظر
، ليس فى السماء ، ولا فى الأرض ، وإنما هو بين السماء والأرض ، وفى مستوى النظر ،
لكل ذى نظر لا يتكلف له مدّ بصره إلى السماء ، ولا إلقاء نظره على الأرض ، بل حسبه
أن يفتح بصره مجرد فتح ، فيرى هذا المطر المتدفق من السماء إلى الأرض .. أفلا يرى
هذا الماء أيضا؟ إنه إن لم يكن يراه ، فإن الماء برجمه بهذه القطرات التي تتساقط
عليه ، حتى يستيقظ ويصحو من ذهوله وغفلته ..
وهذا الماء .. ما
شأنه؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟
إنه لم يكن عن
مصادفة ، ولم يقع حيث وقع إلا ليبعث الحياة فى الأرض الهامدة ويخرج من بطنها هذه
الجنات والزروع التي يحيا عليها ، ويعيش من ثمرها وحبّها الإنسان والحيوان ..
وفى وصف الماء
بأنه مبارك ، إشارة إلى ما يحمل هذا الماء الذي كثيرا ما تستخف به العيون ، ولا تتملّاه
الأبصار ، من خيرات ونعم ، ولا يحصيها المحصون ، ولا يدرك أسرارها إلا أولو
الأبصار من عباد الله ..
إن قطرات هذا
الماء المنزل من السماء ، هى أرواح تلبس الأرض كما تلبس
الأرواح عالم
الأجساد ، فيكون منها هذا الإنسان الذي يبلغ به الغرور إلى أن يكون إلها فى الأرض
، بأبى أن يعطى ولاءه لله رب العالمين ..!!
قوله تعالى :
(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ
لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ).
هو معطوف على قوله
تعالى : (جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ) أي وأنبتنا بهذا الماء المبارك جنات ، وزروعا ، ونخلا
باسقات ..
وفى تعريف النخل ،
مع اختصاصها بالذكر من بين ما فى الجنات من أشجار ـ فى هذا إشارة إلى تكريم هذه
الشجرة المباركة ، لما فيها من منافع كثيرة تجتنى من كل شىء فيها .. من جذرها إلى
جذعها ، إلى ليفها ، إلى جريدها ، إلى سعفها ، إلى تمرها ، إلى نوى هذا التمر ..
فهى شجرة كلها خير ونفع ، ليس فيها شىء يلفظ ، مع عظم جسمها ، وامتداد طولها ..
ولهذا كانت وصاة النبي الكريم بها فى قوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «أكرموا
عماتكم النخل ، فإنهن خلقن من طينة آدم».
هذا ، وتحتل
النخلة مكان القمة فى المملكة النباتية ، كما يأخذ الإنسان مكان القمة فى المملكة
الحيوانية .. ولهذا كثر ذكرها فى القرآن ، وخاصة فى معرض التذكير بنعم الله ، وبما
بين يدى الناس من هذه النعم ، التي تتجلى فى الجنات والزروع .. فلا تكاد تذكر
الجنات وما فيها من ثمر ، حتى تأخذ النخل مكان الصدارة ، أو تنفرد وحدها بالذكر ،
اكتفاء بها عن كل شجر غيرها ، وحتى لكأنّ الجنة لا تكون جنة إلا إذا كانت النخل
آخذة مكانها فيها .. يقول تبارك وتعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ
فَأَصابَها
إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) (٢٦ : البقرة)
ويقول سبحانه : (وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ
وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) (٣٢ : الكهف)
ويقول جل شأنه على لسان صالح عليهالسلام ، وهو يحاج قومه بنعم الله عليهم : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) (١٤٦ ـ ١٤٨ :
الشعراء) ..
ويقول سبحانه : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (١١ : النحل) ..
ويقول جل شأنه لمريم : (وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي
وَقَرِّي عَيْناً) (٢٥ ـ ٢٦ مريم). فقد
كانت النخلة قائمة بمشهد من هذه المعجزة التي ستطل على الوجود بميلاد المسيح عليهالسلام ، روح الله وكلمته إلى مريم .. فكانت متكأ لمريم ، وصدرا
حانيا تستند إليه فى شدتها التي كانت تعانى منها ، كما كان ثمرها مائدة الله التي
دعا مريم إلى أن تطعم منها .. إنها خير ثمر وأطيب ما تخرج الأرض من ثمر!
وقوله تعالى : (باسِقاتٍ) أي عاليات ، تطاول أعناقها السماء ، فلا تكاد شجرة فى
الأرض تبلغ المدى الذي تصل إليه ، وكأنها بهذا تتربع على عرش للملكة النباتية ،
وتشرف عليها من هذا العلو ..
وقوله تعالى : (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الطلع أول ما يبدو من ثمر النخل ، حين يتفتح الجراب الذي
يضم فى كيانه زهر هذا الثمر .. والنضيد : المنضود ، وهو المرصوص فى نظام تجتمع فيه
الحبات ، كما تجتمع حبات العقد النظيم.
وفى هذا الوصف
للنخلة فى سموقها وطولها ، وللثمر فى تنضيده ، وانتظام حباته ـ فى هذا إلفات إلى
هذا الحسن الرائع ، والجلال المهيب ، مما يراه الذين يرون مواقع الحسن والروعة
والجمال والجلال فى آيات الله ، وما أبدعت قدرته فى هذا الوجود!
قوله تعالى :
(رِزْقاً لِلْعِبادِ
وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ..
هو بيان لبعض ما
لهذه الجنّات والزروع والنخيل من أثر فى حياة الناس ، وأنها مما يرزقه الله عباده
من رزق كريم ..
وقوله تعالى : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) معطوف على قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا بِهِ
جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) .. أي وأحيينا بهذا الماء بلدة ميتا ، فلو لا هذا الماء ما
قامت حياة على هذه الأرض ، وما قامت هذه البلاد العامرة ، والتي كانت قبل الماء
ترابا هامدا ..
وقوله تعالى : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ـ هو تعقيب على
قوله تعالى : (وَأَحْيَيْنا بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً) .. أي أنه كما أقام الماء هذه الحياة من الأرض الميتة ،
فإنه غير منكور أن يبعث الموتى من القبور ، ويلبسوا الحياة من جديد ، كما لبست
الأرض الميتة الهامدة هذه الحياة حين أصابها الماء ، وسرى فى أوصالها ..
____________________________________
الآيات (٢٦ ـ ١٢)
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ
وَإِخْوانُ لُوطٍ(١٣) وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)
إِذْ
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ
فِي
الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)
وَجاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
وَقالَ
قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ(٢٣) أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤)
مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥)
الَّذِي
جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ)
(٢٦)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ..
أصحاب الرس : قيل
إنهم أهل قرية باليمامة ، وقد كثرت الأقوال فيهم ، زمانا ومكانا ، كما أن القرآن
لم يذكر اسم رسولهم
وأصحاب الأيكة :
هم قوم شعيب ، والأيكة : الشجر الكثير الكثيف ..
وقوم تبع : هم أهل
سبأ ، من اليمن ، وقد ذكرهم القرآن ، وذكر كفرهم بنعم الله ، وقد أرسل الله عليهم
سيل العرم ، فأتى على كل عامر بين أيديهم ..
والضمير فى «قبلهم»
يعود إلى مشركى مكة .. وهم المخاطبون بالآيات السابقة ..
وفى هذه الآيات
تعرض عليهم صورة من حياة الماضين الذين كانوا على ضلال كهؤلاء الضالين .. وقد عرضت
عليهم من قبل آيات الله ، تحمل إليهم
__________________
دلائل قدرته ، وما
أفاض عليهم ، وعلى العباد من نعمه ومننه ، فإن هم لم ينظروا فى هذه الآيات ،
ويهتدوا إلى الله ، ويؤمنوا به ، ويشكروا له ، أخذهم الله بما أخذ به الضالين
المكذبين قبلهم .. فهم ليسوا أول من كذب بآيات الله ، وبهت رسل الله ، وهم لن
يخرجوا عن سنة الله التي خلت فى أخذ الظالمين بظلمهم ، وإنزال البلاء بهم ..
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) .. فهؤلاء بعض المكذبين فى القرون الماضية ، والأمم
الغابرة ، وقد علم المشركون أخبارهم ، وما كان من أخذ الله لهم ، ووقعاته فيهم ..
ولهذا خصهم الله بالذكر ..
ويلاحظ هنا أن
فرعون ذكر وحده ، دون قومه ، وعدّ وحده مجتمعا قائما بذاته ، إذ كان سلطانه ممكنا
فى قومه ، وكان قومه جميعا فى قبضة يده ، فكفر قومه تبع لكفره ، كما يقول سبحانه :
(فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) (٥٤ : الزخرف).
وقوله تعالى : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي أن هؤلاء الأقوام جميعا كذبوا رسل الله السابقين ، كما
كذب المشركون رسول الله محمدا ..
وقوله تعالى : (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي وجب عليهم وعيد الله ولزمهم .. ووعيد الله عذابه الذي
توعد به المكذبين والضالين ..
قوله تعالى :
(أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ..
عادت الآيات لتكشف
عن الآفة التي أفسدت على المشركين أمرهم ، وباعدت بينهم وبين الإيمان بالله ،
والتصديق برسول الله .. وتلك الآفة هى استبعادهم
للحياة بعد الموت
، ثم الحساب والجزاء .. وكان قولهم فى هذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٣٧ : المؤمنون)
..
فقضية البعث
والقيامة ، هى المدخل الذي دخل منه على القوم كل كفر وضلال .. إنهم مستعدون لأن
يؤمنوا بالله ، وأن يفردوه وحده بالألوهية .. ولكن الأمر الذي لا يقبلونه ، هو
الإيمان باليوم الآخر ، فذلك ما لا يتصورونه ، ولا يسمعون لقول يقال لهم فيه ..
والإيمان كلّ لا
يتجزأ ، فمن آمن بالله ، وكفر بكتبه ، ورسله واليوم الآخر ، فهو على غير سبيل
المؤمنين ، والله سبحانه وتعالى يقول : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥ : النساء) ..
فقوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) هو مواجهة للمشركين بما ينكرونه من أمر البعث ، وما يقع فى
تصورهم من استبعاد له ..
فهذا الاستفهام
ينكر على المشركين ضلال تصورهم لقدرة الله ، وسوء إدراكهم لآثار تلك القدرة ..
فهذا الوجود القائم ، بعوالمه المختلفة فى السموات والأرض ـ ألم يكن من صنعة الله؟
فهل عجز الله ـ سبحانه ـ عن أن يبدع هذه المبدعات؟ وهل أعياه أمرها؟ فكيف يعجز
سبحانه عن إعادة ما انتثر من عقدها؟ وكيف يعيا ـ سبحانه ـ عن أن يبعث الحياة فيما
همد من أحيائها؟ ذلك ما لا يقبله عقل نظر فى خلق الوجود كله ابتداء ، ثم تطلع إلى
طيه ونشره ثانيا! ..
وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ) ..
للبس : الاختلاط
الذي يقع من عدم وضوح الرؤية للأمر ، وتبيّن وجه الحق فيه ..
واللّبس الذي لبس
عقول المشركين واستولى عليها ، هو فيما يتعلق بالبعث ، وإعادة الحياة إليهم بعد
الموت ..
وهذا مما يشير
إليه قوله تعالى فى آية سابقة من هذه السورة ، وهى قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ).
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ..
فى هذه الآية عرض
آخر لقدرة الله سبحانه وتعالى ، وقد غاب مفهوم هذه القدرة عن عقول هؤلاء المشركين
.. وفى إعادة هذا العرض لقدرة الله ، تذكير لهم ببعض مظاهرة هذه القدرة ، ليراجعوا
عقولهم مرة أخرى ، وليرجعوا من طريق الضلال الذي هم سائرون فيه ..
فالله سبحانه ، هو
الذي خلق هذا الإنسان من تراب الأرض ، فجعل منه هذا الكائن العاقل ، السميع ،
البصير ، وهو سبحانه الذي يعلم من أمر هذا الإنسان ما توسوس به نفسه من خواطر ،
وما يضطرب فيها من خلجات .. وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان ـ كل إنسان ـ من حبل
الوريد ..
وحبل الوريد : هو
عرق فى صفحة العنق .. وسمّى العرق حبلا ، لأنه يشبه الحبل فى امتداده واستدارته ..
وسمى وريدا ، لأنه يستورد الدم النقي من القلب ، ويصبّه فى الأوعية الدموية التي
يتغذى منها الجسم ..
قوله تعالى :
(إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) ..
أي أن الله سبحانه
مع قربه هذا القرب المستولى على كيان الإنسان كله ، ظاهرا وباطنا ـ فإنه سبحانه قد
وكل بهذا الإنسان جنديين من جنوده ، يتلقيان منه كل ما يصدر عنه ، من قول أو فعل ،
فيكتبانه فى كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة ..
و «إذ» ظرف متعلق
بقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ـ بمعنى أن الله
سبحانه وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، وفى الوقت نفسه يقوم عليه جنديان
من جنود الله ، يسجلان عليه كل ما يقول ، أو يفعل .. كما يقول سبحانه : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً
كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ). فكيف يكون للإنسان مهرب من الحساب والجزاء؟
قوله تعالى :
(ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ـ هو بيان شارح
لوظيفة الجنديين القاعدين عن يمين الإنسان وعن شماله .. فهما واقفان للإنسان
بالمرصاد .. ما يلفظ من قول إلا كان على هذا القول «رقيب» أي مراقب ، يسمع ما يقال
، ويسجله ، وهو «عتيد» أي حاضر دائما لا يغيب أبدا .. وليس رقيب وعتيد ، اسمين
للملكين القائمين على الإنسان ، الموكلان به ، وإنما ذلك وصف لكلّ منهما ، فكل
منهما رقيب يقظ ، حاضر أبدا ..
قوله تعالى :
(وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
سكرة الموت : ما
يغشى الإنسان ساعة الاحتضار ، من غيبوبة أشبه
بغيبوبة من يقع
تحت خمار الخمر ، فتنطفىء لذلك تلك الشعلة التي تمدّ كيانه بالحرارة والحركة ،
ويبدو وكأنه جثة هامدة ، بلا شعور ، ولا حركة ، ولا وعى!.
وقوله تعالى (بِالْحَقِّ) متعلق بالفعل «جاء» أي جاءت سكرة الموت محملة بالحق ، الذي
غاب عن هذا الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر ، حيث يرى عند الاحتضار ، ما لم يكن
يراه من قبل ، وحيث يبدو له فى تلك الساعة كثير من شواهد الحياة الآخرة ، التي هو
آخذ طريقه إليها ..
وقوله تعالى : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ـ الإشارة إلى «الحق»
وهو الموت ، وما وراءه من بعث وحساب وجزاء .. وذلك الحق هو ما كان هذا الكافر
باليوم الآخر ، منكرا له ، حائدا عن الداعي إليه ، المنذر به ..
وقرىء : «وجاء
سكرة الحق بالموت» ويكون المعنى على هذا ، وجاءت سكرة الحق بالموت الذي كان يحيد
عنه هذا الإنسان ، والذي كان فى حياته غير مقدر أنه سيموت .. «يحسب أن ماله أخلده»
.. فهو لهذا غافل عن الموت ، كما يقول سبحانه وتعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ..
قوله تعالى :
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) ..
هو عرض للأحداث
التي تجىء بعد الموت .. فليس هذا الموت هو آخر المطاف ، وإنما وراءه بعث ، وحساب ،
وجزاء ..
والنفخ فى الصور ،
هو كناية عن أمر الله ، ودعوته إلى الموتى بالخروج من قبورهم ، كما يقول سبحانه : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ
الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٢٥ : الروم) ..
والصور : أداة
ينفخ فيها ، عند كل أمر عظيم ، يجتمع له الناس ، لحرب أو نحوها .. وكان يتخذ عادة
من قرن حيوان من ذوات القرون الكبيرة كالوعول ونحوها ..
وقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ذلك النفخ إيذان بحلول يوم الوعيد ، وهو يوم القيامة ،
الذي توعّد الله سبحانه وتعالى فيه أهل الشرك والضلال ، بالعذاب الأليم فى نار
جهنم ..
قوله تعالى :
(وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ـ أي فى هذا اليوم
ـ يوم الوعيد ـ تجىء كل نفس ومعها (سائِقٌ) من ورائها يسوقها إلى المحشر ، وموقف الحساب ، (وَشَهِيدٌ) ـ وهو الذي يشهد
على الإنسان بما كان منه فى الدنيا ، من إيمان بالله وباليوم الآخر ، أو كفر بالله
، وبالبعث والحساب والجزاء .. فهو يحضر الحساب ، ويشهد على الإنسان بما عمل ..
ومع كل إنسان أكثر
من شاهد .. فهناك الرسول الذي يشهد على قومه ، كما يقول سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤١ : النساء) ،
وكما يقول جل شأنه : (وَنَزَعْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) (٧٥ : القصص) ..
وهناك الجوارح التي تشهد على الإنسان ، كما يقول سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤ : النور) ..
وهناك الملكان الموكّلان بالإنسان ، واللذان سجلا عليه كل أعماله ..
وقد أفرد هؤلاء
الشهداء ، فكانوا «شهيدا» واحدا ، لأنهم يشهدون شهادة واحدة ، لا اختلاف فيها ،
لأنها شهادة الحق الذي لا تشوبه شائبة
من كذب ، أو
افتراء .. فكانوا بهذا أشبه بشاهد واحد ، وكأنهم صوت يتردد .. له أكثر من صدى ..
قوله تعالى :
(لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
هو جواب عن
تساؤلات كثيرة يتساءلها هذا الإنسان الذي كان لا يؤمن بالله ، ولا باليوم الآخر ..
وذلك أنه حين ينفخ فى الصور ، ويخرج من قبره مع الخارجين من قبورهم ـ يدهش لهذا
الأمر ، وتعروه منه حال من التبلد والجمود والحيرة ، وكأنه فى حلم رهيب مزعج ..
ويسأل نفسه ما هذا الذي يجرى حوله؟ وأين هو؟ وما خطبه؟ وماذا يراد به وبالناس؟ .. إلى
غير ذلك من الأسئلة التي لا يجد لها جوابا .. ثم ينكشف له الأمر حالا بعد حال ،
وإذا منادى الحق يناديه هذا النداء الذي يكشف له عن المصير المشئوم الذي هو صائر
إليه : «لقد كنت فى غفلة من هذا» فى حياتك الدنيا ، لا تستمع إلى من يحدثك به ،
ويقدم لك الأدلة والبراهين عليه ..
أما الآن ، فإنك
سترى بعينيك حقيقة ما كنت تحسبه وهما وضلالا : «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»
..
لقد كشف عنك غطاء
الغفلة الذي كان مضروبا على بصرك ، فبصرك اليوم حديد ، أي قوىّ ، يرى كل ما بين
يديك وما خلفك .. فالحديد من الحدّة ، وهى القوة ، وحدّ السيف : الجانب القاطع منه
..
وهذه الآية تشبه
ما جاء فى قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا
وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ) (٥١ ، ٥٢ يس)
قوله تعالى :
(وَقالَ قَرِينُهُ هذا
ما لَدَيَّ عَتِيدٌ)
القرين هنا ، هو
صاحب السوء ، الذي يضلّ صاحبه ، ويقوده إلى مواقع الإثم والضلال .. والمراد به هنا
الشيطان ، ومن يشبه الشيطان من الناس فى الإغواء والإضلال ..
إن قرناء السوء
يبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة ، ويقع بينهم التلاحي والترامي بالتهم .. أما أهل
السلامة والتّقى ، فإن المودة قائمة بينهم فى الدنيا ، على التناصح ، والتناصر ،
والتواصي بالحق والصبر ، فإذا كان يوم الآخرة ، تلاقوا على الرضا ، وتساقوا كئوس
الحمد والرضوان ، كما يقول سبحانه : (الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧ : الزخرف).
فقرين السوء الذي
زيّن الضلال لصاحبه ، يلقاه يوم القيامة بما كان قد زيّنه له ، مما يسوءه ويسوقه
إلى جهنم .. إنه حين تحيط بالضلال خطيئنه ، يتلفت حوله باحثا عن قرينه ، فلا يجد
من قرينه إلا هذه البضاعة الحاضرة!!
قوله تعالى :
(أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي
جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ)
الضمير فى «ألقيا»
يعود إلى السائق والشهيد ، فى قوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ـ فتلك هى الغاية
التي يساق إليها هذا الضالّ المكذّب بالله واليوم الآخر ، وذلك هو الحكم الذي يقضى
به الحكم العدل ، بعد أن يؤدى الشاهد شهادته .. وليس هذا حكما مقضيّا به على واحد
بعينه ، وإنما هو حكم يؤخذ به كل كفار عنيد .. إنه حكم عام على أهل الكفر
والضلال ، فكل نفس
قد جاءت ومعها سائق وشهيد .. أما النفس المؤمنة الصالحة ، فتزفّ إلى الجنة ، فى
حفاوة وتكريم .. وأما النفس المجرمة الفاجرة فإنها تدفع دفعا ، وتلقى إلقاء فى
جهنم ، كما يلقى الحطب فى النار ..
وقوله تعالى :
(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) هو من حيثيات هذا الحكم الذي حكم به على أهل الكفر والضلال
.. فالكفر هو الذي أورد أهله هذا المورد الوبيل ، والكفر هو الذي قاد صاحبه إلى
العناد والشرود عن الحق ، وهو الذي جعل بينه وبين الخير هذه العداوة المستحكمة ،
التي تجعله يكره وجه الخير ، فيلقاه محاربا له فى نفسه ، وفى الناس .. والكفر هو
الذي جعله حربا على الآمنين والمسالمين ، يبادئهم بالعدوان بغير جريرة منهم إليه
.. ثم يقوم على هذه المآثم كلها ، هذا الإثم الغليظ ، وهو الشرك بالله ..
وقوله تعالى :
(فَأَلْقِياهُ فِي
الْعَذابِ الشَّدِيدِ) تأكيد للحكم : «ألقيا فى جهنم» الذي ووجه به الكافر قبل أن
يستمع إلى حيثيات الحكم ، ثم إذا استمع إلى تلك الحيثيات ، جاء الحكم فى صورة أشدّ
هولا ، وأسوأ عاقبة .. إنه ينزل من جهنم فى أسوأ منازلها ، وأشدّها عذابا ..
____________________________________
الآيات (٣٧ ـ ٢٧)
(قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
قالَ
لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ
لَدَيَّ
وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)
وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١)
هذا
ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢)
مَنْ
خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣)
ادْخُلُوها
بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
(٣٧)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)
هو عرض لصورة من
صور التلاحي والترامي بالتهم بين قرناء السوء يوم القيامة ..
فحين يؤخذ أحد
القرينين ـ وهو التابع ـ ليساق إلى جهنم ، يتعلق به صاحبه ، قائلا : ربّ هو الذي
أضلنى عن الحق ، وأغوانى بما أغوانى من ضلال ..
وهنا يحاول القرين
المتبوع ، وهو الشيطان ـ دفع هذا الاتهام عن نفسه ، فيقول : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ
فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) .. إنه كان مسوقا إلى الضلال بنفسه ، متجها إليه بأهوائه ،
سواء وجد من يدعوه إلى هذا الضلال أو لم يجد.
وهذا ما يشير إليه
قوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢٢ : إبراهيم)
قوله تعالى :
(قالَ لا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) ..
هو قولة الحق من
الله سبحانه وتعالى ، إلى قرناء السوء ، سواء منهم التابعون ، والمتبوعون .. إنه
لا تخاصم اليوم بين يدى الله ، فقد توعد الله أهل الضلال ، وحذرهم عاقبة أمرهم ،
وإن مع كل إنسان عقلا يدرك به ، ونظرا يرى به عواقب الأمور ، وليس يغنى فى مقام
المساءلة والمحاسبة أن يلقى إنسان بجرمه على غيره (بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٤ ـ ١٥ :
القيامة) ..
قوله تعالى :
(ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ..
أي أنه لا ينقض
هذا الحكم الذي قضى الله به فى أهل الضلال ، ولن تنفع الظالمين معذرتهم ، ولا هم
يستعتبون ..
وقوله تعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) .. هو توكيد لقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ) .. لأن هذا حكم من أحكم الحاكمين ، رب العالمين ، الذي
يقضى بين عباده بالحقّ ..
قوله تعالى :
(يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ..
أي إن هذا القضاء
إنما يكون يوم القيامة ، يوم يعرض الناس على رب العالمين ، يوم يساق المجرمون إلى
جهنم .. وإنهم لأعداد كثيرة ، يتقحمونها فوجا بعد فوج ، وهى فاغرة فاها لتبتلع كل
وارد عليها ، دون أن تشبع .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْكافِرِينَ) ٦٨ : (العنكبوت) ..
قوله تعالى :
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ..
هذه أول آية فى
هذه السورة تتحدث عن المؤمنين ، وما أعد الله لهم من ثواب عظيم وأجر كريم .. فقد
كانت السورة كلها مواجهة لأهل الشرك والضلال ، وما دخل عليهم من شركهم وضلالهم ،
من إنكار ليوم البعث ، حتى إذا جاءهم هذا اليوم ، ذهلوا وذعروا ، ثم إذا سيقوا إلى
المحشر ، والتقى بعضهم ببعض ـ أنكر بعضهم بعضا ، وتراموا بالعداوة والبغضاء ، ثم
ألقوا جميعا فى جهنم التي لا تضيق بكثرة الواردين إليها ..
فقوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ) هو النسمة العليلة المنعشة التي تطلع فى هذا الجوّ الخانق
، الذي يكظم الأفواه ، ويزكم الأنوف ، مما يهب من سعير جهنم ، ومن صرخات أهلها ..
إن يوم القيامة
ليس كله هذا الهول وهذا البلاء ، بل إن فى هذا اليوم مباهج ، ومسرات ، وبشريات
مسعدة لأهل الإيمان والتقوى .. وأنه إذا كان هناك جهنم التي تفغر فاها لأهل الشرك
والضلال ، فإن هناك أيضا جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين .. وأنه إذا كانت
جهنم تنتظر الواردين الذين يسوقهم إليها سائق عنيف يدعّهم دعّا ، ويلقى بهم إلقاء
فيها ، فإن الجنة تسعى للقاء أهلها ، وتلقاهم متوددة ، متلطفة ، تماما كما يفعل
المضيف عند استقبال ضيف عزيز كريم ، فيلقاه على الطريق مرحبا محييا ..
فقوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت ، والزلفى : القرب .. وهذا يكون فى مقام الإحسان ،
كما فى قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠ : ص) ..
قوله تعالى :
(هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ
أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ..)
أي هذا الجزاء
الكريم الطيب ، هو ما وعد الله سبحانه به الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..
والأوّاب : مبالغة
من الأوب ، وهو الرجوع ، والمراد به الرجوع إلى الله ، والاعتصام به فى كل حال ،
وإضافة الأمر إليه فى السراء والضراء .. فهذا هو مقتضى الإيمان الحق بالله ، حيث
يقوم من هذا الإيمان شعور قوىّ حىّ ، يصل الإنسان بربه أبدا ، فإذا كان منه انحراف
مع هواه لم يلبث أن يردّه هذا الشعور إلى ربه تائبا مستغفرا ، كما يقول سبحانه. (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا
مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) .. (٢٠١ : الأعراف)
والحفيظ : مبالغة
من الحفظ ، وهو حفظ الإنسان لنفسه ، وحراستها من الأهواء والضلالات التي ترد عليها
.. ثم حفظ ما اؤتمن عليه من أحكام دينه ..
وقوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) بدل من قوله تعالى : (أَوَّابٍ حَفِيظٍ) .. فالأوّاب إنما كان أوابا وكان حفيظا ، لأنه كان على
خشية لربه ، وخوف من لقائه ، وعذابه ..
والمراد بالخشية
بالغيب ، الخشية التي تكون من الإنسان فى غير حضور من وازع سلطان أو قانون ، وحيث
تمكن الإنسان الفرصة من أن يفعل المنكر ، ويرتكب الفحشاء من غير أن يطلع عليه مطلع
، ولكنه يردّ نفسه عن هذا خوفا من الله ، وحياء من جلاله ..
وفى ذكر الاسم
الكريم «الرحمن» هنا ـ إشارة إلى مبلغ التقوى والخشية التي تستولى على نفس هذا
المؤمن الذي يخشى ربه ، وهو يستحضر رحمته ويذكر سعة هذه الرحمة ، ومع هذا فإن ذلك ـ
وإن أطمعه فى رحمة الله ـ لا يجرّئه على محاربته بالمعصية ، بل إنه فى حضور هذه
الرحمة يكون أشد حبّا لربه ، ومن أحب لم يكن منه عصيان لمن امتلأ قلبه بحبه ..
وقوله تعالى : (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ـ معطوف على قوله
تعالى : (خَشِيَ الرَّحْمنَ
بِالْغَيْبِ) .. أي كانت منه خشية للرحمن بالغيب ، وكان منه مجىء ،
وعودة إلى ربه بقلب منيب ، أي راجع من شروده الذي كان متجها به إلى طريق المعصية
.. فالقلب هو موطن المعتقدات الصالحة أو الفاسدة ، ومصدر التصرفات الطيبة أو
الخبيثة ، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف : «ألا وإن فى الجسد مضغة ، إذا صلحت
صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب)! ..
قوله تعالى :
(ادْخُلُوها بِسَلامٍ
ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) ..
هو التفات إلى أهل
الإيمان والتقوى ، هؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب ، ويقبلون عليه بقلوب سليمة ،
منيبة ، وهو دعوة كريمة من رب كريم إليهم أن يقبلوا هذه الضيافة الكريمة التي
ينزلهم فيها ، وقد جاءوا إليه سبحانه ، مسلمين تائبين.
وقوله تعالى : (بِسَلامٍ) هو حال من فاعل (ادْخُلُوها) أي أدخلوا هذه الجنة التي أزلفت لكم ، مصحوبين بسلام ، لا
يمسّكم ما يسوء أبدا ..
قوله تعالى :
(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) ..
الانتقال من
الخطاب إلى الغيبة ، فيه مزيد حسرة لأهل الضلال والشرك ، وكأن هذا حديث إليهم ،
وردّ على ما يغلى فى صدورهم من حسد لأهل الإيمان والتقوى ، الذين دعاهم الله
سبحانه إلى جنته ورضوانه ، وأنهم إذ يحسدون المؤمنين على هذه الجنة التي أزلفت لهم
فليسمعوا إذن ما يؤحج هذه النار المشتعلة فى قلوبهم من حسرة وحسد : إن هذه الجنة
سيجد فيها أهلها ما يطلبون ، وما يشتهون من كل شىء ، يجدون ذلك حاضرا عتيدا بين
أيديهم من غير سعى أوكد .. بل وأكثر من هذا ، فطن الله سبحانه يسوق إليهم من فضله
وإحسانه ما لم يقع فى حسابهم ، وما لم يخطر على بالهم ، وهذا ما يشير إليه قوله
تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) بعد قوله سبحانه : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها) ..
قوله تعالى :
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
.. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)
عاد الحديث مرة
أخرى ، ليصل ما انقطع من أخبار أهل الكفر والضلال ، وما يلقون على طريق كفرهم
وضلالهم ، وما تنتهى إليه مسيرتهم التي تلقى بهم فى سواء الجحيم ..
وهذا الحديث يواجه
المشركين بعد أن رأوا مشاهد القيامة ، وما فيها من عذاب ونعيم ، عذاب لأهل الكفر
والفسوق والعصيان ، ونعيم لأهل الإيمان ، والطاعة والتقوى .. فلينظروا بعد هذا إلى
أنفسهم ، وليأخذوا الطريق الذي يشاءون ، إلى النار إن شاءوا ، أو إلى الجنة إن
أرادوا. وأنهم إن أبوا أن يتوقفوا عن مسيرتهم على طريق غيهم وضلالهم ، مغترين
بقوتهم ، معتزين بمكانتهم فى أهليهم ـ فليعلموا أنهم أضعف قوة ، وأقل شأنا ممن
كان قبلهم من أهل
الضلال ، وقد أهلكهم الله ، وأنزلهم منازل الهون والعذاب ..
وقوله تعالى : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) .. التنقيب فى البلاد : السعى بالإفساد فيها ، واستعمال
قوتهم فى الاستبداد بالعباد ، كما يقول سبحانه فى فرعون وملائه : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ
سَوْطَ عَذابٍ) (١٠ ـ ١٣ الفجر)
وقوله تعالى : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟) أي هل انتفع هؤلاء المغترون بقوتهم المعتزون بسلطانهم ، فى
ردّ بأس الله عنهم ، وفى رفع البلاء الذي أخذهم به؟ كلا. فما أغنى عنهم ذلك من
الله من شىء ..
والمحيص : المفرّ
من مواجهة البلاء ، والتماس السلامة من الهلاك .. وفى هذا يقول الشاعر :
وهل نحن إن حصنا
عن الموت حيصة
|
|
هل العمر باق
والمدى متطاول؟
|
قوله تعالى :
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي فى هذه المعارض التي تعرضها الآيات ، فى مقام الوعد أو
الوعيد ـ فى هذه المعارض موعظة ، واعتبار ، وذكرى .. ولكن ليس هذا لكل إنسان ، بل «لمن
كان له قلب» ـ أي كان ذا قلب سليم ، معافى من الآفات التي تقتل كل بذرة خير تبذر
فيه ، فلا تنبت زهرا ، ولا تطلع ثمرا .. كما أن المعارض فيها عبرة ، وذكرى ،
وموعظة ، لمن كان قلبه فى غفوة وغفلة عن مواقع العبر والعظات ، ولكن كان له أذن
واعية ، تستمع لما يلقى إليها من آيات الله
وكلماته ، ومن نصح
الناصحين ، ووعظ الواعظين .. وهنا يتنبه القلب الغافل ، ويصحو القلب الغافى ..
وهذا يعنى أن
الإنسان قد يتهدّى إلى الهدى بنفسه ، ويرد موارد السلامة والنجاة ببصيرته ، إذا
كان معه قلب سليم ، وفطرة لم تقع فريسة لآفات الهوى والضلال .. فإذا لم يكن مع
الإنسان هذا القلب وتلك الفطرة ، فإنه يمكن أن يأخذ طريق الهدى من خارج ذاته ، إذا
هو أصغى إلى كلمات الحق الواردة عليه من رسل الله ، أو الراشدين المهتدين من عباد
الله .. شأنه فى هذا شأن الأعمى ، الذي إن أسلم يده لمبصر قاده إلى مأمنه ، وإن هو
استبدّ به العناد ، وأبى أن يعطى يده لأحد ، سار متخبطا ، يتردّى فى الحفر
والمعاثر ، حتى يهوى فى مهلكة من المهالك!
____________________________________
الآيات (٤٥ ـ ٣٨)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ
بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ
يَخافُ وَعِيدِ)
(٤٥)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ)
اللغوب : الفتور
الذي يلحق الإنسان من عمل مجهد شاق ..
والآية تعرض بعض
مظاهر قدرة الله ، ليرى منها المغترون بقوتهم ، أين تقع هذه القوة من قوة الله ..
وهل إذا طلبهم الله ، وأرادهم بسوء ـ هل لهم من قوتهم ما يدفع عنهم بأس الله ،
وتلك بعض مظاهر قوته ..؟
وتقدير خلق
السموات والأرض فى ستة أيام ، ليس الزمن الذي تحتاج إليه قدرة الله لخلق هذه
العوالم ، وإنما هو ـ كما قلنا فى أكثر من موضع ـ تقدير الزمن الذي تنضج فيه
وتستوى هذه الأكوان ، شأنها فى هذا شأن كل مخلوق ، كما يرى ذلك فى مسيرة الحياة فى
الأحياء من نبات وحيوان .. أما قدرة الله سبحانه وتعالى ، فلا يحكمها زمان : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢ : يس)
وهذا يعنى أن
الزمن عنصر من عناصر الخلق ، وأن لكل مخلوق زمنا يتحرك فيه ، كما أن له مكانا يدور
فى فلكه ..
قوله تعالى :
(فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ)
هو مواساة للنبىّ
الكريم فيما يلقى من أذى قومه ، وما تلقى به
أفواههم من فحش
القول ، وزور الحديث ، فى شأن الرسول ، وفى آيات الله التي يتلوها عليهم .. ثم هو
تهديد لهؤلاء المشركين ، وأنهم مأخوذون بوعيد الله لهم ، وأنهم لن يفلتوا من بأس
الله إذا جاءهم ..
وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) هو دعوة للنبى أن يدع هؤلاء المشركين ، وألا يصرف وقته كله
فى النصح لهم والجدل معهم .. بل إن عليه أن يخلص بنفسه ساعات يلقى فيها ربه ،
مسبّحا بحمده ، متزودا بهذا الزاد الطيب الذي يمده بأسباب القوة والقدرة على احتمال
هذا العبء الثقيل الذي تنوء به الجبال ..
وفى اختصاص هذين
الوقتين ـ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ـ بتسبيح الله وحمده ، لأنهما ـ والله أعلم ـ
هما الوقتان اللذان يحويان بين طرفيهما ، الوقت الحىّ من حياة الناس ، والذي فيه
يكون العمل فى ميادينها المختلفة .. والتسبيح بحمد لله قبل طلوع الشمس ، هو السلاح
الذي يتسلح به الساعي إلى العمل والجهاد ، فيكون له منه القوة التي تعينه فى عمله
وجهاده .. والتسبيح بحمد الله قبل غروب الشمس ، هو صلاة شكر وحمد لله على ما كان
منه من عون وتوفيق .. ثم هو استغفار لما وقع من إهمال أو تقصير.
قوله تعالى :
(وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ..
(مِنَ) هنا للتبعيض .. أي ومن بعض الليل لا كله ..
وهو معطوف على
قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) .. أي وسبحه كذلك بعضا من الليل ، وفى أدبار السجود ، أي
أعقاب الصلوات .. فى الليل أو فى النهار ..
والتسبيح بالليل
يعنى أن الليل ليس كله وقتا ميّتا ، بل فيه أوقات حية عند المؤمنين بالله ،
يحيونها بذكر الله والتسبيح بحمده ، حيث تخلو النفس من شواغل الحياة ، ويفرغ القلب
من الواردات التي ترد عليه منها فى النهار .. ففى هذه الأوقات من الليل يطيب الذكر
، وتصفو موارد الذاكرين .. ومثل الليل فى هذا الأثر الذي يحدثه فى النفس من الصفاء
والصحو الروحي ـ ما يكون من المصلّى أثناء السجود ، حيث يضع المصلى وجهه على الأرض
، فلا يرى من هذا الوجود شيئا يحجبه عن الله ، أو يشغله عن النظر إليه .. وهذا ما
يشير إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه فى قوله : «أقرب ما يكون العبد من ربه ،
وهو ساجد» ..
قوله تعالى :
(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ..
الخطاب للنبى
صلوات الله وسلامه عليه ، ومن ورائه المؤمنون .. وهو معطوف على قوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ..) وما بعده ..
والمراد بالاستماع
هنا ، إما أن يكون الانتظار ، كما يقول سبحانه : (فَارْتَقِبْهُمْ
وَاصْطَبِرْ) (٤٧ : القمر) وكما
يقول جل شأنه : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١٠ : الدخان)
وقوله جل شأنه : (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) (١٨ : غافر) ..
وعلى هذا يكون
الفعل مسلطا على ما بعده ، وهو (يَوْمَ يُنادِ
الْمُنادِ) الذي وقع مفعولا لهذا الفعل ..
وفى التعبير عن
الانتظار والترقب بالاستماع ـ إشارة إلى ما يجىء وراء
هذا الانتظار ،
وهو هذا النداء الذي ينادى به الموتى من قبورهم ، فيخرجون من الأجداث سراعا ..
فكأن الأمر بالانتظار يحمل فى مضمونه أمرا بالاستماع ، فحسن فى مقام التهديد أن
يقوم المحمول مقام الحامل ، لأنه هو المراد ..
وإما أن يكون
الاستماع على حقيقته ، ويكون معموله المسلط عليه محذوفا ، تقديره «واستمع» ما
سنحدثك به بعد ، وأصخ إليه سمعك ، فهو أمر عظيم ، ينبغى أن يلقاه الإنسان بكيانه
كله ، حتى يعيه ، وحتى لا يفوته منه أي شىء ..
وعلى هذا يكون
قوله تعالى : (يَوْمَ يُنادِ
الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ
يَوْمُ الْخُرُوجِ) ـ يكون هذا هو ما
دعى النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى الاستماع له .. ومفهوم هذا أن هناك يوما
سينادى فيه المنادى من مكان قريب ، وأن هذا اليوم هو اليوم الذي يسمع فيه الموتى
هذا النداء ، وذلك هو يوم الخروج من القبور الذي يكذب به المشركون ..
ووصف المكان بأنه
قريب ـ إشارة إلى أن كل إنسان سيسمعه ، أيا كان مكانه ، حيث يقع النداء فى أذن كل
ميت ، وكأن هاتفا يهتف به وهو قائم على رأسه ..!
قوله تعالى :
(إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) ..
هو إشارة إلى ما
لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق فى ملكه ، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ..
وبهذا السلطان
يحيى الله سبحانه وتعالى كل حىّ ، وبهذا السلطان يميت الله كل حى ، وبهذا السلطان
يصير كل ما فى الوجود إليه ، يقبضه ويبسطه كيف يشاء .. فالبعث الذي ينكره المشركون
، هو أمر واقع فى سلطان الله .. فكما ملك ـ سبحانه ـ الحياة ، يملك الموت ، وكما
ملك الموت يملك الحياة ..
قوله تعالى :
(يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ).
هو متعلق بقوله
تعالى : (وَإِلَيْنَا
الْمَصِيرُ) ـ أي إلينا مصير
الخلق جميعا ، يوم تتشقق الأرض عنهم ، ويخرجون من قبورهم سراعا إلينا ، أي مسرعين
إلى حيث الحساب والجزاء ..
وقوله تعالى : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) .. أي ذلك الحشر ، حشر يسير علينا ، لا نتكلف له جهدا .. (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠ : النحل) ..
قوله تعالى :
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ).
هو تهديد ووعيد
المشركين المكذبين بيوم الدين .. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما يقولون من مفتريات
وأباطيل فى النبي ، وفى الكتاب الذي يتلوه عليهم ، وسيجزيهم بما هم أهل له ، من
العذاب والنكال!
وقوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) ـ هو بيان لموقف
النبي من هؤلاء المعاندين المكابرين ، الذين لجّ بهم الضلال ، والعناد ، ولن
يأخذوا طريق الهدى إلا إذا أخذوا قهرا وقسرا ، بيد قوية جبارة .. وهذا ليس من
وظيفة النبي ، ولا من محامل دعوته التي جاءت تحاجّ العقل ، وتقوده بالحجة والبرهان
.. فذلك هو السبيل الذي تصلح به القلوب الفاسدة ، إن كان ثمة سبيل إلى إصلاحها ..
وذلك هو الأسلوب
الذي يقيم الدين بمقامه المكين من النفوس ، إن كانت مهيأة لقبول الخير ، صالحة
للتجاوب معه .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) وقوله سبحانه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وقوله جل شأنه : (فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ..
وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ) ـ هو بيان لمقام
النبي من دعوته ، وأسلوبه فى الدعوة إليها : التذكير بالقرآن ، وذلك بتلاوته على
الناس جميعا. كما يقول له الحق سبحانه وتعالى :
(إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ
اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ
الْمُنْذِرِينَ) (٩١ ـ ٩٢ النمل)
..
وفى اختصاص الذين
يخافون وعيد الله بتلاوة القرآن عليهم ، وتذكيرهم
بما فيه من زواجر
، مع أن الرسول مطالب بأن يتلو القرآن على الناس كلهم ، وأن يذكّرهم بزواجره ـ فى
هذا إشارة إلى أن الذين من شأنهم أن يخافوا وعيد الله إذا استمعوا إليه ، هم الذين
ينتفعون بهذا القرآن ، وأمّا سواهم الذين لا يسمعون ، ولا يعقلون ، فهم همل ضال
ضائع ، لا حساب له فى هذا المقام .. كما يقول سبحانه : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (١٨ : فاطر) وقوله
تعالى : (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥ : النازعات)
..
٥١ ـ سورة الذاريات
نزولها : مكية
عدد آياتها : ستون
.. آية
عدد كلماتها :
ثلاثمائة وستون .. كلمة.
عدد حروفها : ألف
ومائتان وسبعة وسبعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ذكرت سورة «ق»
موقف المشركين ومقولاتهم المتكررة للبعث ، كما ذكرت مع هذه المقولات من آيات الله
ومن دلائل قدرته ، ما يكشف عن ضلال هذه المقولات ، وانحراف هذا الموقف .. ثم ختمت
السورة بتخلية النبىّ بين المشركين المعاندين ، وبين ما ركبوا من ضلال ..
ثم تجىء سورة «الذاريات»
، لتلقى هؤلاء المشركين المعاندين ، بحديث مجدّد عن البعث ، والحساب والجزاء ،
ولكن لا تلقاهم لقاء مواجها لهم وحدهم ، بل ضمن حديث عام مطلق ، موجّه إلى الناس
جميعا .. فإن شاءوا استمعوا إليه ، وكان لهم أن ينتفعوا به ، وإن شاءوا مضوا على
ما هم عليه من إعراض ونفور! وذلك ما سنراه فى مطلع هذه السورة الكريمة.
بسم الله الرحمن الرّحيم
____________________________________
الآيات (١٤ ـ ١)
(وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ
يُسْراً (٣)
فَالْمُقَسِّماتِ
أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥)
وَإِنَّ
الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ
مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)
(١٤)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً).
هذه أربعة أشياء
أقسم بها الله سبحانه وتعالى بها ، فى نسق واحد .. الذاريات ، فالحاملات ،
فالجاريات ، فالمقسّمات ..
وقد اختلف فى هذه
الأشياء المقسم بها .. أهي شىء واحد تعددت صفاته وآثاره؟ أم هى أشياء متعددة ، لكل
شىء منها صفته وأثره؟
والرأى الراجح فى
هذه الآراء ، هو أنها أربعة أشياء .. لكل شىء ذاتيته ووظيفته ..
فالذاريات :
الرياح ، التي تذرو التراب ، والدخان ، كما تذرو بخار الماء ، وتدفعه أمامها ،
وتعلو به إلى طبقات الجوّ العليا ، حتى يتجمع ، وبصير سحابا ..
والحاملات : هى
السحب ، المحملة بالماء ..
والجاريات : هى
السفن التي تجرى فوق الماء ..
والمقسّمات : هى
الملائكة التي تتقاسم العمل بأمر الله ، فى تدبير شئون الناس ..
وهذا الرأى يعضّده
حديث ينسب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما يسند حمل هذا الحديث إلى عمر بن الخطاب ، رضى الله
عنه ، وقد سأله ابن الكوّاء عن حقيقة هذه المسميات ، فأجابه عمر ـ رضى الله ـ على
نحو هذه الإجابة ، وفى كلّ واحدة منها يقول عمر :
«ولو لا أنى سمعت
رسول الله يقولها ما قلتها» ..
وعلى هذا تكون هذه
الآيات قد تضمنت أربعة أقسام ، مرتبة بهذا الترتيب المتعاقب ..
أما الكلمات :
ذروا ، ووقرا ، ويسرا ، وأمرا ، فالرأى الذي نراه ـ والله أعلم ـ أنها أحوال
متلبسة بهذه الأشياء التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها ، وأن الله سبحانه وتعالى
أقسم بها فى تلك الحال المتلبسة بها .. فهذه الحال هى التي تجعل لهذه الأشياء شأنا
وقدرا ، ولو أنها تجردت من هذه الحال ، أو لبست حالا أخرى ، لما كان لها هذا الشرف
العظيم ، بأن أقسم الله بها ، فإن فى قسم الله سبحانه وتعالى بالشيء تكريما له ،
ورفعا لقدره ، وتنويها لمقامه بين الأشياء ..
فالذاريات ذروا :
هى الرياح فى حال هبوبها ، وقدرتها على حمل بخار الماه والصعود به إلى طبقات الجوّ
العليا ، ولو أنها كانت أنساما رقيقة مريضة ، لما أثارت الأمواج ، ولما تحرك من
صدر البحار بخار ، ولو كان هناك بخار لما استطاعت حمله ، والارتفاع به إلى حيث
يصير سحابا ..
فذروا ، مصدر
بمعنى اسم الفاعل ، والتقدير : والذاريات ذارية ، أي حاملة ما يذرى .. وقد تكون
الرياح وليس فى كيانها شىء تذروه معها.
أما هذه الرياح ،
فهى حاملة ما تذروه ، ولهذا سميت ذاريات.
والحاملات وقرا :
هى السحب الموقرة ، أي الحملة بالماء ، المثقلة به ، وتوشك أن تلده ، كما تلد
الحوامل المثقلات حملهن ..
والجاريات يسرا :
هى السفن ، فى حال من اليسر ، مواتية لسيرها فى ريح رخاء ، لا عاصفة ، ولا هامدة
..
والمقسّمات أمرا ،
هى الملائكة فى حال حملها لما تؤمر به.
وننظر فى هذه
الأقسام على هذا الوجه ، فنجدها هكذا : فالرياح ذارية ، والسحب موقرة ، والسفن
ميسّرّا لها الجري ، فالملائكة مأمورة بما تقسّمه فى الناس من أرزاق وأرزاء ..
فالرياح ، والسحب
، والسفن ، والملائكة ، هى فى أحوال لها فيها وجود عامل مؤثر فى حياة الناس .. وفى
قسم الله سبحانه وتعالى بها وهى متلبسة بأحوالها تلك ـ دعوة إلى الناس أن يلتفتوا
إليها ، وأن يروا آثار رحمة الله بهم فيها .. فلو شاء الله لسكنت الريح ، فلم
تتخلق السحب ، ولم تجر السفن ، ولما كان للملائكة عمل على هذه الأرض ، إذ لا حياة
فيها مع فقدان الماء ، الذي يقول سبحانه وتعالى فيه : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) .. وهذا ـ والله أعلم ـ هو السرّ فى هذا الترتيب المتعاقب
بين هذه الأشياء .. فكان أولها الرياح ، التي تتخلق منها السحب ، التي هى المصدر
الوحيد للماء العذب الذي تفيض به الأنهار وتتفجر منه العيون ، ثم هى التي تجرى بها
السّفن محملة بالناس والمتاع .. ثم هى التي جعلت الملائكة عملا فى حياة الناس ،
بعد أن كان للناس حياة فى الأرض ، بالماء الذي انزل من السحب ، والذي تخلّق بفعل
الرياح ..
قوله تعالى :
(إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ).
هو المقسم عليه
بهذه الأقسام الأربعة ، وهو ما يسمّى بجواب القسم ..
والآيتان إخبار من
الله سبحانه وتعالى بأن ما يوعد به الناس من البعث من قبورهم بعد الموت ، هو وعد
صادق ، لا شك فيه ، وأن (الدِّينَ) وهو الدينونة والجزاء ، واقع لا محالة ..
وفى الإخبار عن
الموعود به بأنه صادق ، دون القول بأنه «صدق» إذ الصدق وصف للخبر ، والصادق ، وصف
المخبر به ـ فى هذا إشارة إلى أن هذا الوعد ذاتىّ ، وأنه هو ذاته الصادق الذي ينطق
بالصدق ..
وليست أخبار الله
سبحانه وتعالى ـ وهى الحق المطلق ـ بالتي تحتاج إلى توكيد تحققها بقسم أو غيره ،
ولكنّ أهل الضلال والعناد ، يشكوّن فى نسبة هذه الأخبار إلى الله ، كما أنهم لا
يرتفعون بقدر الله وجلاله كثيرا عن المستوي البشرى .. ففى تأكيد الخبر لهم بالقسم
، دلالة على تكذيبهم لرسول الله ، ثم سوء ظنهم بالله ..
قوله تعالى :
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ).
الحبك : جمع حبيكة
، والحبيكة : ما يكون فى طرف الرداء من طرز ونقوش ..
والسماء ذات الحبك
: أي السماء المطرزة المزينة بالكواكب والنجوم.
ويؤفك : أي يصرف ،
وهو من الإفك ، وهو افتراء الكذب الذي يصرف به صاحبه عن الحق ، وما وراء الحق من
خير
وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) ـ قسم ، والمقسم
عليه هو قوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) والخطاب للناس جميعا ، والقول المختلف ، هو اختلاف مقولات
الناس فى أمر البعث ، والجزاء .. فهم بين مؤمنين مصدقين بما وعدوا به ، وبين
مكذّبين بهذا الوعد ، منكرين له ..
وقوله تعالى : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن وجه الحق فى أمر البعث والجزاء ، (مَنْ أُفِكَ) أي من صرف عن الحقّ بطبعه ، وما غلب عليه من شقوة ، فهو
وإن كان قد أعرض عن الإيمان بالله ، والتصديق بالبعث والجزاء ـ فإن ذلك حكم سابق
فيه ، وقضاء قضى عليه به ، لأن الله سبحانه قد علم ما يكون من قبل أن يكون .. وقد
علم سبحانه أنه ذو طبيعة لا تقبل الحق ، ولا تستجيب لداعيه ، فصرفه الله عن الحق ،
كما يقول سبحانه : (ثُمَّ انْصَرَفُوا
صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١٢٧ : التوبة)
وقوله تعالى :
(قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) ..
الخراصون : جمع
خرّاص ، وهو الذي يخرص الأشياء وبقدرها بحدسه وظنّه ، دون أن يستند فى ذلك إلى علم
محقق ، كما يفعل الذي يخرص ما على النخل من تمر ، وما يعطى الزرع من حبّ ..
فالخراصون ، هم
الكذابون ، الذي يقولون بغير علم ..
وقوله تعالى : (قُتِلَ) ـ هو دعاء عليهم ،
ورمى لهم باللعنة والطرد من رحمة الله ..
وقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) صفة ، أو بدل من
(الْخَرَّاصُونَ) .. والغمرة : الشدّة التي تغمر الإنسان وتغطى على مشاعره ،
وتستولى على تفكيره ، وهى من الجهل الذي يغمر صاحبه ، ويغطى على عقله ، وسمعه ،
وبصره ..
والساهون :
الغافلون ..
فاللعنة واقعة هنا
على الذين يلقون بالسوء من القول ، ويرجمون الناس بالتهم جزافا ، من غير تعقل أو
تدبّر ، شأنهم فى هذاه شأن من غلب السكر على عقلة ، فجعل يهذى من غير وعى. فهؤلاء
الخراصون هم فى سكرة من الجهل والغباء ، إلى ما فيهم من عناد واستكبار ..
قوله تعالى :
(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ).
أي أن من ضلال
هؤلاء الخراصين ، ومن مقولاتهم الضالة الكاذبة ، هذا السؤال الذي يسألونه عن يوم
القيامة ، سؤال المنكر له ، المستبعد لوقوعه ، المكذب به .. فيقولون : متى يوم
الدين؟ كما ذكر ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى عن إنكار المنكرين للبعث : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) (٢٥ : الملك) ..
وقد عبر بالاستفهام عن الزمان بأداة المكان «أبان» للإشارة إلى أنهم ينكرون وقوع
هذا الأمر ، زمانا ومكانا ، فلا يقع فى مكان ، أو فى زمان .. وهذه مبالغة منهم فى
الإنكار والجحود .. وكأنهم يقولون أين هذا اليوم؟ إنه لا وجود له! ..
وقوله تعالى :
(يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) ..
هو جواب لهذا
السؤال الإنكارى الذي سألوه بقولهم : (أَيَّانَ يَوْمُ
الدِّينِ؟) ..
فكان الجواب :
سيعرفونه «يوم هم على النار يفتنون» أي يحرقون فيها ويقلّبون على جمرها ..
وأصل الفتن ، عرض
الذهب وغيره على النار ، ليظهر ما فيه من خبث .. وقد عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، إبعادا
للمشركين عن مقام الحضور ، وطردا لهم من مقام أهلية الاستماع إليهم ، والرّد عليهم
..
قوله تعالى :
(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ
.. هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) ..
هو مواجهة لهم
بالعذاب ، ولقاء لهم بما يسوءهم .. أي يقال فى هذا اليوم : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذابكم الذي أعدّ لكم ، وهو العذاب الذي يجزى به الذين
فتنهم الشيطان ، وأغواهم فكفروا بالله ، وضلوا عن سواء السبيل ..
فالفتنة هنا تجمع
بين معنيين ، بين الفتنة ، أي الضلال الذي كانوا فيه ، وبين الفتنة ، التي هى
النار التي تذيب المعادن ، وتصهرها .. فهم فتنة فى أنفسهم ، ثم تلقاهم يوم القيامة
فتنة ، هى العذاب الذي يصهر به ما فى بطونهم والجلود ..
____________________________________
الآيات : (١٥ ـ ٣٢)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥)
آخِذِينَ
ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً
مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧)
وَبِالْأَسْحارِ
هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي
الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
(٢٣)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ..
هو بيان للجزاء
الذي يجزى به الفريق الآخر ، الذي يقابل فريق الخرّاصين المكذبين .. فقد جاء قوله
تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) مبينا موقف الناس من الإيمان بالبعث والجزاء ، وأنهم
فريقان مختلفان ، مؤمنون وكافرون ، مصدقون ومكذبون ..
وقد جاء التعقيب
على هذا ، بما يلقى الكافرون المكذبون ، من عذاب ونكال ، فأخذوا دون إمهال إلى
جهنم ..
ثم جاء بعد ذلك
المؤمنون ، المصدّقون بالبعث والجزاء ، ففتّحت لهم أبواب الجنة ، وسيق إليهم فيها
ما تشتهى أنفسهم من نعيمها ..
وقوله تعالى :
(آخِذِينَ ما آتاهُمْ
رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) ..
أي يتقبلون من
ربهم ما يساق إليهم من ألطاف ، وما يقدم إليهم من ألوان النعيم ، مما لم يكن يخطر
لهم على بال ، أو يقع لهم فى أحلام ..
وفى مدّ الله
سبحانه وتعالى لهم يده الكريمة بهذا الإحسان ، وفى تناولهم هذا
الإحسان من ربهم ـ
فى هذا ما فيه من تكريم لا يناله إلّا المقربون ، الذين رضى الله عنهم ، جعلنا
الله سبحانه وتعالى منهم ، إنه ذو الفضل العظيم ..
وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُحْسِنِينَ) هو بيان للأسباب والوسائل ، التي توسل بها هؤلاء المكرمون
من عباد الله ، إلى هذا النعيم العظيم الذي هم فيه ، وذلك أنهم كانوا قبل ذلك
اليوم ، أي يوم القيامة ، وهو الدنيا ـ كانوا محسنين ، فلقيهم الله بإحسان مضاعف ،
كما يقول سبحانه : (هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠ : الرحمن).
قوله تعالى :
(كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ..
هو بيان مفسّر
لإحسان هؤلاء المحسنين .. فقد كان من إحسانهم أنهم يذكرون ربهم ، لا يكادون يغفلون
عن ذكره ، ولا يعطون أنفسهم حظها من النوم .. فإذا نام الغافلون ، قطعوا هم ليلهم
ترتيلا ، وتسبيحا ، وصلاة ، وذكرا .. والهجوع ، هو النوم القليل ، وهو ما يسمى
بالغرار ، كما يقول :
ما أذوق الليل
إلا غرارا
|
|
مثل حسو الطير
ماء السّمال
|
«وما» فى قوله تعالى : (ما يَهْجَعُونَ) .. إما مصدرية ، أي كانوا على حال قليل فيها من الليل
هجوعهم. وإما موصولة ، والمعنى : كانوا على حال قلّ فيها الزمن الذي يهجعون فيه من
الليل.
__________________
قوله تعالى :
(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ)
الأسحار ، جمع سحر
، وهو آخر الليل ..
استغفارهم فى آخر
الليل ، الذي قطعوه تسبيحا وذكرا ، وترتيلا وصلاة ـ إشارة إلى أنهم يرون أن ما
قاموا به من تسبيح وذكر ، وصلاة ، وترتيل ـ لم يستوف ما لله من حق عليهم ، فى
عبادته وتسبيحه ، فهم لهذا يستغفرون ربهم ، ليتجاوز عن تقصيرهم فى حقه ..
قوله تعالى :
(وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
أي ومن أعمال
هؤلاء المؤمنين المصدقين بالله ورسوله ، واليوم الآخر ـ أنهم يشاركون الناس فيما
فى أيديهم من مال ، ويرون أن فى هذا المال الذي أعطاهم الله ، حقّا لكل محتاج ، من
سائل ، يطلب ، أو محروم يتعفف عن السؤال ..
قوله تعالى :
(وَفِي الْأَرْضِ
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ)
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، أنها تنعى على هؤلاء الضالين المكذبين ، كفرهم وضلالهم الذي فوّت
عليهم هذا النعيم الذي أعده الله للمؤمنين ، وأنهم إذا كانوا قد استكبروا على أن
ينقادوا لرسول الله ، وأن يستجيبوا لما يدعوهم إليه من هدى ـ أفلا كانت لهم عيون
تنظر فى هذا الوجود ، وتطالع ما فيه من آيات تشهد بما لله سبحانه وتعالى من قدرة
وسلطان ، وعلم وحكمة؟
إنه كما فى يد
الرسول آيات ناطقة بالحق ، داعية إليه ـ كذلك هناك آيات أخرى فى الأرض ، وفى
السماء ، وفى كل ما خلق الله ، تشهد بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه
الباطل .. ولكنهم لشقوتهم قد أصمّوا آذانهم عن سماع كلمات الله ، وأغمضوا أعينهم
عن النظر فى كتاب الوجود ، فكفروا ، وضلّوا .. فكان مأواهم جهنم وساءت مصيرا.
وفى قوله تعالى (لِلْمُوقِنِينَ) ـ إشارة إلى أنه
لا ينتفع بتلك الآيات الكونية ، ولا يقع على مواقع الهدى منها ، إلا أهل اليقين ،
الذين يطلبون العلم والمعرفة ، بالبحث الجادّ ، والنظر المتفحص ، فإذا وقع لهم من
ذلك علم ، كان علمهم عن برهان وحجة ، فيقع منهم ذلك العلم موقع التثبت واليقين ..
فهم ـ والحال كذلك ـ لا يتّبعون الأهواء ، ولا يتابعون أهل الضلال ..
قوله تعالى :
(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ)
أي إذا كنتم أيها
المكذبون الضالون ، قد كلّت أبصاركم عن أن تنظر فى صفحة هذا الوجود ، وأن تمتد إلى
أبعد من مواطىء أقدامكم ، فإن ذلك لا يحول بينكم وبين الوصول إلى الدليل على قدرة
الله وسلطانه القائم على الوجود ، وإنه ليكفى أن تنظروا فى ذات أنفسكم ، فإن فى
أنفسكم عالما رحيبا ، وكونا فسيحا .. وإنه ليكفى أن يقيم أحدكم بصره على مسيرته فى
الحياة ، من وجوده نطفة إلى أن صار رجلا .. إنكم ستجدون فى هذا سجلّا حافلا
بالآيات الدالة على قدرة الخالق ، وعلى حكمته ، وعلى بديع صنعه ، وحكمة تدبيره ..
والاستفهام هنا
توبيخ وتعنيف ، لهؤلاء الذي عموا عن مشاهد القدرة الإلهية ، وآثارها الناطقة فى كل
ما خلق الخالق جلّ وعلا ..
قوله تعالى :
(وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)
أي ، وانظروا فى
السماء ، فهى أوضح صورة ، وأجلى بيانا مما فى الأرض أو فى أنفسكم .. إن فيها أسباب
رزقكم ، وملاك حياتكم ، بما ينزل منها ماء ، وما يجرى فيها من شمس ، وقمر ، وكواكب
، ونجوم .. بل إن فيها عرش الله ، وفيها ملائكته ، وفيها مقدّرات الأمور .. فكل ما
يجرى على الناس وغيرهم من شئون ، هو منزّل من علوّ. كما يقول سبحانه ، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ
رِزْقاً) (١٣ : غافر) وكما
يقول جل شأنه : (يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٢ : النحل) ..
والتنزيل لا يكون إلا من جهة عالية .. فالسماء هنا ، إشارة إلى جلال الله ، وعظمته
، وعلوّ مقامه ، وقيومته على هذا الوجود ..
قوله تعالى :
(فَوَ رَبِّ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ .. إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
بعد أن أقسم الله
سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته ، توّج هذه الأقسام جميعها بالقسم بذاته العلية جلّ
شأنه ، واصفا ذاته الكريمة ، بأنه رب السموات والأرض ومدبّر أمرهما .. والمقسم
عليه هنا ، كلّ ما وقعت عليه الأقسام السابقة ، من صدق ما يوعد الناس به من بعث
ودينونة ، وحساب وجزاء ، وما جاء من أخبار عن نعيم أهل الجنة ، وعذاب أهل النار ،
ثم ما أخبر به جل شأنه ، من أنه المالك للأرزاق ، والمقدّر لها ، كما أنه مالك يوم
الدين ، وما يلقى الناس فى هذا اليوم ..
فهذا كله حقّ لا
امتراء فيه ، وهو واقع كما أخبر به الحقّ جلّ وعلا ، على سبيل القطع واليقين ..
وقوله تعالى (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا لصفة محذوفة أيضا لخبر
إن ، والمقام دالّ على هذين المحذوفين والتقدير : فو رب السماء والأرض إن ذلك كله
لحق واقع وقوعا مماثلا لوجودكم الذي أنتم عليه ، والذي لا يمكن أن تنكروه .. وهل
ينكر الإنسان وجوده ، وهو حى ناطق؟
واختيار النطق صفة
دالة على وجود الإنسان ، لأن المنطق هو الصفة المميزة للإنسان عن عالم الحيوان ،
ولأن النطق كذلك يدلّ على أن وراءه إنسانا ذا حس وإدراك ، وأنه إذا غابت عنه
المحسات والمدركات ، فلن يغيب عنه الإحساس بوجوده ، وإدراك أنه موجود ..
أخرج ابن جرير ،
وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال : بلغني أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدّقوا» وروى
عن الأصمعى أنه قال : أقبلت من جامع البصرة ، فطلع أعرابى على قعود ، فقال : ممن
الرجل؟ قلت : من بنى أصمع ، قال : من أين أقبلت ، قلت من موضع يتلى فيه كلام
الرحمن قال : اتل علىّ ، فتلوت «والذاريات» فلما بلغت (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ) قال : حسبك .. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها ، وعمد إلى
سيفه وقوسه فكسر هما ، وولىّ ..
يقول الأصمعى :
فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف ، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتّ ،
فإذا بالأعرابى قد نحل واصفرّ ، فسلّم علىّ ، واستقرأنى السورة ، فلما بلغت الآية
: (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)
صاح ، وقال : قد
وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا .. ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) فصاح وقال : يا سبحان الله ، من ذا أغضب الجليل حتى حلف؟
لم يصدّقوه يقوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا ، وخرجت معها نفسه!!»
____________________________________
الآيات (٣٠ ـ ٢٤)
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى
أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ
قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ
رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)
(٣٠)
____________________________________
التفسير :
قوله تعالى :
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) ..
مناسبة هذه الآية
لما قبلها ، هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لعناد المشركين وضلالهم البعيد ،
المغرق فى السفه والضلال ، حتى مع هذه الأقسام التي أقسم الله بها سبحانه وتعالى ،
فى سوق الأخبار إليهم .. فكانت الآية وما بعدها من آيات ، نذيرا من النذر التي
تحمل إلى هؤلاء المشركين المعاندين تهديدا بأن يلقوا مصيرا كمصير المعاندين
الضالين ، وهم قوم لوط ..
وفى قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ) ـ انتقال بالنبيّ
من هذا الجو الخالق الذي يعيش فيه مع قومه ، وما يفوح منهم من ريح خبيثة ، محملة
بإفرازات كفرهم وضلالهم .. ففى الاستفهام دعوة للنبىّ الكريم من ربه ، إلى أن يخرج
من هذا الجوّ الفاسد ، وأن يملأ صدره بشذا هذه الريح الطيبة التي تهب عليه من ذكرى
نبىّ كريم ، هو إبراهيم عليهالسلام ، وما كان له عند الله من فضل وإحسان ..
وفى مجىء هذا
الحديث منقطعا عما قبله ، غير معطوف عليه ـ عزل تام له عن الحديث السابق ، حتى لا
يدخل عليه شىء منه ، وحتى لا يطلّ عليه وجه من تلك الوجوه المنكرة ، التي كان
يراها النبي الكريم من قومه ..
والضيف ، بمعنى
الضيوف ، فهو يطلق على الفرد والجمع .. ومثل هذا قوله تعالى على لسان لوط مخاطبا
قومه : (إِنَّ هؤُلاءِ
ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) (٦٨ : الحجر) فهو
يشير إليه إشارة الجمع «هؤلاء» كما وصفوا هنا بصفة الجمع «المكرمين»
قوله تعالى :
(إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً .. قالَ سَلامٌ .. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ).
«إذ» ظرف مقيّد
لهذا الحديث ، أو الخبر ، الذي كان من الملائكة مع إبراهيم .. فالمراد بالخبر الذي
يورده الله سبحانه وتعالى على النبي فيما كان بين الملائكة وبين إبراهيم ـ هو هذا
الخبر الذي كان فى هذا الوقت الذي دخلوا عليه فيه ..
وقوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً) ـ أي قالوا
لإبراهيم هذه الكلمة ، يجيبونه بها ، ويبعثون إليه منها أمنا وسلاما ، ويؤذنونه
بأنهم لا يريدون به سوءا ، بعد أن وقع فى نفسه ما وقع ، من دخولهم عليه هذا الدخول
المفاجئ ـ من مشاعر الريبة ، والخوف ، وتوقع الأذى! كما يشير إلى ذلك ما جاء فى
قوله تعالى على لسان إبراهيم فى آية أخرى : (إِنَّا مِنْكُمْ
وَجِلُونَ) (٥٢ : الحجر) ..
وقوله تعالى : (قالَ سَلامٌ) ـ هو رد إبراهيم
على ضيفه ، وهو رد مقتضب موجز ، فى مقابل تحيتهم الموجزة الخاطفة .. وهو بدل على
ما وقع فى نفس إبراهيم من توجس وريبة منهم ..
وقوله تعالى : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) .. هى كلمة قالها إبراهيم بينه وبين نفسه ، ترجمة لتوجّسه
وخوفه منهم .. فإنه ما كان لنبى الله ، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالحلم ، أن
يجبه ضيفه بهذا القول ، ويرمى به فى وجوههم ، ثم يلقاهم بهذا الإكرام والحفاوة ،
بما يقدم لهم من طعام طيب كريم ..
قوله تعالى :
(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ
فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) ..
راغ لأهله : أي
مال إلى أهله ، وانسرب إليهم فى خفة من غير أن يكاشف ضيفه بما يريد من إكرامهم
وإعداد الطعام لهم .. فذلك من شأنه أن يحرج الضيف ، ويحمله على أن يطلب إلى مضيفه
ألّا يفعل ..
قوله تعالى :
(فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ)؟ ـ هنا إيجاز حذف دلّ عليه المقام ..
أي فقرّبه إليهم ،
فلم يمدّوا أيديهم إليه ، ولم يقبلوا على الأكل منه ، كما هو شأن الضيف حين يقدّم
إليه .. الطعام فلما رأى ذلك منهم نكرهم ، وأوجس منهم خيفة ، وقال: (أَلا تَأْكُلُونَ؟) ..
قوله تعالى :
(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ..
وهنا كلام محذوف
أيضا .. «قال ألا تأكلون» .. فلم يأكلوا ، ولم يستجيبوا لهذه الدعوة المجددة إليهم
«فأوجس منهم خيفة» أي فازداد إحساسه بالخوف منهم ، وقوى عنده الشعور الذي وقع فى
نفسه من أول دخولهم عليه ، ولقائهم له ..
«قالوا لا تخف وبشروه
بغلام عليم» ـ أي أنهم حين رأوا ما انطبع على وجه إبراهيم من أمارات التوجس والخوف
، سكنوا من روعه ، وقالوا له : لا تخف ، ثم ألقوا إليه بهذه البشرى المسعدة ، وهى
أن يولد له الولد الذي كان ينتظره منذ شبابه الأول ، وها هو ذا وقد بلغ من الكبر
عتيّا ، وأخلى يديه من هذا الأمل الذي كان يراوده ، وخاصة أن امرأته كانت عقيما ،
ثم اجتمع مع هذا العقم تجاوزها العمر الذي تلد فيه النساء ـ ها هو ذا يتلقّى هذه
البشرى المسعدة.
والغلام الذي بشر
به هو إسحق ، من زوجه سارة .. «والعليم» ، مبالغة من العلم ، والعلم كان صفة بارزة
من صفات إسحق ، كما كان الحلم الصفة البارزة فى إسماعيل ، كما يقول سبحانه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (١٠١ : الصافات).
قوله تعالى :
(فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ).
الصّرّة : الصيحة
، من دهش ، أو فزع ..
وصكّ الوجه : لطمه
تلقائيّا ، عند ورود أمر عجيب ، غير متوقع ..
والمعنى ، أن
امرأة إبراهيم ، حين سمعت بهذا الخبر من ضيقه ، وبأنهم يحملون إليه البشرى بولد ـ أخذتها
حال من الدّهش والعجب ، فأقبلت إليهم ، فى ولولة وصياح وانزعاج ، وقد ضربت بيديها
على وجهها ، ثم قالت :
«عجوز عقيم»!!
فكيف يكون هذا؟ وكيف تلد العجوز؟ ثم كيف تلد من اجتمع مع شيخوختها العقم؟ إنه هذا
لشىء عجيب!!.
قوله تعالى :
(قالُوا كَذلِكَ قالَ
رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ..
أي أن هذا الذي
نقوله ليس من عندنا ، وإنما هو ما قاله الحق جلّ وعلا ..
وهو «الحكيم» الذي
يدبر الأمور بحكمته ، فيقع الأمر حيث أراد ، ومتى أراد .. كما أراد.
وهو «العليم» ،
الذي يضبط الأمور بعلمه ، وبزنها ويقدّرها بحكمته ..
وهذا الموقف الذي
كان بين إبراهيم ، وضيفه ، وامرأته ، لم تذكر الآيات الكريمة هنا منه ، إلّا
الأحداث البارزة فيه ، وقد ذكر هذا
الموقف فى مواضع
أخرى من القرآن الكريم ، وكل موضع منها يمسك بالموقف كله ، كاشفا عن جانب من
جوانبه ، مسلّطا الضوء على مقطع من مقاطعه .. فإذا نظر الناظر إلى أي موضع جاء فيه
ذكر هذا الموقف فى القرآن الكريم ، وجد بين يديه حدثا كاملا ، فإذا ضمّت هذه
المواضع بعضها إلى بعض ـ رأى صورة مكبرة للحدث ، تزداد به الصورة وضوحا .. تماما
كما تفعل «المصوّرة» فى نقل صور للشىء الواحد من أكثر من جانب ، وفى أكثر من وضع
..
والشيء هو الشيء ،
فى أية صورة من تلك الصور ..
|