

فهرس الموضوعات
٦ ـ تفسير
سورة الأنعام.......................................................... ٧
٧ ـ تفسير
سورة الأعراف..................................................... ١٠٠
٨ ـ تفسير
سورة الأنفال...................................................... ١٨٦
٩ ـ تفسير
سورة التوبة........................................................ ٢٣٠
١٠ ـ تفسير
سورة يونس...................................................... ٣١٤
١١ ـ تفسير
سورة هود....................................................... ٣٥٥
١٢ ـ تفسير
سورة يوسف.................................................... ٤١١
١٣ ـ تفسير
سورة الرعد...................................................... ٤٧٩
١٤ ـ تفسير
سورة إبراهيم..................................................... ٥٠٣
١٥ ـ تفسير
سورة الحجر..................................................... ٥٢٢
١٦ ـ تفسير
سورة النحل..................................................... ٥٤٨
سورة الانعام
فصل
في نزولها : روى مجاهد عن ابن
عباس : أنّ سورة الأنعام مما نزل بمكّة. وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وجابر بن زيد.
(٤٨٨) وروى يوسف
بن مهران عن ابن عبّاس ، قال : نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكّة. وحولها سبعون
ألف ملك.
(٤٨٩) وروى أبو
صالح عن ابن عبّاس قال : هي مكيّة ، نزلت جملة واحدة ، ونزلت ليلا ؛ وكتبوها من
ليلتهم ، غير ست آيات منها مدنيّات (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الثّلاث آيات ، وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) الآية. وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) إلى آخر الآيتين. وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين : قوله :
(وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) ، وقوله : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) .
وروي عن ابن عباس
، وقتادة قالا : هي مكّيّة ، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة ؛ قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وقوله : (وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) . وذكر أبو الفتح بن شيطاء : أنّها
____________________________________
(٤٨٨) روي موقوفا
ومرفوعا ، والمرفوع لا يصح ، والصحيح موقوف.
ـ أما الموقوف ، فأخرجه الطبراني ١٢ / ١٢٩٣٠ من
طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس موقوفا ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن
زيد بن جدعان ، وورد من وجوه أخر موقوفا ، وهو الراجح.
ـ وورد مرفوعا بنحوه عن جماعة من الصحابة فقد
أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٤٤٣ وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ١٥٩ من
حديث أنس. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩٢ : رواه الطبراني عن شيخه عمر بن عبد
الله بن عرس عن أحمد بن محمد السالمي ولم أعرفهما ، وبقية رجاله ثقات ا. ه.
قلت : ابن عرس
توبع عند ابن مردويه ، فانحصر الإسناد في أحمد السالمي ، وقد تفرد به.
ـ وفي الباب من حديث ابن عمر عند الطبراني في «الصغير»
٢٢٠ وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩١ : وفيه يوسف بن عطية الصفّار ، وهو ضعيف ا ه.
بل متروك. ومن حديث جابر عند الحاكم ٢ / ٣١٥ ، وصححه ، ورده الذهبي بقوله : لا
والله لم يدرك جعفر السدي ، وأظن هذا موضوعا اه.
(٤٨٩) موقوف ،
صدره له شواهد منها ما تقدم ، وعجزه واه بمرة. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس
، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس ، وروايته الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، ولفظ «غير
ست آيات ...» واه ليس بشيء.
__________________
مكية ، غير آيتين
نزلتا بالمدينة (قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، والتي بعدها.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))
فأمّا التّفسير ،
فقال كعب : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام ، وخاتمتها خاتمة هود ؛ وإنّما ذكر
السّماوات والأرض ، لأنّهما من أعظم المخلوقات. والمراد «بالجعل» : الخلق. وقيل :
إنّ «جعل» هاهنا : صلة ؛ والمعنى : والظّلمات. وفي المراد بالظّلمات والنّور ثلاثة
أقوال : أحدها
: الكفر والإيمان ،
قاله الحسن. والثاني
: الليل والنّهار ،
قاله السّدّيّ. والثالث
: جميع الظّلمات
والأنوار. قال قتادة : خلق السّماوات قبل الأرض ، والظّلمات قبل النّور ، والجنّة
قبل النّار.
قوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : المشركين بعد هذا البيان (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ، أي : يجعلون له عديلا ، فيعبدون الحجارة الموات ، مع
إقرارهم بأنّه الخالق لما وصف. يقال : عدلت هذا بهذا : إذا ساويته به. قال أبو
عبيدة : هو مقدّم ومؤخّر ، تقديره : يعدلون بربّهم. وقال النّصر بن شميل : الباء :
بمعنى «عن».
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢))
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يعني : آدم ، وذلك أنّه لما شكّ المشركون في البعث ،
وقالوا : من يحيى هذه العظام؟ أعلمهم أنّه خلقهم من طين ، فهو قادر على إعادة
خلقهم.
قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ) فيه ستّة أقوال : أحدها
: أنّ الأجل الأوّل
: أجل الحياة إلى الموت والأجل الثّاني : أجل الموت إلى البعث ، روي عن ابن عبّاس
، والحسن ، وابن المسيّب ، وقتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل. والثّاني : أنّ الأجل الأوّل : النّوم الذي تقبض فيه الرّوح ، ثمّ
ترجع في حال اليقظة ؛ والأجل المسمّى عنده : أجل موت الإنسان. رواه العوفيّ عن ابن
عبّاس. والثالث
: أنّ الأجل الأوّل
: أجل الآخرة متى يأتي ، والأجل الثّاني : أجل الدّنيا ، قاله مجاهد في رواية. والرابع : أنّ الأوّل : خلق الأشياء في ستّة أيّام ، والثاني : ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة ، قاله عطاء الخراسانيّ. والخامس : أنّ الأوّل : قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه ، والثّاني : الحياة في الدنيا ، قاله
__________________
ابن زيد ، كأنّه
يشير إلى أجل الذّرّية حين أحياهم وخاطبهم. والسادس : أنّ الأوّل : أجل من قد مات من قبل ، والثاني : أجل من يموت من بعد ، ذكره الماورديّ.
قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ) أي بعد هذا البيان (تَمْتَرُونَ) وفيه قولان : أحدهما : تشكّون قاله قتادة ، والسّدّيّ. وفيما شكوا فيه قولان : أحدهما : الوحدانيّة. والثاني : البعث. والثاني
: يختلفون : مأخوذ
من المراء ، ذكره الماورديّ.
(وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما
تَكْسِبُونَ (٣))
قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي
الْأَرْضِ) فيه أربعة أقوال : أحدها
: هو المعبود في
السّماوات وفي الأرض ، قاله ابن الأنباري. والثاني : وهو المنفرد بالتدبير في السّماوات وفي الأرض ، قاله
الزّجّاج. والثالث
: وهو الله في
السّماوات ، ويعلم سرّكم وجهركم في الأرض ، قاله ابن جرير.
والرابع
: أنّه مقدّم
ومؤخّر. والمعنى : وهو الله يعلم سرّكم وجهركم في السّماوات والأرض ، ذكره بعض
المفسّرين.
(وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))
قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ
رَبِّهِمْ) نزلت في كفّار قريش. وفي «الآية» قولان :
أحدهما
: أنّها الآية من
القرآن. والثاني
: المعجزة ، مثل
انشقاق القمر.
والمراد بالحقّ :
القرآن. والأنباء : الأخبار. والمعنى : سيعلمون عاقبة استهزائهم.
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا
الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))
قوله تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ) القرن : اسم أهل كلّ عصر. وسمّوا بذلك ، لاقترانهم في
الوجود : وللمفسّرين في المراد بالقرن سبعة أقوال :
(٤٩٠) أحدها : أنّه أربعون سنة ، ذكره ابن سيرين عن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم.
والثاني
: ثمانون سنة ،
رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.
____________________________________
(٤٩٠) عزاه المصنف
لابن سيرين عن النبي صلىاللهعليهوسلم وهذا مرسل فهو واه ، ولم أقف على إسناده ، وهو منكر ،
والمحفوظ ما بعده.
__________________
(٤٩١) والثالث : مائة سنة ، قاله عبد الله بن بسر المازنيّ وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
والرابع
: مائة وعشرون سنة
، قاله زرارة بن أوفى ، وإياس بن معاوية. والخامس : عشرون سنة ، حكاه الحسن البصري. والسادس : سبعون سنة ، ذكره الفرّاء. والسابع : أنّ القرن : أهل كلّ مدّة كان فيها نبيّ ، أو طبقة من
العلماء ، قلّت السّنون ، أو كثرت ؛ بدليل قوله صلىاللهعليهوسلم :
(٤٩٢) «خيركم قرني»
يعني : أصحابي «ثمّ الذين يلونهم» يعني : التّابعين «ثمّ الذين يلونهم» يعني :
الذين أخذوا عن التّابعين. فالقرن : مقدار التوسّط في أعمار أهل الزّمان ؛ فهو في
كلّ قوم على مقدار أعمالهم.
واشتقاق القرن :
من الاقتران. وفي معنى ذلك الاقتران قولان : أحدهما : أنّه سمّي قرنا ، لأنّه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه
أهل ذلك الزّمان في بقائهم. هذا اختيار الزّجّاج. والثاني : أنّه سمّي قرنا ، لأنّه يقرن زمانا بزمان ، وأمّة بأمّة ،
قاله ابن الأنباريّ. وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال : يرون أنّ أقلّ ما بين
القرنين : ثلاثون سنة.
قوله
تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) قال ابن عبّاس : أعطيناهم ما لم نعطكم. يقال : مكّنته
ومكّنت له : إذا أقدرته على الشّيء بإعطاء ما يصحّ به الفعل من العدة. وفي هذه
الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب. فأمّا السّماء : فالمراد بها المطر. ومعنى «أرسلنا»
: أنزلنا. و «المدرار» : مفعال ، من درّ يدرّ ؛ والمعنى : نرسلها كثيرة الدّرّ.
ومفعال : من أسماء المبالغة ، كقولهم : امرأة مذكار : إذا كانت كثيرة الولادة
للذّكور ، وكذلك مئناث. فإن قيل : السّماء مؤنّثة ، فلم ذكّر مدرارا؟! فالجواب : أن
حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه ، أن يلزم التّذكير في كلّ حال ،
سواء كان وصفا لمذكّر أو مؤنّث ؛ كقولهم : امرأة مذكار ، ومعطار ؛ وامرأة مذكّر ،
ومؤنث : وهي كفور ، وشكور. ولو
____________________________________
(٤٩١) ورد ذلك
مرفوعا وهو حديث قوي. علقه البخاري في «التاريخ الكبير» ١ / ٣٢٣ و «الصغير» ١ /
٢١٦ قال : قال داود بن رشيد حدثنا أبو حياة شريح بن يزيد الحضرمي عن إبراهيم بن
محمد بن زياد عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يعيش هذا الغلام قرنا» ، فعاش مائة سنة. وذكره
الهيثمي في «المجمع» ١٦١١٩ بأتم منه وقال رواه الطبراني والبزار باختصار إلا أنه
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ليدركن قرنا»
ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي ، وهو ثقة ا ه.
وورد بنحوه عن
الحسن بن أيوب الحضرمي قال : أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه فوضعت إصبعي
عليها فقال : وضع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إصبعه عليها وقال : «لتبلغن قرنا» أخرجه أحمد ٤ / ١٨٩
والطبراني كما في «المجمع» ١٦١٢٠. قال الهيثمي : ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن
بن أيوب ، وهو ثقة ، ورجال الطبراني ثقات ا ه. وانظر «الإصابة» ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ (٤٥٦٥).
الخلاصة هو حديث
صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
(٤٩٢) حديث صحيح.
لكن لفظ «يعني ...» ليس من الحديث. أخرجه البخاري ٢٦٥١ و ٣٦٥٠ و ٦٤٢٨ و ٦٦٩٥ ومسلم
٢١٤ و ٢١٥ و ٢٥٣٥ وأبو داود ٤٦٥٧ ، والترمذي ٢٢٢٢ والنسائي ٧ / ١٧ و ١٨ ،
والطيالسي ٨٥٢ وأحمد ٤ / ٤٢٧ و ٤٣٦ و ٤٤٠ وابن حبان ٦٧٢٩. والبيهقي ١٠ / ١٢٣ و ١٦٠
وفي «الدلائل» ٦ / ٥٥٢. من حديث عمران بن حصين. وله شواهد.
__________________
بنيت هذه الأوصاف
على الفعل ، لقيل : كافرة ، وشاكرة ، ومذكرة ؛ فلمّا عدل عن بناء الفعل ، جرى مجرى
ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة ؛ كقولهم : النّعل لبستها ، والفأس
كسرتها ، وكأنّ إيثارهم التّذكير للفرق بين المبنيّ على الفعل ، والمعدول عن مثل
الأفاعيل. والمراد بالمدرار : المبالغة في اتصال المطر ودوامه ؛ يعنى : أنّها تدرّ
وقت الحاجة إليها ؛ لا أنّها تدوم ليلا ونهارا ، فتفسد ، ذكره ابن الأنباريّ.
(وَلَوْ نَزَّلْنا
عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))
قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي
قِرْطاسٍ).
(٤٩٣) سبب نزولها
: أنّ مشركي مكّة قالوا : يا محمّد ، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند
الله ، ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنّه من عند الله ، وأنّك رسوله ، فنزلت
هذه الآية ، قاله ابن السّائب.
قال ابن قتيبة :
والقرطاس : الصّحيفة ، يقال للرّامي إذا أصاب الصّحيفة : قرطس. قال شيخنا أبو
منصور اللّغويّ : القرطاس قد تكلّموا به قديما. ويقال : إنّ أصله غير عربيّ.
والجمهور على كسر قافه ، وضمّها أبو رزين ، وعكرمة ، وطلحة ، ويحيى بن يعمر.
فأما قوله تعالى :
(فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ) فهو توكيد لنزوله ، وقيل : إنّما علّقه باللّمس باليد
إبعادا له عن السّحر ، لأنّ السّحر يتخيّل في المرئيات دون الملموسات. ومعنى الآية
: إنّهم يدفعون الصّحيح.
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ (٨))
قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ) قال مقاتل :
(٤٩٤) نزلت في
النّضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أميّة ، ونوفل بن خويلد.
و «لولا» بمعنى «هلّا»
(أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ) نصدّقه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا
مَلَكاً) فعاينوه ولم يؤمنوا ، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ؛ وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : لماتوا ، ولم يؤخّروا طرفة عين لتوبة ، قاله
ابن عباس. والثاني
: لقامت السّاعة ،
قاله عكرمة ، ومجاهد. والثالث
: لعجّل لهم العذاب
، قاله قتادة.
(وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))
____________________________________
(٤٩٣) لا أصل له.
عزاه المصنف لابن السائب ، وهو محمد بن السائب الكلبي ، وهو ساقط الرواية ، ممن
يضع الحديث. وعزاه البغوي ٢ / ١١٠ للكلبي ومقاتل ، ومقاتل أيضا يضع الحديث. وانظر «أسباب
النزول» ٤٢٢ للواحدي.
(٤٩٤) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيث أطلق وهو كذاب ؛ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم كما
في «الدر» ٣ / ٨ عن محمد بن إسحاق قال : دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم ، فيما بلغني ، فقال
له زمعة بن الأسود بن المطلب ، والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث ، وأبي
بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس
ويرى معك فأنزل الله في ذلك من قولهم.
قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي : ولو جعلنا الرّسول إليهم ملكا ، لجعلناه في صورة رجل ،
لأنّهم لا يستطيعون رؤية الملك على صورته ، (وَلَلَبَسْنا
عَلَيْهِمْ) أي : لشبّهنا عليهم. يقال : ألبست الأمر على القوم ، ألبسه
؛ أي : شبّهته عليهم ، وأشكلته. والمعنى : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتّى
يشكّوا ، فلا يدرون أملك هو أم آدمي؟ فأضللناهم بما به ضلّوا قبل أن يبعث الملك.
وقال الزّجّاج : كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فيقولون : إنّما هذا بشر مثلكم ؛ فقال تعالى : لو رأوا
الملك رجلا ، لكان يلحقهم فيه من اللّبس مثل ما لحق ضعفتهم منه. وقرأ الزّهريّ ،
ومعاذ القارئ ، وأبو رجاء : «وللبّسنا» ، بالتّشديد ، «عليهم ما يلبّسون» ، مشدّدة
أيضا.
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))
قوله تعالى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) أي : أحاط. قال الزّجاج : الحيق في اللغة : ما اشتمل على
الإنسان من مكروه فعله ، ومنه : (وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ؛ أي : لا ترجع عاقبة مكروهه إلّا عليهم. قال السّدّيّ :
وقع بهم العذاب الّذي استهزءوا به.
(قُلْ لِمَنْ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢))
قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) المعنى : فإن أجابوك ، وإلّا ف (قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ) قال ابن عبّاس : قضى لنفسه أنّه أرحم الراحمين. قال
الزّجّاج : ومعنى كتب : أوجب ذلك إيجابا مؤكّدا ، وجائز أن يكون كتب في اللّوح
المحفوظ ؛ وإنّما خوطب الخلق بما يعقلون ، فهم يعقلون أنّ توكيد الشّيء المؤخّر أن
يحفظ بالكتاب. وقال غيره : رحمته عامّة ؛ فمنها تأخير العذاب عن مستحقه ، وقبول
توبة العاصي.
قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ) اللّام : لام القسم. كأنّه قال : والله ليجمعنّكم إلى
اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أنّ «إلى» بمعنى : «في» ثم اختلفوا ، فقال قوم
: في يوم القيامة. وقال آخرون : في قبوركم إلى يوم القيامة.
قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : بالشّرك ، (فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) ، لما سبق فيهم من القضاء. وقال ابن قتيبة : قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) مردود إلى قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) الذين خسروا.
(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))
قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ).
__________________
(٤٩٥) سبب نزولها
أنّ كفار مكّة قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : قد علمنا أنّه إنّما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة ؛
فنحن نجعل لك نصيبا في أموالنا حتّى تكون من أغنانا رجلا ، وترجع عمّا أنت عليه ،
فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عبّاس.
وفي معنى «سكن»
قولان : أحدهما
: أنّه من السّكنى.
قال ابن الأعرابي : «سكن» بمعنى حلّ. والثاني : أنه من السّكون الّذي يضادّ الحركة. قال مقاتل : من
المخلوقات ما يستقرّ بالنّهار ، وينتشر باللّيل ؛ ومنها ما يستقرّ باللّيل ،
وينتشر بالنّهار. فإن قيل : لم خصّ السّكون بالذّكر دون الحركة؟ فعنه ثلاثة أجوبة
: أحدها
: أنّ السكون أعمّ
وجودا من الحركة. والثاني
: أنّ كلّ متحرّك
قد يسكن ، وليس كلّ ساكن يتحرّك. والثالث : أنّ في الآية إضمارا ؛ والمعنى : وله ما سكن وتحرّك ؛
كقوله تعالى (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أراد : والبرد ؛ فاختصر.
(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (١٤))
قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا).
(٤٩٦) ذكر مقاتل
أن سبب نزولها ، أنّ كفّار قريش قالوا : يا محمد ، ألا ترجع إلى دين آبائك؟ فنزلت
هذه الآية. وهذا الاستفهام معناه الإنكار ؛ أي : لا أتّخذ وليّا غير الله أتولّاه
، وأعبده ، وأستعينه.
قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجمهور على كسر راء «فاطر». وقرأ ابن أبي عبلة برفعها. قال
أبو عبيدة : الفاطر ، معناه : الخالق. وقال ابن قتيبة : المبتدئ.
(٤٩٧) ومنه «كل
مولود يولد على الفطرة» أي : على ابتداء الخلقة ، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد
عليهم في أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السّماوات والأرض ،
حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ؛ فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : أنا ابتدأتها. قال الزّجاج : إن قيل : كيف
يكون الفطر بمعنى الخلق ؛ والانفطار الانشقاق في قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١)) فالجواب : إنما يرجعان إلى شيء واحد ، لأنّ معنى «فطرهما»
: خلقهما خلقا قاطعا. والانفطار ، والفطور : تقطّع وتشقّق.
قوله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) قرأ الجمهور بضمّ الياء من الثّاني ؛ ومعناه : وهو يرزق
ولا
____________________________________
(٤٩٥) باطل. ذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٣ من رواية الكلبي عن ابن عباس. وهذه رواية ساقطة ،
الكلبي متروك كذاب. وقد روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
(٤٩٦) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فخبره لا شيء.
(٤٩٧) حديث صحيح.
أخرجه البخاري ١٣٥٨ و ١٣٨٥ و ١٣٥٩. ومسلم ٢٦٥٨ ٢٣٨٠ ، وأبو داود ٤٧٠٥ و ٤٧٠٦
والترمذي ٣١٥٠ ، والطيالسي ٢٤٣٣ وأحمد ٢ / ٢٥٣ و ٢٨٢ و ٣٤٦ و ٤٨١. وابن حبان ١٢٨ و
١٢٩ من حديث أبي هريرة ، وله شواهد.
__________________
يرزق ، لأنّ بعض
العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة والأعمش «ولا يطعم» بفتح الياء. قال الزّجاج : وهذا
الاختيار عند البصراء بالعربية ، ومعناه : وهو يرزق ويطعم ولا يأكل.
قوله تعالى : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
مَنْ أَسْلَمَ) أي : أول مسلم من هذه الأمّة ؛ (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال الأخفش : معناه : وقيل لي : لا تكوننّ ، فصارت : أمرت
، بدلا من ذلك ؛ لأنه حين قال : أمرت ، قد أخبر أنه قيل له.
(قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥))
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)) زعم بعض المفسّرين
أنّه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذّنوب ، ثمّ نسخ ذلك بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ، والصّحيح أنّ الآيتين خبر ، والخبر لا يدخله النسخ ،
وإنّما هو معلّق بشرط ، ومثله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) .
(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))
قوله تعالى : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم (مَنْ يُصْرَفْ) بضم الياء وفتح الرّاء ، يعنون : العذاب. وقرأ حمزة
والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم «يصرف» بفتح الياء وكسر الرّاء ؛ الضّمير قوله : (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) ؛ وممّا يحسّن هذه القراءة قوله تعالى : (فَقَدْ رَحِمَهُ) ، فقد اتّفق إسناد الضّميرين إلى اسم الله عزوجل ، ويعني بقوله : يصرف العذاب (يَوْمَئِذٍ) ، يعني : يوم القيامة ، (وَذلِكَ) يعني : صرف العذاب.
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))
قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) الضر : اسم جامع لكلّ ما يتضرّر به الإنسان ، من فقر ومرض
وغير ذلك ؛ والخير : اسم جامع لكلّ ما ينتقع به الإنسان. وللمفسرين في الضّر
والخير قولان : أحدهما
: أنّ الضّر السّقم
؛ والخير : العافية. والثاني
: أنّ الضّرّ :
الفقر ، والخير : الغنى.
(وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))
قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) القاهر : الغالب ، والقهر : الغلبة. والمعنى : أنّه قهر
الخلق فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها ؛ فهو المستعلي عليهم ، وهم تحت التّسخير
والتذليل.
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ
أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ
وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))
قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً).
__________________
(٤٩٨) سبب نزولها
: أنّ رؤساء مكّة أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : يا محمد ، ما نرى أحدا يصدّقك بما تقول ، ولقد
سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أنّه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من
يشهد أنّك رسول الله ؛ فنزلت هذه الآية ؛ رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.
ومعنى الآية : قل
لقريش : أي شيء أعظم شهادة؟ فإن أجابوك ، وإلّا فقل : الله ، وهو شهيد بيني وبينكم
على ما أقول. وقال الزّجّاج : أمره الله تعالى أن يحتجّ عليهم بأنّ شهادة الله عزوجل في نبوّته أكبر شهادة ، وأنّ القرآن الذي أتى به ، يشهد له
أنّه رسول الله ، وهو قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) ففي الإنذار به دليل على نبوّته ، لأنّه لم يأت أحد بمثله
، ولا يأتي ؛ وفيه خبر ما كان وما يكون ؛ ووعد فيه بأشياء ، فكانت كما قال. وقرأ
عكرمة ، وابن السّميفع ، والجحدريّ «وأوحى إليّ» بفتح الهمزة والحاء «القرآن»
بالنّصب ؛ فأمّا «الإنذار» ، فمعناه : التّخويف ، ومعنى (وَمَنْ بَلَغَ) أيّ : من بلغ إليه هذا القرآن ، فإني نذير له. قال القرظيّ
: من بلغه القرآن فكأنّما رأى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وكلّمه.
(٤٩٩) وقال أنس بن
مالك : لمّا نزلت هذه الآية ، كتب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى كسرى وقيصر وكلّ جبّار يدعوهم إلى الله عزوجل.
قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ
اللهِ آلِهَةً أُخْرى) هذا استفهام معناه الإنكار عليهم. قال الفرّاء : وإنّما
قال : «أخرى» ولم يقل : «آخر» لأنّ الآلهة جمع ؛ والجمع يقع عليه التأنيث ، كما
قال : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى) . وقال : (فَما بالُ الْقُرُونِ
الْأُولى) .
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))
قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ، في الكتاب قولان : أحدهما : أنّه التّوراة والإنجيل ؛ وهذا قول الجمهور. والثاني : أنّه القرآن.
وفي هاء (يَعْرِفُونَهُ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّها ترجع إلى النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، قاله السّدّيّ.
(٥٠٠) وروي عن عمر
بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال لعبد الله بن سلام : إنّ الله قد أنزل على نبيّه
بمكّة (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال : لقد عرفته حين رأيته كما أعرف
ابني ، ولأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلىاللهعليهوسلم منّي بابني. فقال عمر : وكيف ذاك؟ فقال : إنّي أشهد أنه
رسول الله حقا ، ولا أدري ما يصنع النساء .
____________________________________
(٤٩٨) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته هو الكلبي وذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٤ عن الكلبي والكلبي ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.
(٤٩٩) باطل ، عزاه
السيوطي في «الدر» ٣ / ١٢ ـ ١٣ لأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس ، ولم أقف على
إسناده وهو باطل لتفردهما به ، ولأن السورة مكية وقد كتب النبي صلىاللهعليهوسلم إلى الملوك في العهد المدني وليس في مكة.
(٥٠٠) عزاه
السيوطي في «الدر» ١ / ٢٧١ للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس
وهي رواية ساقطة. السدي هذا متروك متهم ، والكلبي يضع الحديث. وورد من وجوه أخر
واهية ، لا تقوم بها حجة.
__________________
والثاني
: أنّها ترجع إلى
الدّين والنّبي. فالمعنى : يعرفون الإسلام أنّه دين الله عزوجل ، وأنّ محمدا رسول الله ، قاله قتادة. والثالث : أنّها ترجع إلى القرآن. فالمعنى : يعرفون الكتاب الدال على
صدقه ؛ ذكره الماوردي.
وفي (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قولان : أحدهما
: أنّهم مشركو
مكّة. والثاني
: كفّار أهل
الكتابين.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (٢١))
قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً) أي : اختلق على الله الكذب في ادّعاء شريك معه. وفي «آياته»
قولان : أحدهما
: أنّها محمّد
والقرآن ، قاله ابن السّائب. والثاني
: القرآن ، قاله
مقاتل. والمراد بالظّلم المذكور في هذه الآية : الشّرك.
(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢))
قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) انتصب «اليوم» بمحذوف تقديره : واذكر يوم نحشرهم. قال ابن
جرير : والمعنى : لا يفلحون اليوم ، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب : «يحشرهم» «ثم
يقول» بالياء فيهما. وفي الذين عنى قولان : أحدهما : المسلمون والمشركون. والثاني : العابدون والمعبودون.
وقوله : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) سؤال توبيخ. والمراد بشركائهم : الأوثان ؛ وإنّما أضافها
إليهم لأنّهم زعموا أنّها شركاء لله. وفي معنى (تَزْعُمُونَ) قولان : أحدهما
: يزعمون أنّهم
شركاء مع الله. والثاني
: يزعمون أنها تشفع
لهم.
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣))
قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «ثم لم تكن»
بالتّاء ، «فتنتهم» بالرّفع. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «تكن»
بالتّاء أيضا ، «فتنتهم» بالنّصب ؛ وقد رويت عن ابن كثير أيضا. وقرأ حمزة ،
والكسائيّ : «يكن» بالياء ، «فتنتهم» بالنّصب. وفي «الفتنة» أربعة أقوال : أحدها
: أنّها بمعنى
الكلام والقول. قال ابن عبّاس ، والضّحّاك : لم يكن كلامهم. والثاني : أنّها المعذرة. قال قتادة ، وابن زيد : لم تكن معذرتهم.
قال ابن الأنباريّ : فالمعنى : اعتذروا بما هو مهلك لهم ، وسبب لفضيحتهم. والثالث : أنّها بمعنى البليّة. قال عطاء الخراسانيّ : لم تكن
بليّتهم. وقال أبو عبيد : لم تكن بليّتهم الّتي ألزمتهم الحجّة ، وزادتهم لائمة. والرابع : أنّها بمعنى الافتتان. والمعنى : لم تكن عاقبة فتنتهم.
قال الزّجّاج : لم
يكن افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في اللغة
__________________
أن ترى إنسانا
يحبّ غاويا ، فإذا وقع في هلكة تبرّأ منه ؛ فيقول : ما كانت محبّتك لفلان إلّا أن
انتفيت منه. قال : وهذا تأويل لطيف ، لا يعرفه إلّا من عرف معاني الكلام ، وتصرّف
العرب في ذلك. وقال ابن الأنباري : المعنى : أنّهم افتتنوا بقولهم هذا ، إذ كذبوا
فيه ، ونفوا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا.
قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «والله
ربنا» بكسر الباء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : بنصب الباء. وفي هؤلاء القوم
الذين هذا وصفهم قولان : أحدهما
: أنّهم المشركون. والثاني : المنافقون.
ومتى يحلفون؟ فيه
ثلاثة أقوال : أحدها
: إذا رأوا أنّه لا
يدخل الجنّة إلّا من كان مسلما ، قالوا : تعالوا نكابر عن شركنا ، فحلفوا ، قاله
ابن عبّاس. والثاني
: أنّهم إذا دخلوا
النّار ، ورأوا أهل التّوحيد يخرجون ، فحلفوا واعتذروا ، قاله سعيد بن جبير ،
ومجاهد. والثالث
: أنّهم إذا سئلوا
: أين شركاؤكم؟ تبرّؤوا ، وحلفوا : ما كنا مشركين ، قاله مقاتل.
(انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))
قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ) أي : باعتذارهم بالباطل. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : ذهب ما كانوا يدّعون ويختلقون من أنّ الأصنام شركاء
لله ، وشفعاؤهم في الآخرة.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ
وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى
إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ
يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ).
(٥٠١) سبب نزولها
: أنّ نفرا من المشركين ، منهم عتبة ، وشيبة ، والنّضر بن الحارث ، وأميّة وأبيّ
ابنا خلف ، جلسوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، واستمعوا إليه ، ثمّ قالوا للنّضر بن الحارث : ما يقول
محمّد؟ فقال : والّذي جعلها بنيّة ، ما أدري ما يقول؟ إلّا أنّي أرى تحرّك شفتيه ،
وما يقول إلّا أساطير الأوّلين ، مثلما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية ؛ وكان
النّضر كثير الحديث عن القرون الأولى ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن
عبّاس.
فأمّا «الأكنّة» ،
فقال الزّجّاج : هي جمع كنان ، وهو الغطاء ؛ مثل عنان وأعنّة.
____________________________________
(٥٠١) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٥.
تعليقا بقوله : قال ابن عباس في رواية أبي صالح ... فذكره فهذه علة وثمّ علة ثانية
: أبو صالح ، اسمه باذام ضعفه غير واحد ، ولم يلق ابن عباس وذكره الواحدي في «الوسيط»
٢ / ٢٦١ بقوله : نزلت. من غير عزو لقائل.
__________________
وأمّا : «أن
يفقهوه» ، فمنصوب على أنّه مفعول له. المعنى : وجعلنا على قلوبهم أكنّة لكراهة أن
يفقهوه ، فلما حذفت اللّام ، نصبت الكراهة ؛ ولمّا حذفت الكراهة ، انتقل نصبها إلى
«أن».
«الوقر» : ثقل
السّمع ، يقال : في أذنه وقر ، وقد وقرت الأذن توقر. قال الشاعر :
وكلام سيّئ قد
وقرت
|
|
أذني عنه وما بي
من صمم
|
والوقر ، بكسر
الواو ؛ أن يحمّل البعير وغيره مقدار ما يطيق ، يقال : عليه وقر ، ويقال : نخلة
موقر ، وموقرة ، وإنّما فعل ذلك بهم مجازاة لهم بإقامتهم على كفرهم ، وليس المعنى
أنّهم لم يفهموه ، ولم يسمعوه ؛ ولكنّهم لمّا عدلوا عنه ، وصرفوا فكرهم عمّا عليهم
في سوء العاقبة ، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ) أي : كلّ علامة تدلّ على رسالتك ، (لا يُؤْمِنُوا بِها). ثمّ أعلم الله عزوجل مقدار احتجاجهم وجدلهم ، وأنّهم إنّما يستعملون في
الاحتجاج أن يقولوا : (إِنْ هذا) ، أي : ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) وفيها قولان :
أحدهما
: أنّها ما سطّر من
أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عبّاس قال : أساطير الأولين : كذبهم ،
وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الأخفش : يزعم بعضهم أنّ واحدة الأساطير :
أسطورة. وقال بعضهم : أسطارة ؛ ولا أراه إلّا من الجمع الّذي ليس له واحد ، نحو
عباديد ومذاكير وأبابيل. وقال ابن قتيبة : أساطير الأوّلين : أخبارهم وما سطر منها
، أي : ما كتب ، ومنه قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ) أي : يكتبون ، واحدها سطر ، ثم أسطار ، ثم أساطير جمع
الجمع ، مثل قول ، وأقوال ، وأقاويل.
والقول
الثاني : أنّ معنى أساطير
الأوّلين : التّرّهات. قال أبو عبيدة : واحد الأساطير : أسطورة ، وإسطارة ،
ومجازها مجاز الترّهات. قال ابن الأنباريّ : التّرّهات عند العرب : طرق غامضة ،
ومسالك مشكلة ، يقول قائلهم : قد أخذنا في ترّهات البسابس ، يعني : قد عدلنا عن
الطّريق الواضح إلى المشكل ؛ وعمّا يعرف إلى ما لا يعرف. و «البسابس» : الصّحاري
الواسعة ، والتّرّهات : طرق تتشعّب من الطريق الأعظم ، فتكثر وتشكل ، فجعلت مثلا
لما لا يصحّ وينكشف.
فإن قيل : لم
عابوا القرآن بأنّه أساطير الأوّلين ، وقد سطر الأوّلون ما فيه علم وحكمة ، وما لا
عيب على قائله؟ فعنه جوابان : أحدهما
: أنّهم نسبوه إلى
أنّه ليس بوحي من الله. والثاني
: أنّهم عابوه
بالإشكال والغموض ، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب الأوّل تكون «أساطير»
من التّسطير ، وعلى الثّاني تكون بمعنى التّرهات ، وقد شرحنا معنى التّرّهات.
قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ
عَنْهُ) في سبب نزولها قولان :
(٥٠٢) أحدهما : أنّ أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويتباعد عمّا جاء
____________________________________
(٥٠٢) أخرجه
الحاكم ٢ / ٣١٥ والواحدي ٤٢٦ كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن سعد بن جبير عن ابن
عباس به ، وحبيب مدلس وقد عنعن ورواه عبد الرزاق في «تفسيره» ٧٨٥ والطبري ١٣١٧٣ و
١٣١٧٤ و ١٣١٧٥ من
__________________
به ، فنزلت فيه
هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، وهو قول عمرو بن دينار ، وعطاء بن
دينار ، والقاسم بن مخيمرة.
(٥٠٣) وقال مقاتل
: كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي
طالب يريدون بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم سوءا ، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم ، فيقتلوه ، فقال :
ما لي عنه صبر ؛ فقالوا : ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك ، فقال أبو
طالب : حين تروح الإبل ، فإن حنّت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم ، وقال :
والله لن يصلوا
إليك بجمعهم
|
|
حتّى أوسّد في
التّراب دفينا
|
فاصدع بأمرك ما
عليك غضاضة
|
|
وابشر وقرّ بذاك
منك عيونا
|
وعرضت دينا لا
محالة أنّه
|
|
من خير أديان
البريّة دينا
|
لو لا الملامة
أو حذاري سبّة
|
|
لوجدتني سمحا
بذاك مبينا
|
فنزلت فيه هذه
الآية
(٥٠٤) والثاني : أنّ كفّار مكّة كانوا ينهون النّاس عن اتّباع النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ويتباعدون بأنفسهم عنه ، رواه الوالبيّ عن ابن عبّاس ،
وبه قال ابن الحنفية ، والضّحّاك ، والسّدّى. فعلى القول الأول ، يكون قوله تعالى
: «وهم» كناية عن واحد ؛ وعلى الثاني : عن جماعة. وفي هاء «عنه» قولان :
أحدهما
: أنّها ترجع إلى
النّبي صلىاللهعليهوسلم. ثم فيه قولان . أحدهما
: ينهون عن أذاه ؛ والثاني : عن اتّباعه. والقول الثاني : أنّها ترجع إلى القرآن ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد. (وَيَنْأَوْنَ) بمعنى
____________________________________
طريق الثوري عن
حبيب عمن سمع ابن عباس عن ابن عباس ، وهذا أصح فالإسناد فيه راو مجهول ومع ذلك
صححه الحاكم! وسكت عنه الذهب!. ولا يصح وما يأتي عن ابن عباس أرجح ، وانظر «تفسير
الشوكاني» ٨٩٠ بتخريجنا.
(٥٠٣) عزاه المصنف
لمقاتل ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٢٦ عن مقاتل بدون إسناد ومع ذلك فهو
معضل ، ومقاتل هو ابن سليمان متهم بالكذب والخبر لم يصح بكل حال وهو واه بمرة.
(٥٠٤) أخرجه
الطبري ١٣١٦٣ والبيهقي ٢ / ٣٤١ من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس ،
وفيه إرسال بينهما. وله شواهد عند الطبري عن ابن الحنفية ١٣١٦٢ وعن السدي ١٣١٦٤.
وفي الباب روايات.
__________________
يبعدون. وفي هاء «عنه»
قولان : أحدهما
: أنها راجعة إلى
النّبيّ صلىاللهعليهوسلم. والثاني
: إلى القرآن.
قوله تعالى : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) أي : وما يهلكون (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بالتّباعد عنه (وَما يَشْعُرُونَ) أنّهم يهلكونها.
(وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧))
قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
النَّارِ) في معنى «وقفوا» ستّة أقوال. أحدها : حبسوا عليها ، قاله ابن السّائب. والثاني : عرضوا عليها ، قاله مقاتل. والثالث : عاينوها. والرابع : وقفوا عليها وهي تحتهم. والخامس : دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها ، تقول : وقفت على ما عند
فلان ، أي فهمته وتبيّنته ، ذكر هذه الأقوال الثّلاثة الزّجّاج ، واختار الأخير.
وقال ابن جرير : (عَلَى) هاهنا بمعنى «في». السادس : جعلوا عليها وقفا ، كالوقوف
المؤبّدة على سبلها ، ذكره الماورديّ. والخطاب بهذه الآية للنّبي صلىاللهعليهوسلم ، والوعيد للكفّار ، وجواب «لو» محذوف ، ومعناه : لو
رأيتهم في تلك الحال ، لرأيت عجبا.
قوله تعالى : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو بكر
عن عاصم برفع الباء من «نكذب» ؛ والنّون من «نكون».
قال الزّجّاج :
والمعنى أنّهم تمنّوا الرّدّ ، وضمنوا أنّهم لا يكذّبون. والمعنى : يا ليتنا نردّ
، ونحن لا نكذّب بآيات ربنا ، رددنا أو لم نردّ ، ونكون من المؤمنين ، لأنّا قد
عاينّا مالا نكذّب معه أبدا. قال : ويجوز الرّفع على وجه آخر ، على معنى «يا ليتنا
نرد» ، يا ليتنا لا نكذّب ، كأنّهم تمنّوا الرّدّ والتوفيق للتصديق. وقال الأخفش :
إذا رفعت جعلته على مثل اليمين ، كأنّهم قالوا : ولا نكذّب ـ والله
ـ بآيات ربّنا ، ونكون ـ والله
ـ من المؤمنين. وقرأ حمزة إلا العجليّ ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب : بنصب الباء من «نكذب» ، والنون
من «نكون». قال مكّي بن أبي طالب : وهذا النّصب على جواب التّمني ، وذلك بإضمار «أن»
، حملا على مصدر «نرد» ، فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدرا ، فعطف بالواو مصدرا
على مصدر. وتقديره : يا ليت لنا ردّا ، وانتفاء من التّكذيب ، وكونا من المؤمنين.
وقرأ ابن عامر برفع الباء من «نكذب» ، ونصب النون من «نكون» ؛ بالرّفع قد بيّنا
علّته ، والنصب على جواب التّمني.
(بَلْ بَدا لَهُمْ ما
كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما
نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))
قوله تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ) «بل» : ها هنا ردّ
لكلامهم ، أي : ليس الأمر على ما قالوا من أنّهم لو ردّوا لآمنوا. وقال الزّجّاج :
«بل» استدراك وإيجاب بعد نفي ؛ تقول : ما جاء زيد بل عمرو.
وفي معنى الآية
أربعة أقوال : أحدها
: بدا ما كان يخفيه
بعضهم عن بعض ، قاله الحسن. والثاني
: بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم ، قاله
مقاتل. والثالث
: بدا لهم جزاء ما
كانوا
__________________
يخفونه ، قاله
المبرّد. والرابع
: بدا للأتباع ما
كان يخفيه الرّؤساء ، قاله الزّجاج.
قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا
عَنْهُ) قال ابن عباس : لعادوا إلى ما نهوا عنه من الشّرك ، وإنّهم
لكاذبون في قولهم : (وَلا نُكَذِّبَ
بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). قال ابن الأنباريّ : كذّبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم
أنهم إن ردّوا آمنوا ولم يكذّبوا ، ولم يكذّبهم في التّمني.
قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا) هذا إخبار عن منكري البعث.
(٥٠٥) قال مقاتل :
لما أخبر النبيّ صلىاللهعليهوسلم كفار مكة بالبعث ، قالوا هذا. وكان عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم يقول : هذا حكاية قولهم ، لو ردّوا لقالوا .
(وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ
فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠))
قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى
رَبِّهِمْ) قال مقاتل : عرضوا على ربّهم (قالَ أَلَيْسَ هذا) العذاب (بِالْحَقِ). وقال غيره : أليس هذا البعث حقّا؟ فعلى قول مقاتل : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بالعذاب ، وعلى قول غيره : (تَكْفُرُونَ) بالبعث.
(قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ
عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١))
قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقاءِ اللهِ) إنما وصفوا بالخسران ، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر ، فعظم
خسرانهم. والمراد بلقاء الله : البعث والجزاء ؛ والسّاعة : القيامة ؛ والبغتة :
الفجأة. قال الزّجّاج :كلّ ما أتى فجأة فقد بغت ؛ يقال : قد بغته الأمر يبغته بغتا
وبغتة : إذا أتاه فجأة. قال الشاعر :
ولكنّهم بانوا
ولم أخش بغتة
|
|
وأفظع شيء حين
يفجؤك البغت
|
قوله تعالى : (يا حَسْرَتَنا) الحسرة : التّلهّف على الشيء الفائت ، وأهل التفسير يقولون
: يا ندامتنا. فإن قيل : ما معنى دعاء الحسرة ، وهي لا تعقل؟ فالجواب : أنّ العرب
إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه ، جعلته نداء ، فتدخل عليه «يا»
للتنبيه ، والمراد تنبيه النّاس ، لا تنبيه المنادى. ومثله قولهم : لا أرينّك ها
هنا. لفظه لفظ النّاهي لنفسه ، والمعنى للمنهيّ ؛ ومن هذا قولهم : يا خيل الله
اركبي ، يراد : يا فرسان خيل الله. وقال سيبويه : إذا قلت : يا عجباه ، فكأنك قلت
: أحضر وتعال يا عجب ، فهذا زمانك. فأما التّفريط فهو : التّضييع. وقال الزّجّاج :
التّفريط في اللغة : تقدمة العجز. وفي المكنّى عنه بقوله : «فيها» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الدّنيا ، فالمعنى : على ما ضيّعنا في الدّنيا من عمل
الآخرة ، قاله مقاتل. والثاني
: أنها الصّفقة ،
لأن الخسران لا يكون إلّا في صفقة ، وترك
____________________________________
(٥٠٥) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ساقط الحديث.
__________________
ذكرها اكتفاء بذكر
الخسران ؛ قاله ابن جرير. والثالث
: أنها الطّاعة ؛
ذكره بعض المفسّرين.
فأما الأوزار ،
فقال ابن قتيبة : هي الآثام ، وأصل الوزر : الحمل على الظّهر. وقال ابن فارس : الوزر
: الثّقل. وهل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان : أحدهما : أنه على حقيقته. قال عمير بن هانئ : يحشر مع كل كافر عمله
في صورة رجل قبيح ، كلما كان هول عظّمه عليه ، وزاده خوفا ، فيقول : بئس الجليس
أنت ، ما لي ولك؟ فيقول : أنا عملك ، طالما ركبتني في الدّنيا ، فلأركبنّك اليوم
حتى أخزيك على رؤوس الناس ، فيركبه ويتخطّى به الناس حتى يقف بين يدي ربّه ، فذلك
قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) وهذا قول السّدّيّ ، وعمرو بن قيس الملائي ، ومقاتل. والثاني : أنه مثل ، والمعنى : يحملون ثقل ذنوبهم ، قاله الزّجّاج.
قال. فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمّل. ومعنى (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) : بئس الشيء شيئا يزرونه ، أي يحملونه.
(وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))
قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
لَعِبٌ وَلَهْوٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : وما الحياة
الدّنيا في سرعة انقطاعها ، وقصر عمرها ؛ إلّا كالشيء يلعب به. والثاني : وما أمر الدّنيا والعمل لها إلا لعب ولهو ، فأما فعل الخير
، فهو من عمل الآخرة ، لا من الدّنيا. والثالث : وما أهل الحياة الدّنيا إلا أهل لعب ولهو ، لاشتغالهم عمّا
أمروا به. واللعب : ما لا يجدي نفعا.
قوله تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) اللام : لام القسم ، والدّار الآخرة : الجنّة «أفلا يعقلون»
فيعملون لها. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ؛ وحمزة ، والكسائيّ ، «يعقلون» بالياء ،
في الأنعام والأعراف ويوسف ويس ، وقرءوا في القصص بالتاء. وقرأ نافع كل ذلك بالياء
، وروى حفص ، عن عاصم كلّ ذلك بالتاء ، إلّا في يس (فِي الْخَلْقِ أَفَلا
يَعْقِلُونَ) ، بالياء وقرأ ابن عامر الذي في يس بالياء ، والباقي
بالتاء.
(قَدْ نَعْلَمُ
إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣))
قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ
الَّذِي يَقُولُونَ) في سبب نزولها أربعة أقوال :
(٥٠٦) أحدها : أنّ رجلا من قريش يقال له : الحارث بن عامر ، قال : والله
يا محمّد ما كذبتنا قطّ فنتّهمك اليوم ، ولكنّا إن نتّبعك نتخطّف من أرضنا ، فنزلت
هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل : كان
الحارث بن عامر يكذّب النبيّ في العلانية ، فإذا خلا مع أهل بيته ، قال : ما محمّد
من أهل الكذب ، فنزلت فيه هذه الآية .
____________________________________
(٥٠٦) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا
موضوعا.
__________________
والثاني
: أنّ المشركين
كانوا إذا رأوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم قالوا فيما بينهم : إنه لنبيّ ، فنزلت هذه الآية ؛ قاله
أبو صالح .
(٥٠٧) والثالث : أنّ أبا جهل قال للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : إنّا لا نكذّبك ، ولكن نكذّب الذي جئت به ، فنزلت هذه
الآية ، قاله ناجية بن كعب.
(٥٠٨) وقال أبو
يزيد المدنيّ : لقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا جهل ، فصافحه أبو جهل ؛ فقيل له : أتصافح هذا الصّابئ؟
فقال : والله إني لأعلم أنه نبيّ ، ولكن متى كنّا تبعا لبني عبد مناف؟ فأنزل الله
هذه الآية.
(٥٠٩) والرابع : أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس : يا أبا الحكم
، أخبرني عن محمد ، أصادق هو ، أم كاذب؟ فليس ها هنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو
جهل : والله إنّ محمدا لصادق ، وما كذب قطّ ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء ،
والسّقاية ، والحجابة ، والنّبوة ، فما ذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية ،
قاله السّدّيّ ، ذكره الطبريّ مطوّلا.
فأما الذي يقولون
، فهو التّكذيب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والكفر بالله. وفي الآية تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم وتعزية عما يواجهونه به.
قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) قرأ نافع ، والكسائيّ : «يكذبونك» بالتخفيف وتسكين الكاف. وفي
معناها قولان : أحدهما
: لا يلفونك كاذبا
؛ قاله ابن قتيبة. والثاني
: لا يكذّبون الشيء
الذي جئت به ، إنما يجحدون آيات الله ، ويتعرّضون لعقوباته. قال ابن الأنباريّ :
وكان الكسائيّ يحتجّ لهذه القراءة بأن العرب تقول : كذبت الرجل : إذا نسبته إلى
الكذب وصنعة الأباطيل من القول ؛ وأكذبته : إذا أخبرت أنّ الذي يحدّث به كذب ، ليس
هو الصّانع له. قال : وقال غير الكسائيّ : يقال : أكذبت الرجل : إذا أدخلته في
جملة الكذّابين ، ونسبته إلى صفتهم ، كما يقال : أبخلت الرجل : إذا نسبته إلى
البخل ، وأجبنته : إذا وجدته جبانا. قال الشاعر :
فطائفة قد
أكفروني بحبّكم
|
|
وطائفة قالوا
مسيء ومذنب
|
____________________________________
(٥٠٧) ورد موصولا
ومرسلا. أخرجه الترمذي ٣٠٦٤ والحاكم ٢ / ٣١٥ ح ٣٢٣٠ كلاهما عن ناجية بن كعب عن علي
به ، صححه الحاكم على شرطهما ، وتعقبه الذهبي بقوله : لم يخرجا لناجية شيئا ا. ه ،
وكرره الترمذي عن ناجية مرسلا ، وكذا الطبري ١٣١٩٧ و ١٣١٩٨ وصوب الترمذي المرسل.
والله أعلم. انظر والقرطبي ٢١٩٥ بتخريجنا.
(٥٠٨) أخرجه ابن
أبي حاتم كما في تفسير «ابن كثير» ٢ / ١٦٧ عن أبي يزيد مرسلا ، والمرسل من قسم
الضعيف.
وأخرجه أبو الشيخ
كما في «الدر المنثور» ٣ / ١٨ عن أبي يزيد مرسلا نحوه.
(٥٠٩) أخرجه
الطبري ١٣١٩٦ عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بقوله السدي. فذكره. وهذا ضعيف فالسدي
فيه ضعف إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله.
ـ الخلاصة : أكثر الأقوال أنها نزلت في شأن أبي
جهل ، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________________
وقرأ ابن كثير ،
وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة وابن عامر : «يكذّبونك» بالتشديد وفتح الكاف ؛ وفي
معناها خمسة أقوال : أحدها
: لا يكذّبونك
بحجّة ، وإنما هو تكذيب عناد وبهت ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. والثاني : لا يقولون لك : إنك كاذب ، لعلمهم بصدقك ، ولكن يكذّبون ما
جئت به ، قاله ناجية ابن كعب. والثالث
: لا يكذّبونك في
السّرّ ، ولكن يكذّبونك في العلانية ، عداوة لك ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والرابع : لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم :
كذبت. والخامس
: لا يكذّبونك
بقلوبهم ، لأنهم يعلمون أنك صادق ، ذكر القولين الزّجّاج. وقال أبو عليّ : يجوز أن
يكون معنى القراءتين واحدا وإن اختلفت اللفظتان ، إلّا أنّ «فعّلت» : إذا أرادوا
أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «فعلت». ويؤكّد أنّ القراءتين بمعنى ، ما حكاه سيبويه
أنهم قالوا : قلّلت ، وأقللت ، وكثّرت ، وأكثرت بمعنى. قال أبو عليّ : ومعنى «لا
يكذّبونك» : لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرت به مما جاء في كتبهم ،
ويجوز أن يكون معنى الحقيقة : لا يصادفونك كاذبا ، كما تقول : أحمدت فلانا : إذا
أصبته محمودا ، لأنهم يعرفونك بالصّدق والأمانة (وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) بألسنتهم ما يعلمونه يقينا ، لعنادهم. وفي «آيات الله» ها
هنا ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها محمد صلىاللهعليهوسلم ، قاله السّدّيّ. والثاني : محمد والقرآن ، قاله ابن السّائب. والثالث : القرآن ، قاله مقاتل.
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ
نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ (٣٤))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ) هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس : (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) رجاء ثوابي ، (وَأُوذُوا) حتى نشروا بالمناشير ، وحرقوا بالنار (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) بتعذيب من كذّبهم.
قوله تعالى : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : لا خلف لمواعيده ، قاله ابن عباس. والثاني : لا مبدّل لما أخبر به وما أمر به ، قاله الزّجّاج. والثالث : لا مبدّل لحكوماته وأقضيته النّافذة في عباده ، فعبّرت
الكلمات عن هذا المعنى ، كقوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي : وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول ، والذي قبله ،
يكون المعنى : لا مبدّل لحكم كلمات الله ، ولا ناقض لما حكم به ، وقد حكم بنصر
أنبيائه بقول : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي) . والرابع
: أنّ معنى الكلام
معنى النّهي ، وإن كان ظاهره الإخبار ؛ فالمعنى : لا يبدّلن أحد كلمات الله ، فهو
كقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ). والخامس
: أنّ المعنى : لا
يقدر أحد على تبديل كلام الله ، وإن زخرف واجتهد ، لأنّ الله تعالى صانه برصين
اللفظ ، وقويم الحكم ، أن يختلط بألفاظ أهل الزّيغ ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة ابن
الأنباريّ.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ) أي : فيما صبروا عليه من الأذى فنصروا. وقيل : إنّ «من»
صلة.
__________________
(وَإِنْ كانَ كَبُرَ
عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ
أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))
قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْراضُهُمْ).
(٥١٠) سبب نزولها
: أنّ الحارث بن عامر أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في نفر من قريش فقال : يا محمّد ، ائتنا بآية كما كانت
الأنبياء تأتي قومها بالآيات ، فإن فعلت آمنّا بك ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو
صالح عن ابن عباس.
و «كبر» : بمعنى «عظم».
وفي إعراضهم قولان : أحدهما
: عن استماع
القرآن. والثاني
: عن اتّباع النبيّ
صلىاللهعليهوسلم. فأما «النّفق» ، فقال ابن قتيبة : النّفق في الأرض :
المدخل ، وهو السّرب. والسّلّم في السماء : المصعد. وقال الزّجّاج : النّفق :
الطريق النّافذ في الأرض. والنّافقاء ، ممدود : أحد جحرة اليربوع يخرقه من باطن
الأرض إلى جلدة الأرض ، فإذا بلغ الجلدة أرقّها ، حتى إن رابه ريب ، دفع برأسه ذلك
المكان وخرج ، ومنه سمّي المنافق ، لأنه أبطن غير ما أظهر ، كالنّافقاء الذي ظاهره
غير بيّن ، وباطنه حفر في الأرض. و «السّلّم» مشتق من السّلامة ، وهو الشيء الذي
يسلّمك إلى مصعدك. والمعنى : فإن استطعت هذا فافعل ، وحذف «فافعل» ، لأنّ في
الكلام دليلا عليه. وقال أبو عبيدة : السّلّم : السّبب والمرقاة ، تقول : اتّخذتني
سلّما لحاجتك ، أي : سببا. وفي قوله تعالى : (فَتَأْتِيَهُمْ
بِآيَةٍ) قولان : أحدهما
: بآية قد سألوك
إيّاها ، وذلك أنهم سألوا نزول ملك الموت ، ومثل آيات الأنبياء ، كعصا موسى ،
وناقة صالح. والثاني
: بآية هي أفضل من
آيتك.
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى
الْهُدى) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم. والثاني : لو شاء لأنزل ملائكة تضطرّهم إلى الإيمان. ذكرهما
الزّجّاج. والثالث
: لو شاء لآمنوا
كلّهم ، فأخبر أنما تركوا الإيمان بمشيئته ، ونافذ قضائه.
قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى. والثاني : لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ، ويكفر بعضهم. والثالث : لا تكوننّ ممن لا صبر له ، لأنّ قلّة الصّبر من أخلاق
الجاهلين.
(إِنَّما يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
(٣٦))
قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ) أي : إنما يجيبك من يسمع ، والمراد به سماع قبول. وفي
المراد بالموتى قولان : أحدهما
: أنهم الكفار ،
قاله الحسن ، ومجاهد وقتادة ، فيكون المعنى : إنما يستجيب المؤمنون ؛ فأما الكفار
، فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله تعالى : ثم يحشرهم كفّارا ، فيجيبون اضطرارا. والثاني : أنهم الموتى حقيقة ، ضربهم الله تعالى مثلا ؛ والمعنى :
أنّ الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله ، فكذلك الذين لا يسمعون.
____________________________________
(٥١٠) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس ، وراويته هو الكلبي ، وقد
كذبه غير واحد ، فالخبر لا شيء.
قوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يعني : المؤمنين والكافرين ، فيجازي الكلّ.
(وَقالُوا لَوْ لا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ
آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))
قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قال ابن عباس : نزلت في رؤساء قريش. و «لولا» : بمعنى «هلّا»
؛ وقد شرحناها في سورة النّساء.
وقال مقاتل :
أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء. وقال غيره : أرادوا نزول ملك يشهد له بالنّبوّة.
وفي قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : لا يعلمون بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال الآية. والثاني : لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها ، لأنهم إن لم
يؤمنوا بها ، زاد عذابهم. والثالث
: لا يعلمون
المصلحة في نزول الآية.
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))
قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) قال ابن عباس : يريد كلّ ما دبّ على الأرض. قال الزّجّاج :
وذكر الجناحين توكيد ، وجميع ما خلق لا يخلو إما أن يدبّ ، وإمّا أن يطير.
وقوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) قال مجاهد : أصناف مصنّفة. وقال أبو عبيدة : أجناس يعرفون
الله ويعبدونه. وفي معنى «أمثالكم» أربعة أقوال : أحدها : أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض ، رواه أبو صالح عن ابن
عباس. والثاني
: في معرفة الله ،
قاله عطاء. والثالث
: أمثالكم في الخلق
والموت والبعث ، قاله الزّجّاج. والرابع
: أمثالكم في كونها
تطلب الغذاء ، وتبتغي الرّزق ، وتتوقّى المهالك ، قاله ابن قتيبة. قال ابن
الأنباريّ : وموضع الاحتجاج من هذه الآية أنّ الله تعالى ركّب في المشركين عقولا ،
وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبّروا أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم ويتمسّكوا بطاعته ، كما جعل للطّير أفهاما يعرف بها بعضها
إشارة بعض ، وهدى الذّكر منها لإتيان الأنثى ، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة
المركّب ذلك فيها.
قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) في الكتاب قولان : أحدهما : أنه اللوح المحفوظ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس : ما
تركنا شيئا إلّا وقد كتبناه في أمّ الكتاب ، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة ، وابن
زيد. والثاني
: أنه القرآن. روى
عطاء عن ابن عباس : ما تركنا من شيء إلّا وقد بيّناه لكم. فعلى هذا يكون من العامّ
الذي أريد به الخاصّ ، فيكون المعنى : ما فرّطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيّناه
في الكتاب ، إمّا نصّا ، وإما مجملا ، وإمّا دلالة ، كقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : لكلّ شيء يحتاج إليه في أمر الدّين.
قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فيه قولان : أحدهما
: أنه الجمع يوم
القيامة.
__________________
(٥١١) روى أبو ذرّ
قال : «انتطحت شاتان عند النّبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : يا أبا ذرّ ، أتدري فيما انتطحتا؟ قلت : لا. قال :
لكنّ الله يدري ، وسيقضي بينهما».
(٥١٢) وقال أبو
هريرة : يحشر الله الخلق يوم القيامة ، البهائم والدّواب والطّير وكلّ شيء ، فيبلغ
من عدله أن يأخذ للجمّاء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا ، فيقول الكافر : يا
ليتني كنت ترابا.
والثاني
: أن معنى حشرها :
موتها ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك.
(وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ
وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم (صُمٌ) عن القرآن لا يسمعونه ، (وَبُكْمٌ) عنه لا ينطقون به (فِي الظُّلُماتِ) أي : في الشّرك والضّلالة. (مَنْ يَشَأِ اللهُ
يُضْلِلْهُ) فيموت على الكفر (وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الإسلام.
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠))
قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : «أرأيتم»
____________________________________
(٥١١) حسن. أخرجه
أحمد ٥ / ١٧٣ والبزار ٣٥٠ و ٣٤٥١ «كشف» من حديث أبي ذر وفي إسناده ليث بن أبي سليم
غير قوي ، وبقية رجاله ثقات وقد توبع فقد أخرجه أحمد ٥ / ١٦٢ والطبري ١٣٢٢٦ وفيه
راو لم يسم وأخرجه الطبري ١٣٢٢٧ عن منذر الثوري عن أبي ذر. وهذا منقطع بين أبي ذر
ومنذر الثوري.
والصواب الرواية
المتقدمة حيث رواه منذر عن أشياخ له عن أبي ذر. وبكل حال الحديث حسن بطرقه وفي
الباب أحاديث تعضده وانظر ما بعده ، وانظر «الشوكاني» ٨٩٤ بتخريجنا.
(٥١٢) موقوف صحيح
أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٧٨٦ ومن طريقه الطبري ١٣٢٢٥ عن أبي هريرة موقوفا ،
وإسناده صحيح. وورد بعضه مرفوعا. أخرجه مسلم ٢٥٨٢ والترمذي ٢٤٢٠ وعبد الرزاق ٣٤٧٦٥
وأحمد ٢ / ٣٢٣ وابن حبان ٨٣٦٣ عن أبي هريرة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة
الجلحاء من الشاة القرناء) وله شواهد. انظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٥ و «تفسير القرطبي
٢٨٩٦ بتخريجنا.
__________________
و «أرأيتكم» و «أرأيت»
بالألف في كلّ القرآن مهموزا ؛ وليّن الهمزة نافع في الكلّ. وقرأ الكسائيّ بغير
همز ولا ألف. قال الفرّاء : العرب تقول : أرأيتك ، وهم يريدون : أخبرني.
فأمّا عذاب الله ،
ففي المراد به ها هنا قولان : أحدهما
: أنه الموت ، قاله
ابن عباس. والثاني
: العذاب الذي كان
يأتي الأمم الخالية ، قاله مقاتل. فأمّا السّاعة ، فهي القيامة. قال الزّجّاج :
وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد ، وللوقت الذي يبعثون فيه.
قوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) أي : أتدعون صنما أو حجرا لكشف ما بكم؟! فاحتجّ عليهم بما
لا يدفعونه ، لأنهم كانوا إذا مسّهم الضّرّ دعوا الله.
وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) جواب لقوله تعالى : «أرأيتكم» ، لأنه بمعنى أخبروا ، كأنه
قيل لهم : إن كنتم صادقين ، فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم؟.
(بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما
تُشْرِكُونَ (٤١))
قوله تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) قال الزّجّاج : أعلمهم أنهم لا يدعون في الشّدائد إلّا
إيّاه ؛ وفي ذلك أعظم الحجج عليهم ، لأنهم عبدوا الأصنام. (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ
شاءَ) المعنى : فيكشف الضّرّ الذي من أجله دعوتم ، وهذا على
اتّساع الكلام مثل قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، أي : أهل القرية. (وَتَنْسَوْنَ) : يجوز أن يكون بمعنى «تتركون» ؛ ويجوز أن يكون المعنى :
إنّكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ) في الآية محذوف ، تقديره : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك
رسلا فخالفوهم ، فأخذناهم بالبأساء ؛ وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الزّمانة والخوف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنها البؤس ، وهو الفقر ، قاله ابن قتيبة. والثالث : أنها الجوع ، ذكره الزّجّاج. وفي الضّرّاء ثلاثة أقوال : أحدها : البلاء ، والجوع ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : النّقص في الأموال والأنفس ، ذكره الزّجّاج. والثالث : الأسقام والأمراض ، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي : لكي يتضرّعوا. والتّضرّع : التّذلل والاستكانة. وفي
الكلام محذوف تقديره : فلم يتضرّعوا.
(فَلَوْ لا إِذْ
جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣))
قوله تعالى : (فَلَوْ لا) معناه : «فهلا». والبأس : العذاب. ومقصود الآية : أنّ الله
تعالى أعلم نبيّه صلىاللهعليهوسلم أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا
بالشّدائد ، فلم يخضعوا ، وأقاموا على كفرهم ، وزيّن لهم الشيطان ضلالتهم فأصرّوا
عليها.
__________________
(فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا
بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤))
قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) قال ابن عباس :
تركوا ما وعظوا به. (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ
أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) يريد رخاء الدنيا وسرورها. وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر : «فتّحنا»
بالتّشديد هنا وفي الأعراف ، وفي الأنبياء : «فتّحت» ، وفي القمر : «فتّحنا» ،
والجمهور على تخفيفهن. قال الزّجّاج : أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير ، حتى
إذا ظنّوا أنّ ما كان نزل بهم ، لم يكن انتقاما ، وما فتح عليهم ، باستحقاقهم ،
أخذناهم بغتة ، أي : فاجأهم عذابنا.
وقال ابن
الأنباريّ : إنما أراد بقوله تعالى : «كلّ شيء» : التّأكيد ، كقول القائل : أكلنا
عند فلان كلّ شيء ، وكنّا عنده في كلّ سرور ، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه
والإطناب فيه ، كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) . وقال الحسن : من وسّع عليه فلم ير أنه لم يمكر به ، فلا
رأي له ؛ ومن قتّر عليه فلم ير أنه ينظر له ، فلا رأي له ، ثم قرأ هذه الآية ، وقال
: مكر بالقوم وربّ الكعبة ، أعطوا حاجاتهم ثمّ أخذوا.
قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) في المبلس خمسة أقوال : أحدها : أنه الآيس من رحمة الله عزوجل ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ؛ وقال في رواية أخرى : الآيس
من كلّ خير. وقال الفرّاء : المبلس : اليائس المنقطع رجاؤه ، ولذلك قيل للذي يسكت
عند انقطاع حجّته ، فلا يكون عنده جواب : قد أبلس. قال العجّاج :
يا صاح هل تعرف
رسما مكرسا
|
|
قال نعم! أعرفه!
وأبلسا
|
أي : لم يحر
جوابا. وقيل : المكرس : الذي قد بعرت فيه الإبل ، وبوّلت ، فيركب بعضه بعضا. والثاني : أنه المفتضح. قال مجاهد : الإبلاس : الفضيحة. والثالث : أنه المهلك ، قاله السّدّيّ. والرابع : أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشّر ما لا يستطيعه
، قاله ابن زيد. والخامس
: أنه الحزين
النادم ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لرؤبة :
وحضرت يوم
الخميس الأخماس
|
|
وفي الوجوه صفرة
وإبلاس
|
أي : اكتئاب ،
وكسوف ، وحزن. وقال الزّجّاج : هو الشّديد الحسرة ، الحزين ، اليائس. وقال في موضع
آخر : المبلس : السّاكت المتحيّر.
(فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))
قوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا) قال ابن السّائب : دابرهم : الذي يتخلّف في آخرهم. والمعنى
: أنهم استؤصلوا. وقال أبو عبيدة : دابرهم : آخرهم الذي يدبرهم : قال ابن قتيبة :
هو كما
__________________
يقال : اجتثّ
أصلهم. قال المفسّرون : وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم ، لأنّ ذلك إنعام على رسلهم
الذين كذّبوهم ، وعلّم الحمد على كفايته شرّ الظّالمين.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ
هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦))
قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ
سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أي : أذهبها ؛ (وَخَتَمَ عَلى
قُلُوبِكُمْ) حتى لا تعرفون شيئا (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ)؟ في هاء «به» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تعود على الفعل ، والمعنى : يأتيكم بما أخذ الله منكم
، قاله الزّجّاج. وقال الفرّاء : إذا كنّيت عن الأفاعيل ، وإن كثرت ، وحّدت
الكناية ، كقولك للرجل : إقبالك وإدبارك يؤذيني. والثاني : أنها تعود إلى الهدى ، ذكره الفرّاء. فعلى هذا تكون
الكناية عن غير مذكور ، ولكنّ المعنى يشتمل عليه ، لأنّ من أخذ سمعه وبصره وختم
على قلبه لم يهتد. والثالث
: أنها تعود على
السّمع ، ويكون ما عطف عليه داخلا معه في القصّة ، لأنه معطوف عليه ، ذكره
الزّجّاج. والجمهور يقرءون : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ) بكسر هاء «به». وروى المسيّبي عن نافع : «به انظر» :
بالضّمّ. قال أبو عليّ : من كسر ، حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو : بهي عيب ،
ومن ضمّ ، فعلى قول من قال : فخسفنا بهو بدارهو الأرض ، فحذف الواو.
قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) قال مقاتل : يعني تكون العلامات في أمور شتّى ، فيخوفهم
بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب ، وبما صنع بالأمم الخالية (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) ، أي : يعرضون فلا يعتبرون.
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧))
قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ
عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) قال الزّجّاج : البغتة : المفاجأة ؛ والجهرة : أن يأتيهم
وهم يرونه. (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أي : هل يهلك إلّا أنتم ومن أشبهكم ، لأنكم كفرتم معاندين
، فقد علمتم أنكم ظالمون.
(وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))
قوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
مُبَشِّرِينَ) أي : بالثّواب ؛ ومنذرين بالعقاب وليس إرسالهم ليأتوا بما
يقترحونه من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدّق ، وعقاب من كذّب في تمام الآية والتي
بعدها. وقال ابن عباس : يفسقون : بمعنى يكافرون.
(قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))
قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزائِنُ اللهِ).
(٥١٣) سبب نزولها
: أنّ أهل مكّة قالوا : يا محمّد ، لو أنزل الله عليك كنزا فتستغني به ، فإنّك
فقير محتاج ؛ أو تكون لك جنّة تأكل منها ، فإنك تجوع ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو
صالح عن ابن عباس.
قال الزّجّاج :
وهذه الآية متّصلة بقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، فأعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي ،
ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلّا بوحي ، ولا يقول : إنه ملك ، لأنّ الملك يشاهد من
أمور الله تعالى ما لا يشاهده البشر. وقرأ ابن مسعود ، وابن جبير ، وعكرمة ،
والجحدريّ : «إنّي ملك» بكسر اللام. وفي الأعمى والبصير قولان :
أحدهما
: أنّ الأعمى :
الكافر ، والبصير : المؤمن ، قاله ابن عباس ، وقتادة.
والثاني
: الأعمى : الضّالّ
، والبصير : المهتدي ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد.
وفي قوله تعالى : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) قولان : أحدهما
: فيما بيّن لكم من
الآيات الدّالّة على وحدانيّته وصدق رسوله. والثاني : فيما ضرب لكم من مثل الأعمى والبصير وأنهما لا يستويان.
(وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))
قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ) قال الزّجّاج : يعني بالقرآن ، وإنما ذكر الذين يخافون
الحشر دون غيرهم ، وإن كان منذرا لجميع الخلق ، لأن الحجّة على الخائفين الحشر
أظهر ، لاعترافهم بالمعاد ، فهم أحد رجلين : إما مسلم ، فينذر ليؤدّي حقّ الله
عليه في إسلامه ، وإما كتابيّ ، فأهل الكتاب مجمعون على البعث. وذكر الوليّ
والشّفيع ، لأنّ اليهود والنّصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحبّاؤه ، فأعلم عزوجل أنّ أهل الكفر ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع. وقال غيره :
ليس لهم من دونه وليّ ، أي : ليس لهم غير الله وليّ ولا شفيع ، لأن شفاعة
الشّافعين بأمره.
وقال أبو سليمان
الدّمشقيّ : هذه الآية متعلّقة بقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) . روى سعد بن أبي وقّاص قال :
(وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما
عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢))
قوله
تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ) ، روى سعد بن أبي وقّاص قال :
(٥١٤) نزلت هذه
الآية في ستّة : فيّ ، وفي ابن مسعود ، وصهيب ، وعمّار ، والمقداد ، وبلال. قالت
قريش لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنّا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء ، فاطردهم عنك. فدخل
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل ، فنزلت هذه الآية.
____________________________________
(٥١٣) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة واهية ، وتقدم الكلام على ذلك مرارا.
(٥١٤) حسن. أخرجه
الطبري ١٣٢٦٦ عن سعد وإسناده حسن وانظر ما بعده.
__________________
(٥١٥) وقال خبّاب
بن الأرتّ : نزلت فينا ، كنّا ضعفاء عند النبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ يعلّمنا بالغداة والعشيّ ما ينفعنا ، فجاء الأقرع بن
حابس ، وعيينة بن حصن ، فقالا : إنّا من أشراف قومنا ، وإنّا نكره أن يرونا معهم ،
فاطردهم إذا جالسناك. قال : «نعم». فقالوا : لا نرضى حتى تكتب بيننا كتابا ، فأتي
بأديم ودواة ، ودعا عليّا ليكتب ، فلما أراد ذلك ، ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل
جبريل بقوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) إلى قوله : (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ) ، فرمى بالصّحيفة ودعانا ، فأتيناه وهو يقول : «سلام عليكم
كتب ربّكم على نفسه الرّحمة». فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته.
(٥١٦) وقال ابن
مسعود : مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعنده خبّاب ، وصهيب ، وبلال ، وعمّار ، فقالوا : يا محمّد
، رضيت بهؤلاء ، أتريد أن نكون تبعا لهم؟! فنزلت : (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ).
(٥١٧) وقال عكرمة
: جاء عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، ومطعم بن عديّ والحارث بن نوفل ، في أشراف بني
عبد مناف ، إلى أبي طالب فقالوا : لو أنّ ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان
أعظم في صدورنا ، وأدنى لاتّباعنا إيّاه ، فأتاه أبو طالب فحدّثه بذلك ، فقال عمر
بن الخطّاب : لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون ، فنزلت هذه الآيات ، فأقبل عمر
يعتذر من مقالته.
(٥١٨) وروى أبو
صالح عن ابن عباس : أنّ هذه الآيات نزلت في الموالي ، منهم بلال ، وصهيب ، وخبّاب
، وعمّار ، ومهجع ، وسلمان ، وعامر بن فهيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ؛ وأنّ قوله :
(وَأَنْذِرْ بِهِ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) نزلت فيهم أيضا.
(٥١٩) وقد روى
العوفيّ عن ابن عباس : أنّ أناسا من الأشراف قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : نؤمن لك ، وإذا صلّينا فأخر هؤلاء الذين معك ، فليصلوا
خلفنا. فعلى هذا ، إنما سألوه تأخيرهم عن الصّفّ ، وعلى
____________________________________
(٥١٥) ضعيف. أخرجه
ابن ماجة ٤١٢٧ والطبري ١٣٢٦١ ، والواحدي في «الوسيط» ٢ / ٢٤٧ وفي «أسباب النزول»
٤٣٢ من حديث خباب بن الأرتّ وإسناده ضعيف أبو سعد قارئ الأزد وعبد الله بن عامر
أبو الكنود كلاهما مجهول. وللمتن علة أخرى : وهي كون الخبر مدني والسورة مكية ،
ولذا استغربه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢ / ١٧٣ وقال : فالآية مكية ، والخبر
مدني ا ه قلت : قدوم الأقرع وعيينة كان في المدينة.
ـ وأصلح من ذلك كله ما أخرجه : مسلم ٢٤١٣ والنسائي
في «التفسير» ١٨٣ وابن ماجة ٤١٢٨ وأبو يعلى ٨٢٦ والطبري ١٣٢٦٦ والواحدي ٤٣١
والحاكم ٣ / ٣١٩ عن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أنا وابن مسعود وبلال ورجل من هذيل ، ورجلان لست أسميهما.
فقال المشركون للنبي صلىاللهعليهوسلم اطردهم لا يجترءون علينا فنزلت» ا ه. وانظر «تفسير
الشوكاني» ٨٩٧ و ٧٩٨ بتخريجنا.
(٥١٦) حديث حسن.
أخرجه أحمد ٣٩٧٥ والبزار ٢٢٠٩ والطبراني ١٠٥٢٠ والواحدي ٤٣٣ من حديث ابن مسعود ،
وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩٧ : رجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس ، وهو ثقة. ا
ه.
ويشهد له ما تقدم
عن سعد من حديث ابن مسعود. انظر «تفسير الشوكاني» ٨٩٧ وابن كثير ٢ / ١٧٢ و ١٧٣. بتخريجنا.
(٥١٧) أخرجه
الطبري ١٣٢٦٧ عن عكرمة مرسلا والمرسل من قسم الضعيف ، وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ /
١٧٣.
(٥١٨) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس ، وراويته الكلبي يضع
الحديث ، والمتن منكر جدا بذكر سلمان فإن إسلامه كان في المدينة ، والسورة مكية.
(٥١٩) أخرجه الطبري
١٣٣٨٦ عن ابن عباس به ، وإسناده ضعيف جدا ، فيه عطية العوفي ضعيف ، وعنه مجاهيل.
الأقوال التي قبله
، سألوه طردهم عن مجلسه.
قوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في هذا الدّعاء خمسة أقوال : أحدها
: أنه الصلاة
المكتوبة ، قاله ابن عمر ، وابن عباس. وقال مجاهد : هي الصّلوات الخمس ؛ وفي رواية
عن مجاهد ، وقتادة قالا : يعني صلاة الصّبح والعصر. وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ
كانت ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشيّ ؛ ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك. والثاني : أنه ذكر الله تعالى ، قاله إبراهيم النّخعيّ ، وعنه كالقول
الأول. والثالث
: أنه عبادة الله ،
قاله الضّحّاك. والرابع
: أنه تعلّم القرآن
غدوة وعشيّة ، قاله أبو جعفر. والخامس
: أنه دعاء الله
بالتوحيد ، والإخلاص له ، وعبادته ، قاله الزّجّاج.
وقرأ الجمهور : «بالغداة»
؛ وقرأ ابن عامر ها هنا وفي سورة الكهف أيضا : «بالغدوة» بضم الغين وإسكان الدال
وبعدها واو. قال الفرّاء : والعرب لا تدخل الألف واللام على «الغدوة» لأنها معرّفة
بغير ألف ولام ، ولا تضيفها العرب ؛ يقولون : أتيتك غداة الخميس ، ولا يقولون :
غدوة الخميس ، فهذا دليل على أنها معرفة. وقال أبو عليّ : الوجه : الغداة ، لأنها
تستعمل نكرة ، وتتعرّف باللام ؛ وأما غدوة ، فمعرفة. وقال الخليل : يجوز أن تقول :
أتيتك اليوم غدوة وبكرة ، فجعلها بمنزلة ضحوة ، فهذا وجه قراءة ابن عامر.
فإن قيل : دعاء
القوم كان متّصلا بالليل والنهار ، فلما ذا خصّ الغداة والعشيّ؟
فالجواب : أنه
نبّه بالغداة على جميع النهار ، وبالعشيّ على الليل ، لأنه إذا كان عمل النهار
خالصا له ، كان عمل الليل أصفى.
قوله تعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) قال الزّجّاج : أي يريدون الله ، فشهد الله لهم بصحّة
النّيات ، وأنهم مخلصون في ذلك. وأما الحساب المذكور في الآية ، ففيه ثلاثة أقوال
: أحدها
: أنه حساب الأعمال
،
__________________
قاله الحسن. والثاني : حساب الأرزاق. والثالث : أنه بمعنى الكفاية. والمعنى : ما عليك من كفايتهم ، ولا
عليهم كفايتك.
قوله تعالى : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) قال ابن الأنباريّ : عظم هذا الأمر على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وخوّف بالدّخول في جملة الظالمين ، لأنه كان قد همّ
بتقديم الرّؤساء على الضّعفاء.
(وَكَذلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ
اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) المعنى : وكما ابتلينا قبلك الغنيّ بالفقير ، ابتلينا أيضا
بعضهم ببعض. و «فتنّا» بمعنى : ابتلينا واختبرنا ؛ (لِيَقُولُوا) ، يعني الكبراء : (أَهؤُلاءِ) يعنون الفقراء والضّعفاء (مَنَّ اللهُ
عَلَيْهِمْ) بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الإنكار ، كأنهم أنكروا أن
يكونوا سبقوهم بفضيلة. قال ابن السّائب : ابتلى الله الرّؤساء بالموالي ؛ فإذا نظر
الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله ، أنف أن يسلم ، ويقول : سبقني هذا!
قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ) أي : بالذين يشكرون نعمته إذا منّ عليهم بالهداية. والمعنى
: إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر. والاستفهام في «أليس» ، معناه التّقرير ، أي :
إنه كذلك.
(وَإِذا جاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى
نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤))
قوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنا) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال :
(٥٢٠) أحدها : أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إنّا أصبنا ذنوبا عظيمة ، فسكت عنهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أنس بن مالك.
(٥٢١) والثاني : أنها نزلت في الذين نهي عن طردهم ، فكان النبيّ صلىاللهعليهوسلم إذا رآهم بدأهم بالسّلام ، وقال : «الحمد لله الذي جعل في
أمّتي من أمرني أن أبدأهم بالسّلام» ، قاله الحسن وعكرمة.
(٥٢٢) والثالث : أنها نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وحمزة ،
وجعفر ، وعثمان بن مظعون ، وأبي عبيدة ، ومصعب بن عمير ، وسالم ، وأبي سلمة ،
والأرقم بن أبي الأرقم ، وعمّار ، وبلال ، قاله عطاء.
(٥٢٣) والرابع : أنّ عمر بن الخطّاب كان أشار على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتأخير الفقراء ، استمالة
____________________________________
(٥٢٠) ليس له أصل
عن أنس ، وإنما ورد عن ماهان وهو أبو صالح الحنفي الكوفي أخرجه الطبري ١٣٢٩٤ و ١٣٢٩٥
عن ماهان مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٦ بدون إسناد عن ماهان. وعزاه
في «الدر» ٣ / ٢٦ للفريابي وعبد بن حميد ومسدد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي
حاتم وأبي الشيخ عن ماهان ، وتفرد المصنف بنسبته لأنس.
(٥٢١) ذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٥ بدون سند عن عكرمة مرسلا وسيأتي في سورة الكهف.
(٥٢٢) عزاه المصنف
لعطاء ، فهو مرسل ، ولم أقف على إسناده ، ولا يصح.
(٥٢٣) عزاه المصنف
للكلبي ، وهو ممن يضع الحديث ، فخبره هذا لا شيء.
للرؤساء إلى
الإسلام ، فلما نزلت : (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ، جاء عمر بن الخطّاب يعتذر من مقالته ويستغفر منها ،
فنزلت فيه هذه الآية ، قاله ابن السّائب.
(٥٢٤) والخامس : أنها نزلت مبشّرة بإسلام عمر بن الخطّاب ؛ فلما جاء وأسلم
؛ تلاها عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حكاه أبو سليمان الدّمشقيّ.
فأمّا قوله تعالى
: (يُؤْمِنُونَ
بِآياتِنا) فمعناه : يصدّقون بحججنا وبراهيننا.
قوله تعالى : (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فيه قولان : أحدهما : أنه أمر بالسّلام عليهم تشريفا لهم ؛ وقد ذكرناه عن الحسن
، وعكرمة. والثاني
: أنه أمر بإبلاغ
السّلام إليهم عن الله تعالى ، قاله ابن زيد. قال الزّجّاج : ومعنى السّلام : دعاء
للإنسان بأن يسلم من الآفات. وفي السّوء قولان : أحدهما : أنه الشّرك. والثاني : المعاصي.
وقد ذكرنا في سورة
النساء معنى الجهالة.
قرأ ابن كثير ،
وأبو عمرو ، وحمزة والكسائيّ : «إنّه من عمل منكم سوءا» «فإنّه غفور» بكسر الألف
فيهما. وقرأ عاصم ، وابن عامر : بفتح الألف فيهما. وقرأ نافع. بنصب ألف «أنّه» وكسر
ألف «فإنّه غفور». قال أبو عليّ : من كسر ألف «إنّه» جعله تفسيرا للرّحمة ؛ ومن
كسر ألف «فإنّه غفور» فلأنّ ما بعد الفاء حكمه الابتداء ، ومن فتح ألف «أنّه من
عمل» جعل «أنّ» بدلا من الرّحمة ، والمعنى : كتب ربّكم «أنّه من عمل» ، ومن فتحها
بعد الفاء أضمر خبرا تقديره : فله «أنّه غفور رحيم» والمعنى : فله غفرانه. وكذلك
قوله تعالى : (فَأَنَّ لَهُ نارَ
جَهَنَّمَ) معناه : فله أنّ له نار جهنّم ، وأما قراءة نافع ، فإنه
أبدل من الرّحمة : واستأنف ما بعد الفاء.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : وكما فصّلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على
المشركين ، كذلك نبيّن لك حجّتنا في كلّ حقّ ينكره أهل الباطل. قال ابن قتيبة :
ومعنى تفصيلها : إتيانها متفرّقة شيئا بعد شيء.
قوله تعالى : (وَلِتَسْتَبِينَ) وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «ولتستبين»
بالتاء ، «سبيل» بالرفع. وقرأ نافع ، وزيد عن يعقوب : بالتاء أيضا ، إلّا أنهما
نصبا السبيل. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «وليستبين» بالياء ، «سبيل»
بالرفع. فمن قرأ (وَلِتَسْتَبِينَ) بالياء أو التاء ، فلأنّ السبيل تذكر وتؤنث على ما بيّنّا
في آل عمران ، ومن نصب اللام ، فالمعنى : ولتستبين أنت يا محمّد سبيل المجرمين.
وفي سبيلهم التي بيّنت له ، قولان : أحدهما : أنها طريقهم في الشّرك ، ومصيرهم إلى الخزي ، قاله ابن
عباس. والثاني
: أنها مقصودهم في
طرد الفقراء عنه ، وذلك إنما هو الحسد ، لا إيثار مجالسته واتّباعه ، قاله أبو
سليمان.
____________________________________
(٥٢٤) لم أقف عليه
، وأمارة الوضع لائحة عليه ، فالمتن منكر ، وليس له أصل.
__________________
فإن قيل : كيف
انفردت لام «كي» في قوله : «ولتستبين» وسبيلها أن تكون شرطا لفعل يتقدّمها أو يأتي
بعدها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباريّ بجوابين : أحدهما : أنها شرط لفعل مضمر ، يراد به : ونفعل ذلك لكي تستبين. والثاني : أنها معطوفة على لام مضمرة ، تأويله : نفصّل الآيات لينكشف
أمرهم ، ولتستبين سبيلهم.
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ
أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦))
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني : الأصنام. وفي معنى (تَدْعُونَ) قولان : أحدهما
: تدعونهم آلهة. والثاني : تعبدون ؛ قاله ابن عباس. وأهواؤهم : دينهم. قال الزّجّاج :
أراد إنما عبدتموها على طريق الهوى ، لا على طريق البيّنة والبرهان. ومعنى «إذا»
معنى الشّرط ؛ والمعنى : قد ضللت إن عبدتها. وقرأ طلحة ، وابن أبي ليلى : «قد ضللت»
بكسر اللام.
(قُلْ إِنِّي عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧))
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي).
(٥٢٥) سبب نزولها
أنّ النّضر بن الحارث وسائر قريش قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : يا محمّد ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به ، استهزاء ؛ وقام
النّضر عند الكعبة وقال : اللهمّ إن كان ما يقول حقّا ، فائتنا بالعذاب ؛ فنزلت
هذه الآية ؛ رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأمّا البيّنة ،
فهي الدّلالة التي تفصل بين الحقّ والباطل. قال الزّجّاج : أنا على أمر بيّن ، لا
متّبع لهوى. قوله تعالى : (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) في هاء الكناية ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى الرّبّ. والثاني : ترجع إلى البيان. والثالث : ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاء.
قوله تعالى : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي : ما بيدي. وفي الذي استعجلوا به قولان : أحدهما : أنه العذاب ؛ قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : أنه الآيات التي كانوا يقترحونها ؛ ذكره الزّجّاج. قوله
تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ) فيه قولان : أحدهما : أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بإيجاب الثواب
والعقاب. والثاني
: أنه القضاء
بإنزال العذاب على المخالف.
قوله تعالى : (يَقُصُّ الْحَقَ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، ونافع «يقصّ الحقّ» بالصّاد المشددة
، من القصص ؛ والمعنى : أنّ كلّ ما أخبر به فهو حقّ. وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ،
وحمزة ، والكسائيّ : «يقضي الحقّ» من القضاء ؛ والمعنى : يقضي القضاء الحقّ.
____________________________________
(٥٢٥) باطل. عزاه
المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهو من رواية الكلبي ، وهذا إسناد موضوع. وذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٧ بدون سند عن الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث.
(قُلْ لَوْ أَنَّ
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ
أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))
قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي : من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) قال ابن عباس : يقول : لم أمهلكم ساعة ، ولأهلكتكم.
قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فيه قولان : أحدهما : أنّ المعنى : إن شاء عاجلهم ، وإن شاء أخّر عقوبتهم. والثاني : أعلم بما يؤول إليهم أمرهم ، وأنه قد يهتدي منهم قوم ، ولا
يهتدي آخرون ؛ فلذلك يؤخّرهم.
(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩))
قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) قال ابن جرير : المفاتح : جمع مفتح ؛ يقال : مفتح ومفتاح ،
فمن قال : مفتح ، جمعه : مفاتح. ومن قال : مفتاح ، جمعه : مفاتيح. وفي «مفاتح
الغيب» سبعة أقوال : أحدها
: أنها خمس لا
يعلمها إلّا الله عزوجل.
(٥٢٦) روى
البخاريّ في أفراده من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلّا الله ، لا يعلم متى
تقوم السّاعة إلّا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلّا الله ، ولا يعلم ما في غد
إلّا الله ، ولا تعلم نفس بأيّ أرض تموت إلّا الله ، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلّا
الله».
(٥٢٧) قال ابن
مسعود : أوتي نبيّكم علم كلّ شيء إلّا مفاتيح الغيب.
والثاني
: أنها خزائن غيب
السماوات من الأقدار والأرزاق ، قاله ابن عباس. والثالث : ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب ، وما تصير إليه الأمور
، قاله عطاء. والرابع
: خزائن غيب العذاب
، متى ينزل ، قاله مقاتل. والخامس
: الوصلة إلى علم
الغيب إذا استعلم ، قاله الزّجّاج. والسادس : عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال. والسابع : ما لم يكن ، هل يكون ، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون ،
وما لا يكون إن كان ، كيف يكون؟ فأمّا البرّ ، فهو القفر.
وفي البحر قولان :
أحدهما
: أنه الماء ، قاله
الجمهور. والثاني
: أنه القرى ، قاله
مجاهد.
قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُها) قال الزجّاج : المعنى : أنه يعلمها ساقطة وثابتة ، كما
تقول : ما يجيئك أحد إلّا وأنا أعرفه ، ليس تأويله : أعرفه في حال مجيئه فقط. فأما
ظلمات الأرض ، فالمراد بها بطن الأرض.
وفي الرّطب
واليابس ، خمسة أقوال : أحدها
: أنّ الرّطب :
الماء ، واليابس : البادية. والثاني
: الرّطب. ما ينبت ،
واليابس : ما لا ينبت. والثالث
: الرّطب : الحيّ ،
واليابس : الميت. والرابع
: الرّطب : لسان
المؤمن يذكر الله ، واليابس : لسان الكافر لا يتحرّك بذكر الله. والخامس : أنهما الشيء
____________________________________
(٥٢٦) حديث صحيح.
أخرجه البخاري ١٠٣٩ و ٤٣٧٩ و ٤٦٢٧ و ٤٦٩٧ و ٤٧٧٨ ، وأحمد ٢ / ٢٤ و ٥٢ و ٥٨ و ٨٥ و
٨٦ ، وابن حبان ٧٠ و ٧١ والطبراني ١٣٢٤٦. من حديث ابن عمر.
(٥٢٧) جيد. أخرجه
الطبري ١٣٣٠٩ ك عن ابن مسعود ، وإسناده قوي.
ينتقل من إحدى
الحالتين إلى الأخرى ، فهو يعلمه رطبا ، ويعلمه يابسا.
وفي الكتاب المبين
قولان : أحدهما
: أنه اللوح
المحفوظ ؛ قاله مقاتل. والثاني
: أنه علم الله
المتقن ؛ ذكره الزّجّاج.
فإن قيل : ما
الفائدة في إحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة ، ذكرهنّ ابن الأنباريّ :
أحدها
: أنه أحصاها في
كتاب ، لتقف الملائكة على نفاذ علمه. والثاني : أنه نبّه بذلك عباده على تعظيم الحساب ، وأعلمهم أنه لا
يفوته ما يصنعون ، لأنّ من يثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب ، فهو إلى إثبات ما فيه
ثواب وعقاب أسرع. والثالث
: أنّ المراد
بالكتاب : العلم ؛ فالمعنى : أنها مثبتة في علمه.
(وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
بِاللَّيْلِ) يريد به النّوم ، لأنه يقبض الأرواح عن التّصرّف ، كما
يقبض بالموت. وقال ابن عباس : يقبض أرواحكم في منامكم. وجرحتم : بمعنى كسبتم. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) أي : يوقظكم فيه ، أي : في النهار. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي : لتبلغوا الأجل المسمّى لانقطاع حياتكم ، فدلّ باليقظة
بعد النوم على البعث بعد الموت.
(وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١))
قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) الحفظة : الملائكة ، واحدهم : حافظ ، والجمع : حفظة ، مثل
كاتب وكتبة ، وفاعل وفعلة. وفيما يحفظونه قولان : أحدهما : أعمال بني آدم ؛ قاله ابن عباس. والثاني : أعمالهم وأجسادهم ، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وقرأ حمزة : «توفّاه رسلنا» وحجّته أنه فعل مسند إلى مؤنث
غير حقيقي ، وإنما التأنيث للجمع ، فهو مثل : (وَقالَ نِسْوَةٌ) . وفي المراد بالرّسل ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أعوان ملك الموت ، قاله ابن عباس. وقال النخعيّ :
أعوانه يتوفّون النّفوس ، وهو يأخذها منهم. والثاني : أنّ المراد بالرّسل : ملك الموت وحده ، قاله مقاتل. والثالث : أنهم الحفظة ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) قال ابن عباس : لا يضيّعون.
فإن قيل : كيف
الجمع بين قوله تعالى : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وبين قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ) ؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه يجوز أن يريد بالرّسل ملك كالموت وحده ، وقد يقع الجمع
على الواحد. والثاني
: أنّ أعوان ملك
الموت يفعلون بأمره ، فأضيف الكلّ إلى فعله. وقيل : توفّي أعوان ملك الموت بالنّزع
، وتوفّي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب ، ويدعوها فتخرج ، وتوفّي الله تعالى
بأن يخلق الموت في الميّت.
__________________
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))
قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) يعني العباد. وفي متولّي الرّدّ قولان : أحدهما : أنهم الملائكة ، ردّتهم بالموت إلى الله تعالى. والثاني : أنه الله عزوجل ، ردّهم بالبعث في الآخرة. وفي معنى ردّهم إلى الله تعالى
، قولان : أحدهما
: أنهم ردّوا إلى
المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلّا الله وحده. والثاني : أنهم ردّوا إلى تدبيره وحده ؛ لأنه لما أنشأهم كان منفردا
بتدبيرهم ، فلما مكّنهم من التّصرّف صاروا في تدبير أنفسهم ، ثمّ كفّهم عنه بالموت
فصاروا مردودين إلى تدبيره.
قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يعني القضاء. وبيان سرعة الحساب ، في سورة البقرة.
(قُلْ مَنْ
يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ
اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤))
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو جعفر : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قُلِ اللهُ
يُنَجِّيكُمْ) ، مشدّدين. وقرأ يعقوب ، والقزّاز عن عبد الوارث : بسكون
النون وتخفيف الجيم. قال الزّجّاج : والمشدّدة أجود للكثرة. وظلمات البرّ والبحر :
شدائدها ؛ والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدّة : يوم مظلم ، حتى إنهم يقولون :
يوم ذو كواكب ، أي : قد اشتدّت ظلمته حتى صار كالليل.
قال الشاعر :
فدى لبني ذهل بن
شيبان ناقتي
|
|
إذا كان يوما ذا
كواكب أشنعا
|
قوله تعالى : (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً) أي : مظهرين الضّراعة ، وهي شدّة الفقر إلى الشّيء ، والحاجة.
قوله تعالى : (وَخُفْيَةً) قرأ عاصم إلّا حفصا : «وخفية» بكسر الخاء ؛ وكذلك في سورة
الأعراف. وقرأ الباقون بضمّ الخاء ، وهما لغتان. قال الفرّاء : وفيها لغة أخرى
بالواو ، ولا تصلح في القراءة : خفوة ، وخفوة. ومعنى الكلام ، أنكم تدعونه في
أنفسكم ، كما تدعونه ظاهرا : «لئن أنجيتنا» ، كذلك قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن
عامر ، وأبو عمرو : «لئن أنجيتنا» ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «لئن أنجانا»
بألف ، لمكان الغيبة في قوله : «تدعونه». وكان حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، يميلون
الجيم. قوله تعالى : (مِنْ هذِهِ) يعني : في أيّ شدة وقعتم ، قلتم : «لئن أنجيتنا من هذه».
قال ابن عباس : و «الشّاكرون» ها هنا : المؤمنون. وكانت قريش تسافر في البرّ
والبحر ، فإذا ضلّوا الطريق وخافوا الهلاك ، دعوا الله مخلصين ، فأنجاهم. فأما «الكرب»
فهو الغمّ الذي يأخذ بالنّفس ، ومنه اشتقّت الكربة.
(قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥))
__________________
قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فيه قولان : أحدهما : أنّ الذي فوقهم : العذاب النّازل من السماء ، كما حصب قوم
لوط ، وأصحاب الفيل. والذي من تحت أرجلهم : كما خسف بقارون ، قاله ابن عباس ،
والسّدّيّ ، ومقاتل. وقال غيرهم : ومنه الطّوفان ، والرّيح ، والصّيحة ، والرّجفة.
والقول
الثاني : أنّ الذي من
فوقهم : من قبل أمرائهم. والذي من تحتهم من سفلتهم ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن
عباس. وقال في رواية أخرى : الذي من فوقهم : أئمة السّوء ؛ والذي من تحت أرجلهم :
عبيد السّوء.
قوله تعالى : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال ابن عباس : يبثّ فيكم الأهواء المختلفة ، فتصيرون
فرقا. قال ابن قتيبة : يلبسكم : من الالتباس عليهم. والمعنى : حتى تكونوا شيعا ،
أي : فرقا مختلفين. ثم يذيق بعضكم بأس بعض بالقتال والحرب. وقال الزّجّاج : يلبسكم
، أي : يخلط أمركم خلط اضطراب ، لا خلط اتفاق. يقال : لبست عليهم الأمر ، ألبسه :
إذا لم أبيّنه. ومعنى شيعا : أي يجعلكم فرقا ، فإذا كنتم مختلفين ، قاتل بعضكم
بعضا.
قوله تعالى : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي : يقتل بعضكم بيد بعض.
وفيمن عني بهذه
الآية ، ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها في المسلمين
أهل الصّلاة ، هذا مذهب ابن عباس ، وأبي العالية ، وقتادة.
(٥٢٨) وقال أبيّ
بن كعب في هذه الآية : هن أربع خلال ، وكلّهنّ عذاب ، وكلّهن واقع قبل يوم القيامة
، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخمس وعشرين سنة ، ألبسوا شيعا ، وأذيق بعضهم بأس بعض.
وثنتان واقعتان لا محالة : الخسف ، والرّجم.
والثاني
: أنّ العذاب
للمشركين ، وباقي الآية للمسلمين ، قاله الحسن.
(٥٢٩) وقد روي عن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «سألت ربّي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ، ومنعني
واحدة ، سألته أن لا يصيبكم بعذاب أصابه من كان قبلكم ، فأعطانيها ، وسألته أن لا
يسلّط عليكم عدوّا يستبيح بيضتكم ، فأعطانيها ، وسألته أن لا يلبسكم شيعا ويذيق
بعضكم بأس بعض ، فمنعنيها».
والثالث
: أنها تهدّد
للمشركين ، قاله ابن جرير الطّبريّ ، وأبو سليمان الدّمشقي.
____________________________________
(٥٢٨) موقوف.
أخرجه أحمد ٥ / ١٣٥ عن أبي بن كعب موقوفا ، وإسناده غير قوي ، فيه أبو جعفر الرازي
، وهو صدوق ، لكنه سيء الحفظ. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٢١ وقال رواه أحمد
ورجاله ثقات.
(٥٢٩) صحيح. أخرجه
مسلم ٢٨٩٠ وابن أبي شيبة ١٠ / ٣٢٠ وأحمد ١ / ١٧٥ و ١٨١ و ١٨٢ ، وأبو يعلى ٧٣٤ وابن
حبان ٧٢٣٧ من حديث سعد ، وبعضهم اختصره. وأخرجه الطبري ٣٣٧٠ رواية نافع بن خالد
الخزاعي عن أبيه أن النبي .. وفي الباب أحاديث منها : حديث ثوبان عند مسلم ٢٨٨٩
وأبو داود ٤٢٥٢ والترمذي ٢١٧٦ وابن ماجة ٣٩٥٢ وأحمد ٥ / ٢٧٨ و ٢٨٤ وابن حبان ٧٢٣٨
والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٥٢٦ ـ ٥٢٧ والبغوي ٣٩١٠. وحديث خباب بن الأرت عند
الترمذي ٢١٧٥ والنسائي ٣ / ٢١٦ ـ ٢١٧ وأحمد ٥ / ١٠٨ و ١٠٩ وابن حبان ٧٢٣٦ والمزي
في تهذيب «الكمال» ١٤ / ٤٤٧ ـ ٤٤٨ والطبراني ٣٦٢١ و ٣٦٢٢ و ٣٦٢٤ و ٣٦٢٦. وقال
الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح ا ه.
(وَكَذَّبَ بِهِ
قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦))
قوله تعالى : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) في هاء «به» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها كناية عن القرآن. والثاني : عن تصريف الآيات. والثالث : عن العذاب.
قوله تعالى : (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فيه قولان :
أحدهما
: لست حفيظا على
أعمالكم لأجازيكم بها ، إنما أنا منذر ، قاله الحسن.
والثاني
: لست حفيظا عليكم
، أخذكم بالإيمان ، إنما أدعوكم إلى الله تعالى ، قاله الزّجّاج.
فصل
: وفي هذا القدر من
الآية قولان : أحدهما
: أنه اقتضى
الاقتصار في حقّهم على الإنذار من غير زيادة ، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني : أن معناه : لست حفيظا عليكم ، إنما أطالبكم بالظواهر من
الإقرار والعمل ، لا بالإسرار ؛ فعلى هذا هو محكم.
(لِكُلِّ نَبَإٍ
مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))
قوله تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي : لكلّ خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا
تأخير. قال السّدّيّ : فاستقرّ نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر. وقال
مقاتل : منه في الدنيا يوم بدر ، وفي الآخرة جهنّم.
(وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨))
قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آياتِنا) فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال : أحدها : المشركون. والثاني : اليهود. والثالث
: أصحاب الأهواء.
والآيات : القرآن. وخوض المشركين فيه : تكذيبهم به واستهزاؤهم ، ويقاربه خوض
اليهود ، وخوض أهل الأهواء ، والمراء ، والخصومات.
قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : فاترك مجالستهم ، حتى يكون خوضهم في غير القرآن. (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ) وقرأ ابن عامر : «ينسّينّك» ، بفتح النون ، وتشديد السين ،
والنون الثانية. ومثل هذا : غرّمته وأغرمته. وفي التنزيل : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ) والمعنى : إذا أنساك الشيطان ، فقعدت معهم ناسيا نهينا لك
، فلا تقعد بعد الذّكرى. والذّكر والذّكرى : واحد. قال ابن عباس : قم إذا ذكرت ؛
والظّالمون : المشركون.
(وَما عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
(٦٩))
قوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ
حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
(٥٣٠) أحدها : أنّ المسلمين قالوا : لئن كنّا كلما استهزأ المشركون
بالقرآن وخاضوا فيه
____________________________________
(٥٣٠) عزاه المصنف
لابن عباس ولم أقف عليه وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
__________________
فمنعناهم ، لم
نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا أن نطوف بالبيت ، فنزلت هذه الآية.
(٥٣١) والثاني : أنّ المسلمين قالوا : إنّا نخاف الإثم إن لم ننههم عن
الخوض ، فنزلت هذه الآية.
(٥٣٢) والثالث : أنّ المسلمين قالوا : لو قمنا عنهم إذا خاضوا ، فإنّا نخشى
الإثم في مجالستهم ، فنزلت هذه الآية. هذا عن مقاتل ، والأوّلان عن ابن عباس.
قوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) فيه قولان : أحدهما : يتّقون الشّرك. والثاني : يتّقون الخوض. قوله تعالى : (مِنْ حِسابِهِمْ) يعني : حساب الخائضين. وفي «حسابهم» قولان : أحدهما : أنه كفرهم وآثامهم. والثاني : عقوبة خوضهم.
قوله تعالى : (وَلكِنْ ذِكْرى) أي : ولكن عليكم أن تذكّروهم ، وفيما تذكّرونهم به ، قولان
: أحدهما
: المواعظ. والثاني : قيامكم عنهم. قال مقاتل : إذا قمتم عنهم ، منعهم من الخوض
الحياء منكم ، والرّغبة في مجالستكم. قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) فيه قولان : أحدهما : يتّقون الاستهزاء.
والثاني
: يتّقون الوعيد.
فصل
: وقد ذهب قوم إلى
أنّ هذه الآية منسوخة ، لأنّها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار على تذكيرهم
، ثم نسخت بقوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) . والصحيح أنها محكمة ، لأنها خبر ، وإنما دلّت على أنّ كلّ
عبد يختصّ بحساب نفسه ، ولا يلزمه حساب غيره.
(وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ
الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ
بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))
قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ
لَعِباً وَلَهْواً) فيهم قولان : أحدهما : أنهم الكفّار. والثاني : اليهود والنّصارى. وفي اتّخاذهم دينهم لعبا ولهوا ، ثلاثة
أقوال : أحدها
: أنه استهزاؤهم
بآيات الله إذا سمعوها. والثاني
: أنهم دانوا بما
اشتهوا ، كما يلهون بما يشتهون. والثالث
: أنهم يحافظون على
دينهم إذا اشتهوا ، كما يلهون إذا اشتهوا. قال الفرّاء : ويقال : إنه ليس من قوم
إلا ولهم عيد ، فهم يلهون في أعيادهم ، إلّا أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، فإنّ أعيادهم صلاة وتكبير وبرّ وخير.
فصل
: ولعلماء النّاسخ
والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، قولان : أحدهما : أنه خرج مخرج
____________________________________
(٥٣١) ذكره البغوي
في «تفسيره» ٢ / ١٣٣ عن ابن عباس بدون إسناد ولم أقف على إسناده والظاهر أنه من
رواية الكلبي أو الضحاك وكلاهما يروي عن ابن عباس تفسيرا واهيا.
(٥٣٢) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث.
__________________
التّهديد ، كقوله
تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) . فعلى هذا هو محكم ، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. والثاني : أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم ، ثم نسخ بآية السيف
؛ وإلى هذا ذهب قتادة ، والسّدّيّ.
قوله تعالى : (وَذَكِّرْ بِهِ) أي : عظ بالقرآن. وفي قوله : (أَنْ تُبْسَلَ) قولان : أحدهما
: لئلّا تبسل نفس ،
كقوله تعالى : (أَنْ تَضِلُّوا) . والثاني
: ذكّرهم إبسال
المبسلين بجناياتهم لعلّهم يخافون. وفي معنى «تبسل» سبعة أقوال : أحدها : تسلم ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ،
والسّدّيّ. وقال ابن قتيبة : تسلم إلى الهلكة. قال الشاعر :
وإبسالي بنيّ
بغير جرم
|
|
بعوناه ولا بدم
مراق
|
أي : بغير جرم
أجرمناه ؛ والبعو : الجناية. وقال الزّجّاج : تسلم بعملها غير قادرة على التّخلّص.
والمستبسل : المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التّخلص. والثاني : تفضح ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : تدفع ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والرابع : تهلك ، روي عن ابن عباس أيضا. والخامس : تحبس وتؤخذ ، قاله قتادة ، وابن زيد. والسادس : تجزى ، قاله ابن السّائب ، والكسائيّ. والسابع : ترتهن ، قاله الفرّاء. وقال أبو عبيدة : ترتهن وتسلم ؛
وأنشد :
هنالك لا أرجو
حياة تسرّني
|
|
سمير اللّيالي
مبسلا بالجرائر
|
سمير الليالي :
أبد الليالي. فأمّا الوليّ : فهو النّاصر الذي يمنعها من عذاب الله. والعدل :
الفداء. قال ابن زيد : وإن تفتد كلّ فداء لا يقبل منها. فأمّا الحميم ، فهو الماء
الحارّ. قال ابن قتيبة : ومنه سمّي الحمّام.
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ
إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ
لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ
الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢))
قوله تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي ؛ أنعبد ما لا يضرّنا إن لم نعبده ، ولا ينفعنا إن
عبدناه ، وهي الأصنام. (وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا) أي : نرجع إلى الكفر (بَعْدَ إِذْ هَدانَا
اللهُ) إلى الإسلام ، فنكون (كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ). وقرأ حمزة : «استهواه الشّياطين» ، على قياس قراءته : «توفّاه
رسلنا». وفي معنى «استهوائها» قولان : أحدهما : أنها هوت به وذهبت ، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة :
تشبّه له الشّياطين ، فيتبعها حتى تهوي به في الأرض ، فتضلّه. والثاني : زيّنت له هواه ، قاله الزّجّاج. قال : و «حيران» منصوب على
الحال ، أي : استهوته في حال حيرته. قال السّدّيّ : قال المشركون للمسلمين :
__________________
اتّبعوا سبيلنا ،
واتركوا دين محمّد ، فقال تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ
إِذْ هَدانَا اللهُ) فنكون كرجل كان مع قوم على طريق ، فضلّ ، فحيّرته
الشّياطين ، وأصحابه على الطريق يدعونه : يا فلان هلمّ إلينا ، فإنّا على الطّريق
، فيأبى.
(٥٣٣) وقال ابن
عباس : نزلت هذه الآية في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصّدّيق ، دعاه أبوه وأمّه إلى
الإسلام فأبى. قال مقاتل : والمراد بأصحابه : أبواه .
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) هذا ردّ على من دعا إلى عبادة الأصنام ، وزجر عن إجابته ،
كأنّه قيل له : لا تفعل ذلك ، لأنّ هدى الله هو الهدى ، لا هدى غيره.
قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) قال الزّجّاج : العرب تقول : أمرتك أن تفعل ، وأمرتك لتفعل
، وأمرتك بأن تفعل. فمن قال : «بأن» فالباء للإلصاق. والمعنى : وقع الأمر بهذا
الفعل ، ومن قال : «أن تفعل» فعلى حذف الباء ؛ ومن قال : «لتفعل» فقد أخبر بالعلّة
التي لها وقع الأمر. قال : وفي قوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا
الصَّلاةَ) وجهان : أحدهما
: أمرنا لأن نسلم ،
ولأن نقيم الصّلاة. والثاني
: أن يكون محمولا
على المعنى ، لأنّ المعنى : أمرنا بالإسلام ، وبإقامة الصّلاة.
(وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فيه أربعة أقوال : أحدها : خلقهما للحقّ. والثاني : خلقهما حقّا. والثالث : خلقهما بكلامه وهو الحقّ. والرابع : خلقهما بالحكمة.
قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) قال الزّجّاج : الأجود أن يكون منصوبا على معنى : واذكر
يوم يقول كن فيكون ، لأنّ بعده (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ) فالمعنى : واذكر هذا وهذا. وفي الذي يقول له كن فيكون ،
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه يوم القيامة
، قاله مقاتل. والثاني
: ما يكون في
القيامة. والثالث
: أنه الصّور ، وما
ذكر من أمر الصّور يدلّ عليه ، قالهما الزّجّاج. قال : وخصّ ذلك اليوم بسرعة إيجاد
الشيء ، ليدلّ على سرعة أمر البعث.
قوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُ) أي : الصّدق الكائن لا محالة (وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ). وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو ؛ «ننفخ» بنونين.
ومعنى الكلام : أن الملوك يومئذ لا ملك لهم ، فهو المنفرد بالملك وحده ، كما قال :
(وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) . وفي «الصّور» قولان : أحدهما : أنه قرن ينفخ فيه.
____________________________________
(٥٣٣) باطل. عزاه
المصنف لابن عباس ، وهو من رواية أبي صالح كما في «تفسير القرطبي» ٧ / ٢٠ وأبو
صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي يضع الحديث ، والمتن باطل.
__________________
(٥٣٤) روى عبد
الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الصّور ، فقال : «هو قرن ينفخ فيه. وقال مجاهد : الصّور
كهيئة البوق. وحكى ابن قتيبة : أنّ الصّور : القرن ، في لغة قوم من أهل اليمن ،
وأنشد :
نحن نطحنا غداة
الجمعين
|
|
بالضّابحات في
غبار النّقعين
|
نطحا
شديدا لا كنطح الصّورين
|
وأنشد الفرّاء :
لو لا ابن جعدة
لم يفتح قهندزكم
|
|
ولا خراسان حتّى
ينفخ الصّور
|
وهذا اختيار
الجمهور.
والثاني
: أنّ الصّور جمع
صورة ؛ يقال : صورة وصور ، بمنزلة سورة وسور ، كسورة البناء ؛ والمراد نفخ الأرواح
في صور الناس ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة. وكذلك قرأ الحسن ، ومعاذ القارئ ، وأبو
مجلز ، وأبو المتوكّل «في الصّور» بفتح الواو. قال ثعلب : الأجود أن يكون الصّور :
القرن ، لأنه قال عزوجل : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ؛ ثمّ قال : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى) ؛ ولو كان الصّور ، كان : ثم نفخ فيها ، أو فيهنّ ؛ وهذا
يدلّ على أنه واحد ؛ وظاهر القرآن يشهد أنه ينفخ في الصّور مرّتين.
(٥٣٥) وقد روى أهل
التّفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الصّور قرن ينفخ فيه
____________________________________
(٥٣٤) حسن صحيح.
أخرجه أبو داود ٤٧٤٢ والترمذي ٢٤٣٠ و ٣٢٤٤ والنسائي في «الكبرى» ١١٣١٢ و ١١٣٨١ و ١١٤٥٦
وأحمد ٢ / ١٦٢ و ١٩٢ والدارمي ٢ / ٣٢٥ وابن حبان ٧٣١٢ والحاكم ٢ / ٤٣٦ و ٥٠٦ و ٤ /
٥٦٠ وأبو نعيم في «الحلية» ٧ / ٢٤٣ والمزي في «تهذيب الكمال» ٤ / ١٣٠ وابن المبارك
في «الزهد» ١٥٩٩.
وصححه الحاكم ،
ووافقه الذهبي ، وحسنه الترمذي كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(٥٣٥) هو بعض حديث
الصور المطول. أخرجه الطبراني في «الطوال» ٣٦ ، وأبو الشيخ في «العظمة» ٣٨٨ و ٣٨٩ و
٣٩٠ ، والبيهقي في «البعث» ٦٦٨ و ٦٦٩ ، والطبري ٢ / ٣٣٠ و ٣٣١ و ١٧ / ١١٠ و ٢٤ /
٣٠ و ٦١ و ٣٠ / ٢٦ و ٣١ و ٣٢ وإسحاق بن راهويه كما في «المطالب العالية» ٢٩٩١ من
طرق عن إسماعيل بن رافع ، وهو واه ، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن
كعب القرظي عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة وتارة
عن محمد بن يزيد ابن أبي زيادة عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة ،
وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على
إسماعيل بن رافع ، ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد ، وهو واه. جاء في الميزان
٨٧٢ : ضعفة أحمد ويحيى وجماعة ، وقال الدار قطني وغيره : متروك ، وقال ابن عدي :
أحاديثه كلها فيها نظر ا ه.
باختصار. وقد
اضطرب فيه كما سبق. وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله فقال الحافظ في «المطالب
العالية» ٢٩٩١ : فيه ضعف ا. ه. وقال البوصيري ، في ١ / ٢١ : تابعيه مجهول. وجاء في
الفتح
__________________
ثلاث نفخات :
الأولى : نفخة الفزع. والثانية : نفخة الصّعق. والثالثة : نفخة القيام لربّ
العالمين». قال ابن عباس : وهذه النّفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى ، يعني :
نفخة الصّعق.
قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ) وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ، (وَالشَّهادَةِ) وهو ما شاهدوه ورأوه. وقال الحسن : يعني بذلك السّرّ
والعلانية.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤))
قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
آزَرَ) في «آزر» أربعة أقوال : أحدها : أنّه اسم أبيه ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، والسّدّيّ ،
وابن إسحاق. والثاني
: أنّه اسم صنم ،
فأما اسم أبي إبراهيم ، فتارح ، قاله مجاهد. فيكون المعنى : أتتّخذ آزر أصناما؟
فكأنه جعل أصناما بدلا من آزر ، والاستفهام معناه الإنكار. والثالث : أنّه ليس باسم ، إنما هو سبّ بعيب ، وفي معناه قولان : أحدهما : أنّه المعوجّ ، كأنه عابه بزيغه وتعويجه عن الحقّ ، ذكره
الفرّاء. والثاني
: أنّه المخطئ ،
فكأنّه قال : يا مخطئ أتتّخذ أصناما؟ ذكره الزّجّاج. والرابع : أنّه لقب لأبيه ، وليس باسمه ، قاله مقاتل بن حيّان. قال
ابن الأنباريّ : قد يغلب على اسم الرجل لقبه ، حتى يكون به أشهر منه باسمه.
والجمهور على قراءة «آزر» بالنّصب. وقرأ الحسن ، ويعقوب بالرفع. قال الزّجّاج : من
نصب ، فموضع «آزر» خفض بدلا من أبيه ؛ ومن رفع فعلى النداء.
(وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
(٧٥))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) أي : وكما أريناه البصيرة في دينه ، والحقّ في خلاف قومه ،
نريه (مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وقيل : «نري» بمعنى أرينا. قال الزّجّاج : والملكوت
بمنزلة الملك ، إلّا أنّ الملكوت أبلغ في اللغة ، لأنّ الواو والتاء يزادان
للمبالغة ؛ ومثل الملكوت : الرّغبوت والرّهبوت. قال مجاهد : ملكوت السماوات والأرض
: آياتها ؛ تفرّجت له السماوات السّبع ، حتى العرش ، فنظر فيهنّ ، وتفرّجت له الأرضون
السّبع ، فنظر فيهنّ. وقال قتادة : ملكوت السّماوات : الشّمس والقمر والنّجوم ،
وملكوت الأرض : الجبال والشّجر والبحار. وقال السّدّيّ : أقيم على صخرة ، وفتحت له
السماوات والأرض ، فنظر إلى ملك الله عزوجل ، حتى نظر إلى العرش ، وإلى منزله من الجنّة ، وفتحت
____________________________________
١١ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩
عقب حديث ٦٥١٨ ما ملخصه : وأخرجه عبد بن حميد وأبي يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد
في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع ، واضطرب في سنده مع ضعفه ،
وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن
محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع ، وخفي
عليه أن الشامي أضعف منه ، ولعله سرقه من إسماعيل فلزقه بابن عجلان وقد قال الدار
قطني : يضع الحديث. وقد قال الحافظ ابن كثير : جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار
فساقه كله مساقا واحدا ا. ه. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو
بكر بن العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحق في تضعيفه
أولى ، وضعفه قبله البيهقي ا ه كلام الحافظ ، وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمهالله في «البداية والنهاية» ٢ / ٢٢٣ و ٢٢٤. وخلاصة القول : أنه
حديث ضعيف بهذا التمام ، وبعض ألفاظه في الصحيحين وغيرهما وبعضه في الكتاب
المعتبرة وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه انظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ١٩٠.
له الأرضون السّبع
، حتى نظر إلى الصّخرة التي عليها الأرضون.
قوله تعالى : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) هذا عطف على المعنى ، لأن معنى الآية : نريه ملكوت
السّماوات والأرض ليستدلّ به ، وليكون من الموقنين. وفي ما يوقن به ثلاثة أقوال : أحدها : وحدانيّة الله وقدرته. والثاني : نبوّته ورسالته. والثالث : ليكون موقنا بعلم كلّ شيء حسّا ، لا خبرا.
(فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦))
قوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) قال الزّجّاج : يقال : جنّ عليه الليل ، وأجنّه الليل :
إذا أظلم ، حتى يستر بظلمته ؛ ويقال لكل ما ستر : جنّ ، وأجنّ ، والاختيار أن يقال
: جنّ عليه الليل ، وأجنّه الليل.
الإشارة
إلى بذء قصة إبراهيم عليهالسلام : روى أبو صالح عن ابن عباس قال : ولد إبراهيم في زمن
نمروذ ، وكان لنمروذ كهّان ، فقالوا له : يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل
الأرض ، ويدعوهم إلى غير دينهم ، ويكون هلاك أهل بيتك على يديه ، فعزل النّساء عن
الرجال ، ودخل آزر إلى بيته ، فوقع على زوجته ، فحملت ، فقال الكهّان لنمروذ : إنّ
الغلام قد حمل به الليلة. فقال : كلّ من ولدت غلاما فاقتلوه. فلمّا أخذ أمّ
إبراهيم المخاض ، خرجت هاربة ، فوضعته في نهر يابس ، ولفّته في خرقة ، ثم وضعته في
حلفاء ، وأخبرت به أباه ، فأتاه ، فحفر له سربا ، وسدّ عليه بصخرة ، وكانت أمّه
تختلف إليه فترضعه ، حتى شبّ وتكلّم ، فقال لأمّه : من ربّي؟ فقالت : أنا. قال :
فمن ربّك؟ قالت : أبوك. قال : فمن ربّ أبي؟ قالت : أسكت. فسكت ، فرجعت إلى زوجها ،
فقالت : إنّ الغلام الذي كنّا نتحدث أنه يغيّر دين أهل الأرض ، ابنك. فأتاه ، فقال
له مثل ذلك. فلما جنّ عليه الليل ، دنا من باب السّرب ، فنظر فرأى كوكبا. قرأ ابن
كثير ، وحفص عن عاصم «رأى» ، بفتح الراء والهمزة ؛ وقرأ أبو عمرو : «رإى» ؛ بفتح
الراء وكسر الهمزة ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم. «رإى»
، بكسر الراء والهمزة ، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن ، وهو آت في ستة مواضع : (رَأَى الْقَمَرَ فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ) وفي النّحل (وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وفي الكهف : (وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) ، وفي الأحزاب : (وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ) . وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة إلّا العبسيّ ، وخلف في
اختياره : بكسر الراء وفتح الهمزة في الكلّ ، وروى العبسيّ كسرة الهمزة أيضا ،
وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : وابن عامر ، والكسائيّ : بفتح الراء والهمزة.
فإن اتّصل ذلك بمكنيّ ، نحو : رآك ، ورآه ، ورآها ؛ فإنّ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف
، والوليد عن ابن عامر ، والمفضّل ، وأبان ، والقزّاز عن عبد الوارث ، والكسائيّ
عن أبي بكر : يكسرون الراء ، ويميلون الهمزة.
وفي الكوكب الذي
رآه قولان : أحدهما
: أنه الزّهرة ،
قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني
: المشتري ، قاله
مجاهد ، والسّدّيّ.
قوله تعالى : (قالَ هذا رَبِّي) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه على ظاهره.
روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : قال هذا ربي ، فعبده حتى
__________________
غاب ، وعبد القمر
حتى غاب ، وعبد الشّمس حتى غابت ؛ واحتجّ أرباب هذا القول بقوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) وهذا يدلّ على نوع تحيير ، قالوا : وإنما قال هذا في حال
طفولته على ما سبق إلى وهمه ، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى ،
والمتأهّلون للنّبوة محفوظون من مثل هذا على كلّ حال. فأمّا قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) فما زال الأنبياء يسألون الهدى ، ويتضرّعون في دفع الضّلال
عنهم ، كقولهم : (وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، ولأنه قد آتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوت السّماوات
والأرض ليكون موقنا ، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التّحيير؟! والثاني : أنه قال ذلك استدراجا للحجّة ، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها
عند أفولها ، ولا بدّ أن يضمر في نفسه : إمّا على زعمكم ، أو فيما تظنّون ، فيكون
كقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) ، وإمّا أن يضمر : يقولون ، فيكون كقوله تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) ، أي : يقولان ذلك ، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الأنباري ، ويكون
مراده استدراج الحجّة عليهم ، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما ،
فأظهر تعظيمه ، فأكرموه ، وصدروا عن رأيه ، فدهمهم عدوّ ، فشاورهم ملكهم ، فقال :
ندعو إلهنا ليكشف ما بنا ، فاجتمعوا يدعونه ، فلم ينفع ، فقال : ها هنا إله ندعوه
، فيستجيب ، فدعوا الله ، فصرف عنهم ما يحذرون ، وأسلموا. والثالث : أنه قال مستفهما ، تقديره : أهذا ربّي؟ فأضمرت ألف
الاستفهام ، كقوله : (أَفَإِنْ مِتَّ
فَهُمُ الْخالِدُونَ) ؟ أي : أفهم الخالدون؟ قال الشاعر :
كذبتك عينك أم
رأيت بواسط
|
|
غلس الظّلام من
الرّباب خيالا
|
أراد : أكذبتك؟
قال ابن الأنباري : وهذا القول شاذّ ، لأنّ حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقا
بين الإخبار والاستخبار ؛ وظاهر قوله : (هذا رَبِّي) أنه إشارة إلى الصّانع. وقال الزّجّاج : كانوا أصحاب نجوم
، فقال : هذا ربّي ، أي هذا الذي يدبّرني ، فاحتجّ عليهم أنّ هذا الذي تزعمون أنه
مدبّر ، لا نرى فيه إلّا مدبّر. و «أفل» بمعنى : غاب ؛ يقال : أفل النّجم يأفل
ويأفل أفولا.
قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي : حبّ ربّ معبود ، لأنّ ما ظهر وأفل كان حادثا مدبّرا.
(فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ
بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨))
قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ) قال ابن قتيبة : سمّي القمر قمرا لبياضه ؛ والأقمر :
الأبيض ؛ وليلة قمراء ، أي : مضيئة. فأما البازغ ، فهو الطّالع. ومعنى (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي) : لئن لم يثبّتني على الهدى. فإن قيل : لم قال في الشّمس :
هذا ، ولم يقل : هذه؟ فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنه رأى ضوء الشّمس ، لا عينها ، قاله محمّد بن مقاتل. والثاني : أنه أراد : هذا الطّالع ربّي ، قاله الأخفش. والثالث : أنّ الشّمس بمعنى الضّياء والنّور ، فحمل الكلام على
المعنى. والرابع
: أنّ الشّمس ليس
في لفظها علامة من علامات التّأنيث ، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكّر ، فجاز
تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
__________________
(إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ
هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ
رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠))
قوله تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) قال الزّجّاج : جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله ربّ
العالمين عزوجل. وباقي الآية قد تقدّم.
وقوله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) قال ابن عباس : جادلوه في آلهتهم ، وخوّفوه بها ، فقال منكرا
عليهم : (أَتُحاجُّونِّي). قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : (أَتُحاجُّونِّي) و (تَأْمُرُونِّي) بتشديد النون. وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيفها ، فحذفا
النون الثانية لالتقاء النّونين. ومعنى (أَتُحاجُّونِّي فِي
اللهِ) أي : في توحيده. (وَقَدْ هَدانِ) ، أي : بيّن لي ما به اهتديت. وقرأ الكسائيّ : «هداني» ،
بإمالة الدّال. والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء ، وهذا من هدى يهدي.
قوله تعالى : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي : لا أرهب آلهتكم ، وذلك أنهم قالوا : نخاف أن تمسّك
آلهتنا بسوء ، فقال : لا أخافها لأنها لا تضرّ ولا تنفع (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) فله أخاف (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً) أي : علمه علما تاما.
(وَكَيْفَ أَخافُ ما
أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ
بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢))
قوله تعالى : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) أي : من هذه الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تخافون
أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم ، وهو قادر على ضرّكم ونفعكم (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطاناً) أي : حجّة (فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أي : بأن يأمن العذاب ، الموحّد الذي يعبد من بيده الضّرّ
والنّفع؟ أم المشرك الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ ثم بيّن الأحقّ من هو بقوله
تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي : لم يخلطوه بشرك.
(٥٣٦) روى
البخاريّ ، ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال : لمّا نزلت هذه الآية ،
شقّ ذلك على المسلمين ، فقالوا : يا رسول الله ، وأينا ذلك؟ فقال : إنّما هو
الشّرك ، ألم تسمعوا ما قاله لقمان لابنه : (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ؟
____________________________________
(٥٣٦) حديث صحيح.
أخرجه البخاري ٣٢ و ٣٤٢٨ و ٣٤٢٩ و ٤٧٧٦ و ٦٩١٨ و ٦٩٣٧ ومسلم ١٢٤ ، والترمذي ٣٠٦٧
والنسائي في «الكبرى» ١١٣٩٠ والطيالسي ٢٧٠ وأحمد ١ / ٣٨٧ و ٤٢٤ و ٤٤٤ ، والطبري
١٣٤٨٣ و ١٣٤٨٤ و ١٣٤٨٧. وابن حبان ٢٥٣ وابن مندة في «الإيمان» ٢٦٥ و ٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٦٨
والبيهقي ١٠ / ١٨٥ من حديث ابن مسعود.
__________________
وفيمن عنّى بهذه
الآية ، ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه إبراهيم
وأصحابه ، وليست في هذه الأمّة ، قاله عليّ بن أبي طالب. وقال في رواية أخرى : هذه
الآية لإبراهيم خاصّة ، ليس لهذه الأمّة منها شيء. والثاني : أنه من هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة. والثالث : أنها عامّة ، ذكره بعض المفسّرين. وهل هي من قول إبراهيم
لقومه ، أم جواب من الله تعالى؟ فيه قولان.
(وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))
قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب
والقمر والشّمس ، وعيبهم ، إذ سووا بين الصغير والكبير ، وعبدوا من لا ينطق ،
وإلزامه إيّاهم الحجّة. (آتَيْناها
إِبْراهِيمَ) أرشدناه إليها بالإلهام. وقال مجاهد : الحجّة قول إبراهيم
: (فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ)؟
قوله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عمرو وابن عامر : «درجات من
نشاء» ، مضافا. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ (دَرَجاتٍ) ، منوّنا ، وكذلك قرءوا في (يوسف). ثم في المعنى قولان : أحدهما : أنّ الرفع بالعلم والفهم والمعرفة. والثاني : بالاصطفاء للرّسالة. قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) قال ابن جرير : حكيم في سياسة خلقه ، وتلقينه أنبياءه
الحجّ على أممهم المكذّبة (عَلِيمٌ) بما يؤول إليه أمر الكلّ.
(وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ
كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ
فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧))
قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ولدا لصلبه (وَيَعْقُوبَ) ولدا لإسحاق (كُلًّا) من هؤلاء المذكورين (هَدَيْنا) أي : أرشدنا.
قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) في «هاء الكناية» ، قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى نوح ؛ رواه أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره
الفرّاء ، ومقاتل ، وابن جرير الطّبري. والثاني : إلى إبراهيم ، قاله عطاء. وقال الزّجّاج : كلا القولين جائز
، لأنّ ذكرهما جميعا قد جرى ، واحتجّ ابن جرير للقول الأول بأنّ الله تعالى ، ذكر
في سياق الآيات لوطا ، وليس من ذرّيّة إبراهيم ، وأجاب عنه أبو سليمان الدّمشقي
بأنه يحتمل أن يكون أراد : ووهبنا له لوطا في المعاضدة والنّصرة ، ثم قوله تعالى :
(وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) من أبين دليل على أنه إبراهيم ، لأنّ افتتاح الكلام إنّما
هو بذكر ما أثاب به إبراهيم. فأمّا «يوسف» فهو اسم أعجميّ. قال الفرّاء : «يوسف».
بضم السين من غير همز ، لغة أهل الحجاز ، وبعض بني أسد يقول : «يؤسف» ، بالهمز ،
وبعض العرب يقول : «يوسف» بكسر السين ، وبعض بني عقيل يقول : «يوسف» بفتح السين.
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه ، بأن
رفعنا درجته ،
ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء ، كذلك نجزي المحسنين. فأمّا عيسى ، وإلياس ،
واليسع ، ولوطا ، فأسماء أعجمية ، وجمهور القرّاء يقرءون «اليسع» بلام واحدة مخففة
، منهم ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ها
هنا وفي (ص) ؛ «اللّيسع» بلامين مع التشديد. قال الفرّاء : وهي أشبه بالصواب ،
وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل ، ولأنّ العرب لا تدخل على «يفعل» ، إذا كان في
معنى فلان ، ألفا ولاما ، يقولون : هذا يسع قد جاء ، وهذا يعمر ، وهذا يزيد ،
فهكذا الفصيح من الكلام. وأنشدني بعضهم.
وجدنا الوليد بن
اليزيد مباركا
|
|
شديدا بأحناء
الخلافة كاهله
|
فلما ذكر الوليد
بالألف واللام ، أتبعه يزيد بالألف واللام ، وكلّ صواب. وقال مكّيّ : من قرأه بلام
واحدة ، فالأصل عنده : يسع ، ومن قرأه بلامين ، فالأصل عنده : ليسع ، فأدخلوا عليه
حرف التعريف. وباقي أسماء الأنبياء قد تقدّم بيانها ، والمراد بالعالمين : عالمو
زمانهم.
قوله تعالى : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) «من» ها هنا
للتّبعيض. قال الزّجّاج : المعنى : هدينا هؤلاء ، وهدينا بعض آبائهم وذرّياتهم. (وَاجْتَبَيْناهُمْ) مثل اخترناهم واصطفيناهم ، وهو مأخوذ من جبيت الشيء : إذا
أخلصته لنفسك. وجبيت الماء في الحوض : إذا جمعته فيه. فأمّا الصّراط المستقيم ،
فهو التّوحيد.
(ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨))
قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ) قال ابن عباس : ذلك دين الله الذي هم عليه (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). (وَلَوْ أَشْرَكُوا) يعني الأنبياء المذكورين (لَحَبِطَ) أي : لبطل وزال عملهم ، لأنه لا يقبل عمل مشرك.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩))
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ) يعني الكتاب التي أنزلها عليهم. والحكم : الفقه والعلم (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) يعني بآياتنا. وفيمن أشير إليه ب «هؤلاء» ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم أهل مكّة ،
قاله ابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، وقتادة. والثاني : أنهم قريش ، قاله السّدّيّ. والثالث : أمّة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، قاله الحسن.
__________________
قوله تعالى : (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) قال أبو عبيدة : فقد رزقناها قوما. وقال الزّجّاج : وكّلنا
بالإيمان بها قوما. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال : أحدها : أنهم أهل المدينة من الأنصار ، قاله ابن عباس ، وابن
المسيّب ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثاني
: الأنبياء
والصّالحون ، قاله الحسن. وقال قتادة : هم النبيّون الثّمانية عشر ، المذكورون في
هذا المكان ، وهذا اختيار الزّجّاج ، وابن جرير. والثالث : أنهم الملائكة ، قاله أبو رجاء. والرابع : أنهم المهاجرون والأنصار.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ
هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) يعني النّبيين المذكورين. وفي قوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) قولان : أحدهما
: بشرائعهم وبسننهم
فاعمل ، قاله ابن السّائب. والثاني
: اقتد بهم في
صبرهم ، قاله الزّجّاج. وكان ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، يثبتون الهاء
من قوله : «اقتده» في الوصل ساكنة. وكان حمزة ، والكسائيّ وخلف ، ويعقوب ،
والكسائيّ عن أبي بكر ، واليزيديّ في اختياره ، يحذفون الهاء في الوصل. ولا خلاف
في إثباتها في الوقف ، وإسكانها فيه. قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) يعني على القرآن. والذّكرى : العظة. والعالمون ها هنا :
الجنّ والإنس.
(وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ
أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ
تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ
يَلْعَبُونَ (٩١))
قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) في سبب نزولها سبعة أقوال :
__________________
(٥٣٧) أحدها : أنّ مالك بن الصّيف رأس اليهود ، أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنشدك بالذي أنزل التّوراة على موسى ، أتجد فيها أنّ الله
يبغض الحبر السّمين»؟ قال : نعم. قال : «فأنت الحبر السّمين». فغضب ، ثم قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ) ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ؛ وكذلك
قال سعيد بن جبير ، وعكرمة : نزلت في مالك بن الصّيف.
(٥٣٨) والثاني : أنّ اليهود قالوا : يا محمّد ، أنزل الله عليك كتابا؟ قال
: «نعم». قالوا : والله ما أنزل الله من السّماء كتابا ، فنزلت هذه الآية ، رواه
الوالبي عن ابن عباس.
(٥٣٩) والثالث : أنّ اليهود قالوا : يا محمّد ، إنّ موسى جاء بألواح يحملها
من عند الله ، فائتنا بآية كما جاء موسى ، فنزل : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) ، إلى قوله : (عَظِيماً) . فلمّا حدّثهم بأعمالهم الخبيثة ، قالوا : والله ما أنزل
الله عليك ولا على موسى وعيسى ، ولا على بشر ، من شيء ، فنزلت هذه الآية ، قاله
محمد بن كعب.
والرابع
: أنها نزلت في
اليهود والنّصارى ، آتاهم الله علما ، فلم ينتفعوا به ، قاله قتادة.
(٥٤٠) والخامس : أنها نزلت في فنحاص اليهودي ، وهو الذي قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ) ؛ قاله السّدّيّ.
(٥٤١) والسادس : أنها نزلت في مشركي قريش ، قالوا : والله ما أنزل الله على
بشر من شيء ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والسابع
: أنّ أوّلها ، إلى
قوله : (مِنْ شَيْءٍ) في مشركي قريش. وقوله تعالى : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ
بِهِ مُوسى) في اليهود ، رواه ابن كثير عن مجاهد.
وفي معنى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : ما عظّموا الله حقّ عظمته ، قاله ابن
____________________________________
(٥٣٧) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٣٥٣٩ من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير مرسلا ، وذكره الواحدي
في «أسباب النزول» ٤٤٠ عن سعيد بن جبير بدون إسناد.
(٥٣٨) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية فيه انقطاع بين علي الوالبي وابن عباس.
ـ أخرجه الطبري ١٣٥٤٤ من رواية علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٣٨ من رواية الوالبي عن ابن عباس.
(٥٣٩) مرسل. أخرجه
الطبري ١٣٥٤٢ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
(٥٤٠) مرسل. أخرجه
الطبري ١٣٥٤١ عن السدي مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.
الخلاصة هذه
الروايات وإن كانت ضعيفة أو مرسلة لكنها تتأكد بمجموعها ومع ذلك اختار ابن جرير
القول الآتي ، انظر التعليق على ذلك.
(٥٤١) مرسل أخرجه
الطبري ١٣٥٤٧ عن مجاهد مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
__________________
عباس ، والحسن ،
والفرّاء ، وثعلب ، والزّجّاج. والثاني
: ما وصفوه حقّ
صفته ، قاله أبو العالية ، واختاره الخليل. والثالث : ما عرفوه حقّ معرفته ، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى : «يجعلونه
قراطيس» معناه : يكتبونه في قراطيس. وقيل : إنّما قال : قراطيس ، لأنهم كانوا
يكتبونه في قراطيس مقطّعة ، حتى لا تكون مجموعة ، ليخفوا منها ما شاؤوا.
قوله تعالى : «يبدونها»
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «يجعلونه قراطيس يبدونها» و «يخفون» بالياء فيهن. وقرأ
نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : بالتاء فيهنّ. فمن قرأ بالياء ،
فلأنّ القوم غيّب ، بدليل قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ). ومن قرأ بالتاء ، فعلى الخطاب ؛ والمعنى : تبدون منها ما
تحبّون ، وتخفون كثيرا ، مثل صفة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، وآية الرّجم ، ونحو ذلك مما كتموه.
قوله تعالى : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا
أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) في المخاطب بهذا قولان :
أحدهما
: أنّهم اليهود ،
قاله الجمهور. والثاني
: أنه خطاب
للمسلمين ، قاله مجاهد. فعلى الأول : علموا ما في التّوراة ؛ وعلى الثاني : علّموا
على لسان محمّد صلىاللهعليهوسلم.
قوله تعالى : (قُلِ اللهُ) هذا جواب لقوله : (مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ) وتقديره : فإن أجابوك ، وإلّا فقل : الله أنزله.
قوله تعالى : (ثُمَّ ذَرْهُمْ) تهديد. وخوضهم : باطلهم. وقيل : إنّ هذا أمر بالإعراض عنهم
، ثم نسخ بآية السيف.
(وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))
قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) يعني القرآن. قال الزّجّاج : والمبارك : الذي يأتي من قبله
الخير الكثير. والمعنى : أنزلناه للبركة والإنذار.
قوله تعالى : (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتاب.
قوله تعالى : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) قرأ عاصم إلا حفصا : «ولينذر» بالياء ؛ فيكون الكتاب هو
المنذر. وقرأ الباقون : بالتاء ، على الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم. فأمّا أمّ القرى ، فهي مكّة. قال الزّجّاج : والمعنى :
لتنذر أهل أمّ القرى. وفي تسميتها بأمّ القرى أربعة أقوال : أحدها : أنها سمّيت بذلك ، لأنّ الأرض دحيت من تحتها ، قاله ابن
عباس. والثاني
: لأنها أقدمها ،
قاله ابن قتيبة. والثالث
: لأنها قبلة جميع
الناس ، يؤمّونها. والرابع
: لأنها كانت أعظم
القرى شأنا ، ذكرهما الزّجّاج.
قوله تعالى : (وَمَنْ حَوْلَها) قال ابن عباس : يريد الأرض كلّها.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
يُؤْمِنُونَ بِهِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن. والثاني : إلى النبيّ محمّد صلىاللهعليهوسلم. والمعنى : من آمن بالآخرة آمن به ؛ ومن لم يؤمن به ، فليس
إيمانه بالآخرة حقيقة ، ولا يعتدّ به ، ألا ترى إلى قوله : (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فدلّ على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصّلوات.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى
إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
(٩٣))
قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ أوّلها ، إلى
قوله : (وَلَمْ يُوحَ
إِلَيْهِ شَيْءٌ) نزل في مسيلمة الكذّاب. وقوله تعالى : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما
أَنْزَلَ اللهُ) ؛
(٥٤٢) نزل في عبد
الله بن سعد بن أبي سرح ، كان قد تكلّم بالإسلام ، وكان يكتب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم في بعض الأحايين ؛ فإذا أملي عليه : «عزيز حكيم» كتب : «غفور
رحيم» فيقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هذا وذاك سواء.
فلما نزلت : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١٢) أملاها عليه
، فلما انتهى إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) عجب عبد الله بن سعد ، فقال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كذا أنزلت عليّ ، فاكتبها» فشكّ حينئذ ، وقال : لئن كان
محمد صادقا ، لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا ، لقد قلت كما قال ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال عكرمة : ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكّة.
والقول
الثاني : أنّ جميع الآية
في عبد الله بن سعد ، قاله السّدّيّ.
____________________________________
(٥٤٢) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
٤٤٢ عن ابن عباس من رواية الكلبي معلقا والكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري ١٣٥٥٩
من مرسل عكرمة. وكرره ١٣٥٦٠ من مرسل السدي ، وأخرجه الحاكم ٣ / ٤٥ والواحدي في «أسباب
النزول» ٤٤٢ من مرسل شرحبيل بن سعد. فالحديث بهذه الطرق مع اختلاف مخارجها. والله
أعلم ـ ربما يتقوى ولكن لا تبلغ درجة ما يحتج به. انظر «تفسير
الشوكاني» ٩١٢ ، و «تفسير القرطبي» ٢٩٢٩ بتخريجنا.
__________________
(٥٤٣) والثالث : أنها نزلت في مسيلمة ، والأسود العنسيّ ، قاله قتادة.
فإن قيل : كيف
أفرد قوله : (أَوْ قالَ أُوحِيَ
إِلَيَ) من قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى) وذاك مفتر أيضا؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ الوصفين لرجل واحد ، وصف بأمر بعد أمر ليدلّ على
جرأته. والثاني
: أنه خصّ بقوله : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) بعد أن عمّ بقوله : (افْتَرى عَلَى اللهِ) لأنه ليس كلّ مفتر على الله يدّعي أنه أوحي إليه ، ذكرهما
ابن الأنباري.
قوله تعالى : (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي : سأقول. قال ابن عباس : يعنون الشّعر ، وهم
المستهزئون. وقيل : هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح. قال الزّجّاج : وهذا جواب
لقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا).
قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) فيهم ثلاثة أقوال :
(٥٤٤) أحدها : أنهم قوم كانوا مسلمين بمكّة ، فأخرجهم الكفّار معهم إلى
قتال بدر ، فلما أبصروا قلّة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجعوا عن الإيمان فنزل فيهم هذا ، قاله أبو صالح عن ابن
عباس.
والثاني
: أنهم الذين قالوا
: (ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) قاله أبو سليمان. والثالث : الموصوفون في هذه الآية ، وهم المفترون والمدّعون الوحي
إليهم ، ومماثلة كلام الله. قال الزّجّاج : وجواب «لو» محذوف ، والمعنى : لو تراهم
في غمرات الموت لرأيت عذابا عظيما. ويقال لكلّ من كان في شيء كبير : قد غمر فلانا
ذلك. قال ابن عباس : غمرات الموت : سكراته. قال ابن الأنباري : قال اللغويون : سمّيت
غمرات لأنّ أهوالها يغمرن من يقعن به.
قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بالضّرب ، قاله ابن عباس. والثاني : بالعذاب ، قاله الحسن ، والضّحّاك. والثالث : باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد ، قاله الفرّاء. وفي
الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال : أحدها : عند الموت. قال ابن عباس : هذا عند الموت ، الملائكة
يضربون وجوههم وأدبارهم ، وملك الموت يتوفّاهم. والثاني : يوم القيامة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : في النّار ، قاله الحسن.
قوله تعالى : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) فيه إضمار «يقولون» وفي معناه قولان :
أحدهما
: استسلموا لإخراج
أنفسكم. والثاني
: أخرجوا أنفسكم من
العذاب إن قدرتم.
قوله تعالى : (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) قال أبو عبيدة : الهون : مضموم ، وهو الهوان ؛ وإذا فتحوا
أوّله ، فهو الرّفق والدّعة. قال الزّجّاج : والمعنى : تجزون العذاب الذي يقع به
الهوان الشّديد.
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ
ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ
فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ (٩٤))
____________________________________
(٥٤٣) ضعيف جدا.
أخرجه الطبري ١٣٥٦١ عن قتادة مرسلا فهو ضعيف والمتن منكر ، فالسورة مكية ، وخبر
مسيلمة مدني.
(٥٤٤) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة لأن مدارها على الكلبي ، وهو ممن
يضع الحديث.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى).
(٥٤٥) سبب نزولها
: أنّ النّضر بن الحارث قال : سوف تشفع لي اللّات والعزّى ، فنزلت هذه الآية ،
قاله عكرمة.
ومعنى فرادى :
وحدانا. وهذا إخبار من الله تعالى بما يوبّخ به المشركين يوم القيامة. قال أبو
عبيدة : فرادى ، أي : فرد فرد. وقال ابن قتيبة : فرادى : جمع فرد. وللمفسّرين في
معنى «فرادى» خمسة أقوال متقاربة المعنى : أحدها : فرادى من الأهل والمال والولد ، قاله ابن عباس. والثاني : كلّ واحد على حدة ، قاله الحسن. والثالث : ليس معكم من الدّنيا شيء ، قاله مقاتل. والرابع : كلّ واحد منفرد عن شريكه في الغيّ ، وشقيقه ، قاله
الزّجّاج. والخامس
: فرادى من
المعبودين ، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا مال ولا أهل ولا ولد. والثاني : حفاة عراة غرلا. والغرل : القلف. والثالث : أحياء. وخوّلناكم : بمعنى ملّكناكم. (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي : في الدنيا. والمعنى أنّ ما دأبتم في تحصيله في الدنيا
فني ، وبقي النّدم على سوء الاختيار. وفي شفعائهم ، قولان : أحدهما : أنّها الأصنام. قال ابن عباس : شفعاؤكم ، أي : آلهتكم
الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم. و (زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ
فِيكُمْ) أي : عندكم شركاء. وقال ابن قتيبة : زعمتم أنهم لي في
خلقكم شركاء. والثاني
: أنّها الملائكة ؛
كانوا يعتقدون شفاعتها ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر
عن عاصم : بالرّفع. وقرأ نافع ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : بنصب النون على
الظّرف. قال الزّجّاج : الرّفع أجود ، ومعناه : لقد تقطّع وصلكم ، والنّصب جائز ؛
ومعناه : لقد تقطّع ما كنتم فيه من الشّركة بينكم. وقال ابن الأنباري : التقدير :
لقد تقطّع ما بينكم ، فحذف «ما» لوضوح معناها. قال أبو عليّ : الذين رفعوه ، جعلوه
اسما ، فأسندوا الفعل الذي هو «تقطّع» إليه ؛ والمعنى : لقد تقطّع وصلكم. والذين
نصبوا ، أضمروا اسم الفاعل في الفعل ، والمضمر هو الوصل ؛ فالتقدير : لقد تقطّع
وصلكم بينكم.
وفي الذي كانوا
يزعمون قولان : أحدهما
: شفاعة آلهتهم. والثاني : عدم البعث والجزاء.
(إِنَّ اللهَ فالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ
الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥))
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) في معنى الفلق قولان : أحدهما : أنه بمعنى الخلق ، فالمعنى : خالق الحبّ والنّوى ، رواه
العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، ومقاتل. والثاني : أنّ الفلق بمعنى الشّقّ. ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنه فلق الحبّة عن السّنبلة ، والنّواة عن النّخلة ، روى
هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثاني : أنه الشّقّان اللّذان في الحبّ والنّوى ، قاله مجاهد ،
وأبو مالك. قال ابن السّائب : الحبّ : ما لم يكن له نوى ، كالبرّ
____________________________________
(٥٤٥) ضعيف أخرجه
الطبري ١٣٥٧٧ عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٤٧٨ عن
عكرمة مرسلا.
والشّعير ؛
والنّوى : مثل نوى التّمر.
قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) قد سبق تفسيره في (آل عمران).
قوله تعالى : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : كيف تصرفون عن الحقّ بعد هذا البيان.
(فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦))
قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ) في معنى الفلق قولان قد سبقا. فأما الإصباح ، فقال الأخفش
: هو مصدر من أصبح. وقال الزّجّاج : الإصباح والصّبح واحد. وللمفسّرين في الإصباح
، ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه ضوء الشّمس
بالنّهار ، وضوء القمر بالليل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنه إضاءة الفجر ، قاله مجاهد. وقال ابن زيد : فلق الإصباح
من الليل. والثالث
: أنه نوّر النّهار
، قاله الضّحّاك. وقرأ أنس بن مالك ، والحسن ، وأبو مجلز ، وأيّوب ، والجحدريّ : «فالق
الأصباح» بفتح الهمزة. قال أبو عبيدة : ومعناه جمع صبح.
قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «جاعل»
بألف ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «وجعل» بغير ألف. «الليل» نصبا. قال أبو
عليّ : من قرأ : «وجاعل» فلأجل «فالق» وهم يراعون المشاكلة. ومن قرأ : «جعل» فلأنّ
«فاعلا» ها هنا. بمعنى : «فعل» بدليل قوله : (وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْباناً). فأما السّكن ، فهو ما سكنت إليه. والمعنى : أن الناس
يسكنون فيه سكون راحة. وفي الحسبان قولان :
أحدهما
: أنه الحساب ،
قاله الجمهور. قال ابن قتيبة : يقال : خذ من كلّ شيء بحسبانه ، أي : بحسابه. وفي
المراد بهذا الحساب ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنهما يجريان إلى أجل جعل لهما ، رواه العوفيّ عن ابن
عباس. والثاني
: يجريان في
منازلهما بحساب ، ويرجعان إلى زيادة ونقصان ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنّ جريانهما سبب لمعرفة حساب الشّهور ، والأعوام ، قاله
مقاتل.
والقول
الثاني : أنّ معنى الحسبان
: الضّياء ، قاله قتادة. قال الماورديّ : كأنه أخذه من قوله تعالى : (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ
السَّماءِ) أي : نارا. قال ابن جرير : وليس هذا من ذاك في شيء.
(وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ) جعل ، بمعنى خلق. وإنما امتنّ عليهم بالنّجوم ، لأنّ سالكي
القفار وراكبي البحار ، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها.
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم (فَمُسْتَقَرٌّ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، إلّا رويسا : بكسر
القاف. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : بفتحها. قال الزّجّاج
: من كسر ، فالمعنى : «فمنكم مستقر» ومن نصب ، فالمعنى : «فلكم مستقرّ». فأمّا
مستودع ،
__________________
فبالفتح ، لا غير.
ومعناه على فتح القاف : «ولكم مستودع» وعلى كسرها «ومنكم مستودع». وللمفسّرين في
معنى المستقرّ والمستودع تسعة أقوال : أحدها
: فمستقرّ في
الأرحام ، ومستودع في الأصلاب ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير
، ومجاهد ، وعطاء ، والضّحّاك ، والنّخعيّ ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثاني : المستقرّ في الأرحام ، والمستودع في القبر ، قاله ابن
مسعود. والثالث
: المستقر في الأرض
، والمستودع في الأصلاب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والرابع : المستقرّ والمستودع في الرّحم ، رواه قابوس عن أبيه عن ابن
عباس. والخامس
: المستقرّ حيث
يأوي ، والمستودع حيث يموت ، رواه مقسم عن ابن عباس. والسادس : المستقر في الدنيا ؛ والمستودع في القبر. والسابع : المستقرّ في القبر ، والمستودع في الدّنيا ، وهو عكس الذي
قبله ، رويا عن الحسن. والثامن
: المستقرّ في
الدّنيا ، والمستودع عند الله تعالى ، قاله مجاهد. والتاسع : المستقرّ في الأصلاب ، والمستودع في الأرحام ، قاله ابن
بحر ، وهو عكس الأول.
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا
مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا
أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً) يعني المطر (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي : بالمطر. وفي قوله تعالى : (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) قولان : أحدهما
: نبات كلّ شيء من
الثّمار ، لأنّ كل ما ينبت ، فنباته بالماء. والثاني : رزق كلّ شيء وغذاؤه. وفي قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) قولان : أحدهما
: من الماء ، أي : به.
والثاني
: من النّبات. قال
الزّجّاج : الخضر بمعنى الأخضر ؛ يقال : اخضرّ ، فهو أخضر ، وخضر ، مثل اعورّ ،
فهو أعور ، وعور.
قوله تعالى : (نُخْرِجُ مِنْهُ) أي : من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) كالسّنبل والشّعير. والمتراكب : الذي بعضه فوق بعض. قوله
تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ
مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) وروى الخفّاف عن أبي عمرو : «قنوان» بضم القاف ؛ وروى
هارون عنه بفتحها. قال الفرّاء : معناه : ومن النّخل ما قنوانه دانية ؛ وأهل
الحجاز يقولون : «قنوان» بكسر القاف ؛ وقيس يضمّونها ؛ وضبّة ، وتميم يقولون : «قنيان»
أنشدني المفضّل عنهم :
__________________
فأثّت أعاليه
وآدت أصوله
|
|
ومال بقنيان من
البسر أحمرا
|
ويجتمعون جميعا ،
فيقولون : «قنو» و «قنو» ولا يقولون : «قني» ولا «قني» وكلب تقول : «ومال بقنيان».
قلت : هذا البيت لامرئ القيس ؛ رواه أبو سعيد السّكّري : «ومال بقنوان» مكسورة
القاف مع الواو ، ففيه أربع لغات : قنوان ، وقنوان ، وقنيان ، وقنيان ؛ و «أثّت» :
كثرت ؛ ومنه : شعر أثيث. و «آدت» : اشتدّت. وقال ابن قتيبة : القنوان : عذوق
النّخل ، واحدها
: قنو ، جمع على
لفظ تثنية ؛ ومثله : صنو وصنوان في التثنية ، وصنوان في الجميع. وقال الزّجّاج :
قنوان : جمع قنو ، وإذا ثنيته فهما قنوان ، بكسر النون. ودانية ، أي : قريبة
المتناول ، ولم يقل : «ومنها قنوان بعيدة» لأنّ في الكلام دليلا أنّ البعيدة
السّحيقة ؛ قد كانت غير سحيقة ، فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة ؛ كقوله تعالى
: (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) . وقال ابن عباس : القنوان الدّانية : قصار النّخل اللاصقة
عذوقها بالأرض.
قوله تعالى : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) قال الزّجّاج : هو نسق على قوله : «خضرا» (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) المعنى : وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان ؛ وقد روى أبو
زيد عن المفضّل : «وجنات» بالرّفع.
قوله تعالى : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : مشتبها في المنظر وغير متشابه في الطّعم ، رواه أبو صالح
عن ابن عباس. والثاني
: مشتبها ورقة ،
مختلفا ثمره ، قاله قتادة ، وهو في معنى الأول. والثالث : منه ما يشبه بعضه بعضا ، ومنه ما يخالف. قال الزّجّاج :
وإنما قرن الزيتون بالرّمان ، لأنهما شجرتان تعرف العرب أنّ ورقهما يشتمل على
الغصن من أوّله إلى آخره. قال الشاعر.
بورك الميّت
الغريب كما بو
|
|
رك نضح الرّمّان
والزّيتون
|
ومعناه : أنّ
البركة في ورقة اشتماله على عوده كلّه.
قوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) ، و (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) ، و (لِيَأْكُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ) : بالفتح في ذلك. وقرأ حمزة. والكسائيّ ، وخلف : بالضّمّ
فيهنّ. قال الزّجّاج : يقال : ثمرة ، ثمر ، وثمار ، وثمر ؛ فمن قرأ : «إلى ثمره»
بالضّمّ أراد جمع الجمع. وقال أبو عليّ : يحتمل وجهين : أحدهما : هذا ، وهو أن يكون الثّمر جمع ثمار ، والثاني : أن تكون الثّمر جمع ثمرة ، وكذلك : أكمة ، وأكم ، وخشبة
وخشب. قال الفرّاء : يقول : أنظروا إليه أوّل ما يعقد ، وانظروا إلى ينعه ، وهو
نضجه وبلوغه. وأهل الحجاز يقولون : ينع ، بفتح الياء ، وبعض أهل نجد يضمّونها. قال
ابن قتيبة : يقال : ينعت الثّمر ، وأينعت : إذا أدركت ، وهو الينع والينع. وقرأ
الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والأعمش ، وابن محصن : «وينعه» بضم الياء. قال الزّجّاج
: الينع : النضج. قال الشاعر :
__________________
في قباب حول
دسكرة
|
|
حولها الزّيتون
قد ينعا
|
وبيّن الله تعالى
لهم بتصريف ما خلق ، ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق ، أنه كذلك يبعثهم.
قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) قال ابن عباس : يصدّقون أنّ الذي أخرج هذا النبات قادر على
أن يحيي الموتى. وقال مقاتل : يصدّقون بالتّوحيد.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠))
قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) جعلوا ، بمعنى وصفوا. قال الزّجّاج : نصب «الجنّ» من وجهين
: أحدهما
: أن يكون مفعولا ،
فيكون المعنى : وجعلوا لله الجنّ شركاء ؛ ويكون الجنّ مفعولا ثانيا ، كقوله تعالى
: (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) . والثاني
: أن يكون الجنّ
بدلا من شركاء ، ومفسّرا للشّركاء. وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو عمران ، وأبو حياة ،
والجحدريّ : «شركاء الجنّ» برفع النون ؛ وقرأ ابن عبلة ، ومعاذ القارئ : «الجنّ»
بخفض النون. وفي معنى جعلهم الجنّ شركاء ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أطاعوا الشّياطين في عبادة الأوثان ، فجعلوهم شركاء
لله ، قاله الحسن ، والزّجّاج. والثاني
: قالوا : إنّ
الملائكة بنات الله فهم شركاؤه ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) فسمّى الملائكة جنّا لاجتنانهم ، قاله قتادة والسّدّيّ ،
وابن زيد. والثالث
: أنّ الزّنادقة
قالوا : الله خالق النّور والماء والدّواب والأنعام ، وإبليس خالق الظّلمة
والسّباع والحيّات والعقارب ، وفيهم نزلت هذه الآية. قاله ابن السّائب .
قوله تعالى : (وَخَلَقَهُمْ) في الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء ، فيكون المعنى :
وجعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون. والثاني : أنها ترجع إلى الجنّ ، فيكون المعنى : والله خلق الجنّ ،
فكيف يكون الشّريك لله محدثا؟ ذكرهما الزّجّاج.
قوله تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ) وقرأ نافع : «وخرّقوا» بالتشديد ، للمبالغة والتّكثير ،
لأن المشركين ادّعوا الملائكة بنات الله ، والنّصارى المسيح. واليهود عزيرا. وقرأ
ابن عباس ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء : «وحرّفوا» بحاء غير معجمة وبتشديد الراء
وبالفاء. وقرأ ابن السّميفع ، والجحدريّ : «وخارقوا» بألف وخاء معجمة قال السّدّيّ
: أما «البنون» ، فقول اليهود ، عزير ابن الله ، وقول النّصارى : المسيح ابن الله
، وأما «البنات» فقول مشركي العرب : الملائكة بنات الله. قال الفرّاء : خرّقوا ،
واخترقوا ، وخلقوا ، واختلقوا ، بمعنى افتروا. وقال أبو عبيدة : خرقوا : جعلوا.
قال الزّجّاج : ومعنى :
__________________
«بغير علم» أنهم
لم يذكروه من علم ، إنما ذكروه تكذّبا.
(بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ (١٠٢))
قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) قال الزّجّاج : أي : من أين يكون له ولد ، والولد لا يكون
إلا من صاحبة؟! واحتجّ عليهم في نفي الولد بقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فليس مثل خالق الأشياء ، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟!
فإذا نسب إليه الولد ، فقد جعل له مثل.
(لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))
قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) في الإدراك قولان : أحدهما
: أنه بمعنى
الإحاطة. والثاني
: بمعنى الرّؤية.
وفي «الأبصار» قولان : أحدهما
: أنها العيون ،
قاله الجمهور. والثاني
: أنها العقول ،
رواه عبد الرّحمن بن مهدي عن أبي حصين القارئ. ففي معنى الآية ثلاثة أقوال : أحدها : لا تحيط به الأبصار ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال
سعيد بن المسيّب ، وعطاء. وقال الزّجّاج : معنى الآية : الإحاطة بحقيقته ، وليس
فيها دفع للرّؤية ، لما صحّ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الرّؤية ، وهذا مذهب أهل السنّة والعلم والحديث. والثاني : لا تدركه الأبصار إذا تجلّى بنوره الذي هو نوره ، رواه
عكرمة عن ابن عباس. والثالث
: لا تدركه الأبصار
في الدنيا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال
__________________
الحسن ، ومقاتل ،
ويدلّ على أنّ الآية مخصوصة بالدنيا ، قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فقيّد النّظر إليه بالقيامة ، وأطلق في هذه الآية ،
والمطلق يحمل على المقيّد. وقوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصارَ) فيه القولان : قال الزّجّاج : وفي هذا الإعلام دليل على
أنّ خلقه لا يدركون الأبصار ، أي : لا يعرفون حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به
الإنسان يبصر من عينيه ، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه ؛ فأعلم الله أنّ خلقا
من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ، ولا يحيطون بعلمه ؛ فكيف به عزوجل؟! فأمّا «اللطيف» ، فقال أبو سليمان الخطّابي : هو البرّ
بعباده ، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون ، ويسبّب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون.
قال ابن الأعرابي : اللطيف : الذي يوصل إليك أربك في رفق ؛ ومنه قولهم : لطف الله
بك ؛ ويقال : هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفيّة. وقد يكون اللطف بمعنى الدّقة
والغموض ، ويكون بمعنى الصّغر في نعوت الأجسام ، وذلك مما لا يليق بصفات الباري
سبحانه. وقال الأزهريّ : اللطيف من أسماء الله ، معناه : الرّفيق بعباده ؛ والخبير
: العالم بكنه الشيء ، المطّلع على حقيقته.
(قَدْ جاءَكُمْ
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤))
قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) البصائر : جمع بصيرة ، وهي الدّلالة التي توجب البصر
بالشيء والعلم به. قال الزّجّاج : والمعنى : قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان
والبصائر (فَمَنْ أَبْصَرَ
فَلِنَفْسِهِ) نفع ذلك (وَمَنْ عَمِيَ) فعلى نفسه ضرر ذلك ، لأن الله عزوجل غنيّ عن خلقه. (وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي : لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل ، وهذا قبل
الأمر بالقتال.
فصل
: وذكر المفسّرون
أن هذه الآية نسخت بآية السيف. وقال بعضهم : معناها : لست رقيبا عليكم ، أحصي
أعمالكم ؛ فعلى هذا لا وجه للنّسخ.
(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ
الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) قال الأخفش : (وَكَذلِكَ) معناها : وهكذا. وقال الزّجّاج : المعنى : ومثل ما بيّنّا
فيما تلي عليك ، نبيّن الآيات ، قال ابن عباس : نصرّف الآيات ، أي نبيّنها في كل
وجه ، ندعوهم بها مرّة ، ونخوّفهم بها أخرى. (وَلِيَقُولُوا) يعني أهل مكّة حين تقرأ عليهم القرآن «دارست». قال ابن
الأنباري : معنى الآية : وكذلك نصرّف الآيات ، لنلزمهم الحجّة ، وليقولوا : دارست
؛ وإنما صرّف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها ، ويشقى آخرون بالإعراض عنها ؛
فمن عمل بها سعد ، ومن قال : دارست ، شقي. قال الزّجّاج : وهذه اللام في «ليقولوا»
يسميها أهل اللغة لام الصّيرورة. والمعنى : أنّ السّبب الذي أدّاهم إلى أن يقولوا
: دارست! ، هو تلاوة الآيات ، وهذا كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) وهم لم يطلبوا بأخذه أن يعاديهم ، ولكن كان عاقبة الأمر أن
صار لهم عدوّا وحزنا. ومثله أن تقول : كتب فلان الكتاب لحتفه ، فهو لم يقصد أن
يهلك نفسه بالكتاب. ولكنّ العاقبة كانت الهلاك. فأما «دارست» فقرأ ابن كثير ، وأبو
عمرو : «دارست»
__________________
بالألف وسكون
السين وفتح التاء ؛ ومعناها : ذاكرت أهل الكتاب. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «درست»
بسكون السين وفتح التاء ، من غير ألف ، على معنى : قرأت كتب أهل الكتاب. قال
المفسرون : معناها : تعلّمت من جبر ، ويسار. وسنبيّن هذا في قوله : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) إن شاء الله. وقرأ ابن عامر ، ويعقوب : «درست» بفتح الراء
والسين وسكون التاء من غير ألف. والمعنى : هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد
درست. أي : قد مضت وامّحت. وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته. وقد روي عن نافع
أنه قال : «درست» برفع الدال وكسر الراء وتخفيف التاء ، وهي قراءة ابن يعمر ؛
ومعناها ؛ قرئت. وقرأ أبيّ بن كعب : «درست» بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين
التاء. قال الزّجّاج : وهي بمعنى : «درست» أي : امّحت ؛ إلّا أنّ المضمومة الراء
أشدّ مبالغة. وقرأ معاذ القارئ ، وأبو العالية ، ومورّق : «درست» برفع الدال ،
وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرّف : «درس» بفتح
الراء والسين بلا ألف ولا تاء. وروى عصمة عن الأعمش : «دارس» بألف.
قوله تعالى : (وَلِنُبَيِّنَهُ) يعني : التّصريف (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ما تبيّن لهم من الحق فيقبلوه.
(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)
وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))
قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قال المفسّرون : نسخ بآية السّيف.
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) فيه ثلاثة أقوال حكاها الزّجّاج : أحدها : لو شاء لجعلهم مؤمنين. والثاني : لو شاء لأنزل آية تضطرّهم إلى الإيمان. والثالث : لو شاء لا ستأصلهم ، فقطع سبب شركهم. قال ابن عباس : وباقي
الآية نسخ بآية السيف.
(وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ
كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨))
قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) في سبب نزولها قولان :
(٥٤٦) أحدهما : أنه لمّا قال للمشركين : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قالوا : لتنتهينّ يا محمّد عن سبّ آلهتنا وعيبها ، أو
لنهجونّ إلهك الذي تعبده ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
____________________________________
(٥٤٦) ضعيف. عزاه
المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. وأخرجه الطبري
١٣٧٤٢ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وفيه إرسال بينهما وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٤٤٤ من رواية الوالبي عن ابن عباس.
__________________
(٥٤٧) والثاني : أنّ المسلمين كانوا يسبّون أوثان الكفّار ، فيردّون ذلك
عليهم ، فنهاهم الله تعالى أن يستسبّوا لربّهم قوما جهلة لا علم لهم بالله ، قاله
قتادة.
ومعنى «يدعون» :
يعبدون ، وهي الأصنام. (فَيَسُبُّوا اللهَ) أي : فيسبّوا من أمركم بعيبها ، فيعود ذلك إلى الله تعالى
، لا أنهم كانوا يصرّحون بسبّ الله تعالى ، لأنهم كانوا يقرّون أنه خالقهم ، وإن
أشركوا به. وقوله تعالى : (عَدْواً بِغَيْرِ
عِلْمٍ) ، أي : ظلما بالجهل. وقرأ يعقوب : «عدوّا» ، بضم العين
والدال وتشديد الواو. والعرب تقول في الظّلم : عدا فلان عدوا وعدوّا وعدوانا. وعدا
، أي : ظلم.
قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ) أي : كما زيّنا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام ، وطاعة
الشّيطان ، كذلك زيّنّا لكل جماعة اجتمعت على حقّ أو باطل عملهم من خير أو شرّ.
قال المفسّرون : وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف.
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ
(١٠٩))
قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ) في سبب نزولها قولان :
(٥٤٨) أحدهما : أنه لمّا نزل في (الشّعراء) : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ آيَةً) قال المشركون : أنزلها علينا حتّى والله نؤمن بها ؛ فقال
المسلمون : يا رسول الله ، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا ؛ فنزلت هذه الآية ؛ رواه أبو
صالح عن ابن عباس.
(٥٤٩) والثاني : أن قريشا قالوا : يا محمّد ، تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا
يضرب بها الحجر ، فينفجر منها اثنتا عشرة عينا ، وأنّ عيسى كان يحيي الموتى ، وأنّ
ثمود كانت لهم ناقة ، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدّقك : فقال : «أيّ شيء تحبون؟»
قالوا : أن تجعل لنا الصّفا ذهبا. قال : «فإن فعلت تصدّقوني؟» فقالوا : نعم ،
والله لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين. فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعو ، فجاءه جبريل فقال : إن شئت أصبح الصّفا ذهبا ،
ولكني لم أرسل آية فلم يصدّق بها ، إلّا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب
تائبهم. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «اتركهم حتى يتوب
تائبهم» ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : (يَجْهَلُونَ) ، هذا قول محمّد بن كعب القرظيّ.
وقد ذكرنا معنى (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في (المائدة) ؛ وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات ،
____________________________________
(٥٤٧) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٣٧٤٣ عن قتادة مرسلا فهو ضعيف ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٤٥ عن
قتادة مرسلا.
(٥٤٨) موضوع. عزاه
المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح ، ورواية أبي صالح هو الكلبي وكلاهما روى عن
ابن عباس تفسير موضوعا.
(٥٤٩) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٣٧٥٠ والواحدي ٤٤٧ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا ومع إرساله في إسناده أبو
معشر نجيح السندي ، وهو ضعيف فالخبر واه. وورد عن الكلبي ، وهو لا شيء لأنه متروك
متهم.
__________________
كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) .
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي : هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها) أي : يدريكم أنها. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن
عاصم ، وخلف في اختياره : بكسر الألف ، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله «يشعركم»
للمشركين ، ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ) ويكون المعنى : وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون «إنّها»
مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو عليّ : التقدير : وما يشعركم
إيمانهم؟ فحذف المفعول. والمعنى : لو جاءت الآية التي اقترحوها ، لم يؤمنوا. فعلى
هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : «وما يشعركم إنّها»
؛ فقلت : ما منعها أن تكون كقولك : ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال : لا يحسن ذلك في
هذا الموضع ؛ إنما قال : (وَما يُشْعِرُكُمْ) ثمّ ابتدأ فأوجب ، فقال : «إنها إذا جاءت لا يؤمنون» ولو
قال : (وَما يُشْعِرُكُمْ
أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ كان ذلك عذرا لهم. وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ،
والكسائيّ : «أنها» بفتح الألف ؛ فعلى هذا ، المخاطب بقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ؛ ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أبيّ : «لعلها
إذا جاءت لا يؤمنون». والعرب تجعل «أن» بمعنى «لعل». يقولون : ائت السّوق أنّك
تشتري لنا شيئا ، أي : لعلّك. قال عديّ بن زيد :
أعاذل ما يدريك
أنّ منيّتي
|
|
إلى ساعة في
اليوم أو في ضحى غد
|
أي : لعلّ منيّتي.
وإلى هذا المعنى ذهب الخليل ، والفرّاء في توجيه هذه القراءة.
والثاني
: أنّ المعنى : وما
يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ، وتكون «لا» صلة ؛ كقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ) وقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، ذكره الفرّاء وردّه الزّجّاج واختار الأول. والأكثرون
على قراءة : «يؤمنون» بالياء ؛ منهم ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ،
وحفص عن عاصم ؛ وقرأ ابن عامر ، وحمزة : بالتاء ، على الخطاب للمشركين. قال أبو
عليّ : من قرأ بالياء ، فلأنّ الذين أقسموا غيّب ، ومن قرأ بالتاء ، فهو انصراف من
الغيبة إلى الخطاب.
(وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ
فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))
قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصارَهُمْ) التّقليب : تحويل الشيء عن وجهه. وفي معنى الكلام ، أربعة
أقوال : أحدها
: لو أتيناهم بآية
كما سألوا ، لقلّبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها ، وحلنا بينهم وبين الهدى ،
فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها ، عقوبة لهم على ذلك. وإلى هذا المعنى
ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد. والثاني : أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرّجوع إلى الدّنيا ؛ فالمعنى
: لو ردّوا لحلنا بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرّة وهم في الدنيا ،
روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : ونقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم
يؤمن أوائلهم
__________________
من الأمم الخالية
بما رأوا من الآيات ، قاله مقاتل. والرابع : أنّ ذلك التّقليب في النّار ، عقوبة لهم ، ذكره الماوردي.
وفي هاء «به»
أربعة أقوال. أحدها
: أنها كناية عن
القرآن. والثاني
: عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم. والثالث
: عمّا ظهر من
الآيات. والرابع
: عن التّقليب.
وفي المراد ب «أول
مرّة» ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ المرّة
الأولى : دار الدّنيا. والثاني
: أنها معجزات
الأنبياء قبل محمّد عليهالسلام. والثالث
: أنها صرف قلوبهم
عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت ؛ والطّغيان والعمه مذكوران في (البقرة).
(وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا
عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١))
قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ).
(٥٥٠) سبب نزولها
: أنّ المستهزئين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في رهط من أهل مكّة ، فقالوا له : ابعث لنا بعض موتانا حتى
نسألهم : أحقّ ما تقول ، أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله ، أو
ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةَ) كما سألوا (وَكَلَّمَهُمُ
الْمَوْتى) فشهدوا لك بالنّبوة (وَحَشَرْنا) أي : جمعنا : (عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ) في الدّنيا (قُبُلاً ما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، فأخبر أنّ وقوع الإيمان بمشيئته ، لا كما ظنّوا أنهم متى
شاؤوا آمنوا ، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا. فأمّا قوله تعالى : «قبلا» ، فقرأ ابن عامر ،
ونافع : بكسر القاف وفتح الباء. قال ابن قتيبة : معناها : معاينة. وقرأ ابن كثير ،
وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة والكسائيّ : «قبلا» بضمّ القاف والباء. وفي معناها ،
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه جمع قبيل ،
وهو الصّنف ؛ فالمعنى : وحشرنا عليهم كلّ شيء قبيلا قبيلا ، قاله مجاهد ، واختاره
أبو عبيدة ، وابن قتيبة. والثاني
: أنه جمع قبيل
أيضا ، إلا أنه : الكفيل ؛ فالمعنى : وحشرنا عليهم كلّ شيء ، فكفل بصحة ما تقول ،
اختاره الفرّاء ، وعليه اعتراض ، وهو أن يقال : إذا لم يؤمنوا بإنزال الملائكة ،
وتكليم الموتى ، فلأن لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول ، أولى. فالجواب : أنه لو
كفلت الأشياء المحشورة ، فنطق ما لم ينطق ، كان ذلك آية بيّنة. والثالث : أنه بمعنى المقابل ، فيكون المعنى : وحشرنا عليهم كلّ شيء
، فقابلهم ، قاله ابن زيد. قال أبو زيد : يقال : لقيت فلانا قبلا وقبلا وقبلا
وقبيلا وقبليّا ومقابلة ، وكله واحد ، وهو المواجهة. قال أبو عليّ : فالمعنى في
القرآن ـ على ما قاله أبو زيد ـ واحد
، وإن اختلفت الألفاظ.
قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) فيه قولان : أحدهما : يجهلون أنّ الأشياء لا تكون إلّا بمشيئة الله تعالى. والثاني : أنهم يجهلون أنّهم لو أوتوا بكلّ آية ما آمنوا.
____________________________________
(٥٥٠) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح هو الكلبي وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا
موضوعا ، راجع ترجمتهما في «الميزان».
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَما يَفْتَرُونَ (١١٢))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ
عَدُوًّا) أي : وكما جعلنا لك ولأمّتك شياطين الإنس والجنّ أعداء ،
كذلك جعلنا لمن تقدّمك من الأنبياء وأممهم ؛ والمعنى : كما ابتليناك بالأعداء ،
ابتلينا من قبلك ، ليعظم الثواب عند الصّبر على الأذى. قال الزّجّاج : «عدوّ» : في
معنى أعداء ، و «شياطين الإنس والجنّ» : منصوب على البدل من «عدوّ» ، ومفسّر له ؛
ويجوز أن يكون : «عدوا» منصوب على أنه مفعول ثان ، المعنى : وكذلك جعلنا شياطين
الإنس والجنّ أعداء لأممهم . وفي شياطين الإنس والجنّ ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم مردة الإنس والجنّ ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : أنّ شياطين الإنس : الذين مع الإنس ، وشياطين الجنّ :
الذين مع الجنّ ، قاله عكرمة ، والسّدّيّ. والثالث : أنّ شياطين الإنس والجنّ : كفّارهم ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : (يُوحِي) أصل الوحي : الإعلام والدّلالة بستر وإخفاء. وفي المراد به
ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ معناه :
يأمر. والثاني
: يوسوس. والثالث : يشير.
وأما (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ، فهو ما زيّن منه ، وحسن ، وموّه ، وأصل الزّخرف :
الذّهب. قال أبو عبيدة : كلّ شيء حسّنته وزيّنته وهو باطل ، فهو زخرف. وقال
الزّجّاج : «الزّخرف» في اللغة : الزّينة ؛ فالمعنى : أنّ بعضهم يزيّن لبعض
الأعمال القبيحة ؛ و «غرورا» منصوب على المصدر ؛ وهذا المصدر محمول على المعنى ،
لأنّ معنى إيحاء الزّخرف من القول : معنى الغرور ، فكأنه قال : يغرّون غرورا. وقال
ابن عباس : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُوراً) : الأمانيّ بالباطل. قال مقاتل : وكّل إبليس بالإنس شياطين
يضلّونهم ، فإذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجنّ ؛ قال أحدهما لصاحبه : إني أضللت
صاحبي بكذا وكذا ، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقال غيره
: إنّ المؤمن إذا أعيا شيطانه ، ذهب إلى متمرّد من الإنس ، وهو شيطان الإنس ،
فأغراه بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة : إنّ من الجنّ شياطين ، وإنّ من الإنس شياطين.
وقال مالك بن دينار : إنّ شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ ، لأنّي كإذا
تعوّذت من ذاك ذهب عني ، وهذا يجرّني إلى المعاصي عيانا.
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى الوسوسة. والثاني : ترجع إلى الكفر. والثالث : إلى الغرور ، وأذى النّبيّين.
قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) قال مقاتل : يريد كفّار مكّة وما يفترون من الكذب. وقال
غيره : فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم ، وما يختلقون من
كذب ، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف.
(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا
ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))
__________________
قوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي : ولتميل ؛ والهاء : كناية عن الزّخرف والغرور.
والأفئدة : جمع فؤاد ، مثل غراب وأغربة. قال ابن الأنباري : فعلنا بهم ذلك لكي
تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، «وليرضوا» الباطل ، (وَلِيَقْتَرِفُوا) أي : ليكتسبوا ، وليعملوا ما هم عاملون.
(أَفَغَيْرَ اللهِ
أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤))
قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً).
(٥٥١) سبب نزولها
: أنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : اجعل بيننا وبينك حكما ؛ إن شئت من أحبار اليهود ، وإن
شئت من أحبار النّصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك ، فنزلت هذه الآية ،
ذكره الماوردي.
فأمّا الحكم ، فهو
بمعنى الحاكم ؛ والمعنى : أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم؟! و (الْكِتابَ) : القرآن ، و «المفصّل» : المبين الذي بان فيه الحقّ من
الباطل ، والأمر من النّهي ، والحلال من الحرام. (وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فيهم قولان : أحدهما : علماء أهل الكتابين ، قاله الجمهور. والثاني : رؤساء أصحاب النبيّ محمّد صلىاللهعليهوسلم ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وأشباههم ، قاله
عطاء. قوله تعالى : (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ) قرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم : «منزّل» بالتشديد ؛ وخفّفها
الباقون.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (١١٥))
قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع : «كلمات»
على الجمع ؛ وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، ويعقوب ، «كلمة» على التّوحيد ؛ وقد
ذكرت العرب الكلمة ، وأرادت الكثرة ؛ يقولون : قال قسّ في كلمته ، أي : في خطبته ،
وزهير في كلمته ، أي : في قصيدته. وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال : أحدها : أنها القرآن ، قاله قتادة. والثاني : أقضيته وعداته. والثالث : وعده ووعيده وثوابه وعقابه. وفي قوله تعالى : (صِدْقاً وَعَدْلاً) قولان : أحدهما
: صدقا فيما أخبر ،
وعدلا فيما قضى وقدّر. والثاني
: صدقا فيما وعد
وأوعد ، وعدلا فيما أمر ونهى. وفي قوله : (لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ) قولان : أحدهما
: لا يقدر المفترون
على الزّيادة فيها والنّقصان منها. والثاني : لا خلف لمواعيده ، ولا مغيّر لحكمه.
(وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦))
قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ).
__________________
(٥٥١) لم أقف عليه
، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد. وذكره الماوردي في «تفسيره» ٢ / ١٦٠ بدون سند ولا
عزو لقائل.
(٥٥٢) سبب نزولها
: أنّ الكفار قالوا للمسلمين : أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل ربّكم؟ فنزلت
هذه الآية ، ذكره الفرّاء.
والمراد ب (أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) : الكفّار ، وفي ما ذا يطيعهم فيه أربعة أقوال : أحدها : في أكل الميتة. والثاني : في أكل ما ذبحوا للأصنام. والثالث : في عبادة الأوثان. والرابع : في اتّباع ملل الآباء. و (سَبِيلِ اللهِ) : دينه. قال ابن قتيبة : ومعنى (يَخْرُصُونَ) : يحدسون ويوقعون ؛ ومنه قيل للحازر : خارص. فإن قيل : كيف
يجوز تعذيب من هو على ظنّ من شركه ، وليس على يقين من كفره! فالجواب : أنهم لمّا
تركوا التماس الحجّة ، واتّبعوا أهواءهم ، واقتصروا على الظنّ والجهل ، عذّبوا ،
ذكره الزّجّاج.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))
قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ
يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) قال الزّجّاج : موضع «من» رفع بالابتداء ، ولفظها لفظ
الاستفهام ؛ والمعنى : إنّ ربّك هو أعلم أيّ الناس يضلّ عن سبيله. وقرأ الحسن : «من
يضل» بضمّ الياء وكسر الضاد ، وهي رواية ابن أبي شريح. قال أبو سليمان : ومقصود
الآية : لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات ، فلن يؤمن إلّا من
سبق له القدر بالإيمان.
(فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨))
قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ).
____________________________________
(٥٥٢) حديث قوي.
ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة. فقد أخرجه أبو داود ١٨١٨ وابن ماجة ٣١٧٣
والحاكم ٤ / ١١٣ و ٢٣١ والطبري ١٣٨١٣ و ١٣٨٢٦ والبيهقي ٩ / ٢٤١ من طرق عن سماك بن
حرب عن عكرمة عن ابن عباس : إن المشركين قالوا للمسلمين ... الحديث. وهذا إسناد ،
رجاله ثقات ، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة ، وقد صحح الحافظ ابن كثير هذا
الإسناد ، وكدا صححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي. وورد من وجه آخر نحوه ،
أخرجه النسائي في «التفسير» ١٩١ والطبري ١٣٨١٥ عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن
عباس ، وإسناده غير قوي لأجل هارون بن عنترة.
وله شاهد من مرسل
الحضرمي ، أخرجه الطبري ١٣٨١٨ ومن مرسل الضحاك ١٣٨٢٠ لكن في الطريق جويبر بن سعيد
، وهو متروك ولكن توبع جويبر برقم ١٣٨٢٨. وله شاهد من مرسل مجاهد ١٣٨٢١ و ١٣٨٢٢
ومن مرسل قتادة ١٣٨٢٣ و ١٣٨٢٥ من مرسل السدي. وله شاهد من مرسل عكرمة ، أخرجه
الطبري ١٣٨١٧ لكن فيه ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولا يصح من هذا الوجه.
وورد بذكر اليهود
بدل المشركين ، أخرجه الترمذي ٣٠٦٩ من طريق زياد بن عبد الله البكائي عن عطاء بن
السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف لضعف عطاء بن السائب ، فإنه
اختلط ، وزياد لين الحديث وقد اضطرب عطاء فيه فقد أخرجه أبو داود ٢٨١٩ والطبراني
١٣٨٢٩ والطبري ١٢٢٩٥ ، والبيهقي ٩ / ٢٤٠ كلهم عن عمران بن عيينة عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال : «جاءت اليهود ... وذكر اليهود فيه نظر من وجوه ثلاثة. أحدها : أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا. الثاني : أن
الآية مكية.
الثالث : اضطراب
الروايات عن ابن السائب. الخلاصة : ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم في الخبر ضعيف ، وكون الذين جادلوا هم اليهود ، ضعيف منكر
والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» ٨٦١ و «فتح القدير» ٩٣٢ بتخريجنا.
(٥٥٣) سبب نزولها
: أنّ الله تعالى لمّا حرّم الميتة ، قال المشركون للمؤمنين : إنكم تزعمون أنكم
تعبدون الله ، فما قتل الله لكم أحقّ أن تأكلوه ممّا قتلتم أنتم ، يريدون الميتة ،
فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(وَما لَكُمْ أَلاَّ
تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
(١١٩))
قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) قال الزّجّاج : المعنى : وأيّ شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟
وموضع «أن» نصب ، لأنّ «في» سقطت ، فوصل المعنى إلى «أن» فنصبها.
قوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «فصّل لكم ما حرّم
عليكم» مرفوعتان ؛ وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، والقزّاز عن عبد الوارث : «فصّل»
بفتح الفاء ، «ما حرّم» بفتح الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «فصّل»
بفتح الفاء ، «ما حرّم» بضم الحاء. قال الزّجّاج : أي : فصّل لكم الحلال من الحرام
، وأحلّ لكم في الاضطرار ما حرّم. وقال سعيد بن جبير : فصّل لكم ما حرّم عليكم ،
يعني : ما بيّن في (المائدة) من الميتة ، والدّم ، إلى آخر الآية. «وإنّ كثيرا
ليضلّون بأهوائهم» يعني : مشركي العرب يضلّون في أمر الذّبائح وغيره ، قرأ ابن
كثير ، وأبو عمرو : «ليضلون» ، وفي (يونس) : «ربّنا ليضلّوا» وفي (إبراهيم) : «أندادا
ليضلّوا» وفي (الحج) : «ثاني عطفه ليضلّ» وفي (لقمان) : «ليضلّ عن سبيل الله بغير
علم» وفي (الزّمر) : «أندادا ليضلّ» ، بفتح الياء في هذه المواضع السّتة ؛ وضمّهنّ
عاصم وحمزة ، والكسائيّ. وقرأ نافع ، وابن عامر : «ليضلون بأهوائهم». وفي (يونس) «ليضلّوا»
بالفتح ؛ وضمّا الأربعة الباقية. فمن فتح ، أراد : أنهم هم الذين ضلّوا ؛ ومن ضمّ
، أراد : أنهم أضلّوا غيرهم ، وذلك أبلغ في الضلال ، لأنّ كلّ مضلّ ضالّ؟ وليس كلّ
ضال مضلّا.
(وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما
كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠))
قوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) ، في الإثم ها هنا ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه الزّنا ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس ؛ فعلى هذا ، في ظاهره وباطنه قولان : أحدهما : أنّ ظاهره : الإعلان به ، وباطنه : الاستسرار به ، قاله
الضّحّاك ، والسّدّيّ. قال الضّحّاك : وكانوا يرون الاستسرار بالزّنا حلالا. والثاني : أنّ ظاهره نكاح المحرّمات ، كالأمّهات ، والبنات ، وما نكح
الآباء. وباطنه : الزّنا ، قاله سعيد بن جبير.
والثاني
: أنه عامّ في كلّ
إثم. والمعنى : ذروا المعاصي ، سرّها وعلانيتها ؛ وهذا مذهب أبي العالية ، ومجاهد
، وقتادة ، والزّجّاج. وقال ابن الأنباري : المعنى : ذروا الإثم من جميع جهاته.
والثالث
: أنّ الإثم :
المعصية ، إلّا أنّ المراد به ها هنا أمر خاصّ. قال ابن زيد : ظاهره ها هنا : نزع
أثوابهم ، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وباطنه : الزّنا.
____________________________________
(٥٥٣) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وهذه الرواية واهية ، لكن المتن محفوظ ، انظر ما قبله.
(وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ
الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))
قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) سبب نزولها مجادلة المشركين للمؤمنين في قولهم : أتأكلون
ممّا قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ) ؛ هذا قول ابن عباس.
(٥٥٤) وقال عكرمة
: كتبت فارس إلى قريش : إن محمّدا وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله ، ويأكلون ما
ذبحوا لأنفسهم ؛ فكتب المشركون إلى أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فنزلت
هذه الآية.
وفي المراد بما لم
يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال : أحدها : أنه الميتة ، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنه الميتة والمنخنقة ، إلى قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ، روي عن ابن عباس. والثالث : أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها ، قاله عطاء. والرابع : أنه عامّ فيما لم يسمّ الله عند ذبحه ؛ وإلى هذا المعنى
ذهب عبد الله بن يزيد الخطميّ ، ومحمّد بن سيرين.
فصل
: فإن تعمّد ترك
التّسمية ، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان . وإن تركها ناسيا أبيحت. وقال الشّافعيّ : لا يحرم في
الحالين جميعا. وقال شيخنا عليّ بن عبيد الله : فإذا قلنا : إنّ ترك التّسمية عمدا
يمنع الإباحة ، فقد نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
حِلٌّ لَكُمْ) . وعلى قول الشّافعيّ : الآية محكمة.
قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) يعني : وإنّ أكل ما لم يذكر عليه اسم الله لفسق ، أي :
خروج عن الحقّ والدّين. وفي المراد بالشياطين ها هنا قولان : أحدهما : أنهم شياطين الجن ، روي عن ابن عباس الثاني : قوم من أهل
فارس ، وقد ذكرناه عن عكرمة. فعلى الأولى : وحيهم الوسوسة ، وعلى الثاني : وحيهم
الرّسالة. والمراد ب «أوليائهم» الكفّار الذين جادلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ترك أكل الميتة . ثم
____________________________________
(٥٥٤) ضعيف منكر.
أخرجه الطبري ١٣٨٠٩ عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف ، وكرره ١٣٨١٠ عن عكرمة بنحوه مرسلا
أيضا ، وذكره «فارس» منكر ، وتقدم الراجح.
__________________
فيهم قولان : أحدهما : أنهم مشركو قريش. والثاني : اليهود ؛ (وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ) في استحلال الميتة (إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ).
(أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢))
قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال :
(٥٥٥) أحدها : أنها نزلت في حمزة بن عبد المطّلب ، وأبي جهل ، وذلك أنّ
أبا جهل رمى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بفرث ، وحمزة لم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ،
فأقبل حتى علا أبا جهل بالقوس ، فقال له : أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا ، وسبّ
آلهتنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم؟
تعبدون الحجارة من
دون الله؟! أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، فنزلت هذه الآية
، هذا قول ابن عباس.
(٥٥٦) والثاني : أنها نزلت في عمار بن ياسر ، وأبي جهل ، رواه أبو صالح عن
ابن عباس ، وبه قال عكرمة.
(٥٥٧) والثالث : في عمر بن الخطّاب ، وأبي جهل ، قاله زيد بن أسلم ،
والضّحّاك.
والرابع
: في النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وأبي جهل ، قاله مقاتل.
والخامس
: أنها عامّة في
كلّ مؤمن وكافر ، قاله الحسن في آخرين.
وفي قوله تعالى : (كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) قولان : أحدهما
: كان ضلا فهديناه
، قاله مجاهد. والثاني
: كان جاهلا ،
فعلّمناه ، قاله الماوردي. وقرأ نافع : «ميتا» بالتشديد قال أبو عبيدة : الميتة ،
____________________________________
(٥٥٥) لم أره
مسندا. وذكره الواحدي في أسباب النزول ٤٥٠ بدون إسناد عن ابن عباس فهو لا شيء
لخلوه عن الإسناد ، والصحيح عموم الآية.
(٥٥٦) واه. عزاه
المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري ١٣٨٤٢ عن
عكرمة مرسلا ، فهو ضعيف وفيه انقطاع وكرره ١٣٨٤١ عن عكرمة بنحوه مرسلا وفيه راو لم
يسم.
والصحيح عموم
الآية ، ولا يصح تخصيصها بروايات واهية.
(٥٥٧) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٣٨٤٠ عن الضحاك مرسلا ، فهو ضعيف. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٤٥١
عن زيد بن أسلم مرسلا ، ومع إرساله فيه مبشر بن عبيد وهو ممن يضع الحديث.
__________________
مخففة : من ميّتة
، والمعنى واحد. وفي «النّور» ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الهدى ، قاله ابن عباس. والثاني : القرآن ، قاله الحسن. والثالث : العلم. وفي قوله تعالى : (يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ) ثلاثة أقوال : أحدها : يهتدي به في الناس ، قاله مقاتل. والثاني : يمشي به بين الناس إلى الجنّة. والثالث : ينشر به دينه في الناس ، فيصير كالماشي! ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ) المثل : صلة ؛ والمعنى : كمن هو في الظّلمات. وقيل :
المعنى : كمن لو شبّه بشيء كان شبيهه من في الظلمات. وقيل : المراد بالظّلمات ها
هنا : الكفر.
قوله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ) أي : كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلّص منها ، كذلك زيّن (لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الشّرك والمعاصي.
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ
إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) : أي : وكما زيّنا للكافرين عملهم ، فكذلك جعلنا في كلّ
قرية أكابر مجرميها ، وقيل معناه : وكما جعلنا فسّاق مكّة أكابرها ، فكذلك جعلنا
فسّاق كلّ قرية أكابرها. وإنما جعل الأكابر فسّاق كلّ قرية ، لأنهم أقرب إلى الكفر
بما أعطوا من الرّياسة والسّعة. وقال ابن قتيبة : تقدير الآية : وكذلك جعلنا في
كلّ قرية مجرميها أكابر ؛ و «أكابر» لا ينصرف ، وهم العظماء.
قوله تعالى : (لِيَمْكُرُوا فِيها) قال أبو عبيدة : المكر : الخديعة ، والحيلة ، والفجور ،
والغدر ، والخلاف. قال ابن عباس : ليقولوا فيها الكذب. قال مجاهد : أجلسوا على كلّ
طريق من طرق مكّة أربعة ، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمّد صلىاللهعليهوسلم ، يقولون للناس : هذا شاعر ، وكاهن.
قوله تعالى : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي : ذلك المكر بهم يحيق.
(وَإِذا جاءَتْهُمْ
آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ
عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))
قوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ).
(٥٥٨) سبب نزولها
: أنّ أبا جهل قال : زاحمتنا بنو عبد مناف في الشّرف ، حتى إذا صرنا كفرسي رهان ،
قالوا : منّا نبيّ يوحى إليه. والله لا نؤمن به ولا نتّبعه أو أن يأتينا وحي كما
يأتيه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.
قال الزّجّاج :
الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم. وقال أبو سليمان : تعود على
المجادلين في تحريم الميتة ، قال مقاتل : والآية : انشقاق القمر ، والدّخان ، قال
ابن عباس في قوله تعالى : (مِثْلَ ما أُوتِيَ
رُسُلُ اللهِ) قال : حتى يوحى إلينا ، ويأتينا جبريل ، فيخبرنا أنّ
محمّدا صادق. قال
____________________________________
(٥٥٨) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ساقط الحديث ، كذبه غير واحد. وأصل الحديث له شواهد واهية ، دون ذكر
نزول الآية.
الضّحّاك : سأل
كلّ واحد منهم أن يختصّ بالرّسالة والوحي.
قوله تعالى : «الله
أعلم حيث يجعل رسالاته» وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم : «رسالته» بنصب التاء على
التوحيد ؛ والمعنى : أنهم ليسوا لها بأهل ، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة قال :
والله لو كانت النّبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر منك سنّا ، وأكثر منك
مالا ، فنزل قوله تعالى : «الله أعلم حيث يجعل رسالاته». وقال أهل المعاني :
الأبلغ في تصديق الرّسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم ، لأنّ الطّعن
كان يتوجّه عليهم ، فيقال : إنّما كانوا رؤساء فاتّبعوا ، فكان الله أعلم حيث جعل
الرّسالة ليتيم أبي طالب ، دون أبي جهل والوليد ، وأكابر مكّة.
قوله تعالى : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ) قال أبو عبيدة : الصّغار : أشدّ الذّلّ. وقال الزّجّاج : المعنى
: هم ، وإن كانوا أكابر في الدّنيا ، فسيصيبهم صغار عند الله ، أي : صغار ثابت لهم
عند الله. وجائز أن يكون المعنى : سيصيبهم عند الله صغار ، وقال الفرّاء : معناه :
صغار من عند الله ، فحذفت «من». وقال أبو روق : صغار في الدنيا ، وعذاب شديد في
الآخرة.
(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ
يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥))
قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) قال مقاتل : نزلت في رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ وأبي جهل.
قوله تعالى : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) قال ابن الأعرابيّ : الشرح : الفتح. قال ابن قتيبة : ومنه
يقال : شرحت لك الأمر ، وشرحت اللحم : إذا فتحته. وقال ابن عباس : «يشرح صدره» أي
: يوسع قلبه للتّوحيد والإيمان.
(٥٥٩) وقد روى ابن
مسعود أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قرأ : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ، فقيل له : يا رسول الله ، وما هذا الشّرح؟ قال : «نور
يقذفه الله في القلب ، فينفتح القلب». قالوا : فهل لذلك من أمارة؟ قال : «نعم».
قيل : وما هي؟ قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتّجافي عن دار الغرور ،
والاستعداد للموت قبل نزوله».
قوله تعالى : (ضَيِّقاً) قرأ الأكثرون بالتّشديد. وقرأ ابن كثير : «ضيقا» ، وفي (الفرقان)
:
____________________________________
(٥٥٩) متن باطل
بأسانيد واهية. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٨٥٢ والطبري ١٣٨٥٦ و ١٣٨٥٧ والبيهقي
في «الأسماء والصفات» ١ / ٢٥٧ عن أبي جعفر المدائني مرسلا. ومع إرساله أبي جعفر
المدائني ذكره الذهبي في «الميزان» ٤٦٠٨ وقال : قال أحمد وغيره : أحاديثه موضوعة.
وورد من حديث ابن مسعود عند الحاكم ٤ / ٣١١ والبيهقي في الشعب ١٠٥٥٢ وإسناده ضعيف
لضعف عدي بن الفضل ، وقد سكت عليه الحاكم ، وقال الذهبي : ابن الفضل ساقط ا ه.
وفيه المسعودي اختلط بأخرة. وأخرجه الطبري ١٣٨٥٩ عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ،
وإسناده منقطع ، وفيه سعيد بن عبد الملك الحراني ، وهو متروك روى أحاديث كذب.
وكرره الطبري ١٣٨٦١ عن عبد الرحمن ـ هو المسعودي ـ عن
ابن مسعود ، وهذا معضل بينهما. فهذه روايات واهية ليست بشيء ، والأشبه كونه من
كلام أبي جعفر المدائني ، حيث رواه الطبري عنه من طرق. انظر «تفسير الشوكاني» ٩٤٠
بتخريجنا.
«ضيقا» بتسكين الياء خفيفة. قال أبو عليّ : الضّيق ، والضّيق :
مثل الميّت ، والميت.
قوله تعالى : (حَرَجاً) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ
: (حَرَجاً) بفتح الراء. وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر الراء ،
قال الفرّاء : وهما لغتان. وكذلك قال يونس بن حبيب النّحويّ : هما لغتان ، إلّا
أنّ الفتح أكثر على ألسنة العرب من الكسر ، ومجراهما مجرى الدّنف والدّنف. وقال
الزّجّاج : الحرج في اللغة : أضيق الضّيق.
قوله تعالى : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : «يصعد»
بتشديد الصّاد والعين وفتح الصّاد من غير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم : «يصّاعد»
بتشديد الصّاد وبعدها ألف. وقرأ ابن كثير : «يصعد» بتخفيف الصّاد والعين من غير
ألف والصاد ساكنة ، وقرأ ابن مسعود ، وطلحة : «تصعد» بتاء من غير ألف. وقرأ أبيّ
بن كعب : «يتصاعد» بألف وتاء. قال الزّجّاج : قوله تعالى : «كأنما يصّاعد في
السماء» و «يصّعّد» ، أصله : «يتصاعد» ، و «يتصعّد» ، إلّا أنّ التاء تدغم في
الصاد لقربها منها ، والمعنى كأنه قد كلّف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام
من ضيق صدره عنه. ويجوز أن يكون المعنى : كأنّ قلبه يصعد في السماء نبوّا عن
الإسلام والحكمة. وقال الفرّاء : ضاق عليه المذهب ، فلم يجد إلّا أن يصعد في
السماء ، وليس يقدر على ذلك. وقال أبو عليّ : «يصّعّد» و «يصّاعد» : من المشقّة ،
وصعوبة الشيء ، ومنه قول عمر : ما تصعّدني شيء كما تصعّدتني خطبة النّكاح ، أي :
ما شقّ عليّ شيء مشقّتها.
قوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : مثل ما قصصنا عليك. (يَجْعَلُ اللهُ
الرِّجْسَ) وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه الشّيطان ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. يعني : أنّ
الله يسلّطه عليهم. والثاني
: أنه المأثم ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث
: أنه مالا خير فيه
، قاله مجاهد. والرابع
: العذاب ، قاله
عطاء ، وابن زيد ، وأبو عبيدة. والخامس
: أنه اللعنة في
الدّنيا والعذاب في الآخرة ، قاله الزّجّاج. وهذه الآية تقطع كلام القدريّة ، إذ
قد صرّحت بأنّ الهداية والإضلال متعلّقة بإرادة الله تعالى.
(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ
مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))
قوله تعالى : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه القرآن ، قاله ابن مسعود. والثاني : التّوحيد ، قاله ابن عباس. والثالث : ما هو عليه من الدّين ، قاله عطاء.
ومعنى استقامته :
أنه يؤدّي بسالكه إلى الفوز ، قال مكّيّ بن أبي طالب : و «مستقيما» : نصب على
الحال من «صراط» ، وهذه الحال يقال لها : الحال المؤكّدة ، لأنّ صراط الله ، لا
يكون إلّا مستقيما ، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين ، إذ لا يتغير صراط الله عن
الاستقامة أبدا ، وليست هذه الحال كالحال من قولك : «هذا زيد راكبا» ، لأنّ زيدا
قد يخلو من الرّكوب.
(لَهُمْ دارُ
السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧))
قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) يعني الجنّة. وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال : أحدها : أنّ السّلام ،
__________________
هو الله ، وهي
داره ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة والسّدّيّ. والثاني : أنها دار السّلامة التي لا تنقطع ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ تحيّة أهلها فيها السّلام ، ذكره أبو سليمان
الدّمشقيّ. والرابع
: أنّ جميع حالاتها
مقرونة بالسّلام ، ففي ابتداء دخولهم : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) ، وبعد استقرارهم : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) . وقوله تعالى : (إِلَّا قِيلاً
سَلاماً سَلاماً) وعند لقاء الله (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) ، وقوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) . ومعنى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : مضمونة لهم عنده ، (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي : متولّي إيصال المنافع إليهم ، ودفع المضارّ عنهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطّاعات.
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ
أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا
أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها
إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))
قوله تعالى : «ويوم
نحشرهم جميعا» يعني الجنّ والإنس. وقرأ حفص عن عاصم : «يحشرهم» بالياء. قال أبو
سليمان : يعني : المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما
حرّمه الله من الميتة. قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) فيه إضمار ، فيقال لهم : يا معشر ؛ والمعشر : الجماعة
أمرهم واحد ، والجمع : المعاشر. وقوله : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ
مِنَ الْإِنْسِ) أي : من إغوائهم وإضلالهم. (وَقالَ
أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يعني الذين أضلّهم الجنّ : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنا بِبَعْضٍ) فيه ثلاثة أقوال :
(٥٦٠) أحدها : أنّ استمتاع الإنس بالجنّ : أنهم كانوا إذا سافروا ،
فنزلوا واديا ، وأرادوا مبيتا ، قال أحدهم : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شرّ أهله ؛
واستمتاع الجنّ بالإنس : أنهم كانوا يفخرون على قومهم ، ويقولون : قد سدنا الإنس حتى
صاروا يعوذون بنا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، والفراء.
والثاني
: أنّ استمتاع
الجنّ بالإنس : طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضّلالة والكفر والمعاصي. واستمتاع
الإنس بالجنّ : أنّ الجنّ زيّنت لهم الأمور التي يهوونها ، وشهّوها إليهم حتى سهل
عليهم فعلها ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وبه قال محمّد بن كعب ،
والزّجّاج.
والثالث
: أنّ استمتاع
الجنّ بالإنس : إغواؤهم إيّاهم. واستمتاع الإنس بالجنّ : ما يتلقّون منهم من
السّحر والكهانة ونحو ذلك. والمراد بالجنّ في هذه الآية : الشّياطين.
قوله تعالى : (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ
لَنا) فيه قولان : أحدهما : الموت ، قاله الحسن ، والسّدّيّ.
____________________________________
(٥٦٠) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية الكلبي ، وهي رواية ساقطة. وكذا عزاه لمقاتل ، وهو متهم.
وأخرجه الطبري ١٣٨٩٣ عن ابن جريج قوله. ويأتي شيء من هذا في سورة الجن.
__________________
والثاني
: الحشر ، ذكره
الماوردي. قوله تعالى : (قالَ النَّارُ
مَثْواكُمْ) قال الزّجّاج : المثوى : المقام ؛ و «خالدين» منصوب على
الحال. المعنى : النار مقامكم في حال خلود دائم (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هو استثناء من يوم القيامة ، والمعنى : (خالِدِينَ فِيها) مذ يبعثون (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من مقدار حشرهم من قبورهم ، ومدّتهم في محاسبتهم. ويجوز أن
تكون (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يزيدهم من العذاب. وقال بعضهم : إلّا ما شاء الله من
كونهم في الدنيا بغير عذاب ؛ وقيل في هذا غير قول ، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء
الله.
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي
بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضاً) في معناه أربعة أقوال : أحدها
: نجعل بعضهم
أولياء بعض ، رواه سعيد عن قتادة. والثاني : نتبع بعضهم بعضا في النار بأعمالهم من الموالاة ، وهي
المتابعة ، رواه معمر عن قتادة. والثالث
: نسلط بعضهم على
بعض ، قاله ابن زيد. والرابع
: نكل بعضهم إلى
بعض ولا نعينهم ، ذكره الماورديّ.
قوله تعالى : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : من المعاصي.
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
كافِرِينَ (١٣٠))
قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ) قرأ الحسن ، وقتادة : «تأتكم» بالتاء ، (رُسُلٌ مِنْكُمْ). واختلفوا في الرسالة إلى الجنّ على أربعة أقوال : أحدها
: أنّ الرّسل كانت
تبعث إلى الإنس خاصّة ، وأنّ الله تعالى بعث محمّدا صلىاللهعليهوسلم إلى الإنس والجنّ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ رسل الجنّ ، هم الذين سمعوا القرآن ، فولّوا إلى قومهم
منذرين ، روي عن ابن عباس أيضا. وقال مجاهد : الرّسل من الإنس ، والنّذر من الجنّ
، وهم قوم يسمعون كلام الرّسل ، فيبلّغون الجنّ ما
__________________
سمعوا. والثالث : أنّ الله تعالى بعث إليهم رسلا منهم ، كما بعث إلى الإنس
رسلا منهم ، قاله الضّحّاك ومقاتل وأبو سليمان ، وهو ظاهر الكلام. والرابع : أنّ الله تعالى لم يبعث إليهم رسلا منهم وإنما جاءتهم رسل
الإنس ، قاله ابن جريج والفرّاء والزّجّاج. قالوا : ولا يكون الجمع في قوله تعالى
: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ) مانعا أن تكون الرّسل من أحد الفريقين ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ) ، وإنّما هو خارج من الملح وحده. وفي دخول الجنّ الجنّة
إذا آمنوا قولان : أحدهما
: يدخلونها ،
ويأكلون ويشربون ، قاله الضّحّاك. والثاني : ثوابهم أن يجاروا من النّار ويصيروا ترابا ، رواه سفيان عن
ليث.
قوله تعالى : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي : يقرءون عليكم كتبي ، (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي : يخوّفونكم بيوم القيامة.
وفي قوله تعالى : (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) قولان : أحدهما
: أقررنا على
أنفسنا بإنذار الرّسل لنا. والثاني
: شهد بعضنا على
بعض بإنذار الرّسل إياهم. ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم ، فقال : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : بزينتها وإمهالهم فيها (وَشَهِدُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ) أي : أقرّوا أنهم كانوا في الدنيا كافرين. وقال مقاتل :
ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشّرك والكفر.
(ذلِكَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١))
قوله تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) قال الزّجّاج : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرّسل ، وأمر
عذاب من كذّب ، لأنه لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم ، أي : لا يهلكهم حتى يبعث إليهم
رسولا. قال ابن عباس : «بظلم» أي : بشرك (وَأَهْلُها غافِلُونَ) لم يأتهم رسول.
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))
قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي : لكلّ عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات ، أي : منازل
يبلغها بعمله ، إن كان خيرا فخيرا ، وإن كان شرّا فشرّا. وإنما سمّيت درجات
لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط ، كتفاضل الدّرج.
قوله تعالى : (عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرأ الجمهور بالياء ؛ وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب.
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ
ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما
يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما
تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤))
قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) يريد : الغنيّ عن خلقه (ذُو الرَّحْمَةِ) قال ابن عباس : بأوليائه وأهل طاعته. وقال غيره : بالكلّ.
ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين. (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ) بالهلاك ؛ وقيل : هذا الوعيد لأهل مكّة ؛ (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما
يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ) أي : ابتدأكم (مِنْ ذُرِّيَّةِ
قَوْمٍ آخَرِينَ) يعني : آباءهم الماضين. (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) به من مجيء السّعة والحشر (لَآتٍ وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ) أي : بفائتين. قال أبو عبيدة : يقال : أعجزني كذا ، أي :
فاتني وسبقني.
(قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ
لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))
قوله تعالى : (عَلى مَكانَتِكُمْ) وقرأ أبو بكر عن عاصم : «مكاناتكم» على الجمع. قال ابن
قتيبة : أي : على موضعكم ، يقال : مكان ومكانة ، ومنزل ومنزلة. وقال الزّجّاج :
اعملوا على تمكّنكم. قال : ويجوز أن يكون المعنى : اعملوا على ما أنتم عليه. تقول
للرجل إذا أمرته أن يثبت على حال : كن على مكانتك.
قوله تعالى : (إِنِّي عامِلٌ) أي : عامل ما أمرني به ربّي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو. وابن عامر ، وعاصم : «تكون»
بالتاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : بالياء. وكذلك خلافهم في (القصص) ، ووجه التأنيث
، اللفظ ، ووجه التّذكير ، أنه ليس بتأنيث حقيقي. وعاقبة الدّار : الجنّة.
والظالمون ها هنا : المشركون. فإن قيل : ظاهر هذه الآية أمرهم بالإقامة على ما هم
عليه ، وذلك لا يجوز. فالجواب : أنّ معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد ؛ فكأنه
قال : أقيموا على ما أنتم عليه ، إن رضيتم بالعذاب ، قاله الزّجّاج.
فصل
: وفي هذه الآية
قولان : أحدهما
: أنّ المراد بها
التّهديد ؛ فعلى هذا هي محكمة. والثاني
: أنّ المراد بها
ترك القتال ، فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى
اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
(١٣٦))
قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) قال ابن قتيبة : ذرأ ، بمعنى خلق. (مِنَ الْحَرْثِ) وهو الزّرع. (والأنعام) : الإبل والبقر والغنم ، وكانوا
إذا زرعوا ، خطّوا خطّا ، فقالوا : هذا لله ، وهذا لآلهتنا ، فإذا حصدوا ما جعلوه
لله ، فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم ، تركوه وقالوا : هي إليه محتاجة ؛ وإذا
حصدوا ما جعلوه لآلهتهم ، فوقع منه شيء في مال الله ، أعادوه إلى موضعه. وكانوا
يجعلون من الأنعام شيئا لله ؛ فإذا ولدت إناثها ميّتا أكلوه ، وإذا ولدت أنعام
آلهتهم ميّتا عظّموه فلم يأكلوه. وقال الزّجّاج : معنى الآية : وجعلوا لله ممّا
ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، وجعلوا لشركائهم نصيبا ، يدلّ عليه قوله تعالى : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وَهذا لِشُرَكائِنا) ، فدلّ بالإشارة إلى النّصيبين على نصيب الشّركاء ؛ وكانوا
إذا زكا ما لله ، ولم يزك ما لشركائهم ، ردّوا الزّاكي على أصنامهم ، وقالوا : هذه
أحوج ، والله غنيّ ؛ وإذا زكا ما للأصنام ، ولم يزك ما لله ، أقرّوه على ما به.
قال المفسّرون : وكانوا يصرفون ما جعلوا لله إلى الضّيفان والمساكين. فمعنى قوله :
(فَلا يَصِلُ إِلَى
اللهِ) أي : إلى هؤلاء. ويصرفون نصيب آلهتهم في الزّرع إلى
النّفقة على خدّامها. فأمّا نصيبها في الأنعام ، ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان للنّفقة عليها أيضا. والثاني : أنّهم كانوا يتقرّبون به ، فيذبحونه لها. والثالث : أنه البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام. وقال الحسن
: كان إذا هلك ما لأوثانهم غرموه ، وإذا هلك ما لله لم يغرموه. وقال
ابن زيد : كانوا
لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم ، ولا يذكرون الله على ما
جعلوه للأوثان. فأمّا قوله : «بزعمهم» فقرأ الجمهور : بفتح الزّاي ؛ وقرأ الكسائيّ
، والأعمش : بضمّها. وفي الزّعم ثلاث لغات : ضمّ الزّاي ، وفتحها ، وكسرها ومثله :
السّقط ، والسّقط ؛ والسّقط والفتك ؛ والفتك ، والفتك ؛ والزّعم ، والزّعم ،
والزّعم ، قال الفرّاء : فتح الزاي في الزّعم ، لأهل الحجاز ؛ وضمّها لأسد ؛
وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائيّ.
(وَكَذلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ
وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ) أي : ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زيّن. قال
ابن الأنباري : ويجوز أن يكون «وكذلك» مستأنفا ، غير مشار به إلى ما قبله ؛ فيكون
المعنى : وهكذا زيّن. وقرأ الجمهور : «زيّن» بفتح الزّاي والياء ، ونصب اللام من «قتل»
، وكسر الدّال من «أولادهم» ، ورفع «الشّركاء» ؛ ووجه هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن
عامر : بضمّ زاي «زين» ، ورفع اللام ، ونصب الدّال من «أولادهم» ، وخفض «الشّركاء».
قال أبو عليّ : ومعناها : قتل شركائهم أولادهم ؛ ففصل بين المضاف والمضاف إليه
بالمفعول به ، وهذا قبيح ، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلميّ ،
والحسن : «زين» بالرفع ، «قتل» بالرّفع أيضا ، «أولادهم» بالجرّ ، «شركاؤهم» رفعا.
قال الفرّاء : رفع القتل إذا لم يسمّ فاعله ، ورفع الشّركاء بفعل نواه ، كأنه قال
: زيّنه لهم شركاؤهم. وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة ؛ كأنه قيل : من زيّنه؟
فقال : شركاؤهم. قال مكّيّ بن أبي طالب : وقد روي عن ابن عامر أيضا أنه قرأ بضمّ
الزّاي ، ورفع اللام ، وخفض الأولاد والشّركاء ؛ فيصير الشّركاء اسما للأولاد ،
لمشاركتهم للآباء في النّسب والميراث والدّين.
وللمفسرين في
المراد بشركائهم أربعة أقوال : أحدها
: أنهم الشّياطين ،
قاله الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : شركاؤهم في الشّرك ، قاله قتادة. والثالث : قوم كانوا يخدمون الأوثان ، قاله الفرّاء ، والزّجّاج. والرابع : أنهم الغواة من الناس ، ذكره الماوردي. وإنما أضيف الشركاء
إليهم ، لأنّهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه.
وفي الذي زيّنوه
لهم من قتل أولادهم قولان : أحدهما
: أنه وأد البنات
أحياء خيفة الفقر ، قاله مجاهد. والثاني
: أنه كان يحلف
أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاما أن ينحر أحدهم ، كما حلف عبد المطّلب في نحر
عبد الله ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل.
قوله تعالى : (لِيُرْدُوهُمْ) أي : ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان : أحدهما : أنّها لام «كي». والثاني : أنّها لام العاقبة ، كقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) أي : آل أمرهم إلى الرّدى ، لا أنهم قصدوا ذلك. قوله تعالى
: (وَلِيَلْبِسُوا
عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي : ليخلطوا. قال ابن عباس : ليدخلوا عليهم الشّكّ في
دينهم ؛ وكانوا على دين إسماعيل ، فرجعوا عنه بتزيين الشّياطين.
__________________
قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) قال ابن عباس : كان أهل الجاهليّة إذا دفنوا بناتهم قالوا
: إنّ الله أمرنا بذلك ؛ فقال : (فَذَرْهُمْ وَما
يَفْتَرُونَ) ؛ أي : يكذبون ؛ وهذا تهديد ووعيد ، فهو محكم ، وقال قوم :
مقصوده ترك قتالهم ، فهو منسوخ بآية السيف.
(وَقالُوا هذِهِ
أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ
وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا
افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨))
قوله تعالى : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ
حِجْرٌ) الحرث : الزّرع ، والحجر : الحرام ؛ والمعنى : أنهم حرّموا
أنعاما وحرثا جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة : وإنما قيل للحرام : حجر ، لأنه حجر
على الناس أن يصيبوه. وقرأ الحسن ، وقتادة : «حجر» بضمّ الحاء. قال الفرّاء : يقال
: حجر ، وحجر ، بكسر الحاء وضمّها ؛ وهي في قراءة ابن مسعود : «حرج» ، مثل : «جذب»
و «جبذ». وفي هذه الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان : أحدهما : أنّها البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام. والثاني : أنّها الذّبائح للأوثان ، وقد سبق ذكرهما.
قوله تعالى : (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) هو كقولك : لا يذوقها إلّا من نريد. وفيمن أطلقوا له
تناولها قولان : أحدهما
: أنهم منعوا منها
النّساء ، وجعلوها للرّجال ، قاله ابن السّائب. والثاني : عكسه ، قاله ابن زيد. قال الزّجّاج : أعلم الله عزوجل أنّ هذا التحريم زعم منهم ، لا حجّة فيه ولا برهان. وفي
قوله تعالى : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُها) ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الحام ، قاله ابن عباس. والثاني : البحيرة ، كانوا لا يحجّون عليها ، قاله أبو وائل. والثالث : البحيرة ، والسّائبة ، والحام ، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى : (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ
عَلَيْهَا) هي قربان آلهتهم ، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصّة. وقال
أبو وائل. هي التي كانوا لا يحجّون عليها ؛ وقد ذكرنا هذا عنه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) ، فعلى قوله ، الصّفتان لموصوف واحد. وقال مجاهد : كان من
إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء ؛ لا إن ركبوا ولا إن حملوا ولا إن
حلبوا ، ولا إن نتجوا. وفي قوله تعالى : (افْتِراءً عَلَيْهِ) قولان : أحدهما
: أنّ ذكر أسماء
أوثانهم وترك ذكر الله! هو الافتراء. والثاني : أنّ إضافتهم ذلك إلى الله تعالى ، هو الافتراء ؛ لأنّهم
كانوا يقولون : هو حرّم ذلك.
(وَقالُوا ما فِي
بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩))
قوله تعالى : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ) يعني بالأنعام : المحرّمات عندهم ، من البحيرة ، والسّائبة
، والوصيلة. وللمفسّرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه اللبن ،
__________________
قاله ابن عباس ،
وقتادة. والثاني
: الأجنّة ، قاله
مجاهد. والثالث
: الولد واللبن ،
قاله السّدّيّ ، ومقاتل.
قوله تعالى : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) قرأ الجمهور : «خالصة» على لفظ التأنيث. وفيها أربعة أوجه.
أحدها
: أنه إنّما أنّثت
، لأنّ الأنعام مؤنثة ، وما في بطونها مثلها ، قاله الفرّاء. والثاني : أنّ معنى «ما» التأنيث ، لأنها في معنى الجماعة ؛ فكأنه
قال : جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ الهاء دخلت للمبالغة في الوصف ، كما قالوا : «علّامة» و
«نسّابة». والرابع
: أنه أجري مجرى
المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكّرة كقولك : عطاؤك عافية ،
والرّخص نعمة ، ذكرهما ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود ، وأبو العالية ، والضّحّاك ،
والأعمش ، وابن أبي عبلة : «خالص» بالرفع ، من غير هاء. قال الفرّاء : وإنما ذكر لتذكير
«ما». وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وابن يعمر : «خالصه» برفع الصاد
والهاء على ضمير مذكّر ، قال الزّجّاج : والمعنى : ما خلص حيّا. وقرأ قتادة : «خالصة»
بالنّصب. فأمّا الذّكور ، فهم الرجال ، والأزواج : النساء.
قوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) قرأ الأكثرون : «يكن» بالياء ، «ميتة» بالنّصب ؛ وذلك
مردود على لفظ «ما». والمعنى وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير
: «يكن» بالياء ، «ميتة» بالرّفع. وافقه ابن عامر في رفع الميتة ؛ غير أنه قرأ : «تكن»
بالتاء. والمعنى : وإن تحدث وتقع ، فجعل «كان» : تامّة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو
بكر عن عاصم : «تكن» بالتاء ، «ميتة» بالنّصب. والمعنى : وإن تكن الأنعام التي في
البطون ميتة.
قوله تعالى : (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) يعني الرّجال والنّساء. (سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ) قال الزّجّاج : أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب.
(قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما
رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ
(١٤٠))
قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا
أَوْلادَهُمْ) وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : «قتلوا» بالتّشديد. قال ابن
عباس : نزلت في ربيعة ، ومضر ، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية من
العرب. وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السّبي والفاقة ،
ويغذو كلبه. قال الزّجّاج : وقوله : «سفها» منصوب على معنى اللام. تقديره : للسّفه
؛ تقول : فعلت ذلك حذر الشّرّ. وقرأ ابن السّميفع ، والجحدريّ ، ومعاذ القارئ : «سفهاء»
برفع السين وفتح الفاء والهمزة بالمدّ وبالنّصب والهمز.
قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي : كانوا يفعلون ذلك للسّفه من غير أن أتاهم علم في
ذلك ؛ وحرّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث ، وزعموا أنّ الله أمرهم بذلك.
____________________________________
المبالغة في وصف ما
في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور ، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل : «ومحرمة على
أزواجنا» ولكن لما كان التأنيث في «الخالصة» لما ذكرت ، ثم لم يقصد في «المحرم» ما
قصد في «الخالصة» من المبالغة ، رجع فيها إلى تذكير «ما» واستعمال ما هو أولى به
من صفته ا. ه.
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ
مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ
مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) فيه أربعة أقوال :
أحدها
: أنّ المعروشات ما
انبسط على وجه الأرض ، فانتشر مما يعرّش ، كالكرم ، والقرع ، والبطيخ ؛ وغير
معروشات : ما قام على ساق ، كالنّخل ، والزّرع ، وسائر الأشجار. والثاني : أنّ المعروشات : ما أنبته الناس ؛ وغير معروشات : ما خرج
في البراري والجبال من الثّمار ، رويا عن ابن عباس. والثالث : أنّ المعروشات ، وغير المعروشات : الكرم ، منه ما عرش ،
ومنه ما لم يعرّش ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنّ المعروشات : الكروم التي قد عرّش عنبها ، وغير
المعروشات : سائر الشّجر الذي لا يعرّش ، قاله أبو عبيدة.
والأكل : الثّمر. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشابِهاً) قد سبق تفسيره.
قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) هذا أمر إباحة ؛ وقيل : إنّما قدّم الأكل لينهى عن فعل
الجاهليّة في زروعهم من تحريم بعضها.
قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قرأ ابن عامر ، وعاصم وأبو عمرو : بفتح الحاء ، وهي لغة
أهل نجد ، وتميم. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائيّ : بكسرها ، وهي لغة
أهل الحجاز ، ذكره الفرّاء. وفي المراد بهذا الحقّ قولان : أحدهما
: أنه الزّكاة ،
روي عن أنس بن مالك ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن ، وطاوس ، وجابر بن
زيد ، وابن الحنفيّة ، وقتادة في آخرين ؛ فعلى هذا ، الآية محكمة. والثاني : أنه حقّ غير الزّكاة فرض يوم الحصاد ، وهو إطعام من حضر ،
وترك ما سقط من الزّرع والثّمر ، قاله عطاء ومجاهد.
وهل نسخ ذلك ، أم
لا؟ إن قلنا : إنه أمر وجوب ، فهو منسوخ بالزّكاة ؛ وإن قلنا : إنه أمر استحباب ،
فهو باقي الحكم. فإن قيل : هل يجب إيتاء الحقّ يوم الحصاد؟ فالجواب : إن قلنا :
إنه
__________________
إطعام من حضر من
الفقراء ، فذلك يكون يوم الحصاد ؛ وإن قلنا : إنه الزّكاة ، فقد ذكرت عنه ثلاثة
أجوبة : أحدها
: أنّ الأمر
بالإيتاء محمول على النّخيل ، لأنّ صدقتها تجب يوم الحصاد. فأمّا الزّروع ، فالأمر
بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج ؛ إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد ؛ فيؤخّر
إلى زمان التّنقية ، ذكره بعض السّلف. والثاني : أنّ اليوم ظرف للحقّ ، لا للإيتاء ؛ فكأنّه قال : وآتوا
حقّه الذي وجب يوم حصاده بعد التّنقية. والثالث : أنّ فائدة ذكر الحصاد أنّ الحقّ لا يجب فيه بنفس خروجه
وبلوغه ، إنّما يجب يوم حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن يتوهم أنّ الحقّ يلزم بنفس
نباته قبل قطعه ، فأفادت الآية أنّ الوجوب فيما يحصل في اليد ، دون ما يتلف ، ذكر
الجوابين القاضي أبو يعلى.
وفي قوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا) ستة أقوال : أحدها
: أنّه تجاوز
المفروض في الزّكاة إلى حدّ يجحف به ، قاله أبو العالية ، وابن جريج. وروى أبو صالح
عن ابن عباس : أنّ ثابت بن قيس بن شمّاس صرم خمسمائة نخلة ، ثم قسمها في يوم واحد
، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا ، فكره الله تعالى له ذلك ، فنزلت : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ). والثاني
: أنّ الإسراف :
يمنع الصّدقة الواجبة! قاله سعيد بن المسيّب. والثالث : أنه الإنفاق في المعصية ، قاله مجاهد ، والزّهريّ. والرابع : أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام ، قاله عطيّة ، وابن
السائب. والخامس
: أنه خطاب للسلطان
لئلّا يأخذ فوق الواجب من الصّدقة ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزّكاة ، قاله ابن بحر.
(وَمِنَ الْأَنْعامِ
حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢))
قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) هذا نسق على ما قبله ؛ والمعنى : أنشأ جنّات وأنشأ حمولة
وفرشا. وفي ذلك خمسة أقوال : أحدها
: أنّ الحمولة : ما
حمل من الإبل ، والفرش : صغارها ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وابن قتيبة.
والثاني
: أنّ الحمولة : ما
انتفعت بظهورها ، والفرش : الرّاعية ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : أنّ الحمولة : الإبل : والخيل ، والبغال ، والحمير ، وكلّ
شيء يحمل عليه. والفرش : الغنم : رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع :
__________________
الحمولة : من
الإبل ، والفرش : من الغنم ، قاله الضّحّاك. والخامس : الحمولة : الإبل والبقر. والفرش : الغنم ، وما لا يحمل
عليه من الإبل ، قاله قتادة. وقرأ عكرمة ، وأبو المتوكّل ؛ وأبو الجوزاء : «حمولة»
بضم الحاء.
قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) قال الزّجّاج : المعنى : لا تحرّموا ما حرّمتم مما جرى
ذكره ، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ) أي : طرقه. قال : وقوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بدل من قوله تعالى : (حَمُولَةً وَفَرْشاً). والزّوج ، في اللغة : الواحد الذي يكون معه آخر. قلت :
وهذا كلام يفتقر إلى تمام ، وهو أن يقال : الزّوج : ما كان معه آخر من جنسه ،
فحينئذ يقال لكلّ واحد منهما : زوج.
(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ
أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ
نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ
وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ
أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ
إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً
لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى
طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ
لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))
قوله تعالى : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الضّأن : ذوات الصّوف من الغنم ، والمعز : ذوات الشّعر
منها. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : من «المعز» بفتح العين. وقرأ نافع
، وحمزة ، وعاصم ، والكسائيّ : بتسكين العين. والمراد بالأنثيين : الذّكر والأنثى.
(قُلْ آلذَّكَرَيْنِ) من الضّأن والمعز حرّم الله عليكم (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منها؟ المعنى : فإن كان ما حرّم الله عليكم الذّكرين. فكلّ
الذكور حرام ، وإن كان حرّم الأنثيين ، فكلّ الإناث حرام ، وإن كان حرّم ما اشتملت
عليه أرحام الأنثيين ، فهي تشتمل على الذّكور ، وتشتمل على الإناث ، وتشتمل على
الذّكور والإناث ، فيكون كلّ جنين حراما. وقال ابن الأنباري : معنى الآية : ألحقكم
التّحريم من جهة الذّكرين ، أم من جهة الأنثيين؟ فإن قالوا : من جهة الذّكرين حرم
عليهم كلّ ذكر ، وإن قالوا : من جهة الأنثيين ، حرمت عليهم كلّ أنثى ، وإن قالوا :
من جهة الرّحم ، حرم عليهم الذّكر والأنثى. وقال ابن جرير الطّبريّ : إن قالوا :
حرّم الذّكرين ، أوجبوا تحريم كلّ ذكر من الضّأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض
الذّكران منها وظهوره ، وفي ذلك فساد دعواهم. وإن قالوا : حرّم الأنثيين أوجبوا
تحريم لحوم كلّ أنثى من ولد الضّأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره.
وإن قالوا : ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها
وإناثها. قال المفسّرون : فاحتجّ الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها ، لأنهم
كانوا يحرّمون أجناسا من النّعم ، بعضها على الرّجال والنّساء ، وبعضها على
النّساء دون الرّجال.
وفي قوله تعالى : (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ) إبطال لما حرّموه من البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة
والحام. وفي قوله تعالى : (أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) ، إبطال قولهم : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا).
قوله تعالى : (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) قال الزّجّاج : المعنى : فسروا ما حرّمتم بعلم ، أي : أنتم
لا علم
لكم ، لأنكم لا
تؤمنون بكتاب. (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ) أي : هل شاهدتم الله قد حرّم هذا ، إذا كنتم لا تؤمنون
برسول؟
قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحي ، ومن جاء بعده.
والظّالمون ها هنا : المشركون.
(قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))
قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) نبّههم بهذا على أنّ التّحريم والتّحليل ، إنما يثبت بالوحي
، وقال طاوس ، ومجاهد : معنى الآية : لا أجد محرّما مما كنتم تستحلّون في الجاهلية
إلّا هذا. والمراد بالطّاعم : الآكل. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً) أي : إلّا أن يكون المأكول ميتة. قرأ ابن كثير ، وحمزة : «إلا
أن يكون» بالياء ، «ميتة» نصبا! وقرأ ابن عامر : «إلا أن تكون» بالتاء ، «ميتة»
بالرفع ؛ على معنى : إلّا أن تقع ميتة ، أو تحدث ميتة. (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) قال قتادة : إنما حرّم المسفوح. فأما اللحم إذا خالطه دم ،
فلا بأس به. وقال الزّجّاج : المسفوح : المصبوب. وكانوا إذا ذكّوا يأكلون الدّم
كما يأكلون اللحم. والرّجس : اسم لما يستقذر ، وللعذاب. (أَوْ فِسْقاً) المعنى : أو أن يكون المأكول فسقا. (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله ، فسمّي ما ذكر
عليه غير اسم الله فسقا ؛ والفسق : الخروج من الدّين.
فصل
: اختلف علماء
النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين :
__________________
أحدهما
: أنها محكمة.
ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها خبر ، والخبر لا يدخله النّسخ. والثاني : أنها جاءت جوابا عن سؤال سألوه ؛ فكان الجواب بقدر السّؤال
، ثم حرّم بعد ذلك ما حرّم. والثالث
: أنه ليس في
الحيوان محرّم إلّا ما ذكر فيها.
والقول
الثاني : أنها منسوخة بما
ذكر في (المائدة) من المنخنقة والموقوذة ، وفي السّنّة من تحريم الحمر الأهليّة ،
وكلّ ذي ناب من السّباع ، ومخلب من الطّير. وقيل : إنّ آية (المائدة) داخلة في هذه
الآية ، لأنّ تلك الأشياء كلّها ميتة.
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))
قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وقرأ الحسن ، والأعمش : «ظفر» بسكون الفاء ؛ وهذا التّحريم
تحريم بلوى وعقوبة. وفي ذي الظّفر ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه ما ليس
بمنفرج الأصابع ، كالإبل ، والنّعام ، والإوز ، والبط ، قاله ابن عباس ، وابن جبير
، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثاني
: أنّه الإبل فقط ،
قاله ابن زيد. والثالث
: كلّ ذي حافر من
الدّواب ، ومخلب من الطّير ، قاله ابن قتيبة. قال : وسمّي الحافر ظفرا على
الاستعارة ؛ والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم ، استعارة ؛ وأنشدوا :
سأمنعها أو سوف
أجعل أمرها
|
|
إلى ملك أظلافه
لم تشقّق
|
أراد قدميه ؛
وإنّما الأظلاف للشّاء والبقر. قال ابن الأنباري : الظّفر ها هنا ، يجري مجرى
الظفر للإنسان. وفيه ثلاث لغات أعلاهنّ : ظفر ؛ ويقال : ظفر ، وأظفور. وقال الشاعر
:
ألم تر أنّ
الموت أدرك من مضى
|
|
فلم يبق منه ذا
جناح وذا ظفر
|
وقال الآخر :
لقد كنت ذا ناب
وظفر على العدى
|
|
فأصبحت ما يخشون
نابي ولا ظفري
|
وقال الآخر :
ما بين لقمته
الأولى إذا انحدرت
|
|
وبين أخرى تليها
قيد أظفور
|
وفي شحوم البقر
والغنم ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه إنما حرّم من
ذلك شحوم الثّروب خاصّة ، قاله قتادة. والثاني : شحوم الثّروب والكلى ، قاله السّدّيّ ، وابن زيد. والثالث : كلّ شحم لم يكن مختلطا
__________________
بعظم ، ولا على
عظم ، قاله ابن جريج. وفي قوله تعالى : (إِلَّا ما حَمَلَتْ
ظُهُورُهُما) ثلاثة أقوال :أحدها : أنه ما علق بالظّهر من الشّحوم ، قاله ابن عباس. والثاني : الألية ، قاله أبو صالح ، والسّدّيّ. والثالث : ما علق بالظّهر والجنب من داخل بطونهما ، قاله قتادة.
فأمّا الحوايا ، فللمفسّرين فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن عباس ، والحسن ،
وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن قتيبة : هي المباعر. وقال ابن زيد
: هي بنات اللبن ، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء. وقال الفرّاء : الحوايا : هي
المباعر ، وبنات اللبن ، وقال الأصمعيّ : هي بنات اللبن ، واحدها : حاوياء ، وحاوية ، وحويّة. قال الشاعر :
أقتلهم ولا أرى
معاوية
|
|
الجاحظ العين
العظيم الحاوية
|
وقال الآخر :
كأنّ نقيق الحبّ
في حاويائه
|
|
فحيح الأفاعي أو
نقيق العقارب
|
وقال أبو عبيدة :
الحوايا اسم لجميع ما تحوّى من البطن ، أي : ما استدار منها. وقال الزّجّاج
:الحوايا : اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء ، أي : استدار. وقال ابن جرير الطّبريّ
: الحوايا : ما تحوّى من البطن. فاجتمع واستدار ، وهي بنات اللبن ، وهي المباعر ،
وتسمى : المرابض ، وفيها الأمعاء.
قوله تعالى : (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه شحم البطن والألية ، لأنهما على عظم ، قاله السّدّيّ. والثاني : كلّ شحم في القوائم ، والجنب ، والرّأس. والعينين ،
والأذنين ، فهو مما اختلط بعظم ، قاله ابن جريج. واتفقوا على أنّ ما حملت ظهورهما
حلال ، بالاستثناء من التّحريم. فأمّا ما حملت الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ، ففيه
قولان : أحدهما
: أنه داخل في
الاستثناء ، فهو مباح ؛ والمعنى : وأبيح لهم ما حملت الحوايا من الشّحم وما اختلط
بعظم ، وهذا قول الأكثرين. والثاني
: أنه نسق على ما
حرّم ، لا على الاستثناء ؛ فالمعنى : حرّمنا عليهم شحومهما ، أو الحوايا ، أو ما
اختلط بعظم ، إلّا ما حملت الظّهور ، فإنه غير محرّم ، قاله الزّجّاج. فأمّا «أو»
المذكورة هاهنا ، فهي بمعنى الواو ، كقوله تعالى (آثِماً أَوْ كَفُوراً).
قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ) أي : ذلك التّحريم عقوبة لهم على بغيهم. وفي بغيهم قولان :
أحدهما
: أنه قتلهم
الأنبياء ، وأكلهم الرّبا. والثاني
: أنه تحريم ما
أحلّ لهم.
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))
قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ).
(٥٦١) قال ابن
عباس : لمّا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للمشركين : «هذا ما أوحي إليّ أنّه محرّم على المسلمين
وعلى اليهود» ، قالوا : فإنّك لم تصب ، فنزلت هذه الآية.
____________________________________
(٥٦١) لم أقف على
إسناده ، وتفرد المصنف بذكره دليل وهنه.
__________________
وفي المكذّبين
قولان : أحدهما
: المشركون ، قاله
ابن عباس. والثاني
: اليهود ، قاله
مجاهد.
والمراد بذكر
الرّحمة الواسعة ، أنه لا يعجّل بالعقوبة. والبأس : العذاب. وفي المراد بالمجرمين
قولان : أحدهما
: المشركون. والثاني : المكذّبون.
(سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨))
قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي : إذا لزمتهم الحجّة ، وتيقّنوا باطل ما هم عليه من
الشّرك وتحريم ما لم يحرّمه الله (لَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكْنا) ، فجعلوا هذا حجّة لهم في إقامتهم على الباطل ؛ فكأنّهم
قالوا : لو لم يرض ما نحن عليه ، لحال بيننا وبينه ، وإنّما قالوا ذلك مستهزئين ،
ودافعين للاحتجاج عليهم ، فيقال لهم : لم تقولون عن مخالفيكم : إنهم ضالّون ،
وإنّما هم على المشيئة أيضا؟ فلا حجّة لهم ، لأنّهم تعلّقوا بالمشيئة ، وتركوا
الأمر ، ومشيئة الله تعمّ جميع الكائنات ، وأمره لا يعمّ مراداته ، فعلى العبد
اتباع الأمر ، وليس له أن يتعلّل بالمشيئة بعد ورود الأمر.
قوله تعالى : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) قال ابن عباس : أي : قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك ، (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي : عذابنا. (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ
مِنْ عِلْمٍ) أي : كتاب نزّل من عند الله في تحريم ما حرّمتم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) لا اليقين ؛ و «إن» بمعنى «ما». و «تخرصون» : تكذبون.
(قُلْ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩))
قوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) قال الزّجّاج : حجّته البالغة : تبيينه أنّه الواحد ،
وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة. قال السّدّيّ : (فَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يوم أخذ الميثاق.
(قُلْ هَلُمَّ
شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))
قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) قال الزّجّاج : زعم سيبويه أنّ (هَلُمَ) هاء ضمّت إليها «لمّ» ، وجعلتا كالكلمة الواحدة ؛ فأكثر
اللغات أن يقال : «هلم» : للواحد والاثنين والجماعة ؛ بذلك جاء القرآن. ومن العرب
من يثنّي ويجمع ويؤنّث ، فيقول للذّكر : «هلمّ» وللمرأة : «هلمّي» ، وللاثنين «هلمّا»
، وللثنتين : «هلمّا» ، وللجماعة : «هلمّوا» ، وللنّسوة : «هلممن». وقال ابن قتيبة
: (هَلُمَ) ، بمعنى : «تعال». وأهل الحجاز لا يثنّونها ولا يجمعونها ،
وأهل نجد يجعلونها من «هلممت» فيثنّون ويجمعون ويؤنّثون ، وتوصل باللام ، فيقال : «هلمّ
لك» ، «وهلمّ لكما». قال : وقال الخليل : أصلها «لمّ» ، وزيدت الهاء في أوّلها.
وخالفه الفرّاء فقال : أصلها «هل» ضمّ إليها «أم» ، والرّفعة التي في اللام من
همزة «أمّ» لمّا تركت انتقلت إلى ما قبلها ؛ وكذلك «اللهمّ» يرى أصلها : «يا الله
أمّنا بخير» فكثرت في الكلام ، فاختلطت ، وتركت الهمزة. وقال ابن الأنباري : معنى «هلمّ»
: أقبل ؛ وأصله : «أمّ يا رجل» ، أي : «اقصد» ، فضمّوا «هل» إلى «أمّ» وجعلوهما
حرفا واحدا ، وأزالوا «أم» عن التّصرّف ،
وحوّلوا ضمّة همزة
«أمّ» إلى اللام ، وأسقطوا الهمزة ، فاتّصلت الميم باللام. وإذا قال الرجل للرجل ؛
«هلمّ» ، فأراد أن يقول : لا أفعل ، قال : «لا أهلمّ ولا أهلمّ». قال مجاهد : هذه
الآية جواب قولهم : إنّ الله حرّم البحيرة ، والسّائبة. قال مقاتل : الذين يشهدون
أنّ الله حرّم هذا الحرث والأنعام ، (فَإِنْ شَهِدُوا) أنّ الله حرّمه (فَلا تَشْهَدْ
مَعَهُمْ) أي : لا تصدّق قولهم.
(قُلْ تَعالَوْا
أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما
بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١))
قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) «ما» بمعنى «الذي».
وفي «لا» قولان : أحدهما
: أنها زائدة كقوله
تعالى : (أَلَّا تَسْجُدَ). والثاني
: أنها ليست زائدة
، وإنّما هي باقية ؛ فعلى هذا القول ، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أن يكون قوله : «أن لا تشركوا» ، محمولا على المعنى ؛
فتقديره : أتل عليكم أن لا تشركوا ، أي أتل تحريم الشّرك. والثاني : أن يكون المعنى : أوصيكم أن لا تشركوا ، لأنّ قوله تعالى :
(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) محمول على معنى : أوصيكم بالوالدين إحسانا ، ذكرهما
الزّجّاج. والثالث
: أنّ الكلام تمّ
عند قوله : (حَرَّمَ رَبُّكُمْ). ثمّ في قوله : «عليكم» قولان : أحدهما : أنها إغراء ، كقوله (عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ) ، فالتقدير : عليكم أن لا تشركوا ، ذكره ابن الأنباري. والثاني : أن يكون بمعنى : فرض عليكم ، ووجب عليكم أن لا تشركوا. وفي
هذا الشّرك قولان : أحدهما
: أنه ادّعاء شريك
مع الله عزوجل. والثاني
: أنه طاعة غيره في
معصيته.
قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) يريد دفن البنات أحياء ، (مِنْ إِمْلاقٍ) أي : من خوف فقر.
قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ
مِنْها وَما بَطَنَ) فيه خمسة أقوال :
أحدها
: أنّ الفواحش :
الزّنا ، وما ظهر منه : الإعلان به ، وما بطن : الاستسرار به ، قاله ابن عباس ،
والحسن ، والسّدّيّ. والثاني
: أنّ ما ظهر :
الخمر ، ونكاح المحرّمات. وما بطن : الزّنا ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد. والثالث : أنّ ما ظهر : الخمر ، وما بطن : الزّنا ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنه عامّ في الفواحش. وظاهرها : علانيتها ، وباطنها :
سرّها ، قاله قتادة. والخامس
: أنّ ما ظهر :
أفعال الجوارح ، وما بطن : اعتقاد القلوب ، ذكره الماورديّ في تفسير هذا الموضع ،
وفي تفسير قوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) .
والنّفس التي حرّم
الله : نفس مسلم أو معاهد. والمراد بالحقّ : ادن الشّرع.
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢))
__________________
قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) إنما خصّ مال اليتيم ، لأنّ الطمع فيه ، لقلّة مراعيه وضعف
مالكه ؛ أقوى. وفي قوله : (إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) أربعة أقوال : أحدها : أنه أكل الوصيّ المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته ، قاله
ابن عباس ، وابن زيد. والثاني
: التجارة فيه ،
قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. والثالث : أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه ، قاله ابن السّائب. والرابع : أنه حفظه عليه ، وتثميره له ، قاله الزّجّاج. قال : و «حتى»
محمولة على المعنى ؛ فالمعنى : احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه ، فإذا بلغ أشدّه ،
فادفعوه إليه.
فأمّا الأشدّ ،
فهو استحكام قوة الشباب والسّنّ. قال ابن قتيبة : ومعنى الآية : حتى يتناهى في
النّبات إلى حدّ الرّجال. يقال : بلغ أشدّه : إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في
النّقصان. وقال أبو عبيدة : الأشدّ لا واحد له منه ؛ فإن أكرهوا على ذلك ، قالوا :
شدّ ، بمنزلة : ضبّ ؛ والجمع : أضبّ. قاله ابن الأنباري : وقال جماعة من البصريين
: واحد الأشد : شدّ ، بضمّ الشين. وقال بعض البصريين : واحد الأشدّ : شدّة ،
كقولهم : نعمة ، وأنعم. وقال بعض أهل اللغة : الأشدّ : اسم لا واحد له. وللمفسّرين
في الأشد ثمانية أقوال : أحدها
: أنه ثلاث وثلاثون
سنة ، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني : ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة ، قاله أبو صالح عن ابن
عباس. والثالث
: أربعون سنة ، روي
عن عائشة عليهاالسلام. والرابع
: ثماني عشرة سنة ،
قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. والخامس
: خمس وعشرون سنة ،
قاله عكرمة. والسادس
: أربعة وثلاثون
سنة ، قاله سفيان الثّوري. والسابع
: ثلاثون سنة ،
قاله السّدّيّ. وقال : ثم جاء بعد هذه الآية : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ) فكأنه يشير إلى النّسخ. والثامن : بلوغ الحلم ، قاله زيد بن أسلم ، والشّعبيّ ، ويحيى بن
يعمر ، وربيعة ، ومالك بن أنس ، وهو الصحيح. ولا أظنّ بالذين حكينا عنهم الأقوال
التي قبله فسّروا هذه الآية بما ذكر عنهم ، وإنما أظن أنّ الذين جمعوا التفاسير ،
نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ) إلى هذا المكان ، وذلك نهاية الأشدّ ، وهذا ابتداء تمامه ؛
وليس هذا مثل ذاك. قال ابن جرير : وفي الكلام محذوف ، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما
ظهر عمّا حذف ، لأنّ المعنى : حتى يبلغ أشدّه ؛ فإذا بلغ أشدّه ، وآنستم منه رشدا
، فادفعوا إليه ماله. وهذا الذي ذكره ابن جرير ليس بصحيح ، لأنّ إيناس الرّشد
استفيد من سورة (النساء) وكذلك أولياء اليتامى ، فحمل المطلق على المقيد.
قوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أي : أتمّوه ولا تنقصوا منه. (وَالْمِيزانَ) أي : وزن الميزان. والقسط : العدل. (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : ما يسعها. ولا تضيق عنه. قال القاضي أبو يعلى : لمّا
كان الكيل والوزن يتعذّر فيهما التّحديد بأقل القليل ، كلّفنا الاجتهاد في
التّحرّي ، دون تحقيق الكيل والوزن. قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) أي : إذا تكلّمتم أو شهدتم ، فقولوا الحقّ ، ولو كان
المشهود له أو عليه ذا قرابة. وعهد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به ،
وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : لتذكّروه وتأخذوا به. قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «تذّكّرون»
و «يذّكّرون» و «يذّكّر الإنسان» و «أن يذّكّر» ، و «ليذّكّروا» مشدّدا ذلك
__________________
كلّه. وقرأ نافع ،
وأبو بكر عن عاصم ، وابن عامر كلّ ذلك بالتّشديد ، إلّا قوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) فإنّهم خفّفوه. روى أبان ، وحفص عن عاصم : «يذكرون» خفيفة
الذال في جميع القرآن. قرأ حمزة ، والكسائيّ : «يذكّرون» مشدّدا إذا كان بالياء ،
ومخفّفا إذا كان بالتاء.
(وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))
قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو : «وأنّ» بفتح
الألف مع تشديد النون. قال الفرّاء : إن شئت جعلت «أن» مفتوحة بوقوع «أتل» عليها ؛
وإن شئت جعلتها خفضا ، على معنى : ذلكم وصّاكم به ، وبأنّ هذا صراطي مستقيما. وقرأ
ابن عامر بفتح الألف أيضا ، إلا أنه خفّف النّون ، فجعلها مخفّفة من الثقيلة ؛
وحكم إعرابها حكم تلك. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : بتشديد النون مع كسر الألف. قال
الفرّاء : وكسر الألف على الاستئناف. وفي الصّراط قولان : أحدهما : أنه القرآن. والثاني : الإسلام. وقد بينّا إعراب قوله : «مستقيما». فأما «السّبل»
، فقال ابن عباس : هي الضّلالات. وقال مجاهد : البدع والشّبهات. وقال مقاتل : أراد
ما حرّموا على أنفسهم من الأنعام والحرث. (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ
عَنْ سَبِيلِهِ) أي : فتضلّكم عن دينه.
(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤))
قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) قال الزّجّاج : «ثمّ» ها هنا للعطف على معنى التّلاوة ؛
فالمعنى : أتل ما حرّم ربّكم ، ثمّ أتل عليكم ما آتاه الله موسى. وقال ابن
الأنباري : الذي بعد «ثمّ» مقدّم على الذي قبلها في النّية ؛ والتقدير : ثمّ كنّا
قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمّد صلىاللهعليهوسلم.
قوله تعالى : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) في قوله تعالى : (تَماماً) قولان :
أحدهما
: أنها كلمة متّصلة
بما بعدها ؛ تقول : أعطيتك كذا تماما على كذا ، وتماما لكذا ، وهذا قول الجمهور. والثاني : أنّ قوله : (تَماماً) كلمة قائمة بنفسها ، غير متّصلة بما بعدها ؛ والتّقدير :
آتينا موسى الكتاب تماما ، أي : في دفعة واحدة ، لم نفرّق إنزاله كما فرّق إنزال
القرآن ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. وفي المشار إليه بقوله : (أَحْسَنُ) أربعة أقوال : أحدها : أنه الله عزوجل : ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : تماما على إحسان الله إلى أنبيائه ، قاله ابن زيد. والثاني : تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى ؛ وعلى هذين القولين
، يكون «الذي» بمعنى «ما». والقول
الثاني : أنه إبراهيم
الخليل عليهالسلام ؛ فالمعنى : تماما للنّعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة
الله ، وكانت نبوّة موسى نعمة على إبراهيم ، لأنه من ولده ، ذكره الماوردي. والقول
الثالث : أنه كلّ محسن من الأنبياء ، وغيرهم. وقال مجاهد : تماما على المحسنين ،
أي : تماما لكلّ محسن. وعلى هذا القول ، يكون «الذي» بمعنى «من» ، و «على» بمعنى
لام الجرّ ؛ ومن هذا قول العرب : أتمّ عليه ، وأتمّ له. قال الرّاعي :
رعته أشهرا وخلا عليها
أي : لها. قال ابن
قتيبة : ومثل هذا أن تقول : أوصي بمالي للذي غزا وحجّ ؛ تريد : للغازين والحاجّين.
والقول الرابع : أنه موسى. ثمّ في معنى : «أحسن» قولان : أحدهما : أحسن في الدّنيا بطاعة الله عزوجل. قال الحسن ، وقتادة : تماما لكرامته في الجنّة إلى إحسانه
في الدنيا. وقال الرّبيع : هو إحسان موسى بطاعته. وقال ابن جرير : تماما لنعمنا
عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا. والثاني : أحسن في العلم وكتب الله القديمة ؛ وكأنه زيد على ما أحسنه
من التّوراة ؛ ويكون «التّمام» بمعنى الزّيادة ، ذكره ابن الأنباري. فعلى هذين
القولين ، يكون «الذي» بمعنى : «ما».
وقرأ أبو عبد
الرّحمن السّلمي ، وأبو رزين ، والحسن ، وابن يعمر : «على الذي أحسن» ، بالرفع. قال
الزّجّاج : معناه : على الذي هو أحسن الأشياء. وقرأ عبد الله بن عمرو ، وأبو
المتوكّل ، وأبو العالية : «على الذي أحسن» برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون ؛
وهي تحتمل الإحسان ، وتحتمل العلم.
قوله تعالى : (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : تبيانا لكلّ شيء من أمر شريعتهم ممّا يحتاجون إلى
علمه ، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء.
(وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥))
قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) يعني القرآن ، (فَاتَّبِعُوهُ
وَاتَّقُوا) أن تخالفوه (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ). قال الزّجّاج : لتكونوا راجين للرّحمة.
(أَنْ تَقُولُوا
إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦))
قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا). سبب نزولها :
(٥٦٢) أنّ كفّار
مكّة قالوا : قاتل الله اليهود والنّصارى ، كيف كذّبوا أنبياءهم ؛ فو الله لو
جاءنا نذير وكتاب ، لكنا أهدى منهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.
قال الفرّاء : «أن»
في موضع نصب في مكانين : أحدهما
: أنزلناه لئلا
تقولوا. والآخر : من قوله : واتّقوا أن تقولوا. وذكر الزّجّاج عن البصريين ، أنّ
معناه : أنزلناه ، كراهة أن تقولوا ؛ ولا يجيزون إضمار «لا». فأمّا الخطاب بهذه
الآية ، فهو لأهل مكّة ؛ والمراد إثبات الحجّة عليهم بإنزال القرآن كي لا يقولوا
يوم القيامة : إنّ التّوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنّصارى ، وكنّا غافلين
عمّا فيهما. و «دراستهم» : قراءتهم الكتاب. قال الكسائيّ. (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ
لَغافِلِينَ) لا نعلم ما هي ، لأنّ كتبهم لم تكن بلغتنا ، فأنزل الله
كتابا بلغتهم لتنقطع حجّتهم.
____________________________________
(٥٦٢) باطل. عزاه
المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء والمتن باطل.
__________________
(أَوْ تَقُولُوا لَوْ
أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ
بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا
سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))
قوله تعالى : (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) قال الزّجّاج : إنّما كانوا يقولون هذا ، لأنّهم مدلّون
بالأذهان والأفهام ، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم ، وهم أمّيّون لا يكتبون. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) أي : ما فيه البيان وقطع الشّبهات. قال ابن عباس : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) أي : حجّة ، وهو النبيّ ، والقرآن ، والهدى ، والبيان ،
والرّحمة ، والنّعمة. (فَمَنْ أَظْلَمُ) أي : أكفر (مِمَّنْ كَذَّبَ
بِآياتِ اللهِ) يعني محمّدا والقرآن. (وَصَدَفَ عَنْها) : أعرض فلم يؤمن بها. وسوء العذاب : قبيحه.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً
إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً
قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : ينتظرون (إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تأتيهم»
بالتاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «يأتيهم» بالياء. وهذا الإتيان لقبض أرواحهم.
وقال مقاتل : المراد بالملائكة : ملك الموت وحده.
قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال الحسن : أو يأتي أمر ربّك. وقال الزّجّاج : أو يأتي
إهلاكه وانتقامه ، إمّا بعذاب عاجل ، أو بالقيامة. قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وروى عبد الوارث إلّا القزّاز : بتسكين ياء «أو يأتي» ،
وفتحها الباقون. وفي هذه الآية أربعة أقوال :
(٥٦٣) أحدها : أنه طلوع الشّمس من مغربها ، رواه أبو سعيد الخدريّ عن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وبه قال ابن مسعود في رواية زرارة بن أوفى عنه ، وعبد
الله بن عمرو ، ومجاهد وقتادة ، والسّدّيّ.
(٥٦٤) وقد روى
البخاريّ ، ومسلم في «الصّحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تقوم السّاعة حتى تطلع الشّمس من مغربها ،
فإذا طلعت ورآها الناس ، آمن من عليها ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا».
(٥٦٥) وروى عبد
الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تزال التّوبة مقبولة حتى
____________________________________
(٥٦٣) أخرجه
الترمذي ٣٠٧١ وأحمد ٣ / ٣١ وأبو يعلى ١٣٥٣ وإسناده ضعيف فيه محمد بن عبد الرحمن بن
أبي ليلى وهو سيء الحفظ وعطية العوفي ضعيف وحسنه الترمذي ، وذكر أن بعضهم رواه
موقوفا ا. ه. من حديث أبي سعيد الخدري ومع ذلك فمثله لا يقال بالرأي.
(٥٦٤) حديث صحيح
أخرجه البخاري ٤٦٣٥ و ٤٦٣٦ و ٦٥٠٦ و ٧١٢١ ، ومسلم ١٥٧ وأبو داود ٤٣١٢ والنسائي في «الكبرى»
١١١٧٧ وابن ماجة ٤٠٦٨ وأحمد ٢ / ٢٣١ و ٣١٣ و ٣٥٠ و ٣٩٨ و ٥٣٠ وأبو يعلى ٦٠٨٥ وابن
حبان ٦٨٣٨ والطبري ١٤٢٠٨ و ١٤٢١٤ و ١٤٢١٥ من حديث أبي هريرة.
(٥٦٥) حسن. أخرجه
أحمد ١ / ١٩٢ والطبراني ١٩ / ٣٨١ وفي «مسند «الشاميين» ١٦٧٤ والطبري ١٤٢١٧ و ١٤٢١٨
من حديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص وإسناده حسن ،
رجاله
تطلع الشّمس من
مغربها ، فإذا طلعت ، طبع على كلّ قلب بما فيه ، وكفي الناس العمل».
والثاني
: أنه طلوع الشّمس
والقمر من مغربهما ، رواه مسروق عن ابن مسعود. والثالث : أنه إحدى الآيات الثلاث ، طلوع الشّمس من مغربها ،
والدّابّة ، وفتح يأجوج ومأجوج ، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود. والرابع : أنه طلوع الشّمس من مغربها ، والدّجال ، ودابّة الأرض ،
قاله أبو هريرة ؛ والأوّل أصحّ.
والمراد بالخير ها
هنا : العمل الصالح ؛ وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ ، لظهور الآية
التي تضطرّهم إلى الإيمان. وقال الضّحّاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح
مع إيمانه ، قبل منه ، كما يقبل منه قبل الآية. وقيل : إنّ الحكمة في طلوع الشمس
من مغربها ، أنّ الملحدة والمنجّمين ، زعموا أنّ ذلك لا يكون ، فيريهم الله تعالى
قدرته ، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق ، ولتحقّق عجز نمرود حين قال له
إبراهيم : (فَأْتِ بِها مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ) .
فصل
: وفي قوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) قولان : أحدهما
: أنّ المراد به
التّهديد ، فهو محكم. والثاني
: أنه أمر بالكف عن
القتال ، فهو منسوخ بآية السيف.
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى
اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «فرّقوا» مشدّدة. وقرأ حمزة ،
والكسائيّ : «فارقوا» بألف. وكذلك قرءوا في (الرّوم) ؛ فمن قرأ : «فرّقوا» ، أراد
: آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. ومن قرأ : «فارقوا» ، أراد : باينوا. وفي المشار
إليهم أربعة أقوال :
أحدها
: أنهم أهل
الضّلالة من هذه الأمّة ، قاله أبو هريرة. والثاني : أنهم اليهود والنّصارى ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ،
وقتادة ، والسّدّيّ. والثالث
: اليهود ، قاله
مجاهد. والرابع
: جميع المشركين ،
قاله الحسن. فعلى هذا القول ، دينهم : الكفر الذي يعتقدونه دينا ، وعلى ما قبله ،
دينهم : الذي أمرهم الله به. والشيع : الفرق والأحزاب. قال الزّجّاج : ومعنى «شيّعت»
في اللغة : اتّبعت. والعرب تقول : شاعكم السّلام ، وأشاعكم ، أي : تبعكم. قال
الشاعر :
ألا يا نخلة من
ذات عرق
|
|
برود الظّلّ
شاعكم السّلام
|
وتقول : أتيتك غدا
، أو شيعة ، أي : أو اليوم الذي يتبعه. فمعنى الشّيعة : الذين يتبع بعضهم بعضا ، وليس
كلّهم متّفقين.
____________________________________
ثقات. وأخرجه أحمد
٤ / ٩٩ من حديث معاوية ، وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٥ / ٢٥١ : رجال
أحمد ثقات.
__________________
وفي قوله تعالى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قولان : أحدهما
: لست من قتالهم في
شيء ؛ ثم نسخ بآية السيف ، وهذا مذهب السّدّيّ. والثاني: لست منهم ، أي : أنت بريء منهم ، وهم منك برآء ، إنما
أمرهم إلى الله في جزائهم ، فتكون الآية محكمة.
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))
قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها) وقرأ يعقوب ، والقزّاز عن عبد الوارث : «عشر» بالتنوين ، «أمثالها»
بالرفع. قال ابن عباس : يريد من عملها ، كتبت له عشر حسنات. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى
إِلَّا) جزاء (مِثْلَها). وفي الحسنة والسيئة ها هنا قولان :
أحدهما
: أنّ الحسنة : قول
لا إله إلّا الله. والسّيئة : الشّرك ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والنّخعيّ. والثاني : أنه عامّ في كلّ حسنة وسيئة.
(٥٦٦) روى مسلم في
«صحيحه» من حديث أبي ذرّ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله عزوجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ، ومن جاء
بالسّيئة فجزاء سيّئة مثلها أو أغفر».
فإن قيل : إذا
كانت الحسنة كلمة التّوحيد ، فأيّ مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها؟ فالجواب
: أنّ جزاء الحسنة معلوم القدر عند الله ، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله ، وكذلك
السّيئة. وقد أشرنا إلى هذا في (المائدة) عند قوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعاً) . فإن قيل : المثل مذكّر ، فلم قال : (عَشْرُ أَمْثالِها) والهاء إنما تسقط في عدد المؤنّث؟ فالجواب : أنّ الأمثال
خلقت حسنات مؤنّثة ؛ وتلخيص المعنى : فله عشر حسنات أمثالها ، فسقطت الهاء من عشر
، لأنها عدد مؤنّث ، كما تسقط عند قولك : عشر نعال ، وعشر جباب.
(قُلْ إِنَّنِي
هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال الزّجّاج : أي : دلّني على الدّين الذي هو دين الحقّ.
ثم فسّر ذلك بقوله : (دِيناً قِيَماً) ؛ قرأ ابن كثير ،
ونافع ، وأبو عمرو : «قيما» مفتوحة القاف ،
____________________________________
(٥٦٦) صحيح. أخرجه
مسلم ٢٦٨٧. وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٥٩ وابن المبارك في «الزهد» ١٠٣٥
ولصدره شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري ٧٥٠١ ومسلم ١٢٨ وأحمد ٢ / ٢٤٢ وابن
حبان ٣٨٠ ، ٣٨١ ، ٣٨٢ ، وابن مندة في «الإيمان» ٣٧٥. ولعجزه «ومن تقرب مني ...»
شاهد من حديث أنس عند البخاري ٧٥٣٦ وعبد الرزاق ٣٠٥٧٥ والطيالسي ٢٠١٢ وأحمد ٣ /
١٢٢ و ١٢٧ و ٢٧٢ ، ٢٨٣ وأبو يعلى ٣١٨٠. ويشهد لعجزه أيضا حديث أبي هريرة عند
البخاري ٧٤٠٥ ومسلم ٢٦٧٥ وابن حبان ٣٧٦ وأحمد ٢ / ٤٣٥ و ٥٠٩. ولفظ الحديث : عن أبي
ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يقول الله : من
جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أو أغفر ،
ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن
أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته
بمثلها مغفرة».
__________________
مشدّدة الياء.
والقيّم : المستقيم. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «قيما» بكسر
القاف وتخفيف الياء. قال الزّجّاج : وهو مصدر ، كالصّغر والكبر. وقال مكّيّ : من
خفّفه بناه على «فعل» وكان أصله أن يأتي بالواو ، فيقول : «قوما» كما قالوا : عوض
، وحول ، ولكنه شذّ عن القياس. قال الزّجّاج : ونصب قوله : (دِيناً قِيَماً) محمول على المعنى ، لأنّه لمّا قال : «هداني» دل على
عرّفني دينا ؛ ويجوز أن يكون على البدل من قوله : (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) ، فالمعنى : هداني صراطا مستقيما دينا قيما. و «حنيفا»
منصوب على الحال من إبراهيم ، والمعنى : هداني ملّة إبراهيم في حال حنيفيّته.
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) يريد : الصّلاة المشروعة. والنّسك : جمع نسيكة. وفي النّسك
ها هنا أربعة أقوال : أحدها
: أنها الذّبائح ؛
قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن قتيبة. والثاني : الدّين ، قاله الحسن. والثالث : العبادة. قال الزّجّاج : النّسك كلّ ما تقرّب به إلى الله عزوجل ، إلّا أنّ الغالب عليه أمر الذّبح. والرابع : أنه الدّين ، والحج ، والذّبائح ، رواه أبو صالح عن ابن
عباس.
قوله تعالى : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) الجمهور على تحريك ياء «محياي» ، وتسكين ياء «مماتي». وقرأ
نافع : بتسكين ياء «محياي» ، ونصب ياء «مماتي» ، ثمّ للمفسّرين في معناه قولان :
أحدهما
: أنّ معناه : لا
يملك حياتي ومماتي إلّا الله.
والثاني
: حياتي لله في
طاعته ، ومماتي لله في رجوعي إلى جزائه. ومقصود الآية أنه أخبرهم أنّ أفعالي
وأحوالي لله وحده ، لا لغيره كما تشركون أنتم به.
قوله تعالى : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) قال الحسن ، وقتادة : أوّل المسلمين من هذه الأمّة.
(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))
قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا).
(٥٦٧) سبب نزولها
أنّ كفار قريش قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : ارجع عن هذا الأمر ، ونحن لك الكفلاء بما أصابك من تبعة
، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْها) أي : لا يؤخذ سواها بعملها. وقيل : المعنى : إلّا عليها
عقاب معصيتها ، ولها ثواب طاعتها. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) قال الزّجّاج : لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى. والمعنى : لا
يؤخذ أحد بذنب غيره. قال أبو سليمان : ولما ادّعت كلّ فرقة من اليهود والنّصارى
والمشركين أنهم أولى بالله من غيرهم. عرّفهم أنه الحاكم بينهم بقوله تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
____________________________________
(٥٦٧) باطل ، عزاه
المصنف لمقاتل وهو من يضع الحديث وقد وضع مقاتل وهو ابن سليمان وكذا الكلبي لكل
آية سببا لنزولها ، وليس هذا بشيء.
كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ، ونظيره : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .
(وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ
الْأَرْضِ) قال أبو عبيدة : الخلائف : جمع خليفة. قال الشّمّاخ :
تصيبهم وتخطئني
المنايا
|
|
وأخلف في ربوع
عن ربوع
|
وللمفسّرين فيمن
خلفوه ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم خلفوا الجنّ
الذين كانوا سكّان الأرض ؛ قاله ابن عباس. والثاني : أنّ بعضهم يخلف بعضا ؛ قاله ابن قتيبة. والثالث : أنّ أمّة محمّد خلفت سائر الأمم ، ذكره الزّجّاج.
قوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ) أي : في الرّزق ، والعلم ، والشّرف ، والقوّة ، وغير ذلك (لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم ، فيظهر منكم ما يكون عليه الثّواب والعقاب.
قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) فيه قولان : أحدهما : أنه سمّاه سريعا ، لأنّه آت ، وكلّ آت قريب. والثاني : أنه إذا شاء العقوبة ، أسرع عقابه.
__________________
سورة الأعراف
فصل
في نزولها : روى العوفيّ ،
وابن أبي طلحة ، وأبو صالح عن ابن عباس ، أن سورة (الأعراف) من المكّيّ ، وهذا قول
الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر بن زيد ، وقتادة. وروي عن ابن عباس ،
وقتادة أنها مكّيّة ، إلّا خمس آيات ؛ أوّلها قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) . وقال مقاتل : كلّها مكّيّة ، إلّا قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فإنهنّ مدنيّات.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(المص (١))
فأمّا التفسير ،
فقوله تعالى : (المص) قد ذكرنا في أوّل سورة البقرة كلاما مجملا في الحروف
المقطّعة أوائل السّور ، فهو يعم هذه أيضا.
فأما ما يختصّ
بهذه الآية ففيه سبعة أقوال : أحدها
: أنّ معناه : أنا
الله أعلم وأفضل ، رواه أبو الضّحى عن ابن عباس. والثاني : أنه قسم أقسم الله به ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنها اسم من أسماء الله تعالى ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والرابع
: أنّ الألف مفتاح
اسمه «الله» ، واللام مفتاح اسمه «لطيف» ، والميم مفتاح اسمه «مجيد» ، قاله أبو
العالية . والخامس
: أنّ (المص) اسم للسّورة ، قاله الحسن. والسادس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة. والسابع : أنها بعض كلمة. ثمّ في تلك الكلمة قولان : أحدهما : المصوّر ، قاله السّدّيّ. والثاني : المصير إلى كتاب أنزل إليك ، ذكره الماوردي.
(كِتابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى
لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))
قوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قال الأخفش : رفع الكتاب بالابتداء. ومذهب الفرّاء أنّ
الله تعالى اكتفى في مفتتح السّور ببعض حروف المعجم عن جميعها ، كما يقول القائل :
«ا ب ت ث»
__________________
ثمانية وعشرون
حرفا ؛ فالمعنى : حروف المعجم : كتاب أنزلناه إليك. قال ابن الأنباري : ويجوز أن
يرتفع الكتاب بإضمار : هذا الكتاب. وفي الحرج قولان : أحدهما : أنه الشّكّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ
، وابن قتيبة. والثاني
: أنه الضّيق ،
قاله الحسن ، والزّجّاج. وفي هاء «منه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الكتاب ؛ فعلى هذا ، في معنى الكلام قولان :
أحدهما
: لا يضيقنّ صدرك
بالإبلاغ ، ولا تخافنّ ، قاله الزّجّاج. والثاني : لا تشكنّ أنه من عند الله. والقول الثاني : أنها ترجع إلى مضمر ، وقد دلّ عليه الإنذار ، وهو التّكذيب
، ذكره ابن الأنباري. قال الفرّاء : فمعنى الآية : لا يضيقنّ صدرك أن كذّبوك. قال
الزّجّاج : وقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ بِهِ) مقدّم ؛ والمعنى : أنزل إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين ،
فلا يكن في صدرك حرج منه. (وَذِكْرى) يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض ؛ فأمّا النّصب ، فعلى
قوله : أنزل إليك لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين أي ولتذكّر به ذكرى ، لأنّ في الإنذار
معنى التّذكير. ويجوز الرفع على أن يكون : وهو ذكرى ، كقولك : وهو ذكرى للمؤمنين.
فأمّا الخفض ، فعلى معنى : لتنذر ، لأنّ معنى «لتنذر» : لأنّ تنذر ؛ المعنى
للإنذار والذّكرى ، وهو في موضع خفض.
(اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))
قوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ) ؛ إن قيل : كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى ، ثم جمع
بقوله : «اتّبعوا»؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه لمّا علم أنّ الخطاب له ولأمّته ، حسن الجمع لذلك
المعنى. والثاني
: أنّ الخطاب
الأوّل خاصّ له ؛ والثاني محمول على الإنذار ، والإنذار في طريق القول ، فكأنه قال
: لتقول لهم منذرا : (اتَّبِعُوا ...) ، ذكرهما ابن الأنباري. والثالث : أنّ الخطاب الثاني للمشركين ، ذكره جماعة من المفسّرين ؛
قالوا : والذي أنزل إليهم القرآن. وقال الزّجّاج : الذي أنزل : القرآن وما أتى عن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، لأنه ممّا أنزل عليه ، لقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . (وَلا تَتَّبِعُوا
مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي : لا تتولّوا من عدل عن دين الحقّ ، وكلّ من ارتضى
مذهبا فهو وليّ أهل المذهب. وقوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ما : زائدة مؤكّدة ؛ والمعنى : قليلا تتذكّرون. قرأ ابن
كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «تذّكّرون» مشددة الذال والكاف.
وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «تذكّرون» خفيفة الذّال مشددة الكاف. قال
أبو عليّ : من قرأ «تذكرون» بالتّشديد ، أراد «تتذكرون» فأدّغم التّاء في الذال ،
وإدغامها فيها حسن ، لأنّ التاء مهموسة ، والذال مجهورة ؛ والمجهور أزيد صوتا من
المهموس وأقوى ؛ فإدغام الأنقص في الأزيد حسن. فأما حمزة ومن وافقه ، فإنهم حذفوا
التاء التي أدغمها هؤلاء ، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة. وقرأ ابن عامر : «يتذكرون»
بياء وتاء ، على الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ والمعنى : قليلا ما يتذكّر هؤلاء الذين ذكروا بهذا
الخطاب.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤))
قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ، و «كم» تدلّ على الكثرة ، و «ربّ» : موضوعة للقلّة. قال
__________________
الزّجّاج : المعنى
: وكم من أهل قرية ، فحذف الأهل ، لأنّ في الكلام دليلا عليه. وقوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا) محمول على لفظ القرية ؛ والمعنى : فجاءهم بأسنا غفلة وهم
غير متوقّعين له ؛ إمّا ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون. قال ابن قتيبة :
بأسنا : عذابنا ، وبياتا : ليلا. وقائلون : من القائلة نصف النهار. فإن قيل : إنما
أتاها البأس قبل الإهلاك ، فكيف يقدّم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ الهلاك والبأس يقعان معا ، كما تقول : أعطيتني فأحسنت
؛ وليس الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله ، وإنما وقعا معا ، قاله الفرّاء. والثاني : أنّ الكون مضمر في الآية ، تقديره : أهلكناها ، وكان بأسنا
قد جاءها ، فأضمر الكون ، كما أضمر في قوله : (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، أي : ما كانت الشّياطين تتلوه ، وقوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ) ، أي : إن يكن سرق. والثالث : أنّ في الآية تقديما وتأخيرا ، تقديره : وكم من قرية جاءها
بأسنا بياتا ، أو هم قائلون فأهلكناها ، كقوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) أي : رافعك ومتوفّيك ، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) قال الفرّاء : فيه واو مضمرة ؛ والمعنى : فجاءها بأسنا
بياتا ، أو وهم قائلون ، فاستثقلوا نسقا على نسق.
(فَما كانَ دَعْواهُمْ
إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))
قوله تعالى : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) قال اللغويّون : الدّعوى ها هنا بمعنى الدّعاء والقول.
والمعنى : ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلّا الاعتراف بالظّلم. قال ابن
الأنباري : وللدّعوى في الكلام موضعان : أحدهما : الادّعاء. والثاني : القول والدّعاء. قال الشاعر :
إذا مذلت رجلي
دعوتك أشتفي
|
|
بدعواك من مذل
بها فيهون
|
(فَلَنَسْئَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧))
قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ) يعني : الأمم يسألون : هل بلّغكم الرّسل ؛ وما ذا أجبتم؟
ويسأل الرّسل : هل بلّغتم ، وما ذا أجبتم؟. (فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ) أي : فلنخبرنّهم بما عملوا بعلم منّا (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن الرّسل والأمم. وقال ابن عباس : يوضع الكتاب ، فيتكلّم
بما كانوا يعملون.
(وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما
كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))
قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) أي : العدل. وإنما قال : «موازينه» لأنّ «من» في معنى جميع
، يدلّ عليه قوله : (فَأُولئِكَ). وفي معنى (يَظْلِمُونَ) قولان : أحدهما
: يجحدون. والثاني : يكافرون. قال الفرّاء : والمراد بموازينه : وزنه. والعرب
تقول : هل لك في درهم بميزان درهمك ، ووزن درهمك ، ويقولون : داري بميزان دارك ،
ووزن دارك ؛ ويريدون : حذاء دارك. قال الشاعر :
__________________
قد كنت قبل
لقائكم ذا مرّة
|
|
عندي لكلّ مخاصم
ميزانه
|
يعني : مثل كلامه
ولفظه.
فصل
: والقول بالميزان
مشهور في الحديث ، وظاهر القرآن ينطق به. وأنكرت المعتزلة ذلك ، وقالوا : الأعمال
أعراض ، فكيف توزن؟ فالجواب : أنّ الوزن يرجع إلى الصّحائف ، بدليل حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٥٦٨) «إنّ الله عزوجل يستخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الناس يوم القيامة ، فينشر
عليه تسعة وتسعين سجلّا ، كلّ سجلّ مدّ البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا؟
أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يا ربّ. فيقول : ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل
، فيقول : لا يا ربّ ؛ فيقول : بلى ، إنّ لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم عليك اليوم
، فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، فتوضع
السّجلّات في كفّة ، والبطاقة في كفّة ؛ قال : فطاشت السّجلّات وثقلت البطاقة»
أخرجه أحمد في «مسنده» ، والتّرمذيّ.
(٥٦٩) وروى أبو
هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يؤتى بالرّجل الطويل الأكول الشّروب ، فلا يزن
جناح بعوضة» ، فعلى هذا يوزن الإنسان.
قال ابن عباس :
توزن الحسنات والسّيئات في ميزان ، له لسان وكفّتان. فأمّا المؤمن ، فيؤتى بعمله
في أحسن صورة ، فيوضع في كفّة الميزان ، فيخفّ وزنه. وقال الحسن : للميزان لسان
وكفّتان. وجاء في الحديث :
(٥٧٠) أنّ داود عليهالسلام سأل ربّه أن يريه الميزان ، فأراه إيّاه ؛ فقال : يا إلهي
، من يقدر أن يملأ كفّتيه حسنات؟ فقال : يا داود ، إنّي إذا رضيت عن عبدي ، ملأتها
بتمرة.
وقال حذيفة :
جبريل صاحب الميزان يوم القيامة يقول له ربّه : زن بينهم ، وردّ من بعضهم على بعض
؛ فيردّ على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة. فإن لم تكن له حسنة ، أخذ من
سيئات المظلوم ، فردّ على سيئات الظالم ، فيرجع وعليه مثل الجبل.
فإن قيل : أليس
الله عزوجل يعلم مقادير الأعمال ، فما الحكمة في وزنها؟
فالجواب أنّ فيه
خمسة حكم : إحداها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا. والثانية : إظهار علامة
السّعادة والشّقاوة في الأخرى. والثالثة : تعريف العباد ما لهم من خير وشرّ.
والرابعة : إقامة
____________________________________
(٥٦٨) حديث حسن
صحيح. أخرجه الترمذي ٢٦٣٩ وابن ماجة ٤٣٠٠ وأحمد ٢ / ٢١٣ وابن حبان ٢٢٥ والحاكم ١ /
٥٢٩. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وهو حسن
لأجل عامر بن يحيى ، وبقية رجاله رجال مسلم. وورد من طريق ابن لهيعة أخرجه أحمد ٢
/ ٢٢٢ وابن لهيعة حسن الحديث في الشواهد والمتابعات. وانظر «تفسير الشوكاني» ٩٦٧
بتخريجنا.
(٥٦٩) صحيح. أخرجه
البخاري ٤٧٢٩ ومسلم ٢٧٨٥ من حديث أبي هريرة.
(٥٧٠) لم أقف عليه
، ولعل مصدره كتب الأقدمين ، والله أعلم.
__________________
الحجّة عليهم.
والخامسة : الإعلام بأنّ الله عادل لا يظلم. ونظير هذا أنه أثبت الأعمال في كتاب ،
واستنسخها من غير جواز النّسيان عليه.
(وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ (١٠))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) فيه قولان : أحدهما : مكّناكم إيّاها. والثاني : سهّلنا عليكم التّصرّف فيها. وفي المعايش قولان : أحدهما : ما تعيشون به من المطاعم والمشارب. والثاني : ما تتوصّلون به إلى المعايش ، من زراعة ، وعمل ، وكسب.
وأكثر القرّاء على ترك الهمز في «معايش» وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة. قال
الزّجّاج : وجميع النّحويين البصريين يزعمون أنّ همزها خطأ ، لأنّ الهمز إنما يكون
في الياء الزائدة ، نحو صحيفة وصحائف ؛ فصحيفة من الصّحف ؛ والياء زائدة ، فأما
معايش ، فمن العيش ؛ فالياء أصلية.
قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : شكركم قليل. وقال ابن عباس : يريد أنكم غير شاكرين.
(وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْناكُمْ) فيه ثمانية أقوال : أحدها
: ولقد خلقناكم في
ظهر
__________________
آدم ، ثم صوّرناكم
في الأرحام ، رواه عبد الله بن الحارث عن ابن عباس. والثاني : ولقد خلقناكم في أصلاب الرّجال ، وصوّرناكم في أرحام
النّساء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة. والثالث : «ولقد خلقناكم» ،
يعني آدم ، «ثم صوّرناكم» ، يعني ذرّيته من بعده ؛ رواه العوفيّ عن ابن عباس. والرابع : «ولقد خلقناكم» ،
: يعني آدم ، «ثم صوّرناكم» في ظهره ، قاله مجاهد. والخامس : «خلقناكم» نطفا في أصلاب الرّجال ، وترائب النّساء ، «ثم
صوّرناكم» عند اجتماع النّطف في الأرحام ، قاله ابن السّائب. والسادس : «خلقناكم» في بطون
أمّهاتكم ، «ثم صوّرناكم» فيما بعد الخلق بشقّ السّمع والبصر ، قاله معمر. والسابع : «خلقناكم» ، يعني
آدم خلقناه من تراب ، «ثم صوّرناكم» ، أي : صوّرناه ، قاله الزّجّاج ، وابن قتيبة.
قال ابن قتيبة : فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه ؛ فمن قال : عنى بقوله : «خلقناكم»
آدم ، فمعناه : خلقنا أصلكم ؛ ومن قال : صوّرنا ذرّيته في ظهره ، أراد إخراجهم يوم
الميثاق كهيئة الذّرّ. والثامن
: «ولقد خلقناكم» يعني الأرواح ، «ثم صوّرناكم» يعني الأجساد
، حكاه القاضي أبو يعلى في «المعتمد». وفي «ثمّ» المذكورة مرّتين قولان : أحدهما : أنّها بمعنى الواو ، قاله الأخفش. والثاني : أنّها للتّرتيب ، قاله الزّجّاج.
(قالَ ما مَنَعَكَ
أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢))
قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) «ما» استفهام ،
ومعناها الإنكار. قال الكسائيّ : «لا» ها هنا زائدة. والمعنى : ما منعك أن تسجد؟.
وقال الزّجّاج : موضع «ما» رفع. والمعنى أيّ شيء منعك من السجود؟ و «لا» زائدة
مؤكّدة ؛ ومثله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ) قال ابن قتيبة : وقد تزاد «لا» في الكلام. والمعنى : طرحها
لإباء في الكلام ، أو جحد ، كهذه الآية. وإنّما زاد «لا» لأنّه لم يسجد. ومثله : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على قراءة من فتح «أنّها» ، فزاد «لا» لأنّهم لم يؤمنوا ؛
ومثله : (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) . وقال الفرّاء : «لا» ها هنا جحد محض ، وليست بزائدة ،
والمنع راجع إلى تأويل القول ، والتأويل : من قال لك : لا تسجد؟ ، فأحلّ المنع
محلّ القول ، ودخلت بعده «أن» ليدلّ على تأويل القول الذي لم يتصرّح لفظه. وقال
ابن جرير : في الكلام محذوف ، تقديره : ما منعك من السّجود ، فأحوجك أن لا تسجد؟.
قال الزّجّاج : وسؤال الله تعالى لإبليس «ما منعك» توبيخ له ، وليظهر أنه معاند ،
ولذلك لم يتب ، وأتى بشيء في معنى الجواب ، ولفظه غير جواب ، لأنّ قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) إنما هو جواب ، أيكما خير؟ ولكن المعنى : منعني من السجود
فضلي عليه. ومثله قولك للرّجل : كيف كنت؟ فيقول : أنا صالح ؛ وإنما الجواب : كنت
صالحا ، فيجيب بما يحتاج إليه وزيادة. قال العلماء : وقع الخطأ من إبليس حين قاس
مع وجود النّصّ ، وخفي عليه فضل الطّين على النّار ؛ وفضله من وجوه : أحدها : أنّ من طبع النار الطّيش والالتهاب والعجلة ، ومن طبع
الطّين الهدوء والرّزانة. والثاني
: أنّ الطّين سبب
الإنبات والإيجاد ، والنّار سبب الإعدام
__________________
والإهلاك. والثالث : أنّ الطّين سبب جمع الأشياء ، والنّار سبب تفريقها.
(قالَ فَاهْبِطْ
مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ
الصَّاغِرِينَ (١٣))
قوله تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنّها ترجع إلى السّماء ، لأنّه كان فيها ، قاله الحسن. والثاني : إلى الجنّة ، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ
فِيها) ، إن قيل : فهل لأحد أن يتكبّر في غيرها؟ فالجواب : أنّ
المعنى : ما للمتكبّر أن يكون فيها ، وإنّما المتكبّر في غيرها. وأما الصّاغر ،
فهو الذّليل. والصّغار : الذّلّ. قال الزّجّاج : استكبر إبليس بإبائه السّجود ،
فأعلمه الله أنه صاغر بذلك.
(قالَ أَنْظِرْنِي
إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥))
قوله تعالى : (قالَ أَنْظِرْنِي) أي أمهلني وأخّرني (إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) ، فأراد أن يعبر قنطرة الموت ؛ وسأل الخلود ، فلم يجبه إلى
ذلك ، وأنظره إلى النّفخة الأولى حين يموت الخلق كلّهم. وقد بيّن مدّة إمهاله في «الحجر»
بقوله : (إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) . وفي ما سأل الإمهال له قولان : أحدهما : الموت. والثاني
: العقوبة. فإن قيل
: كيف قيل له : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وليس أحد أنظر سواه؟ فالجواب : أنّ الذين تقوم عليهم
الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم ، فهو منهم.
(قالَ فَبِما
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦))
قوله تعالى : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) في معنى هذا الإغواء قولان : أحدهما : أنه بمعنى الإضلال ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : أنه بمعنى الإهلاك ، ومنه قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي : هلاكا ، ذكره ابن الأنباري. وفي معنى «فبما» قولان : أحدهما : أنها بمعنى القسم ، أي : فبإغوائك لي. والثاني : أنها بمعنى الجزاء ، أي : فبأنّك أغويتني ، ولأجل أنّك
أغويتني (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِراطَكَ). قال الفرّاء ، والزّجّاج : أي على صراطك. ومثله قولهم :
ضرب زيد الظّهر والبطن. وفي المراد بالصّراط ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه طريق مكّة ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وسعيد بن جبير ؛
كأنّ المراد صدّهم عن الحجّ. والثاني
: أنه الإسلام ،
قاله جابر بن عبد الله ، وابن الحنفيّة ، ومقاتل. والثالث : أنه الحقّ ، قاله مجاهد.
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ
شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧))
قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) فيه سبعة أقوال : أحدها
: «من بين أيديهم»
أشكّكهم في آخرتهم ، «ومن خلفهم» أرغّبهم في دنياهم ، «وعن أيمانهم» أي : من قبل
__________________
حسناتهم ، «وعن
شمائلهم» من قبل سيّئاتهم ، قاله ابن عباس وقتادة. والثاني : مثله ، إلّا أنهم جعلوا «من بين أيديهم» الدّنيا ، «ومن
خلفهم» الآخرة ، قاله النّخعيّ ، والحكم بن عتيبة. والثالث : مثل الثاني ، إلّا أنهم جعلوا «وعن أيمانهم» من قبل الحقّ
أصدّهم عنه ، (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) من قبل الباطل أردّهم إليه ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والرابع : (مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ) من سبيل الحق ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من سبيل الباطل ، (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) من قبل آخرتهم ، «وعن شمائلهم» من أمر الدنيا ، قاله أبو
صالح. والخامس
: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) «وعن أيمانهم» من
حيث يبصرون ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) «وعن شمائلهم» من
حيث لا يبصرون ، نقل عن مجاهد أيضا. والسادس : أن المعنى : لأتصرّفنّ لهم في الإضلال من جميع جهاتهم ،
قاله الزّجّاج ، وأبو سليمان الدّمشقي. فعلى هذا ، يكون ذكر هذه الجهات ، للمبالغة
في التأكيد. والسابع
: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) فيما بقي من أعمارهم ، فلا يقدمون فيه على طاعة ، «ومن
خلفهم» فيما مضى من أعمارهم ، فلا يتوبون فيه من معصية ، (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) من قبل الغنى ، فلا ينفقونه في مشكور ، «وعن شمائلهم» من
قبل الفقر ، فلا يمتنعون فيه من محظور ، قاله الماوردي. قوله تعالى : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) فيه قولان : أحدهما : موحّدين ، قاله ابن عباس. والثاني : شاكرين لنعمتك ، قاله مقاتل. فإن قيل : من أين علم إبليس
ذلك؟ فقد أسلفنا الجواب عن هذا في سورة (النساء).
(قالَ اخْرُجْ مِنْها
مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ
أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ
حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ
(١٩))
قوله تعالى : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) وقرأ الأعمش : «مذوما» بضمّ الذال من غير همز. قال الفرّاء
: الذّأم : الذّم ؛ يقال : ذأمت الرجل ، أذأمه ذأما ؛ وذممته ، أذمّه ذمّا ؛ وذمته
، أذيمه ذيما ؛ ويقال : رجل مذءوم ، ومذموم ، ومذيم ، بمعنى. قال حسّان بن ثابت :
وأقاموا حتّى
أبيروا جميعا
|
|
في مقام وكلّهم
مذءوم
|
قال ابن قتيبة :
المذؤوم : المذموم بأبلغ الذّمّ. والمدحور : المقصى المبعد. وقال الزّجّاج : معنى
المذؤوم كمعنى المذموم ، والمدحور : المبعد من رحمة الله. واللام من «لأملأنّ» :
لام القسم ؛ والكلام بمعنى الشّرط والجزاء ، كأنّه قيل له : من تبعك ، أعذّبه ،
فدخلت اللام للمبالغة والتّوكيد. فلام «لأملأنّ» هي لام القسم ، ولام «لمن تبعك»
توطئة لها. فأمّا قوله : «منهم» فقال ابن الأنباري : الهاء والميم عائدتان على ولد
آدم لأنّه حين قال : (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) كان مخاطبا لولد آدم ، فرجع إليهم ، فقال : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) فجعلهم غائبين ، لأنّ مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لبسا ؛
والعرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب. ومن قال : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْناكُمْ) خطاب لآدم ، قال : أعاد الهاء والميم على ولده ، لأنّ ذكره
يكفي من ذكرهم ؛ والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر الأولاد إذا انكشف المعنى وزال
اللبس. قال الشاعر :
أرى الخطفى بذّ
الفرزدق شعره
|
|
ولكنّ خيرا من
كليب مجاشع
|
__________________
أراد : أرى ابن
الخطفى ، فاكتفى بالخطفى من ابنه.
قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ) يعني أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشّياطين.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما
نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ
تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠))
قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) قيل : إنّ الوسوسة : إخفاء الصّوت. قال ابن فارس : الوسواس
: صوت الحليّ ، ومنه وسواس الشّيطان. و «لهما» بمعنى «إليهما» ، (لِيُبْدِيَ لَهُما) أي : ليظهر لهما (ما وُورِيَ عَنْهُما) أي : ستر. وقيل : إنّ لام «ليبدي» لام العاقبة ؛ وذلك أنّ
عاقبة الوسوسة أدّت إلى ظهور عورتهما ، ولم تكن الوسوسة لظهورها.
قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) قال الأخفش ، والزّجّاج : معناه : ما نهاكما إلّا كراهة أن
تكونا ملكين. وقال ابن الأنباري : المعنى : إلّا أن لا تكونا ، فاكتفى ب «أن» من «لا»
فأسقطها.
فإن قيل : كيف
انقاد آدم لإبليس ، مستشرفا إلى أن يكون ملكا ، وقد شاهد الملائكة ساجدة له؟ فعنه
جوابان : أحدهما
: أنه عرف قربهم من
الله ، واجتماع أكثرهم حول عرشه ، فاستشرف لذلك ، قاله ابن الأنباري. والثاني : أنّ المعنى : إلّا أن تكونا طويلي العمر مع الملائكة (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) لا تموتان أبدا ، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. وقد روى يعلى
بن حكيم عن ابن كثير : «أن تكونا ملكين» بكسر اللام ، وهي قراءة الزّهريّ.
(وَقاسَمَهُما إِنِّي
لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا
الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا
الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا
رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها
تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))
قوله تعالى : (وَقاسَمَهُما) قال الزّجّاج : حلف لهما ، فدلّاهما في المعصية بأن
غرّهما. قال ابن عباس : غرّهما باليمين ، وكان آدم لا يظنّ أنّ أحدا يحلف بالله
كاذبا.
قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي : فلمّا ذاقا ثمر الشّجرة. قال الزّجّاج : وهذا يدلّ
على أنهما إنّما ذاقاها ذواقا ، ولم يبالغا في الأكل. والسّوأة كناية عن الفرج ،
لا أصل له في تسميته. ومعنى (وَطَفِقا) أخذا في الفعل ؛ والأكثر : طفق يطفق ؛ وقد رويت : طفق يطفق
، بكسر الفاء ، ومعنى (يَخْصِفانِ) يجعلان ورقة على ورقة ، ومنه قيل للذي يرقع النّعل :
خصّاف. وفي الآية دليل على أنّ إظهار السّوأة قبيح من لدن آدم ؛ ألا ترى إلى قوله
: (لِيُبْدِيَ لَهُما ما
وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) فإنّهما بادرا يستتران لقبح التّكشّف. وقيل : إنما سمّيت
السّوأة سوأة ، لأنّ كشفها يسوء صاحبها. قال وهب بن منبّه : كان لباسهما نورا على
فروجهما ، لا يرى أحدهما عورة الآخر ؛ فلمّا أصابا الخطيئة ، بدت لهما سوءاتهما.
وقرأ الحسن : «سوأتهما» على التّوحيد ؛ وكذلك قرأ «يخصّفان» بكسر الياء والخاء مع
تشديد الصاد. وقرأ الزّهريّ : بضمّ الياء وفتح الخاء مع تشديد الصّاد. وفي الورق
قولان : أحدهما
: ورق
التّين ، قاله ابن
عباس. والثاني
: ورق الموز ، ذكره
المفسّرون. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله : (قالَ فِيها
تَحْيَوْنَ) يعني الأرض.
واختلف العلماء في
تاء «تخرجون» ؛ فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو : بضمّ التاء وفتح
الراء ، هاهنا ؛ وفي (الرّوم) : (وَكَذلِكَ
تُخْرَجُونَ) . وفي (الزّخرف) : (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) وفي (الجاثية) : (لا يُخْرَجُونَ
مِنْها) . وقرأهنّ حمزة ، والكسائيّ : بفتح التاء وضم الراء. وفتح
ابن عامر التاء في (الأعراف) فقط. فأمّا التي في (الرّوم) (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ، وفي (سأل سائل) (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) فمفتوحتان من غير خلاف.
(يا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى
ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦))
قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا
عَلَيْكُمْ لِباساً).
(٥٧١) سبب نزولها
: أنّ ناسا من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد.
وقيل : إنّه لما ذكر عري آدم ، منّ علينا باللباس.
وفي معنى (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : خلقنا لكم. والثاني : ألهمناكم كيفية صنعه. والثالث : أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتّخذ لباسا. وأكثر
القرّاء قرءوا : «وريشا». وقرأ ابن عباس والحسن وزرّ بن حبيش وقتادة والمفضّل ،
وأبان عن عاصم : «ورياشا» بألف. قال الفرّاء : يجوز أن تكون الرّياش جمع الرّيش ،
ويجوز أن تكون بمعنى الرّيش كما قالوا : لبس ، ولباس.
فلمّا كشفن
اللّبس عنه مسحنه
|
|
بأطراف طفل زان
غيلا موشّما
|
قال ابن عباس ،
ومجاهد : «الرّياش» : المال ؛ وقال عطاء : المال والنّعيم. وقال ابن زيد : الرّيش
: الجمال ؛ وقال معبد الجهنيّ : الرّيش : الرّزق ؛ وقال ابن قتيبة : الرّيش
والرّياش : ما ظهر من اللّباس. وقال الزّجّاج : الرّيش : اللّباس وكلّ ما ستر
الإنسان في جسمه ومعيشته. يقال : تريّش فلان ، أي : صار له ما يعيش به. أنشد
سيبويه :
رياشي منكم
وهواي معكم
|
|
وإن كانت
زيارتكم لماما
|
(٥٧١) ضعيف. أخرجه الطبري ١٤٤٢٣ عن
مجاهد مرسلا ، فهو ضعيف. وكرره ١٤٤٢٧ عن مجاهد مرسلا بنحوه.
__________________
وعلى قول الأكثرين
: الرّيش والرّياش بمعنى. قال قطرب : الرّيش والرّياش واحد. وقال سفيان الثّوري :
الرّيش : المال ، والرّياش : الثّياب.
قوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة : «ولباس التقوى»
بالرّفع. وقرأ ابن عامر ، ونافع ، والكسائيّ : بنصب اللّباس. قال الزّجّاج : من
نصب اللباس ، عطف به على الرّيش ؛ ومن رفعه ، فيجوز أن يكون مبتدأ ، ويجوز أن يكون
مرفوعا بإضمار : هو ؛ المعنى : وهو لباس التّقوى ، أي : وستر العورة لباس
المتّقين. وللمفسّرين في لباس التّقوى عشرة أقوال : أحدها
: أنه السّمت الحسن
، قاله عثمان بن عفّان ؛ ورواه الذّيّال بن عمرو عن ابن عباس. والثاني : العمل الصّالح ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : الإيمان ، قاله قتادة ، وابن جريج ، والسّدّيّ ؛ فعلى هذا
، سمّي لباس التّقوى ، لأنه يقي العذاب. والرابع : خشية الله تعالى ، قاله عروة بن الزّبير. والخامس : الحياء ، قاله معبد الجهنيّ ، وابن الأنباري. والسادس : ستر العورة للصّلاة ، قاله ابن زيد. والسابع : أنه الدّرع ، وسائر آلات الحرب ، قاله زيد بن عليّ. والثامن : العفاف ، قاله ابن السّائب. والتاسع : أنه ما يتّقى به الحرّ والبرد ، قاله ابن بحر. والعاشر : أنّ المعنى : ما يلبسه المتّقون في الآخرة ، خير مما يلبسه
أهل الدنيا ، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.
قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ) قال ابن قتيبة : المعنى : ولباس التّقوى خير من الثياب ،
لأن الفاجر ، وإن كان حسن الثوب ، فهو بادي العورة ؛ و «ذلك» زائدة. قال الشاعر في
هذا المعنى :
إنّي كأنّي أرى
من لا حياء له
|
|
ولا أمانة وسط
القوم عريانا
|
قال ابن الأنباري
: ويقال : لباس التّقوى ، هو اللباس الأوّل ، وإنما أعاده لمّا أخبر عنه بأنه خير
من التّعرّي ، إذ كانوا يتعبّدون في الجاهلية بالتّعرّي في الطّواف.
قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) قال مقاتل : يعني : الثّياب والمال من آيات الله وصنعه ،
لكي يذّكّروا ، فيعتبروا في صنعه.
(يا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ
عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ
مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ (٢٧))
قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ) قال المفسّرون : هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون
__________________
عراة ؛ والمعنى :
لا يخدعنّكم ولا يضلنّكم بغروره ، فيزيّن لكم كشف عوراتكم ، كما أخرج أبويكم من
الجنّة بغروره. وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه ، لأنه السّبب.
وفي «لباسهما»
أربعة أقوال : أحدها
: أنه النّور ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس ؛ وقد ذكرناه عن ابن منبّه. والثاني : أنه كان كالظفر ؛ فلمّا أكلا ، لم يبق عليهما منه إلّا
الظفر ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، وابن زيد. والثالث : أنه التّقوى ، قاله مجاهد. والرابع : أنه كان من ثياب الجنّة ، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى : (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) أي : ليري كلّ واحد منهما سوأة صاحبه. (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) قال مجاهد : قبيله : الجنّ والشّياطين. قال ابن عباس : جعلهم
الله تعالى يجرون من بني آدم مجرى الدّم ، وصدور بني آدم مساكن لهم ، فهم يرون بني
آدم ، وبنو آدم لا يرونهم.
قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) قال الزّجّاج : سلّطناهم عليهم ، يزيدون في غيّهم. وقال
أبو سليمان : جعلناهم موالين لهم.
(وَإِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ
اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨))
قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) فيمن عنى بهذه الآية ثلاثة أقوال :
(٥٧٢) أحدها : أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة. والفاحشة : كشف
العورة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وزيد بن أسلم ،
والسّدّيّ.
(٥٧٣) والثاني : أنهم الذين جعلوا السّائبة والوصيلة والحام ، وتلك الفاحشة
، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث
: أنهم المشركون ؛
والفاحشة : الشّرك ، قاله الحسن ، وعطاء.
قال الزّجّاج :
فأعلمهم عزوجل أنه لا يأمر بالفحشاء ، لأنّ حكمته تدل على أنه لا يفعل
إلّا المستحسن. والقسط : العدل. والعدل : ما استقرّ في النّفوس أنه مستقيم لا
ينكره مميّز ، فكيف يأمر بالفحشاء ، وهي ما عظم قبحه؟!
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩))
____________________________________
(٥٧٢) روي من وجوه
لا تصح والصحيح في هذه الآية العموم في كل فاحشة. أخرجه الطبري ١٤٤٧٢ عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس ، وفيه عطاء بن السائب ، وقد اختلط. وكرره ١١٤٦٨ و ١١٤٦٩ عن
مجاهد مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. وكرره ١٤٤٧ عن سعيد بن جبير والشعبي ، وفيه
عطاء بن السائب غير قوي ، وعنه عمران بن عيينة لين الحديث.
(٥٧٣) عزاه المصنف
لابن عباس من طريق أبي صالح ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهذه رواية واهية ليست
بشيء.
قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ) فيه أربعة أقوال : أحدها : إذا حضرت الصّلاة وأنتم عند مسجد ، فصلّوا فيه ، ولا
يقولنّ أحدكم : أصلّي في مسجدي ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، واختاره ابن قتيبة. والثاني : توجّهوا حيث كنتم في الصّلاة إلى الكعبة ، قاله مجاهد ،
والسّدّيّ ، وابن زيد. الثالث : اجعلوا سجودكم خالصا لله تعالى دون غيره ، قاله
الرّبيع بن أنس. والرابع
: اقصدوا المسجد في
وقت كلّ صلاة ، أمرا بالجماعة لها ، ذكره الماوردي. وفي قوله : (وَادْعُوهُ) قولان : أحدهما
: أنه العبادة. والثاني : الدّعاء. وفي قوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) قولان : أحدهما
: مفردين له
العبادة. والثاني
: موحّدين غير
مشركين. وفي قوله : (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : كما بدأكم سعداء وأشقياء ، كذلك تبعثون ، روي هذا المعنى
عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والقرظيّ ، والسّدّيّ ، ومقاتل ،
والفرّاء. والثاني
: كما خلقتم بقدرته
كذلك يعيدكم ، روي هذا المعنى العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وابن زيد
والزّجّاج ، وقال : هذا الكلام متّصل بقوله : (فِيها تَحْيَوْنَ
وَفِيها تَمُوتُونَ) . والثالث
: كما بدأكم لا
تملكون شيئا ، كذلك تعودون ، ذكره الماوردي.
(فَرِيقاً هَدى
وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))
قوله تعالى : (فَرِيقاً هَدى) قال الفرّاء : نصب الفريق ب «تعودون». وقال ابن الأنباري :
نصب «فريقا» «وفريقا» على الحال من الضّمير الذي في «تعودون» ، يريد : تعودون كما
ابتدأ خلقكم مختلفين ، بعضكم سعداء ، وبعضكم أشقياء.
قوله تعالى : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي : بالكلمة القديمة ، والإرادة السّابقة.
(يا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١))
قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ).
(٥٧٤) سبب نزولها
: أنّ ناسا من الأعراب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرّجال بالنّهار ، والنّساء
بالليل ، وكانت المرأة تعلّق على فرجها سيورا ، وتقول :
____________________________________
(٥٧٤) موقوف.
أخرجه مسلم ٣٠٢٨ والنسائي في «التفسير» ٢٠٢ و «المجتبى» ٢٩٥٦ والطبري ١٤٥٠٩ و ١٤٥١٠
و ١٤٥١٢ من طرق عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم بن عمران عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس به.
قلت : ولهذا الخبر
ثلاث علل : الأولى : الإرسال ، فقد أخرجه الطبري ١٤٥٢٧ من طريق سويد وأبي أسامة عن
حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير مرسلا ، ليس فيه ذكر ابن عباس ، وهذا الإسناد
أصح ، أيوب هو السختياني أثبت وأحفظ من مسلم البطين ، ثم ذكر المرأة لا يصح لأنه
يعم كل امرأة تطوف عريانة ، وتقول هذا الشعر ، وهذا باطل ، هناك من النساء من يأبى
ذلك ، وهناك نساء أخر ، لا يعرفن هذا الشعر ، فهذه علة ثانية. والصواب ما في مرسل
سعيد بن جبير كانوا يطوفون بالبيت عراة فطافت امرأة بالبيت وهي عريانة
__________________
اليوم يبدو بعضه
أو كلّه
|
|
وما بدا منه فلا
أحلّه
|
فنزلت هذه الآية
قاله ابن عباس.
(٥٧٥) وقال أبو
سلمة بن عبد الرّحمن : كانوا إذا حجّوا ، فأفاضوا من منى ، لا يصلح لأحد منهم في
دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه ، فيلقيهما حتى يقضي طوافه ، فنزلت هذه الآية.
(٥٧٦) وقال
الزّهريّ : كانت العرب تطوف بالبيت عراة ، إلّا الحمس قريش وأحلافها ، فمن جاء من غيرهم ، وضع ثيابه وطاف في
ثوبي أحمس ، فإن لم يجد من يعيره من الحمس ، ألقى ثيابه وطاف عريانا ، فإن طاف في
ثياب نفسه ، جعلها حراما عليه إذا قضى الطّواف ، فلذلك جاءت هذه الآية.
وفي هذه الزّينة
قولان : أحدهما
: الثياب. ثمّ فيه
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه ورد في ستر
العورة في الطّواف ، قاله ابن عباس ، والحسن في جماعة. والثاني : أنه ورد في ستر العورة في الصّلاة ، قاله
____________________________________
فقالت ..» فهذا هو
الصواب ، أن امرأة واحدة هي التي قالت هذا الشعر. العلة الثالثة : قوله «فتقول من
يعيرني تطوافا ، تجعله على فرجها» وهذا غريب ، وباقي الروايات عن ابن عباس وعطاء
وإبراهيم وغيرهم لا تذكر ذلك ، وإنما فيها : وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، فنهوا عن
ذلك ، ولا يعني من لفظ «عراة» أنها ليس على فرجها شيء. ويؤيد ذلك ما في الطبري
١٤٥١٢ عن وهب بن جرير حيث قال في روايته «كانت المرأة تطوف بالبيت ، وقد أخرجت
صدرها وما هنالك ، وإن ثبت أنهن عراة ليس عليهن شيء فهو محمول على إحدى روايات
الطبري ، وهي برقم ١٤٥١٠ عن ابن عباس : كانوا يطوفون عراة ، الرجال بالنهار ،
والنساء بالليل ، فتنبه ، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» ٨٩١ بتخريجنا.
(٥٧٥) مرسل. أخرجه
الواحدي في «أسباب النزول» ٤٥٣ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا.
(٥٧٦) مرسل ،
أخرجه الطبري ١٤٥٣٠ عن الزهري مرسلا. وأخرجه البخاري ١٦٦٥ ومسلم ١٢١٩ / ١٥٢ من
حديث عروة. ولفظه عند البخاري : كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحمس
والحمس قريش وما ولدت وكان الحمس يحتسبون على الناس ، يعطي الرجل الرجل الثياب
يطوف فيها وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت
عريانا. وكان يفيض جماعة الناس من عرفات وتفيض الحمس من جمع.
__________________
مجاهد ،
والزّجّاج. والثالث
: أنه ورد في
التّزيّن بأجمل الثّياب في الجمع والأعياد ، ذكره الماوردي. والثاني : أنّ المراد بالزّينة : المشط ، قاله أبو رزين.
قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) قال ابن السّائب : كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام
حجّهم دسما ، ولا ينالون من الطعام إلّا قوتا ، تعظيما لحجّتهم ، فنزل قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا). وفي قوله : (وَلا تُسْرِفُوا) أربعة أقوال : أحدها
: لا تسرفوا بتحريم
ما أحلّ لكم ، قاله ابن عباس. والثاني
: لا تأكلوا حراما
، فذلك الإسراف ، قاله ابن زيد. والثالث
: لا تشركوا ،
فمعنى الإسراف ها هنا : الإشراك ، قاله مقاتل. والرابع : لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة ، قاله الزّجّاج.
(٥٧٧) ونقل أنّ
الرّشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق ، فقال لعليّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم
من علم الطّب شيء ، فقال عليّ : قد جمع الله تعالى الطّبّ في نصف آية من كتابنا.
قال : ما هي؟ قال : قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا). قال النّصرانيّ : ولا يؤثر عن نبيّكم شيء من الطب ، فقال
: قد جمع رسولنا علم الطّب في ألفاظ يسيرة. قال : وما هي؟ قال : «المعدة بيت
الدّاء ، والحمية رأس الدّواء ، وعوّدوا كلّ بدن ما اعتاد». فقال النّصرانيّ : ما
ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا.
قال المصنّف :
هكذا نقلت هذه الحكاية ، إلّا أنّ هذا الحديث المذكور فيها عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم لا يثبت. وقد جاءت عنه في الطّبّ أحاديث قد ذكرتها في كتاب
: «لقط المنافع في الطّب».
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال : أحدها : أن المشركين عيّروا المسلمين ، إذ لبسوا الثياب في الطّواف
، وأكلوا الطّيبات ، فنزلت ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني
: أنهم كانوا
يحرّمون أشياء أحلّها الله من الزّروع وغيرها ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي
طلحة
____________________________________
(٥٧٧) لا أصل له.
قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ١٠٠ : لم أجد لها ـ أي حكاية
الرشيد ـ إسنادا والمرفوع منه ، قال عنه الحافظ ٢ / ١٠٠
لم أجده. قلت : أخرجه أبو محمد الخلال كما في «الدر» ٣ / ١٥٠ عن عائشة :
أن النبي صلىاللهعليهوسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها : الأزم دواء والمعدة بيت
الأدواء وعودوا بدنا ما اعتاده». ولا يصح إسناده فقد نقل السخاوي في «المقاصد»
١٠٣٥ عن الدارقطني قوله : رواه أبو قرة الرهاوي عن الزهري عن عائشة ، ولا يصح ،
ولا يعرف هذا من كلام النبي صلىاللهعليهوسلم ، إنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أنجر.
وقال العراقي في «تخريج
الإحياء» ٣ / ٨٧ : لم أجد له أصلا. وقال السخاوي ١٠٣٥ : لا يصح رفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ، أو غيره.
__________________
عن ابن عباس . والثالث
: نزلت في طوافهم
بالبيت عراة ، قاله طاوس وعطاء.
وفي زينة الله
قولان : أحدهما
: أنها ستر العورة
؛ فالمعنى : من حرّم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟ والثاني : أنها زينة اللّباس. وفي الطّيّبات قولان : أحدهما : أنها الحلال. والثاني : المستلذّ. ثمّ في ما عني بها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها البحائر ، والسّوائب ، والوصائل ، والحوامي التي
حرّموها ، قاله ابن عباس ، وقتادة. والثاني : أنها السّمن ، والألبان ، واللحم ، وكانوا حرّموه في
الإحرام ، قاله ابن زيد. والثالث
: الحرث ، والأنعام
، والألبان ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً) قال ابن الأنباري : «خالصة» نصب على الحال من لام مضمرة ،
تقديرها : هي للذين آمنوا في الحياة الدّنيا مشتركة ، وهي لهم في الآخرة خالصة ،
فحذفت اللام لوضوح معناها ، كما تحذف العرب أشياء لا يلبس سقوطها. قال الشاعر :
تقول ابنتي لمّا
رأتني شاحبا
|
|
كأنّك يحميك
الطّعام طبيب
|
تتابع أحداث
تخرّمن إخوتي
|
|
فشيّبن رأسي ،
والخطوب تشيب
|
أراد : فقلت لها :
الذي أكسبني ما ترين ، تتابع أحداث ، فحذف لانكشاف المعنى : قال المفسّرون : إنّ
المشركين شاركوا المؤمنين في الطّيبات ، فأكلوا ولبسوا ونكحوا ، ثم يخلص الله
الطيبات في الآخرة للمؤمنين ، وليس للمشركين منها شيء. وقيل : خالصة لهم من ضرر أو
إثم. وقرأ نافع : «خالصة» بالرّفع. قال الزّجّاج : ورفعها على أنه خبر بعد خبر ،
كما تقول : زيد عاقل لبيب ؛ والمعنى : قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا ، خالصة
يوم القيامة.
قوله تعالى : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : هكذا نبّينها.
(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣))
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَواحِشَ) قرأ حمزة : «ربي» بإسكان الياء. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) فيه ستة أقوال : أحدها : أنّ المراد بها الزّنا ، ما ظهر منه : علانيته ، وما بطن :
سرّه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني : أنّ ما ظهر : نكاح الأمّهات ، وما بطن : الزّنا ، رواه
سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عليّ بن الحسين. والثالث : أنّ ما ظهر : نكاح الأبناء نساء الآباء ، والجمع بين
الأختين ، وأن تنكح المرأة على عمّتها أو خالتها ، وما بطن : الزّنا ، روي عن ابن
عباس أيضا. والرابع
: أنّ ما ظهر :
الزّنا ، وما بطن : العزل ، قاله شريح. والخامس : أنّ ما ظهر : طواف الجاهلية عراة ، وما بطن : الزّنا ،
قاله مجاهد. والسادس
: أنه عامّ في جميع
المعاصي. ثمّ في «ما ظهر منها وما بطن» قولان : أحدهما : أنّ الظّاهر : العلانية ، والباطن : السّرّ ، قاله أبو
سليمان الدّمشقي. والثاني
: أنّ ما ظهر :
أفعال الجوارح ، والباطن : اعتقاد القلوب ، قاله الماوردي. وفي الإثم ثلاثة أقوال
: أحدها
: أنه الذّنب الذي
لا يوجب الحدّ ، قاله ابن عباس والضّحّاك ، والفرّاء. والثاني : المعاصي
__________________
كلّها ، قاله
مجاهد. والثالث
: أنه الخمر ، قاله
الحسن وعطاء. قال ابن الأنباري : أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته ، وزعم أنّ أبا
عبيدة أنشده :
نشرب الإثم
بالصّواع جهارا
|
|
ونرى المتك
بيننا مستعارا
|
فقال أبو العبّاس
: لا أعرفه ، ولا أعرف الإثم : الخمر ، في كلام العرب. وأنشدنا رجل آخر :
شربت الإثم حتّى
ضلّ عقلي
|
|
كذاك الإثم تذهب
بالعقول
|
قال أبو بكر : وما
هذا البيت معروفا أيضا في شعر من يحتجّ بشعره ، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب
أدخل الإثم في أسماء الخمر ، ولا سمّتها العرب بذلك في جاهلية وإسلام.
فإن قيل : إنّ
الخمر تدخل تحت الإثم ، فصواب ، لا لأنّه اسم لها.
فإن قيل : كيف فصل
الإثم عن الفواحش ، وفي كلّ الفواحش إثم؟
فالجواب : أنّ كلّ
فاحشة إثم ، وليس كلّ إثم فاحشة ، فكان الإثم كلّ فعل مذموم ؛ والفاحشة : العظيمة
فأمّا البغي ، فقال الفرّاء : هو الاستطالة على الناس.
قوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا) قال الزّجّاج : «أن» نصب ؛ فالمعنى : حرّم الفواحش ، وحرّم
الشّرك. والسّلطان : الحجّة.
قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) عامّ في تحريم القول في الدّين من غير يقين.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ
(٣٤))
قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ).
(٥٧٨) سبب نزولها
: أنهم سألوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم العذاب ، فأنزلت ، قاله مقاتل.
وفي الأجل قولان :
أحدهما
: أنه أجل العذاب. والثاني : أجل الحياة. قال الزّجّاج : الأجل : الوقت المؤقّت. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ
ساعَةً) المعنى : ولا أقل من ساعة. وإنما ذكر السّاعة ، لأنها أقلّ
أسماء الأوقات.
(يا بَنِي آدَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ
اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ
كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
كافِرِينَ (٣٧))
____________________________________
(٥٧٨) لا أصل له ،
عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، ومقاتل هذا يجعل لكل آية سببا للنزول ،
وليس كذلك.
__________________
قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ) قال الزجاج : أضمر : «فأطيعوهم». وقد سبق معنى «إما» في
سورة (البقرة) ؛ والباقي ظاهر إلى قوله : (يَنالُهُمْ
نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) ففي معناه سبعة أقوال . أحدها
: ما قدر لهم من
خير وشرّ ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثاني : نصيبهم من الأعمال ، فيجزون عليها ، رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس. والثالث
: ما كتب عليهم من
الضّلالة والهدى ، قاله الحسن. وقال مجاهد ، وابن جبير : من السّعادة والشّقاوة. والرابع : ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والأعمال ، قاله الرّبيع ،
والقرظي ، وابن زيد. والخامس
: ما كتب لهم من
العذاب ، قاله عكرمة ، وأبو صالح ، والسّدّيّ. والسادس : ما أخبر الله تعالى في الكتاب كلّها : أنه من افترى على
الله كذبا ، اسودّ وجهه ، قاله مقاتل. والسابع : ما أخبر في الكتاب من جزائهم ، نحو قوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) ، قاله الزّجّاج.
فإذن في الكتاب
خمسة أقوال : أحدها
: أنه اللوح
المحفوظ. والثاني
: كتب الله كلّها. والثالث : القرآن. والرابع
: كتاب أعمالهم. والخامس : القضاء.
قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم أعوان ملك الموت ، قاله النّخعيّ. والثاني : ملك الموت وحده ، قاله مقاتل. والثالث : ملائكة العذاب يوم القيامة.
وفي قوله : (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : يتوفّونهم بالموت ، قاله الأكثرون. والثاني : يتوفّونهم بالحشر إلى النار يوم القيامة ، قاله الحسن. والثالث : يتوفّونهم عذابا ، كما تقول : قتلت فلانا بالعذاب ، وإن لم
يمت ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ) أي : تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) ، وهذا سؤال تبكيت وتقريع. قال مقاتل : المعنى : فليمنعوكم
من النار. قال الزّجّاج : ومعنى (ضَلُّوا عَنَّا) : بطلوا وذهبوا ، فيعترفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين.
وقال غيره : ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة.
(قالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ
كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها
جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ
عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨))
قوله تعالى : (قالَ ادْخُلُوا) إنّ الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة ، لأنّ الله
تعالى لا يكلّم
__________________
الكفار يوم
القيامة. قال ابن قتيبة : و «في» بمعنى «مع». وفي قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) قولان : أحدهما
: مضت إلى العذاب. والثاني : مضت في الزّمان ، يعني كفّار الأمم الماضية.
قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ
أُخْتَها) وهذه أخوّة الدّين والملّة ، لا أخوّة النّسب. قال ابن
عباس : يلعنون من كان قبلهم. قال مقاتل : كلّما دخل أهل ملّة ، لعنوا أهل ملّتهم ،
فيلعن اليهود اليهود ، والنّصارى النّصارى ، والمشركون المشركين ، والأتباع القادة
، ويقولون : أنتم ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم. وقال الزّجّاج : إنّما
تلاعنوا ، لأنّ بعضهم ضلّ باتّباع بعض.
قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) قال ابن قتيبة : أي : تداركوا ، فأدغمت التاء في الدال ،
وأدخلت الألف ليسلم السكون لما بعدها ، يريد تتابعوا فيها واجتمعوا.
قوله تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : آخر أمّة لأوّل أمّة ، قاله ابن عباس. والثاني : آخر أهل الزّمان لأوّلّيهم الذين شرعوا له ذلك الدّين ،
قاله السّدّيّ. والثالث
: آخرهم دخولا إلى
النار ، وهم الأتباع ، لأوّلهم دخولا ، وهم القادة ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) قال ابن عباس : شرعوا لنا أن نتّخذ من دونك إلها.
قوله تعالى : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) قال الزّجّاج : أي : عذابا مضاعفا.
قوله تعالى : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي : عذاب مضاعف (وَلكِنْ لا
تَعْلَمُونَ). قرأ أبو بكر ، والمفضّل عن عاصم : «يعلمون» ، بالياء ،
قال الزّجّاج : والمعنى : لا يعلم كلّ فريق مقدار عذاب الفريق الآخر. وقرأ الباقون
: «تعلمون» بالتاء ، وفيها وجهان ذكرهما الزّجّاج : أحدهما : لا تعلمون أيّها المخاطبون ما لكلّ فريق من العذاب. والثاني : لا تعلمون يا أهل الدّنيا مقدار ذلك. وقيل : إنّما طلب
الأتباع مضاعفة عذاب القادة ، ليكون أحد العذابين على الكفر ، والثاني على إغرائهم
به ، فأجيبوا (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي : كما كان للقادة ذلك ، فلكم عذاب بالكفر ، وعذاب
بالاتّباع.
(وَقالَتْ أُولاهُمْ
لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩))
قوله تعالى : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فيه قولان : أحدهما : في الكفر ، نحن وأنتم فيه سواء ، قاله ابن عباس. والثاني : في تخفيف العذاب ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) قال مقاتل : من الشّرك والتّكذيب.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ
السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ
الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠))
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : بحججنا وأعلامنا التي تدلّ على توحيد الله ونبوّة
الأنبياء ، وتكبّروا عن الإيمان بها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوابُ السَّماءِ). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم : وابن عامر : «تفتّح» ؛
بالتاء ، وشدّدوا التاء الثانية. وقرأ أبو عمرو : «لا تفتح» بالتاء خفيفة ، ساكنة
الفاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «لا يفتح» بالياء مضمومة خفيفة. وقرأ اليزيديّ عن
اختياره : «لا تفتح» بتاء مفتوحة «أبواب السماء» بنصب الباء ، فكأنّه أشار إلى
أفعالهم. وقرأ الحسن : بياء مفتوحة ، مع نصب الأبواب ، كأنه
يشير إلى الله عزوجل. وفي معنى الكلام أربعة أقوال : أحدها : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ، رواه الضّحّاك عن ابن
عباس ، وهو قول أبي موسى الأشعريّ ، والسّدّيّ في آخرين ، والأحاديث تشهد به. والثاني : لا تفتح لأعمالهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع : لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم ، قاله ابن جريج ، ومقاتل.
وفي السّماء قولان
: أحدهما
: أنها السّماء
المعروفة ، وهو المشهور. والثاني
: أنّ المعنى : لا
تفتح لهم أبواب الجنّة ولا يدخلونها ، لأنّ الجنّة في السماء ، ذكره الزّجّاج.
قوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ
الْخِياطِ) الجمل : هو الحيوان المعروف. فإن قال قائل : كيف خصّ الجمل
من دون سائر الدّواب ، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ ضرب المثل بالجمل يحصّل المقصود ؛ والمقصود أنهم لا
يدخلون الجنّة ، كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة ، ولو ذكر أكبر منه أو أصغر منه
، جاز ، والناس يقولون : فلان لا يساوي درهما ، وهذا لا يغني عنك فتيلا ، وإن كنّا
نجد أقلّ من الدّرهم والفتيل. والثاني
: أنّ الجمل أكبر
شأنا عند العرب من سائر الدّواب ، فإنهم يقدّمونه في القوّة على غيره ، لأنه يوقر
بحمله فينهض به دون غيره من الدّواب ، ولهذا عجّبهم من خلق الإبل ، فقال : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ) ، فآثر الله تعالى ذكره على غيره لهذا المعنى. ذكر
الجوابين ابن الأنباري.
قال : وقد روى شهر
بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ : «حتى يلج الجمّل» بضمّ الجيم وتشديد الميم ، وقال :
هو القلس الغليظ. قلت : وهي قراءة أبي رزين ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وأبي مجلز ،
وابن يعمر ، وأبان عن عاصم. قال : وروى مجاهد عن ابن عباس : «حتى يلج الجمل» بضمّ
الجيم وفتح الميم وتخفيفها. قلت : وهي قراءة قتادة ، وقد رويت عن سعيد بن جبير ،
وأنه قرأ : «حتى يلج الجمل» بضمّ الجيم وتسكين الميم. قلت : وهي قراءة عكرمة. قال
ابن الأنباري : فالجمل يحتمل أمرين : يجوز أن يكون بمعنى الجمّل ، ويجوز أن يكون
بمعنى جملة من الجمال ، قيل في جمعها : جمل ، كما يقال : حجرة ، وحجر ، وظلمة ،
وظلم. وكذلك من قرأ : «الجمل» يسوغ له أن يقول : الجمل ، بمعنى الجمّل ، وأن يقول
: الجمل ، جمع جملة ، مثل بسرة ، وبسر. وأصحاب هذه القراءات يقولون : الحبل
والحبال ، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال. وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ
: «الجمل» بضمّ الجيم والميم ، وبالتّخفيف ، وهي قراءة الضّحّاك ، والجحدريّ. وقرأ
أبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء : «الجمل» بفتح الجيم ، وبسكون الميم خفيفة.
قوله تعالى : (فِي سَمِّ الْخِياطِ) السّمّ في اللغة : الثّقب. وفيها ثلاث لغات : فتح السّين ،
وبها قرأ الأكثرون ، وضمّها ، وبه قرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وقتادة ، وابن
محيصن ، وطلحة بن مصرّف ، وكسرها ، وبه قرأ أبو عمران الجونيّ ، وأبو نهيك ،
والأصمعيّ عن نافع. قال ابن القاسم : والخياط : المخيط ، بمنزلة اللّحاف والملحف ،
والقرام والمقرم. وقد قرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأبو مجلز : «في سمّ المخيط».
قال الزّجّاج : الخياط : الإبرة ، وسمّها : ثقبها. والمعنى : أنهم لا يدخلون
الجنّة
__________________
أبدا. قال ابن
قتيبة : هذا كما يقال : لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب ، ويبيضّ القار.
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك نجزي الكافرين أنّهم لا يدخلون الجنّة.
(لَهُمْ مِنْ
جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ
وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢))
قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) المهاد : الفراش. وفي المراد بالغواشي ثلاثة أقوال : أحدها : اللحف ، قاله ابن عباس ، والقرظي ، وابن زيد. والثاني : ما يغشاهم من فوقهم من الدّخان ، قاله عكرمة. والثالث : غاشية فوق غاشية من النار ، قاله الزّجّاج. قال ابن عباس :
والظّالمون ها هنا : الكافرون.
(وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا
اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))
قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍ) فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال :
أحدها
: أهل بدر. روى
الحسن عن عليّ عليهالسلام أنه قال :
(٥٧٩) فينا والله
أهل بدر نزلت : (وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).
وروى عمرو بن
الشّريد عن عليّ أنه قال : إنّي لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزّبير ،
من الذين قال الله : (وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).
والثاني
: أنهم أهل الأحقاد
من أهل الجاهلية حين أسلموا.
(٥٨٠) روى كثير
النّوّاء عن أبي جعفر قال : نزلت هذه الآية في عليّ ، وأبي بكر ، وعمر ، قلت لأبي
جعفر : فأيّ غلّ هو؟ قال : غلّ الجاهلية ، كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عديّ في
الجاهلية شيء ، فلمّا أسلم هؤلاء ، تحابّوا ، فأخذت أبا بكر الخاصرة ، فجعل عليّ
يسخّن يده ويكمّد بها خاصرة أبي بكر ، فنزلت هذه الآية.
والثالث
: عشرة من الصحابة
: أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزّبير ، وعبد الرحمن بن عوف ،
وسعد بن أبي وقّاص ، وسعيد بن زيد ، وعبد الله بن مسعود ، قاله أبو صالح . والرابع
: أنّها في صفة أهل
الجنّة إذا دخلوها.
____________________________________
(٥٧٩) أخرجه
الطبري ١٤٦٦٦ عن الحسن عن علي ، وهو منقطع بينهما. وورد من وجوه أخر ، ويأتي في
سورة الحج : ٤٧.
(٥٨٠) واه بمرة.
أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي ٦٥٤ عن علي بن الحسين ، وهذا
مرسل وفيه كثير النواء ، وهو ضعيف.
__________________
(٥٨١) روى أبو
سعيد الخدريّ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة
بين الجنّة والنار ، حتى إذا هذّبوا ونقّوا ، أذن لهم في دخول الجنّة. فو الّذي
نفسي بيده ، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنّة منه بمنزله كان في الدّنيا».
وقال ابن عباس :
أوّل ما يدخل أهل الجنّة الجنّة ، تعرض لهم عينان ، فيشربون من إحدى العينين ،
فيذهب الله ما في قلوبهم من غلّ وغيره ممّا كان في الدّنيا ، ثمّ يدخلون إلى العين
الأخرى ، فيغتسلون منها ، فتشرق ألوانهم ، وتصفو وجوههم ، وتجري عليهم نضرة
النّعيم.
فأمّا النّزع ،
فهو قلع الشيء من مكانه. والغلّ : الحقد الكامن في الصّدر. وقال ابن قتيبة : الغلّ
: الحسد والعداوة.
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) قال الزّجّاج : معناه : هدانا لما صيّرنا إلى هذا. قال ابن
عباس : يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته. وروى عاصم بن ضمرة عن عليّ عليهالسلام قال : تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور ، فيطوفون بهم
كإطافتهم بالحميم جاء من الغيبة ، ويبشّرونهم بما أعدّ الله لهم ، ويذهبون إلى
أزواجهم فيبشّرونهنّ ، فيستخفهنّ الفرح ، فيقمن على أسكفّة الباب ، فيقلن : أنت
رأيته ، أنت رأيته؟ قال : فيجيء إلى منزله فينظر في أساسه ، فإذا صخر من لؤلؤ ، ثم
يرفع بصره ، فلو لا أنّ الله ذلّله لذهب بصره ، ثم ينظر أسفل من ذلك ، فإذا هو بالسّرر
الموضونة ، والفرش المرفوعة ، والزّرابيّ المبثوثة ، فعند ذلك قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا
وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ). كلّهم قرأ «وما كنّا» بإثبات الواو ، غير ابن عامر ، فإنه
قرأ «ما كنا لنهتدي» بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشّام. قال أبو عليّ : وجه
الاستغناء عن الواو أنّ القصة ملتبسة بما قبلها فأغنى التباسها به عن حرف العطف ،
ومثله (رابِعُهُمْ
كَلْبُهُمْ) .
قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) هذا قول أهل الجنّة حين رأوا ما وعدهم الرّسل عيانا. (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) قال الزّجّاج : إنّما قال «تلكم» لأنهم وعدوا بها في
الدّنيا ، فكأنه قيل لهم : هذه تلكم التي وعدتم بها. وجائز أن يكون هذا قيل لهم
حين عاينوها قبل دخولهم إليها. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر «أورثتموها»
غير مدغمة. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ «أورثتموها» مدغمة ، وكذلك قرءوا في
(الزّخرف) قال أبو عليّ : من ترك الإدغام ، فلتباين مخرج الحرفين ، ومن أدغم ،
فلأنّ التاء والثاء مهموستان متقاربتان. وفي معنى «أورثتموها» أربعة أقوال :
(٥٨٢) أحدها : ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة
____________________________________
(٥٨١) صحيح. أخرجه
البخاري ٢٤٤٠ و ٦٥٣٥ وأحمد ٣ / ١٣ و ٦٣ و ٧٤ وابن أبي عاصم في «السنة» ٨٥٨ وابن
مندة ٨٣٧ و ٨٣٨ ، ٨٣٩ وأبي يعلى ١١٨٦ ، وابن حبان ٧٤٣٤ وأبو نعيم في «صفة الجنّة»
٢٨٨٨.
(٥٨٢) أخرجه ابن
أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ١٥٩ (الزخرف : ٧٢) عن الفضل ابن شاذان
المقرئ حدثنا يوسف بن يعقوب حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي
هريرة مرفوعا ، وإسناده حسن ، رجاله ثقات أبو بكر بن عياش فيه كلام لا يضر. وورد
عن أبي بكر بن عياش بهذا الإسناد بلفظ «كل
__________________
ومنزل في النّار ،
فأمّا الكافر فإنّه يرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من
الجنّة» فذلك قوله : (أُورِثْتُمُوها بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وقال بعضهم : لمّا سمّى الكفار أمواتا بقوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) . وسمّى المؤمنين أحياء بقوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أورث الأحياء الموتى.
والثاني
: أنّهم أورثوها عن
الأعمال ، لأنّها جعلت جزاء لأعمالهم ، وثوابا عليها ، إذ هي عواقبها ، حكاه أبو
سليمان الدّمشقيّ. والثالث
: أنّ دخول الجنّة
برحمة الله ، واقتسام الدّرجات بالأعمال. فلمّا كان يفسّر نيلها لا عن عوض ، سمّيت
ميراثا. والميراث : ما أخذته عن غير عوض. والرابع : أنّ معنى الميراث ها هنا : أنّ أمرهم يؤول إليها كما يؤول
الميراث إلى الوارث.
(وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا
فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥))
قوله تعالى : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا) أي : من العذاب؟ وهذا سؤال تقرير وتعيير. (قالُوا نَعَمْ). قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القران ، وكان الكسائيّ
يكسرها. قال الأخفش : هما لغتان. قوله تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ) أي : نادى مناد. (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) قرأ ابن كثير في رواية قنبل ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم :
«أنّ لعنة الله» خفيفة النون ساكنة. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «أنّ»
بالتّشديد ، «لعنة الله» بالنّصب. قال الأخفش : و «أن» في قوله : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) وقوله : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) ، وقوله : (أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) ، و (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) ، هي «أنّ» الثّقيلة خفّفت. قال الشاعر :
في فتية كسيوف
الهند قد علموا
|
|
أن هالك كلّ من
يحفى وينتعل
|
وأنشد أيضا :
أكاشره وأعلم أن
كلانا
|
|
على ما ساء
صاحبه حريص
|
ومعناه : أنّه
كلانا ؛ وتكون «أن قد وجدنا» في معنى : أي : قال ابن عباس : والظّالمون ها هنا : الكافرون.
قوله تعالى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ) أي : أذّن المؤذّن أن لعنة الله على الذين كفروا وصدّوا عن
____________________________________
أهل النار يرى
مقعده في الجنة فيقول : لو أن الله هداني فيكون عليهم حسرة ، قال : وكل أهل الجنة
يرى مقعده في النار فيقول : لو لا أن الله هداني قال : فيكون له شكرا» لفظ أحمد
وغيره. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١٤٥٤ وأحمد ٢ / ٥١٢ والحاكم ٢ / ٤٣٥ و ٤٣٦ ،
والبيهقي في «البعث والنشور» ٢٦٩. وإسناده حسن.
__________________
سبيل الله ، وهو
الإسلام. (وَيَبْغُونَها
عِوَجاً) مفسّر في سورة آل عمران . (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي : وهم بكون الآخرة كافرون.
(وَبَيْنَهُما حِجابٌ
وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ
الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦))
قوله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي بين الجنّة والنار حاجز ، وهو السّور الذي ذكره الله
تعالى في قوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بابٌ) ، فسمّي هذا السور بالأعراف لارتفاعه. قال ابن عباس :
الأعراف : هو السّور الذي بين الجنّة والنّار ، له عرف كعرف الدّيك. وقال أبو
هريرة : الأعراف : جبال بين الجنّة والنّار ، فهم على أعرافها ، يعني : على ذراها
، خلقتها كخلقة عرف الدّيك. قال اللغويون : الأعراف عند العرب : كلّ ما ارتفع من
الأرض وعلا ؛ يقال لكلّ عال : عرف ، وجمعه : أعراف. قال الشاعر :
كلّ كناز لحمه
نياف
|
|
كالعلم الموفي
على الأعراف
|
وقال الآخر :
ورثت بناء آباء
كرام
|
|
علوا بالمجد
أعراف البناء
|
وفي «أصحاب
الأعراف» قولان : أحدهما
: أنّهم من بني آدم
، قاله الجمهور. وزعم مقاتل أنهم من أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم خاصّة. وفي أعمالهم تسعة أقوال :
(٥٨٣) أحدها : أنّهم قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم ، فمنعهم من
دخول الجنّة معصية آبائهم ، ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله ، وهذا مرويّ
عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم. والثاني
: أنهم قوم تساوت
حسناتهم وسيّئاتهم ، فلم تبلغ بهم حسناتهم دخول الجنّة ، ولا سيّئاتهم دخول النّار
، قاله ابن
____________________________________
(٥٨٣) حديث ضعيف ،
عزاه المصنف لمقاتل ، ولم ينسبه ، فإن كان ابن سليمان ، فهو متروك كذاب ، وإن كان
ابن حيان ، فإن عنده مناكير. وأخرجه الطبري ١٤٧١٣ والبيهقي في «البعث» ١١٢ و ١١٣
والطبراني كما في «المجمع» ١١٠١١٤ من حديث عبد الرحمن المزني وعند بعضهم «المدني»
وأعله البيهقي بأبي معشر نجيح السندي وأنه ضعيف ، وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع»
به ، وفيه يحيى بن شبل ، وهو مجهول. وأخرجه الطبري ١٤٧١٢ عن يحيى بن شبل : أن رجلا
من بني النضير أخبره ، عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أصحاب الأعراف ... فذكره بسياق المصنف وإسناده ضعيف فيه
من لم يسم. وورد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» ٦٦٦ وأعله
الهيثمي في «المجمع» ١١٠١٣ بمحمد بن مخلد الرعيني ، وأنه ضعيف. وورد من حديث أبي
هريرة عند البيهقي ١١٥ وفيه أبو معشر ، وهو ضعيف ، ومدار عامة هذه الطرق عليه ،
وورد مرفوعا عن حذيفة وغيره ، وهو الراجح ، والله أعلم.
__________________
مسعود ، وحذيفة ،
وابن عباس ، وأبو هريرة ، والشّعبيّ ، وقتادة. والثالث : أنّهم أولاد الزّنا ، رواه صالح مولى التّوأمة عن ابن
عباس. والرابع
: أنّهم قوم صالحون
فقهاء علماء ، قاله الحسن ، ومجاهد ؛ فعلى هذا يكون لبثهم على الأعراف على سبيل
النّزهة. والخامس
: أنّهم قوم رضي
عنهم آباؤهم دون أمّهاتهم ، أو أمّهاتهم دون آبائهم ، رواه عبد الوهّاب بن مجاهد
عن إبراهيم. والسادس
: أنّهم الذين
ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم ، قاله عبد العزيز بن يحيى. والسابع : أنّهم أنبياء ، حكاه ابن الأنباري. والثامن : أنهم أولاد المشركين ، ذكره المنجوفي في تفسيره. والتاسع : أنّهم قوم عملوا لله تعالى ، لكنهم راءوا في عملهم ، ذكره
بعض العلماء.
والقول
الثاني : أنّهم ملائكة ،
قاله أبو مجلز ، واعترض عليه ، فقيل : إنّهم رجال ، فكيف تقول : ملائكة؟ فقال :
إنهم ذكور وليسوا بإناث. وقيل : معنى قوله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ) أي : على معرفة أهل الجنّة من أهل النّار ، ذكره الزّجّاج
، وابن الأنباري. وفيه بعد وخلاف للمفسّرين.
قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي : يعرف أصحاب الأعراف أهل الجنّة وأهل النّار. وسيما
أهل الجنّة : بياض الوجوه ، وسيما أهل النّار : سواد الوجوه ، وزرقة العيون.
والسّيما : العلامة. وإنما عرفوا الناس ، لأنهم على مكان عال يشرفون فيه على أهل
الجنّة والنّار. (وَنادَوْا) يعني : أصحاب الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ
أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ). وفي قوله : (لَمْ يَدْخُلُوها
وَهُمْ يَطْمَعُونَ) قولان : أحدهما : أنّه إخبار من الله تعالى لنا أنّ أصحاب الأعراف لم يدخلوا
الجنّة وهم يطمعون في دخولها ، قاله الجمهور. والثاني : أنّه إخبار من الله تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يذهب
بها إلى الجنّة أنّ هؤلاء لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها ، هذا قول السّدّيّ.
(وَإِذا صُرِفَتْ
أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))
قوله تعالى : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) يعني أصحاب الأعراف. والتّلقاء : جهة اللقاء ، وهي جهة
المقابلة. وقال أبو عبيدة : تلقاء أصحاب النّار ، أي : حيالهم.
(وَنادى أَصْحابُ
الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ
جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨))
قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً
يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) روى أبو صالح عن ابن عباس قال : ينادون : يا وليد بن
المغيرة ، يا أبا جهل بن هشام ، يا عاص بن وائل ، يا أميّة بن خلف ، يا أبيّ بن
خلف ، يا سائر رؤساء الكفاء ، ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والوالد. (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي : تتعظّمون عن الإيمان.
(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩))
قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا
يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) فيه قولان :
أحدهما
: أنّ أهل النار
أقسموا أنّ أهل الأعراف داخلون النار معنا ، وأنّ الله لن يدخلهم الجنّة ، فيقول
الله تعالى لأهل النار : (أَهؤُلاءِ) يعني أهل الأعراف (الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) رواه وهب بن منبّه عن ابن عباس.
(٥٨٤) قال حذيفة :
بينا أصحاب الأعراف هنالك ، اطّلع عليهم ربّهم فقال لهم : ادخلوا الجنّة فإنّي قد
غفرت لكم.
والثاني
: أنّ أهل الأعراف
يرون في الجنّة الفقراء والمساكين الذين كان الكفّار يستهزئون بهم ، كسلمان ،
وصهيب ، وخبّاب ، فينادون الكفار : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ) وأنتم في الدّنيا (لا يَنالُهُمُ اللهُ
بِرَحْمَةٍ). قاله ابن السّائب . فعلى هذا ينقطع كلام أهل الأعراف عند قوله : (بِرَحْمَةٍ) ؛ ويكون الباقي من خطاب الله لأهل الجنّة.
وقد ذكر المفسّرون
في قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون خطابا من الله لأهل الأعراف ، وقد ذكرناه. والثاني : أن يكون خطابا من الله لأهل الجنّة. والثالث : أن يكون خطابا من أهل الأعراف لأهل الجنّة ، ذكرهما
الزّجّاج. فعلى هذا الوجه الأخير ، يكون معنى قول أهل الأعراف لأهل الجنّة : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) : اعلوا إلى القصور المشرفة ، وارتفعوا إلى المنازل
المنيفة ، لأنّهم قد رأوهم في الجنّة : وروى مجاهد عن عبد الله بن الحارث قال :
يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له : الحياة ، عليه قضبان الذّهب مكلّلة باللؤلؤ
، فيغمسون فيه ، فيخرجون ، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، ويقال لهم :
تمنّوا ما شئتم ، ولكم سبعون ضعفا ، فهم مساكين أهل الجنّة.
(وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠))
قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ) قال ابن عباس : لمّا صار أصحاب الأعراف إلى الجنّة ، وطمع
أهل النار في الفرج بعد اليأس ، فقالوا : يا ربّ ، إنّ لنا قرابات من أهل الجنّة ،
فائذن لنا حتّى نراهم ونكلّمهم ، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النّعيم فعرفوهم.
ونظر أهل الجنّة إلى قراباتهم من أهل جهنّم فلم يعرفوهم ، قد اسودّت وجوههم وصاروا
خلقا آخر ، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنّة بأسمائهم ، وأخبروهم بقراباتهم ،
فينادي الرجل أخاه : يا أخي قد احترقت فأغثني ؛ فيقول : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى
الْكافِرِينَ). قال السّدّيّ : عنى بقوله : (أَوْ مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ) الطّعام. قال الزّجّاج : أعلم الله عزوجل أنّ ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب ، وإن كان
معذّبا.
(الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ
نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ
(٥١))
قوله تعالى : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً
وَلَعِباً) قال ابن عباس : هم المستهزئون. والمعنى : أنهم تلاعبوا
بدينهم الذي شرع لهم. وقال أبو روق : دينهم : عيدهم. وقال قتادة : (لَهْواً وَلَعِباً) أي : أكلا وشربا. وقال غيره : هو ما زيّنه الشيطان لهم من
تحريم البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام ،
____________________________________
(٥٨٤) موقوف.
أخرجه الطبري ١٤٦٩٣ من طريق الشعبي عن حذيفة ، وهو منقطع فالإسناد ضعيف.
__________________
والمكاء ،
والتّصدية ، ونحو ذلك من خصال الجاهلية.
قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) قال الزّجّاج : أي : نتركهم في العذاب كما تركوا العمل
للقاء يومهم هذا. و «ما» نسق على «كما» في موضع جرّ. والمعنى : وكجحدهم. قال ابن
الأنباري : ويجوز أن يكون المعنى : فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناس
غافل كما استعملوا في الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغفل.
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ
بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) يعني القرآن. (فَصَّلْناهُ) أي : بيّنّاه بإيضاح الحقّ من الباطل. وقيل : فصّلناه
فصولا مرّة بتعريف الحلال ، ومرّة بتعريف الحرام ، ومرّة بالوعد ، ومرّة بالوعيد ،
ومرّة بحديث الأمم. وفي قوله تعالى : (عَلى عِلْمٍ) قولان : أحدهما
: على علم منّا بما
فصّلناه. والثاني
: على علم منّا بما
يصلحكم ممّا أنزلناه فيه. وقرأ ابن السّميفع ، وابن محيصن ، وعاصم ، والجحدريّ ،
ومعاذ القارئ : «فضّلناه» بضاد معجمة.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ
فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) قال ابن عباس : تصديق ما وعدوا في القرآن. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وهو يوم القيامة (يَقُولُ الَّذِينَ
نَسُوهُ) أي : تركوه (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ
رَبِّنا بِالْحَقِ) أي بالبعث بعد الموت. قوله تعالى : (أَوْ نُرَدُّ) قال الزّجّاج : المعنى : أو هل نردّ. وقوله. (فَنَعْمَلَ) منصوب على جواب الفاء للاستفهام.
(إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))
قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) اختلفوا أيّ يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه يوم السّبت.
(٥٨٥) روى مسلم في
«صحيحه» من حديث أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيدي ، فقال :
____________________________________
(٥٨٥) الصحيح
موقوف. أخرجه مسلم ٢٧٨٩ وأحمد والنسائي في «الكبرى» ١١٠١٠ وابن حبان ٦١٦١ والطبري
في «التاريخ» ١ / ٢٣ و ٢٥ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ٨٣٨٣ وعلقه الإمام
البخاري في «تاريخه» ١ / ٤١٣ ـ ٤١٤ من طريق أيوب وقال : وقال بعضهم عن أبي
هريرة ، عن كعب ، وهو أصح.
وقال الحافظ ابن
كثير في «تفسيره» ١ / ٩٩ : هذا الحديث من غرائب «صحيح مسلم» وقد تكلم عليه ابن
المديني والبخاري. وغير واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما
سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة ، فجعله مرفوعا ، وذكره
أيضا في «تفسيره» ٣ / ٤٢٢ ، وقال : وفيه استيعاب الأيام السبعة ، والله تعالى قد
قال (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا
«خلق الله عزوجل التّربة يوم السّبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق
الشّجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثّلاثاء ، وخلق النّور يوم الأربعاء ، وبثّ
فيها الدّوابّ يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق ، في آخر
ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» ، وهذا اختيار محمّد بن إسحاق.
وقال ابن الأنباري : وهذا إجماع أهل العلم.
والثاني
: يوم الأحد ، قاله
عبد الله بن سلّام ، وكعب ، والضّحّاك ، ومجاهد ، واختاره ابن جرير الطّبريّ ، وبه
يقول أهل التّوراة.
والثالث
: يوم الاثنين ،
قاله ابن إسحاق ، وبهذا يقول أهل الإنجيل.
ومعنى قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي : في مقدار ذلك ، لأنّ اليوم يعرف بطلوع الشّمس وغروبها
، ولم تكن الشمس حينئذ. قال ابن عباس : مقدار كلّ يوم من تلك الأيام ألف سنة ، وبه
قال كعب ، ومجاهد ، والضّحّاك ، ولا نعلم خلافا في ذلك. ولو قال قائل : إنها كأيام
الدّنيا ، كان قوله بعيدا من وجهين : أحدهما : خلاف الآثار. والثاني : أنّ الذي يتوهّمه المتوهّم من الإبطاء في ستة آلاف سنة ،
يتوهّمه في ستة أيام عند تصفّح قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . فإن قيل : فهلّا خلقها في لحظة ، فإنه قادر؟ فعنه خمسة
أجوبة : أحدها
: أنه أراد أن يوقع
في كلّ يوم أمرا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده ، ذكره ابن الأنباري. والثاني : أنّ التّثبّت في تمهيد ما خلق لآدم وذرّيّته قبل
____________________________________
الحديث ، وجعلوه
من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ، ليس مرفوعا.
وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية في «الفتاوى» ١٧ / ٢٣٦ : وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله : «خلق
الله التربة يوم السبت» فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره ، وقال
البخاري : الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار ، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا وبينوا
أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه وقال أيضا فيما
نقله عنه القاسمي في «الفضل المبين» ص ٤٣٢ ـ ٤٣٤ :
هذا الحديث طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما
وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر بن
الأنباري ، وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما ، والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه ،
وهذا هو الصواب ، لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في
ستة أيام ، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة ، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد
وهكذا عند أهل الكتاب ، وعلى ذلك تدل أسماء الأيام وهذا المنقول الثابت في أحاديث
وآثار أخر ، ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة ، لكان قد خلق في
الأيام السبعة ، وهي خلاف ما أخبر به القرآن ، مع أن حذّاق علم الحديث يثبتون علة
هذا الحديث في غير هذه الجهة ، وأن راويه فلان غلط فيه لأمور يذكرونها ، وهذا الذي
يسمى معرفة علل الحديث ، يكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا ، ولكن عرف من طريق
آخر أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف ، أو أسنده وهو مرسل ، أو دخل عليه الحديث في
حديث ، وهذا فن شريف وكان يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم صاحبه على ابن المديني ، ثم
البخاري أعلم الناس به ، وكذلك الإمام أحمد ، وأبو حاتم ، وكذلك النسائي
والدارقطني وغيرهم ، وفيه مصنفات معروفة. وقال المناوي في «فيض القدير» ٣ / ٤٤٨ :
قال بعضهم : هذا الحديث في متنه غرابة شديدة فمن ذلك : أنه ليس فيه ذكر خلق
السماوات ، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام وهذا خلاف القرآن ، لأن
الأرض خلقت في أربعة أيام ، ثم خلقت السماوات في يومين. اه.
__________________
وجوده ، أبلغ في
تعظيمه عند الملائكة. والثالث
: أنّ التّعجيل
أبلغ في القدرة ، والتّثبيت أبلغ في الحكمة ، فأراد إظهار حكمته في ذلك ، كما يظهر
قدرته في قول : (كُنْ فَيَكُونُ). والرابع
: أنه علّم عباده
التّثبّت ، فإذا تثبّت من لا يزلّ ، كان ذو الزّلل أولى بالتّثبّت. والخامس : أنّ ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء ، أبعد من أن يظنّ أنّ
ذلك وقع بالطّبع أو بالاتّفاق.
قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال الخليل بن أحمد : العرش : السّرير ؛ وكلّ سرير لملك
يسمى عرشا ؛ وقلّما يجمع العرش إلّا في اضطرار ؛ واعلم أنّ ذكر العرش مشهور عند
العرب في الجاهلية والإسلام. قال أميّة بن أبي الصّلت :
مجدوا الله فهو
للمجد أهل
|
|
ربّنا في
السّماء أمسى كبيرا
|
بالبناء الأعلى
الذي سبق النّا
|
|
س وسوّى فوق
السّماء سريرا
|
شرجعا لا يناله
ناظر العي
|
|
ن ترى دونه
الملائك صورا
|
وقال كعب : إنّ
السماوات في العرش كالقنديل معلّق بين السّماء والأرض. وروى إسماعيل بن أبي خالد
عن سعد الطّائيّ قال : العرش ياقوتة حمراء. وإجماع السّلف منعقد على أن لا يزيدوا
على قراءة الآية. وقد شذّ قوم فقالوا : العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة
إلى التّجوّز ، مع مخالفة الأثر ؛ ألم يسمعوا قوله عزوجل : (وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ) أتراه كان الملك
على الماء؟ وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول : استوى بمعنى استولى ، ويحتجّ بقول الشاعر :
حتّى استوى بشر
على العراق
|
|
من غير سيف ودم
مهراق
|
وبقول الشاعر أيضا
:
هما استويا
بفضلهما جميعا
|
|
على عرش الملوك
بغير زور
|
وهذا منكر عند
اللغويين. قال ابن الأعرابي : العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ، ومن قال ذلك فقد
أعظم. قالوا : وإنّما يقال : استولى فلان على كذا ، إذا كان بعيدا عنه غير متمكن
منه ، ثمّ
__________________
تمكّن منه ؛ والله
عزوجل لم يزل مستوليا على الأشياء ؛ والبيتان لا يعرف قائلهما ،
كذا قال ابن فارس اللغويّ. ولو صحّا ، فلا حجّة فيهما لما بيّنّا من استيلاء من لم
يكن مستوليا. نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسّمة.
قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يغشي»
ساكنة الغين خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «يغشّي» مفتوحة
الغين مشدّدة ، وكذلك قرءوا في سورة الرّعد . قال الزّجّاج : المعنى : أنّ الليل يأتي على النّهار
فيغطّيه ؛ وإنّما لم يقل : ويغشي النّهار الليل ، لأنّ في الكلام دليلا عليه ؛ وقد
قال في موضع آخر : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) . وقال أبو عليّ : إنما لم يقل : يغشي النهار الليل ، لأنّه
معلوم من فحوى الكلام ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) ، وانتصب الليل والنهار ، لأنّ كلّ واحد منهما مفعول به. فأمّا
الحثيث ، فهو السّريع.
قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّراتٍ) قرأ الأكثرون : بالنّصب فيهنّ ، وهو على معنى : خلق
السماوات والشمس. وقرأ ابن عامر : «والشمس والقمر والنجوم مسخرات» بالرّفع فيهنّ
ها هنا وفي (النّحل) ، تابعه حفص في قوله تعالى : (وَالنُّجُومَ
مُسَخَّراتٍ) في (النّحل) فحسب. والرّفع على الاستئناف. والمسخّرات :
المذلّلات لما يراد منهنّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبّر لهنّ.
قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) لأنّه خلقهم (وَالْأَمْرُ) فله أن يأمر بما يشاء. وقيل : الأمر : القضاء. قوله تعالى
: (تَبارَكَ اللهُ) فيه أربعة أقوال : أحدها : تفاعل من البركة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ؛ وكذلك قال
القتيبيّ ، والزّجّاج. وقال أبو مالك : افتعل من البركة. وقال الحسن : تجيء البركة
من قبله. وقال الفرّاء : تبارك : من البركة ؛ وهو في العربية كقولك : تقدّس ربّنا.
والثاني
: أنّ تبارك بمعنى
تعالى ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال أبو العبّاس : تبارك : ارتفع ؛
والمتبارك : المرتفع. والثالث
: أنّ المعنى :
باسمه يتبرّك في كلّ شيء ، قاله ابن الأنباري. والرابع : أنّ معنى «تبارك» تقدّس ، أي : تطهّر ، ذكره ابن الأنباري
أيضا.
(ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥))
قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) التّضرّع : التّذلّل والخضوع. والخفية : خلاف العلانية.
قال الحسن : كانوا يجتهدون في الدّعاء ، ولا تسمع إلّا همسا. ومن هذا حديث أبي
موسى :
(٥٨٦) «أربعوا على
أنفسكم ، إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا».
____________________________________
(٥٨٦) حديث صحيح.
أخرجه البخاري ٢٩٩٢ و ٦٦١٠ ومسلم ٢٧٠٤ وعبد الرزاق ٩٢٤٤ وأحمد ٤ / ٤٠٢ و ٤١٨ وابن
أبي شيبة ٦ / ٢٩٦٥٦ ، والبيهقي في «السنن» ١٨٤ والطبري ١٤٧٨٦. والبغوي في «شرح
السنة» ١٢٧٦ من حديث أبي موسى.
__________________
وفي الاعتداء
المذكور ها هنا قولان : أحدهما
: أنّه الاعتداء في
الدّعاء. ثمّ فيه ثلاثة أقوال : أحدها
: أن يدعو على
المؤمنين بالشّرّ ، كالخزي واللعنة ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل. والثاني : أن يسأل ما لا يستحقّه من منازل الأنبياء ، قاله أبو مجلز.
والثالث
: أنه الجهر في
الدّعاء ، قاله ابن السّائب. والثاني
: أنه مجاوزة
المأمور به ، قاله الزّجّاج.
(وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))
قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِها) فيه ستة أقوال : أحدها : لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني : لا تفسدوها بالظّلم بعد إصلاحها بالعدل. والثالث : لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطّاعة. والرابع : لا تعصوا ، فيمسك الله المطر ، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد
أن أصلحها بالمطر والخصب. والخامس
: لا تفسدوها بقتل
المؤمن بعد إصلاحها ببقائه. والسادس
: لا تفسدوها
بتكذيب الرّسل بعد إصلاحها بالوحي.
وفي قوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) قولان : أحدهما
: خوفا من عقابه ،
وطمعا في ثوابه. والثاني
: خوفا من الرّدّ
وطمعا في الإجابة. قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال الفرّاء : رأيت العرب تؤنّث القريبة في النّسب ، لا
يختلفون في ذلك ، فإذا قالوا : دارك منّا قريب ، أو فلانة منّا قريب ، ومن القرب
والبعد ، ذكّروا وأنّثوا ، وذلك أنهم جعلوا القريب خلفا من المكان ، كقوله : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ، وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ، ولو أنّث ذلك لكان صوابا. قال عروة :
عشيّة لا عفراء
منك قريبة
|
|
فتدنو ولا عفراء
منك بعيد
|
وقال الزّجّاج :
إنّما قيل : «قريب» لأنّ الرّحمة والغفران والعفو بمعنى واحد ، وكذلك كلّ تأنيث
ليس بحقيقي. وقال الأخفش : جائز أن تكون الرّحمة ها هنا في معنى المطر.
(وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ
سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ
فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (٥٧))
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) قرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم : «الرّياح» على
الجمع. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ : «الرّيح» على التّوحيد. وقد يأتي لفظ
التّوحيد ويراد به الكثرة كقولهم : كثر الدّرهم في أيدي الناس ، ومثله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) .
قوله تعالى : (نَشْراً) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، ونافع : «نشرا» بضمّ النون
والشين ؛ أرادوا جمع نشور ، وهي الرّيح الطّيّبة الهبوب ، تهبّ من كلّ ناحية
وجانب. قال أبو عبيدة : النشر : المتفرّقة من كلّ جانب. قال أبو عليّ : يحتمل أن
تكون النّشور بمعنى المنشر ، وبمعنى المنتشر ، وبمعنى النّاشر ؛ يقال :
__________________
أنشر الله الرّيح
، مثل أحياها ، فنشرت ، أي : حييت. والدليل على أنّ إنشار الرّيح إحياؤها قول
الفقعسي :
وهبّت له ريح
الجنوب وأحييت
|
|
له ريدة يحيي
المياه نسيمها
|
ويدلّ على ذلك أنّ
الرّيح قد وصفت بالموت. قال الشاعر :
إنّي لأرجو أن
تموت الرّيح
|
|
وأقعد اليوم
وأستريح
|
والرّيدة
والرّيدانة : الرّيح. وقرأ ابن عامر ، وعبد الوارث ، والحسن البصريّ : «نشرا»
بالنون مضمومة وسكون الشين ، وهي في معنى «نشرا». يقال : كتب وكتب ، ورسل ورسل.
وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، والمفضّل عن عاصم : «نشرا» بفتح النون وسكون
الشين. قال الفراء : النّشر : الرّيح الطّيّبة اللّينة التي تنشئ السّحاب. وقال
ابن الأنباري : النّشر : المنتشرة الواسعة الهبوب. وقال أبو عليّ : يحتمل النّشر
أن يكون خلاف الطّيّ ، كأنّها كانت بانقطاعها كالمطويّة. ويحتمل أن يكون معناها ما
قاله أبو عبيدة في النّشر : أنها المتفرّقة في الوجوه ؛ ويحتمل أن يكون من النّشر
الذي هو الحياة ، كقول الشاعر :
يا عجبا للميّت النّاشر
قال : وهذا هو
الوجه. وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وإبراهيم النّخعيّ ، ومسروق ، ومورّق العجلي : «نشرا»
بفتح النون والشين. قال ابن القاسم : وفي النّشر وجهان : أحدهما : أن يكون جمعا للنّشور ، كما قالوا : عمود وعمد ، وإهاب
وأهب. والثاني
: أن يكون جمعا ،
واحده ناشر ، يجري مجرى قوله : غائب وغيب ، وحافد وحفد ؛ وكلّ هؤلاء القرّاء نوّن
الكلمة. وكذلك اختلافهم في (سورة الفرقان) و (سورة النّمل) . هذه قراءات من قرأ بالنّون. وقد قرأ آخرون بالباء ؛ فقرأ
عاصم إلّا المفضّل : «بشرى» بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فعلى. قال ابن
الأنباري : وهي جمع بشيرة ، وهي التي تبشّر بالمطر. والأصل ضمّ الشّين ، إلّا
أنّهم استثقلوا الضّمّتين. وقرأ ابن خثيم ، وابن حذلم مثله ، إلّا أنّهما نونا
الراء. وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : بضمّ الباء والشّين ،
وهذا على أنها جمع بشيرة. والرّحمة هاهنا : المطر ؛ سمّاه رحمة لأنه كان بالرّحمة.
و «أقلّت» بمعنى حملت. قال الزّجّاج : السّحاب : جمع سحابة. قال ابن فارس : سمّي
السّحاب لانسحابه في الهواء.
قوله تعالى : (ثِقالاً) أي : بالماء. وقوله تعالى : (سُقْناهُ) ردّ الكناية إلى لفظ السّحاب ، ولفظه لفظ واحد. وفي قوله :
«لبلد» قولان : أحدهما
: إلى بلد. والثاني : لإحياء بلد. والميّت : الذي لا ينبت فيه ، فهو محتاج إلى
المطر. وفي قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا بِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الكناية ترجع إلى السّحاب. والثاني : إلى المطر ، ذكرهما الزّجّاج. والثالث : إلى البلد ، ذكره ابن الأنباري. فأمّا هاء (فَأَخْرَجْنا بِهِ) فتحتمل الأقوال الثلاثة.
__________________
قوله تعالى : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي : كما أحيينا هذا البلد. وقال مجاهد : نحيي الموتى
بالمطر كما أحيينا البلد الميت به. قال ابن عباس : يرسل الله تعالى بين النّفختين
مطرا كمنيّ الرّجال ، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أمّهاتهم.
قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قال الزّجّاج : لعلّ : ترجّ. وإنّما خوطب العباد على ما
يرجوه بعضهم من بعض ؛ والمعنى : لعلّكم بما بيّناه لكم تستدلّون على توحيد الله
وأنه يبعث الموتى.
(وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ
إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))
قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) يعني الأرض الطّيّبة التّربة ، (يَخْرُجُ نَباتُهُ) وقرأ ابن أبي عبلة : «يخرج» بضمّ الياء وكسر الراء ، «نباته»
بنصب التاء ، (وَالَّذِي خَبُثَ لا
يَخْرُجُ) كذلك أيضا. وروى أبان عن عاصم : «لا يخرج» بضمّ الياء وكسر
الراء. والمراد بالذي خبث : الأرض السّبخة.
قوله تعالى : (إِلَّا نَكِداً) قرأ الجمهور : بفتح النّون وكسر الكاف ، وقرأ أبو جعفر : «نكدا»
بفتح الكاف. وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وابن محيصن : «نكدا» بإسكان الكاف. قال أبو
عبيدة : قليلا عسيرا في شدّة ، وأنشد :
لا تنجز الوعد
إن وعدت وإن
|
|
أعطيت أعطيت
تافها نكدا
|
قال المفسّرون :
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ؛ فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله انتفع به
وبان أثره عليه ، فشبّه بالبلد الطّيّب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه ؛
وعكسه الكافر.
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي
ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ
رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢))
قوله تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ) قال مقاتل : وحّدوه ؛ وكذلك في سائر القصص بعدها.
قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قرأ الكسائيّ : «غيره» بالخفض. قال أبو عليّ : جعل غيرا صفة
ل «إله» على اللفظ.
قوله تعالى : (أُبَلِّغُكُمْ) قرأ أبو عمرو : «أبلغكم» ساكنة الباء خفيفة اللام. وقرأ
الباقون : «أبلّغكم» مفتوحة الباء مشدّدة اللام.
قوله تعالى : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) يقال : نصحته ونصحت له ، وشكرته وشكرت له.
قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) أي : من مغفرته لمن تاب عليه وعقوبته لمن أصرّ.
وقال مقاتل : أعلم
من نزول العذاب ما لا تعلمونه ؛ وذلك أنّ قوم نوح لم يسمعوا بقوم عذّبوا قبلهم.
__________________
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))
قوله تعالى : (أَوَعَجِبْتُمْ) قال الزّجّاج : هذه واو العطف ، دخلت عليها ألف الاستفهام
، فبقيت مفتوحة. وفي الذّكر قولان : أحدهما : الموعظة. والثاني : البيان. وفي قوله : (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) قولان : أحدهما
: أنّ «على» بمعنى
: «مع» ، قاله الفرّاء. والثاني
: أنّ المعنى : على
لسان رجل منكم ، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى : (قَوْماً عَمِينَ) قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدّة
بطشه. (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ
فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ
بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ
رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ
ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً
فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا
لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠))
قوله تعالى : (وَإِلى عادٍ) المعنى : وأرسلنا إلى عاد (أَخاهُمْ هُوداً). قال الزّجّاج : وإنما قيل : أخوهم ، لأنه بشر مثلهم من
ولد أبيهم آدم. ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ :
وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح ؛ وإنما سماه أخاهم لأنه كان نسيبا لهم ، وهو وهم من
ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام.
قوله تعالى : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) قال ابن قتيبة : السّفاهة : الجهل. وقال الزّجّاج : السّفاهة
: خفّة الحلم والرأي ؛ يقال : ثوب سفيه ، إذا كان خفيفا. (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فكفروا به ، ظانّين ، لا مستيقنين. (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) هذا موضع أدب للخلق في حسن المخاطبة ، فإنه دفع ما سبّوه
به من السّفاهة بنفيه فقط.
قوله تعالى : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) قال الضّحّاك : أمين على الرّسالة. وقال ابن السّائب : كنت
فيكم أمينا قبل اليوم.
قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) ذكّرهم النّعمة حيث أهلك من كان قبلهم ، وأسكنهم مساكنهم. (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي : طولا وقوّة. وقال ابن عباس : كان أطولهم مائة ذراع ،
وأقصرهم ستين ذراعا. قال الزّجّاج : وآلاء الله : نعمه ؛ واحدها : إلى. قال الشاعر :
أبيض لا يرهب
الهزال ولا
|
|
يقطع رحما ولا
يخون إلى
|
ويجوز أن يكون
واحدها «إليا» ، «وألى».
__________________
قوله تعالى : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي : من نزول العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) في أنّ العذاب نازل بنا. وقال عطاء : في نبوّتك وإرسالك
إلينا.
(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا
مُؤْمِنِينَ (٧٢))
قوله تعالى : (قالَ قَدْ وَقَعَ) أي وجب عليكم (مِنْ رَبِّكُمْ
رِجْسٌ وَغَضَبٌ) قال ابن عباس : عذاب وسخط. وقال أبو عمرو بن العلاء :
الرّجز والرّجس بمعنى واحد ، قلبت السين زايا. قوله تعالى : (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) يعني : الأصنام. وفي تسميتهم لها قولان : أحدهما : أنّهم سمّوها آلهة. والثاني : أنّهم سمّوها بأسماء مختلفة. والسّلطان : الحجّة : (فَانْتَظِرُوا) نزول العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ) الذي يأتيكم من العذاب في تكذيبكم إيّاي.
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً
فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ
الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ (٧٤))
قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ) قال أبو عمرو بن العلاء : سمّيت ثمود لقلّة مائها. قال ابن
فارس : الثّمد : الماء القليل الذي لا مادّة له.
قوله تعالى : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) في إضافتها إليه قولان : أحدهما : أنّ ذلك للتّخصيص والتّفضيل ، كما يقال : بيت الله. والثاني : لأنّها كانت بتكوينه من غير سبب.
قوله تعالى : (لَكُمْ آيَةً) أي : علامة تدلّ على قدرة الله ؛ وإنّما قال : «لكم»
لأنّهم هم الذين اقترحوها ، وإن كانت آية لهم ولغيرهم. وفي وجه كونها آية قولان : أحدهما : أنّها خرجت من صخرة ملساء ، فتمخّضت بها تمخّض الحامل ،
ثمّ انفلقت عنها على الصّفة التي طلبوها. والثاني : أنّها كانت تشرب ماء الوادي كلّه في يوم ، وتسقيهم اللبن
مكانه.
قوله تعالى : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) قال ابن الأنباري : ليس عليكم مؤنتها وعلفها. و «تأكل»
مجزوم على جواب الشّرط المقدّر ، أي : إن تذروها تأكل.
قوله تعالى : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) ، أي : لا تصيبوها بعقر.
قوله تعالى : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : أنزلكم ؛ يقال : تبوّأ فلان منزلا : إذا نزله.
وبوّأته : أنزلته. قال الشاعر :
وبوّئت في صميم
معشرها
|
|
فتمّ في قومها
مبوّؤها
|
__________________
أي أنزلت من
الكريم في صميم النسب ، قاله الزجاج.
قوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) السّهل : ضدّ الحزن. والقصر : ما شيّد وعلا من المنازل.
قال ابن عباس : اتّخذوا القصور في سهول الأرض للصّيف ، ونقبوا في الجبال للشّتاء.
قال وهب بن منبّه : كان الرجل منهم يبني البنيان ، فيمرّ عليه مائة سنة ، فيخرب ،
ثم يجدّده ، فيمرّ عليه مائة سنة ، فيخرب ثم يجدّده ، فيمرّ عليه مائة سنة ، فيخرب
؛ فأضجرهم ذلك ، فاتّخذوا من الجبال بيوتا.
(قالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي
آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦))
قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وقرأ ابن عامر «وقال الملأ» بزيادة واو ؛ وكذلك هي في
مصاحفهم. ومعنى الآية : تكبّروا عن عبادة الله. (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا) يريد : المساكين. (لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ) بدل من قوله «للذين استضعفوا» لأنّهم المؤمنون (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ) هذا استفهام إنكار.
(فَعَقَرُوا
النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨))
قوله تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي : قتلوها. قال ابن قتيبة : والعقر يكون بمعنى : القتل.
(٥٨٧) ومنه قوله عليهالسلام عند ذكر الشّهداء : «من عقر جواده».
وقال ابن إسحاق :
كمن لها قاتلها في أصل شجرة فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها ، ثم شدّ عليها
بالسّيف فكسر عرقوبها ، ثم نحرها. قال الأزهريّ : العقر عند العرب : قطع عرقوب
البعير ، ثمّ جعل العقر نحرا ، لأنّ ناحر البعير يعقره ثم ينحره. قوله تعالى : (وَعَتَوْا) قال الزّجّاج : جازوا المقدار في الكفر. قال أبو سليمان :
عتوا عن اتّباع أمر ربّهم.
قوله تعالى : (بِما تَعِدُنا) أي : من العذاب.
قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قال الزّجّاج : الرّجفة : الزّلزلة الشديدة.
____________________________________
(٥٨٧) حديث صحيح.
أخرجه أبو داود ١٤٤٩ والنسائي ٥ / ٥٨ والدارمي ١ / ٣٣١ من حديث عبد الله بن حبشي
الخثعمي ، وهو حديث صحيح. وأخرجه ابن ماجة ٢٧٩٤ من حديث عمرو بن عبسة ١٢٧٦ وأخرجه
الطيالسي «منحة المعبود» ١ / ٢٤ رقم ٢٩ وعبد الرزاق في «مصنفه» ٨٤٤ والحميدي ١٢٧٦
وأحمد ٣ / ٣٣٠ و ٣٠٢ و ٣٤٦ والدارمي ٢ / ٢٠٠. وأبو يعلى ٢٠٨١ من حديث جابر ، وهو
حديث صحيح.
وذكره الهيثمي في «المجمع»
٥ / ٢٩١ وقال : «رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ، والصغير رجال
الصحيح. واللفظ عند أبي داود : عن عبد الله بن حبشي الخثعمي ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم سئل : أي الأعمال أفضل قال «طول القيام» قيل : فأي الصدقة
أفضل؟ قال «جهد المقل» قيل فأي الهجرة أفضل؟ قال «من هجر ما حرم الله عليه» قيل :
فأي الجهاد أفضل؟ قال : «من جاهد المشركين بماله ونفسه» قيل : فأي القتل أشرف؟ قال
«من أهريق دمه وعقر جواده».
قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي : في مدينتهم. فإن قيل : كيف وحّد الدّار ها هنا ،
وجمعها في موضع آخر ، فقال : (فِي دِيارِهِمْ) ؟ فعنه جوابان ، ذكرهما ابن الأنباري :
أحدهما
: أنه أراد بالدّار
: المعسكر ، أي : فأصبحوا في معسكرهم. وأراد بقوله : في ديارهم : المنازل التي
ينفرد كلّ واحد منها بمنزل.
والثاني
: أنه أراد بالدار
: الدّيار ، فاكتفى بالواحد من الجميع ، كقول الشاعر :
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا
وشواهد هذا كثيرة
في هذا الكتاب.
قوله تعالى : (جاثِمِينَ) قال الفرّاء : أصبحوا رمادا جاثما. وقال أبو عبيدة : أي :
بعضهم على بعض جثوم. والجثوم للناس والطّير بمنزلة البروك للإبل. وقال ابن قتيبة :
الجثوم : البروك على الرّكب. وقال غيره : كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال. وقال
الزّجّاج : أصبحوا أجساما ملقاة في الأرض كالرّماد الجاثم. قال المفسّرون : معنى «جاثمين»
: بعضهم على بعض ، أي : إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ
الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ
مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢))
قوله تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) يقول : انصرف صالح عنهم بعد عقر النّاقة ، لأن الله تعالى
أوحى إليه أن اخرج من بين أظهرهم ، فإني مهلكهم. وقال قتادة : ذكر لنا أنّ صالحا
أسمع قومه كما أسمع نبيّكم قومه ، يعني : بعد موتهم.
قوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) يعني إتيان الرّجال. (ما سَبَقَكُمْ بِها
مِنْ أَحَدٍ) قال عمرو ابن دينار : ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى
كان قوم لوط. وقال بعض اللغويين : لوط : مشتقّ من لطت الحوض : إذا ملّسته بالطّين.
قال الزّجّاج وهذا غلط ، لأنه اسم أعجميّ كإسحاق ، ولا يقال : إنه مشتقّ من السّحق
وهو البعد.
قوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) هذا استفهام إنكار. والمسرف : المجاوز ما أمر به. وقوله
تعالى : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ) يعني : لوطا وأتباعه المؤمنين (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) قال ابن عباس : يتنزّهون عن أدبار الرجال وأدبار النّساء.
(فَأَنْجَيْناهُ
وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))
__________________
قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) في أهله قولان : أحدهما : ابنتاه. والثاني
: المؤمنون به. (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ
الْغابِرِينَ) أي : الباقين في عذاب الله تعالى : قال أبو عبيدة : وإنّما
قال : «من الغابرين» لأنّ صفة النّساء مع صفة الرّجال تذكّر إذا أشرك بينهما.
قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) قال ابن عباس : يعني : الحجارة. قال مجاهد : نزل جبريل
فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط ورفعها ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا
بالحجارة.
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥))
قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ) قال قتادة : مدين : ماء كان عليه قوم شعيب ، وكذلك قال
الزّجّاج ، وقال : لا ينصرف ، لأنه اسم البقعة. وقال مقاتل : مدين : هو ابن
إبراهيم الخليل لصلبه. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ : مدين : هو ابن مديان بن
إبراهيم ، والمعنى : أرسلنا إلى ولد مدين ، فعلى هذا : هو اسم قبيلة. وقال بعضهم :
هو اسم للمدينة. فالمعنى : وإلى أهل مدين. قال شيخنا أبو منصور اللّغويّ : مدين
اسم أعجميّ. فإن كان عربيا ، فالياء زائدة ، من قولهم : مدن بالمكان : إذا أقام
به.
قوله تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) قال الزّجّاج : البخس : النّقص والقلّة ؛ يقال : بخست أبخس
؛ بالسين ، وبخصت عينه ، بالصاد لا غير. (وَلا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) أي : لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله بالأمر
بالعدل ، وإرسال الرّسل.
قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : مصدّقين بما أخبرتكم عن الله.
(وَلا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦))
قوله تعالى : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) أي : بكلّ طريق (تُوعِدُونَ) من آمن بشعيب بالشّرّ ، وتخوّفونهم بالعذاب والقتل. فإن
قيل : كيف أفرد الفعل ، وأخلاه من المفعول ؛ فهلّا قال : توعدون بكذا؟ فالجواب :
أنّ العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول ، لم يدلّ إلّا على شرّ ؛ يقولون : أوعدت
فلانا. وكذلك إذا أفردوا : وعدت من مفعول ، لم يدلّ إلّا على الخير. قال الفرّاء :
يقولون : وعدته خيرا ، ووعدته شرّا ؛ فإذا أسقطوا الخير والشرّ ، قالوا : وعدته :
في الخير ، وأوعدته : في الشرّ ؛ فإذا جاءوا بالباء ، قالوا : وعدته بالشرّ ، وقال
الراجز :
أوعدني بالسّجن والأداهم
قال المصنّف :
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللّغويّ ، قال : إذا أرادوا أن يذكروا ما تهدّدوا به
مع أوعدت ، جاءوا بالباء ، فقالوا : أوعدته بالضّرب ، ولا يقولون : أوعدته الضّرب.
قال السّدّيّ : كانوا
__________________
عشّارين. وقال ابن
زيد : كانوا يقطعون الطّريق.
قوله تعالى : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : تصرفون عن دين الله من آمن به. (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) مفسّر في (آل عمران) .
قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً
فَكَثَّرَكُمْ) قال الزّجّاج : جائز أن يكون المعنى : جعلكم أغنياء بعد أن
كنتم فقراء ؛ وجائز أن يكون : كثّر عددكم بعد أن كنتم قليلا ، وجائز أن يكونوا غير
ذوي مقدرة وأقدار ، فكثّرهم.
(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ
مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ
أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨))
قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا
بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي : إن اختلفتم في رسالتي ، فصرتم فريقين ، مصدّقين
ومكذّبين (فَاصْبِرُوا حَتَّى
يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) بتعذيب المكذّبين ، وإنجاء المصدّقين (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه العدل الذي لا يجوز.
قوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) يعنون ديننا ، وهو الشّرك. قال الفرّاء : جعل في قوله : «لتعودن»
لاما كجواب اليمين ، وهو في معنى شرط ؛ ومثله في الكلام : والله لأضربنّك أو تقرّ
لي ، فيكون معناه معنى : «إلّا» ، أو معنى : «حتى». (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا
كارِهِينَ) أي : أو تجبروننا على ملّتكم إن كرهناها؟! والألف
للاستفهام. فإن قيل : كيف قالوا : «لتعودنّ» ، وشعيب لم يكن في كفر قطّ ، فيعود
إليه؟ ففيه جوابان : أحدهما
: أنّهم لمّا جمعوا
في الخطاب معه من كان كافرا ، ثم آمن ، خاطبوا شعيبا بخطاب أتباعه ، وغلّبوا لفظهم
على لفظه ، لكثرتهم ، وانفراده. والثاني
: أنّ المعنى :
لتصيرنّ إلى ملّتنا ؛ فوقع العود على معنى الابتداء ، كما يقال : قد عاد عليّ من
فلان مكروه ، أي : قد لحقني منه ذلك ؛ وإن لم يكن سبق منه مكروه. قال الشاعر :
فإن تكن الأيّام
أحسن مرّة
|
|
إليّ فقد عادت
لهنّ ذنوب
|
وقد شرحنا هذا في
قوله : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) في (سورة البقرة) . وقد ذكر معنى الجوابين الزّجّاج ، وابن الأنباري.
(قَدِ افْتَرَيْنا
عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ
مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا
وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً
إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا
__________________
فِي
دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا
فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))
قوله تعالى : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً
إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) وذلك أنّ القوم كانوا يدّعون أنّ الله أمرهم بما هم عليه ،
فلذلك سمّوه ملّة. (وَما يَكُونُ لَنا
أَنْ نَعُودَ فِيها) أي : في الملّة ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ) أي : إلّا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود
فيها ، (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً) قال ابن عباس : يعلم ما يكون قبل أن يكون.
قوله تعالى : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي : فيما توعّدتمونا به ، وفي حراستنا عن الضّلال. (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ
قَوْمِنا بِالْحَقِ) قال أبو عبيدة : أحكم بيننا ، وأنشد
ألا أبلغ بني
عصم رسولا
|
|
بأنّي عن
فتاحتكم غنيّ
|
قال الفرّاء :
وأهل عمان يسمّون القاضي : الفاتح والفتاح. قال الزّجّاج : وجائز أن يكون المعنى :
أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف ؛ فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب
بقومهم ليظهر أنّ الحق معهم.
قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) فيه أربعة أقوال :
أحدها
: كأن لم يعيشوا في
دارهم ، قاله ابن عباس ، والأخفش. قال حاتم طيء :
غنينا زمانا
بالتّصعلك والغنى
|
|
فكلّا سقاناه
بكأسيهما الدّهر
|
فما زادنا بغيا
على ذي قرابة
|
|
غنانا ، ولا
أزري بأحسابنا الفقر
|
قال الزّجّاج :
معنى غنينا : عشنا. والتّصعلك : الفقر ، والعرب تقول للفقير : الصّعلوك.
والثاني
: كأن لم يتنعّموا
فيها ، قاله قتادة. والثالث
: كأن لم يكونوا
فيها ، قاله ابن زيد ، ومقاتل.
والرابع
: كأن لم ينزلوا
فيها ، قاله الزّجّاج. قال الأصمعيّ : المغاني : المنازل ، يقال : غنينا بمكان كذا
، أي : نزلنا به. وقال ابن قتيبة : كأن لم يقيموا فيها ، ومعنى : غنينا بمكان كذا
: أقمنا. قال ابن الأنباري : وإنما كرّر قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْباً) للمبالغة في ذمّهم ؛ كما تقول : أخوك الذي أخذ أموالنا ،
أخوك الذي شتم أعراضنا.
قوله تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أعرض. والثاني : انصرف. (وَقالَ يا قَوْمِ
لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) قال قتادة : أسمع شعيب قومه ، وأسمع صالح قومه ؛ كما أسمع
نبيّكم قومه يوم بدر ، يعني : أنه خاطبهم بعد الهلاك. (فَكَيْفَ آسى) أي : أحزن. وقال أبو إسحاق : أصاب شعيبا على قومه حزن شديد
، ثم عاتب نفسه ، فقال : كيف آسى على قوم كافرين.
__________________
(وَما أَرْسَلْنا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤))
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) قال الزّجّاج : يقال لكل مدينة : قرية ، لاجتماع الناس
فيها. وقال غيره : في الآية اختصار ، تقديره : فكذّبوه. (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ) وقد سبق تفسير البأساء والضّرّاء في سورة الأنعام ، وتفسير
التّضرّع في هذه السورة. ومقصود الآية : إعلام النبيّ صلىاللهعليهوسلم بسنّة الله في المكذّبين ، وتهديد قريش.
(ثُمَّ بَدَّلْنا
مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ
مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً
وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧))
قوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ
الْحَسَنَةَ) فيه قولان : أحدها : أنّ السّيئة : الشّدة ؛ والحسنة ؛ الرّخاء ، قاله ابن
عباس. والثاني
: السّيئة : الشّرّ
؛ والحسنة : الخير ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : (حَتَّى عَفَوْا) قال ابن عباس : كثروا ، وكثرت أموالهم. (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا
الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) فنحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم ، يعني : أنّهم أرادوا أنّ هذا
دأب الدّهر وليس بعقوبة (فَأَخَذْناهُمْ
بَغْتَةً) أي فجأة بنزول العذاب (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) بنزوله حتى أهلكهم. قوله تعالى : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قال الزّجّاج : المعنى : أتاهم الغيث من السماء ، والنّبات
من الأرض ، وجعل ذلك زاكيا كثيرا.
(أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩))
قوله تعالى : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ونافع : «أو أمن أهل» بإسكان
الواو. وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : (أَوَأَمِنَ) بتحريك الواو. وروى ورش عن نافع : «أو أمن» يدغم الهمزة ،
ويلقي حركتها على الساكن.
(أَوَلَمْ يَهْدِ
لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ
أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ
(١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١))
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ) وقرأ يعقوب : «نهد» بالنون ، وكذلك في (طه) ، و (السجدة) . قال الزّجّاج : من قرأ بالياء ، فالمعنى : أو لم يبيّن
الله لهم. ومن قرأ بالنون ، فالمعنى : أو لم نبيّن. وقوله تعالى : (وَنَطْبَعُ) ليس بمحمول على «أصبناهم» ، لأنّه لو حمل على «أصبناهم»
لكان : ولطبعنا. وإنّما المعنى : ونحن نطبع على قلوبهم. ويجوز أن يكون محمولا على
الماضي ،
__________________
ولفظه لفظ
المستقبل ، كما قال : (أَنْ لَوْ نَشاءُ) ، والمعنى : لو شئنا. وقال ابن الأنباري : يجوز أن يكون
معطوفا على : أصبنا ، إذ كان بمعنى نصيب ؛ فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح
معنى الاستقبال ، كما قال : (تَبارَكَ الَّذِي
إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي : إن يشأ ، يدلّ عليه قوله : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) ، قال الشاعر :
إن يسمعوا ريبة
طاروا بها فرحا
|
|
منّي ، وما
سمعوا من صالح دفنوا
|
أي : يدفنوا :
قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يقبلون ، ومنه : «سمع الله لمن حمده» ، قال الشاعر :
دعوت الله حتّى
خفت أن لا
|
|
يكون الله يسمع
ما أقول
|
قوله تعالى : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) فيه خمسة أقوال : أحدها
: فما كانوا
ليؤمنوا عند مجيء الرّسل بما سبق في علم الله أنهم يكذّبون به يوم أقرّوا له
بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم ، هذا قول أبيّ بن كعب. والثاني : فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرّسل بما كذّبوا به يوم أخذ
ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم ، فآمنوا كرها حيث أقرّوا بالألسن ، وأضمروا
التّكذيب ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثالث : فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما
كذّبوا به من قبل هلاكهم ، هذا قول مجاهد. والرابع : فما كانوا ليؤمنوا بما كذّب به أوائلهم من الأمم الخالية ،
بل شاركوهم في التّكذيب ، قاله يمان بن رباب. والخامس : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذّبوا
قبل رؤيتها.
(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ
مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))
قوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) قال مجاهد : يعني : القرون الماضية. (مِنْ عَهْدٍ) قال أبو عبيدة : أي : وفاء. قال ابن عباس : يريد الوفاء
بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم. وقال الحسن : العهد ها هنا : ما عهده
إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا.
__________________
قوله تعالى : (وَإِنْ وَجَدْنا) قال أبو عبيدة : وما وجدنا أكثرهم إلّا الفاسقين.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ
إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ
بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧))
قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني : الأنبياء المذكورين.
قوله تعالى : (فَظَلَمُوا بِها) قال ابن عباس : فكذّبوا بها. وقال غيره : فجحدوا بها.
قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى
اللهِ إِلَّا الْحَقَ) «على» بمعنى
الباء. قال الفرّاء : العرب تجعل الباء في موضع «على» ؛ تقول : رميت بالقوس ، وعلى
القوس ، وجئت بحال حسنة ، وعلى حال حسنة. وقال أبو عبيدة : «حقيق» بمعنى : حريص.
وقرأ نافع ، وأبان عن عاصم : «حقيق عليّ» بتشديد الياء وفتحها ، على الإضافة.
والمعنى : واجب عليّ.
قوله تعالى : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) قال ابن عباس : يعنى : العصا. (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : أطلق عنهم ؛ وكان قد استخدمهم في الأعمال الشّاقّة. (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) قال أبو عبيدة : أي : حيّة ظاهرة. قال الفرّاء : الثعبان :
أعظم الحيّات ، وهو الذّكر. وكذلك روى الضّحّاك عن ابن عباس : الثّعبان : الحيّة
الذّكر.
(وَنَزَعَ يَدَهُ
فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ
إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما
ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ
حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣)
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا
أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ
تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
(١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ
(١٢٢))
قوله تعالى : (وَنَزَعَ يَدَهُ) قال ابن عباس : أدخل يده في جيبه ، ثم أخرجها ، فإذا هي
تبرق مثل البرق ، لها شعاع غلب نور الشّمس ، فخرّوا على وجوههم ؛ ثم أدخلها جيبه
فصارت كما كانت. قال مجاهد : بيضاء من غير برص.
قوله تعالى : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) قال ابن عباس : ما الذي تشيرون به عليّ؟ وهذا يدلّ على أنه
من قول فرعون ، وأنّ كلام الملأ انقطع عند قوله : (مِنْ أَرْضِكُمْ). قال الزّجّاج : يجوز أن يكون من قول الملأ ، كأنّهم
خاطبوا فرعون ومن يخصّه ، أو خاطبوه وحده ؛ لأنه قد يقال للرّئيس المطاع : ما ذا
ترون؟
قوله تعالى : (أَرْجِهْ) قرأ ابن كثير «أرجئهو» مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ.
وقرأ ابن عمرو مثله ، غير أنه يضمّ الهاء ضمّة ، من غير أن يبلغ بها الواو ؛ وكانا
يهمزان : «مرجئون» و «ترجئ» وقرأ قالون والمسيّبي عن نافع «أرجه» بكسر الهاء ، ولا
يبلغ بها الياء ، ولا يهمز. وروى عنه ورش : «أرجهي» يصلها بياء ، ولا يهمز بين
الجيم والهاء. وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع ، وهي قراءة الكسائيّ. وقرأ حمزة
: «أرجه» ساكنة الهاء غير مهموز ، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية المفضّل ، وقد روى
عنه المفضّل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز ، وهي قراءة أبي جعفر ، وكذلك
اختلافهم في سورة (الشّعراء) . قال ابن قتيبة : أرجه : أخّره ؛ وقد يهمز ، يقال : أرجأت
الشيء ، وأرجيته. ومنه قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَ) . قال الفرّاء : بنو أسد تقول : أرجيت الأمر ، بغير همز ،
وكذلك عامّة قيس ؛ وبعض بني تميم يقولون : أرجأت الأمر ، بالهمز ، والقرّاء مولعون
بهمزها ، وترك الهمز أجود.
قوله تعالى : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) يعني مدائن مصر ، (حاشِرِينَ) أي : من يحشر السّحرة إليك ويجمعهم. وقال ابن عباس : هم
الشّرط. قوله تعالى : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ
ساحِرٍ) قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «ساحر»
؛ وفي (يونس) : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) ؛ وقرأ حمزة ؛ والكسائيّ : «سحّار» في الموضعين ؛ ولا خلاف
في (الشّعراء) أنّها : (سَحَّارٍ) .
قوله تعالى : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وحفص عن عاصم (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) مكسورة الألف على الخبر ، وفي (الشّعراء) : «آينّ» ممدودة
مفتوحة الألف ، غير أنّ حفصا روى عن عاصم في (الشّعراء) : «أإن» بهمزتين. وقرأ أبو عمرو : «آين لنا» ممدودة في السّورتين.
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : بهمزتين في الموضعين. قال
أبو عليّ : الاستفهام أشبه بهذا الموضع ، لأنّهم لم يقطعوا على أنّ لهم الأجر ،
وإنّما استفهموا عنه.
قوله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي : ولكم مع الأجر المنزلة الرّفيعة عندي.
قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) قال أبو عبيدة : عشّوا أعين الناس وأخذوها. (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي : خوّفوهم. وقال الزّجّاج : استدعوا رهبتهم حتى رهبهم
الناس.
قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) وقرأ كعاصم : (تَلْقَفُ) ساكنة اللام ، خفيفة القاف هاهنا وفي (طه) ، و (الشّعراء).
وروى البزّيّ. وابن فليح عن ابن كثير : «تلقّف» بتشديد التاء. قال الفرّاء : يقال
: لقفت الشيء ، فأنا ألقفه لقفا ولقفانا ؛ والمعنى : تبتلع.
قوله تعالى : (ما يَأْفِكُونَ) أي : يكذبون ، لأنّهم زعموا أنّها حيّات.
قوله تعالى : (فَوَقَعَ الْحَقُ) قال ابن عباس : استبان. (وَبَطَلَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) من السّحر.
الإشارة إلى قصّتهم
اختلفوا في عدد
السّحرة على ثلاثة عشر قولا. أحدها
: اثنان وسبعون ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني
: اثنان وسبعون
ألفا ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال مقاتل. والثالث : سبعون ،
__________________
روي عن ابن عباس
أيضا. والرابع
: اثنا عشر ألفا ،
قاله كعب. والخامس
: سبعون ألفا ،
قاله عطاء ، وكذلك قال وهب في رواية ، إلّا أنه قال : فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس : سبعمائة. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال
: كان عدد السّحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفا متخيّرين من سبعمائة ألف ، ثم إنّ
فرعون اختار من السّبعين الألف سبعمائة. والسابع : خمسة وعشرون ألفا ، قاله الحسن. والثامن : تسعمائة ، قاله عكرمة. والتاسع : ثمانون ألفا ، قاله محمّد بن المنكدر. والعاشر : بضعة وثلاثون ألفا ، قاله السّدّيّ. والحادي عشر : خمسة عشر ألفا ، قاله ابن إسحاق. والثاني عشر : تسعة عشر ألفا ، رواه أبو سليمان الدّمشقي. والثالث عشر : أربع مائة ، حكاه الثّعلبيّ. فأمّا أسماء رؤسائهم ، فقال
ابن إسحاق : رؤوس السّحرة ساتور ، وعاذور ، وحطحط ، ومصفّى ، وهم الذين آمنوا ،
كذا حكاه ابن ماكولا. ورأيت عن غير ابن إسحاق : سابورا ، وعازورا. وقال مقاتل :
اسم أكبرهم. شمعون. قال ابن عباس : ألقوا حبالا غلاظا ، وخشبا طوالا ، فكانت ميلا
في ميل ، فألقى موسى عصاه ، فإذا هي أعظم من حبالهم وعصيّهم ، قد سدّت الأفق ، ثم
فتحت فاها ثمانين ذراعا ، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم ، وجعلت تأكل جميع
ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة ، والناس ينظرون ، وفرعون يضحك تجلّدا ، فأقبلت
الحيّة نحو فرعون ، فصاح : يا موسى ، يا موسى ؛ فأخذها موسى ، وعرفت السّحرة أنّ
هذا من السماء ، وليس هذا بسحر ، فخرّوا سجّدا ، وقالوا آمنّا بربّ العالمين ،
فقال فرعون : إيّاي تعنون؟ فقالوا : ربّ موسى وهارون ، فأصبحوا سحرة ، وأمسوا
شهداء. وقال وهب بن منبّه. لمّا صارت ثعبانا حملت على الناس فانهزموا منها ، فقتل
بعضهم بعضا ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا. وقال السّدّيّ : لقي موسى أمير السّحرة
، فقال : أرأيت إن غلبتك غدا ، أتؤمن بي؟ فقال السّاحر : لآتينّ غدا بسحر لا يغلبه
السّحر ، فو الله لئن غلبتني لأومنّن بك.
فإن قيل : كيف جاز
أن يأمرهم موسى بالإلقاء ، وفعل السّحر كفر؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ مضمون أمره : إن كنتم محقّين فألقوا. والثاني : ألقوا على ما يصحّ ، لا على ما يفسد ويستحيل ، ذكرهما
الماوردي. والثالث
: إنّما أمرهم
بالإلقاء لتكون معجزته أظهر ، لأنّهم إذا ألقوا ، ألقى عصاه فابتلعت ذلك ، ذكره
الواحديّ.
فإن قيل : كيف قال
: (وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) ، وإنّما سجدوا باختيارهم؟ فالجواب : أنه لمّا زالت كلّ
شبهة بما أظهر الله تعالى من أمره ، اضطرّهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السّجود ،
فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحا وتعظيما لشأن ما رأوا من الآيات ، ذكره ابن
الأنباري. قال ابن عباس : لما آمنت السّحرة ، اتّبع موسى ستّمائة ألف من بني
إسرائيل.
(قالَ فِرْعَوْنُ
آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥))
قوله تعالى : (آمَنْتُمْ بِهِ) قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو : «أآمنتم به» بهمزة
ومدّة على الاستفهام. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «أآمنتم به»
فاستفهموا بهمزتين ، الثانية ممدودة. وقرأ حفص عن عاصم : «آمنتم به» على الخبر.
وروى ابن الإخريط عن ابن كثير : «قال
فرعون وامنتم به»
فقلب همزة الاستفهام واوا ، وجعل الثانية مليّنة بين بين. وروى قنبل عن القوّاس
مثل رواية ابن الإخريط ، غير أنّه كان يهمز بعد الواو. وقال أبو عليّ : همز بعد
الواو ، لأنّ هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام ، وبعد همزة الاستفهام همزة «أفعلتم»
فحقّقها ولم يخفّفها.
قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) قال ابن السّائب : لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في
مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة ما صنعتم ، (لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) وهو قطع اليد اليمنى ، والرّجل اليسرى. قال ابن عباس : أوّل
من فعل ذلك ، وأوّل من صلب ، فرعون.
(وَما تَنْقِمُ مِنَّا
إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ
مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ
سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ
(١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨))
قوله تعالى : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) أي : وما تكره منّا شيئا ، ولا تطعن علينا إلّا لأنّا
آمنّا. (رَبَّنا أَفْرِغْ
عَلَيْنا صَبْراً) قال مجاهد : على القطع والصّلب حتى لا نرجع كفارا (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي : مخلصين على دين موسى.
قوله تعالى : (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ) هذا إغراء من الملإ لفرعون. وفيما أرادوا بالفساد في الأرض
قولان : أحدهما
: قتل أبناء القبط
، واستحياء نسائهم ، كما فعلوا ببني إسرائيل ، قاله مقاتل. والثاني : دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته. قوله تعالى : (وَيَذَرَكَ) جمهور القرّاء على نصب الراء ؛ وقرأ الحسن برفعها. قال
الزّجّاج : من نصب «ويذرك» نصبه على جواب الاستفهام بالواو ؛ والمعنى : أيكون منك أن
تذر موسى وأن يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفا ، فيكون المعنى : أتذر موسى وقومه ، وهو
يذرك وآلهتك ، والأجود أن يكون معطوفا على «أتذر» فيكون المعنى : أتذر موسى ، وأ
يذرك موسى؟ أي : أتطلق له هذا؟ قوله تعالى : (وَآلِهَتَكَ) قال ابن عباس : كان فرعون قد صنع لقومه أصناما صغارا ،
وأمرهم بعبادتها ، وقال أنا ربّكم وربّ هذه الأصنام ، فذلك قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى). وقال غيره : كان قومه يتعبّدون تلك الأصنام تقرّبا إليه.
وقال الحسن : كان يعبد تيسا في السّرّ. وقيل : كان يعبد البقر سرّا. وقيل : كان
يجعل في عنقه شيئا يعبده. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ،
ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن محيصن : «وإلاهتك» بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام
وبألف بعدها. قال الزّجّاج : المعنى : ويذرك وربوبيّتك وقال ابن الأنباري : قال
اللغويون : الإلاهة : العبادة ؛ فالمعنى : ويذرك وعبادة الناس إيّاك. قال ابن
قتيبة : من قرأ : «وإلاهتك» أراد : ويذرك والشمس التي تعبد ، وقد كان في العرب قوم
يعبدون الشمس ويسمّونها إلهة. قال الأعشى :
فما أذكر الرّهب
حتّى انقلبت
|
|
قبيل الإلهة
منها قريبا
|
يعني الشمس ،
والرّهب : ناقته. يقول : اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت.
قوله تعالى : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «سنقتل»
و «يقتلون أبناءكم»
بالتشديد ، وخفّفهما نافع. وقرأ ابن كثير : «سنقتل» خفيفة ، و «يقتّلون» مشددة ،
وإنّما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر عليه. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي : عالون بالملك والسّلطان. فشكا بنو إسرائيل إعادة
القتل على أبنائهم ، فقال موسى : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ
وَاصْبِرُوا) على ما يفعل بكم (إِنَّ الْأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). وقرأ الحسن ، وهبيرة عن حفص عن عاصم : «يورثها»
بالتّشديد. فأطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم.
قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فيها قولان : أحدهما : الجنّة. والثاني
: النّصر والظّفر.
(قالُوا أُوذِينا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ
الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠))
قوله تعالى : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) في هذا الأذى ستة أقوال :
أحدها
: أنّ الأذى الأوّل
والثاني أخذ الجزية ، قاله الحسن. والثاني : أنّ الأوّل ذبح الأبناء ، والثاني إدراك فرعون يوم طلبهم ،
قاله السّدّيّ. والثالث
: أنّ الأوّل أنهم
كانوا يسخّرون في الأعمال إلى نصف النّهار ، ويرسلون في بقيّته يكتسبون. والثاني
تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب ، قاله جويبر. والرابع : أنّ الأول تسخيرهم في ضرب اللّبن ، وكانوا يعطونهم التّبن
الذي يخلط به الطّين ؛ والثاني أنهم كلفوا ضرب اللّبن وجعل التّبن عليهم ، قاله
ابن السّائب. والخامس
: أنّ الأوّل قتل
الأبناء ، واستحياء البنات ، والثاني تكليف فرعون إيّاهم ما لا يطيقون ، قاله
مقاتل. والسادس
: أنّ الأول
استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ، والثاني إعادة ذلك العذاب.
وفي قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) قولان : أحدهما
: تأتينا بالرّسالة
ومن بعد جئتنا بها قاله ابن عباس. والثاني : تأتينا بعهد الله أنه سيخلصنا ومن بعد ما جئتنا به ، ذكره
الماوردي.
قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ) قال الزّجّاج : عسى : طمع وإشفاق ، إلّا أنّ ما يطمع الله
فيه فهو واجب.
قوله تعالى : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) في هذا الاستخلاف قولان : أحدهما : أنه استخلاف من فرعون وقومه. والثاني : استخلاف عن الله تعالى ، لأنّ المؤمنين خلفاء الله في أرضه
، وفي الأرض قولان : أحدهما
: أرض مصر ، قاله
ابن عباس. والثاني
: أرض الشّام ،
ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) قال الزّجّاج : أي : يراه بوقوعه منكم ، لأنه إنّما
يجازيهم على ما وقع منهم ، لا على ما علم أنه سيقع منهم.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ) قال أبو عبيدة : مجازه : ابتليناهم بالجدوب. وآل فرعون :
أهل دينه وقومه. وقال مقاتل : هم أهل مصر. قال الفرّاء : «بالسنين» أي : بالقحط
والجدوب عاما بعد عام. وقال الزّجّاج : السّنون في كلام العرب : الجدوب ، يقال :
مسّتهم السّنة ، ومعناه : جدب السّنة ، وشدّة السّنة. وإنما أخذهم بالضّرّاء ،
لأنّ أحوال الشّدة ترقّ القلوب ، وترغّب فيما عند الله وفي الرّجوع إليه. قال
قتادة : أما السّنون ، فكانت في بواديهم ومواشيهم ، وأما نقص الثّمرات ، فكان في
أمصارهم وقراهم.
وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال : يبّس لهم كلّ شيء ، وذهبت مواشيهم ، حتى يبس نيل
مصر ، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له : إن كنت ربّا كما تزعم ، فاملأ لنا نيل مصر ،
فقال غدوة يصبّحكم الماء ، فلما خرجوا من عنده ، قال : أيّ شيء صنعت؟ أنا أقدر أن
أجيء بالماء في نيل مصر؟ غدوة أصبح ، فيكذّبوني. فلما كان جوف الليل ، اغتسل ، ثم
لبس مدرعة من صوف ، ثم خرج حافيا حتى أتى بطن نيل مصر فقام في بطنه ، فقال :
اللهمّ إنّك تعلم أني أعلم أنّك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء ، فاملأه ، فما علم إلّا
بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة. قلت : وهذا الحديث بعيد الصّحة ؛ لأنّ
الرجل كان دهريّا لا يثبت إلها. ولو صحّ ، كان إقراره بذلك كإقرار إبليس ، وتبقى
مخالفته عنادا.
(فَإِذا جاءَتْهُمُ
الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى
وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (١٣١))
قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) وهي الغيث والخصب وسعة الرّزق والسّلامة (قالُوا لَنا هذِهِ) أي : نحن مستحقّوها على ما جرى لنا من العادة في سعة
الرّزق ، ولم يعلموا أنّه من الله فيشكروا عليه. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ) وهي القحط والجدب والبلاء (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى
وَمَنْ مَعَهُ) أي : يتشاءموا بهم. وكانت العرب تزجر الطّير ، فتتشاءم
بالبارح ، وهو الذي يأتي من جهة الشّمال ، وتتبرّك بالسّانح ، وهو الذي يأتي من
جهة اليمين. قوله تعالى : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ
عِنْدَ اللهِ) قال أبو عبيدة : «ألا» تنبيه وتوكيد ومجاز. «طائرهم» حظّهم
ونصيبهم ، وقال ابن عباس «ألا إنّما طائرهم عند الله» أي : إنّ الذي أصابهم من
الله. وقال الزّجّاج : المعنى : ألا إنّ الشّؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في
الآخرة ، لا ما ينالهم في الدّنيا.
(وَقالُوا مَهْما
تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ
وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))
قوله تعالى : (وَقالُوا مَهْما) قال الزّجّاج : زعم النّحويون أنّ أصل «مهما» ماما ، ولكن
أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ ؛ ف «ما» الأولى هي «ما» الجزاء ، و «ما»
الثانية هي التي تزاد تأكيدا للجزاء ، ودليل النّحويين على ذلك أنه ليس شيء من
حروف الجزاء إلّا و «ما» تزاد فيه ، قال الله عزوجل (فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ) كقولك : إن تثقفنّهم ، وقال : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) ، وتكون «ما» الثانية للشّرط والجزاء ، والتفسير الأول هو
الكلام ، وعليه استعمال الناس. قال ابن الأنباري : فعلى قول من قال : إنّ معنى «مه»
الكفّ ، يحسن الوقف على «مه» ، والاختيار عندي أن لا يوقف على «مه» دون «ما»
لأنّهما في المصحف حرف واحد. وفي الطّوفان ثلاثة أقوال :
__________________
أحدها
: أنّه الماء. قال
ابن عباس : أرسل عليهم مطر دائم الليل والنهار ثمانية أيام ، وإلى هذا المعنى ذهب
سعيد بن جبير وقتادة والضّحاك وأبو مالك ومقاتل واختاره الفرّاء وابن قتيبة.
(٥٨٨) والثاني : أنه الموت ، روته عائشة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، ووهب بن منبّه ، وابن كثير.
والثالث
: أنه الطّاعون ،
نقل عن مجاهد ، ووهب ؛ أيضا.
وفي القمّل سبعة
أقوال : أحدها
: أنه السّوس الذي
يقع في الحنطة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقال به. والثاني : أنه الدّبى ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ،
وعطاء. وقال قتادة : القمّل : أولاد الجراد. وقال ابن فارس : الدّبى : الجراد إذا
تحرّك قبل أن تنبت أجنحته. والثالث
: أنه دوابّ سود
صغار ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير. وقيل : هذه الدّواب هي السّوس. والرابع : أنه الجعلان ، قاله حبيب بن ثابت. والخامس : أنه القمل ، ذكره عطاء الخراسانيّ ، وزيد بن أسلم. والسادس : أنه البراغيث ، حكاه ابن زيد. والسابع : أنه الحمنان ، واحدتها : حمنانة ، وهي ضرب من القردان ،
قاله أبو عبيدة. وقرأ الحسن ، وعكرمة ، وابن يعمر : «القمل» برفع القاف وسكون
الميم. وفي الدّم قولان : أحدهما
: أنّ ماءهم صار
دما ، قاله الجمهور. والثاني
: أنه رعاف أصابهم
، قاله زيد بن أسلم.
الإشارة إلى شرح القصة
قال ابن عباس :
جاءهم الطّوفان ، فكان الرجل لا يقدر أن يخرج إلى ضيعته ، حتى خافوا الغرق ،
فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنّا ، ونؤمن بك ، ونرسل معك بني إسرائيل ؛
فدعا لهم ، فكشفه الله عنهم ، وأنبت لهم شيئا لم ينبته قبل ذلك ، فقالوا : هذا ما
كنّا نتمنّى ، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض ، فقالوا : ادع لنا
ربّك ، فدعا ، فكشف الله عنهم ، فأحرزوا زروعهم في البيوت ، فأرسل الله عليهم
القمّل ، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرّحى ، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة
، فسألوه ، فدعا لهم ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الضّفادع ، ولم يكن شيء أشدّ
منها ، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور ، فتلقي أنفسها فيها ، فتفسد طعامهم
وتطفئ نيرانهم ، وكانت الضّفادع برّية ، فأورثها الله عزوجل برد الماء والثّرى إلى يوم القيامة ، فسألوه ، فدعا لهم ،
فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الدّم ، فجرت أنهارهم وقلبهم دما ، فلم يقدروا على
الماء العذب ، وبنو إسرائيل في الماء العذب ، فإذا دخل الرّجل منهم يستقي من أنهار
بني إسرائيل صار ما دخل فيه دما ، والماء من بين يديه ومن خلفه صاف عذب لا يقدر
عليه ، فقال فرعون : أقسم بإلهي يا موسى لئن كشفت عنا الرّجز
____________________________________
(٥٨٨) ضعيف جدا ،
أخرجه الطبري ١٥٠٠٥ ، وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير». ٢ / ٣٠٣ من طريق يحيى
بن يمان عن منهال بن خليفة عن حجاج بن أرطأة عن الحكم بن ميناء عن عائشة مرفوعا
به. وإسناده ضعيف جدا ، فهو مسلسل بالضعفاء ، يحيى ، ومنهال ، وحجاج ثلاثتهم
ضعفاء. أخرجه الطبري ١٥٠٠٩ من طريق ابن يمان عن المنهال عن حجاج عن رجل عن عائشة وهو
كسابقه بل فيه أيضا راو لم يسمّ.
والصحيح كونه من
قول مجاهد ، وكذا أخرجه الطبري عنه من طرق ١٥٠٠٧ و ١٥٠٠٨ واستغربه ابن كثير ٢ /
٣٠٣ وهو شبه موضوع.
لنؤمننّ بك ،
ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ، فدعا موسى ، فذهب الدّم وعذب ماؤهم ، فقالوا : والله
لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل.
قوله تعالى : (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) قال ابن قتيبة : بين الآية والآية فصل. قال المفسّرون :
كانت الآية تمكث من السّبت إلى السّبت ، ثم يبقون عقيب رفعها شهرا في عافية ، ثمّ
تأتي الآية الأخرى. وقال وهب بن منبّه : بين كلّ آيتين أربعون يوما. وروى عكرمة عن
ابن عباس قال : مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السّحرة عشرين سنة يريهم الآيات ،
الجراد والقمّل والضّفادع والدّم.
وفي قوله تعالى : «فاستكبروا»
قولان : أحدهما
: عن الإيمان. والثاني : عن الانزجار.
(وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ
بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ
بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ
فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦))
قوله تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أي : نزل بهم العذاب. وفي هذا العذاب قولان :
أحدهما
: أنه طاعون أهلك
منهم سبعين ألفا ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير.
والثاني
: أنه العذاب الذي
سلّطه الله عليهم من الجراد والقمّل وغير ذلك ، قاله ابن زيد.
قال الزّجّاج : «الرّجز»
: العذاب ، أو العمل الذي يؤدّي إلى العذاب. ومعنى الرّجز في العذاب : أنه المقلقل
لشدّته قلقلة شديدة متتابعة. وأصل الرّجز في اللغة : تتابع الحركات ، فمن ذلك
قولهم : ناقة رجزاء ، إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها. ومنه رجز الشّعر ، لأنه
أقصر أبيات الشعر ، والانتقال من بيت إلى بيت ، سريع ، نحو قوله :
يا ليتني فيها
جذع
|
|
أخبّ فيها وأضع
|
وزعم الخليل أنّ
الرّجز ليس بشعر ، وإنّما هو أنصاف أبيات وأثلاث.
قوله تعالى : (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنّ معناه : بما أوصاك أن تدعوه به. والثاني : بما تقدّم به إليك أن تدعوه فيجيبك. والثالث : بما عهد عندك في كشف العذاب عمّن آمن. والرابع : أنّ ذلك منهم على معنى القسم ، كأنهم أقسموا عليه بما عهد
عنده أن يدعو لهم.
قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) أي : إلى وقت غرقهم. (إِذا هُمْ
يَنْكُثُونَ) أي : ينقضون العهد. قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) قال أبو سليمان الدّمشقي : انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم
، وتلك
__________________
النّقمة تغريقنا
إيّاهم في اليمّ. قال ابن قتيبة : اليمّ : البحر بالسّريانيّة. قوله تعالى : (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) فيه قولان : أحدهما : عن الآيات ، وغفلتهم : تركهم الاعتبار بها. والثاني : عن النّقمة.
(وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا
الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ
وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ
لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨))
قوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ) يعني بني إسرائيل. (الَّذِينَ كانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ) أي : يستذلّون بذبح الأبناء ، واستخدام النساء ، وتسخير
الرجال. (مَشارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغارِبَهَا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : مشارق الشّام ومغاربها ، قاله الحسن. والثاني : مشارق أرض الشّام ومصر. والثالث : أنه على إطلاق في شرق الأرض وغربها.
قوله تعالى : (الَّتِي بارَكْنا فِيها) قال ابن عباس : بالماء والشّجر.
قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) وهي وعد الله لبني إسرائيل بإهلاك عدوّهم ؛ واستخلافهم في
الأرض ، وذلك في قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ، وقد بيّنا علّة تسمية ذلك كلّه في (آل عمران). وقوله
تعالى : (بِما صَبَرُوا) فيه قولان : أحدهما : على طاعة الله تعالى. والثاني : على أذى فرعون.
قوله تعالى : (وَدَمَّرْنا) أي : أهلكنا (ما كانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من العمارات والمزارع ، والدّمار : الهلاك. (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي : يبنون. قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ،
والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «يعرشون» بكسر الراء ها هنا وفي (النّحل). وقرأ ابن
عامر ، وأبو بكر عن عاصم : بضمّ الراء فيهما. وقرأ ابن أبي عبلة : «يعرشون»
بالتشديد ، قال الزّجّاج : يقال : عرش يعرش ويعرش : إذا بنى.
قوله تعالى : (يَعْكُفُونَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، :
«يعكفون» بضمّ الكاف. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، والمفضّل : بكسر الكاف. وقرأ ابن
أبي عبلة : بضمّ الياء وتشديد الكاف. قال الزّجّاج : ومعنى (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) : يواظبون عليها ويلازمونها ، يقال لكلّ من لزم شيئا وواظب
عليه : عكف يعكف ويعكف. قال قتادة : كان أولئك القوم نزولا بالرّقّة ، وكانوا من
لخم. وقال غيره : كانت أصنامهم تماثيل البقر. وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا
جواز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات.
(إِنَّ هؤُلاءِ
مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩))
قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) قال ابن قتيبة : مهلك. والتّبار : الهلاك.
__________________
(قالَ أَغَيْرَ اللهِ
أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠))
قوله تعالى : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) أي : أطلب لكم ، وهذا استفهام إنكار. قال المفسّرون ، منهم
ابن عباس ، ومجاهد : والعالمون ها هنا : عالمو زمانهم.
(وَإِذْ
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ (١٤١))
قوله تعالى : (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ) قرأ ابن عامر : «وإذ أنجاكم» على لفظ الغائب المفرد.
(وَواعَدْنا مُوسى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢))
قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) المعنى : وعدناه انقضاء ثلاثين ليلة. قال ابن عباس : قال
موسى لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة ، فلما فصل إلى ربّه زاده عشرا ، فكانت
فتنتهم في ذلك العشر. فإن قيل : لم زيد هذا العشر؟ فالجواب : أنّ ابن عباس قال :
صام تلك الثلاثين ليلهنّ ونهارهنّ ، فلما انسلخ الشهر ، كره أن يكلّم ربّه وريح
فمه ريح فم الصّائم ، فتناول شيئا من نبات الأرض فمضغه ، فأوحى الله تعالى إليه :
لا كلّمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه ، أما علمت أنّ رائحة فم الصّائم أحبّ
إليّ من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام. وقال أبو العالية : مكث موسى على
الطّور أربعين ليلة ، فبلغنا أنه لم يحدث حتى هبط منه.
فإن قيل : ما معنى
(فَتَمَّ مِيقاتُ
رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وقد علم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين. فالجواب من
وجوه : أحدها
: أنه للتّأكيد. والثاني : ليدلّ أنّ العشر ، ليال لا ساعات. والثالث : لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين ،
لأنّه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأتمّت بعشر. وقد بيّنّا في سورة
(البقرة) لما ذا كان هذا الوعد.
قوله تعالى : (وَأَصْلِحْ) قال ابن عباس : مرهم بالإصلاح. وقال مقاتل : ارفق.
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى
لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ
تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ
تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى
صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي
وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))
قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) قال الزّجّاج ، أي : للوقت الذي وقّتنا له. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أسمعه كلامه ، ولم يكن بينه وبين الله عزوجل فيما سمع أحد. (قالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي : أرني نفسك. قوله تعالى : (قالَ لَنْ تَرانِي) تعلّق بهذا نفاة الرّؤية وقالوا : «لن» لنفي الأبد ، وذلك غلط ،
__________________
لأنها قد وردت
وليس المراد بها الأبد في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ثم أخبر عنهم بتمنيه في النار بقوله تعالى : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، ولأنّ ابن عباس قال في تفسيرها : لن تراني في الدنيا.
وقال غيره : هذا جواب لقول موسى : «أرني» ، ولم يرد : أرني في الآخرة ، وإنّما
أراد في الدنيا ، فأجيب عمّا سأل. وقال بعضهم : لن تراني بسؤالك. وفي هذه الآية
دلالة على جواز الرّؤية ، لأنّ موسى مع علمه بالله تعالى ، سألها ، ولو كانت مما
يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها ، ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك ، لأنّ معرفة
الأنبياء لله ليس فيها نقص ، ولأنّ الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من
الرّؤية ، ولو استحالت عليه لقال : «لا أرى» ؛ ألا ترى أن نوحا لمّا قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أنكر عليه بقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ) ، وممّا يدلّ على جواز الرّؤية أنه علّقها باستقرار الجبل
، وذلك جائز غير مستحيل ، فدلّ على أنها جائزة ، ألا ترى أنّ دخول الكفار الجنّة
لمّا استحال علّقه بمستحيل فقال : (حَتَّى يَلِجَ
الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) .
قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) أي : ثبت ولم يتضعضع.
قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) قال الزّجّاج : ظهر ، وبان. (جَعَلَهُ دَكًّا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «دكّا»
منوّنة مقصورة ها هنا وفي (الكهف). وقرأ عاصم : «دكّا» ها هنا منوّنة مقصورة ، وفي
(الكهف) : «دكاء» ممدودة غير منوّنة. وقرأ حمزة ؛ والكسائيّ : «دكاء» ممدودة غير
منوّنة في الموضعين. قال أبو عبيدة : «جعله دكّا» أي : مندكّا والمندكّ : المستوي
؛ والمعنى : مستويا مع وجه الأرض ، يقال : ناقة دكاء ، أي : ذاهبة السّنام مستو
ظهرها. قال ابن قتيبة : كأنّ سنامها دكّ ، أي : التصق ، قال : ويقال : إنّ أصل
دككت : دققت ، فأبدلت القاف كافا لتقارب المخرجين. وقال أنس بن مالك في قوله : «جعله
دكا» : ساخ الجبل. قال ابن عباس : واسم الجبل : زبير ، وهو أعظم جبل بمدين ، وإنّ
الجبال تطاولت ليتجلّى لها ، وتواضع زبير فتجلّى له. قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) فيه قولان : أحدهما : مغشيّا عليه ، قاله ابن عباس والحسن وابن زيد. والثاني : ميتا ، قاله قتادة ومقاتل. والأول أصح ، لقوله تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ) وذلك لا يقال للميّت. وقيل : بقي في غشيته يوما وليلة.
قوله تعالى : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) فيما تاب منه ثلاثة أقوال : أحدها : سؤال الرّؤية ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثالث : اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا. وفي قوله تعالى : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) قولان : أحدهما
: أنّك لن ترى في
الدنيا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أوّل المؤمنين من بني إسرائيل ، رواه عكرمة عن ابن عباس.
__________________
قوله تعالى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) فتح ياء «إني» ابن كثير ، وأبو عمرو. وقرأ ابن كثير ،
ونافع «برسالتي» قال الزّجّاج : المعنى : اتّخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي
، ولو كان إنّما سمع كلام غير الله لمّا قال : «برسالاتي وبكلامي» لأنّ الملائكة
تنزل إلى الأنبياء بكلام الله.
(وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ (١٤٥))
قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) في ماهيّة الألواح سبعة أقوال :
أحدها
: أنّها زبرجد ،
قاله ابن عباس. والثاني
: ياقوت ، قاله
سعيد بن جبير. والثالث
: زمرّد أخضر ،
قاله مجاهد. والرابع
: برد ، قاله أبو
العالية. والخامس
: خشب ، قاله
الحسن. والسادس
: صخر ، قاله وهب بن
منبّه. والسابع
: زمرّد وياقوت ،
قاله مقاتل. وفي عددها أربعة أقوال : أحدها : سبعة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : لوحان ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفرّاء. قال
: وإنّما سماها الله تعالى ألواحا ، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التّثنية ،
كقوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ
شاهِدِينَ) يريد داود؟؟؟؟ ، وسليمان ، وقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) . والثالث
: عشرة ، قاله وهب.
والرابع
: تسعة ، قاله
مقاتل.
وفي قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قولان : أحدهما
: من كلّ شيء يحتاج
إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره. والثاني : من الحكم والعبر.
قوله تعالى : (مَوْعِظَةً) أي : نهيا عن الجهل. (وَتَفْصِيلاً) أي : تبيينا لكلّ شيء من الأمر والنّهي والحدود والأحكام.
قوله تعالى : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بجدّ وحزم ، قاله ابن عباس. والثاني : بطاعة ، قاله أبو العالية. والثالث : بشكر ، قاله جويبر.
قوله تعالى : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا
بِأَحْسَنِها) إن قيل : كأنّ فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ المعنى : يأخذوا بحسنها ، وكلّها حسن ، قاله قطرب ،
وقال ابن الأنباري : ناب «أحسن» عن «حسن» كما قال الفرزدق :
إنّ الذي سمك
السّماء بنى لنا
|
|
بيتا دعائمه
أعزّ وأطول
|
أي : عزيزة طويلة.
وقال غيره : «الأحسن» ها هنا صلة ، والمعنى أن يأخذوا بها.
والثاني
: أنّ بعض ما فيها
أحسن من بعض. ثم في ذلك خمسة أقوال : أحدها : أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشرّ ، ففعل الخير هو
الأحسن. والثاني
: أنها اشتملت على
أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض ، كالقصاص والعفو والانتصار والصّبر ، فأمروا أن
يأخذوا بالأحسن ، ذكر القولين الزّجّاج. فعلى هذا القول ، يكون المعنى : أنّهم
يتّبعون العزائم والفضائل ، وعلى الذي قبله ، يكون المعنى : أنّهم يتّبعون الموصوف
بالحسن وهو الطّاعة ، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية. والثالث : أحسنها :
__________________
الفرائض والنّوافل
، وأدونها في الحسن : المباح. والرابع
: أن يكون للكلمة
معنيان أو ثلاثة ، فتصرف إلى الأشبه بالحقّ. والخامس : أنّ أحسنها : الجمع بين الفرائض والنّوافل.
قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) فيها أربعة أقوال : أحدها
: أنها جهنّم ،
قاله الحسن ، ومجاهد. والثاني
: أنها دار فرعون وقومه ، وهي مصر ، قاله عطيّة العوفيّ. والثالث : أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة ، يريهم إيّاها
عند دخولهم الشّام ، قاله قتادة. والرابع : أنها مصارع الفاسقين ، قاله السّدّيّ. ومعنى الكلام :
سأريكم عاقبة من خالف أمري ، وهذا تهديد للمخالف ، وتحذير للموافق.
(سَأَصْرِفُ عَنْ
آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))
قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) في هذه الآية قولان : أحدهما : أنها خاصّة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات. والثاني : أنها عامّة ، وهو أصحّ. وفي الآيات قولان : أحدهما : أنها آيات الكتاب المتلوّة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال
: أحدها
: أمنعهم فهمها. والثاني : أمنعهم من الإيمان بها. والثالث : أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال. والثاني : أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشّمس والقمر وغيرها
، فيكون المعنى : أصرفهم عن التّفكّر والاعتبار بما خلقت. وفي معنى يتكبّرون قولان
: أحدهما
: يتكبّرون عن
الإيمان واتّباع الرّسول. والثاني
: يحقرون الناس
ويرون لهم الفضل عليهم.
قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «سبيل
الرّشد» بضمّ الراء خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «سبيل الرّشد» بفتح الراء
والشين مثقلة. قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) قال الزّجّاج : فعل الله بهم ذلك بأنّهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها
غافِلِينَ) ،
__________________
أي : كانوا في
تركهم الإيمان بها والتّدبّر لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون المعنى : وكانوا
عن جزائها غافلين.
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ (١٤٨))
قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات. (مِنْ حُلِيِّهِمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «من
حليّهم» بضمّ الحاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «حليّهم» بكسر الحاء. وقرأ يعقوب :
بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء. والحليّ : جمع حلي ، مثل ثدي وثديّ ، وهو اسم
لما يتحسّن به من الذّهب والفضّة. قال الزّجّاج : ومن كسر الحاء من «حليّهم» أتبع
الحاء كسر اللام. والجسد : هو الذي لا يعقل ولا يميّز ، إنّما هو بمعنى الجثّة
فقط. قال ابن الأنباري : ذكر الجسد دلالة على عدم الرّوح منه ، وأنّ شخصه شخص مثال
وصورة ، غير منضمّ إليهما روح ولا نفس. فأمّا الخوار ، فهو صوت البقرة ، يقال :
خارت البقرة تخور ، وجأرت تجأر ؛ وقد نقل عن العرب أنهم يقولون في مثل صوت الإنسان
من البهائم : رغا البعير ، وجرجر وهدر وقبقب ، وصهل الفرس وحمحم ، وشهق الحمار
ونهق ، وشحج البغل ، وثغت الشّاة ويعرت ، وثأجت النّعجة ، وبغم الظّبي ونزب ، وزأر
الأسد ونأت ، ووعوع الذئب ، ونهم الفيل ، وزقح القرد ، وضبح الثّعلب ، وعوى الكلب
ونبح ، وماءت السّنّور ، وصأت الفأرة ، ونغق الغراب معجمة الغين ، وزقأ الدّيك
وسقع ، وصفر النسر ، وهدر الحمام وهدل ، ونقضت الضّفادع ونقّت ، وعزفت الجنّ. قال
ابن عباس ؛ كان العجل إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وفي رواية أبي صالح
عنه : أنه خار خورة واحدة ولم يتبعها مثلها ، وبهذا قال وهب ، ومقاتل. وكان مجاهد
يقول : خواره حفيف الرّيح فيه ؛ وهذا يدل على أنّه لم يكن فيه روح. وقرأ أبو رزين
العقيلي ، وأبو مجلز : «له جوار» بجيم مرفوعة.
قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا
يُكَلِّمُهُمْ) أي : لا يستطيع كلامهم. (وَلا يَهْدِيهِمْ
سَبِيلاً) أي : لا يبين لهم طريقا إلى حجّة. (اتَّخَذُوهُ) يعني اتّخذوه إلها. (وَكانُوا ظالِمِينَ) قال ابن عباس : مشركين.
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا
رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ
أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ
إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي
رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢))
قوله تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي : ندموا. قال الزّجّاج : يقال للرجل النادم على ما فعل
، المتحسّر على ما فرّط : قد سقط في يده وأسقط في يده. وقرأ ابن السّميفع ، وأبو
عمران الجونيّ :
«سقط» بفتح السين.
قال الزّجّاج : والمعنى : ولما سقط النّدم في أيديهم ، يشبّه ما في القلب وفي
النّفس بما يرى بالعين. قال المفسّرون : هذا النّدم منهم إنّما كان بعد رجوع موسى.
قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «يرحمنا
ربّنا» «ويغفر لنا» بالياء والرّفع. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «ترحمنا» «وتغفر لنا»
بالتاء ، «ربّنا» بالنّصب.
قوله تعالى : (غَضْبانَ أَسِفاً) في الأسف ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحزين ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسّدّي. والثاني : الجزع ، قاله مجاهد. والثالث : أنه الشّديد الغضب ، قاله ابن قتيبة ، والزّجّاج. وقال أبو
الدّرداء : الأسف : منزلة وراء الغضب أشدّ منه.
قوله تعالى : (قالَ) أي : لقومه (بِئْسَما
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) فتح ياء «بعدي» أهل الحجاز ، وأبو عمرو ؛ والمعنى : بئس ما
عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) قال الفراء : يقال : عجلت الأمر والشيء : سبقته ، ومنه هذه
الآية. وأعجلته : استحثثته. قال ابن عباس : أعجلتم ميعاد ربّكم فلم تصبروا له؟!
قال الحسن : يعني وعد الأربعين ليلة.
قوله تعالى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) التي فيها التّوراة. وفي سبب إلقائه إيّاها قولان :
أحدهما
: أنه الغضب حين
رآهم قد عبدوا العجل ، قاله ابن عباس.
(٥٨٩) والثاني : أنه لمّا رأى فضائل غير أمّته من أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم اشتدّ عليه ، فألقاها ، قاله قتادة ، وفيه بعد.
قال ابن عباس :
لمّا رمى بالألواح فتحطّمت ، رفع منها ستة أسباع ، وبقي سبع.
قوله تعالى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) في ما أخذ به من رأسه ثلاثة أقوال : أحدها : لحيته وذؤابته. والثاني : شعر رأسه. والثالث : أذنه. وقيل : إنّما فعل به ذلك ، لأنه توهّم أنه عصى الله
بمقامه بينهم وترك اللحوق به ، وتعريفه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم
ويردّهم إلى الحقّ ، وذلك قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ إِذْ
رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ) .
قوله تعالى : (ابْنَ أُمَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «قال
ابن أمّ» نصبا. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : بكسر
الميم ، وكذلك في (طه) قال
____________________________________
(٥٨٩) باطل لا أصل
له. أخرجه الطبري ١٥١٤٢ و ١٥١٤٣ عن قتادة قوله : وهذا رأي لقتادة. وهو ليس بشيء ،
بل هو من بدع التأويل ، ورده ابن كثير وغيره كما في الهامش.
__________________
الزّجّاج : من فتح
الميم فلكثرة استعمال هذا الاسم ، ومن كسر أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسما واحدا
، ومن العرب من يقول : «يا ابن أمّي» بإثبات الياء. قال الشاعر :
يا ابن أمّي ويا
شقيق نفسي
|
|
أنت خلّفتني
لدهر شديد
|
وقال أبو علي :
يحتمل أن يريد من فتح : «يا ابن أمّ» أمّا ، ويحذف الألف ، ومن كسر : «ابن أمي»
فيحذف الياء. فإن قيل : لم قال : «يا ابن أمّ» ولم يقل : «يا ابن أب»؟ فالجواب أنّ
ابن عباس قال : كان أخاه لأبيه وأمّه ، وإنّما قال له ذلك ليرقّقه عليه. قال أبو
سليمان الدّمشقي : والإنسان عند ذكر الوالدة أرقّ منه عند ذكر الوالد. وقيل : كان
لأمّه دون أبيه ، حكاه الثّعلبيّ.
قوله تعالى : (إِنَّ الْقَوْمَ) يعني عبدة العجل. (اسْتَضْعَفُونِي) أي : استذلّوني (فَلا تُشْمِتْ بِيَ
الْأَعْداءَ) قرأ ابن عباس ، وابن محيصن وحميد : «فلا تشمت» بتاء مفتوحة
مع فتح الميم ، «الأعداء» بالرفع ، وقرأ مجاهد ، وأبو العالية ، والضّحّاك ، وأبو
رجاء : «فلا تشمت» بفتح التاء وكسر الميم ، «الأعداء» بالنّصب. وقرأ أبو الجوزاء ،
وابن أبي عبلة مثل ذلك ، إلّا أنهما رفعا «الأعداء». ويعني بالأعداء : عبدة العجل.
(وَلا تَجْعَلْنِي) في موجدتك وعقوبتك لي (مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) وهم عبدة العجل. فلمّا تبيّن له عذر أخيه (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي).
قوله تعالى : (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فيها قولان : أحدهما : أنها الجزية ، قاله ابن عباس. والثاني : ما أمروا به من قتل أنفسهم ، قاله الزّجّاج. فعلى الأول
يكون ما أضيف إليهم من الجزية في حقّ أولادهم ، لأنّ أولئك قتلوا ولم يؤدّوا جزية.
قال عطيّة : وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة والنّضير من القتل والجلاء لتولّيهم
متّخذي العجل ورضاهم به.
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) قال ابن عباس : كذلك أعاقب من اتّخذ إلها دوني ، وقال مالك
بن أنس : ما من مبتدع إلّا وهو يجد فوق رأسه ذلّة ، وقرأ هذه الآية. وقال سفيان بن
عيينة : ليس في الأرض صاحب بدعة إلّا وهو يجد ذلّة تغشاه ، قال : وهي في كتاب الله
تعالى : قالوا : وأين هي؟ قال : أو ما سمعتم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قالوا : يا أبا محمّد ، هذه لأصحاب العجل خاصّة ، قال :
كلا ، أتلو ما بعدها. (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ) فهي لكلّ مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) فيها قولان : أحدهما : أنها الشّرك. والثاني : الشّرك وغيره من الذّنوب. (ثُمَّ تابُوا مِنْ
بَعْدِها) يعني السيئات. وفي قوله تعالى : (وَآمَنُوا) قولان : أحدهما
: آمنوا بالله ؛
وهو يخرّج على قول من قال : هي الشّرك. والثاني : آمنوا بأنّ الله تعالى يقبل التّوبة. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) يعني السّيئات.
__________________
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))
قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) وقرأ ابن عباس ، وأبو عمران «سكّت» بفتح السين وتشديد
الكاف وبتاء بعدها ، «الغضب» بالنّصب. وقرأ سعيد بن جبير ، وابن يعمر ، والجحدريّ «سكت»
بضمّ السين وتشديد الكاف مع كسرها. وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة ، وطلحة «سكن» بنون.
قال الزّجّاج «سكت» بمعنى سكن ، يقال : سكت يسكت سكتا : إذا سكن ، وسكت يسكت سكتا
وسكوتا : إذا قطع الكلام. قال : وقال بعضهم : المعنى : ولمّا سكت موسى عن الغضب ،
على القلب ، كما قالوا : أدخلت القلنسوة في رأسي. والمعنى : أدخلت رأسي في
القلنسوة ، والأول هو قول أهل العربية.
قوله تعالى : (أَخَذَ الْأَلْواحَ) يعني التي كان ألقاها. وفي قوله تعالى : (وَفِي نُسْخَتِها) قولان : أحدهما
: وفيما بقي منها ؛
قاله ابن عباس. والثاني
: وفيما نسخ فيها ؛
قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ
يَرْهَبُونَ) فيهم قولان : أحدهما : أنه عامّ في الذين يخافون الله ، وهو معنى قول قتادة. والثاني : أنّهم أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم خاصّة ، وهو معنى قول قتادة.
(وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ
وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥))
قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) المعنى : اختار من قومه ، فحذف «من» ، تقول العرب : اخترتك
القوم ، أي : اخترتك من القوم ، وأنشدوا :
منّا الذي اختير
الرّجال سماحة
|
|
وجودا إذا هبّ
الرّياح الزّعازع
|
هذا قول ابن قتيبة
، والفرّاء ، والزّجّاج.
وفي هذا الميقات
أربعة أقوال : أحدها
: أنه الميقات الذي
وقّته الله لموسى ليأخذ التّوراة ، أمر أن يأتي معه بسبعين ، رواه أبو صالح عن ابن
عباس ، وبه قال نوف البكاليّ. والثاني
: أنه ميقات وقّته
الله تعالى لموسى ، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربّهم ، فدعوا
فقالوا : اللهمّ أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا ، ولا تعطيه أحدا بعدنا ، فكره الله
ذلك ، وأخذتهم الرّجفة ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنه ميقات وقّته الله لموسى ، لأنّ بني إسرائيل قالوا له :
إنّ طائفة تزعم أنّ الله لا يكلّمك ، فخذ معك طائفة منّا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا
فتذهب التّهمة ، فأوحى الله إليه أن اختر من خيارهم سبعين ، ثم ارتق بهم على الجبل
أنت وهارون ، واستخلف يوشع بن نون ، ففعل ذلك ؛ قاله وهب بن منبّه. والرابع : أنه ميقات وقّته الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل
، فيعتذر إليه من فعل عبدة العجل ، قاله السّدّيّ. وقال ابن السّائب : كان موسى لا
يأتي ربّه إلّا بإذن منه.
فأمّا الرّجفة فهي
الحركة الشّديدة. وفي سبب أخذها إيّاهم أربعة أقوال : أحدها : أنه ادّعاؤهم على موسى قتل هارون ، قاله عليّ بن أبي طالب.
والثاني
: اعتداؤهم في
الدّعاء ، وقد ذكرناه في رواية ابن
__________________
أبي طلحة عن ابن
عباس. والثالث
: أنهم لم ينهوا
عبدة العجل ولم يرضوا ؛ نقل عن ابن عباس أيضا ، وقال قتادة ، وابن جريج : لم
يأمروهم بالمعروف ، ولم ينهوهم عن المنكر ، ولم يزايلوهم. والرابع : أنّهم طلبوا سماع الكلام من الله تعالى ، فلمّا سمعوه قالوا
: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ؛ قاله السّدّيّ وابن إسحاق.
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ
مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) قال السّدّيّ : قام موسى يبكي ويقول : ربّ ما ذا أقول لبني
إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم (لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ). وقال الزّجّاج : لو شئت أمتّهم قبل أن تبتليهم بما أوجب
عليهم الرّجفة. وقيل : لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإيّاي ، فكان بنو إسرائيل
يعاينون ذلك ولا يتّهمونني.
قوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ
مِنَّا) قال المبرّد : هذا استفهام استعطاف ، أي : لا تهلكنا. وقال
ابن الأنباري : هذا استفهام على تأويل الجحد ، إذ أراد لست تفعل ذلك. و «السّفهاء»
ها هنا : عبدة العجل. وقال الفرّاء : ظنّ موسى أنهم أهلكوا باتّخاذ أصحابهم العجل.
وإنما أهلكوا بقولهم : (أَرِنَا اللهَ
جَهْرَةً).
قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) فيها قولان : أحدهما : أنّها الابتلاء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال
سعيد بن جبير ، وأبو العالية. والثاني
: العذاب ، رواه
ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. قوله تعالى : (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي : ناصرنا وحافظنا.
(وَاكْتُبْ لَنا فِي
هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨))
قوله تعالى : (وَاكْتُبْ لَنا) أي : حقّق لنا وأوجب (فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةً) وهي الأعمال الصّالحة (وَفِي الْآخِرَةِ) المغفرة والجنّة (إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ) أي : تبنا ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ،
وأبو العالية ، وقتادة ، والضّحّاك ، والسّدّيّ. وقال ابن قتيبة : ومنه (الَّذِينَ هادُوا) كأنّهم رجعوا من شيء إلى شيء. وقرأ أبو وجزة السّعدي : «إنا
هدنا» بكسر الهاء. قال ابن الأنباري : المعنى : لا نتغيّر ؛ يقال : هاد يهود
ويهيد.
__________________
قوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ). وقرأ الحسن البصريّ ، والأعمش ، وأبو العالية : «من أساء»
بسين غير معجمة مع النّصب.
قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) في هذا الكلام أربعة أقوال : أحدها : أنّ مخرجه عامّ ومعناه خاصّ ، وتأويله : ورحمتي وسعت
المؤمنين من أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، لقوله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ هذه الرّحمة على العموم في الدنيا ، والخصوص في الآخرة
؛ وتأويلها : ورحمتي وسعت كلّ شيء في الدنيا ، البرّ والفاجر ، وفي الآخرة هي
للمتّقين خاصّة ، قاله الحسن ، وقتادة. فعلى هذا ، معنى الرّحمة في الدنيا للكافر
أنه يرزق ويدفع عنه ، كقوله في حقّ قارون : (وَأَحْسِنْ كَما
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) . والثالث
: أنّ الرّحمة :
التّوبة ، فهي على العموم ، قاله ابن زيد. والرابع : أنّ الرّحمة تسع كلّ الخلق إلّا أنّ أهل الكفر خارجون منها
، فلو قدّر دخولهم فيها لوسعتهم ، قاله ابن الأنباري. قال الزّجّاج : وسعت كلّ شيء
في الدنيا. (فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) في الآخرة. قال المفسّرون : معنى «فسأكتبها» : فسأوجبها.
وفي الذين يتّقون قولان : أحدهما
: أنهم المتّقون
للشّرك ، قاله ابن عباس. والثاني
: للمعاصي ، قاله
قتادة. وفي قوله تعالى. (وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) قولان : أحدهما
: أنها زكاة
الأموال ، قاله الجمهور. والثاني
: أنّ المراد بها
طاعة الله ورسوله ، قاله ابن عباس والحسن ، ذهبا إلى أنها العمل بما يزكّي النّفس
ويطهّرها.
وقال ابن عباس ،
وقتادة : لمّا نزلت (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) قال إبليس : أنا من ذلك الشّيء ، فنزعها الله من إبليس ،
فقال : (فَسَأَكْتُبُها
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ) ، فقالت اليهود والنّصارى : نحن نتّقي ، ونؤتي الزّكاة ،
ونؤمن بآيات ربّنا ، فنزعها الله منهم ، وجعلها لهذه الأمة ، فقال : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَ). وقال نوف : قال الله تعالى لموسى : أجعل لكم الأرض طهورا
ومسجدا ، وأجعل السّكينة معكم في بيوتكم ، وأجعلكم تقرؤون التّوراة عن ظهور قلوبكم
، يقرؤها الرّجل منكم والمرأة والحرّ والعبد والصغير والكبير. فأخبر موسى قومه
بذلك ، فقالوا : لا نريد أن نصلّي إلّا في الكنائس ولا أن تكون السّكينة إلّا في
التّابوت ، ولا أن نقرأ التّوراة إلّا نظرا ، فقال الله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ). وفي هؤلاء المذكورين في قوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) قولان : أحدهما
: أنهم كلّ من آمن
بمحمّد صلىاللهعليهوسلم ، وتبعه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه محمّد صلىاللهعليهوسلم ، قاله السّدّيّ ، وقتادة. وفي تسميته بالأمّيّ قولان : أحدهما : لأنه لا يكتب. والثاني : لأنه من أمّ القرى.
قوله تعالى : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ) أي : يجدون نعته ونبوّته.
قوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قال الزّجّاج : يجوز أن يكون مستأنفا ، ويجوز أن يكون «يجدونه
مكتوبا عندهم» أنه يأمرهم بالمعروف. قال ابن عباس : المعروف : مكارم الأخلاق ،
وصلة الأرحام. والمنكر : عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام. وقال مقاتل : المعروف :
الإيمان ، والمنكر : الشّرك. وقال غيره : المعروف : الحقّ ، لأنّ العقول تعرف
صحّته ، والمنكر : الباطل ، لأنّ العقول تنكر صحّته. وفي الطّيبات أربعة أقوال : أحدها : أنها الحلال ، والمعنى : يحلّ لهم الحلال. والثاني : أنها ما
__________________
كانت العرب
تستطيبه. والثالث
: أنها الشّحوم
المحرّمة على بني إسرائيل. والرابع
: ما كانت العرب
تحرّمه من البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام. وفي الخبائث ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الحرام ، فالمعنى : ويحرّم عليهم الحرام. والثاني : أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله ، كالحيّات ،
والحشرات. والثالث
: ما كانوا يستحلّونه
من الميتة ، والدّم ، ولحم الخنزير.
قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ،
والكسائيّ «إصرهم». وقرأ ابن عامر «آصارهم» ممدودة الألف على الجمع. وفي هذا الإصر
قولان : أحدهما
: أنه العهد الذي
أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التّوراة ، قاله ابن عباس. والثاني : التّشديد الذي كان عليهم من تحريم السّبت ، والشّحوم
والعروق ، وغير ذلك من الأمور الشّاقة ، قاله قتادة. وقال مسروق : لقد كان الرجل
من بني إسرائيل يذنب الذّنب ، فيصبح وقد كتب على باب بيته : إنّ كفارته أن تنزع
عينيك ، فينزعهما.
قوله تعالى : (وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ
عَلَيْهِمْ) قال الزّجّاج : ذكر الأغلال تمثيل ، ألا ترى أنك تقول : جعلت
هذا طوقا في عنقك ، وليس هناك طوق ، إنّما جعلت لزومه كالطّوق. والأغلال : أنه كان
عليهم أن لا يقبل منهم في القتل دية ، وأن لا يعملوا في السّبت ، وأن يقرضوا ما
أصاب جلودهم من البول.
قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) يعني بمحمّد صلىاللهعليهوسلم (وَعَزَّرُوهُ) وروى أبان «وعزروه» بتخفيف الزّاي. وفي المعنى قولان : أحدهما : نصروه وأعانوه ، قاله مقاتل. والثاني : عظّموه ، قاله ابن قتيبة. والنّور الذي أنزل معه : القرآن
، سمّاه نورا ، لأنّ بيانه في القلوب كبيان النّور في العيون. وفي قوله «معه»
قولان : أحدهما
: أنّها بمعنى «عليه».
والثاني
: بمعنى أنزل في
زمانه. قال قتادة : أمّا نصره ، فقد سبقتم إليه ، ولكنّ خيركم من آمن به واتّبع
النّور الذي أنزل معه.
قوله تعالى : (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) في الكلمات قولان :
أحدهما
: أنها القرآن ،
قاله ابن عباس. وقال قتادة : كلماته : آياته.
والثاني
: أنها عيسى ابن
مريم ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ.
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩))
قوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِ) فيه قولان : أحدهما : يدعون إلى الحقّ. والثاني : يعملون به.
__________________
قوله تعالى : (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قال الزّجّاج : وبالحقّ يحكمون. وفي المشار إليهم بهذا
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّهم قوم وراء
الصّين لم تبلغهم دعوة الإسلام ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : أنّهم من آمن بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم مثل ابن سلام وأصحابه ، قاله ابن السّائب. والثالث : أنهم الذين تمسّكوا بالحقّ في زمن أنبيائهم ، ذكره الماوردي.
(وَقَطَّعْناهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ
قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ
عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ
وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ
سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً
غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما
كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))
قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ) يعني قوم موسى ، يقول : فرّقناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) يعني أولاد يعقوب ، وكانوا اثني عشر ولدا ، فولد كلّ واحد
منهم سبطا. قال الفرّاء : وإنّما قال «اثنتي عشرة» والسّبط ذكر ، لأنّ بعده «أمما»
فذهب بالتّأنيث إلى الأمم ، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السّبط ، كان جائزا. وقال
الزّجّاج : المعنى : وقطّعناهم اثنتي عشرة فرقة ، «أسباطا» نعت «فرقة» كأنّه يقول
: جعلناهم أسباطا ، وفرّقناهم أسباطا ، فيكون «أسباطا» بدلا من «اثنتي عشرة» و «أمما»
من نعت أسباط. والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليفصل بين ولد إسماعيل وبين
ولد إسحاق. وقال أبو عبيدة : الأسباط : قبائل بني إسرائيل ، أحدهم : سبط. ويقال :
من أيّ سبط أنت؟ أي : من أيّ قبيلة وجنس؟
قوله تعالى : (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ) قال ابن قتيبة : انفجرت ؛ يقال : تبجّس الماء ، كما يقال :
تفجّر ؛ والقصة مذكورة في سورة (البقرة).
قوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «نغفر لكم
خطيئاتكم» بالتاء مهموزة على الجمع. وقرأ أبو عمرو «نغفر لكم خطاياكم» مثل :
قضاياكم ، ولا تاء فيها. وقرأ نافع «تغفر» بالتاء مضمومة «خطيئاتكم» بالهمز وضمّ
التاء ، على الجمع ، وافقه ابن عامر في «تغفر» بالتاء المضمومة ، لكنه قرأ «خطيئتكم»
على التّوحيد.
(وَسْئَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ
تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا
تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣))
قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ) يعني أسباط اليهود ، وهذا سؤال تقرير وتوبيخ يقرّرهم على
قديم كفرهم ، ومخالفة أسلافهم الأنبياء ، ويخبرهم بما لا يعلم إلّا بوحي. وفي
القرية خمسة أقوال :
__________________
أحدها
: أنها أيلة ، رواه مرّة عن ابن مسعود ، وأبو صالح عن ابن عباس ، وبه
قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والسّدّيّ. والثاني : أنها مدين ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : أنها ساحل مدين ، روي عن قتادة. والرابع : أنها طبريّة ، قاله الزّهريّ. والخامس : أنها قرية يقال لها : مقنا ، بين مدين وعينونا ، قاله ابن زيد. ومعنى (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه. (إِذْ يَعْدُونَ) قال الزّجّاج : أي يظلمون ، يقال : عدا فلان يعدو عدوانا
وعداء وعدوا وعدوّا : إذا ظلم ، وموضع «إذ» نصب ؛ والمعنى : سلهم عن وقت عدوهم في
السّبت. (إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتانُهُمْ) في موضع نصب أيضا ب «يعدون» والمعنى : سلهم إذ عدوا في وقت
الإتيان. (شُرَّعاً) أي : ظاهرة. (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) أي : مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم بفسقهم. ويحتمل على
بعد أن يكون المعنى (وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) كذلك ، أي : لا تأتيهم شرّعا ؛ ويكون (نَبْلُوهُمْ) مستأنفا. وقرأ الأعمش ، وأبان ، والمفضّل عن عاصم : «يسبتون»
بضمّ الياء.
(وَإِذْ قالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
(١٦٤))
قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) قال المفسّرون : افترق أهل القرية ثلاث فرق ؛ فرقة صادت
وأكلت ، وفرقة نهت وزجرت ، وفرقة أمسكت عن الصّيد ، وقالت للفرقة النّاهية : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ
مُهْلِكُهُمْ) لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنّهم غير مقلعين ، فقالت
الفرقة النّاهية : (مَعْذِرَةً إِلى
رَبِّكُمْ) قرأ ابن كثير ؛ ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ،
والكسائيّ : «معذرة» رفعا ، أي : موعظتنا إيّاهم معذرة ، والمعنى أنّ الأمر
بالمعروف واجب علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله. وقرأ حفص عن عاصم : «معذرة»
نصبا ، وذلك على معنى نعتذر معذرة. (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) أي : وجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية.
(فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا
عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧))
قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) يعني : تركوا ما وعظوا به (أَنْجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهم النّاهون عن المنكر. والذين ظلموا هم المعتدون في
السّبت.
قوله تعالى : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «بئيس»
على وزن فعيل ، فالهمزة بين الباء والياء. وقرأ نافع : «بيس» بكسر الباء من غير
همز. وقرأ ابن عامر كذلك ، إلا
__________________
أنّه همز. وروى
خارجة عن نافع : «بيس» بفتح الباء من غير همز ، على وزن «فعل». وروى أبو بكر عن
عاصم : «بيأس» على وزن «فيعل». وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأيّوب : «بيآس» على
وزن «فيعال». وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، ومعاذ القارئ : «بئس» بفتح الباء
وكسر الهمزة من غير ياء على وزن «تعس». وقرأ الضّحّاك ، وعكرمة : «بيس» بتشديد
الياء مثل «قيّم». وقرأ أبو العالية ، وأبو مجلز : «بئس» بفتح الباء والسين وبهمزة
مكسورة من غير ياء ولا ألف على وزن «فعل». وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو رجاء : «بائس»
بألف ومدّة بعد الباء وبهمزة مكسورة بوزن «فاعل». قال أبو عبيدة : البئيس :
الشّديد ، وأنشد :
حيفا عليّ وما
ترى
|
|
لي فيهم أثرا
بئيسا
|
وقال الزّجّاج :
يقال : بئس يبأس بأسا ، والعاتي : الشّديد الدّخول في الفساد ، المتمرّد الذي لا
يقبل موعظة. وقال ابن جرير : «فلمّا عتوا» أي : تمرّدوا فيما نهوا عنه ؛ وقد ذكرنا
في سورة (البقرة) : قصّة مسخهم. وكان الحسن البصري يقول : والله ما لحوم هذه
الحيتان بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين.
قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أعلم ، قاله الحسن ، وابن قتيبة ، وقال : هو من آذنتك
بالأمر. وقال ابن الأنباري : «تأذّن» بمعنى آذن ؛ كما يقال : تعلّم أنّ فلانا قائم
، أي : اعلم. وقال أبو سليمان الدّمشقي : أي : أعلم أنبياء بني إسرائيل. والثاني : حتم ، قاله عطاء. والثالث : وعد ، قاله قطرب. والرابع : تألّى ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي : على اليهود. وقال مجاهد : على اليهود والنّصارى
بمعاصيهم. (مَنْ يَسُومُهُمْ) أي : يولّيهم (سُوءَ الْعَذابِ). وفي المبعوث عليهم قولان : أحدهما : أنه محمّد صلىاللهعليهوسلم ، وأمّته ، قاله ابن عباس. والثاني : العرب ، كانوا يجبونهم الخراج ، قاله سعيد بن جبير ، قال :
ولم يجب الخراج نبيّ قطّ إلّا موسى ، جباه ثلاث عشرة سنة ، ثم أمسك إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وقال السّدّيّ بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية
ويقتلونهم. وفي سوء العذاب أربعة أقوال : أحدها : الجزية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : المسكنة والجزية ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : الخراج ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن
جبير. والرابع
: أنه القتال حتى
يسلموا ، أو يعطوا الجزية.
(وَقَطَّعْناهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ
بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨))
قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) قال أبو عبيدة : فرّقناهم فرقا. قال ابن عباس : هم اليهود
، ليس من بلد إلّا وفيه منهم طائفة. وقال مقاتل : هم بنو إسرائيل. وقيل : معناه :
شتات أمرهم وافتراق كلمتهم. (مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ) وهم المؤمنون بعيسى ومحمّد عليهماالسلام. (وَمِنْهُمْ دُونَ
ذلِكَ) وهم الكفّار. وقال ابن جرير : إنما كانوا على هذه الصّفة
قبل أن يبعث عيسى ، وقبل ارتدادهم.
__________________
قوله تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ) أي : اختبرناهم (بِالْحَسَناتِ) وهي الخير ، والخصب ، والعافية ، (وَالسَّيِّئاتِ) وهي الجدب ، والشر ، والشّدائد ؛ فالحسنات والسّيئات تحثّ
على الطّاعة ، أمّا النّعم فلطلب الازدياد منها ، وخوف زوالها ، والنّقم فلكشفها ،
والسّلامة منها. (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي : لكي يتوبوا.
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ
سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ
وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (١٦٩))
قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد الذين وصفناهم. (خَلْفٌ) وقرأ الجونيّ ، والجحدريّ : «خلف» بفتح اللام. قال أبو
عبيدة : الخلف والخلف واحد ؛ وقوم يجعلون المحرّك اللام ، للصّالح ، والمسكّن ،
لغير الصّالح. وقال ابن قتيبة : الخلف : الرّديء من الناس ومن الكلام ، يقال : هذا
خلف من القول. وقال ابن الأنباري : أكثر ما تستعمل العرب الخلف ، بإسكان اللام ،
في الرّديء المذموم ، وتفتح اللام في الفاضل الممدوح. وقد يوقع الخلف على الممدوح
، والخلف على المذموم ؛ غير أن المختار ما ذكرناه.
وفي المراد بهذا
الخلف ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم اليهود ،
قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني
: النّصارى. والثالث : أنّ الخلف من أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، والقولان عن مجاهد.
فإن قيل : الخلف
واحد ، فكيف قال : (يَأْخُذُونَ) وكذلك قال في (مريم) (أَضاعُوا) ؟ فقد ذكر ابن الأنباري عنه جوابين : أحدهما : أنّ الخلف جمع خالف ، كما أنّ الرّكب جمع راكب ، والشّرب
جمع شارب. والثاني
: أي الخلف مصدر
يكون للاثنين والجميع ، والمذكّر والمؤنّث.
قوله تعالى : (وَرِثُوا الْكِتابَ) أي : انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف ، فيخرج
في الكتاب ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه التّوراة. والثاني : الإنجيل. والثالث : القرآن.
قوله تعالى : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي : هذه الدّنيا ، وهو ما يعرض لهم منها. وقيل : سمّاه
عرضا ، لقلّة بقائه. قال ابن عباس : يأخذون ما أحبّوا من حلال أو حرام. وقيل : هو
الرّشوة في الحكم. وفي وصفه بالأدنى قولان : أحدهما : أنه من الدّنوّ. والثاني : أنه من الدّناءة.
قوله تعالى : (سَيُغْفَرُ لَنا) فيه قولان : أحدهما : أنّ المعنى : إنّا لا نؤاخذ ، تمنّيا على الله الباطل. والثاني : أنه ذنب يغفره الله لنا ، تأميلا لرحمة الله تعالى. وفي
قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ
عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)
__________________
قولان : أحدهما : أنّ المعنى : لا يشبعهم شيء ، فهم يأخذون لغير حاجة ، قاله
الحسن. والثاني
: أنّهم أهل إصرار
على الذنوب ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ
الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) قال ابن عباس : وكّد الله عليهم في التّوراة أن لا يقولوا
على الله إلّا الحقّ ، فقالوا الباطل ، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم
التي لا يتوبون منها ، وليس في التّوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار.
قوله تعالى : (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) معطوف على «ورثوا». ومعنى «درسوا ما فيه» : قرءوه ، فكأنه
قال : خالفوا على علم. (وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ) أي : ما فيها من الثواب (خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنّ الباقي خير من الفاني. قرأ ابن عامر ونافع وحفص عن
عاصم بالتاء ، والباقون بالياء.
(وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ،
وحفص عن عاصم «يمسّكون» مشدّدة ، وقرءوا (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) مخفّفة ، وقرأهما أبو عمرو بالتّشديد. وروى أبو بكر عن
عاصم أنه خفّفهما. ويقال : مسّكت بالشيء ، وتمسّكت به ، واستمسكت به ، وامتسكت به.
وهذه الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين حفظوا حدوده ولم يحرّفوه ، منهم عبد
الله بن سلّام وأصحابه. قال ابن الأنباري : وخبر «الذين» : «إنا» وما بعده ، وله
ضمير مقدّر بعد «المصلحين» تأويله : والذين يمسّكون بالكتاب إنّا لا نضيع أجر
المصلحين منهم ، ولهذه العلّة وعدهم حفظ الأجر بشرط ، إذ كان منهم من لم يصلح. قال
: وقال بعض النّحويين : المصلحون يرجعون على الذين ، وتلخيص المعنى عنده : والذين
يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصّلاة إنّا لا نضيع أجرهم ، فأظهرت كنايتهم بالمصلحين ،
كما يقال : عليّ لقيت الكسائيّ ، وأبو سعيد رويت عن الخدريّ ، يراد : لقيته ورويت
عنه. قال الشاعر :
فيا ربّ ليلى
أنت في كلّ موطن
|
|
وأنت الذي في
رحمة الله أطمع
|
أراد في رحمته ،
فأظهر ضمير الهاء.
(وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))
قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) أي : واذكر لهم إذ نتقنا الجبل ، أي : رفعناه. قال مجاهد :
أخرج الجبل من الأرض ، ورفع فوقهم كالظلّة ، فقيل لهم : لتؤمننّ أو ليقعنّ عليكم.
قال قتادة : نزلوا في أصل جبل ، فرفع فوقهم ، فقال : لتأخذنّ أمري ، أو لأرمينّكم
به.
قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) فيه قولان : أحدهما : أنه الظّنّ المعروف. والثاني : أنه بمعنى اليقين. وباقي الآية مفسّر في (البقرة).
__________________
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢))
قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ). روى ابن عباس عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٥٩٠) «أخذ الله
الميثاق من ظهر آدم بنعمان» ـ ونعمان قريب من عرفة ، ذكره ابن قتيبة ـ «فأخرج
من صلبه كلّ ذرّية ذرأها ، فنثرهم بين يديه كالذّرّ ، ثم كلّمهم قبلا ، وقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى
شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)».
ومعنى الآية : وإذ
أخذ ربّكم من ظهور بني آدم. فقوله تعالى : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من (بَنِي آدَمَ). وقيل : إنّما قال : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل : من ظهر آدم ، لأنه أخرج بعضهم من ظهور بعض ،
فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه ، وقد أخرجوا من ظهره. وقوله تعالى
: (ذُرِّيَّتَهُمْ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ «ذرّيّتهم» على
التّوحيد. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «ذرّيّاتهم» على الجمع. قال أبو عليّ
: الذّرّية تكون جمعا ، وتكون واحدا. وفي قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : أشهدهم على أنفسهم بإقرارهم ، قاله مقاتل. والثاني : دلّهم بخلقه على توحيده ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنه أشهد بعضهم على بعض بإقرارهم بذلك ، قاله ابن جرير.
قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) والمعنى : وقال لهم : ألست بربّكم؟ وهذا سؤال تقرير. قالوا
: بلى شهدنا أنّك ربّنا. قال السّدّيّ : قوله «شهدنا» خبر من الله تعالى عن نفسه
وملائكته أنّهم شهدوا على إقرار بني آدم. ويحسن الوقف على قوله «بلى» لأنّ كلام الذّرّية
قد انقطع. وزعم الكلبيّ أنّ الذّرّية لمّا قالت : «بلى» ، قال الله تعالى للملائكة
: «اشهدوا» فقالوا : «شهدنا». وروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال : جمعهم جميعا
، فجعلهم أزواجا ، ثم صوّرهم ، ثم استنطقهم ، ثم قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أنك إلهنا. قال : فإنّي أشهد عليكم السماوات السبع
والأرضين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم (أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لم نعلم بهذا. وقال السّدّي : أجابته طائفة طائعين ،
وطائفة كارهين تقيّة.
قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا) قرأ أبو عمرو «أن يقولوا» ، «أو يقولوا» بالياء فيهما.
وقرأ الباقون بالتاء فيهما. قال أبو عليّ : حجّة أبي عمرو قوله : «وإذ أخذ ربك»
وقوله تعالى : «قالوا بلى» ، وحجّة من قرأ بالتاء ، أنه قد جرى في الكلام خطاب : «ألست
بربكم قالوا بلى شهدنا». ومعنى قوله : «تقولوا» : لئلّا
____________________________________
(٥٩٠) الصحيح
موقوف. أخرجه النسائي في «الكبرى» ١١١٩١ وأحمد ١ / ٢٧٢ ح ٢٤٥١. والطبري ١٥٣٤٩
والحاكم ١ / ٢٧ و ٢ / ٥٤٤ من حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
مرفوعا. صححه الحاكم ، وقال : احتج مسلم بكلثوم بن جبر ، ووافقه الذهبي ، وأما
النسائي فقال : كلثوم هذا غير قوي ، وحديثه غير محفوظ ا. ه. والظاهر أن الوهم في
رفعه إنما هو من جهة جرير بن حازم ، فإنه ثقة لكن له أوهام إذا حدث من حفظه. أو
الوهم ممن دونه فقد أخرجه الطبري ١٥٣٥٠ عن عبد الوارث عن كلثوم عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس موقوفا. وتابعه ابن علية برقم ١٥٣٥١ عن كلثوم به موقوفا ، و ١٥٣٥٢ ،
وبرقم ١٥٣٥٣ و ١٥٣٥٤ ، تابعه عطاء بن السائب فرواه عن سعيد عن ابن عباس موقوفا ،
فالصواب في هذا الحديث الوقف كما رواه غير واحد ، والله أعلم انظر «تفسير ابن كثير»
عند هذه الآية بتخريجنا.
تقولوا ، ومثله : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) . وفي قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا عَنْ
هذا) قولان : أحدهما
: أنّه إشارة إلى
الميثاق والإقرار. والثاني
: أنّه إشارة إلى
معرفة أنه الخالق. قال المفسّرون : وهذه الآية تذكير من الله تعالى بما أخذ على
جميع المكلّفين من الميثاق ، واحتجاج عليهم لئلّا يقول الكفّار : إنّا كنّا عن هذا
الميثاق غافلين لم نذكره ، ونسيانهم لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى بذلك
على لسان النبيّ صلىاللهعليهوسلم الصّادق. وإذا ثبت هذا بقول الصّادق ، قام في النّفوس مقام
الذّكر ، فالاحتجاج به قائم.
(أَوْ تَقُولُوا
إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا
بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣))
قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ
آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاتّبعنا منهاجهم على جهل منّا بآلهيتك (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ) في دعواهم أنّ معك إلها ، فقطع الله احتجاجهم بمثل هذا ،
إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كلّ واحد منهم. وجماعة أهل العلم على ما شرحنا من أنه
استنطق الذّرّ ، وركّب فيهم عقولا وأفهاما عرفوا بها ما عرض عليهم. وقد ذكر بعضهم
أنّ معنى أخذ الذّرّية : إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفا ، ومعنى إشهادهم على
أنفسهم : اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين. ولمّا
عرفوا ذلك ودعاهم كلّ ما يرون ويشاهدون إلى التّصديق ، كانوا بمنزلة الشّاهدين
والمشهدين على أنفسهم بصحّته ، كما قال : (شاهِدِينَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) يريدهم بمنزلة الشّاهدين ، وإن لم يقولوا : نحن كفرة ، كما
يقول الرجل : قد شهدت جوارحي بصدقك ، أي : قد عرفته. ومن هذا الباب قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ) أي : بيّن وأعلم وقد حكى نحو هذا القول ابن الأنباري ،
والأول أصحّ ، لموافقة الآثار.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : وكما بيّنا في أخذ الميثاق الآيات ، ليتدبّرها العباد
فيعملوا بموجبها (وَلَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي : ولكي يرجعوا عمّا هم عليه من الكفر إلى التّوحيد.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥))
قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) قال الزّجّاج : هذا نسق على ما قبله ، والمعنى : أتل عليهم
إذ أخذ ربّك ، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) وفيه ستة أقوال :
(٥٩١) أحدها : أنه رجل من بني إسرائيل يقال له : بلعم بن أبر ، قاله ابن
مسعود. وقال ابن
____________________________________
(٥٩١) ورد عن
جماعة من الصحابة والتابعين. فقد أخرجه الطبري ١٥٣٩٢ ـ ١٥٣٩٦
و ١٥٣٩٩ من طرق عن ابن مسعود وأخرجه برقم ١٥٣٩٨ و ١٥٤٠١ عن ابن عباس. وأخرجه برقم
١٥٤٠٣ و ١٥٤٠٤ عن مجاهد.
وأخرجه ١٥٤٠٨ عن
عكرمة ، وله شواهد. وهذا القول هو أرجح الأقوال.
__________________
عباس : بلعم بن
باعوراء. وروي عنه : أنه بلعام بن باعور ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والسّدّيّ.
وروى العوفيّ عن ابن عباس أن بلعما من أهل اليمن. وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من
مدينة الجبّارين.
(٥٩٢) والثاني : أنه أميّة بن أبي الصّلت ، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص
، وسعيد بن المسيّب ، وأبو روق ، وزيد بن أسلم ، وكان أميّة قد قرأ الكتاب ، وعلم
أنّ الله مرسل رسولا ، ورجا أن يكون هو ، فلما بعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، حسده وكفر.
والثالث
: أنه أبو عامر
الرّاهب ، روى الشّعبيّ عن ابن عباس قال : الأنصار تقول : هو الرّاهب الذي بني له
مسجد الشّقاق ، وروي عن ابن المسيّب نحوه. والرابع : أنه رجل كان في بني إسرائيل ، أعطي ثلاث دعوات يستجاب له
فيهنّ ، وكانت له امرأة له منها ولد ، وكانت سمجة دميمة ، فقالت أدع الله أن
يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا الله لها ، فلما علمت أن ليس في بني
إسرائيل مثلها ، رغبت عن زوجها وأرادت غيره ، فلمّا رغبت عنه ، دعا الله أن يجعلها
كلبة نبّاحة ، فذهبت منه فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس بنا على هذا صبر
أن صارت أمّنا كلبة نباحة يعيّرنا الناس بها ، فادع الله أن يردّها إلى الحال التي
كانت عليها أوّلا ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدّعوات الثلاث ،
رواه عكرمة عن ابن عباس ، والذي روي لنا في هذا الحديث «وكانت سمجة» بكسر الميم ،
وقد روى سيبويه عن العرب أنّهم يقولون : رجل سمج : بتسكين الميم ، ولم يقولوا :
سمج ؛ بكسرها. والخامس
: أنه المنافق ،
قاله الحسن. والسادس
: أنه كلّ من انسلخ
من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنّصارى والحنفاء ، قاله عكرمة.
وفي الآيات خمسة
أقوال : أحدها
: أنه اسم الله
الأعظم ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير. والثاني : أنّها كتاب من كتب الله عزوجل. روى عكرمة عن ابن عباس قال : هو بلعام ، أوتي كتابا
فانسلخ منه. والثالث
: أنه أوتي نبوّة ،
فرشاه قومه على أن يسكت ، ففعل ، وتركهم على ما هم عليه ، قاله مجاهد ، وفيه بعد ،
لأنّ الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلّا معصوما عن مثل هذه الحال. والرابع : أنّها حجج التّوحيد ، وفهم أدلّته. والخامس : أنّها العلم بكتب الله عزوجل. والمشهور في التفسير أنه بلعام وكان من أمره على ما ذكره
المفسّرون أنّ موسى عليهالسلام غزا البلد الذي هو فيه ، وكانوا كفّارا ، وكان هو مجاب
الدّعوة ، فقال ملكهم : ادع على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني ،
____________________________________
(٥٩٢) موقوف.
أخرجه الطبري ١٥٤١٣ و ١٥٤١٤ و ١٥٤١٥ و ١٥٤١٧ عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
__________________
ولا ينبغي لي أن
أدعو عليه ، فأمر الملك أن تنحت خشبة لصلبه ، فلمّا رأى ذلك ، خرج على أتان ليدعو
على موسى ، فلما عاين عسكرهم ، وقفت الأتان فضربها ، فقالت : لم تضربني ، وهذه نار
تتوقّد قد منعتني أن أمشي؟ فارجع ، فرجع إلى الملك فأخبره ، فقال : إمّا أن تدعو
عليهم ، وإمّا أن أصلبك ، فدعا على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة ،
فاستجاب الله له ، فوقع موسى وقومه في التّيه بدعائه ، فقال موسى : يا ربّ ، بأيّ
ذنب وقعنا في التّيه؟ فقال : بدعاء بلعم. فقال : يا ربّ ، فكما سمعت دعاءه عليّ ،
فاسمع دعائي عليه ، فدعا الله أن ينزع منه الاسم الأعظم ، فنزع منه. وقيل : إنه
أمر قومه أن يزيّنوا النساء ويرسلوهنّ في العسكر ليفشو الزّنا فيهم ، فينصروا
عليهم. وقيل : إنّ موسى قتله بعد ذلك. وروى السّدّيّ عن أشياخه أنّ بلعم أتى إلى
قومه متبرّعا ، فقال : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإنّكم إذا خرجتم لقتالهم ، دعوت
عليهم فهلكوا ، فكان فيما شاء عندهم من الدنيا ، وذلك بعد مضيّ الأربعين سنة التي
تاهوا فيها ، وكان نبيّهم يوشع ، لا موسى.
قوله تعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي : خرج من العلم بها.
قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) قال ابن قتيبة : أدركه. يقال : اتّبعت القوم : إذا لحقتهم
، وتبعتهم : سرت في أثرهم. وقرأ طلحة بن مصرّف : «فاتّبعه» بالتّشديد. وقال
اليزيديّ : أتبعه واتّبعه : لغتان. وكأنّ «أتبعه» خفيفة بمعنى : قفاه ، و «اتّبعه»
مشدّدة : حذا حذوه. ولا يجوز أن تقول : أتبعناك ، وأنت تريد : اتّبعناك ، لأنّ
معناها : اقتدينا بك. وقال الزّجّاج : يقال : تبع الرجل الشيء واتّبعه بمعنى واحد.
قال الله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) وقال : (فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ) .
قوله تعالى : (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) فيه قولان : أحدهما : من الضالين ، قاله مقاتل. والثاني : من الهالكين الفاسدين ، قاله الزجاج.
(وَلَوْ شِئْنا
لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦))
قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) في هاء الكناية في «رفعناه» قولان : أحدهما
: أنها تعود إلى
الإنسان المذكور ، وهو قول الجمهور ؛ فيكون المعنى : ولو شئنا لرفعنا منزلة هذا
الإنسان بما علّمنا. والثاني
: أنها تعود إلى
الكفر بالآيات ، فيكون المعنى : لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا ، وهذا المعنى
مرويّ عن مجاهد. وقال الزّجّاج : لو شئنا لحلنا بينه وبين المعصية.
قوله تعالى : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي : ركن إلى الدنيا وسكن. قال الزّجّاج : يقال : أخلد
__________________
وخلد ، والأول
أكثر في اللغة. والأرض ها هنا عبارة عن الدنيا ، لأنّ الدنيا هي الأرض بما عليها.
وفي معنى الكلام قولان : أحدهما
: أنه ركن إلى أهل
الدنيا ، ويقال : إنّه أرضى امرأته بذلك لأنّها حملته عليه. وقيل : أرضى بني عمّه
وقومه. والثاني
: أنه ركن إلى
شهوات الدنيا ؛ وقد بيّن ذلك بقوله تعالى : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) والمعنى أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى. قال ابن زيد : كان
هواه مع قومه. وهذه الآية من أشدّ الآيات على أهل العلم إذا مالوا عن العلم إلى
الهوى. قوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) معناه : أنّ هذا الكافر ، إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته
لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب ، فإنّه إن طرد وحمل عليه بالطّرد كان
لاهثا ، وإن ترك وربض كان أيضا لاهثا ، والتّشبيه بالكلب اللاهث خاصّة ؛ فالمعنى :
فمثله كمثل الكلب لاهثا ؛ وإنما شبّهه بالكلب اللاهث ، لأنه أخسّ الأمثال على أخسّ
الحالات وأبشعها. وقال ابن قتيبة : كلّ لاهث إنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلّا
الكلب ، فإنه يلهث في حال راحته وحال كلاله ، فضربه الله مثلا لمن كذّب بآياته ،
فقال : إن وعظته فهو ضالّ ، وإن لم تعظه فهو ضالّ ، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى
لهث ، أو تركته على حاله رابضا لهث. قال المفسّرون : زجر في منامه عن الدّعاء على
بني إسرائيل فلم ينزجر ، وخاطبته أتانه فلم ينته ، فضرب له هذا المثل ولسائر
الكفّار ؛ فذلك قوله تعالى : (ذلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) لأنّ الكافر إن وعظته فهو ضالّ ، وإن تركته فهو ضالّ ؛ وهو
مع إرسال الرّسل إليه كمن لم يأته رسول ولا بينة.
قوله تعالى : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) قال عطاء : قصص الذين كفروا وكذّبوا أنبياءهم.
(ساءَ مَثَلاً
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ (١٧٨))
قوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً) يقال : ساء الشيء يسوء : إذا قبح ، والمعنى : ساء مثلا مثل
القوم ، فحذف المضاف ، فنصب «مثلا» على التّمييز.
قوله تعالى : (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي : يضرّون بالمعصية.
(وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي : خلقنا. قال ابن قتيبة : ومنه ذرّية الرّجل ، إنما هي
الخلق منه ، ولكنّ همزها يتركه أكثر العرب. قوله تعالى : (لِجَهَنَّمَ) هذه اللام يسمّيها بعض أهل المعاني لام العاقبة ، كقوله
تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً) ، ومثله قول الشاعر :
أموالنا لذوي
الميراث نجمعها
|
|
ودورنا لخراب
الدّهر نبنيها
|
ودخل رجل على عمر
بن عبد العزيز يعزّيه بموت ابنه ، فقال :
تعزّ أمير
المؤمنين فإنّه
|
|
لما قد ترى يغذى
الصّغير ويولد
|
وقد أخبر الله عزوجل في هذه الآية بنفاذ علمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب
كفرهم.
قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) لمّا أعرض القوم عن الحق والتّفكّر فيه ، كانوا بمنزلة من
لم يفقه ولم يبصر ولم يسمع. وقال محمّد بن القاسم النّحوي : أراد بهذا كلّه أمر
الآخرة ، فإنهم يعقلون أمر الدنيا. قوله تعالى : (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ) شبّههم بالأنعام لأنّها تسمع وتبصر ولا تعتبر ، ثم قال : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) لأنّ الأنعام تبصر منافعها ومضارّها فتلزم بعض ما تبصره ،
وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند فيقدم على النار ، (أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) عن أمر الآخرة.
(وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). سبب نزولها :
(٥٩٣) أنّ رجلا
دعا الله في صلاته ، ودعا الرّحمن ، فقال أبو جهل : أليس يزعم محمّد وأصحابه أنهم
يعبدون ربّا واحدا ، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية ، قاله مقاتل.
فأما الحسنى ، فهي
تأنيث الأحسن. ومعنى الآية أنّ أسماء الله حسنى ، وليس المراد أنّ فيها ما ليس
بحسن. وذكر الماوردي أنّ المراد بذلك ما مالت إليه النّفوس من ذكره بالعفو
والرّحمة دون السّخط والنّقمة. وقوله تعالى : (فَادْعُوهُ بِها) أي : نادوه بها ، كقوله : يا الله ، يا رحمن.
قوله تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يلحدون»
بضمّ الياء ، وكذلك في سورة (النّحل) و (السّجدة) . وقرأ حمزة : «يلحدون» بفتح الحاء والياء فيهنّ ، ووافقه
الكسائيّ ، وخلف في سورة (النّحل) . قال الأخفش : الحد ولحد : لغتان ؛ فمن قرأ بهما أراد
الأخذ باللغتين ، فكأنّ الإلحاد : العدول عن الاستقامة. وقال ابن قتيبة : يجورون
عن الحق ويعدلون ؛ ومنه لحد القبر ، لأنه في جانب. قال الزّجّاج : ولا ينبغي لأحد
أن يدعوه بما لم يسمّ به نفسه ، فيقول : يا جواد ، ولا يقول : يا سخيّ ؛ ويقول :
يا قويّ ، ولا يقول : يا جلد ، ويقول : يا رحيم ، ولا يقول : يا رفيق ، لأنه لم
يصف نفسه بذلك. قال أبو سليمان الخطّابي : ودليل هذه الآية أنّ الغلط في أسمائه
والزّيغ عنها إلحاد ، ومما يسمع على ألسنة العامّة قولهم : يا سبحان ، يا برهان ،
وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه ، وربّما قال بعضهم : يا ربّ طه ويس. وقد أنكر ابن
عباس على رجل قال : يا ربّ القرآن. وروي عن ابن عباس أنّ إلحادهم في أسمائه أنهم
سمّوا بها أوثانهم ، وزادوا فيها ونقصوا منها ، فاشتقوا اللات من الله ، والعزّى
من العزيز ، ومناة من المنّان.
فصل
: والجمهور على أنّ
هذه الآية محكمة ، لأنها خارجة مخرج التّهديد ، كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ، وقد ذهب بعضهم إلى أنّها منسوخة بآية القتال ، لأنّ قوله
تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) يقتضي الإعراض عن الكفّار ، وهذا قول ابن زيد.
____________________________________
(٥٩٣) باطل ، عزاه
المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، وليس له أصل بذكر سبب نزول الآية ، وورد شيء
من هذا في آخر سورة الإسراء ، وسيأتي.
__________________
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))
قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بِالْحَقِ) أي : يعملون به ، (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي : وبالعمل به يعدلون. وفيمن أريد بهذه الآية أربعة
أقوال : أحدها
: أنهم المهاجرون
والأنصار والتّابعون بإحسان من هذه الأمّة ، قاله ابن عباس. وكان ابن جريج يقول :
(٥٩٤) ذكر لنا أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «هذه أمّتي ، بالحقّ يأخذون ويعطون ويقضون.
(٥٩٥) وقال قتادة
: بلغنا أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان إذا تلا هذه الآية قال : «هذه لكم وقد أعطي القوم
مثلها» ثم يقرأ : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩) .
والثاني
: أنهم من جميع
الخلق ، قاله ابن السّائب. والثالث
: أنهم الأنبياء. والرابع : أنهم العلماء ، ذكر القولين الماوردي.
(وَالَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) قال أبو صالح عن ابن عباس : هم أهل مكّة. وقال مقاتل : نزلت
في المستهزئين من قريش.
قوله تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) قال الخليل بن أحمد : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم. وقال
أبو عبيدة : الاستدراج : أن يتدرّج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ولا يهجم عليه ،
وأصله من الدّرجة ، وذلك أنّ الرّاقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ؛ ومنه : درج
الكتاب : إذا طواه شيئا بعد شيء ؛ ودرج القوم : إذا ماتوا بعضهم في إثر بعض. وقال
اليزيديّ : الاستدراج : أن يأتيه من حيث لا يعلم. وقال ابن قتيبة : هو أن يذيقهم
من بأسه قليلا قليلا من حيث لا يعلمون ، ولا يباغتهم به ولا يجاهرهم. وقال الأزهريّ
: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون ؛ وذلك أنّ الله تعالى يفتح عليهم من
النّعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه ، ثم يأخذهم على غرّتهم أغفل ما يكونون. قال
الضّحّاك : كلّما جدّدوا لنا معصية جدّدنا لهم نعمة. وفي قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما
: من حيث لا يعلمون
بالاستدراج. والثاني
: بالهلكة.
قوله تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ) الإملاء : الإمهال والتّأخير.
قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) قال ابن عباس : إنّ مكري شديد. وقال ابن فارس : الكيد : المكر
؛ فكلّ شيء عالجته فأنت تكيده. قال المفسّرون : مكر الله وكيده : مجازاة أهل المكر
والكيد على نحو ما بيّنا في (البقرة) و (آل عمران) من ذكر الاستهزاء والخداع والمكر.
____________________________________
(٥٩٤) ضعيف جدا.
أخرجه الطبري ١٥٤٦٩ عن ابن جريج مرسلا ، ومع إرساله ، مراسيل ابن جريج واهية ، شبه
موضوعة كما قال الإمام أحمد ، راجع «الميزان». وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٣٨.
(٥٩٥) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٥٤٧١ عن قتادة مرسلا. والمرسل من قسم الضعيف.
__________________
(أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ
اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ
وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ
مِنْ جِنَّةٍ) سبب نزولها :
(٥٩٦) أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، علا على الصّفا ليلة ، ودعا قريشا فخذا فخذا : يا بني
فلان ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، فحذرهم بأس الله وعقابه ، فقال قائلهم : إنّ
صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوّت حتى الصّباح ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن ،
وقتادة.
ومعنى الآية : أو
لم يتفكّروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنّة ، أي : جنون ، فحثّهم على التّفكر في أمره
ليعلموا أنه بريء من الجنون ، (إِنْ هُوَ) أي : ما هو (إِلَّا نَذِيرٌ) أي : مخوف (مُبِينٌ) يبين طريق الهدى. ثم حثّهم على النّظر المؤدّي إلى العلم
فقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليستدلّوا على أنّ لها صانعا مدبّرا ؛ وقد سبق بيان
الملكوت في (الأنعام) .
قوله تعالى : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ
عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) قرأ ابن مسعود ، وأبيّ ، والجحدريّ : «آجالهم». ومعنى
الآية : أو لم ينظروا في الملكوت وفيما خلق الله من الأشياء كلّها ، وفي أن عسى أن
تكون آجالهم قد قربت فيهلكوا على الكفر ، ويصيروا إلى النار ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يعني القرآن وما فيه من البيان. ثم ذكر سبب إعراضهم عن
الإيمان ، فقال : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : «ونذرهم» بالنون والرّفع.
وقرأ أبو عمرو بالياء وبالرّفع. وقرأ حمزة والسكائيّ : «ويذرهم» بالياء مع الجزم
خفيفة ، فمن قرأ بالرّفع استأنف ، ومن جزم «ويذرهم» عطف على موضع الفاء. قال
سيبويه : وموضعها جزم ؛ فالمعنى : من يضلل الله يذره ؛ وقد سبق في سورة (البقرة) معنى الطّغيان والعمه.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ
إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها
عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧))
قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) في سبب نزولها قولان :
(٥٩٧) أحدهما : أنّ قوما من اليهود قالوا : يا محمّد ، أخبرنا متى السّاعة؟
فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.
____________________________________
(٥٩٦) ضعيف جدا
بهذا اللفظ. أخرجه الطبري ١٥٤٧٢ عن قتادة مرسلا ، ومع إرساله ذكره قتادة بصيغة
التمريض ، وحديث وقوفه صلىاللهعليهوسلم على الصفا في الصحيح ، والوهن في هذا الخبر ذكر نزول الآية
، وأنكر من ذلك قوله «حتى الصباح» فهذا باطل لأنه صلىاللهعليهوسلم إنما نادى الناس صباحا ، فاجتمعوا فلما سمعوا ما يدعوهم
إليه قال أبو لهب ما قال ، فتفرق الناس.
(٥٩٧) باطل. أخرجه
الطبري ١٥٤٧٤ عن ابن عباس وفي إسناده محمد بن أبي محمد وهو مجهول ، والمتن باطل
لأن السورة مكية ، وسؤالات يهود مدنية. وذكره الواحدي في أسباب «النزول» ٤٥٨ من
حديث ابن عباس.
__________________
(٥٩٨) والثاني : أنّ قريشا قالت : يا محمّد ، بيننا وبينك قرابة ، فبيّن
لنا متى السّاعة؟ فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة. وقال عروة : الذي سأله عن السّاعة
عتبة بن ربيعة. والمراد بالسّاعة ها هنا التي يموت فيها الخلق.
قوله تعالى : (أَيَّانَ مُرْساها) قال أبو عبيدة : أي : متى مرساها؟ أي : منتهاها. ومرسى
السّفينة : حيث تنتهي. وقال ابن قتيبة : «أيّان» بمعنى : متى ؛ و «متى» بمعنى : أي
حين ، ونرى أنّ أصلها : أيّ أوان ؛ فحذفت الهمزة والواو ، وجعل الحرفان واحدا ،
ومعنى الآية : متى ثبوتها؟ يقال : رسا في الأرض ، أي : ثبت ، ومنه قيل للجبال :
رواسي. قال الزّجّاج : ومعنى الكلام : متى وقوعها؟
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي : قد استأثر بعلمها (لا يُجَلِّيها) أي : لا يظهرها في وقتها (إِلَّا هُوَ). قوله تعالى : (ثَقُلَتْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه أربعة أقوال : أحدها
: ثقل وقوعها على
أهل السماوات والأرض ، قاله ابن عباس ، ووجهه أنّ الكلّ يخافونها ، محسنهم ومسيئهم.
والثاني
: عظم شأنها في
السماوات والأرض ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وابن جريج. والثالث : خفي أمرها ، فلم يعلم متى كونها ، قاله السّدّيّ. والرابع : أنّ «في» بمعنى «على» فالمعنى : ثقلت على السماوات والأرض
، قاله قتادة. قوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً) أي : فجأة.
قوله تعالى : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه من المقدّم والمؤخّر ، فتقديره : يسألونك عنها كأنّك
حفيّ ، أي : برّ بهم ، كقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ بِي
حَفِيًّا). قال العوفيّ عن ابن عباس ، وأسباط عن السّدّيّ : كأنّك
صديق لهم. والثاني
: كأنّك حفيّ
بسؤالهم ، مجيب لهم. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : كأنّك يعجبك سؤالهم. وقال
خصيف عن مجاهد : كأنّك تحبّ أن يسألونك عنها. وقال الزّجّاج : كأنّك فرح بسؤالهم. والثالث : كأنّك عالم بها ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس ، وهو قول ابن
زيد ، والفرّاء. والرابع
: كأنّك استحفيت
السؤال عنها حتى علمتها ، قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال عكرمة : كأنّك مسؤول
عنها. وقال ابن قتيبة : كأنّك معني بطلب علمها. وقال ابن الأنباري : فيه تقديم
وتأخير ، تقديره : يسألونك عنها كأنّك حفيّ بها ، والحفيّ في كلام العرب :
المعنيّ.
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) أي : لا يعلمها إلّا هو (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) قال مقاتل في آخرين : المراد بالنّاس ها هنا أهل مكّة.
____________________________________
(٥٩٨) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٥٤٧٣ عن قتادة مرسلا ، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٥٩ عن
قتادة مرسلا.
__________________
وفي قوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما
: لا يعلمون أنها
كائنة ، قاله مقاتل. والثاني
: لا يعلمون أنّ هذا
ممّا استأثر الله بعلمه ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
(قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))
قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً
وَلا ضَرًّا) سبب نزولها.
(٥٩٩) أنّ أهل
مكّة قالوا : يا محمّد ، ألا يخبرك ربّك بالسّعر الرّخيص قبل أن يغلو ، فتشتري
فتربح ، وبالأرض التي تريد أن تجدب ، فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية
، روي عن ابن عباس.
وفي المراد
بالنّفع والضّرّ قولان : أحدهما
: أنه عامّ في جميع
ما ينفع ويضرّ ، قاله الجمهور. والثاني
: أنّ النّفع :
الهدى ، والضّر : الضّلالة ، قاله ابن جريج. قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي : إلّا ما أراد أن أملكه بتمليكه إيّاى ؛ ومن هو على
هذه الصّفة فكيف يعلم علم السّاعة؟
قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فيه أربعة أقوال :
أحدها
: لو كنت أعلم بجدب
الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيّأت لسنة الجدب ما يكفيها ، قاله أبو صالح عن ابن
عباس. والثاني
: لو كنت أعلم ما
أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : لو كنت أعلم متى أموت لا لاستكثرت من العمل الصالح ، قاله
مجاهد. والرابع
: لو كنت أعلم ما
أسأل عنه من الغيب لأجبت عنه. (وَما مَسَّنِيَ
السُّوءُ) أي : لم يلحقني تكذيب ، قاله الزّجّاج. فأمّا الغيب ، فهو
كلّ ما غاب عنك. ويخرّج في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه العمل الصالح. والثاني : المال.
والثالث
: الرّزق.
قوله تعالى : (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الفقر ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه كلّ ما يسوء ، قاله ابن زيد. والثالث : الجنون ، قاله الحسن. والرابع : التّكذيب ، قاله الزّجّاج. فعلى قول الحسن ، يكون هذا
الكلام مبتدأ ، والمعنى : وما بي من جنون إنما أنا نذير ، وعلى باقي الأقوال يكون
متعلّقا بما قبله.
(هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها
فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا
أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما
فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً
وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١))
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ) يعني بالنّفس : آدم ، وبزوجها : حوّاء. ومعنى (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) : ليأنس بها ويأتي إليها. (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي : جامعها. قال الزّجّاج : وهذا أحسن
____________________________________
(٥٩٩) لا أصل له ،
عزاه المصنف لابن عباس ، وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح ، وهي رواية ساقطة كما
تقدم مرارا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٦١ عن الكلبي مرسلا.
كناية عن الجماع.
والحمل ، بفتح الحاء : ما كان في بطن ، أو أخرجته شجرة. والحمل ، بكسر الحاء : ما
يحمل. والمراد بالحمل الخفيف : الماء.
قوله تعالى : (فَمَرَّتْ بِهِ) أي : استمرّت به ، قعدت وقامت ولم يثقلها. وقرأ سعد بن أبي
وقّاص ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والضّحّاك : «فاستمرّت به» وقرأ أبيّ بن كعب ،
والجونيّ : «فاستمارّت به» بزيادة ألف. وقرأ عبد الله بن عمرو ، والجحدريّ : «فمارّت
به» بألف وتشديد الراء. وقرأ أبو العالية ، وأيّوب ، ويحيى بن يعمر : «فمرت به»
خفيفة الراء ، أي : شكّت وتمارت أحملت ، أم لا؟ (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) ، أي : صار حملها ثقيلا. وقال الأخفش : صارت ذا ثقل. يقال
: أثمرنا ، أي : صرنا ذوي ثمر.
قوله تعالى : (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) يعني آدم وحوّاء (لَئِنْ آتَيْتَنا
صالِحاً) وفي المراد بالصّالح قولان : أحدهما : أنه الإنسان المشابه لهما ، وخافا أن يكون بهيمة ، هذا قول
الأكثرين. والثاني
: أنه الغلام ،
قاله الحسن ، وقتادة.
شرح السبب في دعائهما
(٦٠٠) ذكر أهل
التّفسير أنّ إبليس جاء حوّاء ، فقال : ما يدريك ما في بطنك ، لعلّه كلب أو خنزير
أو حمار ؛ وما يدريك من أين يخرج ، أيشقّ بطنك ، أم يخرج من فيك ، أو من منخريك؟
فأحزنها ذلك ، فدعوا الله حينئذ ، فجاء إبليس فقال : كيف تجدينك؟ قالت : ما أستطيع
القيام إذا قعدت ، قال : أفرأيت إن دعوت الله ، فجعله إنسانا مثلك ومثل آدم ، أتسمّينه
باسمي؟ قالت : نعم. فلمّا ولدته سويّا ، جاءها إبليس فقال : لم لا تسمينه بي كما
وعدتني ، فقالت : وما اسمك؟ قال : الحارث ، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ،
فسمّته : عبد الحارث ، وقيل : عبد شمس برضى آدم ، فذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا
____________________________________
(٦٠٠) ورد هذا
السياق مرفوعا ، وهو منكر جدا ، بل هو باطل. أخرجه الترمذي ٣٠٧٧ والحاكم ٢ / ٥٤٥
والطبري ١٥٥٢٤ من حديث سمرة ، وإسناده ضعيف ، الحسن سمع من سمرة فقط حديث العقيقة
، وباقي أحاديثه عنه أخذها عن بعض من سمع سمرة ، وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وهو
منكر الحديث وبخاصة في روايته عن قتادة. وقد خالفه غير واحد فرواه الطبري ١٥٥٢٥ و
١٥٥٢٦ موقوفا ، وهو الصحيح. وقال الترمذي عقب الحديث : حسن غريب ورواه بعضهم فلم
يرفعه ، وصححه الحاكم! وسكت الذهبي! مع أنه عاد فذكره في «الميزان» ٦٠٤٢ في ترجمة
عمر العبدي ، وقال : صححه الحاكم وهو منكر كما ترى اه.
وورد موقوفا على
ابن عباس أخرجه الطبري ١٥٥٢٧ و ١٥٥٢٨ وموقوفا على قتادة ١٥٥٣١ و ١٥٥٣٢ ، وموقوفا
على عكرمة ١٥٥٣٠ وعلى مجاهد ١٥٥٣٣ وعلى سعيد بن جبير ١٥٥٣٤ و ١٥٥٣٥ ، وموقوفا على
السدي ١٥٥٣٦ وهذا هو الصواب. وهو متلقى عن أهل الكتاب ، ولا يصح مرفوعا البتة ،
والمتن في غاية النكارة ، لا يصح نسبة الشرك إلى نبي الله آدم عليهالسلام أبدا.
ومما يدل على
بطلانه هو أن الحسن ـ وهو أحد رواته ـ فسر
هذه الآية بخلاف هذا الحديث ؛ فقد أخرج الطبري ١٥٥٣٧ عن الحسن قال : كان ذلك في
بعض أهل الملل ، ولم يكن بآدم. و ١٥٥٣٨ عن معمر عن الحسن قال : عني بذلك ذرية آدم.
و ١٥٥٣٩ عن قتادة عن الحسن قال : هم اليهود والنصارى اه.
وهذه روايات صحيحة
عن ثلاثة أثبات رووها عن الحسن فيدل هذا على أن الحديث المرفوع من أوهام عمر
العبدي ومنكراته والراجح أن هذا الخبر من الإسرائيليات. وانظر «تفسير ابن كثير»
عند هذه الآية بتخريجي.
آتاهُما
صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ). قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ،
والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «شركاء» بضمّ الشين والمدّ ، جمع شريك. وقرأ نافع ،
وأبو بكر عن عاصم : «شركا» مكسورة الشين على المصدر ، لا على الجمع. قال أبو عليّ
: من قرأ «شركا» حذف المضاف ، كأنه أراد : جعلا له ذا شرك ، وذوي شريك ؛ فيكون
المعنى : جعلا لغيره شركا ، لأنه إذا كان التقدير : جعلا له ذوي شرك ، فالمعنى :
جعلا لغيره شركا ؛ وهذه القراءة في المعنى كقراءة من قرأ «شركاء». وقال غيره :
معنى «شركاء» : شريكا ، فأوقع الجمع موقع الواحد كقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) . والمراد بالشّريك : إبليس ، لأنّهما أطاعاه في الاسم ،
فكان الشّرك في الطّاعة ، لا في العبادة ؛ ولم يقصدا أنّ الحارث ربّهما ، لكن قصدا
أنه سبب نجاة ولدهما ؛ وقد يطلق العبد على من ليس بمملوك. قال الشاعر :
وإنّي لعبد
الضّيف ما دام ثاويا
|
|
وما فيّ إلّا
تلك من شيمة العبد
|
وقال مجاهد : كان
لا يعيش لآدم ولد ، فقال الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمّياه عبد الحارث ، فأطاعاه
في الاسم ، فذلك قوله تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
فِيما آتاهُما) ، هذا قول الجمهور ، وفيه قول ثان ، رواه سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال : ما أشرك آدم ، إنّ أوّل الآية لشكر ، وآخرها مثل ضربه الله لمن
يعبده في قوله عزوجل : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ
فِيما آتاهُما). وروى قتادة عن الحسن ، قال : هم اليهود والنّصارى ، رزقهم
الله أولادا فهوّدوهم ونصّروهم. وروي عن الحسن ، وقتادة قالا : الضّمير في قوله : «جعلا
له شركاء» عائد إلى النّفس وزوجه من ولد آدم ، لا إلى آدم وحوّاء. وقيل : الضمير
راجع إلى الولد الصّالح ، وهو السّليم الخلق ، فالمعنى : جعل له ذلك الولد شركاء.
وإنّما قال : «جعلا» لأنّ حواء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى. قال ابن الأنباري
: الذين جعلوا له شركاء اليهود والنّصارى وغيرهم من الكفّار الذين هم أولاد آدم
وحوّاء. فتأويل الآية : فلمّا آتاهما صالحا ، جعل أولادهما له شركاء ، فحذف
الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) . وذهب السّدّيّ إلى أنّ قوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) في مشركي العرب خاصّة ، وأنها مفصولة عن قصة آدم وحوّاء.
(أَيُشْرِكُونَ ما لا
يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١))
قوله تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) قال ابن زيد : هذه لآدم وحوّاء حيث سمّيا ولدهما عبد شمس ،
والشّمس لا تخلق شيئا. وقال غيره : هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا بالله الأصنام
، وهي لا تخلق شيئا. وقوله تعالى : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي : وهي مخلوقة. قال ابن الأنباري : وإنّما قال : «ما» ثم
قال : «وهم يخلقون» لأنّ «ما» تقع على الواحد والاثنين والجميع ؛ وإنّما قال : «وهم»
وهو يعني الأصنام ، لأنّ عابديها ادّعوا أنها تعقل وتميّز ، فأجريت مجرى الناس ،
فهو كقوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي
__________________
ساجِدِينَ) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) ، وقوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) ، قال الشاعر :
تمزّزتها
والدّيك يدعو صباحه
|
|
إذا ما بنو نعش
دنوا فتصوّبوا
|
وأنشد ثعلب لعبدة
بن الطّبيب :
إذ أشرف الدّيك
يدعو بعض أسرته
|
|
لدى الصّباح وهم
قوم معازيل
|
لمّا جعله يدعو ،
جعل الدّيكة قوما ، وجعلهم معازيل ، وهم الذين لا سلاح معهم ، وجعلهم أسرة ؛ وأسرة
الرجل : رهطه وقومه.
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ
لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢))
قوله تعالى : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) يقول : إنّ الأصنام لا تستطيع نصر من عبدها ، ولا تمنع من
نفسها.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣))
قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أنّها ترجع إلى الأصنام ، فالمعنى : وإن دعوتم أيّها
المشركون أصنامكم إلى سبيل رشاد لا يتّبعوكم ، لأنهم لا يعقلون. والثاني : أنها ترجع إلى الكفّار ، فالمعنى : وإن تدع يا محمّد هؤلاء
المشركين إلى الهدى ، لا يتّبعوكم ، فدعاؤكم إيّاهم وصمتكم عنهم سواء ، لأنّهم لا
ينقادون إلى الحقّ. وقرأ نافع «لا يتبعوكم» بسكون التاء.
(إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ
لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ
لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا
تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦))
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ) يعني الأصنام (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) في أنّهم مسخّرون مذلّلون لأمر الله. وإنّما قال «عباد»
وقال : (فَادْعُوهُمْ) ، وإن كانت الأصنام جمادا ، لما بيّنا عند قوله تعالى : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ).
قوله تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي : فليجيبوكم (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أنّ لكم عندهم نفعا وثوابا. (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها) في المصالح (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ
يَبْطِشُونَ بِها) في دفع ما يؤذي. وقرأ أبو
__________________
جعفر «يبطشون»
بضمّ الطّاء ها هنا وفي (القصص) و (الدّخان) . (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها) المنافع من المضار (أَمْ لَهُمْ آذانٌ
يَسْمَعُونَ بِها) تضرّعكم ودعاءكم؟ وفي هذا تنبيه على تفضيل العابدين على
المعبودين ، وتوبيخ لهم حيث عبدوا من هم أفضل منه. (قُلِ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ) قال الحسن : كانوا يخوفونه بآلهتهم ، فقال الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) ، (ثُمَّ كِيدُونِ) أنتم وهم (فَلا تُنْظِرُونِ) أي : لا تؤخروا ذلك. وكان ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ،
وحمزة ، والكسائيّ يقرءون «ثم كيدون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو ،
ونافع في رواية ابن حماد بالياء في الوصل. وروى ورش ، وقالون ، والمسيّبي بغير ياء
في الوصل ، ولا وقف. فأمّا «تنظرون» فأثبت فيها الياء يعقوب في الوصل والوقف. (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) أي : ناصري (الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتابَ) وهو القرآن ، أي : كما أيّدني بإنزال الكتاب ينصرني.
(وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ (١٩٧))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام (لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَكُمْ) أي : لا يقدرون على منعكم ممّن أرادكم بسوء ، ولا يمنعون
أنفسهم من سوء أريد بهم.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ (١٩٨))
قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا
يَسْمَعُوا) في المراد بهؤلاء قولان : أحدهما : أنهم الأصنام. ثم في قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) قولان : أحدهما
: يواجهونك ، تقول
العرب : داري تنظر إلى دارك ، (وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ) لأنه ليس فيهم أرواح. والثاني : وتراهم كأنهم ينظرون إليك ، لأنّ لهم أعينا مصنوعة ، فأسقط
كاف التشبيه ، كقوله تعالى : (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى) أي : كأنّهم سكارى ، (وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ) في الحقيقة. وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم ، لأنهم على
هيئة بني آدم. والقول
الثاني : أنهم المشركون ،
فالمعنى : وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون بقلوبهم.
(خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩))
قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) العفو : الميسور ، وقد سبق شرحه في سورة البقرة . وفي الذي أمر بأخذ العفو منه ثلاثة أقوال : أحدها : أخلاق الناس ، قاله ابن الزّبير ، والحسن ، ومجاهد فيكون
المعنى : اقبل الميسور من أخلاق الناس ، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء. والثاني : أنه المال ، وفيه قولان : أحدهما : أنّ المراد بعفو المال : الزّكاة ، قاله مجاهد في رواية ،
والضّحّاك. والثاني
: أنها صدقة كانت
تؤخذ قبل فرض الزّكاة ، ثم نسخت بالزّكاة ، روي عن ابن عباس. والثالث : أنّ المراد به : مساهلة المشركين والعفو عنهم ، ثم نسخ
بآية السيف ، قاله ابن زيد.
__________________
قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي بالمعروف. وفي قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ) قولان : أحدهما
: أنّهم المشركون ،
أمر بالإعراض عنهم ، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني : أنه عامّ فيمن جهل ، أمر بصيانة النّفس عن مقابلتهم على
سفههم ، وإن وجب عليه الإنكار عليهم. وهذه الآية عند الأكثرين كلّها محكمة ، وعند
بعضهم أنّ وسطها محكم وطرفيها منسوخان على ما بيّنا.
(وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١))
قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطانِ نَزْغٌ). قال ابن زيد :
(٦٠١) لمّا نزلت «خذ
العفو» قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «يا ربّ كيف بالغضب»؟ فنزلت هذه الآية.
فأمّا قوله تعالى
: (وَإِمَّا) فقد سبق بيانه في (البقرة) في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ، وقال أبو عبيدة : ومجاز الكلام : وإمّا تستخفّنّك منه
خفّة وغضب وعجلة. وقال السّدّيّ : النّزغ : الوسوسة وحديث النّفس. قال الزّجّاج :
النّزغ : أدنى حركة تكون ، تقول : قد نزغته : إذا حرّكته. وقد سبق معنى الاستعاذة.
قوله تعالى : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ : «طيف» بغير ألف. وقرأ
نافع وعاصم وابن عامر وحمزة : «طائف» بألف ممدودا مهموزا. وقرأ ابن عباس وابن جبير
والجحدريّ والضّحّاك : «طيف» بتشديد الياء من غير ألف. وهل الطّائف والطّيف بمعنى
واحد ، أم يختلفان؟ فيه قولان : أحدهما
: أنهما بمعنى واحد
، وهما ما كان كالخيال والشيء يلمّ بك ، حكي عن الفرّاء. وقال الأخفش : الطّيف
أكثر في كلام العرب من الطّائف ، قال الشاعر :
ألا يا لقوم
لطيف الخيال
|
|
أرّق من نازح ذي
دلال
|
والثاني
: أنّ الطّائف : ما
يطوف حول الشيء ، والطّيف : اللمّة والوسوسة والخطرة ، حكي عن أبي عمرو ، وروي عن
ابن عباس أنه قال : الطّائف : اللمّة من الشّيطان ، والطّيف : الغضب. وقال ابن
الأنباري : الطّائف : الفاعل من الطّيف ؛ والطّيف عند أهل اللغة : اللّمم من
الشيطان ؛ وزعم مجاهد أنه الغضب.
قوله تعالى : (تَذَكَّرُوا) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما : تذكّروا الله إذا همّوا بالمعاصي فتركوها ، قاله مجاهد. والثاني : تفكّروا فيما أوضح الله لهم من الحجّة ، قاله الزّجّاج. والثالث : تذكّروا غضب الله ؛
____________________________________
(٦٠١) ضعيف جدا.
أخرجه الطبري ١٥٥٦٤ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا معضل ، ومع ذلك ابن زيد
ضعيف ليس بشيء ، إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟!.
__________________
والمعنى : إذا
جرّأهم الشيطان على ما لا يحلّ ، تذكّروا غضب الله فأمسكوا ، فإذا هم مبصرون
لمواضع الخطأ بالتّفكر.
(وَإِخْوانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢))
قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ) في هذه الهاء والميم قولان :
أحدهما
: أنها عائدة على
المشركين ؛ فتكون هذه الآية مقدّمة على التي قبلها ، والتّقدير : وأعرض عن
الجاهلين ، وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين (يَمُدُّونَهُمْ فِي
الغَيِ) قرأ نافع : «يمدونهم» بضمّ الياء وكسر الميم. والباقون :
بفتح الياء وضمّ الميم. قال أبو عليّ : عامّة ما جاء في التّنزيل فيما يحمد ويستحب
: أمددت ، على أفعلت ، كقوله تعالى : (أَتُمِدُّونَنِ
بِمالٍ) (أَنَّما نُمِدُّهُمْ
بِهِ مِنْ مالٍ) (وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ) ، وما كان على خلافه يجيء على : مددت ؛ كقوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) ؛ فهذا يدلّ على أنّ الوجه فتح الياء ، إلّا أنّ وجه قراءة
نافع منزلة (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) . قال المفسّرون : «يمدونهم في الغي» أي : يزيّنونه لهم ،
ويريدون منهم لزومه ؛ فيكون معنى الكلام : إنّ الذين اتّقوا إذا جرّهم الشيطان إلى
خطيئة ، تابوا منها ، وإخوان الجاهلين ، وهم الشياطين ، وقد جرى ذكرهم لقوله تعالى
: (مِنَ الشَّيْطانِ) ؛ فالمعنى : وإخوان الشياطين يمدّونهم.
والثاني
: أنّ الهاء والميم
ترجع إلى المتّقين ؛ فالمعنى : وإخوان المتّقين من المشركين ، وقيل : من الشياطين
يمدّونهم في الغيّ ، أي : يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر ، ذكر هذا
القول جماعة منهم ابن الأنباري. فإن قيل : كيف قال : «وإخوانهم» وليسوا على دينهم؟
فالجواب : إنّا إن قلنا : إنّهم المشركون ، فجائز أن يكونوا إخوانهم في النّسب ،
أو في كونهم من بني آدم ، أو لكونهم يظهرون النّصح كالإخوان ؛ فإن قلنا : إنهم
الشياطين ، فجائز أن يكونوا لكونهم مصاحبين لهم ، والقول الأوّل أصحّ.
قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) وقرأ الزّهريّ وابن أبي عبلة : «لا يقصّرون» بالتشديد. قال
الزّجّاج : يقال : أقصر يقصر ، وقصّر يقصّر. قال ابن عباس : لا الإنس يقصرون عمّا
يعملون من السّيئات ولا الشياطين تقصر عنهم ؛ فعلى هذا يكون قوله تعالى : (يُقْصِرُونَ) من فعل الفريقين ، وهذا على القول المشهور ؛ ويخرّج على
القول الثاني أن يكون هذا وصفا للإخوان فقط.
(وَإِذا لَمْ
تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى
إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))
قوله تعالى : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) يعني به المشركين. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : إذا لم تأتهم
__________________
بآية ، سألوها
تعنّتا ، قاله ابن السّائب. والثاني
: إذا لم تأتهم
بآية لإبطاء الوحي ، قاله مقاتل : وفي قوله : (لَوْ لا
اجْتَبَيْتَها) قولان : أحدهما
: هلّا افتعلتها من
تلقاء نفسك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، والفرّاء
، والزّجّاج ، وابن قتيبة في آخرين ، وحكي عن الفرّاء أنه قال : العرب تقول :
اجتبيت الكلام ، واختلقته ، وارتجلته : إذا افتعلته من قبل نفسك. والثاني : هلّا طلبتها لنا قبل مسألتك؟ ذكره الماوردي ؛ والأوّل
أصحّ.
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى
إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي : ليس الأمر لي.
قوله تعالى : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن. قال أبو عبيدة : البصائر بمعنى الحجج
والبرهان والبيان ، واحدتها : بصيرة. وقال الزّجّاج : معنى البصائر : ظهور الشيء
وبيانه.
(وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤))
قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ) اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال.
(٦٠٢) أحدها : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ في الصّلاة المكتوبة ، فقرأ أصحابه وراءه رافعين
أصواتهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.
(٦٠٣) والثاني : أنّ المشركين كانوا يأتون رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا صلّى ، فيقول بعضهم لبعض : لا تسمعوا لهذا القرآن
والغوا فيه ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن المسيّب.
(٦٠٤) والثالث : أنّ فتى من الأنصار كان كلّما قرأ النبيّ صلىاللهعليهوسلم شيئا ، قرأ هو ، فنزلت هذه الآية ، قاله الزّهريّ.
(٦٠٥) والرابع : أنهم كانوا يتكلّمون في صلاتهم أول ما فرضت ، فيجيء الرجل
فيقول لصاحبه : كم صلّيتم؟ فيقول : كذا وكذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.
(٦٠٦) والخامس : أنها نزلت تأمر بالإنصات للإمام في الخطبة يوم الجمعة ،
روي عن عائشة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار في آخرين.
____________________________________
(٦٠٢) لم أره
مسندا ، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
(٦٠٣) باطل. عزاه
المصنف لابن المسيب ، ولم أقف عليه ، وهو باطل لا يصح عنه ، فإن الخطاب في الآية
للمؤمنين ، وسياق الخبر يدل على أن الخطاب للمشركين!!! (٦٠٤) ضعيف. أخرجه الطبري
١٥٥٩٤ عن الزهري مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
٤٦٥ عن الزهري مرسلا.
(٦٠٥) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٥٦١٠ عن قتادة به ، وهذا مرسل ، فهو ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
٤٦٤ عن قتادة.
(٦٠٦) لم أره عن
عائشة ، وورد عن بعض التابعين ، ولا يصح شيء من ذلك أخرجه الطبري ١٥٦٢٠ و ١٥٦٢١ عن
مجاهد قوله. و ١٥٦٢٢ عن منصور قال : سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع
مجاهدا. وأخرجه الطبري ١٥٦٢٣ عن عطاء قال : وجب الصموت في اثنتين عند الرجل يقرأ
القرآن وهو يصلي ، وعند الإمام وهو يخطب. وكرره ١٥٦٢٤ و ١٥٦٢٦ عن مجاهد نحوه.
وكرره ١٥٦٢٧ عن بقية بن الوليد قال سمعت ثابت بن عجلان يقول : سمعت سعيد بن جبير
يقول ... وكرره ١٥٦٢٩ عن عطاء نحوه.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ
فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥))
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) في هذا الذّكر أربعة أقوال : أحدها
: أنه القراءة في
الصّلاة ، قاله ابن عباس ؛ فعلى هذا ، أمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار. والثاني : أنه القراءة خلف الإمام سرّا في نفسه ، قاله قتادة. والثالث : أنه ذكر الله باللسان. والرابع : أنه ذكر الله باستدامة الفكر ، لا يغفل عن الله تعالى ،
ذكر القولين الماوردي.
وفي المخاطب بهذا
الذّكر قولان : أحدهما
: أنه المستمع
للقرآن ، إمّا في الصّلاة ، وإمّا من الخطيب ، قاله ابن زيد. والثاني : أنه خطاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ومعناه عامّ في جميع المكلّفين.
قوله تعالى : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) التّضرّع : الخشوع في تواضع ؛ والخيفة : الحذر من عقابه.
قوله تعالى : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) الجهر : الإعلان بالشيء ؛ ورجل جهير الصّوت : إذا كان صوته
عاليا. وفي هذا نصّ على أنه الذّكر باللسان ؛ ويحتمل وجهين : أحدهما : قراءة القرآن. والثاني : الدّعاء ، وكلاهما مندوب إلى إخفائه ، إلّا أنّ صلاة الجهر
قد بيّن أدبها في قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) . فأمّا الغدوّ : فهو جمع غدوة ؛ والآصال : جمع أصل ،
والأصل جمع أصيل ؛ فالآصال جمع الجمع ، والآصال : العشيّات. وقال أبو عبيدة : هي
ما بين العصر إلى المغرب ؛ وأنشد :
لعمري لأنت
البيت أكرم أهله
|
|
وأقعد في أفيائه
بالأصائل
|
وروي عن ابن عباس
أنه قال : يعني بالغدوّ : صلاة الفجر ؛ وبالآصال : صلاة العصر.
(إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ (٢٠٦))
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة. (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي : لا يتكبّرون ويتعظّمون
__________________
(عَنْ عِبادَتِهِ) ، وفي هذه العبادة قولان : أحدهما : الطّاعة. الثاني : الصّلاة والخضوع فيها. وفي قوله تعالى :
(وَيُسَبِّحُونَهُ) قولان : أحدهما
: ينزّهونه عن
السّوء. والثاني
: يقولون : سبحان
الله. قوله تعالى : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي : يصلّون. وقيل : سبب نزول هذه الآية أنّ كفّار مكّة
قالوا : أنسجد لما تأمرنا؟ فنزلت هذه الآية تخبر أنّ الملائكة وهم أكبر شأنا ، لا
يتكبّرون عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٦٠٧) «إذا قرأ
ابن آدم السّجدة فسجد ، اعتزل الشّيطان يبكي ويقول : يا ويله ، أمر هذا بالسّجود
فسجد فله الجنّة ، وأمرت بالسّجود فعصيت فلي النّار».
____________________________________
(٦٠٧) حديث صحيح.
أخرجه مسلم ٨١ وابن ماجة ١٠٥٢ وأحمد ٢ / ٤٤٣ وابن خزيمة ٥٤٩ وابن حبان ٢٧٥٩
والبغوي في «شرح السنة» ٦٥٤ من حديث أبي هريرة.
سورة الأنفال
وهي مدنيّة
بإجماعهم. وحكى الماورديّ عن ابن عباس أنّ فيها سبع آيات مكّيّات ، أوّلها : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا
ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١))
قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
(٦٠٨) أحدها : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يوم بدر : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا
فله كذا وكذا» ، فأمّا المشيخة ، فثبتوا تحت الرّايات ، وأما الشّبّان ، فسارعوا
إلى القتل والغنائم ، فقال المشيخة للشّبان : أشركونا معكم ، فإنّا كنّا لكم ردءا
؛ فأبوا ، فاختصموا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت سورة (الأنفال) ، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(٦٠٩) والثاني : أنّ سعد بن أبي وقّاص أصاب سيفا يوم بدر ، فقال : يا رسول
الله ، هبه لي ، فنزلت هذه الآية ، رواه مصعب بن سعد عن أبيه. وفي رواية أخرى عن
سعد قال : قتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه فأتيت به رسول الله ، فقال : «اذهب
فاطرحه في القبض» فرجعت ، وبي ما لا
____________________________________
(٦٠٨) حسن. ورد عن
ابن عباس أخرجه أبو داود ٢٧٣٧ و ٢٧٣٨ و ٢٧٣٩ والنسائي في «التفسير» ٢١٧ وابن أبي
شيبة ١٤ / ٣٥٦ والحاكم ٢ / ١٣١ و ١٣٢ و ٣٢٦ و ٣٢٧ ، وابن حبان ٥٠٩٣ والطبري ١٥٦٦٢ و
١٥٦٦٣ و ١٥٦٦٤ ، والبيهقي ٦ / ٢٩١ و ٢٩٢ و ٣١٥ و ٣١٦ ، وصححه الحاكم ، ووافقه
الذهبي.
وأخرجه عبد الرزاق
في «مصنفه» ٩٤٨٣ من وجه آخر عن ابن عباس بنحوه لكن إسناده ساقط فيه محمد بن السائب
الكلبي متروك متهم. انظر «تفسير القرطبي» ٣١٨١ بتخريجنا.
(٦٠٩) صحيح. أخرجه
ابن أبي شيبة ١٢ / ٣٧٠ وسعيد بن منصور ٢٦٨٩ وأحمد ١ / ١٨٠ والطبري ١٥٦٧١ والواحدي
٤٦٨. وورد من وجه آخر أخرجه مسلم ١٧٤٨ مختصرا ومطولا وأبو داود ٢٧٤٠ والترمذي ٣٠٧٩
و ٣١٨٩ والنسائي في «التفسير» ٢١٦ والبخاري في الأدب المفرد ٢٤. وأبو يعلى ٧٣٥ و ٧٨٢
واستدركه الحاكم ٢ / ١٣٢ والبيهقي ٦ / ٢٩١ والواحدي ص ١٧٣ من حديث سعد بن أبي وقاص
، بألفاظ متقاربة.
__________________
يعلمه إلّا الله ؛
فما جاوزت إلّا قريبا حتّى نزلت سورة (الأنفال) ، فقال : «اذهب فخذ سيفك».
(٦١٠) وقال
السّدّي : اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السّيف ، فسألوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فأخذه النبيّ صلىاللهعليهوسلم منهم ، فنزلت هذه الآية.
(٦١١) والثالث : أنّ الأنفال كانت خالصة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ليس لأحد منها شيء ، فسألوه أن يعطيهم منها شيئا ، فنزلت
هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
وفي المراد
بالأنفال ستة أقوال : أحدهما
: أنّها الغنائم ،
رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضّحّاك ،
وأبو عبيدة ، والزّجّاج ، وابن قتيبة في آخرين. وواحد الأنفال : نفل ، قال لبيد :
إنّ تقوى ربّنا
خير نفل
|
|
وبإذن الله ريثي
وعجل
|
والثاني
: أنها ما نفّله
رسول الله صلىاللهعليهوسلم القاتل من سلب قتيله. والثالث : أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابة بغير
قتال ، قاله عطاء. وهذا والذي قبله مرويان عن ابن عباس أيضا.
(٦١٢) والرابع : أنه الخمس الذي أخذه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الغنائم ، قاله مجاهد.
والخامس
: أنه أنفال
السّرايا ، قاله عليّ بن صالح بن حيّ. وحكي عن الحسن قال : هي السّرايا التي
تتقدّم أمام الجيوش. والسادس
: أنّها زيادات
يؤثر بها الإمام بعض الجيش لما يراه من المصلحة ، ذكره الماوردي.
وفي «عن» قولان : أحدهما : أنّها زائدة ، والمعنى : يسألونك الأنفال ؛ وكذلك قرأ سعد
بن أبي وقّاص وابن مسعود وأبيّ بن كعب وأبو العالية : «يسألونك الأنفال» بحذف «عن».
والثاني
: أنّها أصل ،
والمعنى : يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ أو عن حكم الأنفال ؛ وقد ذكرنا في سبب
نزولها ما يتعلّق بالقولين. وذكر أنهم إنّما سألوا عن حكمها لأنّها كانت حراما على
الأمم قبلهم.
فصل
: واختلف علماء
النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فقال بعضهم : إنّها ناسخة من وجه ، منسوخة من وجه
، وذلك أنّ الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدّمين ، فنسخ الله ذلك بهذه
الآية ، وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرّسول صلىاللهعليهوسلم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) . وقال آخرون : المراد بالأنفال شيئان : أحدهما : ما يجعله الرّسول صلىاللهعليهوسلم لطائفة من شجعان العسكر ومتقدّميه ، يستخرج به نصحهم ،
ويحرّضهم على القتال. والثاني
: ما يفضل
____________________________________
(٦١٠) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٥٦٨٥ عن السدي مرسلا. وورد من مرسل سعيد بن جبير. أخرجه أبو جعفر بن
النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص ١٤٤ عن سعيد بن جبير مرسلا فهو ضعيف ، وعلته
الإرسال ، لكن يشهد لما قبله.
(٦١١) ضعيف. أخرجه
البيهقي ٦ / ٢٩٣ والطبري ١٥٦٧٩ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٦١٢) مرسل أخرجه
الطبري ١٥٦٦٠ و ١٥٦٦١ عن مجاهد.
__________________
من الغنائم بعد
قسمتها كما روي عن ابن عمر قال :
(٦١٣) بعثنا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في سريّة ، فغنمنا إبلا ، فأصاب كلّ واحد منّا عشر بعيرا ،
ونفّلنا بعيرا بعيرا. فعلى هذا هي محكمة ، لأنّ هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا.
فصل
: ويجوز النّفل قبل
إحراز الغنيمة ، وهو أن يقول الإمام : من أصاب شيئا فهو له ، وبه قال الجمهور.
فأمّا بعد إحرازها ، ففيه عن أحمد روايتان. وهل يستحقّ القاتل سلب المقتول إذا لم
يشرطه له الإمام ، فيه قولان : أحدهما
: يستحقّه ، وبه
قال الأوزاعيّ والليث والشّافعيّ. والثاني : لا يستحقّه ويكون غنيمة للجيش ، وبه قال أبو حنيفة ومالك ؛
وعن أحمد روايتان كالقولين.
قوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي : يحكمان فيها ما أرادا ، (فَاتَّقُوا اللهَ) بترك مخالفته (وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ) قال الزّجّاج : معنى «ذات بينكم» حقيقة وصلكم. والبين :
الوصل ؛ كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ
بَيْنَكُمْ) . ثم في المراد بالكلام قولان : أحدهما : أن يردّ القويّ على الضّعيف ، قاله عطاء. والثاني : ترك المنازعة تسليما لله ورسوله.
قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها.
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢))
قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ) قال الزّجّاج : إذا ذكرت عظمته وقدرته وما خوّف به من عصاه
، فزعت قلوبهم ، قال الشاعر:
لعمرك ما أدري
وإنّي لأوجل
|
|
على أينا تعدوا
المنيّة أوّل
|
يقال : وجل يوجل
وياجل وييجل وييجل ، هذه أربع لغات حكاها سيبويه. وأجودها : يوجل. وقال السّدّيّ :
هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله فينزع عنها.
قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أي : آيات القرآن. وفي قوله : (زادَتْهُمْ إِيماناً) ثلاثة أقوال : أحدها : تصديقا ، قاله ابن عباس. والمعنى : أنهم كلّما جاءهم شيء
عن الله آمنوا به ، فيزدادوا إيمانا بزيادة الآيات. والثاني : يقينا ، قاله الضّحّاك. والثالث : خشية الله ، قاله الرّبيع بن أنس. وقد ذكرنا معنى التّوكّل
في سورة آل عمران .
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))
____________________________________
(٦١٣) صحيح. أخرجه
البخاري ٤٣٣٨ ومسلم ١٧٤٩ وأحمد ٢ / ١٠ وأبو داود ١٧٤٤ وابن حبان ٤٨٣٢ من حديث عمر.
انظر القرطبي ٣١٨٠ بتخريجنا.
__________________
قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) قال ابن عباس : يعني الصّلوات الخمس. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) يعني الزّكاة.
(أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ (٤))
قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ، قال الزّجّاج : «حقا» منصوب بمعنى دلّت عليه الجملة ،
والجملة (أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ) ، فالمعنى : أحقّ ذلك حقّا. وقال مقاتل : المعنى : أولئك
هم المؤمنون لا شكّ في إيمانهم كشكّ المنافقين.
قوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال عطاء : الجنّة يرتقونها بأعمالهم ، والرّزق الكريم :
ما أعدّ لهم فيها.
(كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما
يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))
قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) في متعلق هذه الكاف خمسة أقوال : أحدها : أنها متعلّقة بالأنفال. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ تأويله : امض لأمر الله في الغنائم وإن كرهوا ، كما
مضيت في خروجك من بيتك وهم كارهون ، قاله الفرّاء. والثاني : أنّ الأنفال لله والرسول صلىاللهعليهوسلم بالحقّ الواجب ، كما أخرجك ربّك بالحقّ ، وإن كرهوا ذلك ،
قاله الزّجّاج. والثالث
: أنّ المعنى : يسألونك
عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك في خروجك ، حكاه جماعة من المفسّرين. والثاني : أنها متعلّقة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَصْلِحُوا) ، والمعنى : إنّ التّقوى والإصلاح خير لكم ، كما كان إخراج
الله نبيّه محمّدا خيرا لكم وإن كرهه بعضكم ، هذا قول عكرمة. والثالث : أنها متعلّقة بقوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ) ، فالمعنى : مجادلتهم إيّاك في الغنائم كإخراج الله إيّاك
إلى بدر وهم كارهون ، قاله الكسائيّ. والرابع : أنها متعلّقة بقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ) ، والمعنى : وهم المؤمنون حقّا كما أخرجك ربّك من بيتك
بالحقّ ، ذكره بعض ناقلي التّفسير. والخامس : أنّ «كما» في موضع قسم ، معناها : والذي أخرجك من بيتك ،
قاله أبو عبيدة ، واحتجّ بأنّ «ما» في موضع «الذي» ومنه قوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، قاله ابن الأنباري. وفي هذا القول بعد ، لأنّ الكاف ليست
من حروف الأقسام.
وفي هذا الخروج قولان
: أحدهما
: أنه خروجه إلى
بدر ، وكره ذلك طائفة من أصحابه ، لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالغنيمة إلّا
بالقتال. والثاني
: أنه خروجه من
مكّة إلى المدينة للهجرة. وفي معنى قوله : «بالحق» قولان : أحدهما : أنك خرجت ومعك الحقّ. والثاني : أنك خرجت بالحقّ الذي وجب عليك. وفي قوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ) قولان : أحدهما
: كارهون خروجك. والثاني : كارهون صرف الغنيمة عنهم ، وهذه كراهة الطّبع لمشقّة
السّفر والقتال ، وليست كراهة لأمر الله تعالى.
قوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) يعني في القتال يوم بدر ، لأنّهم خرجوا بغير عدّة ، فقالوا
: هلّا
__________________
أخبرتنا بالقتال
لنأخذ العدّة ، فجادلوه طلبا للرّخصة في ترك القتال. وفي قوله تعالى : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) ثلاثة أقوال : أحدهما : تبيّن لهم فرضه. والثاني : تبيّن لهم صوابه. والثالث : تبيّن لهم أنك لا تفعل إلّا ما أمرت به. وفي «المجادلين»
قولان : أحدهما
: أنهم طائفة من
المسلمين ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : أنهم المشركون ، قاله ابن زيد ، فعلى هذا ، يكون جدالهم في
الحقّ الذي هو التّوحيد ، لا في القتال. فعلى الأوّل ، يكون معنى قوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) أي : في لقاء العدوّ (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) ، لأنّ أشدّ حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظرا إليه ،
وعالما به. وعلى قول ابن زيد : كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام
لكراهتهم إيّاه.
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))
قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ).
(٦١٤) قال أهل
التّفسير : أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش ، حتى إذا دنا من بدر ، نزل
جبريل فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فخرج في جماعة من أصحابه يريدهم ، فبلغهم ذلك
فبعثوا عمرو بن ضمضم الغفاريّ إلى مكّة مستغيثا ، فخرجت قريش للمنع عنها ، ولحق
أبو سفيان بساحل البحر ، ففات رسول الله ، ونزل جبريل بهذه الآية : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ).
والمعنى : اذكروا
إذ يعدكم الله إحدى الطّائفتين. والطّائفتان : أبو سفيان وما معه من المال ، وأبو
جهل ومن معه من قريش ؛ فلما سبق أبو سفيان بما معه كتب إلى قريش : إن كنتم خرجتم
لتحرزوا ركائبكم فقد أحرزتها لكم. فقال أبو جهل : والله لا نرجع. وسار رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد القوم. فكره أصحابه ذلك وودّوا أن لو نالوا الطّائفة
التي فيها الغنيمة دون القتال ؛ فذلك قوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) أي : ذات السّلاح. يقال : فلان شاكي السّلاح ؛ بالتّخفيف ،
وشاكّ في السّلاح ؛ بالتّشديد ، وشائك. قال أبو عبيدة : ومجاز الشّوكة الحدّ ؛
يقال : ما أشدّ شوكة بني فلان ، أي : حدّهم. وقال الأخفش : إنما أنّث «ذات الشّوكة»
لأنه يعني الطّائفة.
قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) في المراد بالحق قولان : أحدهما
: أنه الإسلام ،
قاله
____________________________________
(٦١٤) أخرجه
الطبري ١٥٧٣٢ من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة
وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن
عبد الله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث
بدر قالوا : لما سمع ... فذكره بنحوه وأتم. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٦٠
بتخريجنا.
__________________
ابن عباس في
آخرين. والثاني
: أنه القرآن ،
والمعنى : يحقّ ما أنزل إليك من القرآن.
قوله تعالى : (بِكَلِماتِهِ) أي : بعداته التي سبقت من إعزاز الدّين ، كقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) .
قوله تعالى : (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : يجتثّ أصلهم ؛ وقد بيّنّا ذلك في (الأنعام) .
قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) المعنى : ويريد أن يقطع دابر الكافرين كيما يحقّ الحقّ.
وفي هذا الحقّ القولان المتقدّمان. فأما الباطل ، فهو الشّرك ؛ والمجرمون ها هنا :
المشركون.
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (١٠))
قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ).
(٦١٥) سبب نزولها
ما روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : لمّا كان يوم بدر ، نظر النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيّف ، ونظر إلى المشركين وهم
ألف وزيادة ، فاستقبل القبلة ، ثم مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : «اللهمّ
أنجز ما وعدتني ، اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد
في الأرض أبدا» فما زال يستغيث ربّه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر
الصّدّيق فأخذ رداءه فرداه به ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبيّ الله كفاك
مناشدتك ربّك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله تعالى : (إِذْ) قال ابن جرير : هي من صلة «يبطل». وفي قوله تعالى : (تَسْتَغِيثُونَ) قولان : أحدهما
: تستنصرون. والثاني : تستجيرون. والفرق بينهما أنّ المستنصر يطلب الظّفر ،
والمستجير يطلب الخلاص. وفي المستغيثين قولان : أحدهما : أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون ، قاله الزّهري. والثاني : أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله السّدّيّ. فأمّا الإمداد فقد سبق في (آل عمران) .
وقوله تعالى : (بِأَلْفٍ) قرأ الضّحّاك ، وأبو رجاء : «بآلاف» بهمزة ممدودة وبألف
على الجمع. وقرأ أبو العالية ، وأبو المتوكّل : «بألوف» برفع الهمزة واللام وبواو
بعدها على الجمع. وقرأ ابن حذلم ، والجحدريّ : «بألف» بضمّ الألف واللام من غير
واو ولا ألف ، وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : «بيلف» بياء مفتوحة وسكون اللام من
غير واو ولا ألف. فأمّا قوله : (مُرْدِفِينَ) فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ،
والكسائيّ : «مردفين» بكسر الدال. قال ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك ، وابن زيد ،
والفرّاء : هم المتتابعون. وقال أبو عليّ : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكونوا مردفين مثلهم ، تقول : أردفت زيدا دابّتي ؛
فيكون المفعول الثاني محذوفا في الآية. والثاني : أن يكونوا جاءوا
____________________________________
(٦١٥) صحيح. أخرجه
مسلم ١٧٦٣ والترمذي ٣٠٨١ ، وابن حبان ٤٧٩٣ والبيهقي ٦ / ٣٢١ ، وفي «الدلائل» ٣ /
٥١ ـ ٥٢ ، والطبري ١٥٧٤٧ من حديث عمر.
__________________
بعدهم ؛ تقول
العرب : بنو فلان مردوفونا ، أي : هم يجيئون بعدنا. قال أبو عبيدة : مردفين :
جاءوا بعد. وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم : «مردفين» بفتح الدال. قال الفرّاء :
أراد : فعل ذلك بهم ، أي : إنّ الله أردف المسلمين بهم. وقرأ معاذ القارئ ، وأبو
المتوكّل النّاجي ، وأبو مجلز : «مردّفين» بفتح الراء والدال مع التشديد. وقرأ أبو
الجوزاء ، وأبو عمران : «مردّفين» برفع الراء وكسر الدال. وقال الزّجّاج : يقال :
ردفت الرجل : إذا ركبت خلفه ، وأردفته : إذا أركبته خلفي. ويقال : هذه دابّة لا
ترادف ، ولا يقال : لا تردف. ويقال : أردفت الرجل : إذا جئت بعده. فمعنى «مردفين»
يأتون فرقة بعد فرقة. ويجوز في اللغة : مردّفين ومردّفين ومردّفين ، فالدال مكسورة
مشدّدة على كلّ حال ، والراء يجوز فيها الفتح والضّمّ والكسر. قال سيبويه : الأصل
مرتدفين ، فأدغمت التاء في الدال فصارت مردّفين لأنك طرحت حركة التاء على الراء ؛
وإن شئت لم تطرح حركة التاء ، وكسرت الراء لالتقاء السّاكنين. والذين ضمّوا الراء
، جعلوها تابعة لضمّة الميم. وقد سبق في (آل عمران) تفسير قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلَّا بُشْرى) ، وكان مجاهد يقول : ما أمدّ الله النبيّ صلىاللهعليهوسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكرت في سورة (الأنفال) وما ذكر الثلاثة والخمسة إلّا بشرى ، ولم يمدّوا بها ؛
والجمهور على خلافه ، وقد ذكرنا اختلافهم في عدد الملائكة في سورة (آل عمران) .
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى
قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))
قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً
مِنْهُ) قال الزّجّاج : «إذ» موضعها نصب على معنى : وما جعله الله
إلّا بشرى ، في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون المعنى : أذكروا إذ يغشاكم النّعاس. قرأ
ابن كثير ، وأبو عمرو : «إذ يغشاكم» بفتح الياء وجزم الغين وفتح الشين وألف ، «النعاس»
بالرّفع. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «يغشّيكم» بضمّ الياء وفتح
الغين مشدّدة الشين مكسورة ، «النعاس» بالنّصب. وقرأ نافع : «يغشيكم» بضمّ الياء
وجزم الغين وكسر الشين «النعاس» بالنّصب. وقال أبو سليمان الدّمشقي : الكلام راجع
على قوله تعالى : (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ) إذ يغشاكم النّعاس. قال الزّجّاج : و «أمنة» منصوب : مفعول
له ، كقولك : فعلت ذلك حذر الشرّ. يقال : أمنت آمن أمنا وأمانا وأمنة. وقرأ أبو
عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن محيصن : «أمنة
منه» بسكون الميم.
قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً).
(٦١٦) قال ابن
عباس : نزل النبيّ صلىاللهعليهوسلم يوم بدر ، وبينه وبين الماء رملة ، وغلبهم المشركون على
____________________________________
(٦١٦) ورد من وجوه تتأيد بمجموعها.
أخرجه الطبري ١٥٧٨٣ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف. فيه علي بن أبي طلحة لم يسمع ابن
عباس. وأخرجه أيضا ١٥٧٨٢ عن قتادة مرسلا بنحوه. وكرره ١٥٧٨٥ عن السدي مرسلا بنحوه.
وكرره ١٥٧٩٢ عن الضحاك مرسلا بنحوه. وفي رواية الطبري وردت كلمة رملة (دعصة)
والدعص : قطعة من الرمل مستديرة ، أو الكثيب منه. والدعصاء : الأرض السهلة تحمى
عليها الشمس.
__________________
الماء ، فأصاب
المسلمين الظّمأ ، وجعلوا يصلّون محدثين ، وألقى الشيطان في قلوبهم الوسوسة ، يقول
: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم
تصلّون محدثين ، فأنزل الله عليهم مطرا ، فشربوا وتطهروا ، واشتدّ الرّمل حين
أصابه المطر ، وأزال الله رجز الشيطان ، وهو وسواسه ، حيث قال : قد غلبكم المشركون
على الماء.
وقال ابن زيد :
رجز الشّيطان : كيده ، حيث أوقع في قلوبهم أنه ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة. وقال
ابن الأنباري : ساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه ، فأرسل الله السماء ، فزالت وسوسة
الشيطان التي تكسب عذاب الله وغضبه ، إذ الرّجز : العذاب.
قوله تعالى : (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) الرّبط : الشّدّ. و «على» في قول بعضهم صلة ، فالمعنى : وليربط
قلوبكم. وفي الذي ربط به قلوبهم وقوّاها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الصّبر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه الإيمان ، قاله مقاتل. والثالث : أنه المطر الذي أرسله يثبّت به قلوبهم بعد اضطرابها
بالوسوسة التي تقدّم ذكرها.
قوله تعالى : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) في هاء «به» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الماء ؛ فإنّ الأرض كانت رملة ، فاشتدّت
بالمطر ، وثبتت عليها الأقدام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أنها ترجع إلى الرّبط ، فالمعنى : ويثبّت بالرّبط الأقدام
، ذكره الزّجّاج.
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا
مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ
يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ
فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))
قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) قال الزّجّاج : «إذ» في موضع نصب ، والمعنى : وليربط إذ
يوحي. ويجوز أن يكون المعنى : واذكروا إذ يوحي. قال ابن عباس : وهذا الوحي إلهام.
قوله تعالى : (إِلَى الْمَلائِكَةِ) وهم الذين أمدّ بهم المسلمين. (أَنِّي مَعَكُمْ) بالعون والنّصرة. (فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آمَنُوا) فيه أربعة أقوال : أحدها : قاتلوا معهم ، قاله الحسن. والثاني : بشّروهم بالنّصر ؛ فكان الملك يسير أمام الصّفّ في صورة
الرّجل ، ويقول : أبشروا فإنّ الله ناصركم ، قاله مقاتل. والثالث : ثبّتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم تقوى بها ، ذكره
الزّجّاج. والرابع
: صحّحوا عزائمهم
ونيّاتهم على الجهاد ، ذكره الثّعلبيّ. فأمّا الرّعب ، فهو الخوف. قال السّائب بن
يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السّوائيّ عن الرّعب الذي ألقاه الله في قلوب
المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطّست فيطنّ ، فيقول : كنا نجد في أجوافنا
مثل هذا.
قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) في المخاطب بهذا قولان : أحدهما
: أنهم الملائكة.
قال
__________________
ابن الأنباري : لم
تعلم الملائكة أين تقصد بالضّرب من الناس ، فعلّمهم الله تعالى ذلك. والثاني : أنهم المؤمنون ، ذكره جماعة من المفسّرين. وفي معنى الكلام
قولان : أحدهما
: فاضربوا الأعناق
، و «فوق» صلة ، وهذا قول عطيّة ، والضّحّاك ، والأخفش ، وابن قتيبة. وقال أبو
عبيدة : «فوق» بمعنى «على» ، تقول : ضربته فوق الرأس ، وضربته على الرأس. والثاني : اضربوا الرؤوس لأنها فوق الأعناق ، وبه قال عكرمة. وفي
المراد بالبنان ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه الأطراف ،
قاله ابن عباس ، والضّحّاك. وقال الفرّاء : علمهم مواضع الضّرب ، فقال : اضربوا
الرؤوس والأيدي والأرجل. وقال أبو عبيدة ، وابن قتيبة : البنان : أطراف الأصابع.
قال ابن الأنباري : واكتفى بهذا من جملة اليد والرّجل. والثاني : أنه كلّ مفصل ، قاله عطيّة ، والسّدّيّ. والثالث : أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء ، والمعنى : أنه
أباحهم قتلهم بكلّ نوع ، هذا قول الزّجّاج. قال : واشتقاق البنان من قولهم : أبنّ
بالمكان : إذا أقام به ؛ فالبنان به يعتمل كلّ ما يكون للإقامة والحياة. قوله
تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ) «ذلك» إشارة إلى
الضّرب ، و «شاقوا» بمعنى : جانبوا ، فصاروا في شقّ المؤمنين. قوله تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) خطاب للمشركين ؛ والمعنى : ذوقوا هذا في عاجل الدنيا. وفي
فتح «أنّ» قولان : أحدهما
: بإضمار فعل ،
تقديره : ذلكم فذوقوه واعلموا أنّ للكافرين. والثاني : أن يكون المعنى : ذلك بأنّ للكافرين عذاب النار. فإذا
ألقيت الباء ، نصبت. وإن شئت ، جعلت «أن» في موضع رفع ؛ يريد : ذلكم فذوقوه ،
وذلكم أنّ للكافرين عذاب النّار ، هذا معنى قول الفرّاء.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً
لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))
قوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
زَحْفاً) ، الزّحف : جماعة يزحفون إلى عدوّهم ؛ قاله الليث. والتّزاحف
: التّداني والتّقارب ، قال الأعشى :
لمن الظّعائن سيرهنّ تزحّف
قال الزّجّاج :
ومعنى الكلام : إذا واقفتموهم للقتال فلا تدبروا (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) يوم حربهم (دُبُرَهُ) إلّا أن يتحرّف ليقاتل ، أو يتحيّز إلى فئة ؛ ف «متحرّفا» و
«متحيّزا» منصوبان على الحال. ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء ؛ فيكون المعنى
: إلّا رجلا متحرّفا أو متحيّزا. وأصل متحيّز : متحيوز ؛ فأدغمت الياء في الواو.
قوله تعالى : (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي : مرجعه إليها ؛ ولا يدلّ ذلك على التّخليد.
__________________
فصل
: اختلف العلماء في
حكم هذه الآية ، فقال قوم : هذه خاصّة في أهل بدر ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، وأبي
سعيد الخدريّ ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة ، والضّحّاك. وقال آخرون : هي على
عمومها في كلّ منهزم ؛ وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا. وقال آخرون هي على عمومها ،
غير أنها نسخت بقوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فليس للمسلمين أن يفرّوا من مثليهم ، وبه قال عطاء بن أبي
رباح. وروى أبو طالب عن أحمد أنه سئل عن الفرار من الزّحف ، فقال : لا يفرّ رجل من
رجلين ؛ فإن كانوا ثلاثة ، فلا بأس. وقد نقل نحو هذا عن ابن عباس ، وقال محمّد بن
الحسن : إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفا ، فليس لهم أن يفرّوا من عدوّهم ، وإن كثر
عددهم. ونقل نحو هذا عن مالك. ووجهه ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٦١٧) «ما هزم قوم
إذا بلغوا اثني عشر ألفا من قلّة إذا صبروا وصدقوا».
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))
قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ
قَتَلَهُمْ) وقرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة إلّا عاصما «ولكن الله قتلهم»
«ولكن الله رمى» بتخفيف النون ورفع اسم الله فيهما. وسبب نزول هذا الكلام أنّ
أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمّا رجعوا عن بدر جعلوا يقولون : قتلنا وقتلنا ، هذا معنى
قول مجاهد. فأمّا قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ) ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال :
(٦١٨) أحدها : «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لعليّ : ناولني كفّا من حصباء ، فناوله ، فرمى به في
وجوه القوم ، فما بقي منهم أحد إلّا وقعت في عينه حصاة». وقيل : أخذ قبضة من تراب
، فرمى بها ، وقال : «شاهت الوجوه» ؛ فما بقي مشرك إلا شغل بعينه يعالج التراب
الذي فيها ، فنزلت (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وذلك يوم بدر ؛ هذا قول الأكثرين. وقال ابن الأنباري :
وتأويل شاهت : قبحت ؛ يقال : شاه وجهه يشوه شوها وشوهة ، ويقال : رجل أشوه ،
وامرأة شوهاء : إذا كانا قبيحين.
(٦١٩) والثاني : أنّ أبيّ بن خلف أقبل يوم أحد إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم يريده ، فاعترض له رجال من
____________________________________
(٦١٧) حسن ، أخرجه
أبو داود ٢٦١١. والترمذي ١٥٥٥ وعبد الرزاق ٩٦٩٩ وأحمد ١ / ٢٩٩ والدارمي ٢ / ٢١٥
وأبو يعلى ٢٧١٤ وابن خزيمة ٢٥٣٨ ، وابن حبان ٤٧١٧ والحاكم ١ / ٤٤٣ و ٢ / ١٠١ وقال
الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لخلاف بين الناقلين فيه عن الزهري ،
ووافقه الذهبي في «مختصره» وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» ١ / ٢٣٨. و ١ / ٣٣٩.
والبيهقي ٩ / ١٥٦.
(٦١٨) ورد من وجوه
متعددة تتأيد بمجموعها. أخرجه الطبري ١٥٨٣٦ عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي
مرسلا. وكرره ١٥٨٣٧ عن قتادة. وكرره ١٥٨٣٨ عن السدي. وكرره ١٥٨٣٩ عن ابن زيد.
وكرره ١٥٨٤٠ عن ابن عباس. وكرره ١٥٨٤١ عن ابن إسحاق.
(٦١٩) عزاه المصنف
لابن المسيب عن أبيه فهو موصول. وعزاه «ابن العربي» لابن المسيب ٩٩٨ ، وكذا ابن
كثير ٢ / ٣٧٠ والسيوطي في «الدر» ٣ / ٣١٧. وهو في «المستدرك» ٢ / ٣٢٧ و ٣٢٨ و «أسباب
النزول» ٤٧١ عن
__________________
المؤمنين ، فأمرهم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فخلّوا سبيله ، وطعنه النبيّ صلىاللهعليهوسلم بحربته ، فسقط أبيّ عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم ،
فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثّور ، فقالوا : إنّما هو خدش ، فقال : والذي نفسي
بيده ، لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا أجمعون ، فمات قبل أن يقدم مكّة ؛ فنزلت
هذه الآية ، رواه سعيد بن المسيّب عن أبيه.
(٦٢٠) والثالث : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم رمى يوم خيبر بسهم ، فأقبل السّهم يهوي حتى قتل ابن أبي
الحقيق وهو على فراشه ، فنزلت هذه الآية ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي في آخرين.
قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة أقوال : أحدها
: أنه قتلهم
بالملائكة الذين أرسلهم. والثاني
: أنه أضاف القتل
إليه لأنّه تولّى نصرهم. والثالث
: لأنه ساقهم إلى
المؤمنين ، وأمكنهم منهم. والرابع
: لأنه ألقى الرّعب
في قلوبهم. وفي قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : وما ظفرت أنت ولا أصبت ، ولكنّ الله أظفرك
وأيّدك ، قاله أبو عبيدة. والثاني
: وما بلغ رميك
كفّا من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير ، إنّما الله تولّى ذلك ؛ قاله
الزّجّاج. والثالث
: وما رميت قلوبهم
بالرّعب إذ رميت وجوههم بالتّراب ؛ ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ
بَلاءً حَسَناً) أي : لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنّصر والأجر. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعائهم (عَلِيمٌ) بنيّاتهم. قوله تعالى : (ذلِكُمْ) قال الزّجّاج : موضعه رفع ؛
____________________________________
موسى بن عقبة عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه. وعلى هذا هو موصول ، وإسناده صحيح على شرط
البخاري ، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! ولعل ذكر «أبيه» وهم من بعض
النساخ لأنه قول مرجوح. وقد أخرجه الطبري ١٥٨٤٢ عن الزهري وقد صوب الإمام ابن
العربي كون ذلك في غزوة بدر.
وكذا قال الحافظ
ابن كثير ٢ / ٣٧٠ : وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جدا ولعلهما أرادا أن الآية
تتناوله بعمومها ، ونقله الشوكاني عنه في «فتح القدير» ٢ / ٣٣٩ ووافقه.
(٦٢٠) لم أقف
عليه. وعزاه ابن كثير في «التفسير» ٢ / ٣٧٠ لعبد الرحمن بن جبير بن نفير ، وقال :
وهذا غريب ، لأن سياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا
يخفى على أهل العلم اه.
__________________
والمعنى : الأمر
ذلكم. وقال غيره : «ذلكم» إشارة إلى القتل والرّمي والبلاء الحسن. (وَأَنَّ اللهَ) أي : واعلموا أنّ الله. والذي ذكرناه في فتح «أنّ» في قوله
تعالى : (وَأَنَّ
لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) هو مذكور في فتح «أن» هذه. قوله تعالى : (مُوهِنُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «موهّن» بفتح الواو
وتشديد الهاء منوّنة «كيد» بالنّصب. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر
عن عاصم «موهن» ساكنة الواو «كيد» بالنّصب. وروى حفص عن عاصم «موهن كيد» مضاف.
والموهن : المضعف ، والكيد : المكر.
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ
تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ
وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠))
قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) ، في سبب نزولها خمسة أقوال :
(٦٢١) أحدها : أنّ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم استنصروا الله وسألوه الفتح ، فنزلت هذه الآية ؛ وهذا
المعنى مرويّ عن أبيّ بن كعب ، وعطاء الخراساني.
(٦٢٢) والثاني : أنّ أبا جهل قال : اللهمّ أيّنا كان أحبّ إليك وأرضى عندك
فانصره اليوم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٦٢٣) والثالث : أنّ المشركين أخذوا بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر ،
وقالوا اللهمّ انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين ؛ فنزلت هذه الآية ؛ قاله
السّدّي.
(٦٢٤) والرابع : أنّ المشركين قالوا : اللهمّ إنّا لا نعرف ما جاء به محمّد
، فافتح بيننا وبينه بالحقّ ؛ فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة.
والخامس
: أنهم قالوا بمكّة
: (اللهُمَّ إِنْ كانَ
هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، فعذّبوا يوم بدر ، قاله ابن زيد.
فخرج من هذه
الأقوال أنّ في المخاطبين بقوله تعالى : «إن تستفتحوا» قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون. والثاني : المشركون ؛ وهو الأشهر.
____________________________________
(٦٢١) لم أره
مسندا عنهما. وأثر أبي ذكره البغوي ٢ / ٢٨٠ بدون إسناد.
(٦٢٢) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة. وورد من مرسل الزهري أخرجه الطبري
١٥٧٥٠ و ١٥٨٥١. وورد عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، أخرجه الطبري ١٥٨٥٢
و ١٥٨٥٩ و ١٥٨٦٠. وورد عن يزيد بن رومان ، أخرجه الطبري ١٥٨٦٢. فهذه الروايات
تتأيد بمجموعها.
(٦٢٣) ضعيف بهذا
اللفظ. أخرجه الطبري ١٥٨٥٤ عن السدي مرسلا قال كان المشركون ...... وذكره الواحدي
في «أسباب النزول» ٤٧٥ مرسلا وعزاه إلى السدي والكلبي. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ /
٣٧١.
(٦٢٤) هو مرسل ،
والمرسل من قسم الضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٧٦ عن عكرمة مرسلا.
__________________
وفي الاستفتاح
قولان : أحدهما
: أنه الاستنصار ؛
قاله ابن عباس ، والزّجّاج في آخرين. فإن قلنا : إنّهم المسلمون ، كان المعنى : إن
تستنصروا فقد جاءكم النّصر بالملائكة ؛ وإن قلنا : هم المشركون ؛ احتمل وجهين. أحدهما : إن تستنصروا فقد
جاء النّصر عليكم. والثاني
: إن تستنصروا
لأحبّ الفريقين إلى الله ، فقد جاءكم النّصر لأحبّ الفريقين.
والثاني
: أن الاستفتاح :
طلب الحكم ، والمعنى : إن تسألوا الحكم بينكم وبين المسلمين ، فقد جاءكم الحكم ؛
وإلى هذا المعنى ذهب عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة.
فأمّا قوله تعالى
: (وَإِنْ تَنْتَهُوا
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فهو خطاب للمشركين على قول الجماعة. وفي معناه قولان : أحدهما : إن تنتهوا عن قتال محمّد صلىاللهعليهوسلم ، والكفر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : إن تنتهوا عن استفتاحكم فهو خير لكم لأنّه كان عليهم لا لهم
، ذكره الماوردي.
وفي قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) قولان :
أحدهما
: وإن تعودا إلى
القتال ، نعد إلى هزيمتكم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني
: وإن تعودوا إلى
الاستفتاح ، نعد إلى الفتح لمحمّد صلىاللهعليهوسلم ، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى : (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ
شَيْئاً) أي : جماعتكم وإن كثرت ، (وَأَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ) بالعون والنّصر. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو
بكر عن عاصم : «وإن الله» بكسر الألف. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «وأن»
بفتح الألف. فمن قرأ بكسر «أن» استأنف. قال الفرّاء : وهو أحبّ إليّ من فتحها. ومن
فتحها ، أراد : ولأنّ الله مع المؤمنين.
قوله : تعالى (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) فيه قولان : أحدهما : لا تولّوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. والثاني
: لا تولّوا عن أمر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ) ما نزل من القرآن ، روي القولان عن ابن عباس.
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ
عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢))
قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا
سَمِعْنا) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها نزلت في بني
عبد الدّار بن قصيّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : في اليهود ، قريظة والنّضير. روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : في المنافقين ، قاله ابن إسحاق ، والواقديّ ، ومقاتل. وفي
معنى الكلام قولان : أحدهما
: أنهم قالوا :
سمعنا ، ولم يتفكّروا فيما سمعوا ، فكانوا كمن لم يسمع ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنهم قالوا : سمعنا سماع من يقبل ، وليسوا كذلك ، حكي عن
مقاتل.
قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ
الصُّمُّ الْبُكْمُ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :
__________________
أحدهما
: أنها نزلت في بني
عبد الدّار بن قصيّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني
: في المنافقين ،
قاله ابن إسحاق ، والواقديّ. والدّوابّ : اسم كلّ حيوان يدبّ ؛ وقد بيّنا في سورة (البقرة)
معنى الصّمّ والبكم ، ولم سماهم بذلك.
(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ (٢٣))
قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) فيه أربعة أقوال : أحدها : ولو علم فيهم صدقا وإسلاما. والثاني : لو علم فيهم خيرا في سابق القضاء. والثالث : لو علم أنّهم يصلحون. والرابع : لو علم أنّهم يصغون. وفي قوله : (لَأَسْمَعَهُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها
: لأسمعهم جواب كلّ
ما يسألون عنه ، قاله الزّجّاج. والثاني
: لرزقهم الفهم ،
قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث
: لأسمعهم كلام
الموتى يشهدون بنبوتك ، حكاه الماوردي. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قولان : أحدهما
: مكذّبون ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. والثاني
: وهم معرضون عمّا
أسمعهم لمعاندتهم ، قاله الزّجّاج.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))
قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا) أي : أجيبوا.
قوله تعالى : (إِذا دَعاكُمْ) يعني الرّسول (لِما يُحْيِيكُمْ) وفيه ستة أقوال : أحدها
: أنّ الذي يحييكم
: كلّ ما يدعو الرّسول إليه ، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس.
(٦٢٥) وفي أفراد
البخاريّ من حديث أبي سعيد بن المعلّى قال : كنت أصلّي في المسجد فدعاني
____________________________________
(٦٢٥) صحيح. أخرجه
البخاري ٤٤٧٤ و ٤٦٤٧ و ٤٧٠٣ و ٥٠٠٦ ، وأبو داود ١٤٥٨ والنسائي ٢ / ١٣٩ ، وابن ماجة
٣٧٨٥ ، والطيالسي ١٢٦٦. وأحمد ٣ / ٤٥٠ و ٤ / ٢١١. وابن حبان ٧٧٧ ، والطبراني ٢٢ /
٣٠٣ ، والبيهقي ٢ / ٣٦٨. كلهم من حديث أبي سعيد بن المعلى.
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلم أجبه ، ثم أتيته فقلت : يا رسول الله ، إنّي كنت
أصلّي ، فقال : «ألم يقل الله : استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم؟» قلت
: بلى ، ولا أعود إن شاء الله.
والثاني
: أنه الحقّ ، رواه
شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث
: أنه الإيمان ،
رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال السّدّيّ. والرابع : أنه اتّباع القرآن ، قاله قتادة ، وابن زيد. والخامس : أنه الجهاد ، قاله ابن إسحاق. وقال ابن قتيبة : هو الجهاد
الذي يحيي دينهم ويعليهم. والسادس
: أنه إحياء أمورهم
، قاله الفرّاء. فيخرّج في إحيائهم خمسة أقوال : أحدها : أنه إصلاح أمورهم في الدّنيا والآخرة. والثاني : بقاء الذّكر الجميل لهم في الدّنيا ، وحياة الأبد في
الآخرة. والثالث
: أنه دوام نعيمهم
في الآخرة. والرابع
: أنه كونهم مؤمنين
، لأنّ الكافر كالميّت. والخامس
: أنه يحييهم بعد
موتهم ، وهو على قول من قال : هو الجهاد ، لأنّ الشهداء أحياء ، ولأنّ الجهاد
يعزّهم بعد ذلّهم ، فكأنّهم صاروا به أحياء.
قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) وفيه عشرة أقوال :
أحدها
: يحول بين المؤمن
وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال
سعيد بن جبير. والثاني
: يحول بين المؤمن
وبين معصيته ، وبين الكافر وبين طاعته ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال
الضّحّاك والفرّاء. والثالث
: يحول بين المرء
وقلبه حتى لا يتركه يعقل ، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري : المعنى يحول بين المرء
وعقله ، فبادروا الأعمال ، فإنّكم لا تأمنون زوال العقول ، فتحصلون على ما قدّمتم.
والرابع
: أنّ المعنى : هو
قريب من المرء ، لا يخفى عليه شيء من سرّه ، كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، وهذا معنى قول قتادة. والخامس : يحول بين المرء وقلبه ، فلا يستطيع إيمانا ولا كفرا إلّا
بإذنه ، قاله السّدّيّ. والسادس
: يحول بين المرء
وبين هواه ، ذكره ابن قتيبة. والسابع
: يحول بين المرء
وبين ما يتمنّى بقلبه من طول العمر والنّصر وغيره. والثامن : يحول بين المرء وقلبه بالموت ، فبادروا الأعمال قبل وقوعه.
والتاسع
: يحول بين المرء
وقلبه بعلمه ، فلا يضمر العبد شيئا في نفسه إلّا والله عالم به ، لا يقدر على
تغييبه عنه. والعاشر
: يحول بين ما يوقعه
في قلبه من خوف أو أمن ، فيأمن بعد خوفه ، ويخاف بعد أمنه ، ذكر معنى هذه الأقوال
ابن الأنباري.
وحكى الزّجّاج
أنهم لمّا فكّروا في كثرة عدوّهم وقلّة عددهم ، فدخل الخوف قلوبهم ، أعلمهم الله
تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوف الأمن ، ويبدل عدوّه بالقوّة الضّعف
، وقد أعلمت
__________________
هذه الآية أنّ الله
تعالى هو المقلّب للقلوب ، المتصرّف فيها.
قوله تعالى : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي : للجزاء على أعمالكم.
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))
قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :
(٦٢٦) أحدها : أنها نزلت في أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم خاصّة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك.
(٦٢٧) وقال
الزّبير بن العوّام : لقد قرأناها زمانا ، وما نرى أنّا من أهلها ، فإذا نحن
المعنيّون بها.
(٦٢٨) والثاني : أنّها نزلت في رجلين من قريش ، قاله أبو صالح عن ابن عباس
، ولم يسمّهما.
(٦٢٩) والثالث : أنّها عامّة. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : في هذه الآية
، أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم ، فيعمّهم الله بالعذاب. وقال
مجاهد : هذه الآية لكم أيضا.
(٦٣٠) والرابع : أنها نزلت في عليّ ، وعمّار ، وطلحة ، والزّبير ، قاله
الحسن. وقال السّدّيّ : نزلت في أهل بدر خاصّة ، فأصابتهم يوم الجمل.
وفي الفتنة ها هنا
سبعة أقوال : أحدها
: القتال. والثاني : الضّلالة. والثالث : السّكوت عن إنكار المنكر. والرابع : الاختبار. والخامس : الفتنة بالأموال والأولاد. والسادس : البلاء. والسابع
: ظهور البدع.
فأمّا قوله تعالى
: (لا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فقال الفرّاء : أمرهم ، ثم نهاهم ، وفيه طرف من الجزاء ،
وإن كان نهيا ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ) أمرهم ، ثم نهاهم ؛ وفيه تأويل الجزاء. وقال الأخفش : «لا
تصيبن» ليس بجواب ، وإنما هو نهي بعد نهي ؛ ولو كان جوابا ما دخلت النّون. وذكر
ابن الأنباري فيها قولين :
أحدهما
: أنّ الكلام
تأويله تأويل الخبر ، إذ كان المعنى : إنّ لا يتّقوها ، تصب الذين ظلموا ، أي : لا
تقع بالظّالمين دون غيرهم ، لكنّها تقع بالصّالحين والطّالحين ؛ فلمّا ظهر الفعل
ظهور النّهي ، والنّهي راجع إلى معنى الأمر ، إذ القائل يقول : لا تقم ، يريد : دع
القيام ، ووقع مع هذا جوابا للأمر ، أو كالجواب له ، فأكّد له شبه النّهي ، فدخلت
النون المعروف دخولها في النّهي وما يضارعه. والثاني : أنّها
____________________________________
(٦٢٦) لم أره عن
ابن عباس. وأخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٣ / ٣٢١ عن الضحاك قوله.
(٦٢٧) أخرجه
الطبري ١٥٩١٨ عن قتادة عن الزبير ، وهذا منقطع. وأخرجه ١٥٩١٩ عن الحسن عن الزبير ،
وهو منقطع أيضا. وأخرجه ١٥٩٢٠ عن ابن صهبان عن الزبير. فهذه الروايات تتأيد
بمجموعها ، والله أعلم.
(٦٢٨) عزاه المصنف
لابن عباس من طريق أبي صالح ، وهي رواية ساقطة.
(٦٢٩) عزاه المصنف
لابن عباس من طريق أبي صالح ، وهي رواية ساقطة كما مر سابقا.
(٦٣٠) مرسل. أخرجه
الطبري ١٥٩١٧ عن الحسن مرسلا ، وهو شاهد لما تقدم قبل حديث.
__________________
نهي محض ، معناه :
لا يقصدنّ الظّالمون هذه الفتنة ، فيهلكوا ؛ فدخلت النون لتوكيد الاستقبال ، كقوله
تعالى : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ).
وللمفسّرين في
معنى الكلام قولان : أحدهما
: لا تصيبنّ الفتنة
الذين ظلموا. والثاني
: لا يصيبنّ عقاب
الفتنة. فإن قيل : فما ذنب من لم يظلم؟ فالجواب : أنه بموافقته للأشرار ، أو
بسكوته عن الإنكار ، أو بتركه للفرار ، استحقّ العقوبة. وقد قرأ عليّ ، وابن مسعود
، وأبيّ بن كعب «لتصيبنّ الذين ظلموا» بغير ألف.
(وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))
قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) قال ابن عباس : نزلت في المهاجرين خاصّة ، كانت عدّتهم
قليلة ، وهم مقهورون في أرض مكّة ، يخافون أن يستلبهم المشركون. وفي المراد بالناس
ثلاثة أقوال : أحدهما
: أنهم أهل مكة ،
قاله ابن عباس. والثاني
: فارس والرّوم ،
قاله وهب بن منبّه. والثالث
: أنهم المشركون
الذين حضروا بدرا ، والمسلمون قليلون يومئذ ، قاله قتادة.
قوله تعالى : (فَآواكُمْ) فيه قولان : أحدهما : فآواكم إلى المدينة بالهجرة ، قاله ابن عباس ، والأكثرون. والثاني : جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين ، ذكره الماوردي.
وفي قوله تعالى : (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) قولان : أحدهما
: قوّاكم بالملائكة
يوم بدر ، قاله الجمهور. والثاني
: عضدكم بنصره في
بدر وغيرها ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
وفي قوله تعالى : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) قولان : أحدهما
: أنّها الغنائم التي أحلّها لهم ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنها الخيرات التي مكّنهم منها ، ذكره الماوردي.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧))
قوله تعالى : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :
(٦٣١) أحدها : أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ؛ وذاك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، لما حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني
النّضير ، على أن يسيروا إلى أرض الشّام ، فأبى أن يعطيهم
____________________________________
(٦٣١) أخرجه عبد
بن حميد كما في «الدر» ٣ / ٣٢٣ عن الكلبي ، والكلبي ممن يضع الحديث ، فخبره لا
شيء.
__________________
ذلك إلّا أن
ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا ، وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة ، وكان
مناصحا لهم ، لأنّ ولده وأهله كانوا عندهم ، فبعثه إليهم ، فقالوا : ما ترى ، أننزل
على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه : إنه الذّبح فلا تفعلوا ،
فأطاعوه ، فكانت تلك خيانته ؛ قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى عرفت أنّي قد
خنت الله ورسوله ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، والأكثرين.
(٦٣٢) وروي أنّ
أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد ، وقال : والله
لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ ، فمكث سبعة أيام كذلك ، ثم
تاب الله عليه ، فقال : والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الذي يحلّني ، فجاء فحلّه بيده ، فقال أبو لبابة : إنّ
من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذّنب ، وأن أنخلع من مالي ، فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يجزئك الثّلث».
(٦٣٣) والثاني : أنّ جبريل أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم لأصحابه : «اخرجوا إليه واكتموا» ، فكتب إليه رجل من
المنافقين : إنّ محمدا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فنزلت هذه الآية ، قاله جابر بن عبد
الله.
والثالث
: أنها نزلت في قتل
عثمان بن عفّان ، قاله المغيرة بن شعبة .
(٦٣٤) والرابع : أنّ قوما كانوا يسمعون الحديث من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، فنزلت هذه الآية ، قاله
السّدّيّ.
وفي خيانة الله
قولان : أحدهما
: ترك فرائضه. والثاني : معصية رسوله. وفي خيانة الرّسول قولان : أحدهما : مخالفته في السّرّ بعد طاعته في الظّاهر. والثاني : ترك سنّته. وفي المراد بالأمانات ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها الفرائض ،
قاله ابن عباس. وفي خيانتها قولان. أحدهما : تنقيصها. والثاني : تركها. والثاني
: أنها الدّين ،
قاله ابن زيد ؛ فيكون المعنى : لا تظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر. والثالث : أنها عامّة في خيانة كلّ مؤتمن ، ويؤكّده نزولها في ما جرى
لأبي لبابة.
____________________________________
(٦٣٢) أخرجه
الطبري ١٥٩٣٧ عن الزهري مرسلا ، فهو ضعيف. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٧٦.
(٦٣٣) باطل. أخرجه
الطبري ١٥٩٣٦ من حديث جابر بن عبد الله. وإسناده ضعيف فيه محمد المحرم مجهول.
وذكره السيوطي في «أسباب
النزول» ٥٢٢ وقال : غريب جدا في سنده وسياقه. قلت : المتن باطل ، فالآية الكريمة
تخاطب المؤمنين لا المنافقين ، وإخبار جبريل أيضا لا يصح. والصحيح عموم الآية ،
وكذا اختاره الطبري وابن كثير وغيرهما.
(٦٣٤) مرسل. أخرجه
الطبري ١٥٩٤١ عن السدي مرسلا.
__________________
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (٢٩))
قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) قال ابن عباس : هذا خطاب لأبي لبابة ، لأنه كانت له أموال
وأولاد عند بني قريظة. فأما الفتنة ، فالمراد بها : الابتلاء والامتحان الذي يظهر
ما في النّفس من اتّباع الهوى أو تجنّبه (وَأَنَّ اللهَ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) خير من الأموال والأولاد. قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) أي : بترك معصيته ، واجتناب الخيانة لله ورسوله.
قوله تعالى : (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فيه أربعة أقوال : أحدها
: أنه المخرج ،
رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضّحّاك ، وابن قتيبة ،
والمعنى : يجعل لكم مخرجا في الدّين من الضّلال. والثاني : أنه النّجاة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ،
والسّدّيّ. والثالث
: أنه النّصر ،
رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال الفرّاء. والرابع : أنه هدى في قلوبهم يفرّقون به بين الحقّ والباطل ، قاله
ابن زيد ، وابن إسحاق.
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠))
قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) هذه الآية متعلّقة بقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ) ؛ فالمعنى : أذكر المؤمنين ما منّ الله به عليهم ، واذكر
إذ يمكر بك الذين كفروا.
لإشارة إلى كيفية مكرهم
(٦٣٥) قال أهل
التّفسير : لمّا بويع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة العقبة ، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة ، أشفقت
قريش أن يعلو أمره ، وقالوا : والله لكأنّكم به قد كرّ عليكم بالرّجال ، فاجتمع
جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار النّدوة فيتشاوروا في أمره ، فاعترضهم إبليس في صورة
شيخ كبير ، فقالوا : من أنت؟ قال : أنا شيخ من أهل نجد ، سمعت ما اجتمعتم له ،
فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا من رأيي نصحا ، فقالوا : أدخل ، فدخل معهم ، فقالوا
: انظروا في أمر هذا الرّجل ، فقال بعضهم : احبسوه في
____________________________________
(٦٣٥) أخرجه
الطبري ١٥٩٧٩ دون عجزه عن ابن عباس بسند ضعيف لانقطاعه بين ابن إسحاق وعبد الله بن
أبي نجيح ، وعجزه أخرجه الطبري ١٥٩٨٢ وإسناده ضعيف ، وورد هذا الخبر من مرسل السدي
أخرجه الطبري ١٥٩٨٣ ، ولبعضه شواهد ، وبعضه الآخر منكر. وانظر «السيرة» لابن هشام
٢ / ٩٥ و ٩٦ و «مجمع الزوائد» ٧ / ٢٧ و «دلائل النبوة» ٢ / ٤٦٦ ، ٤٧٠ للبيهقي.
__________________
وثاق ، وتربّصوا
به ريب المنون. فقال إبليس : ما هذا برأي ، يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم.
فقال قائل : أخرجوه من بين أظهركم. فقال : ما هذا برأي ، يوشك أن يجمع عليكم ثم
يسير إليكم. فقال أبو جهل : نأخذ من كلّ قبيلة غلاما ، ثم نعطي كلّ غلام سيفا
فيضربوه به ضربة رجل واحد ، فيفرّق دمه في القبائل ، فلا أظنّ هذا الحيّ من قريش
يقوى على حرب قريش كلّها ، فيقبلون العقل ونستريح. فقال إبليس : هذا والله الرّأي.
فتفرّقوا عن ذلك. وأتى جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأخبره بمكر القوم ، فلم يبت
في مضجعه تلك الليلة ، وأمر عليّا فبات في مكانه ، وبات المشركون يحرسونه ، فلمّا
أصبح رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أذن له الله في الخروج إلى المدينة ، وجاء المشركون لما
أصبحوا ، فرأوا عليّا ، فقالوا : أين صاحبك؟ قال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره حتى
بلغوا الجبل ، فمرّوا بالغار ، فرأوا نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن عليه
نسج العنكبوت.
فأما قوله تعالى :
(لِيُثْبِتُوكَ) فقال ابن قتيبة : معنا : ليحبسوك. يقال : فلان مثبت وجعا :
إذا لم يقدر على الحركة. وللمفسّرين فيه قولان : أحدهما : ليثبتوك في الوثاق ، قاله ابن عباس والحسن في آخرين. والثاني : ليثبتوك في الحبس ، قاله عطاء والسّدّيّ في آخرين. وكان
القوم أرادوا أن يحبسوه في بيت ويسدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب ، وقد
سبق بيان المكر في (آل عمران) .
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ
هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))
قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا).
(٦٣٦) ذكر أهل
التفسير أنّ هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ، وأنه لمّا سمع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يذكر قصص القرون الماضية ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا.
وفي قوله تعالى : (قَدْ سَمِعْنا) قولان : أحدهما
: قد سمعنا منك ولا
نطيعك. والثاني
: قد سمعنا قبل هذا
مثله ، وكان النّضر يختلف إلى فارس تاجرا فيسمع العبّاد يقرءون الإنجيل. وقد بيّن
التحدّي كذب من قال (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا). وقد سبق معنى الأساطير في (الأنعام) .
(وَإِذْ قالُوا
اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢))
قوله تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا
هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
(٦٣٧) أحدها : أنها نزلت في النّضر أيضا ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه
قال سعيد بن جبير ،
____________________________________
(٦٣٦) ورد من وجوه
متعددة. أخرجه الطبري ١٥٩٩١ عن ابن جريج مرسلا بنحوه. وكرره ١٥٩٩٢ عن السدي مرسلا
بنحوه. وله شواهد مرسلة.
(٦٣٧) أخرجه
الطبري ١٥٩٩٨ عن مجاهد. وأخرجه برقم ١٥٩٩٩ عن عطاء. وأخرجه برقم ١٦٠٠٠ عن السدي.
__________________
ومجاهد ، وعطاء ،
والسّدّيّ.
(٦٣٨) والثاني : أنها نزلت في أبي جهل ، فهو القائل لهذا ؛ قاله أنس بن
مالك ، وهو مخرّج في «الصحيحين».
والثالث
: أنّها نزلت في
قريش ، قالوا هذا ثم ندموا فقالوا : غفرانك اللهمّ ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) رواه أبو معشر عن يزيد بن رومان ، ومحمد بن قيس.
وفي المشار إليه
بقوله تعالى : (إِنْ كانَ هذا) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه القرآن. والثاني : كل ما يقوله رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الأمر بالتّوحيد وغيره. والثالث : أنه إكرام محمد صلىاللهعليهوسلم بالنّبوة من بين قريش.
(وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣))
قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ) في المشار إليه قولان : أحدهما : أهل مكّة. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : وما كان الله ليعذّبهم وأنت مقيم بين أظهرهم. قال ابن عباس
: لم تعذّب قرية حتى يخرج نبيّها والمؤمنون معه. والثاني : وما كان الله ليعذّبهم وأنت حيّ ؛ قاله أبو سليمان. والثاني : أنّ المشار إليهم المؤمنون ، والمعنى : وما كان الله
ليعذّب المؤمنين بضرب من العذاب الذي أهلك به من قبلهم وأنت حيّ ؛ ذكره أبو سليمان
الدّمشقي.
فصل
: قال الحسن ،
وعكرمة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) ، وفيه بعد ، لأنّ النّسخ لا يدخل على الأخبار.
(٦٣٩) وقال ابن
أبزى : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم بمكّة ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) فخرج إلى المدينة ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ). وكان أولئك البقيّة من المسلمين بمكّة يستغفرون! فلمّا
خرجوا أنزل الله : (وَما لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ). وجميع أقوال المفسّرين تدلّ على أنّ قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) ، كلام مبتدأ من إخبار الله عزوجل. وقد روي عن محمّد بن إسحاق أنّه قال : هذه الآية من قول
المشركين ، قالوا : والله إنّ الله لا يعذّبنا ونحن نستغفر ، فردّ الله تعالى
عليهم ذلك بقوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ).
قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) وفي معنى هذا الكلام خمسة أقوال :
____________________________________
(٦٣٨) صحيح أخرجه
البخاري ٤٦٤٩ ومسلم ٢٧٩٦ والواحدي ٤٧٩ والبغوي ٩٩٧ كلهم من حديث أنس.
(٦٣٩) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٦٠٠٤ مرسلا عن ابن أبزى وهذا مرسل ، فهو ضعيف ، والمتن غريب.
__________________
أحدها
: وما كان الله
معذّب المشركين ، وفيهم من قد سبق له أن يؤمن ؛ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ،
واختاره الزّجّاج. والثاني
: وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون الله ، فإنهم كانوا
يلبّون ويقولون : غفرانك ؛ وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وفيه ضعف ، لأنّ استغفار
المشرك لا أثر له في القبول. والثالث
: وما كان الله
معذّبهم ، يعني المشركين ، وهم ـ يعني المؤمنين الذين بينهم ـ يستغفرون ؛ روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال
الضّحّاك ، وابن مالك. قال ابن الأنباري : وصفوا بصفة بعضهم ، لأنّ المؤمنين بين
أظهرهم ، فأوقع العموم على الخصوص ، كما يقال : قتل أهل المسجد رجلا ، وأخذ أهل
البصرة فلانا ، ولعلّه لم يفعل ذلك إلّا رجل واحد. والرابع : وما كان الله معذّبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله ، قاله
مجاهد. قال ابن الأنباري : فيكون معنى تعذيبهم : إهلاكهم ؛ فالمعنى : وما كان الله
مهلكهم ، وقد سبق في علمه أنّه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه ؛ فوصفهم بصفة
ذراريهم ، وغلّبوا عليهم كما غلّب بعضهم على كلّهم في الجواب الذي قبله. والخامس : أنّ المعنى لو استغفروا لما عذّبهم الله ، ولكنهم لم
يستغفروا فاستحقّوا العذاب ؛ وهذا كما تقول العرب : ما كنت لأهينك وأنت تكرمني ؛
يريدون : ما كنت لأهينك لو أكرمتني ، فأمّا إذ لست تكرمني ، فإنك مستحق لإهانتي ،
وإلى هذا القول ذهب قتادة والسّدّيّ. قال ابن الأنباري : وهو اختيار اللغويين.
وذكر المفسّرون في معنى هذا الاستغفار ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الاستغفار المعروف ؛ وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني : أنه بمعنى الصّلاة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ،
ومنصور عن مجاهد ، وبه قال الضّحّاك. والثالث : إنه بمعنى الإسلام رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال
عكرمة.
(وَما لَهُمْ أَلاَّ
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(٣٤))
قوله تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) هذه الآية أجازت تعذيبهم ، والأولى نفت ذلك. وهل المراد
بهذا : العذاب الأوّل ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنه هو الأوّل ، إلّا أنّ الأوّل امتنع بشيئين : أحدهما : كون النبيّ صلىاللهعليهوسلم فيهم. والثاني
: كون المؤمنين
المستغفرين بينهم ؛ فلمّا وقع التّمييز بالهجرة ، وقع العذاب بالباقين يوم بدر ،
وقيل : بل وقع بفتح مكّة. والثاني
: أنهما مختلفان ،
وفي ذلك قولان :
__________________
أحدهما
: أنّ العذاب
الثاني قتل بعضهم يوم بدر ، والأول استئصال الكلّ ، فلم يقع الأوّل لما قد علم من
إيمان بعضهم ، وإسلام بعض ذراريهم ، ووقع الثاني. والثاني : أنّ العذاب الأوّل عذاب الدنيا. والثاني : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس ، فيكون المعنى : وما كان الله
معذّب المشركين لاستغفارهم في الدنيا ، وما لهم ألّا يعذّبهم الله في الآخرة.
قوله تعالى : (وَهُمْ يَصُدُّونَ) قال الزّجّاج : المعنى وهم يصدّون (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أولياءه. وفي هاء الكناية في قوله تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) قولان : أحدهما
: أنّها ترجع إلى «المسجد
الحرام» ، وهو قول الجمهور. قال الحسن : إنّ المشركين قالوا : نحن أولياء المسجد
الحرام ، فردّ الله عليهم بهذا. والثاني
: أنّها تعود إلى
الله عزوجل ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.
قوله تعالى : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ) أي : ما أولياؤه (إِلَّا الْمُتَّقُونَ) للشّرك والمعاصي ، ولكنّ أكثر أهل مكّة لا يعلمون من
الأولى ببيت الله.
(وَما كانَ صَلاتُهُمْ
عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (٣٥))
قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ).
(٦٤٠) سبب نزولها
أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفّقون ويصفرون ويضعون خدودهم بالأرض ، فنزلت هذه
الآية ؛ قاله ابن عمر.
فأما المكاء ،
ففيه قولان : أحدهما
: أنه الصّفير ،
قاله ابن عمر وابن عباس وابن جبير وقتادة وأبو عبيدة والزّجّاج وابن قتيبة. قال
ابن فارس : يقال : مكا الطّائر يمكو مكاء : إذا صفر ، ويقال : مكيت يده تمكى مكي ،
مقصور ، أي : غلظت وخشنت ، ويقال : تمكّى : إذا توضّأ. وأنشدوا :
كالمتمكّي بدم القتيل
وسئل أبو سلمة بن
عبد الرّحمن عن المكاء ، فجمع كفّيه ، وجعل يصفر فيهما. والثاني : أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتّصدية على
محمّد صلىاللهعليهوسلم صلاته ، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري : أهل اللغة ينكرون
أن يكون المكاء إدخال الأصابع في الأفواه ، وقالوا : لا يكون إلّا الصّفير. وفي
التّصدية قولان : أحدهما
: أنّها التّصفيق ،
قاله ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور. قال ابن قتيبة :
يقال صدّى : إذا صفّق بيديه. قال الراجز :
ضنّت بخدّ وجلت
عن خدّ
|
|
وأنا من غرو
الهوى أصدّي
|
الغرو : العجب ،
يقال : لا غرو من كذا ، أي : لا عجب. والثاني : أنّ التّصدية : صدّهم الناس عن البيت الحرام ، قاله سعيد
بن جبير : وقال ابن زيد : وهو صدّهم عن سبيل الله ودينه.
____________________________________
(٦٤٠) أخرجه
الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٠ من طريق عطية العوفي عن ابن عمر ، وعطية ضعيف ، لكن
للخبر شواهد.
__________________
(٦٤١) وزعم مقاتل
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان إذا صلّى في المسجد الحرام ، قام رجلان من المشركين من
بني عبد الدّار عن يمينه فيصفران ، ورجلان عن يساره فيصفّقان ، فتختلط على النبيّ صلىاللهعليهوسلم صلاته وقراءته ، فقتلهم الله ببدر ، فذلك قوله تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) بتوحيد الله.
فإن قيل : كيف
سمّى المكاء والتّصدية صلاة؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري :
أحدهما
: أنهم جعلوا ذلك
مكان الصّلاة ، ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل : زرت عبد الله ، فجعل جفائي
صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصّلة ، قال الشاعر :
قلت أطعمني عميم
تمرا
|
|
فكان تمري كهرة
وزبرا
|
أي : أقام الصّياح
عليّ مقام التّمر. والثاني
: أنّ من كان
المكاء والتّصدية صلاته فلا صلاة له ، كما تقول العرب : ما لفلان عيب إلا السّخاء
، يريدون : من السّخاء عيبه فلا عيب له ، قال الشاعر :
فتى كملت خيراته
غير أنّه
|
|
جواد فلا يبقي
من المال باقيا
|
(إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ
فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦))
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
(٦٤٢) أحدها : أنها نزلت في المطعمين ببدر ، وكانوا اثني عشر رجلا يطعمون
الناس الطعام ، كلّ رجل يطعم يوما ، وهم : عتبة وشيبة ، ومنبه ونبيه ابنا الحجّاج
، وأبو البختري ، والنّضر بن الحارث ، وأبو جهل ؛ وأخوه الحارث ، وحكيم بن حزام
وأبيّ بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، والحارث بن عامر بن نوفل ، هذا قول أبي صالح عن
ابن عباس.
(٦٤٣) والثاني : أنّها نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر يوم أحد ألفين من
الأحابيش لقتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم سوى من استجاش من العرب ، قاله سعيد بن جبير.
____________________________________
(٦٤١) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، فالخبر لا شيء.
(٦٤٢) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وقد كذبه غير واحد.
وذكره الواحدي في
أسباب النزول ٤٨١ ، عن مقاتل والكلبي ، وكلاهما يضع الحديث.
(٦٤٣) ورد من وجوه
متعددة مرسلة. أخرجه الطبري ١٦٠٧٠ عن سعيد بن جبير مرسلا. وكرره ١٦٠٧١ عن ابن أبزى
مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٢ عن سعيد بن جبير وابن أبزى مرسلا.
__________________
(٦٤٤) وقال مجاهد
: نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفّار يوم أحد.
(٦٤٥) والثالث : أنها نزلت في أهل بدر ، وبه قال الضّحّاك. فأمّا سبيل الله
، فهو دين الله.
قوله تعالى : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي تكون عاقبة نفقتهم ندامة لأنهم لم يظفروا.
(لِيَمِيزَ اللهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
(٣٧))
قوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر «ليميز»
خفيفة. وقرأ حمزة ، والكسائيّ «ليميّز» بالتّشديد وهما لغتان : مزته وميّزته. وفي
لام «ليميز» قولان : أحدهما
: أنّها متعلّقة
بقوله تعالى : (فَسَيُنْفِقُونَها) ، قاله ابن الأنباري. والثاني : أنّها متعلّقة بقوله : (إِلى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ) ، قاله ابن جرير الطّبري.
وفي معنى الآية
ثلاثة أقوال : أحدها
: ليميّز أهل
السّعادة من أهل الشّقاء ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال السّدّيّ ، ومقاتل
: يميز المؤمن من الكافر. والثاني
: ليميّز العمل
الطّيّب من العمل الخبيث ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : ليميّز الإنفاق الطّيّب في سبيله ، من الإنفاق الخبيث في
سبيل الشيطان ، قاله ابن زيد ، والزّجّاج.
قوله تعالى : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى
بَعْضٍ) أي : يجمع بعضه فوق بعض ، وهو قوله تعالى : (فَيَرْكُمَهُ). قال الزّجّاج : الرّكم : أن يجعل بعض الشيء على بعض ،
يقال : ركمت الشيء أركمه ركما ؛ والرّكام : الاسم ؛ فمن قال : المراد بالخبيث :
الكفّار ، فإنهم في النّار بعضهم على بعض ؛ ومن قال : أموالهم ، فله في ذلك قولان
: أحدهما
: أنها ألقيت في
النار ليعذّب بها أربابها ، كما قال تعالى : (فَتُكْوى بِها
جِباهُهُمْ). والثاني
: أنهم لمّا
عظّموها في الدنيا ، أراهم هوانها بإلقائها في النار كما تلقى الشمس والقمر في
النار ، ليرى من عبدهما ذلّهما.
(قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ
مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨))
قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) نزلت في أبي سفيان وأصحابه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وفي معنى الآية قولان : أحدهما
: إن ينتهوا عن
المحاربة يغفر لهم ما قد سلف من حربهم ، فلا يؤاخذون به ، وإن يعودوا إلى المحاربة
، فقد مضت سنّة الأوّلين في نصر الله أولياءه ، وقيل : في قتل من قتل يوم بدر
وأسر. والثاني
: إن ينتهوا عن
الكفر يغفر لهم ما قد سلف من الإثم ؛ وإن يعودوا إليه ، فقد مضت سنّة الأوّلين من
الأمم السّالفة حين أخذوا بالعذاب المستأصل. قال يحيى بن معاذ في هذه الآية : إنّ
توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر ، لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
____________________________________
(٦٤٤) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٠٧٥ و ١٦٠٧٦ عن مجاهد مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٢ ـ ٤٨٣
بنحوه.
(٦٤٥) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٠٨٠ عن الضحاك مرسلا.
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩))
قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ) أي : شرك. وقال الزّجّاج : حتى لا يفتن الناس فتنة كفر ؛
ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ).
قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي : عن الكفر والقتال (فَإِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقرأ يعقوب إلّا روحا «بما تعملون» بالتاء.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))
قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإيمان وعادوا إلى القتال (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي وليّكم وناصركم. قال ابن قتيبة : (نِعْمَ الْمَوْلى) أي نعم الوليّ (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : النّاصر ، مثل قدير وقادر ، وسميع وسامع.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١))
قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ) اختلفوا ، هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد ، أم يختلفان؟ على
قولين : أحدهما
: أنّهما يختلفان ،
ثمّ في ذلك قولان : أحدهما
: أنّ الغنيمة : ما
ظهر عليه من أموال المشركين ، والفيء : ما ظهر عليه من الأرضين ، قاله عطاء بن
السّائب. والثاني
: أنّ الغنيمة : ما
أخذ عنوة ، والفيء : ما أخذ عن صلح ، قاله سفيان الثّوريّ. وقيل : بل الفيء : ما
لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، كالعشور والجزية ، وأموال المهادنة والصّلح ، وما
هربوا عنه. والثاني
: أنّهما واحد ،
وهما كلّ ما نيل من المشركين ، ذكره الماوردي : وقال الزّجّاج : الأموال ثلاثة
أصناف ؛ فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب ، فقد سمّاه الله تعالى :
أنفالا وغنائم ؛ وما صار من المشركين من خراج أو جزية ممّا لم يؤخذ في الحرب ، فقد
سمّاه : فيئا ، وما خرج من أموال المسلمين ، كالزّكاة ، والنّذر ، والقرب ، سمّاه
: صدقة. وأمّا قوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) فالمراد به : كلّ ما وقع عليه اسم شيء. قال مجاهد : المخيط
من الشّيء.
قوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) وروى عبد الوارث : «خمسه» بسكون الميم. وفي المراد بالكلام
قولان : أحدهما
: أنّ نصيب الله
مستحقّ يصرف إلى بيته.
(٦٤٦) قال أبو
العالية : كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله صلىاللهعليهوسلم على خمسة أسهم ، فيقسم أربعة
____________________________________
(٦٤٦) ضعيف جدا
بذكر الكعبة. أخرجه الطبري ١٦١١٧ من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي
العالية ، وهذا مرسل فهذه علة ، وأبو جعفر الرازي ضعفه غير واحد ، وقد روى مناكير
كثيرة. وتفرد بذكر الكعبة. ولم يتابع عليه ، ولأصل الحديث شواهد ، والمنكر فيه ذكر
الكعبة ، فتنبه ، والله أعلم.
بين الناس ثم يجعل
من السّهم الخامس للكعبة ؛ وهذا مما انفرد به أبو العالية فيما يقال.
والثاني
: أنّ ذكر الله ها
هنا لأحد وجهين : أحدهما
: لأنّه المتحكّم
فيه ، والمالك له ، والمعنى : فإنّ للرّسول خمسه ولذي القربى ؛ كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ
الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ). والثاني
: أن يكون المعنى :
إنّ الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى ، وهذا قول الجمهور. فعلى هذا تكون
الواو زائدة ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ) ، المعنى : ناديناه ؛ ومثله كثير.
فصل
: أجمع العلماء على
أنّ أربعة أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصّة ؛ فأمّا الخمس الخامس ، فكيف يقسم؟ فيه
ثلاثة أقوال : أحدها
: يقسم منه لله
وللرّسول ولمن ذكر في الآية. وقد ذكرنا أنّ هذا ممّا انفرد به أبو العالية ، وهو
يقتضي أن يقسم على ستة أسهم. والثاني
: أنه مقسوم على
خمسة أسهم : سهم للرّسول ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى وسهم للمساكين ، وسهم
لأبناء السّبيل ، على ظاهر الآية ، وبه قال الجمهور. والثالث : أنه يقسم على أربعة أسهم. فسهم الله عزوجل وسهم رسوله عائد على ذوي القربى.
(٦٤٧) لأنّ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لم يكن يأخذ منه شيئا ، وهذا المعنى رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس.
فصل
: فأمّا سهم الرسول
صلىاللهعليهوسلم ، فإنه كان يصنع فيه ما بيّنّا. وهل سقط بموته ، أم لا؟
فيه قولان : أحدهما
: لم يسقط بموته ،
وبه قال أحمد والشّافعيّ في آخرين. وفيما يصنع به قولان : أحدهما : أنه للخليفة بعده ، قاله قتادة. والثاني : أنه يصرف في المصالح ، وبه قال أحمد والشّافعيّ. والثاني : أنه يسقط بموته كما يسقط الصّفيّ ، فيرجع إلى جملة الغنيمة
، وبه قال أبو حنيفة. وأما ذوو القربى ، ففيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم جميع قريش. قال ابن عباس : كنّا نقول : نحن هم ؛ فأبى
علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلّها ذوو قربى. والثاني : بنو هاشم وبنو المطّلب ، وبه قال أحمد والشّافعيّ. والثالث : أنّهم بنو هاشم فقط ، قاله أبو حنيفة. وبما ذا يستحقّون؟
فيه قولان : أحدهما
: بالقرابة وإن
كانوا أغنياء ، وبه قال أحمد والشّافعيّ. والثاني : بالفقر لا بالاسم ، وبه قال أبو حنيفة. وقد سبق في البقرة معنى اليتامى والمساكين وابن السّبيل. وينبغي أن تعتبر في
اليتيم أربعة أوصاف : موت الأب وإن كانت الأمّ باقية. والصغر. لقوله عليهالسلام :
(٦٤٨) «لا يتم بعد
حلم» ، والإسلام لأنه مال للمسلمين. والحاجة لأنه معدّ للمصالح.
____________________________________
(٦٤٧) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٦١١٨ من حديث ابن عباس قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس ، فأربعة
منها لمن قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة : فربع لله والرسول ولذي القربى
يعني قرابة النبي صلىاللهعليهوسلم مما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يأخذ النبي صلىاللهعليهوسلم من الخمس شيئا. والربع الثاني لليتامى والربع الثالث
للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل. وفيه علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.
(٦٤٨) حسن
بشواهده. أخرجه أبو داود ٢٨٧٣ والطيالسي ١٧٦٧ والطحاوي في المشكل ١ / ٢٨٠ والبيهقي
٧ / ٣٢٠ والخطيب ٥ / ٢٩٩ من ثلاثة طرق عن علي مرفوعا وفي هذه الوجوه مقال ، لكن
أخرجه الطبراني في الصغير
__________________
قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ
الْفُرْقانِ) هو يوم بدر ، فرق فيه بين الحقّ والباطل بنصر المؤمنين.
والذي أنزل عليه يومئذ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ) نزلت حين اختلفوا فيها. فالمعنى : إن كنتم آمنتم بذلك ،
فاصدروا عن أمر الرّسول في هذا أيضا.
(إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ
أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ
حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢))
قوله تعالى : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «بالعدوة» و «العدوة» العين
فيهما مكسورة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : بضمّ العين
فيهما. قال الأخفش : لم يسمع من العرب إلّا الكسر. وقال ثعلب : بل الضمّ أكثر
اللغتين. قال ابن السّكّيت : عدوة الوادي وعدوته : جانبه ؛ والجمع : عدى وعدى.
والدّنيا : تأنيث الأدنى ؛ وضدّها : القصوى ؛ وهي تأنيث الأقصى ؛ وما كان من
النّعوت على «فعلى» من ذوات الواو ، فإنّ العرب تحوّله إلى الياء ، نحو : الدّنيا
، من : دنوت ؛ والعليا ، من : علوت ؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضمّ الأوّل ، وليس
في هذا اختلاف ، إلّا أنّ أهل الحجاز قالوا : القصوى ، فأظهروا الواو ، وهو نادر ؛
وغيرهم يقول : القصيا. قال المفسّرون : إذ أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة ،
وعدوّكم بشفيره الأقصى إلى مكّة ، وكان الجمعان قد نزلا وادي بدر على هذه الصّفة ،
والرّكب : أبو سفيان وأصحابه. قال الزّجّاج : من نصب «أسفل» أراد : والرّكب مكانا
أسفل منكم ، ويجوز الرّفع على معنى : والرّكب أشدّ تسفّلا منكم. قال قتادة كان
المسلمون أعلى الوادي ، والمشركون أسفله.
وفي قوله : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ
فِي الْمِيعادِ) قولان : أحدهما
: لو تواعدتم ، ثم
بلغكم كثرتهم ، لتأخّرتم عن الميعاد ، قاله ابن إسحاق. والثاني : لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من
عدوتي وادي بدر لاختلفتم في الميعاد ، قاله أبو سليمان. وقال الماوردي : كانت تقع
الزّيادة والنّقصان ، أو التّقدّم والتّأخّر من غير قصد لذلك. قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ
مَفْعُولاً) وهو إعزاز الإسلام وإذلال الشّرك.
قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ). وروى خلف عن يحيى : «ليهلك» بضمّ الياء وفتح اللام. قوله
تعالى : (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ) قرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «من حيّ»
بياء واحدة مشدّدة ، وهذه رواية حفص عن عاصم ، وقنبل عن ابن كثير. وروى شبل عن ابن
كثير ، وأبو بكر عن عاصم : «حيي» بياءين الأولى مكسورة ، والثانية مفتوحة ، وهي
قراءة نافع. فمن قرأ
____________________________________
من طريق آخر بأتم
منه ، قال الهيثمي في المجمع ٤ / ٣٣٤ : ورجاله ثقات. وورد من حديث جابر عند عبد
الرزاق ١٣٨٩٩ وإسناده ضعيف لضعف حرام بن عثمان ، لكنه شاهد لما قبله. وله شاهد آخر
من حديث أنس أخرجه البزار ١٣٠٢ و ١٣٧٦ وفيه يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي ،
وهو ضعيف جدا قاله الهيثمي في المجمع ٤ / ٢٢٦. وأخرجه الطبراني في الكبير ٣٥٠٢ من
حديث حنظلة ، ورجاله ثقات كما في المجمع ٢٢٦٧٤.
بياءين ، بيّن ولم
يدغم. ومن أدغم ياء «حيي» فلاجتماع حرفين من جنس واحد. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : ليقتل من قتل من المشركين عن حجّة ، ويبقى من بقي منهم عن
حجّة. والثاني
: ليكفر من كفر بعد
حجّة ، ويؤمن من آمن عن حجّة.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٤٣))
قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ
قَلِيلاً) فيه قولان :
(٦٤٩) أحدهما : أنّ نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم رأى عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم في قلّة ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد : لمّا أخبر أصحابه بأنه رآهم في المنام قليلا ،
كان ذلك تثبيتا لهم. قال أبو سليمان الدّمشقي : والكلام متعلّق بما قبله ، فالمعنى
: وإنّ الله لسميع لما يقوله أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ حدثتهم بما رأيت في
منامك.
والثاني
: إذ يريكهم الله
بعينك التي تنام بها ، قاله الحسن . قال الزّجّاج : وكثير من النّحويين يذهبون إلى هذا
المذهب. ومعناه عندهم : إذ يريكهم الله في موضع منامك ، أي : بعينك ؛ ثمّ حذف
الموضع ، وأقام المنام مقامه.
قوله تعالى : (لَفَشِلْتُمْ) أي : لجبنتم وتأخّرتم عن حربهم. وقال مجاهد : لفشل أصحابك
، ولرأوا ذلك في وجهك. قوله تعالى : (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ) أي : لاختلفتم في حربهم ، فكان ذلك من دواعي هزيمتكم ، (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) من المخالفة والفشل.
(وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (٤٤))
قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) قال مقاتل : صدق الله رؤيا رسوله التي أخبر بها المؤمنين
عن قلّة عدوّهم قبل لقائهم ، بأن قلّلهم وقت اللقاء في أعينهم. وقال ابن مسعود :
لقد قلّوا في أعيننا ، حتى قلت لرجل إلى جانبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ؛
حتى أخذنا رجلا منهم ، فسألناه ، فقال : كنّا ألفا. قال أبو صالح عن ابن عباس :
استقلّ المسلمون المشركين ، والمشركون المسلمين ، فاجترأ بعضهم على بعض. فإن قيل :
ما فائدة تكرير الرّؤية ها هنا. وقد ذكرت في قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ)؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ الأولى كانت في المنام ، والثانية في اليقظة. والثاني : أنّ الأولى للنبيّ صلىاللهعليهوسلم خاصّة ، والثانية له ولأصحابه. فإن قيل : تكثير المؤمنين
في أعين الكافرين
____________________________________
(٦٤٩) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية كما تقدم مرارا.
ـ وأخرجه الطبري ١٦١٦٥ عن مجاهد بنحوه.
__________________
أولى ، لمكان
إعزازهم. فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها
: أنّهم لو كثّروا
في أعينهم ، لم يقدموا عليهم ، فلم يكن قتال ، والقتال سبب النّصر ، فقلّلهم لذلك.
والثاني
: أنه قلّلهم لئلّا
يتأهّب المشركون كلّ التّأهّب ؛ فإذا تحقّق القتال ، وجدهم المسلمون غير مستعدّين
، فظفروا بهم. والثالث
: أنه قلّلهم ليحمل
الأعداء عليهم في كثرتهم ، فيغلبهم المسلمون ، فيكون ذلك آية للمشركين ومنبّها على
نصرة الحقّ.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(٤٦))
قوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) الفئة : الجماعة. (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً) فيه قولان : أحدهما : أنه الدّعاء والنّصر. والثاني : ذكر الله على الإطلاق.
قوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) قد سبق ذكر التّنازع والفشل آنفا.
قوله تعالى : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وروى أبان : «ويذهب» بالياء والجزم. وفيه أربعة أقوال :
أحدها
: تذهب شدّتكم ،
قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّيّ : حدّتكم وجدّكم. وقال الزّجّاج :
صولتكم وقوتكم. والثاني
: يذهب نصركم ، قاله
مجاهد ، وقتادة. والثالث
: تتقطّع دولتكم ،
قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة : يقال : هبّت له ريح النّصر : إذا كانت له
الدّولة. ويقال : له الرّيح اليوم : أي الدّولة. والرابع : أنّها ريح حقيقة ، ولم يكن نصر قطّ إلّا بريح يبعثها الله
فتضرب وجوه العدوّ ؛ ومنه قوله عليهالسلام :
(٦٥٠) «نصرت
بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور» ؛ وهذا قول ابن زيد ، ومقاتل.
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))
قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً).
(٦٥١) قال
المفسّرون : هم أبو جهل ومن خرج معه من مكّة ، خرجوا ليدفعوا عن عيرهم التي كانت
مع أبي سفيان ، ومعهم القيان والمعازف ، وهم يشربون الخمور. فلمّا رأى أبو سفيان
أنه قد أحرز ما معه ، كتب إليهم : إنّي قد أحرزت أموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل :
والله لا نفعل حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا ، وننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي
الخمور ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابونا.
____________________________________
(٦٥٠) صحيح. أخرجه
البخاري ١٠٣٥ و ٣٢٠٥ و ٣٣٤٣ و ٤١٠٥ ومسلم ٩٠٠ والطيالسي ٢٦٤١ وأحمد ١ / ٣٢٤ و ٣٤١ و
٣٥٥ و ٢٢٨ وابن حبان ٤٢١ والبيهقي ٣ / ٣٦٤ والبغوي ١١٤٤ من طرق عن شعبة عن الحكم
عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وأخرجه ابن أبي شيبة ١١ / ٤٣٣ و ٤٣٤ ومسلم ٩٠٠ وأحمد
١ / ٢٢٣ و ٣٧٣ وأبو يعلى ٢٥٦٣ و ٢٦٨٠ والبيهقي ٣ / ٣٦٤ والقضاعي ٥٧٢ من طرق عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا.
(٦٥١) صحيح. أخرجه
الطبري ١٦١٩٤ عن قتادة مرسلا بنحوه. وأخرجه أيضا الطبري ١٦١٨٧ عن ابن عباس دون ذكر
الآية واللفظ المرفوع ، وورد عن عروة أخرجه الطبري ١٦١٨٦. وورد بنحوه عن ابن إسحاق
أخرجه الطبري ١٦١٨٨.
فساروا إلى بدر ،
فكانت الوقعة ؛ فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النّوائح مكان
القيان. فأما البطر فهو الطّغيان في النّعم ، وترك شكرها. والرّياء : العمل من أجل
رؤية الناس. وسبيل الله هاهنا : دينه.
(وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ
وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨))
قوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ).
(٦٥٢) قال عروة بن
الزّبير : لما أجمعت قريش المسير إلى بدر ، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب ،
فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجيّ ، وكان من أشراف بني كنانة ،
فقال لهم : (لا غالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا. وفي
المراد بأعمالهم ها هنا ثلاثة أقوال :
أحدها
: شركهم. والثاني : مسيرهم إلى بدر. والثالث : قتالهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قوله تعالى : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي : صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى. وفي المراد بالفئتين
قولان : أحدهما
: فئة المسلمين ،
وفئة المشركين ، وهو قول الجمهور. والثاني : فئة المسلمين ، وفئة الملائكة ، ذكره الماوردي. قوله تعالى
: (نَكَصَ عَلى
عَقِبَيْهِ) قال أبو عبيدة : رجع من حيث جاء. وقال ابن قتيبة : رجع
القهقرى. قال ابن السّائب : كان إبليس في صفّ المشركين على صورة سراقة ، آخذا بيد
الحارث بن هشام ؛ فرأى الملائكة فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : أفرارا من غير
قتال؟ فقال : (إِنِّي أَرى ما لا
تَرَوْنَ) ، فلمّا هزم المشركون ، قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغه
ذلك ، فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. قال قتادة : صدق عدوّ
الله في قوله : (إِنِّي أَرى ما لا
تَرَوْنَ) ، ذكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة ، فعلم أنه لا يد
له بالملائكة ، وكذب عدوّ الله في قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوّة له بهم.
وقال عطاء : معناه : إنّي أخاف الله أن يهلكني. وقال ابن الأنباري : لمّا رأى نزول
الملائكة ، خاف أن تكون القيامة فيكون انتهاء إنظاره فيقع به العذاب. ومعنى «نكص»
رجع هاربا بخزي وذلّ. واختلفوا في قوله تعالى : (وَاللهُ شَدِيدُ
الْعِقابِ) هل هو ابتداء كلام أو تمام الحكاية عن إبليس ، على قولين.
(إِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))
قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) قال ابن عباس : هم قوم من أهل المدينة من الأوس
____________________________________
(٦٥٢) ورد من وجوه
ضعيفه ، لا تقوم بها حجة. أخرجه الطبري ١٦٢٠٠ عن عروة بن الزبير مرسلا. وأخرجه
الطبري ١٦١٩٨ عن ابن عباس ، وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وانظر
تفسير «ابن كثير» ٢ / ٣٩٧. وانظر ما يأتي.
والخزرج. فأمّا
الذين في قلوبهم مرض ، ففيهم ثلاثة أقوال :
(٦٥٣) أحدها : أنّهم قوم كانوا قد تكلّموا بالإسلام بمكّة فأخرجهم
المشركون معهم يوم بدر كرها ؛ فلمّا رأوا قلّة المسلمين وكثرة المشركين ارتابوا
ونافقوا وقالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ
دِينُهُمْ) ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وإليه ذهب الشّعبيّ في
آخرين. وعدّهم مقاتل فقال : كانوا سبعة : قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن
الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة وعليّ بن أميّة بن خلف والعاص بن منبه بن الحجّاج
والوليد بن الوليد بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة.
والثاني
: أنهم المشركون ،
لمّا رأوا قلّة المسلمين ، قالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ
دِينُهُمْ) ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن. والثالث : أنهم قوم مرتابون ، لم يظهروا عداوة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ذكره الماوردي. والمرض ها هنا : الشّكّ ، والإشارة بقوله
تعالى : «هؤلاء» إلى المسلمين ؛ وإنّما قالوا هذا ، لأنّهم رأوا قلّة المسلمين ،
فلم يشكّوا في أنّ قريشا تغلبهم.
(وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠))
قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) قرأ الجمهور «يتوفّى» بالياء. وقرأ ابن عامر «تتوفّى»
بتاءين. قال المفسّرون : نزلت في الرّهط الذين قالوا : «غرّ هؤلاء دينهم». وفي
المراد بالملائكة ثلاثة أقوال : أحدها
: ملك الموت وحده ،
قاله مقاتل. والثاني
: ملائكة العذاب ،
قاله أبو سليمان الدّمشقي. والثالث
: الملائكة الذين
قاتلوا يوم بدر ، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى : (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أربعة أقوال : أحدها : يضربون وجوههم ببدر لمّا قاتلوا ، وأدبارهم لمّا انهزموا. والثاني : أنّهم جاءوهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، فالذين أمامهم
ضربوا وجوههم ، والذين وراءهم ضربوا أدبارهم. والثالث : يضربون وجوههم يوم القيامة إذ لقوهم ، وأدبارهم إذا ساقوهم
إلى النار. والرابع
: أنهم يضربون
وجوههم وأدبارهم عند الموت بسياط من نار. وهل المراد نفس الوجوه والأدبار ، أم
المراد ما أقبل من أبدانهم وأدبر؟ فيه قولان.
وفي قوله تعالى (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) قولان :
أحدهما
: أنّه في الدنيا ؛
وفيه إضمار «يقولون» ، فالمعنى : يضربون ويقولون ، كقوله تعالى. (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ
الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا) أي : ويقولان. قال النّابغة :
كأنّك من جمال
بني أقيش
|
|
يقعقع خلف رجليه
بشنّ
|
____________________________________
(٦٥٣) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية واهية. وأخرجه الطبري ١٦٢٠٨ و ١٦٢٠٩ عن عامر
مرسلا بنحوه. وكرره ١٦٢١٠ عن مجاهد مرسلا بنحوه. وكرره ١٦٢١١ عن الحسن مرسلا
بنحوه. وانظر «تفسير ابن كثير» ٢ / ٣٩٧.
__________________
والمعنى : كأنّك
جمل من جمال بني أقيش ، هذا قول الفرّاء وأبي عبيدة.
والثاني
: أنّ الضّرب لهم
في الدنيا ، فإذا وردوا يوم القيامة إلى النّار ، قال خزنتها : ذوقوا عذاب الحريق
، هذا قول مقاتل.
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١))
قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي : بما كسبتم من قبائح أعمالكم. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) لا يظلم عباده بعقوبتهم على الكفر ، وإن كان كفرهم بقضائه
، لأنّه مالك ، فله التّصرّف في ملكه كما شاء فيستحيل نسبة الظّلم إليه.
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ
اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢))
قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي : كعادتهم : والمعنى : كذّب هؤلاء كما كذّب أولئك ،
فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك. قال ابن عباس : أيقن آل فرعون أنّ موسى نبيّ الله
وكذّبوه ، فكذلك هؤلاء في حقّ محمد صلىاللهعليهوسلم.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣))
قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) أي : ذلك الأخذ والعقاب بأنّ الله (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً
أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا) بالكفران وترك الشّكر. قال مقاتل : والمراد بالقوم ها هنا
أهل مكّة ، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ثمّ بعث فيهم محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فلم يعرفوا المنعم عليهم ، فغيّر الله ما بهم. وقال
السّدّيّ : كذّبوا بمحمد فنقله الله إلى الأنصار. قال أبو سليمان الخطّابي :
والقويّ يكون بمعنى القادر ، فمن قوي على شيء فقد قدر عليه ، وقد يكون معناه :
التّامّ القوّة الذي لا يستولي عليه العجز في حال ، والمخلوق وإن وصف بالقوّة
فقوّته متناهية وعن بعض الأمور قاصرة.
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ
فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا
ظالِمِينَ (٥٤))
قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : كذّب أهل مكّة بمحمد والقرآن ، كما كذّب آل فرعون
بموسى والتوراة ، وكذّب من قبلهم بأنبيائهم. قال مكّيّ بن أبي طالب : الكاف من «كدأب»
في موضع نصب ، نعت لمحذوف تقديره : غيّرنا بهم لمّا غيّروا تغييرا مثل عادتنا في
آل فرعون ، ومثلها الآية الأولى ، إلّا أنّ الأولى للعادة في العذاب ؛ تقديره :
فعلنا بهم ذلك فعلا مثل عادتنا في آل فرعون.
قوله تعالى : (فَأَهْلَكْناهُمْ) يعني الأمم المتقدّمة ، بعضهم بالرّجفة ، وبعضهم بالرّيح ،
فكذلك أهلكنا كفّار مكّة ببدر. وقال بعضهم : يعني بقوله : «فأهلكناهم» الذين
أهلكوا ببدر.
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥))
قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) قال أبو صالح عن ابن عباس : نزلت في بني قريظة من اليهود ،
منهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
(الَّذِينَ عاهَدْتَ
مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ
(٥٦))
قوله تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) في «من» أربعة أقوال : أحدها : أنّها صلة ؛ والمعنى : الذين عاهدتهم. والثاني : أنّها للتّبعيض ، فالمعنى : إنّ شرّ الدّواب الكفّار.
وشرّهم الذين عاهدت ونقضوا. والثالث
: أنّها بمعنى «مع»
؛ والمعنى : عاهدت معهم. والرابع
: أنّها دخلت ،
لأنّ العهد أخذ منهم. قوله تعالى : (ثُمَّ يَنْقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي : كلّما عاهدتهم نقضوا.
وفي قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) قولان : أحدهما
: لا يتّقون نقض العهد.
والثاني
: لا يتّقون الله
في نقض العهد. قال المفسّرون :
(٦٥٤) كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه ،
فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكّة بالسّلاح ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ؛ ثمّ
عاهدوه الثانية ، فنقضوا ومالؤوا الكفّار يوم الخندق ، وكتب كعب بن الأشرف إلى
مكّة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (٥٧))
قوله تعالى : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) قال أبو عبيدة : مجازه : فإن تثقفنّهم. فعلى قوله ، تكون «ما»
زائدة. وقد سبق بيان «فإما» في (البقرة) . قال ابن قتيبة : فمعنى «تثقفنّهم» تظفر بهم. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : افعل بهم فعلا من العقوبة والتّنكيل يتفرّق به من
وراءهم من أعدائك. قال : ويقال : شرّد بهم ، أي : سمّع بهم ، بلغة قريش. قال
الشاعر :
أطوّف في
الأباطح كلّ يوم
|
|
مخافة أن يشرّد
بي حكيم
|
وقال ابن عباس :
نكّل بهم تنكيلا يشرّد غيرهم من ناقضي العهد ، لعلّهم يذكرون النّكال فلا ينقضون
العهد.
(وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْخائِنِينَ (٥٨))
قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً) قال المفسّرون : الخوف ها هنا بمعنى العلم ، والمعنى : إن
علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة ، وهي نقض عهد. وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة.
____________________________________
(٦٥٤) لم أره بهذا
اللفظ. وأخرجه الطبري ١٦٢٢٥ عن مجاهد مرسلا بنحوه.
__________________
وفي قوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أربعة أقوال : أحدها
: فألق إليهم نقضك
العهد لتكون وإيّاهم في العلم بالنّقض سواء ، وهذا قول الأكثرين ، واختاره الفرّاء
، وابن قتيبة ، وأبو عبيدة. والثاني
: فانبذ إليهم جهرا
غير سرّ ، ذكره الفرّاء أيضا في آخرين. والثالث : فانبذ إليهم على مهل ، قاله الوليد بن مسلم. والرابع : فانبذ إليهم على عدل من غير حيف ، وأنشدوا :
فاضرب وجوه
الغدر الأعداء
|
|
حتّى يجيبوك إلى
السّواء
|
ذكره أبو سليمان
الدّمشقي.
(وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))
قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو بكر
عن عاصم «ولا تحسبن» بالتاء وكسر السين ؛ إلّا أنّ عاصما فتح السين. وقرأ ابن عامر
، وحمزة ، وحفص عن عاصم : بالياء وفتح السين. وفي الكافرين ها هنا قولان : أحدهما : جميع الكفّار ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّهم الذين انهزموا يوم بدر ، ذكره محمّد بن القاسم
النّحوي وغيره. و «سبقوا» بمعنى فاتوا. قال ابن الأنباري : وذلك أنهم أشفقوا من
هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات ؛ فلمّا سلموا منها ، قيل : لا تحسبنّ أنهم فاتونا
بسلامتهم الآن ، فإنّهم لا يعجزونا ، أي : لا يفوتونا فيما يستقبلون من الأوقات.
قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) قرأ الجمهور : بكسر الألف. وقرأ ابن عامر : بفتحها ؛ وعلى
قراءته اعتراض. لقائل أن يقول : إذا كان قد قرأ «يحسبن» بالياء ، وقرأ «أنهم»
بالفتح ، فقد أقرّهم على أنهم لا يعجزون ؛ ومتى علموا أنهم لا يعجزون ، لم يلاموا.
فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال : المعنى : «لا يحسبن الذين كفروا سبقوا» لا
يحسبنّ أنهم يعجزون ؛ و «لا» زائدة مؤكّدة. وقال أبو عليّ : المعنى : لا يحسبنّ
الذين كفروا أنفسهم سبقوا وآباءهم سبقوا ، لأنّهم لا يفوتون ، فهم يجزون على
كفرهم.
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ
يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠))
__________________
قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ) في المراد بالقوة أربعة أقوال :
(٦٥٥) أحدها : أنها الرّمي ، رواه عقبة بن عامر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقال الحكم بن
أبان : هي النّبل. والثاني
: ذكور الخيل ،
قاله عكرمة. والثالث
: السّلاح ، قاله
السّدّيّ ، وابن قتيبة. والرابع
: أنه كلّ ما
يتقوّى به على حرب العدوّ من آلة الجهاد.
قوله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) يعني ربطها واقتناءها للغزو ؛ وهو عامّ في الذّكور والإناث
في قول الجمهور. وكان عكرمة يقول : المراد بقوله تعالى : «ومن رباط الخيل» إناثها.
قوله تعالى : (تُرْهِبُونَ بِهِ) روى رويس ، وعبد الوارث «ترهّبون» بفتح الرّاء وتشديد
الهاء ، أي : تخيفون وترعبون به عدوّ الله وعدوّكم ، وهم مشركو مكّة وكفّار العرب.
قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي : من دون كفّار العرب. واختلفوا فيهم على خمسة أقوال : أحدها
: أنهم الجنّ. روي
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٦٥٦) «هم الجنّ ،
فإنّ الشيطان لا يخبّل أحدا في داره فرس عتيق».
____________________________________
(٦٥٥) صحيح. أخرجه
مسلم ١٩١٧. والترمذي ٣٠٨٣ والدارمي ٢ / ٢٠٤ والحاكم ٢ / ٣٢٨. والطبري ١٦٢٤١ و ١٦٢٤٢
و ١٦٢٤٣ و ١٦٢٤٤. كلهم من حديث عقبة بن عامر.
(٦٥٦) ضعيف جدا.
أخرجه الطبراني ١٧ / ١٨٩ وابن عدي في الكامل ٣ / ٣٦٠ كلاهما عن عبد الله بن عريب
المليكي عن أبيه مرفوعا بلفظ «هم الجن» ، ولن يختل الشيطان إنسانا في داره فرس
عتيق». وإسناده ضعيف جدا ، لأجل سعيد بن سنان ، وبه أعله ابن عدي ، وقال الهيثمي
في «المجمع» ٢ / ٢٧ ح ١١٠٣٠ : رواه الطبراني ، وفيه مجاهيل اه. وقال الحافظ ابن
كثير في «تفسيره» ٢ / ٤٠١ : حديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه. اه.
__________________
والثاني
: أنهم بنو قريظة ،
قاله مجاهد. والثالث
: أهل فارس ، قاله
السّدّيّ. والرابع
: المنافقون ، قاله
ابن زيد. والخامس
: اليهود ، قاله
مقاتل.
(وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٦١))
قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) قرأ أبو بكر عن عاصم «للسّلم» بكسر السين. قال الزّجّاج : السّلم
: الصّلح والمسالمة. يقال : سَلم وسِلم وسَلَم في معنى واحد ، أي : إن مالوا إلى
الصّلح فمل إليه. قال الفرّاء : إن شئت جعلت «لها» كناية عن السّلم لأنها تؤنّث ،
وإن شئت جعلتها للفعلة ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) .
فإن قيل : لم قال «لها»
ولم يقل : «إليها»؟ فالجواب : أنّ «اللام» و «إلى» تنوب كلّ واحدة منهما عن
الأخرى. وفيمن أريد بهذه الآية قولان : أحدهما : المشركون ، وأنّها نسخت بآية السيف . والثاني
: أهل الكتاب. فإن
قيل : إنّها نزلت في ترك حربهم إذا بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذّمّة ، فهي محكمة.
وإن قيل : نزلت في موادعتهم على غير جزية ، توجّه النّسخ لها بآية الجزية.
(وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))
قوله تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا) قال مقاتل : يعني يهود قريظة (أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالصّلح لتكفّ عنهم ، حتى إذا جاء مشركو العرب ، أعانوهم
عليك (فَإِنَّ حَسْبَكَ
اللهُ). قال الزّجّاج : فإنّ الذي يتولّى كفايتك الله (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ) أي : قوّاك. وقال مقاتل : قواك بنصره وبالمؤمنين من
الأنصار يوم بدر. قوله تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ) يعني الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانت بينهم عداوة في
الجاهلية ، فألف الله بينهم بالإسلام. وهذا من أعجب الآيات ، لأنّهم كانوا ذوي
أنفة شديدة ؛ فلو أنّ رجلا لطم رجلا ، لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره ، فآل بهم
الإسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤))
قوله تعالى : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ) فيه قولان : أحدهما : حسبك الله ، وحسب من اتّبعك ، هذا قول أبي صالح عن ابن
عباس ، وبه قال ابن زيد ، ومقاتل ، والأكثرون. والثاني : حسبك الله ومتّبعوك ، قاله مجاهد. وعن الشّعبيّ كالقولين.
وأجاز الفرّاء والزّجّاج الوجهين.
__________________
(٦٥٧) وروى سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال : أسلم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم تسعة وثلاثون ، ثم أسلم عمر فصاروا أربعين ، فنزلت هذه
الآية. قال أبو سليمان الدّمشقي : وهذا لا يحفظ ، والسّورة مدنيّة بإجماع ، والقول
الأوّل أصحّ.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ
خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))
قوله تعالى : (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) قال الزّجّاج : تأويله : حثّهم. وتأويل التّحريض في اللغة
: أن يحثّ الإنسان على الشيء حثّا يعلم معه أنه حارض إن تخلّف عنه. والحارض : الذي
قد قارب الهلاك. قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) لفظ هذا الكلام لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، والمراد :
يقاتلوا مائتين ، وكان هذا فرضا في أوّل الأمر ، ثم نسخ بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين ، فإن زادوا جاز له الفرار.
قال مجاهد : وهذا التّشديد كان في يوم بدر. واتّفق القرّاء على قوله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) فقرؤوا «يكن» بالياء واختلفوا في قوله تعالى : (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً) ، وفي قوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ) فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : بالتاء فيهما.
وقرأهما عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : بالياء. وقرأ أبو عمرو «يكن منكم مائة يغلبوا»
بالياء ، «فإن تكن منكم مائة صابرة» بالتاء. قال الزّجّاج : من أنّث ، فللفظ
المائة ؛ ومن ذكّر ، فلأنّ المائة وقعت على عدد مذكّر. وقال أبو عليّ : من قرأ
بالياء ، فلأنّه أريد منه المذكّر ، بدليل قوله تعالى : «يغلبوا» ، وكذلك المائة
الصّابرة هم رجال ، فقرؤوها بالياء ، لموضع التّذكير. فأما أبو عمرو ، فإنه لمّا
رأى صفة المائة مؤنّثة بقوله تعالى : «صابرة» أنّث الفعل ، ولمّا رأى «يغلبوا»
مذكّرا ، ذكّر. ومعنى الكلام : إن يكن منكم عشرون صابرون يثبتون عند اللقاء ،
يغلبوا مائتين ، لأنّ المؤمنين يحتسبون أفعالهم ، وأهل الشّرك يقاتلون على غير
احتساب ولا طلب ثواب ، فإذا صدقهم المؤمنون القتال لم يثبتوا ؛ وذلك معنى قوله
تعالى : (لا يَفْقَهُونَ).
قوله تعالى : (وَعَلِمَ) وروى المفضّل «وعلم» بضمّ العين «أن فيكم ضعفا» وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ بضمّ الضاد. وقرأ عاصم ، وحمزة : بفتح
الضاد. وكذلك خلافهم في (الرّوم) . قال الفرّاء : الضمّ لغة قريش ، والفتح لغة تميم. قال
الزّجّاج : والمعنى في القراءتين واحد ،
____________________________________
(٦٥٧) باطل لا أصل
له. أخرجه الطبراني في «الكبير» ١٢٤٧٠ ، والواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٤. وفيه
إسحاق بن بشر الكاهلي ، وهو كذاب. وكذا قال الهيثمي في «المجمع» ١١٠٣٢ ثم إن
السورة مدنية والخبر مكي؟!! وذكره ابن كثير ٢ / ٤٠٣ وقال : وفي هذا نظر لأن هذه
الآية مدنية ، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى
المدينة والله أعلم ا. ه.
__________________
يقال : هو الضّعف
والضّعف ، والمكث والمكث ، والفقر والفقر ، وفي اللغة كثير من باب فعل وفعل ،
والمعنى واحد. وقرأ أبو جعفر «وعلم أن فيكم ضعفاء» على فعلاء. فأمّا قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) فهو إعلام بأنّ الغلبة لا تقع إلّا بإرادته.
(ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧))
قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).
(٦٥٨) روى مسلم في
أفراده من حديث عمر بن الخطّاب قال : لمّا هزم الله المشركين يوم بدر ، وقتل منهم
سبعون وأسر سبعون ، استشار النبيّ صلىاللهعليهوسلم أبا بكر وعمر وعليّا ، فقال أبو بكر : يا نبيّ الله هؤلاء
بنو العمّ والعشيرة والإخوان ، وإنّي أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذنا
منهم قوّة لنا على الكفّار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول
الله : «ما ترى يا ابن الخطّاب»؟ قلت :
والله ما أرى ما
رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكّنني من فلان ، قريب لعمر ، فأضرب عنقه ، وتمكّن
عليّا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكّن حمزة من أخيه فلان فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله عزوجل أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم
وأئمّتهم وقادتهم. فهوي رسول الله ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، فأخذ منهم
الفداء. فلمّا كان من الغد ، غدوت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإذا هو قاعد وأبو بكر الصّديق وهما يبكيان. فقلت : يا
رسول الله ، أخبرني ما ذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء
تباكيت. فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من الفداء. لقد عرض عليّ
عذابكم أدنى من هذه الشّجرة» لشجرة قريبة ، فأنزل الله «ما كان لنبي أن يكون له
أسرى» إلى قوله «عظيم».
____________________________________
(٦٥٨) غريب. أخرجه
مسلم ١٧٦٣ وأبو داود ٢٦٩٠ والترمذي ٣٠٨١ وأحمد ١ / ٣٠ وابن أبي شيبة ١٤ / ٣٦٥ ـ ٣٦٨
وابن حبان ٤٧٩٣ والطبري ١٦٣٠٨ والبيهقي في «السنن» ٦ / ٣٢١ و «الدلائل» ٣ / ٥١
وأبو نعيم في «الدلائل» ٤٥٠ من طرق عن عكرمة عن عمار عن سماك بن الوليد الحنفي عن
ابن عباس عن عمر به وإسناده لا بأس به. عكرمة بن عمار قال عنه الحافظ في «التقريب»
: صدوق يغلط. وقال في سماك بن الوليد : ليس به بأس. وقال الذهبي رحمهالله في «الميزان» ٣ / ٩٠ ـ ٩٣ ما
ملخصه : روى أبو حاتم عن ابن معين في عكرمة بن عمار : كان أميا حافظا. وقال أبو
حاتم : صدوق ، ربما يهم. وقال ابن معين : ثقة ثبت. وقال يحيى القطان : أحاديثه عن
يحيى بن أبي كثير ضعيفه ، وقال أحمد بن حنبل : ضعيف. وقال الحاكم : أكثر مسلم
الاستشهاد به ، وقال البخاري : لم يكن له كتاب فاضطرب حديثه عن يحيى ، وقال أحمد :
أحاديثه عن يحيى ضعاف ، ووثقه علي المديني. وختم الذهبي كلامه بقوله : وفي صحيح
مسلم قد ساق له أصلا منكرا عن سماك الحنفي عن ابن عباس في الثلاثة التي طلبها أبو
سفيان ، وثلاثة أحاديث أخر بالإسناد اه. قلت : وهذا رواه عن سماك بن الوليد عن ابن
عباس ، وقد تفرد بذكر بكاء النبي صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر ، ودنو العذاب بسبب أخذ الفداء ، وهذا غريب ، ولم
يتابع عليه ، وهو وإن وثقه الأكثر ، لكن روى مناكير ، ولا يبعد أن يكون عجز هذا
الحديث منها ، والله تعالى أعلم.
ـ الخلاصة : هو حديث لا يمكن الحكم بوهنه ، وليس
هو من درجة الصحيح. وهو أحد الأحاديث التي رواها مسلم ، وليست في غاية الصحة.
وللحديث شواهد دون عجزه ، وهو ذكر البكاء ... فهو غريب. إذ لم يتصرف الصحابة من
تلقاء أنفسهم ، وإنما فعلوا ذلك بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فتنبه والله الموفق.
(٦٥٩) وروي عن ابن
عمر قال : لمّا أشار عمر بقتلهم وفاداهم رسول الله أنزل الله تعالى «ما كان لنبي»
إلى قوله «حلالا طيبا» ، فلقي النبيّ صلىاللهعليهوسلم عمر فقال «كاد يصيبنا في خلافك بلاء».
فأمّا الأسرى ،
فهو جمع أسير ، وقد ذكرناه في سورة البقرة . والجمهور قرءوا «أن يكون له» بالياء ، لأنّ الأسرى مذكّر.
وقرأ أبو عمرو «أن تكون» ، قال أبو عليّ : أنّث على لفظ الأسرى ، لأنّ الأسرى وإن
كان المراد به التّذكير والرّجال فهو مؤنّث اللفظ. والأكثرون قرءوا «أسرى» وكذلك «لمن
في أيديكم من الأسرى». وقرأ أبو جعفر ، والمفضّل «أسارى» في الموضعين ، ووافقهما
أبو عمرو ، وأبان في الثاني. قال الزّجّاج : والإثخان في كلّ شيء : قوّة الشيء
وشدّته. يقال : قد أثخنه المرض : إذا اشتدّت قوّته عليه. والمعنى : حتى يبالغ في
قتل أعدائه. ويجوز أن يكون المعنى : حتى يتمكّن في الأرض. قال المفسّرون : معنى
الآية : ما كان لنبيّ أن يحبس كافرا قدر عليه للفداء أو المنّ قبل الإثخان في
الأرض. وكانت غزاة بدر أول قتال قاتله رسول الله ، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) وهو المال. وكان أصحاب رسول الله قد فادوا يومئذ بأربعة
آلاف أربعة آلاف. وفي قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ) قولان : أحدهما
: يريد لكم الجنّة
، قاله ابن عباس. والثاني
: يريد العمل بما
يوجب ثواب الآخرة ، ذكره الماوردي.
فصل
: وقد روي عن ابن
عباس ، ومجاهد في آخرين : أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ، وليس للنّسخ وجه ، لأنّ غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلّة
؛ فلمّا كثروا واشتدّ سلطانهم ، نزلت الآية الأخرى ، ويبيّن هذا قوله تعالى : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).
(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨))
قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) في معناه خمسة أقوال : أحدها
: لو لا أنّ الله
كتب في أمّ
____________________________________
(٦٥٩) حسن. أخرجه
الحاكم في «المستدرك» ٢ / ٣٢٩ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وتعقبه
الذهبي بقوله : صحيح على شرط مسلم ، وهو كما قال : لكن إبراهيم بن مهاجر أحد رجال
الإسناد ، وإن روى له مسلم ، فقد لينه غير واحد بسبب سوء حفظه. وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٤٨٦ عن ابن عمر : استشار رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأسارى أبا بكر فقال : قومك وعشيرتك خل سبيلهم.
واستشار عمر فقال : اقتلهم : ففاداهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله (ما كانَ ...) إلى قوله تعالى (فَكُلُوا ...) قال فلقي النبي لي الله عليه وسلم عمر فقال «كاد أن يصيبنا
في خلافك بلاء». وله شاهد من حديث ابن مسعود. أخرجه أحمد ١ / ٣٨٣ والحاكم ٣ / ٢١
وأبو يعلى ٥١٨٨. والواحدي ٤٨٧ ، ورجاله ثقات لكن فيه إرسال بين أبي عبيدة وأبيه
ابن مسعود. وانظر «تفسير القرطبي» ٣٢٧١ بتخريجنا.
__________________
الكتاب أنّه سيحلّ
لكم الغنائم لمسّكم فيما تعجّلتم من المغانم والفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك
عذاب عظيم ، روى هذا المعنى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. وقال
أبو هريرة : تعجّل ناس من المسلمين فأصابوا الغنائم ، فنزلت الآية. والثاني : لو لا كتاب من الله سبق أنّه لا يعذّب من أتى ذنبا على
جهالة لعوقبتم ، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد. وقال ابن
إسحاق : سبق أن لا أعذّب إلّا بعد النّهي ، ولم يكن نهاهم. والثالث : لو لا ما سبق لأهل بدر أنّ الله لا يعذّبهم ، لعذّبتم ،
قاله الحسن ، وابن جبير ، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع : لو لا كتاب من الله سبق من أنّه يغفر لمن عمل الخطايا ثمّ
علم ما عليه فتاب ، ذكره الزّجّاج. والخامس : لو لا القرآن الذي اقتضى غفران الصّغائر ، لعذّبتم ، ذكره
الماوردي. فيخرج في الكتاب قولان : أحدهما : أنه كتاب مكتوب حقيقة. ثمّ فيه قولان : أحدهما : أنه ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. والثاني : أنه القرآن. والثاني : أنه بمعنى القضاء.
(فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ
اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠))
قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) قال الزّجّاج : الفاء للجزاء. والمعنى : قد أحللت لكم
الفداء فكلوا. والحلال منصوب على الحال.
(٦٦٠) قال مقاتل :
إنّ الله غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حلّها ، رحيم بكم إذ أحلّها لكم ، فجعل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عمر بن الخطّاب ، وخبّاب بن الأرتّ يوم بدر على القبض ،
وقسمها النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ، وانطلق بالأسارى ، فيهم العبّاس ، وعقيل ،
ونوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. وكان مع العبّاس يومئذ عشرون أوقيّة من ذهب ، فلم
تحسب له من فدائه ، وكلّف أن يفدي ابني أخيه ، فأدّى عنهما ثمانين أوقيّة من ذهب.
وقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «أضعفوا على العبّاس الفداء» فأخذوا منه ثمانين أوقيّة ،
وكان فداء كلّ أسير أربعين أوقيّة. فقال العبّاس لرسول الله : لقد تركتني ما حييت
أسأل قريشا بكفّيّ. فقال له : «أين الذّهب الذي تركته عند أمّ الفضل»؟ فقال : أي
الذّهب؟ فقال : «إنّك قلت لها : إنّي لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي
حدث ، فهو لك ولولدك» فقال : ابن أخي ، من أخبرك؟ فقال : «الله أخبرني» ، فقال
العباس : أشهد أنّك صادق ، وما علمت أنّك رسول الله قبل اليوم ؛ وأمر ابني أخيه
فأسلما. وفيهم نزلت : (قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الآية. وروى العوفيّ عن ابن عباس أنها نزلت في جميع من أسر
يوم بدر.
(٦٦١) وقال ابن
زيد : لما بعث رسول الله أتاه رجال ، فقالوا : لو لا أنّا نخاف هؤلاء القوم
____________________________________
(٦٦٠) عزاه المصنف
لمقاتل وهو ساقط ليس بشيء. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٨٩ عن الكلبي تعليقا
والكلبي متروك متهم ، وأكثر هذا المتن أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٣ / ١٤٢ عن ابن
إسحاق عن يزيد بن رومان والزهري وعروة ، وهذه مراسيل وبعضه أخرجه ٣ / ١٤٣ عن ابن
عباس بسند فيه إرسال وله شواهد.
الخلاصة : عامة
هذا الخبر له شواهد. انظر الطبري ١٦٣٣٥ ـ ١٦٣٤١.
(٦٦١) عزاه المصنف
لابن زيد ، واسمه عبد الرحمن ، وهذا مرسل ، وابن زيد ضعيف ، فالخبر واه.
لأسلمنا ، ولكنّا
نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. فلمّا كان يوم بدر ، قال المشركون : لا
يتخلّف عنا أحد إلا هدمنا داره واستحللنا ماله ، فخرج أولئك القوم ، فقتلت طائفة
منهم وأسرت طائفة. فأمّا الذين قتلوا ، فهم الذين قال الله فيهم : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) . وأمّا الذين أسروا فقالوا : يا رسول الله أنت تعلم أنّا
كنّا نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله ، وإنّما خرجنا مع هؤلاء خوفا منهم.
فذلك قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) إلى قوله تعالى : (عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
فأمّا قوله تعالى
: (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ
فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) فمعناه إسلاما وصدقا (يُؤْتِكُمْ خَيْراً
مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء. وفيه قولان : أحدهما : أكثر ممّا أخذ منكم. والثاني : أحلّ وأطيب. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن أبي عبلة
: «مما أخذ منكم» بفتح الخاء ؛ يشيرون إلى الله تعالى. وفي قوله تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) قولان : أحدهما
: يغفر لكم كفركم
وقتالكم رسول الله ، قاله الزّجّاج. والثاني : يغفر لكم خروجكم مع المشركين ، قاله ابن زيد في تمام كلامه
الأوّل.
(وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ
مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢))
قوله تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) يعني : إن أراد الأسراء خيانتك بالكفر بعد الإسلام (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) إذ كفروا به قبل أسرهم. وقال ابن زيد : فقد خانوا بخروجهم
مع المشركين ؛ وقد ذكرنا عنه أنّها نزلت في قوم تكلّموا بالإسلام. وقال مقاتل :
المعنى : إن خانوك أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما أمكنتك ببدر. قال الزّجّاج : (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخيانة إن خانوها ، (حَكِيمٌ) في تدبيره عليهم ومجازاته إيّاهم.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني : المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم وقومهم في
نصرة الدّين. (وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا) يعني : الأنصار ، آووا رسول الله ، وأسكنوا المهاجرين
ديارهم ، ونصروهم على أعدائهم (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فيه قولان : أحدهما : في النّصرة. والثاني : في الميراث.
قال المفسّرون :
كانوا يتوارثون بالهجرة ، وكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر ، وهو
معنى قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ؛ قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وعاصم ،
والكسائيّ : «ولايتهم» بفتح الواو. وقرأ حمزة : بكسر الواو. قال الزّجّاج : المعنى
: ليس بينكم وبينهم ميراث حتى يهاجروا. ومن كسر واو الولاية ، فهي بمنزلة الإمارة
؛ وإذا فتحت ، فهي من النّصرة. وقال يونس النّحوي : الولاية ، بالفتح ، لله عزوجل ، والولاية ، بالكسر ، من ولّيت الأمر. وقال أبو عبيدة :
الولاية ، بالفتح ، للخالق ؛ والولاية ، للمخلوق. قال ابن الأنباري : الولاية ،
بالفتح ،
__________________
مصدر الوليّ ،
والولاية : مصدر الوالي ، يقال : وليّ بيّن الولاية ، ووال بيّن الولاية ، فهذا هو
الاختيار ؛ ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا. وقال ابن فارس : الولاية ، بالفتح :
النّصرة ، وقد تكسر. والولاية ، بالكسر : السّلطان.
فصل
: وذهب قوم إلى أنّ
المراد بهذه الولاية موالاة النّصر والمودّة. قالوا : ونسخ هذا الحكم بقوله تعالى
: (وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ؛ فأمّا القائلون بأنّها ولاية الميراث ، فقالوا : نسخت
بقوله تعالى : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) .
قوله تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي : إنّ استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم ،
إلّا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد ، فلا تغدروا بأرباب العهد. وقال
بعضهم : لم يكن على المهاجر أن ينصر من يهاجر إلّا أن يستنصره.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فيه قولان : أحدهما
: في الميراث ،
قاله ابن عباس. والثاني
: في النّصرة ،
قاله قتادة. وفي قوله تعالى : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) قولان : أحدهما
: أنه يرجع إلى
الميراث ، فالمعنى : ألّا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه يرجع إلى التّناصر. فالمعنى : إلّا تتعاونوا وتتناصروا
في الدّين ، قاله ابن جريج. وبيانه : أنه إذا لم يتولّ المؤمن المؤمن تولّيا حقّا
، ويتبرّأ من الكافر جدّا ، أدّى ذلك إلى الضّلال والفساد في الدّين. فإذا هجر المسلم
أقاربه الكفّار ، ونصر المسلمين ، كان ذلك أدعى لأقاربه الكفّار إلى الإسلام وترك
الشّرك.
قوله تعالى : (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) قرأ أبو هريرة ، وابن سيرين ، وابن السّميفع : «كثير»
بالثاء.
قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي : هم الذين حقّقوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة
والنّصرة ، بخلاف من أقام بدار الشّرك. والرّزق الكريم : هو الحسن ، وذلك في
الجنّة.
__________________
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي : من بعد المهاجرين الأوّلين. قال ابن عباس : هم الذين
هاجروا بعد الحديبية.
قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ) أي : في المواريث بالهجرة. قال ابن عباس : آخى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بين أصحابه ، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء حتى نزلت هذه
الآية ، فتوارثوا بالنّسب.
قوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اللوح المحفوظ. والثاني : أنه القرآن ـ وقد بيّن لهم قسمة الميراث في سورة (النّساء) . والثالث
: أنه حكم الله ،
ذكره الزّجّاج.
__________________
سورة التّوبة
(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١))
فصل
في نزولها : هي مدنيّة
بإجماعهم ، سوى الآيتين اللتين في آخرها (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فإنها نزلت بمكّة.
(٦٦٢) روى
البخاريّ في «صحيحه» من حديث البراء قال : آخر سورة نزلت براءة. وقد نقل عن بعض
العرب أنه سمع قارئا يقرأ هذه السّورة ، فقال الأعرابيّ : إنّي لأحسب هذه من آخر
ما نزل من القرآن. قيل له : ومن أين علمت؟ فقال : إنّي لأسمع عهودا تنبذ ، ووصايا
تنفّذ.
فصل
: واختلفوا في أوّل
ما نزل من (براءة) على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ أول ما نزل منها قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ
كَثِيرَةٍ) ، قاله مجاهد. والثاني : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً) ، قاله أبو الضّحى وأبو مالك. والثالث : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) ، قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أوّل ما نزل منها
بالمدينة ، فإنّهم قد قالوا : نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكّة.
فصل
: ولها تسعة أسماء
: أحدها
: سورة التّوبة. والثاني : براءة ؛ وهذان مشهوران بين الناس. والثالث : سورة العذاب ، قاله حذيفة. والرابع : المقشقشة ، قاله ابن عمر. والخامس : سورة البحوث ، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين ، قاله
المقداد بن الأسود. والسادس
: الفاضحة ، لأنها
فضحت المنافقين ، قاله ابن عباس. والسابع : المبعثرة ، لأنها بعثرت أخبار الناس وكشفت عن سرائرهم ،
قاله الحارث بن يزيد وابن إسحاق. والثامن : المثيرة ، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم ، قاله
قتادة. والتاسع
: الحافرة ، لأنها
حفرت عن قلوب المنافقين ، قاله الزّجّاج.
____________________________________
(٦٦٢) صحيح. أخرجه
البخاري ٤٣٦٤ و ٤٦٠٥ و ٤٦٥٤ و ٦٧٤٤ ومسلم ١٦١٨ ح ١١ و ١٦١٨ ح ١٣. وأبو داود ٢٨٨٨
والترمذي ٣٠٤٤ و ٣٠٤٥ من حديث البراء.
__________________
فصل
: وفي سبب امتناعهم
من كتابة التّسمية في أوّلها ثلاثة أقوال :
(٦٦٣) أحدها : رواه ابن عباس ، قال : قلت لعثمان بن عفّان : ما حملكم على
أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني ، وإلى (براءة) وهي من المئين ، فقرنتم
بينهما ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرّحمن الرّحيم»؟ فقال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب ، فيقول : «ضعوا هذا
في السّورة التي يذكر فيها كذا وكذا» ، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة
، و (براءة) من آخر القرآن ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ؛ وقبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها ، فظننّا أنّها منها ؛ فمن ثمّ
قرنت بينهما ولم أكتب بينهما : «بسم الله الرّحمن الرّحيم». وذكر نحو هذا المعنى
عن أبيّ بن كعب. قال الزّجّاج : والشّبه الذي بينهما ، أنّ في (الأنفال) ذكر
العهود ، وفي (براءة) نقضها. وكان قتادة يقول : هما سورة واحدة.
والثاني
: رواه محمّد ابن
الحنفيّة ، قال : قلت لأبي : لم لم تكتبوا في (براءة) «بسم الله الرّحمن الرّحيم»؟
فقال : يا بنيّ ، إنّ (براءة) نزلت بالسّيف ، وإنّ «بسم الله الرّحمن الرّحيم»
أمان. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا ، فقال : لأنّ التّسمية رحمة ، والرّحمة أمان ،
وهذه السّورة نزلت في المنافقين. والثالث : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لمّا كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ،
لم يقبلوها وردّوها ، فما ردّها الله عليهم ، قاله عبد العزيز بن يحيى المكّيّ.
فصل
: فأمّا سبب
نزولها.
(٦٦٤) فقال
المفسّرون : أخذت العرب تنقض عهودا بنتها مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمره الله تعالى بإلقاء عهودهم إليهم ، فأنزل براءة في
سنة تسع ، فبعث رسول الله أبا بكر أميرا على الموسم ليقيم للناس
____________________________________
(٦٦٣) ضعيف ،
أخرجه أبو داود ٧٨٦ و ٧٨٧ والترمذي ٣٠٨٦ والنسائي في «الكبرى» ٨٠٠٧ وابن حبان ٤٣
والحاكم ٢ / ٢٢١ وابن أبي داود في «المصاحف» ص ٣٩ والبغوي ١٠٢٨ ـ بترقيمي ـ والبيهقي في «السنن» ٢ / ٤٢ و «الدلائل» ٧ / ١٥٢
ـ ١٥٣ من طرق عن عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي
عن ابن عباس به.
وإسناده ضعيف.
مداره على يزيد الفارسي. قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. أي حيث يتابع ، ولم
يتابع على هذا الحديث. وقال العلامة أحمد شاكر في «تخريج المسند» ٣٩٩ ما ملخصه :
إنه لا أصل له لأمور : أولها جهالة يزيد الفارسي حيث تفرد به. ثانيها : فيه تشكيك
في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي.
ثالثها : فيه
تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور ، كأن عثمان ـ كان
يثبتها برأيه وينفيها برأيه ، وحاشاه من ذلك. فلا علينا إذا قلنا : إنه حديث لا
أصل له. ونقل كلامه الشيخ شعيب في «الإحسان» ١ / ٢٣٢ ووافقه.
وذكره الألباني في
«ضعيف أبي داود» ٧٨٦ و ٧٨٧. وأما الحاكم فقال : صحيح على شرط الشيخين! ووافقه
الذهبي! وقال الترمذي : حديث حسن وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٠٧٥ و ١٠٢٨ و
«تفسير الشوكاني» ١٠٧٥ بتخريجنا.
(٦٦٤) ذكره ابن
هشام في «السيرة» ٤ / ١٤٥ ـ ١٤٦ بأتم منه عن ابن إسحاق وهذا معضل. وورد من
مرسل السدي ، أخرجه الطبري ١٦٣٩٢. وورد من مرسل أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ،
أخرجه الطبري ١٦٣٩١ بنحوه. فهذه الروايات مرسلة لا تقوم بها حجة ، فإن الصحيح أن
أبا بكر أتبع بعلي من دون أن يرجع أبو بكر.
وانظر «أحكام
القرآن» ١٠٨٤ بتخريجنا.
__________________
الحجّ في تلك
السّنة ، وبعث معه صدرا من (براءة) ليقرأها على أهل الموسم ، فلمّا سار دعا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم عليّا ، فقال : «أخرج بهذه القصّة من صدر براءة وأذّن في
النّاس بذلك» ، فخرج عليّ على ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر ، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول
الله ، أنزل في شأني شيء؟ قال : «لا ، ولكن لا يبلّغ عنّي إلّا رجل منّي ، أما
ترضى أنك كنت صاحبي في الغار ، وأنك صاحبي على الحوض»؟ قال : بلى يا رسول الله.
فسار أبو بكر أميرا على الحجّ ، وسار عليّ ليؤذّن ب «براءة».
فصل
: وفي عدد الآيات
التي بعثها رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أول براءة خمسة أقوال : أحدها : أربعون آية ، قاله عليّ عليهالسلام. والثاني
: ثلاثون آية ،
قاله أبو هريرة. والثالث
: عشر آيات ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. والرابع
: سبع آيات ، رواه
ابن جريج عن عطاء. والخامس
: تسع آيات ، قاله
مقاتل.
فصل
: فإن توهّم متوهّم
أنّ في أخذ (براءة) من أبي بكر ، وتسليمها إلى عليّ ، تفضيلا لعليّ على أبي بكر ،
فقد جهل ؛ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزّجّاج : وقد جرت
عادة العرب في عقد عهدها ونقضها ، أن يتولّى ذلك على القبيلة رجل منها فكان. وجائز
أن تقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من ليس من رهط النبيّ صلىاللهعليهوسلم : هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود ، فأزاح النبيّ صلىاللهعليهوسلم العلّة بما فعل. وقال عمرو بن بحر : ليس هذا بتفضيل لعليّ
على أبي بكر ، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حلّ العقد ، وكان لا يتولّى ذلك
إلّا السّيّد منهم ، أو رجل من رهطه دنيّا ، كأخ ، أو عمّ ؛ وقد كان أبو بكر في
تلك الحجّة الإمام ، وعليّ يأتمّ به ، وأبو بكر الخطيب ، وعليّ يستمع.
(٦٦٥) وقال أبو
هريرة : بعثني أبو بكر في تلك الحجّة مع المؤذّنين الذين بعثهم يؤذّنون بمنى : أن
لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ؛ فأذّن معنا عليّ ب (براءة)
وبذلك الكلام.
(٦٦٦) وقال
الشّعبيّ : بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليّا يؤذّن بأربع كلمات : «ألا لا يحجّ بعد العام مشرك ،
ألا ولا يطوف بالبيت عريان ، ألا ولا يدخل الجنّة إلّا مسلم ، ألا ومن كانت بينه
وبين محمّد
____________________________________
(٦٦٥) صحيح. أخرجه
البخاري ٣١٧٧ و ٤٦٥٥ و ٤٦٥٦ ومسلم ١٣٤٧ وأبو داود ١٩٤٦ والنسائي ٧٦ والبيهقي ٥ /
٨٧ والبغوي في «التفسير» ١٠٣١ ـ بترقيمي ـ من
طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة به ، واللفظ للبخاري في
روايته : الثانية والثالثة.
(٦٦٦) جيد. أخرجه
الطبري ١٦٣٩ ، وفي الباب روايات. وللحديث شواهد : أخرجه الترمذي ٣٠٩٢ والحاكم ٣ /
٥٢ والطبري ١٦٣٨٧ و ١٦٣٩٣ من طرق عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي به ، وإسناده
حسن ، زيد بن يثيع ، قال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة. وأما الذهبي فقال في «الميزان»
٣٠٣٢ : ما روى عنه سوى أبي إسحاق. وهذا منه إشارة إلى جهالته. قلت : ذكره الحافظ
في «تهذيب التهذيب ٣ / ١٣٦٩ ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال العجلي : تابعي
ثقة. وقال ابن سعد : كان قليل الحديث اه ملخصا. فينبغي أن يكون حسن الحديث ، لا
سيما ، وقد توبع على هذا المتن ، فقد ورد من طريق الحارث الأعور عن علي. أخرجه
الطبري ١٦٣٨٥ ، وإسناده ضعيف لضعف الحارث ، وكرره ١٦٣٨٨ من هذا الوجه. وله شاهد من
حديث أبي هريرة ، أخرجه أحمد ٢ / ٢٩٩ والحاكم ٢ / ٣٣١ وإسناده لا بأس به ، وصححه
الحاكم والذهبي. الخلاصة : هو حديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده ، والله أعلم.
وانظر «تفسير الشوكاني» ١٠٨١ بتخريجي ، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي!.
وقال الترمذي : هذا حديث حسن. وانظر أحكام القرآن ١٠٨٣ بتخريجنا.
مدّة فأجله إلى
مدّته ، والله بريء من المشركين ورسوله».
فصل
: فأمّا التّفسير ،
فقوله تعالى : (بَراءَةٌ) قال الفرّاء : هي مرفوعة بإضمار «هذه» ، ومثله (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) . وقال الزّجّاج : يقال : برئت من الرّجل والدّين براءة ،
وبرئت من المرض ؛ وبرأت أيضا أبرأ برءا ، وقد رووا : برأت أبرأ بروءا. ولم نجد في
ما لامه همزة : فعلت أفعل ، إلّا هذا الحرف. ويقال : بريت القلم ، وكلّ شيء نحتّه
: أبريه بريا ، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء ، ومورّق ، وابن يعمر : «براءة» بالنّصب.
قال المفسّرون : والبراءة هاهنا : قطع الموالاة ، وارتفاع العصمة ، وزوال الأمان.
والخطاب في قوله تعالى : (إِلَى الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ) لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لأنه هو الذي يتولّى المعاهدة ، وأصحابه راضون ؛ فكأنهم
بالرّضا عاهدوا أيضا ؛ وهذا عامّ في كلّ من عاهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال مقاتل : هم ثلاثة أحياء من العرب : خزاعة ، وبنو
مدلج ، وبنو جذيمة.
(فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ
وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢))
قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي : انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم منّا مكروه.
إن قال قائل : هذه
مخاطبة شاهد ، والآية الأولى إخبار عن غائب ، فعنه جوابان :
أحدهما
: أنه جائز عند
العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب. قال عنترة :
شطّت مزار
العاشقين فأصبحت
|
|
عسرا عليّ طلابك
ابنة مخرم
|
هذا قول أبي
عبيدة. والثاني
: أنّ في الكلام
إضمارا ، تقديره : فقل لهم : سيحوا في الأرض ، أي : اذهبوا فيها ، وأقبلوا ،
وأدبروا ، وهذا قول الزّجّاج.
واختلفوا فيمن
جعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال : أحدها
: أنّها أمان
لأصحاب
__________________
العهد ، فمن كان
عهده أكثر منها ، حطّ إليها ، ومن كان عهده أقلّ منها ، رفع إليها ، ومن لم يكن له
عهد ، فأجله انسلاخ المحرّم خمسون ليلة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : أنها للمشركين كافّة ، من له عهد ، ومن ليس له عهد ، قاله
مجاهد ، والزّهريّ ، والقرظي. والثالث
: أنها أجل لمن كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد آمنه أقلّ من أربعة أشهر ، أو كان أمانه غير محدود ؛
فأما من لا أمان له ، فهو حرب ، قاله ابن إسحاق. والرابع : أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد ؛ فأما أرباب العهود
، فهم على عهودهم إلى حين انقضاء مددهم ، قاله ابن السّائب. ويؤكّده ما روي أنّ
عليّا نادى يومئذ ؛ ومن كان بينه وبين رسول الله عهد ، فعهده إلى مدّته. وفي بعض
الألفاظ : فأجله أربعة أشهر.
واختلفوا في مدّة
هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال : أحدها
: أنها الأشهر
الحرم : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ أوّلها يوم الحجّ الأكبر ، وهو يوم النّحر ، وآخرها
العاشر من ربيع الاخر ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ ، والقرظي. والثالث : أنها شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، لأنّ
هذه الآية نزلت في شوّال ، قاله الزّهريّ. قال أبو سليمان الدّمشقي : وهذا أضعف
الأقوال ، لأنه لو كان كذلك ، لم يجز تأخير إعلامهم به إلى ذي الحجّة ، إذ كان لا
يلزمهم الأمر إلّا بعد الإعلام. والرابع
: أنّ أوّلها
العاشر من ذي القعدة ، وآخرها العاشر من ربيع الأوّل ، لأنّ الحجّ في تلك السّنة
كان في ذلك اليوم ، ثم صار في السّنة الثانية في العشر من ذي الحجّة.
(٦٦٧) وفيها حجّ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : «إنّ الزمان قد استدار» ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللهِ) أي : وإن أجّلتم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله. قوله
تعالى : (وَأَنَّ اللهَ
مُخْزِي الْكافِرِينَ) قال الزّجّاج : الأجود فتح «أن» على معنى : اعلموا أنّ ،
ويجوز كسرها على الاستئناف. وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين.
(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))
____________________________________
(٦٦٧) حديث صحيح.
أخرجه البخاري ٣١٩٧ و ٤٦٦٢ و ٥٥٥٠. ومسلم ٢٩١٦٧٩. وأبو داود ١٩٤٧. وأحمد ٥ / ٣٧
والبيهقي ٥ / ١٦٦ من حديث أبي بكرة. وتقدم مطولا.
__________________
قوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : إعلام ؛ ومنه أذان الصّلاة. وقرأ الضّحّاك ، وأبو
المتوكّل ، وعكرمة ، والجحدريّ ، وابن يعمر : «وإذن» بكسر الهمزة وقصرها ساكنة
الذال من غير ألف. قوله تعالى : (إِلَى النَّاسِ) أي : للناس. يقال : هذا إعلام لك ، وإليك. والناس ها هنا
عامّ في المؤمنين والمشركين. وفي يوم الحجّ الأكبر ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه يوم عرفة ،
قاله عمر بن الخطّاب ، وابن الزّبير ، وأبو جحيفة ، وطاوس ، وعطاء. والثاني : يوم النّحر ، قاله أبو موسى الأشعري ، والمغيرة بن شعبة ،
وعبد الله بن أبي أوفى ، وابن المسيّب ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشّعبيّ ،
والنّخعيّ ، والزّهريّ ، وابن زيد ، والسّدّيّ في آخرين. وعن عليّ ، وابن عباس ،
كالقولين. والثالث
: أنه أيام الحجّ
كلّها ، فعبّر عن الأيام باليوم ، قاله سفيان الثّوري. قال سفيان. كما يقال : يوم
بعاث ، ويوم الجمل ، ويوم صفّين يراد به : أيام ذلك ، لأنّ كلّ حرب من هذه الحروب
دامت أياما. وعن مجاهد ، كالأقوال الثلاثة. وفي تسميته بيوم الحجّ الأكبر ثلاثة
أقوال : أحدها
: أنه سمّاه بذلك
لأنه اتّفق في سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون ، ووافق ذلك عيد اليهود والنّصارى
، قاله الحسن. والثاني
: أنّ الحجّ الأكبر
: هو الحجّ ، والأصغر : هو العمرة ، قاله عطاء ، والشّعبيّ. والثالث : أنّ الحجّ الأكبر : القران ، والأصغر : الإفراد ، قاله
مجاهد.
قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ) وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وابن يعمر : «إن الله» بكسر الهمزة.
(مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : من عهد المشركين ، فحذف المضاف. (وَرَسُولِهِ) رفع على الابتداء ، وخبره مضمر على معنى : ورسوله أيضا
بريء. وقرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وزيد عن
يعقوب : «ورسوله» بالنّصب. ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله تعالى : (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي : رجعتم عن الشّرك ، (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الإيمان.
__________________
(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا
عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))
قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) قال أبو صالح عن ابن عباس : فلمّا قرأ عليّ (براءة) ، قالت
بنو ضمرة : ونحن مثلهم أيضا؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى قد استثناكم ؛ ثم قرأ هذه
الآية. وقال مجاهد : هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم عهد ومدّة ، فأمر أن يفي لهم. قال الزّجّاج : معنى الكلام
: وقعت البراءة من المعاهدين النّاقضين للعهود ، إلّا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم
، فليسوا داخلين في البراءة ما لم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى : وفضل
الخطاب في هذا الباب : أنه قد كان بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين جميع المشركين عهد عامّ ، وهو أن لا يصدّ أحد عن
البيت ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام ، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر ؛ وكان بينه
وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسمّاة ، فأمر بالوفاء لهم وإتمام مدّتهم إذا لم
يخش غدرهم.
(فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ) فيها قولان : أحدهما : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، قاله
الأكثرون. والثاني
: أنها الأربعة
الأشهر التي جعلت لهم فيها السّياحة ، قاله الحسن في آخرين ، فعلى هذا ، سمّيت
حرما لأنّ دماء المشركين حرّمت فيها.
قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي : من لم يكن له عهد (حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) قال ابن عباس : في الحلّ والأشهر الحرم. قوله تعالى : (وَخُذُوهُمْ) أي : ائسروهم ؛ والأخيذ : الأسير. (وَاحْصُرُوهُمْ) أي : احبسوهم ؛ والحصر : الحبس. قال ابن عباس : إن تحصّنوا
فاحصروهم. قوله تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلَّ مَرْصَدٍ) قال الأخفش : أي : على كل مرصد ؛ فألقى «على» وأعمل الفعل
، قال الشاعر :
نغالي اللحم
للأضياف نيئا
|
|
ونرخصه إذ نضج
القدور
|
المعنى : نغالي
باللحم ، فحذف الباء كما حذف «على». وقال الزّجّاج : «كل مرصد» ظرف ، كقولك : ذهبت
مذهبا ، فلست تحتاج أن تقول في هذه إلّا ما تقوله في الظّروف ، مثل : خلف ،
وقدّام.
قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا) أي : من شركهم. وفي قوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ) قولان : أحدهما
: اعترفوا بذلك. والثاني : فعلوه.
فصل
: واختلف علماء
النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ، ثم نسخ بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ، قاله الحسن ، وعطاء في آخرين. والثاني : بالعكس ، وأنه كان الحكم في الأسارى : أنه لا يجوز قتلهم
صبرا ، وإنما يجوز المنّ
__________________
أو الفداء بقوله
تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ثم نسخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثالث : أنّ الآيتين محكمتان ، والأسير إذا حصل في يد الإمام ، فهو
مخيّر ، إن شاء منّ عليه ، وإن شاء فاداه ، وإن شاء قتله صبرا ، أيّ ذلك رأى فيه
المصلحة للمسلمين فعل ، هذا قول جابر بن زيد ، وعليه عامّة الفقهاء ، وهو قول
الإمام أحمد.
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))
قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ) قال المفسّرون : وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم
استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أمر به ونهي عنه ، فأجره ، ثم أبلغه
الموضع الذي يأمن فيه. وفي قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما
: أنّ المعنى : ذلك
الذي أمرناك به من أن يعرّفوا ويجاروا لجهلهم بالعلم. والثاني : ذلك الذي أمرناك به من ردّه إلى مأمنه إذا امتنع من
الإيمان ، لأنهم قوم جهلة بخطاب الله.
(كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧))
قوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) أي : لا يكون لهم ذلك ، (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وفيهم ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم بنو ضمرة ،
قاله ابن عباس. والثاني
: أنهم قريش ، قاله
ابن عباس أيضا. وقال قتادة : هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم زمن الحديبية ، فنكثوا وظاهروا المشركين. والثالث : أنهم خزاعة ، قاله مجاهد.
(٦٦٨) وذكر أهل
العلم بالسّير أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمّا صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية ، كتب بينه وبينه
: «هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله وسهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عشر
سنين يأمن فيها الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنّ
بيننا عيبة مكفوفة ، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عهد محمّد وعقده فعل ، ومن أحبّ أن
يدخل في عهد قريش
____________________________________
(٦٦٨) انظر السيرة
النبوية ٤ / ٢٦ ـ ٣١.
__________________
وعقدها فعل ،
وأنّه من أتى محمّدا منهم بغير إذن وليّه ردّه إليه ، وأنه من أتى قريشا من أصحاب
محمّد لم يردّوه ، وأنّ محمّدا يرجع عنّا عامه هذا بأصحابه ، ويدخل علينا في قابل
في أصحابه ، فيقيم بها ثلاثا لا يدخل علينا بسلاح ، إلّا سلاح المسافر ، السّيوف
في القرب» ، فوثبت خزاعة فقالوا : نحن ندخل في عهد محمّد وعقده ، ووثبت بنو بكر
فقالوا : نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إنّ قريشا أعانت بني بكر على خزاعة
بالرجال والسلاح فبيّتوا خزاعة ليلا ، فقتلوا منهم عشرين رجلا. ثم إنّ قريشا ندمت
على ما صنعت ، وعلموا أنّ هذا نقض للعهد والمدّة التي بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبروه بما أصابهم ، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح. قال
أبو عبيدة : الإسلال : السّرقة ، والإغلال : الخيانة. قال ابن الأعرابي : وقوله : «وأنّ
بيننا عيبة مكفوفة» مثل ، أراد : إنّ صلحنا محكم مستوثق منه ، كأنه عيبة مشرجة.
وزعم بعض المفسّرين أنّ قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نسخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
(كَيْفَ وَإِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))
قوله تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) قال الزّجّاج : المعنى : كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا
عليكم ، فحذف ذلك ، لأنه قد سبق ، قال الشاعر :
وخبّرتماني
أنّما الموت بالقرى
|
|
فكيف وهذي هضبة
وقليب
|
أي فكيف مات وليس
بقرية؟ ومثله قول الحطيئة :
فكيف ولم أعلمهم
خذلوكم
|
|
على معظم ولا
أديمكم قدّوا
|
أي : فكيف
تلومونني على مدح قوم؟ واستغنى عن ذكر ذلك ، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدلّ على
ما أضمر. وقوله تعالى : (يَظْهَرُوا) يعني : يقدروا ويظفروا.
وفي قوله تعالى : (لا يَرْقُبُوا) ثلاثة أقوال : أحدها : لا يحفظوا ، قاله ابن عباس. والثاني : لا يخافوا ، قاله السّدّيّ. والثالث : لا يراعوا ، قاله قطرب.
وفي الإلّ خمسة
أقوال : أحدها
: أنه القرابة ،
رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، والسّدّيّ ، ومقاتل ، والفرّاء ،
وأنشدوا :
إنّ الوشاة كثير
إن أطعتهم
|
|
لا يرقبون بنا
إلّا ولا ذمما
|
وقال الآخر :
__________________
لعمرك إنّ إلّك
من قريش
|
|
كإلّ السّقب من
رأل النّعام
|
والثاني
: أنه الجوار ،
قاله الحسن. والثالث
: أنه الله عزوجل ، رواه ابن أبي نجيج عن مجاهد ، وبه قال عكرمة. والرابع : أنه العهد ، رواه خصيف عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد ، وأبو
عبيدة. والخامس
: أنه الحلف ، قاله
قتادة. وقرأ عبد الله بن عمرو وعكرمة وأبو رجاء وطلحة بن مصرّف : «إيلا» بياء بعد
الهمزة. وقرأ ابن السّميفع والجحدريّ : «ألّا» بفتح الهمزة وتشديد اللام.
وفي المراد
بالذّمّة ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها العهد ،
قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضّحّاك في آخرين. والثاني : التّذمّم ممّن لا عهد له ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد :
لا يرقبون بنا إلّا ولا ذمما
والثالث
: الأمان ، قاله
اليزيديّ ، واستشهد بقوله صلىاللهعليهوسلم :
(٦٦٩) «ويسعى
بذمّتهم أدناهم».
قوله تعالى : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يرضونكم بأفواههم في الوفاء ، وتأبى قلوبهم إلّا الغدر. والثاني : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلّا
الشّرك. والثالث
: يرضونكم بأفواههم
في الطّاعة ، وتأبى قلوبهم إلّا المعصية ، ذكرهنّ الماوردي.
قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) قال ابن عباس : خارجون عن الصّدق ، ناكثون للعهد.
(اشْتَرَوْا بِآياتِ
اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١))
قوله تعالى : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه ، قاله
مجاهد. والثاني
: أنهم قوم من
اليهود ، قاله أبو صالح. فعلى الأوّل ، آيات الله : حججه. وعلى الثاني : هي آيات
التّوراة. والثّمن القليل : ما حصّلوه بدلا من الآيات. وفي وصفه بالقليل وجهان : أحدهما : لأنه حرام ، والحرام قليل. والثاني : لأنه من عرض الدنيا الذي بقاؤه قليل. وفي قوله تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : عن بيته ، وذلك حين منعوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالحديبية دخول مكّة. والثاني : عن دينه بمنع الناس منه. والثالث : عن طاعته في الوفاء بالعهد.
____________________________________
(٦٦٩) صحيح. أخرجه
أبو داود ٤٥٣٠ والنسائي ٨ / ٢٣ وأحمد ١ / ١١٩ و ١٢٢ وأبو يعلى ٣٣٨ من حديث علي وهو
حديث صحيح ، وتقدم.
__________________
(وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))
قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ). قال ابن عباس :
(٦٧٠) نزلت في أبي
سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤساء
قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يسير إليهم فينصر خزاعة ، وهم الذين همّوا بإخراج
الرّسول صلىاللهعليهوسلم. فأما النّكث ، فمعناه : النّقض. والأيمان ها هنا : العهود.
والطّعن في الدّين : أن يعاب ، وهذا يوجب قتل الذّمّيّ إذا طعن في الإسلام ، لأنّ
المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه .
قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) قرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ «أئمة» بتحقيق
الهمزتين. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : بتحقيق الأولى وتليين الثانية.
والمراد بأئمة الكفر : رؤوس المشركين وقادتهم. (إِنَّهُمْ لا
أَيْمانَ لَهُمْ) أي : لا عهود لهم صادقة ؛ هذا على قراءة من فتح الألف ،
وهم الأكثرون. وقرأ ابن عامر «لا إيمان لهم» بالكسر ؛ وفيها وجهان ذكرهما الزّجّاج
: أحدهما
: أنه وصف لهم
بالكفر ونفي الإيمان. والثاني
: لا أمان لهم ،
تقول : آمنته إيمانا ، والمعنى : فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم.
وفي قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) قولان : أحدهما
: عن الشّكر. والثاني : عن نقض العهود.
____________________________________
(٦٧٠) عزاه المصنف
لابن عباس ، ولم أقف على إسناده وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٠ بدون إسناد
عن ابن عباس. وأخرجه الطبري ١٦٥٤٠ من حديث قتادة مرسلا بنحوه. وقال ابن كثير في «تفسيره»
٢ / ٤٢٠ : والصحيح أن الآية عامة ، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم
ولغيرهم والله أعلم اه.
__________________
وفي «لعل» قولان :
أحدهما
: أنها بمعنى
التّرجّي ، المعنى : ليرجى منهم الانتهاء ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنّها بمعنى : «كي» ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
(أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ
غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(١٥))
قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً) قال الزّجّاج : هذا على وجه التّوبيخ ، ومعناه الحضّ على
قتالهم. قال المفسّرون : وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة.
وفي قوله تعالى : (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) قولان : أحدهما
: أنهم أبو سفيان
في جماعة من قريش ، كانوا فيمن همّ بإخراج الرّسول صلىاللهعليهوسلم من مكّة. والثاني : أنهم قوم من اليهود ، غدروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ونقضوا عهده وهمّوا بمعاونة المنافقين على إخراجه من
المدينة.
قوله تعالى : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فيه قولان : أحدهما : بدءوكم بإعانتهم على حلفائكم ، قاله ابن عباس. والثاني : بالقتال يوم بدر ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (أَتَخْشَوْنَهُمْ) قال الزّجّاج : أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟! فمكروه
عذاب الله أحقّ أن يخشى إن كنتم مصدّقين بعذابه وثوابه.
قوله تعالى : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس ، ومجاهد : يعني خزاعة.
قوله تعالى : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) أي : كربها ووجدها بمعونة قريش بني بكر عليها.
قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) قال الزّجّاج : هو مستأنف وليس بجواب «قاتلوهم».
وفيمن عني به
قولان : أحدهما
: بنو خزاعة ،
والمعنى : ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة ، قاله عكرمة. والثاني : أنه عامّ في المشركين كما تاب على أبي سفيان ، وعكرمة ،
وسهيل. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بنيّات المؤمنين ، (حَكِيمٌ) فيما قضى.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))
قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) في المخاطب بهذا قولان : أحدهما : أنهم المؤمنون ، خوطبوا بهذا حين شقّ على بعضهم القتال ،
قاله الأكثرون. والثاني
: أنهم قوم من
المنافقين كانوا يسألون رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخروج معه إلى الجهاد تعذيرا ، قاله ابن عباس. وإنما دخلت
الميم في الاستفهام ، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام ، فدخلت لتفرّق بينه وبين
الاستفهام المبتدأ. قال الفرّاء : ولو أريد به الابتداء ، لكان إمّا بالألف ، أو ب
«هل» ، ومعنى الكلام : أن يتركوا بغير امتحان يبين به الصادق من
الكاذب. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) أي : ولمّا تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم ؛ وقد كان
يعلم ذلك غيبا ، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل. فأمّا الوليجة ، فقال ابن
قتيبة : هي البطانة من غير المسلمين ، وهو أن يتّخذ الرجل من المسلمين دخيلا من
المشركين وخليطا ووادّا ؛ وأصله من الولوج. قال أبو عبيدة : وكلّ شيء أدخلته في
شيء ليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم.
(ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ
أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))
قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «مسجد الله» على التّوحيد ، «إنما
يعمر مساجد الله» على الجمع. وقرأ عاصم ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ
على الجمع فيهما.
(٦٧١) وسبب نزولها
أنّ جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر فيهم العبّاس بن عبد المطّلب ، فأقبل عليهم
نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعيّروهم بالشّرك ، وجعل عليّ بن أبي طالب يوبّخ العبّاس
بقتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقطيعة الرّحم ، فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوئنا
وتكتمون محاسننا؟ فقالوا : وهل لكم من محاسن؟ قالوا : نعم ، لنحن أفضل منكم أجرا ؛
إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فنزلت
هذه الآية ، قاله مقاتل في جماعة.
وفي المراد
بالعمارة قولان : أحدهما
: دخوله والجلوس
فيه. والثاني البناء له وإصلاحه ؛ فكلاهما محظور على الكافر. والمراد من قوله
تعالى : (ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ) أي : يجب على المسلمين منعهم من ذلك. قال الزّجّاج : وقوله
تعالى : (شاهِدِينَ) حال. المعنى : ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر ،
(أُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) لأنّ كفرهم أذهب ثوابها.
فإن قيل : كيف
يشهدون على أنفسهم بالكفر ، وهم يعتقدون أنّهم على الصّواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه قول اليهوديّ : أنا يهوديّ ، وقول النّصراني : أنا
نصرانيّ ، قاله السّدّيّ. والثاني
: أنهم ثبّتوا على
أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وهو حقّ لا يخفى على مميّز ، فكانوا بمنزلة من شهد على
نفسه. والثالث
: أنهم آمنوا
بأنبياء شهدوا لمحمّد صلىاللهعليهوسلم بالتّصديق ، وحرّضوا على اتّباعه ، فلمّا آمنوا بهم
وكذّبوه ، دلّوا على كفرهم ، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر ، لأنّ
الشهادة هي تبيين وإظهار ، ذكرهما ابن الأنباري.
فإن قيل : ما وجه
قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ولم يذكر الرّسول ، والإيمان لا يتمّ إلّا به؟ فالجواب :
أنّ فيه دليلا على الرّسول ، لقوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ)
____________________________________
(٦٧١) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩١ من غير غزو
لأحد. وانظر ما يأتي.
أي : الصّلاة التي
جاء بها الرّسول ، قاله الزّجّاج. فإن قيل : (فَعَسى) ترجّ ، وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك. فالجواب ؛ أنّ «عسى»
من الله واجبة ، قاله ابن عباس. فإن قيل : قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه
الصّفات. فالجواب : أنّ المراد أنه من كان على هذه الصّفات المذكورة ، كان من أهل
عمارتها ؛ وليس المراد أنّ من عمرها كان بهذه الصّفة.
(أَجَعَلْتُمْ
سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ
وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ
بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ
فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))
قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) في سبب نزولها ستة أقوال :
(٦٧٢) أحدها : رواه مسلم في «صحيحه» من حديث النّعمان بن بشير قال : كنت
عند منبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن
أسقي الحاجّ ، وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر
المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل ممّا قلتم ، فزجرهم عمر ،
وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يوم الجمعة ، ولكنّي إذا صلّيت الجمعة دخلت فاستفتيت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية.
(٦٧٣) والثاني : أنّ العباس بن عبد المطّلب قال يوم بدر : لئن كنتم
سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنّا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ
ونفكّ العاني ، فنزلت هذه الآية ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٦٧٤) والثالث : أنّ المشركين قالوا : عمارة البيت الحرام ، والقيام على
السّقاية ، خير ممّن آمن وجاهد ، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله ، فنزلت
هذه الآية ، رواه عطيّة العوفيّ عن ابن عباس.
(٦٧٥) والرابع : أنّ عليّا والعباس وطلحة ـ يعني
سادن الكعبة ـ افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب
__________________
(٦٧٢) صحيح أخرجه
مسلم ١٨٧٩ وابن حبان ٤٥٩١ والطبري ١٦٥٥٧ عن النعمان بن بشير به.
(٦٧٣) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٦٥٧٢ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه إرسال بينهما.
وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٤٩٣ من رواية الوالبي عن ابن عباس.
(٦٧٤) ضعيف جدا ،
لكن يشهد لأصله ، ما بعده. أخرجه الطبري ١٦٥٧٣ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي ـ وهو
ضعيف ـ عن ابن عباس.
(٦٧٥) ورد من وجوه
مرسلة متعددة. أخرجه الطبري ١٦٥٧٧ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا. وأخرجه ١٦٥٧٨ عن
الحسن. وبرقم ١٦٥٧٦ عن الشعبي ، وبرقم ١٦٥٧٩ عن السدي. وذكره الواحدي في «أسباب
النزول»
__________________
البيت ، بيدي
مفتاحه ، ولو أشاء بتّ فيه. وقال العباس : أنا صاحب السّقاية ، والقائم عليها ،
ولو أشاء بتّ في المسجد. وقال عليّ : ما أدري ما تقولون ، لقد صلّيت ستة أشهر قبل
الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن ، والشّعبيّ ، والقرظي.
(٦٧٦) والخامس : أنهم لما أمروا بالهجرة قال العباس : أنا أسقي الحاجّ ، وقال
طلحة : أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، قاله مجاهد.
(٦٧٧) والسادس : أنّ عليّا قال للعباس : ألا تلحق بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة ، ألست أسقي حاجّ بيت الله
وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، قاله مرّة الهمداني ، وابن
سيرين.
قال الزّجّاج :
ومعنى الآية : أجعلتم أهل سقاية الحاجّ وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله؟ فحذف
المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه. قال الحسن : كان ينبذ زبيب ، فيسقون الحاجّ في
الموسم. وقال ابن عباس : عمارة المسجد : تجميره ، وتخليقه ، فأخبر الله أنّ
أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشّرك ، وسمّاهم ظالمين لشركهم.
قوله تعالى : (أَعْظَمُ دَرَجَةً) قال الزّجّاج : هو منصوب على التّمييز. والمعنى : أعظم من
غيرهم درجة. والفائز : الذي يظفر بأمنيته من الخير. فأمّا النّعيم ، فهو لين العيش.
والمقيم : الدّائم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣))
قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ
أَوْلِياءَ) في سبب نزولها خمسة أقوال :
(٦٧٨) أحدها : أنه لمّا أمر المسلمون بالهجرة ، جعل الرجل يقول لأهله :
إنّا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ، ومنهم من يتعلّق به عياله وزوجته
فيقولون : ننشدك الله أن تدعنا إلى غير شيء ، فيرقّ قلبه فيجلس معهم ، فنزلت هذه
الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٦٧٩) والثاني : أنه لمّا أمر الله المؤمنين بالهجرة ، قال المسلمون : يا
نبيّ الله ، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدّين ، قطعنا آباءنا وعشائرنا ، وذهبت
تجارتنا ، وخربت ديارنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس.
____________________________________
٤٩٤ عن الحسن
والشعبي والقرظي ، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها وانظر ما يأتي. وانظر تفسير «ابن
كثير» ٢ / ٤٢٤.
(٦٧٦) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٥٨٢ عن مجاهد فهو ضعيف ويشهد لأصله ما قبله.
(٦٧٧) أخرجه
الفريابي كما في «الدر» ٣ / ٣٩٥ عن ابن سيرين. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
٤٩٥ عن ابن سيرين ومرّة بدون إسناد وانظر ما قبله.
(٦٧٨) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة لأن روايه عن أبي صالح هو الكلبي ،
وقد كذبه غير واحد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٦ عن الكلبي مرسلا بدون
إسناد.
(٦٧٩) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية الضحاك ، وهو لم يسمع من ابن عباس ، ورواية الضحاك هو جويبر بن
سعيد ذاك المتروك ، فالخبر لا شيء.
(٦٨٠) والثالث : أنه لمّا قال العباس : أنا أسقي الحاجّ ، وقال طلحة : أنا
أحجب الكعبة فلا نهاجر ، نزلت هذه الآية والتي قبلها ، هذا قول قتادة ، وقد ذكرناه
عن مجاهد.
(٦٨١) والرابع : أنّ نفرا ارتدّوا عن الإسلام ولحقوا بمكّة ، فنهى الله عن
ولايتهم ، وأنزل هذه الآية ، قاله مقاتل.
(٦٨٢) والخامس : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لمّا أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش ، قال أبو
بكر الصّديق : يا رسول الله ، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية ، ذكره أبو
سليمان الدّمشقي.
(قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ (٢٤))
قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الآية ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
(٦٨٣) أحدها : أنها نزلت في الذين تخلّفوا مع عيالهم بمكّة ولم يهاجروا ،
قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٦٨٤) والثاني : أنّ عليّ بن أبي طالب قدم مكّة ، فقال لقوم : ألا تهاجرون؟
فقالوا : نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن سيرين.
(٦٨٥) والثالث : أنه لمّا نزلت الآية التي قبلها ، قالوا : يا رسول الله ،
إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدّين ، قطعنا آباءنا وعشيرتنا ، وذهبت تجارتنا ،
وخربت ديارنا ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسّرين في هذه الآية ، وذكره بعضهم
في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس.
فأمّا العشيرة ،
فهم الأقارب الأدنون. وروى أبو بكر عن عاصم «وعشيراتكم» على الجمع. قال أبو عليّ :
وجهه أنّ كلّ واحد من المخاطبين له عشيرة ، فإذا جمعت قلت : عشيراتكم ؛ وحجّة من
أفرد : أنّ العشيرة واقعة على الجمع ، فاستغنى بذلك عن جمعها. وقال الأخفش : لا
تكاد العرب تجمع عشيرة : عشيرات ، إنما يجمعونها على عشائر. والاقتراف بمعنى
الاكتساب. والتّربّص : الانتظار.
وفي قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) قولان : أحدهما
: أنه فتح مكّة ،
قاله مجاهد والأكثرون ، ومعنى الآية : إن كان المقام في أهاليكم ، وكانت الأموال
التي اكتسبتموها (وَتِجارَةٌ
تَخْشَوْنَ كَسادَها) لفراقكم بلدكم (وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) من الهجرة ، فأقيموا غير مثابين ، حتى
____________________________________
(٦٨٠) أثر قتادة
لم أره ، وأثر مجاهد أخرجه الطبري ١٦٥٨٢.
(٦٨١) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو متهم بالكذب.
(٦٨٢) لم أقف
عليه.
(٦٨٣) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
٤٩٦ عن الكلبي بدون إسناد. وهو يضع الحديث.
(٦٨٤) مرسل تقدم
قبل أحاديث.
(٦٨٥) عزاه الحافظ
في «تخريج الكشاف» ٢ / ٢٥٧ للثعلبي عن مقاتل ، وهذا معضل ، ومقاتل متهم بالكذب.
تفتح مكّة ، فيسقط
فرض الهجرة. والثاني
: أنه العقاب ،
قاله الحسن.
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥))
قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ
كَثِيرَةٍ) أي : في أماكن. قال الفرّاء : وكلّ جمع كانت فيه ألف قبلها
حرفان وبعدها حرفان لم يجر ، مثل ، صوامع ، ومساجد : وجري «حنين» لأنه اسم لمذكّر
، وهو واد بين مكّة والطّائف ، وإذا سمّيت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكّر لا
علّة فيه ، أجريته ، من ذلك : حنين ، وبدر ، وحراء ، وثبير ، ودابق. ومعنى الآية :
أنّ الله عزوجل أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم. وفي عددهم
يوم حنين أربعة أقوال : أحدها
: أنهم كانوا ستّة
عشر ألفا ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : عشرة آلاف ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : كانوا اثني عشر ألفا ، قاله قتادة ، وابن زيد ، وابن إسحاق
، والواقدي. والرابع
: أحد عشر ألفا وخمسمائة
، قاله مقاتل. قال ابن عباس :
(٦٨٦) فقال ذلك
اليوم سلمة بن سلامة بن وقش ، وقد عجب لكثرة الناس : لن نغلب اليوم من قلّة ، فساء
رسول الله صلىاللهعليهوسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرّجل ، فذلك قوله تعالى (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً). وقال سعيد بن المسيّب : القائل لذلك أبو بكر الصّديق.
وحكى ابن جرير أنّ القائل لذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم . وقيل : بل العباس. وقيل : رجل من بني بكر.
قوله تعالى : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما
رَحُبَتْ) أي : برحبها. قال الفرّاء : والباء هاهنا بمنزلة «في» كما
تقول : ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها.
الإشارة إلى القصّة
قال أهل العلم
بالسّيرة : لمّا فتح رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكّة ، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف ، فجاؤوا حتى نزلوا
أوطاس ، وأجمعوا المسير إليه ، فخرج إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلمّا التقوا أعجبتهم كثرتهم فهزموا.
(٦٨٧) وقال البراء
بن عازب : لمّا حملنا عليهم انكشفوا ، فأكببنا على الغنائم ، فأقبلوا بالسّهام ،
فانكشف المسلمون عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
____________________________________
(٦٨٦) عزاه البغوي
في «التفسير» ٢ / ٣٢٨ للكلبي ، وهو متهم بالكذب. وورد من مرسل قتادة دون ذكر
القائل ، أخرجه الطبري ١٦٥٨٨. وورد من مرسل السدي ١٦٥٩٠ وفيهما «أن رجلا ...».
(٦٨٧) صحيح. أخرجه
البخاري ٢٠٤٢ ومسلم ١٧٧٦ والترمذي ١٦٨٨ والطيالسي ٢ / ١٠٨ وأحمد ٤ / ٢٨١ وأبي يعلى
١٧٢٧ والبيهقي في «السنن» ٩ / ١٥٥ والطبري ١٦٥٩٤ من حديث البراء.
__________________
وبعضهم يقول : ثبت
مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ،
والعباس ، وأبو سفيان بن الحارث. وبعضهم يقول : لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان.
(٦٨٨) فجعل النبيّ
يقول للعباس : «ناد : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة ، يا أصحاب سورة البقرة»
فنادى ، وكان صيّتا ، فأقبلوا كأنّهم الإبل إذا حنّت إلى أولادها ، يقولون : يا
لبّيك ، فنظر النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى قتالهم ، فقال : «الآن حمي الوطيس ، أنا النبيّ لا كذب
، أنا ابن عبد المطّلب» ثم قال للعباس : «ناولني حصيات» فناوله ، فقال : «شاهت
الوجوه» ورمى بها ، وقال : «انهزموا وربّ الكعبة» ، فقذف الله في قلوبهم الرّعب
فانهزموا.
(٦٨٩) وقيل : أخذ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم كفا من تراب ، فرماهم به فانهزموا. وكانوا يقولون : ما بقي
منّا أحد إلّا امتلأت عيناه بالتّراب.
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ
تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ
يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))
قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي : بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة : هي فعيلة من السّكون ،
وأنشد :
لله قبر غالها
ما ذا يجنّ
|
|
لقد أجنّ سكينة
ووقارا
|
وكذلك قال
المفسرون : الأمن والطمأنينة.
قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) قال ابن عباس : يعني الملائكة. وفي عددهم يومئذ ثلاثة
أقوال : أحدها
: ستة عشر ألفا ،
قاله الحسن. والثاني
: خمسة آلاف ، قاله
سعيد بن جبير. والثالث
: ثمانية ، قاله
مجاهد ، يعني : ثمانية آلاف. وهل قاتلت الملائكة يومئذ ، أم لا؟ فيه قولان. وفي
قوله تعالى : (وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أربعة أقوال : أحدها : بالقتل ، قاله ابن عباس والسّدّيّ. والثاني : بالقتل والهزيمة ، قاله ابن أبزى ومقاتل. والثالث : بالخوف والحذر ، ذكره الماوردي. والرابع : بالقتل والأسر وسبي الأولاد وأخذ الأموال ، ذكره بعض ناقلي
التّفسير.
قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
عَلى مَنْ يَشاءُ) أي : يوفّقه للتّوبة من الشّرك.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))
____________________________________
(٦٨٨) صحيح. أخرجه
مسلم ١٧٧٥ والنسائي في «الكبرى» ٨٦٥٣ وعبد الرزاق في «المصنف» ٩٧٤١ وأحمد ١ / ٢٠٧
وابن حبان ٧٠٤٩ والطبري ١٦٥٩١ وابن سعد في الطبقات ٤ / ١٨ و ١٩ والبغوي في «شرح
السنة» ٣٧١٠ من حديث العباس.
(٦٨٩) صحيح. أخرجه
الطبري ١٦٥٩٣ عن أبي عبد الرحمن الفهري به وأتم ... وأخرجه مسلم ١٧٧٧ وابن حبان
٦٥٢٠ من حديث سلمة بن الأكوع. وله شواهد.
__________________
قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قال أبو عبيدة : معناه : قذر. قال الزّجّاج : يقال لكلّ
شيء مستقذر : نجس. وقال الفرّاء : لا تكاد العرب تقول : نجس ، إلّا وقبلها رجس ،
فإذا أفردوها قالوا : نجس. وفي المراد بكونهم نجسا ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم أنجاس
الأبدان ، كالكلب والخنزير ، حكاه الماوردي عن الحسن ، وعمر بن عبد العزيز. وروى
ابن جرير عن الحسن قال : من صافحهم فليتوضّأ. والثاني : أنّهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة ، وإن
لم تكن أبدانهم أنجاسا ، قاله قتادة. والثالث : أنه لمّا كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس ، صاروا
بحكم الاجتناب كالأنجاس ، وهذا قول الأكثرين ، وهو الصّحيح.
قوله تعالى ؛ (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) قال أهل التّفسير : يريد جميع الحرم. (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهو سنة تسع من الهجرة ، وهي السّنة التي حجّ فيها أبو بكر
الصّديق وقرئت (براءة). وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية ، وأنه يحرم عليهم
دخول الحرم ، وهو قول مالك ، والشافعيّ. واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد
الحرام من المساجد ، فروي عنه المنع أيضا إلّا لحاجة ، كالحرم ، وهو قول مالك.
وروي عنه جواز ذلك ، وهو قول الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : يجوز لهم دخول المسجد
الحرام ، وسائر المساجد .
قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) وقرأ سعد بن أبي وقّاص ، وابن مسعود ، والشّعبيّ ، وابن
السّميفع : «عايلة».
(٦٩٠) قال سعيد بن
جبير : لمّا نزلت (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ
____________________________________
(٦٩٠) أخرجه
الطبري ١٦٦١٥ عن سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه من مرسل عكرمة ، برقم ١٦٦١٣ و ١٦٦١٤.
__________________
هذا)
شقّ على المسلمين
، وقالوا : من يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يقدمون عليهم بالتّجارة ، فنزلت (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قال الأخفش : العيلة : الفقر. يقال : عال يعيل عيلة : إذا
افتقر. وأعال إعالة فهو يعيل : إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة : العيلة ها هنا
مصدر عال فلان : إذا افتقر ، وأنشد :
وما يدري الفقير
متى غناه
|
|
وما يدري الغنيّ
متى يعيل
|
وللمفسّرين في
قوله : «وإن» قولان : أحدهما
: أنها للشرط ، وهو
الأظهر. والثاني
: أنها بمعنى «وإذ»
، قاله عمرو بن فائد. قالوا : وإنّما خاف المسلمون الفقر ، لأنّ المشركين كانوا
يحملون التّجارات إليهم ، ويجيئون بالطّعام وغيره. وفي قوله تعالى : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم ، فكثر
خيرهم ، قاله عكرمة. والثاني
: أنه أغناهم
بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب ، قاله قتادة ، والضّحّاك. والثالث : أنّ أهل نجد ، وجرش ، وأهل صنعاء أسلموا ، فحملوا الطعام
إلى مكّة على الظّهر ، فأغناهم الله به ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) قال ابن عباس : عليم بما يصلحكم (حَكِيمٌ) فيما حكم في المشركين.
(قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))
قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ) قال المفسّرون : نزلت في اليهود والنّصارى. قال الزّجّاج :
ومعناها : لا يؤمنون بالله إيمان الموحّدين ، لأنّهم أقرّوا بأنّه خالقهم وأنّه له
ولد ، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنّهم لا يقرّون بأنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون.
وقال الماوردي : إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه ، وهم لا يقرّون بها ،
فكانوا كمن لا يقرّ به.
قوله تعالى : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ
وَرَسُولُهُ) قال سعيد بن جبير : يعني الخمر والخنزير. قوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) في الحقّ قولان : أحدهما : أنه اسم الله ، فالمعنى : دين الله ، قاله قتادة. والثاني : أنه صفة للدّين ، والمعنى : ولا يدينون الدّين الحقّ ؛
فأضاف الاسم إلى الصّفة. وفي معنى «يدينون» قولان : أحدهما : أنه بمعنى الطّاعة ، والمعنى : لا يطيعون الله طاعة حقّ ،
قاله أبو عبيدة. والثاني
: أنه من : دان
الرجل يدين كذا : إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان : أحدهما : أنّ المعنى : لا يدخلون في دين محمّد صلىاللهعليهوسلم ، لأنه ناسخ لما قبله. والثاني : لا يعملون بما في التّوراة من اتّباع محمّد صلىاللهعليهوسلم.
قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) قال ابن الأنباري : الجزية : الخراج المجعول عليهم ؛ سمّيت
جزية ، لأنها قضاء لما عليهم ؛ أخذ من قولهم : جزى يجزي : إذا قضى ؛ ومنه قوله
تعالى : (لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) .
____________________________________
وأخرجه برقم ١٦٦٢ و
١٦٦٢١ عن الضحاك. أخرجه ١٦٦٢٢ عن مجاهد. وأخرجه ١٦٦١٧ عن عطية العوفي. والخلاصة :
هذه الروايات وإن كانت مراسيل فإنها تتأيد بمجموعها ، والله أعلم.
__________________
(٦٩١) وقوله صلىاللهعليهوسلم : «ولا تجزي عن أحد بعدك».
وفي قوله تعالى : (عَنْ يَدٍ) ستة أقوال : أحدها : عن قهر ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. وقال الزّجّاج : عن قهر
وذلّ. والثاني
: أنه النّقد
العاجل ، قاله شريك ، وعثمان بن مقسم. والثالث : أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء ، لا إعطاء المكافئ ، قاله ابن
قتيبة. والرابع
: أنّ المعنى : عن
اعتراف للمسلمين بأنّ أيديهم فوق أيديهم. والخامس : عن إنعام عليهم بذلك لأنّ قبول الجزية منهم إنعام عليهم ،
حكاهما الزّجّاج. والسادس
: يؤدّونها بأيديهم
، ولا ينفذونها مع رسلهم ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (وَهُمْ صاغِرُونَ) الصّاغر : الذّليل الحقير. وفي ما يكلّفونه من الفعل الذي
يوجب صغارهم خمسة أقوال : أحدها
: أن يمشوا بها
ملبّيين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أن لا يحمدوا على إعطائهم ، قاله سلمان الفارسيّ. والثالث : أن يكونوا قياما والآخذ جالسا ، قاله عكرمة. والرابع : أنّ دفع الجزية هو الصّغار. والخامس : أنّ إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصّغار.
فصل
: واختلف في الذين
تؤخذ منهم الجزية من الكفّار ، فالمشهور عن أحمد : أنها لا تقبل إلّا من اليهود
والنّصارى والمجوس ، وبه قال الشّافعيّ. ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد : أنه من سبي
من أهل الأديان من العرب والعجم ، فالعرب إن أسلموا ، وإلّا السيف ، وأولئك إن
أسلموا ، وإلّا الجزية ؛ فظاهر هذا أنّ الجزية تؤخذ من الكلّ ، إلّا من عابدي
الأوثان من العرب فقط ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك .
فصل
: فأمّا صفّة الذين
تؤخذ منهم الجزية ، فهم أهل القتال. فأمّا الزّمن ، والأعمى ، والمفلوج ، والشيخ
الفاني ، والنساء ، والصّبيان ، والرّاهب الذي لا يخالط الناس ، فلا تؤخذ منهم.
فصل
: فأمّا مقدارها ،
فقال أصحابنا : على الموسر : ثمانية وأربعون درهما ، وعلى المتوسّط : أربعة وعشرون
، وعلى الفقير المعتمل : اثنا عشر ، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك : على أهل
الذّهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعون درهما ، وسواء في ذلك الغنيّ
والفقير. وقال الشّافعيّ : على الغنيّ والفقير دينار. وهل تجوز الزيادة والنّقصان
ممّا يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد : أنها تزاد وتنقص على قدر طاقتهم ، فظاهر هذا
: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه. ونقل يعقوب بن بختان : أنه
____________________________________
(٦٩١) صحيح. أخرجه
البخاري ٩٧٦ ومسلم ١٩٦١ والطبراني في «الأوسط» ٣٠٣٦. كلهم من حديث البراء رضي الله
عنه قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ، ثم نرجع فننحر ،
من فعله فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في
شيء». فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال : إن عندي جذعة فقال : «اذبحها ولن تجزي
عن أحد بعدك». لفظ البخاري.
__________________
لا يجوز للإمام أن
ينقص من ذلك ، وله أن يزيد.
فصل
: ووقت وجوب الجزية
: آخر الحول ، وبه قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : تجب في أول الحول. فأما إذا
دخلت سنة في سنة ، فهل تسقط جزية السّنة الماضية؟ عندنا لا تسقط ، وقال أبو حنيفة
: تسقط. فأما إذا أسلم ، فإنها تسقط بالإسلام. فأمّا إن مات ؛ فكان ابن حامد يقول
: لا تسقط. وقال القاضي أبو يعلى : يحتمل أن تسقط.
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً
مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا
إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١))
قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : «عزير
ابن الله» بغير تنوين. وقرأ عاصم ، والكسائيّ ، ويعقوب ، وعبد الوارث عن أبي عمرو
: منوّنا. قال مكّي بن أبي طالب : من نوّن عزيرا رفعه على الابتداء ، و «ابن»
خبره. ولا يحسن حذف التّنوين على هذا من «عزير» لالتقاء السّاكنين. ولا تحذف ألف «ابن»
من الخطّ ، ويكسر التنوين لالتقاء السّاكنين. ومن لم ينوّن «عزيرا» جعله أيضا
مبتدأ ، و «ابن» صفة له ؛ فيحذف التّنوين على هذا استخفافا لالتقاء السّاكنين ،
ولأنّ الصّفة مع الموصوف الشيء الواحد ، وتحذف ألف «ابن» من الخطّ ، والخبر مضمر
تقديره : عزير بن الله نبيّنا وصاحبنا.
(٦٩٢) وسبب نزولها
أن سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصّيف ، أتوا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أنّ
عزير ابن الله؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس. وقال ابن عمر ، وابن جريج : إنّ
القائل لذلك فنحاص.
فأما عزير ، فقال
شيخنا أبو منصور اللغوي : هو اسم أعجميّ معرب ، وإن وافق لفظ العربية ، فهو
عبرانيّ ؛ كذا قرأته عليه. وقال مكّيّ بن أبي طالب : العزير عند كلّ النّحويين :
عربيّ مشتق من قوله : يعزّروه. وقال ابن عباس : إنّما قالوا ذلك ، لأنهم لمّا
عملوا بغير الحقّ ، أنساهم الله التّوراة ، ونسخها من صدورهم ، فدعا عزير الله
تعالى ؛ فعاد إليه الذي نسخ من صدورهم ، ونزل نور من السماء فدخل جوفه ، فأذّن في
قومه فقال : قد آتاني الله التّوراة ؛ فقالوا : ما أوتيها إلّا لأنه ابن الله. وفي
رواية أخرى عن ابن عباس : أنّ بختنصّر لمّا ظهر على بني إسرائيل ، وهدم بيت المقدس
، وقتل من قرأ التّوراة ، كان عزير غلاما ، فتركه. فلما توفّي عزير ببابل ، ومكث
مائة عام ، ثم بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل ، فقال : أنا عزير ؛ فكذّبوه
وقالوا : قد حدّثنا آباؤنا أنّ عزيرا مات ببابل ، فإن كنت عزيرا فأملل علينا
التّوراة ؛ فكتبها لهم ؛ فقالوا : هذا ابن الله. وفي الذين قالوا هذا عن عزير
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم
____________________________________
(٦٩٢) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٦٦٣٥ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد ، وهو مجهول.
وانظر «تفسير
البغوي» ١٠٥٧ بتخريجنا.
جميع بني إسرائيل
، روي عن ابن عباس. والثاني
: طائفة من سلفهم ،
قاله الماوردي. والثالث
: جماعة كانوا على
عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفيهم قولان : أحدهما : فنحاص وحده ، وقد ذكرناه عن ابن عمر ، وابن جريج. والثاني : الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس.
فإن قيل : إن كان
قول بعضهم ، فلم أضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان :
أحدهما
: أنّ إيقاع اسم
الجماعة على الواحد معروف في اللغة ، تقول العرب : جئت من البصرة على البغال ، وإن
كان لم يركب إلّا بغلا واحدا. والثاني
: أنّ من لم يقله ،
لم ينكره.
قوله تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ
اللهِ) في سبب قولهم هذا قولان :
أحدهما
: لكونه ولد من غير
ذكر.
والثاني
: لأنه أحيى الموتى
، وأبرأ الكمه والبرص ؛ وقد شرحنا هذا المعنى في (المائدة).
قوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) إن قال قائل : هذا معلوم ، فما فائدته؟ فالجواب : أنّ معنى
إنه قول بالفم ، لا بيان فيه ولا برهان ولا تحته معنى صحيح ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (يُضاهِؤُنَ) قرأ الجمهور : من غير همز. وقرأ عاصم : «يضاهئون». قال
ثعلب : لم يتابع عاصما أحد على الهمز. قال الفرّاء : وهي لغة. قال الزّجّاج :
يضاهون : يشابهون قول من تقدّمهم من كفرتهم ، فإنّما قالوه اتّباعا لمتقدّميهم.
وأصل المضاهاة في اللغة : المشابهة ؛ والأكثر ترك الهمز ؛ واشتقاقه من قولهم :
امرأة ضهياء ، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل : هي التي لا تحيض ، والمعنى : أنها
قد أشبهت الرّجال. قال ابن الأنباري : يقال : ضاهيت ، وضاهأت : إذا شبّهت. وفي (الَّذِينَ كَفَرُوا) ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم عبدة الأوثان ، والمعنى : أنّ أولئك قالوا : الملائكة
بنات الله ، قاله ابن عباس. والثاني
: أنهم اليهود ،
فالمعنى : أنّ النّصارى في قولهم : المسيح ابن الله ، شابهوا اليهود في قولهم :
عزير ابن الله ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. والثالث : أنهم أسلافهم ، تابعوهم في أقوالهم تقليدا ، قاله الزّجّاج
، وابن قتيبة. وفي قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : لعنهم الله ، قاله ابن عباس : والثاني : قتلهم الله ، قاله أبو عبيدة. والثالث : عاداهم الله ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : من أين يصرفون عن الحقّ.
قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) قد سبق في (المائدة) معنى الأحبار والرّهبان.
(٦٩٣) وقد روي عن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : «أما إنّهم لم يكونوا
يعبدونهم ،
____________________________________
(٦٩٣) يشبه الحسن
، أخرجه الترمذي ٣٠٩٥ والطبري ١٦٦٤٦ و ١٦٦٤٧ و ١٦٦٤٨ والطبراني ١٧ / ٩٢ / ٢١٨
والبيهقي ١٠ / ١١٦ والسهمي في «تاريخ جرجان» ١١٦٢ من طرق متعددة عن عبد السلام بن
حرب عن غطيف بن أعين الجزري عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم به ، وإسناده ضعيف ،
مداره على غطيف بن أعين الجزري ، وهو ضعيف كما في «التقريب». وقال الذهبي في «الميزان»
: ضعفه الدارقطني.
ـ وضعفه الترمذي بقوله : غريب ، وغطيف ليس بمعروف
في الحديث. وذكر الحافظ في «التهذيب» ٢٢٥١٨ كلام الترمذي ، وقال : ذكره ابن حبان
في الثقات. وقال الدارقطني : ضعيف.
ـ قلت : حسنه الألباني في «صحيح الترمذي» ٢٤٧١ ،
ولم يعز الكلام عليه إلى موضع آخر ، ولم يذكر مستنده
ولكنّهم كانوا إذا
أحلّوا لهم شيئا استحلّوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه» . فعلى هذا المعنى : إنّهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا :
إنّهم أرباب.
قوله تعالى : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) قال ابن عباس : اتخذوه ربّا.
(يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢))
قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) قال ابن عباس : يخمدوا دين الله بتكذيبهم ، يعني : أنّهم
يكذّبون به ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. وقال الحسن وقتادة : نور الله :
القرآن والإسلام. فأمّا تخصيص ذلك بالأفواه ، فلما ذكرنا في الآية قبلها. وقيل :
إنّ الله تعالى لم يذكر قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلّا وهو زور. قوله تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ) قال الفرّاء : إنّما دخلت «إلا» ها هنا ، لأنّ في الإباء
طرفا من الجحد ، ألا ترى أنّ «أبيت» كقولك : «لم أفعل» ، فكأنه بمنزلة قولك : ما
ذهب إلّا زيد ، قال الشاعر :
فهل لي أمّ
غيرها إن تركتها
|
|
أبى الله إلّا
أن أكون لها ابنما
|
وقال الزّجّاج :
المعنى : ويأبى الله كلّ شيء إلّا إتمام نوره. قال مقاتل : «يتم نوره» أي : يظهر
دينه.
(هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) يعني محمّدا صلىاللهعليهوسلم (بِالْهُدى) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها :
____________________________________
في تحسينه إياه!
إلا أن يكون أخذ بقول ابن كثير في «التفسير» ٢ / ٣٦٢ وفي نسخة ٢ / ٤٣٢ حيث قال :
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم. فذكر ابن كثير حديثا
طويلا ، وذكر فيه لفظ المصنف. وبحثت في مسند أحمد ومعجم الطبراني حديثا حديثا ،
فلم أجد في خبر إسلام عدي المطول ، ما رواه غطيف هذا. فالصواب أن هذا اللفظ لم يرد
من طرق ، وليس له إلا هذا الطريق. والذي ورد من طرق إنما هو قصة إسلامه بغير هذا
اللفظ. فهذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف. والله أعلم.
ـ وورد تفسير الآية الكريمة بمثل الحديث المرفوع
عن حذيفة بن اليمان من قوله. أخرجه الطبري ١٦٦٤٩ و ١٦٦٥٠ و ١٦٦٥١ و ١٦٦٥٣ من طرق
عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عن حذيفة ، وإسناده ضعيف ، حبيب كثير الإرسال
والتدليس ، ولم يصرح في هذه الروايات بالتحديث. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي ١٠ /
١١٦. لكن تابعه عطاء بن السائب برقم ١٦٦٥٨ وهو ضعيف لكن يصلح للاعتبار بحديثه.
وله شاهد عن ابن
عباس قوله ، أخرجه الطبري ١٦٦٥٦ وهو منقطع ، السدي لم يلق ابن عباس. فلعل من حسنه
لأجل هذه الروايات الموقوفة. والله أعلم ، والأشبه أنه بين الضعيف والحسن ، والله
أعلم.
__________________
أنه التّوحيد. والثاني : القرآن. والثالث
: تبيان الفرائض.
فأمّا دين الحق ، فهو الإسلام. وفي قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ) قولان : أحدهما
: أنّ الهاء عائدة
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فالمعنى : ليعلّمه شرائع الدّين كلّها ، فلا يخفى عليه
منها شيء ، قاله ابن عباس. والثاني
: أنها راجعة إلى
الدّين. ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : ليظهر هذا الدّين على سائر الملل. ومتى يكون ذلك؟ فيه
قولان : أحدهما
: عند نزول عيسى عليهالسلام ، فإنّه يتبعه أهل كلّ دين ، وتصير الملل واحدة ، فلا يبقى
أهل دين إلّا دخلوا في الإسلام أو أدّوا الجزية ، قاله أبو هريرة ، والضّحّاك. والثاني : أنه عند خروج المهديّ. قاله السّدّيّ. والقول الثاني : أنّ إظهار الدّين إنّما هو بالحجج الواضحة ، وإن لم يدخل
الناس فيه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤))
قوله تعالى : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) الأحبار من اليهود ، والرّهبان من النّصارى. وفي الباطل
أربعة أقوال : أحدها
: أنه الظّلم ،
قاله ابن عباس. والثاني
: الرّشا في الحكم
، قاله الحسن. والثالث
: الكذب ، قاله أبو سليمان. والرابع : أخذه من الجهة المحظورة ، قاله القاضي أبو يعلى : والمراد
: أخذ الأموال ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود من المال. وفي المراد بسبيل
الله ها هنا قولان : أحدهما
: الإيمان برسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثاني : أنه الحقّ في الحكم. قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها نزلت عامّة
في أهل الكتاب والمسلمين ، قاله أبو ذرّ ، والضّحّاك. والثاني : أنها خاصّة في أهل الكتاب ، قاله معاوية بن أبي سفيان. والثالث : أنها في المسلمين ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. وفي الكنز
المستحقّ عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ما لم تؤدّ زكاته.
(٦٩٤) قال ابن عمر
: كلّ مال أدّيت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز ، وكلّ مال لا
____________________________________
(٦٩٤) موقوف صحيح.
وورد مرفوعا وهو ضعيف جدا. أخرجه البيهقي ٤ / ٨٢ بإسناد صحيح عن ابن عمر موقوفا ،
وقال هذا هو الصحيح موقوف ، وقد روى سويد بن عبد العزيز وليس بالقوي مرفوعا ، ثم
ساق إسناده اه.
وسويد هذا ضعيف
متروك الحديث. وتوبع فقد أخرجه البيهقي ٤ / ٨٣ من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا وقال
: ليس هذا بمحفوظ ، والمشهور عن ابن عمر موقوفا. اه. وفي إسناده محمد بن كثير
المصيصي الثقفي وهو ضعيف ، فالراجح الوقف عليه ، كما قال البيهقي رحمهالله. وأخرجه الطبري ١٦٦٦٨ عن ابن عمر وكرره ١٦٦٦٦ بنحوه. انظر «تفسير
ابن كثير» بتخريجنا عند هذه الآية.
__________________
تؤدّى زكاته فهو
كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض ، وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. فعلى هذا ، معنى
الإنفاق : إخراج الزّكاة. والثاني
: أنه ما زاد على
أربعة آلاف ، روي عن عليّ بن أبي طالب أنه قال : أربعة آلاف نفقة ، وما فوقها كنز.
والثالث
: ما فضل عن الحاجة
، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالزّكاة.
فإن قيل : كيف قال
: «ينفقونها» وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان :
أحدهما
: أنّ المعنى :
يرجع إلى الكنوز والأموال.
والثاني
: أنه يرجع إلى
الفضّة ، وحذف الذّهب ، لأنه داخل في الفضّة ، قال الشاعر :
نحن بما عندنا
وأنت بما
|
|
عندك راض
والرّأي مختلف
|
يريد : نحن بما
عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض ، ذكر القولين الزّجّاج. وقال الفرّاء : إن شئت
اكتفيت بأحد المذكورين ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) ، وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) ، وأنشد :
إنّي ضمنت لمن
أتاني ما جنى
|
|
وأبى وكان وكنت
غير غدور
|
ولم يقل : غدورين
، وإنما اكتفى بالواحد لاتّفاق المعنى. قال أبو عبيدة : والعرب إذا أشركوا بين
اثنين قصروا ، فخبّروا عن أحدهما استغناء بذلك ، وتحقيقا ؛ لمعرفة السّامع بأنّ
الآخر قد شاركه ، ودخل معه في ذلك الخبر ، وأنشد :
فمن يك أمسى
بالمدينة رحله
|
|
فإني وقيّار بها
لغريب
|
والنّصب في «قيّار»
أجود ، وقد يكون الرّفع. وقال حسّان بن ثابت :
إنّ شرخ الشّباب
والشّعر الأس
|
|
ود ما لم يعاص
كان جنونا
|
ولم يقل : يعاصيا.
(يَوْمَ يُحْمى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ (٣٥))
قوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) أي : على الأموال.
(٦٩٥) قال ابن
مسعود : والله ما من رجل يكوى بكنز ، فيوضع دينار على دينار ولا درهم على
____________________________________
(٦٩٥) موقوف صحيح.
أخرجه الطبري ١٦٦٩٧ و ١٦٦٩٨ والطبراني ٨٧٥٤ عن ابن مسعود موقوفا وهو صحيح.
__________________
درهم ، ولكن يوسّع
جلده ، فيوضع كلّ دينار. ودرهم على حدته. وقال ابن عباس : هي حيّة تنطوي على جنبيه
وجبهته ، فتقول : أنا مالك الذي بخلت به .
قوله تعالى : (هذا ما كَنَزْتُمْ) فيه محذوف تقديره : ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي : عذاب ذلك. فإن قيل : لم خصّ الجباه والجنوب والظّهور
من بقيّة البدن؟ فالجواب : أنّ هذه المواضع مجوّفة ، فيصل الحرّ إلى أجوافها ،
بخلاف اليد والرّجل.
(٦٩٦) وكان أبو
ذرّ يقول : بشّر الكنّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيّ في الظّهور ، حتى
يلتقي الحرّ في أجوافهم. وجواب آخر : وهو أنّ الغنيّ إذا رأى الفقير ، انقبض ؛
وإذا ضمّه وإيّاه مجلس ، ازورّ عنه وولّاه ظهره ، قاله أبو بكر الورّاق.
(إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما
يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦))
قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) قال المفسّرون : نزلت هذه الآية من أجل النّسيء الذي كانت
العرب تفعله ، فربّما وقع حجّهم في رمضان ، وربّما وقع في شوّال ، إلى غير ذلك ؛
وكانوا يستحلّون المحرّم عاما ، ويحرّمون مكانه صفر ، وتارة يحرّمون المحرّم
ويستحلّون صفر. قال الزّجّاج : أعلم الله عزوجل أنّ عدد شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوه لسنتهم :
اثنا عشر شهرا على منازل القمر ؛ فجعل حجّهم وأعيادهم على هذا العدد ، فتارة يكون
الحجّ والصّوم في الشتاء ، وتارة في الصّيف ، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب ، فإنّهم
يعملون على أنّ السّنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وبعض يوم. وجمهور القرّاء
على فتح عين «اثنا عشر». وقرأ أبو جعفر : اثنا عشر ، وأحد عشر ، وتسعة عشر ، بسكون
العين فيهن.
قوله تعالى : (فِي كِتابِ اللهِ) أي : في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس : في الإمام الذي عند
الله ، كتبه (يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) وفيها قولان : أحدهما : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، قاله
الأكثرون. وقال القاضي أبو يعلى : إنما سمّاها حرما لمعنيين. أحدهما : تحريم القتال فيها ، وقد كان أهل الجاهليّة يعتقدون ذلك
أيضا. والثاني
: لتعظيم انتهاك
المحارم فيها أشدّ من تعظيمه في غيرها ، وكذلك تعظيم الطّاعات فيها. والثاني : أنها الأشهر التي أجّل المشركون فيها للسّياحة ، ذكره ابن
قتيبة.
____________________________________
(٦٩٦) هو بعض حديث
أخرجه البخاري ١٤٠٧ ومسلم ٩٩٢ وأحمد ٥ / ١٦٠ وابن حبان ٣٢٦٠ من حديث أبي ذر وسياقه
الوقف لكن أشار أبو ذر عقبة لرفعه ، والله أعلم.
__________________
قوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) فيه قولان : أحدهما : ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس. والثاني : ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي ، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) اختلفوا في كناية «فيهنّ» على قولين : أحدهما : أنّها تعود على الاثني عشر شهرا ، قاله ابن عباس. فعلى هذا
يكون المعنى : لا تجعلوا حرامها حلالا ، ولا حلالها حراما ، كفعل أهل النّسيء. والثاني : أنها ترجع إلى الأربعة الحرم ، وهو قول قتادة ، والفرّاء ؛
واحتجّ بأنّ العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة : لثلاث ليال خلون ، وأيام
خلون ؛ فإذا جزت العشرة قالوا : خلت ومضت ؛ ويقولون لما بين الثّلاثة إلى العشرة :
هنّ ، وهؤلاء ؛ فإذا جزت العشرة ، قالوا : هي ، وهذه : إرادة أن تعرف سمة القليل
من الكثير. وقال ابن الأنباري : العرب تعيد الهاء والنّون على القليل من العدد ،
والهاء والألف على الكثير منه ؛ والقلّة : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، والكثرة :
ما جاوز العشرة. يقولون : وجّهت إليك أكبشا فاذبحهنّ ، وكباشا فاذبحها ؛ فلهذا قال
: (مِنْها أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ) ؛ وقال : (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَ) لأنه يعني بقوله تعالى : «فيهن» الأربعة. ومن قال من
المفسّرين : إنه يعني بقوله تعالى «فيهن» الاثني عشر ، فإنه ممكن ؛ لأنّ العرب
ربّما جعلت علامة القليل للكثير ، وعلامة الكثير للقليل. وعلى قول من قال : ترجع «فيهن»
إلى الأربعة ؛ يخرّج في معنى الظّلم فيهنّ أربعة أقوال : أحدها : أنه المعاصي ؛ فتكون فائدة تخصيص النّهي عنه بهذه الأشهر ،
أنّ شأن المعاصي يعظم فيها أشدّ من تعظيمه في غيرها ، وذلك لفضلها على ما سواها ،
كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة ، وقوله : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة ، وقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ
فِي الْحَجِ) وإن كان منهيا عنه في غير الحجّ ، وكما أمر بالمحافظة على
الصّلاة الوسطى وإن كان مأمورا بالمحافظة على غيرها ، هذا قول الأكثرين. والثاني : أنّ المراد بالظّلم فيهنّ فعل النّسيء ، وهو تحليل شهر
محرّم ، وتحريم شهر حلال ، قاله ابن إسحاق. والثالث : أنه البداية بالقتال فيهن ؛ فيكون المعنى : فلا تظلموا
أنفسكم بالقتال فيهنّ إلّا أن تبدؤوا بالقتال ، قاله مقاتل. والرابع : أنه ترك القتال فيهنّ ؛ فيكون المعنى : فلا تظلموا فيهنّ
أنفسكم بترك المحاربة لعدوّكم ، قاله ابن بحر ، وهو عكس قول مقاتل. والسّرّ في أنّ
الله تعالى عظّم بعض الشّهور على بعض ، ليكون الكفّ عن الهوى فيها ذريعة إلى
استدامة الكفّ في غيرها تدريجا للنّفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا.
(إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما
حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ (٣٧))
قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي
الْكُفْرِ) الجمهور على همز النّسيء ومدّه وكسر سينه. وروى شبل عن ابن
كثير : «النّسء» على وزن النسع. وفي رواية أخرى عن شبل : «النّسيّ» مشدّدة الياء
من غير همز ، وهي قراءة أبي جعفر ؛ والمراد بالكلمة التّأخير. قال اللغويون :
النّسيء : تأخير الشّيء.
__________________
وكانت العرب تحرّم
الأشهر الأربعة ، وكان هذا ممّا تمسّكت به من ملّة إبراهيم ؛ فربّما احتاجوا إلى
تحليل المحرّم للحرب تكون بينهم ، فيؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر ، ثم يحتاجون إلى
تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده ؛ ثم تتدافع الشّهور شهرا بعد شهر حتى يستدير
التحريم على السنّة كلّها ، فكأنهم يستنسئون الشهر الحرام ويستقرضونه ، فأعلم الله
تعالى أنّ ذلك زيادة في كفرهم لأنّهم أحلّوا الحرام وحرّموا الحلال (لِيُواطِؤُا) أي ليوافقوا (عِدَّةَ ما حَرَّمَ
اللهُ) فلا يخرجون من تحريم أربعة ، ويقولون : هذه بمنزلة الأربعة
الحرم ، ولا يبالون بتحليل الحرام وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلّا
في ذي الحجّة إذا اجتمعت العرب للموسم ، قال الفرّاء : كانت العرب في الجاهلية إذا
أرادوا الصّدر عن منى قام رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس
الموسم ، فيقول : أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لي قضاء ؛ فيقولون : أنسئنا
شهرا ؛ يريدون : أخّر عنّا حرمة المحرّم ، واجعلها في صفر ، فيفعل ذلك. وإنما
دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها ، وإنّما كان معاشهم من
الإغارة ، فتستدير الشّهور كما بيّنّا. وقيل : إنّما كانوا يستحلّون المحرّم عاما
، فإذا كان من قابل ردّوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد : والتّفسير الأول أحبّ إليّ ،
لأنّ هذا القول ليس فيه استدارة.
(٦٩٧) وقال مجاهد
: كان أول من أظهر النّسيء جنادة بن عوف الكناني ، فوافقت حجّة أبي بكر ذا القعدة.
ثم حجّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم في العام المقابل في ذي الحجّة ، فذلك حين قال : «ألا إنّ
الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض». وقال الكلبيّ : أوّل من
فعل ذلك نعيم بن ثعلبة.
قوله تعالى : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ، وأبو بكر عن
عاصم : «يضل» بفتح الياء وكسر الضاد ، والمعنى : أنهم يكتسبون الضّلال به. وقرأ
حمزة والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «يضلّ» بضمّ الياء وفتح الضاد على ما لم يسمّ
فاعله. وقرأ الحسن البصريّ ، ويعقوب إلّا الوليد : «يضلّ» بضمّ الياء وكسر الضاد ؛
وفيه ثلاثة أوجه : أحدها
: يضلّ الله به. والثاني : يضلّ الشيطان به ، ذكرهما ابن القاسم. والثالث : يضلّ به الذين كفروا الناس ، لأنهم الذين سنّوه لهم. قال
أبو عليّ : التقدير : يضلّ به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم : الهاء في «به»
راجعة إلى النّسيء ، وأصل النّسيء : المنسوء ، أي : المؤخّر ، فينصرف عن «مفعول»
إلى «فعيل» كما قيل : مطبوخ وطبيخ ، ومقدور وقدير ، قال : وقيل : الهاء راجعة إلى
الظّلم ، لأنّ النّسيء كشف تأويل الظّلم ، فجرى مجرى المظهر ؛ والأوّل اختيارنا.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ
إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨))
قوله تعالى : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا).
____________________________________
(٦٩٧) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٧٢٨ عن مجاهد مرسلا. والمرفوع منه أخرجه البخاري ٦٧ و ١٠٥ و ١٧٤١ و ٣١٩٧ و
٤٤٠٦ و ٤٦٦٢ و ٥٥٥٠ و ٧٤٤٧ ومسلم ١٦٧٩ وأبو داود ١٩٤٨ وابن ماجة ٢٣٣ وابن حبان
٤٨٤٨ وأحمد ٥ / ٣٩ من حديث أبي بكرة ، وله شواهد كثيرة.
(٦٩٨) قال
المفسّرون : لمّا أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بغزوة تبوك ، وكان في زمن عسرة وجدب وحرّ شديد ، وقد طابت
الثّمار ، عظم ذلك على الناس وأحبّوا المقام ، فنزلت هذه الآية.
وقوله تعالى : (ما لَكُمْ) استفهام معناه التّوبيخ. وقوله تعالى : (انْفِرُوا) معناه : اخرجوا ، وأصل النّفر : مفارقة مكان إلى مكان آخر
لأمر هاج إلى ذلك. وقوله تعالى : (اثَّاقَلْتُمْ) قال ابن قتيبة : أراد : تثاقلتم ، فأدغم التاء في الثاء ،
وأحدثت الألف ليسكّن ما بعدها ، وأراد : قعدتم. وفي قراءة ابن مسعود ، والأعمش : «تثاقلتم».
وفي معنى (إِلَى الْأَرْضِ) ثلاثة أقوال : أحدها : تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها ، قاله
مجاهد. والثاني
: اطمأننتم إلى
الدنيا ، قاله الضّحّاك. والثالث
: تثاقلتم إلى
الإقامة بأرضكم ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بنعيمها من نعيم الآخرة ، فما يتمتّع به في الدنيا
قليل بالإضافة إلى ما يتمتّع به الأولياء في الجنّة.
(إِلاَّ تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا
تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))
قوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ).
(٦٩٩) سبب نزولها
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمّا حثّهم على غزو الرّوم تثاقلوا ، فنزلت هذه الآية ،
قاله ابن عباس. وقال قوم : هذه خاصّة فيمن استنفره رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلم ينفر.
(٧٠٠) قال ابن
عباس : استنفر رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، فأمسك عنهم المطر فكان
عذابهم.
وفي قوله تعالى : (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) وعيد شديد في التّخلّف عن الجهاد ، وإعلام بأنه يستبدل
لنصر نبيّه قوما غير متثاقلين. ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضرّوه ، كما لم
يضرره ذلك إذ كان بمكّة. وفي هاء «تضرّوه» قولان :
أحدهما
: أنها ترجع إلى
الله ، والمعنى : لا تضرّوا الله بترك النّفير ، قاله الحسن.
والثاني
: أنها ترجع إلى
رسول الله. فالمعنى : لا تضرّوه بترك نصره ، قاله الزّجّاج.
فصل
: وقد روي عن ابن
عباس ، والحسن ، وعكرمة ، قالوا : نسخ قوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا
____________________________________
(٦٩٨) ذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٥٠٢ بدون إسناد.
وأخرجه الطبري
١٦٧٣٤ و ١٦٧٣٥ عن مجاهد مرسلا بنحوه.
(٦٩٩) هو معنى
المتقدم ، لأن غزوة تبوك كان المراد بها الروم.
(٧٠٠) باطل. أخرجه
أبو داود ٢٥٠٦ والحاكم ٢ : ١١٨ والطبري ١٦٧٣٦ والبيهقي ٩ : ٤٨ من رواية عبد المؤمن
عن نجدة بن نفيع عن ابن عباس ، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ومداره على نجدة ،
وهو مجهول ، والمتن باطل ، إذ لم يحصل ذلك ، ثم إن العذاب الأليم ليس بحبس المطر ،
لأنهم يمكنهم الانتقال إلى موضع آخر ، والمراد عذاب مهلك ، أو عذاب النار.
يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً أَلِيماً) بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً) . وقال أبو سليمان الدّمشقي : ليس هذا من المنسوخ ، إذ لا
تنافي بين الآيتين ، وإنّما حكم كلّ آية قائم في موضعها. وذكر القاضي أبو يعلى عن
بعض العلماء أنهم قالوا : ليس ها هنا نسخ ، ومتى لم يقاوم أهل الثّغور العدوّ ،
ففرض على الناس النّفير إليهم ، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم ، عذر القاعدون
عنهم. وقال قوم : هذا في غزوة تبوك ، ففرض على الناس النّفير مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ
هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))
قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي : بالنّفير معه (فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ) إعانة على أعدائه ، (إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) ؛ فأعلمهم أنّ نصره ليس بهم.
قوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) العرب تقول : هو ثاني اثنين ، أي : أحد الاثنين ، وثالث
ثلاثة ، أي : أحد الثلاثة ، قال الزّجّاج : وقوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) منصوب على الحال ؛ المعنى : فقد نصره الله أحد اثنين ، أي
: نصره منفردا إلّا من أبي بكر ، وهذا معنى قول الشّعبيّ : عاتب الله أهل الأرض
جميعا في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير : المعنى : أخرجوه وهو أحد الاثنين
، وهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر. فأمّا الغار ، فهو ثقب في الجبل ، وقال ابن فارس
: الغار : الكهف ، والغار : نبت طيّب الرّيح ، والغار : الجماعة من الناس ،
والغاران : البطن والفرج ، وهما الأجوفان ، يقال : إنما هو عبد غاريه قال الشاعر :
ألم تر أنّ
الدّهر يوم وليلة
|
|
وأنّ الفتى يسعى
لغاريه دائبا
|
قال قتادة : وهذا
الغار في جبل بمكّة يقال له : ثور. قال مجاهد : مكثا فيه ثلاثا. وقد ذكرت حديث
الهجرة في كتاب «الحدائق».
__________________
(٧٠١) قال أنس بن
مالك : أمر الله عزوجل شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسترته ، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه ، وأمر حمامتين
وحشيّتين فوقعتا في فم الغار ، فلمّا دنوا من الغار ، عجل بعضهم لينظر ، فرأى
حمامتين ، فرجع فقال : رأيت حمامتين على فم الغار ، فعلمت أنه ليس فيه أحد.
(٧٠٢) وقال مقاتل
: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال : هذه قدم ابن أبي قحافة ، والأخرى لا أعرفها
، إلا أنّها تشبه القدم التي في المقام. وصاحبه في هذه الآية أبو بكر.
(٧٠٣) وكان أبو
بكر قد بكى لمّا مرّ المشركون على باب الغار ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما»؟
وفي السّكينة
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها الرّحمة ،
قاله ابن عباس. والثاني
: الوقار ، قاله
قتادة. والثالث
: السّكون
والطّمأنينة ، قاله ابن قتيبة ، وهو أصحّ. وفي هاء «عليه» ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى أبي بكر ، وهو قول عليّ بن أبي طالب ، وابن
عباس ، وحبيب بن أبي ثابت. واحتجّ من نصر هذا القول بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان مطمئنا. والثاني : أنها ترجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، قاله مقاتل. والثالث : أنّ الهاء ها هنا في معنى تثنية ، والتقدير : فأنزل الله
سكينته عليهما ، فاكتفى بإعادة الذّكر على أحدهما من إعادته عليهما ، كقوله تعالى
: (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُ) أي : قوّاه ، يعني النبيّ صلىاللهعليهوسلم بلا خلاف. (بِجُنُودٍ لَمْ
تَرَوْها) وهم الملائكة. ومتى كان ذلك؟ فيه قولان : أحدهما : يوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، قاله ابن عباس. والثاني : لمّا كان في الغار ، صرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم
عن رؤيته ، قاله الزّجّاج. فإن قيل : إذا وقع الاتّفاق أنّ هاء الكناية في «أيده»
ترجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فكيف تفارقها هاء «عليه» وهما متفقان في نظم الكلام؟
فالجواب : أنّ كلّ
حرف يردّ إلى الأليق به ، والسّكينة إنّما يحتاج إليها المنزعج ، ولم يكن النبيّ صلىاللهعليهوسلم منزعجا. فأمّا التّأييد بالملائكة ، فلم يكن إلّا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ونظير هذا قوله تعالى : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) يعني النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، (وَتُسَبِّحُوهُ) يعني الله عزوجل.
____________________________________
(٧٠١) أخرجه ابن
سعد في «الطبقات» ١ / ٢٢٩ عن أبي مصعب المكي عن أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة
بن شعبة. وفي سنده ضعيف ومجهول. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٦ / ٥٢ ـ ٥٣
وقال : رواه البزار والطبراني ، وفيه جماعة لم أعرفهم.
(٧٠٢) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، والخبر باطل.
(٧٠٣) كون أبي بكر
بكى في الغار لم أقف عليه ، والذي في «الصحيحين» أن أبا بكر بكى لما تبعهما سراقة.
والمرفوع من هذا
الحديث صحيح ، أخرجه البخاري ٣٦٥٣ و ٣٩٢٢ ومسلم ٢٣٨١ وابن أبي شيبة ١٢ / ٧ وأحمد ١
/ ٤ وابن سعد ٣ / ١٧٣ و ١٧٤ والترمذي ٣٠٩٦ وأبو يعلى ٦٧ وابن حبان ٦٢٧٨ عن أنس :
أن أبا بكر حدثهم قال : قلت للنبي صلىاللهعليهوسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا ، فقال
: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
__________________
قوله تعالى : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا
السُّفْلى) فيها قولان : أحدهما : أنّ كلمة الكافرين الشّرك ، جعلها الله السّفلى لأنّها
مقهورة ، وكلمة الله وهي التّوحيد ، هي العليا ، لأنها ظهرت ، هذا قول الأكثرين. والثاني : أنّ كلمة الكافرين ما قدّروا بينهم في الكيد به ليقتلوه ،
وكلمة الله أنه ناصره ، رواه عطاء عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ،
وقتادة ، والضّحّاك ، ويعقوب : «وكلمة الله» بالنّصب.
قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي : في انتقامه من الكافرين (حَكِيمٌ) في تدبيره.
(انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١))
قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).
(٧٠٤) سبب نزولها
أنّ المقداد جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان عظيما سمينا ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له ، فنزلت
هذه الآية ، قاله السّدّيّ.
وفي معنى «خفافا
وثقالا» أحد عشر قولا : أحدها
: شيوخا وشبابا ،
رواه أنس عن أبي طلحة ، وبه قال الحسن ، والشّعبيّ ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو صالح
، وشمر بن عطيّة ، وابن زيد في آخرين. والثاني : رجّالة وركبانا ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال
الأوزاعيّ. والثالث
: نشاطا وغير نشاط
، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، ومقاتل. والرابع : أغنياء وفقراء ، روي عن ابن عباس. ثم في معنى هذا الوجه
قولان : أحدهما
: أنّ الخفاف : ذوو
العسرة وقلّة العيال ، والثّقال : ذوو العيال والميسرة ، قاله الفرّاء. والثاني : أنّ الخفاف : أهل الميسرة ، والثّقال : أهل العسرة ، حكي
عن الزّجّاج. والخامس
: ذوي عيال ، وغير
ذوي عيال. قاله زيد بن أسلم. والسادس
: ذوي ضياع ، وغير
ذوي ضياع ، قاله ابن زيد. والسابع
: ذوي أشغال ، وغير
ذوي أشغال ، قاله الحكم. والثامن
: أصحّاء ، ومرضى ،
قاله مرّة الهمداني ، وجويبر. والتاسع
: عزّابا ومتأهّلين
، قاله يمان بن رئاب. والعاشر
: خفافا إلى
الطّاعة ، وثقالا عن المخالفة ، ذكره الماوردي. والحادي عشر : خفافا من السلاح ، وثقالا بالاستكثار منه ، ذكره
الثّعلبيّ.
فصل
: روى عطاء
الخراسانيّ عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَما كانَ
____________________________________
(٧٠٤) باطل. عزاه
المصنف للسدي ، وهو ذو مناكير ، وخبره معضل ، والمتن باطل ، فإن المقداد بن الأسود
أحد الشجعان الأبطال لم يتخلف عن غزوة دعي إليها. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
٥٠٤ عن السدي.
وذكره السيوطي في «الدر»
٣ / ٤٤٠ وعزاه لأبي الشيخ وابن أبي حاتم عن السدي.
__________________
الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) . وقال السّدّيّ : نسخت بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضى) .
قوله تعالى : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ) قال القاضي أبو يعلى : أوجب الجهاد بالمال والنّفس جميعا ،
فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال ، فعليه الجهاد بماله ،
بأن يعطيه غيره فيغزو به ، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قويّا. وإن كان له مال
وقوّة ، فعليه الجهاد بالنّفس والمال. ومن كان معدما عاجزا ، فعليه الجهاد بالنّصح
لله ورسوله ، لقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ
لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) .
قوله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) فيه قولان : أحدهما : ذلكم الجهاد خير لكم من تركه والتّثاقل عنه. والثاني : ذلكم الجهاد خير حاصل لكم (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) ما لكم من الثّواب.
(لَوْ كانَ عَرَضاً
قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢))
قوله تعالى : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) قال المفسّرون : نزلت في المنافقين الذين تخلّفوا عن غزوة
تبوك. ومعنى الآية : لو كان ما دعوا إليه عرضا قريبا. والعرض : كلّ ما عرض لك من
منافع الدنيا ، فالمعنى : لو كانت غنيمة قريبة ، أو كان سفرا قاصدا ، أي : سهلا
قريبا ، لاتّبعوك طمعا في المال (وَلكِنْ بَعُدَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) قال ابن قتيبة : الشّقّة : السّفر ؛ وقال الزّجّاج :
الشّقّة : الغاية التي تقصد ؛ وقال ابن فارس : الشّقّة : مصير إلى أرض بعيدة ،
تقول : شقّة شاقّة.
قوله تعالى : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم (لَوِ اسْتَطَعْنا) وقرأ زائدة عن الأعمش ، والأصمعيّ عن نافع : «لو استطعنا»
بضمّ الواو ، وكذا أين وقع ، مثل : (لَوِ اطَّلَعْتَ
عَلَيْهِمْ) ، كأنه لمّا احتيج إلى حركة الواو ، حرّكت بالضمّ لأنها
أخت الواو ، والمعنى : لو قدرنا وكان لنا سعة في المال. (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بالكذب والنّفاق (وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لأنّهم كانوا أغنياء ولم يخرجوا.
(عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكاذِبِينَ (٤٣))
قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ
لَهُمْ) كان عليهالسلام قد أذن لقوم من المنافقين في التّخلّف لمّا خرج إلى تبوك ،
قال ابن عباس : ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين.
(٧٠٥) قال عمرو بن
ميمون : اثنتان فعلهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يؤمر بهما : أذّنه للمنافقين ، وأخذه
____________________________________
(٧٠٥) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٧٨٠ عن عمرو بن ميمون الأودي ... وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٥٧٣ عن
عمرو. انظر «تفسير القرطبي» ٨ / ١٣٩ و «تفسير الشوكاني» ٢ / ٤١٩.
__________________
الفداء من الأسارى
؛ فعاتبه الله كما تسمعون. قال مورّق : عاتبه ربّه بهذا. وقال سفيان بن عيينة :
انظر إلى هذا اللطف ، بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذّنب. وقال ابن الأنباري : لم
يخاطب بهذا لجرم أجرمه ، لكنّ الله وقّره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله
تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريما عليه : عفا الله عنك
، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك ، هلّا زرتني.
قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : حتى تعرف ذوي العذر في التّخلّف ممّن لا عذر
له. والثاني
: لو لم تأذن لهم
لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم. قال قتادة : ثم إنّ الله تعالى نسخ هذه الآية
بقوله تعالى : (فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ) .
(لا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥))
قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) قال ابن عباس : هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في
القعود. قال الزّجّاج : أعلم الله عزوجل نبيّه صلىاللهعليهوسلم أنّ علامة النّفاق في ذلك الوقت الاستئذان.
فصل
: وروي عن ابن عباس
أنه قال : نسخت هذه الآية بقوله تعالى : (لَمْ يَذْهَبُوا
حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) إلى آخر الآية. قال أبو سليمان الدّمشقي : وليس للنّسخ ها
هنا مدخل ، لإمكان العمل بالآيتين ، وذلك أنه إنّما عاب على المنافقين أن يستأذنوه
في القعود عن الجهاد من غير عذر ، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة
، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة ، ذهبوا من غير استئذانه.
(وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما
زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧))
قوله تعالى : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) يعني المستأذنين له في القعود. وفي المراد بالعدّة قولان :
أحدهما
: النّية ، قاله
الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني
: السّلاح والمركوب
وما يصلح للخروج ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والانبعاث : الانطلاق. والتّثبّط :
ردّك الإنسان عن الشيء يفعله. قوله تعالى : (وَقِيلَ اقْعُدُوا) في القائل لهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ألهموا ذلك خذلانا لهم. قاله مقاتل. والثاني : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قاله غضبا عليهم. والثالث : أنه قول بعضهم لبعض ، ذكرهما الماوردي . وفي المراد بالقاعدين قولان : أحدهما : أنهم القاعدون بغير عذر ، قاله ابن السّائب. والثاني : أنهم القاعدون بعذر ، كالنّساء والصّبيان ، ذكره عليّ بن
عيسى. قال الزّجّاج : ثم أعلم الله عزوجل لم كره خروجهم ،
__________________
فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ
إِلَّا خَبالاً) والخبال : الفساد وذهاب الشيء. وقال ابن قتيبة : الخبال : الشّرّ.
فإن قيل : كأنّ
الصحابة كان فيهم خبال حتى قيل : (ما زادُوكُمْ إِلَّا
خَبالاً)؟ فالجواب : أنه من الاستثناء المنقطع ، والمعنى : ما
زادوكم قوّة ، لكن أوقعوا بينكم خبالا.
(٧٠٦) وقيل : سبب
نزول هذه الآية أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما خرج ، ضرب عسكره على ثنيّة الوداع ، وخرج عبد الله بن
أبيّ ، فضرب عسكره على أسفل من ذلك ؛ فلمّا سار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، تخلّف ابن أبيّ فيمن تخلّف من المنافقين ، فنزلت هذه
الآية.
قوله تعالى : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) قال الفرّاء : الإيضاع : السّير بين القوم. وقال أبو عبيدة
: لأسرعوا بينكم ، وأصله من التّخلّل. قال الزّجّاج : يقال : أوضعت في السّير :
أسرعت.
قوله تعالى : (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) قال الفرّاء : يبغونها لكم. وفي الفتنة قولان : أحدهما : الكفر ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : تفريق الجماعة ، وشتات الكلمة. قال الحسن : لأوضعوا خلالكم
بالنّميمة لإفساد ذات بينكم.
قوله تعالى : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) فيه قولان : أحدهما : عيون ينقلون إليهم أخباركم ، قاله مجاهد ، وابن زيد. والثاني : من يسمع كلامهم ويطيعهم ، قاله قتادة ، وابن إسحاق.
(لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨))
قوله تعالى : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) في الفتنة قولان : أحدهما : الشّرّ ، قاله ابن عباس. والثاني : الشّرك ، قاله مقاتل. قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل غزوة تبوك. وفي قوله تعالى : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) خمسة أقوال : أحدها : بغوا لك الغوائل ، قاله ابن عباس. وقيل : إنّ اثني عشر
رجلا من المنافقين وقفوا على طريقه ليلا ليفتكوا به ، فسلّمه الله منهم. والثاني : احتالوا في تشتّت أمرك وإبطال دينك ، قاله أبو سليمان
الدّمشقي. قال ابن جرير : وذلك كانصراف ابن أبيّ يوم أحد بأصحابه. والثالث : أنه قولهم ما ليس في قلوبهم. والرابع : أنه ميلهم إليك في الظّاهر ، وممالأة المشركين في الباطن. والخامس : أنه حلفهم بالله (لَوِ اسْتَطَعْنا
لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي.
قوله تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) يعني النّصر (وَظَهَرَ أَمْرُ
اللهِ) يعني الإسلام.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي)
____________________________________
(٧٠٦) هو بعض حديث
، أخرجه الطبري ١٦٧٩٩ من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن
أبي بكر ، وعاصم بن عمر.
(٧٠٧) سبب نزولها
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال للجدّ بن قيس : «يا جدّ ، هل لك في جلاد بني الأصفر ،
لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر» ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي فأقيم ، ولا
تفتنّي ببنات الأصفر. فأعرض عنه ، وقال : «قد أذنت لك» ، ونزلت هذه الآية ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. وهذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) في المنافقين.
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ) يعني المنافقين (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ
لِي) أي : في القعود عن الجهاد ، وهو الجدّ بن قيس. وفي قوله
تعالى : (وَلا تَفْتِنِّي) أربعة أقوال : أحدها : لا تفتنّي بالنساء ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد. والثاني : لا تكسبني الإثم بأمرك إيّاي بالخروج وهو غير متيسّر لي ،
فآثم بالمخالفة ، قاله الحسن ، وقتادة ، والزّجّاج. والثالث : لا تكفّرني بإلزامك إيّاي الخروج ، قاله الضّحّاك. والرابع : لا تصرفني عن شغلي ، قاله ابن بحر.
قوله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) في هذه الفتنة أربعة أقوال : أحدها : أنها الكفر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : الحرج ، قاله عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : الإثم ، قله قتادة ، والزّجّاج. والرابع : العذاب في جهنّم ، ذكره الماوردي.
(إِنْ تُصِبْكَ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا
مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما
كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(٥١))
قوله تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) أي : نصر وغنيمة. والمصيبة : القتل والهزيمة. (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) أي : عملنا بالحزم فلم نخرج. (وَيَتَوَلَّوْا
وَهُمْ فَرِحُونَ) بمصابك وسلامتهم. قوله تعالى : (إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ما قضى علينا ، قاله ابن عباس. والثاني : ما بيّن لنا في كتابه من أنّا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا ،
أو نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضا ، قاله الزّجّاج. والثالث : لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلّا ما كتب الله لنا من النّصر
الذي وعدنا ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (هُوَ مَوْلانا) أي : ناصرنا.
(قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ
أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا
إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢))
قوله تعالى : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) أي : تنتظرون. والحسنيان : النّصر والشّهادة. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) في هذا العذاب قولان : أحدهما : الصّواعق ، قاله ابن عباس. والثاني : الموت ، قاله ابن جريج. قوله تعالى : (أَوْ بِأَيْدِينا) يعني : القتل.
____________________________________
(٧٠٧) أخرجه
الطبراني في «الكبير» ٢١٥٤ و ١٢٦٥٤ من حديث ابن عباس ، وقال الهيثمي في المجمع ٧ /
٣٠ : وفيه يحيى الحماني ، وهو ضعيف اه. قلت : وبشر بن عمارة ضعيف ، والضحاك لم
يسمع من ابن عباس ، وللحديث شواهد. انظر «الدر المنثور» ٣ / ٤٩ و «دلائل النبوة»
للبيهقي ٥ / ٢١٣ و ٢١٤.
(قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً
فاسِقِينَ (٥٣))
قوله تعالى : (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً).
(٧٠٨) سبب نزولها
أنّ الجدّ بن قيس قال للنبيّ صلىاللهعليهوسلم لمّا عرض عليه غزو الرّوم : إذا رأيت النساء افتتنت ؛ ولكن
هذا مالي أعينك به ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.
قال الزّجّاج :
وهذا لفظ أمر ، ومعناه معنى الشّرط والجزاء ، المعنى : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين
لن يتقبّل منكم. ومثله في الشعر قول كثيّر :
أسيئي بنا أو
أحسني لا ملومة
|
|
لدينا ولا
مقليّة إن تقلّت
|
لم يأمرها
بالإساءة ، ولكن أعلمها أنّها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها. قال الفرّاء.
ومثله (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) .
(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ
وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ
كارِهُونَ (٥٤))
قوله تعالى : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ
نَفَقاتُهُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «تقبل»
بالتاء : وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «يقبل» بالياء. وقال أبو عليّ : من أنّث ، فلأنّ
الفعل مسند إلى مؤنّث في اللفظ ؛ ومن قرأ بالياء ، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي ، فجاز
تذكيره ؛ كقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) . وقرأ الجحدريّ : «أن يقبل» بياء مفتوحة ، «نفقاتهم» بكسر
التاء. وقرأ الأعمش : «نفقتهم» بغير ألف ، مرفوعة التاء. وقرأ أبو مجلز ، وأبو
رجاء : «أن يقبل» بالياء «نفقتهم» بنصب التاء على التّوحيد.
قوله تعالى : (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ) قال ابن الأنباري : «أن» هاهنا مفتوحة ، لأنّها بتأويل
المصدر مرتفعة ب «منعهم» ، والتقدير : وما منعهم قبول النّفقة منهم إلّا كفرهم
بالله.
قوله تعالى : (إِلَّا وَهُمْ كُسالى) قد شرحناه في سورة (النساء) .
قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ
كارِهُونَ) لأنّهم يعدّون الإنفاق مغرما.
(فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥))
قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) أي : لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد.
____________________________________
(٧٠٨) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٦٨١٨ عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف ، ابن جريج لم يسمع ابن عباس.
__________________
وفي معنى الآية
أربعة أقوال : أحدها
: فلا تعجبك
أحوالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنّما يريد الله ليعذّبهم بها في الآخرة ،
قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسّدّيّ وابن قتيبة. فعلى هذا في الآية تقديم
وتأخير ، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها. والثاني : أنّها على نظمها ، والمعنى : ليعذّبهم بها في الدنيا
بالمصائب في الأموال والأولاد ، فهي لهم عذاب ، وللمؤمنين أجر ، قاله ابن زيد. والثالث : أنّ المعنى : ليعذّبهم بأخذ الزّكاة من أموالهم والنّفقة
في سبيل الله ، قاله الحسن. فعلى هذا ترجع الكناية إلى الأموال وحدها. والرابع : ليعذّبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم ، ذكره الماوردي.
فعلى هذا تكون في المشركين.
قوله تعالى : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي : تخرج ، يقال : زهق السّهم : إذا جاوز الهدف.
(وَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
(٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ
وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))
قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ) أي : مؤمنون ، و (يَفْرَقُونَ) بمعنى يخافون. فأمّا الملجأ ، فقال الزّجّاج : الملجأ
واللّجأ مقصور مهموز ، وهو المكان الذي يتحصّن فيه. والمغارات : جمع مغارة ، وهو
الموضع الذي يغور فيه الإنسان ، أي : يستتر فيه. وقرأ سعيد بن جبير ، وابن أبي
عبلة : «أو مغارات» بضمّ الميم ؛ لأنه يقال : أغرت وغرت : إذا دخلت الغور. وأصل
مدّخل : مدتخل ، ولكنّ التاء تبدل بعد الدال دالا ، لأنّ التاء مهموسة ، والدّال
مجهورة ، والتاء والدال من مكان واحد ، فكان الكلام من وجه واحد أخفّ. وقرأ أبيّ ،
وأبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء : «أو متدخّلا» برفع الميم ، وبتاء ودال مفتوحتين ،
مشدّدة الخاء. وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : «مندخلا» بنون بعد الميم المضمومة.
وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، ويعقوب : «مدخلا» بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. قال
الزّجّاج : من قال : «مدخلا» فهو من دخل يدخل مدخلا ؛ ومن قال : «مدخلا» فهو من
أدخلته مدخلا ، قال الشاعر :
الحمد لله
ممسانا ومصبحنا
|
|
بالخير صبّحنا
ربّي ومسّانا
|
ومعنى مدّخل :
أنهم لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم (لَوَلَّوْا) إليه ، أي : إلى أحد هذه الأشياء (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي : يسرعون إسراعا لا يردّ فيه وجوههم شيء. يقال : جمح
وطمح : إذا أسرع ولم يردّ وجهه شيء ؛ ومنه قيل : فرس جموح للذي إذا حمل لم يردّه
اللجام.
__________________
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا
مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) فيمن نزلت فيه قولان :
(٧٠٩) أحدهما : أنه ذو الخويصرة التّميمي ، قال للنبيّ صلىاللهعليهوسلم يوما : اعدل يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية. ويقال : أبو
الخواصر. ويقال : ابن ذي الخويصرة.
(٧١٠) والثاني : أنه ثعلبة بن حاطب كان يقول : إنّما يعطي محمّد من يشاء ،
فنزلت هذه الآية.
قال ابن قتيبة : «يلمزك»
يعيبك ويطعن عليك. يقال : همزت فلانا ولمزته : إذا اغتبته وعبته ، والأكثرون على
كسر ميم «يلمزك». وقرأ يعقوب ، ونظيف عن قنبل ، وأبان عن عاصم ، والقزّاز عن عبد
الوارث : «يلمزون» و «يلمزك» و «لا تلمزوا» بضمّ الميم فيهنّ. وقرأ ابن السّميفع :
«يلامزك» مثل : يفاعل. وقد رواها حمّاد بن سلمة عن ابن كثير. قال أبو عليّ الفارسي
: وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من واحد ، نحو : طارقت النّعل ، وعافاه الله ، لأنّ
هذا لا يكون من النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وقرأ الأعمش : «يلمّزك» بتشديد الميم من غير ألف ، مثل :
يفعّلك. قال الزّجّاج : يقال : لمزت الرّجل ألمِزُه وألمُزَه ، بكسر الميم وضمّها
: إذا عبته ، وكذلك : همزته أهمزه ، قال الشاعر :
إذا لقيتك تبدي
لي مكاشرة
|
|
وإن تغيّبت كنت
الهامز اللّمزه
|
(وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ
سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩)
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ
وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))
قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : قنعوا بما أعطوا. (إِنَّا إِلَى اللهِ
راغِبُونَ) في الزّيادة ، أي : لكان خيرا لهم. وهذا جواب «لو» ، وهو
محذوف في اللفظ.
ثم بيّن المستحقّ
للصّدقات بقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) اختلفوا في صفة الفقير والمساكين على ستة أقوال : أحدها
: أنّ الفقير :
المتعفّف عن السّؤال ، والمساكين : الذي يسأل
____________________________________
(٧٠٩) صحيح. أخرجه
البخاري ٣٦١٠ و ٥٠٥٨ و ٦١٦٣ و ٦٩٣١ ومسلم ١٠٦٤ والنسائي في «التفسير» ٢٤٠ وابن
ماجة ١٦٩ والطبري ١٦٨٣٢ والواحدي في «الوسيط» ٢ / ٥٠٥ كلهم من حديث أبي سعيد بأتم
منه.
(٧١٠) باطل لا أصل
له ، لم أقف له على إسناد والآية في المنافقين ، وثعلبة بدري ، وسيأتي حديثه
مطولا.
__________________
وبه رمق ، قاله
ابن عباس والحسن ومجاهد وجابر بن زيد والزّهريّ والحكم وابن زيد ومقاتل. والثاني : أنّ الفقير : المحتاج الذي به زمانة ، والمساكين : المحتاج
الذي لا زمانة به ، قاله قتادة. والثالث
: الفقير : المهاجر
، والمساكين : الذي لم يهاجر ، قاله الضّحّاك بن مزاحم والنّخعيّ. والرابع : الفقير : فقير المسلمين ، والمساكين : من أهل الكتاب ،
قاله عكرمة. والخامس
: أنّ الفقير : من
له البلغة من الشيء ، والمساكين : الذي ليس له شيء ، قاله أبو حنيفة ويونس بن حبيب
ويعقوب بن السّكّيت وابن قتيبة. واحتجّوا بقول الرّاعي :
أمّا الفقير
الذي كانت حلوبته
|
|
وفق العيال فلم
يترك له سبد
|
فسمّاه فقيرا ،
وله حلوبة تكفيه وعياله. وقال يونس : قلت لأعرابيّ : أفقير أنت؟ قال : لا والله ،
بل مساكين ؛ يريد : أنا أسوأ حالا من الفقير. والسادس : أنّ الفقير أمسّ حاجة من المساكين ، وهذا مذهب أحمد ، لأنّ
الفقير مأخوذ من انكسار الفقار ، والمسكنة مأخوذة من السّكون والخشوع ، وذلك أبلغ.
قال ابن الأنباري : ويروى عن الأصمعيّ أنه قال : المساكين أحسن حالا من الفقير.
وقال أحمد بن عبيد : المساكين أحسن حالا من الفقير ، لأنّ الفقير أصله في اللغة :
المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره ، فكأنّه انقطع ظهره من شدّة الفقر ، فصرف عن
مفقور إلى فقير ، كما قيل : مجروح وجريح ، ومطبوخ وطبيخ ، قال الشاعر :
لمّا رأى لبد
النّسور تطايرت
|
|
رفع القوادم
كالفقير الأعزل
|
قال : ومن الحجّة
لهذا القول قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالا ؛ قال : وهو الصّحيح
عندنا.
قوله تعالى : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم السّعاة لجباية الصّدقة ، يعطون منها بقدر أجور
أمثالهم ، وليس ما يأخذونه بزكاة.
قوله تعالى : (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم قوم كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتألّفهم على الإسلام بما يعطيهم ، وكانوا ذوي شرف ، وهم
صنفان : مسلمون ، وكافرون. فأمّا المسلمون ، فصنفان ؛ صنف كانت نيّاتهم في الإسلام
ضعيفة ، فتألّفهم تقوية لنيّاتهم ، كعيينة بن حصن ، والأقرع ؛ وصنف كانت نياتهم
حسنة ، فأعطوا تألّفا لعشائرهم من المشركين ، مثل عديّ بن حاتم. وأمّا المشركون ،
فصنفان ، صنف يقصدون المسلمين بالأذى ، فتألّفهم دفعا لأذاهم ، مثل عامر بن
الطّفيل ؛ وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام ،
__________________
تألّفهم بالعطيّة
ليؤمنوا ، كصفوان بن أميّة. وقد ذكرت عدد المؤلّفة في كتاب «التلقيح». وحكمهم باق
عند أحمد في رواية ، وقال أبو حنيفة ، والشّافعيّ : حكمهم منسوخ. قال الزّهريّ :
لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلّفة قلوبهم.
قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) قد ذكرناه في سورة (البقرة) .
قوله تعالى : (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين لزمهم الدّين ولا يجدون القضاء. قال قتادة : هم
ناس عليهم دين من غير فساد ولا إسراف ولا تبذير ، وإنّما قال هذا ، لأنّه لا يؤمن
في حقّ المفسد إذا قضي دينه أن يعود إلى الاستدانة لذلك ؛ ولا خلاف في جواز قضاء
دينه ودفع الزّكاة إليه ، ولكنّ قتادة قاله على وجه الكراهية.
قوله تعالى : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) يعني : الغزاة والمرابطين. ويجوز عندنا أن يعطى الأغنياء
منهم والفقراء ، وهو قول الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : لا يعطى إلّا الفقير منهم.
وهل يجوز أن يصرف من الزّكاة إلى الحجّ ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان.
قوله تعالى : (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر المنقطع به ، وإن كان له مال في بلده ؛ قاله
مجاهد ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد. فأمّا إذا أراد أن ينشئ سفرا ، فهل يجوز أن
يعطى؟ قال الشّافعيّ : يجوز ، وعن أحمد نحوه ؛ وقد ذكرنا في سورة (البقرة) فيه
أقوالا فيه أقوالا عن المفسّرين.
قوله تعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) يعني أنّ الله افترض هذا.
فصل
: وحدّ الغنى الذي
يمنع أخذ الزّكاة عند أصحابنا بأحد شيئين : أن يكون مالكا لخمسين درهما ، أو عدلها
من الذّهب ، سواء كان ذلك يقوم بكفايته أو لا يقوم ، والثاني : أن يكون له كفاية ، إمّا بصنعة ، أو أجرة عقار ، أو عروض
للتّجارة يقوم ربحها بكفايته. وقال أبو حنيفة : الاعتبار في ذلك أن يكون مالكا
لنصاب تجب عليه فيه الزّكاة. فأمّا ذوو القربى الذين تحرم عليهم الصّدقة ، فهم بنو
هاشم ، وبنو المطّلب. وقال أبو حنيفة : تحرم على ولد هاشم ، ولا تحرم على ولد
المطّلب. ويجوز أن يعمل على الصّدقة من بني هاشم وبني المطّلب ويأخذ عمالته منها ،
خلافا لأبي حنيفة. فأمّا موالي بني هاشم وبني المطّلب ، فتحرم عليهم الصّدقة ،
خلافا لمالك. ولا يجوز أن يعطي صدقته من تلزمه نفقته ؛ وبه قال مالك ، والثّوريّ.
وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : لا يعطي والدا وإن علا ، ولا ولدا وإن سفل ، ولا زوجة
، ويعطي من عداهم. فأمّا الذّمّيّ ؛ فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه. وقال عبيد
الله بن الحسن : إذا لم يجد مسلما ، أعطى الذّمّيّ. ولا يجب استيعاب الأصناف ولا
اعتبار عدد من كلّ صنف ؛ وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ؛ وقال الشّافعيّ : يجب
الاستيعاب من كلّ صنف ثلاثة.
فأمّا إذا أراد
نقل الصّدقة من بلد المال إلى موضع تقصر فيه الصلاة ، فلا يجوز له ذلك ، فإن نقلها
لم يجزئه ؛ وهو قول مالك ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : يكره نقلها ، وتجزئه. قال
أحمد : ولا يعطى الفقير أكثر من خمسين درهما. وقال أبو حنيفة : أكره أن يعطي رجل
واحد من الزّكاة مائتي درهم ، وإن أعطيته أجزأك. فأمّا الشّافعيّ ، فاعتبر ما يدفع
الحاجة من غير حدّ. فإن أعطى من يظنّه فقيرا ، فبان أنه
__________________
غنيّ ، فهل يجزئ ،
فيه عن أحمد روايتان.
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
النَّبِيَ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
(٧١١) أحدها : أن خذام بن خالد ، والجلاس بن سويد ، وعبيد بن هلال في
آخرين ، كانوا يؤذون رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال بعضهم لبعض : لا تفعلوا ، فإنّا نخاف أن يبلغه فيقع
بنا ، فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ، فإنّما محمّد أذن سامعة ، ثم نأتيه
فيصدّقنا ؛ فنزلت هذه الآية ؛ قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٧١٢) والثاني : أنّ رجلا من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث ، كان
ينمّ حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل ؛ فقال : إنّما محمّد
أذن ، من حدّثه شيئا صدّقه ؛ نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا ، فنزلت
هذه الآية ؛ قاله محمّد بن إسحاق.
(٧١٣) والثالث : أنّ ناسا من المنافقين منهم جلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت
، اجتمعوا ، فأرادوا أن يقعوا في النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقّروه ،
فتكلّموا وقالوا : لئن كان ما يقوله محمّد حقّا ، لنحن شرّ من الحمير ، فغضب
الغلام ، وقال : والله إنّ ما يقوله محمّد حقّ ، وإنّكم لشرّ من الحمير ؛ ثم أتى
النبيّ صلىاللهعليهوسلم فأخبره ، فدعاهم فسألهم ، فحلفوا أنّ عامرا كاذب ، وحلف
عامر أنهم كذبوا ، وقال : اللهمّ لا تفرّق بيننا حتى تبيّن صدق الصّادق ، وكذب
الكاذب ؛ فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) ، قاله السّدّيّ.
فأمّا الأذى فهو
عيبه ونقل حديثه. ومعنى (أُذُنٌ) يقبل كل ما قيل له ، قال ابن قتيبة : الأصل في هذا أن
الأذن هي السّامعة ، فقيل لكلّ من صدّق بكلّ خبر يسمعه : أذن. وجمهور القرّاء
يقرءون : (هُوَ أُذُنٌ قُلْ
أُذُنُ) بالتّثقيل. وقرأ نافع : «هو أذنٌّ قل أذن خير» بإسكان
الذال فيهما. ومعنى (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي : أذن خير ، لا أذن شرّ ؛ يسمع الخير فيعمل به ، ولا
يعمل بالشّرّ إذا سمعه. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن يعمر
، وابن أبي عبلة «أذن» بالتنوين ، «خير» بالرّفع. والمعنى : إن كان كما قلتم ،
يسمع منكم ويصدّقكم ، خير لكم من أن يكذّبكم. قال أبو عليّ : يجوز أن تطلق الأذن
على الجملة ؛ كما قال الخليل : إنما سمّيت النّاب من الإبل لمكان النّاب البازل ،
فسمّيت الجملة كلّها به ، فأجروا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله
لها في الإصغاء بها. ثم بيّن
____________________________________
(٧١١) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ص ٢٥٤
فقال : نزلت في جماعة من المنافقين.
(٧١٢) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٩١٥ عن ابن إسحاق مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٥٠٨ بدون إسناد. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢ / ٤٣٠.
(٧١٣) أخرجه ابن
أبي حاتم كما في «الدر» ٣ / ٢٥٣ عن السدي مرسلا. وأخرجه الطبري ١٦٩٢٢ عن قتادة
مرسلا.
وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٥١٠ عن السدي بدون إسناد. وانظر «تفسير القرطبي» ٨ / ١٧٨.
ممّن يقبل ، فقال
: (يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) قال ابن قتيبة : الباء واللام زائدتان ؛ والمعنى : يصدّق
الله ويصدّق المؤمنين. وقال الزّجّاج : يسمع ما ينزّله الله عليه ، فيصدّق به ،
ويصدّق المؤمنين فيما يخبرونه به. (وَرَحْمَةٌ) أي : وهو رحمة ، لأنّه كان سبب إيمان المؤمنين. وقرأ حمزة «ورحمة»
بالخفض. قال أبو عليّ : المعنى : أذن خير ورحمة. والمعنى : مستمع خير ورحمة.
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا
مُؤْمِنِينَ (٦٢))
قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ
لِيُرْضُوكُمْ).
(٧١٤) قال ابن
السّائب : نزلت في جماعة من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك ، فلمّا رجع النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم ، ويحلفون ويعتلّون. وقال
مقاتل : منهم عبد الله بن أبيّ ، حلف لا يتخلّف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وليكوننّ معه على عدوّه.
وقد ذكرنا في
الآية التي قبلها أنّهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب. وحكى الزّجّاج عن بعض
النّحويين أنه قال : اللام في : «ليرضوكم» بمعنى القسم ، والمعنى : يحلفون بالله
لكم لنرضينّكم. قال : وهذا خطأ ، لأنّهم حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا
باليمين ، ولم يحلفوا أنّهم يرضون في المستقبل. قلت : وقول مقاتل يؤكّد ما أنكره
الزّجّاج ، وقد مال إليه الأخفش.
قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) فيه قولان : أحدهما : بالتّوبة والإنابة. والثاني : بترك الطّعن والعيب. فإن قيل : لم قال : «يرضوه» ولم يقل :
يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها
فِي سَبِيلِ اللهِ) .
(أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً
فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))
قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) روى أبو زيد عن المفضّل «ألم تعلموا» بالتاء. (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ) فيه قولان : أحدهما : من يخالف الله ، قاله ابن عباس. والثاني : من يعاد الله ، كقولك : من يجانب الله ورسوله ، أي : يكون
في حدّ ، والله ورسوله في حدّ.
قوله تعالى : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) قرأ الجمهور : «فأن» بفتح الهمزة ، وقرأ أبو رزين ، وأبو
عمران ، وابن أبي عبلة : بكسرها ، فمن كسر ، فعلى الاستئناف بعد الفاء ، كما تقول
: فله نار جهنّم. ودخلت «إنّ» مؤكّدة. ومن قال : «فإنّ له» فإنّما أعاد «أنّ»
الأولى توكيدا ؛ لأنه لمّا طال الكلام ، كان إعادتها أوكد.
(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ
اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤))
____________________________________
(٧١٤) عزاه المصنف
للكلبي ، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء.
__________________
قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
(٧١٥) أحدها : أنّ المنافقين كانوا يعيبون رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما بينهم ، ويقولون : عسى الله أن لا يفشي سرّنا ؛ فنزلت
هذه الآية ، قاله مجاهد.
(٧١٦) والثاني : أنّ بعض المنافقين قال : لوددت أنّي جلدت مائة جلدة ، ولا
ينزل فينا شيء يفضحنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.
(٧١٧) والثالث : أنّ جماعة من المنافقين وقفوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به ، فأخبره
جبريل عليهالسلام ، ونزلت هذه الآية ، قاله ابن كيسان.
وفي قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) قولان : أحدهما
: أنه إخبار من
الله عزوجل عن حالهم ، قاله الحسن ، وقتادة واختاره ابن القاسم. والثاني : أنه أمر من الله عزوجل لهم بالحذر ، فتقديره : ليحذر المنافقون ، قاله الزّجّاج.
قال ابن الأنباري : والعرب ربّما أخرجت الأمر على لفظ الخبر ، فيقولون : يرحم الله
المؤمن ، ويعذّب الكافر ؛ يريدون : ليرحم وليعذّب ، فيسقطون اللام ويجرونه مجرى
الخبر في الرّفع ، وهم لا ينوون إلّا الدّعاء ؛ والدّعاء مضارع للأمر.
قوله تعالى : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديدا. وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) وجهان : أحدهما
: مظهر ما تسرّون. والثاني : ناصر من تخذلون ، ذكرهما الماوردي.
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ
كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))
قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) في سبب نزولها ستة أقوال :
(٧١٨) أحدهما : أن جدّ بن قيس ، ووديعة بن خذام ، والجهير بن خمير ، كانوا
يسيرون بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم مرجعه من تبوك ، فجعل رجلان منهم يستهزئان برسول الله صلىاللهعليهوسلم. والثالث يضحك ممّا يقولان ولا يتكلّم بشيء ، فنزل جبريل
فأخبره بما يستهزئون به ويضحكون ؛ فقال لعمّار بن ياسر : «اذهب فسلهم عمّا كانوا
يضحكون منه ، وقل لهم : أحرقكم الله» ، فلمّا سألهم ، وقال : أحرقكم الله ؛
____________________________________
(٧١٥) أخرجه
الطبري ١٦٩٢٣ عن مجاهد مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٠ م عن مجاهد
مرسلا.
(٧١٦) عزاه المصنف
للسدي ، وهذا معضل ، والمتن غريب ، فهو واه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٠
عن السدي مرسلا.
(٧١٧) ذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٦ عن الضحاك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥ / ٢٦٠ و
٢٦١ من حديث حذيفة بنحوه وأتم. وأخرجه أيضا البيهقي في «الدلائل» ٥ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧
عن عروة مرسلا بأتم منه.
وأخرجه أحمد ٥ /
٤٥٣ و ٤٥٤ من حديث أبي الطفيل مع اختلاف فيه. الخلاصة هو حديث حسن بمجموع طرقه
وشواهده.
(٧١٨) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية أبي صالح ، وهي رواية ساقطة لأنها من طريق الكلبي.
علموا أنه قد نزل
فيهم قرآن ، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال الجهير : والله ما تكلّمت بشيء ، وإنما ضحكت تعجّبا
من قولهم ؛ فنزل قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا) يعني جدّ بن قيس ، ووديعة (إِنْ نَعْفُ عَنْ
طائِفَةٍ مِنْكُمْ) يعني الجهير (نُعَذِّبْ طائِفَةً) يعني الجدّ ووديعة ، وهذا قول أبي صالح عن ابن عباس.
(٧١٩) والثاني : أنّ رجلا من المنافقين قال : ما رأيت مثل قرّائنا هؤلاء ،
ولا أرغب بطونا ، ولا أكذب ، ولا أجبن عند اللقاء ؛ يعني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ؛ فقال له عوف بن مالك. كذبت ، لكنّك منافق ،
لأخبرنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فذهب ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه ؛ فجاء ذلك الرجل
فقال : يا رسول الله ، إنّما كنّا نخوض ونلعب ، هذا قول ابن عمر وزيد بن أسلم
والقرظي.
(٧٢٠) والثالث : أنّ قوما من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : إن كان ما يقول هذا حقّا ، لنحن شرّ من الحمير
؛ فأعلم الله نبيّه ما قالوا ، ونزلت : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ) ، قاله سعيد بن جبير.
(٧٢١) والرابع : أنّ رجلا من المنافقين قال : يحدّثنا محمّد أنّ ناقة فلان
بوادي كذا وكذا ، وما يدريه ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد.
(٧٢٢) والخامس : أنّ ناسا من المنافقين قالوا : يرجو هذا الرجل أن يفتح
قصور الشّام وحصونها ، هيهات ؛ فأطلع الله نبيّه على ذلك ، فقال نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم : «احبسوا عليّ الرّكب» ، فأتاهم ، فقال : «قلتم كذا وكذا»
، فقالوا : إنّما كنّا نخوض ونلعب ؛ فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة.
(٧٢٣) والسادس : أنّ عبد الله بن أبيّ ، ورهطا معه ، كانوا يقولون في رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ما لا ينبغي ، فإذا بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالوا : إنّما كنّا نخوض ونلعب ، فقال الله تعالى : (قُلْ) لهم (أَبِاللهِ وَآياتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)؟ قاله الضّحّاك.
فقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي : عمّا كانوا فيه من الاستهزاء (لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ) أي : نلهو بالحديث. وقوله تعالى : (قَدْ كَفَرْتُمْ) أي : قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان ؛ وهذا يدلّ على
أنّ الجدّ واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.
قوله تعالى : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) قرأ الأكثرون «إن يعف» بالياء ، «تعذّب» بالتاء. وقرأ
____________________________________
(٧١٩) أخرجه
الطبري ١٦٩٢٨ من حديث عبد الله بن عمر ، وفيه هشام بن سعد ضعفه غير واحد. وأخرجه
برقم ١٦٩٢٧ عن زيد بن أسلم مرسلا ، وهو أصح. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٢
عن زيد بن أسلم ومحمد بن كعب.
(٧٢٠) ضعيف. أخرجه
الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر المنثور» ٣ / ٤٥٦ عن
سعيد بن جبير مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.
(٧٢١) أخرجه
الطبري ١٦٩٣٣ عن مجاهد مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.
ـ وأخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في «الدر
المنثور» ٣ / ٤٥٦ عن مجاهد مرسلا.
(٧٢٢) أخرجه
الطبري ١٦٩٣٠ عن قتادة مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف.
ـ وذكره الواحدي في أسباب النزول ٥١١ عن قتادة
بدون ذكر السند مرسلا.
(٧٢٣) عزاه المصنف
للضحاك ، وهذا مرسل فهو واه.
عاصم غير أبان «إن
نعف» ، «نعذّب» ، بالنون فيهما ونصب «طائفة» ، والمعنى : إن نعف عن طائفة منكم
بالتّوفيق للتّوبة ، نعذّب طائفة بترك التّوبة. وقيل : الطّائفتان ها هنا ثلاثة ،
فاستهزأ اثنان وضحك واحد. ثم أنكر عليهم بعض ما سمع. وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء
الثلاثة ، وأنّ الضّاحك اسمه الجهير ، وقال غيره : هو مخشيّ بن خمير. وقال ابن
عباس ومجاهد : الطّائفة الواحد فما فوقه. وقال الزّجّاج : أصل الطّائفة في اللغة
الجماعة ؛ ويجوز أن يقال للواحد طائفة ، يراد به نفس طائفة. وقال ابن الأنباري : إذا
أريد بالطّائفة الواحد كان أصلها طائفا ، على مثال : قائم وقاعد ، فتدخل الهاء
للمبالغة في الوصف ، كما يقال : راوية ، علّامة ، نسّابة. قال عمر بن الخطّاب : ما
فرغ من تنزيل براءة حتى ظننّا أن لن يبقى منّا أحد إلّا سينزل فيه شيء.
(الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ
الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ
وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً
فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
(٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ
وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))
قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) قال ابن عباس : بعضهم على دين بعض وقال مقاتل : بعضهم
أولياء بعض (يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ) وهو الكفر (وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمَعْرُوفِ) وهو الإيمان. وفي قوله تعالى : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)
أربعة أقوال : أحدها : يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله ، قاله ابن عباس والحسن
ومجاهد. والثاني
: عن كلّ خير ،
قاله قتادة. والثالث
: عن الجهاد في
سبيل الله. والرابع
: عن رفعها في
الدّعاء إلى الله ، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) قال الزّجّاج : تركوا أمره ، فتركهم من رحمته وتوفيقه. قال
: وقوله تعالى : (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي : هي كفاية ذنوبهم ، كما تقول : عذّبتك حسب فعلك ، وحسب
فلان ما نزل به ، أي : ذلك على قدر فعله. وموضع الكاف في قوله تعالى : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) نصب ، أي : وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من
قبلكم. وقال غيره : رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم ، وشبّههم في العدول عن أمره
بمن كان قبلهم من الأمم الماضية.
قوله تعالى : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) قال ابن عباس : استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا.
وقال الزّجّاج : بحظّهم من الدنيا. قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ) أي : في الطّعن على الدّين وتكذيب نبيّكم كما خاضوا. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي
الدُّنْيا) لأنّها لم تقبل منهم ، وفي الآخرة ، لأنّهم لا يثابون
عليها ، (وَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) بفوت الثواب وحصول العقاب.
قوله تعالى : (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) قال ابن عباس : يريد نمرود بن كنعان (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) يعني قوم شعيب (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قرى لوط. قال الزّجّاج : وهم جمع مؤتفكة ، ائتفكت بهم
الأرض ، أي : انقلبت. قال : ويقال إنّهم جميع من أهلك ، كما يقال للهالك : انقلبت
عليه الدنيا. قوله تعالى : (أَتَتْهُمْ) يعني هذه الأمم (رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) فكذّبوا بها (فَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ) قال ابن عباس : ليهلكم حتى يبعث فيهم نبيّا ينذرهم ،
والمعنى أنهم أهلكوا باستحقاقهم.
(وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي
جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(٧٢))
قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي : بعضهم يوالي بعضا ، فهم يد واحدة ، يأمرون بالإيمان ،
وينهون عن الكفر.
قوله تعالى : (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) قال أبو عبيدة : في جنّات خلد ، يقال : عدن فلان بأرض كذا
، أي : أقام ؛ ومنه : المعدن ، وهو في معدن صدق ، أي : في أصل ثابت. قال الأعشى :
وإن تستضيفوا
إلى حلمه
|
|
تضافوا إلى راجح
قد عدن
|
أي : رزين لا
يستخف. قال ابن عباس : جنّات عدن ، هي بطنان الجنّة ، وبطنانها : وسطها ، وهي أعلى
درجة في الجنّة ، وهي دار الرّحمن عزوجل ، وسقفها عرشه ، خلقها بيده ، وفيها عين التّسنيم ،
والجنان حولها محدقة بها.
قوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) قال ابن عباس : أكبر ممّا يوصف. وقال الزّجّاج : أكبر ممّا
هم فيه من النّعيم. فإن قيل : لم كان الرّضوان أكبر من النّعيم؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ سرور القلب برضى الرّبّ نعيم يختصّ بالقلب ، وذاك أكبر
من نعيم الأكل والشّرب.
(٧٢٤) وفي حديث
أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله عزوجل لأهل الجنّة : يا أهل الجنّة ، هل رضيتم؟ فيقولون : ربّنا
وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك! فيقول : أفلا أعطيكم أفضل
من ذلك؟ فيقولون : وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال : أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط
عليكم أبدا».
____________________________________
(٧٢٤) صحيح. أخرجه
البخاري ٧٥١٨ ومسلم ٢٨٢٩ وابن حبان ٧٤٤٠ وابن مندة ٨٢٠ وأبو نعيم في «الحلية» ٦ /
٣٤٢ وفي «صفة الجنة» ٢٨٢ والبيهقي في «البعث» ٤٤٥ من طرق عن ابن وهب عن مالك بن
أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به.
ـ وأخرجه البخاري ٦٥٤٩ ومسلم ٢٨٢٩ والترمذي ٢٥٥٥
وأحمد ٣ / ٨٨ وابن مندة ٨٢٠ والبيهقي في «البعث» ٤٤٥ من طريق ابن المبارك عن مالك
من حديث أبي سعيد الخدري.
__________________
والثاني
: أنّ الموجب
للنّعيم الرّضوان ، والموجب ثمرة الموجب ، فهو الأصل.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣))
قوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) أما جهاد الكفّار فبالسّيف. وفي جهاد المنافقين قولان : أحدهما
: أنه باللسان ،
قاله ابن عباس ، والحسن ، والضّحّاك ، والرّبيع بن أنس. والثاني : جهادهم بإقامة الحدود عليهم ، روي عن الحسن وقتادة. فإن قيل
: إذا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم ، فكيف تركهم بين أظهر
أصحابه فلم يقتلهم ؟. فالجواب : أنه إنّما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام
عليها ، فأمّا من إذا أطلع على كفره ، أنكر وحلف وقال : إنّي مسلم ، فإنّه أمر أن
يأخذ بظاهر أمره ، ولا يبحث عن سرّه.
قوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) قال ابن عباس : يريد شدّة الانتهار لهم ، والنّظر بالبغضة
والمقت. وفي الهاء والميم من «عليهم» قولان : أحدهما : أنه يرجع إلى الفريقين ، قاله ابن عباس. والثاني : إلى المنافقين ، قاله مقاتل.
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ
وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ
يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))
قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
__________________
(٧٢٥) أحدها : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر المنافقين فعابهم ؛ فقال الجلاس بن سويد : إن كان ما
يقول على إخواننا حقّا لنحن شرّ من الحمير. فقال عامر بن قيس : والله إنه لصادق
ولأنتم شرّ من الحمير ؛ وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فأتى الجلاس فقال : ما قلت شيئا ، فحلفا عند المنبر
، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وذهب إلى نحوه الحسن ومجاهد وابن
سيرين.
(٧٢٦) والثاني : أنّ عبد الله بن أبيّ قال : والله لئن رجعنا إلى المدينة ،
ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، فسمعه رجل من المسلمين ، فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأرسل إليه ، فجعل يحلف بالله ما قال ، فنزلت هذه الآية
، قاله قتادة.
(٧٢٧) والثالث : أنّ المنافقين كانوا إذا خلوا ، سبّوا رسول الله وأصحابه ،
وطعنوا في الدّين ؛ فنقل حذيفة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعض ذلك ، فحلفوا ما قالوا شيئا ، فنزلت هذه الآية ، قاله
الضّحّاك.
فأمّا كلمة الكفر
، فهي سبّهم الرّسول صلىاللهعليهوسلم وطعنهم في الدّين. وفي سبب قوله تعالى : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أربعة أقوال :
(٧٢٨) أحدها : أنّها نزلت في ابن أبيّ حين قال : لئن رجعنا إلى المدينة ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة.
(٧٢٩) والثاني : أنّها نزلت فيهم حين همّوا بقتل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، قال : والذي همّ رجل يقال له :
الأسود. وقال مقاتل : هم خمسة عشر رجلا ، همّوا بقتله ليلة العقبة.
(٧٣٠) والثالث : أنه لمّا قال بعض المنافقين : إن كان ما يقول محمّد حقّا ،
فنحن شرّ من الحمير ؛ وقال له رجل من المؤمنين : لأنتم شرّ من الحمير ، همّ المنافق
بقتله ؛ فذلك قوله تعالى : (وَهَمُّوا بِما لَمْ
يَنالُوا) ، هذا قول مجاهد.
(٧٣١) والرابع : أنهم قالوا في غزوة تبوك : إذا قدمنا المدينة ، عقدنا على
رأس عبد الله بن أبيّ تاجا نباهي به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فلم ينالوا ما همّوا به.
____________________________________
(٧٢٥) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة ، مصدرها الكلبي وهو متهم. وأخرجه الطبري
٢٦٩٨٢ و ١٦٩٨٣ من طريقين عن هشام بن عروة عن أبيه ، ومراسيل عروة جياد ، والإسناد
إليه صحيح ، فهو مرسل جيد. وكرره الطبري ١٦٩٨٤ عن ابن إسحاق مختصرا ، وهو معضل وله
شواهد أخرى مرسلة.
(٧٢٦) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٩٨٩ عن قتادة مرسلا ، ولأصله شواهد.
ـ وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٥ عن قتادة
مرسلا.
(٧٢٧) عزاه المصنف
للضحاك ، وهو مرسل ، والمرسل من قسم الضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٤
عن الضحاك مرسلا. وانظر «الدر» ٣ / ٤٦٤ و ٤٦٥.
(٧٢٨) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وهو من طريق الكلبي. وأخرجه الطبري ١٦٩٨٩ عن قتادة مرسلا.
وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٥١٥ عن قتادة مرسلا.
(٧٢٩) لم أره عن
ابن عباس. وأخرجه الطبري ١٦٩٩٣ عن مجاهد مرسلا بنحوه. وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٥١٦ عن الضحاك مرسلا. وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في «الدر
المنثور» ٣ / ٤٦٤ عن الضحاك مرسلا.
(٧٣٠) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٩٨٥ عن مجاهد مرسلا. وكرره ٦٩٨٦؟؟؟ و ١٦٩٨٧ عن مجاهد بنحوه.
(٧٣١) عزاه البغوي
٢ / ٣٧٠ و ٣٧١ للسدي.
قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ
اللهُ) قال ابن قتيبة : أي : ليس ينقمون شيئا ، ولا يتعرّفون من
الله إلّا الصّنع ، ومثله قول الشاعر :
ما نقم النّاس
من أميّة إلّا
|
|
أنّهم يحلمون إن
غضبوا
|
وأنّهم سادة
الملوك ولا
|
|
تصلح إلّا عليهم
العرب
|
وهذا ليس مما ينقم
وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئا ، وكقول النابغة :
ولا عيب فيهم
غير أنّ سيوفهم
|
|
بهنّ فلول من
قراع الكتائب
|
أي : ليس فيهم
عيب. قال ابن عباس : كانوا قبل قدوم النبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة في ضنك من معاشهم ، فلمّا قدم عليهم ، غنموا ،
وصارت لهم الأموال. فعلى هذا ، يكون الكلام عامّا. وقال قتادة : هذا في عبد الله
بن أبيّ.
(٧٣٢) وقال عروة :
هو الجلاس بن سويد ، قتل له مولى ، فأمر له رسول الله صلىاللهعليهوسلم بديته ، فاستغنى ؛ فلمّا نزلت (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) قال الجلاس : أنا أتوب إلى الله.
قوله تعالى : (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي : يعرضوا عن الإيمان. قال ابن عباس : كما تولّى عبد
الله بن أبيّ ، (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ
عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالقتل ، وفي الآخرة بالنّار.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ (٧٥))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) في سبب نزولها أربعة أقوال :
(٧٣٣) أحدها : أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ، ادع الله
____________________________________
(٧٣٢) مرسل. أخرجه
الطبري ١٦٩٩٤ عن عروة مرسلا ، وتقدم. انظر «تفسير القرطبي» ٨ / ١٩٠.
(٧٣٣) باطل. أخرجه
الطبري ١٧٠٠٢ والطبراني ٧٨٧٣ وفي «الطوال» ٢٠ والواحدي في «الأسباب» ٥١٧ و «الوسيط»
٢ / ٥١٣ والبيهقي في «الدلائل» ٥ / ٢٨٩ ـ ٢٩٢ والحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه ، وابن مندة والباوردي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وابن عساكر كما
في «الدر المنثور» ٣ / ٤٦٧ من طرق عن معان بن رفاعة عن علي بن يزيد الألهاني عن
القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة به مطولا ، وهذا إسناد ساقط ، وهو مصنوع.
وللإسناد علل ، وللمتن علل كثيرة. أما علل الإسناد فهي :
١ ـ معان
بن رفاعة ضعفه الجوزجاني ، ولينه يحيى ، ووثقه المديني.
٢ ـ علي
بن يزيد. قال عنه البخاري : منكر الحديث. وقال النسائي : ليس بثقة. وقال أبو زرعة
: ليس بقوي.
وقال الدارقطني :
متروك. «الميزان» ٣ / ١٦١.
ـ ومعلوم أن البخاري رحمهالله قال : كل من قلت عنه منكر الحديث ، فلا يحل الرواية عنه.
٣ ـ القاسم بن عبد الرحمن ، أبو عبد الرحمن. قال عنه
الإمام أحمد : روى عنه علي بن يزيد أعاجيب ، وما أراها إلا من قبل القاسم. وقال
ابن حبان : كان يزعم أنه لقي أربعين بدريا!! ، كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم المعضلات ، ويأتي عن الثقات بالمقلوبات ، حتى يسبقك إلى
القلب أنه المتعمد لها ، ووثقه ابن معين. وقال يعقوب ابن شيبة : منهم من يضعفه ،
راجع «الميزان» ٣ / ٣٧٣.
__________________
أن يرزقني مالا ،
فقال : «ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدّي شكره ، خير من كثير لا تطيقه» ، قال : ثم قال
مرّة أخرى ، فقال : «أما ترضى أن تكون مثل نبيّ الله؟ فو الّذي نفسي بيده ، لو شئت
أن تسير معي الجبال ذهبا وفضّة ، لسارت» فقال : والذي بعثك بالحقّ ، لئن دعوت الله
أن يرزقني مالا ، لأوتينّ كلّ ذي حقّ
____________________________________
قلت : عند القاسم
أحاديث لا بأس بها غير منكرة. خرج بعضها أصحاب السنن ، وعنده أحاديث مناكير
وأحاديث موضوعة ، ومنها هذا الحديث ، وكأنه أخذها عن مجاهيل ، والذي نوزع به في
هذا الحديث قول الإمام أحمد : روى عن علي بن يزيد أعاجيب ، ولا أراها إلا من قبل
القاسم. وإليك كلام العلماء في هذا الحديث : قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٢٩٢
: إسناد ضعيف جدا. وقال الهيثمي رحمهالله في «المجمع» ٧ / ٣١ ـ ٣٢ :
فيه علي بن يزيد ، وهو متروك. وقال ابن حزم رحمهالله في «جوامع السيرة» ص ٩٨ : هذا باطل. هذا بالنسبة للإسناد.
وأما المتن فهو معلول من وجوه أيضا منها.
١ ـ سباق
الآيات وسياقها ، يدل على أن المراد بالآية المنافقون ، لأن الآيات المتقدمة جميعا
تدل على أن الخطاب للمنافقين أصلا ، وهذا الحديث فيه أن ثعلبة كان مؤمنا ثم نافق
بل ارتد.
٢ ـ الآية
الآتية فيها (الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ...) فكيف يلمز ثعلبة المطّوعين ويهزأ بهم مع أنه منقطع وحيدا
في أعالي الجبال وبطون الوديان؟!! ٣ ـ هذه الآية تذكر (فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) والحديث يذكر أنه تاب وآمن وأناب ، لكن لم يقبل منه.
٤ ـ الحديث
يذكر عدم قبول صدقات المنافقين. وهذا كان أوّلا ، يدل عليه قوله تعالى (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ
نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) [التوبة : ٥٤] ،
لكن هذا نسخ في حق من تاب منهم بقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣].
فهذه الآية ، تأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بأن يقبل الصدقات ممن تاب من المنافقين. ومعلوم أن الآية
لا تخصص في حق رجل أو أكثر إلا بخبر مشهور أو صحيح يرويه الشيخان أو أحدهما بإسناد
كالشمس : فأين هذا الحديث من ذلك.
٥ ـ التوبة لا تحجب عن أحد سوى إبليس ـ والأحاديث في ذلك كثيرة «إن الله يقبل توبة
العبد ما لم يغرغر» وتقدم تخريجه. وهو حديث قوي. وحديث «إن الله يبسط يده بالليل
ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وهذا متفق عليه ، وفي الباب أحاديث
تبلغ حد التواتر. والآيات متظاهرة على قبول توبة التائب ، فهل لهذا الخبر الواهي
من مقام هاهنا.
٦ ـ قد
تواتر محاربة أبي بكر لمانعي الزكاة ، وقال «لأقاتلن من يفرق بين الصلاة والزكاة»
فكيف بمن جاء يؤدي الزكاة تائبا من ذنبه ، ومن تلقاء نفسه ، فهل يرد!! ، مع أخذهم
الزكاة من غيره بالقوة.
٧ ـ لو
كان وقع مثل هذا الخبر ، لجاء متواترا لغرابته ، ولما فيه من ترهيب ، ولكونه بقي
في الجبال والوديان وحيدا منبوذا في عهود متطاولة ، فلكان ذلك على ألسنة الصحابة
والتابعين تحذيرا لمن يفعل فعله ، وكل ذلك لم يكن.
٨ ـ هو
مردود بآيات كثيرة تقبل التوبة ومن ذلك قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) و (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).
الخلاصة : هو حديث
باطل لا أصل له. فالإسناد ساقط كما تقدم ، والمتن منكر عجيب ، وهو مردود بآيات
كثيرة من القرآن الكريم ، وبأحاديث كثيرة ، سواء بقبول التوبة ، أو بوجوب أخذ
الزكاة ، ونحو ذلك والله تعالى أعلم ، فلا يفرح بروايات كهذه إلا اثنان ، إما رجل
لا يبالي برواية الحديث الموضوع وقد تواتر «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من
النار» وإما جاهل لا يعرف من هذا الدين إلا اسمه ، ولا من العلم إلا رسمه. وانظر «تفسير
ابن كثير» عند هذه الآية ، و «تفسير القرطبي» ٣٤٣٢ و «تفسير الشوكاني» ١٦٢٤ «وأحكام
القرآن» ١١٦٩ وهي جميعا بتخريجي ولله الحمد والمنة.
حقّه. فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم ارزق ثعلبة مالا» ، فاتّخذ غنما ، فنمت ، فضاقت
عليه المدينة ، فتنحّى عنها ، ونزل واديا من أوديتها ، حتى جعل يصلّي الظهر والعصر
في جماعة ، ويترك ما سواهما. ثم نمت ، حتى ترك الصّلوات إلّا الجمعة ، ثم نمت ،
فترك الجمعة. فسأل عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخبر خبره ، فقال : «يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، يا
ويح ثعلبة» ، وأنزل الله تعالى : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) وأنزل فرائض الصّدقة ؛ فبعث رسول الله رجلين على الصّدقة ،
وكتب لهما كتابا يأخذان الصّدقة ، وقال : «مرّا بثعلبة ، وبفلان» رجل من بني سليم
، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصّدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فقال : ما هذا إلّا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما
أدري ما هذا ، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إليّ. فانطلقا ؛ فأخبر السّلميّ ،
فاستقبلهما بخيار ماله ، فقالا : لا يجب هذا عليك ؛ فقال : خذاه ، فإنّ نفسي بذلك
طيّبة ؛ فأخذا منه. فلمّا فرغا من صدقتهما ، مرّا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما ،
فقال : ما هذه إلّا أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا ، فأخبرا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بما كان ، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى : (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) ، وكان عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فخرج إلى ثعلبة ، فأخبره ؛ فأتى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : «إنّ الله قد منعني أن
أقبل صدقتك» ؛ فجعل يحثو التراب على رأسه. فقال : «هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني».
فرجع إلى منزله ، وقبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولم يقبل منه شيئا ، فلمّا ولي أبو بكر ، سأله أن يقبل
منه ، فأبى ، فلمّا ولي عمر ، سأله أن يقبل منه ، فأبى ، فلمّا ولي عثمان ، سأله
أن يقبلها ؛ فقال : لم يقبلها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا أبو بكر ولا عمر ، فلم يقبلها ؛ وهلك ثعلبة في خلافة
عثمان رضي الله عنه. روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهليّ.
(٧٣٤) وقال ابن
عباس : مرّ ثعلبة على مجلس ، فأشهدهم على نفسه : لئن آتاني الله من فضله ، آتيت
كلّ ذي حقّ حقّه ، وفعلت كذا وكذا. فآتاه الله من فضله ، فأخلف ما وعد ؛ فقصّ الله
علينا شأنه.
(٧٣٥) والثاني : أنّ رجلا من بني عمرو بن عوف ، كان له مال بالشّام ، فأبطأ
عنه ، فجهد له جهدا شديدا ، فحلف بالله لئن آتانا من فضله ، أي : من ذلك المال ،
لأصّدّقنّ منه ، ولأصلنّ ، فأتاه ذلك المال ، فلم يفعل ، فنزلت هذه الآية ، قاله
ابن السّائب عن أبي صالح عن ابن عباس : قال ابن السّائب : والرّجل حاطب بن أبي
بلتعة.
(٧٣٦) والثالث : أنّ ثعلبة ومعتّب بن قشير ، خرجا على ملا ، فقالا : والله
لئن رزقنا الله لنصّدّقن. فلمّا رزقهما ، بخلا به ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن
، ومجاهد.
____________________________________
(٧٣٤) باطل. أخرجه
الطبري ١٧٠٠١ بسند فيه مجاهيل عن عطية بن سعد العوفي وهو واه ـ عن
ابن عباس ، فهذا الإسناد ساقط ، والمتن باطل ، ثعلبة صحابي بدري.
(٧٣٥) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح ، وهي رواية ساقطة ، فالخبر لا شيء.
(٧٣٦) أخرجه
الطبري ٧٠٠٥ عن الحسن مرسلا. وكرره ١٧٠٠٦ و ١٧٠٠٧ عن مجاهد لكن ليس فيه ذكر القائل
وهو أصح.
__________________
(٧٣٧) والرابع : أنّ نبتل بن الحارث ، وجدّ بن قيس ، وثعلبة بن حاطب ،
ومعتّب بن قشير ، قالوا : لئن آتانا الله من فضله لنصّدّقن. فلمّا آتاهم من فضله
بخلوا به ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضّحّاك.
فأمّا التّفسير ،
فقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ) يعني المنافقين (مَنْ عاهَدَ اللهَ) أي : قال : عليّ عهد الله (لَنَصَّدَّقَنَ) الأصل : لنتصدّقن ، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها. (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : لنعملنّ ما يعمل أهل الصّلاح في أموالهم من صلة الرّحم
والإنفاق في الخير. وقد روى كهمس عن معبد بن ثابت أنه قال : إنما هو شيء نووه في
أنفسهم ، ولم يتكلّموا به ؛ ألم تسمع إلى قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ).
(فَلَمَّا آتاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦))
قوله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي : ما طلبوا من المال (بَخِلُوا بِهِ) ولم يفوا بما عاهدوا (وَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) عن عهدهم.
(فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما
وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))
قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ) أي : صيّر عاقبة أمرهم النّفاق. وفي الضمير في «أعقبهم»
قولان :
أحدهما
: أنها ترجع إلى
الله ، فالمعنى : جازاهم الله بالنّفاق ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
والثاني
: أنها ترجع إلى
البخل ، فالمعنى : أعقبهم بخلهم بما نذروا نفاقا ، قاله الحسن.
قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) يعني المنافقين (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ) وهو ما في نفوسهم (وَنَجْواهُمْ) حديثهم بينهم.
(الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩))
قوله تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) في سبب نزولها قولان :
(٧٣٨) أحدهما : أنه لمّا نزلت آية الصّدقة ، جاء رجل فتصدّق بصاع ، فقالوا
: إنّ الله لغنيّ عن صاع هذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو مسعود.
(٧٣٩) والثاني : أنّ عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقيّة من ذهب ، وجاء
رجل من الأنصار
____________________________________
(٧٣٧) عزاه المصنف
للضحاك ، وهذا مرسل ، فهو واه ، وذكر ثعلبة في هذا الحديث لا يصح ، وأما الباقون
فقد اشتهر نفاقهم.
(٧٣٨) صحيح. أخرجه
البخاري ٤٦٦٨ ومسلم ١٠١٨ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٢٣ وفي «تفسيره» ٢٤٣ وابن ماجة
٤١٥٥ والواحدي في «الأسباب» ٥١٨ كلهم عن أبي مسعود الأنصاري قال : لما أمرنا
بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع ، وجاء إنسان بأكثر منه فقال
المنافقون. إن الله لغني عن صدقة هذا ، وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ....). لفظ البخاري.
(٧٣٩) ذكره
الواحدي في «أسباب النزول ٥١٩ بقوله قال قتادة وغيره ... فذكره وقد أخرجه الطبري
٧٠٢٤ عن قتادة
بصاع من طعام ؛
فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلّا رياء ، وإن كان
الله ورسوله لغنيّين عن هذا الصّاع ، قاله ابن عباس.
وفي هذا الأنصاري
قولان : أحدهما
: أنه أبو خيثمة ،
قاله كعب بن مالك. والثاني
: أنه أبو عقيل. وفي
اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال : أحدها
: عبد الرحمن بن
بيجان ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، ويقال : ابن بيحان ؛ ويقال : سيحان. وقال
مقاتل : هو أبو عقيل بن قيس. والثاني
: أنّ اسمه الحبحاب
، قاله قتادة. والثالث
: الحباب. قال
قتادة : جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف ، وجاء عاصم بن عديّ بن العجلان بمائة وسق من
تمر. و (يَلْمِزُونَ) بمعنى يعيبون. و (الْمُطَّوِّعِينَ) أي : المتطوّعين ، قال الفرّاء : أدغمت التاء في الطاء ،
فصارت طاء مشدّدة. والجهد لغة أهل الحجاز ، ولغة غيرهم الجهد. قال أبو عبيدة :
الجهد ، بالفتح والضمّ سواء ، ومجازه : طاقتهم. وقال ابن قتيبة : الجهد : الطّاقة
؛ والجهد : المشقّة. قال المفسّرون : عني بالمطوّعين عبد الرّحمن ، وعاصم ،
وبالذين لا يجدون إلّا جهدهم : أبو عقيل. وقوله تعالى : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) أي : جازاهم على فعلهم ، وقد سبق هذا المعنى.
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))
قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ).
(٧٤٠) سبب نزولها
: أنه لمّا نزل وعيد اللامزين قالوا : يا رسول الله استغفر لنا ، فنزلت هذه الآية
، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين ، لعلّ الله يغفر لهم»
فنزل قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وظاهر قوله : «استغفر
لهم» الأمر ، وليس كذلك ؛ إنّما المعنى : إن استغفرت ، وإن لم تستغفر ، لا يغفر
لهم ، فهو كقوله تعالى : (أَنْفِقُوا طَوْعاً
أَوْ كَرْهاً) ، وقد سبق شرح هذا المعنى هناك ، هذا قول المحقّقين. وذهب
قوم إلى أنّ ظاهر اللفظ يعطي أنّه إن زاد على السّبعين ، رجي لهم الغفران. ثم نسخت
بقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ).
____________________________________
نحوه مختصرا. وورد
هذا الخبر بألفاظ مختلفة من وجوه متعددة فقد جاء عن ابن عباس مختصرا ، أخرجه
الطبري ١٧٠١٨ وفيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وكرره ١٧٠١٩ مطولا عن
عطية العوفي عن ابن عباس وعطية ضعيف ، ومن دونه مجاهيل ، وورد عن مجاهد مرسلا برقم
١٧٠٢٠ وكرره ١٧٠٢١ و ١٧٠٢٢ وورد عن عمر بن أبي سلمة ١٧٠٢٥ مرسلا وورد عن الربيع بن
أنس مرسلا عند الطبري أيضا برقم ١٧٠٢٦ وأخرجه أيضا ١٢٠٢٧ عن ابن إسحاق ، وهذا معضل
وأخرجه ١٧٠٣٢ عن يحيى بن كثير اليمامي مرسلا ورد عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند
البزار ٢٢١٦ كشف الأستار ، ورجاله ثقات ، لكن رواه مرسلا أيضا بدون ذكر أبي هريرة
فهذه روايات كثيرة مختلفة الألفاظ والمعنى واحد. وهو التصدق من قبل ابن عوف وغيره
، واللمز من قبل المنافقين.
(٧٤٠) عزاه المصنف
لابن عباس من رواية أبي صالح وهو من رواية الكلبي ، فالخبر واه بمرة.
__________________
فإن قيل : كيف جاز
أن يستغفر لهم ، وقد أخبر بأنهم كفروا؟ فالجواب : أنه إنما استغفر لقوم منهم على
ظاهر إسلامهم من غير أن يتحقّق خروجهم عن الإسلام ، ولا يجوز أن يقال : علم كفرهم
ثم استغفر. فإن قيل : ما معنى حصر العدد بسبعين؟ فالجواب : أنّ العرب تستكثر في
الآحاد من سبعة ، وفي العشرات من سبعين.
(فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١))
قوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) يعني المنافقين الذين تخلّفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك. والمخلّف : المتروك خلف من مضى. (بِمَقْعَدِهِمْ) أي : بقعودهم. وفي قوله تعالى : (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) قولان : أحدهما
: أنّ معناه : بعد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله أبو عبيدة. والثاني : أنّ معناه : مخالفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو منصوب ، لأنه مفعول له ، فالمعنى : بأن قعدوا
لمخالفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله الزّجّاج. وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، والأعمش ،
وابن أبي عبلة : «خلف رسول الله» ، ومعناها : أنهم تأخّروا عن الجهاد. وفي قوله
تعالى : (لا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ) قولان : أحدهما
: أنه قول بعضهم
لبعض ، قاله ابن إسحاق ، ومقاتل. والثاني : أنهم قالوه للمؤمنين ، ذكره الماوردي. وإنّما قالوا هذا ،
لأنّ الزمان كان حينئذ شديد الحرّ. (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا) لمن خالف أمر الله. وقوله تعالى : (يَفْقَهُونَ) معناه : يعلمون. قال ابن فارس : الفقه : العلم بالشيء.
تقول : فقهت الحديث أفقهه ؛ وكلّ علم بشيء : فقه. ثم اختصّ به علم الشّريعة ، فقيل
لكلّ عالم بها : فقيه. قال المصنّف : وقال شيخنا عليّ بن عبيد الله : الفقه في
إطلاق اللغة : الفهم ، وفي عرف الشّريعة : عبارة عن معرفة الأحكام الشّرعية المتعلّقة
بأفعال المكلّفين ، بنحو التّحليل ، والتّحريم ، والإيجاب ، والإجزاء ، والصّحة ،
والفساد ، والغرم ، والضّمان ، وغير ذلك. وبعضهم يختار أن يقال : الفقه : فهم
الشيء ، وبعضهم يختار أن يقال : علم الشيء.
(فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢))
قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) لفظه لفظ الأمر ومعناه التّهديد. وفي قلّة ضحكهم وجهان : أحدهما : أنّ الضّحك في الدنيا ، لكثرة حزنها وهمومها ، قليل ،
وضحكهم فيها أقلّ ، لما يتوجّه إليهم من الوعيد. والثاني : أنهم إنّما يضحكون في الدنيا ، وبقاؤها قليل. (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) في الآخرة. قال أبو موسى الأشعريّ : إنّ أهل النار ليبكون
الدّموع في النار ، حتى لو أجريت السّفن في دموعهم لجرت ، ثم إنهم ليبكون الدّم
بعد الدّموع ، فلمثل ما هم فيه فليبكى.
قوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : من النّفاق والمعاصي.
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))
قوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) أي : ردّك من غزوة تبوك إلى المدينة (إِلى طائِفَةٍ) من المنافقين الذين تخلّفوا بغير عذر. وإنّما قال : (إِلى طائِفَةٍ) لأنه ليس كلّ من تخلّف عن تبوك كان منافقا.
(فَاسْتَأْذَنُوكَ
لِلْخُرُوجِ) معك إلى الغزو ، (فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) إلى غزاة ، (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ) عنّي (أَوَّلَ مَرَّةٍ) حين لم تخرجوا إلى تبوك. وذكر الماوردي في قوله تعالى : (أَوَّلَ مَرَّةٍ) قولين : أحدهما
: أول مرّة دعيتم. والثاني : قبل استئذانكم.
وأمّا الخالفون ،
فقال أبو عبيدة : الخالف : الذي خلف بعد شاخص ، فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلّف عن
القوم. وفي المراد بالخالفين قولان : أحدهما : أنهم الرّجال الذين تخلّفوا لأعذار ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم النّساء قاله الحسن ، وقتادة.
(وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤))
قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ).
(٧٤١) سبب نزولها
: أنه لمّا توفي عبد الله بن أبيّ ، جاء ابنه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : أعطني
قميصك حتى أكفّنه فيه ، وصلّ عليه ، واستغفر له. فأعطاه قميصه ؛ فقال : آذنّي
أصلّي عليه ، فآذنه ، فلمّا أراد أن يصلّي عليه ، جذبه عمر بن الخطّاب ، وقال :
أليس قد نهاك الله أن تصلّي على المنافقين؟ فقال : «أنا بين خيرتين» : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فصلّى عليه ، فنزلت هذه الآية ، رواه نافع عن ابن عمر.
(٧٤٢) قال قتادة :
ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «ما يغني عنه قميصي من عذاب الله تعالى ، والله
إنّي لأرجو أن يسلم به ألف من قومه». قال الزجّاج : فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج
لمّا رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأراد الصلاة عليه.
فأمّا قوله تعالى
: «منهم» فإنه يعني المنافقين. وقوله تعالى : (وَلا تَقُمْ عَلى
قَبْرِهِ).
(٧٤٣) قال
المفسّرون : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إذا دفن الميّت ، وقف على قبره ودعا له ؛ فنهي عن ذلك في
حقّ المنافقين. وقال ابن جرير : معناه : لا تتولّ دفنه ؛ وهو من قولك : قام فلان
بأمر فلان. وقد تقدم تفسيره.
(وَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا
الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ
____________________________________
(٧٤١) صحيح. أخرجه
البخاري ١٢٦٩ ومسلم ٢٧٧٤ ص ١٨٦٥ والترمذي ٣٠٩٨ والنسائي ٤ / ٣٧ وفي «التفسير» ٢٤٤
وابن ماجة ١٥٢٣ والواحدي ٥٢٠ والبيهقي ٣ / ٤٠٢ وفي «الدلائل» ٥ / ٢٨٧ من حديث ابن
عمر.
(٧٤٢) غريب هكذا.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٢٩٩ : لم أره هكذا وأصله أخرجه الطبري .... اه.
قلت : هو عند
الطبري ١٧٠٧٣ عن قتادة في أثناء حديث وفيه : «وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم كلّم في ذلك فقال : وما يغني عنه قميصي من الله ـ أو من
ربي ـ وإني لأرجو أن يسلم به ألف من قومه» وهذا مرسل
ورواه بصيغة التمريض فهو ضعيف.
(٧٤٣) عزاه المصنف
للمفسرين ، ولم أقف عليه. وانظر تفسير «القرطبي» ٨ / ٢٠٤.
__________________
الْقاعِدِينَ
(٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))
قوله تعالى : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ). سبق تفسيره. قوله تعالى : (وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ) هذا عامّ في كلّ سورة. وقال مقاتل : المراد بها سورة (براءة).
قوله تعالى : (أَنْ آمِنُوا) أي : بأن آمنوا. وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : استديموا الإيمان. والثاني : افعلوا فعل من آمن. والثالث : آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم ، فعلى هذا يكون الخطاب
للمنافقين.
قوله تعالى : (اسْتَأْذَنَكَ) أي : في التّخلّف. (أُولُوا الطَّوْلِ) يعني الغنى ، وهم الذين لا عذر لهم في التّخلّف. وفي «الخوالف»
قولان : أحدهما
: أنهم النّساء ،
قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وشمر بن عطيّة ، وابن زيد ، والفرّاء. وقال أبو
عبيدة : يجوز أن تكون الخوالف ها هنا النساء ، ولا يكادون يجمعون الرّجال على
تقدير فواعل ، غير أنهم قد قالوا : فارس ، والجميع : فوارس ، وهالك هوالك. قال ابن
الأنباري : الخوالف لا يقع إلّا على النساء ، إذ العرب تجمع فاعلة : فواعل ؛
فيقولون : ضاربة ، وضوارب ، وشاتمة ، وشواتم ؛ ولا يجمعون فاعلا : فواعل ، إلّا في
حرفين : فوارس ، وهوالك ؛ فيجوز أن يكون مع الخوالف : المتخلّفات في المنازل.
ويجوز أن يكون : مع المخالفات العاصيات. ويجوز أن يكون : مع النساء العجزة اللاتي
لا مدافعة عندهنّ. والقول
الثاني : أنّ الخوالف : خساس
الناس وأدنياؤهم ؛ يقال : فلان خالفة أهله : إذا كان دونهم ، ذكره ابن قتيبة.
فأمّا «طبع» ، فقال أبو عبيدة : معناه : ختم. و «الخيرات» جمع خيرة. وللمفسّرين في
المراد بالخيرات ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها الفاضلات من
كلّ شيء ، قاله أبو عبيدة. والثاني
: الجواري الفاضلات
، قاله المبرّد. والثالث
: غنائم الدنيا
ومنافع الجهاد ، ذكره الماوردي.
(وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا
اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))
قوله تعالى : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) وقرأ ابن مسعود : «المعتذرون». وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ،
وقتادة ، وابن يعمر ، ويعقوب «المعذرون» بسكون العين وتخفيف الذال. وقرأ ابن
السّميفع «المعاذرون» بألف. قال أبو عبيدة : المعذّرون من يعذّر وليس بجادّ وإنما
يعرّض بما لا يفعله ؛ أو يظهر غير ما في نفسه. وقال ابن قتيبة : يقال : عذّرت في
الأمر : إذا قصّرت ، وأعذرت : جددت. وقال الزّجّاج : من قرأ «المعذّرون» بتشديد
الذال ، فتأويله : المعتذرون الذين يعتذرون ، كان لهم عذر ، أو لم يكن ، وهو ها
هنا أشبه بأن يكون لهم عذر ، وأنشدوا :
إلى الحول ثمّ
اسم السّلام عليكما
|
|
ومن يبك حولا
كاملا فقد اعتذر
|
أي : فقد جاء بعذر
، ويجوز أن يكون «المعذّرون» الذين يعذّرون ، يوهمون أنّ لهم عذرا ، ولا
__________________
عذر لهم ، ويجوز
في النّحو : المعذّرون ؛ بكسر العين ، والمعذرون ؛ بضمّ العين ، غير أنه لم يقرأ
بهما ، لأنّ اللفظ بهما يثقل. ومن قرأ «المعذرون» بتسكين العين ، فتأويله : الذين
أعذروا وجاءوا بعذر. وقال ابن الأنباري : المعذّرون ها هنا : المعتذرون بالعذر
الصّحيح. وأصل الكلمة عند أهل النّحو : المعتذرون ، فحوّلت فتحة التاء إلى العين ،
وأبدلت الذال من التاء وأدغمت في الذال التي بعدها فصارتا ذالا مشدّدة ، ويقال في
كلام العرب : اعتذر ، إذا جاء بعذر صحيح ، وإذا لم يأت بعذر. قال الله تعالى : (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) فدل على فساد العذر ، وقال لبيد :
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
أي : فقد جاء بعذر
صحيح. وكان ابن عباس يقرأ «المعذّرون» ويقول : لعن الله المعذّرين. يريد : لعن
الله المقصّرين من المنافقين وغيرهم. والمعذرون : الذين يأتون بالعذر الصّحيح ؛
فبان من هذا الكلام أنّ لهم عذرا على قراءة من خفّف. وهل يثبت لهم عذر على قراءة
من شدّد؟ فيه قولان. قال المفسّرون : جاء هؤلاء ليؤذن لهم في التّخلّف عن تبوك ،
فأذن لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علّة ، جرأة
على الله تعالى.
(لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ
(٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ (٩٣))
قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر ، قاله
قتادة. والثاني
: في ابن مكتوم ،
قاله الضّحّاك. وفي المراد بالضّعفاء ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الزّمنى والمشايخ الكبار قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنهم الصّغار. والثالث : المجانين ؛ سمّوا ضعافا لضعف عقولهم ، ذكر القولين
الماوردي. والصّحيح أنّهم الذين يضعفون لزمانة ، أو عمى ، أو سنّ أو ضعف في الجسم.
والمرضى : الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال ، و (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) هم المقلّون ، والحرج : الضّيق في القعود عن الغزو بشرط
النّصح لله ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، وفيه وجهان : أحدهما : أنّ المعنى : إذا برئوا من النّفاق. والثاني : إذا قاموا بحفظ الذّراري والمنازل. فإن قيل بالوجه الأول ،
فهو يعمّ جميع المذكورين. وإن قيل بالثاني. فهو يخصّ المقلّين. وإنما شرط النّصح ،
لأنّ من تخلّف بقصد السّعي بالفساد ، فهو مذموم ؛ ومن النّصح لله : حثّ المسلمين
على الجهاد ، والسّعي في إصلاح ذات بينهم ، وسائر ما يعود باستقامة الدّين.
قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ؛ من طريق بالعقوبة ، لأنّ المحسن قد سدّ بإحسانه باب
العقاب. قوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ
إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) نزلت في البكّائين ، واختلف في عددهم وأسمائهم.
(٧٤٤) فروى أبو
صالح عن ابن عباس قال : هم ستة : عبد الله بن مغفّل ، وصخر بن سلمان ، وعبد الله
بن كعب الأنصاري ، وعليّة بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن عنمة ،
أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليحملهم ، فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه» فانصرفوا باكين.
وقد ذكر محمّد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان : سلمة بن صخر ، ومكان ثعلبة
بن عنمة : عمرو بن عنمة. قال : وقيل : منهم معقل بن يسار.
(٧٤٥) وروى ابن
إسحاق عن أشياخ له أنّ البكّائين سبعة من الأنصار : سالم بن عمير ، وعليّة بن زيد
، وأبو ليلى عبد الرّحمن بن كعب ، وعمرو بن الحمام بن الجموح ، وعبد الله بن
مغفّل. وبعض الناس يقول : بل عبد الله بن عمرو المزنيّ ، وعرباض بن سارية ، وهرميّ
بن عبد الله أخو بني واقف.
(٧٤٦) وقال مجاهد
: نزلت في بني مقرّن ، وهم سبعة ؛ وقد ذكرهم محمّد بن سعد ، فقال : النّعمان بن عمرو
بن مقرّن. وقال أبو خيثمة : هو النّعمان بن مقرّن ، وسويد بن مقرّن ، ومعقل بن
مقرّن ، وسنان بن مقرّن ، وعقيل بن مقرّن ، وعبد الرّحمن بن مقرّن ، وعبد الرّحمن
بن عقيل بن مقرّن. وقال الحسن البصريّ : نزلت في أبي موسى وأصحابه.
وفي الذي طلبوا من
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الدّوابّ ، قاله ابن عباس. والثاني : الزّاد ، قاله أنس بن مالك. والثالث : النّعال ، قاله الحسن.
(يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ
قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤))
قوله تعالى : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ).
(٧٤٧) قال ابن
عباس : نزلت في المنافقين ، يعتذرون إليكم إذا رجعتم من غزوة تبوك ، فلا تعذروهم
فليس لهم عذر. فلما رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتوه يعتذرون ، فقال الله تعالى : (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) لن نصدّقكم ، قد أخبرنا الله أنه ليس لكم عذر (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) إن عملتم خيرا وتبتم من تخلّفكم (ثُمَّ تُرَدُّونَ) بعد الموت (إِلى عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فيخبركم بما كنتم تعملون في السّرّ والعلانية.
(سَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥))
____________________________________
(٧٤٤) مرسل. أخرجه
الطبري ١٧١٠٣ عن محمد بن كعب مرسلا ، وله شواهد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
٥٢٢ بدون إسناد.
(٧٤٥) أخرجه
الطبري ١٧١٠٤ عن ابن إسحاق مختصرا. وعزاه في «الدر» ٣ / ٤٨٠ لابن إسحاق وابن
المنذر وأبي الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وغيرهما.
(٧٤٦) ذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٣ عن مجاهد مرسلا. وأخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ٣ / ٤٨٠ عن مجاهد مرسلا.
(٧٤٧) عزاه المصنف
لابن عباس ، ولم أقف عليه.
قوله تعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) قال مقاتل : حلف منهم بضعة وثمانون رجلا ، منهم جدّ بن قيس
، ومعتّب بن قشير. قوله تعالى : (لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ) فيه قولان : أحدهما : لتصفحوا عن ذنبهم. والثاني : لأجل إعراضكم. وقد شرحنا في (المائدة) معنى الرّجس.
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ
الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))
قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ)
(٧٤٨) قال مقاتل :
حلف عبد الله بن أبيّ للنبيّ صلىاللهعليهوسلم لا أتخلّف عنك ، ولأكوننّ معك على عدوّك ؛ وطلب منه أن
يرضى عنه ، وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطّاب ، وجعلوا يترضّون
النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لمّا قدم المدينة : لا تجالسوهم ولا تكلّموهم».
(الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧))
قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً) قال ابن عباس : نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول
المدينة ، أخبر الله أنّ كفرهم ونفاقهم أشدّ من كفر أهل المدينة ، لأنّهم أقسى
وأجفى من أهل الحضر. قوله تعالى : (وَأَجْدَرُ أَلَّا
يَعْلَمُوا) قال الزّجّاج : «أن» في موضع نصب ، لأنّ الباء محذوفة من «أن»
، المعنى : أجدر بترك العلم. تقول : جدير أن تفعل ، وجدير بأن تفعل ، كما تقول :
أنت خليق بأن تفعل ، أي : هذا الفعل ميسّر فيك ؛ فإذا حذفت الباء لم يصلح إلّا ب «أن»
، وإن أتيت بالباء ، صلح ب «أن» وغيرها ، فتقول : أنت جدير بأن تقوم وجدير
بالقيام. فإذا قلت : أنت جدير القيام ، كان خطأ ، وإنما صلح مع «أن» لأنّ «أن»
تدلّ على الاستقبال ، فكأنّها عوض من المحذوف. فأمّا قوله تعالى : (حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) فيعني به الحلال والحرام والفرائض. وقيل : المراد بالآية
أنّ الأعمّ في العرب هذا.
(وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨))
قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما
يُنْفِقُ) إذا خرج في الغزو ، وقيل : ما يدفعه من الصّدقة (مَغْرَماً) لأنه لا يرجو له ثوابا. قال ابن قتيبة : المغرم : هو الغرم
والخسر. وقال ابن فارس : الغرم : ما يلزم أداؤه ، والغرام : اللازم ، وسمّي الغريم
لإلحاحه. وقال غيره : وفي الالتزام ما لا يلزم. قوله تعالى : (وَيَتَرَبَّصُ) أي : وينتظر (بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي : دوائر الزّمان بالمكروه ، بالموت ، أو القتل ، أو
الهزيمة. وقيل : ينتظر موت الرّسول صلىاللهعليهوسلم وظهور المشركين.
قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضمّ السين. وقرأ نافع ، وعاصم
وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «السّوء» بفتح السين ؛ وكذلك قرءوا في سورة (الفتح)
، والمعنى :
____________________________________
(٧٤٨) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو متهم بالكذب ، فالخبر لا شيء.
__________________
عليهم يعود ما
ينتظرونه لك من البلاء. قال الفرّاء : وفتح السين من السّوء هو وجه الكلام. فمن
فتح أراد المصدر من : سؤته سوءا ومساءة ، ومن رفع السين ، جعله اسما ، كقولك :
عليهم دائرة البلاء والعذاب. لا يجوز ضمّ السّين في قوله تعالى : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) ولا في قوله تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ
السَّوْءِ) لأنه ضدّ لقولك : رجل صدق. وليس للسّوء ها هنا معنى في
عذاب ولا بلاء ، فيضمّ.
(وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ
عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ
اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))
قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللهِ) قال ابن عباس : وهم من أسلم من الأعراب ، مثل جهينة ،
وأسلم ، وغفار. وفي قوله تعالى : (وَيَتَّخِذُ ما
يُنْفِقُ) قولان : أحدهما
: في الجهاد. والثاني : في الصّدقة. فأمّا القربات ، فجمع قربة ، وهي : ما يقرّب
العبد من رضى الله ومحبّته. قال الزّجّاج : وفي القربات ثلاثة أوجه : ضمّ الراء ،
وفتحها ، وإسكانها. وفي المراد بصلوات الرّسول قولان : أحدهما : استغفاره ، قاله ابن عباس. والثاني : دعاؤه ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج ، وأنشد
الزّجّاج :
عليك مثل الذي
صلّيت فاغتمضي
|
|
نوما ، فإنّ لجنب
المرء مضطجعا
|
قال : إن شئت قلت
: مثل الذي ، ومثل الذي ؛ فالأول أمر لها بالدّعاء ، كأنه قال : ادعي لي مثل الذي
دعوت. والثاني بمعنى : عليك مثل هذا الدّعاء.
قوله تعالى : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ،
والكسائيّ : «قربة لهم» خفيفة. وروى ورش ، وإسماعيل بن جعفر عن نافع ، وأبان ،
والمفضّل عن عاصم : «قربة لهم» بضمّ الراء. وفي المشار إليها وجهان : أحدهما : أنّ الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم. والثاني : إلى صلوات الرّسول.
قوله تعالى : (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) قال ابن عباس : في جنّته.
(وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (١٠٠))
قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) فيهم ستة أقوال : أحدها : أنهم الذين صلّوا إلى القبلتين مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله أبو موسى الأشعريّ ، وسعيد بن المسيّب ، وابن سيرين
، وقتادة. والثاني
: أنهم الذين
بايعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيعة الرّضوان ، وهي الحديبية ، قاله الشّعبيّ. والثالث : أنهم أهل بدر ، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع : أنهم جميع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حصل لهم السّبق بصحبته. قال محمّد بن كعب القرظيّ : إنّ
الله قد غفر لجميع أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأوجب لهم الجنّة محسنهم ومسيئهم
__________________
في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ). والخامس
: أنهم السّابقون
بالموت والشّهادة ، سبقوا إلى ثواب الله تعالى. ذكره الماوردي. والسادس : أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة ، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى : (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) قرأ يعقوب : «والأنصار» برفع الراء.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) من قال : إنّ السّابقين جميع الصّحابة ، جعل هؤلاء تابعي
الصّحابة ، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال : والذين اتّبعوهم بإحسان
إلى أن تقوم الساعة. ومن قال : هم المتقدّمون من الصّحابة ، قال : هؤلاء تبعوهم في
طريقهم ، واقتدوا بهم في أفعالهم ، ففضّل أولئك بالسّبق ، وإن كانت الصّحبة حاصلة
للكلّ. وقال عطاء : اتّباعهم إيّاهم بإحسان : أنهم يذكرون محاسنهم ويترحّمون
عليهم.
قوله تعالى : (تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) قرأ ابن كثير : «من تحتها» فزاد «من» وكسر التاء الثانية. وقوله
تعالى : (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) يعمّ الكلّ ، قال الزّجّاج : رضي الله أفعالهم ، ورضوا ما
جازاهم به.
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١))
قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ
مُنافِقُونَ) قال ابن عباس : مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع ،
كان فيهم بعد إسلامهم منافقون. قال مقاتل : وكانت منازلهم حول المدينة. وقوله
تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) قال ابن عباس : مرنوا عليه وثبتوا ، منهم عبد الله بن أبيّ
، وجدّ بن قيس ، والجلاس ، ومعتّب ، ووحوح ، وأبو عامر الرّاهب. وقال أبو عبيدة :
عتوا ومرنوا عليه ، وهو من قولهم : تمرّد فلان ، ومنه : شيطان مريد.
فإن قيل : كيف قال
: (وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا) ، وليس يجوز في الكلام : من القوم قعدوا؟ فعنه ثلاثة أجوبة
: أحدها
: أن تكون «من»
الثانية مردودة على الأولى ؛ والتقدير : وممّن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة
منافقون ، ثم استأنف «مردوا». والثاني
: أن يكون في
الكلام «من» مضمر ، تقديره : ومن أهل المدينة من مردوا ؛ فأضمرت «من» لدلالة «من»
عليها ، كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) يريد : إلّا من له مقام معلوم ؛ وعلى هذا ينقطع الكلام عند
قوله تعالى : «منافقون». والثالث
: أنّ «مردوا»
متعلّق بمنافقين ، تقديره : ومن أهل المدينة منافقون مردوا ، ذكر هذه الأجوبة ابن
الأنباري. قوله تعالى : (لا تَعْلَمُهُمْ) فيه وجهان : أحدهما : لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم. والثاني : لا تعلم عواقبهم.
قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) فيه عشرة أقوال : أحدها
: أنّ العذاب الأول
في الدنيا ، وهو فضيحتهم بالنّفاق. والعذاب الثاني : عذاب القبر ، قاله ابن عباس.
__________________
(٧٤٩) قال : وقام
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم جمعة خطيبا ، فقال : «يا فلان اخرج فإنك منافق ، ويا
فلان اخرج» ففضحهم.
والثاني
: أنّ العذاب
الأوّل : إقامة الحدود عليهم ، والثاني
: عذاب القبر ؛
وهذا مرويّ عن ابن عباس أيضا. والثالث
: أنّ أحد العذابين
: الزّكاة التي تؤخذ منهم ، والآخر : الجهاد الذي يؤمرون به ، قاله الحسن. والرابع : الجوع ، وعذاب القبر ، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
، وبه قال أبو مالك. والخامس
: الجوع والقتل ،
رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسادس : القتل والسّبي ، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال
ابن قتيبة : القتل والأسر. والسابع
: أنهم عذّبوا
بالجوع مرّتين ، رواه خصيف عن مجاهد. والثامن : أنّ عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد ، وفي
الآخرة بالنار ، قاله ابن زيد. والتاسع
: أنّ الأول : عند
الموت ، تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، والثاني : في القبر بمنكر ونكير ، قاله مقاتل بن سليمان. والعاشر : أنّ الأول بالسّيف ، والثاني عند الموت ؛ قاله مقاتل بن
حيّان.
قوله تعالى : (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) يعني عذاب جهنّم.
(وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))
قوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :
(٧٥٠) أحدهما : أنهم عشرة رهط تخلّفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، فلمّا دنا رجوع النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد. فلمّا رآهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : «من هؤلاء»؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له
تخلّفوا عنك ، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم ، فقال : «وأنا
أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم ، رغبوا عنّي
وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين» ، فنزلت هذه الآية ، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم ،
رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٧٥١) وروى
العوفيّ عن ابن عباس أنّ الذين تخلّفوا كانوا ستة ، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان
____________________________________
(٧٤٩) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٧١٣٧ والطبراني في «الأوسط» ٧٩٦ من حديث ابن عباس ، وإسناده ضعيف لضعف
حسين بن عمرو العنقزي ، وقد ضعفه الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٣٤ به ، وفيه السدي فيه
ضعف.
(٧٥٠) أخرجه
الطبري ١٧١٥١ والبيهقي في «الدلائل» ٥ / ٢٧١ و ٢٧٢ من رواية علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس ، وفيه إرسال بينهما. وكرره الطبري ١٧١٥٢ عن عطية العوفي عن ابن عباس ،
وعطية هو ابن سعد. ضعيف الحديث ، وعنه مجاهيل. وورد من مرسل الضحاك. أخرجه الطبري
١٧١٥٨ ومن مرسل سعيد بن أبي عروبة برقم ١٧١٥٤ لكن باختصار فلعل هذه الروايات تتأيد
بمجموعها والله أعلم.
(٧٥١) أخرجه
الطبري ١٧١٥٢ بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس ، وانظر ما تقدم.
__________________
معه ، وبقي ثلاثة
لم يوثقوا أنفسهم ، فلمّا نزلت هذه الآية ، أطلقهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعذرهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة : أبو
لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خذام الأنصاري. وقال سعيد بن
جبير ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم : كانوا ثمانية. وقال قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا
سبعة .
والثاني
: أنها نزلت في أبي
لبابة وحده. واختلفوا في ذنبه على قولين : أحدهما : أنه خان الله ورسوله بإشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في
النّزول على حكم سعد أنه الذّبح ، وهذا قول مجاهد ، وقد شرحناه في سورة الأنفال . والثاني
: أنه تخلّفه عن
تبوك. قاله الزّهريّ. فأمّا الاعتراف ، فهو الإقرار بالشيء عن معرفة. والاعتراف
بالذّنب أدعى إلى صدق التّوبة والقبول.
قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً) قال ابن جرير : وضع الواو مكان الباء ، والمعنى : بآخر سيء
، كما يقال : خلطت الماء واللبن. وفي ذلك العمل قولان : أحدهما : أنّ العمل الصالح : ما سبق من جهادهم ، والسّيئ : التّأخّر
عن الجهاد ، قاله السّدّيّ. والثاني
: أنّ العمل الصالح
: توبتهم ، والسّيئ : تخلّفهم ، ذكره الفرّاء.
وفي قوله تعالى : (عَسَى اللهُ) قولان : أحدهما
: أنه واجب من الله
تعالى ، قاله ابن عباس. والثاني
: أنه ترديد لهم
بين الطّمع والإشفاق ، وذلك يصدّ عن اللهو والإهمال.
(خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣))
قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً).
(٧٥٢) قال
المفسّرون : لمّا تاب الله عزوجل على أبي لبابة وأصحابه ، قالوا : يا رسول الله ، هذه
أموالنا فتصدّق بها عنّا ، فقال «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت هذه
الآية.
____________________________________
(٧٥٢) أخرجه
الطبري ١٧١٦٧ عن ابن عباس ، وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وأخرجه
برقم ١٧١٦٨ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي ، وهو ضعيف عن ابن عباس. وأخرجه ١٧١٧٢
عن الضحاك مرسلا.
__________________
وفي هذه الصّدقة
قولان : أحدهما
: أنها الصّدقة
التي بذلوها تطوّعا ، قاله ابن زيد ، والجمهور. والثاني : الزّكاة ، قاله عكرمة.
قوله تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ) وقرأ الحسن «تطهرهم بها» بجزم الراء. قال الزّجّاج : يصلح
أن يكون قوله : «تطهرهم» نعتا للصّدقة كأنّه قال : خذ من أموالهم صدقة مطهّرة.
والأجود أن يكون للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، المعنى : فإنك تطهّرهم بها ف «تطهرهم» بالجزم ، على جواب
الأمر ، المعنى : إن تأخذ من أموالهم ، تطهّرهم. ولا يجوز في : «تزكّيهم» إلّا
إثبات الياء. اتّباعا للمصحف. قال ابن عباس : «تطهرهم» من الذّنوب ، «وتزكيهم» :
تصلحهم. وفي قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) قولان : أحدهما
: استغفر لهم ،
قاله ابن عباس. والثاني
: ادع لهم ، قاله
السّدّيّ.
قوله تعالى : (إِنَّ صَلاتَكَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر ، وأبو بكر عن
عاصم «إن صلواتك» على الجمع. وقرأ حمزة والكسائيّ ، وحفص عن عاصم «إن صلاتك» على
التّوحيد. وفي قوله تعالى : (سَكَنٌ لَهُمْ) خمسة أقوال : أحدها : طمأنينة لهم أنّ الله قد قبل منهم ، قاله أبو صالح عن ابن
عباس ، وقال أبو عبيدة : تثبيت وسكون. والثاني : رحمة لهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : قربة لهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والرابع : وقار لهم ، قاله قتادة. والخامس : تزكية لهم ، حكاه الثّعلبيّ. قال الحسن وقتادة : وهؤلاء
سوى الثلاثة الذين خلّفوا.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى
اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))
قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) قرأ الجمهور «يعلموا» بالياء. وروى عبد الوارث «تعلموا»
بالتاء. وقوله تعالى : (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ) قال أبو عبيدة : أي : من عبيده ، تقول : أخذته منك ،
وأخذته عنك. وقوله تعالى : (وَيَأْخُذُ
الصَّدَقاتِ) قال ابن قتيبة : أي : يقبلها. ومثله : (خُذِ الْعَفْوَ) أي : اقبله.
__________________
قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا) قال ابن زيد : هذا خطاب للذين تابوا.
(وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))
قوله تعالى : «وآخرون
مرجؤون» وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائيّ (مُرْجَوْنَ) بغير همز.
(٧٥٣) والآية نزلت
في كعب بن مالك ، ومرارة بن الرّبيع ، وهلال بن أميّة ، وكانوا فيمن تخلّف عن تبوك
من غير عذر ، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، ولم يوثقوا
أنفسهم بالسّواري ؛ فوقف رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمرهم ، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله
تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا) .
قال الزّجّاج : «وآخرون»
عطف على قوله : «ومن أهل المدينة» ، فالمعنى : منهم منافقون ، ومنهم «آخرون مرجون»
أي : مؤخّرون ؛ و «إما» لوقوع أحد الشّيئين ، والله تعالى عالم بما يصير إليه
أمرهم ، لكنه خاطب العباد بما يعلمون ، فالمعنى : ليكن أمرهم عندكم على الخوف
والرّجاء. قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) أي : عليم بما يؤول إليه حالهم ، حكيم بما يفعله بهم.
(وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «والذين»
بواو ، وكذلك هي في مصاحفهم. وقرأ نافع ، وابن عامر : «الذين» بغير واو ، وكذلك هي
في مصاحف أهل المدينة والشّام. قال أبو عليّ : من قرأ بالواو ، فهو معطوف على ما
قبله ، نحو قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ) (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَ) ، والمعنى : ومنهم الذين اتّخذوا مسجدا. ومن حذف الواو ،
فعلى وجهين : أحدهما
: أن يضمر ـ ومنهم
الذين اتّخذوا ـ كقوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ) ، المعنى : فيقال لهم : أكفرتم. والثاني : أن يضمر الخبر بعد ، كما أضمر في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) المعنى : ينتقم منهم ويعذّبون.
(٧٥٤) قال أهل
التّفسير : لمّا اتّخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ،
____________________________________
(٧٥٣) أخرجه
الطبري ١٧١٨٩ عن ابن عباس بسند فيه مجاهيل. ورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه الطبري
١٧١٨٨.
وفيه إرسال بين
علي بن أبي طلحة وابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٢٦ بدون ذكر السند.
(٧٥٤) عزاه الحافظ
في «تخريجه» ٢ / ٣٠٩ للثعلبي فقال : لم أجده بهذا السياق إنما في الثعلبي بلا
إسناد. وليس صدره بصحيح ، فإن مسجد قباء كان قد أسس والنبي صلىاللهعليهوسلم بقباء أول ما هاجر ، وبني مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك
وبينهما تسع سنين ا. ه وذكره البغوي في «تفسيره» ٢ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥
مطولا بدون إسناد ولم يذكر صدره ، وبنحوه ورد صدره عن ابن عباس أخرجه الطبري ١٧٢٠٢
وفيه عطية العوفي واه ، وعنه مجاهيل
__________________
فأتاهم ، فصلّى
فيه ؛ حسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وكانوا من منافقي الأنصار ، فقالوا : نبني
مسجدا ، ونرسل إلى رسول الله فيصلّي فيه ، ويصلّي فيه أبو عامر الرّاهب إذا قدم من
الشّام ؛ وكان أبو عامر قد ترهّب في الجاهليّة وتنصّر ، فلمّا قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، عاداه ، فخرج إلى الشّام ، وأرسل إلى المنافقين
أن أعدّوا ما استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا ، فإنّي ذاهب إلى قيصر فآتي
بجند الرّوم فأخرج محمّدا وأصحابه ، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء ؛ وكان
الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد ، ونبتل بن الحارث
، وبجاد بن عثمان ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتّب بن قشير ، وعبّاد بن حنيف ، ووديعة بن
ثابت ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وجارية بن عامر ، وابناه يزيد ومجمّع ؛ وكان مجمّع
إمامهم فيه ، ثم صلحت حاله ، وبحزج جدّ عبد الله بن حنيف ، وهو الذي قال له رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ما أردت بما أرى»؟ فقال : والله ما أردت إلّا الحسنى ،
وهو كاذب. وقال مقاتل : الذي حلف مجمّع.
(٧٥٥) وقيل :
كانوا سبعة عشر ؛ فلمّا فرغوا منه ، أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إنما قد ابتنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة
والليلة المطيرة ، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه ؛ فدعا بقميصه ليلبسه ، فنزل
عليه القرآن وأخبره الله خبرهم ، فدعا معن بن عديّ ، ومالك بن الدّخشم في آخرين ،
وقال : «انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله ، فاهدموه وأحرقوه» ، وأمر به رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أن يتّخذ كناسة تلقى فيها الجيف. ومات أبو عامر بالشام
وحيدا غريبا.
فأمّا التّفسير ،
فقال الزّجّاج : «الذين» في موضع رفع ، المعنى : ومنهم الذين اتّخذوا مسجدا ضرارا.
و «ضرارا» انتصب مفعولا له ، المعنى : اتّخذوه للضّرار والكفر والتّفريق والإرصاد.
فلمّا حذفت اللام ، أفضى الفعل فنصب. قال المفسّرون : والضّرار بمعنى المضارّة
لمسجد قباء ، (وَكُفْراً) بالله ورسوله (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم كانوا يصلّون في مسجد قباء جميعا ، فأرادوا تفريق
جماعتهم ، والإرصاد : الانتظار ، فانتظروا به مجيء أبي عامر ، وهو الذي حارب الله
ورسوله من قبل بناء مسجد الضّرار. (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا) أي : ما أردنا (إِلَّا الْحُسْنى) أي : ما أردنا بابتنائه إلّا الحسنى ؛ وفيها ثلاثة أوجه : أحدها : طاعة الله. والثاني : الجنّة. والثالث
: فعل التي هي أحسن
من إقامة الدّين والاجتماع للصّلاة. وقد ذكرنا اسم الحالف.
____________________________________
فالإسناد واه بمرة
، ليس بشيء ، وبنحو سياق المصنف أخرجه الطبري ١٧٢٠٠ من طريق ابن إسحاق عن الزهري
ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة. وأخرج الطبري ١٧٢٠١
والبيهقي في الدلائل ٥ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بعضه وهو
منقطع بين ابن عباس وعلي بن أبي طلحة.
(٧٥٥) أخرجه
الطبري ١٧٢٠٠ من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر
وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا ... فذكره ، بأتم منه. وهذا ضعيف ، مداره على
ابن إسحاق ، وهو مدلس لكن أصل الحديث محفوظ فقد ورد من وجوه متعددة فمن ذلك : حديث
ابن عباس ، أخرجه الطبري ١٧٢٠١ وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وورد عن
عطية العوفي عن ابن عباس ، أخرجه برقم ١٨٢٠٢ وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي. وورد
من مرسل قتادة أخرجه برقم ١٧٢١١. وورد من مرسل ابن زيد ، أخرجه برقم ١٧٢١٣. فهذه
الروايات تتأيد بمجموعها. انظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٢١٢ بتخريجنا.
(لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨))
قوله تعالى : (لا تَقُمْ فِيهِ) أي : لا تصلّ فيه أبدا. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى) أي : بني على الطاعة ، وبناه المتّقون (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أي : منذ أول يوم. قال الزّجّاج : «من» في الزّمان ،
والأصل : منذ ومذ ، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول «من» لأنّها الأصل في
ابتداء الغاية والتّبعيض ، ومثله قول زهير :
لمن الدّيار
بقنّة الحجر
|
|
أقوين من حجج
ومن شهر
|
وقيل معناه : من
مرّ حجج ومن مر شهر. وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه مسجد رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره.
(٧٥٦) روى سهل بن
سعد أنّ رجلين اختلفا في عهد رسول الله في المسجد الذي أسّس على التّقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد الرّسول ، وقال الآخر : هو مسجد قباء ، فذكر ذلك
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال «هو مسجدي هذا» ؛ وبه قال ابن عمر ، وزيد بن ثابت ،
وأبو سعيد الخدريّ ، وسعيد بن المسيّب.
(٧٥٧) والثاني : أنه مسجد قباء ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه
قال سعيد بن جبير ،
____________________________________
(٧٥٦) صحيح. أخرجه
الترمذي ٣٠٩٩ والنسائي ٢ / ٣٦ وفي «التفسير» ٢٤٨ وأحمد ٣ / ٨ وابن حبان ١٦٠٦ من
طرق عن الليث بن سعد عن عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه به.
وأخرجه مسلم ١٣٩٨ وابن أبي شيبة ٢ / ٣٧٢ والحاكم ٢ / ٣٣٤ من طريق أبي سلمة بن عبد
الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه. وكرره مسلم ١٣٩٨ وابن أبي شيبة ٢ / ٣٧٢
عن أبي سلمة عن أبي سعيد بدون واسطة. وأبو سلمة سمع من أبي سعيد. وأخرجه الترمذي ٣٢٣
وابن أبي شيبة ٢ / ٣٧٢ وأحمد ٣ / ٢٣ ـ ٩١ والطبري ١٧٢٣٦ و ١٧٢٣٧ و ١٧٢٣٨ وابن حبان
١٦٢٦ من طرق عن أنيس بن أبي يحيى حدثني أبي قال سمعت أبا سعيد ... فذكره وآخره «هو
مسجدي هذا ، وفي كل خير». فهذه الطرق متعاضدة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن المراد بذلك مسجده. وله شاهد من حديث سهل بن سعد ،
أخرجه أحمد ٥ / ٣٣١ وابن حبان ١٦٠٤ و ١٦٠٥ والطبري ١٧٢٣٢ و ١٧٢٣٣ والحاكم ٢ / ٣٣٤
والطبراني ٦٠٢٥ ، ورجاله ثقات. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث
زيد بن ثابت ، أخرجه الطبراني ٤٨٥٤ وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن عامر ، والصحيح
موقوف. والموقوف أخرجه الطبراني ٤٨٢٨ و ٤٨٥٣ وإسناده الأول على شرط الصحيح كما قال
الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٣٤. قال الطبري رحمهالله بإثر الحديث ١٧٢٣١ : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب
قول من قال هو مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم لصحة الخبر بذلك
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. انظر «تفسير أحكام القرآن» ١٢١٣ بتخريجنا.
(٧٥٧) ورد عن ابن
عباس ، أخرجه الطبري ١٧٢٢٦ وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وأخرجه من
وجه آخر ١٧٢٢٧ بسند فيه مجاهيل. وورد عن عطية العوفي أخرجه برقم ١٧٢٢٨. وورد عن
ابن بريدة ، أخرجه برقم ١٧٢٢٩. وورد من مرسل عروة ، أخرجه برقم ١٧٢٣١. الخلاصة :
هذه الروايات وإن تعددت ، لا تقوى على معارضة الصحيح المتقدم. على أن للمتقدم
شواهد ، والله أعلم.
__________________
وقتادة ، وعروة ،
وأبو سلمة بن عبد الرّحمن ، والضّحّاك ، ومقاتل.
والثالث
: أنه كلّ مسجد بني
في المدينة ، قاله محمّد بن كعب.
قوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا). سبب نزولها :
(٧٥٨) أنّ رجالا
من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت هذه الآية ، قاله الشّعبيّ.
____________________________________
(٧٥٨) أخرجه
الطبري ١٧٢٤٧ عن الشعبي مرسلا. وورد بلفظ مرفوع ، وليس بشيء. أخرجه أبو داود ٤٤
والترمذي ٣١٠٠ وابن ماجة ٣٥٧ والبغوي في «التفسير» ١١١٩ وأبو الشيخ وابن مردويه
كما في «الدر المنثور» ٣ / ٤٩٧ من طرق عن معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن
إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا) قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت هذه الآية فيهم». خرجه
هؤلاء الأئمة بهذا اللفظ! ولا أصل له بهذا اللفظ عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأنه لم يرد حديث واحد عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال «نزلت هذه الآية في فلان ... أو في كذا ... أو نحو
ذلك ، وإنما الذي يقول نزلت الآية في كذا وكذا إنما هو الصحابي أو التابعي. ومع
ذلك إسناده ساقط.
ـ وقد رأيت العجب في هذا الخبر. حيث سكت عليه أبو
داود! مع أنه معلوم أنه ما سكت عليه ، فهو صالح لديه. وضعفه الترمذي بقوله : غريب.
وضعفه النووي في «المجموع» ٢ / ٩٩ وكذا الحافظ في «التلخيص» ١ / ١١٢. وقال الحافظ
في «فتح الباري» ٧ / ٢٤٥ / ٢٩٠٨ : وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : نزلت ..» وهذا من العجب ، وجل الله ربنا إذ يقول (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). وقال الحافظ ابن كثير ٢ / ٤٨٠ : يونس بن الحارث ضعيف.
ـ قلت : إسناده ضعيف جدا ، وله علل ثلاث :
ـ الأولى : معاوية بن هشام القصار ، فهو وإن روى
له مسلم ، ووثقه أبو داود وابن حبان ، وقال أبو حاتم : صدوق. فقد قال ابن معين :
صالح ، وليس بذاك. وقال عثمان بن أبي شيبة : رجل صدوق ، وليس بحجة.
وقال أحمد بن حنبل
: هو كثير الخطأ. وقال ابن الجوزي في الضعفاء : روى ما ليس من سماعه ، فتركوه ،
واعترضه الذهبي بأنه ما تركه أحد. ثم ذكر الذهبي كلام ابن معين المتقدم ، وذكر له
حديثا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث إليهما شعيب. فقال
الذهبي : هذا خطأ ، صوابه ما رواه عمرو بن الحارث عن سعيد عن قتادة : الأيكة :
الشجر الملتف. انظر «الميزان» ٤ / ١٣٨ و «التهذيب» ١٠ / ١٩٦ ـ ١٩٧.
قلت : وقول الذهبي : ما تركه أحد. فيه نظر. إذ تركه البخاري وغير واحد من الأئمة
الثقات. والذي لم يتركه أحد كمالك والثوري وشعبة وأضرابهم ، رضي الله عنهم. هذا
شيء. والشيء الثاني : قد أقر الذهبي بأن هشاما هذا وهم في أثر قتادة حيث جعله
مرفوعا وبلفظ آخر. وهذا يوافق ما قاله الإمام أحمد : هو كثير الخطأ. فيكون هذا
الحديث مما أخطأ فيه فرفعه ، وإنما هو من كلام أبي هريرة لا يتعداه البتة.
ولم يتنبه
الألباني لهذه العلة في «الإرواء» ١ / ٨٥ حيث ذكر العلة الثانية والثالثة اللّتين
سأذكرهما ، والله الموفق.
ـ العلة الثانية : يونس بن الحارث ، جزم الحافظ في
«التقريب» بضعفه ولم يتابع على هذا اللفظ ، وتقدم أن الحافظ صححه في «الفتح». بل
ذكر الذهبي في «الميزان» ٤ / ٤٧٦ حديثا آخر غير هذا ، وقال : ومن مناكيره.
ثم نقل عن ابن
المديني وقد سئل عن يونس هذا ـ قوله : كنا نضعف ذاك ضعفا شديدا.
ـ وهذا الذي يليق به في هذا الخبر. والله أعلم.
ـ العلة الثالثة : جهالة إبراهيم بن أبي ميمونة.
جزم بذلك الحافظ في «التقريب».
ـ فهذه علل ثلاث تقدح في هذا الحديث ، وإذا انضم
إلى ذلك نكارة المتن ، وذلك بجعل «نزلت هذه الآية ....» من كلام النبي صلىاللهعليهوسلم كما جاء في جميع كتب التخريج المتقدمة ، علم أنه لا أصل له
في المرفوع ، وإنما هو موقوف فحسب لا يتعداه ، والله أعلم.
ـ تنبيه : وقد وهم الألباني في هذا الحديث ، حيث
ذكره في «صحيح أبي داود» ٣٤ وقال : صحيح. وكذا
(٧٥٩) قال ابن
عباس : لمّا نزلت هذه الآية ، أتاهم رسول الله فقال : «ما الذي أثنى الله به عليكم»
____________________________________
صححه في «الإرواء»
١ / ٨٥ برقم ٤٥ ، وقد حكم بضعف إسناده ، وأعله بضعف يونس وجهالة إبراهيم ـ وتقدم
أن هناك علة أخرى ـ ثم نقل عن النووي وابن حجر قولهما : إسناده
ضعيف. ثم قال : ومن ذلك تعلم أن قول الحافظ في «الفتح» ٧ / ١٩٢ بعد أن عزاه لأبي
داود : «إسناده صحيح» غير صحيح. ولو قال : حديث صحيح. كما صدرنا نحن تخريج الحديث
لأصاب ، لأنه وإن كان ضعيفا بهذا السند ، فهو صحيح باعتبار شواهده. ثم ذكر حديث
عويم بن ساعدة ، وعده شاهدا له ، وليس كما قال. فحديث عويم وغيره كما سيأتي ، ليس
فيه أن لفظ «نزلت ...» أصلا. وانظر ذلك مفصلا في الآتي ، والله تعالى أعلم.
(٧٥٩) صحيح
بشواهده. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ١١٣١ والطبري ١٤٢٤٠ و ١٤٢٤١ عن قتادة
مرسلا.
وأخرجه الطبري
١٧٢٣٩ عن قتادة عن شهر بن حوشب به ، وهو مرسل أيضا وله شواهد موصولة وهي :
١ ـ حديث
عويم بن ساعدة : أخرجه ابن خزيمة ٨٣ والحاكم ١ / ١٥٥ وأحمد ٣ / ٤٢٢ والطبري ١٧٢٤٥
والطبراني في «الصغير» ٢ / ٢٣ من طرق عن أبي أويس عن شرحبيل بن سعد عن عويم بن
ساعدة ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأهل قباء ، إني أسمع الله قد أثنى عليكم في الطهور ،
فما هذا الطهور؟ قالوا : يا رسول الله ، ما نعلم شيئا ، إلا أن جيرانا لنا من
اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا» رووه بألفاظ متقاربة
، إسناده ضعيف ، أبو أويس هو عبد الله بن عبد الله ضعفه الجمهور ، وشيخه شرحبيل
ضعيف أيضا.
ومع ذلك صححه
الحاكم! ووافقه الذهبي! ولعل ذلك بسبب شواهده.
٢ ـ وورد
عن عروة مرسلا ، أخرجه الطبري ١٧٢٥٢ وفيه ذكر عويم ، لكنه مختصر. وفيه ذكر الآية.
٣ ـ وورد
من مرسل إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري ، أخرجه الطبري ١٧٢٥١ بنحو اللفظ الذي ذكرته
آنفا.
٤ ـ وله شاهد
من حديث ابن عباس ، وفيه ذكر عويم ، أخرجه الحاكم ١ / ١٨٧ والطبراني ١١٠٦٥ وإسناده
ضعيف ، فيه عنعنة ابن إسحاق ، وهو مدلس ، وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه
الذهبي! ولم يرو مسلم لابن إسحاق في الأصول ، إنما روى له متابعة.
٥ ـ وله
شاهد من حديث عبد الله بن سلام ، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١ / ٢١٢. وفيه
سلام الطويل ، قال الهيثمي : أجمعوا على تركه.
٦ ـ وورد
عن محمد بن عبد الله بن سلام ، أخرجه أحمد ٦ / ٦ والطبري ١٤٢٤٢ و ١٤٢٤٣ وفيه شهر
بن حوشب ، مدلس وفيه ضعف. وقد اضطرب فيه فقد كرره الطبري ١٤٢٤٤ عنه عن محمد بن عبد
الله بن سلام ـ قال يحيى أحد الرواة ـ لا
أعلمه إلا عن أبيه ـ فهذا اضطراب ، لكن يصلح شاهدا.
٧ ـ وله
شاهد من حديث أبي أمامة ، أخرجه الطبراني ٧٥٥٥ ، وفيه شهر بن حوشب أيضا ، وفيه ليث
بن أبي سليم ضعفه غير واحد.
٨ ـ وله
شاهد من حديث أبي أيوب وجابر وأنس ، أخرجه ابن ماجة ٣٥٥ وابن الجارود ٤٠ والدار
قطني ١ / ٦٢ والحاكم ١ / ١٥٥ والبيهقي ١ / ١٠٥ ومداره على عتبة بن أبي حكيم ، ضعفه
ابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم : صالح. وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به. ذكر
ذلك الزيلعي رحمه في «نصب الراية» ١ / ٢١٩ وقال : سنده حسن. ولعله حسنه لشواهده.
وقال الدار قطني : عنبة غير قوي. وأما الحاكم فقال : حديث كبير صحيح في الطهارة!
ووافقه الذهبي! ولعله وافقه بسبب شواهده.
٩ ـ وورد
من حديث أبي أيوب من وجه آخر ، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١ / ٢١٣ وقال
الهيثمي : فيه واصل بن عطاء ، وهو ضعيف.
١٠ ـ وله
شاهد عن خزيمة بن ثابت ، وليس فيه اللفظ المرفوع ، أخرجه الطبراني كما في «المجمع»
١ / ٢١٣ وقال الهيثمي : فيه أبو بكر بن أبي سبرة متروك. فهذا شاهد لا يفرح به.
١١ ـ وصح
عن خزيمة من وجه آخر أخرجه الطبري ١٧٢٤٦ قال : نزلت هذه الآية (فِيهِ رِجالٌ ...) قال : كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط. لم يذكر أهل قباء.
فقالوا : إنّا
نستنجي بالماء. فعلى هذا ، المراد به الطّهارة بالماء. وقال أبو العالية : أن
يتطهّروا من الذّنوب.
(أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩))
قوله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ «أسس» بفتح
الألف في الحرفين جميعا وفتح النّون فيهما. وقرأ نافع وابن عامر «أسس» بضمّ الألف «بنيانه»
برفع النون. والبنيان مصدر يراد به المبنيّ. والتّأسيس : إحكام أسّ البناء ، وهو
أصله ، والمعنى : المؤسّس بنيانه متّقيا يخاف الله ويرجو رضوانه خير ، أم المؤسّس
بنيانه غير متّق؟ قال الزّجّاج : وشفا الشيء : حرفه وحدّه. والشفا مقصور ، يكتب
بالألف ويثنى شفوان. قوله تعالى : (جُرُفٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ «جرف»
مثقّلا. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : «جرف» ساكنة الراء. قال أبو
عليّ : فالضمّ الأصل ، والإسكان تخفيف ، ومثله : الشّغل والشّغل. قال ابن قتيبة : المعنى
: على حرف جرف هائر. والجرف : ما يتجرّف بالسّيول من الأودية. والهائر : السّاقط.
ومنه : تهوّر البناء وانهار : إذا سقط. وقرأ ابن كثير : وحمزة «هار» بفتح الهاء.
وأمال الهاء نافع وأبو عمرو. وعن عاصم كالقراءتين. قوله تعالى : (فَانْهارَ بِهِ) أي : بالباني (فِي نارِ جَهَنَّمَ). قال الزّجّاج : وهذا مثل ، والمعنى : أنّ بناء هذا المسجد
كبناء على جرف جهنّم يتهوّر بأهله فيها. وقال قتادة : ذكر لنا أنّهم حفروا فيه
حفرة فرؤي فيها الدّخان. قال جابر : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدّخان.
(لا يَزالُ
بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))
قوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ) يعني : مسجد الضّرار (الَّذِي بَنَوْا
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : شكّا ونفاقا ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه ،
قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني
: حسرة وندامة ،
لأنهم ندموا على بنائه ، قاله ابن السّائب ومقاتل. والثالث : أن المعنى : لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم ،
قاله السّدّيّ ، والمبرّد.
قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قرأ الأكثرون : «إلا» وهو حرف استثناء. وقرأ يعقوب «إلى أن»
فجعله حرف جرّ. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم
: «تقطّع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : «تقطّع» بفتح التاء.
ثم في المعنى قولان :
____________________________________
وللحديث شواهد
مراسيل تقدم بعضها ، ومنها : مرسل الشعبي ، أخرجه الطبري ١٧٢٤٧ و ١٧٢٤٩ من طريقين
أحدهما قوي. مرسل موسى بن أبي كثير ، أخرجه الطبري ١٧٢٥١. مرسل عبد الرحمن بن زيد
، أخرجه الطبري ١٧٢٥٦. مرسل الحسن ، أخرجه البلاذري في «فتوح البلدان» ١ ـ ٢ ـ ٣
والإسناد إلى الحسن حسن. وفي الباب روايات موصولة ومرسلة ، ذكرها في «الدر المنثور»
٣ / ٤٩٧ ـ ٤٩٩.
الخلاصة : هو حديث
صحيح بمجموع طرقه وشواهده الموصولة والمرسلة وقد صححه الحاكم والذهبي ، وحسن
الزيلعي إحدى رواياته وتقدم بما فيه كفاية ، والله أعلم.
أحدهما
: إلّا أن يموتوا ،
قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين. والثاني : إلّا أن يتوبوا توبة تتقطّع بها قلوبهم ندما وأسفا على
تفريطهم ، ذكره الزّجّاج.
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١))
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ).
(٧٦٠) سبب نزولها
أنّ الأنصار لمّا بايعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا ، قال عبد الله بن رواحة :
يا رسول الله اشترط لربّك ولنفسك ما شئت ، فقال «أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا
به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم» ، قالوا : فإذا فعلنا
ذلك ، فما لنا؟ قال : «الجنّة» قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، قاله محمّد بن كعب القرظيّ.
فأما اشتراء
النّفس فبالجهاد. وفي اشتراء الأموال وجهان : أحدهما : بالإنفاق في الجهاد. والثاني : بالصّدقات. وذكر الشّراء ها هنا مجاز لأنّ المشتري حقيقة
هو الذي لا يملك المشترى ، فهو كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ) والمراد من الكلام أنّ الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم
وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنّة فعبّر عنه بالشّراء لما تضمّن من عوض ومعوّض.
وكان الحسن يقول : لا والله ، إن في الدنيا مؤمن إلّا وقد أخذت بيعته. وقال قتادة
: ثامنهم والله فأغلى لهم. قوله تعالى : (فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم «فيقتلون
ويقتلون» فاعل ومفعول. وقرأ حمزة ، والكسائيّ «فيقتلون ويقتلون» مفعول وفاعل. قال
أبو عليّ : القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أوّلا ويقتلون ، والأخرى يجوز أن
تكون في المعنى كالأولى ، لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التّقديم ؛ فإن لم
يقدّر فيه التّقديم ، فالمعنى : يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل ، كما أنّ قوله
تعالى : (فَما وَهَنُوا لِما
أَصابَهُمْ) ما وهن من بقي بقتل من قتل. ومعنى الكلام : إنّ الجنّة عوض
عن جهادهم ، قتلوا أو قتلوا. (وَعْداً عَلَيْهِ) قال الزّجّاج : نصب «وعدا» بالمعنى ، لأنّ معنى قوله : (بِأَنَ
____________________________________
(٧٦٠) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٧٢٨٤ عن محمد بن كعب وغيره مرسلا ومع إرساله فإن في إسناده نجيح بن عبد
الرحمن أبو معشر واه وهو مرسل ، والوهن في نزول الآية ، لأن البيعة كانت في أول
الإسلام.
وفي الباب من حديث
عبادة بن الصامت «أن النبي صلىاللهعليهوسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار : «أن يشهد
أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة ،
ولا ينازعوا في الأمر أهله ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم ، قالوا : نعم :
قال قائل من الأنصار : نعم ، هذا لك يا رسول! فما لنا؟ قال : الجنة». أخرجه ابن
سعد في «الطبقات ٣ / ٤٥٧ ، وفيه علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف الحديث. وليس فيه
ذكر نزول الآية.
__________________
لَهُمُ
الْجَنَّةَ) : (وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا) ، قال : وقوله تعالى : (فِي التَّوْراةِ
وَالْإِنْجِيلِ) يدلّ على أنّ أهل كلّ ملّة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنّة.
قوله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى) أي : لا أحد أوفى بما وعد (مِنَ اللهِ). (فَاسْتَبْشِرُوا) أي : فافرحوا بهذا البيع.
(التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))
قوله تعالى : (التَّائِبُونَ).
(٧٦١) سبب نزولها
: أنه لمّا نزلت التي قبلها ، قال رجل : يا رسول الله ، وإن سرق وإن زنى وإن شرب
الخمر؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.
قال الزّجّاج :
يصلح الرفع هاهنا على وجوه أحدها
: المدح ، كأنه قال
: هؤلاء التّائبون ، أو هم التّائبون. ويجوز أن يكون على البدل ، والمعنى : يقاتل
التّائبون ؛ فهذا مذهب أهل اللغة ، والذي عندي أنه رفع بالابتداء ، وخبره مضمر ،
المعنى : التّائبون ومن ذكر معهم لهم الجنّة أيضا وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا
ترك الجهاد ولا العناد ، لأنّ بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد. وللمفسرين في
قوله تعالى : (التَّائِبُونَ) قولان : أحدهما
: الرّاجعون عن
الشّرك والنّفاق والمعاصي. والثاني
: الرّاجعون إلى
الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظّر. وفي قوله تعالى : (الْعابِدُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : المطيعون لله بالعبادة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : المقيمون الصّلاة ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : الموحّدون ، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى : (الْحامِدُونَ) قال قتادة : يحمدون الله تعالى على كلّ حال. وفي السّائحين
أربعة أقوال : أحدها
: الصّائمون ، قاله
ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة في آخرين. قال الفرّاء :
ويرى أهل النّظر أنّ الصائم إنما سمّي سائحا تشبيها بالسّائح ، لأنّ السّائح لا
زاد معه ؛ والعرب تقول للفرس إذا كان قائما لا علف بين يديه : صائم ، وذلك أنّ له
قوتين ، غدوة وعشيّة ، فشبّه به صيام الآدميّ لتسحّره وإفطاره. والثاني : أنهم الغزاة ، قاله عطاء. والثالث : طلّاب العلم ، قاله عكرمة. والرابع : المهاجرون ، قاله ابن زيد.
قوله تعالى : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) يعني في الصلاة (الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) وهو طاعة الله (وَالنَّاهُونَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) وهو معصية الله. فإن قيل : ما وجه دخول الواو في قوله
تعالى : (وَالنَّاهُونَ)؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصّفة الثّامنة ، والعرب
تعطف بالواو على السّبعة ، كقوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ) وقوله في صفة الجنّة : (وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها) ، ذكره جماعة من المفسّرين. والثاني : أنّ الواو إنما دخلت على النّاهين لأنّ الآمر بالمعروف ناه
عن
____________________________________
(٧٦١) لم أقف عليه
، وأمارة الوضع لائحة عليه ، حيث لا ذكر له في كتب الحديث والأثر بهذا اللفظ
والسياق.
__________________
المنكر في حال
أمره ، فكان دخول الواو دلالة على أنّ الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النّهي عن
المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السّائحين ، والسّائحون بالسّياحة دون
الحامدين في بعض الأحوال والأوقات.
قوله تعالى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) قال الحسن : القائمون بأمر الله.
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما
كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))
قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) في سبب نزولها أربعة أقوال :
(٧٦٢) أحدها : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة ، دخل عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أميّة ، فقال : «أي
عمّ ، قل معي : لا إله إلّا الله ، أحاجّ لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وابن
أبي أميّة : يا أبا طالب ، أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟! فلم يزالا يكلّمانه ، حتى
قال آخر شيء كلّمهم به : أنا على ملّة عبد المطّلب. فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لأستغفرنّ لك
ما لم أنه عنك» ، فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، ونزلت : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) ؛ أخرجه البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث سعيد بن
المسيّب عن أبيه.
(٧٦٣) وقيل : إنه
لمّا مات أبو طالب ، جعل النّبيّ صلىاللهعليهوسلم يستغفر له ، فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا
ولذوي قراباتنا ، وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمّد يستغفر لعمّه؟ فاستغفروا
للمشركين ، فنزلت هذه الآية. قال أبو الحسين بن المنادي : هذا لا يصحّ ، إنما قال
النبيّ صلىاللهعليهوسلم لعمّه «لأستغفرنّ لك ما لم أُنهَ عنك» قبل أن يموت ، وهو
في السّياق ، فأمّا أن يكون استغفر له بعد الموت ، فلا ، فانقلب ذلك على الرّواة ،
وبقي على انقلابه.
(٧٦٤) والثاني : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم مرّ بقبر أمّه آمنة ، فتوضّأ وصلّى ركعتين ، ثمّ بكى فبكى
الناس
____________________________________
(٧٦٢) صحيح. أخرجه
البخاري ١٣٦٠ و ٤٧٧٢ و ٤٧٧٦ و ٣٨٨٤ و ٦٦٨١ ومسلم ٢٤ والنسائي ٤ / ٦٠ وفي «التفسير»
٢٥٠ وأحمد ٥ / ٤٣٣ وعبد الرزاق في «التفسير» ١١٣٢ وابن حبان ٩٨٢ والواحدي في «الوسيط»
٢ / ٥٢٧ و «الأسباب» ٥٣٠ والبيهقي في «الصفات ١٧١ و ١٩٥ و «الدلائل» ٢ / ٣٤٢ و ٣٤٣
، والبغوي في «التفسير» ١١٢٣ بترقيمي. من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه
به.
(٧٦٣) أخرجه
الطبري ١٧٣٤١ عن عمرو بن دينار مرسلا. وله شاهد من مرسل محمد بن كعب ، أخرجه ابن
أبي حاتم كما في «الدر المنثور» ٣ / ٥٠٥. فهذان مرسلان لا تقوم بهما حجة. انظر «أحكام
القرآن» ١٢٢٢ بتخريجنا.
(٧٦٤) عزاه
السيوطي في «الدر» ٣ / ٥٠٧ لابن مردويه عن بريدة به. ولم أقف على إسناده. وورد
بنحوه أخرجه الطبري ١٧٣٤٤ من حديث بريدة ورجاله ثقات. وورد من وجه آخر أخرجه
الحاكم ١ / ٣٧٦ وصححه على
__________________
لبكائه ، ثم انصرف
إليهم ، فقالوا : ما الذي أبكاك؟ فقال : «مررت بقبر أمّي فصلّيت ركعتين ، ثم
استأذنت ربّي أن أستغفر لها ، فنهيت ، فبكيت ، ثم عدت فصلّيت ركعتين ، واستأذنت
ربّي أن أستغفر لها ، فزجرت زجرا ، فأبكاني» ، ثمّ دعا براحلته فركبها ؛ فما سار
هنيّة ، حتى قامت النّاقة لثقل الوحي ؛ فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) والآية التي بعدها ، رواه بريدة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(٧٦٥) والثالث : أنّ رجلا استغفر لأبويه ، وكانا مشركين ، فقال له عليّ بن
أبي طالب : أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر
ذلك عليّ لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، رواه أبو الخليل عن عليّ عليهالسلام.
(٧٦٦) والرابع : أنّ رجالا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالوا : يا نبيّ الله ؛ إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار
، ويصل الرّحم ، ويفكّ العاني ، ويوفي بالذّمم ، أفلا نستغفر لهم؟ فقال : «بلى ،
والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» ، فنزلت هذه الآية ، وبيّن عذر
إبراهيم ، قاله قتادة.
ومعنى قوله تعالى
: (مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : من بعد ما بان أنهم ماتوا كفّارا.
قوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها
إِيَّاهُ) فيه قولان : أحدهما : أنّ إبراهيم وعد أباه الاستغفار ، وذلك قوله تعالى : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، وما كان يعلم أنّ الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره
الله تعالى بذلك. والثاني
: أنّ أباه وعده
أنه إن استغفر له آمن ؛ فلمّا تبيّن لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته على
الكفر ، ترك الدّعاء له. فعلى الأول ، تكون هاء الكناية في «إيّاه» عائدة على آزر
، وعلى الثاني ، تعود على إبراهيم. وقرأ ابن السّميفع ، ومعاذ القارئ ، وأبو نهيك
: «وعدها أباه» بالباء.
____________________________________
شرطهما! ووافقه
الذهبي! وهو كما قال. وله شاهد صحيح من حديث أبي هريرة ، أخرجه الترمذي ٩٧٦ وأبو
داود ٣٢٣٤ والنسائي ٤ / ٩٠ وابن ماجة ١٥٧٢ وابن أبي شيبة ٣ / ٣٤٣ وأحمد ٢ / ٤٤١
وابن حبان ٣١٦٩ واستدركه الحاكم ١ / ٣٧٥ والبيهقي ٤ / ٧٦ والبغوي ١٥٥٤ من طرق عن
يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة ، قال : زار النبي صلىاللهعليهوسلم قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله ، فقال : استأذنت ربي في أن
أستغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور ، «فإنها
تذكر الموت». قال النووي رحمهالله في «شرح مسلم» ٧ / ٤٥ : فيه جواز زيارة المشركين في الحياة
وقبورهم بعد الوفاة ، لأنه إذا جازت زيارتهم بعد ، ففي الحياة أولى ، وقد قال الله
تعالى (وَصاحِبْهُما فِي
الدُّنْيا مَعْرُوفاً) وفيه النهي عن الاستغفار للكفار. ففي هذا الحديث وحديث
بريدة المتقدم وكلام النووي هذا دليل على رد قول بعض المتأخرين ومنهم السيوطي بأن
الله عزوجل قد أحيا أبوي النبي صلىاللهعليهوسلم. فآمنا به. وليس على ما ذكر هؤلاء دليل سوى أحاديث موضوعة
، وأقوال واهية ، وقصص عجيبة. نسأل الله السلامة.
(٧٦٥) أخرجه
الترمذي ٣١٠١ والنسائي ٤ / ٩١ وأحمد ١ / ٩٩ و ١٣٠ و ١٣١ وأبو يعلى ٣٣٥ و ٦١٩
والطبري ١٧٣٤٨ و ١٧٣٤٩ من طرق عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عبد الله بن
الخليل عن علي به ، وإسناده لين أبو الخليل ، مقبول ، وقد توبع على معنى هذا
الحديث كما تقدم دون لفظه. والله أعلم.
(٧٦٦) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٧٣٤٧ عن قتادة مرسلا بأتم منه ، وهذا ضعيف لإرساله.
__________________
وفي الأوّاه
ثمانية أقوال :
(٧٦٧) أحدها : أنه الخاشع الدّعّاء المتضرّع ، رواه عبد الله بن شدّاد بن
الهاد عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
والثاني
: أنه الدّعّاء ،
رواه زرّ عن عبد الله ، وبه قال عبيد بن عمير. والثالث : الرّحيم ، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود ، وبه
قال الحسن ، وقتادة ، وأبو ميسرة. والرابع : أنه الموقن ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد
، وعطاء ، وعكرمة ، والضّحّاك. والخامس
: أنه المؤمن ،
رواه العوفيّ ، ومجاهد ، وابن أبي طلحة عن ابن عباس. والسادس : أنه المسبّح ، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة ، وبه قال سعيد
بن المسيّب ، وابن جبير. والسابع
: أنه المتأوّه
لذكر عذاب الله ، قاله الشّعبيّ. قال أبو عبيدة : مجاز أوّاه مجاز فعّال من
التّأوّه ، ومعناه : متضرّع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربّه ، قال المثقّب :
إذا ما قمت
أرحلها بليل
|
|
تأوّه آهة
الرّجل الحزين
|
والثامن
: أنه الفقيه ،
رواه ابن جريج عن مجاهد. فأما الحليم ، فهو الصّفوح عن الذّنوب.
(وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ
إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (١١٦))
قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) الآية.
(٧٦٨) سبب نزولها
: أنه لمّا نزلت آية الفرائض ، وجاء النّسخ ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر
الأوّل مثل أمر القبلة والخمر ، ومات أقوام على ذلك ، سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال قوم : المعنى
: أنه بيّن أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه ، فإذا حرّمه ولم
يمتنعوا عنه ، فقد ضلّوا. وقال ابن الأنباري : في الآية حذف واختصار ، والتّأويل :
حتى يتبيّن لهم ما يتّقون ، فلا يتّقونه ، فعند ذلك يستحقّون الضّلال ؛ فحذف ما
حذف لبيان معناه ، كما تقول العرب : أمرتك بالتّجارة فكسبت الأموال ؛ يريدون :
فتجرت فكسبت.
____________________________________
(٧٦٧) أخرجه
الطبري ١٧٤٣٠ و ١٧٤٣١ عن عبد الله بن شداد ، وفيه شهر بن حوشب فيه كلام ، وهو مدلس
، وقد عنعنه. وإسناده ضعيف.
(٧٦٨) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث.
__________________
(لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧))
قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) قال المفسّرون : تاب عليه من إذنه للمنافقين في التّخلّف. وقال
أهل المعاني : هو مفتاح كلام ، وذلك أنه لمّا كان سبب توبة التّائبين ، ذكر معهم ،
كقوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) . قوله تعالى : (الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) قال الزّجّاج : هم الذين اتّبعوه في غزوة تبوك ، والمراد
بساعة العسرة : وقت العسرة ، لأنّ الساعة تقع على كلّ الزّمان ، وكان في ذلك الوقت
حرّ شديد ، والقوم في ضيقة شديدة ، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه ، وكانوا في
فقر ، فربّما اقتسم التّمرة اثنان ، وربّما مصّ التّمرة الجماعة ليشربوا عليها
الماء ، وربّما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحرّ.
(٧٦٩) وقيل لعمر
بن الخطّاب : حدّثنا عن ساعة العسرة ؛ فقال : خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا
منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننّا أنّ رقابنا ستتقطّع ، حتى إنّ الرجل ليذهب يلتمس
الماء ، فلا يرجع حتى يظنّ أنّ رقبته ستنقطع ، وحتى إنّ الرجل لينحر بعيره فيعصر
فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنّ الله
تعالى قد عوّدك في الدّعاء خيرا ، فادع لنا. قال : «تحبّ ذلك»؟ قال : نعم. فرفع
يديه ، فلم يرجعهما حتى قالت السّماء ، فملؤوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر ، فلم
نجدها جاوزت العسكر.
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ) قرأ حمزة ، وحفص عن عاصم : «كاد يزيغ» بالياء. وقرأ
الباقون بالتاء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : تميل إلى التّخلّف عنه ، وهم ناس من المسلمين همّوا بذلك ،
ثم لحقوه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ القلوب مالت إلى الرّجوع للشدّة التي لقوها ، ولم تزغ
عن الإيمان ، قاله الزّجّاج. والثالث
: أنّ القلوب كادت
تزيغ تلفا بالجهد والشّدّة ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) كرّر ذكر التّوبة ، لأنّه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم ،
فقدّم ذكر التّوبة فضلا منه ، ثم ذكر ذنبهم ، ثم أعاد ذكر التّوبة.
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ
إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(١١٨))
قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا) وقرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، والشّعبيّ ، وابن يعمر :
____________________________________
(٧٦٩) أخرجه ابن
خزيمة ١ / ٥٢ والحاكم ١ / ٥٩ وابن حبان ١٣٨٣ والبزار ١٨٤١ «كشف» من حديث ابن عمر ،
وصححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، والصواب أنه على شرط مسلم وحده ، حرملة
بن يحيى تفرد عنه مسلم.
__________________
«خالفوا» بألف.
وقرأ معاذ القارئ ، وعكرمة ، وحميد : «خلفوا» بفتح الخاء واللام المخفّفة. وقرأ
أبو الجوزاء ، وأبو العالية : «خلّفوا» بفتح الخاء واللام مع تشديدها. وهؤلاء هم
المرادون بقوله تعالى : (وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ) وقد تقدّمت أسماؤهم. وفي معنى «خلّفوا» قولان : أحدهما : خلّفوا عن التّوبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. فيكون المعنى
: خلّفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك. والثاني : خلّفوا عن غزوة تبوك ، قاله قتادة. وحديثهم مندرج في توبة
كعب بن مالك ، وقد رويتها في كتاب «الحدائق».
قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : ضاقت مع سعتها.
(٧٧٠) وذلك أنّ
المسلمين منعوا من معاملتهم وكلامهم ، وأمروا باعتزال أزواجهم ، وكان النّبيّ صلىاللهعليهوسلم معرضا عنهم. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ
أَنْفُسُهُمْ) بالهمّ والغمّ. (وَظَنُّوا) أي : أيقنوا (أَنْ لا مَلْجَأَ) أي : لا معتصم من الله ومن عذابه إلّا هو. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أعاد التّوبة تأكيدا ، (لِيَتُوبُوا) قال ابن عباس : ليستقيموا. وقال غيره : وفّقهم للتوبة
ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها. وسئل بعضهم عن التّوبة النّصوح ، فقال :
أن تضيق على التّائب الأرض ، وتضيق عليه نفسه ، كتوبة كعب وصاحبيه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنها نزلت في قصّة الثلاثة المتخلّفين. والثاني : أنها في أهل الكتاب. والمعنى : يا أيّها الذين آمنوا بموسى
وعيسى اتّقوا الله في إيمانكم بمحمّد صلىاللهعليهوسلم وكونوا مع الصّادقين.
وفي المراد
بالصّادقين خمسة أقوال : أحدها
: أنه النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، قاله ابن عمر. والثاني : أبو بكر وعمر ، قاله سعيد بن جبير ، والضّحّاك. وقد قرأ ابن
السّميفع ، وأبو المتوكّل ، ومعاذ القارئ : «مع الصّادقين» بفتح القاف وكسر النون
على التّثنية. والثالث
: أنهم الثلاثة
الذين خلّفوا ، صدقوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن تأخّرهم ، قاله السّدّيّ. والرابع : أنهم المهاجرون ، لأنهم لم يتخلّفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الجهاد ، قاله ابن جريج. قال أبو سليمان الدّمشقي. وقيل
: إنّ أبا بكر الصّديق احتجّ بهذه الآية يوم السّقيفة ، فقال : يا معشر الأنصار ،
إنّ الله يقول في كتابه : (لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا) إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ) من هم؟ قالت الأنصار : أنتم هم. قال : فإنّ الله تعالى
يقول : (اتَّقُوا اللهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فأمركم أن تكونوا معنا ، ولم يأمرنا أن نكون معكم ، فنحن
الأمراء وأنتم الوزراء. والخامس
: أنه عامّ ، قاله
قتادة. و «مع» بمعنى : «من» ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود : «وكونوا من الصادقين».
____________________________________
(٧٧٠) صحيح. أخرجه
البخاري ٤٤١٨ ومسلم ٢٧٦٩ والترمذي ٣١٠٢ والنسائي في «التفسير» ٢٥٢ وعبد الرزاق
٩٧٤٤ وأحمد ٥ / ٣٨٧ وابن أبي شيبة ١٤ / ٥٤٠ وابن حبان ٣٣٧٠ والواحدي في «الوسيط» ٢
/ ٥٣٠ و ٥٣٢ ١١ والطبري ١٧٤٦١ والبيهقي في «الدلائل» ٥ / ٢٧٣ والبغوي ١١٣٤ من حديث
كعب بن مالك.
__________________
(ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ
لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً
إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))
قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) قال ابن عباس : يعني : مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ،
وغفار ، (أَنْ يَتَخَلَّفُوا
عَنْ رَسُولِ اللهِ) في غزوة غزاها ، (وَلا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدّعة ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في الحرّ والمشقّة. يقال : رغبت بنفسي عن الشيء : إذا
ترفّعت عنه.
قوله تعالى : (ذلِكَ) أي : ذلك النّهي عن التّخلّف (بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) وهو العطش ، (وَلا نَصَبٌ) وهو التّعب ، (وَلا مَخْمَصَةٌ) وهي المجاعة ، (وَلا يَنالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلاً) أسرا أو قتلا أو هزيمة ، فأعلمهم الله أنه يجازيهم على
جميع ذلك.
قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) قال ابن عباس : تمرة فما فوقها ، (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) مقبلين أو مدبرين (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي : أثبت لهم أجر ذلك ، (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ) أي : بأحسن (ما كانُوا
يَعْمَلُونَ).
فصل
: قال شيخنا عليّ
بن عبيد الله : اختلف المفسّرون في هذه الآية ، فقالت طائفة : كان في أوّل الأمر
لا يجوز التّخلّف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث كان الجهاد يلزم الكلّ ؛ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً) ؛ وقالت طائفة : فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ممّن لا عذر له الخروج معه لشيئين : أحدهما : أنه من الواجب عليهم أن يقوه بأنفسهم. والثاني : أنه إذا خرج الرّسول فقد خرج الدّين كلّه ، فأمروا
بالتّظاهر لئلّا يقلّ العدد ، وهذا الحكم باق إلى وقتنا ؛ فلو خرج أمير المؤمنين
إلى الجهاد ، وجب على عامّة المسلمين متابعته لما ذكرنا. فعلى هذا ، الآية محكمة.
قال أبو سليمان : لكلّ آية وجهها ، وليس للنّسخ على إحدى الآيتين طريق.
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))
قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً) في سبب نزولها أربعة أقوال :
__________________
(٧٧١) أحدها : أنه لمّا أنزل الله عزوجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك ، قال المؤمنون : والله لا
نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا سريّة أبدا. فلما أرسل السّرايا بعد تبوك ، نفر
المسلمون جميعا ، وتركوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحده ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٧٧٢) والثاني : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمّا دعا على مضر ، أجدبت بلادهم ؛ فكانت القبيلة منهم
تقبل
____________________________________
(٧٧١) باطل لا أصل
له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٣٣ من رواية الكلبي عن ابن عباس ، والكلبي
ممن يضع الحديث ، والمتن باطل ، فإن المسلمين كانوا ينفرون بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(٧٧٢) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٧٤٨٨ عن ابن عباس ، ورجاله ثقات ، لكنه منقطع بين ابن عباس وعلي بن أبي
طلحة ، والآية تخاطب المؤمنين لا الكافرين كما هو سياق الحديث.
__________________
بأسرها إلى
المدينة من الجهد ويظهرون الإسلام وهم كاذبون ؛ فضيّقوا على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٧٧٣) والثالث : أنّ ناسا أسلموا ، وخرجوا إلى البوادي يعلمون قومهم ،
فنزلت : (إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ) ، فقال ناس من المنافقين : هلك من لم ينفر من أهل البوادي
، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة.
(٧٧٤) والرابع : أنّ ناسا خرجوا إلى البوادي يعلمون الناس ويهدونهم ،
ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به ؛ فقال لهم الناس : ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم
وجئتمونا ؛ فأقبلوا من البادية كلهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد.
قال الزّجّاج :
ولفظ الآية لفظ الخبر ، ومعناها الأمر ، كقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، والمعنى : ينبغي أن ينفر بعضهم ، ويبقى البعض. قال
الفرّاء : ينفر وينفر ، بكسر الفاء وضمّها ، لغتان. واختلف المفسّرون في المراد
بهذا النّفير على قولين : أحدهما
: أنه النّفير إلى
العدو ، فالمعنى : ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم ، بل تنفر طائفة ، وتبقى مع
النبيّ صلىاللهعليهوسلم طائفة. (لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ) يعني الفرقة القاعدين. فإذا رجعت السّرايا ، وقد نزل بعدهم
قرآن أو تجدّد أمر ، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم ، وهذا المعنى مرويّ
عن ابن عباس. والثاني
: أنه النّفير إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بل تنفر منهم طائفة ليتفقّه هؤلاء الذين ينفرون ،
ولينذروا قومهم المتخلّفين ، هذا قول الحسن ، وهو أشبه بظاهر الآية. فعلى القول
الأول ، يكون نفير هذه الطّائفة مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه. وعلى القول الثاني ، يكون
نفير الطّائفة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لاقتباس العلم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ
وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ
عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))
قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ
الْكُفَّارِ) قد أمر بقتال الكفّار على العموم ، وإنّما يبتدأ بالأقرب
فالأقرب. وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال : أحدها : أنهم الرّوم ، قاله ابن عمر. والثاني : قريظة والنّضير وخيبر وفدك ، قاله ابن عباس. والثالث : الدّيلم ، قاله الحسن. والرابع : العرب ، قاله ابن زيد. والخامس : أنه عامّ في قتال الأقرب فالأقرب ، قاله قتادة. وقال
الزّجّاج : وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كلّ ثغر الذين يلونهم.
قال : وقيل : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم ربّما تخطّى في حربه الذين
____________________________________
(٧٧٣) مرسل. أخرجه
الطبري ١٧٤٩١ عن عكرمة مرسلا.
(٧٧٤) مرسل. أخرجه
الطبري ١٧٤٨٠ عن مجاهد مرسلا.
__________________
يلونه من الأعداء
ليكون ذلك أهيب له ، فأمر بقتال من يليه ليستنّ بذلك. وفي الغلظة ثلاث لغات : غلظة
، بكسر الغين ؛ وبها قرأ الأكثرون. وغلظة ، بفتح الغين ، رواها جبلة عن عاصم ،
وغلظة ، بضمّ الغين ، رواها المفضّل عن عاصم ، ومثلها : جذوة وجذوة وجذوة ، ووجنة
ووجنة ووجنة ، ورغوة ورغوة ورغوة ، وربوة وربوة وربوة ، وقسوة وقسوة وقسوة ، وإلوة
وألوة وألوة ، في اليمين. وشاة لجبة ولجبة ولجبة : قد ولّى لبنها. قال ابن عباس في
قوله «غلظة» : شجاعة. وقال مجاهد : شدّة.
قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ
زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاء بقول الله تعالى. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأنهم إذا صدّقوا بها وعملوا بما فيها ، زادتهم إيمانا (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي : يفرحون بنزولها (وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شكّ ونفاق. وفي المراد بالرّجس ثلاثة أقوال : أحدها : الشّكّ ، قاله ابن عباس. والثاني : الإثم ، قاله مقاتل. والثالث : الكفر ، لأنهم كلّما كفروا بسورة زاد كفرهم ، قاله
الزّجّاج. قوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ) يعني المنافقين. وقرأ حمزة : «أولا ترون» بالتاء على
الخطاب للمؤمنين. وفي معنى (يُفْتَنُونَ) ثمانية أقوال . أحدها
: يكذبون كذبة أو
كذبتين يضلّون بها ، قاله حذيفة بن اليمان. والثاني : ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون ، قاله أبو صالح عن ابن
عباس. والثالث
: يبتلون بالغزو في
سبيل الله ، قاله الحسن ، وقتادة. والرابع : يفتنون بالسّنة والجوع ، قاله مجاهد. والخامس : بالأوجاع والأمراض ، قاله عطيّة. والسادس : ينقضون عهدهم مرّة أو مرّتين ، قاله يمان. والسابع : يكافرون ، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم بما تكلّموا به إذ خلوا ، علموا أنّه نبيّ ، ثم يأتيهم
الشّيطان فيقول : إنّما بلغه هذا عنكم ، فيشركون ، قاله مقاتل بن سليمان. والثامن : يفضحون بإظهار نفاقهم ، قاله مقاتل بن حيّان.
قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) أي من نفاقهم (وَلا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ) أي يعتبرون ويتّعظون.
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ
انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))
قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ).
(٧٧٥) قال ابن
عباس : كانت إذا أنزلت سورة فيها عيب المنافقين ، وخطبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعرّض بهم في خطبته ، شقّ ذلك عليهم ونظر بعضهم إلى بعض
يريدون الهرب يقولون : (هَلْ
____________________________________
(٧٧٥) عزاه المصنف
لابن عباس ، ولم أقف عليه.
__________________
يَراكُمْ
مِنْ أَحَدٍ) من المؤمنين إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد.
قال الزّجّاج :
كأنّهم يقولون ذلك إيماء لئلّا يعلم بهم أحد ، (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن المكان ، وجائز عن العمل بما يسمعون. وقال الحسن : ثم
انصرفوا على عزم التّكذيب بمحمّد صلىاللهعليهوسلم وبما جاء به. قوله تعالى : (صَرَفَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ) قال ابن عباس : عن الإيمان. وقال الزّجّاج : أضلّهم مجازاة
على فعلهم.
(لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨))
قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ) قرأ الجمهور بضمّ الفاء. وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ،
والضّحّاك ، وابن محيصن. ومحبوب عن أبي عمرو : بفتحها. وفي المضمومة أربعة أقوال :
أحدها
: من جميع العرب ،
قاله ابن عباس ؛ وقال : ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت رسول الله صلىاللهعليهوسلم. والثاني
: ممّن تعرفون ،
قاله قتادة. والثالث
: من نكاح لم يصبه
شيء من ولادة الجاهليّة ، قاله جعفر الصّادق. والرابع : بشر مثلكم ، فهو آكد للحجّة ، لأنّكم تفقهون عمّن هو مثلكم
، قاله الزّجّاج. وفي المفتوحة ثلاثة أقوال : أحدها : أفضلكم خلقا. والثاني : أشرفكم نسبا. والثالث : أكثركم طاعة لله عزوجل. قوله تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما
عَنِتُّمْ) فيه قولان : أحدهما : شديد عليه ما شقّ عليكم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. قال
الزّجّاج : شديد عليه عنتكم. والعنت : لقاء الشّدّة. والثاني : شديد عليه ما آثمكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى
: (بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قال ابن عباس : سمّاه باسمين من أسمائه. وقال أبو عبيدة : «رؤوف»
فعول ، من الرّأفة ، وهي أرقّ من الرّحمة ؛ ويقال : «رؤف» ، وأنشد :
ترى للمؤمنين
عليك حقّا
|
|
كفعل الوالد
الرّؤف الرّحيم
|
وقيل : رؤوف
بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))
قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإيمان (فَقُلْ حَسْبِيَ
اللهُ) أي : يكفيني (رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ). وقرأ ابن محيصن : «العظيم» برفع الميم. وإنّما خصّ العرش
بالذّكر ، لأنّه الأعظم ، فيدخل فيه الأصغر.
(٧٧٦) قال أبيّ بن
كعب : آخر آية أنزلت : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ) إلى آخر السّورة.
____________________________________
(٧٧٦) أخرجه أحمد
٥ / ١١٧ والطبري ١٧٥٢٩ و ١٧٥٣٠ ورواه الطبراني في الكبير ٥٣٣ عن أبي بن كعب ،
وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٣٦. وقال : رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ، وفيه
علي بن زيد بن جدعان ، وهو ثقة سيء الحفظ وبقية رجاله ثقات.
__________________
سورة يونس
فصل
في نزولها : روى عطيّة ، وابن
أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكيّة ، وبه قال الحسن ، وعكرمة. وروى أبو صالح عن ابن
عباس أنّ فيها من المدني قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) الآية. وفي رواية عن ابن عباس : فيها ثلاث آيات من المدنيّ
، أوّلها قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍ) إلى رأس ثلاث آيات ، وبه قال قتادة. وقال مقاتل : هي مكيّة
، غير آيتين ، قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍ) والتي تليها. وقال بعضهم : هي مكيّة إلا آيتين ، وهي قوله
تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ) والتي تليها.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١))
فأمّا قوله تعالى
: (الر) : قرأ ابن كثير : «الر» بفتح الرّاء ، وقرأ أبو عمرو ،
وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «الر» على الهجاء مكسورة. وقد ذكرنا في أوّل سورة
«البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس. وقد خصّت هذه الكلمة بستة أقوال : أحدها
: أنّ معناها : أنا
الله أرى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس . والثاني
: أنا الله الرّحمن
، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث
: أنه بعض اسم من
أسماء الله. روى عكرمة عن ابن عباس قال : «الر» و «حم» و «نون» حروف الرّحمن. والرابع : أنه قسم أقسم الله به ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والخامس : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله مجاهد ، وقتادة. والسادس : أنه اسم للسّورة ، قاله ابن زيد.
وفي قوله تعالى : (تِلْكَ) قولان : أحدهما
: أنه بمعنى «هذه»
، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة. والثاني : أنه على أصله. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الإشارة إلى الكتاب المتقدّمة من التّوراة والإنجيل.
قاله مجاهد ، وقتادة ؛ فيكون المعنى : هذه الأقاصيص التي تسمعونها ، تلك
__________________
الآيات التي وصفت
في التّوراة والإنجيل. والثاني
: أنّ الإشارة إلى
الآيات التي جرى ذكرها ، من القرآن ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّ «تلك» إشارة إلى «الر» وأخواتها من حروف المعجم ، أي :
تلك الحروف المفتتحة بها السّور هي (آياتُ الْكِتابِ) لأنّ الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ، ذكره ابن
الأنباري. قال أبو عبيدة : (الْحَكِيمِ) بمعنى المحكم المبيّن الموضّح. والعرب قد تضع فعيلا في
معنى مفعل ؛ قال الله تعالى : (ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي : معدّ.
(أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ
إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))
قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) : سبب نزولها : أنّ الله تعالى لمّا بعث محمّدا صلىاللهعليهوسلم أنكرت الكفار ذلك ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله
بشرا مثل محمّد. فنزلت هذه الآية . والمراد بالناس هاهنا : أهل مكّة ، والمراد بالرّجل :
محمّد صلىاللهعليهوسلم. ومعنى (منهم) : يعرفون نسبه ، قاله ابن عباس. فأما الألف
فهي للتّوبيخ والإنكار. قال ابن الأنباري : والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من
إرسال محمّد ، محذوف هاهنا ، وهو مبيّن في قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) أي : فكما وضح لكم هذا التّفاضل بالمشاهدة فلا تنكروا
تفضيل الله من شاء بالنّبوة. وإنما حذفه هاهنا اعتمادا على ما بيّنه في موضع آخر.
قال : وقيل : إنما عجبوا من ذكر البعث والنّشور لأنّ الإنذار والتبشير يتّصلان
بهما ، فكان جوابهم في مواضع كثيرة يدل على كون ذلك مثل قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ، وقوله : (يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
وفي المراد بقوله
: (قَدَمَ صِدْقٍ) سبعة أقوال : أحدها : أنّه الثّواب الحسن بما قدّموا من أعمالهم. رواه العوفيّ
عن ابن عباس ، وروى عنه أبو صالح قال : عمل صالح يقدمون عليه. والثاني : أنه ما سبق لهم من السّعادة في الذّكر الأوّل ، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس. قال أبو عبيدة : سابقة صدق. والثالث : شفيع صدق ، وهو محمّد صلىاللهعليهوسلم يشفع لهم يوم القيامة. قاله الحسن. والرابع : سلف صدق تقدّموهم بالإيمان ، قاله مجاهد ، وقتادة. والخامس : مقام صدق لا زوال عنه ، قاله عطاء. والسادس : أنّ قدم الصّدق : المنزلة الرّفيعة. قاله الزّجّاج. والسابع : أنّ القدم هاهنا : مصيبة المسلمين بنبيّهم صلىاللهعليهوسلم وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبّتهم
لمشاهدته ، ذكره ابن الأنباري.
__________________
فإن قيل : لم آثر
القدم هاهنا على اليد ، والعرب تستعمل اليد في موضع الإحسان؟
فالجواب : أنّ
القدم ذكرت هاهنا للتّقدّم ، لأن العادة جارية بتقدّم السّاعي على قدميه ، والعرب
تجعلها كناية عن العمل الذي يتقدّم فيه ولا يقع فيه تأخّر ، قال ذو الرّمّة :
لكم قدم لا ينكر
النّاس أنّها
|
|
مع الحسب
العاديّ طمّت على البحر
|
فإن قيل : ما وجه
إضافة القدم إلى الصّدق؟
فالجواب : أنّ ذلك
مدح للقدم ، وكلّ شيء أضفته إلى الصّدق ، فقد مدحته ؛ ومثله : (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) وقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) .
وفي الكلام محذوف
تقديره : أن أوحينا إلى رجل منهم ، فلمّا أتاهم الوحي (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ
مُبِينٌ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «لساحر» بألف.
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «لسحر» بغير ألف . قال أبو عليّ : قد تقدّم قوله تعالى : (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) فمن قال : «ساحر» ، أراد الرّجل ، ومن قال : «سحر» أراد
الذي أوحي سحر ، أي : الذين تقولون أنتم فيه : إنه وحي : سحر. قال الزّجّاج : لمّا
أنذرهم بالبعث والنّشور ، فقالوا : هذا سحر ، أخبرهم أنّ الذي خلق السماوات والأرض
قادر على بعثهم بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ) وقد سبق تفسيره في سورة الأعراف .
قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قال مجاهد : يقضيه. وقال غيره : يأمر به ويمضيه.
قوله تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ
إِذْنِهِ) فيه قولان :
أحدهما
: لا يشفع أحد إلّا
أن يأذن له ، قاله ابن عباس. قال الزّجّاج : لم يجر للشّفيع ذكر قبل هذا ، ولكنّ
الذين خوطبوا كانوا يقولون : الأصنام شفعاؤنا. والثاني : أنّ المعنى : لا ثاني معه ، مأخوذ من الشّفع ، لأنه لم يكن معه أحد ، ثم خلق الأشياء. فقوله تعالى : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي : من بعد أمره أن يكون الخلق فكان. ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) : قال مقاتل : وحّدوه. وقال الزّجّاج : المعنى : فاعبدوه
وحده.
وقوله تعالى : (تَذَكَّرُونَ) معناه : تتّعظون.
(إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ (٤))
__________________
قوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي : مصيركم يوم القيامة. (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) قال الزّجّاج : «وعد الله» منصوب على معنى : وعدكم الله وعدا
، لأنّ قوله : (إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ) معناه : الوعد بالرّجوع ، و «حقا» منصوب على : أحقّ ذلك
حقّا. قوله تعالى : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ) قرأه الأكثرون بكسر الألف. وقرأت عائشة ، وأبو رزين ،
وعكرمة ، وأبو العالية ، والأعمش «أنه» بفتحها. قال الزّجّاج : من كسر ، فعلى
الاستئناف ، ومن فتح ، فالمعنى : إليه مرجعكم ، لأنه يبدأ الخلق. قال مقاتل : يبدأ
الخلق ولم يكن شيئا ، ثم يعيده بعد الموت. فأمّا «القسط» فهو العدل.
فإن قيل : كيف خصّ
جزاء المؤمنين بالعدل ، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضا؟
فالجواب : أنه لو
جمع الفريقين في القسط ، لم يتبيّن في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب
الأليم والشّرب من الحميم ، ففصلهم من المؤمنين ليبيّن ما يجزيهم به ممّا هو عدل
أيضا. ذكره ابن الأنباري.
فأمّا الحميم :
فهو الماء الحارّ ، وقال أبو عبيدة : كلّ حارّ فهو حميم.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا
وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ
مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ
اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) قرأ الأكثرون : «ضياء» بهمزة واحدة ، وقرأ ابن كثير : «ضئاء»
بهمزتين في كلّ القرآن ، أي : ذات ضياء. (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي : ذا نور. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي : قدّر له ، فحذف الجارّ ، والمعنى : هيّأ ويسّر له
منازل. قال الزّجّاج : الهاء ترجع إلى «القمر» : لأنه المقدّر لعلم السّنين
والحساب. وقد يجوز أن يعود إلى الشّمس والقمر ، فحذف أحدهما اختصارا. وقال الفرّاء
: إن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة ، لأنّ به تعلم الشّهور ، وإن شئت جعلت
التّقدير لهما ، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه ، كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) . قال ابن قتيبة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلا من أوّل
الشّهر إلى ثماني وعشرين ليلة ، ثم يستسرّ. وهذه المنازل ، هي النّجوم التي كانت
العرب تنسب إليها الأنواء ، وأسماؤها عندهم : الشّرطان ، والبطين ، والثّريّا ،
والدّبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذّراع ، والنّثرة ، والطّرف ، والجبهة ،
والزّبرة ، والصّرفة ، والعوّاء ، والسّماك ، والغفر ، والزّبانى ، والإكليل ،
والقلب ، والشّولة ، والنّعائم ، والبلدة ، وسعد الذّابح ، وسعد بلع ، وسعد
السّعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدّلو المقدّم ، وفرغ الدّلو المؤخّر ، والرّشاء
وهو الحوت.
__________________
قوله تعالى : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي : للحقّ ، من إظهار صنعه وقدرته والدّليل على
وحدانيّته. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «يفصّل»
بالياء. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم : «نفصّل
الآيات» بالنّون ، والمعنى : نبيّنها. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) : يستدلّون بالأمارات على قدرته.
قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) فيه قولان : أحدهما : يتّقون الشّرك. والثاني : عقوبة الله تعالى. فيكون المعنى : إنّ الآيات لمن لم يحمله
هواه على خلاف ما وضح له من الحقّ.
قوله تعالى : (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) قال ابن عباس : لا يخافون البعث. (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : اختاروا ما فيها على الآخرة (وَاطْمَأَنُّوا بِها) : آثروها. وقال غيره : ركنوا إليها ، لأنهم لا يؤمنون
بالآخرة (وَالَّذِينَ هُمْ
عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فيها قولان : أحدهما : أنها آيات القرآن ومحمّد صلىاللهعليهوسلم ، قاله ابن عباس. والثاني : ما ذكره في أوّل السّورة من صنعه ، قاله مقاتل. فأمّا قوله
تعالى : (غافِلُونَ) فقال ابن عباس : مكذّبون. وقال غيره : معرضون. قال ابن زيد
: وهؤلاء هم الكفّار.
قوله تعالى : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) قال مقاتل : من الكفر والتّكذيب.
قوله تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : يهديهم إلى الجنّة ثوابا بإيمانهم.
والثاني
: يجعل لهم نورا
يمشون به بإيمانهم. والثالث
: يزيدهم هدى
بإيمانهم. والرابع
: يثيبهم بإيمانهم
، فأمّا الهداية فقد سبقت لهم.
قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي : تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو.
قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها) أي : دعاؤهم. وقد شرحنا ذلك في أوّل الأعراف . وفي المراد بهذا الدّعاء قولان : أحدهما : أنه استدعاؤهم ما يشتهون. قال ابن عباس : كلّما اشتهى أهل
الجنّة شيئا ، قالوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فيأتيهم ما يشتهون ، فإذا طعموا ، قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فذلك آخر دعواهم. وقال ابن جريج : إذا مرّ بهم الطّير
يشتهونه قالوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فيسلم عليهم فيردّون عليه :
فذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ
فِيها سَلامٌ). فإذا أكلوا حمدوا ربّهم فذلك قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). والثاني
: أنهم إذا أرادوا
الرّغبة إلى الله تعالى في دعاء يدعونه به قالوا : (سبحانك اللهمّ) ، قاله قتادة.
قوله تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تحيّة بعضهم لبعض وتحيّة الملائكة لهم ، قاله ابن
عباس. والثاني
: أنّ الله تعالى
يحيّيهم بالسّلام. والثالث
: أنّ التّحية :
الملك ، فالمعنى : ملكهم فيها سالم ، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي : دعاؤهم. وقولهم : (أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قرأ أبو مجلز ، وعكرمة ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وقتادة ،
ويعقوب : «أنّ الحمد لله» بتشديد النون ونصب الدّال. قال الزّجّاج : أعلم الله
أنهم يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ، ويختمون بشكره والثناء عليه. وقال ابن كيسان :
يفتتحون كلامهم بالتّوحيد ، ويختمونه بالتّوحيد .
__________________
(وَلَوْ يُعَجِّلُ
اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (١١))
قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ
الشَّرَّ) : ذكر بعضهم أنّها نزلت في النّضر بن الحارث حيث قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ) والتّعجيل : تقديم الشيء قبل وقته. وفي المراد بالآية
قولان : أحدهما
: ولو يعجّل الله
للنّاس الشّرّ إذا دعوا على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم ، واستعجلوا به ، كما
يعجّل لهم الخير ، لهلكوا. هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : ولو يعجّل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجّل لهم
خير الدنيا من المال والولد ، لعجّل لهم قضاء آجالهم ليتعجّلوا عذاب الآخرة. حكاه
الماوردي. ويقوّي هذا تمام الآية وسبب نزولها. وقد قرأ الجمهور : «لقضي إليهم»
بضمّ القاف «أجلهم» بضمّ اللام. وقرأ ابن عامر : «لقضى» بفتح القاف «أجلهم» بنصب
اللام. وقد ذكرنا في أوّل سورة البقرة معنى الطّغيان والعمه.
(وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا
كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))
قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) : اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنّها نزلت في أبي حذيفة ، واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد
الله المخزومي. قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنّها نزلت في عتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة. قاله
عطاء.
و (الضُّرُّ) : الجهد والشدّة. واللام في قوله : (لِجَنْبِهِ) بمعنى «على».
وفي معنى الآية
قولان : أحدهما
: إذا مسّه الضّر
دعا على جنبه ، أو دعا قاعدا ، أو دعا قائما ، قاله ابن عباس. والثاني : إذا مسّه الضّرّ في هذه الأحوال ، دعا ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أعرض عن ادّعاء ، قاله مقاتل. والثاني : مرّ في العافية على ما كان عليه قبل أن يبتلى ، ولم يتّعظ
بما يناله ، قاله الزّجّاج. والثالث
: مرّ طاغيا على
ترك الشّكر. قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) قال الزّجّاج : «كأن» هذه مخفّفة من الثقيلة ، المعنى :
كأنه لم يدعنا ، قالت الخنساء :
كأن لم يكونوا
حمى يتّقى
|
|
إذ النّاس إذ
ذاك من عزّ بزّا
|
قوله تعالى : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) المعنى : كما زيّن لهذا الكافر الدّعاء عند البلاء
والإعراض عند الرّخاء ، كذلك زيّن للمسرفين ، وهم المجاوزون الحدّ في الكفر
والمعصية ، عملهم.
__________________
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ (١٣))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) : قال مقاتل : هذا تخويف لكفّار مكّة. والظّلم هاهنا بمعنى
الشّرك. وفي قوله : (وَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا) : قولان : أحدهما : أنه عائد على أهل مكّة ، قاله مقاتل. والثاني : على القرون المتقدّمة ، قاله أبو سليمان. قال ابن الأنباري
: ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحقّ وإيثارهم الباطل. وقال الزّجّاج : جائز
أن يكون جعل جزاءهم الطّبع على قلوبهم ، وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم. قوله
تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي) أي : نعاقب ونهلك ، (الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ) : يعني المشركين من قومك.
(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ
خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))
قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ) : قال ابن عباس : جعلناكم يا أمّة محمّد خلائف ، أي : استخلفناكم
في الأرض. وقال قتادة : ما جعلنا الله خلائف إلّا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله
من أعمالكم خيرا بالليل والنّهار.
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ
بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ
تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥))
قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) : اختلفوا فيمن نزلت على قولين :
أحدهما
: أنها نزلت في
المستهزئين بالقرآن من أهل مكّة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني
: أنها نزلت في مشركي
مكّة ، قاله مجاهد ، وقتادة.
والمراد «بالآيات»
: القرآن. و «يرجون» بمعنى : يخافون. وفي علّة طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله
قولان : أحدهما
: أنّهم أرادوا
تغيير آية العذاب بالرّحمة ، وآية الرّحمة بالعذاب ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنّشور ، لأنهم لا يؤمنون به ،
وكرهوا عيب آلهتهم ، فطلبوا ما يخلو من ذلك ، قاله الزّجّاج. والفرق بين تبديله
والإتيان بغيره ، أنّ تبديله لا يجوز أن يكون معه ، والإتيان بغيره قد يجوز أن
يكون معه.
قوله تعالى : (ما يَكُونُ لِي) حرّك هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، وأسكنها
الباقون. (مِنْ تِلْقاءِ
نَفْسِي) حرّكها نافع ، وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون. والمعنى : من
عند نفسي ، فالمعنى : أنّ الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدّله. (إِنِّي أَخافُ) فتح هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو. (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي : في تبديله أو تغييره ، (عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) يعني في القيامة.
فصل
: وقد تكلّم علماء
النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بيّنّا في نظيرتها في الأنعام ،
__________________
ومقصود الآيتين
تهديد المخالفين ، وأضيف ذلك إلى الرّسول ليصعب الأمر فيه.
(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ
ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً
مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))
قوله تعالى : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ) يعني القرآن. وذلك أنّه كان لا ينزله عليّ فيأمرني بتلاوته
عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي : ولا أعلمكم الله به. قرأ ابن كثير : «ولأدراكم» بلام
التّوكيد من غير ألف بعدها ، يجعلها لاما دخلت على «أدراكم». وقرأ أبو عمرو ،
وحمزة والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «أدريكم» بالإمالة. وقرأ الحسن ، وابن أبي
عبلة ، وشيبة بن نصاح : «ولا أدرأتكم» بتاء بين الألف والكاف . (فَقَدْ لَبِثْتُ
فِيكُمْ عُمُراً) : وقرأ الحسن ، والأعمش : «عمرا» بسكون الميم. قال أبو
عبيدة : وفي «العمر» ثلاث لغات : عمر ، وعمر ، وعمر. قال ابن عباس : أقمت فيكم
أربعين سنة لا أحدّثكم بشيء من القرآن. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنه ليس من قبلي. (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يريد : إنّي لم أفتر على الله ولم أكذب عليه ، وأنتم فعلتم
ذلك حيث زعمتم أنّ معه شريكا. والمجرمون ها هنا : المشركون.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))
قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَضُرُّهُمْ) أي : لا يضرّهم إن لم يعبدوه ، ولا ينفعهم إن عبدوه. قاله
مقاتل ، والزّجّاج.
قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ) ـ يعني
المشركين ـ (هؤُلاءِ) يعنون : الأصنام. قال أبو عبيدة : خرجت كنايتها على لفظ
كناية الآدميين. وقد ذكرنا هذا المعنى في سورة الأعراف عند قوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) . وفي قوله : (شُفَعاؤُنا عِنْدَ
اللهِ) قولان :
__________________
أحدهما
: شفعاؤنا في
الآخرة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، ومقاتل.
والثاني
: شفعاؤنا في إصلاح
معايشنا في الدنيا ، لأنهم لا يقرّون بالبعث ، قاله الحسن.
قوله تعالى : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا
يَعْلَمُ) قال الضّحّاك : أتخبرون الله أنّ له شريكا ، ولا يعلم الله
لنفسه شريكا في السّماوات ولا في الأرض.
(وَما كانَ النَّاسُ
إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩))
قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً
واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) قد شرحنا هذا في سورة البقرة ، وأحسن الأقوال أنّهم كانوا
على دين واحد موحّدين ، فاختلفوا وعبدوا الأصنام ، فكان أوّل من بعث إليهم نوح عليهالسلام.
قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها
: ولو لا كلمة سبقت
بتأخير هذه الأمّة أنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم لقضي بينهم
بنزول العذاب ، فكان ذلك فصلا بينهم فيما فيه يختلفون من الدّين.
والثاني
: أنّ الكلمة : أنّ
لكلّ أمّة أجلا ، وللدنيا مدّة لا يتقدّم ذلك على وقته.
والثالث
: أنّ الكلمة : أنه
لا يأخذ أحدا إلّا بعد إقامة الحجّة عليه.
وفي قوله تعالى : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) قولان : أحدهما
: لقضي بينهم
بإقامة السّاعة. والثاني
: بنزول العذاب على
المكذّبين.
(وَيَقُولُونَ لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))
قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ) ـ يعني
المشركين ـ (لَوْ لا) ـ أي :
هلّا ـ (أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) مثل العصا واليد وآيات الأنبياء. (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ سؤالكم : «لم لم تنزل الآية» غيب ، ولا يعلم علّة
امتناعها إلّا الله. والثاني
: أنّ «نزول الآية
متى يكون؟» غيب ، ولا يعلمه إلّا الله. قوله تعالى : (فَانْتَظِرُوا) فيه قولان : أحدهما : انتظروا نزول الآية. والثاني : قضاء الله بيننا بإظهار المحقّ على المبطل.
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ
(٢١))
قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً). سبب نزولها :
(٧٧٧) أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لمّا دعا على أهل مكّة بالجدب فقحطوا سبع سنين أتاه أبو
سفيان فقال : «ادع
____________________________________
(٧٧٧) ذكره المصنف
تبعا للماوردي حيث أورده في «تفسيره» ٢ / ٤٣٠ بقوله : وقيل. ولم ينسبه لقائل ، وهو
باطل لا أصل له كونه سبب نزول هذه الآية ، فإن السورة مكية ، والخبر الذي ساقه هو
في الصحيح لكن كان ذلك في
لنا بالخصب ، فإن
أخصبنا صدّقناك». فدعا لهم ، فسقوا ولم يؤمنوا ، ذكره الماوردي.
قال المفسّرون :
المراد بالناس ها هنا : الكفّار. وفي المراد بالرّحمة والضّرّاء ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الرّحمة : العافية والسّرور ، والضّرّاء : الفقر
والبلاء ، قاله ابن عباس. والثاني
: الرّحمة :
الإسلام ، والضّرّاء : الكفر ، وهذا في حقّ المنافقين ، قاله الحسن. والثالث : أنّ الرّحمة : الخصب ، والضّرّاء : الجدب ، قاله الضّحّاك.
وفي المراد بالمكر ها هنا أربعة أقوال : أحدها : أنه الاستهزاء والتّكذيب ، قاله مجاهد ، ومقاتل. والثاني : أنه الجحود والرّدّ ، قاله أبو عبيدة. والثالث : أنه إضافة النّعم إلى غير الله ، فيقولون : سقينا بنوء كذا
، قاله مقاتل بن حيّان. والرابع
: أنّ المكر :
النّفاق ، لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي : جزاء على المكر (إِنَّ رُسُلَنا) يعني الحفظة (يَكْتُبُونَ ما
تَمْكُرُونَ) أي : يحفظون ذلك لمجازاتكم عليه . وقرأ يعقوب إلّا رويسا وأبا حاتم ، وأبان عن عاصم : «يمكرون»
بالياء.
(هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ
وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ
دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ
فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) أي : الله هو أسرع مكرا ، هو الذي يسيّركم (فِي الْبَرِّ) على الدّوابّ ، وفي البحر على السّفن ، فلو شاء انتقم منكم
في البرّ أو في البحر. وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : «ينشركم» بالنون والشين من
النّشر ، وهو في المعنى مثل قوله : (وَبَثَّ مِنْهُما
رِجالاً كَثِيراً). والفلك : السّفن. قال الفرّاء : الفلك تذكّر وتؤنّث ،
وتكون واحدة وتكون جمعا ، قال تعالى ها هنا : (جاءَتْها) فأنّث ، وقال في يس : (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) فذكّر.
قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) : عاد بعد المخاطبة لهم إلى الإخبار عنهم. قال الزّجّاج :
كلّ من أقام الغائب مقام من يخاطبه جاز أن يردّه إلى الغائب ، قال الشاعر :
____________________________________
المدينة. وقد تفرد
الماوردي والمصنف بذكره عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير والأثر. وسيأتي ما في
الصحيح في آخر سورة الشعراء إن شاء الله تعالى.
__________________
شطّت مزار
العاشقين فأصبحت
|
|
عسرا عليّ طلابك
ابنة مخرم
|
قوله تعالى : (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي : ليّنة : (وَفَرِحُوا بِها) للينها. (جاءَتْها) يعني الفلك. قال الفرّاء : وإن شئت جعلتها للرّيح ، كأنك
قلت : جاءت الريح الطّيبة ريح عاصف ، والعرب تقول : عاصف وعاصفة ، وقد عصفت الرّيح
وأعصفت ، والألف لغة لبني أسد. قال ابن عباس : الرّيح العاصف : الشّديدة. قال
الزّجّاج : يقال : عصفت الرّيح ، فهي عاصف وعاصفة ، وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة. (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي : من كلّ أمكنة الموج.
قوله تعالى : (وَظَنُّوا) فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى اليقين. والثاني : أنه التّوهّم.
وفي قوله تعالى : (أُحِيطَ بِهِمْ) قولان : أحدهما
: دنوا من الهلكة.
قال ابن قتيبة : وأصل هذا أنّ العدوّ إذا أحاط ببلد ، فقد دنا أهله من الهلكة.
وقال الزّجّاج : يقال لكلّ من وقع في بلاء : قد أحيط بفلان ، أي : أحاط به البلاء.
والثاني
: أحاطت بهم
الملائكة ، ذكره الزّجّاج.
قوله تعالى : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) دون أوثانهم. قال ابن عباس : تركوا الشّرك ، وأخلصوا لله
الرّبوبيّة ، وقالوا : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا
مِنْ هذِهِ) الرّيح العاصف (لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ) أي : الموحّدين. قوله تعالى : (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) البغي : التّرامي في الفساد. قال الأصمعيّ : يقال : بغى الجرح
: إذا ترامى إلى فساد. قال ابن عباس : يبغون في الأرض بالدّعاء إلى عبادة غير الله
والعمل بالمعاصي والفساد. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يعني أهل مكّة. (إِنَّما بَغْيُكُمْ
عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : جناية مظالمكم بينكم على أنفسكم. وقال الزّجّاج :
عملكم بالظّلم عليكم يرجع.
قوله تعالى : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ،
والحسن ، وحفص ، وأبان عن عاصم : «متاع الحياة الدنيا» بنصب المتاع. قال الزّجّاج
: من رفع المتاع ، فالمعنى أنّ ما تنالونه بهذا البغي إنمّا تنتفعون به في الدنيا
، ومن نصب المتاع ، فعلى المصدر. فالمعنى :
تمتّعون متاع
الحياة الدنيا. وقرأ أبو المتوكّل ، واليزيديّ في اختياره ، وهارون العتكي عن عاصم
: «متاع الحياة الدنيا» ، بكسر العين. قال ابن عباس : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : منفعة في الدنيا.
(إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها
أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤))
قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) هذا مثل ضربه الله للدنيا الفانية ، فشبّهها بمطر نزل من
السماء (فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ) يعني التفّ النبات بالمطر وكثر. (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) من الحبوب وغيرها ، (وَالْأَنْعامُ) من المرعى. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَها) قال ابن قتيبة : زينتها بالنّبات. وأصل الزّخرف : الذّهب ،
ثم يقال للنّقش والنّور والزّهر وكلّ شيء زيّن : زخرف. وقال
__________________
الزّجّاج :
الزّخرف : كمال حسن الشّيء.
قوله تعالى : (وَازَّيَّنَتْ) قرأه الجمهور «وازّيّنت» بالتّشديد. وقرأ سعد بن أبي وقّاص
، وأبو عبد الرّحمن ، والحسن ، وابن يعمر : بفتح الهمزة وقطعها ساكنة الزاي ، على
وزن : وأفعلت. قال الزّجّاج : من قرأ «وازّيّنت» بالتشديد ، فالمعنى : وتزيّنت ،
فأدغمت التاء في الزّاي ، وسكّنت الزاي فاجتلبت لها ألف الوصل ؛ ومن قرأ «وازينت»
بالتّخفيف على أفعلت ، فالمعنى : جاءت بالزّينة. وقرأ أبيّ ، وابن مسعود : «وتزيّنت»
.
قوله تعالى : (وَظَنَّ أَهْلُها) أي : أيقن أهل الأرض (أَنَّهُمْ قادِرُونَ
عَلَيْها) أي : على ما أنبتته ، فأخبر عن الأرض ، والمراد النّبات ،
لأنّ المعنى مفهوم. (أَتاها أَمْرُنا) أي : قضاؤنا بإهلاكها (فَجَعَلْناها
حَصِيداً) أي : محصودا لا شيء فيها. والحصيد : المقطوع المستأصل. (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) قال الزّجّاج : لم تعمر. والمغاني : المنازل التي يعمرها
الناس بالنّزول فيها. يقال : غنينا بالمكان : إذا نزلوا به. وقرأ الحسن : «كأن لم
يغن» بالياء ، يعني الحصيد.
قال بعض المفسّرين
: تأويل الآية : أنّ الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدّنيا
ويعجب ، حتى إذا استتمّ ذلك عند صاحبه ، وظنّ أنه ممتّع بذلك ، سلب عنه بموته ، أو
بحادثة تهلكه ، كما أنّ الماء سبب لالتفاف النّبات وكثرته ، فإذا تزيّنت به الأرض
، وظنّ الناس أنهم مستمتعون بذلك ، أهلكه الله ، فعاد ما كان فيها كأن لم يكن.
(وَاللهُ يَدْعُوا
إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦))
قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) : يعني الجنّة. وقد ذكرنا معنى تسميتها بذلك عند قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) . واعلم أنّ الله عمّ بالدّعوة ، وخصّ بالهداية من شاء ،
لأنّ الحكم له في خلقه. وفي المراد بالصّراط المستقيم أربعة أقوال :
(٧٧٨) أحدها : كتاب الله ، رواه عليّ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
(٧٧٩) والثاني : الإسلام ، رواه
النّوّاس بن سمعان عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
____________________________________
(٧٧٨) تقدم تخريجه
في سورة الفاتحة باستيفاء ، وهو خبر ضعيف.
(٧٧٩) صحيح. هو
بعض حديث أخرجه الترمذي ٢٨٥٩ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٣٣ وأحمد ٤ / ١٨٣ والطحاوي
في «المشكل» ٢١٤٣ من طرق عن بقية بن الوليد عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن
جبير بن نفير عن النواس بن سمعان مرفوعا ، وإسناده قوي رجاله رجال الصحيح سوى بقية
، روى له مسلم متابعة ، وهو ثقة لكنه مدلس لكن صرح بالتحديث عند أحمد ، وقد توبع.
فأخرجه الطحاوي ٢١٤١ و ٢١٤٢ والآجري في «الشريعة» ١٢ ـ بترقيمي ـ وأحمد
٤ / ١٨٢ من وجه آخر عن جبير بن نفير عن النواس به ، وإسناده صحيح.
وقال الحافظ ابن
كثير ١ / ٤٣ : إسناده حسن صحيح. ولفظ الحديث عند الترمذي والنسائي : «إن الله ضرب
__________________
والثالث
: الحقّ ، قاله
مجاهد ، وقتادة.
والرابع
: المخرج من
الضّلالات والشّبه ، قاله أبو العالية.
قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) : قال ابن عباس : قالوا : لا إله إلّا الله. قال ابن
الأنباري : الحسنى : كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها ، لأنّ العرب توقعها على الخلّة
المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها ، فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن
نعتها ، فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرّف من جهتها ، يدلّ على هذا قول
امرئ القيس :
فلمّا تنازعنا
الحديث وأسمحت
|
|
هصرت بغصن ذي
شماريخ ميّال
|
فصرنا إلى
الحسنى ورقّ كلامنا
|
|
ورضت فذلّت صعبة
أيّ إذلال
|
أي : إلى الأمر
المحبوب. وهصرت بمعنى : مددت. والغصن كناية عن المرأة. والباء مؤكّدة للكلام كما
تقول العرب : ألقى بيده إلى الهلاك ، يريدون : ألقى يده. والشّماريخ : كناية عن الذّوائب. ورضت معناه : أذللت. ومن أجل هذا قال
: أيّ إذلال ، ولم يقل : أيّ رياضة.
وللمفسّرين في
المراد بالحسنى خمسة أقوال :
(٧٨٠) أحدها : أنها الجنّة ، روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبه قال الأكثرون.
والثاني
: أنها الواحدة من
الحسنات بواحدة ، قاله ابن عباس. والثالث : النّصرة ، قاله عبد الرّحمن بن سابط. والرابع : الجزاء في الآخرة ، قاله ابن زيد. والخامس : الأمنيّة ، ذكره ابن الأنباري.
وفي الزّيادة ستة
أقوال : أحدها
: أنّها النّظر إلى
الله عزوجل.
(٧٨١) روى مسلم في
«صحيحه» من حديث صهيب عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الزّيادة : النّظر إلى
____________________________________
مثلا صراطا
مستقيما ، على كنفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة ، على الأبواب ستور ، وداع يدعو
على رأس الصراط ، وداع يدعو فوقه ، والله يدعو إلى دار السلام ، ويهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم ، والأبواب التي على كنفي الصراط حدود الله ، فلا يقع أحد في حدود
الله حتى يكشف الستر ، والذي يدعو من فوقه واعظ ربه». وله شاهد من مرسل أبي قلابة
: أخرجه الطبري ١٧٦٢١ ، فهو شاهد لما قبله.
(٧٨٠) الراجح وقفه
، أخرجه الطبري ١٧٦٣٣ ، من حديث أبي موسى عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ولفظ الحديث
بتمامه : «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أولهم
وآخرهم : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ، فالحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى
وجه الرحمن» ، وإسناده ضعيف جدا ، فيه أبان بن أبي عياش ، وهو متروك. وله شاهد من
حديث أبي بن كعب ، أخرجه الطبري ١٧٦٤٨ ، وإسناده ضعيف ، فيه راو لم يسم. وله شاهد
من حديث أنس ، أخرجه الدار قطني في «الرؤية» ٦٧ وفيه نوح بن أبي مريم ، وهو متهم
بالوضع. فهذا شاهد لا يفرح به.
ـ والحديث الأول ضعيف جدا ، وأما الثاني فضعيف
فحسب ، وقد روى الطبري هذا الخبر موقوفا ومقطوعا ، وهو الراجح فالمرفوع ضعيف ،
والصحيح وقفه على الصحابة والتابعين ، والله تعالى أعلم.
(٧٨١) أخرجه مسلم (١٨١)
والترمذي ٣١٠٥ والنسائي في «التفسير» (٢٥٤) وابن ماجة (١٨٧) وأحمد ٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣ ـ ٦ /
١٥ ، ١٦ وابن خزيمة في «التوحيد» ١ / ٤٤٣ ـ ٤٤٦ ،
وعبد الله بن أحمد في «السنة» ١ / ٢٤٣ ،
__________________
وجه الله عزوجل». وبهذا القول قال أبو بكر الصّدّيق ، وأبو موسى الأشعري ،
وحذيفة ، وابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضّحّاك ، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى ،
والسّدّيّ ، ومقاتل.
والثاني
: أنّ الزّيادة :
غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ، رواه الحكم عن عليّ ، ولا يصحّ. والثالث : أنّ الزّيادة : مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، قاله ابن
عباس والحسن. والرابع
: أنّ الزّيادة : مغفرة
ورضوان ، قاله مجاهد. والخامس
: أنّ الزّيادة :
أنّ ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به في القيامة ، قاله ابن زيد. والسادس : أنّ الزّيادة : ما يشتهونه ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (وَلا يَرْهَقُ) أي : لا يغشى (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش : «قتر» بإسكان التاء ،
وفيه أربعة أقوال : أحدها
: أنه السّواد. قال
ابن عباس : سواد الوجوه من الكآبة. وقال الزّجّاج : القتر : الغبرة التي معها
سواد. والثاني
: أنه دخان جهنّم ،
قاله عطاء. والثالث
: الخزي ، قاله
مجاهد. والرابع
: الغبار ، قاله
أبو عبيدة.
وفي الذّلّة قولان
: أحدهما
: الكآبة ، قاله
ابن عباس. والثاني
: الهوان ، قاله
أبو سليمان.
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ
مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) قال ابن عباس : عملوا الشّرك. (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) : في الآية محذوف ، وفي تقديره قولان : أحدهما : أنّ فيها إضمار «لهم» ، المعنى : لهم جزاء سيئة بمثلها ،
وأنشد ثعلب :
فإن سأل الواشون
عنه فقل لهم
|
|
وذاك عطاء
للوشاة جزيل
|
ملمّ بليلى لمّة
ثمّ إنّه
|
|
لهاجر ليلى
بعدها فمطيل
|
أراد : هو ملمّ ،
وهذا قول الفرّاء. والثاني
: أنّ فيها إضمار «منهم»
، المعنى : جزاء سيئة منهم بمثلها ، تقول العرب : رأيت القوم صائم وقائم ، أي :
منهم صائم وقائم ، أنشد الفرّاء :
حتّى إذا ما
أضاء الصّبح في غلس
|
|
وغودر البقل
ملويّ ومحصود
|
أي : منه ملويّ ،
وهذا قول ابن الأنباري. وقال بعضهم : الباء زائدة ها هنا.
و «من» في قوله
تعالى : (مِنْ عاصِمٍ) صلة ، والعاصم : المانع (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ) أي :
____________________________________
وابن أبي عاصم في
السنة ١ / ٢٠٥ وأبو عوانة في صحيحه ١ / ١٥٦ والطيالسي في مسنده رقم (١٣١٥) والآجري
في الشريعة ٦١٥ والدارمي في الرد على الجهمية (١٧٥) وابن مندة في الرد على الجهمية
رقم (٨٣) وهناد بن السري في «الزهد» ١٧١ والطبراني في «الكبير» ٨ / ٤٦ ، ٤٧ ،
واللالكائي في شرح السنة ٧٧٨ ـ ٨٣٣ وأبو نعيم في «الحلية» ١ / ١٥٥ والبيهقي في «الأسماء
والصفات» (٦٦٥) من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن صهيب ولفظ مسلم «إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، قال يقول الله تبارك وتعالى :
تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟
قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزوجل وزاد في رواية ثانية «ثم تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ)».
ألبست (قِطَعاً) قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة : «قطعا»
مفتوحة الطاء ، وهي جمع قطعة. وقرأ ابن كثير ، والكسائيّ ، ويعقوب : «قطعا» بتسكين
الطاء. قال ابن قتيبة : وهو اسم ما قطع. قال ابن جرير : وإنّما قال : «مظلما» ولم
يقل : «مظلمة» لأنّ المعنى : قطعا من الليل المظلم ، ثم حذفت الألف واللام من «المظلم»
، فلمّا صار نكرة ، وهو من نعت الليل ، نصب على القطع ؛ وقوم يسمّون ما كان كذلك :
حالا ، وقوم : قطعا.
(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا
تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩))
قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) : قال ابن عباس : يجمع الكفّار وآلهتهم ، (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) : أي : آلهتكم. قال الزّجّاج : «مكانكم» منصوب على الأمر ،
كأنّهم قيل لهم : انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم ، والعرب تتوعّد فتقول : مكانك ،
أي : انتظر مكانك ، فهي كلمة جرت على الوعيد.
قوله تعالى : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) وقرأ ابن أبي عبلة : «فزايلنا» بألف ، قال ابن عباس :
فرّقنا بينهم وبين آلهتهم. وقال ابن قتيبة : هو من زال يزول وأزلته. وقال ابن جرير
: إنّما قال : «فزيّلنا» ولم يقل : «فزلنا» لإرادة تكرير الفعل وتكثيره.
فإن قيل : كيف تقع
الفرقة بينهم وهم معهم في النّار ، لقوله : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)؟ . فالجواب : أنّ الفرقة وقعت بتبرّي كلّ معبود ممّن عبده ،
وهو قوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) قال ابن عباس : آلهتهم ، ينطق الله الأوثان ، فتقول : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي : لا نعلم بعبادتكم لنا ، لأنه ما كان فينا روح ، فيقول
العابدون : بلى قد عبدناكم! فتقول الآلهة : (فَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) لا نعلم بها. قال الزّجّاج : (إِنْ كُنَّا) معناه : ما كنّا إلّا غافلين.
فإن قيل : ما وجه
دخول الباء في قوله : (فَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً)؟ فعنه جوابان :
أحدهما
: أنها دخلت
للمبالغة في المدح كما قالوا : أظرف بعبد الله ، وأنبل بعبد الرّحمن ، وناهيك
بأخينا ، وحسبك بصديقنا ، هذا قول الفرّاء وأصحابه. والثاني : أنها دخلت توكيدا للكلام ، إذ سقوطها ممكن ، كما يقال : خذ
بالخطام ، وخذ الخطام ، قاله ابن الأنباري.
(هُنالِكَ تَبْلُوا
كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))
قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «تبلو»
بالباء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، وزيد عن يعقوب : «تتلو» بالتاء. قال
الزّجّاج : «هنالك» ظرف. والمعنى : في ذلك الوقت تبلو ، وهو منصوب بتبلو ، إلّا
أنه غير متمكّن ، واللام زائدة ، والأصل : هناك ، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف
، والكاف للمخاطبة. و «تبلو» تختبر ، أي :
__________________
تعلم. ومن قرأ : «تتلو»
بتاءين ، فقد فسّرها الأخفش وغيره : تتلو من التّلاوة ، أي : تقرأ. وفسّروه أيضا :
تتبع كلّ نفس ما أسلفت. ومثله قول الشاعر :
قد جعلت دلوي تستتليني
أي : تستتبعني ،
أي : من ثقلها تستدعي اتّباعي إيّاها.
قوله تعالى : (وَرُدُّوا) أي في الآخرة (إِلَى اللهِ
مَوْلاهُمُ الْحَقِ) الذي يملك أمرهم حقا لا من جعلوا معه من الشّركاء (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي زال وبطل (ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) من الآلهة.
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١))
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) المطر ، ومن الأرض النّبات ، (أَمَّنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ) أي خلق السّمع والأبصار. وقد سبق معنى إخراج الحيّ من
الميّت ، والميّت من الحيّ.
قوله تعالى : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي : أمر الدّنيا والآخرة (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) لأنهم خوطبوا بما لا يقدر عليه إلّا الله ، فكان في ذلك
دليل توحيده.
وفي قوله تعالى : (أَفَلا تَتَّقُونَ) قولان : أحدهما
: أفلا تتّعظون ،
قاله ابن عباس. والثاني
: تتّقون الشّرك ،
قاله مقاتل.
(فَذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ (٣٢))
قوله تعالى : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) قال الخطّابيّ : الحقّ هو المتحقّق وجوده ، وكلّ شيء صحّ
وجوده وكونه ، فهو حقّ. وقوله تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) قال ابن عباس : كيف تصرفون عقولكم إلى عبادة من لا يرزق
ولا يحيي ولا يميت؟
(كَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ
يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥))
قوله تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «كلمة
ربّك» ، وفي آخر السّورة كذلك. وقرأ نافع ، وابن عامر الحرفين «كلمات» على الجمع.
قال الزّجّاج : الكاف في موضع نصب ، أي : مثل أفعالهم جازاهم ربّك ، والمعنى : حقّ
عليهم أنهم لا يؤمنون. وقوله : (أَنَّهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) بدل من : (كَلِمَةُ رَبِّكَ). وجائز أن تكون الكلمة حقّت عليهم لأنهم لا يؤمنون ، وتكون
الكلمة ما وعدوا به من العقاب.
وذكر ابن الأنباري
في (كَذلِكَ) قولين : أحدهما
: أنّها إشارة إلى
مصدر «تصرفون» ، والمعنى :
__________________
مثل ذلك الصّرف
حقّت كلمة ربّك. والثاني
: أنه بمعنى هكذا.
وفي معنى «حقّت» قولان : أحدهما
: وجبت. والثاني : سبقت. وفي كلمته قولان : أحدهما : أنها بمعنى وعده. والثاني : بمعنى قضائه. ومن قرأ «كلمات» جعل كلّ واحدة من الكلم التي
توعّدوا بها كلمة. وقد شرحنا معنى الكلمة في «الأعراف» .
قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) أي : إلى الحقّ.
قوله تعالى : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وورش عن نافع : «يهدّي» بفتح
الياء والهاء وتشديد الدّال. قال الزّجّاج : الأصل يهتدي ، فأدغمت التاء في الدال
، فطرحت فتحتها على الهاء. وقرأ نافع إلّا ورشا ، وأبو عمرو : «يهدّي» بفتح الياء
وإسكان الهاء وتشديد الدال ، غير أنّ أبا عمرو كان يشمّ الهاء شيئا من الفتح. وقرأ
حمزة ، والكسائيّ : «يهدي» بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال. قال أبو عليّ :
والمعنى : لا يهدي غيره إلّا أن يهدى هو ، ولو هدي الصّمّ لم يهتد ، ولكن لمّا
جعلوه كمن يعقل ، أجريت مجراه. وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم : «يهدّي»
بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، وكذلك روى أبان وجبلة عن المفضّل وعبد الوارث ،
قال الزّجّاج : أتبعوا الكسرة الكسرة ، وهي رديئة لثقل الكسرة في الياء. وروى حفص
عن عاصم ، والكسائيّ عن أبي بكر عنه : «يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال
، قال الزّجّاج : وهذه في الجودة كالمفتوحة الهاء ، إلّا أنّ الهاء كسرت لالتقاء
السّاكنين. وقرأ ابن السّميفع : «يهتدي» بزيادة تاء. والمراد بقوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) الصّمّ (إِلَّا أَنْ يُهْدى). وظاهر الكلام يدلّ على أنّ الأصنام إن هديت اهتديت ،
وليست كذلك ، لأنها حجارة لا تهتدي ، إلّا أنهم لمّا اتّخذوها آلهة ، عبّر عنها
كما يعبّر عمّن يعقل ، ووصفت صفة من يعقل وإن لم تكن في الحقيقة كذلك ؛ ولهذا المعنى
قال في صفتها : (أَمَّنْ) لأنهم جعلوها كمن يعقل. ولمّا أعطاها حقّها في أصل وضعها ،
قال : (يا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) . وقال الفرّاء : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أي : أتعبدون ما لا يقدر أن ينتقل من مكانه إلّا أن يحوّل؟
وقد صرف بعضهم الكلام إلى الرّؤساء والمضلّين ، والأوّل أصحّ. قوله تعالى : (فَما لَكُمْ) قال الزّجّاج : هو كلام تامّ ، كأنه قيل لهم : أيّ شيء لكم
في عبادة الأوثان؟ ثم قيل لهم : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي : على أيّ حال تحكمون؟ وقال ابن عباس : كيف تقضون
لأنفسكم؟ وقال مقاتل : كيف تقضون بالجور؟
(وَما يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))
قوله تعالى : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) أي : كلّهم (إِلَّا ظَنًّا) أي : ما يستيقنون أنها آلهة ، بل يظنّون شيئا فيتّبعونه. (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً) أي : ليس هو كاليقين ، ولا يقوم مقام الحقّ ، وقال مقاتل :
ظنّهم بأنها آلهة لا يدفع عنهم من العذاب شيئا ، وقال غيره : ظنّهم أنها تشفع لهم
لا يغني عنهم.
(وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧))
__________________
قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ
يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) قال الزّجّاج : هذا جواب قولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ
بَدِّلْهُ) وجواب قولهم : (افْتَراهُ) . قال الفرّاء : ومعنى الآية : ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن
يفترى من دون الله ، فجاءت «أن» على معنى ينبغي. وقال ابن الأنباري : يجوز أن تكون
«أن» مع «يفترى» مصدرا ، وتقديره : وما كان هذا القرآن افتراء. ويجوز أن تكون «كان»
تامّة ، فيكون المعنى : ما نزل هذا القرآن ، وما ظهر هذا القرآن لأن يفترى ، وبأن
يفترى ، فتنصب «أن» بفقد الخافض في قول الفرّاء ، وتخفض بإضمار الخافض في قول
الكسائيّ. وقال ابن قتيبة : معنى (أَنْ يُفْتَرى) أي : يضاف إلى غير الله ، أو يختلق.
قوله تعالى : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تصديق الكتاب المتقدّمة ، قاله ابن عباس. فعلى هذا ،
إنّما قال : (الَّذِي) لأنه يريد الوحي. والثاني : ما بين يديه من البعث والنّشور ، ذكره الزّجّاج. والثالث : تصديق النّبيّ صلىاللهعليهوسلم الذي بين يدي القرآن ، لأنهم شاهدوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم وعرفوه قبل سماعهم القرآن ، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى
: (وَتَفْصِيلَ
الْكِتابِ) أي : وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمّة محمّد والفرائض
التي فرضها عليهم.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨))
قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) في «أم» قولان. أحدهما : أنها بمعنى الواو ، قاله أبو عبيدة. والثاني : بمعنى بل ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) قال الزّجّاج : المعنى : فأتوا بسورة مثل سورة منه ، فذكر
المثل لأنه إنّما التمس شبه الجنس ، (وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ) ممّن هو في التّكذيب مثلكم (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أنه اختلقه.
(بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))
قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ) فيه قولان :
أحدهما
: أنّ المعنى : بما
لم يحيطوا بعلم ما فيه من ذكر الجنّة والنّار والبعث والجزاء.
والثاني
: بما لم يحيطوا
بعلم التّكذيب به ، لأنّهم شاكّون فيه.
وفي قوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) قولان : أحدهما
: تصديق ما وعدوا
به من الوعيد. والتّأويل : ما يؤول إليه الأمر. والثاني : ولم يكن معهم علم تأويله ، قاله الزّجّاج.
قيل لسفيان بن
عيينة : يقول الناس : كلّ إنسان عدوّ ما جهل ، فقال : هذا في كتاب الله. قيل له : أين؟
فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ). وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن : من جهل شيئا
عاداه؟ فقال : نعم ، في موضعين. قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) وقوله : (وَإِذْ لَمْ
يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) .
__________________
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : قريش ، قاله مقاتل بن سليمان. وفي هاء «به» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى محمّد صلىاللهعليهوسلم ودينه ، قاله مقاتل. والثاني : إلى القرآن ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
وهذه الآية تضمّنت
الإخبار عمّا سبق في علم الله ، فالمعنى : ومنهم من سيؤمن به. وقال الزّجّاج :
منهم من يعلم أنه حقّ فيصدّق به ويعاند فيظهر الكفر. (وَمِنْهُمْ مَنْ لا
يُؤْمِنُ بِهِ) أي : يشكّ ولا يصدّق.
قوله تعالى : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) قال عطاء : يريد المكذّبين ، وهذا تهديد لهم.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١))
قوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي) الآية. قال أبو صالح عن ابن عباس : نسختها آية السيف ؛
وليس هذا بصحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا
يَعْقِلُونَ (٤٢))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : في يهود المدينة ، كانوا يأتون رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويستمعون القرآن فيعجبون ويشتهونه ويغلب عليهم الشّقاء ،
فنزلت هذه الآية . والثاني
: أنها نزلت في
المستهزئين ، كانوا يستمعون إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم للاستهزاء والتّكذيب ، فلم ينتفعوا ، فنزلت فيهم هذه الآية
، والقولان مرويّان عن ابن عباس. والثالث : أنها نزلت في مشركي قريش ، قاله مقاتل.
قال الزّجّاج :
ظاهرهم ظاهر من يستمع ، وهم لشدّة عداوتهم بمنزلة الصّمّ. (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي : ولو كانوا مع ذلك جهّالا. وقال ابن عباس : يريد أنهم
شرّ من الصّمّ ، لأنّ الصّمّ لهم عقول وقلوب ، وهؤلاء قد أصمّ الله قلوبهم.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ
(٤٣))
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) قال ابن عباس ؛ يريد : متعجّبين منك. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) يريد أنّ الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون. وقال الزّجّاج :
ومنهم من يقبل عليك بالنّظر ، وهو من بغضه لك وكراهته لما يرى من آياتك كالأعمى.
وقال ابن جرير : ومنهم من يستمع قولك وينظر إلى
__________________
حججك على نبوّتك ،
ولكنّ الله قد سلبه التّوفيق. وقال مقاتل : (وَلَوْ) في الآيتين بمعنى «إذا».
(إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ
شَيْئاً) لمّا ذكر الذين سبق القضاء عليهم بالشّقاوة ، أخبر أنّ
تقدير ذلك عليهم ليس بظلم ، لأنه يتصرّف في ملكه كيف شاء ، وهم إذا كسبوا المعاصي
فقد ظلموا أنفسهم ، لأنّ الفعل منسوب إليهم ، وإن كان بقضاء الله.
قوله تعالى : (وَلكِنَّ النَّاسَ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «ولكن الناس» بتخفيف النون
وكسرها ، ورفع الاسم بعدها.
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥))
قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) وقرأ حفص : (يَحْشُرُهُمْ) بالياء. قال أبو سليمان الدّمشقي : هم المشركون. قوله
تعالى : (كَأَنْ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) فيه قولان : أحدهما : كأن لم يلبثوا في قبورهم ، قاله ابن عباس. والثاني : في الدنيا ، قاله مقاتل. قال الضّحّاك : قصر عندهم مقدار
الوقت الذي بين موتهم وبعثهم ، فصار كالسّاعة من النهار ، لهول ما استقبلوا من
القيامة.
قوله تعالى : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) قال ابن عباس : إذا بعثوا من القبور تعارفوا ، ثم تنقطع
المعرفة. قال الزّجّاج : وفي معرفة بعضهم بعضا ، وعلم بعضهم بإضلال بعض ، التّوبيخ
لهم ، وإثبات الحجّة عليهم. وقيل : إذا تعارفوا وبّخ بعضهم بعضا ، فيقول هذا لهذا
: أنت أضللتني ، وكسّبتني دخول النار. قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا) هو من قول الله عزوجل ، لا من قولهم : والمعنى خسروا ثواب الجنّة إذ كذّبوا
بالبعث (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) من الضّلالة.
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ
رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))
قوله تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) قال المفسّرون : كانت وقعة بدر ممّا أراه الله في حياته من
عذابهم. (أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك (فَإِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ) بعد الموت ، والمعنى : إن لم ننتقم منهم عاجلا ، انتقمنا
آجلا.
قوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما
يَفْعَلُونَ) من الكفر والتّكذيب. قال الفرّاء : «ثم» ها هنا عطف ، ولو
قيل : معناها : هناك الله شهيد ، كان جائزا. وقال غيره : «ثم» ها هنا بمعنى الواو.
وقرأ ابن أبي عبلة : «ثمّ الله شهيد» بفتح الثاء ، يراد به : هنالك الله شهيد.
قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ
بَيْنَهُمْ) ، فيه ثلاثة أقوال :
أحدها
: إذا جاء في
الدنيا بعد الإذن له في دعائهم ، قضي بينهم بتعجيل الانتقام منهم ، قاله الحسن.
وقال غيره : إذا جاءهم في الدنيا ، حكم عليهم عند اتّباعه وخلافه بالطّاعة
والمعصية.
والثاني
: إذا جاء يوم القيامة
، قاله مجاهد. وقال غيره : إذا جاء شاهدا عليهم.
والثالث
: إذا جاء في
القيامة وقد كذّبوه في الدنيا ، قاله ابن السّائب.
قوله تعالى : (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) فيه قولان : أحدهما : بين الأمّة ، فأثيب المحسن وعوقب المسيء. والثاني : بينهم وبين نبيّهم.
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨))
قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) ، في القائلين هذا قولان :
أحدهما
: الأمم المتقدّمة
، أخبر عنهم باستعجال العذاب لأنبيائهم ، قاله ابن عباس.
والثاني
: أنهم المشركون
الذين أنذرهم نبيّنا صلىاللهعليهوسلم ، قاله أبو سليمان.
وفي المراد بالوعد
قولان : أحدهما
: العذاب ، قاله
ابن عباس. والثاني
: قيام السّاعة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنت وأتباعك.
(قُلْ لا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا
جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ
كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا
عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢))
قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا
نَفْعاً) الآية ، قد ذكرت تفسيرها في آيتين من «الأعراف» .
قوله تعالى : (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً) قال الزّجّاج : البيات : كلّ ما كان بليل. وقوله : (ما ذا) في موضع رفع من جهتين : إحداهما : أن يكون «ذا» بمعنى الذي
، المعنى : ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ ويجوز أن يكون «ما ذا» اسما واحدا ،
فيكون المعنى : أيّ شيء يستعجل منه المجرمون؟ والهاء في «منه» تعود على العذاب.
وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من
الله تعالى؟ وعودها على العذاب أجود ، لقوله : (أَثُمَّ إِذا ما
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ). وذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالمجرمين : المشركون ، وكانوا
يقولون : نكذّب بالعذاب ونستعجله ، ثم إذا وقع العذاب آمنّا به ؛ فقال الله تعالى
موبّخا لهم : (أَثُمَّ إِذا ما
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) أي : هنالك تؤمنون فلا يقبل منكم الإيمان ، ويقال لكم :
الآن تؤمنون ، فأضمر : تؤمنون به مع (آلْآنَ وَقَدْ
كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) مستهزئين ، وهو قوله : (ثُمَّ قِيلَ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : كفروا ، عند نزول العذاب (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) ، لأنه إذا نزل بهم العذاب ، أفضوا منه إلى عذاب الآخرة
الدّائم.
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ
هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣))
قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) أي : ويستخبرونك (أَحَقٌّ هُوَ) يعنون البعث والعذاب. (قُلْ إِي)
__________________
المعنى : نعم (وَرَبِّي) ، وفتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو. وإنّما أقسم مع إخباره
تأكيدا. وقال ابن قتيبة : «إي» بمعنى «بل» ولا تأتي إلّا قبل اليمين صلة لها.
قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) قال ابن عباس : بسابقين. وقال الزّجّاج : لستم ممّن يعجز
أن يجازى على كفره.
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ
نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٥٦))
قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) قال ابن عباس : أشركت. (ما فِي الْأَرْضِ
لَافْتَدَتْ بِهِ) عند نزول العذاب. (وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ) يعني : الرّؤساء أخفوها من الأتباع. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : بين الفريقين. وقال آخرون منهم أبو عبيدة والمفضّل : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) بمعنى أظهروها. لأنه ليس بيوم تصنّع ولا تصبّر ، والإسرار
من الأضداد ؛ يقال : أسررت الشيء ، بمعنى : أخفيته. وأسررته : أظهرته ، قال
الفرزدق :
ولمّا رأى
الحجّاج جرّد سيفه
|
|
أسرّ الحروريّ
الذي كان أضمرا
|
يعني : أظهر. فعلى
هذا القول : أظهروا النّدامة عند إحراق النّار لهم ، لأنّ النار ألهتهم عن
التّصنّع والكتمان. وعلى الأوّل : كتموها قبل إحراق النار إيّاهم.
قوله تعالى : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) قال ابن عباس : ما وعد أولياءه من الثّواب ، وأعداءه من
العقاب. (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ) يعني المشركين (لا يَعْلَمُونَ).
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قال ابن عباس : يعني قريشا. (قَدْ جاءَتْكُمْ
مَوْعِظَةٌ) يعني القرآن. (وَشِفاءٌ لِما فِي
الصُّدُورِ) أي : دواء لداء الجهل. (وَهُدىً) أي : بيان من الضّلالة.
(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))
قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) فيه ثمانية أقوال : أحدها
: أنّ فضل الله :
الإسلام ، ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ؛
وهلال بن يساف. وروي عن الحسن ، ومجاهد في بعض الرّواية عنهما ، وهو اختيار ابن
قتيبة. والثاني
: أنّ فضل الله :
القرآن ،
__________________
ورحمته : أن جعلهم
من أهل القرآن ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال أبو سعيد الخدريّ ، والحسن في
رواية. والثالث
: أنّ فضل الله :
العلم ، ورحمته : محمّد صلىاللهعليهوسلم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والرابع : أنّ فضل الله : الإسلام ، ورحمته : تزيينه في القلوب ،
قاله ابن عمر. والخامس
: أنّ فضل الله :
القرآن ، ورحمته : الإسلام ، قاله الضّحّاك ، وزيد بن أسلم ، وابنه ، ومقاتل. والسادس : أنّ فضل الله ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي نجيح عن
مجاهد ، واختاره الزّجّاج. والسابع
: أنّ فضل الله : القرآن
، ورحمته : السّنّة ، قاله خالد بن معدان. والثامن : فضل الله : التّوفيق ، ورحمته : العصمة ، قاله ابن عيينة.
قوله تعالى : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وقتادة ، وأبو العالية ،
ورويس عن يعقوب : «فلتفرحوا» بالتاء. وقرأ الحسن ومعاذ القارئ وأبو المتوكّل مثل
ذلك ، إلّا أنهم كسروا اللام. وقرأ ابن مسعود وأبو عمران : «فبذلك فافرحوا». قال
ابن عباس : بذلك الفضل والرّحمة. (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ) أي ممّا يجمع الكفّار من الأموال. وقرأ أبو جعفر وابن عامر
ورويس : «تجمعون» بالتاء. وحكى ابن الأنباري أنّ الباء في قوله : (بِفَضْلِ اللهِ) خبر لاسم مضمر ، تأويله : هذا الشّفاء وهذه الموعظة بفضل
الله وبرحمته ، فبذلك التّطوّل من الله فليفرحوا.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ
آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩))
قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) قال المفسّرون : هذا خطاب لكفّار قريش ، كانوا يحرّمون ما
شاؤوا ، ويحلّون ما شاؤوا. و (أَنْزَلَ) بمعنى خلق. وقد شرحنا بعض مذاهبهم فيما كانوا يفعلون من
البحيرة والسّائبة وغير ذلك في سورة المائدة وسورة الأنعام . قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ
لَكُمْ) أي : في هذا التّحليل والتّحريم.
(وَما ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))
قوله تعالى : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) في الكلام محذوف ، تقديره : ما ظنّهم أنّ الله فاعل بهم
يوم القيامة بكذبهم ، (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حين لم يعجّل عليهم بالعقوبة (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) تأخير العذاب عنهم.
(وَما تَكُونُ فِي
شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ
كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ
مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))
قوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي : في عمل من الأعمال ، وجمعه : شؤون. (وَما تَتْلُوا مِنْهُ)
__________________
في هاء الكناية
قولان : أحدهما
: أنّها تعود إلى
الشّأن. قال الزّجّاج : معنى الآية : أي وقت تكون في شأن من عبادة الله ، وما تلوت
من الشّأن من قرآن. والثاني
: أنها تعود إلى
الله تعالى ، فالمعنى : وما تلوت من الله ، أي : من نازل منه من قرآن ، ذكره جماعة
من العلماء. والخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وأمّته داخلون فيه ، بدليل قوله : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) قال ابن الأنباري : جمع في هذا ، ليدلّ على أنّهم داخلون
في الفعلين الأوّلين.
قوله تعالى : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) الهاء عائدة على العمل. قال ابن قتيبة : تفيضون بمعنى
تأخذون فيه. وقال الزّجّاج : تنتشرون فيه ، يقال : أفاض القوم في الحديث : إذا
انتشروا فيه وخاضوا. (وَما يَعْزُبُ) معناه : وما يبعد. وقال ابن قتيبة : ما يبعد ولا يغيب.
وقرأ الكسائيّ «يعزب» بكسر الزّاي ها هنا وفي (سبأ). وقد بيّنا «مثقال ذرّة» في
سورة النساء.
قوله تعالى : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) قرأ الجمهور بفتح الراء فيهما. وقرأ حمزة ، وخلف ، ويعقوب
، برفع الراء فيهما. قال الزّجّاج : من قرأ بالفتح ، فالمعنى : وما يعزب عن ربّك
من مثقال ذرّة ، ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر ، والموضع موضع خفض ، إلا أنه فتح
لأنه لا ينصرف. ومن رفع ، فالمعنى : وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر.
ويجوز رفعه على الابتداء ، فيكون المعنى : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ.
(أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ
آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))
قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ). روى ابن عباس أنّ رجلا قال :
(٧٨٢) يا رسول
الله ، من أولياء الله؟ قال : «الذين إذا رأوا ذكر الله».
(٧٨٣) وروى عمر بن
الخطّاب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : «إنّ من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء
____________________________________
(٧٨٢) الراجح
وقفه. أخرجه ابن المبارك ٢١٨ ، والطبراني ١٢٣٢٥ ، والبزار كما في «المجمع» ١٦٧٧٩
عن ابن عباس مرفوعا ، ومداره على جعفر بن أبي المغيرة ، وهو غير قوي وبخاصة في
روايته عن سعيد بن جبير.
وقد خالفه غيره
فرواه مرسلا. أخرجه ابن المبارك ٢١٧ ، والطبري ١٧٧٢٦. وورد عن ابن عباس موقوفا ،
وهو أصح وأشبه من المرفوع. والله أعلم. وله شاهد أخرجه أحمد ٤ / ٢٢٧ من حديث عبد
الرحمن بن غنم ، وقال الهيثمي ١٣١٣٩ «مجمع» فيه شهر بن حوشب ، وبقية رجاله رجال
الصحيح. أي شهر بن حوشب ضعفه غير واحد. ثم إن عبد الرحمن بن غنم مختلف في صحبته.
فالحديث غير قوي ، والراجح وقفه. ولفظ الحديث : «خيار عباد الله الذين إذا رأوا
ذكر الله ، وشرار عباده المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة ، الباغون البرآء
العنت».
(٧٨٣) صحيح. أخرجه
أبو داود ٣٥٢٧ ، والطبري في «التفسير» ١٧٧٢٩ وأبو نعيم في «الحلية» ١ / ٥ من طريق
أبي زرعة بن عمر بن جرير عن عمر بن الخطاب وإسناده منقطع. وله شاهد من حديث أبي
هريرة أخرجه أبو يعلى ٦١١٠ وابن حبان ٥٧٣. وإسناده صحيح. وله شاهد من حديث ابن عمر
أخرجه الحاكم في «المستدرك» ٤ / ١٧٠ ، ١٧١ وصححه ووافقه الذهبي. وشاهد آخر عن أبي
مالك الأشعري أخرجه أحمد ٥ / ٣٤٣ وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٢٧٦ وقال : رواه
أحمد والطبراني بنحوه ، ورجاله وثقوا.
ولا شهداء ،
يغبطهم الأنبياء والشّهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عزوجل» قالوا : يا رسول الله. من هم ، وما أعمالهم لعلّنا نحبّهم؟
قال : «هم قوم تحابّوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فو
الله إنّ وجوههم لنور ، وإنّهم لعلى منابر من نور ، ولا يخافون إذا خاف النّاس ولا
يحزنون إذا حزن النّاس ، ثمّ قرأ : (أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
قوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) فيها ثلاثة أقوال :
(٧٨٤) أحدها : أنّها الرّؤيا الصّالحة يراها الرّجل الصّالح ، أو ترى له
، رواه عبادة بن الصّامت ، وأبو الدّرداء ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة عن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
____________________________________
(٧٨٤) حديث حسن
غريب ، ورد عن عبادة وأبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهم.
ـ حديث عبادة بن الصامت : أخرجه الترمذي ٢٢٧٥ وابن
ماجة ٣٨٩٨ وأحمد ٥ / ٣١٥ والطبري ١٧٧٣٣ و ١٧٧٣٤ و ١٧٧٣٥ و ١٧٧٤٦ و ١٧٧٥٥ والحاكم ٢
/ ٣٤٠ والواحدي في «الوسيط» ٢ / ٥٥٣ من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن عن عبادة ، ورجاله ثقات رجال البخاري ومسلم ، إن كان أبو سلمة سمعه من
عبادة ، والظاهر أنه لم يسمعه ، فإن يحيى بن أبي كثير يدلس ويرسل ، فقد أخرجه
الطبري ١٧٧٣٦ من وجه آخر عن أبي سلمة قال : نبئت أن عبادة ... فذكره. ومع ذلك صححه
الحاكم! ووافقه الذهبي! وحسنه الترمذي! مع أن في روايته قول أبي سلمة «نبئت» أي لم
يسمعه من عبادة. وورد من وجه آخر أخرجه الطبري ١٧٧٤٠ و ١٧٧٧١ عن حميد بن عبد الله
المدني عن عبادة به ، وإسناده ضعيف لجهالة حميد هذا. ووثقه ابن حبان وحده على
قاعدته في توثيق المجاهيل.
ـ حديث أبي الدرداء : أخرجه الترمذي ٢٢٧٣ والطبري
١٧٧٣٧ و ١٧٧٣٨ و ١٧٧٣٩ و ١٧٧٤٩ و ١٧٧٥٢ والبيهقي في «الشعب» ٤٧٥٣ من طرق : عن عطاء
بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء. «وإسناده ضعيف» فيه راو لم يسم. وحسنه
الترمذي ، ولعله حسنه لطرقه وشواهده. وأخرجه الطبري ١٧٧٣٢ و ١٧٧٤٨ من وجه آخر عن
أبي صالح عن رجل عن أبي الدرداء به مختصرا. وكرره الطبري ١٧٧٥٠ عن أبي صالح عن أبي
الدرداء ، دون ذكر الرجل وهو منقطع. وكرره ١٧٧٥١ عن عطاء عن أبي الدرداء ، دون ذكر
الرجل أيضا. وهو منقطع. وكرره ١٧٧٥٣ عن عمر بن دينار عن رجل من أهل مصر عن أبي
الدرداء وهذا ضعيف لجهالة المصري هذا.
ـ حديث أبي هريرة : أخرجه الطبري ١٧٧٤١ و ١٧٧٤٣ ،
ورجاله ثقات ، لكن كرره الطبري ١٧٧٤٢ عن أبي هريرة قوله.
ـ وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص :
أخرجه أحمد ٢ / ٢١٩. والطبري ١٧٧٤٤ و ١٧٧٦٩.
والبيهقي ٤٧٥٧
وإسناده ضعيف ، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم. وله شاهد ، أخرجه الطبري ١٧٧٥٧.
من طريق نافع بن
جبير عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم به ، وجهالة الصحابي لا تضر ، لكن فيه عنعنة ابن جريج ،
وهو مدلس.
الخلاصة : هو حديث
حسن بمجموع طرقه وشواهده ولم أقل إنه صحيح ؛ بسبب غرابة المتن ، إذ البشرى في
الآية تدل على أنها أعم من الرؤيا الصالحة. بل الصواب أن الرؤيا هي من البشرى. أي
بعض البشرى.
ـ وقد ذكر الألباني هذا الحديث في «الصحيحة» ١٧٨٦
ولم يستوف الكلام عليه كعادته ، بل اختصره ووقع له شيء ، وهو أنه عزاه للطبري ١١ /
٩٥ من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي صالح قال : سمعت أبا الدرداء ... فذكره. وقال
الألباني عقبه : وهذا إسناد حسن.
ـ قلت : وليس كما قال! والصواب أن أبا صالح لم
يسمعه من أبي الدرداء والوهم في لفظ «سمعت» إما من عاصم ، فإنه صدوق لكنه يخطئ أو
ممن دونه. فقد كرره الطبري من عدة طرق عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل
مصر. وتقدم ذكر هذه الروايات. حتى عطاء لم يسمعه من أبي الدرداء. بدليل ذكر
والثاني
: أنها بشارة
الملائكة لهم عند الموت ، قاله الضّحّاك ، وقتادة ، والزّهريّ.
والثالث
: أنها ما بشّر
الله عزوجل به في كتابه من جنّته وثوابه ، كقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، (وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ) ، (يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ) ، وهذا قول الحسن ، واختاره الفرّاء ، والزّجّاج ، واستدلال
بقوله : (لا تَبْدِيلَ
لِكَلِماتِ اللهِ). قال ابن عباس : لا خلف لمواعيده ، وذلك أنّ مواعيده
بكلماته ، فإذا لم تبدّل الكلمات ، لم تبدّل المواعيد.
فأمّا بشراهم في
الآخرة ، ففيها ثلاثة أقوال :
(٧٨٥) أحدها : أنها الجنّة ، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، واختاره ابن قتيبة.
والثاني
: أنه عند خروج
الرّوح تبشّر برضوان الله ، قاله ابن عباس.
والثالث
: أنها عند الخروج
من قبورهم ، قاله مقاتل.
(وَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥))
قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) قال ابن عباس : تكذيبهم. وقال غيره : تظاهرهم عليك
بالعداوة وإنكارهم وأذاهم. وتمّ الكلام هاهنا. ثم ابتدأ فقال : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي : الغلبة له ، فهو ناصرك وناصر دينك ، (هُوَ السَّمِيعُ) لقولهم : (الْعَلِيمُ) بإضمارهم ، فيجازيهم على ذلك.
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ (٦٦))
قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) قال الزّجّاج : (أَلا) افتتاح كلام وتنبيه ، أي : فالذي هم له ، يفعل فيهم وبهم
ما يشاء. قوله تعالى : (وَما يَتَّبِعُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي : ما يتّبعون شركاء على الحقيقة ، لأنّهم يعدّونها شركاء
لله شفعاء لهم ، وليست على ما يظنّون. (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) في ذلك (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) قال ابن عباس : يكذبون. وقال ابن قتيبة : يحدسون ويحزرون.
____________________________________
الرجل المصري ثم
ذكر حديث أبي هريرة ، وعزاه للطبري وجوده ونسبه لمسلم أيضا! والصواب أن مسلما ما
رواه بمثل حديث أبي الدرداء. وإنما أخرجه ٢٢٦٣ من حديث أبي هريرة بلفظ «إذا اقترب
الزمان ، لم تكد رؤيا المسلم تكذب ، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ، ورؤيا المؤمن جزء
من خمس وأربعين جزءا من النبوة ، والرؤيا ثلاثة ، والرؤيا الصالحة بشرى من الله ،
ورؤيا تحزين». فهذا لفظ مسلم ، ليس فيه ذكر الآية ، ولا استغراق الرؤيا الصالحة
لجنس البشرى كما في الأحاديث المتقدمة ، فتنبه ، والله الموفق. فالحديث غريب من
جهة المتن ، حسن من جهة الإسناد باعتبار طرقه وشواهده ، والله أعلم بالصواب ،
وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٢٤٥ بتخريجنا.
(٧٨٥) أخرجه
الطبري ١٧٧٤٣ وفي إسناده عمار بن محمد ، وهو لين الحديث ، وانظر ما قبله.
__________________
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ) المعنى : إنّ ربّكم الذي يجب أن تعتقدوا ربوبيّته ، هو
الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، فيزول تعب النّهار وكلاله بالسّكون في الليل ،
وجعل النّهار مبصرا ، أي : مضيئا تبصرون فيه. وإنما أضاف الإبصار إليه ، لأنه قد
فهم السّامع المقصود ، إذ النّهار لا يبصر ، وإنما هو ظرف يفعل فيه غيره ، كقوله :
(عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، إنّما هي مرضيّة ، وهذا كما يقال : ليل نائم ، قال جرير
:
لقد لمتنا يا
أمّ غيلان في السّرى
|
|
ونمت وما ليل
المطيّ بنائم
|
قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) سماع اعتبار ، فيعلمون أنه لا يقدر على ذلك إلّا الإله
القادر.
(قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))
قوله تعالى : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال ابن عباس : يعني أهل مكّة ، جعلوا الملائكة بنات الله.
قوله تعالى : (سُبْحانَهُ) تنزيه له عمّا قالوا. (هُوَ الْغَنِيُ) عن الزّوجة والولد. (إِنْ عِنْدَكُمْ) أي : ما عندكم (مِنْ سُلْطانٍ) أي : حجّة بما تقولون.
قوله تعالى : (لا يُفْلِحُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا يبقون في الدّنيا. والثاني : لا يسعدون في العاقبة. والثالث : لا يفوزون. قال الزّجّاج : وهذا وقف التّمام ، وقوله : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) مرفوع على معنى : ذلك متاع في الدّنيا.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي
وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا
إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١))
قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) فيه دليل على نبوّته ، حيث أخبر عن قصص الأنبياء ولم يكن
يقرأ الكتاب ، وتحريض على الصّبر ، وموعظة لقومه بذكر قوم نوح وما حلّ بهم من
العقوبة بالتّكذيب.
قوله تعالى : (إِنْ كانَ كَبُرَ) أي : عظم وشقّ (عَلَيْكُمْ مَقامِي) أي : طول مكثي. وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء ، وأبو الجوزاء «مقامي»
برفع الميم. (وَتَذْكِيرِي) وعظي. (فَعَلَى اللهِ
تَوَكَّلْتُ) في نصرتي ودفع شرّكم عنّي. (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) قرأ الجمهور : «فأجمعوا» بالهمز وكسر الميم ، من «أجمعت». وروى
الأصمعيّ عن نافع : «فاجمعوا» بفتح الميم ، من «جمعت». ومعنى «أجمعوا أمركم» :
أحكموا
__________________
أمركم واعزموا
عليه. قال المؤرّج : «أجمعت الأمر» أفصح من «أجمعت عليه» ، وأنشد :
يا ليت شعري
والمنى لا تنفع
|
|
هل أغدون يوما
وأمري مجمع
|
فأمّا رواية
الأصمعيّ ، فقال أبو عليّ : يجوز أن يكون معناها : اجمعوا ذوي الأمر منكم ، أي : رؤساءكم.
ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدونه ، فيكون كقوله : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا
صَفًّا) . قوله تعالى : (وَشُرَكاءَكُمْ) قال الفرّاء وابن قتيبة : المعنى : وادعوا شركاءكم. وقال
الزّجّاج : الواو ها هنا بمعنى «مع» ، فالمعنى : مع شركائكم. تقول : لو تركت
النّاقة وفصيلها لرضعها ، أي : مع فصيلها. وقرأ يعقوب «وشركاؤكم» بالرّفع.
قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ
غُمَّةً) فيه قولان : أحدهما : لا يكن أمركم مكتوما ، قاله ابن عباس. والثاني : غما عليكم ، كما تقول : كرب وكربة ، قاله ابن قتيبة. وذكر
الزّجّاج القولين. وفي قوله : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) قولان : أحدهما
: ثمّ اقضوا إليّ
ما في أنفسكم ، قاله مجاهد. والثاني
: افعلوا ما تريدون
، قاله الزّجّاج ، وابن قتيبة. وقال ابن الأنباري : معناه : اقضوا إليّ بمكروهكم
وما توعدونني به ، كما تقول العرب : قد قضى فلان ، يريدون : مات ومضى.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))
قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم عن الإيمان. (فَما سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ) أي : لم يكن دعائي إيّاكم طمعا في أموالكم. وقوله تعالى : (إِنْ أَجْرِيَ) حرّك هذه الياء ابن عامر ، وأبو عمرو ، ونافع ، وحفص عن
عاصم ، وأسكنها الباقون.
قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) أي : جعلنا الذين نجوا مع نوح خلفا ممّن هلك.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ (٧٤))
قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد نوح (رُسُلاً إِلى
قَوْمِهِمْ) قال ابن عباس : يريد : إبراهيم وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا.
(فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) أي : بان لهم أنّهم رسل الله. (فَما كانُوا) أي : أولئك الأقوام (لِيُؤْمِنُوا بِما
كَذَّبُوا) يعني الذين قبلهم. والمراد : أنّ المتأخّرين مضوا على سنن
المتقدّمين في التّكذيب. وقال مقاتل : فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من العذاب
من قبل نزوله. قوله تعالى : (كَذلِكَ نَطْبَعُ) أي : كما طبعنا على قلوب أولئك ، (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ) يعني المتجاوزين ما أمروا به.
__________________
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥))
قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني الرّسل الذين أرسلوا بعد نوح.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ
فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي
بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى
أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ
بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ (٨٢))
قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنا) وهو ما جاء به موسى من الآيات.
قوله تعالى : (أَسِحْرٌ هذا) قال الزّجّاج : المعنى : أتقولون للحقّ لمّا جاءكم هذا
اللفظ ، وهو قولهم : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ
مُبِينٌ). ثم قرّرهم فقال : (أَسِحْرٌ هذا)؟. قال ابن الأنباري : إنّما أدخلوا الألف على جهة تفظيع
الأمر ، كما يقول الرّجل إذا نظر إلى الكسوة الفاخرة : أكسوة هذه؟ يريد بالاستفهام
تعظيمها ، وتأتي الرّجل جائزة ، فيقول : أحقّ ما أرى؟ معظّما لما ورد عليه. وقال
غيره : تقدير الكلام : أتقولون للحقّ لمّا جاءكم : هو سحر؟ أسحر هذا؟ فحذف السّحر
الأوّل اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، كقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) المعنى : بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم.
قوله تعالى : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) قال ابن قتيبة : لتصرفنا. يقال : لفتّ فلانا عن كذا : إذا
صرفته. ومنه الالتفات ، وهو الانصراف عمّا كنت مقبلا عليه. قوله تعالى : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي
الْأَرْضِ) وروى أبان ، وزيد عن يعقوب : «ويكون لكما» بالياء. وفي
المراد بالكبرياء ثلاثة أقوال : أحدها
: الملك والشّرف ،
قاله بن عباس. والثاني
: الطّاعة ، قاله
الضّحّاك. والثالث
: العلوّ ، قاله
ابن زيد. قال ابن عباس : والأرض ها هنا : أرض مصر.
قوله تعالى : (بِكُلِّ ساحِرٍ) قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «بكلّ سحّار» بتشديد الحاء
وتأخير الألف. وقوله تعالى : (ما جِئْتُمْ بِهِ
السِّحْرُ) قرأ الأكثرون «السحر» بغير مدّ ، على لفظ الخبر ، والمعنى
: الذي جئتم به من الحبال والعصيّ ، هو السّحر ، وهذا ردّ لقولهم للحقّ : هذا سحر
، فتقديره : الذي جئتم به السّحر ، فدخلت الألف واللام ، لأنّ النّكرة إذا عادت ،
عادت معرفة ، كما تقول : رأيت رجلا ، فقال لي الرّجل. وقرأ مجاهد ، وأبو عمرو ،
وأبو جعفر ، وأبان عن عاصم ، وأبو حاتم عن يعقوب : «السحر» بمدّ الألف ، استفهاما.
قال الزّجّاج : والمعنى : أيّ شيء جئتم به؟ أسحر هو؟ على جهة التّوبيخ لهم. وقال
ابن الأنباري : هذا الاستفهام معناه التّعظيم للسّحر ، لا على سبيل الاستفهام عن
الشّيء الذي يجهل ، وذلك مثل قول الإنسان في الخطأ الذي يستعظمه من إنسان : أخطأ
هذا؟ هو عظيم الشّأن في الخطأ. والعرب تستفهم عمّا هو معلوم عندها ، قال امرؤ
القيس :
__________________
أغرّك منّي أنّ
حبّك قاتلي
|
|
وأنّك مهما
تأمري القلب يفعل
|
وقال قيس بن ذريح
:
أراجعة يا لبن
أيامنا الألى
|
|
بذي الطّلح أم
لا ما لهنّ رجوع
|
فاستفهم وهو يعلم
أنهنّ لا يرجعن.
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي : يهلكه ، ويظهر فضيحتكم ، (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ) لا يجعل عملهم نافعا لهم. (وَيُحِقُّ اللهُ
الْحَقَ) أي : يظهره ويمكّنه ، (بِكَلِماتِهِ) بما سبق من وعده
بذلك.
(فَما آمَنَ لِمُوسى
إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ
يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ
تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى
وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ
قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى
رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
(٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ
الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا
إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ
لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ
(٩٢))
قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) في المراد بالذّرّية ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ المراد
بالذّرّيّة : القليل. قاله ابن عباس. والثاني : أنهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى مات آباؤهم لطول الزّمان
، وآمنوا هم ، قاله مجاهد. وقال ابن زيد : هم الذين نشئوا مع موسى حين كفّ فرعون
عن ذبح
__________________
الغلمان. قال ابن
الأنباري : وإنّما قيل لهؤلاء : «ذرّيّة» لأنّهم أولاد الذين بعث إليهم موسى ، وإن
كانوا بالغين. والثالث
: أنّهم قوم ،
أمّهاتهم من بني إسرائيل ، وآباؤهم من القبط ، قاله مقاتل ، واختاره الفرّاء. قال
: وإنّما سمّوا ذريّة كما قيل لأولاد فارس : الأبناء ، لأنّ أمّهاتهم من
غير جنس آبائهم. وفي هاء «قومه» قولان : أحدهما : أنّها تعود إلى موسى ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : إلى فرعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . فعلى القول الأوّل يكون قوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِمْ) أي : وملأ فرعون. قال الفرّاء : إنّما قال : «وملئهم»
بالجمع ، وفرعون واحد ، لأنّ الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى من معه ، تقول :
قدم الخليفة فكثر الناس ، تريد : بمن معه. وقد يجوز أن يريد بفرعون : آل فرعون ،
كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) . وعلى القول الثاني : يرجع ذكر الملأ إلى الذّريّة. قال
ابن جرير : وهذا أصحّ ، لأنه كان في الذّرية من أبوه قبطيّ وأمّه إسرائيليّة ، فهو
مع فرعون على موسى.
قوله تعالى : (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يعني فرعون ، ولم يقل : يفتنوهم ، لأنّ قومه كانوا على من
كان عليه. وفي هذه الفتنة قولان : أحدهما : أنّها القتل ، قاله ابن عباس. والثاني : التّعذيب ، قاله ابن جرير. قوله تعالى : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي
الْأَرْضِ) قال ابن عباس : متطاول في أرض مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) حين كان عبدا فادّعى الرّبوبيّة.
قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) لمّا شكا بنو إسرائيل إلى موسى ما يهدّدهم به فرعون من ذبح
أولادهم ، واستحياء نسائهم ، قال لهم هذا.
وفي قوله : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) ثلاثة أقوال : أحدها : لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من قبلك ،
فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حقّ ما عذّبوا ولا سلّطنا عليهم. والثاني : لا تسلّطهم علينا فيفتنونا ، والقولان مرويّان عن مجاهد. والثالث : لا تسلّطهم علينا فيفتتنون بنا ، لظنّهم أنّهم على حقّ ،
قاله أبو الضّحى ، وأبو مجلز.
قوله تعالى : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ
بُيُوتاً) قال المفسّرون : لمّا أرسل موسى ، أمر فرعون بمساجد بني
إسرائيل فخرّبت كلّها ، ومنعوا من الصّلاة ، وكانوا لا يصلّون إلّا في الكنائس ؛
فأمروا أن يتّخذوا مساجد في بيوتهم ويصلّون فيها خوفا من فرعون. و «تبوّءا» معناه
: اتّخذا ، وقد شرحناه في سورة
__________________
الأعراف . وفي المراد بمصر قولان : أحدهما : أنه البلد المعروف بمصر ، قاله الضّحّاك. والثاني : أنه الإسكندريّة ، قاله مجاهد. وفي البيوت قولان : أحدهما : أنها المساجد ، قاله الضّحّاك ، والثاني : القصور ، قاله مجاهد.
وفي قوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أربعة أقوال : أحدها
: اجعلوها مساجد ،
رواه مجاهد ، وعكرمة ، والضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال النّخعيّ ، وابن زيد. وقد
ذكرنا أنّ فرعون أمر بهدم مساجدهم ، فقيل لهم : اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من
المساجد. والثاني
: اجعلوها قبل
القبلة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وروى الضّحّاك عن ابن عباس ، قال : قبل مكّة.
وقال مجاهد : أمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة ، وبه قال مقاتل ، وقتادة ،
والفرّاء. والثالث
: اجعلوها يقابل
بعضها بعضا ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع : واجعلوا بيوتكم التي بالشّام قبلة لكم في الصّلاة ، فهي
قبلة اليهود إلى اليوم ، قاله ابن بحر.
فإن قيل : البيوت
جمع ، فكيف قال : «قبلة» على التّوحيد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : من قال
: المراد بالقبلة الكعبة ، قال : وحدت القبلة لتوحيد الكعبة. قال : ويجوز أن يكون
أراد : اجعلوا بيوتكم قبلا ، فاكتفى بالواحد من الجميع ، كما قال العبّاس بن مرداس
:
فقلنا أسلموا
إنّا أخوكم
|
|
فقد برئت من
الإحن الصّدور
|
يريد : إنّا
إخوتكم. ويجوز أن يكون وحّد «قبلة» لأنه أجراها مجرى المصدر ، فيكون المعنى : واجعلوا
بيوتكم إقبالا على الله ، وقصدا لما كنتم تستعملونه في المساجد. ويجوز أن يكون
وحّدها ، والمعنى : واجعلوا بيوتكم شيئا قبلة ، ومكانا قبلة ، ومحلّة قبلة.
قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن عباس : أتمّوا الصّلاة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أنت يا محمّد. قال سعيد بن جبير : بشّرهم بالنّصر في
الدنيا ، وبالجنّة في الآخرة.
قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً) قال ابن عباس : كان لهم من لدن فسطاط مصر إلى أرض الحبشة
جبال فيها معادن ذهب وفضّة وزبرجد وياقوت.
قوله تعالى : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) وفي لام «ليضلّوا» أربعة أقوال : أحدها : أنها لام «كي» والمعنى : آتيتهم ذلك كي يضلّوا ، وهذا قول
الفرّاء. والثاني
: أنها لام العاقبة
، والمعنى : إنّك آتيتهم ذلك فأصارهم إلى الضّلال ، ومثله قوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي : آل أمرهم إلى أن صار لهم عدوا ، لا أنّهم قصدوا ذلك ،
وهذا كما تقول للذي كسب مالا فأدّاه إلى الهلاك : إنّما كسب فلان
__________________
لحتفه ، وهو لم
يكسب المال طلبا للحتف ، وأنشدوا :
وللمنايا تربّي
كلّ مرضعة
|
|
وللخراب يجدّ
النّاس عمرانا
|
وقال آخر :
وللموت تغذو
الوالدات سخالها
|
|
كما لخراب
الدّور تبنى المساكن
|
وقال آخر :
فإن يكن الموت
أفناهم
|
|
فللموت ما تلد
الوالده
|
أراد : عاقبة
الأمر ومصيره إلى ذلك ، هذا قول الزّجّاج. والثالث : أنّها لام الدّعاء ، والمعنى : ربّنا ابتلهم بالضّلال عن
سبيلك ، ذكره ابن الأنباري. والرابع
: أنّها لام أجل ،
فالمعنى : آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبة منك لهم ، ومثله قوله : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا
انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي : لأجل إعراضكم ، حكاه بعض المفسّرين. وقرأ أهل الكوفة
إلّا المفضّل ، وزيد ، وأبو حاتم عن يعقوب : «ليضلّوا» بضمّ الياء ، أي : ليضلّوا
غيرهم.
قوله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ) روى الحلبيّ عن عبد الوارث : «اطمس» بضمّ الميم ، (عَلى أَمْوالِهِمْ) وفيه قولان : أحدهما : أنها جعلت حجارة ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال قتادة
، والضّحّاك ، وأبو صالح ، والفرّاء. وقال القرظيّ : جعل سكّرهم حجارة. وقال ابن
زيد : صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكلّ شيء لهم حجارة. وقال مجاهد : مسخ الله
النّخل والثّمار والأطعمة حجارة ، فكانت إحدى الآيات التّسع. وقال الزّجّاج :
تطميس الشيء : إذهابه عن صورته والانتفاع به على الحال الأولى التي كان عليها. والثاني : أنّها هلكت ، فالمعنى : أهلك أموالهم ، رواه العوفيّ عن
ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، ومنه يقال : طمست عينه ، أي
: ذهبت ، وطمس الطّريق : إذا عفا ودرس. وفي قوله : (وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ) أربعة أقوال : أحدها : اطبع عليها ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ،
والفرّاء ، والزّجّاج. والثاني
: أهلكهم كفّارا ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والثالث : أشدد عليها بالضّلالة ، قاله مجاهد. والرابع : أنّ معناه : قسّ قلوبهم ، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُوا) فيه قولان :
أحدهما
: أنه دعاء عليهم
أيضا ، كأنّه قال : اللهمّ فلا يؤمنوا ، قاله الفرّاء ، وأبو عبيدة ، والزّجّاج. وقال
ابن الأنباري : معناه : فلا آمنوا ، قال الأعشى :
فلا ينبسط من
بين عينيك ما انزوى
|
|
ولا تلقني إلّا
وأنفك راغم
|
معناه : لا انبسط
، ولا لقيتني. والثاني
: أنه عطف على قوله
: (لِيُضِلُّوا عَنْ
سَبِيلِكَ) ، فالمعنى : أنّك آتيتهم ليضلّوا فلا يؤمنوا ، حكاه
الزّجّاج عن المبرّد.
__________________
قوله تعالى : (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) قال ابن عباس : هو الغرق ، وكان موسى يدعو ، وهارون يؤمّن
، فقال الله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُما) وكان بين الدّعاء والإجابة أربعون سنة.
فإن قيل : كيف قال
: (دَعْوَتُكُما) وهما دعوتان؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها
: أنّ الدّعوة تقع
على دعوتين وعلى دعوات وكلام يطول كما بيّنّا في سورة الأعراف أنّ الكلمة تقع على كلمات ، قال الشاعر :
وكان دعا دعوة
قومه
|
|
هلمّ إلى أمركم
قد صرم
|
فأوقع «دعوة» على
ألفاظ بيّنها آخر بيته. والثاني
: أن يكون المعنى :
قد أجيبت دعواتكما ، فاكتفى بالواحد من ذكر الجميع ، ذكر الجوابين ابن الأنباري.
وقد روى حمّاد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ : «دعواتكما» بالألف وفتح العين. والثالث : أنّ موسى هو الذي دعا ، فالدّعوة له ، غير أنّه لمّا أمّن
هارون ، أشرك بينهما في الدّعوة ، لأنّ التّأمين على الدّعوة منهما.
وفي قوله تعالى : (فَاسْتَقِيما) أربعة أقوال : أحدها : فاستقيما على الرّسالة وما أمرتكما به ، قاله أبو صالح عن
ابن عباس. والثاني
: فاستقيما على
دعاء فرعون وقومه إلى طاعة الله ، قاله ابن جرير. والثالث : فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه. والرابع : فاستقيما على ديني ، ذكرهما أبو سليمان الدّمشقي.
قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعانِ) قرأ الأكثرون بتشديد تاء «تتّبعان». وقرأ ابن عامر
بتخفيفها مع الاتّفاق على تشديد نون «تتّبعانّ» إلّا أنّ في بعض الرّوايات عن ابن
عامر تخفيف. قال الزّجّاج : موضع «تتبعان» جزم ، إلّا أنّ النون الشديدة دخلت
للنّهي مؤكّدة ، وكسرت لسكونها ولسكون النون التي قبلها ، واختير لها الكسر لأنّها
بعد الألف ، فشبّهت بنون الاثنين. قال أبو عليّ : ومن خفض النّون أمكن أن يكون
خفّف النّون الثّقيلة ، فإن شئت كان على لفظ الخبر ، والمعنى الأمر ، كقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) و (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) أي : لا ينبغي ذلك ، وإن شئت جعلته حالا من قوله : (فَاسْتَقِيما) تقديره : استقيما غير متّبعين. وفي المراد بسبيل الذين لا
يعلمون قولان : أحدهما
: أنهم فرعون وقومه
، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني
: الذين يستعجلون
القضاء قبل مجيئه ذكره أبو سليمان الدّمشقي.
فإن قيل : كيف جاز
أن يدعو موسى على قومه؟
فالجواب : أنّ
بعضهم يقول : كان ذلك بوحي ، وهو قول صحيح ، لأنه لا يظنّ بنبيّ أن يقدم على مثل
ذلك إلّا عن إذن من الله عزوجل ، لأنّ دعاءه سبب للانتقام.
قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) قال أبو عبيدة : أتبعهم وتبعهم سواء. وقال ابن قتيبة : أتبعهم
لحقهم. (بَغْياً وَعَدْواً) أي : ظلما. وقرأ الحسن «فاتّبعهم» بالتشديد ، وكذلك شدّدوا
«وعدوّا» مع ضمّ العين. قوله تعالى : (حَتَّى إِذا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) قرأ ابن كثير ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر «أنه»
بفتح الألف ، والمعنى : آمنت بأنه ، فلمّا حذف حرف الجرّ ، وصل الفعل
__________________
إلى «أنّ» فنصب.
وقرأ حمزة والكسائيّ «إنه» بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، كأنّه قال : آمنت
، فقلت : إنّه. قال ابن عباس : لم يقبل الله إيمانه عند رؤية العذاب. قال ابن
الأنباري : جنح فرعون إلى التّوبة حين أغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة ،
فقيل له : (آلآن) أي : آلآن تتوب وقد أضعت التّوبة في وقتها ، وكنت من المفسدين
بالدّعاء إلى عبادة غير الله تعالى؟ والمخاطب له بهذا كان جبريل عليهالسلام.
(٧٨٦) وجاء في
الحديث «أنّ جبريل جعل يدسّ الطين في فم فرعون خشية أن يغفر له».
قال الضّحّاك بن
قيس : اذكروا الله في الرّخاء يذكركم في الشّدّة ، إنّ يونس عليهالسلام كان عبدا صالحا ، وكان يذكر الله ، فلمّا وقع في بطن الحوت
سأل الله ، فقال الله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وإنّ فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى ، فلمّا
أدركه الغرق قال : آمنت ، فقال الله : (آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ).
قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) وقرأ يعقوب «ننجيك» مخفّفة. قال اللغويون ، منهم يونس وأبو
عبيدة : نلقيك على نجوة من الأرض ، أي : ارتفاع ، ليصير علما أنه قد غرق. وقرأ ابن
السّميفع «ننحّيك» بحاء. وفي سبب إخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنّ موسى وأصحابه
لمّا خرجوا ، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون : ما غرق فرعون ، ولكنّه هو
وأصحابه يتصيّدون في جزائر البحر ، فأوحى الله إلى البحر أن الفظ فرعون عريانا ،
فكانت نجاة عبرة ، وأوحى الله تعالى إلى البحر : أن الفظ ما فيك ، فلفظهم البحر
بالسّاحل ، ولم يكن يلفظ غريقا ، إلى يوم القيامة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
والثاني
: أنّ أصحاب موسى
قالوا : إنّا نخاف أن يكون فرعون ما غرق ، ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا موسى ربّه ،
فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وإلى نحوه ذهب قيس بن
عباد ، وعبد الله بن شدّاد ، والسّدّيّ ، ومقاتل. وقال السّدّيّ : لمّا قال بنو
إسرائيل : لم يغرق فرعون ،
____________________________________
(٧٨٦) حديث قوي من
جهة الإسناد بطرقه وشواهده ، لكن في المتن غرابة ، وقد ورد موقوفا ، ولعله أشبه.
والله أعلم. أخرجه الترمذي ٣١٠٨ ، والنسائي في «التفسير» ٢٥٨ ، وأحمد ١ / ٢٤٠ و ٣٤٠
، والطيالسي ٢٦١٨ والطبري ١٧٨٥٨ و ١٧٨٦٢ ، والحاكم ١ / ٥٧ و ٢ / ٣٤٠ و ٤ / ٢٤٩ ،
وابن حبان ٦٢١٥ من طريق شعبة عن عطاء بن السائب ، وعن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس ، صححه الحاكم وقال : على شرطهما إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على
ابن عباس. ووافقه الذهبي. وقال الترمذي : حسن صحيح غريب.
وصححه الحافظ في «تخريج
الكشاف» ٢ / ٣٦٨. وأطال الكلام في هذا الشأن ورد فيه على الزمخشري حيث استنكر
الحديث ووهنه. وورد من وجه آخر أخرجه الترمذي ٣١٠٧ ، وأحمد ١ / ٢٤٥ ـ ٣٠٩
والطبراني ١٢٩٣٢ والطبري ١٧٨٧٥ ، والطيالسي ٢٦٩٣ ومداره على علي بن زيد وهو ضعيف.
وله شاهد من حديث أبي هريرة ، أخرجه الطبري ١٧٨٧٤ وابن عدي ٢ / ٧٨٨ ، وفيه كثير بن
زاذان ، وهو مجهول. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع»
١١٠٧٠ وفيه قيس بن الربيع قال الهيثمي : وثقه شعبة والثوري وضعفه جماعة.
__________________
دعا موسى ، فخرج
فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفا عليهم الحديد ، فأخذته بنو إسرائيل يمثّلون به. وذكر غيره أنه إنّما
أخرج من البحر وحده دون أصحابه. وقال ابن جريج : كذّب بعض بني إسرائيل بغرقه ، فرمى
به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل قصيّرا أحمر كأنه ثور. وقال أبو
سليمان : عرفه بنو إسرائيل بدرع كان له من لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها. فأمّا وجهه فقد
غيّره سخط الله تعالى.
والثالث
: أنه كان يدّعي
أنه ربّ ، وكان يعبده قوم ، فبيّن الله تعالى أمره ، فأغرقه وأصحابه ، ثم أخرجه من
بينهم ، قاله الزّجّاج.
وفي قوله تعالى : (بِبَدَنِكَ) أربعة أقوال : أحدها : بجسدك من غير روح ، قاله مجاهد. وذكر البدن دليل على عدم
الرّوح. والثاني
: بدرعك ، قاله أبو
صخر. وقد ذكرنا أنه كانت له درع من لؤلؤ ، وقيل : من ذهب ، فعرف بدرعه. والثالث : نلقيك عريانا ، قاله الزّجّاج. والرابع : ننجّيك وحدك ، قاله ابن قتيبة. وفي قوله : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) ثلاثة أقوال : أحدها : لتكون لمن بعدك في النّكال آية لئلّا يقولوا مثل مقالتك ،
فإنّك لو كنت إلها ما غرقت ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال أبو عبيدة : (خَلْفَكَ) بمعنى بعدك ، والآية : العلامة. والثاني : لتكون لبني إسرائيل آية ، قاله السّدّيّ. والثالث : لمن تخلّف من قومه ، لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في
أوّل الآية ، فخرج في معنى الآية قولان : أحدهما : عبرة للناس. والثاني : علامة تدلّ على غرقه. وقال الزّجّاج : الآية أنه كان يدّعي
أنه ربّ ، فبان أمره ، وأخرج من بين أصحابه لمّا غرقوا. وقرأ ابن السّميفع ، وأبو
المتوكّل ، وأبو الجوزاء «لمن خلقك» بالقاف.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا
اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ
مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ
(٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ
الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ
الْأَلِيمَ (٩٧))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : أنزلناهم منزل صدق ، أي منزلا كريما. وفي المراد ببني
إسرائيل قولان. أحدهما
: أصحاب موسى. والثاني : قريظة والنضير. وفي المراد بالمنزل الذي أنزلوه خمسة أقوال
: أحدها
: أنه الأردن ،
وفلسطين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : الشّام ، وبيت المقدس ، قاله الضّحّاك وقتادة. والثالث : مصر ، روي عن الضّحّاك أيضا. والرابع : بيت المقدس ، قاله مقاتل. والخامس : ما بين المدينة والشّام من أرض يثرب ، ذكره عليّ بن أحمد
النّيسابوري. والمراد بالطّيبات : ما أحلّ لهم من الخيرات الطّيبة. (فَمَا اخْتَلَفُوا) يعني بني إسرائيل. قال ابن عباس : ما اختلفوا في محمّد ،
لم يزالوا به مصدّقين ، (حَتَّى جاءَهُمُ
الْعِلْمُ) يعني : القرآن ، وروي عنه : حتى جاءهم العلم ، يعني
محمّدا. فعلى هذا يكون العلم ها هنا : عبارة عن المعلوم. وبيان هذا أنه لمّا
__________________
جاءهم ، اختلفوا
في تصديقه ، وكفر به أكثرهم بغيا وحسدا بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل
ظهوره.
قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) في تأويل هذه الآية ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنّ الخطاب
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم والمراد غيره من الشّاكّين ، بدليل قوله في آخر السّورة : (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) ، ومثله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ثم قال تعالى : (بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً) ولم يقل : بما تعمل ، وهذا قول الأكثرين.
والثاني
: أن الخطاب للنبيّ
صلىاللهعليهوسلم ، وهو المراد به. ثم في المعنى قولان : أحدهما : أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شكّ ، لأنه من المستفيض في
لغة العرب أن يقول الرجل لولده : إن كنت ابني فبرّني ، ولعبده : إن كنت عبدي
فأطعني ، وهذا اختيار الفرّاء.
(٧٨٧) وقال ابن
عباس : لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في شكّ ، ولا سأل. والثاني : أن تكون «إن»
بمعنى «ما» فالمعنى : ما كنت في شكّ (فَسْئَلِ) ، المعنى : لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاكّ ، ولكن
لتزداد بصيرة ، ذكره الزّجّاج.
والثالث
: أنّ الخطاب
للشّاكّين ، فالمعنى : إن كنت أيّها الإنسان في شكّ ممّا أنزل إليك على لسان محمّد
، فسل ، روي عن ابن قتيبة.
وفي الذي أنزل
إليه قولان : أحدهما
: أنه أنزل إليه
أنه رسول الله. والثاني
: أنه مكتوب عندهم
في التّوراة والإنجيل.
قوله تعالى : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) وهم اليهود والنّصارى. وفي الذين أمر بسؤالهم منهم قولان :
أحدهما
: من آمن منهم ،
كعبد الله بن سلام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد في آخرين. والثاني : أهل الصّدق منهم ، قاله الضّحّاك ، وهو يرجع إلى الأوّل ،
لأنه لا يصدق إلّا من آمن. قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) هذا كلام مستأنف.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) أي : وجبت (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ) أي : قوله. وبما ذا حقّت الكلمة عليهم؟ فيه أربعة أقوال : أحدها : باللعنة. والثاني : بنزول العذاب. والثالث : بالسّخط. والرابع :بالنّقمة. قوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ
كُلُّ آيَةٍ) ، قال الأخفش : إنما أنّث فعل «كل» لأنه أضافه إلى «آية»
وهي مؤنّثة.
(فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ (٩٨))
____________________________________
(٧٨٧) أخرجه ابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في «المختارة» كما في «الدر» ٣ / ٥٧١.
عن ابن عباس به ، ولم أقف على إسناده لكن الظاهر أنه لا بأس به حيث اختاره الضياء
، وقد ورد مرفوعا صريحا.
وأخرجه عبد الرزاق
في «تفسيره» ١١٧٣ ، والطبري ١٧٩٠٧ و ١٧٩٠٨ عن قتادة بلاغا وهو ضعيف لإرساله ،
ومراسيل قتادة واهية ، والصواب أنه من كلام قتادة كما في الرواية الأولى ، ولا يصح
رفعه. والله أعلم.
__________________
قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) أي : أهل قرية. وفي «لولا» قولان :
أحدهما
: أنه بمعنى لم تكن
قرية آمنت (فَنَفَعَها إِيمانُها) أي قبل منها (إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ) ، قاله ابن عباس. وقال قتادة : لم يكن هذا لأمّة آمنت عند
نزول العذاب إلّا لقوم يونس.
والثاني
: أنّها بمعنى :
فهلّا ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. قال الزّجّاج : والمعنى : فهلّا
كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها ، إلّا قوم يونس؟ و (إِلَّا) ها هنا استثناء ليس من الأوّل ، كأنه قال : لكن قوم يونس.
قال الفرّاء : نصب القوم على الانقطاع ممّا قبله ، ألا ترى أنّ «ما» بعد «إلّا» في
الجحد يتبع ما قبلها؟ تقول : ما قام أحد إلّا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إلّا
كلبا أو حمارا ، نصبت ، لانقطاعهم من الجنس ، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم
من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا. وذكر ابن
الأنباري في قوله : «إلا» قولين آخرين. أحدهما : أنها بمعنى الواو ، والمعنى : وقوم يونس لمّا آمنوا فعلنا
بهم كذا وكذا ، وهذا مرويّ عن أبي عبيدة ، والفرّاء ينكره. والثاني : أنّ الاستثناء من الآية التي قبل هذه ، تقديره : حتى يروا
العذاب الأليم إلّا قوم يونس ، فالاستثناء على هذا متّصل غير منقطع.
قوله تعالى : (كَشَفْنا عَنْهُمْ) أي : صرفنا عنهم (عَذابَ الْخِزْيِ) أي : عذاب الهوان والذل (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ) أي : إلى حين آجالهم .
الإشارة إلى شرح قصّتهم
ذكر أهل العلم
بالسّير والتّفسير أنّ قوم يونس كانوا ب «نينوى» من أرض الموصل ، فأرسل الله عزوجل إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام ، فأبوا
، فأخبرهم أنّ العذاب مصبّحهم بعد ثلاث ، فلمّا تغشّاهم العذاب ، قال ابن عباس ،
وأنس : لم يبق بين العذاب وبينهم إلّا قدر ثلثي ميل ، وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال
أبو صالح عن ابن عباس : وجدوا حرّ العذاب على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم
العذاب كما يغشى الثّوب القبر ، وقال بعضهم : غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا
شديدا ، فغشي مدينتهم ، واسودّت سطوحهم ، فلمّا أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح ، وحثوا على رؤوسهم الرّماد ، وفرّقوا بين كلّ والدة
وولدها من الناس والأنعام ، وعجّوا إلى الله تعالى بالتّوبة الصّادقة ، وقالوا :
آمنّا بما جاء به يونس ، فاستجاب الله منهم. قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن
ترادّوا المظالم بينهم ، حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس
بنيانه فيقتلعه ، فيردّه ، وقال أبو الجلد : لمّا غشيهم العذاب ، مشوا إلى شيخ من
بقيّة علمائهم ، فقالوا : ما ترى؟ قال : قولوا : يا حيّ حين لا حيّ ، يا حيّ محيي
الموتى ، يا حيّ لا إله إلّا أنت ، فقالوها ، فكشف العذاب عنهم. قال
__________________
مقاتل : عجّوا إلى
الله أربعين ليلة ، فكشف العذاب عنهم. وكانت التّوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة.
قال : وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم ، فقيل له : ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع
إليهم فيجدوني كاذبا؟ وكان من يكذب بينهم ولا بيّنة له يقتل ، فانصرف مغاضبا ،
فالتقمه الحوت. وقال أبو صالح عن ابن عباس : أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني
إسرائيل يقال له شعيا ، فقيل له : ائت فلانا الملك ، فقل له يبعث إلى بني إسرائيل
نبيّا قويّا أمينا ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال الملك ليونس : اذهب
إليهم ، فقال : ابعث غيري ، فعزم عليه أن يذهب ، فأتى بحر الرّوم ، فركب سفينة ،
فالتقمه الحوت ، فلمّا خرج من بطنها أمر أن ينطلق إلى قومه فانطلق نذيرا لهم ،
فأبوا عليه ، فوعدهم بالعذاب ، وخرج ، فلمّا تابوا رفع عنهم. والقول الأوّل أثبت
عند العلماء ، وأنه إنما التقمه الحوت بعد إنذاره لهم وتوبتهم. وسيأتي شرح قصّته
في التقام الحوت إيّاه في مكانه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل : كيف كشف
العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ، ولم يكشف عن فرعون حين آمن؟ فعنه ثلاثة
أجوبة : أحدها
: أنّ ذلك كان
خاصّا لهم كما ذكرنا في أوّل الآية. والثاني : أنّ فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ،
فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأمّا الذي يعاين ، فلا توبة له ، ذكره
الزّجّاج. والثالث
: أنّ الله تعالى
علم منهم صدق النّيات ، بخلاف من تقدّمهم من الهالكين ، ذكره ابن الأنباري.
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩))
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ) قال ابن عباس : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حريصا على إيمان جميع الناس ، فأخبره الله تعالى أنه لا
يؤمن إلّا من سبقت له السّعادة. قال الأخفش : جاء بقوله : «جميعا» مع «كل» تأكيدا
كقوله : (وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) .
قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) قال المفسّرون ، منهم مقاتل : هذا منسوخ بآية السّيف. والصحيح
أنه ليس ها هنا نسخ ، لأنّ الإكراه على الإيمان لا يصحّ ، لأنه عمل القلب.
(وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ (١٠٠))
قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فيه ستة أقوال : أحدها : بقضاء الله وقدره. والثاني : بأمر الله؟ رويا عن ابن عباس. والثالث : بمشيئة الله ، قاله عطاء والرابع : إلّا أن يأذن الله في ذلك ، قاله مقاتل. والخامس : بعلم الله. والسادس : بتوفيق الله ، ذكرهما الزّجّاج ، وابن الأنباري. قوله
تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي : ويجعل الله الرّجس. وروى أبو بكر عن عاصم «ونجعل
الرجس» بالنون. وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه السّخط ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : الإثم والعدوان ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنه ما لا خير فيه ، قاله مجاهد. والرابع : العذاب ، قاله الحسن ، وأبو عبيدة ، والزّجّاج. والخامس : العذاب والغضب ، قاله الفرّاء. قوله تعالى : (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه. وقيل : لا يعقلون حججه
ودلائل توحيده.
__________________
(قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ (١٠١))
قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) قال المفسّرون : قل للمشركين الذين يسألونك الآيات على
توحيد الله : أنظروا بالتّفكّر والاعتبار ما ذا في السّماوات والأرض من الآيات
والعبر التي تدلّ على وحدانيّته ونفاذ قدرته كالشّمس ، والقمر ، والنّجوم ،
والجبال ، والشّجر ، وكلّ هذا يقتضي خالقا مدبّرا. (وَما تُغْنِي
الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في علم الله.
(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ
إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))
قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) قال ابن عباس : يعني كفّار قريش. (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) قال ابن الأنباري : أي : مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم ،
والعرب تكني بالأيام عن الشّرور والحروب ، وقد تقصد بها أيام السّرور والأفراح إذا
قام دليل بذلك.
قوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا) هلاكي (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ) لنزول العذاب بكم. (ثُمَّ نُنَجِّي
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) من العذاب إذا نزل ، فلم يهلك قوم قطّ إلّا نجا نبيّهم
والذين آمنوا معه. قوله تعالى : (كَذلِكَ حَقًّا
عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) وقرأ يعقوب ، وحفص ، والكسائيّ في قراءته وروايته عن أبي
بكر : «ننج المؤمنين» بالتّخفيف. ثم في هذا الإنجاء قولان :
أحدهما
: ننجيهم من العذاب
إذا نزل بالمكذّبين ، قاله الرّبيع بن أنس.
والثاني
: ننجيهم في الآخرة
من النار ، قاله مقاتل.
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ
(١٠٦))
قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) قال ابن عباس : يعني أهل مكّة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الإسلام (فَلا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وهي الأصنام (وَلكِنْ أَعْبُدُ
اللهَ الَّذِي) يقدر أن يميتكم. وقال ابن جرير : معنى الآية : لا ينبغي
لكم أن تشكّوا في ديني ، لأنّي أعبد الله الذي يميت وينفع ويضرّ ، ولا تستنكر
عبادة من يفعل هذا ، وإنّما ينبغي لكم أن تشكّوا وتنكروا ما أنتم عليه من عبادة
الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع. فإن قيل : لم قال : (الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ) ولم يقل : «الذي خلقكم»؟ فالجواب : أنّ هذا يتضمّن تهديدهم
، لأنّ ميعاد عذابهم الوفاة.
قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) المعنى : وأمرت أن أقم وجهك ، وفيه قولان :
أحدهما
: أخلص عملك. والثاني : استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك.
وفي المراد
بالحنيف ثلاثة أقوال. أحدها
: أنه المتّبع ،
قاله مجاهد. والثاني
: المخلص ، قاله
عطاء. والثالث
: المستقيم ، قاله
القرظيّ قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) إن دعوته (وَلا
يَضُرُّكَ) إن تركت عبادته. و «الظّالم» الذي يضع الشيء في غير موضعه.
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ
لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ
اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ
حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))
قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) أي : بشدّة وبلاء (فَلا كاشِفَ) لذلك (إِلَّا هُوَ) دون ما يعبده المشركون من الأصنام. وإن يصبك بخير ، أي :
برخاء ونعمة وعافية ، فلا يقدر أحد أن يمنعك إيّاه. (يُصِيبُ بِهِ) أي : بكلّ واحد من الضّرّ والخير.
قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) فيه قولان :
أحدهما
: أنه القرآن. والثاني : محمّد صلىاللهعليهوسلم.
قوله تعالى : (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها) أي : فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه.
قوله تعالى : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي : في منعكم من اعتقاد الباطل ، والمعنى : لست بحفيظ
عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك. قال ابن عباس : وهذه منسوخة
بآية القتال ، والتي بعدها أيضا ، وهي قوله : (وَاصْبِرْ حَتَّى
يَحْكُمَ اللهُ) لأنّ الله تعالى حكم بقتل المشركين ، والجزية على أهل
الكتاب ، والصّحيح : أنه ليس ها هنا نسخ. أمّا الآية الأولى ، فقد ذكرنا الكلام
عليها في نظيرتها في «الأنعام» وأمّا الثانية ، فقد ذكرنا نظيرتها في سورة «البقرة» قوله
: (فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) .
__________________
سورة هود
فصل
في نزولها : روى ابن أبي طلحة
عن ابن عباس أنها مكّية كلّها ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ،
وقتادة. وروي عن ابن عباس أنه قال : هي مكّية ، إلّا آية ، وهي قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) ، وعن قتادة نحوه. وقال مقاتل : هي مكّية كلّها ، إلّا
قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) . وروى أبو بكر الصّديق رضي الله عنه قال :
(٧٨٨) قلت : يا
رسول الله ، عجل إليك الشّيب ، قال : «شيّبتني هود وأخواتها : الحاقّة ، والواقعة
، وعمّ يتساءلون ، وهل أتاك حديث الغاشية».
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١))
فأمّا (الر) فقد ذكرنا تفسيرها في سورة يونس.
____________________________________
(٧٨٨) صحيح ،
أخرجه الترمذي ٣٢٩٧ ، والحاكم ٢ / ٣٤٤ ـ ٤٧٦ ، والبزار في «البحر الزخار» ١ / ١٧٠ من
حديث ابن عباس عن أبي بكر به وإسناده صحيح. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وكذا
صححه الألباني في صحيح الترمذي ٣ / ١١٣. وهو كما قالوا. وأخرجه أبو يعلى ١٠٧ عن
عكرمة عن أبي بكر وهذا منقطع لكن الحجة بما قبله. وله شاهد من حديث أنس : أخرجه
البزار ٩٢ «البحر الزخار» ولفظه «قلت : يا رسول الله عجل إليك الشيب ، قال :
شيبتني هود وأخواتها ، والواقعة ، والحاقة ، عم يتساءلون ، وهل أتاك حديث الغاشية».
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري قال : «قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله! أسرع
إليك الشيب ، قال : شيبتني هود وأخواتها : الواقعة ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس
كورت» أخرجه البيهقي في «الدلائل» ١ / ٣٥٨ وفيه عطية العوفي واه. وله شاهد من حديث
سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «شيبتني هود وأخواتها : الواقعة والحاقة ، وإذا الشمس
كورت». أخرجه الطبراني ٥٨٠٤ ، وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٠٧٥ : فيه سعيد بن سلام
العطار ، كذاب. وله شاهد من حديث أبي جحيفة قال : قالوا : يا رسول الله قد شبت ،
قال : «شيبتني هود وأخواتها». أخرجه الترمذي في «الشمائل» ٤١ ، وأبو يعلى ٨٨٠ ،
والبغوي ٤٠٧١. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٢٢٠ و ١٢٣٠ بتخريجنا.
__________________
قال الفرّاء : و (كِتابٌ) مرفوع بالهجاء الذي قبله ، كأنّك قلت : حروف الهجاء هذا
القرآن ، وإن شئت رفعته بإضمار : هذا كتاب ، والكتاب : القرآن. وفي قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أربعة أقوال : أحدها : أحكمت فلم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتاب والشّرائع ، قاله ابن
عباس ، واختاره ابن قتيبة. والثاني
: أحكمت بالأمر
والنّهي ، قاله الحسن ، وأبو العالية. والثالث : أحكمت عن الباطل ، أي : منعت ، قاله قتادة ، ومقاتل. والرابع : أحكمت بمعنى جمعت ، قاله ابن زيد. فإن قيل : كيف عمّ
الآيات ها هنا بالإحكام ، وخصّ بعضها في قوله : (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ) ؟ فعنه جوابان :
أحدهما
: أنّ الإحكام الذي
عمّ به ها هنا ، غير الذي خصّ به هناك. وفي معنى الإحكام العامّ خمسة أقوال ، قد
أسلفنا منها أربعة في قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ). والخامس
: أنه إعجاز النّظم
والبلاغة وتضمين الحكم المعجزة. ومعنى الإحكام الخاصّ : زوال اللّبس ، واستواء
السّامعين في معرفة معنى الآية.
والجواب
الثاني : أنّ الإحكام في
الموضعين بمعنى واحد. والمراد بقوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : أحكم بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس ، فأوقع العموم
على معنى الخصوص ، كما تقول العرب : قد أكلت طعام زيد ، يعنون : بعض طعامه ،
ويقولون : قتلنا وربّ الكعبة ، يعنون : قتل بعضنا ، ذكر ذلك ابن الأنباري.
وفي قوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ستة أقوال : أحدها : فصّلت بالحلال والحرام ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : فصّلت بالثواب والعقاب ، رواه جسر بن فرقد عن الحسن. والثالث : فصّلت بالوعد والوعيد ، رواه أبو بكر الهذليّ عن الحسن
أيضا. والرابع
: فصّلت بمعنى
فسّرت ، قاله مجاهد. والخامس
: أنزلت شيئا بعد
شيء ، ولم تنزل جملة ، ذكره ابن قتيبة. والسادس : فصّلت بجميع ما يحتاج إليه من الدّلالة على التّوحيد ،
وتثبيت نبوّة الأنبياء ، وإقامة الشّرائع ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) أي : من عنده.
(أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))
قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) قال الفرّاء. المعنى : فصّلت آياته بأن لا تعبدوا إلّا
الله (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا). «وأن» في موضع النّصب بإلقائك الخافض.
وقال الزّجّاج :
المعنى : آمركم أن لا تعبدوا إلها غيره ، وأن استغفروا.
قال مقاتل :
والمراد بهذه العبادة : التّوحيد ، والخطاب لكفّار مكّة.
__________________
قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ الاستغفار والتّوبة هاهنا من الشّرك ، قاله مقاتل. والثاني : استغفروه من الذّنوب السّالفة ، ثمّ توبوا إليه من
المستأنفة متى وقعت. وذكر عن الفرّاء أنه قال : «ثم» ها هنا بمعنى الواو.
قوله تعالى : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) قال ابن عباس : يتفضّل عليكم بالرّزق والسّعة. وقال ابن
قتيبة : يعمّركم. وأصل الإمتاع : الإطالة ، يقال : أمتع الله بك ، ومتّع الله بك ،
إمتاعا ومتاعا ، والشيء الطّويل : ماتع ، يقال : جبل ماتع ، وقد متاع النهار : إذا
تطاول.
وفي المراد بالأجل
المسمّى قولان : أحدهما
: أنه الموت ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة. والثاني : أنه يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) في هاء الكناية قولان :
أحدهما
: أنها ترجع إلى
الله تعالى. ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : ويؤت كلّ ذي فضل من حسنة وخير فضله ، وهو الجنّة. والثاني : يؤتيه فضله من الهداية إلى العمل الصّالح.
والثاني
: أنها ترجع إلى
العبيد ، فيكون المعنى : ويؤت كلّ من زاد في إحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي
زاده ، فيفضّله في الدنيا بالمنزلة الرّفيعة ، وفي الآخرة بالثّواب الجزيل.
قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : تعرضوا عمّا أمرتم به. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي
، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : «وإن تولّوا» بضمّ التاء. (فَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ) فيه إضمار «فقل». واليوم الكبير : يوم القيامة.
(أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))
قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ، في سبب نزولها خمسة أقوال :
(٧٨٩) أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان يجالس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويحلف إنّه ليحبّه ، ويضمر خلاف ما يظهر له ، فنزلت فيه
هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٧٩٠) والثاني : أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السّماء في
الخلاء ومجامعة النساء ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه محمّد بن عبّاد عن ابن عباس.
(٧٩١) والثالث : أنها نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مرّ برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطّى وجهه لئلّا يراه رسول
الله صلىاللهعليهوسلم. قاله عبد الله بن شدّاد.
____________________________________
(٧٨٩) لا أصل له.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته
الكلبي ، وهو ممن يضع الحديث. ذكره البغوي في «تفسيره» ٢ / ٣٧٣ ، عن ابن عباس بدون
إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٣٧ بدون إسناد.
(٧٩٠) صحيح. أخرجه
البخاري ٤٦٨١ والطبري ١٧٩٦٥ من حديث محمد بن عباد عن ابن عباس.
(٧٩١) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٧٩٥٢ و ١٧٩٥٣ و ١٧٩٥٤ عن عبد الله بن شداد بن الهاد به ورجاله ثقات إلا
أنه مرسل ابن شداد تابعي والخبر واه.
(٧٩٢) والرابع : أنّ طائفة من المشركين قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا
ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، كيف يعلم بنا؟ فأخبر الله عمّا كتموا ، ذكره الزّجّاج.
(٧٩٣) والخامس : أنها نزلت في قوم كانوا لشدّة عداوتهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا سمعوا منه القرآن حنوا صدورهم ، ونكسوا رؤوسهم ،
وتغشّوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يقال : ثنيت الشيء : إذا عطفته وطويته. وفي معنى الكلام
خمسة أقوال : أحدها
: يكتمون ما فيها
من العداوة لمحمّد عليهالسلام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : يثنون صدورهم على الكفر ، قاله مجاهد. والثالث : يحنونها لئلّا يسمعوا كتاب الله ، قاله قتادة. والرابع : يثنونها إذا ناجى بعضهم بعضا في أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله ابن زيد. والخامس : يثنونها حياء من الله تعالى ، وهو يخرّج على ما حكينا عن
ابن عباس.
قال ابن الأنباري
: وكان ابن عباس يقرؤها «ألا إنّهم تثنوني صدورهم» وفسّرها أنّ ناسا كانوا يستحيون
أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء. فتثنوني : تفعوعل ، وهو فعل
للصّدور ، معناه : المبالغة في تثنّي الصّدور ، كما تقول العرب : احلولى الشيء ،
يحلولي : إذا بالغوا في وصفه بالحلاوة ، قال عنترة :
ألا قاتل الله
الطّلول البواليا
|
|
وقاتل ذكراك
السّنين الخواليا
|
وقولك للشّيء
الّذي لا تناله
|
|
إذا ما هو
احلولى ألا ليت ذا ليا
|
فعلى هذا القول ،
هو في حقّ المؤمنين ، وعلى بقيّة الأقوال ، هو في حقّ المنافقين. وقد خرّج من هذه
الأقوال في معنى (يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ) قولان : أحدهما
: أنه حقيقة في
الصّدور. والثاني
: أنه كتمان ما
فيها.
قوله تعالى : (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) في هاء (مِنْهُ) قولان : أحدهما
: أنها ترجع إلى
الله تعالى. والثاني
: إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم. قوله تعالى : (أَلا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) قال أبو عبيدة : العرب تدخل «ألا» توكيدا وإيجابا وتنبيها.
قال ابن قتيبة : «يستغشون ثيابهم» : أي : يتغشّونها ويستترون بها. قال قتادة : أخفى
ما يكون ابن آدم ، إذا حتى ظهره ، واستغشى ثيابه ، وأضمر همّه في نفسه. قال ابن
الأنباري : أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم.
قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قد شرحناه في سورة آل عمران .
____________________________________
(٧٩٢) لم أقف عليه
بهذا اللفظ ، ولعل ابن الأنباري استنبطه من الآية ، ولم يروه عن أحد. والله أعلم.
(٧٩٣) ضعيف. أخرجه
الطبري ١٧٩٦٢ و ١٧٩٦٣ عن قتادة مرسلا ، مع اختلاف يسير فيه وهو ضعيف لإرساله.
__________________
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ
الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))
قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) قال أبو عبيدة : «من» من حروف الزّوائد ، والمعنى : وما
دابّة ، والدّابّة : اسم لكلّ حيوان يدبّ. وقوله تعالى : (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) قال العلماء : فضلا منه لا وجوبا عليه. و «على» ها هنا
بمعنى «من». وقد ذكرنا المستقرّ والمستودع في سورة الأنعام . قوله تعالى : (كُلٌّ فِي كِتابٍ) أي : ذلك عند الله في اللوح المحفوظ ، هذا قول المفسّرين.
وقال الزّجّاج : المعنى : ذلك ثابت في علم الله عزوجل.
قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قال ابن عباس : عرشه : سريره ، وكان الماء إذ كان العرش
عليه على الرّيح. قال قتادة : ذلك قبل أن يخلق السّماوات والأرض.
قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ) أي : ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه ، فيثيب المعتبر
بما يرى من آيات السّماوات والأرض. ويعاقب أهل العناد.
قوله تعالى : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فيه أربعة أقوال :
(٧٩٤) أحدها : «أيّكم أحسن عقلا
، وأورع عن محارم الله عزوجل ، وأسرع في طاعة الله» رواه ابن عمر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
والثاني
: أيّكم أعمل بطاعة
الله ، قاله ابن عباس. والثالث
: أيّكم أتمّ عقلا
، قاله قتادة. والرابع
: أيّكم أزهد في
الدنيا ، قاله الحسن وسفيان.
قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) قال الزّجّاج : السّحر باطل عندهم ، فكأنّهم قالوا : إن
هذا إلّا باطل بيّن ، فأعلمهم الله تعالى أنّ القدرة على خلق السّماوات والأرض
تدلّ على بعث الموتى.
(وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا
يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))
قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) قال المفسّرون : هؤلاء كفّار مكّة ، والمراد بالأمّة
المعدودة : الأجل المعلوم ، والمعنى : إلى مجيء أمّة وانقراض أخرى قبلها. (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) وإنّما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء. قوله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) وقال : (لَيْسَ مَصْرُوفاً
عَنْهُمْ). وقال بعضهم : لا يصرف عنهم العذاب إذا أتاهم. وقال آخرون
: إذا أخذتهم سيوف رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم تغمد
____________________________________
(٧٩٤) باطل. أخرجه
الطبري ١٨٠٠٣ من حديث ابن عمر ، ومداره على داود بن المجبر ، وهو متهم بوضع كتاب «فضل
العقل» ، راجع ترجمته في «الميزان». وهذا الحديث ذكر فيه العقل كما ترى.
__________________
عنهم حتى يباد أهل
الكفر وتعلو كلمة الإخلاص. قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ) قال أبو عبيدة : نزل بهم وأصابهم. وفي قوله : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) قولان : أحدهما
: أنه الرّسول صلىاللهعليهوسلم والكتاب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، فيكون المعنى : حاق
بهم جزاء استهزائهم. والثاني
: أنه العذاب ،
كانوا يستهزئون بقولهم : (ما يَحْبِسُهُ) ، وهذا قول مقاتل.
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ
(٩))
قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا
رَحْمَةً) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنها نزلت في
الوليد بن المغيرة. قاله ابن عباس.
والثاني
: في عبد الله بن
أبي أميّة المخزومي ، ذكره الواحدي والثالث : أنّ الإنسان ها هنا اسم جنس ، والمعنى : ولئن أذقنا الناس
، قاله الزّجّاج. والمراد بالرّحمة : النّعمة ، من العافية ، والمال ، والولد.
واليؤوس : القنوط ، قال أبو عبيدة : هو فعول من يئست. قال مقاتل : إنه ليؤوس عند
الشدة من الخير ، كفور لله في نعمه في الرّخاء.
(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي
إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠))
قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ) قال ابن عباس : صحة وسعة في الرّزق (بَعْدَ ضَرَّاءَ) بعد مرض وفقر. (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ
السَّيِّئاتُ عَنِّي) يريد الضّرّ والفقر. (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) أي : بطر. (فَخُورٌ) قال ابن عباس : يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه.
فإن قيل : ما وجه
عيب الإنسان في قوله : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ
عَنِّي) ، وما وجه ذمّه على الفرح ، وقد وصف الله الشهداء فقال
تعالى : (فَرِحِينَ)؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : إنّما عابه بقوله : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) لأنّه لم يعترف بنعمة الله ولم يحمده على ما صرف عنه.
وإنّما ذمّه بهذا الفرح لأنه يرجع إلى معنى المرح والتّكبّر عن طاعة الله ، قال
الشاعر :
ولا ينسيني
الحدثان عرضي
|
|
ولا ألقي من
الفرح الإزارا
|
يعني من المرح. وفرح
الشّهداء فرح لا كبر فيه ولا خيلاء ، بل هو مقرون بالشّكر فهو مستحسن.
(إِلاَّ الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
(١١))
قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) قال الفرّاء : هذا الاستثناء من الإنسان ، لأنّه في معنى
الناس ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) . وقال الزّجّاج : هذا استثناء ليس من الأوّل ، والمعنى :
لكن الذين صبروا. قال ابن عباس : الوصف الأوّل للكافر ، والذين صبروا أصحاب محمّد عليهالسلام.
__________________
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢))
قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى
إِلَيْكَ). سبب نزولها.
(٧٩٥) أنّ كفّار
قريش قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ
غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) فهمّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن لا يسمعهم عيب آلهتهم رجاء أن يتّبعوه ، فنزلت هذه
الآية ، قاله مقاتل.
وفي معنى الآية
قولان : أحدهما
: فلعلّك تارك
تبليغ بعض ما يوحى إليك من أمر الآلهة ، وضائق بما كلّفته من ذلك صدرك ، خشية أن
يقولوا. لو لا أنزل عليه كنز. والثاني
: فلعلّك لعظيم ما
يرد على قلبك من تخليطهم تتوهّم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربّك.
فأمّا الضّائق ، فهو بمعنى الضّيّق. قال الزّجّاج : ومعنى (أَنْ يَقُولُوا) : كراهية أن يقولوا. وإنّما عليك أن تنذرهم بما يوحى إليك
، وليس عليك أن تأتيهم باقتراحهم من الآيات.
قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الحافظ. والثاني : الشّهيد ، وقد ذكرناه في سورة آل عمران .
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))
قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) «أم» بمعنى «بل» ،
و «افتراه» أتى به من قبل نفسه. (قُلْ فَأْتُوا) أنتم في معارضتي (بِعَشْرِ سُوَرٍ
مِثْلِهِ) في البلاغة (مُفْتَرَياتٍ) بزعمكم ودعواكم (وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى المعاونة على المعارضة (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في قولكم : «افتراه». (فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي يجيبوكم إلى المعارضة فقد قامت الحجّة عليهم لكم. فإن
قيل : كيف وحّد القول في قوله : «قل فأتوا» ثم جمع في قوله : «فإن لم يستجيبوا لكم»؟
فعنه جوابان : أحدهما
: أنّ الخطاب
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم وحده في الموضعين ، فيكون الخطاب له بقوله «لكم» تعظيما ،
لأنّ خطاب الواحد بلفظ الجميع تعظيم ، هذا قول المفسّرين. والثاني : أنه وحّد في الأول لخطاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وجمع في الثاني لمخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ
اللهِ) فيه قولان :
أحدهما
: أنزله وهو عالم
بإنزاله ، وعالم بأنه حقّ من عنده.
والثاني
: أنزله بما أخبر
فيه من الغيب ، ودلّ على ما سيكون وما سلف ، ذكرهما الزّجّاج.
____________________________________
(٧٩٥) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ابن سليمان إذا أطلق ، وهو ممن يضع الحديث ، فهذا خبر لا شيء.
__________________
قوله تعالى : (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : واعلموا ذلك. (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) استفهام بمعنى الأمر. وفيمن خوطب به قولان : أحدهما : أهل مكّة ، ومعنى إسلامهم : إخلاصهم لله العبادة ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. والثاني
: أنهم أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قاله مجاهد.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))
قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :
أحدها
: أنها عامّة في
جميع الخلق ، وهو قول الأكثرين. والثاني
: أنها في أهل القبلة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنها في اليهود والنّصارى ، قاله أنس. والرابع : أنها في أهل الرّياء ، قاله مجاهد. وروى عطاء عن ابن عباس
: من كان يريد عاجل الدنيا ولا يؤمن بالبعث والجزاء. وقال غيره : إنما هي في
الكافر ، لأنّ المؤمن يريد الدنيا والآخرة.
قوله تعالى : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) أي : أجور أعمالهم (فِيها). قال سعيد بن جبير : أعطوا ثواب ما عملوا من خير في
الدنيا. وقال مجاهد : من عمل عملا من صلة ، أو صدقة ، لا يريد به وجه الله ، أعطاه
الله ثواب ذلك في الدنيا ، ويدرأ به عنه في الدنيا.
قوله تعالى : (وَهُمْ فِيها) قال ابن عباس : أي في الدّنيا (لا يُبْخَسُونَ) أي لا ينقصون من أعمالهم في الدنيا شيئا (أُولئِكَ الَّذِينَ) عملوا لغير الله (لَيْسَ لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا) أي ما عملوا في الدنيا من حسنة (وَباطِلٌ ما كانُوا) لغير الله سبحانه (يَعْمَلُونَ).
فصل
: وذكر قوم من
المفسّرين ، منهم مقاتل ، أنّ هذه الآية اقتضت أنّ من أراد الدنيا بعمله ، أعطي
فيها ثواب عمله من الرّزق والخير ، ثم نسخ ذلك بقوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ) ، وهذا لا يصحّ ، لأنه لا يوفّي إلّا لمن يريد.
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى
إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى
رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨))
قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ) في المراد أربعة أقوال : أحدها : أنها الدّين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله الضّحّاك. والثالث : القرآن ، قاله ابن زيد. والرابع : البيان ، قاله مقاتل. وفي المشار إليه ب «من» قولان : أحدهما : أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني : أنهم المسلمون ، وهو يخرّج على قول الضّحّاك. وفي قوله
تعالى :
__________________
(وَيَتْلُوهُ) قولان : أحدهما
: يتبعه. والثاني : يقرؤه. وفي هاء «يتلوه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم. والثاني
: إلى القرآن ، وقد
سبق ذكره في قوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) . وفي المراد بالشّاهد ثمانية أقوال : أحدها
: أنه جبريل ، قاله
ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وإبراهيم في آخرين. والثاني : أنه لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي كان يتلو القرآن ، قاله عليّ بن أبي طالب ، والحسن ،
وقتادة في آخرين. والثالث
: أنه عليّ بن أبي
طالب. و «يتلوه» بمعنى يتبعه ، رواه جماعة عن عليّ بن أبي طالب ، وبه قال محمّد بن عليّ ، وزيد بن عليّ. والرابع : أنه رسول لله صلىاللهعليهوسلم هو شاهد من الله عزوجل. قاله الحسين بن عليّ عليهالسلام. والخامس
: أنه ملك يحفظه
ويسدّده ، قاله مجاهد. والسادس
: أنه الإنجيل يتلو القرآن بالتّصديق ، وإن كان قد أنزل قبله
، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم بشّرت به التّوراة ، قاله الفرّاء. والسابع : أنه القرآن ونظمه وإعجازه ، قاله الحسين بن الفضل. والثامن : أنه صورة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ووجهه ومخايله ، لأنّ كلّ عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله
صلىاللهعليهوسلم. وفي هاء «منه» ثلاثة أقوال. أحدها : أنها ترجع إلى الله تعالى. والثاني : إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم. والثالث
: إلى البيّنة.
قوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ) في هذه الهاء ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، قاله مجاهد. والثاني : إلى القرآن ، قاله ابن زيد. والثالث : إلى الإنجيل ، أي : ومن قبل الإنجيل (كِتابُ مُوسى) يتّبع محمّدا بالتّصديق له ، ذكره ابن الأنباري. قال
الزّجّاج : والمعنى : وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلا على أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فيكون «كتاب موسى» عطفا على قوله تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي : ويتلوه كتاب موسى عليهالسلام ، لأنّ موسى وعيسى عليهماالسلام بشّرا بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم في التّوراة والإنجيل. ونصب «إماما» على الحال.
فإن قيل : كيف
تتلوه التّوراة ، وهي قبله؟ قيل : لمّا بشّرت به ، كانت كأنّها تالية له ، لأنّها
تبعته بالتّصديق له. وقال ابن الأنباري : «كتاب موسى» مفعول في المعنى ، لأنّ
جبريل تلاه على موسى عليهالسلام ، فارتفع الكتاب ، وهو مفعول بمضمر بعده ، تأويله : ومن
قبله كتاب موسى كذاك ، أي : تلاه جبريل أيضا ، كما تقول العرب : أكرمت أخاك وأبوك
، فيرفعون الأب ، وهو مكرم على الاستئناف ،
__________________
بمعنى : وأبوك
مكرم أيضا. قال : وذهب قوم إلى أنّ كتاب موسى فاعل ، لأنه تلا محمّدا بالتّصديق
كما تلاه الإنجيل.
فصل
: فتلخيص الآية : أفمن
كان على بيّنة من ربّه كمن لم يكن؟ قال الزّجّاج : ترك المضاد له ، لأنّ في ما
بعده دليلا عليه ، وهو قوله : (مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) . وقال ابن قتيبة : لمّا ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إلى
الدنيا ، جاء بهذه الآية ، وتقدير الكلام : أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا؟
فاكتفى من الجواب بما تقدّم ، إذ كان فيه دليل عليه. وقال ابن الأنباري : إنّما
حذف لانكشاف المعنى ، والمحذوف المقدّر كثير في القرآن والشّعر ، قال الشاعر :
فأقسم لو شيء
أتانا رسوله
|
|
سواك ، ولكن لم
نجد لك مدفعا
|
فإن قلنا : إنّ
المراد بمن كان على بيّنة من ربّه ، رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فمعنى الآية : ويتّبع هذا النبيّ شاهد ، وهو جبريل عليهالسلام «منه» أي : من
الله. وقيل : «شاهد» هو عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، «منه» أي : من النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وقيل : «يتلوه» يعني القرآن ، يتلوه جبريل ، وهو شاهد
لمحمّد صلىاللهعليهوسلم أنّ الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى. وقيل : ويتلو رسول
الله صلىاللهعليهوسلم القرآن وهو شاهد من الله تعالى. وقيل : ويتلو لسان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم القرآن ، فلسانه شاهد منه. وقيل : ويتّبع محمّدا شاهد له
بالتّصديق ، وهو الإنجيل من الله تعالى. وقيل : ويتّبع هذا النبيّ شاهد من نفسه ،
وهو سمته وهديه الدّالّ على صدقه. وإن قلنا : إنّ المراد بمن كان على بيّنة من
ربّه المسلمون ، فالمعنى : أنّهم يتّبعون رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو البيّنة ، ويتّبع هذا النبيّ شاهد له بصدقه.
قوله تعالى : (إِماماً وَرَحْمَةً) إنّما سمّاه إماما ، لأنّه كان يهتدى به ، (وَرَحْمَةً) أي : وذا رحمة ، وأراد بذلك التّوراة ، لأنها كانت إماما
وسببا لرحمة من آمن بها.
قوله تعالى : (أُولئِكَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه إشارة إلى أصحاب موسى. والثاني : إلى أصحاب محمّد صلىاللهعليهوسلم. والثالث
: إلى أهل الحقّ من
أمّة موسى وعيسى ومحمّد.
وفي هاء «به»
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها ترجع إلى
التّوراة. والثاني
: إلى القرآن. والثالث : إلى محمّد صلىاللهعليهوسلم. وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال : أحدها : جميع الملل ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : اليهود والنّصارى ، قاله قتادة. والثالث : قريش ، قاله السدي. والرابع : بنو أميّة ، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل طلحة
بن عبد العزّى ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي : إليها مصيره ، قال حسّان بن ثابت :
أوردتموها حياض الموت ضاحية
|
|
فالنّار موعدها
والموت لاقيها
|
قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) قرأ الحسن ، وقتادة «مرية» بضمّ الميم أين وقع. وفي
المكنّى
__________________
عنه قولان : أحدهما : أنه الإخبار بمصير الكافر به ، فالمعنى : فلا تك في شكّ
أنّ موعد المكذّب به النار ، وهذا قول ابن عباس. والثاني : أنه القرآن ، فالمعنى : فلا تك في شكّ من أنّ القرآن من
الله تعالى ، قاله مقاتل. قال ابن عباس : والمراد بالناس هاهنا : أهل مكّة.
قوله تعالى : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) قال الزّجّاج : ذكر عرضهم توكيدا لحالهم في الانتقام منهم
، وإن كان غيرهم يعرض أيضا. فأمّا «الأشهاد» ففيهم خمسة أقوال : أحدها : أنهم الرّسل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : الملائكة ، قاله مجاهد وقتادة. والثالث : الخلائق ، روي عن قتادة أيضا. وقال مقاتل : «الأشهاد»
الناس ، كما يقال : على رؤوس الأشهاد ، أي على رؤوس الناس. والرابع : الملائكة والنّبيّون وأمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم يشهدون على الناس ، والجوارح تشهد على ابن آدم ، قاله ابن
زيد. والخامس
: الأنبياء
والمؤمنون ، قاله الزّجّاج. قال ابن الأنباري : وفائدة إخبار الأشهاد بما يعلمه
الله تعظيم بالأمر المشهود عليه ودفع المجاحدة فيه.
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ
(١٩))
قوله تعالى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ) قد تقدّم تفسيرها في سورة الأعراف .
قوله تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) قال الزّجّاج : ذكرت «هم» ثانية على جهة التّوكيد لشأنهم
في الكفر.
(أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما
كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١))
قوله تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ
فِي الْأَرْضِ) قال ابن عباس : لم يعجزوني أن آمر الأرض فتخسف بهم. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ) أي : لا وليّ لهم ممّن يعبدون يمنعهم منّي. وقال ابن
الأنباري : لمّا كانت عادة العرب جارية بقولهم : لا وزر لك منّي ولا نفق ، يعنون
بالوزر : الجبل ، والنّفق : السّرب ، وكلاهما يلجأ إليه الخائف ، أعلم الله تعالى
أنّ هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هربا ، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع
ما يستر من الأرض ويلجأ إليه. قال : وقوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) يقتضي محذوفا ، تلخيصه : من أولياء يمنعونهم من عذاب الله
، فحذف هذا لشهرته. قوله تعالى : (يُضاعَفُ لَهُمُ
الْعَذابُ) يعني الرّؤساء الصّادّين عن سبيل الله ، وذلك لإضلالهم
أتباعهم واقتداء غيرهم بهم. وقال الزّجّاج : (لَمْ يَكُونُوا
مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : في دار الدّنيا ، ولا لهم وليّ يمنع من انتقام الله ،
ثم استأنف : (يُضاعَفُ لَهُمُ
الْعَذابُ) لعظم كفرهم بنبيّه وبالبعث والنّشور.
قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) فيمن عني بهذا قولان.
أحدهما
: أنهم الكفّار. ثم
في معناه ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم لم يقدروا
على استماع الخير ،
__________________
وإبصار الحقّ ،
وفعل الطّاعة ، لأنّ الله تعالى حال بينهم وبين ذلك ، هذا معنى قول ابن عباس ،
ومقاتل. والثاني
: أنّ المعنى :
يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السّمع ولا يسمعونه ، وبما كانوا يبصرون حجج
الله ولا يعتبرون بها ، فحذف الباء ، كما تقول العرب : لأجزينّك ما عملت ، وبما
عملت ، ذكره الفرّاء ، وأنشد ابن الأنباري في الاحتجاج له :
نغالي اللحم
للأضياف نيئا
|
|
ونبذله إذا نضج
القدور
|
أراد : نغالي
باللحم. والثالث
: أنهم من شدة
كفرهم وعداوتهم للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ما كانوا يستطيعون السّمع ليفهموا ما يقول ، قاله
الزّجّاج.
والقول
الثاني : أنهم الأصنام ،
فالمعنى ما كان للآلهة سمع ولا بصر ، فلم تستطع لذلك السّمع ، ولم تكن تبصر. فعلى
هذا ، يرجع قوله : «ما كانوا» إلى أوليائهم ، وهي الأصنام ، وهذا المعنى منقول عن
ابن عباس أيضا.
(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ
وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))
قوله تعالى : (لا جَرَمَ) قال ابن عباس : يريد : حقّا إنّهم الأخسرون. وقال الفرّاء
: (لا جَرَمَ) كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بدّ ولا محالّة ، فجرت على
ذلك ، وكثر استعمالهم إيّاها حتى صارت بمنزلة «حقا» ، ألا ترى أنّ العرب تقول : لا
جرم لآتينّك ، لا جرم لقد أحسنت ، وأصلها من جرمت ، أي : كسبت الذّنب. قال
الزّجّاج : ومعنى (لا جَرَمَ) : «لا» نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم ، كأنّ المعنى : لا
ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ، أي كسب لهم ذلك الفعل الخسران. وذكر
ابن الأنباري أنّ «لا» رد على أهل الكفر فيما قدّروه من اندفاع الشّرّ عنهم في
الآخرة ، والمعنى : لا يندفع عنهم عذابي ، ولا يجدون وليّا يصرف عنهم نقمتي ، ثم
ابتدأ مستأنفا «جرم» ، قال : وفيها قولان : أحدهما : أنها بمعنى : كسب كفرهم وما قدّروا من الباطل وقوع العذاب
بهم. ف (جَرَمَ) فعل ماض ، معناه : كسب ، وفاعله مضمر فيه من ذكر الكفر
وتقرير الباطل. والثاني
: أنّ معنى جرم :
أحقّ وصحّح ، وهو فعل ماض ، وفاعله مضمر فيه ، والمعنى : أحقّ كفرهم وقوع العذاب
والخسران بهم ، قال الشاعر :
ولقد طعنت أبا
عيينة طعنة
|
|
جرمت فزارة
بعدها أن يغضبوا
|
أراد : حقّت
الطّعنة فزارة بالغضب. ومن العرب من يغير لفظ «جرم» مع «لا» خاصّة ، فيقول بعضهم :
«لا جرم» ، ويقول آخرون : «لا جر» بإسقاط الميم ، ويقال : «لإذا جرم» و «لإذا جر»
بغير ميم ، و «لا إن ذا جرم» و «لا عن ذا جرم» ، ومعنى اللغات كلّها : حقا.
__________________
قوله تعالى : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) فيه سبعة أقوال : أحدها : خافوا ربّهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنابوا إلى ربّهم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : ثابوا إلى ربّهم ، قاله قتادة. والرابع : اطمأنّوا ، قاله مجاهد. والخامس : أخلصوا ، قاله مقاتل. والسادس : تخشّعوا لربّهم ، قاله الفرّاء. والسابع : تواضعوا لربّهم ، قاله ابن قتيبة.
فإن قيل : لم
أوثرت «إلى» على اللام في قوله : (وَأَخْبَتُوا إِلى
رَبِّهِمْ) ، والعادة جارية بأن يقال : أخبتوا لربّهم؟ فالجواب : أنّ
المعنى : وجّهوا خوفهم وخشوعهم وإخلاصهم إلى ربّهم ، واطمأنّوا إلى ربّهم. قال
الفرّاء : وربّما جعلت العرب «إلى» في موضع اللام ، كقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) ، وقوله تعالى : (الَّذِي هَدانا لِهذا) . وقد يجوز في العربية : فلان يخبت إلى الله ، يريد : يفعل
ذلك موجّهه إلى الله. قال بعض المفسّرين : هذه الآية نازلة في أصحاب محمّد صلىاللهعليهوسلم ، وما قبلها نازل في المشركين. ثم ضرب للفريقين مثلا ،
فقال تعالى : (مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) قال مجاهد : الفريقان : المؤمن والكافر. فأمّا الأعمى
والأصمّ فهو الكافر ، وأما البصير والسّميع فهو المؤمن. قال قتادة : الكافر عمي عن
الحقّ وصمّ عنه ، والمؤمن أبصر الحقّ وسمعه ثم انتفع به. وقال أبو عبيدة : في
الكلام ضمير ، تقديره : مثل الفريقين كمثل الأعمى. وقال الزّجّاج : مثل الفريقين
المسلمين كالبصير والسّميع ، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصمّ ، لأنهم في
عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر.
قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي : هل يستويان في المشابهة؟
والمعنى : كما لا
يستويان عندكم ، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله عزوجل وقال أبو عبيدة : «هل» هاهنا بمعنى الإيجاب. لا بمعنى
الاستفهام ، والمعنى : لا يستويان. قال الفرّاء : وإنما لم يقل : «يستوون» لأنّ
الأعمى والأصمّ من صفة واحد ، والسّميع والبصير من صفة واحد ، كقول القائل : مررت
بالعاقل واللبيب ، وهو يعني واحدا قال الشاعر :
وما أدري إذا
يمّمت أرضا
|
|
أريد الخير
أيّهما يليني
|
فقال : أيّهما.
وإنّما ذكر الخير وحده ، لأنّ المعنى يعرف ، إذ المبتغي للخير متّق للشّرّ. وقال
ابن الأنباري : الأعمى والأصمّ صفتان لكافر ، والسّميع والبصير صفتان لمؤمن ، فردّ
الفعل إلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة ، كما تقول : العاقل والعالم ، والظّالم
والجاهل ، حضرا مجلسي ، فتثّني الخبر بعد ذكرك أربعة ، لأنّ الموصوف بالعلم هو
الموصوف بالعقل ، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظّلم ، فلمّا كان المنعوتان
اثنين ، رجع الخبر إليهما ، ولم يلتفت إلى تفريق الأوصاف ، ألا ترى أنه يسوغ أن
تقول : الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني ، فتوحّد الفعل بعد أوصاف لعلّة أنّ
الموصوف بهنّ واحد ، ولا يمتنع عطف النّعوت على النّعوت بحروف العطف ، والموصوف
واحد ، فقد قال تعالى : (التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ) ثم قال : (الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فلم يقتض دخول الواو وقوع خلاف بين الآمرين والنّاهين ،
وقد قيل : الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره ، وكان
__________________
دخول الواو دلالة
على الآمر بالمعروف ، لأنّ الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النّهي عن المنكر ، كما
ينفرد الحامدون بالحمد دون السّائحين ، والسّائحون بالسّياحة دون الحامدين ، ويدلّ
أيضا على أنّ العرب تنسق النّعت على النّعت والمنعوت واحد ، كقول الشاعر يخاطب
سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفّان :
يظنّ سعيد وابن
عمرو بأنّني
|
|
إذا سامني ذلا
أكون به أرضى
|
فنسق ابن عمرو على
سعيد ، وهو سعيد.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا
وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما
نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ
عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ
(٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ
وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي
أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى
قَوْمِهِ إِنِّي) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيّ «أني» بفتح الألف ،
والتقدير : أرسلناه بأنّي ، وكأنّ الوجه بأنه لهم نذير ، ولكنه على الرّجوع من
الإخبار عن الغائب إلى خطاب نوح لقومه. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة «إني»
بكسر الألف ، فحملوه على القول المضمر ، والتقدير : فقال لهم : إنّي لكم نذير.
قوله تعالى : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أي : إنسانا مثلنا ، لا فضل لك علينا. فأمّا الأراذل ،
فقال ابن عباس : هم السّفلة. وقال ابن قتيبة : هم جمع «أرذل» ، يقال : رجل رذل ،
وقد رذل رذالة ورذولة. ومعنى : الأراذل : الشّرار.
قوله تعالى : (بادِيَ الرَّأْيِ) قرأ الأكثرون «بادي» بغير همز. وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد
الدّال. وكلّهم همز «الرأي» غير أبي عمرو. وللعلماء في معنى «بادي» إذا لم يهمز
ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنّ المعنى : ما
نرى أتباعك إلّا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرّأي لكلّ ناظر ، يعنون أنّ ما وصفناهم
به من النّقص لا يخفى على أحد فيخالفنا ، هذا مذهب مقاتل في آخرين.
والثاني
: أنّ المعنى أنّ
هؤلاء القوم اتّبعوك في ظاهر ما يرى منهم ، وطويّتهم على خلافك.
والثالث
: أنّ المعنى :
اتّبعوك في ظاهر رأيهم ، ولم يتدبّروا ما قلت ، ولو رجعوا إلى التّفكّر لم يتّبعوك
، ذكر هذين القولين الزّجّاج. قال ابن الأنباري : وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة
من لم يهمز ، لأنه من بدا ، يبدو : إذا ظهر. فأمّا من همز «بادئ» فمعناه : ابتداء
الرّأي ، أي : اتّبعوك أول ما ابتدءوا ينظرون ، ولو فكّروا لم يعدلوا عن موافقتنا
في تكذيبك.
قوله تعالى : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من فضل في الخلق ، قاله ابن عباس. والثاني : في الملك والمال ونحو ذلك ، قاله مقاتل. والثالث : ما فضّلتم باتّباعكم نوحا ، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتّبعكم
طلبا لها ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.
قوله تعالى : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) فيه قولان : أحدهما : نتيقنكم ، قاله الكلبي. والثاني : نحسبكم ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : على يقين وبصيرة. قال ابن الأنباري : وقوله : «إن كنت»
شرط لا يوجب شكّا يلحقه ، لكنّ الشّكّ يلحق المخاطبين من أهل الزّيغ ، فتقديره :
إن كنت على بينة من ربّي عندكم. (وَآتانِي رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ) فيها قولان :
أحدهما
: أنّها النّبوّة ،
قاله ابن عباس. والثاني
: الهداية ، قاله
مقاتل.
قوله تعالى : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر
عن عاصم : «فعميت» بتخفيف الميم وفتح العين. قال ابن قتيبة : والمعنى : عميتم عنها
، يقال : عمي عليّ هذا الأمر : إذا لم أفهمه ، وعميت عنه بمعنى. قال الفرّاء :
وهذا ممّا حوّلت العرب الفعل إليه ، وهو في الأصل لغيره ، كقولهم : دخل الخاتم في
يدي ، والخفّ في رجلي ، وإنما الإصبع تدخل في الخاتم ، والرّجل في الخفّ ،
واستجازوا ذلك إذ كان المعنى معروفا. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «فعمّيت»
بضمّ العين وتشديد الميم. قال ابن الأنباري : ومعنى ذلك : فعمّاها الله عليكم إذ
كنتم ممّن حكم عليه بالشّقاء. وكذلك قرأ أبيّ بن كعب ، والأعمش : «فعمّاها عليكم».
وفي المشار إليها قولان : أحدهما
: البيّنة. والثاني : الرّحمة.
قوله تعالى : (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي : أنلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإنكار ، يقول :
لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا. قال قتادة : والله لو استطاع نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يملك ذلك . وقيل : كان مراد نوح عليهالسلام ردّ قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فبيّن فضله وفضل من آمن به بأنه على بينة من ربّه ، وقد
آتاه رحمة من عنده ، وسلب المكذّبون ذلك. قوله تعالى : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على نصحي ودعائي إيّاكم (مالاً) فتتّهموني. وقال ابن الأنباري : لمّا كانت الرّحمة بمعنى
الهدى والإيمان ، جاز تذكيرها. قوله تعالى : (وَما أَنَا بِطارِدِ
الَّذِينَ آمَنُوا) قال ابن جريج : سألوه طردهم أنفة منهم ، فقال : لا يجوز لي
طردهم ، إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم ، ويأخذ لهم ممّن ظلمهم وصغّر
شؤونهم. وفي قوله تعالى : (وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ) قولان : أحدهما
: تجهلون أنّ هذا
الأمر من الله تعالى ، قاله ابن عباس. والثاني : تجهلون لأمركم إيّاي بطرد المؤمنين ، قاله أبو سليمان.
(وَيا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ
خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ
(٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ
اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ
أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ
رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))
__________________
قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي) أي : من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم.
قوله تعالى : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ
اللهِ) قال ابن الأنباري : أراد بالخزائن : علم الغيب المطويّ عن
الخلق ، لأنهم قالوا له : إنّما اتّبعك هؤلاء في الظّاهر وليسوا معك ، فقال لهم :
ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضّمائر. وإنما قيل للغيوب : خزائن
، لغموضها عن الناس واستتارها عنهم. قال سفيان بن عيينة : إنما آيات القرآن خزائن
، فإذا دخلت خزانة فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.
قوله تعالى : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) قيل : إنّما قال لهم هذا ، لأنّ أرضهم أجدبت ، فسألوه :
متى يجيء المطر؟ وقيل : بل سألوه : متى يجيء العذاب؟ فقال : ولا أعلم الغيب. وقوله
عزوجل : (وَلا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ) جواب لقولهم : (ما نَراكَ إِلَّا
بَشَراً مِثْلَنا) . (وَلا أَقُولُ
لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي : تحتقر وتستصغر المؤمنين. قال الزّجّاج : «تزدري»
تستقلّ وتستخسّ ، يقال : زريت على الرّجل : إذا عبت عليه وخسست فعله ، وأزريت به :
إذا قصّرت به. وأصل تزدري : تزتري ، إلّا أنّ هذه التاء تبدل بعد الزّاي دالا ،
لأنّ التاء من حروف الهمس ، وحروف الهمس خفيّة ، فالتاء بعد الزّاي تخفى ، فأبدلت
منها الدال لجهرها.
قوله تعالى : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) قال ابن عباس : إيمانا. ومعنى الكلام : ليس لي أن أطّلع
على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء ، وليس لاحتقاركم إيّاهم يبطل أجرهم. (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إن قلت هذا الذي تقدّم ذكره ، وقيل : إن طردتهم.
قوله تعالى : (قَدْ جادَلْتَنا) قال الزّجّاج : الجدال : هو المبالغة في الخصومة والمناظرة
، وهو مأخوذ من الجدل ، وهو شدّة الفتل ، ويقال للصّقر : أجدل ، لأنه من أشدّ
الطّير. ويقرأ «فأكثرت جدلنا». وقوله تعالى : (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا) قال ابن عباس : يعنون العذاب. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنه يأتينا.
قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) أي : أنصحكم. وفي هذه الآية شرطان : فجواب الأول : النّصح
، وجواب الثاني : النّفع. قوله تعالى : (إِنْ كانَ اللهُ
يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يضلّكم ، قاله ابن عباس. والثاني : يهلككم ، حكاه ابن الأنباري. وقال : هو قول مرغوب عنه. والثالث : يضلّكم ويهلككم ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (هُوَ رَبُّكُمْ) أي : هو أولى بكم ، يتصرّف في ملكه كما يشاء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الموت.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تُجْرِمُونَ (٣٥))
قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ) قال الزّجّاج : المعنى : أيقولون : (افْتَراهُ)؟ قال ابن قتيبة : الافتراء : الاختلاق. (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي : جرم ذلك الاختلاق إن كنت فعلت. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) في التّكذيب. وقرأ أبو المتوكّل ، وابن السّميفع : «فعليّ
أجرامي» بفتح الهمزة.
__________________
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما
كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))
قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) قال المفسّرون : لمّا أوحي إليه هذا ، استجاز الدّعاء
عليهم ، فقال : (لا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) . قوله تعالى : (فَلا تَبْتَئِسْ) قال ابن عباس ومجاهد : لا تحزن. وقال الفرّاء والزّجّاج :
لا تستكن ولا تحزن. قال أبو صالح عن ابن عباس : فلا تحزن إذا نزل بهم الغرق (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ).
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ
قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ
كَما تَسْخَرُونَ (٣٨))
قوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) أي : واعمل السّفينة. وفي قوله : (بِأَعْيُنِنا) ثلاثة أقوال : أحدها : بمرأى منّا ، قاله ابن عباس. والثاني : بحفظنا ، قاله الرّبيع. والثالث : بعلمنا ، قاله مقاتل. قال ابن الأنباري : إنّما جمع على
مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد ، تقول : خرجنا إلى البصرة في السّفن ،
وإنما جمع ، لأنّ من عادة الملك أن يقول : أمرنا ونهينا. وفي قوله : (وَوَحْيِنا) قولان : أحدهما
: وأمرنا لك أن
تصنعها. والثاني
: وبتعليمنا إياك
كيف تصنعها. قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا) فيه قولان : أحدهما : لا تسألني الصفح عنهم. والثاني : لا تخاطبني في إمهالهم. وإنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة
له عن سؤال لا يجاب فيه.
الإشارة إلى كيفية عمل السّفينة
روى الضّحّاك عن
ابن عباس قال : كان نوح يضرب ثم يلفّ في لبد فيلقى في بيته ، يرون أنه قد مات ، ثم
يخرج فيدعوهم. حتى إذا يئس من إيمان قومه ، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكّأ على عصا
، فقال : يا بنيّ ، انظر هذا الشيخ لا يغررك ، قال : يا أبت أمكنّي من العصا ،
فأخذها فضربه ضربة شجّه موضحة ، وسالت الدّماء على وجهه ، فقال : ربّ قد ترى ما
يفعل بي عبادك ، فإن يكن لك فيهم حاجة فاهدهم ، وإلّا فصبّرني إلى أن تحكم ، فأوحى
الله إليه : (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) إلى قوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) ، قال : يا ربّ ، وما الفلك؟ قال : بيت من خشب يجري على
وجه الماء أنجّي فيه أهل طاعتي ، وأغرق أهل معصيتي ، قال : يا ربّ ، وأين الماء؟
قال : إنّي على ما أشاء قدير ، قال : يا ربّ ، وأين الخشب؟ قال : اغرس الشّجر ،
فغرس السّاج عشرين سنة ، وكفّ عن دعائهم ، وكفّوا عنه ، إلّا أنهم يستهزئون به ،
فلمّا أدرك الشّجر ، أمره ربّه ، فقطعه وجفّفه ولفّقه ، فقال : يا ربّ ، كيف أتّخذ
هذا البيت؟ قال : اجعله على ثلاث صور ، رأسه كرأس الطّاوس ، وجؤجؤه كجؤجؤ الطّائر
، وذنبه كذنب الدّيك ، واجعلها مطبقة ، وبعث الله إليه جبريل يعلّمه ، وأوحى الله
إليه أن عجّل عمل السّفينة فقد اشتدّ غضبي على من عصاني ، فاستأجر نجّارين يعملون
معه ، وسام ، وحام ، ويافث ، معه ينحتون السّفينة ، فجعل طولها ستمائة ذراع ،
وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعا ، وعلوها ثلاثا
__________________
وثلاثين ، وفجّر
الله له عين القار تغلي غليانا حتى طلاها. وعن ابن عباس قال : جعل لها ثلاثة بطون
، فحمل في البطن الأول الوحوش والسّباع والهوام ، وفي الأوسط الدّوابّ والأنعام ،
وركب هو ومن معه البطن الأعلى. وروي عن الحسن أنه قال : كانت سفينة نوح طولها ألف
ذراع ، ومائتا ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع. وقال قتادة : كانت فيما ذكر لنا طولها
ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسمائة ذراع ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا. وقال ابن
جريج : كان طولها ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ومائة ذراع ، وطولها في السماء
ثلاثون ذراعا ، وكان في أعلاها الطّير ، وفي وسطها الناس ، وفي أسفلها السّباع.
وزعم مقاتل أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة.
قوله تعالى : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ
قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) فيه قولان : أحدهما : أنهم رأوه يبني السّفينة وما رأوا سفينة قطّ ، فكانوا
يسخرون ويقولون : صرت بعد النبوّة نجّارا؟ وهذا قول ابن إسحاق. والثاني : أنهم قالوا له : ما تصنع؟ فقال : أبني بيتا يمشي على الماء
، فسخروا من قوله ، وهذا قول مقاتل. وفي قوله : (إِنْ تَسْخَرُوا
مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) خمسة أقوال : أحدها : إن تسخروا من قولنا فإنّا نسخر من غفلتكم. والثاني : إن تسخروا من فعلنا عند بناء السّفينة ، فإنّا نسخر منكم
عند الغرق ، ذكره المفسّرون. والثالث
: إن تسخروا منّا
في الدنيا ، فإنّا نسخر منكم في الآخرة ، قاله ابن جرير. والرابع : إن تستجهلونا ، فإنّا نستجهلكم ، قاله الزّجّاج. والخامس : إن تسخروا منّا ، فإنّا نستنصر الله عليكم ، فسمّى هذا
سخرية ، ليتّفق اللفظان كما بيّنّا في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) ، هذا قول ابن الأنباري. قال ابن عباس : لم يكن في الأرض
قبل الطّوفان نهر ولا بحر ، فلذلك سخروا منه ، وإنّما مياه البحار بقيّة الطّوفان.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))
قوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) هذا وعيد ، ومعناه : فسوف تعلمون من هو أحقّ بالسّخرية ،
ومن هو أحمد عاقبة. وقوله تعالى : (مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي : يذلّه ، وهو الغرق. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) أي : ويجب عليه (عَذابٌ مُقِيمٌ) في الآخرة.
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما
آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠))
قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) فيه قولان : أحدهما : جاء أمرنا بعذابهم وإهلاكهم. والثاني : جاء عذابنا وهو الماء ، ابتدأ بجنبات الأرض فدار حولها
كالإكليل ، وجعل المطر ينزل من السماء كأفواه القرب ، فجعلت الوحوش يطلبن وسط
الأرض هربا من الماء حتى اجتمعن عند السّفينة ، فحينئذ حمل فيها من كلّ زوجين
اثنين.
قوله تعالى : (وَفارَ التَّنُّورُ) الفور : الغليان ؛ والفوّارة : ما يفور من القدر ، قاله
ابن فارس.
قال المصنّف :
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغويّ عن ابن دريد قال : التّنّور : اسم فارسيّ
__________________
معرّب لا تعرف له
العرب اسما غير هذا ، فلذلك جاء في التّنزيل ، لأنهم خوطبوا بما عرفوا. وروي عن
ابن عباس أنه قال : التّنّور ، بكلّ لسان عربيّ وعجميّ.
وفي المراد بهذا
التّنّور ستة أقوال : أحدها
: أنه اسم لوجه
الأرض ، رواه عكرمة عن عليّ عليهالسلام. وروى الضّحّاك عن ابن عباس : التّنّور : وجه الأرض ، قال
: قيل له : إذا رأيت الماء قد علا وجه الأرض ، فاركب أنت وأصحابك ، وهذا قول عكرمة
، والزّهريّ. والثاني
: أنه تنوير الصّبح
، رواه أبو جحيفة عن عليّ رضي الله عنه. وقال ابن قتيبة : التّنوير عند الصّلاة. والثالث : أنه طلوع الفجر ، روي عن عليّ أيضا ، قال : «وفار التّنّور»
: طلع الفجر. والرابع
: أنه طلوع الشّمس
، وهو منقول عن عليّ أيضا. والخامس
: أنه تنّور أهله ،
روى العوفيّ عن ابن عباس قال : إذا رأيت تنّور أهلك يخرج منه الماء ، فإنه هلاك
قومك. وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنه تنّور آدم عليهالسلام ، وهبه الله لنوح ، وقيل له : إذا فار الماء منه ، فاحمل
ما أمرت به. وقال الحسن : كان تنّورا من حجارة ، وهذا قول مجاهد ، والفرّاء ،
ومقاتل. والسادس
: أنه أعلى الأرض
وأشرفها . قال ابن الأنباري : شبّهت أعالي الأرض وأماكنها المرتفعة
لعلوّها ، بالتّنانير.
واختلفوا في
المكان الذي فار منه التّنّور على ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه فار من مسجد
الكوفة ، رواه حبّة العرني عن عليّ عليهالسلام. وقال زرّ بن حبيش : فار التنوّر من زاوية مسجد الكوفة
اليمنى. وقال مجاهد : نبع الماء من التنوّر ، فعلمت به امرأته فأخبرته ، وكان ذلك
بناحية الكوفة. وكان الشّعبيّ يحلف بالله ما كان التنوّر إلّا بناحية الكوفة. والثاني : أنه فار بالهند ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : أنه كان في أقصى دار نوح ، وكانت بالشّام في مكان يقال له
: عين وردة ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) أي : في السّفينة (مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وروى حفص عن عاصم : «من كلّ» بالتنوين. قال أبو عليّ :
والمعنى : من كلّ شيء ، ومن كلّ زوج زوجين ، فحذف المضاف. وانتصاب «اثنين» على
أنهما صفة لزوجين ، وقد علم أنّ الزّوجين اثنان ، ولكنه توكيد. قال مجاهد : من كلّ
صنف ، ذكرا وأنثى. وقال ابن قتيبة : الزّوج يكون واحدا ، ويكون اثنين ، وهو ها هنا
واحد ، ومعنى الآية : احمل من كلّ ذكر وأنثى اثنين. وقال الزّجّاج : المعنى : احمل
زوجين اثنين من كلّ شيء ، والزّوج في كلام العرب يجوز أن يكون معه واحد ، والاثنان
يقال لهما : زوجان ، يقال : عندي زوجان من الطّير ، إنما يريد ذكرا وأنثى فقط ،
وقال ابن الأنباري : إنّما قال «اثنين» فثنّى الزّوج ، لأنه قصد قصد الذّكر
والأنثى من الحيوان ، وتقديره : من كلّ ذكر وأنثى. قوله تعالى : (وَأَهْلَكَ) أي : واحمل أهلك. قال المفسّرون : أراد بأهله : عياله
وولده. (إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي : سبق عليه القول من الله بالإهلاك. قال الضّحّاك : وهم
امرأته وابنه كنعان.
__________________
قوله تعالى : (وَمَنْ آمَنَ) معناه : واحمل من آمن. (وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ) ؛ وفي عددهم ثمانية أقوال : أحدها : أنهم كانوا ثمانين رجلا معهم أهلوهم ، رواه عكرمة عن ابن
عباس. والثاني
: أنّ نوحا حمل معه
ثمانين إنسانا ، وبنيه الثلاثة ، وثلاث نسوة لبنيه ، وامرأة نوح. رواه يوسف بن
مهران عن ابن عباس. والثالث
: كانوا ثمانين
إنسانا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة.
والرابع
: كانوا أربعين ،
ذكره ابن جريج عن ابن عباس. والخامس
: كانوا ثلاثين
رجلا ، رواه أبو نهيك عن ابن عباس. والسادس : كانوا ثمانية ، قال الحكم بن عتيبة : كان نوح وثلاثة بنيه
وأربع كنائنه. قال قتادة : ذكر لنا أنه لم ينج في السّفينة إلّا نوح وامرأته وثلاثة بنين له ، ونساؤهم ، فجماعتهم ثمانية ، وهذا قول
القرظيّ ، وابن جريج. والسابع
: كانوا سبعة ، نوح
، وثلاث كنائن له وثلاثة بنين ، قاله الأعمش. والثامن : كانوا عشرة سوى نسائهم ، قاله ابن إسحاق. وروي عنه أنه قال
: الذين نجوا مع نوح بنوه الثلاثة ، ونساؤهم ثلاث ، وستة ممّن آمن به.
(وَقالَ ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١))
قوله تعالى : (وَقالَ) يعني نوحا للذين أمر بحملهم (ارْكَبُوا) السّفينة. قال ابن عباس : ركبوا فيها لعشر مضين من رجب ،
وخرجوا منها يوم عاشوراء. وقال ابن جريج : دفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين
من رجب ، فأتت موضع البيت فطافت به أسبوعا ، وكان البيت قد رفع في ذلك الوقت ،
ورست بباقردى على الجودي يوم عاشوراء. قال ابن عباس : قرض الفأر حبال
السفينة ، فشكا نوح ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سنّوران
، وكان في السّفينة عذرة ، فشكا ذلك إلى ربّه ، فأوحى الله تعالى إليه ، فمسح ذنب
الفيل ، فخرج خنزيران فأكلا ذلك . قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها
وَمُرْساها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر
عن عاصم : «مجراها» بضمّ الميم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «مجراها»
بفتح الميم ، وكسر الراء. وكلّهم قرءوا بضمّ الميم من «مرساها» ، إلا أنّ ابن كثير
، وأبا عمرو ، وابن عامر ، وحفصا عن عاصم ، كانوا يفتحون السّين. ونافع ، وأبو بكر
عن عاصم ، كانا يقرءانها بين الكسر والتفخيم. وكان حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ،
يميلونها. وليس في هؤلاء أحد جعلها نعتا لله ، وإنما جعل الوصفين نعتا لله تعالى ،
الحسن ، وقتادة ، وحميد الأعرج ، وإسماعيل بن مجالد عن عاصم ، فقرؤوا «مجريها
ومرسيها» بضمّ الميم ، وبياءين صحيحتين ، مثل مبديها ومنشيها. وقرأ ابن مسعود : «مجراها»
بفتح
__________________
الميم ، وإمالة
الراء بعدها ألف ، «ومرساها» برفع الميم ، وإمالة السين بعدها ألف. وقرأ أبو رزين
، وأبو المتوكّل : «مجراها» بفتح الميم والراء ، وبألف بعدها ، ومرساها ، برفع
الميم وفتح السين ، وبألف بعدها. وقرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : «مجراها ومرساها»
بفتح الميم فيهما جميعا ، وفتح الراء والسين ، وبألف بعدهما. وقرأ يحيى بن وثّاب
بفتح الميمين ، إلّا أنه أمال الراء والسين فيهما. وقرأ أبو عمران الجوني ، وابن
جبير ، برفع الميم فيهما ، وفتح الراء والسين ، وبألف بعدهما جميعا. فمن قرأ بضمّ
الميمين ، جعله من أجرى وأرسى. ومن فتحهما ، جعله مصدرا من جرى الشيء يجري مجرى ،
ورسى يرسي مرسى. قال الزّجّاج : قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ) أي : بالله ، والمعنى : أنه أمرهم أن يسمّوا في وقت جريها
ووقت استقرارها. ومن قرأ بضم الميمين ، فالمعنى : بالله إجراؤها ، وبالله إرساؤها.
ومن فتحهما ، فالمعنى : بالله يكون جريها ، وبالله يقع إرساؤها ، أي : إقرارها.
وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول : من ضمّ الميم في «مجراها» أراد : أجراها الله
مجرى ، ومن فتحها ، أراد : جرت مجرى. وقال الضّحّاك : كان إذا أراد أن تجري ، قال
: بسم الله ، فجرت. وإذا أراد أن ترسي ، قال : بسم الله ، فرست.
(وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا
بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))
قوله تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبالِ) شبّهه بالجبال في عظمه وارتفاعه ، ويقال : إنّ الماء ارتفع
على أطول جبل في الأرض أربعين ذراعا ، ويروى خمس عشرة ذراعا. وذكر بعض المفسّرين
أنه ارتفع نحو السماء سبعين فرسخا من الأرض. قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) لا يختلفون أنه كان كافرا. وفي اسمه قولان : أحدهما
: كنعان ، وهو قول
الأكثرين. والثاني
: اسمه يام ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عبيد بن عمير ، وابن إسحاق.
قوله تعالى : (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) المعزل : المكان المنقطع. ومعنى العزل : التّنحية.
وفي معنى الكلام
وجهان ذكرهما الزجاج :
أحدهما
: في معزل من
السّفينة. والثاني
: في معزل من دين
أبيه.
قوله تعالى : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ،
وحمزة ، والكسائيّ «يا بني اركب» مضافة ، بكسر الياء. وروى أبو بكر عن عاصم «يا
بني» مفتوحة الياء هاهنا ، وباقي القرآن مكسورة. وروى حفص عنه بالفتح في كلّ
القرآن «يا بنيّ» إذا كان واحدا. قال النّحويون : الأصل في «بنيّ» ثلاث ياءات ،
ياء التصغير ، وياء بعدها هي لام الفعل ، وياء بعد لام الفعل هي ياء الإضافة. فمن
قرأ «يا بني» أراد : يا بنيي ، فحذف ياء الإضافة ، وترك الكسرة تدلّ عليها ، كما
__________________
يقال : يا غلام
أقبل. ومن فتح الياء ، أبدل من كسرة لام الفعل فتحة ، استثقالا لاجتماع الياءات مع
الكسرة ، فانقلبت ياء الإضافة ألفا ، ثم حذفت الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة
على حالها. وقيل : إنّ المعنى : يا بنيّ آمن واركب معنا.
قوله تعالى : (سَآوِي) أي : سأصير وأرجع (إِلى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي) أي : يمنعني (مِنَ الْماءِ) أي : من تغريق الماء. (قالَ لا عاصِمَ
الْيَوْمَ) فيه قولان : أحدهما : لا مانع اليوم من أمر الله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : لا معصوم ، ومثله : ماء دافق ، أي : مدفوق ، وسرّ كاتم ،
وليل نائم ، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) قال الزّجّاج : هذا استثناء ليس من الأوّل ، والمعنى : لكن
من رحم الله فإنه معصوم. قال مقاتل : إلّا من رحم فركب السّفينة.
قوله تعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) في المكنّى عنهما قولان : أحدهما : أنهما ابن نوح والجبل الذي زعم أنه يعصمه ، رواه أبو صالح
عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثاني
: نوح وابنه ، قاله
مقاتل.
(وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ
الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))
قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) وقف قوم على ظاهر الآية ، وقالوا : إنما ابتلعت ما نبع
منها ، ولم تبتلع ماء السماء ، فصار ذلك بحارا وأنهارا ، وهو معنى قول ابن عباس.
وذهب آخرون إلى أنّ المراد : ابلعي ماءك الذي عليك ، وهو ما نبع من الأرض ونزل من
السماء ، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض. قوله تعالى : (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي : أمسكي عن إنزال الماء. قال ابن الأنباري : لمّا تقدّم
ذكر الماء ، علم أنّ المعنى : أقلعي عن إنزال الماء. قوله تعالى : (وَغِيضَ الْماءُ) أي : نقص. قال الزّجّاج : يقال : غاض الماء يغيض : إذا غاب
في الأرض. ويجوز إشمام الضمّ في الغين.
قوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) قال ابن عباس : غرق من غرق ، ونجا من نجا. وقال مجاهد : «قضي
الأمر» : هلاك قوم نوح. وقال ابن قتيبة : «وقضي الأمر» أي : فرغ منه. قال ابن
الأنباري : والمعنى : أحكمت هلكة قوم نوح ، فلمّا دلّت القصة على ما يبيّن هلكتهم
، أغنى عن نعت الأمر.
قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ) يعني السّفينة (عَلَى الْجُودِيِ) وهو اسم جبل. وقرأ الأعمش ، وابن أبي عبلة : «على الجودي»
بسكون الياء. قال ابن الأنباري : وتشديد الياء في «الجوديّ» لأنها ياء النّسبة ،
فهي كالياء في علويّ ، وهاشميّ. وقد خفّفها بعض القرّاء. ومن العرب من يخفّف ياء
النّسبة ، فيسكنها في الرّفع ، والخفض ، ويفتحها في النّصب ، فيقول : قام زيد
العلوي ، ورأيت زيدا العلويّ. قال ابن عباس : دارت السفينة بالبيت أربعين يوما ،
ثم وجّهها الله إلى الجوديّ فاستقرّت عليه. واختلفوا أين هذا
الجبل على ثلاثة
أقوال : أحدها
: أنه بالموصل ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والثاني : بالجزيرة ، قاله مجاهد ، وقتادة. وقال مقاتل : هو بالجزيرة
قريب من الموصل. والثالث
: أنه بناحية آمد ،
قاله الزّجّاج.
وفي علّة استوائها
عليه قولان : أحدهما
: أنه لم يغرق ،
لأنّ الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت ، وتواضع هو فلم يغرق ، فأرست عليه ، قاله
مجاهد. والثاني
: أنه لمّا قلّ
الماء أرست عليه ، فكان استواؤها عليه دلالة على قلّة الماء.
قوله تعالى : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) قال ابن عباس : بعدا من رحمة الله للقوم الكافرين. فإن قيل
: ما ذنب من أغرق من البهائم والأطفال؟
فالجواب : أنّ
آجالهم حضرت ، فأميتوا بالغرق ، قاله الضّحّاك ، وابن جريج.
قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) إنما قال نوح هذا ، لأنّ الله تعالى وعده نجاة أهله ، فقال
تعالى : (وَإِنَّ وَعْدَكَ
الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) قال ابن عباس : أعدل العادلين. وقال ابن زيد : فأنت أحكم
الحاكمين بالحقّ. واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين :
أحدهما
: أنه ابن نوح
لصلبه ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضّحّاك ، والجمهور.
والثاني
: أنه ولد على
فراشه لغير رشدة ولم يكن ابنه .
روى ابن الأنباري
بإسناده عن الحسن أنه قال : لم يكن ابنه ، إنّ امرأته فجرت. وعن الشّعبيّ قال : لم
يكن ابنه ، إنّ امرأته خانته ، وعن مجاهد نحو ذلك. وقال ابن جريج : ناداه نوح وهو
يحسب أنه ابنه ، وكان ولد على فراشه. فعلى القول الأوّل ، يكون في معنى قوله تعالى
: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ) قولان : أحدهما
: ليس من أهل دينك.
والثاني
: ليس من أهلك
الذين وعدتك نجاتهم. قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبيّ قطّ ، وإنّما المعنى : ليس
من أهلك الذين وعدتك نجاتهم. وعلى القول الآخر : الكلام على ظاهره ، والأوّل أصحّ
، لموافقته ظاهر القرآن ، ولاجتماع الأكثرين عليه ، وهو أولى من رمي زوجة نبيّ
بفاحشة .
__________________
قوله تعالى : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : «إنه
عمل» رفع منون «غير صالح» برفع الراء ، وفيه قولان : أحدهما : أنه يرجع إلى السؤال فيه ، فالمعنى : سؤالك إيّاي فيه عمل
غير صالح ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وهذا ظاهر ، لأنه قد تقدّم السؤال فيه في
قوله عزوجل : «ربّ إنّ ابني من أهلي» ، فرجعت الكناية إليه. والثاني : أنه يرجع إلى المسؤول فيه. وفي هذا المعنى قولان : أحدهما : أنه لغير رشدة ، قاله الحسن. والثاني : أنّ المعنى : إنه ذو عمل غير صالح ، قاله الزّجّاج.
قال ابن الأنباري
: من قال : هو لغير رشدة ، قال : المعنى : إنّ أصل ابنك الذي تظنّ أنه ابنك عمل
غير صالح. ومن قال : إنه ذو عمل غير صالح ، قال : حذف المضاف ، وأقام العمل مقامه
، كما تقول العرب : عبد الله إقبال وإدبار ، أي : صاحب إقبال وإدبار. وقرأ
الكسائيّ : «عمل» بكسر الميم وفتح اللام «غير صالح» بفتح الراء ، يشير إلى أنه
مشرك.
قوله تعالى : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «فلا تسألنّ» بفتح
اللام ، وتشديد النون ، غير أنّ نافعا ، وابن عامر ، كسرا النون ، وفتحها ابن كثير
، وحذفوا الياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ،
بسكون اللام وتخفيف النون ، غير أنّ أبا عمرو ، وأبا جعفر ، أثبتا الياء في الوصل
، وحذفاها في الوقف ، ووقف عليها يعقوب بالياء ، والباقون يحذفونها في الحالين.
قال أبو عليّ : من كسر النون ، فقد عدّى السؤال إلى مفعولين ، أحدهما : اسم المتكلّم ، والآخر : الاسم الموصول ، وحذفت النون
المتّصلة بياء المتكلّم لاجتماع النّونات. وأما إثبات الياء في الوصل فهو الأصل ،
وحذفها أخفّ ، والكسرة تدلّ عليها ، وتعلم أنّ المفعول مراد في المعنى.
ثم في معنى الكلام
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه نسبته إليه ،
وليس منه. والثاني
: في إدخاله إيّاه
في جملة أهله الذين وعده نجاتهم. والثالث : سؤاله في إنجاء كافر من العذاب.
قوله تعالى : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن تكون من الجاهلين في سؤالك من ليس من حزبك. والثاني : من الجاهلين بوعدي ، لأنّي وعدت بإنجاء المؤمنين. والثالث : من الجاهلين بنسبك ، لأنه ليس من أهلك.
(قِيلَ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨))
قوله تعالى : (يا نُوحُ اهْبِطْ) قال ابن عباس : يريد : من السّفينة إلى الأرض (بِسَلامٍ مِنَّا) أي : بسلامة. قوله تعالى : (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) قال المفسّرون : البركات عليه أنه صار أبا للبشر جميعا ،
لأنّ جميع الخلق من نسله (وَعَلى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ) قال ابن عباس : يريد من ولدك. قال ابن الأنباري : المعنى
من ذراري من معك ، والمراد المؤمنون من ذرّيته. ثم ذكر الكفّار فقال عزوجل : (وَأُمَمٌ) أي من الذّريّة أيضا ، والمعنى : وفيمن نصف لك أمم وفيمن
نقصّ عليك أمره أمم (سَنُمَتِّعُهُمْ) أي في
__________________
الدنيا (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ
أَلِيمٌ) في الآخرة. قال محمّد بن كعب القرظيّ : لم يبق مؤمن ولا
مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إلى أن تقوم السّاعة إلّا وقد دخل في
ذلك السّلام والبركات ، ولم يبق كافر إلّا دخل في ذلك المتاع والعذاب.
(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ
أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا
قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي
آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣))
قوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) في المشار إليه ب «تلك» قولان : أحدهما : قصّة نوح. والثاني : آيات القرآن ، والمعنى : تلك من أخبار ما غاب عنك وعن
قومك.
فإن قيل : كيف قال
هاهنا : «تلك» ، وفي مكان آخر «ذلك»؟
فقد أجاب عنه ابن
الأنباري ، فقال : «تلك» إشارة إلى آيات القرآن ، و «ذلك» إشارة إلى الخبر والحديث
، وكلاهما معروف في اللغة الفصيحة ، يقول الرجل : قد قدم فلان ، فيقول سامع قوله :
قد فرحت به ، وقد سررت بها ، فإذا ذكّر ، عنى القدوم ، وإذا أنّث ، ذهب إلى
القدمة.
قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ هذا) يعني القرآن. (فَاصْبِرْ) كما صبر نوح على أذى قومه (إِنَّ الْعاقِبَةَ) أي آخر الأمر بالظّفر والتّمكين (لِلْمُتَّقِينَ) أي لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح.
قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي : ما أنتم إلّا في إشراككم مع الله الأوثان. وما بعد
هذا قد سبق تفسيره إلى قوله : (يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً) وهذا أيضا قد سبق تفسيره في سورة الأنعام . والسبب في قوله لهم ذلك ، أنّ الله حبس المطر عنهم ثلاث
سنين وأعقم أرحام نسائهم ، فوعدهم إحياء بلادهم وبسط الرّزق لهم إن آمنوا.
قوله تعالى : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الولد وولد الولد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : يزدكم شدّة إلى شدّتكم ، قاله مجاهد ، وابن زيد. والثالث : خصبا إلى خصبكم ، قاله الضّحّاك.
قوله تعالى : (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) قال مقاتل : لا تعرضوا عن التّوحيد مشركين.
قوله تعالى : (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي : بحجّة واضحة. (وَما نَحْنُ
بِتارِكِي آلِهَتِنا) يعنون الأصنام (عَنْ قَوْلِكَ) أي : بقولك ، و «الباء» و «عن» يتعاقبان.
__________________
(إِنْ نَقُولُ إِلاَّ
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا
أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ
لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ
دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
(٥٦))
قوله تعالى : (إِنْ نَقُولُ) أي : ما نقول في سبب مخالفتك إيّانا إلّا أنّ بعض آلهتنا
أصابك بجنون لسبّك إيّاها ، فالذي تظهر من عيبها لما لحق عقلك من التّغيير. قال
ابن قتيبة : يقال : عراني كذا ، واعتراني : إذا ألمّ بي. ومنه قيل لمن أتاك يطلب
نائلك : عار ، ومنه قول النّابغة :
أتيتك عاريا
خلقا ثيابي
|
|
على خوف تظنّ بي
الظّنون
|
قوله تعالى : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا
أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) إلى آخر الآية. حرّك ياء «إني» نافع. ومعنى الآية : إن
كنتم تقولون : إنّ الآلهة عاقبتني لطعني عليها ، فإنّي على يقين من عيبها والبراءة
منها ، وها أنا ذا أزيد في الطّعن عليها ، (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أي : احتالوا أنتم وأوثانكم في ضرّي ، ثم لا تمهلون. قال
الزّجّاج : وهذا من أعظم آيات الرّسل ، أن يكون الرّسول وحده وأمّته متعاونة عليه
، فيقول لهم : كيدوني ، فلا يستطيع أحد منهم ضرّه ، وكذلك قال نوح لقومه : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) . وقال محمّد صلىاللهعليهوسلم : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
كَيْدٌ فَكِيدُونِ) .
قوله تعالى : (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) قال أبو عبيدة : المعنى : أنّها في قبضته وملكه وسلطانه. فإن
قيل : لم خصّ النّاصية؟ فالجواب : أنّ النّاصية هي شعر مقدّم الرّأس ، فإذا أخذت
بها من شخص ، فقد ملكت سائر بدنه ، وذلّ لك.
قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال مجاهد : على الحقّ. وقال غيره : في الكلام إضمار ،
تقديره : إنّ ربّي يدلّ على صراط مستقيم.
فإن قيل ما وجه
المناسبة بين قوله : (إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها) وبين كونه (عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ)؟ فعنه جوابان : أحدهما
: أنه لمّا أخبر
أنه آخذ بنواصي الخلق ، كان معناه : أنّهم لا يخرجون عن قبضته ، فأخبر أنه على
طريق لا يعدل عنه هارب ، ولا يخفى عليه مستتر. والثاني : أنّ المعنى : أنه وإن كان قادرا عليهم ، فهو لا يظلمهم ،
ولا يريد إلّا العدل ، ذكرهما ابن الأنباري.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي
قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ (٥٧))
__________________
قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فيه قولان : أحدهما : أنه فعل ماض ، معناه : فإن أعرضوا : فعلى هذا ، في الآية
إضمار ، تلخيصه : فإن أعرضوا فقل لهم : قد أبلغتكم ، هذا مذهب مقاتل في آخرين. والثاني : أنه خطاب للحاضرين ، وتقديره : فإن تتولّوا ، فاستثقلوا
الجمع بين تاءين متحركتين ، فاقتصر على إحداهما ، وأسقطت الأخرى ، كما قال
النّابغة :
المرء يهوى أن
يعي
|
|
ش وطول عيش قد
يضرّه
|
تفنى بشاشته ويب
|
|
قى بعد حلو
العيش مرّه
|
وتصرّف الأيّام
حتّ
|
|
ى ما يرى شيئا
يسرّه
|
أراد : وتتصرّف
الأيام ، فأسقط إحدى التّاءين ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً
غَيْرَكُمْ) فيه وعيد لهم بالهلاك. (إِنَّ رَبِّي عَلى
كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) فيه قولان : أحدهما : حفيظ على أعمال العباد حتى يجازيهم بها. والثاني : أنّ «على» بمعنى اللام ، فالمعنى : لكلّ شيء حافظ ، فهو
يحفظني من أن تنالوني بسوء.
(وَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨))
قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) فيه قولان : أحدهما : جاء عذابنا ، قاله ابن عباس. والثاني : جاء أمرنا بهلاكهم. قوله تعالى : (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) فيه قولان : أحدهما : نجّيناهم من العذاب بنعمتنا. والثاني : نجّيناهم بأن هديناهم إلى الإيمان ، وعصمناهم من الكفر ،
روي القولان عن ابن عباس. قوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ
عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : شديد ، وهو ما استحقّه قوم هود من عذاب الدنيا
والآخرة.
(وَتِلْكَ عادٌ
جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩))
قوله تعالى : (وَتِلْكَ عادٌ) يعني القبيلة (وَعَصَوْا رُسُلَهُ). لقائل أن يقول : إنّما أرسل إليهم هود وحده ، فكيف ذكر
بلفظ الجمع؟
فالجواب من ثلاثة
أوجه : أحدها
: أنه قد يذكر لفظ
الجمع ويراد به الواحد ، كقوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ) والمراد به النبيّ صلىاللهعليهوسلم وحده. والثاني
: أنّ من كذّب
رسولا واحدا فقد كذّب الكلّ. والثالث
: أنّ كلّ مرّة
ينذرهم فيها هي رسالة مجدّدة وهو بها رسول.
قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا) أي : واتّبع الأتباع أمر الرّؤساء. والجبّار : الذي طال
وفات اليد.
وللعلماء في
الجبّار أربعة أقوال : أحدها
: أنه الذي يقتل
على الغضب ويعاقب على الغضب ، قاله الكلبيّ. والثاني : أنه الذي يجبر الناس على ما يريد ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنه المسلّط. والرابع : أنه العظيم في نفسه ، المتكبّر على العباد ، ذكرهما ابن
الأنباري. والذي ذكرناه يجمع هذه الأقوال ، وقد زدنا هذا شرحا في (المائدة). وأمّا
العنيد : فهو الذي لا يقبل الحقّ. قال ابن قتيبة : العنود ، والعنيد ، والعاند :
المعارض لك بالخلاف عليك.
(وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا
رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ
ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ
فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا
وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ
(٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا
بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا
سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩))
قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً) أي : ألحقوا لعنة تنصرف معهم. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : وفي يوم القيامة لعنوا أيضا (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي بربّهم ، فحذف الباء ، وأنشدوا :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
قال الزّجّاج :
قوله : «ألا» ابتداء وتنبيه ، و «بعدا» منصوب على معنى : أبعدهم الله فبعدوا بعدا
، والمعنى : أبعدهم من رحمته.
قوله تعالى : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فيه قولان : أحدهما : خلقكم من آدم ، وآدم خلق من الأرض. والثاني : أنشأكم في الأرض.
وفي قوله : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) ثلاثة أقوال : أحدها : أعمركم فيها ، أي : جعلكم ساكنيها مدّة أعماركم ، ومنه
العمرى ، وهذا قول مجاهد. والثاني
: أطال أعماركم ،
وكانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة ، قاله الضّحّاك. والثالث : جعلكم عمّارها ، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ
هذا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم كانوا
يرجونه للمملكة بعد ملكهم ، لأنه كان ذا حسب وثروة ، قاله كعب. والثاني : أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم ، وكانوا يرجون رجوعه
إلى دينهم ، فلمّا أظهر إنذارهم ، انقطع رجاؤهم منه ، وإلى نحو هذا ذهب مقاتل. والثالث : أنهم كانوا يرجون خيره ، فلمّا أنذرهم ، زعموا أنّ رجاءهم
لخيره قد انقطع ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍ) إن قال قائل : لم قال ها هنا : «وإننا» وقال في «إبراهيم»
: «وإنّا»؟ فالجواب : أنهما لغتان من لغات قريش السّبع التي نزل القرآن عليها. قال
الفرّاء : من قال : «إنّنا» أخرج
__________________
الحرف على أصله ،
لأنّ كناية المتكلّمين «نا» فاجتمعت ثلاث نونات ، نونا «إن» والنون المضمومة إلى
الألف ؛ ومن قال : «إنا» اسثقل الجمع بين ثلاث نونات ، فأسقط الثالثة ، وأبقى
الأولتين ؛ وكذلك يقال : إنّ وإنّني ، ولعلّي ولعلّني ، وليتي وليتني ، قال الله
تعالى في اللغة العليا : (لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبابَ) ، وقال الشاعر في اللغة الأخرى :
أريني جوادا مات
هزلا لعلّني
|
|
أرى ما ترين أو
بخيلا مخلّدا
|
وقال الله تعالى :
(يا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ) ، وقال الشاعر :
كمنية جابر إذ
قال ليتي
|
|
أصادقه وأتلف
بعض مالي
|
فأمّا المريب ،
فهو الموقع للرّيبة والتّهمة. والرّحمة يراد بها ها هنا : النّبوّة.
قوله تعالى : (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) التّخسير : النّقصان. وفي معنى الكلام قولان : أحدهما : فما تزيدونني غير بصارة في خسارتكم ، قاله ابن عباس. وقال
الفرّاء : المعنى : فما تزيدونني غير تخسير لكم ، أي : كلّما اعتذرتم عندي بعذر
فهو يزيدكم تخسيرا. وقال ابن الأعرابي : غير تخسير لكم ، لا لي. وقال بعضهم :
المعنى : فما تزيدونني بما قلتم إلّا نسبتي لكم إلى الخسارة. والقول الثاني : فما تزيدونني غير الخسران إن رجعت إلى دينكم ، وهذا معنى
قول مقاتل. فإن قيل : فظاهر هذا أنه كان خاسرا ، فزادوه خسارا ، فقد أسلفنا الجواب
في قوله : (لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) .
قوله تعالى : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) قد شرحناها في سورة الأعراف .
قوله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) أي : استمتعوا بحياتكم ، وعبّر عن الحياة بالتّمتّع ، لأنّ
الحيّ يكون متمتّعا بالحواس.
قوله تعالى : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) قال المفسّرون : لمّا عقرت النّاقة صعد فصيلها إلى الجبل ،
ورغا ثلاث مرّات ، فقال صالح : لكلّ رغوة أجل يوم ، ألا إنّ اليوم الأول تصبح
وجوهكم مصفرّة ، واليوم الثاني محمرّة ، واليوم الثالث مسودّة ؛ فلمّا أصبحوا في
اليوم الأول ، إذا وجوههم مصفرّة ، فصاحوا وضجّوا ، وبكوا ، وعرفوا أنّه العذاب ،
فلمّا أصبحوا في اليوم الثاني ، إذا وجوههم محمرّة ، فضجّوا ، وبكوا ، فلمّا
أصبحوا في اليوم الثالث ، إذا وجوههم مسودّة كأنما طليت بالقار ، فصاحوا جميعا :
ألا قد حضركم العذاب ؛ فتكفّنوا وألقوا أنفسهم بالأرض ، لا يدرون من أين يأتيهم
العذاب ، فلمّا أصبحوا في اليوم الرّابع ، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ
صاعقة ، فتقطّعت قلوبهم في صدورهم. وقال مقاتل : حفروا لأنفسهم قبورا ، فلمّا
ارتفعت الشمس من اليوم الرابع ولم يأتهم العذاب ظنّوا أنّ الله قد رحمهم فخرجوا من
قبورهم يدعو بعضهم بعضا ، إذ نزل جبريل فقام فوق المدينة فسدّ ضوء الشمس فلمّا
عاينوه
__________________
دخلوا قبورهم فصاح
بهم صيحة : موتوا عليكم لعنة الله ، فخرجت أرواحهم وتزلزلت بيوتهم فوقعت على
قبورهم.
قوله تعالى : (ذلِكَ وَعْدٌ) أي : العذاب (غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي : غير كذب.
قوله تعالى : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر «يومئذ» بكسر الميم.
وقرأ الكسائيّ بفتحها مع الإضافة. قال مكّيّ : من كسر الميم ، أعرب وخفض ، لإضافة
الخزي إلى اليوم ، ولم يبنه ؛ ومن فتح ، بنى اليوم على الفتح ، لإضافته إلى غير
متمكّن ، وهو «إذ». وقرأ ابن مسعود «ومن خزي» بالتنوين ، «يومئذ» بفتح الميم. قال
ابن الأنباري : هذه الواو في قوله «ومن خزي» معطوفة على محذوف ، تقديره : نجّيناهم
من العذاب ومن خزي يومئذ. قال : ويجوز أن تكون دخلت لفعل مضمر ، تأويله : نجّينا
صالحا والذين آمنوا معه برحمة منّا ، ونجّيناهم من خزي يومئذ. قال : وإنّما قال : «وأخذ»
لأنّ الصّيحة محمولة على الصّياح.
قوله تعالى : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) اختلفوا في صرف «ثمود» وترك إجرائه في خمسة مواضع : في (هود
:) (أَلا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) ، وفي (الفرقان) (وَعاداً وَثَمُودَ
وَأَصْحابَ الرَّسِ) ، وفي (العنكبوت) (وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) ، وفي (النّجم) (وَثَمُودَ فَما
أَبْقى) . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر بالتنوين
في أربعة مواضع منها ، وتركوا (أَلا بُعْداً
لِثَمُودَ) فلم يصرفوه. وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف ،
وصرفهنّ الكسائيّ. واختلف عن عاصم ، فروى حسين الجعفيّ عن أبي بكر عنه أنه أجرى
الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو ؛ وروى يحيى بن أدم أنه أجرى ثلاثة ، في (هود) (أَلا إِنَّ ثَمُودَ) ، وفي (الفرقان) و (العنكبوت). وروى حفص عنه أنه لم يجر
شيئا منها مثل حمزة.
واعلم أنّ ثمودا
يراد به القبيلة تارة ويراد به الحيّ تارة. فإذا أريد به القبيلة لم يصرف ، وإذا
أريد به الحيّ صرف. وما أخللنا به فقد سبق تفسيره إلى قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ). والرّسل ها هنا : الملائكة. وفي عددهم ستة أقوال : أحدها : أنهم كانوا ثلاثة ، جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، قاله
ابن عباس ، وسعيد بن جبير. وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت. والثاني : أنهم كانوا اثني
عشر ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث
: ثمانية ، قاله
محمّد بن كعب. والرابع
: تسعة ، قاله
الضّحّاك. والخامس
: أحد عشر ، قاله
السّدّيّ. والسادس
: أربعة ، حكاه
الماوردي. وفي هذه البشرى أربعة أقوال : أحدها
: أنها البشرى
بالولد ، قاله الحسن ، ومقاتل. والثاني
: بهلاك قوم لوط ،
قاله
__________________
قتادة. والثالث : بنبوّته ، قاله عكرمة. والرابع : بأنّ محمّدا صلىاللهعليهوسلم يخرج من صلبه ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (قالُوا سَلاماً) قال ابن الأنباري : انتصب بالقول ، لأنه حرف مقول ،
والسلام الثاني مرفوع بإضمار «عليكم». وقال الفرّاء : فيه وجهان :
أحدهما
: أنه أضمر «عليكم»
كما قال الشاعر :
فقلنا السّلام
فاتّقت من أميرها
|
|
فما كان إلّا
ومؤها بالحواجب
|
والعرب تقول :
التقينا فقلنا : سلام سلام.
والثاني
: أنّ القوم سلّموا
، فقال حين أنكرهم هو : سلام ، فمن أنتم؟ لإنكاره إيّاهم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ :
«قال سلم» ، وهو بمعنى : سلام ، كما قالوا : حلّ وحلال ، وحرم وحرام ؛ فعلى هذا ،
يكون معنى «سلم» : سلام عليكم. قال أبو علي : فيكون معنى القراءتين واحدا وإن
اختلف اللفظان . وقال الزّجّاج : من قرأ «سلم» فالمعنى : أمرنا سلم ، أي :
لا بأس علينا.
قوله تعالى : (فَما لَبِثَ) أي : ما أقام حتى جاء بعجل حنيذ ، لأنه ظنّهم أضيافا ،
وكانت الملائكة قد جاءته في صورة الغلمان الوضاء.
وفي الحنيذ ستة
أقوال : أحدها
: أنه النّضيج ،
قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والثاني
: أنه الذي يقطر
ماؤه ودسمه وقد شوي ، قاله شمر بن عطيّة. والثالث : أنه ما حفرت الأرض ثم غممته ، وهو من فعل أهل البادية
معروف ، وأصله محنوذ ، فقيل : حنيذ ، كما قيل : طبيخ للمطبوخ ، وقتيل للمقتول. هذا
قول الفرّاء. والرابع
: أنه المشويّ ،
قاله أبو عبيدة. والخامس
: المشويّ بالحجارة
المحماة ، قاله مقاتل وابن قتيبة. والسادس : السّميط ، ذكره الزّجّاج وقال : يقال إنّه المشويّ فقط ،
ويقال المشويّ الذي يقطر ، ويقال المشويّ بالحجارة.
(فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠))
قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ) يعني الملائكة (لا تَصِلُ إِلَيْهِ) يعني العجل (نَكِرَهُمْ) أي : أنكرهم. قال أبو عبيدة : نكرهم وأنكرهم واستنكرهم ،
سواء ، قال الأعشى :
وأنكرتني وما
كان الّذي نكرت
|
|
من الحوادث إلّا
الشّيب والصّلعا
|
قوله تعالى : (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي : أضمر في نفسه خوفا. قال الفرّاء : وكانت سنّة في
زمانهم إذا ورد عليهم القوم فأتوهم بالطّعام فلم يمسّوه ، ظنّوا أنهم عدوّ أو لصوص
، فهنالك أوجس في
__________________
نفسه خيفة ، فرأوا
ذلك في وجهه ، فقالوا : (لا تَخَفْ).
قوله تعالى : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) قال الزّجّاج : أي : أرسلنا بالعذاب إليهم. قال ابن
الأنباري : وإنما أضمر ذلك ها هنا ، لقيام الدليل عليه بذكر الله تعالى له في سورة
أخرى.
(وَامْرَأَتُهُ
قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ
(٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ
هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢))
قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) واسمها سارة. واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال :
أحدها
: وراء السّتر تسمع
كلامهم ، قاله وهب. والثاني
: كانت قائمة
تخدمهم ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثالث : كانت قائمة تصلّي ، قاله محمّد بن إسحاق.
وفي قوله : (فَضَحِكَتْ) ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ الضّحك ها
هنا بمعنى التّعجب ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ معنى «ضحكت» حاضت ، قاله مجاهد وعكرمة. قال ابن قتيبة
: وهذا من قولهم : ضحكت الأرنب : إذا حاضت فعلى هذا : يكون حيضها حينئذ تأكيدا
للبشارة بالولد. لأن من لا تحيض لا تحمل. وقال الفراء : لم نسمع من ثقة أن معنى (ضحكت)
حاضت. قال ابن الأنباري : أنكر الفرّاء ، وأبو عبيدة ، وأبو عبيد ، أن يكون «ضحكت»
بمعنى حاضت وعرّفه غيرهم. قال الشاعر :
تضحك الضّبع
لقتلى هذيل
|
|
وترى الذّئب لها
يستهل
|
قال بعض أهل اللغة
: معناه : تحيض .
والثالث
: أنه الضّحك
المعروف ، وهو قول الأكثرين.
وفي سبب ضحكها ستة
أقوال : أحدها
: أنها ضحكت من شدة
خوف إبراهيم من أضيافه ، وقالت : من ما ذا يخاف إبراهيم ، وإنّما هم ثلاثة ، وهو
في أهله وغلمانه؟! رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. والثاني : أنها ضحكت من بشارة الملائكة لإبراهيم بالولد ، وهذا مرويّ
عن ابن عباس أيضا ، ووهب بن منبّه ؛ فعلى هذا ، إنما ضحكت سرورا بالبشارة ، ويكون
في الآية تقديم وتأخير ، المعنى : وامرأته قائمة فبشّرناها فضحكت ، وهو اختيار ابن
قتيبة. والثالث
: ضحكت من غفلة قوم
لوط وقرب العذاب منهم ، قاله قتادة. والرابع : ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل ، وقالت : عجبا لأضيافنا ،
نخدمهم بأنفسنا ، وهم لا يأكلون طعامنا! قاله السّدّيّ. والخامس : ضحكت سرورا
__________________
بالأمن ، لأنها
خافت كخوف إبراهيم ، قاله الفرّاء. والسادس : أنها كانت قالت لإبراهيم : اضمم إليك ابن أخيك لوطا ، فإنه
سينزل العذاب بقومه ، فلمّا جاءت الملائكة بعذابهم ، ضحكت سرورا بموافقتها للصّواب
، ذكره ابن الأنباري.
قال المفسّرون :
قال جبريل لسارة : أبشري أيّتها الضّاحكة بولد اسمه إسحاق ، (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ، فبشّروها أنها تلد إسحاق ، وأنها تعيش إلى أن ترى ولد
الولد. وفي معنى الوراء قولان : أحدهما
: أنه بمعنى «بعد»
، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره مقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : أنّ الوراء : ولد الولد ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال
الشّعبيّ ، واختاره أبو عبيدة. فإن قيل : كيف يكون يعقوب وراء إسحاق وهو ولده
لصلبه ، وإنّما الوراء : ولد الولد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : المعنى :
ومن وراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب ، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق ،
فلو قال : ومن الوراء يعقوب ، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق ، أم إلى
إسماعيل؟ فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس. قال : ويجوز أن ينسب ولد
إبراهيم من غير إسحاق إلى سارة على جهة المجاز ، فكان تأويل الآية : من الوراء
المنسوب إلى سارة ، وإلى إبراهيم من جهة إسحاق ، يعقوب. ومن حمل الوراء على «بعد»
لزم ظاهر العربية.
واختلف القرّاء في
«يعقوب» ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «يعقوب»
بالرّفع. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : (يَعْقُوبَ) بالنّصب.
قال الزّجّاج :
وفي رفع «يعقوب» وجهان : أحدهما
: على الابتداء
المؤخّر ، معناه التّقديم ؛ والمعنى : ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق. والثاني : وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب.
ومن نصبه. حمله
على المعنى ، والمعنى : وهبنا لها إسحاق ، ووهبنا لها يعقوب.
قوله تعالى : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) هذه الكلمة تقال عند الإيذان بورود الأمر العظيم. ولم ترد
بها الدّعاء على نفسها ، وإنما هي كلمة تخفّ على ألسنة النّساء عند الأمر العجيب.
وقولها : (أَأَلِدُ) استفهام تعجّب. قال الزّجّاج : و (شَيْخاً) منصوب على الحال. قال ابن الأنباري : إنما أشارت بقولها
هذا لتنبّه على شيخوخيّته. واختلفوا في سنّ إبراهيم وسارة يومئذ على أربعة أقوال : أحدها
: أنه كان إبراهيم
ابن تسع وتسعين سنة ، وسارة بنت ثمان وتسعين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه كان إبراهيم ابن مائة سنة ، وسارة بنت تسع وتسعين ،
قاله مجاهد. والثالث
: كان إبراهيم ابن
تسعين ، وسارة مثله ، قاله قتادة. والرابع : كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة ، وسارة بنت تسعين ، قاله
عبيد بن عمير ، وابن إسحاق.
(قالُوا أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ
إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))
قوله تعالى : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : من قضائه وقدرته ، وهو إيجاد ولد من بين كبيرين. قال
السّدّيّ : قالت سارة لجبريل : ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه
فاهتزّ أخضر ،
__________________
فقالت : هو إذن
لله ذبيح. قوله تعالى : (رَحْمَتُ اللهِ
وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) فيه وجهان : أحدهما : أنه من دعاء الملائكة لهم. والثاني : أنه إخبار عن ثبوت ذلك لهم. ومن تلك البركات وجود أكثر
الأنبياء والأسباط من إبراهيم وسارة. والحميد بمعنى المحمود. فأمّا المجيد ، فقال
ابن قتيبة : المجيد. بمعنى الماجد ، وهو الشّريف. وقال أبو سليمان الخطّابي : هو
الواسع الكرم. وأصل المجد في كلامهم : السّعة ، يقال : رجل ماجد : إذا كان سخيّا
واسع العطاء. وفي بعض الأمثال : في كلّ شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار ، أي : استكثرا منها.
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ
هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ
مَرْدُودٍ (٧٦))
قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ
الرَّوْعُ) يعني الفزع الذي أصابه حين امتنعوا من الأكل (يُجادِلُنا) فيه إضمار أخذ وأقبل يجادلنا ، والمراد : يجادل رسلنا.
قال المفسّرون :
لمّا قالوا له : (إِنَّا مُهْلِكُوا
أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قال : أتهلكون قرية فيها مائة مؤمن؟ قالوا : لا. قال : أتهلكون
قرية فيها خمسون مؤمنا؟ قالوا : لا. قال : أربعون؟ قالوا : لا ؛ فما زال ينقص حتى
قال : فواحد؟ قالوا : لا. فقال حينئذ : (إِنَّ فِيها لُوطاً
قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) ، هذا قول ابن إسحاق. وقال غيره : قيل له : إن كان فيهم
خمسة لم نعذّبهم ، فما كان فيهم سوى لوط وابنتيه. وقال سعيد بن جبير : قال لهم : أتهلكون
قرية فيها أربعة عشر مؤمنا؟ قالوا : لا ؛ وكان إبراهيم يعدّهم أربعة عشر مع امرأة
لوط ، فسكت واطمأنّت نفسه ؛ وإنما كانوا ثلاثة عشر فأهلكوا. قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) قد فسّرناه في (براءة) . فعند ذلك قالت الرّسل لإبراهيم : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) يعنون الجدال. (إِنَّهُ قَدْ جاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ) بعذابهم. وقيل : قد جاء عذاب ربّك ، فليس بمردود ، لأنّ
الله تعالى قد قضى به.
(وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ
(٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا
اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا
لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ
(٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ
امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١))
قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) قال المفسّرون : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية
__________________
لوط ، فأتوها
عشاء. وقال السّدّيّ عن أشياخه : أتوها نصف النّهار ، فلمّا بلغوا نهر سدوم لقوا
بنت لوط تستقي الماء لأهلها ، فقالوا لها : يا جارية ، هل من منزل؟ قالت : نعم ،
مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم ، فرقا عليهم من قومها ؛ فأتت أباها ، فقالت : يا
أبتاه ، أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم ، لا يأخذهم
قومك فيفضحوهم ؛ وقد كان قومه نهوه أن يضيّف رجلا ؛ فجاء بهم ، ولم يعلم بهم أحد
إلّا أهل بيت لوط ؛ فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، فجاؤوا يهرعون إليه.
قوله تعالى : (سِيءَ بِهِمْ) فيه قولان : أحدهما : ساء ظنّه بقومه ، قاله ابن عباس. والثاني : ساءه مجيء الرّسل ، لأنه لم يعرفهم ، وأشفق عليهم من قومه
، قاله ابن جرير. قال الزّجّاج : وأصل «سيء بهم» سوئ بهم ، من السّوء ، إلّا أنّ
الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السّين.
قوله تعالى : (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) قال ابن عباس : ضاق ذرعا بأضيافه. قال الفرّاء : الأصل فيه
: وضاق ذرعه بهم ، فنقل الفعل عن الذّرع إلى ضمير لوط ، ونصب الذّرع بتحوّل الفعل
عنه ، كما قال : (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) ومعناه : اشتعل شيب الرّأس. قال الزّجّاج : يقال : ضاق
فلان بأمره ذرعا : إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصا. وذكر ابن الأنباري
فيه ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ معناه : وقع
به مكروه عظيم لا يصل إلى دفعه عن نفسه ؛ فالذّرع كناية عن هذا المعنى. والثاني : أنّ معناه : ضاق صبره وعظم المكروه عليه ؛ وأصله من : ذرع
فلانا القيء : إذا غلبه وسبقه. والثالث
: أنّ المعنى : ضاق
بهم وسعه ، فناب الذّرع والذّراع عن الوسع ، لأنّ الذّراع من اليد ، والعرب تقول :
ليس هذا في يدي ، يعنون : ليس هذا في وسعي ؛ ويدلّ على صحة هذا أنهم يجعلون
الذّراع في موضع الذّرع ، فيقولون : ضقت بهذا الأمر ذراعا ، قال الشاعر :
إليك إليك ضاق بهم ذراعا
فأما العصيب ،
فقال أبو عبيدة : العصيب : الشديد الذي يعصب الناس بالشّرّ ، وأنشد :
يوم عصيب يعصب
الأبطالا
|
|
عصب القويّ
السّلم الطّوالا
|
وقال أبو عبيد :
يقال : يوم عصيب ويوم عصبصب : إذا كان شديدا.
قوله تعالى : (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) قال ابن عباس ، ومجاهد : «يهرعون» يسرعون. وقال الفرّاء ،
والكسائيّ : لا يكون الإهراع إلّا إسراعا مع رعدة. قال ابن قتيبة : الإهراع شبيه
بالرّعدة ، يقال : أهرع الرجل : إذا أسرع ، على لفظ ما لم يسمّ فاعله ، كما يقال :
أرعد. قال ابن الأنباري : الإهراع فعل واقع بالقوم وهو لهم في المعنى ، كما قالت
العرب : قد أولع الرجل بالأمر ، فجعلوه مفعولا ، وهو صاحب الفعل ، ومثله : أرعد
زيد ، وسهي عمرو من السّهو ، كلّ واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدّرا تقدير
المفعول ، وهو صاحب الفعل لا يعرف له فاعل غيره. قال : وقال بعض النّحويين : لا
يجوز للفعل أن يجعل فاعله مفعولا ، وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها محذوفون ،
وتأويل «أولع زيد» : أولعه طبعه وجبلّته ، و «أرعد الرجل» : أرعده غضبه ، و «سهي
عمرو» جعله ساهيا ماله أو جهله ، و «أهرع» معناه : أهرعه خوفه ورعبه ؛ فلهذه
العلّة خرّج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به. قال : وقال بعض
__________________
اللغويين : لا
يكون الإهراع إلّا إسراع المذعور الخائف ؛ لا يقال لكلّ مسرع : مهرع حتى ينضمّ إلى
إسراعه جزع وذعر. قال المفسّرون : سبب إهراعهم ، أنّ امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف.
(وَمِنْ قَبْلُ) أي : ومن قبل مجيئهم إلى لوط (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) يعني فعلهم المنكر. وفي قوله : (هؤُلاءِ بَناتِي) قولان :
أحدهما
: أنهنّ بناته
لصلبه ، قاله ابن عباس. فإن قيل : كيف جمع ، وإنّما كنّ اثنتين؟
فالجواب : أنه قد
يقع الجمع على اثنين ، كقوله : (وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ).
والثاني
: أنه عنى نساء
أمّته ، لأنّ كلّ نبيّ أبو أمّته ، والمعنى : أنه عرض عليهم التّزويج ، أو أمرهم
أن يكتفوا بنسائهم ، وهذا مذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج.
فإن قيل : كيف عرض
تزويج المؤمنات على الكافرين؟ فعنه جوابان :
أحدهما
: أنه قد كان يجوز
ذلك في شريعته ، وكان جائزا في صدر الإسلام حتى نسخ ، قاله الحسن. والثاني : أنه عرض ذلك عليهم بشرط إسلامهم ، قاله الزّجّاج ، ويؤكّده
أنّ عرضهنّ عليهم موقوف على عقد النّكاح ، فجاز أن يقف على شرط آخر.
قوله تعالى : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قال مقاتل : هنّ أحلّ من إتيان الرّجال.
قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ) فيه قولان : أحدهما : اتّقوا عقوبته. والثاني : اتّقوا معصيته.
قوله تعالى : (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) حرّك ياء «ضيفي» أبو عمرو ، ونافع. وفي معنى هذا الخزي
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه الفضيحة ،
قاله ابن عباس. والثاني
: الاستحياء ،
والمعنى : لا تفعلوا بأضيافي فعلا يلزمني الاستحياء منه ، لأنّ المضيف يلزمه
الاستحياء من كلّ فعل يصل إلى ضيفه. والعرب تقول : قد خزي الرّجل يخزى خزاية : إذا
استحيا ، قال الشاعر :
من البيض لا
تخزى إذا الرّيح ألصقت
|
|
بها مرطها أو
زايل الحلي جيدها
|
والثالث
: أنه بمعنى الهلاك
، لأنّ المعرّة التي تقع بالمضيف في هذه الحال تلزمه هلكة ، ذكرهما ابن الأنباري.
قال ابن قتيبة : والضّيف ها هنا : بمعنى الأضياف ، والواحد يدلّ على الجميع ، كما
تقول : هؤلاء رسولي ووكيلي.
قوله تعالى : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) في المراد بالرّشيد قولان : أحدهما : المؤمن.
والثاني
: الآمر بالمعروف
والنّاهي عن المنكر ، رويا عن ابن عباس.
قال ابن الأنباري
: يجوز أن يكون الرّشيد بمعنى المرشد ، فيكون المعنى : أليس منكم مرشد يعظكم
ويعرّفكم قبيح ما تأتون؟ فيكون الرّشيد من صفة الفاعل ، كالعليم ، والشّهيد. ويجوز
أن يكون الرّشيد بمعنى المرشد ، فيكون المعنى : أليس منكم رجل قد أسعده الله بما
منحه من الرّشاد يصرفكم عن إتيان هذه المعرّة؟ فيجري رشيد مجرى مفعول ، كالكتاب
الحكيم بمعنى المحكم.
قوله تعالى : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) فيه قولان : أحدهما : ما لنا فيهنّ حاجة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : لسن لنا بأزواج فنستحقّهنّ ، قاله ابن إسحاق ، وابن قتيبة.
__________________
قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) قال عطاء : وإنّك لتعلم أنّا نريد الرجال ، لا النساء.
قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي : جماعة أقوى بهم عليكم. وقيل : أراد بالقوّة البطش. (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي : أنضمّ إلى عشيرة وشيعة تمنعني. وجواب «لو» محذوف على
تقدير : لحلت بينكم وبين المعصية. قال أبو عبيدة : قوله تعالى : «آوي» من قولهم :
أويت إليك ، فأنا آوي أويّا ، والمعنى : صرت إليك وانضممت. ومجاز الرّكن ها هنا :
العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة ، وأنشد :
يأوي إلى ركن من
الأركان
|
|
في عدد طيس ومجد
باني
|
والطّيس : الكثير
، يقال : أتانا لبن طيس ، وشراب طيس ، أي : كثير.
واختلفوا أي وقت
قال هذا لوط ؛ فروي عن ابن عباس أنّ لوطا كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار
، وهو يناظرهم ويناشدهم وراء الباب ، وهم يعالجون الباب ويرومون تسوّر الجدار ؛
فلمّا رأت الملائكة ما يلقى من الكرب ، قالوا : يا لوط إنّا رسل ربّك ، فافتح
الباب ودعنا وإيّاهم ؛ ففتح الباب ، فدخلوا ، واستأذن جبريل ربّه في عقوبتهم ،
فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم ، فانصرفوا يقولون : النّجاء النّجاء ، فإنّ
في بيت لوط أسحر قوم في الأرض ؛ وجعلوا يقولون : يا لوط ، كما أنت حتى تصبح ،
يوعدونه ؛ فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم؟ قالوا : الصّبح ، قال : لو أهلكتموهم
الآن ، فقالوا : أليس الصّبح بقريب؟ وقال أبو صالح عن ابن عباس : إنّهم لمّا
تواعدوه ، قال في نفسه : ينطلق هؤلاء القوم غدا من عندي ، وأبقى مع هؤلاء فيهلكوني
، فقال : لو أنّ لي بكم قوّة.
قلت : وإنما
يتوجّه هذا إذا قلنا : إنه كان قبل علمه أنهم ملائكة. وقال قوم : إنه إنّما قال
هذا لمّا كسروا بابه وهجموا عليه. وقال آخرون : لمّا نهاهم عن أضيافه فأبوا قال
هذا. وفي الجملة ، ما أراد بالرّكن نصر الله وعونه ، لأنه لم يخل من ذلك ، وإنما
ذهب إلى العشيرة والأسرة.
(٧٩٦) وروى أبو
هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «رحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ،
وما بعث الله نبيّا بعده إلّا في ثروة من قومه».
قوله تعالى : (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) قال مقاتل : فيه إضمار ، تقديره : لن يصلوا إليك بسوء ،
وذلك أنهم قالوا للوط : إنّا نرى معك رجالا سحروا أبصارنا ، فستعلم غدا ما تلقى
أنت وأهلك ؛ فقال له جبريل : (إِنَّا رُسُلُ
رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ).
قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) قرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ «فأسر»
____________________________________
(٧٩٦) صدره صحيح
وعجزه حسن ، أخرجه الترمذي ٣١١٦ ، وأحمد ٢ / ٣٣٢ ، والطبري ١٨٤١١ ، ١٨٤١٢ و ١٨٤١٣ و
١٨٤١٦ وابن حبان ٦٢٠٧ من طريق محمد بن عمرو. عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.
وإسناده حسن لأجل
محمد بن عمرو ، فإنه صدوق ، حسن الحديث.
وأخرجه من حديث
أبي هريرة مرفوعا دون عجزه «وما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه» البخاري
٣٣٧٢ و ٤٥٣٧ ، ومسلم ١٥١ و ٢٣٨ والترمذي ٣١١٦ وابن ماجة ٤٠٢٦ والطبري ١٨٤١٤ و ١٨٤١٥
و ١٨٤١٧ ، والبغوي في «شرح السنة» ٦٣ ، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» ٣٢٦.
__________________
بإثبات الهمز في
اللفظ من أسريت. وقرأ ابن كثير ، ونافع «فاسر بأهلك» بغير همز من سريت ، وهما
لغتان. قال الزّجّاج : يقال : سريت ، وأسريت : إذا سرت ليلا ، قال الشاعر :
سريت بهم حتّى
تكلّ مطيّهم
|
|
وحتّى الجياد ما
يقدن بأرسان
|
وقال النّابغة :
أسرت عليه من
الجوزاء سارية تزجي الشّمال عليه جامد البرد وقد رووه : سرت. فأمّا أهله
، فقال مقاتل : هم امرأته وابنتاه ، واسم ابنتيه : ربثا وزعرثا. وقال السّدّيّ :
اسم الكبرى : ريّة ، واسم الصّغرى : عروبة ، والمراد بأهله : ابنتاه. فأمّا القطع
، فهو بمعنى القطعة ؛ يقال : مضى قطع من الليل ، أي : قطعة. قال ابن عباس : يريد
به : آخر الليل. وقال ابن قتيبة : «بقطع» أي : ببقيّة تبقى من آخره. وقال ابن
الأنباري : ذكر القطع بمعنى القطعة مختصّ بالليل ، ولا يقال : عندي قطع من الثّوب
، بمعنى : عندي قطعة.
قوله تعالى : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى : لا يتخلّف منكم أحد ، قاله أبو صالح عن ابن
عباس ، والثاني
: أنه الالتفات
المعروف ، قاله مجاهد ، ومقاتل.
قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَكَ) قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ بنصب التاء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ، وابن جمّاز عن أبي جعفر برفع التاء. قال الزّجّاج : من
قرأ بالنّصب فالمعنى : فأسر بأهلك إلّا امرأتك. ومن قرأ بالرّفع حمله على : «ولا
يلتفت منكم أحد إلا امرأتك». وإنما أمروا بترك الالتفات لئلّا يروا عظيم ما ينزل
بهم من العذاب. قال ابن الأنباري : وعلى قراءة الرّفع يكون الاستثناء منقطعا ،
معناه : لكن امرأتك فإنها تلتفت فيصيبها ما أصابهم ؛ فإذا كان استثناء منقطعا كان
التفاتها معصية لربّها ، لأنه ندب إلى ترك الالتفات. قال قتادة : ذكر لنا أنها
كانت مع لوط حين خرج من القرية ، فلمّا سمعت هدّة العذاب التفتت فقالت : وا قوماه
، فأصابها حجر فأهلكها ، وهو قوله : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما
أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ) للعذاب (الصُّبْحُ).
قوله تعالى : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) قال المفسّرون : قالت الملائكة : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فقال : أريد أعجل من ذلك ، فقالوا له : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)؟
(فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ
مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ
بِبَعِيدٍ (٨٣))
قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أمر الله الملائكة بعذابهم. والثاني : أنّ الأمر بمعنى العذاب. والثالث : أنه بمعنى القضاء بعذابهم.
قوله تعالى : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) الكناية تعود إلى المؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط ، وقد
__________________
ذكرناها في سورة
براءة ، ونحن نشير إلى قصة هلاكهم ها هنا.
قال ابن عباس :
أمر جبريل لوطا بالخروج ، وقال : أخرج وأخرج غنمك وبقرك ، فقال : كيف لي بذلك وقد
أغلقت أبواب المدينة؟ فبسط جناحه ، فحمله وبنتيه وما لهم من شيء ، فأخرجهم من
المدينة ، وسأل جبريل ربّه ، فقال : يا ربّ ولّني هلاك هؤلاء القوم ، فأوحى الله
إليه أن تولّ هلاكهم ؛ فلمّا أن بدا الصّبح ، غدا عليهم جبريل فاحتملها على جناحه
، ثم صعد بها حتى خرج الطّير في الهواء لا يدري أين يذهب ، ثم كفأها عليهم ،
وسمعوا وجبة شديدة ، فالتفتت امرأة لوط ، فرماها جبريل بحجر فقتلها ،
ثم صعد حتى أشرف على الأرض ، فجعل يتّبع مسافرهم ورعاتهم ومن تحوّل عن القرية ،
فرماهم بالحجارة حتى قتلهم. وقال السّدّيّ : اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين ،
فاحتملها حتى بلغ بها إلى أهل السماء الدّنيا ، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ،
ثم قلبها. وقال غيره : كانت خمس قرى ، أعظمها سدّوم ، وكان القوم أربعة آلاف ألف.
وقيل : كان في كلّ قرية مائة ألف مقاتل ، فلمّا رفعها إلى السماء ، لم ينكسر لهم
إناء ولم يسقط حتى قلبها عليهم. وقيل : نجت من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم.
وانفرد سعيد بن جبير ، فقال : إنّ جبريل وميكائيل تولّيا قلبها.
قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القرى. والثاني : إلى الأمّة. وفي السّجّيل سبعة أقوال :
أحدها
: أنها بالفارسيّة
سنك وكل ، السّنك : الحجر ، والكلّ : الطّين ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد
بن جبير. وقال مجاهد : أوّلها حجر ، وآخرها طين. وقال الضّحّاك : يعني الآجرّ. قال
ابن قتيبة : من ذهب إلى هذا القول ، اعتبره بقوله : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) يعني الآجرّ. وحكى الفرّاء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة
الرّحاء . والثاني
: أنه بحر معلّق في
الهواء بين السماء والأرض ، ومنه نزلت الحجارة ، قاله عكرمة. والثالث : أنّ السّجّيل : اسم السماء الدنيا ، فالمعنى : حجارة من
السّماء الدنيا ، قاله ابن زيد. والرابع
: أنه الشديد من
الحجارة الصّلب ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لابن مقبل :
ضربا تواصت به الأبطال سجّينا
وردّ هذا القول
ابن قتيبة ، فقال : هذا بالنون ، وذاك باللام ، وإنما هو في هذا البيت فعيل من
سجنت ، أي : حبست ، كأنّه يثبت صاحبه. والخامس : أنّ قوله : (مِنْ سِجِّيلٍ) كقولك : من سجلّ ، أي : مما كتب لهم أن يعذّبوا به ، وهذا
اختيار الزّجّاج. والسادس
: أنه من أسجلته ،
أي : أرسلته ، فكأنها مرسلة عليهم. والسابع : أنه من أسجلت : إذا أعطيت ، حكى القولين الزّجّاج.
__________________
وفي قوله : (مَنْضُودٍ) ثلاثة أقوال : أحدها : يتبع بعضه بعضا ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه مصفوف ، قاله عكرمة ، وقتادة. والثالث : نضّد بعضه على بعض ، لأنه طين جمع فجعل حجارة ، قاله
الرّبيع بن أنس .
قوله تعالى : (مُسَوَّمَةً) قاله الزّجّاج : أي معلّمة ، أخذ من السّومة ، وهي
العلامة. وفي علامتها ستة أقوال : أحدها : بياض في حمرة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال
الحسن.
والثاني
: أنها كانت مختومة
، فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ، أو أسود وفيه نقطة بيضاء ، رواه العوفيّ عن ابن
عباس. والثالث
: أنها المخطّطة
بالسّواد والحمرة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع ، قاله
عكرمة ، وقتادة. والخامس
: أنها كانت معلّمة
بعلامة يعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا ، قاله ابن جريج. والسادس : أنه كان على كلّ حجر منها اسم صاحبه ، قاله الرّبيع. وحكي
عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال : كانت مثل رأس الإبل ، ومثل مبارك الإبل ،
ومثل قبضة الرّجل.
وفي قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكَ) أربعة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : جاءت من عند ربّك ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : عند ربّك معدّة ، قاله أبو بكر الهذليّ. والثالث : أنّ المعنى : هذا التّسويم لزم هذه الحجارة عند الله
إيذانا بنفاذ قدرته وشدّة عذابه ، قاله ابن الأنباري. والرابع : أنّ معنى قوله تعالى : «عند ربّك» : في خزائنه التي لا
يتصرّف في شيء منها إلّا بإذنه.
قوله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) في المراد بالظّالمين ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المراد بالظالمين هاهنا : كفّار قريش ، خوّفهم الله
بها ، قاله الأكثرون. والثاني
: أنه عامّ في كلّ
ظالم ؛ قال قتادة : والله ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط ، فاتّقوا الله
وكونوا منه على حذر. والثالث
: أنهم قوم لوط ،
فالمعنى : وما هي من الظالمين ، أي : من قوم لوط ببعيد ، والمعنى : لم تكن لتخطئهم
، قاله الفرّاء.
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا
فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥))
قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ) قد فسّرناه في سورة الأعراف . قوله تعالى : (وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي : لا تطفّفوا ؛ وكانوا يطفّفون مع كفرهم. قوله تعالى : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) فيه قولان :
__________________
أحدهما
: أنه رخص الأسعار
، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد. والثاني : سعة المال ، وهو مرويّ عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة ،
وابن زيد. وقال الفرّاء : أموالكم كثيرة ، وأسعاركم رخيصة ، فأيّ حاجة بكم إلى سوء
الكيل والوزن ؟!
قوله تعالى : (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ مُحِيطٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه غلاء السّعر ، قاله ابن عباس. وقال مجاهد : القحط
والجدب والغلاء. والثاني
: العذاب في الدنيا
، وهو الذي أصابهم ، قاله مقاتل. والثالث : عذاب النار في الآخرة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ
بِالْقِسْطِ) أي : أتمّوا ذلك بالعدل. والإيفاء : الإتمام. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ) بنقص المكيال والميزان.
(بَقِيَّتُ اللهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ
أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ
(٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما
أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما
تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا
قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ
نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
(٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ
وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا
لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا
بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ
وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ
كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))
قوله تعالى : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) فيه ثمانية أقوال : أحدها
: ما أبقى الله بكم
من الحلال بعد
__________________
إيفاء الكيل
والوزن ، خير من البخس ، قاله ابن عباس. والثاني : رزق الله خير لكم ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال سفيان.
والثالث
: طاعة الله خير
لكم ، قاله مجاهد ، والزّجّاج. والرابع
: حظّكم من الله
خير لكم ، قاله قتادة. والخامس
: رحمة الله خير
لكم ، قاله ابن زيد. والسادس
: وصيّة الله خير
لكم ، قاله الرّبيع. والسابع
: ثواب الله في
الآخرة خير لكم ، قاله مقاتل. والثامن
: مراقبة الله خير
لكم ، ذكره الفرّاء. وقرأ الحسن البصريّ : «تقيّة الله خير لكم» بالتاء.
قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط الإيمان في كونه خيرا لهم ، لأنهم إن كانوا مؤمنين
بالله عزوجل ، عرفوا صحّة ما يقول. وفي قوله عزوجل : (وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ثلاثة أقوال : أحدها : ما أمرت بقتالكم وإكراهكم على الإيمان. والثاني : ما أمرت بمراقبتكم عند كيلكم لئلّا تبخسوا. والثالث : ما أحفظكم من عذاب الله إن نالكم.
قوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف ، وحفص : «أصلاتك» على
التّوحيد. وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال : أحدها : دينه ، قاله عطاء. والثاني : قراءته ، قاله الأعمش. والثالث : أنها الصّلوات المعروفة. وكان شعيب كثير الصلاة.
قوله تعالى : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما
نَشؤُا) قال الفرّاء : معنى الآية : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟
وفي معنى الكلام
على قراءة من قرأ بالنون قولان : أحدهما : أنّ فعلهم في أموالهم هو البخس والتّطفيف ، قاله ابن عباس
؛ فالمعنى : قد تراضينا فيما بيننا بذلك.
والثاني
: أنهم كانوا
يقطعون الدّراهم والدّنانير ، فنهاهم عن ذلك ، قاله ابن زيد. وقال القرظيّ : عذّبوا
في قطعهم الدّراهم. قال ابن الأنباري : وقرأ الضّحّاك بن قيس الفهريّ : «ما تشاء»
بالتاء ، ونسق «أن تفعل» على «أن تترك» ، واستغنى عن الإضمار. قال سفيان الثّوريّ
: في معنى هذه القراءة أنه أمرهم بالزّكاة فامتنعوا. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي
، والضّحّاك ، وابن أبي عبلة : «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء» بالتاء فيهما ؛ ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الفهريّ.
وفي قوله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أربعة أقوال :
أحدها
: أنهم قالوه
استهزاء به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والفرّاء.
والثاني
: أنهم قالوا له :
إنّك لأنت السّفيه الجاهل ، فكني بهذا عن ذلك ، ذكره الزّجّاج.
والثالث
: أنهم سبّوه بأنه
ليس بحليم ولا رشيد ، فأثنى الله عزوجل عليه فقال : بل إنك لأنت الحليم الرّشيد ، لا كما قال لك
الكافرون ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي عن أبي الحسن المصّيصي.
__________________
والرابع
: أنهم اعترفوا له
بالحلم والرّشد حقيقة ، وقالوا : أنت حليم رشيد ، فلم تنهانا أن نفعل في أموالنا
ما نشاء؟ حكاه الماوردي ، وذهب إلى نحوه ابن كيسان.
قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) قد تقدّم تفسيره.
وفي قوله تعالى : (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحلال ؛ قال ابن عباس : وكان شعيب كثير المال. والثاني : النّبوّة. والثالث : العلم والمعرفة.
قال الزّجّاج :
وجواب الشرط ها هنا متروك ، والمعنى : إن كنت على بيّنة من ربّي ، أتّبع الضّلال؟ فترك
الجواب ، لعلم المخاطبين بالمعنى ، وقد مرّ مثل هذا.
قوله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما
أَنْهاكُمْ عَنْهُ) قال قتادة : لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه. وقال
الزّجّاج : ما أقصد بخلافكم القصد إلى ارتكابه.
قوله تعالى : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ) أي : ما أريد بما آمركم به إلّا إصلاح أموركم بقدر طاقتي.
وقدر طاقتي : إبلاغكم لا إجباركم.
قوله تعالى : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) فتح تاء «توفيقي» أهل المدينة ، وابن عامر. ومعنى الكلام :
ما إصابتي الحقّ في محاولة صلاحكم إلّا بالله ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي : فوّضت أمري ، وذلك أنهم تواعدوه بقولهم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ) ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي : أرجع.
قوله تعالى : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) حرّك هذه الياء ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع. قال
الزّجّاج : لا تكسبنّكم عداوتكم إيّاي أن تعذّبوا.
قوله تعالى : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) فيه قولان : أحدهما : أنهم كانوا قريبا من مساكنهم. والثاني : أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط. قال الزّجّاج : كان
إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها. قال ابن الأنباري : إنّما وحّد بعيدا ،
لأنه أزاله عن صفة القوم ، وجعله نعتا مكان محذوف ، تقديره : وما قوم لوط منكم
بمكان بعيد.
قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) قد سبق معنى الرّحيم. فأمّا الودود : فقال ابن الأنباري : معناه
: المحبّ لعباده ، من قولهم : وددت الرجل أودّه ودّا وودّا ، ويقال : وددت الرجل
ودادا وودادة وودادة. وقال الخطّابيّ : هو اسم مأخوذ من الودّ ؛ وفيه وجهان :
أحدهما
: أن يكون فعولا في
محلّ مفعول ، كما قيل : رجل هيوب ، بمعنى مهيب ، وفرس ركوب ، بمعنى مركوب ، فالله
سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرّفونه من إحسانه إليهم.
والوجه الآخر : أن
يكون بمعنى الوادّ ، أي أنه يودّ عباده الصالحين ، بمعنى أنه يرضى عنهم بتقبّل
أعمالهم ؛ ويكون معناه : أن يودّدهم إلى خلقه ، كقوله عزوجل : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ
وُدًّا) .
قوله تعالى : (ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) قال ابن الأنباري : معناه : ما نفقه صحّة كثير ممّا تقول ،
لأنهم كانوا يتديّنون بغيره ، ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنّهم لا يفقهونه.
__________________
قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) فيه أربعة أقوال : أحدها : ضريرا ؛ قال ابن عباس وابن جبير وقتادة : كان أعمى. قال
الزّجّاج : ويقال إنّ حمير تسمي المكفوف ضعيفا. والثاني : ذليلا ، قاله الحسن وأبو روق ومقاتل. وزعم أبو روق أنّ
الله لم يبعث نبيّا أعمى ولا نبيّا به زمانة. والثالث : ضعيف البصر ، قاله سفيان. والرابع : عاجزا عن التّصرّف في المكاسب ، ذكره ابن الأنباري. قوله
تعالى : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ
لَرَجَمْناكَ) قال الزّجّاج : لو لا عشيرتك لقتلناك بالرّجم ، والرّجم من
سيّئ القتلات ، وكان رهطه من أهل ملّتهم ، فلذلك أظهروا الميل إليهم والإكرام لهم.
وذكر بعضهم أنّ الرّجم ها هنا بمعنى الشّتم والأذى. قوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) فيه قولان : أحدهما : بكريم. والثاني
: بممتنع أن نقتلك.
قوله تعالى : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ
اللهِ) وأسكن ياء «رهطي» أهل الكوفة ، ويعقوب ، والمعنى : أتراعون
رهطي فيّ ، ولا تراعون الله فيّ؟
قوله تعالى : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله الجمهور. قال الفرّاء :
المعنى : رميتم بأمر الله وراء ظهوركم. قال الزّجّاج : والعرب تقول لكلّ من لا
يعبأ بأمر : قد جعل فلان هذا الأمر بظهر ، قال الشاعر :
تميم بن قيس لا
تكوننّ حاجتي
|
|
بظهر فلا يعيا
عليّ جوابها
|
والثاني
: أنها كناية عما
جاء به شعيب ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي : عالم
بأعمالكم ، فهو يجازيكم بها. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله تعالى : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ). فإن قال قائل : كيف قال ها هنا : «سوف» وفي أخرى : «فسوف»
؟ فالجواب : أنّ كلا الأمرين حسن عند العرب ، إن أدخلوا الفاء ، دلّوا على
اتّصال ما بعد الكلام بما قبله ، وإن أسقطوها ، بنوا الكلام الأول على أنه قد تمّ
، وما بعده مستأنف ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) والمعنى : فقالوا : أتتّخذنا ، بالفاء ، فحذفت الفاء لتمام
ما قبلها. قال امرؤ القيس :
فقالت يمين الله
ما لك حيلة
|
|
وما إن أرى عنك
الغواية تنجلي
|
خرجت بها أمشي
تجرّ وراءنا
|
|
على إثرنا أذيال
مرط مرحّل
|
قال ابن الأنباري
: أراد : فخرجت ، فأسقط الفاء لتمام ما قبلها. ويروى : فقمت بها أمشي.
قوله تعالى : (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) قال ابن عباس : ارتقبوا العذاب ، فإنّي أرتقب الثواب. قوله
تعالى : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ). قال المفسّرون : صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم. قال
محمّد بن كعب : عذّب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب ، أخذتهم رجفة في ديارهم ؛
حتى خافوا أن تسقط عليهم ، فخرجوا منها فأصابهم حرّ شديد ، فبعث الله الظلّة ،
فتنادوا : هلمّ إلى الظّلّ ؛ فدخلوا جميعا في الظلّة ، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا
كلّهم. قال ابن عباس : لم تعذّب أمّتان
__________________
قطّ بعذاب واحد ،
إلّا قوم شعيب وصالح ، فأما قوم صالح ، فأخذتهم الصّيحة من تحتهم ، وأمّا قوم شعيب
، فأخذتهم من فوقهم ، نشأت لهم سحابة كهيئة الظلّة فيها ريح بعد أن امتنعت الرّيح
عنهم ، فأتوها يستظلّون تحتها فأحرقتهم.
قوله تعالى : (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي : كما هلكت ثمود. قال ابن قتيبة : يقال : بعد يبعد :
إذا كان بعده هلكة ؛ وبعد يبعد : إذا نأى.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا
أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) قال الزّجّاج : بعلاماتنا التي تدلّ على صحّة نبوّته. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجّة بيّنة. قوله تعالى : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) وهو ما أمرهم به من عبادته واتّخاذه إلها. (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي : مرشد إلى خير.
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨))
قوله تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال الزّجّاج : يقال : قدمت القوم أقدمهم ، قدما وقدوما : إذا
تقدّمتهم ؛ والمعنى : يقدمهم إلى النّار ؛ ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) قال ابن عباس : أوردهم بمعنى أدخلهم. وقال قتادة : يمضي
بين أيديهم حتّى يهجم بهم على النار. وقوله تعالى : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ
الْمَوْرُودُ) قال المفسّرون : الورد : الموضع الذي ترده. وقال ابن
الأنباري : الورد : مصدر معناه : الورود ، تجعله العرب بمعنى الموضع المورود ؛
فتلخيص الحرف : وبئس المدخل المدخول النار.
(وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))
قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ). في هذه اللعنة قولان :
أحدهما
: أنها في الدنيا
الغرق ، وفي الآخرة عذاب النار ، هذا قول الكلبيّ ، ومقاتل.
والثاني
: أنها اللعنة في
الدنيا من المؤمنين ، وفي الآخرة من الملائكة ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) قال ابن قتيبة : الرّفد : العطيّة ؛ يقول : اللعنة بئس
العطيّة ؛ يقال : رفدته أرفده : إذا أعطيته وأعنته. والمرفود : المعطى.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠))
قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) يعني ما تقدّم من الخبر عن القرى المهلكة. (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) أي : نخبرك به (مِنْها قائِمٌ
وَحَصِيدٌ) قال قتادة : القائم : ما يرى مكانه ، والحصيد : لا يرى
أثره. وقال ابن قتيبة : القائم : الظّاهر العين ، والحصيد : الذي قد أبيد وحصد.
وقال الزّجّاج : القائم : ما بقيت حيطانه ، والحصيد : الذي خسف به وما قد امّحى
أثره.
__________________
(وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما
زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١))
قوله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي : بالعذاب
والإهلاك. (وَلكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي. (فَما أَغْنَتْ
عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) أي : فما نفعتهم ولا دفعت عنهم شيئا (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالهلاك. (وَما زادُوهُمْ) يعني الآلهة (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه التّخسير ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، واختاره ابن قتيبة ،
والزّجّاج. والثاني
: أنه الشّرّ ،
قاله ابن زيد. والثالث
: التّدمير
والإهلاك ، قاله أبو عبيدة.
فإن قيل : الآلهة
جماد ، فكيف قال : «زادوهم»؟ فعنه جوابان : أحدهما : وما زادتهم عبادتها. والثاني : أنها في القيامة تكون عونا عليهم فتزيدهم شرّا.
(وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
(١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ
لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) أي : وكما ذكر من إهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أخذ ربّك. (إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) وصف القرى بالظّلم ، والمراد أهلها. وقال ابن عباس :
الظّلم ها هنا : بمعنى الكفر.
قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) يعني ما ذكر من عذاب الأمم وأخذهم. والآية : العبرة
والعظة. (ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) لأنّ الخلق يحشرون فيه ، ويشهده البرّ والفاجر ، وأهل
السّماء والأرض .. (وَما نُؤَخِّرُهُ) وروى زيد عن يعقوب ، وأبو زيد عن المفضّل «وما يؤخره
بالياء» والمعنى : وما نؤخّر ذلك اليوم إلّا لوقت معلوم لا يعلمه إلّا الله عزوجل.
(يَوْمَ يَأْتِ لا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا
الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ
فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))
قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائيّ : «يوم يأتي» بياء
في الوصل وحذفوها في الوقف ؛ غير أنّ ابن كثير كان يقف بالياء ويصل بالياء. وقرأ
عاصم وابن عامر ، وحمزة بغير ياء في الوصل والوقف. قال الزّجّاج : الذي يختاره
النّحويون «يوم يأتي» بإثبات الياء ، والذي في المصحف وعليه أكثر القراءات بكسر
التاء ، وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيرا. وقد حكى الخليل وسيبويه ، أنّ العرب
تقول : لا أدر ، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة ، ويزعمون أنّ ذلك لكثرة الاستعمال.
وقال الفرّاء : كلّ ياء ساكنة وما قبلها مكسور ، أو واو ساكنة وما قبلها مضموم ،
فإنّ العرب
تحذفهما وتجتزئ
بالكسرة من الياء وبالضّمة من الواو ، وأنشدني بعضهم :
كفّاك كفّ ما
تليق درهما
|
|
جودا وأخرى تعط
بالسّيف الدّما
|
قال المفسّرون :
وقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ) يعني : يأتي ذلك اليوم ، لا تكلّم نفس إلّا بإذن الله ،
فكلّ الخلائق ساكتون ، إلّا من أذن الله له في الكلام. وقيل : المراد بهذا الكلام
الشّفاعة.
قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) قال ابن عباس : منهم من كتبت عليه الشّقاوة ، ومنهم من
كتبت له السّعادة.
قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنّ الزّفير
كزفير الحمار في الصّدر ، وهو أول ما ينهق ، والشّهيق كشهيق الحمار في الحلق ، وهو
آخر ما يفرغ من نهيقه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك ، ومقاتل ،
والفرّاء. وقال الزّجّاج : الزّفير : شديد الأنين وقبيحه ، والشّهيق : الأنين
الشّديد المرتفع جدا ، وهما من أصوات المكروبين. وزعم أهل اللغة من الكوفيين
والبصريين أنّ الزّفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النّهيق ، والشّهيق بمنزلة آخر
صوته في النّهيق.
والثاني
: أنّ الزّفير في
الحلق ، والشّهيق في الصّدور ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال أبو العالية ،
والرّبيع بن أنس ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس : الزّفير : الصوت الشّديد ،
والشّهيق : الصوت الضعيف. وقال ابن فارس : الشّهيق ضدّ الزّفير ، لأنّ الشّهيق ردّ
النّفس ، والزّفير إخراج النّفس. وقال غيره : الزّفير : الشديد ، مأخوذ من الزّفر
، وهو الحمل على الظّهر لشدّته ؛ والشّهيق : النّفس الطّويل الممتدّ ، مأخوذ من
قولهم : جبل شاهق ، أي طويل.
والثالث
: أنّ الزّفير زفير
الحمار ، والشّهيق شهيق البغال ، قاله ابن السّائب.
قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ) المعروف فيه قولان : أحدهما : أنها السّماوات المعروفة عندنا ، والأرض المعروفة. قال ابن
قتيبة ، وابن الأنباري : للعرب في معنى الأبد ألفاظ ؛ تقول : لا أفعل ذلك ما اختلف
الليل والنهار ، وما دامت السّماوات والأرض ، وما اختلفت الجرّة والدّرّة ، وما
أطّت الإبل ، في أشباه لهذا كثيرة ، ظنا منهم أنّ هذه الأشياء لا
تتغير ، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم. والثاني : أنّها سماوات الجنّة والنار وأرضهما.
قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في الاستثناء المذكور في حقّ أهل النار سبعة أقوال :
__________________
أحدها
: أنّ الاستثناء في
حقّ الموحّدين الذين يخرجون بالشّفاعة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : أنه استثناء لا يفعله ، تقول : والله لأضربنّك إلّا أن أرى
غير ذلك ، وعزيمتك على ضربه ، ذكره الفرّاء ، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس :
«إلّا ما شاء ربّك» قال : فقد شاء أن يخلّدوا فيها. قال الزّجّاج : وفائدة هذا ،
أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم ، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبدا. والثالث : أنّ المعنى : خالدين فيها أبدا ، غير أنّ الله تعالى يأمر
النار فتأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدّد خلقهم ، فيرجع الاستثناء إلى تلك الحال ، قاله
ابن مسعود. والرابع
: أنّ «إلّا» بمعنى
«سوى» تقول : لو كان معنا رجل إلّا زيد ، أي : سوى زيد ؛ فالمعنى : خالدين فيها
مقدار دوام السّماوات والأرض سوى ما شاء ربّك من الخلود والزّيادة ، وهذا اختيار
الفرّاء. قال ابن قتيبة : ومثله في الكلام أن تقول : لأسكنّنّك في هذه الدّار حولا
إلّا ما شئت ؛ تريد : سوى ما شئت أن أزيدك. والخامس : أنهم إذا حشروا وبعثوا ، فهم في شروط القيامة ؛ فالاستثناء
واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب ، فالمعنى : خالدين فيها ما دامت
السّماوات والأرض إلّا مقدار موقفهم للمحاسبة ، ذكره الزّجّاج. وقال ابن كيسان :
الاستثناء يعود إلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب ؛ قال ابن قتيبة :
فالمعنى : خالدين في النار وخالدين في الجنّة دوام السّماء والأرض إلّا ما شاء
ربّك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك ، فكأنه جعل دوام السّماء والأرض بمعنى الأبد
على ما كانت العرب تستعمل ، وإن كانتا قد تتغيّران. واستثنى المشيئة من دوامهما ،
لأنّ أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا ،
لا في الجنة ، ولا في النار. والسادس
: أنّ الاستثناء
وقع على أنّ لهم فيها زفيرا وشهيقا ، إلّا ما شاء ربّك من أنواع العذاب التي لم
تذكر ؛ وكذلك لأهل الجنة نعيم ممّا ذكر ، ولهم ممّا لم يذكر ما شاء ربّك ، ذكره
الزّجّاج أيضا. والسابع
: أنّ «إلّا» بمعنى
«كما» ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ، ذكره الثّعلبيّ.
فأمّا الاستثناء
في حقّ أهل الجنّة ، ففيه ستة أقوال : أحدها : أنه استثناء لا يفعله. والثاني : أنّ «إلّا» بمعنى «سوى». والثالث : أنه يرجع إلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور. والرابع : أنه بمعنى : إلّا ما شاء أن يزيدهم من النّعيم الذي لم
يذكر. والخامس
: أنّ «إلّا» بمعنى
«كما» وهذه الأقوال قد سبق شرحها. والسادس : أنّ الاستثناء يرجع إلى لبث من لبث في النار من الموحّدين
، ثم أدخل الجنّة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، ومقاتل. قال ابن قتيبة : فيكون
الاستثناء من الخلود مكث أهل الذّنوب من المسلمين في النّار ، فكأنّه قال : إلّا
ما شاء ربّك من إخراج المذنبين إلى الجنّة ، وخالدين في الجنّة إلّا ما شاء ربّك
من إدخال المذنبين النار مدّة .
__________________
واختلف القرّاء في
«سعدوا» فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : «سعدوا» بفتح
السين. وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم بضمّها ، وهما لغتان.
قوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) نصب عطاء بما دلّ عليه الكلام ، كأنّه قال : أعطاهم
النّعيم عطاء. والمجذوذ : المقطوع ؛ قال ابن قتيبة : يقال : جذذت ، وجددت ، وجذفت
، وجدفت : إذا قطعت.
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ
مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))
قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي : فلا تك يا محمّد في شكّ (مِمَّا يَعْبُدُ
هؤُلاءِ) المشركون من الأصنام ، أنه باطل وضلال ، إنّما يقلّدون
آباءهم ، (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ
نَصِيبَهُمْ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : ما قدر لهم من خير وشرّ ، قاله ابن عباس. والثاني : نصيبهم من الرّزق ، قاله أبو العالية. والثالث : نصيبهم من العذاب ، قاله ابن زيد. وقال بعضهم : لا ينقصهم
من عذاب آبائهم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التّوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) فمن مصدّق به ومكذّب كما فعل قومك بالقرآن. قال المفسّرون
: وهذه تعزية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم.
قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ) قال ابن عباس : يريد : إنّي أخّرت أمّتك إلى يوم القيامة ،
ولو لا ذلك لعجّلت عقاب من كذّبك. وقال ابن قتيبة : لو لا نظرة لهم إلى يوم الدّين
لقضي بينهم في الدّنيا. وقال ابن جرير : سبقت من ربّك أنه لا يعجّل على خلقه
بالعذاب ، لقضي بين المصدّق منهم والمكذّب بإهلاك المكذّب وإنجاء المصدّق.
قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي : من القرآن (مُرِيبٍ) أي : موقع للرّيب.
(وَإِنَّ كُلاًّ
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(١١١))
قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا) يشير إلى جميع من قصّ قصّته في هذه السّورة. وقال مقاتل :
يعني به كفّار هذه الأمّة. وقيل : المعنى : وإنّ كلّا لخلق أو بشر (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). قرأ أبو عمرو ، والكسائيّ «وإنّ» مشدّدة النون ، «لما»
خفيفة. واللام في «لمّا» لام التّوكيد ، دخلت على «ما» وهي خبر «إنّ». واللام في «ليوفينّهم»
اللام التي يتلقّى بها القسم ، والتّقدير : والله ليوفّينّهم ، ودخلت «ما» للفصل
بين اللامين. قال
__________________
مكّيّ بن أبي طالب
: وقيل : إنّ «ما» زائدة ، لكن دخلت لتفصل بين اللامين اللّذين يتلقّيان القسم
وكلاهما مفتوح ، ففصل ب «ما» بينهما. وقرأ ابن كثير «وإن» بالتّخفيف ، وكذلك «لما».
قال سيبويه : حدّثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول : إن عمرا لمنطلق ،
فيخفّفون «إنّ» ويعملونها ، وأنشد :
ووجه حسن النّحر
|
|
كأن ثدييه حقّان
|
وقرأ نافع ، وأبو
بكر عن عاصم : «وإن» خفيفة ، «لمّا» مشدّدة ، والمعنى : وما كلّا إلّا ؛ وهذا كما
تقول : سألتك لمّا فعلت ، وإلّا فعلت ، ومثله قوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) وقرأ حمزة ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «وإنّ» بالتّشديد
، «لمّا» بالتّشديد أيضا. قال أبو عليّ : هذه قراءة مشكلة ، لأنه كما لا يحسن :
إنّ زيدا إلّا منطلق ، كذلك لا يحسن تثقيل «إنّ» وتثقيل «لمّا». وحكي عن الكسائيّ
أنه قال : لا أعرف وجه التّثقيل في «لمّا» ، ولم يبعد فيما قال. وقال مكّيّ بن أبي
طالب : الأصل فيها «لمن ما» ثم أدغمت النون في الميم ، فاجتمعت ثلاث ميمات في
اللفظ ، فحذفت الميم المكسورة ؛ والتقدير : وإنّ كلّا لمن خلق ليوفّينّهم. قال :
وقيل : التقدير : «لمن ما» بفتح الميم في «من» فتكون «ما» زائدة ، وتحذف إحدى
الميمات لتكرير الميم في اللفظ ؛ والتقدير : لخلق ليوفّينّهم ، ومعنى الكلام : ليوفّينّهم
جزاء أعمالهم .
(فَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(١١٢))
قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) قال ابن عيينة : استقم على القرآن. وقال ابن قتيبة : امض
على ما أمرت به. قوله تعالى : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) قال ابن عباس : من تاب معك من الشّرك. قوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا تطغوا في القرآن ، فتحلّوا وتحرّموا ما لم آمركم به ،
قاله ابن عباس. والثاني
: لا تعصوا ربّكم
ولا تخالفوه ، قاله ابن زيد. والثالث
: لا تخلطوا
التّوحيد بشكّ ، قاله مقاتل.
(وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))
قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) روى عبد الوارث عن أبي عمرو : «تركنوا» بفتح التاء وضمّ
الكاف ، وهي قراءة قتادة. وروى هارون عن أبي عمرو «تركنوا» بفتح التاء وكسر الكاف.
وروى محبوب عن أبي عمرو : «تركنوا» بكسر التاء وفتح الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة «تركنوا»
بضمّ التاء وفتح الكاف على ما لم يسمّ فاعله. وفي المراد بهذا الرّكون أربعة أقوال
: أحدها
: لا تميلوا إلى
__________________
المشركين ، قاله
ابن عباس. والثاني
: لا ترضوا أعمالهم
، قاله أبو العالية. والثالث
: لا تلحقوا
بالمشركين ، قاله قتادة. والرابع
: لا تداهنوا
الظّلمة ، قاله السّدّيّ ، وابن زيد.
وفي قوله تعالى : (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) وجهان. أحدهما
: فتصيبكم النار ،
قاله ابن عباس.
والثاني
: فيتعدّى إليكم
ظلمهم كما تتعدّى النار إلى إحراق ما جاورها ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ) أي ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤))
قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ).
(٧٩٧) أمّا سبب
نزولها ، فروى علقمة والأسود عن ابن مسعود أنّ رجلا قال للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : إني أخذت امرأة في البستان فقبّلتها ، وضممتها إليّ ،
وباشرتها ، وفعلت بها كلّ شيء ، غير أنّي لم أجامعها ؛ فسكت النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ) الآية ، فدعا الرّجل فقرأها عليه ، فقال عمر : أهي له
خاصّة أم للناس كافّة؟ قال : «لا ، بل للناس كافّة».
(٧٩٨) وفي رواية
أخرى عن ابن مسعود : أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى رسول الله ، فذكر ذلك له
، فنزلت هذه الآية ، فقال الرجل :
ألي هذه الآية؟ فقال : «لمن عمل بها من
أمّتي».
(٧٩٩) وقال معاذ
بن جبل : كنت قاعدا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فجاء رجل ، فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل أصاب
من امرأة ما لا يحلّ له ، فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته إلّا أصابه منها ،
غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «توضّأ وضوءا حسنا ، ثم قم فصلّ» ، فأنزل الله تعالى هذه
الآية ، فقال معاذ : أهي له خاصّة ، أم للمسلمين عامّة؟ فقال : «بل هي للمسلمين
عامّة». واختلفوا في اسم هذا الرجل.
(٨٠٠) فقال أبو
صالح عن ابن عباس : هو عمرو بن غزيّة الأنصاري ، وفيه نزلت هذه الآية ، كان
____________________________________
(٧٩٧) صحيح. أخرجه
مسلم ٢٧٦٣ ـ ٤٢ ، وأبو داود ٤٤٦٨ ، والترمذي ٣١١٢ ، والطبري
١٨٦٦٨ ، والبيهقي في «السنن» ٨ / ٢٤١ من طريق علقمة والأسود عن ابن مسعود به.
ولفظه عند مسلم :
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة ،
وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها ، فأنا هذا ، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر : لقد
سترك الله ، لو سترت نفسك. قال فلم يردّ النبي صلىاللهعليهوسلم شيئا. فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي عليهالسلام رجلا دعاه ، وتلا عليه هذه الآية : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى
لِلذَّاكِرِينَ) ، فقال رجل من القوم : يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال : «بل
للناس كافة».
(٧٩٨) صحيح ،
أخرجه البخاري ٥٢٦ و ٤٦٨٧ ، ومسلم ٢٧٦٣ ـ ٤٠ ـ ٤١ والترمذي ٣١١٤ ، والنسائي في «الكبرى» ٧٣٢٦ /
٦ ، وابن ماجة ٤٢٥٤ ـ ١٣٩٨ ، وابن خزيمة ٣١٢ ، والطبري ١٨٦٧٦ ،
والطبراني ١٠٥٦٠ ، والبيهقي في «السنن» ٨ / ٢٤١.
(٧٩٩) صحيح. أخرجه
الترمذي ٣١١٣ والطبري ١٨٦٩٥ من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل ،
ورجاله ثقات ، إلا أنه منقطع بين ابن أبي ليلى ، ومعاذ بن جبل ، لكن المتن محفوظ
بشواهده وطرقه.
(٨٠٠) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس ، ثم هو من
رواية
يبيع التّمر ،
فأتته امرأة تبتاع منه تمرا ، فأعجبته ، فقال : إنّ في البيت تمرا أجود من هذا ،
فانطلقي معي حتى أعطيك منه ؛ فذكر نحو حديث معاذ.
وقال مقاتل : هو
أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري. وذكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب الحافظ أنه أبو
اليسر كعب بن عمرو الأنصاري. وذكر في الذي قال للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أله خاصّة؟ ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أبو اليسر صاحب القصّة. والثاني : معاذ بن جبل. والثالث : عمر بن الخطّاب .
فأما التّفسير ،
فقوله عزوجل : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : أتمّ ركوعها وسجودها. فأمّا طرفا النّهار ، ففي
الطّرف الأول قولان : أحدهما
: أنه صلاة الفجر ،
قاله الجمهور. والثاني
: أنه الظّهر ،
حكاه ابن جرير. وفي الطّرف الثاني ثلاثة أقوال : أحدها : أنه صلاة المغرب ، قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : العصر ، قاله قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث : الظّهر ، والعصر ، قاله مجاهد ، والقرظيّ. وعن الضّحّاك
كالأقوال الثلاثة.
قوله تعالى : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وقرأ أبو جعفر ، وشيبة «وزلفا» بضمّ اللام. قال أبو عبيدة
: الزّلف : السّاعات ، واحدها
: زلفة ، أي : ساعة
ومنزلة وقربة ، ومنه سمّيت المزدلفة ، قال العجّاج :
ناج طواه الأين
ممّا أوجفا
|
|
طيّ اللّيالي
زلفا فزلفا
|
سماوة الهلال حتّى
احقوقفا قال ابن قتيبة : ومنه يقال : أزلفني كذا عندك ، أي :
أدناني ؛ والمزالف : المنازل والدّرج ، وكذلك الزّلف. وفيها للمفسّرين قولان : أحدهما : أنها صلاة العتمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وعوف
عن الحسن ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال ابن زيد.
والثاني
: أنها صلاة المغرب
والعشاء ، روي عن ابن عباس أيضا ، ورواه يونس عن الحسن ، ومنصور عن مجاهد ، وبه
قال قتادة ، ومقاتل ، والزّجّاج.
قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ) في المراد بالحسنات قولان : أحدهما : أنها الصّلوات الخمس ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن
المسيّب ، ومسروق ، ومجاهد ، والقرظيّ ، والضّحّاك ، والمقاتلان : ابن سليمان ،
وابن حيّان. والثاني
: أنها سبحان الله
، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، رواه منصور عن مجاهد. والأول أصحّ ، لأنّ
الجمهور عليه. وفيه حديث مسند عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
____________________________________
الكلبي عنه ، كما
في «فتح الباري» ٣٥٦١٨ ، وعزاه الحافظ لابن مردويه ، والكلبي يضع الحديث وأصل
الخبر محفوظ ، لكن تفرّد بذكر الصحابي بأنه عمرو بن غزية ، فهذا واه.
وأخرجه الترمذي
٣١١٥ والطبري ١٨٦٩٧ و ١٨٦٩٨ والطبراني ٣٧١ من حديث أبي اليسر ، وإسناده ضعيف لضعف
قيس بن الربيع ، وفي هذا الحديث هو أبو اليسر راوي الحديث. وانظر التعليق الآتي.
__________________
(٨٠١) رواه عثمان
بن عفّان عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه توضّأ ، وقال : «من توضّأ وضوئي هذا ، ثم صلّى الظّهر
، غفر له ما كان بينها وبين صلاة الصّبح ، ومن صلّى العصر ، غفر له ما بينها وبين
صلاة الظّهر ، ومن صلّى المغرب ، غفر له ما بينها وبين صلاة العصر ، ثمّ صلّى
العشاء ، غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب ، ثم لعلّه أن يبيت ليلته يتمرّغ ، ثمّ
إن قام فتوضّأ وصلّى الصّبح ، غفر له ما بينه وبين صلاة العشاء ، وهنّ الحسنات
يذهبن السّيئات».
فأمّا السّيئات
المذكورة ها هنا ، فقال المفسّرون : هي الصّغائر من الذّنوب.
(٨٠٢) وقد روى
معاذ بن جبل ، قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني ؛ قال : «اتّق الله حيثما كنت» ،
قال : قلت : زدني ؛ قال : أتبع السّيئة الحسنة تمحها» ، قلت : زدني ؛ قال : «خالق
الناس بخلق حسن».
قوله تعالى : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) في المشار إليه ب (ذلِكَ) ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه القرآن. والثاني : إقام الصّلاة. والثالث : جميع ما تقدّم من الوصيّة بالاستقامة ، والنّهي عن
الطّغيان ، وترك الميل إلى الظّالمين ، والقيام بالصّلاة.
وفي المراد
بالذّكرى قولان : أحدهما
: أنه بمعنى
التّوبة. والثاني
: بمعنى العظة.
(وَاصْبِرْ فَإِنَّ
اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))
قوله تعالى : (وَاصْبِرْ) فيما أمر بالصّبر عليه قولان :
أحدهما
: لما يلقاه من أذى
قومه. والثاني
: الصّلاة.
وفي المراد
بالمحسنين ثلاثة أقوال : أحدها
: المصلّون ، قاله
ابن عباس. والثاني
: المخلصون ،
____________________________________
(٨٠١) ضعيف
الإسناد والمتن : أخرجه أحمد ١ / ٧١ والطبري ١٨٦٧٥ و ١٨٦٧٦ و ١٨٦٧٧ من طريق زهرة
بن معبد عن الحارث مولى عثمان بن عفان عن عثمان به. وإسناده ضعيف لجهالة الحارث
هذا ، حيث لم يرو عنه سوى زهرة ولم يوثقه سوى ابن حبان وهو على قاعدته في توثيق
المجاهيل. والهيثمي يعتمد توثيق ابن حبان فقال في «المجمع» ١ / ٢٩٧ : رجاله رجال
الصحيح سوى الحارث ، وهو ثقة؟!
ـ قلت : والحديث في الصحيحين ، ولفظه عند البخاري
: عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه
فغسلهما ثلاث مرات ، ثم أدخل يمينه في الوضوء ، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل
وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كل رجل ثلاثا ، ثم
قال : رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال : «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى
ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه». وأخرجه البخاري ١٥٩
ومسلم ٢٢٦ وأحمد ١ / ٧١.
(٨٠٢) حسن. أخرجه
الترمذي بإثر حديث ١٩٨٧ وأحمد ٥ / ٢٢٨ والطبراني ٢٠ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨
وفي «الصغير» ٥٣٠ من طريق ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به. وإسناده ضعيف ، رجاله
ثقات ، لكن فيه إرسال بين ميمون ومعاذ.
وورد من حديث أبي
ذر : أخرجه الترمذي ١٩٨٧ والدارمي ٢٧٩٤ وأحمد ٥ / ١٥٣ ـ ١٥٨
والحاكم ١ / ٥٤ والقضاعي ٦٥٢ من طريق ميمون عن أبي ذر به ، وإسناده لا بأس به ،
وهو حسن إن كان سمعه ميمون من أبي ذر ، ففي سماعه من أبي ذر وأمثاله اختلاف. وصححه
الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أن البخاري ما روى لميمون ، وقد روى له
مسلم في «المقدمة». وقال الترمذي : حسن صحيح. وانظر «صحيح الجامع» ٩٧.
قاله مقاتل. والثالث : أنّهم المحسنون في أعمالهم ، قاله أبو سليمان.
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي
الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦))
قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) قال ابن عباس ، والفرّاء : المعنى : فلم يكن. وقال ابن
قتيبة : المعنى : فهلّا كان من القرون من قبلكم أولو بقيّة. وروى ابن جمّاز عن أبي
جعفر «أولو بقية» بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء. وفي معنى «أولو بقيّة»
ثلاثة أقوال : أحدها
: أولو دين ، قاله
ابن عباس. قال ابن قتيبة : يقال : قوم لهم بقيّة ، وفيهم بقيّة : إذا كانت بهم
مسكة وفيهم خير. والثاني
: أولو تمييز. والثالث : أولو طاعة ، ذكرهما الزّجّاج ، وقال : إذا قلت : فلان فيه
بقيّة ، فمعناه : فيه فضل. قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء منقطع ، أي : لكنّ قليلا ممّن أنجينا منهم ممّن
نهى عن الفساد. قال مقاتل : لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشّرك إلّا
قليلا ممّن أنجينا من العذاب مع الرّسل.
قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما
أُتْرِفُوا فِيهِ) أي : اتّبعوا مع ظلمهم ما أترفوا فيه مع استدامة نعيمهم ،
فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم. قال الفرّاء : آثروا اللذّات على أمر الآخرة. قال :
ويقال : اتّبعوا ذنوبهم السّيئة إلى النار.
(وَما كانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))
قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى
بِظُلْمٍ) فيه قولان : أحدهما : بغير جرم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : بشرك ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان. وفي قوله : (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : ينتصف بعضهم من بعض ، رواه قيس بن أبي حازم عن جرير. قال
أبو جعفر الطّبريّ : فيكون المعنى : لا يهلكهم إذا تناصفوا وإن كانوا مشركين ،
وإنما يهلكهم إذا تظالموا. والثاني
: مصلحون لأعمالهم
، متمسّكون بالطّاعة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : مؤمنون ، قاله مقاتل.
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً واحِدَةً) قال ابن عباس : لو شاء أن يجعلهم كلّهم مسلمين لفعل. قوله
تعالى : (وَلا يَزالُونَ
مُخْتَلِفِينَ) في المشار إليهم قولان : أحدهما
: أنهم أهل
__________________
الحقّ وأهل الباطل
، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ؛ فيكون المعنى : إنّ هؤلاء يخالفون هؤلاء. والثاني : أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين ، رواه عكرمة عن ابن
عباس.
قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قال ابن عباس : هم أهل الحقّ. وقال الحسن : أهل رحمة الله
لا يختلفون. قوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) في المشار إليه بذلك أربعة أقوال : أحدها : أنه يرجع إلى ما هم عليه. قال ابن عباس : خلقهم فريقين ،
فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم يختلف. والثاني : أنه يرجع إلى الشّقاء والسّعادة ، قاله ابن عباس أيضا ،
واختاره الزّجّاج ، قال : لأنّ اختلافهم مؤدّيهم إلى سعادة وشقاوة. قال ابن جرير :
واللام في قوله : «ولذلك» بمعنى «على». والثالث : أنه يرجع إلى الاختلاف ، رواه مبارك عن الحسن. والرابع : أنه يرجع إلى الرّحمة ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال
عكرمة ، ومجاهد ، والضّحّاك ، وقتادة ؛ فعلى هذا يكون المعنى : ولرحمته خلق الذين
لا يختلفون في دينهم .
قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) قال ابن عباس : وجب قول ربّك : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) من كفّار الجنّة ، وكفّار الناس.
(وَكُلاًّ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ
الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠))
قوله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُ) قال الزّجّاج : «كلّا» منصوب ب «نقصّ» ، المعنى : كلّ الذي
تحتاج إليه من أنباء الرّسل نقصّ عليك. و «ما» منصوبة بدلا من كلّ ، المعنى : نقصّ
عليك ما نثبّت به فؤادك ؛ ومعنى تثبيت الفؤاد : تسكين القلب ها هنا ، ليس للشّكّ ،
ولكن كلّما كان البرهان والدّلالة أكثر ، كان القلب أثبت.
قوله تعالى : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) في المشار إليه ب «هذه» أربعة أقوال : أحدها : أنها السّورة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير
وأبو العالية ، ورواه شيبان عن قتادة. والثاني : أنها الدّنيا ، فالمعنى : وجاءك في هذه الدّنيا ، رواه
سعيد عن قتادة ؛ وعن الحسن كالقولين. والثالث : أنها الأقاصيص المذكورة. والرابع : أنها هذه الآية بعينها ، ذكر القولين ابن الأنباري . وفي المراد بالحقّ ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنها البيان. والثاني : صدق القصص والأنباء. والثالث : النّبوّة.
فإن قيل : أليس قد
جاءه الحقّ في كلّ القرآن ، فلم خصّ هذه السّورة؟
__________________
فالجواب
: أنّا إن قلنا :
إنّ الحقّ النّبوّة ، فالإشارة ب «هذه» إلى الدّنيا ، فيكون المعنى : وجاءك في هذه
الدنيا النّبوّة ، فيرتفع الإشكال. وإن قلنا : إنّها السّورة ، فعنه أربعة أجوبة :
أحدها
: أنّ المراد
بالحقّ البيان ، وهذه السّورة جمعت من تبيين إهلاك الأمم ، وشرح مآلهم ، ما لم
يجمع غيرها ، فبان أثر التّخصيص ، وهذا مذهب بعض المفسّرين. والثاني : أنّ بعض الحقّ أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا ،
ولهذا يقول الناس : فلان في الحقّ ؛ إذا كان في الموت ، وإن لم يكن قبله في باطل ،
ولكن لتعظيم ما هو فيه ، فكأنّ الحقّ المبين في هذه السّورة أجلى من غيره ، وهذا
مذهب الزّجّاج. والثالث
: أنه خصّ هذه
السّورة بذلك لبيان فضلها ، وإن كان في غيرها حقّ أيضا ، فهو كقوله عزوجل : (وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) ، وقوله عزوجل : (وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) ، وهذا مذهب ابن الأنباري. والرابع : أنّ المعنى : وجاءك في هذه السّورة الحقّ مع ما جاءك من
سائر السّور ، قاله ابن جرير الطّبري.
قوله تعالى : (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : يتّعظون إذا سمعوا هذه السّورة وما نزل بالأمم فتلين
قلوبهم.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢))
قوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) هذا تهديد ووعيد ، والمعنى : اعملوا ما أنتم عاملون
فستعلمون عاقبة أمركم (وَانْتَظِرُوا) ما يعدكم الشّيطان (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما يعدنا ربّنا.
فصل
: قال المفسّرون :
وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم ، والاقتناع بإنذارهم ، وهي منسوخة بآية
السّيف. واعلم أنه إذا قلنا : إنّ المراد بالآية التّهديد ، لم يتوجّه نسخ.
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي : علم ما غاب عن العباد فيهما. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) قرأ نافع ، وحفص عن عاصم «يرجع الأمر كله» بضمّ الياء.
وقرأ الباقون ، وأبو بكر عن عاصم «يرجع» بفتح الياء ، والمعنى : إنّ كلّ الأمور
ترجع إليه في المعاد. (فَاعْبُدْهُ) أي : وحّده. (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي : ثق به. (وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «تعلمون» بالتاء.
وقرأ الباقون بالياء. قال أبو عليّ : فمن قرأ بالتاء ، فالمعنى : قل لهم : وما
ربّك بغافل عمّا تعملون. ومن قرأ بالياء ، فالخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم ، فهو أعمّ من التاء ، وهذا
وعيد ، والمعنى : إنّه يجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. قال كعب : خاتمة
التّوراة خاتمة «هود».
__________________
سورة يوسف
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (١))
(فصل في نزولها :)
هي مكّيّة بالإجماع. وفي سبب نزولها قولان :
(٨٠٣) أمّا القول
الأول : فروي عن سعد بن أبي وقّاص قال : أنزل القرآن على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت
علينا ، فأنزل الله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدّثتنا
، فأنزل الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) كلّ ذلك يؤمرون بالقرآن.
(٨٠٤) وقال عون بن
عبد الله : ملّ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ملّة ، فقالوا : يا رسول الله حدّثنا ، فأنزل الله تعالى :
(اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) ، ثم إنّهم ملّوا ملّة أخرى ، فقالوا : يا رسول الله ، فوق
الحديث ، ودون القرآن ، يعنون القصص ، فأنزل الله : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، فأراد الحديث ، فدلّهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص
، فدلّهم على أحسن القصص.
(٨٠٥) والثاني : رواه الضّحّاك عن ابن عباس قال : سألت اليهود النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : حدّثنا عن
____________________________________
(٨٠٣) صحيح. أخرجه
البزار ٣٢١٨ وأبو يعلى ٧٤٠ وابن حبان ٦٢٠٩ والحاكم ٢ / ٣٤٥ والطبري ١٨٧٨٩ والواحدي
في «أسباب النزول» ٥٤٤ من طرق عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن
أبيه به. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وانظر ما
بعده.
(٨٠٤) مرسل. أخرجه
الطبري ١٨٧٨٨ عن عون بن عبد الله بن مسعود مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، لكن
للحديث شاهد من حديث سعد ، وهو المتقدم. وشاهد آخر من حديث ابن عباس : أخرجه
الطبري ١٨٧٨٦ عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن عباس ، وإسناده منقطع ، عمرو لم يسمع
من ابن عباس. وكرره الطبري ١٨٧٨٧ من مرسل عمرو بن قيس ، وهو شاهد لما قبله ، وإن
كان ضعيفا ، والله أعلم.
(٨٠٥) باطل لا أصل
له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، وراوية الضحاك هو
جويبر بن سعيد ذاك المتروك ، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ليس له
أصل ، وهذا
__________________
أمر يعقوب وولده
وشأن يوسف ، فأنزل الله عزوجل : (الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وذلك أنّ التّوراة بالعبرانيّة ، والإنجيل بالسّريانيّة ،
وأنتم قوم عرب ، ولو أنزلته بغير العربية ما فهمتموه. وقد بيّنّا تفسير أول هذه
السورة في أول سورة يونس ، إلّا أنه قد ذكر ابن الأنباري زيادة وجه في هذه السّورة
، فقال : لمّا لحق أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ملل وسآمة ، فقالوا له : حدّثنا بما يزيل عنّا هذا الملل ،
فقال : تلك الأحاديث التي تقدّرون الانتفاع بها وانصراف الملل ، هي آيات الكتاب
المبين.
وفي معنى «المبين»
خمسة أقوال : أحدها
: البيّن حلاله
وحرامه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : المبيّن للحروف التي تسقط عن ألسن الأعاجم ، رواه خالد بن
معدان عن معاذ بن جبل. والثالث
: البيّن هداه ورشده
، قاله قتادة. والرابع
: المبيّن للحقّ من
الباطل. والخامس
: البيّن إعجازه
فلا يعارض ، ذكرهما الماوردي .
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))
قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله الجمهور. والثاني : إلى خبر يوسف ، ذكره الزّجّاج ، وابن القاسم.
قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة النساء . وقد اختلف الناس ، هل في القرآن شيء بغير العربية ، أم لا
، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية. وقال أبو عبيدة. من زعم أنّ في
القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول ، واحتجّ بقوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) . وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة أنّ فيه من غير لسان
العرب ، مثل : «سجّيل» و «المشكاة» و «اليمّ» و «الطّور» و «أباريق» و «إستبرق»
وغير ذلك. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال : قال أبو عبيد : وهؤلاء أعلم من
أبي عبيدة ، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب ، وذهب هو إلى غيره ، وكلاهما مصيب إن شاء الله
، وذلك أنّ هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ، فقال : أولئك على الأصل ، ثم
لفظت به العرب بألسنتها فعرّبته فصار عربيا بتعريبها إيّاه ، فهي عربية في هذه
الحالة ، أعجميّة الأصل ، فهذا القول يصدّق الفريقين جميعا. قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قال ابن عباس : لكي تفهموا.
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))
قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ) قد ذكرنا سبب نزولها في أوّل الكلام. وقد خصّت بسبب آخر : فروي عن سعيد بن جبير قال : اجتمع أصحاب محمّد عليهالسلام إلى سلمان ، فقالوا :
__________________
الحديث منه ، فإن
السورة مكية بإجماع كما ذكر المصنف ، وسؤالات اليهود إنما كانت في المدينة ،
فتنبّه ، والله الموفّق.
__________________
حدّثنا عن
التّوراة فإنّها حسن ما فيها ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يعني : قصص القرآن أحسن ممّا في التّوراة.
قال الزّجّاج :
والمعنى نحن نبيّن لك أحسن البيان ، والقاصّ : الذي يأتي بالقصّة على حقيقتها قال
: وقوله تعالى : (بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) أي : بوحينا إليك هذا القرآن. قال العلماء : وإنّما سمّيت
قصّة يوسف أحسن القصص ، لأنّها جمعت ذكر الأنبياء ، والصّالحين ، والملائكة ،
والشّياطين ، والأنعام ، وسير الملوك ، والمماليك ، والتّجّار ، والعلماء ،
والرّجال ، والنّساء ، وحيلهنّ ، وذكر التّوحيد ، والفقه ، والسّرّ ، وتعبير
الرّؤيا ، والسّياسة ، والمعاشرة ، وتدبير المعاش ، والصّبر على الأذى ، والحلم ؛
والعزّ ، والحكم ، إلى غير ذلك من العجائب.
قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتَ) في «إن» قولان : أحدهما : أنها بمعنى «قد». والثاني : بمعنى «ما». قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) قال ابن عباس : من قبل نزول القرآن. (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عن علم خبر يوسف وما صنع به إخوته.
(إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (٥))
قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) في «إذ» قولان : أحدهما : أنها صلة للفعل المتقدّم ، والمعنى : نحن نقصّ عليك إذ قال
يوسف. والثاني
: أنها صلة لفعل
مضمر ، تقديره : اذكر إذ قال يوسف ، ذكرهما الزّجّاج ، وابن الأنباري.
قوله تعالى : (يا أَبَتِ) قرأ أبو جعفر ، وابن عامر بفتح التاء ، ووقفا بالهاء ،
وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء ، وقرأ الباقون بكسر التاء. فمن فتح التاء ،
أراد : يا أبتا ، فحذف الألف كما تحذف الياء ، فبقيت الفتحة دالّة على الألف ، كما
أنّ الكسرة تبقى دالّة على الياء. ومن وقف على الهاء ، فلأن تاء التّأنيث تبدل
منها الهاء في الوقف. وقرأ أبو جعفر : «أحد عشر» ، و «تسعة عشر» ، بسكون العين
فيهما. وفيما رآه يوسف قولان : أحدهما
: أنه رأى الشمس
والقمر والكواكب ، وهو قول الأكثرين. قال الفرّاء : وإنّما قال : «رأيتهم» على جمع
ما يعقل ، لأنّ السجود فعل ما يعقل ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) . قال المفسّرون : كانت الكواكب في التأويل إخوته ، والشّمس
أمّه ، والقمر أباه ، فلمّا قصّها على يعقوب أشفق من حسد إخوته. وقال السّدّيّ :
الشمس أبوه ، والقمر خالته ، لأنّ أمّه كانت قد ماتت. والثاني : أنه رأى أبويه وإخوته ساجدين له ، فكنّى عن ذكرهم ، وهذا
مرويّ عن ابن عباس ، وقتادة. فأمّا تكرار قوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ) فقال الزّجّاج : إنما كرّره لمّا طال الكلام توكيدا. وفي
سنّ يوسف لمّا رأى هذا المنام ثلاثة أقوال : أحدها : سبع سنين. والثاني : اثنتا عشرة سنة. والثالث : سبع عشرة سنة.
قال المفسّرون :
علم يعقوب أنّ إخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه ، فقال : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى
__________________
إِخْوَتِكَ
فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً)
، قال ابن قتيبة :
يحتالوا لك حيلة ويغتالوك. وقال غيره : اللام صلة ، والمعنى : فيكيدوك. والعدوّ
المبين : الظّاهر العداوة.
(وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) قال الزّجّاج ، وابن الأنباري : ومثل ما رأيت من الرّفعة
والحال الجليلة ، يختارك ربّك ويصطفيك من بين إخوتك. وقد شرحنا في الأنعام معنى
الاجتباء. وقال ابن عباس : يصطفيك بالنّبوّة. قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحادِيثِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تعبير الرّؤيا ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، فعلى
هذا سمّي تأويلا لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إليه. والثاني : أنه العلم والحكمة ، قاله ابن زيد. والثالث : تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتاب ، ذكره الزّجّاج.
قال مقاتل : و «من» ها هنا صلة. قوله تعالى : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بالنّبوة ، قاله ابن عباس. والثاني : بإعلاء الكلمة. والثالث : بأن أحوج إخوته إليه حتى أنعم عليهم ، ذكرهما الماوردي . وفي (آلِ يَعْقُوبَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ولده ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر ، أتمّ عليهم نعمته
بالسّجود ليوسف ، قاله مقاتل. والثالث
: أهله ، قاله أبو
عبيدة ، واحتجّ بأنك إذا صغّرت الآل ، قلت : أهيل. قوله تعالى : (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) قال عكرمة : فنعمته على إبراهيم أن نجّاه من النار ،
ونعمته على إسحاق أن نجّاه من الذّبح. قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
عَلِيمٌ) أي : عليم حيث يضع النّبوة (حَكِيمٌ) في تدبير خلقه.
(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ
وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))
قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي : في خبر يوسف وقصّة إخوته آيات أي : عبر لمن سأل عنهم
، فكلّ حال من أحواله آية. وقرأ ابن كثير «آية» .
(٨٠٦) قال
المفسّرون : وكان اليهود قد سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قصّة يوسف ، فأخبرهم بها كما في التّوراة ، فعجبوا من
ذلك.
____________________________________
(٨٠٦) باطل لا أصل
له. هو بعض حديث مطوّل ، أخرجه البزار ، ٢٢٢ ، والطبري ١٨٧٩٢ ، وابن حبان في «المجروحين»
١ / ٢٥٠ ، والعقيلي ١ / ٢٥٩ / ٣١٦ ، والبيهقي في «الدلائل» ٦ / ٢٧٧ وابن الجوزي في
«الموضوعات» ١ / ١٤٦ من حديث ابن جابر ، ومداره على الحكم بن ظهير ، وهو متروك.
وقال ابن حبان : لا أصل له من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ، والحكم يروي
الموضوعات ووافقه ابن الجوزي ، وقال : واضعه يريد شين الإسلام بمثل هذا. اه. وضعفه
ابن كثير ٢ / ٥٧٧. والصواب أنه باطل لا أصل له ، وهو من الإسرائيليات.
__________________
وفي وجه هذه
الآيات خمسة أقوال : أحدها
: الدّلالة على صدق
محمّد عليهالسلام حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم ، ولا نظر في الكتاب. والثاني : ما أظهر الله في قصّة يوسف من عواقب البغي عليه. والثالث : صدق رؤياه وصحّة تأويله. والرابع : ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحقّ الأمانة. والخامس : حدوث السّرور بعد اليأس.
فإن قيل : لم خصّ
السّائلين ، ولغيرهم فيها آيات أيضا؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ المعنى : للسّائلين وغيرهم ، فاكتفى بذكر السّائلين من
غيرهم ، كما اكتفى بذكر الحرّ من البرد في قوله تعالى : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ). والثاني
: أنه إذا كان
للسّائلين عن خبر يوسف آية ، كان لغيرهم آية أيضا ؛ وإنّما خصّ السّائلين ، لأنّ
سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر.
(إِذْ قالُوا
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))
قوله تعالى : (إِذْ قالُوا) يعني إخوة يوسف. (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) يعنون بن يامين. وإنما قيل له : ابن يامين ، لأنّ أمّه
ماتت نفساء. ويامين بمعنى الوجع ، وكان أخاه لأمّه وأبيه. والباقون إخوته لأبيه
دون أمّه. فأمّا العصبة ، فقال الزّجّاج : هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد
يتابع بعضهم بعضا في الفعل ، ويتعصّب بعضهم لبعض. وللمفسّرين في العصبة ستة أقوال
: أحدها
: أنها ما كان أكثر
من عشرة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنها ما بين العشرة إلى الأربعين ، روي عن ابن عباس أيضا ،
وبه قال قتادة. والثالث
: أنها ستة أو سبعة
، قاله سعيد بن جبير. والرابع
: أنها من عشرة إلى
خمسة عشر ، قاله مجاهد. والخامس
: الجماعة ، قاله
ابن زيد ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. والسادس : عشرة ، قاله مقاتل. وقال الفرّاء : العصبة عشرة فما زاد.
قوله تعالى : (إِنَّ أَبانا لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لفي خطأ من رأيه ، قاله ابن زيد. والثاني : في شقاء ، قاله مقاتل ؛ والمراد به عناء الدنيا. والثالث : لفي ضلال عن طريق الصّواب الذي يقتضي تعديل المحبّة بيننا
، لأنّ نفعنا له أعمّ. قال الزّجّاج : ولو نسبوه إلى الضّلال في الدّين كانوا
كفّارا ، إنّما أرادوا : إنه قدّم ابنين صغيرين علينا في المحبّة ونحن جماعة نفعنا
أكثر.
(اقْتُلُوا يُوسُفَ
أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩))
قوله تعالى : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) قال أبو عليّ : قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائيّ : «مبين
اقتلوا» بضمّ التنوين ، لأنّ تحريكه يلزم لالتقاء السّاكنين ، فحرّكوه بالضّمّ
ليتبعوا الضمّة الضمّة ، كما قالوا : «مد» «وظلمات». وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن
عامر ، وحمزة ، بكسر التنوين ، فلم يتبعوا الضمّة كما قالوا : «مدّ» «ظلمات». قال
المفسّرون : وهذا قولهم بينهم : (أَوِ اطْرَحُوهُ
أَرْضاً) قال الزّجّاج : نصب «أرضا» على إسقاط «في» ، وإفضاء الفعل
إليها ؛ والمعنى : أو اطرحوه أرضا يبعد بها عن أبيه. وقال غيره : أرضا تأكله فيها
السّباع. قوله تعالى : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ) أي : يفرغ لكم من الشّغل بيوسف. (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد يوسف. (قَوْماً صالِحِينَ) فيه قولان : أحدهما : صالحين بالتّوبة من بعد قتله ، قاله ابن عباس. والثاني : يصلح حالكم عند أبيكم ، قاله مقاتل. وفي قصّتهم نكتة عجيبة
، وهو أنّهم عزموا على التّوبة قبل الذّنب ، وكذلك المؤمن لا ينسى التّوبة وإن كان
مرتكبا للخطايا.
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً
يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي
أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ
غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً
لَخاسِرُونَ (١٤))
قوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن
منبّه ، والسّدّيّ ، ومقاتل. والثاني
: أنه شمعون ، قاله
مجاهد. والثالث
: روبيل ، قاله
قتادة ، وابن إسحاق.
فأمّا غيابة الجبّ
، فقال أبو عبيدة : كلّ شيء غيّب عنك شيئا فهو غيابة. والجبّ : الرّكية التي لم
تطو. وقال الزّجّاج : الغيابة : كلّ ما غاب عنك ، أو غيّب شيئا عنك ، قال المنخَّل
:
فإن أنا يوما
غيبتني غيابتي
|
|
فسيروا بسيري في
العشيرة والأهل
|
والجبّ : البئر
التي لم تطو ؛ سمّيت جبّا من أجل أنّها قطعت قطعا ، ولم يحدث فيها غير القطع من
طيّ وما أشبهه. وقال ابن عباس : «في غيابة الجبّ» أي : في ظلماته. وقال الحسن : في
قعره. وقرأ نافع : «غيابات الجب» فجعل كلّ جزء منه غيابة. وروى خارجة عن نافع : «غيّابات»
بتشديد الياء. وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد : «غيبة الجبّ» بغير ألف مع إسكان
الياء . وأين كان هذا الجبّ ، فيه قولان : أحدهما : بأرض الأردن ، قاله وهب. وقال مقاتل : هو بأرض الأردن على
ثلاث فراسخ من منزل يعقوب. والثاني
: ببيت المقدس ،
قاله قتادة.
قوله تعالى : (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) قال ابن عباس : يأخذه بعض من يسير. (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي : إن أضمرتم له ما تريدون. وأكثر القرّاء قرءوا «يلتقطه»
بالياء. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بالتاء. قال الزّجّاج : وجميع
النّحويين يجيزون ذلك ، لأنّ بعض السّيارة سيّارة ، فكأنّه قال : تلتقطه سيّارة
بعض السّيّارة. وقال ابن الأنباري : من قرأ بالتاء ، فقد أنّث فعل بعض ، وبعض
مذكّر ، وإنّما فعل ذلك حملا على المعنى ، إذ التّأويل : تلتقطه السّيّارة ، قال
الشاعر :
رأت مرّ السّنين
أخذن منّي
|
|
كما أخذ السّرار
من الهلال
|
أراد : رأت
السّنين ، وقال الآخر :
طول الليالي
أسرعت في نقضي
|
|
طوين طولي وطوين
عرضي
|
أراد : الليالي
أسرعت ، وقال جرير :
لمّا أتى خبر
الزّبير تواضعت
|
|
سور المدينة
والجبال الخشّع
|
__________________
أراد : تواضعت
المدينة ، وقال الآخر :
وتشرق بالقول
الّذي قد أذعته
|
|
كما شرقت صدر
القناة من الدّم
|
أراد : كما شرقت
القناة.
قال المفسّرون :
فلمّا عزم القوم على كيد يوسف ، قالوا لأبيه : (ما لَكَ لا
تَأْمَنَّا) قرأ الجماعة «تأمنا» بفتح الميم وإدغام النون الأولى في
الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضّمّ ؛ قال مكّيّ : لأنّ الأصل «تأمننا»
ثم أدغمت النون الأولى ، وبقي الإشمام يدلّ على ضمّة النون الأولى. والإشمام : هو
ضمّك شفتيك من غير صوت يسمع ، فهو بعد الإدغام وقبل فتحه النون الثانية. وابن
كيسان يسمّي الإشمام الإشارة ، ويسمّي الرّوم إشماما ؛ والّروم : صوت ضعيف يسمع
خفيّا. وقرأ أبو جعفر «تأمنّا» بفتح النون من غير إشمام إلى إعراب المدغم. وقرأ
الحسن «ما لك لا تأمنّا» بضم الميم. وقرأ ابن مقسم «تأمننا» بنونين على الأصل
والمعنى : ما لك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا ، فإنه قد كبر ولا يعلم شيئا من
أمر المعاش ، (وَإِنَّا لَهُ
لَناصِحُونَ) فيما أشرنا به عليك ؛ (أَرْسِلْهُ مَعَنا
غَداً) إلى الصحراء. وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وذلك
أنّهم قالوا له : أرسله معنا ، فقال : إنّي ليحزنني أن تذهبوا به ، فقالوا : ما لك
لا تأمنّا.
قوله تعالى : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو «نرتع ونلعب» بالنون
فيهما ، والعين ساكنة ؛ وافقهم زيد عن يعقوب في «نرتع» فحسب. وفي معنى «نرتع»
ثلاثة أقوال : أحدها
: نله ، قاله
الضّحّاك. والثاني
: نسع ، قاله
قتادة. والثالث
: نأكل ؛ يقال : رتعت
الإبل : إذا رعت ، وأرتعتها : إذا تركتها ترعى. قال الشاعر :
وحبيب لي إذا
لاقيته
|
|
وإذا يخلو له
لحمي رتع
|
أي أكله ، هذا قول
ابن الأنباري ، وابن قتيبة. وقرأ عاصم ، وحمزة والكسائيّ : «يرتع ويلعب» بالياء
فيهما وجزم العين والباء ، يعنون «يوسف». وقرأ نافع : «نرتع» بكسر العين من «نرتع»
من غير بلوغ إلى الياء. قال ابن قتيبة : ومعناها : نتحارس ، ويرعى بعضنا بعضا ، أي
: يحفظ ؛ ومنه يقال : رعاك الله ، أي : حفظك. ورويت عن ابن كثير أيضا «نرتعي»
بإثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف. وقرأ أنس ، وأبو رجاء «نرتعي» بإثبات ياء
بعد العين في الوصل والوقف. وقرأ أنس ، وأبو رجاء «نرتع» بنون مرفوعة وكسر التاء
وسكون العين ، و «نلعب» بالنون. قال أبو عبيدة : أي : نرتع إبلنا .
فأمّا قوله تعالى
: «ونلعب» فقال ابن عباس : نلهو.
__________________
فإن قيل : كيف لم
ينكر عليهم يعقوب ذكر اللعب؟
فالجواب من وجهين
: أحدهما
: أنهم لم يكونوا
حينئذ أنبياء ، قاله أبو عمرو بن العلاء. والثاني : أنهم عنوا مباح اللعب ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا
بِهِ) أي : يحزنني ذهابكم به ، لأنه يفارقني فلا أراه. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ،
وحمزة : «الذئب» بالهمز في الثلاثة المواضع. وقرأ الكسائيّ ، وأبو جعفر ، وشيبة
بغير همز. قال أبو عليّ : «الذئب» مهموز في الأصل. يقال : تذاءبت الرّيح : إذا
جاءت من كلّ جهة كما يأتي الذّئب.
وفي علّة تخصيص
الذّئب بالذّكر ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه رأى في منامه
أنّ الذّئب شدّ على يوسف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ أرضهم كانت كثيرة الذّئاب ، قاله مقاتل. والثالث : أنه خافهم عليه فكنّى بذكر الذّئب ، قاله الماوردي .
قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) فيه قولان :
أحدهما
: غافلون في اللعب.
والثاني
: مشتغلون
برعيّتكم. قوله تعالى : (لَئِنْ أَكَلَهُ
الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي : جماعة نرى الذّئب قد قصده ولا نردّ عنه (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي : عاجزون. قال ابن الأنباري : ومن قرأ «عصبة» بالنّصب ،
فتقديره : ونحن نجتمع عصبة.
(فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))
قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) في الكلام اختصار وإضمار ، تقديره : فأرسله معهم فلمّا
ذهبوا. (وَأَجْمَعُوا) أي : عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجبّ.
الإشارة إلى قصّة ذهابهم به
قال المفسّرون : قالوا ليوسف : أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيّد؟
قال : بلى ، قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا ، قال : أفعل ، فدخلوا بجماعتهم على
يعقوب ، فقالوا : يا أبانا إنّ يوسف قد أحبّ أن يخرج معنا ، فقال : ما تقول يا
بنيّ؟ قال : نعم يا أبت ، قد أرى من إخوتي اللين واللطف ، فأنا أحبّ أن تأذن لي ،
فأرسله معهم ، فلمّا أصحروا ، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة ، وأغلظوا له
القول ، وجعل يلجأ إلى هذا ، فيضربه ، وإلى هذا ، فيؤذيه ، فلمّا فطن لما قد عزموا
عليه ، جعل ينادي : يا أبتاه ، يا يعقوب ، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إخوته
لأحزنك ذلك وأبكاك ، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك ، وضيّعوا وصيّتك ؛ وجعل يبكي
بكاء شديدا. قال الضّحّاك عن ابن عباس : فأخذه روبيل فجلد به الأرض ، ثم جثم على
صدره وأراد قتله ، فقال له يوسف : مهلا يا أخي لا تقتلني ، قال : يا
__________________
ابن راحيل صاحب
الأحلام ، قل لرؤياك تخلّصك من أيدينا ، ولوى عنقه ليكسرها ، فنادى يوسف : يا
يهوذا اتّق الله فيّ ، وخلّ بيني وبين من يريد قتلي ، فأدركته له رحمة ، فقال
يهوذا : يا إخوتاه ، ألا أدلّكم على أمر هو خير لكم وأرفق به؟ قالوا : وما ذاك؟
قال : تلقونه في هذا الجبّ فيلتقطه بعض السّيّارة ، قالوا : نفعل ؛ فانطلقوا به
إلى الجبّ ، فخلعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ، لم نزعتم قميصي؟ ردّوه عليّ أستر
به عورتي ويكون كفنا لي في مماتي ؛ فأخرج الله له حجرا في البئر مرتفعا من الماء ،
فاستقرّت عليه قدماه.
وقال السّدّيّ :
جعلوا يدلّونه في البئر ، فيتعلّق بشفير البئر ؛ فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال :
يا إخوتاه ، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر
كوكبا ، فدلّوه في البئر ، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت ، فكان في البئر
ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها ؛ فلمّا ألقوه في الجبّ جعل يبكي
، فنادوه ، فظنّ أنها رحمة أدركتهم فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فمنعهم
يهوذا ، وكان يهوذا يأتيه بالطّعام. وقال كعب : جمعوا يديه إلى عنقه ونزعوا قميصه
، فبعث الله إليه ملكا ، فحلّ عنه وأخرج له حجرا من الماء ، فقعد عليه ؛ وكان
يعقوب قد أدرج قميص إبراهيم الذي كساه الله إيّاه يوم ألقي في النار في قصبة ،
وجعلها في عنق يوسف ، فألبسه إيّاه الملك حينئذ ، وأضاء له الجبّ. وقال الحسن :
ألقي في الجبّ ، فعذب ماؤه ، فكان يغنيه عن الطعام والشّراب ؛ ودخل عليه جبريل ،
فأنس به ، فلمّا أمسى نهض جبريل ليذهب ، فقال له يوسف : إنك إذا خرجت عني استوحشت
، فقال : إذا رهبت شيئا فقل : يا صريخ المستصرخين ، ويا غوث المستغيثين ، ويا
مفرّج كرب المكروبين ، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري. فلمّا
قالها حفّته الملائكة ، فاستأنس في الجبّ ومكث فيه ثلاثة أيام ، وكان إخوته يرعون
حول الجبّ. وقال محمّد بن مسلم الطّائفيّ : لمّا ألقي يوسف في الجبّ ، قال : يا
شاهدا غير غائب ، ويا قريبا غير بعيد ، ويا غالبا غير مغلوب ، اجعل لي فرجا مما
أنا فيه ؛ قال : فما بات فيه. وفي مقدار سنّه حين ألقي في الجبّ أربعة أقوال : أحدها : اثنتا عشرة سنة ، قاله الحسن. والثاني : ستّ سنين ، قاله الضّحّاك. والثالث : سبع عشرة ، قاله ابن السّائب ، وروي عن الحسن أيضا. والرابع : ثمان عشرة.
قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) فيه قولان : أحدهما : أنه إلهام ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه وحي حقيقة. قال المفسّرون : أوحي إليه لتخبرنّ إخوتك
بأمرهم ، أي : بما صنعوا بك وأنت عال عليهم. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قولان : أحدهما
: لا يشعرون أنك
يوسف وقت إخبارك لهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل. والثاني : لا يشعرون بالوحي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد. فعلى
الأول يكون الكلام من صلة «لتنبّئنّهم» ؛ وعلى الثاني من صلة «وأوحينا إليه». قال
حميد : قلت للحسن : أيحسد المؤمن المؤمن؟ قال : لا أبا لك ، ما نسّاك بني يعقوب؟
(وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ
كُنَّا صادِقِينَ (١٧))
قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، وابن السّميفع ، والأعمش :
«عشاء» بضمّ
العين. قال المفسّرون : جاءوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظّلمة على الاعتذار
بالكذب ، فلما سمع صوتهم فزع ، وقال : ما لكم يا بنيّ ، هل أصابكم في غنمكم شيء؟
قالوا : لا ، قال : فما أصابكم؟ وأين يوسف؟ (قالُوا يا أَبانا
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : ننتضل ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة ، قال : والمعنى ،
يسابق بعضنا بعضا في الرّمي. والثاني
: نشتدّ ، قاله
السّدّيّ. والثالث
: نتصيّد ، قاله
مقاتل. فيكون المعنى على الأول : نستبق في الرّمي لننظر أيّنا أسبق سهما ؛ وعلى
الثاني : نستبق على الأقدام ؛ وعلى الثالث : للصّيد.
قوله تعالى : (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي : ثيابنا. (وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي : بمصدّق. وفي قوله تعالى : (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) قولان : أحدهما
: أنّ المعنى : وإن
كنّا قد صدقنا ، قاله ابن إسحاق. والثاني : لو كنّا عندك من أهل الصّدق لاتّهمتنا في يوسف لمحبّتك
إيّاه ، وظننت أنّا قد كذبناك ، قاله الزّجّاج.
(وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))
قوله تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) قال اللغويون : معناه : بدم مكذوب فيه ، والعرب تجعل
المصدر في كثير من الكلام مفعولا ، فيقولون للكذب مكذوب ، وللعقل معقول ، وللجلد
مجلود ، قال الشاعر :
حتّى إذا لم
يتركوا لعظامه
|
|
لحما ولا لفؤاده
معقولا
|
أراد : عقلا. وقال
الآخر :
قد والذي سمك
السّماء بقدرة
|
|
بلغ العزاء
وأدرك المجلود
|
يريد : أدرك
الجلد. ويقولون : ليس لفلان عقد رأي ، ولا معقود رأي ، ويقولون : هذا ماء سكب ،
يريدون : مسكوبا ، وهذا شراب صبّ ، يريدون : مصبوبا ، وماء غور ، يعنون : غائرا ،
ورجل صوم ، يريدون : صائما ، وامرأة نوح ، يريدون : نائحة ؛ وهذا الكلام مجموع قول
الفرّاء ، والأخفش ، والزّجّاج ، وابن قتيبة في آخرين. قال ابن عباس : أخذوا جديا
فذبحوه ، ثم غمسوا قميص يوسف في دمه ، وأتوه به وليس فيه خرق ، فقال : كذبتم ، لو
كان أكله الذّئب لخرّق القميص. وقال قتادة : كان دم ظبية. وقرأ ابن أبي عبلة : «بدم
كذبا» بالنّصب. وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية : «بدم كدب» بالدال غير
معجمة ، أي : بدم طريّ.
قوله تعالى : (بَلْ سَوَّلَتْ) أي : زيّنت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ
أَمْراً) غير ما تصفون (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال الخليل : المعنى : فشأني صبر جميل ، والذي أعتقده صبر
جميل. وقال الفرّاء : الصّبر مرفوع ، لأنه عزّى نفسه وقال : ما هو إلّا الصّبر ،
ولو أمرهم بالصّبر ، لكان نصبا. وقال قطرب : المعنى : فصبري
__________________
صبر جميل. وقرأ
ابن مسعود ، وأبيّ ، وأبو المتوكّل : «فصبرا جميلا» بالنّصب. قال الزّجّاج :
والصّبر الجميل لا جزع فيه ، ولا شكوى إلى الناس.
قوله تعالى : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما
تَصِفُونَ) فيه قولان :
أحدهما
: على ما تصفون من
الكذب. والثاني
: على احتمال ما
تصفون.
(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ
فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ
وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩))
قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي : قوم يسيرون (فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ) قال الأخفش : أنّث السّيّارة وذكّر الوارد ، لأنّ
السّيّارة في المعنى للرّجال. وقال الزّجّاج : الوارد : الذي يرد الماء ليستقي
للقوم. وفي اسم هذا الوارد قولان : أحدهما : مالك بن ذعر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. والثاني
: مجلث بن رعويل ،
قاله وهب بن منبّه.
قوله تعالى : (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي : أرسلها. قال الزّجّاج : يقال : أدليت الدّلو : إذا
أرسلتها لتملأها ، ودلوتها : إذا أخرجتها. (قالَ يا بُشْرى) قرأه ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يا
بشراي» بفتح الياء وإثبات الألف. وروى ورش عن نافع «بشراي» و «محياي» و «مثواي»
بسكون الياء. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ «يا بشرى» بألف بغير ياء. وعاصم بفتح
الراء ، وحمزة ، والكسائيّ يميلانها. قال الزّجّاج : من قرأ «يا بشراي» فهذا
النّداء تنبيه للمخاطبين ، لأنّ البشرى لا تجيب ولا تعقل ؛ فالمعنى : أبشروا ، ويا
أيّها البشرى هذا من أوانك ، وكذلك إذا قلت : يا عجباه ، فكأنّك قلت : اعجبوا ،
ويا أيّها العجب هذا من حينك ؛ وقد شرحنا هذا المعنى.
فأمّا قراءة من
قرأ «يا بشرى» فيجوز أن يكون المعنى : يا من حضر ، هذه بشرى. ويجوز أن يكون المعنى
: يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين. وذكر السّدّيّ أنه نادى
بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى . وقال ابن الأنباري : يجوز فيه هذه الأقوال ، ويجوز أن
يكون اسم امرأة. وقرأ أبو رجاء ، وابن أبي عبلة : «يا بشريّ» بتشديد الياء وفتحها
من غير ألف . قال ابن عباس : لمّا أدلى دلوه ؛ تعلّق يوسف بالحبل فنظر
إليه فإذا بغلام أحسن ما يكون من الغلمان ، فقال لأصحابه : البشرى ، فقالوا : ما
وراءك؟ قال : هذا غلام في البئر ، فأقبلوا يسألونه الشّركة فيه ، واستخرجوه من
الجبّ ، فقال بعضهم لبعض : اكتموه عن أصحابكم لئلّا يسألوكم الشّركة فيه ، فإن
قالوا : ما هذا؟ فقولوا : استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر ؛ فجاء إخوة يوسف
فطلبوه فلم يجدوه في البئر ، فنظروا ، فإذا هم بالقوم ومعهم
__________________
يوسف ، فقالوا لهم
: هذا غلام أبق منّا ، فقال مالك بن ذعر : فأنا أشتريه منكم ، فباعوه بعشرين درهما
وحلّة ونعلين ، وأسرّه مالك بن ذعر من أصحابه ، وقال : استبضعناه أهل الماء لنبيعه
لهم بمصر.
قوله تعالى : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) قال الزّجّاج : «بضاعة» منصوب على الحال ، كأنّه قال :
وأسرّوه جاعليه بضاعة. وقال ابن قتيبة : أسرّوا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة. وفي
الفاعلين لذاك قولان : أحدهما
: أنهم واردو الجبّ
، أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم ، وتواصوا أنه بضاعة استبضعهم إياها أهل الماء ؛
وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثاني : أنهم إخوته ، أسرّوا أمره وباعوه ، وقالوا : هو بضاعة لنا
، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس أيضا . قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما
يَعْمَلُونَ) يعمّ الباعة والمشترين.
(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))
قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ) هذا حرف من حروف الأضداد ، تقول : شريت الشيء ؛ بمعنى بعته
؛ وشريته ، بمعنى اشتريته. فإن كان بمعنى باعوه ، ففيهم قولان : أحدهما : أنهم إخوته ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنهم السّيّارة ، ولم يبعه إخوته ، قاله الحسن ، وقتادة.
وإن كان بمعنى اشتروه ، فإنّهم السّيّارة . قوله تعالى : (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الحرام ، قاله ابن عباس ،
__________________
والضّحّاك ،
وقتادة في آخرين. والثاني
: أنه القليل ،
قاله عكرمة ، والشّعبيّ. قال ابن قتيبة : البخس : الخسيس الذي بخس به البائع. والثالث : النّاقص ، وكانت الدّراهم عشرين درهما في العدد ، وهي تنقص
عن عشرين في الميزان ، قاله أبو سليمان الدّمشقي .
قوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) قال الفرّاء : إنما قيل : «معدودة» ليستدلّ بها على
القلّة. وقال ابن قتيبة : أي : يسيرة ، سهل عددها لقلّتها ، فلو كانت كثيرة لثقل
عددها. وقال ابن عباس : كانوا في ذلك الزّمان لا يزنون أقلّ من أربعين درهما ،
وقيل : إنما لم يزنوها لزهدهم فيه. وفي عدد تلك الدّراهم خمسة أقوال : أحدها : عشرون درهما ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ،
وعكرمة في رواية ، ونوف الشّامي ، ووهب بن منبّه ، والشّعبيّ ، وعطيّة ، والسّدّيّ
، ومقاتل في آخرين. والثاني
: عشرون درهما
وحلّة ، ونعلان ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : اثنان وعشرون درهما ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال
مجاهد. والرابع
: أربعون درهما ،
قاله عكرمة في رواية ، وابن إسحاق. والخامس : ثلاثون درهما ، ونعلان ، وحلّة ، وكانوا قالوا له بالعبرانيّة : إمّا أن تقرّ لنا
بالعبودية ، وإمّا أن نأخذك منهم فنقتلك ، قال : بل أقرّ لكم بالعبودية ، ذكره
إسحاق بن بشر عن بعض أشياخه. قال المفسّرون : اقتسموا ثمنه ، فاشتروا به نعالا
وخفافا. وكان بعض الصالحين يقول : والله ما يوسف ـ وإن
باعه أعداؤه ـ بأعجب منك في بيعك نفسك بشهوة ساعة من معاصيك.
قوله تعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) الزّهد : قلّة الرّغبة في الشيء. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما
: أنهم إخوته ، قال
ابن عباس ؛ فعلى هذا ، في هاء «فيه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، لأنهم لم يعلموا مكانه من الله تعالى
، قاله الضّحّاك ، وابن جريج. والثاني
: أنها ترجع إلى
الثّمن. وفي علّة زهدهم قولان : أحدهما
: رداءته. والثاني : أنهم قصدوا بعد يوسف ، لا الثّمن. والثاني : أنهم السّيّارة الذين اشتروه. وفي علّة زهدهم ثلاثة أقوال
: أحدها
: أنهم ارتابوا
لقلّة ثمنه. والثاني
: أنّ إخوته وصفوه
عندهم بالخيانة والإباق. والثالث
: لأنهم علموا أنه
حرّ.
__________________
(وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١))
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) قال وهب : لمّا ذهبت به السّيّارة إلى مصر ، وقفوه في
سوقها يعرضونه للبيع ، فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا ، ووزنه ورقا
، ووزنه حريرا ، فاشتراه بذلك الثّمن رجل يقال له : قطفير ، وكان أمين فرعون
وخازنه ، وكان مؤمنا. وقال ابن عباس : إنّما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين
دينارا ، وزوجي نعل ، وثوبين أبيضين ، فلمّا رجع إلى منزله قال لامرأته : أكرمي
مثواه. وقال قوم : اسمه أطفير. وفي اسم المرأة قولان : أحدهما : راعيل بنت رعاييل ، قاله ابن إسحاق. والثاني : أزليخا بنت تمليخا ، قاله مقاتل.
قال ابن قتيبة : «أكرمي
مثواه» يعني منزله ومقامه عندك ، من قولك : ثويت بالمكان : إذا أقمت به. وقال
الزّجّاج : أحسني إليه في طول مقامه عندنا. قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة :
العزيز حين تفرّس في يوسف ، فقال لامرأته : «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا» ، وابنة
شعيب حين قالت : (يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ) ، وأبو بكر حين استخلف عمر.
وفي قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) قولان : أحدهما
: يكفينا إذا بلغ
أمورنا. والثاني
: بالرّبح في ثمنه.
قوله تعالى : (أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَداً) قال ابن عباس : نتبنّاه. وقال غيره : لم يكن لهما ولد ،
وكان العزيز لا يأتي النساء. قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ) أي : وكما أنجيناه من إخوته وأخرجناه من ظلمة الجبّ ،
مكّنّا له في الأرض ، أي : ملّكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها. (وَلِنُعَلِّمَهُ) قال ابن الأنباري : إنّما دخلت الواو في «ولنعلّمه» لفعل
مضمر هو المجتلب للام ، والمعنى : مكّنّا ليوسف في الأرض ، واختصصناه بذلك لكي
نعلّمه من تأويل الأحاديث. وقد سبق تفسير «تأويل الأحاديث». (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، فالمعنى : أنه غالب على ما
أراد من قضائه ، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني : أنها ترجع إلى يوسف ، فالمعنى : غالب على أمر يوسف حتى يبلّغه ما أراده له ،
وهذا معنى قول مقاتل. وقال بعضهم : والله غالب على أمره حيث أمر يعقوب يوسف أن لا
يقصّ رؤياه على إخوته ، فعلموا بها ، ثم أراد يعقوب أن يلتقطه بعض السيّارة فيندرس
أمره ، فعلا أمره ، ثم باعوه ليكون مملوكا ، فغلب أمره حتى ملك ، وأرادوا أن
يعطّفوا أباهم ، فأباهم ، ثم أرادوا أن يغرّوا يعقوب بالبكاء والدّم الذي ألقوه
على القميص ، فلم يخف عليه ، ثم أرادوا أن يكونوا بعده قوما صالحين ، فنسوا ذنبهم
إلى أن أقرّوا به بعد سنين. فقالوا : (إِنَّا كُنَّا
خاطِئِينَ) ، ثم أرادوا أن يمحوا محبّته من قلب أبيه ، فازدادت ، ثم
أرادت أزليخا أن تلقي عليه التّهمة بقولها : (ما جَزاءُ مَنْ
أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ، فغلب أمره ، حتى شهد شاهد من أهلها ، وأراد يوسف أن
__________________
يتخلّص من السّجن
بذكر السّاقي ، فنسي السّاقي حتى لبث في السجن بضع سنين.
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))
قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قد ذكرنا معنى الأشدّ في سورة الأنعام ، واختلف العلماء في المراد به ها هنا على ثمانية أقوال : أحدها : أنه ثلاث وثلاثون سنة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وبه
قال مجاهد ، وقتادة. والثاني
: ثماني عشرة سنة ،
قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة. والثالث : أربعون سنة ، قاله الحسن. والرابع : بلوغ الحلم ، قاله الشّعبيّ ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ،
وابنه. والخامس
: عشرون سنة ، قاله
الضّحّاك. والسادس
: أنه من نحو سبع
عشرة سنة إلى نحو الأربعين ، قاله الزّجّاج. والسابع : أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة ، حكاه ابن قتيبة. والثامن : ثلاثون سنة ، ذكره بعض المفسّرين .
قوله تعالى : (آتَيْناهُ حُكْماً) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الفقه والعقل ، قاله مجاهد. والثاني : النّبوّة ، قاله ابن السّائب. والثالث : أنه جعل حكيما ، قاله الزّجّاج ، قال : وليس كلّ عالم
حكيما ، إنما الحكيم : العالم المستعمل علمه ، الممتنع به من استعمال ما يجهّل
فيه. والرابع
: أنه الإصابة في
القول : ذكره الثّعلبيّ. قال اللغويون : الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطأ
، ويمنع منهما ، ويردّ النّفس عما يشينها ويعود عليها بالضّرر ، ومنه : حكمة
الدّابة. وأصل أحكمت في اللغة : منعت ، وسمّي الحاكم حاكما ، لأنه يمنع من الظّلم
والزّيغ.
وفي المراد بالعلم
ها هنا قولان : أحدهما
: الفقه. والثاني : علم الرّؤيا.
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف وحراسته ، نثيب من أحسن
عمله ، واجتنب المعاصي ، فننجّيه من الهلكة ، ونستنقذه من الضّلالة ونجعله من أهل
العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف.
وفي المراد
بالمحسنين ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها
: الصّابرون على
النّوائب. والثاني
: المهتدون ، رويا
عن ابن عباس. والثالث
: المؤمنون. قال
محمّد بن جرير : هذا ، وإن كان مخرّج ظاهره على كلّ محسن ، فالمراد به محمّد صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى : كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من البلاء فمكّنته
في الأرض وآتيته العلم ، كذلك أفعل بك وأنجّيك من مشركي قومك .
__________________
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي
هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ
قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (٢٣))
قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها
عَنْ نَفْسِهِ) أي : طلبت منه المواقعة ، وقد سبق اسمها. قال الزّجّاج :
المعنى : راودته عمّا أرادته مما يريد النساء من الرجال (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) قرأ ابن كثير : «هيت لك» بفتح الهاء وتسكين الياء وضمّ
التاء. وقرأ نافع ، وابن عامر : «هيت لك» بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء ،
وهي مرويّة عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى الحلوانيّ عن هشام عن ابن عامر
مثله ، إلّا أنه همزه. قال أبو عليّ الفارسيّ : هو خطأ. وروي عن ابن عامر : «هئت
لك» بكسر الهاء وهمز الياء وضمّ التاء ، وهي قراءة ابن عباس ، وأبي الدّرداء ،
وقتادة. قال الزّجّاج : هو من الهيئة ، كأنها قالت : تهيّأت لك. وعن ابن محيصن ،
وطلحة بن مصرّف مثل قراءة ابن عباس ؛ إلّا أنّها بغير همز. وعن ابن محيصن بفتح
الهاء وكسر التاء ، وهي قراءة أبي رزين ، وحميد. وعن الوليد بن عتبة بكسر الهاء
والتاء مع الهمز ، وهي قراءة أبي العالية. وقرأ ابن خثيم مثله ، إلّا أنه لم يهمز.
وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز. وقرأ ابن مسعود ،
وابن السّميفع ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «هيّئت لك» برفع الهاء والتاء وبياء
مشدّدة مكسورة بعدها همزة ساكنة. وقرأ أبيّ بن كعب : «ها أنا لك». وقرأ الباقون
بفتح الهاء والتاء بغير همز. قال الزّجّاج : وهو أجود اللغات ، وأكثرها في كلام
العرب ، ومعناها : هلمّ لك ، أي : أقبل على ما أدعوك إليه ، وقال الشاعر :
أبلغ أمير
المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا
|
|
أنّ العراق
وأهله عنق إليك فهيت هيتا
|
أي : فأقبل وتعال.
وقال ابن قتيبة : يقال : هيّت فلان لفلان : إذا دعاه وصاح به قال الشاعر :
قد رابني أن
الكريّ أسكتا
|
|
لو كان معنيّا
بها لهيّتا
|
أي : صار ذا سكوت.
واختلف العلماء في قوله «هيت لك» بأي لغة هي ، على أربعة أقوال : أحدها : أنها عربية قاله مجاهد. وقال ابن الأنباري : وقد قيل :
إنها من كلام قريش ، إلا أنها ممّا درس وقلّ في أفواههم آخرا ، فأتى الله به ،
لأنّ أصله من كلامهم ، وهذه الكلمة لا مصدر لها ، ولا تصرّف ، ولا تثنية ، ولا جمع
، ولا تأنيث ، يقال للاثنين : هيت لكما ، وللجميع : هيت لكم ، وللنّسوة : هيت
لكنّ. والثاني
: أنها بالسّريانيّة
، قاله الحسن. والثالث
: بالحورانيّة ،
قاله عكرمة ، والكسائيّ. وقال الفرّاء : يقال : إنها لغة لأهل حوران ، سقطت إلى
أهل مكّة فتكلّموا بها. والرابع
: أنها بالقبطيّة ،
قاله السّدّيّ.
قوله تعالى : (قالَ مَعاذَ اللهِ) قال الزّجّاج : هو مصدر ، والمعنى : أعوذ بالله أن أفعل
هذا ، يقال : عذت عياذا ومعاذا ومعاذة. (إِنَّهُ رَبِّي) أي : إنّ العزيز صاحبي (أَحْسَنَ مَثْوايَ) ، قال : ويجوز
__________________
أن يكون «إنه ربي»
يعني الله عزوجل «أحسن مثواي» أي :
تولّاني في طول مقامي.
قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي : إن فعلت هذا فخنته في أهله بعد ما أكرمني فأنا ظالم. وقيل
: الظّالمون ها هنا : الزّناة.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) الهمّ بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته ما
لم يواقع. فأما همّ أزليخا ، فقال المفسّرون : دعته إلى نفسها واستلقت له.
واختلفوا في همّه بها على خمسة أقوال :
__________________
أحدها
: أنه كان من جنس
همّها ، ولو لا أنّ الله تعالى عصمه لفعل ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، وسعيد بن
جبير ، والضّحّاك ، والسّدّيّ ، وهو قول عامّة المفسّرين المتقدّمين ، واختاره من
المتأخّرين جماعة منهم ابن جرير ، وابن الأنباري. وقال ابن قتيبة : لا يجوز في
اللغة : هممت بفلان ، وهمّ بي ، وأنت تريد اختلاف الهمّين. واحتجّ من نصر هذا
القول بأنه مذهب الأكثرين من السّلف والعلماء الأكابر ، ويدلّ عليه ما سنذكره من
أمر البرهان الذي رآه. قالوا : ورجوعه عمّا همّ به من ذلك خوفا من الله تعالى يمحو
عنه سيّئ الهمّ ، ويوجب له علوّ المنازل.
(٨٠٧) ويدلّ على
هذا الحديث الصّحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنّ ثلاثة خرجوا فلجؤوا إلى غار ، فانطبقت عليهم صخرة ،
فقالوا : ليذكر كلّ واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم : اللهمّ إنك تعلم أنه كانت
لي بنت عمّ فراودتها عن نفسها فأبت إلّا بمائة دينار ، فلمّا أتيت بها وجلست منها
مجلس الرّجل من المرأة أرعدت وقالت : إنّ هذا لعمل ما عملته قطّ ، فقمت عنها
وأعطيتها المائة الدّينار ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ،
فزال ثلث الحجر». والحديث معروف ، وقد ذكرته في «الحدائق» ، فعلى هذا نقول : إنما
همّت ، فترقّت همّتها إلى العزيمة ، فصارت مصرّة على الزّنا. فأمّا هو ، فعارضه ما
يعارض البشر من خطرات القلب ، وحديث النّفس ، من غير عزم ، فلم يلزمه هذا الهمّ
ذنبا ، فإنّ الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد ، فإذا لم يشرب
لم يؤاخذ بما هجس في نفسه.
(٨٠٨) وقد قال عليهالسلام : «عفي لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل».
(٨٠٩) وقال عليهالسلام : «هلك المصرّون» وليس الإصرار إلّا عزم القلب ، فقد فرّق
بين حديث النّفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثّوريّ : أيؤاخذ العبد بالهمّة؟ فقال : إذا كانت عزما.
____________________________________
(٨٠٧) صحيح. أخرجه
البخاري ٢٢١٥ و ٢٢٣٣ و ٣٤٦٥ و ٥٩٧٤ ، ومسلم ٢٧٤٣ ، والطبراني في «الدعاء» ١٩٩ ،
وابن حبان ٨٩٧ ، والبغوي في «شرح السنة» ٣٤٢٠ من طريق نافع عن ابن عمر مرفوعا بأتم
منه.
ـ وأخرجه البخاري ٢٢٧٢ ومسلم ٢٧٤٣ وأحمد ٢ / ١١٦
من طريقين عن سالم ، عن ابن عمر به.
ـ وله شواهد منها : حديث أبي هريرة : أخرجه البزار
١٨٦٩ وابن حبان ٩٧٢ وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨ / ١٤٢ و ١٤٣ : رواه
البزار والطبراني في «الأوسط» بأسانيد ورجال البزار وأحد أسانيد الطبراني رجالهما
رجال الصحيح. وحديث النعمان بن بشير : أخرجه أحمد ٢ / ١٤٢ والبزار ٣١٧٨ و ٣١٧٩ و ٣١٨٠.
وذكره الهيثمي في «المجمع»
٨ / ١٤٢ وقال : ورجال أحمد ثقات. وحديث أنس : أخرجه أحمد ٣ / ١٤٢ و ١٤٣ والبزار
١٨٦٨ والطبراني في «الدعاء» ٢٠٠. وقال الهيثمي في «المجمع» ٨ / ١٤٠ : رواه أحمد
مرفوعا ، ورواه أبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. فهذا حديث مشهور.
(٨٠٨) صحيح. أخرجه
البخاري ٢٥٢٨ و ٥٢٦٩ و ٦٦٦٤ ومسلم ١٢٧ وأبو داود ٢٢٠٩ والترمذي ١١٨٣ والنسائي ٦ /
١٥٦ و ١٥٧ وابن ماجة ٢٠٤٤ والبيهقي ٧ / ٢٩٨ والطيالسي ٢٤٥٩ وابن حبان ٤٣٣٤ من طرق
عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة به.
(٨٠٩) حسن. أخرجه
أحمد ٢ / ١٦٥ ـ ٢١٩ والبيهقي في «الشعب» ٧٢٣٦ من حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص في أثناء حديث ، وإسناده حسن ، وجوّده المنذري في «الترغيب»
٣٦٢٨. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ١٩٠ ـ ١٩١ :
رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد ، ووثقه ابن حبان. قلت : وقال عنه الحافظ
في «التقريب» : ثقة.
(٨١٠) ويؤيده
الحديث الصّحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يقول الله تعالى : إذا همّ عبدي بسيّئة ولم
يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها عليه سيّئة». واحتجّ القاضي أبو يعلى
على أنّ همّته لم تكن من جهة العزيمة ، وإنّما كانت من جهة دواعي الشّهوة بقوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) وقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) وكلّ ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية ،
وعلى هذا تكون همّته مجرّد خاطر لم يخرج إلى العزم.
فإن قيل : فقد
سوّى القرآن بين الهمّتين ، فلم فرّقتم؟
فالجواب : أنّ
الاستواء وقع في بداية الهمّة ، ثم ترقّت همّتها إلى العزيمة ، بدليل مراودتها
واستلقائها بين يديه ، ولم تتعدّ همّته مقامها ، بل نزلت عن رتبتها ، وانحل
معقودها. بدليل هربه منها ، وقوله : (قالَ مَعاذَ). ولا يصح ما يروى عن المفسّرين أنه حلّ السّراويل وقعد
منها مقعد الرّجل ، فإنه لو كان هذا ، دلّ على العزم ، والأنبياء معصومون من العزم
على الزّنا.
والقول
الثاني : أنها همّت به أن
يفترشها ، وهمّ بها ، أي : تمنّاها أن تكون له زوجة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
والقول الثالث :
أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : ولقد همّت به ، ولو لا أن رأى برهان ربّه
لهمّ بها فلمّا رأى البرهان ، لم يقع منه الهمّ ، فقدّم جواب «لو لا» عليها ، كما
يقال : قد كنت من الهالكين ، لو لا أنّ فلانا خلّصك لكنت من الهالكين ، ومنه قول
الشاعر :
فلا يدعني قومي
صريحا لحرّة
|
|
لئن كنت مقتولا
وتسلم عامر
|
أراد : لئن كنت
مقتولا وتسلم عامر ، فلا يدعني قومي ، فقدّم الجواب. وإلى هذا القول ذهب قطرب ،
وأنكره قوم ، منهم ابن الأنباري ، وقالوا : تقديم جواب «لو لا» عليها شاذ مستكره ،
لا يوجد في فصيح كلام العرب ، فأمّا البيت المستشهد به ، فمن اضطرار الشّعراء ،
لأنّ الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره ، فيضع الكلمة في غير
موضعها ، ويقدم ما حكمه التّأخير ، ويؤخّر ما حكمه التّقديم ، ويعدل عن الاختيار
إلى المستقبح للضّرورة ، قال الشاعر :
وجزى ربّه عنّي
عديّ بن حاتم
|
|
بتركي وخذلاني
جزاء موفّرا
|
تقديره : جزى عني
عديّ بن حاتم ربّه ، فاضطرّ إلى تقديم الرّبّ ، وقال الآخر :
لمّا جفا إخوانه
مصعبا
|
|
أدّى بذاك البيع
صاعا بصاع
|
أراد : لمّا جفا
مصعبا إخوانه ، وأنشد الفرّاء :
طلبا لعرفك يا
ابن يحيى بعد ما
|
|
تقطّعت بي دونك
الأسباب
|
فزاد تاء على تاء «تقطّعت»
لا أصل لها ليصلح وزن شعره ، وأنشد ثعلب :
إنّ شكلي وإنّ
شكلك شتّى
|
|
فالزمي الخفض
وانعمي تبيضّضي
|
فزاد ضادا لا أصل
لها لتكمل أجزاء البيت ، وقال الفرزدق :
____________________________________
(٨١٠) صحيح. أخرجه
البخاري ٧٥٠١ و ٦٤٩١ ، ومسلم ١٢٨ ، والترمذي ٣٠٧٣ ، وأحمد ٢ / ٢٤٢ ، وابن مندة ٣٧٥
، من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا.
هما تفلا في فيّ
من فمويهما
|
|
على النّابح
العاوي أشدّ لجاميا
|
فزاد واوا بعد
الميم ليصلح شعره. ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النّازل بالفصاحة ،
لأنها من ضرورات الشّعراء.
والقول
الرابع : أنه همّ أن
يضربها ويدفعها عن نفسه ، فكان البرهان الذي رآه من ربّه أنّ الله أوقع في نفسه
أنه إن ضربها كان ضربه إيّاها حجّة عليه ، لأنّها تقول : راودني فمنعته فضربني ،
ذكره ابن الأنباري.
والقول
الخامس : أنه همّ بالفرار
منها ، حكاه الثّعلبيّ ، وهو قول مرذول ، أفتراه أراد الفرار منها ، فلمّا رأى
البرهان أقام عندها؟! قال بعض العلماء : كان همّ يوسف خطيئة من الصّغائر الجائزة
على الأنبياء ، وإنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه ، وليعرّفهم مواقع نعمته
في الصّفح عنهم ، وليجعلهم أئمّة لأهل الذّنوب في رجاء الرّحمة. قال الحسن : إنّ
الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم ، ولكن لئلّا تقنطوا من رحمته.
يعني الحسن أنّ الحجّة للأنبياء ألزم ، فإذا قبل التّوبة منهم ، كان إلى قبولها
منكم أسرع.
(٨١١) وروي عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ما من أحد يلقى الله تعالى إلّا وقد همّ بخطيئة
أو عملها ، إلّا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يهمّ ولم يعملها».
قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) جواب «لو لا» محذوف. قال الزّجّاج : المعنى : لو لا أن رأى
برهان ربّه لأمضى ما همّ به. قال ابن الأنباري : لزنى ، فلمّا رأى البرهان كان سبب
انصراف الزّنا عنه. وفي البرهان ستة أقوال :
أحدها
: أنه مثل له
يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : نودي يا يوسف ، أتزني فتكون مثل
الطّائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النّداء شيئا ، فنودي
الثانية ، فلم يعط على النّداء شيئا فتمثّل له يعقوب فضرب صدره ، فقام ، فخرجت
شهوته من أنامله. وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال : رأى صورة أبيه يعقوب في وسط
البيت عاضّا على أنامله ، فأدبر هاربا ، وقال : وحقّك يا أبت لا أعود أبدا. وقال
أبو صالح عن ابن عباس : رأى مثال يعقوب في الحائط عاضّا
____________________________________
(٨١١) متن واه
بمرة ، شبه موضوع ، فيه زيادة تدل على بطلانه. أخرجه ابن المنذر كما في «تفسير ابن
كثير» ١ / ٣٦٩ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا
فإن الله تعالى يقول : (وَسَيِّداً
وَحَصُوراً) قال : «وإنما ذكره مثل هدبة الثوب». وكذا ذكره الديلمي في «الفردوس»
٤٧٨٨ وفي الإسناد سويد بن سعيد ، وقد ضعفه الجمهور وهو الذي جاء بحديث «من عشق فعف
...» وقال فيه ابن معين : لو كان لي فرس ورمح غزوت سويدا. وقال البخاري : منكر
الحديث. وقد قال البخاري في تاريخه ، كل من قلت عنه منكر الحديث فلا يحل الرواية
عنه. اه راجع ترجمته في «الميزان». وله طريق أخرى عند الطبري ٦٩٧٦ وفيه ابن إسحاق
مدلس وقد عنعن ، والظاهر أنه سمعه من ضعيف فأسقطه ، فقد كرره الطبري ٦٩٧٧ بإسناد
صحيح عن ابن المسيب من قوله وهو أشبه وكرره ٦٩٧٩ بإسناد آخر عنه أيضا ، و ٦٩٧٨ عن
ابن المسيب عن عبد الله بن عمرو موقوفا وهو أشبه ، فإن المتن منكر أن يكون من كلام
النبي صلىاللهعليهوسلم ، والراجح أنه متلقى عن أهل الكتاب هذا ما تميل إليه النفس
والله أعلم. وقد رجح الوقف السيوطي في «الدر» ٢ / ٣٩.
على شفتيه. وقال
الحسن : مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضّا على إبهامه أو بعض
أصابعه. وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن
سيرين ، والضّحّاك في آخرين. وقال عكرمة : كلّ ولد يعقوب ، قد ولد له اثنا عشر
ولدا ، إلّا يوسف فإنّه ولد له أحد عشر ولدا ، فنقص بتلك الشّهوة ولدا.
والثاني
: أنه جبريل عليهالسلام. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : مثل له يعقوب فلم
يزدجر ، فنودي : أتزني فتكون مثل الطّائر نتف ريشه؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في
ظهره ، فوثب.
والثالث
: أنها قامت إلى
صنم في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال لها يوسف : أيّ شيء تصنعين؟ قالت : أستحي
من إلهي هذا أن يراني على هذه السّوأة ، فقال : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ،
ولا أستحي من إلهي القائم على كلّ نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى ، قاله عليّ
بن أبي طالب ، وعليّ بن الحسين ، والضّحّاك.
والرابع
: أنّ الله تعالى
بعث إليه ملكا ، فكتب في وجه المرأة بالدّم : (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. وروي عن محمّد بن كعب
القرظيّ : أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها ، وفي رواية أخرى عنه ، أنه رآها
مكتوبة في الحائط. وروى مجاهد عن ابن عباس قال : بدت فيما بينهما كفّ ليس فيها عضد
ولا معصم ، وفيها مكتوب (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ، فقام هاربا ، وقامت ، فلمّا ذهب عنهما الرّوع عادت وعاد
، فلمّا قعد إذا بكفّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) الآية ، فقام هاربا ، فلمّا عاد ، قال الله تعالى لجبرئيل
: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحطّ جبريل عاضّا على كفّه أو إصبعه وهو يقول
: يا يوسف ، أتعمل عمل السّفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟!. وقال وهب بن
منبّه : ظهرت تلك الكفّ وعليها مكتوب بالعبرانيّة (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ، فانصرفا ، فلمّا عادا رجعت وعليها مكتوب (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠)
كِراماً كاتِبِينَ) ، فلمّا عادا عادت وعليها مكتوب (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) الآية ، فعاد ، فعادت الرابعة وعليها مكتوب (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللهِ) ، فولّى يوسف هاربا .
والخامس
: أنه سيّده العزيز
دنا من الباب ، رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم. وقال ابن إسحاق : يقال : إنّ
البرهان خيال سيّده ، رآه عند الباب فهرب.
والسادس
: أنّ البرهان أنه
علم ما أحلّ الله ممّا حرّم الله ، فرأى تحريم الزّنا ، روي عن محمّد بن كعب
القرظيّ. قال ابن قتيبة : رأى حجّة الله عليه ، وهي البرهان ، وهذا هو القول
الصّحيح ، وما تقدّمه فليس بشيء ، وإنّما هي أحاديث من أعمال القصّاص ، وقد أشرت
إلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير». وكيف يظنّ بنبيّ لله كريم أنه يخوّف
ويرعّب ويضطرّ إلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ؟! هذا غاية القبح.
__________________
قوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : كذلك أريناه البرهان (لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ) وهو خيانة صاحبه (وَالْفَحْشاءَ) ركوب الفاحشة (إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بكسر اللام ،
والمعنى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ بفتح
اللام ، أرادوا : من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش. وبعض المفسّرين يقول
: السّوء : الزّنى ، والفحشاء : المعاصي.
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما
جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ
كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧))
قوله تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) يعني يوسف والمرأة ، تبادرا إلى الباب يجتهد كلّ واحد
منهما أن يسبق صاحبه ، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج ، وأرادت هي إن سبقت
إمساك الباب لئلّا يخرج ، فأدركته فتعلّقت بقميصه من ورائه ، فجذبته إليها ، فقدّت
قميصه من دبر ، أي : قطعته من خلفه ، لأنه كان هو الهارب وهي الطّالبة له. قال
المفسّرون : قطعت قميصه نصفين ، فلمّا خرجا ، ألفيا سيّدها ، أي : صادفا زوجها عند
الباب ، فحضرها في ذلك الوقت كيد ، فقالت سابقة بالقول مبرئة لنفسها من الأمر (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ
سُوءاً) قال ابن عباس : تريد الزّنى (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) أي : ما جزاؤه إلّا السّجن (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني الضّرب بالسّياط ، فغضب يوسف حينئذ وقال : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وقال وهب بن منبّه : قال له العزيز حينئذ : أخنتني يا يوسف
في أهلي ، وغدرت بي ، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك! فقال حينئذ : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي).
قوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) وذلك أنه لمّا تعارض قولاهما ، احتاجا إلى شاهد يعلم به
قول الصّادق. وفي ذلك الشّاهد ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه كان صبيّا في
المهد ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة ، وبه قال سعيد بن جبير ،
والضّحّاك ، وهلال بن يساف
__________________
في آخرين. والثاني : أنه كان من خاصّة الملك. رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. وقال
أبو صالح عن ابن عباس : كان ابن عمّ لها ، وكان رجلا حكيما ، فقال : قد سمعنا
الاشتداد والجلبة من وراء الباب ، فإن كان شقّ القميص من قدّامه فأنت صادقة وهو
كاذب ، وإن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة ، وقال بعضهم : كان ابن خالة المرأة. والثالث : أنه شقّ القميص ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وفيه ضعف ،
لقوله : (مِنْ أَهْلِها).
فإن قيل : كيف
وقعت شهادة الشّاهد ها هنا معلّقة بشرط ، والشّارط غير عالم بما يشرطه؟
فعنه جوابان
ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما
: أنّ الشّاهد شاهد
بأمر قد علمه ، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا ، فعلم ، غير أنه أوقع في شهادته
شرطا ليلزم المخاطبين قبول شهادته من جهة العقل والتّمييز ، فكأنّه قال : هو
الصّادق عندي ، فإن تدبّرتم ما أشترطه لكم ، عقلتم قولي ، ومثل هذا قول الحكماء :
إن كان القدر حقّا ، فالحرص باطل ، وإن كان الموت يقينا ، فالطّمأنينة إلى الدنيا
حمق.
والجواب
الثاني : أنّ الشّاهد لم
يقطع بالقول ، ولم يعلم حقيقة ما جرى ، وإنّما قال ما قال على جهة إظهار ما يسنح
له من الرأي ، فكأنّ معنى قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ) : أعلم وبيّن. فقال : الذي عندي من الرّأي أن نقيس القميص
ليوقف على الخائن. فهذان الجوابان يدلّان على أنّ المتكلم رجل. فإن قلنا : إنه صبي
في المهد ، كان دخول الشرط مصحّحا لبراءة يوسف ، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا
يبقى معها شكّ.
(فَلَمَّا رَأى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ (٢٨))
قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ) في هذا الرّائي والقائل : (إِنَّهُ مِنْ
كَيْدِكُنَ) قولان :
أحدهما
: أنه الزّوج. والثاني : الشّاهد.
وفي هاء الكناية
في قوله : (إِنَّهُ مِنْ
كَيْدِكُنَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى تمزيق القميص ، قاله مقاتل. والثاني : إلى قولها : (ما جَزاءُ مَنْ
أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ، فالمعنى : قولك هذا من كيدكنّ ، قاله الزّجّاج. والثالث : إلى السّوء الذي دعته إليه ، ذكره الماوردي.
قال ابن عباس : (إِنَّ كَيْدَكُنَ) أي : عملكنّ (عَظِيمٌ) تخلطن البريء والسّقيم.
(يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ
نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ
قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠))
__________________
قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) المعنى : يا يوسف أعرض. وفي القائل له هذا قولان : أحدهما : أنه ابن عمّها وهو الشّاهد ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الزّوج ، ذكره جماعة من المفسّرين. قال ابن عباس :
أعرض عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد ، واكتمه عليها. وروى الحلبيّ عن عبد الوارث : «يوسف
أعرض عن هذا» بفتح الراء على الخبر.
قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) فيه قولان : أحدهما : استعفي زوجك لئلّا يعاقبك ، قاله ابن عباس. والثاني : توبي من ذنبك فإنّك قد أثمت.
وفي القائل لهذا
قولان : أحدهما
: ابن عمّها. والثاني : الزّوج.
قوله تعالى : (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) يعني : من المذنبين. قال المفسّرون : ثم شاع ذلك الحديث في
مصر حتى تحدّث بذلك النساء ، وهو قوله : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ) ، وفي عددهنّ قولان : أحدهما : أنهنّ كنّ أربعا : امرأة ساقي الملك ، وامرأة صاحب دواته ،
وامرأة خبّازه ، وامرأة صاحب سجنه ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهنّ خمس : امرأة الخبّاز ، وامرأة السّاقي ، وامرأة
السّجّان ، وامرأة صاحب الدّواة ، وامرأة الآذن ، قاله مقاتل.
وأما العزيز ، فهو
بلغتهم الملك ، والفتى بمعنى العبد. قال الزّجّاج : كانوا يسمّون المملوك فتى. وإنّما
تكلّم النّسوة في حقّها ، طعنا فيها ، وتحقيقا لبراءة يوسف.
قوله تعالى : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي : بلغ حبّه شغاف قلبها. وفي الشّغاف أربعة أقوال : أحدها : أنه جلدة بين القلب والفؤاد ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : أنه غلاف القلب ، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة : ولم يرد
الغلاف ، إنما أراد القلب ، يقال : شغفت فلانا : إذا أصبت شغافه ، كما يقال :
كبدته : إذا أصبت كبده ، وبطنته : إذا أصبت بطنه. والثالث : أنه حبّة القلب وسويداؤه. والرابع : أنه داء يكون في الجوف في الشّراسيف ، وأنشدوا :
وقد حال همّ دون
ذلك داخل
|
|
دخول الشّغاف
تبتغيه الأصابع
|
ذكر القولين
الزّجّاج. وقال الأصمعيّ : الشّغاف عند العرب : داء يكون تحت الشّراسيف في الجانب
الأيمن من البطن ، والشّراسيف : مقاطّ رؤوس الأضلاع ، واحدها : شرسوف. وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعليّ بن الحسين ، والحسن
البصريّ ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة «قد شعفها» بالعين ، قال الفرّاء :
كأنه ذهب بها كلّ مذهب ، والشّعف : رؤوس الجبال.
قوله تعالى : (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : عن طريق الرّشد ، لحبّها إيّاه. والمبين : الظّاهر.
(فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ
كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا
رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا
بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ
لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢))
قوله تعالى : (فَلَمَّا سَمِعَتْ) يعني : امرأة العزيز (بِمَكْرِهِنَ) وفيه قولان : أحدهما : أنه قولهنّ
__________________
وعيبهنّ لها ،
قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسّدّيّ ، وابن قتيبة. قال الزّجّاج : وإنما سمّي هذا
القول مكرا ، لأنها كانت أطلعتهنّ على أمرها ، واستكتمتهنّ ، فمكرن وأفشين سرّها. والثاني : أنه مكر حقيقة ، وإنما قلن ذلك مكرا بها لتريهنّ يوسف ،
قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ) قال الزّجّاج : أفعلت من العتاد ، وكلّ ما اتّخذته عدّة
لشيء فهو عتاد ، والعتاد : الشيء الثابت اللازم. فأمّا المتّكأ ، ففيه ثلاثة أقوال
: أحدها
: أنه المجلس ؛
فالمعنى : هيّأت لهنّ مجلسا ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنه الوسائد اللائي يتّكئن عليها ، قاله أبو صالح عن ابن
عباس. وقال الزّجّاج : المتّكأ : ما يتّكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث. والثالث : أنه الطعام ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة. قال ابن قتيبة
: يقال : اتّكأنا عند فلان : إذا طعمنا ، قال جميل بن معمر :
فظللنا في نعمة
واتّكأنا
|
|
وشربنا الحلال
من قلله
|
والأصل في هذا أنّ
من دعوته ليطعم ، أعددت له التّكأة للمقام والطّمأنينة ، فسمّي الطعام متكأ على الاستعارة.
قال الأزهريّ : إنما قيل للطعام : متّكأ ، لأنّ القوم إذا قعدوا على الطعام
اتّكؤوا ، ونهيت هذه الأمة عن ذلك. وقرأ مجاهد «متكا» بإسكان التاء خفيفة ، وفيه
أربعة أقوال :
أحدها
: أنه الأترج ،
قاله ابن عباس ومجاهد ويحيى بن يعمر في آخرين ، ومنه قول الشاعر :
وترى المتك بيننا مستعارا
يريد : الأترجّ. والثاني : أنه الطعام أيضا ، قاله عكرمة. والثالث : كلّ شيء يحزّ بالسّكاكين ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنه الزّماورد ، روي عن الضّحّاك أيضا.
وقد روي عن جماعة
أنهم فسّروا المتّكأ بما فسّروا به المتك ، فروي عن ابن جريج أنه قال : المتّكأ :
الأترجّ ، وكلّ ما يحزّ بالسّكاكين. وعن الضّحّاك قال : المتّكأ : كلّ ما يحزّ
بالسّكاكين. وفرّق آخرون بين القراءتين ، فقال مجاهد : من قرأ «متكأ» بالتّثقيل ،
فهو الطعام ، ومن قرأ بالتّخفيف ، فهو الأترجّ. قال ابن قتيبة : من قرأ «متكا»
فإنه يريد الأترجّ ، ويقال : الزّماورد. وأيا ما كان ، فإني لا أحسبه سمّي متكا
إلّا بالقطع ، كأنه مأخوذ من البتك ، فأبدلت الميم منه باء ، كما يقال : سمد رأسه
وسبده : إذا استأصله ، وشر لازم ، ولازب ، والميم تبدل من الباء كثيرا ، لقرب
مخرجيها.
قوله تعالى : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ
سِكِّيناً) إنما فعلت ذلك ، لأنّ الطعام الذي قدّمت لهنّ يحتاج إلى
السّكاكين. وقيل : كان مقصودها افتضاحهنّ بتقطيع أيديهنّ كما فضحنها. قال وهب بن
منبّه : ناولت كلّ واحدة منهنّ أترجّة وسكينا ، وقالت لهنّ : لا تقطعن ولا تأكلن
حتى أعلمكنّ ، ثم قالت ليوسف : اخرج عليهنّ. قال الزّجّاج : إن شئت ضممت التاء من
قوله : «وقالت» ، وإن شئت كسرت ، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء ، ومن ضمّ التاء
، فلثقل الضمة بعد الكسرة. ولم يمكنه أن لا يخرج ، لأنه بمنزلة العبد لها. وذكر
بعض أهل العلم أنها إنما قالت : «اخرج» وأضمرت في نفسها «عليهنّ» ، فأخبر الحقّ
عمّا في النّفس كأنّ اللسان قد نطق به ، ومثله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً
__________________
وَلا
شُكُوراً) لم يقولوا ذلك ، إنما أضمروه ، ويدلّ على صحة هذا أنها لو قالت
له وهو شابّ مستحسن : أخرج على نسوة من طبعهنّ الفتنة ، ما فعل.
وفي قوله تعالى : (أَكْبَرْنَهُ) قولان : أحدهما
: أعظمنه ، رواه
أبو صالح عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال قتادة ، وابن زيد. والثاني : حضن ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وروى عليّ بن عبد الله بن
عباس عن أبيه قال : حضن من الفرح ، قال : وفي ذلك يقول الشاعر :
نأتي النساء لدى
أطهارهنّ ولا
|
|
نأتي النساء إذا
أكثرن إكبارا
|
وقد روى هذا
المعنى ليث عن مجاهد ، واختاره ابن الأنباري ، وردّه بعض اللغويين ، فروي عن أبي
عبيدة أنه قال : ليس في كلام العرب «أكبرن» بمعنى «حضن» ، ولكن عسى أن يكنّ من
شدّة ما أعظمنه حضن ، وكذلك روي عن الزّجّاج أنه أنكره.
قوله تعالى : (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : حززن أيديهنّ ، وكنّ يحسبن أنهنّ يقطّعن طعاما ، قاله ابن
عباس ، وابن زيد. والثاني
: قطّعن أيديهنّ
حتى ألقينها ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثالث : كلمن الأكفّ وأبنّ الأنامل ، قاله وهب بن منبّه.
قوله تعالى : (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) قرأ أبو عمرو «حاشا» بألف في الوصل في الموضعين ، واتّفقوا
على حذف الألف في الوقف ، وأبو عمرو جاء به على التّمام والأصل ، والباقون حذفوا.
وهذه الكلمة تستعمل في موضعين. أحدهما
: الاستثناء. والثاني : التّبرئة من الشّرّ. والأصل «حاشا» وهي مشتقّة من قولك :
كنت في حشا فلان ، أي : في ناحيته. والحشا : النّاحية ، وأنشدوا :
بأيّ الحشا أمسى الخليط المباين
أي : بأي النّواحي
، والمعنى : صار يوسف في حشا من أن يكون بشرا ، لفرط جماله. وقيل : صار في حشا
ممّا قرفته به امرأة العزيز. وقال ابن عباس ، ومجاهد : «حاش لله» بمعنى : معاذ
الله. قال الفرّاء : و «بشرا» منصوب ، لأنّ الباء قد استعملت فيه ، فلا يكاد أهل
الحجاز ينطقون إلّا بالباء ، فلمّا حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه ،
فنصبوا على ذلك ، وكذلك قوله : (ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ) ، وأمّا أهل نجد فيتكلّمون بالباء وبغير الباء ، فإذا
أسقطوها ، رفعوا ، وهو أقوى الوجهين في العربية. قال الزّجّاج : قوله : الرّفع
أقوى الوجهين ، غلط ، لأنّ كتاب الله أقوى اللغات ، ولم يقرأ بالرّفع أحد. وزعم
الخليل ، وسيبويه ، وجميع النحويين القدماء أنّ «بشرا» منصوب ، لأنه خبر «ما» و «ما»
بمنزلة «ليس». قلت : وقد قرأ أبو المتوكّل ، وأبو نهيك ، وعكرمة ، ومعاذ القارئ في
آخرين : «ما هذا
__________________
بشر» بالرفع. وقرأ
أبيّ بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وأبو السّوّار : «ما هذا بشرى» بكسر الباء والشين
مقصورا منوّنا. قال الفرّاء : أي : ما هذا بمشترى. وقرأ ابن مسعود : «بشراء»
بالمدّ والهمز مخفوضا منوّنا.
قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) قرأ أبيّ ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وأبو حياة ، والجحدريّ : «ملك»
بكسر اللام.
قوله تعالى : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) قال المفسّرون : لمّا ذهلت عقولهنّ فقطّعن أيديهنّ ، قالت
لهنّ ذلك. فإن قيل : كيف أشارت إليه وهو حاضر بقولها : «فذلكنّ»؟ فعنه جوابان
ذكرهما ابن الأنباري : أحدهما
: أنها أشارت ب «ذلكنّ»
إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. والثاني : أنّ في الكلام إضمار «هذا» تقديره : فهذا ذلكنّ. ومعنى «لمتنّني
فيه» أي : في حبّه. ثم أقرّت عندهنّ ، فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي : امتنع.
قوله تعالى : (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) قال الزّجّاج : القراءة الجيدة تخفيف «وليكونن» والوقف
عليها بالألف ، لأنّ النون الخفيفة تبدل منهما في الوقف الألف ، تقول : اضربا زيدا
، وإذا وقفت قلت : اضربا. وقد قرئت «وليكوننّ» بتشديد النون ، وأكرهها ، لخلاف
المصحف ، لأنّ الشديدة لا يبدل منها شيء. والصّاغرون : المذلّون.
(قالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤))
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) قال وهب بن منبّه : لمّا قالت : «فذلكنّ الذي لمتنّني فيه»
قلن : لا لوم عليك ، قالت : فاطلبن إلى يوسف أن يسعفني بحاجتي ، فقلن : يا يوسف
افعل ، فقالت : لئن لم يفعل لأخلّدنّه السّجن ، فعند ذلك قال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ). وقرأ يعقوب : «السّجن» بفتح السين ها هنا فحسب. قال
الزّجّاج : من كسر سين «السجن» فعلى اسم المكان ، فيكون المعنى : نزول السّجن أحبّ
إليّ من ركوب المعصية ، ومن فتح ، فعلى المصدر ، المعنى : أن أسجن أحبّ إليّ. (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أي : إلّا تعصمني (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي : أمل إليهنّ. يقال : صبا إلى اللهو يصبو صبوا وصبوّا
وصباء : إذا مال إليه. وقال ابن الأنباري : ومعنى هذا الكلام : اللهمّ اصرف عنّي
كيدهنّ ، ولذلك قال : (فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ).
قال : فإن قيل :
إنما كادته امرأة العزيز وحدها ، فكيف قال : «كيدهنّ»؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها
: أنّ العرب توقع
الجمع على الواحد ، فيقول قائلهم : خرجت إلى البصرة في السّفن ، وهو لم يخرج إلّا
في سفينة واحدة. والثاني
: أنّ المكنيّ عنه
امرأة العزيز والنّسوة اللاتي عاضدنها على أمرها. والثالث : أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالمين اللاتي لهنّ
مثل كيدها.
(ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))
قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما
رَأَوُا الْآياتِ) في المراد بالآيات ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنها شقّ القميص
، وقضاء ابن عمّها عليها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني
: أنها قدّ القميص
، وشهادة الشّاهد ، وقطع الأيدي ، وإعظام النساء إيّاه ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث : جماله وعفّته ، ذكره الماوردي.
قال وهب بن منبّه
: فأشار النّسوة عليها بسجنه رجاء أن يستهوينه حين يخلو لهنّ في السّجن ، وقلن :
متى سجنتيه قطع ذلك عنك قالة الناس التي قد شاعت ، ورأوا أنك تبغضينه ، ويذلّه
السّجن لك ، فلمّا انصرفن عادت إلى مراودته فلم يزدد إلّا بعدا عنها ، فلمّا يئست
، قالت لسيّدها : إنّ هذا العبد قد فضحني ، وقد أبغضت رؤيته ، فائذن لي في سجنه ،
فأذن لها ، فسجنته وأضرّت به. وقال السّدّيّ : قالت : إمّا أن تأذن لي فأخرج
وأعتذر بعذري ، وإمّا أن تحبسه كما حبستني ، فظهر للعزيز وأصحابه من الرّأي حبس
يوسف. قال الزّجّاج : كان العزيز أمر بالإعراض فقط ، ثمّ تغيّر رأيه عن ذلك. قال
ابن الأنباري : وفي معنى الآية قولان :
أحدهما
: «ثمّ بدا لهم» أي : ظهر لهم بالقول والرّأي والفكر سجنه.
والثاني
: ثمّ بدا لهم في
يوسف بداء ، فقالوا : والله لنسجننّه ، فاللام جواب يمين مضمرة.
فأمّا «الحين» ،
فهو يقع على قصير الزّمان وطويله. وفي المراد به ها هنا للمفسّرين خمسة أقوال : أحدها : خمس سنين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : سنة ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : سبع سنين ، قاله عكرمة. والرابع : إلى انقطاع القالة ، قاله عطاء. والخامس : أنه زمان غير محدود ، ذكره الماوردي ، وهذا هو الصّحيح ،
لأنهم لم يعزموا على حبسه مدّة معلومة ، وإنما ذكر المفسّرون قدر ما لبث.
(وَدَخَلَ مَعَهُ
السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ
الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ
مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦))
قوله تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) قال الزّجّاج : فيه دليل على أنه حبس ، وإن لم يذكر ذلك. و
«فتيان» جائز أن يكونا حدثين أو شيخين ، لأنهم يسمّون المملوك فتى. قال ابن
الأنباري : إنّما قال : «فتيان» لأنهما كانا مملوكين ، والعرب تسمّي المملوك فتى ،
شابا كان أو شيخا. قال المفسّرون : عمّر ملك مصر فملّوه ، فدسّوا إلى خبّازه وصاحب
شرابه أن يسمّاه ، فبلغه ذلك فحبسهما ، فكان يوسف قال لأهل السّجن : إنّي أعبّر
الأحلام ، فقال أحد الفتيين : هلمّ فلنجرّب هذا العبد العبرانيّ. واختلفوا هل كانت
رؤياهما صادقة ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنها كانت كذبا ،
وإنما سألاه تجريبا ، قاله ابن مسعود ، والسّدّيّ.
والثاني
: أنها كانت صدقا ،
قاله مجاهد ، وابن إسحاق.
والثالث
: أنّ الذي صلب
منهما كان كاذبا ، وكان الآخر صادقا ، قاله أبو مجلز.
قوله تعالى : (قالَ أَحَدُهُما) يعني السّاقي (إِنِّي أَرانِي) أي : في النّوم (أَعْصِرُ خَمْراً) أي : عنبا.
وفي تسمية العنب
خمرا ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه سمّاه باسم
ما يؤول إليه ، لأنّ المعنى لا يلتبس ، كما يقال : فلان يطبخ الآجرّ ويعمل الدّبس
، وإنما يطبخ اللبن ويصنع التّمر ، وهذا قول أكثر المفسّرين. قال ابن الأنباري :
وإنّما كان
كذلك ، لأنّ العرب
توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل كقولهم : فلان يطبخ آجرّا.
والثاني
: أنّ الخمر في لغة
أهل عمان اسم للعنب ، قاله الضّحّاك ، والزّجّاج. قال ابن القاسم : وقد نطقت قريش
بهذه اللغة وعرفتها.
والثالث
: أنّ المعنى :
أعصر عنب خمر ، وأصل خمر ، وسبب خمر ، فحذف المضاف ، وخلفه المضاف إليه ، كقوله
تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) . قال أبو صالح عن ابن عباس : رأى يوسف ذات يوم الخبّاز
والسّاقي مهمومين ، فقال : ما شأنكما؟ قالا : رأينا رؤيا ، قال : قصّاها عليّ ،
فقال السّاقي : إني رأيت كأني دخلت كرما فجنيت ثلاثة عناقيد عنب ، فعصرتهنّ في
الكأس ، ثم أتيت به الملك فشربه ، وقال الخبّاز : رأيت أني خرجت من مطبخ الملك
أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز ، فوقع طير على أعلاهنّ فأكل منها ، (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي : أخبرنا بتفسيره. وفي قوله تعالى : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) خمسة أقوال :
أحدها
: أنه كان يعود
المرضى ويداويهم ويعزّي الحزين ، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والثاني
: إنّا نراك محسنا
إن أنبأتنا بتأويله ، قاله ابن إسحاق.
والثالث
: إنّا نراك من
العالمين قد أحسنت العلم ، قاله الفرّاء. قال ابن الأنباري : فعلى هذا يكون مفعول
الإحسان محذوفا ، كما حذف في قوله : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) يعني العنب والسّمسم. وإنما علموا أنه عالم ، لنشره العلم
بينهم.
والرابع
: إنّا نراك ممّن
يحسن التّأويل ، ذكره الزّجّاج.
والخامس
: إنّا نراك محسنا
إلى نفسك بلزومك طاعة الله ، ذكره ابن الأنباري.
(قالَ لا يَأْتِيكُما
طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما
ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ
شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ
خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩))
قوله تعالى : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ
تُرْزَقانِهِ) في معنى الكلام قولان :
أحدهما
: لا يأتيكما طعام
ترزقانه في اليقظة إلّا أخبرتكما به قبل أن يصل إليكما ، لأنه كان يخبر بما غاب
كعيسى عليهالسلام ، وهو قول الحسن.
والثاني
: لا يأتيكما طعام
ترزقانه في المنام إلّا نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة ، هذا قول
السّدّيّ. قال ابن عباس : فقالا له : وكيف تعلم ذلك ، ولست بساحر ، ولا عرّاف ،
ولا صاحب نجوم ؛ فقال : (ذلِكُما مِمَّا
عَلَّمَنِي رَبِّي).
فإن قيل : هذا
كلّه ليس بجواب سؤالهما ، فأين جواب سؤالهما؟ فعنه أربعة أجوبة :
__________________
أحدها
: أنه لمّا علم أنّ
أحدهما مقتول ، دعاهما إلى نصيبهما من الآخرة ، قاله قتادة.
والثاني
: أنه عدل عن
الجواب لما فيه من المكروه لأحدهما ، قاله ابن جريج.
والثالث
: أنه ابتدأ
بدعائهما إلى الإيمان قبل جواب السّؤال ، قاله الزّجّاج.
والرابع
: أنه ظنّهما
كاذبين في رؤياهما ، فعدل عن جوابهما ليعرضا عن مطالبته بالجواب ، فلمّا ألحّا
أجابهما ، ذكره ابن الأنباري. فأمّا الملّة فهي الدّين. وتكرير قوله : «هم»
للتّوكيد.
قوله تعالى : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ
مِنْ شَيْءٍ) قال ابن عباس : يريد : أنّ الله عصمنا من الشّرك (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) أي : اتّباعنا الإيمان بتوفيق الله. (وَعَلَى النَّاسِ) يعني المؤمنين بأن دلّهم على دينه. وقال ابن عباس : «ذلك
من فضل الله علينا» أن جعلنا أنبياء «وعلى الناس» أن بعثنا إليهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) من أهل مصر (لا يَشْكُرُونَ) نعم الله فيوحّدونه.
قوله تعالى : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) يعني : الأصنام من صغير وكبير (خَيْرٌ) أي : أعظم صفة في المدح (أَمِ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ) يعني أنه أحقّ بالإلهيّة من الأصنام؟ فأمّا الواحد ، فقال
الخطّابيّ : هو الفرد الذي لم يزل وحده ، وقيل : هو المنقطع القرين ، المعدوم
الشّريك والنّظير ، وليس كسائر الآحاد من الأجسام المؤلّفة ، فإنّ كلّ شيء سواه
يدعى واحدا من جهة ، غير واحد من جهات ، والواحد لا يثنّى من لفظه ، لا يقال :
واحدان. والقهّار : الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة ، وقهر الخلق كلّهم
بالموت. وقال غيره : القهّار : الذي قهر كلّ شيء فذلّله ، فاستسلم وذلّ له.
(ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ
الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١))
قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) إنما جمع في الخطاب لهما ، لأنه أراد جميع من شاركهما في
شركهما. وقوله : «من دونه» أي : من دون الله (إِلَّا أَسْماءً) يعني : الأرباب والآلهة ، ولا يصحّ معاني تلك الأسماء
للأصنام ، فكأنّها أسماء فارغة ، فكأنهم يعبدون الأسماء ، لأنها لا تصحّ معانيها. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي : من حجّة بعبادتها (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ) أي : ما القضاء والأمر والنّهي إلّا له. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : المستقيم ، يشير إلى التّوحيد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنه لا يجوز عبادة غيره. والثاني : لا يعلمون ما للمطيعين من الثّواب وللعاصين من العقاب.
قوله تعالى : (أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْراً) الرّبّ هاهنا : السّيّد. قال ابن السّائب : لمّا قصّ
السّاقي رؤياه على يوسف ، قال له : ما أحسن ما رأيت! أما الأغصان الثلاثة ، فثلاثة
أيام ، يبعث إليك الملك عند انقضائها ، فيردك إلى عملك ، فتعود كأحسن ما كنت فيه ،
وقال للخبّاز : بئس ما رأيت ، السّلال الثلاث ، ثلاثة أيام ، ثم يبعث إليك الملك
عند انقضائهنّ ، فيقتلك ويصلبك ويأكل الطّير من رأسك ، فقالا : ما رأينا شيئا ،
فقال : (قُضِيَ الْأَمْرُ
الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي : فرغ منه ، وسيقع بكما ، صدقتما أو كذبتما.
فإن قيل : لم حتّم
على وقوع التّأويل ، وربّما صدق تأويل الرّؤيا وكذب؟ فعنه جوابان :
أحدهما
: أنه حتّم ذلك
لوحي أتاه من الله ، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله ، فلمّا قال : «قضي
الأمر» ، دلّ على أنه وحي.
والثاني
: أنه لم يحتّم ،
بدليل قوله : (وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) ، قال أصحاب هذا الجواب : معنى «قضي الأمر» : قطع الجواب
الذي التمستماه من جهتي ، ولم يعن أنّ الأمر واقع بكما. وقال أصحاب الجواب الأول :
الظّنّ ها هنا بمعنى العلم.
(وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ
ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))
قوله تعالى : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ
مِنْهُمَا) يعني السّاقي. وفي هذا الظّنّ قولان : أحدهما : أنه بمعنى العلم ، قاله ابن عباس.
والثاني
: أنه الظّنّ الذي
يخالف اليقين ، قاله قتادة.
قوله تعالى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي : عند صاحبك ، وهو الملك ، وقل له : إنّ في السّجن
غلاما حبس ظلما. واسم الملك : الوليد بن الرّيّان.
قوله تعالى : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) فيه قولان :
أحدهما
: فأنسى الشيطان
السّاقي ذكر يوسف لربّه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن إسحاق. والثاني : فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه ، وأمره بذكر الملك ابتغاء
الفرج من عنده ، قاله مجاهد ومقاتل والزّجّاج ، وهذا نسيان عمد ، لا نسيان سهو ،
وعكسه القول الذي قبله.
قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أي : غير ما كان قد لبث قبل ذلك ، عقوبة له على تعلّقه
بمخلوق. وفي البضع تسعة أقوال : أحدها
: ما بين السّبع
والتّسع.
(٨١٢) روى ابن
عباس أنّ أبا بكر لمّا ناحب قريشا عند نزول (الم (١) غُلِبَتِ
الرُّومُ) ، قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا احتطت ، فإنّ البضع ما بين السّبع إلى التّسع».
والثاني
: اثنتا عشرة سنة ،
قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث
: سبع سنين ، قاله
عكرمة. والرابع
: أنه ما بين الخمس
إلى السّبع ، قاله الحسن. والخامس
: أنه ما بين
الأربع إلى التّسع ، قاله مجاهد. والسادس : ما بين الثلاث إلى التسع ، قاله الأصمعيّ ، والزّجّاج. والسابع : أنّ البضع يكون بين الثلاث والتسع والعشر ، قاله قتادة. والثامن : أنه ما دون العشرة ، قاله الفرّاء ، وقال الأخفش : البضع :
من واحد إلى عشرة. والتاسع
: أنه ما لم يبلغ
العقد ولا نصفه ، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة : يعني ما بين الواحد إلى
الأربعة. وروى الأثرم عن أبي عبيدة : البضع : ما بين ثلاث وخمس. وفي جملة ما لبث
في السّجن ثلاثة أقوال : أحدها
: اثنتا عشرة سنة ،
قاله ابن عباس. والثاني
: أربع عشرة ، قاله
الضّحّاك. والثالث
: سبع سنين ، قاله
قتادة. قال مالك بن دينار : لمّا قال يوسف للسّاقي : «اذكرني عند ربك» ، قيل
____________________________________
(٨١٢) يأتي في
مطلع سورة الروم إن شاء الله تعالى.
له : يا يوسف ،
اتّخذت من دوني وكيلا؟ لأطيلنّ حبسك ، فبكى ، وقال : يا ربّ ، أنسى قلبي كثرة
البلوى ، فقلت كلمة ، فويل لإخوتي.
(وَقالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ
سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣))
قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ) يعني ملك مصر الأكبر (إِنِّي أَرى) يعني في المنام ، ولم يقل : رأيت ، وهذا جائز في اللغة أن
يقول القائل : أرى ، بمعنى رأيت. قال وهب بن منبّه : لمّا انقضت المدّة التي
وقّتها الله تعالى ليوسف في حبسه ، دخل عليه جبريل إلى السّجن ، فبشّره بالخروج وملك
مصر ولقاء أبيه ، فلما أمسى الملك من ليلتئذ ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر ،
في آثارهنّ سبع عجاف ، فأقبلت العجاف على السّمان ، فأخذن بأذنابهنّ فأكلنهنّ إلى
القرنين ، ولم يزد في العجاف شيء ، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهنّ سبع
يابسات فأكلنهنّ حتى أتين عليهنّ ، ولم يزدد في اليابسات شيء ، فدعا أشراف قومه
فقصّها عليهم ، فقالوا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ). قال الزّجّاج : والعجاف : التي قد بلغت في الهزال الغاية.
والملأ : الذين يرجع إليهم في الأمور ويقتدى برأيهم ، واللام في قوله : (لِلرُّءْيا) دخلت على المفعول للتّبيين ، المعنى : إن كنتم تعبرون. ثم
بيّن باللام فقال : «للرؤيا». ومعنى عبرت الرّؤيا وعبّرتها : أخبرت بآخر ما يؤول
إليه أمرها ، واشتقاقه من عبر النّهر ، وهو شاطئ النّهر ، فتأويل عبرت النهر :
بلغت إلى عبره ، أي : إلى شطه ، وهو آخر عرضه. وذكر ابن الأنباري في اللام قولين :
أحدهما
: أنها للتّوكيد. والثاني : أنها أفادت معنى «إلى» والمعنى : إن كنتم توجّهون العبارة
إلى الرّؤيا.
(قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤))
قوله تعالى : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) قال أبو عبيدة : واحدها ضغث ، مكسورة ، وهي ما لا تأويل له
من الرّؤيا تراه جماعات ، تجمع من الرّؤيا كما يجمع الحشيش ، فيقال : ضغث ، أي :
ملء كفّ منه. وقال الكسائيّ : الأضغاث : الرّؤيا المختلطة. وقال ابن قتيبة : «أضغاث
أحلام» أي : أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل ، فيكون فيها ضروب مختلفة. وقال
الزّجّاج : الضّغث في اللغة : الحزمة والباقة من الشيء ، كالبقل وما أشبهه ،
فقالوا له : رؤياك أخلاط أضغاث ، أي : حزم أخلاط ، ليست برؤيا بينة (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ
بِعالِمِينَ) أي : ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل. وقال غيره : وما
نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين. والأحلام : جمع حلم ، وهو ما يراه
الإنسان في نومه مما يصحّ ومما يبطل.
(وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ
سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ
لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً
مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ
يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨))
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) يعني الذي تخلّص من القتل من الفتيين ، وهو السّاقي ، (وَادَّكَرَ) أي : تذكّر شأن يوسف وما وصّاه به. قال الزّجّاج : وأصل
ادّكر : اذتكر ، ولكنّ التاء أبدلت منها الدال ، وأدغمت الذال في الدال. وقرأ
الحسن : «واذّكر» بالذال المشدّدة.
وقوله تعالى : (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : بعد حين ، وهو الزّمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن
، وقد سبق بيانه. وقرأ ابن عباس ، والحسن «بعد أمة» أراد : بعد نسيان.
فإن قيل : هذا
يدلّ على أنّ النّاسي في قوله : «فأنساه الشيطان ذكر ربه» هو السّاقي ، ولا شكّ
أنّ من قال : إنّ النّاسي يوسف يقول : لم ينس السّاقي. فالجواب : أنّ من قال : إنّ
يوسف نسي ، يقول : معنى قوله : «وادّكر» ذكر ، كما تقول العرب : احتلب بمعنى حلب ،
واغتدى بمعنى غدا ، فلا يدلّ إذا على نسيان سبقه. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس
أنه قال : إنما لم يذكر السّاقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إلى تأويل رؤياه ،
خوفا من أن يكون ذكره ليوسف سببا لذكره الذّنب الذي من أجله حبس ، ذكر هذا الجواب
ابن الأنباري.
قوله تعالى : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي : من جهة يوسف (فَأَرْسِلُونِ) أثبت الياء فيها وفي (وَلا تَقْرَبُونِ) (أَنْ تُفَنِّدُونِ) يعقوب في الحالين ، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع ،
تعظيما ، وقيل : خاطبه وخاطب أتباعه. وفي الكلام اختصار ، المعنى : فأرسلوه فأتى
يوسف فقال : يا يوسف يا أيّها الصّدّيق. والصّدّيق : الكثير الصّدق ، كما يقال :
فسّيق ، وسكّير ، وقد سبق بيانه.
قوله تعالى : (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه. وفي
قوله : (لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما
: يعلمون تأويل
رؤيا الملك. والثاني
: يعلمون بمكانك
فيكون سبب خلاصك. وذكر ابن الأنباري في تكرير «لعلّ» قولين. أحدهما : أنّ «لعل» الأولى متعلّقة بالإفتاء ، والثانية : مبنيّة
على الرّجوع ، وكلتاهما بمعنى «كي». والثاني : أنّ الأولى بمعنى «عسى» ، والثانية بمعنى «كي» فأعيدت
لاختلاف المعنيين ، وهذا هو الجواب عن قوله : (لَعَلَّهُمْ
يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .
قال : المفسّرون :
كان سيّده العزيز قد مات ، واشتغلت عنه امرأته. وقال بعضهم : لم يكن العزيز قد مات
، فقال يوسف للسّاقي : قل للملك : هذه سبع سنين مخصبات ، ومن بعدهنّ سبع سنين شداد
، إلّا أن يحتال لهنّ ، فانطلق الرّسول إلى الملك فأخبره ، فقال له الملك : ارجع
إليه فقل له : كيف يصنع؟ فقال : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَباً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ،
والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «دأبا» ساكنة الهمزة ، إلّا أنّ أبا عمرو كان إذا
أدرج القراءة لم يهمزها. وروى حفص عن عاصم «دأبا» بفتح الهمزة. قال أبو عليّ :
الأكثر في «دأب» الإسكان ، ولعلّ الفتح لغة ، ومعنى «دأبا» أي : زراعة متوالية على
عادتكم ، والمعنى : تزرعون دائبين. فناب «دأب» عن «دائبين». وقال الزّجّاج : المعنى
: تدأبون دأبا ، ودلّ على تدأبون «تزرعون» والدّأب : الملازمة للشيء والعادة.
فإن قيل : كيف حكم
بعلم الغيب ، فقال : «تزرعون» ولم يقل : إن شاء الله؟ فعنه أربعة أجوبة :
__________________
أحدها
: أنه كان بوحي من
الله عزوجل. والثاني
: أنه بنى على علم
ما علّمه الله من التّأويل الحقّ ، فلم يشكّ. والثالث : أنه أضمر «إن شاء الله» كما أضمر إخوته في قولهم : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا) ، فأضمروا الاستثناء في نيّاتهم ، لأنهم على غير ثقة ممّا
وعدوا ، ذكره ابن الأنباري. والرابع
: أنه كالآمر لهم ،
فكأنه قال : ازرعوا.
قوله تعالى : (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) فإنه أبقى له ، وأبعد من الفساد. والشّداد : المجدبات التي
تشتدّ على الناس. (يَأْكُلْنَ) أي : يذهبن ما قدّمتم لهنّ في السنين المخصبة ، فوصف
السّنين بالأكل ، وإنما يؤكل فيها ، كما يقال : ليل نائم.
قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي : تحرزون وتدّخرون.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))
قوله تعالى : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ) إن قيل : لم أشار إلى السّنين وهي مؤنّثة ب «ذلك»؟ فعنه
جوابان ؛ ذكرهما ابن القاسم : أحدهما
: أنّ السّبع
مؤنّثة ، ولا علامة للتأنيث في لفظها ، فأشبهت المذكّر ، كقوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) فذكّر منفطرا لمّا لم يكن في السماء علم التأنيث ، قال
الشاعر :
فلا مزنة ودقت
ودقها
|
|
ولا أرض أبقل
إبقالها
|
فذكر «أبقل» لما
وصفنا. والثاني
: أنّ «ذلك» إشارة
إلى الجدب ، وهذا قول مقاتل ، والأول قول الكلبيّ. قال قتادة : زاده الله علم عام
لم يسألوه عنه.
قوله تعالى : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) فيه قولان أحدهما : يصيبهم الغيث ، قاله ابن عباس. والثاني : يغاثون بالخصب. ذكره الماوردي. قوله تعالى : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «يعصرون»
بالياء. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء ، فوجّها الخطاب إلى المستفتين. وفي قوله : «يعصرون»
خمسة أقوال : أحدها
: يعصرون العنب
والزيت والثّمرات ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والجمهور. والثاني : «يعصرون» بمعنى
يحتلبون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن
عبيد قال : تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لسعة خيرهم واتساع خصبهم ، واحتجّ بقول
الشاعر :
فما عصمة
الأعراب إن لم يكن لهم
|
|
طعام ولا درّ من
المال يعصر
|
أي : يحلب. والثالث : ينجون ، وهو من العصر ، والعصر : النّجاء ، والعصرة :
المنجاة. ويقال : فلان في عصرة : إذا كان في حصن لا يقدر عليه ، قال الشاعر :
صاديا يستغيث
غير مغاث
|
|
ولقد كان عصرة
المنجود
|
__________________
أي : غياثا
للمغلوب المقهور ، وقال عديّ :
لو بغير الماء
حلقي شرق
|
|
كنت كالغصّان
بالماء اعتصاري
|
هذا قول أبي
عبيدة. والرابع
: يصيبون ما يحبّون
، روي عن أبي عبيدة أيضا أنه قال : المعتصر : الذي يصيب الشيء ويأخذه ، ومنه هذه
الآية. ومنه قول ابن أحمر :
فإنّما العيش
بريّانه
|
|
وأنت من أفنانه
معتصر
|
والخامس
: يعطون ويفضلون
لسعة عيشهم ، رواه ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة. وقرأ سعيد بن جبير : «يعصرون»
بضمّ الياء وفتح الصاد. وقال الزّجّاج : أراد : يمطرون من قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً
ثَجَّاجاً) .
(وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ
ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ
نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ
لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١))
قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) قال المفسّرون : لمّا رجع السّاقي إلى الملك وأخبره بتأويل
رؤياه ، وقع في نفسه صحّة ما قال ، فقال : ائتوني بالذي عبّر رؤياي ، فجاءه الرسول
، فقال : أجب الملك ، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قرف به ، فقال : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) يعني الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) وقرأ ابن أبي عبلة : «النّسوة» بضم النون ، والمعنى :
فاسأل الملك أن يتعرّف ما شأن تلك النسوة وحالهنّ ليعلم صحة براءتي ، وإنما أشفق
أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره أو متّهم بفاحشة ، وأحبّ أن يراه بعد استقرار
براءته عنده. وظاهر قوله : (إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أنه يعني الله عزوجل ، وحكى ابن جرير الطّبري أنه أراد به سيّده العزيز ،
والمعنى : أنه يعلم براءتي. وقد روي عن نبيّنا صلىاللهعليهوسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التّسرّع إلى الخروج. فقال صلىاللهعليهوسلم :
(٨١٣) «إنّ الكريم
ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، لو لبثت في
السجن ما لبث يوسف ، ثم جاءني الدّاعي لأجبت».
____________________________________
(٨١٣) صحيح. أخرجه
الترمذي ٣١١٦ ، والطحاوي في «المشكل» ٣٣٠ ، والطبري ١٩٤٠٤ من حديث أبي هريرة ، وإسناده
حسن لأجل محمد بن عمرو ، وحسنه الترمذي. وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه البخاري
٣٣٧٢ ومسلم ١٥١ وابن ماجة ٤٠٢٦ ، وأحمد ٢ / ٣٢٦ ، وابن حبان ٦٢٠٨ ، والطحاوي في «المشكل»
٣٢٦ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه في البخاري : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «نحن أحق من
إبراهيم إذ قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت
في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي».
__________________
وفي ذكره للنسوة
دون امرأة العزيز أربعة أقوال : أحدها
: أنه خلطها
بالنّسوة ، لحسن عشرة فيه وأدب ، قاله الزّجّاج. والثاني : لأنها زوجة ملك ، فصانها. والثالث : لأن النّسوة شاهدات عليها له. والرابع : لأنّ في ذكره لها نوع تهمة ، ذكر الأقوال الثلاثة
الماوردي.
قال المفسّرون :
فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف ، فدعا الملك النّسوة وفيهنّ امرأة العزيز ،
فقال : (ما خَطْبُكُنَ) أي : ما شأنكنّ وقصتكنّ (إِذْ راوَدْتُنَّ
يُوسُفَ). فإن قيل : إنما راودته واحدة ، فلم جمعهنّ؟ فعنه ثلاثة
أجوبة : أحدها
: أنه جمعهنّ في
السؤال ليعلم عين المراودة. والثاني
: أنّ أزليخا راودته
على نفسه ، وراوده باقي النّسوة على القبول منها. والثالث : أنه جمعهنّ في الخطاب ، والمعنى لواحدة منهنّ ، لأنه قد
يوقع على النّوع وصف الجنس إذا أمن من اللبس ، يدلّ عليه قول النبي صلىاللهعليهوسلم :
(٨١٤) «إنّكنّ
أكثر أهل النّار» فجمعهنّ في الخطاب والمعنى لبعضهنّ ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) قال الزّجّاج : قرأ الحسن «حاش» بتسكين الشين ، ولا اختلاف
بين النّحويين أنّ الإسكان غير جائز ، لأنّ الجمع بين ساكنين لا يجوز ، ولا هو من
كلام العرب. فأعلم النّسوة الملك براءة يوسف من السّوء ، فقالت امرأة العزيز : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي : برز وتبيّن ، واشتقاقه في اللغة من الحصّة ، أي :
بانت حصّة الحقّ وجهته من حصّة الباطل. وقال ابن القاسم : «حصحص» بمعنى وضح وانكشف
، تقول العرب : حصحص البعير في بروكه : إذا تمكّن ، وأثّر في الأرض ، وفرّق الحصى.
وللمفسّرين في ابتداء أزليخا بالإقرار قولان :
أحدهما
: أنها لمّا رأت
النّسوة قد برّأنه ، قالت : لم يبق إلّا أن يقبلن عليّ بالتّقرير ، فأقرّت ، قاله
الفرّاء. والثاني
: أنها أظهرت
التّوبة وحقّقت صدق يوسف ، قاله الماوردي.
(ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ
(٥٢))
قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ) قال مقاتل : «ذلك» بمعنى هذا. وقال ابن الأنباري :
قال اللغويون :
هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه ، لقرب الخبر من أصحابه ، فصار كالمشاهد
الذي يشار إليه بهذا ، ولمّا كان متقضّيا أمكن أن يشار إليه بذلك ، لأن المتقضّي
كالغائب. واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال :
____________________________________
(٨١٤) صحيح. هذا
جزء من حديث طويل ، أخرجه البخاري ٣٠٤ ، ومسلم ٨٠ والبيهقي ٤ / ٢٣٥ ، وابن حبان
٥٧٤٤ والبغوي ١٩ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه في البخاري خرج رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في أضحى ـ أو فطر ـ إلى
المصلى ، فمرّ على النساء فقال : «يا معشر النساء تصدّقن ، فإني أريتكن أكثر أهل
النار» ، فقلن : وبم يا رسول الله؟ ، قال : «تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما
رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن» ، قلن : وما نقصان
ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال : «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» قلن :
بلى. قال : «فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟» قلن : بلى. قال
: «فذلك من نقصان دينها». وله شاهد من حديث ابن عمر ، أخرجه مسلم ٧٩.
أحدها
: أنه يوسف ، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكى عن شخص شيئا ثم
تصله بالحكاية عن آخر ، ونظير هذا قوله : (يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) هذا قول الملأ (فَما ذا تَأْمُرُونَ) قول فرعون. ومثله : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ
أَهْلِها أَذِلَّةً) هذا قول بلقيس (وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ) قول الله عزوجل. ومثله : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا) هذا قول الكفّار ، فقالت الملائكة : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) وإنما يجوز مثل هذا في الكلام ، لظهور الدّلالة على
المعنى. واختلفوا ، أين قال يوسف هذا؟ على قولين :
أحدهما
: أنه لمّا رجع
السّاقي إلى يوسف فأخبره وهو في السّجن بجواب امرأة العزيز والنّسوة للملك ، قال
حينئذ : «ذلك ليعلم» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جريج.
والثاني
: أنه قاله بعد
حضوره مجلس الملك ، رواه عطاء عن ابن عباس.
قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) أي : ذلك الذي فعلت من ردّي رسول الملك ، ليعلم.
واختلفوا في
المشار إليه بقوله : «ليعلم» وقوله : «لم أخنه» على أربعة أقوال :
أحدها
: أنه العزيز ،
والمعنى : ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته (بِالْغَيْبِ) أي : إذا غاب عني ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال
الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور.
والثاني
: أنّ المشار إليه
بقوله : «ليعلم» الملك ، والمشار إليه بقوله : «لم أخنه» العزيز ، والمعنى : ليعلم
الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس.
والثالث
: أنّ المشار إليه
بالشّيئين ، الملك ، فالمعنى : ليعلم الملك أني لم أخنه ، يعني الملك أيضا ،
بالغيب. وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان : أحدهما : لكون العزيز وزيره ، فالمعنى : لم أخنه في امرأة وزيره ،
قاله ابن الأنباري. والثاني
: لم أخنه في بنت
أخنه ، وكانت أزليخا بنت أخت الملك ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
والرابع
: أنّ المشار إليه
بقوله : «ليعلم» الله عزوجل ، فالمعنى : ليعلم الله أني لم أخنه ، روي عن مجاهد ، قال
ابن الأنباري : نسب العلم إلى الله في الظاهر ، وهو في المعنى للمخلوقين ، كقوله :
(حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) .
فإن قيل : إن كان
يوسف قال هذا في مجلس الملك ، فكيف قال : «ليعلم» ولم يقل : لتعلم ، وهو يخاطبه؟
فالجواب : أنّا إن قلنا : إنه كان حاضرا عند الملك ، فإنما آثر الخطاب بالياء
توقيرا للملك ، كما يقول الرجل للوزير : إن رأى الوزير أن يوقّع في قصّتي. وإن
قلنا : إنه كان غائبا ، فلا وجه لدخول التاء ، وكذلك إن قلنا : إنه عنى العزيز ،
والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ.
والقول
الثاني : أنه قول امرأة
العزيز ، فعلى هذا يتّصل بما قبله ، والمعنى : ليعلم يوسف أني لم
__________________
أخنه في غيبته
الآن بالكذب عليه .
والثالث
: أنه قول العزيز ،
والمعنى : ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب ، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته ، حكى
القولين الماوردي.
قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ
الْخائِنِينَ) قال ابن عباس : لا يصوّب عمل الزّناة ، وقال غيره : لا
يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته.
(وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ
رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ
(٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))
قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ) ، في القائل لهذا ثلاثة أقوال ، وهي تقدّمت في الآية
قبلها.
فالذين قالوا : هو
يوسف ، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال : أحدها : أنه لمّا قال : «ليعلم أني لم أخنه بالغيب» غمزه جبريل عليهالسلام ، فقال : ولا حين هممت؟ فقال : «وما أبرّئ نفسي» رواه
عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون. والثاني : أنّ يوسف لمّا قال : «لم أخنه» ذكر أنه قد همّ بها ، فقال
: «وما أبرّئ نفسي» ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : أنه لمّا قال ذلك ،
__________________
خاف أن يكون قد
زكّى نفسه ، فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، قاله الحسن. والرابع : أنه لمّا قاله ، قال له الملك الذي معه : اذكر ما هممت به
، فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، قاله قتادة. والخامس : أنه لمّا قاله ، قالت امرأة العزيز : ولا يوم حللت سراويلك؟
فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، قاله السّدّيّ .
والذين قالوا :
هذا قول امرأة العزيز ، فالمعنى : وما أبرّئ نفسي من سوء الظّنّ بيوسف ، لأنه قد
خطر لي.
قوله تعالى : (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ويعقوب إلّا رويسا : «بالسوء
إلا» بتحقيق الهمزتين. وقرأ أبو عمرو ، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف
الأولى. وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياء. وقرأ أبو جعفر ، وورش
، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين ، مثل : «السّوء علّا». وروى ابن
فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واوا ، وأدغمها في الواو قبلها ، فتصير واوا
مكسورة مشدّدة قبل همزة «إلا».
قوله تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) قال ابن الأنباري : قال اللغويون : هذا استثناء منقطع ،
والمعنى : إلا أنّ رحمة ربّي عليها المعتمد. قال أبو صالح عن ابن عباس : المعنى :
إلّا من عصم ربي وقيل «ما» بمعنى «من». قال الماوردي : ومن قال : هو من قول امرأة
العزيز ، فالمعنى : إلّا من رحم ربّي في قهره لشهوته ، أو في نزعها عنه. ومن قال :
هو قول العزيز ، فالمعنى : إلّا من رحم ربّي بأن يكفيه سوء الظّنّ ، أو يثبّته ،
فلا يعجل. قال ابن الأنباري : والقول بأنّ هذا قول يوسف أصحّ لوجهين : أحدهما : لأنّ العلماء عليه. والثاني : لأنّ المرأة كانت عابدة وثن ، وما تضمّنته الآية أليق أن
يكون قول يوسف من قول من لا يعرف الله تعالى.
وقال المفسّرون :
فلمّا تبيّن الملك عذر يوسف وعلم أمانته ، قال : (ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي : أجعله خالصا لي ، لا يشركني فيه أحد.
فإن قيل : فقد
رويتم في بعض ما مضى أنّ يوسف قال في مجلس الملك : «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب»
، فكيف قال الملك : «ائتوني به» وهو حاضر عنده؟!
فالجواب : أنّ
أرباب هذا القول يقولون : أمر الملك بإحضاره ليقلّده الأعمال في غير المجلس الذي
استحضره فيه لتعبير الرّؤيا. قال وهب : لمّا دخل يوسف على الملك ، وكان الملك
يتكلّم بسبعين لسانا ، كان كلّما كلّمه بلسان ، أجابه يوسف بذلك اللسان ، فعجب
الملك ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فقال إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها ،
فذكرها له ، قال : فما ترى أيها الصّدّيق؟ قال : أرى أن تزرع زرعا كثيرا في هذه
السنين المخصبة ، وتجمع الطعام ، فيأتيك الناس فيمتارون ، وتجمع عندك من الكنوز ما
لم يجتمع لأحد ، فقال الملك : ومن لي بهذا؟ فقال يوسف : «اجعلني على خزائن الأرض».
قال ابن عباس : ويريد بقوله : (مَكِينٌ أَمِينٌ) أي : قد مكّنتك في ملكي وائتمنتك فيه. وقال مقاتل : المكين
: الوجيه ، والأمين : الحافظ.
__________________
قوله تعالى : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي : خزائن أرضك. وفي المراد بالخزائن قولان : أحدهما : خزائن الأموال ، قاله الضّحّاك ، والزّجّاج. والثاني : خزائن الطعام فحسب ، قاله ابن السّائب. قال الزّجّاج :
وإنما سأل ذلك لأنّ الأنبياء بعثوا بالعدل ، فعلم أنه لا أحد أقوم بذلك منه. وفي
قوله تعالى : (إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ) ثلاثة أقوال : أحدها : حفيظ لما ولّيتني ، عليم بالمجاعة متى تكون ، قاله أبو
صالح عن ابن عباس. والثاني
: حفيظ لما
استودعتني ، عليم بهذه السنين ، قاله الحسن. والثالث : حفيظ للحساب ، عليم بالألسن ، قاله السّدّيّ ، وذلك أنّ
الناس كانوا يردون على الملك من كلّ ناحية فيتكلّمون بلغات مختلفة.
واختلفوا ، هل
ولّاه الملك يومئذ ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه ولّاه بعد سنة.
(٨١٥) روى
الضّحّاك عن ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على
خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخّر ذلك سنة».
(٨١٦) وذكر مقاتل
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لو أنّ يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله ، لملك
من وقته».
قال مجاهد : أسلم
الملك على يد يوسف. وقال أهل السّير : أقام في بيت الملك سنة ، فلمّا انصرمت دعاه
الملك ، فتوجّه ، وردّاه بسيفه ، وأمر له بسرير من ذهب ، وضرب عليه كلّة من إستبرق
، فجلس على السّرير كالقمر ، ودانت له الملوك ، ولزم الملك بيته وفوّض أمره إليه ،
وعزل قطفير عمّا كان عليه ، وجعل يوسف مكانه ، ثم إنّ قطفير هلك في تلك الليالي ،
فزوّج الملك يوسف بامرأة قطفير ، فلمّا دخل عليها ، قال : أليس هذا خيرا مما
تريدين؟ فقالت : أيّها الصّدّيق لا تلمني ، فإني كنت امرأة حسناء في ملك ودنيا ،
وكان صاحبي لا يأتي النساء ، فغلبتني نفسي ، فلمّا بنى بها يوسف وجدها عذراء ،
فولدت له ابنين ، إفراييم ، وميشا ، واستوثق له ملك مصر.
والقول
الثاني : أنه ملّكه بعد
سنة ونصف ، حكاه مقاتل عن ابن عباس.
والثالث
: أنه سلّم إليه
الأمر من وقته ، قاله وهب ، وابن السّائب.
فإن قيل : كيف قال
يوسف (إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ) ولم يقل : إن شاء الله؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها
: أنّ ترك
الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخر تمليكه ، على ما ذكرنا عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
والثاني
: أنه أضمر
الاستثناء ، كما أضمروه في قولهم : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا).
والثالث
: أنه أراد أنّ
حفظي وعلمي يزيدان على حفظ غيري وعلمه ، فلم يحتج هذا إلى الاستثناء ، لعدم الشّكّ
فيه ، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
____________________________________
(٨١٥) باطل. ذكره
الزمخشري في «الكشاف» ٢ / ٤٨٢ وقال ابن حجر في تخريجه : أخرجه الثعلبي من حديث ابن
عباس وهو من رواية إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك ، وهذا إسناد ساقط. قلت :
إسحاق متروك متهم ، ومثله جويبر بن سعيد ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، والمتن منكر
جدا فهو باطل. وانظر «تفسير القرطبي» ٣٦٨٣ ، بتخريجنا.
(٨١٦) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيثما أطلق ، وهو ممن يضع الحديث ويكذب فهذا خبر باطل.
فإن قيل : كيف مدح
نفسه بهذا القول ، ومن شأن الأنبياء والصالحين التّواضع؟
فالجواب : أنه
لمّا خلا مدحه لنفسه من بغي وتكبّر ، وكان مراده به الوصول إلى حقّ يقيمه وعدل
يحييه وجور يبطله ، كان ذلك جميلا جائزا.
(٨١٧) وقد قال
نبيّنا عليهالسلام : «أنا أكرم ولد آدم على ربّه».
وقال عليّ بن أبي
طالب عليهالسلام : والله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت ، أم بنهار.
وقال ابن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه الإبل لأتيته. فهذه
الأشياء ، خرجت مخرج الشّكر لله ، وتعريف المستفيد ما عند المفيد ، ذكر هذا محمّد
بن القاسم. قال القاضي أبو يعلي : في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصف
نفسه بالفضل عند من لا يعرفه ، وأنه ليس من المحظور في قوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) .
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) في الكلام محذوف ، تقديره : اجعلني على خزائن الأرض ، قال
: قد فعلت ، فحذف ذلك ، لأن قوله : «وكذلك مكّنّا ليوسف» يدلّ عليه ، والمعنى :
ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في دفع المكروه عنه ، وتخليصه من السّجن ،
وتقريبه من قلب الملك ، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) قال ابن عباس : ينزل حيث أراد. وقرأ ابن كثير ، والمفضّل :
«حيث نشاء» بالنون.
قوله تعالى : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) أي : نختصّ بنعمتنا من النّبوّة والنّجاة (مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) يعني المؤمنين. يقال : إنّ يوسف باع أهل مصر الطعام
بأموالهم وحليهم ومواشيهم وعقارهم وعبيدهم ثم بأولادهم ثم برقابهم ، ثم قال للملك
: كيف ترى صنع ربّي؟ فقال الملك : إنما نحن لك تبع ، قال : فإني أشهد الله وأشهدك
أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم. وكان يوسف لا يشبع في تلك الأيام ،
ويقول : إني أخاف أن أنسى الجائع.
(وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))
قوله تعالى : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) المعنى : ما نعطي يوسف في الآخرة ، خير ممّا أعطيناه في
الدنيا ، وكذلك غيره من المؤمنين ممّن سلك طريقه في الصّبر.
(وَجاءَ إِخْوَةُ
يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨))
قوله تعالى : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) روى الضّحّاك عن ابن عباس قال : لمّا فوّض الملك إلى
____________________________________
(٨١٧) صحيح. أخرجه
الترمذي ٣٦١٠ ، والدارمي ١ / ٢٦ ـ ٢٧ ، والبغوي في «شرح السنة» ٣٥١٨ وفي تفسيره
١٣٢٤ ، من حديث أنس رضي الله عنه بأتم منه. وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. قلت
: إسناده ضعيف ، مداره على ليث وهو ابن أبي سليم ، ضعفه ابن معين والنسائي ، وقال
أحمد : مضطرب الحديث. ثم هو مدلس ، وقد عنعن ، فالحديث بهذا اللفظ وبهذا الإسناد
ضعيف ، والذي صح في ذلك «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وهذا هو الصحيح ، وسيأتي.
__________________
يوسف أمر مصر ،
تلطّف يوسف للناس ، ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام ، فآمنوا وأحبّوه ، فلمّا أصاب
النّاس القحط ، نزل ذلك بأرض كنعان ، فأرسل يعقوب ولده للميرة ، وذاع أمر يوسف في
الآفاق ، وانتشر عدله ورحمته ورأفته ، فقال يعقوب : يا بنيّ ، إنه قد بلغني أنّ
بمصر ملكا صالحا ، فانطلقوا إليه وأقرئوه منّي السّلام ، وانتسبوا له لعلّه يعرفكم
، فانطلقوا فدخلوا عليه ، فعرفهم وأنكروه ، فقال : من أين أقبلتم؟ قالوا : من أرض
كنعان ، ولنا شيخ يقال له : يعقوب ، وهو يقرئك السلام ، فبكى وعصر عينيه وقال :
لعلّكم جواسيس جئتم تنظرون عورة بلدي ، فقالوا : لا والله ، ولكنّا من كنعان ،
أصابنا الجهد ، فأمرنا أبونا أن نأتيك ، فقد بلغه عنك خير ، قال : فكم أنتم؟ قالوا
: أحد عشر أخا ، وكنّا اثني عشر فأكل أحدنا الذئب ، قال : فمن يعلم صدقكم؟ ائتوني
بأخيكم الذي من أبيكم. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : لمّا دخلوا عليه كلّموه
بالعبرانيّة ، فأمر التّرجمان فكلّمهم ليشبّه عليهم ، فقال للتّرجمان : قل لهم :
أنتم عيون ، بعثكم ملككم لتنظروا إلى أهل مصر فتخبرونه فيأتينا بالجنود ، فقالوا :
لا ، ولكنّا قوم لنا أب شيخ كبير ، وكنّا اثني عشر ، فهلك منّا واحد في الغنم ،
وقد خلّفنا عند أبينا أخا له من أمّه ، فقال : إن كنتم صادقين ، فخلّفوا عندي
بعضكم رهنا ، وائتوني بأخيكم ، فحبس عنده شمعون.
واختلفوا بما ذا
عرفهم يوسف على قولين : أحدهما
: أنه عرفهم
برؤيتهم ، قاله ابن عباس. والثاني
: أنه ما عرفهم حتى
تعرّفوا إليه ، قاله الحسن.
قوله تعالى : (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) قال مقاتل : لا يعرفونه. وفي علّة كونهم لم يعرفوه قولان :
أحدهما
: أنهم جاءوه
مقدّرين أنه ملك كافر ، فلم يتأمّلوا منه ما يزول به عنهم الشّك. والثاني : أنهم عاينوا من زيّه وحليته ما كان سببا لإنكارهم. وقد روى
أبو صالح عن ابن عباس أنه كان لابسا ثياب حرير ، وفي عنقه طوق من ذهب.
فإن قيل : كيف
يخفى من قد أعطي نصف الحسن ، وكيف يشتبه بغيره؟ فالجواب : أنهم فارقوه طفلا ورأوه
كبيرا ، والأحوال تتغيّر ، وما توهّموا أنه ينال هذه المرتبة.
وقال ابن قتيبة :
معنى كونه أعطي نصف الحسن ، أنّ الله تعالى جعل للحسن غاية وحدّا ، وجعله لمن شاء
من خلقه ، إمّا للملائكة ، أو للحور ، فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن ، فكأنه كان حسنا
مقاربا لتلك الوجوه الحسنة ، وليس كما يزعم الناس من أنه أعطي هذا الحسن ، وأعطي
الناس كلّهم نصف الحسن.
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي
أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠))
قوله تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) يقال : جهّزت القوم تجهيزا : إذا هيّأت لهم ما يصلحهم ،
وجهاز البيت : متاعه. قال المفسّرون : حمّل لكلّ رجل منهم بعيرا ، وقال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي : أتمه ولا أبخسه ، (وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ) يعني : المضيفين ،
وذلك أنه أحسن ضيافتهم. ثم أوعدهم على ترك الإتيان بأخيهم ، فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا
كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) وفيه قولان : أحدهما : أنه يعني به : فيما بعد ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنه منعهم الكيل في الحال ، قاله وهب بن منبّه.
(قالُوا سَنُراوِدُ
عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١))
قوله تعالى : (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي : نطلبه منه ، والمراودة : الاجتهاد في الطّلب. وفي
قوله تعالى : (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : وإنّا لجاءوك به ، وضامنون لك المجيء به ،
هذا مذهب الكلبيّ. والثاني
: أنه توكيد ، قاله
الزّجّاج ، فعلى هذا يكون الفعل الذي ضمنوه عائدا إلى المراودة ، فيصحّ معنى
التّوكيد. والثالث
: وإنّا لمديمون
المطالبة به لأبينا ، ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه ، وهذا غير المراودة ، ذكره
ابن الأنباري.
فإن قيل : كيف جاز
ليوسف أن يطلب أخاه ، وهو يعلم ما في ذلك من إدخال الحزن على أبيه؟ فعنه خمسة
أجوبة : أحدها
: أنه يجوز أن يكون
ذلك بأمر عن الله تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه ، وهذا الأظهر. والثاني : أنه طلبه لا ليحبسه ، فلمّا عرفه قال : لا أفارقك يا يوسف
، قال : لا يمكنني حبسك إلّا أن أنسبك إلى أمر فظيع ، قال : افعل ما بدا لك ، قاله
كعب. والثالث
: أن يكون قصد
تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف. والرابع
: ليتضاعف سرور
يعقوب برجوع ولديه. والخامس
: ليعجّل سرور أخيه
باجتماعه به قبل إخوته. وكلّ هذه الأجوبة مدخولة ، إلّا الأول ، فإنه الصّحيح.
ويدلّ عليه ما روينا عن وهب بن منبّه ، قال : لمّا جمع الله بين يوسف ويعقوب ، قال
له يعقوب : بيني وبينك هذه المسافة القريبة ، ولم تكتب إليّ تعرّفني؟! فقال : إنّ
جبريل أمرني أن لا أعرّفك ، فقال له : سل جبريل ، فسأله ، فقال : إنّ الله أمرني
بذلك ، فقال : سل ربّك ، فسأله ، فقال : قل ليعقوب : خفت عليه الذئب ، ولم تؤمنّي؟
(وَقالَ لِفِتْيانِهِ
اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا
انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))
قوله تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «لفتيته».
وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «لفتيانه». قال أبو عليّ : الفتية جمع
فتّى في العدد القليل ، والفتيان في الكثير. والمعنى : قال لغلمانه : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) وهي التي اشتروا بها الطعام (فِي رِحالِهِمْ) ، والرّحل : كلّ شيء يعدّ للرّحيل. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي : ليعرفوها (إِذَا انْقَلَبُوا) أي : رجعوا (إِلى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : لكي يرجعوا. وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال : أحدها : أنه تخوّف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرّة
أخرى ، فجعل دراهمهم في رحالهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنه أراد أنهم إذا عرفوها ، لم يستحلّوا إمساكها حتى
يردّوها ، قاله الضّحّاك. والثالث
: أنه استقبح أخذ
الثمن من والده وإخوته مع حاجتهم إليه ، فردّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب ردّه
تكرّما وتفضّلا ، ذكره ابن جرير الطّبري ، وأبو سليمان الدّمشقي. والرابع : ليعلموا أنّ طلبه لعودهم لم يكن طمعا في أموالهم ، ذكره
الماوردي. والخامس
: أنه أراهم كرمه
وبرّه ليكون أدعى إلى عودهم.
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى
أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا
نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ
كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤))
قوله تعالى : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ) قال المفسّرون : لمّا عادوا إلى يعقوب ، قالوا : يا أبانا
: قدمنا على خير رجل ، أنزلنا ، وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا
كرامته.
وفي قوله تعالى : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) قولان قد تقدّما في قوله : (فلا كيل لكم عندي). فإن قلنا :
إنه لم يكل لهم ، فلفظ «منع» بيّن. وإن قلنا : إنه خوّفهم منع الكيل ، ففي المعنى
قولان :
أحدهما
: حكم علينا بمنع
الكيل بعد هذا الوقت ، كما تقول للرجل : دخلت والله النار بما فعلت. والثاني : أنّ المعنى : يا أبانا يمنع منّا الكيل إن لم ترسله معنا ،
فناب «منع» عن «يمنع» كقوله تعالى : (يَحْسَبُ أَنَّ
مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي : يخلده ، وقوله : (وَنادى أَصْحابُ
النَّارِ) ، (وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى) أي : وإذ يقول ، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر : «نكتل»
بالنون. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «يكتل» بالياء. والمعنى : إن أرسلته معنا اكتلنا
، وإلّا فقد منعنا الكيل.
قوله تعالى : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) أي لا آمنكم عليه إلّا كأمني على يوسف ، يريد أنه لم ينفعه
ذلك الأمن إذ خانوه. (فَاللهُ خَيْرٌ
حافِظاً) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر
عن عاصم : «حفظا» ، والمعنى : خير حفظا من حفظكم ، وقرأ حمزة والكسائيّ ، وحفص عن
عاصم : «خير حافظا» بألف. قال أبو عليّ : ونصبه على التّمييز دون الحال.
(وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي
هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا
وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ
حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ
بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما
كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ
قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٦٨))
قوله تعالى : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) يعني أوعية الطعام (وَجَدُوا
بِضاعَتَهُمْ) التي حملوها ثمنا للطعام (رُدَّتْ) قال الزّجّاج : الأصل «رددت» ، فأدغمت الدال الأولى في
الثانية ، وبقيت الراء مضمومة. ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال ،
كما فعل ذلك في : قيل ، وبيع ، ليدلّ على أنّ أصل الدال الكسر.
قوله تعالى : (ما نَبْغِي) في «ما» قولان : أحدهما : أنها استفهام ، المعنى : أيّ شيء نبغي وقد ردّت بضاعتنا
إلينا؟ والثاني
: أنها نافية ،
المعنى : ما نبغي شيئا ، أي : لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها
__________________
إليه ، بل تكفينا
هذه في الرّجوع إليه ، وأرادوا بذلك تطييب قلبه ليأذن لهم بالعود. وقرأ ابن مسعود
، وابن يعمر ، والجحدريّ ، وأبو حياة «ما تبغي» بالتاء ، على الخطاب ليعقوب.
قوله تعالى : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي : نجلب لهم الطعام. قال ابن قتيبة : يقال : مار أهله
يميرهم ميرا ، وهو مائر لأهله : إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده. قوله تعالى : (وَنَحْفَظُ أَخانا) فيه قولان : أحدهما : نحفظ أخانا ابن يامين الذي ترسله معنا ، قاله الأكثرون. والثاني : ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذ رهينة عنده ، قاله الضّحّاك عن
ابن عباس. قوله تعالى : (وَنَزْدادُ كَيْلَ
بَعِيرٍ) أي : وقر بعير ، يعنون بذلك نصيب أخيهم ، لأنّ يوسف كان لا
يعطي الواحد أكثر من حمل بعير.
قوله تعالى : (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ذلك كيل سريع ، لا حبس فيه ، يعنون : إذا جاء معنا ، عجّل
الملك لنا الكيل ، قاله مقاتل. والثاني
: ذلك كيل سهل على
الذي نمضي إليه ، قاله الزّجّاج. والثالث : ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يقنعنا ، قاله الماوردي.
قوله تعالى : (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي : تعطوني عهدا أثق به ، والمعنى : حتى تحلفوا لي بالله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي : لتردّنّه إليّ. قال ابن الأنباري : وهذه اللام جواب
لمضمر ، تلخيصه : وتقولوا : والله لتأتنّني به. قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) فيه قولان : أحدهما : أن يهلك جميعكم ، قاله مجاهد. والثاني : أن يحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإتيان به ، قاله
الزّجّاج. قوله تعالى : (فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ) أي : أعطوه العهد ، وفيه قولان : أحدهما : أنهم حلفوا له بحقّ محمّد صلىاللهعليهوسلم ومنزلته من ربّه ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنهم حلفوا بالله تعالى ، قاله السّدّيّ. قوله تعالى : (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الشهيد. والثاني : كفيل بالوفاء ، رويا عن ابن عباس.
قوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) قال المفسّرون : لمّا تجهّزوا للرّحيل ، قال لهم يعقوب : «لا
تدخلوا» يعني مصر «من باب واحد». وفي المراد بهذا الباب قولان : أحدهما : أنه أراد بابا من أبواب مصر ، وكان لمصر أربعة أبواب ،
قاله الجمهور. والثاني
: أنه أراد الطرق
لا الأبواب ، قاله السّدّيّ ، وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس. وفي ما أراد بذلك
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه خاف عليهم
العين ، وكانوا أولي جمال وقوّة ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنه خاف أن يغتالوا لما ظهر لهم في أرض مصر من التّهمة ،
قاله وهب بن منبّه. والثالث
: أنه أحبّ أن
يلقوا يوسف في خلوة ، قاله إبراهيم النّخعيّ.
قوله تعالى : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) أي : لن أدفع عنكم شيئا قضاه الله ، فإنه إن شاء أهلككم
متفرّقين ، ومصداقه في الآية التي بعدها (ما كانَ يُغْنِي
عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) وهي إرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم. قال الزّجّاج
: «إلا حاجة» استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها. قال
ابن عباس : «قضاها» أي : أبداها وتكلّم بها.
قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما
عَلَّمْناهُ) فيه سبعة أقوال : أحدها : إنه حافظ لما علّمناه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : وإنه لذو علم أنّ دخولهم من أبواب متفرّقة لا يغني عنهم من
الله شيئا ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : وإنه لعامل بما علّم ، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري :
سمّي العمل
علما ، لأنّ العلم
أول أسباب العمل. والرابع
: وإنه لمتيقّن
لوعدنا ، قاله الضّحّاك. والخامس
: وإنه لحافظ
لوصيّتنا ، قاله ابن السّائب. والسادس
: وإنه لعالم بما
علّمناه أنه لا يصيب بنيه إلّا ما قضاه الله ، قاله مقاتل. والسابع : وإنه لذو علم لتعليمنا إيّاه ، قاله الفرّاء.
(وَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩))
قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) يعني إخوته (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) يعني بنيامين ، وكان أخاه لأبيه وأمّه ، قاله قتادة ،
وضمّه إليه وأنزله معه. قال ابن قتيبة : يقال : آويت فلانا إليّ ، بمدّ الألف : إذا
ضممته إليك ، وأويت إلى بني فلان ، بقصر الألف : إذا لجأت إليهم. وفي قوله : (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) قولان : أحدهما
: أنهم لمّا دخلوا
عليه حبسهم بالباب ، وأدخل أخاه ، فقال له : ما اسمك؟ فقال : بنيامين ، قال : فما
اسم أمك؟ قال : راحيل بنت لاوى ، فوثب إليه فاعتنقه ، فقال : «إنّي أنا أخوك» ،
قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وكذلك قال ابن إسحاق : أخبره أنه يوسف. والثاني : أنه لم يعترف له بذلك ، وإنما قال : أنا أخوك مكان أخيك
الهالك ، قاله وهب بن منبّه. وقيل : إنه أجلسهم كلّ اثنين على مائدة ، فبقي
بنيامين وحيدا يبكي ، وقال : لو كان أخي حيّا لأجلسني معه ، فضمّه يوسف إليه وقال
: إنّي أرى هذا وحيدا ، فأجلسه معه على مائدته. فلما جاء الليل ، نام كلّ اثنين
على منام ، فبقي وحيدا ، فقال يوسف : هذا ينام معي. فلمّا خلا به ، قال : هل لك أخ
من أمّك؟ قال : كان لي أخ من أمي فهلك ، فقال ؛ أتحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك
الهالك؟ فقال : أيّها الملك ، ومن يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ،
فبكى يوسف ، وقام إليه فاعتنقه ، وقال : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف (فَلا تَبْتَئِسْ) قال قتادة : لا تأس ولا تحزن ، وقال الزجاج : لا تحزن ولا
تستكن. قال ابن الأنباري : «تبتئس» : تفتعل ، من البؤس ، وهو الضرّ والشدّة ، أي :
لا يلحقنّك بؤس بالذي فعلوا.
قوله تعالى : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم كانوا يعيّرون يوسف وأخاه بعبادة جدّهما أبي أمّهما
للأصنام ، فقال : لا تبتئس بما كانوا يعملون من التّعيير لنا ، روى هذا المعنى أبو
صالح عن ابن عباس. والثاني
: لا تحزن بما
سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرّقونك ، فتكون «كانوا» بمعنى «يكونون» قال الشاعر :
فأدركت من قد
كان قبلي ولم أدع
|
|
لمن كان بعدي في
القصائد مصنعا
|
وقال آخر :
وانضح جوانب
قبره بدمائها
|
|
فلقد يكون أخا
دم وذبائح
|
أراد : فقد كان ،
وهذا مذهب مقاتل. والثالث
: لا تحزن بما
عملوا من حسدنا ، وحرصوا على صرف وجه أبينا عنّا ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن إسحاق.
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢))
قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) قال المفسّرون : أوفى لهم الكيل ، وحمّل بنيامين بعيرا
باسمه كما حمّل لهم ، وجعل السّقاية في رحل أخيه ، وهي الصّواع ، فهما اسمان
واقعان على شيء واحد ، كالبرّ والحنطة ، والمائدة والخوان. وقال بعضهم : الاسم
الحقيقي : الصّواع ، والسّقاية وصف ، كما يقال : كوز ، وإناء ، فالاسم الخاصّ :
الكوز. قال المفسّرون : جعل يوسف ذلك الصّاع مكيالا لئلّا يكال بغيره. وقيل : كال
لإخوته بذلك ، إكراما لهم. قالوا : ولمّا ارتحل إخوة يوسف وأمعنوا ، أرسل الطّلب
في أثرهم ، فأدركوا وحبسوا ، (ثُمَّ أَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ) قال الزّجّاج : أعلم معلم يقال : آذنته بالشيء فهو مؤذن به
أي : أعلمته ، وآذنت : أكثرت الإعلام بالشيء ، يعني : أنه إعلام بعد إعلام. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) يريد : أهل العير ، فأنّث لأنه جعلها للعير. قال الفرّاء :
لا يقال : عير ، إلّا لأصحاب الإبل. وقال أبو عبيدة : العير : الإبل المرحولة
المركوبة. وقال ابن قتيبة : العير : القوم على الإبل.
فإن قيل : كيف جاز
ليوسف أن يسرق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة : أحدها : أنّ المعنى : إنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه
وطرحتموه في الجبّ ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنّ المنادي نادى وهو لا يعلم أنّ يوسف أمر بوضع السّقاية
في رحل أخيه ، فكان غير كاذب في قوله ، قاله ابن جرير. والثالث : أنّ المنادي نادى بالتّسريق لهم بغير أمر يوسف. والرابع : أنّ المعنى : إنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة
أخباركم ، كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي : عند نفسك ، لا عندنا. وقول النبيّ صلىاللهعليهوسلم :
(٨١٨) «كذب
إبراهيم ثلاث كذبات» أي : قال قولا يشبه الكذب ، وليس به.
قوله تعالى : (قالُوا) يعني : إخوة يوسف (وَأَقْبَلُوا
عَلَيْهِمْ) فيه قولان : أحدهما : على المؤذّن وأصحابه. والثاني : أقبل المنادي ومن معه على إخوة يوسف بالدّعوى. (ما ذا تَفْقِدُونَ) ما الذي ضلّ عنكم؟ (قالُوا نَفْقِدُ
صُواعَ الْمَلِكِ). قال الزّجّاج : الصّواع هو الصّاع بعينه ، وهو يذكّر
ويؤنّث ، وكذلك الصّاع يذكّر ويؤنّث. وقد قرئ : «صياع» بياء ، وقرئ : «صوغ» بغين
معجمة ، وقرئ : «صوع» بعين غير معجمة مع فتح الصاد ، وضمّها ، وقرأ أبو هريرة : «صاع
الملك» وكلّ هذه لغات ترجع إلى معنى واحد ، إلّا أنّ الصوغ ، بالغين المعجمة ،
مصدر صغت ، وصف الإناء به ، لأنه كان مصوغا من ذهب. واختلفوا في جنسه على خمسة
أقوال : أحدها
: أنه كان قدحا من
زبرجد. والثاني
: أنه كان من نحاس
، رويا عن ابن عباس. والثالث
: أنه كان شربة من
فضّة مرصّعة بالجوهر ، قاله عكرمة. والرابع : كان كأسا من ذهب ، قاله ابن زيد. والخامس : كان من مس ، حكاه الزّجّاج. وفي صفته قولان : أحدهما : أنه
____________________________________
(٨١٨) غريب بهذا
اللفظ ، وقد ورد بسياق آخر وهو صدر حديث ، أخرجه البخاري ٢٦٣٥ و ٢٢١٧ والترمذي
٣١٦٦ ، وأحمد في «المسند» ٢ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤ ، والبيهقي ٧ / ٣٦٦ ، من حديث أبي هريرة.
وأخرجه مسلم ٢٣٧١ ، والبيهقي ٧ / ٣٦٦ من حديث محمد بن سيرين به. وأخرجه أبو داود
٢٢١٢ من حديث هشام بن حسان به. ولفظه عند البخاري : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لم يكذب إبراهيم عليهالسلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهنّ في ذات الله عزوجل : قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ) ... إلخ».
__________________
كان مستطيلا يشبه
المكّوك. والثاني
: أنه كان يشبه
الطّاس. قوله تعالى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) يعني الصّواع (حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي : كفيل لمن ردّه بالحمل ، يقوله المؤذّن.
(قالُوا تَاللهِ
لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ
فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥))
قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ) قال الزّجّاج : «تالله» بمعنى : والله ، إلّا أنّ التاء لا
يقسم بها إلّا في الله عزوجل. ولا يجوز : تالرّحمن لأفعلنّ ، ولا : تربّي لأفعلنّ.
والتاء تبدل من الواو ، كما قالوا في وراث : تراث ، وقالوا : يتّزن ، وأصله :
يوتزن ، من الوزن. قال ابن الأنباري : أبدلت التاء من الواو ، كما أبدلت في
التّخمة والتّراث والتّجاه ، وأصلهنّ من الوخمة والوارث والوجاه ، لأنهنّ من
الوخامة والوارثة والوجه. ولا تقول العرب : تالرّحمن ، كما قالوا : تالله ، لأنّ
الاستعمال في الأقسام كثر بالله ، ولم يكن بالرّحمن ، فجاءت التاء بدلا من الواو
في الموضع الذي يكثر استعماله.
قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) يعنون يوسف (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ
فِي الْأَرْضِ) أي : لنظلم أحدا أو نسرق. فإن قيل : كيف حلفوا على علم قوم
لا يعرفونهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها
: أنهم قالوا ذلك ،
لأنهم ردّوا الدّراهم ولم يستحلّوها ، فالمعنى : لقد علمتم أنّا رددنا عليكم
دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصّاع ، فكيف نستحلّ صاعكم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس
، وبه قال مقاتل. والثاني
: لأنهم لمّا دخلوا
مصر كعموا أفواه إبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئا ، وكان غيرهم لا
يفعل ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنّ أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحدا.
قوله تعالى : (فَما جَزاؤُهُ) المعنى : قال المنادي وأصحابه : فما جزاؤه. قال الأخفش :
إن شئت رددت الكناية إلى السّارق ، وإن شئت رددتها إلى السّرق. قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي : في قولكم ، (وَما كُنَّا
سارِقِينَ). (قالُوا) يعني : إخوة يوسف (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ
فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي : يستعبد بذلك. قال ابن عباس : وهذه كانت سنّة آل
يعقوب.
(فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ
أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ (٧٦))
قوله تعالى : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) قال المفسّرون : انصرف بهم المؤذّن إلى يوسف ، وقال : لا
بدّ من تفتيش أمتعتكم ، (فَبَدَأَ) يوسف (بِأَوْعِيَتِهِمْ
قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) لإزالة التّهمة ، فلما وصل إلى وعاء أخيه ، قال : ما أظنّ
هذا أخذ شيئا ، فقالوا : والله لا نبرح حتى تنظر في رحله ، فهو أطيب لنفسك. فلمّا
فتحوا متاعه وجدوا الصّاع ، فذلك قوله : (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها). وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى السّرقة ، قاله الفرّاء. والثاني : إلى السّقاية ، قاله الزّجّاج. والثالث : إلى الصّواع على لغة من
__________________
يؤنّثه ، ذكره ابن
الأنباري. قال المفسّرون : فأقبلوا على ابن يامين ، وقالوا : أيّ شيء صنعت؟!
فضحتنا وأزريت بأبيك الصّدّيق ، فقال : وضع هذا في رحلي الذي وضع الدّراهم في
رحالكم ، وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به.
قوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : كذلك صنعنا له ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : احتلنا له ، والكيد : الحيلة ، قاله ابن قتيبة. والثالث : أردنا ليوسف ، ذكره ابن القاسم. والرابع : دبّرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصّل إلى حبسه. قال
ابن الأنباري : لمّا دبّر الله ليوسف ما دبّر من ارتفاع المنزلة وكمال النّعمة على
غير ما ظنّ إخوته ، شبّه بالكيد من المخلوقين ، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمّن
يكيدونه.
قوله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ
الْمَلِكِ) في المراد بالدّين ها هنا قولان :
أحدهما
: أنه السّلطان ،
فالمعنى : في سلطان الملك ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.
والثاني
: أنه القضاء ،
فالمعنى : في قضاء الملك ، لأنّ قضاء الملك أنّ من سرق إنّما يضرب ويغرّم ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه ،
لأنّ حكم الملك الغرم والضّرب فحسب ، فأجرى الله على ألسنة إخوته أنّ جزاء السّارق
الاسترقاق ، فكان ذلك ممّا كاد الله ليوسف لطفا حتى أظفره بمراده بمشيئة الله ،
فذلك معنى قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ). وقيل : إلّا أن يشاء الله إظهار علّة يستحقّ بها أخاه.
قوله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) وقرأ يعقوب «يرفع درجات من يشاء» بالياء فيهما. وقرأ أهل
الكوفة «درجات» بالتنوين ، والمعنى : نرفع الدّرجات بصنوف العطاء ، وأنواع
الكرامات ، وأبواب العلوم ، وقهر الهوى ، والتّوفيق للهدى ، كما رفعنا يوسف. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي : فوق كلّ ذي علم رفعه الله بالعلم من هو أعلم منه حتى
ينتهي العلم إلى الله تعالى ، والكمال في العلم معدوم من غيره. وفي مقصود هذا
الكلام ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ المعنى :
يوسف أعلم من إخوته ، وفوقه من هو أعلم منه. والثاني : أنه نبّه على تعظيم العلم ، وبيّن أنه أكثر من أن يحاط به.
والثالث
: أنه تعليم للعالم
التّواضع لئلّا يعجب.
(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ
(٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ
أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ
نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))
قوله تعالى : (قالُوا) يعني : إخوة يوسف (إِنْ يَسْرِقْ) يعنون ابن يامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ
لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون يوسف. قال المفسّرون : عوقب يوسف ثلاث مرّات ، قال
للسّاقي : «اذكرني عند ربّك» فلبث في السّجن بضع سنين ، وقال للعزيز : «ليعلم أنّي
لم أخنه بالغيب» ، فقال له جبريل : ولا حين هممت؟ فقال : «وما أبرّئ نفسي» ، وقال
لإخوته : «إنّكم لسارقون» ، فقالوا : «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل». وفي ما عنوا
بهذه السّرقة سبعة أقوال : أحدها
: أنه كان يسرق
الطعام من مائدة أبيه في سنيّ
المجاعة ، فيطعمه
للمساكين ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني : أنه سرق مكحلة لخالته ، رواه أبو مالك عن ابن عباس. والثالث : أنه سرق صنما لجدّه أبي أمّه ، فكسره وألقاه في الطريق ،
فعيّره إخوته بذلك ، قاله سعيد بن جبير ، ووهب بن منبّه ، وقتادة. والرابع : أنّ عمّة يوسف ـ وكانت أكبر ولد إسحاق ـ كانت
تحضن يوسف وتحبّه حبّا شديدا ، فلمّا ترعرع ، طلبه يعقوب ، فقالت : ما أقدر أن
يغيب عني ، فقال : والله ما أنا بتاركه ، فعمدت إلى منطقة إسحاق ، فربطتها على
يوسف تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت منطقة إسحاق ، فانظروا من أخذها ، فوجدوها مع
يوسف ، فأخبرت يعقوب بذلك ، وقالت : والله إنه لي أصنع فيه ما شئت ، فقال : أنت
وذاك ، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت ، فذاك الذي عيّره به إخوته ، رواه ابن أبي
نجيح عن مجاهد. والخامس
: أنه جاءه سائل
يوما ، فسرق شيئا ، فأعطاه السّائل ، فعيّروه بذلك. وفي ذلك الشيء ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان بيضة ، قاله مجاهد. والثاني : أنه شاة ، قاله كعب. والثالث : دجاجة ، قاله سفيان بن عيينة. والسادس : أن بني يعقوب كانوا على طعام ، فنظر يوسف إلى عرق ، فخبأه
، فعيّروه بذلك ، قاله عطيّة العوفيّ ، وإدريس الأوديّ. قال ابن الأنباري : وليس
في هذه الأفعال كلّها ما يوجب السّرقة ، لكنها تشبه السّرقة ، فعيّره إخوته بذلك
عند الغضب. والسابع
: أنهم كذبوا عليه
فيما نسبوه إليه ، قاله الحسن. وقرأ أبو رزين ، وابن أبي عبلة : «فقد سرّق» بضمّ
السين وكسر الراء وتشديدها.
قوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى الكلمة التي ذكرت بعد هذا ، وهي قوله تعالى
: (أَنْتُمْ شَرٌّ
مَكاناً) ، روى هذا المعنى العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنها ترجع إلى الكلمة التي قالوها في حقّه ، وهي قولهم : «فقد
سرق أخ له من قبل» ، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس ، فعلى هذا يكون المعنى :
أسرّ جواب الكلمة فلم يجبهم عليها. والثالث : أنها ترجع إلى الحجّة ، المعنى : فأسرّ الاحتجاج عليهم في
ادّعائهم عليه السّرقة ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) فيه قولان : أحدهما : شرّ صنيعا من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق
أبيكم ، قاله ابن عباس. والثاني
: شرّ منزلة عند
الله ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) فيه قولان : أحدهما : تقولون ، قاله مجاهد. والثاني : بما تكذبون ، قاله قتادة. قال الزّجّاج : المعنى : والله
أعلم أسرق أخ له أم لا.
وذكر بعض
المفسّرين ، أنه لما استخرج الصّواع من رحل أخيه ، نقر الصّواع ، ثم أدناه من أذنه
، فقال : إنّ صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا ، وأنكم انطلقتم بأخ لكم
فبعتموه ، فقال ابن يامين : أيّها الملك ، سل صواعك عن أخي ، أحيّ هو؟ فنقره ، ثم
قال : هو حيّ ، وسوف تراه ، فقال : سل صواعك ، من جعله في رحلي؟ فنقره ، وقال :
إنّ صواعي هذا غضبان ، وهو يقول : كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ فغضب
روبيل ، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا ، فإذا مسّ أحدهم الآخر ذهب غضبه ،
فقال : والله أيّها الملك لتتركنّا ، أو لأصيحنّ صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل
إلّا ألقت ما في بطنها ، فقال يوسف لابنه : قم إلى جنب روبيل فامسسه ، ففعل الغلام
، فذهب غضبه ، فقال روبيل : ما هذا؟! إنّ في هذا البلد من ذريّة يعقوب؟ قال يوسف :
ومن يعقوب؟ فقال : أيّها
الملك ، لا تذكر
يعقوب ، فإنه إسرائيل الله ابن ذبيح الله ابن خليل الله. فلمّا لم يجدوا إلى خلاص
أخيهم سبيلا ، سألوه أن يأخذ منهم بديلا به ، فذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ
أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي : في سنّه ، وقيل : في قدره ، (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي : تستعبده بدلا عنه (إِنَّا نَراكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) فيه قولان : أحدهما : فيما مضى. والثاني : إن فعلت. (قالَ مَعاذَ اللهِ) قد سبق تفسيره ، والمعنى : أعوذ بالله أن نأخذ بريئا
بسقيم.
(فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ
أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي
أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما
عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١))
قوله تعالى : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي : يئسوا. وفي هاء «منه» قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى يوسف ، فالمعنى : يئسوا من يوسف أن يخلّي
سبيل أخيهم. والثاني
: إلى أخيهم ،
فالمعنى : يئسوا من أخيهم. قوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي : اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم ، يتناجون ويتناظرون
ويتشاورون ، يقال : قوم نجيّ ، والجمع أنجية ، قال الشاعر :
إنّي إذا ما
القوم كانوا أنجيه
|
|
واضطربت أعناقهم
كالأرشيه
|
وإنّما وحّد «نجيّا»
لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين ، والجمع والمؤنّث بلفظ واحد. وقال
الزّجّاج : انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم وليس معهم أخوهم.
قوله تعالى : (قالَ كَبِيرُهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أنه كبيرهم في العقل ، ثم فيه قولان : أحدهما
: أنه يهوذا ، ولم
يكن أكبرهم سنّا ، وإنما كان أكبرهم سنّا روبيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه
قال الضّحّاك ، ومقاتل. والثاني
: أنه شمعون ، قاله
مجاهد. والثاني
: أنه كبيرهم في
السّنّ وهو روبيل ، قاله قتادة ، والسّدّيّ.
قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ
أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) في حفظ أخيكم وردّه إليه (وَمِنْ قَبْلُ ما
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) قال الفرّاء : «ما» في موضع رفع ، كأنه قال : ومن قبل هذا
تفريطكم في يوسف ، وإن شئت جعلتها نصبا ، المعنى : ألم تعلموا هذا ، وتعلموا من
قبل تفريطكم في يوسف. وإن
__________________
شئت جعلت «ما» صلة
، كأنه قال : ومن قبل فرّطتم في يوسف. قال الزّجّاج : وهذا أجود الوجوه ، أن تكون «ما»
لغوا. قوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ
الْأَرْضَ) أي : لن أخرج من أرض مصر ، يقال : برح الرجل براحا : إذا
تنحّى عن موضعه. (حَتَّى يَأْذَنَ لِي
أَبِي) قال ابن عباس : حتى يبعث إليّ أن آتيه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أو يحكم الله لي ، فيردّ أخي عليّ. والثاني : يحكم الله لي بالسّيف ، فأحارب من حبس أخي. والثالث : يقضي في أمري شيئا ، (وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ) أي : أعدلهم وأفضلهم.
قوله تعالى : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) وقرأ ابن عباس ، والضّحّاك ، وابن أبي سريج عن الكسائيّ : «سرق»
بضمّ السين وتشديد الراء وكسرها. قوله تعالى : (وَما شَهِدْنا إِلَّا
بِما عَلِمْنا) فيه قولان : أحدهما : وما شهدنا عليه بالسّرقة إلّا بما علمنا ، لأنّا رأينا
المسروق في رحله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : وما شهدنا عند يوسف بأنّ السّارق يؤخذ بسرقته إلّا بما
علمنا من دينك ، قاله ابن زيد. وفي قوله : (وَما كُنَّا
لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) ثمانية أقوال : أحدها : أنّ الغيب هو الليل ، والمعنى : لم نعلم ما صنع بالليل ،
قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وهذا يدلّ على أنّ التّهمة وقعت به ليلا. والثاني : ما كنّا نعلم أنّ ابنك يسرق ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد
، وبه قال عكرمة ، وقتادة ، ومكحول. قال ابن قتيبة : فالمعنى : لم نعلم الغيب حين
أعطيناك الموثق لنأتينّك به أنه يسرق فيؤخذ. والثالث : لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق ، رواه عبد الوهّاب عن مجاهد. والرابع : لم نعلم أنه سرق للملك شيئا ، ولذلك حكمنا باسترقاق
السّارق ، قاله ابن زيد. والخامس
: أنّ المعنى : قد
رأينا السّرقة قد أخذت من رحله ، ولا علم لنا بالغيب فلعلّهم سرّقوه ، قاله ابن
إسحاق. والسادس
: ما كنّا لغيب
ابنك حافظين ، إنما نقدر على حفظه في محضره ، فإذا غاب عنّا ، خفيت عنّا أموره. والسابع : لو علمنا من الغيب أنّ هذه البليّة تقع بابنك ما سافرنا به
، ذكرهما ابن الأنباري. والثامن
: لم نعلم أنك تصاب
به كما أصبت بيوسف ، ولو علمنا لم نذهب به ، قاله ابن كيسان.
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))
قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) المعنى : قولوا لأبيكم : سل أهل القرية (الَّتِي كُنَّا فِيها) يعنون مصر (وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنا فِيها) وأهل العير ، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين. قال ابن
الأنباري : ويجوز أن يكون المعنى : وسل القرية والعير فإنها تعقل عنك لأنّك نبيّ
والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم ، فعلى هذا تسلم الآية من إضمار.
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي
بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣))
قوله تعالى : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ) في الكلام اختصار ، والمعنى : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له
ذلك ، فقال لهم هذا ، وقد شرحناه في أوّل السّورة.
واختلفوا لأيّ
علّة قال لهم هذا القول ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ظنّ أنّ الذي تخلّف منهم ، إنما تخلّف حيلة ومكرا
ليصدّقهم ، قاله وهب بن منبّه. والثاني
: أنّ المعنى :
سوّلت لكم أنفسكم أنّ
خروجكم بأخيكم
يجلب نفعا ، فجرّ ضررا ، قاله ابن الأنباري. والثالث : سوّلت لكم أنه سرق ، وما سرق.
قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ
جَمِيعاً) يعني : يوسف وابن يامين وأخاهما المقيم بمصر. وقال مقاتل :
أقام بمصر يهوذا وشمعون ، فأراد بقوله : «أن يأتيني بهم» يعني : الأربعة.
قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي : بشدّة حزني ، وقيل : بمكانهم ، (الْحَكِيمُ) فيما حكم عليّ.
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ (٨٤))
قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي : أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب ، وانفرد بحزنه ،
وهيّج عليه ذكر يوسف (وَقالَ يا أَسَفى
عَلى يُوسُفَ) قال ابن عباس : يا طول حزني على يوسف. قال ابن قتيبة : الأسف
: أشدّ الحسرة. قال سعيد بن جبير : لقد أعطيت هذه الأمّة عند المصيبة ما لم يعط
الأنبياء قبلهم (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب ، إذ يقول : «يا أسفى
على يوسف». فإن قيل : هذا لفظ الشّكوى ، فأين الصّبر؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أنه شكا إلى الله تعالى ، لا منه. والثاني : أنه أراد به الدّعاء ، فالمعنى : يا ربّ ارحم أسفى على
يوسف. وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : نداء يعقوب الأسف في اللفظ من
المجاز الذي يعنى به غير المظهر في اللفظ ، وتلخيصه : يا إلهي ارحم أسفي ، أو أنت
راء أسفى ، وهذا أسفى ، فنادى الأسف في اللفظ ، والمنادى في المعنى سواه ، كما قال
: «يا حسرتنا» والمعنى : يا هؤلاء تنبّهوا على حسرتنا ، قال : والحزن ونفور النّفس
من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثّم ولم يشك
إلّا إلى ربّه ، فلمّا كان قوله : «يا أسفى» شكوى إلى ربّه ، كان غير ملوم. وقد
روي عن الحسن أنّ أخاه مات ، فجزع الحسن جزعا شديدا ، فعوتب في ذلك ، فقال : ما
وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال : «يا أسفى على يوسف». قوله تعالى : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي : انقلبت إلى حال البياض. وهل ذهب بصره ، أم لا؟ فيه
قولان : أحدهما
: أنه ذهب بصره ،
قاله مجاهد. والثاني
: ضعف بصره لبياض
تغشّاه من كثرة البكاء ، ذكره الماوردي. وقال مقاتل : لم يبصر بعينيه ستّ سنين.
قال ابن عباس : وقوله : «من الحزن» أي : من البكاء ، يريد أنّ عينيه ابيضّتا لكثرة
بكائه ، فلما كان الحزن سببا للبكاء ، سمّي البكاء حزنا. وقال ثابت البنانيّ : دخل
جبريل على يوسف ، فقال : أيها الملك الكريم على ربّه ، هل لك علم بيعقوب؟ قال :
نعم. قال : ما فعل؟ قال : ابيضّت عيناه ، قال : ما بلغ حزنه؟ قال : حزن سبعين ثكلى
، قال : فهل له على ذلك من أجر؟ قال : أجر مائة شهيد. وقال الحسن البصريّ : ما
فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة ، وما جفّت عينه ، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه
حين ذهب بصره. قوله تعالى : (فَهُوَ كَظِيمٌ) الكظيم بمعنى الكاظم ، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ،
قاله ابن قتيبة ، وقد شرحنا هذا عند قوله : (وَالْكاظِمِينَ
الْغَيْظَ) .
__________________
(قالُوا تَاللهِ
تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ
مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ
يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ
رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))
قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ
يُوسُفَ) قال ابن الأنباري : معناه : والله ، وجواب هذا القسم «لا»
المضمرة التي تأويلها : تالله لا تفتأ ، فلمّا كان موضعها معلوما خفّف الكلام
بسقوطها من ظاهره ، كما تقول العرب : والله أقصدك أبدا ، يعنون : لا أقصدك ، قال
امرؤ القيس :
فقلت يمين الله
أبرح قاعدا
|
|
ولو قطّعوا رأسي
لديك وأوصالي
|
يريد : لا أبرح ،
وقالت الخنساء :
فأقسمت آسى على
هالك
|
|
أو اسأل نائحة
ما لها
|
أرادت : لا آسى ،
وقال الآخر :
لم يشعر النّعش
ما عليه من ال
|
|
عرف ولا
الحاملون ما حملوا
|
تالله أنسى
مصيبتي أبدا
|
|
ما أسمعتني
حنينها الإبل
|
وقرأ أبو عمران ،
وابن محيصن ، وأبو حياة : «قالوا بالله» بالباء ، وكذلك كلّ قسم في القرآن. وأمّا
قوله : «تفتأ» فقال المفسّرون وأهل اللغة : معنى «تفتأ» تزال ، فمعنى الكلام : لا
تزال تذكر يوسف ، وأنشد أبو عبيدة :
فما فتئت خيل
تثوب وتدّعي
|
|
ويلحق منها لاحق
وتقطّع
|
وأنشد أبو القاسم
:
فما فتئت منّا
رعال كأنّها
|
|
رعال القطا حتّى
احتوين بني صخر
|
قوله تعالى : (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً). فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه الدّنف ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال ابن قتيبة :
يقال : أحرضه الحزن ، أي : أدنفه. قال أبو عبيدة : الحرض : الذي قد أذابه الحزن أو
الحبّ ، وهي في موضع محرض. وأنشد :
إني امرؤ لجّ بي
حبّ فأحرضني
|
|
حتّى بليت وحتّى
شفّني السّقم
|
أي : أذابني. وقال
الزّجّاج : الحرض : الفاسد في جسمه ، والمعنى : حتى تكون مدنفا مريضا. والثاني : أنه الذّاهب العقل ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. وقال ابن
إسحاق : الفاسد العقل. قال الزّجّاج : وقد يكون الحرض : الفاسد في أخلاقه. والثالث : أنه الفاسد في جسمه وعقله ، يقال : رجل حارض وحرض ، فحارض
يثنّى ويجمع ويؤنّث ، وحرض لا يجمع ولا يثنّى ، لأنه مصدر ، قاله الفرّاء. والرابع : أنه الهرم ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد.
قوله تعالى : (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) يعنون : الموتى. فإن قيل : كيف حلفوا على شيء يجوز
__________________
أن يتغيّر؟
فالجواب : أنّ في الكلام إضمارا ، تقديره : إنّ هذا في تقديرنا وظنّنا.
قوله تعالى : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) قال ابن قتيبة : البثّ : أشدّ الحزن ، سمّي بذلك ، لأنّ
صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه.
قوله تعالى : (إِلَى اللهِ) المعنى : إنّي لا أشكو إليكم ، وذلك لمّا عنّفوه بما تقدّم
ذكره.
(٨١٩) وروى الحاكم
أبو عبد الله في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «كان ليعقوب أخ مؤاخ ، فقال له ذات يوم : يا
يعقوب ، ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوّس ظهرك؟ قال : أمّا الذي أذهب بصري ،
فالبكاء على يوسف ، وأمّا الذي قوّس ظهري ، فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل ،
فقال : يا يعقوب إنّ الله يقرئك السّلام ويقول لك : أما تستحي أن تشكو إلى غيري؟
فقال : إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله ، فقال جبريل : الله أعلم بما تشكو ، ثم
قال يعقوب : أي ربّ ، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبت بصري ، وقوّست ظهري ، فاردد
عليّ ريحاني أشمّه شمّة قبل الموت ، ثم اصنع بي يا ربّ ما شئت ، فأتاه جبريل ،
فقال : يا يعقوب ، إنّ الله يقرأ عليك السّلام ويقول : أبشر ، فو عزّتي لو كانا
ميّتين لنشرتهما لك ، اصنع طعاما للمساكين ، فإنّ أحبّ عبادي إليّ المساكين ،
وتدري لم أذهبت بصرك ، وقوّست ظهرك ، وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنّكم ذبحتم
شاة ، فأتاكم فلان المساكين وهو صائم ، فلم تطعموه منها. فكان يعقوب ، بعد ذلك إذا
أراد الغداء أمر مناديا فنادى : ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب ،
وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى : من كان صائما فليفطر مع يعقوب. وقال وهب بن
منبّه : أوحى الله تعالى إلى يعقوب : أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟
قال : لا ، قال : لأنّك شويت عناقا وقتّرت على جارك وأكلت ولم تطعمه». وذكر بعضهم
أنّ السبب في ذلك أنّ يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها ، وهي تخور ، فلم يرحمها.
فإن قيل : كيف صبر
يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكا؟ فقد ذكر المفسّرون عنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى ، وهو الأظهر. والثاني : لئلّا يظنّ الملك بتعجيل
____________________________________
(٨١٩) أخرجه
الحاكم ٢ / ٣٤٨ ـ ٣٤٩ ، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير ٢ /
٦٠١ وإسناده ضعيف جدا. قال الحاكم : هكذا في سماعي بخط يد حفص بن عمر بن الزبير ،
وأظن الزبير وهما من الراوي فإنه حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ابن
أخي أنس بن مالك ، فإن كان كذلك فالحديث صحيح! وسكت الذهبي ، في حين ذكر الذهبيّ
في «الميزان» ١ / ٥٦٦ حفصا هذا ، وقال : ضعفه الأزدي. وذكر الحافظ في «اللسان» ٢ /
٣٢٩ كلام الذهبي ، وزاد : وذكره ابن حبان في «ثقاته» وقال : حفص بن عمر بن أبي
الزبير عن أنس ، روى عنه يحيى بن عبد الملك. قلت : ابن حبان يوثق المجاهيل ، وقد
تفرد يحيى بن عبد الملك بالرواية عنه ، فهو مجهول ، ويدل على ذلك إبهامه في بعض
الروايات كما سيأتي. وأخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» ٨٥٧ ، من طريق يحيى بن
عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر الأحمسي عن أبي الزبير عن أنس بن مالك. وقال
الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٤٠ : رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» عن شيخه :
محمد بن أحمد الباهلي البصري وهو ضعيف جدا. والحديث استغربه ابن كثير واستنكره ،
والأشبه أنه متلقى عن أهل الكتاب ، ولا أصل له في المرفوع. وأخرجه ابن أبي الدنيا
في «الفرج بعد الشدة» ٤٦ ، من طريق يحيى بن عبد الملك ، عن رجل ، عن أنس ابن مالك.
الخلاصة : هو حديث ضعيف جدا ، شبه موضوع ، والأشبه أنه من الإسرائيليات ، ولا يصح
رفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم.
استدعائه أهله ،
شدّة فاقتهم. والثالث
: أنه أحبّ بعد
خروجه من السّجن أن يدرّج نفسه إلى كمال السّرور. والصحيح أنّ ذلك كان عن أمر الله
تعالى ، ليرفع درجة يعقوب بالصّبر على البلاء. وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن
أبيه عظيما ، ولا يقدر على دفع سببه.
قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) فيه أربعة أقال : أحدها : أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأنّا سنسجد له ، رواه العوفيّ
عن ابن عباس. والثاني
: أعلم من سلامة
يوسف ما لا تعلمون. قال ابن السّائب : وذلك أنّ ملك الموت أتاه ، فقال له يعقوب :
هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا. والثالث : أعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون ، قاله عطاء. والرابع : أنه لمّا أخبره بنوه بسيرة العزيز ، طمع أن يكون هو يوسف ،
قاله السّدّيّ ، قال : ولذلك قال لهم : (اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا). وقال وهب بن منبّه : لمّا قال له ملك الموت : ما قبضت روح
يوسف ، تباشر عند ذلك ، ثم أصبح ، فقال لبنيه : (اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ). قال أبو عبيدة : «تحسّسوا» أي : تخبّروا والتمسوا في
المظانّ. فإن قيل : كيف قال : «من يوسف» والغالب أن يقال : تحسّست عن كذا؟ فعنه
جوابان ذكرهما ابن الأنباري : أحدهما
: أنّ المعنى : عن
يوسف ، ولكن نابت عنها «من» كما تقول العرب : حدّثني فلان من فلان ، يعنون عنه. والثاني : أن «من» أوثرت للتّبعيض ، والمعنى : تحسّسوا خبرا من أخبار
يوسف. قوله تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : من رحمة الله ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك. والثاني : من فرج الله ، قاله ابن زيد. والثالث : من توسعة الله ، حكاه ابن القاسم. قال الأصمعيّ : الرّوح :
الاستراحة من غمّ القلب. وقال أهل المعاني : لا تيأسوا من الرّوح الذي يأتي به
الله ، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) لأنّ المؤمن يرجو الله في الشدائد.
(فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا
بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ
يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ
أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ
وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))
قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) في الكلام محذوف ، تقديره : فخرجوا إلى مصر ، فدخلوا على
يوسف ، ف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) وكان يسمّون ملكهم بذلك ، (مَسَّنا وَأَهْلَنَا
الضُّرُّ) يعنون الفقر والحاجة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ
مُزْجاةٍ). وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال : أحدها : أنها كانت دراهم ،
__________________
رواه العوفيّ عن
ابن عباس. والثاني
: أنها كانت متاعا
رثّا كالحبل والغرارة ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. والثالث : كانت أقطا ، قاله الحسن. والرابع : كانت نعالا وأدما ، رواه جويبر عن الضّحّاك. والخامس : كانت سويق المقل ، روي عن الضّحّاك أيضا. والسادس : حبّة الخضراء وصنوبر ، قاله أبو صالح. والسابع : كانت صوفا وشيئا من سمن ، قاله عبد الله بن الحارث. وفي
المزجاة خمسة أقوال : أحدها
: أنها القليلة.
روى العوفيّ عن ابن عباس قال : دراهم غير طائلة ، وبه قال مجاهد ، وابن قتيبة. قال
الزّجّاج : تأويله في اللغة أنّ التّزجية : الشيء الذي يدافع به ، يقال : فلان
يزجي العيش ، أي : يدفع بالقليل ويكتفي به ، فالمعنى : جئنا ببضاعة إنما ندافع بها
ونتقوّت ، وليست ممّا يتّسع به ، قال الشاعر :
الواهب المائة
الهجان وعبدها
|
|
عوذا تزجّي
خلفها أطفالها
|
أي : تدفع
أطفالها. والثاني
: أنها الرّديئة ،
رواه الضّحّاك عن ابن عباس. قال أبو عبيدة : إنما قيل للرّديئة : مزجاة ، لأنها
مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند العرب
: السّوق والدّفع ، وأنشد :
ليبك على ملحان ضيف مدفّع
|
|
وأرملة تزجي مع
اللّيل أرملا
|
أي : تسوقه. والثالث : الكاسدة ، رواه الضّحّاك أيضا عن ابن عباس. والرابع : الرّثّة ، وهي المتاع الخلق ، رواه ابن أبي مليكة عن ابن
عباس. والخامس
: الناقصة ، رواه
أبو حصين عن عكرمة. قوله تعالى : (فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ) أي : أتمّه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا. قوله تعالى : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : تصدّق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة ، قاله سعيد بن
جبير ، والسّدّيّ. قال ابن الأنباري : كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التّصدّق ،
وليس به. والثاني
: بردّ أخينا ،
قاله ابن جريج ، قال : وذلك أنهم كانوا أنبياء ، والصّدقة لا تحلّ للأنبياء. والثالث : وتصدّق علينا بالزّيادة على حقّنا ، قاله ابن عيينة ، وذهب
إلى أنّ الصّدقة قد كانت تحلّ للأنبياء قبل نبيّنا صلىاللهعليهوسلم ، حكاه عنه أبو سليمان الدّمشقي ، وأبو الحسن الماوردي ،
وأبو يعلى بن الفرّاء.
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أي : بالثواب. قال الضّحّاك : لم يقولوا : إن الله يجزيك
إن تصدّقت علينا ، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.
قوله تعالى : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ
بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) في سبب قوله لهم هذا ، ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه أخرج إليهم
نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر ، وفي آخر الكتاب : «وكتب
يهوذا» فلمّا قرءوا الكتاب اعترفوا بصحّته وقالوا : هذا كتاب كتبناه على أنفسنا
عند بيع عبد كان لنا ، فقال يوسف عند ذلك : إنكم تستحقّون العقوبة ، وأمر بهم
ليقتلوا ، فقالوا : إن كنت فاعلا ، فاذهب بأمتعتنا إلى يعقوب ، ثم أقبل يهوذا على
بعض إخوته ، وقال : قد كان أبونا متّصل الحزن لفقد واحد من ولده ، فكيف به إذا
أخبر بهلكنا أجمعين؟ فرقّ يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره ، وقال لهم هذا القول ، رواه
أبو صالح عن ابن عباس. والثاني
: أنهم لمّا قالوا
: (مسّنا وأهلنا الضرّ) أدركته
__________________
الرّحمة ، فقال
لهم هذا ، قاله ابن إسحاق. والثالث
: أنّ يعقوب كتب
إليه كتابا : إن رددت ولدي ، وإلّا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك ، فبكى ،
وقال لهم هذا. وفي «هل» قولان : أحدهما
: أنها استفهام
لتعظيم القصّة لا يراد به نفس الاستفهام. قال ابن الأنباري : والمعنى : ما أعظم ما
ارتكبتم ، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرّحم وتضييع الحقّ ، وهذا مثل قول العربي
: أتدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ لا يريد بذلك الاستفهام ، ولكن يريد تفظيع
الأمر ، قال الشاعر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي
لم يرد الاستفهام
، إنما أراد أنّ هذا غير مرجو عندهم. قال : ويجوز أن يكون المعنى : هل علمتم عقبى
ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله لهما من المكروه؟ وهذه الآية تصديق قوله : (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ). والثاني
: أنّ «هل» بمعنى «قد»
، ذكره بعض أهل التّفسير.
فإن قيل : فالذي
فعلوا بيوسف معلوم ، فما الذي فعلوا بأخيه ، وما سعوا في حبسه ولا أرادوه؟ فالجواب
من وجوه : أحدها
: أنهم فرّقوا بينه
وبين يوسف ، فنغّصوا عيشه بذلك. والثاني
: أنهم آذوه بعد
فقد يوسف. والثالث
: أنهم سبّوه لمّا
قذف بسرقة الصّاع.
وفي قوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أربعة أقوال : أحدها : إذ أنتم صبيان ، قاله ابن عباس. والثاني : مذنبون ، قاله مقاتل. والثالث : جاهلون بعقوق الأب ، وقطع الرّحم ، وموافقة الهوى. والرابع : جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف ، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وابن محيصن : «إنك» على الخبر
، وقرأه آخرون بهمزتين محقّقتين ، وأدخل بعضهم بينهما ألفا .
واختلف المفسّرون
، هل عرفوه ، أم شبّهوه؟ على قولين : أحدهما : أنهم شبّهوه بيوسف ، قاله ابن عباس في رواية. والثاني : أنهم عرفوه ، قاله ابن إسحاق. وفي سبب معرفتهم له ثلاثة
أقوال : أحدها
: أنه تبسّم ،
فشبّهوا ثناياه بثنايا يوسف ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنه كانت له علامة كالشّامة في قرنه ، وكان ليعقوب مثلها ،
ولإسحاق مثلها ، ولسارة ، فلما وضع التّاج عن رأسه ، عرفوه ، رواه عطاء عن ابن
عباس. والثالث
: أنه كشف الحجاب ،
فعرفوه ، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى : (قالَ أَنَا يُوسُفُ) قال ابن الأنباري : إنما أظهر الاسم ، ولم يقل : أنا هو ،
تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته ، فكأنه قال : أنا المظلوم المستحلّ منه ، المراد
قتله ، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني ، ولهذا قال : (وَهذا أَخِي) وهم يعرفونه ، وإنما قصد : وهذا المظلوم كظلمي. قوله تعالى
:
__________________
(قَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَيْنا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بخير الدنيا والآخرة. والثاني : بالجمع بعد الفرقة. والثالث : بالسلامة ثم بالكرامة.
قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) قرأ ابن كثير في رواية قنبل : «من يتقي ويصبر» بياء في
الوصل والوقف ، وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين. وفي معنى الكلام أربعة أقوال : أحدها : من يتّق الزّنى ويصبر على البلاء. والثاني : من يتّق الزّنى ويصبر على العزوبة. والثالث : من يتّق الله ويصبر على المصائب ، رويت هذه الأقوال عن ابن
عباس. والرابع
: من يتّق معصية
الله ويصبر على السجن ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) أي : أجر من كان هذا حاله.
قوله تعالى : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي : اختارك وفضّلك. وبما ذا عنوا أنه فضّله فيه؟ أربعة
أقوال : أحدها
: بالملك ، قاله
الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني
: بالصبر ، قاله
أبو صالح عن ابن عباس. والثالث
: بالحلم والصّفح
عنا ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. والرابع : بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه.
قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) قال ابن عباس : لمذنبين آثمين في أمرك. قال ابن الأنباري :
ولهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين» ، وإن كان «أخطأ» على ألسن الناس أكثر من «خطئ
يخطأ» لأنّ معنى خطئ يخطأ ، فهو خاطئ : آثم ، ومعنى أخطأ يخطئ ، فهو مخطئ : ترك
الصواب ولم يأثم ، قال الشاعر :
عبادك يخطئون وأنت
ربّ
|
|
بكفّيك المنايا
والحتوم
|
أراد : يأثمون.
قال : ويجوز أن يكون آثر «خاطئين» على «مخطئين» لموافقة رؤوس الآيات ، لأنّ «خاطئين»
أشبه بما قبلها. وذكر الفرّاء في معنى «إن» قولين :
أحدهما
: وقد كنّا خاطئين.
والثاني
: وما كنّا إلّا
خاطئين.
قوله تعالى : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) قال أبو صالح عن ابن عباس : لا أعيّركم بعد اليوم بهذا
أبدا. قال ابن الأنباري : إنما أشار إلى ذلك اليوم ، لأنه أول أوقات العفو ، وسبيل
العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. وقال ثعلب : قد ثرّب فلان على فلان : إذا عدّد
عليه ذنوبه. وقال ابن قتيبة : لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم ، وأصل
التّثريب : الإفساد ، يقال : ثرّب علينا : إذا أفسد. وفي الحديث :
(٨٢٠) «إذا زنت
أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ، ولا يثرب» أي : لا يعيّرها بالزّنى. قال ابن عباس :
____________________________________
(٨٢٠) صحيح. أخرجه
البخاري ٢١٥٢ ـ ٢٢٣٤ ـ ٦٨٣٩ ، ومسلم ٣٠ ـ ٣١ ـ ١٧٠٣
وأبو داود ٤٤٧٠ و ٤٤٧١ ، من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولفظ الحديث بتمامه في البخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا زنت الأمة فتبين زناها ، فليجلدها ولا يثرّب ، ثم
إن زنت فليجلدها ولا يثرّب ، ثم إن زنت الثالثة ، فليبعها ولو بحبل من شعر» وسيأتي
ذكره في سورة النور.
__________________
جعلهم في حلّ ،
وسأل الله المغفرة لهم.
وقال السّدّيّ :
لمّا عرّفهم نفسه ، سألهم عن أبيه ، فقالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه ، وقال :
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) وهذا القميص كان في قصبة من فضّة معلّقا في عنق يوسف لمّا
ألقي في الجبّ ، وكان من الجنّة ، وقد سبق ذكره.
قوله تعالى : (يَأْتِ بَصِيراً) قال أبو عبيدة : يعود مبصرا.
فإن قيل : من أين
قطع على الغيب؟ فالجواب : أنّ ذلك كان بالوحي إليه ، قاله مجاهد.
قوله تعالى : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) قال الكلبيّ : كان أهله نحوا من سبعين إنسانا.
(وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ
(٩٤))
قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي : خرجت من مصر متوجّهة إلى كنعان. وكان الذي حمل القميص
يهوذا. قال السّدّيّ : قال يهوذا ليوسف : أنا الذي حملت القميص إلى يعقوب بدم كذب
فأحزنته ، وأنا الآن أحمل قميصك لأسرّه ، فحمله ، قال ابن عباس : فخرج حافيا حاسرا
يعدو ، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها. قوله تعالى : (قالَ أَبُوهُمْ) يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) ومعنى أجد : أشمّ ، قال الشاعر :
وليس صرير
النّعش ما تسمعونه
|
|
ولكنّها أصلاب
قوم تقصّف
|
وليس فتيق المسك
ما تجدونه
|
|
ولكنّه ذاك
الثّناء المخلّف
|
فإن قيل : كيف وجد
يعقوب ريحه وهو بمصر ، ولم يجد ريحه من الجبّ وبعد خروجه منه ، والمسافة هناك أقرب؟
فعنه جوابان :
أحدهما
: أنّ الله أخفى
أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البليّة التي يتكامل بها الأجر ، وأوجده
ريحه من المكان النّازح عند تقضّي البلاء ومجيء الفرج.
والثاني
: أنّ هذا القميص
كان في قصبة من فضّة معلّقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه ، فلمّا نشره فاحت روائح
الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب ، فعلم أنّ الرائحة من جهة ذلك القميص. قال مجاهد
: هبّت ريح فضربت القميص ، ففاحت روائح الجنّة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح
الجنة ، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنّة إلا ما كان من ذلك القميص ، فمن ثم
قال : (إِنِّي لَأَجِدُ
رِيحَ يُوسُفَ). وقيل : إنّ ريح الصّبا استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب
بريح يوسف قبل البشير فأذن لها ، فلذلك يستروح كلّ محزون إلى ريح الصّبا ، ويجد
المكروبون لها روحا ، وهي ريح ليّنة تأتي من ناحية المشرق ، قال أبو صخر الهذليّ :
إذا قلت هذا حين
أسلو يهيجني
|
|
نسيم الصّبا من
حيث يطّلع الفجر
|
قال ابن عباس :
وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخا.
قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : تجهّلون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
__________________
عباس ، وبه قال
مقاتل. والثاني
: تسفهون ، رواه
عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وقتادة ، ومجاهد في رواية.
وقال في رواية أخرى : لو لا أن تقولوا : ذهب عقلك. والثالث : تكذّبون ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن
جبير ، والضّحّاك. والرابع
: تهرّمون ، قاله
الحسن ، ومجاهد في رواية. قال ابن فارس : الفند : إنكار العقل من هرم. والخامس : تعجّزون ، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة : تسفّهون
وتعجّزون وتلومون ، وأنشد :
يا صاحبيّ دعا
لومي وتفنيدي
|
|
فليس ما فات من
أمر بمردود
|
قال ابن جرير :
وأصل التّفنيد : الإفساد ، وأقوال المفسّرين تتقارب معانيها ، وسمعت الشيخ أبا محمّد بن الخشّاب يقول : قوله : «لو لا
أن تفنّدون» فيه إضمار تقديره : لأخبرتكم أنه حيّ.
(قالُوا تَاللهِ
إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥))
قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ
الْقَدِيمِ) قال ابن عباس : بنو بنيه خاطبوه بهذا ، وكذلك قال السّدّيّ
: هذا قول بني بنيه ، لأنّ بنيه كانوا بمصر. وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال : أحدها : أنه بمعنى الخطأ ، قاله ابن عباس ، وابن زيد. والثاني : أنه الجنون ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : الشّقاء والعناء ، قاله مقاتل ، يريد بذلك شقاء الدنيا.
(فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))
قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) فيه قولان : أحدهما : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن
منبّه ، والسّدّيّ ، والجمهور. والثاني
: أنه شمعون ، قاله
الضّحّاك.
فإن قيل : ما
الفرق بين قوله ها هنا : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ) وقال في موضع : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) .
فالجواب : أنهما
لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعا ، فدخول «أن» لتوكيد مضيّ الفعل ، وسقوطها
للاعتماد على إيضاح الماضي بنفسه ، ذكره ابن الأنباري .
قوله تعالى : (أَلْقاهُ) يعني القميص (عَلى وَجْهِهِ) يعني يعقوب (فَارْتَدَّ بَصِيراً) ، الارتداد : رجوع الشيء إلى حال قد كان عليها. قال ابن
الأنباري : إنما قال : ارتدّ ، ولم يقل : ردّ ، لأنّ هذا من الأفعال المنسوبة إلى
المفعولين ، كقولهم : طالت النّخلة ، والله أطالها ، وتحركت الشجرة ، والله قد
__________________
حركها. قال
الضّحّاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، وقوّته بعد الضّعف ، وشبابه بعد الهرم ،
وسروره بعد الحزن. وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال : لمّا جاء البشير يعقوب ، قال
: على أيّ دين تركت يوسف؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمّت النّعمة.
قوله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل. قوله تعالى : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) سألوه أن يستغفر لهم ما أتوا ، لأنه نبيّ مجاب الدّعوة. (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنه أخّرهم
لانتظار الوقت الذي هو مظنّة الإجابة ، ثم فيه ثلاثة أقوال :
(٨٢١) أحدها : أنه أخّرهم إلى ليلة الجمعة ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال وهب : كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيّف وعشرين
سنة . والثاني
: إلى وقت السّحر
من ليلة الجمعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال طاوس : فوافق ذلك ليلة عاشوراء. والثالث : إلى وقت السّحر ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال ابن
مسعود ، وابن عمر ، وقتادة ، والسّدّيّ ، ومقاتل. قال الزّجّاج : إنما أراد الوقت
الذي هو أخلق لإجابة الدّعاء ، لا أنه ضنّ عليهم بالاستغفار ، وهذا أشبه بأخلاق
الأنبياء عليهمالسلام.
والقول
الثاني : أنه دفعهم عن التّعجيل
بالوعد. قال عطاء الخراسانيّ : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ، ألا
ترى إلى قول يوسف : (لا تثريب عليكم اليوم) وإلى قول يعقوب : (سوف أستغفر لكم ربي).
والثالث
: أنه أخّرهم ليسأل
يوسف ، فإن عفا عنهم ، استغفر لهم ، قاله الشّعبيّ.
وروي عن أنس بن
مالك أنهم قالوا : يا أبانا إن عفا الله عنا ، وإلّا فلا قرّة عين لنا في الدنيا ،
فدعا يعقوب وأمّن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة ، ثم جاء جبريل فقال : إنّ الله
قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعفا عمّا صنعوا به ، واعتقد مواثيقهم من بعد على
النّبوّة. قال المفسّرون : وكان يوسف قد بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي
راحلة ، وسأله أن يأتيه بأهله وولده. فلما ارتحل يعقوب ودنا
____________________________________
(٨٢١) ضعيف جدا ،
والأشبه أنه موضوع. أخرجه الطبري ١٩٨٨٠ و ١٩٨٨١ من طريقين عن سليمان بن عبد الرحمن
الدمشقي قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس ،
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قد قال أخي يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ
لَكُمْ رَبِّي) يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة». وهذا إسناد ضعيف جدا ، وله
علتان : الأولى : ضعف سليمان بن عبد الرحمن ، فهو وإن وثقه بعضهم ، وقال أبو حاتم
الرازي : صدوق ، فقد عقب ذلك أبو حاتم بقوله : إلا أنه من أروى الناس عن الضعفاء
والمجهولين ، وهو عندي في حدّ لو أن رجلا وضع له حديثا لم يفهم ، وكان لا يميّز.
راجع «الميزان» ٢ / ٢١٢ ـ ٢١٤. العلة الثانية : عنعنة ابن جريج ، وهو مدلس
، وهو لم يسمع من عكرمة. قال الإمام أحمد : بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن
جريج أحاديث موضوعة ، كان ابن جريج ، لا يبالي من أين يأخذها. راجع «الميزان» ٢ /
٦٥٩. فالحديث ضعيف جدا ، والأشبه أنه موضوع. وقال الحافظ ابن كثير ٢ / ٤٠٦ : هذا حديث
غريب ، وفي رفعه نظر ، والله أعلم.
__________________
من مصر ، استأذن
يوسف الملك الذي فوقه في تلقي يعقوب ، فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالرّكوب
معه ، فخرج في أربعة آلاف من الجند ، وخرج معهم أهل مصر. وقيل : إنّ الملك خرج
معهم أيضا. فلما التقى يعقوب ويوسف ، بكيا جميعا ، فقال يوسف : يا أبت بكيت عليّ
حتى ذهب بصرك ، أما علمت أنّ القيامة تجمعني وإيّاك؟ قال : أي بنيّ ، خشيت أن تسلب
دينك فلا نجتمع. وقيل : إنّ يعقوب ابتدأه بالسّلام ، فقال : السّلام عليك يا مذهب
الأحزان.
(فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ
آمِنِينَ (٩٩))
قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) يعني : يعقوب وولده. وفي هذا الدّخول قولان :
أحدهما
: أنه دخول أرض مصر
، ثم قال لهم : (ادْخُلُوا مِصْرَ) يعني البلد.
والثاني
: أنه دخول مصر ،
ثم قال لهم : «ادخلوا مصر» أي : استوطنوها.
وفي قوله تعالى : (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) قولان : أحدهما
: أبوه وخالته ،
لأنّ أمّه كانت قد ماتت ، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني : أبوه وأمّه ، قاله الحسن ، وابن إسحاق.
وفي قوله تعالى : (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أربعة أقوال : أحدها
: أنّ في الكلام
تقديما وتأخيرا ، فالمعنى : سوف أستغفر لكم ربّي إن شاء الله ، إنه هو الغفور
الرّحيم ، هذا قول ابن جريج. والثاني
: أنّ الاستثناء
يعود إلى الأمن. ثم فيه قولان : أحدهما
: أنه لم يثق
بانصراف الحوادث عنهم. والثاني
: أنّ الناس كانوا
فيما خلا يخافون ملوك مصر ، فلا يدخلون إلّا بجوارهم. والثالث : أنه يعود إلى دخول مصر ، لأنه قال لهم هذا حين تلقّاهم قبل
دخولهم ، على ما سبق بيانه. والرابع
: أنّ «إن» بمعنى :
«إذ» : كقوله (إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّناً) . قال ابن عباس : دخلوا مصر يومئذ وهم نيّف وسبعون بين ذكر
وأنثى. وقال ابن مسعود : دخلوا وهم ثلاثة وتسعون ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف
وسبعون ألفا .
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ
مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))
قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) في «أبويه» قولان : قد تقدما في الآية التي قبلها. والعرش
ها هنا : سرير المملكة ، أجلس أبويه عليه (وَخَرُّوا لَهُ) يعني : أبويه وإخوته. وفي هاء «له» قولان :
__________________
أحدهما
: أنها ترجع إلى
يوسف ، قاله الجمهور. قال أبو صالح عن ابن عباس : كان سجودهم كهيئة الرّكوع كما
يفعل الأعاجم. وقال الحسن : أمرهم الله بالسجود لتأويل الرّؤيا. قال ابن الأنباري
: سجدوا له على جهة التّحيّة لا على معنى العبادة ، وكان أهل ذلك الدّهر يحيّي
بعضهم بعضا بالسجود والانحناء ، فحظّره رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فروى أنس بن مالك قال :
(٨٢٢) «قال رجل :
يا رسول الله! أحدنا يلقى صديقه ، أينحني له؟ قال : لا».
والثاني
: أنها ترجع إلى
الله ، فالمعنى : وخرّوا لله سجّدا ، رواه عطاء ، والضّحّاك عن ابن عباس ، فيكون
المعنى : أنهم سجدوا شكرا لله إذ جمع بينهم وبين يوسف.
قوله تعالى : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي : تصديق ما رأيت ، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له ،
فأراه الله ذلك في اليقظة. واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال : أحدها : أربعون سنة ، قاله سلمان الفارسيّ وعبد الله بن شدّاد بن
الهاد ومقاتل. والثاني
: اثنتان وعشرون
سنة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : ثمانون سنة ، قاله الحسن والفضيل بن عياض. والرابع : ستّ وثلاثون سنة ، قاله سعيد بن جبير وعكرمة والسّدّيّ. والخامس : خمس وثلاثون سنة ، قاله قتادة. والسادس : سبعون سنة ، قاله عبد الله بن شوذب. والسابع : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أي : إليّ. والبدو : البسط من الأرض. وقال ابن عباس :
البدو : البادية ، وكانوا أهل عمود وماشية.
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي : أفسد بيننا. قال أبو عبيدة : يقال : نزغ بينهم ينزغ ،
أي : أفسد وهيّج ، وبعضهم يكسر زاي ينزغ. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ
لِما يَشاءُ) أي : عالم بدقائق الأمور. وقد شرحنا معنى «اللطيف» في سورة
(الأنعام) .
فإن قيل : قد
توالت على يوسف نعم جمّة ، فما السّرّ في اقتصاره على ذكر السّجن ، وهلّا ذكر
الجبّ ، وهو أصعب؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أنه ترك ذكر الجبّ تكرّما ، لئلّا يذكّر إخوته صنيعهم ،
وقد قال (لا تثريب عليكم اليوم). والثاني : أنه خرج من الجبّ إلى الرّقّ ، ومن السّجن إلى الملك ،
فكانت هذه النّعمة أوفى. والثالث
: أنّ طول لبثه في
السّجن كان عقوبة له ، بخلاف الجبّ ، فشكر الله على عفوه.
____________________________________
(٨٢٢) أخرجه
الترمذي ٢٧٢٨ ، وابن ماجة ٣٧٠٢ ، وأبو يعلى ٤٢٨٩ ، والطحاوي في «المعاني» ١ / ٢٨١
والبيهقي في «السنن» ٧ / ١٠٠ من طريق حنظلة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله
عنه قال : قال رجل : يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال :
لا ، قال : أفيلتزمه ويقبله؟ قال : لا ، قال : أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال : نعم».
وإسناده ضعيف لضعف حنظلة ، قال الذهبي في «الميزان» ١ / ٦٢١ : قال يحيى القطان :
تركته عمدا ، كان قد اختلط ، وضعفه أحمد ، وقال : منكر الحديث ، يحدث بأعاجيب ،
وقال ابن معين : ليس بشيء. وضعف هذا الحديث البيهقي عقب روايته ، وكذا ضعفه أحمد
كما في «تخريج الإحياء» ٢ / ٢٠٤. وهو ضعيف بهذا اللفظ ، وبهذا الإسناد ، فقد وردت
أحاديث مرفوعة وموقوفة في جواز المعانقة والالتزام. وأما سياق المصنف ابن الجوزي :
فله طرق وشواهد تقويه.
__________________
قال العلماء
بالسّير : أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعا وعشرين سنة. وقال بعضهم : سبع عشرة سنة في
أهنأ عيش ، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يحمل إلى الشام حتى يدفنه عند
أبيه إسحاق ، ففعل به ذلك ، وكان عمره مائة وسبعا وأربعين سنة ، ثم إنّ يوسف تاق
إلى الجنّة ، وعلم أنّ الدنيا لا تدوم فتمنّى الموت ، قال ابن عباس ، وقتادة : ولم
يتمنّ الموت نبيّ قبله ، فقال : (رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) يعني : ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وقد سبق تفسيرها ، وفي «من» قولان : أحدهما : أنها صلة ، قاله مقاتل. والثاني : أنها للتّبعيض ، لأنه لم يؤت كلّ الملك ، ولا كلّ تأويل
الأحاديث.
قوله تعالى : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد شرحناه في (الأنعام) . (أَنْتَ وَلِيِّي) أي : الذي تلي أمري. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) قال ابن عباس : يريد : لا تسلبني الإسلام حتى تتوفّاني
عليه. وكان ابن عقيل يقول : لم يتمنّ يوسف الموت ، وإنما سأل أن يموت على صفة ،
والمعنى : توفّني إذا توفّيتني مسلما ، وهذا الصحيح .
قوله تعالى : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) والمعنى : ألحقني بدرجاتهم ، وفيهم قولان : أحدهما : أنهم أهل الجنّة ، قاله عكرمة. والثاني : آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، قاله الضّحّاك ، قالوا :
فلمّا احتضر يوسف ، أوصى إلى يهوذا ، ومات ، فتشاحّ الناس في دفنه ، كلّ يحبّ أن
يدفن في محلّته رجاء البركة ، فاجتمعوا على دفنه في النّيل ليمرّ الماء عليه ويصل
إلى الجميع ، فدفنوه في صندوق من رخام ، فكان هنالك إلى أن حمله موسى حين خرج من
مصر ودفنه بأرض كنعان. قال الحسن : مات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر مقاتل
أنه مات بعد يعقوب بسنتين.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ
وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))
قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي : ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار
التي كانت غائبة عنك ، فأنزلته عليك دليلا على نبوّتك. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي : عند إخوة يوسف (إِذْ أَجْمَعُوا
أَمْرَهُمْ) أي : عزموا على إلقائه في الجبّ (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف. وفي هذا احتجاج على صحّة نبوّة نبيّنا عليهالسلام ، لأنه لم يشاهد تلك القصّة ، ولا كان يقرأ الكتاب ، وقد
أخبر عنها بهذا الكلام المعجز ، فدلّ على أنه أخبر بوحي.
(وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))
قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ) قال ابن الأنباري : إنّ قريشا واليهود سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قصّة يوسف وإخوته ، فشرحها شرحا شافيا ، وهو يؤمّل أن
يكون ذلك سببا
__________________
لإسلامهم ،
فخالفوا ظنّه ، فحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فعزّاه الله تعالى بهذه الآية . قال الزّجّاج : ومعناها : وما أكثر الناس بمؤمنين ولو
حرصت على أن تهديهم. (وَما تَسْئَلُهُمْ
عَلَيْهِ) أي : على القرآن وتلاوته وهدايتك إيّاهم (مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ) أي : ما هو إلّا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ
(١٠٥))
قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ آيَةٍ) أي : علامة ودلالة تدلّهم على توحيد الله ، من أمر
السّماوات والأرض ، (يَمُرُّونَ عَلَيْها) أي : يتجاوزونها غير مفكّرين ولا معتبرين.
(وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))
قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم المشركون ، ثم في معناها المتعلّق بهم قولان : أحدهما : أنهم يؤمنون بأنّ الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والشّعبيّ ، وقتادة. والثاني : أنها نزلت في تلبية مشركي العرب ، كانوا يقولون : لبّيك
اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، رواه
الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني
: أنهم النّصارى ،
يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم ، ومع ذلك يشركون به ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : أنهم المنافقون ، يؤمنون في الظاهر رئاء للناس ، وهم في
الباطن مشركون ، قاله الحسن.
فإن قيل : كيف وصف
المشرك بالإيمان؟ فالجواب : أنه ليس المراد به حقيقة الإيمان ، وإنما المعنى : أنّ
أكثرهم ، مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم ، مشركون.
(أَفَأَمِنُوا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))
قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ
غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) قال ابن قتيبة : الغاشية : المجلّلة تغشاهم. وقال الزّجّاج
: المعنى : يأتيهم ما يغمرهم من العذاب. والبغتة : الفجأة من حيث لم تتوقّع.
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))
قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) المعنى : قل يا محمّد للمشركين : هذه الدّعوة التي أدعو
إليها ، والطّريقة التي أنا عليها ، سبيلي ، أي : سنّتي ومنهاجي. والسبيل تذكّر
وتؤنّث ، وقد ذكرنا ذلك في (آل عمران) . (أَدْعُوا إِلَى اللهِ
عَلى بَصِيرَةٍ) أي : على يقين. قال ابن الأنباري : وكلّ مسلم لا يخلو من
الدّعاء إلى الله عزوجل ، لأنه إذا تلا القرآن ، فقد دعا إلى الله بما فيه. ويجوز
أن يتمّ الكلام عند قوله : (إِلَى اللهِ) ثم ابتدأ فقال : (عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي) .
__________________
قوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ) المعنى : وقل : سبحان الله تنزيها له عمّا أشركوا.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ
(١٠٩))
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
رِجالاً) هذا نزل من أجل قولهم : هلّا بعث الله ملكا ، فالمعنى :
كيف تعجّبوا من إرسالنا إيّاك ، وسائر الرّسل كانوا على مثل حالك «يوحى إليهم» ،
وقرأ حفص عن عاصم : «نوحي» بالنون. والمراد بالقرى : المدائن. وقال الحسن : لم
يبعث الله نبيّا من أهل البادية ، ولا من الجنّ ، ولا من النّساء ، قال قتادة :
لأنّ أهل القرى أعلم وأحلم من أهل العمود.
قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني : المشركين المنكرين نبوّتك (فَيَنْظُرُوا) إلى مصارع الأمم المكذّبة فيعتبروا بذلك. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) يعني : الجنّة (خَيْرٌ) من الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشّرك. قال الفرّاء : أضيفت الدّار إلى الآخرة ، وهي
الآخرة ، لأنّ العرب قد تضيف الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظه ، كقوله : (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) والحق : هو اليقين ، وقولهم : أتيتك عام الأول ، ويوم
الخميس.
قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحفص ، والمفضّل ، ويعقوب :
(تَعْقِلُونَ) بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، والمعنى : أفلا يعقلون هذا
فيؤمنوا.
(حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ
مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠))
قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) المعنى متعلّق بالآية الأولى ، فتقديره : وما أرسلنا من
قبلك إلّا رجالا ، فدعوا قومهم ، فكذّبوهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم ،
حتى إذا استيأس الرّسل ، وفيه قولان : أحدهما : استيأسوا من تصديق قومهم ، قاله ابن عباس. والثاني : من أن نعذّب قومهم ، قاله مجاهد. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «كذّبوا»
مشدّدة الذّال مضمومة الكاف ، والمعنى : وتيقّن الرّسل أنّ قومهم قد كذّبوهم ، فيكون
الظّنّ ها هنا بمعنى اليقين ، هذا قول الحسن ، وعطاء ، وقتادة. وقرأ عاصم ، وحمزة
، والكسائيّ : «كذبوا» خفيفة ،
__________________
والمعنى : ظنّ
قومهم أنّ الرّسل قد كذبوا فيما وعدوا به من النّصر ، لأنّ الرّسل لا يظنّون ذلك.
وقرأ أبو رزين ، ومجاهد ، والضّحّاك : «كذبوا» بفتح الكاف والذّال خفيفة ، والمعنى
: ظنّ قومهم أيضا أنهم قد كذبوا ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (جاءَهُمْ نَصْرُنا) يعني : الرّسل (فَنُجِّيَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «فننجي»
بنونين ، الأولى مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة. وقرأ ابن
عامر ، وأبو بكر ، وحفص ، جميعا عن عاصم ، ويعقوب : «فنجّي» مشدّدة الجيم مفتوحة
الياء بنون واحدة ، يعني : المؤمنين ، نجوا عند نزول العذاب.
(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ
عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (١١١))
قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي : في خبر يوسف وإخوته. وروى عبد الوارث كسر القاف ، وهي
قراءة قتادة ، وأبي الجوزاء. (عِبْرَةٌ) أي : عظة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي : لذوي العقول السّليمة ، وذلك من وجهين : أحدهما : ما جرى ليوسف من إعزازه وتمليكه بعد استعباده ، فإنّ من
فعل ذلك به قادر على إعزاز محمّد صلىاللهعليهوسلم وتعلية كلمته. والثاني : أنّ من تفكّر ، علم أنّ محمّدا صلىاللهعليهوسلم مع كونه أمّيا ، لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في
التّوراة من قبل نفسه ، فاستدلّ بذلك على صحّة نبوّته.
قوله تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) في المشار إليه قولان : أحدهما : أنه القرآن ، قاله قتادة. والثاني : ما تقدّم من القصص ، قاله ابن إسحاق. فعلى القول الأول ،
يكون معنى قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : ولكن كان تصديقا لما بين يديه من الكتاب (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه من أمور الدّين (وَهُدىً) بيانا (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) أي : يصدّقون بما جاء به محمّد صلىاللهعليهوسلم. وعلى القول الثاني : وتفصيل كلّ شيء من نبأ يوسف وإخوته.
__________________
سورة الرّعد
صل
في نزولها : اختلفوا في
نزولها على قولين :
أحدهما
: أنها مكّيّة ،
رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ،
وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكّيّة ، إلّا آيتين منها ، قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا
تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) إلى آخر الآية ، وقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) .
والثاني
: أنها مدنيّة ،
رواه عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس ، وبه قال جابر بن زيد. وروي عن ابن عباس أنها
مدنيّة ، إلّا آيتين نزلتا بمكّة ، وهما قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) إلى آخرها. وقال بعضهم : المدنيّ منها قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) إلى قوله تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِ) .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(المر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ
بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))
قوله تعالى : (المر) قد ذكرنا في سورة (البقرة) جملة من الكلام في معاني هذه
الحروف. وقد روي عن ابن عباس في تفسير هذه الكلمة ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ معناها : أنا
الله أعلم وأرى ، رواه
__________________
أبو الضّحى عنه. والثاني : أنا الله أرى ، رواه سعيد بن جبير عنه. والثالث : أنا الله الملك الرّحمن ، رواه عطاء عنه. قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) في «تلك» قولان ، وفي «الكتاب» قولان قد تقدّمت في أوّل «يونس»
.
قوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ الْحَقُ) يعني : القرآن وغيره من الوحي (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ) قال ابن عباس : يعني : أهل مكّة. قال الزّجّاج : لمّا ذكر
أنهم لا يؤمنون ، عرّف الدّليل الذي يوجب التّصديق بالخالق فقال عزوجل : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) قال أبو عبيدة : العمد : متحرّك الحروف بالفتحة وبعضهم
يحرّكها بالضمة ، لأنها جمع عمود ، وهو القياس ، لأنّ كلّ كلمة هجاؤها أربعة أحرف
الثالث منها ألف أو ياء أو واو ، فجميعه مضموم الحروف ، نحو رسول ، والجمع : رسل ،
وحمار ، والجمع : حمر ، غير أنه قد جاءت أسامي استعملوا جميعها بالحركة والفتحة ،
نحو عمود ، وأديم ، وإهاب ، قالوا : أدم ، وأهب. ومعنى «عمد» : سوار ، ودعائم ،
وما يعمد البناء. وقرأ أبو حياة : «بغير عمد» بضمّ العين والميم.
وفي قوله تعالى : (تَرَوْنَها) قولان : أحدهما
: أنّ هاء الكناية
ترجع إلى السّماوات ، فالمعنى : ترونها بغير عمد ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ،
وبه قال الحسن ، وقتادة ، والجمهور. وقال ابن الأنباري : «ترونها» خبر مستأنف ،
والمعنى : رفع السّماوات بلا دعامة تمسكها ، ثم قال : «ترونها» أي : ما تشاهدون من
هذا الأمر العظيم ، يغنيكم عن إقامة الدّلائل عليه. والثاني : أنها ترجع إلى العمد ، فالمعنى : إنها بعمد لا ترونها ،
رواه عطاء والضّحّاك عن ابن عباس ، وقال : لها عمد على قاف ، ولكنّكم لا ترون
العمد ، وإلى هذا القول ذهب مجاهد ، وعكرمة ، والأول أصحّ . قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) أي : ذلّلهما لما يراد منهما (كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : إلى وقت معلوم ، وهو فناء الدنيا. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي : يصرّفه بحكمته. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : يبيّن الآيات التي تدلّ أنّه قادر على البعث لكي
توقنوا بذلك. وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، والنّخعيّ : «ندبّر الأمر نفصّل الآيات»
بالنون فيهما.
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ
فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣))
__________________
قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) قال ابن عباس : بسطها على الماء. وقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) قال الزّجّاج : أي جبالا ثوابت ، يقال : رسا الشيء يرسو
رسوّا ، فهو راس : إذا ثبت. (جَعَلَ فِيها
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : نوعين : والزّوج : الواحد الذي له قرين من جنسه. قال
المفسّرون : ويعني بالزّوجين : الحلو والحامض ، والعذب والملح ، والأبيض والأسود.
قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) قد شرحناه في سورة الأعراف .
(وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))
قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) فيها قولان :
أحدهما
: أنها الأرض
السّبخة ، والأرض العذبة ، تنبت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت ، هذا قول ابن عباس
، وأبي العالية ، ومجاهد ، والضّحّاك.
والثاني
: أنها القرى
المتجاورات ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، وهو يرجع إلى معنى الأوّل .
قوله تعالى : (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ
صِنْوانٍ) رفعا في الكلّ. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ
، وأبو بكر عن عاصم : «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان» خفضا في الكلّ. قال أبو عليّ
: من رفع ، فالمعنى : وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات ، وفي الأرض زرع ، ومن خفض
حمله على الأعناب ، فالمعنى : جنّات من أعناب ، ومن زرع ، ومن نخيل .
قوله تعالى : (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) هذا من صفة النّخيل. قال الزّجّاج : الصّنوان : جمع صنو
وصنو ، ومعناه : أن يكون الأصل واحدا وفيه النّخلتان والثّلاث والأربع. وكذلك قال
المفسّرون : الصّنوان : النّخل المجتمع وأصله واحد ، وغير صنوان : المتفرّق. وقرأ
أبو رزين ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، وابن جبير ، وقتادة : «صنوان» بضم الصاد.
قال الفرّاء : لغة أهل الحجاز «صنوان» بكسر الصاد ، وتميم وقيس يضمّون الصاد.
قوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، «تسقى» بالتاء ، «ونفضّل»
__________________
بالنون. وقرأ حمزة
، والكسائيّ «تسقى» بالتاء أيضا ، لكنهما أمالا القاف. وقرأ الحسن «ويفضّل»
بالياء. وقرأ عاصم ، وابن عامر «يسقى» بالياء ، «ونفضّل» بالنون ، وكلّهم كسر
الضاد. وروى الحلبيّ عن عبد الوارث ضمّ الياء من «يفضّل» وفتح الضّاد ، «بعضها»
برفع الضاد. وقال الفرّاء : من قرأ «تسقى» بالتاء ذهب إلى تأنيث الزّرع ، والجنّات
، والنّخيل ، ومن كسر ذهب إلى النّبت ، وذلك كلّه يسقى بماء واحد ،
وأكله مختلف حامض وحلو ، ففي هذا آية. قال المفسّرون : الماء الواحد : ماء المطر ،
والأكل : الثّمر ، بعضه أكبر من بعض ، وبعضه أفضل من بعض ، وبعضه حامض وبعضه حلو ،
إلى غير ذلك ، وفي هذا دليل على بطلان قول الطّبائعيين ، لأنه لو كان حدوث الثّمر
من طبع الأرض ، والهواء ، والماء ، وجب أن يتّفق ما يحدث لاتّفاق ما أوجب الحدوث ،
فلمّا وقع الاختلاف ، دلّ على مدبّر قادر ، (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أنه لا تجوز العبادة إلّا لمن يقدر على هذا.
(وَإِنْ تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))
قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ) أي : من تكذيبهم وعبادتهم ما لا ينفع ولا يضرّ بعد ما رأوا
من تأثير قدرة الله عزوجل في خلق الأشياء ، فإنكارهم البعث موضع عجب. وقيل : المعنى
: وإن تعجب بما وقفت عليه من القطع المتجاورات وقدرة ربّك في ذلك ، فعجب جحدهم
البعث ، لأنه قد بان لهم من خلق السّماوات والأرض ما يدلّ على أنّ البعث أسهل في
القدرة.
قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، «آيذا كنا ترابا أينّا» جميعا
بالاستفهام ، غير أنّ أبا عمرو يمدّ الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي
بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدّ. وقرأ نافع «آيذا» مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في
المدّ ، وقرأ «إنا لفي خلق» مكسورة على الخبر. وقرأ عاصم ، وحمزة «أإذا كنّا» «أإنا»
بهمزتين فيهما. وقرأ ابن عامر «إذا كنّا ترابا» مكسورة الألف من غير استفهام ، «ءاإنا»
يهمز ثم يمدّ ثم يهمز على وزن : فاعنّا. وروي عن ابن عامر أيضا «أإذا» بهمزتين لا
ألف بينهما.
والأغلال جمع غلّ
، وفيها قولان : أحدهما
: أنها أغلال يوم
القيامة ، قاله الأكثرون. والثاني
: أنها الأعمال
التي هي أغلال ، قاله الزّجّاج.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ
__________________
وَلِكُلِّ
قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ
الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩))
قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ
قَبْلَ الْحَسَنَةِ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنها نزلت في
كفّار مكّة ، سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يأتيهم بالعذاب ، استهزاء منهم بذلك ، قاله ابن عباس . والثاني
: في مشركي العرب ،
قاله قتادة. والثالث
: في النضر بن
الحارث حين قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، قاله مقاتل.
وفي السيئة
والحسنة قولان : أحدهما
: بالعذاب قبل
العافية ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني : بالشر قبل الخير ، قاله قتادة.
فأما (الْمَثُلاتُ) فقرأ الجمهور بفتح الميم. وقرأ عثمان ، وأبو رزين ، وأبو
مجلز ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وابن أبي عبلة برفع الميم. ثم في معناها
قولان : أحدهما
: أنها العقوبات ،
قاله ابن عباس. وقال الزّجّاج : المعنى : قد تقدّم من العذاب ما هو مثله وما فيه
نكال ، لو أنهم اتّعظوا. وقال ابن الأنباري : المثلة : العقوبة التي تبقي في
المعاقب شينا بتغيير بعض خلقه ، من قولهم : مثّل فلان بفلان ، إذا شأن خلقه بقطع
أنفه أو أذنه ، أو سمل عينيه ونحو ذلك. والثاني : أنّ المثلات : الأمثال التي ضربها الله تعالى لهم ، قاله
مجاهد ، وأبو عبيدة.
قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) قال ابن عباس : لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا ، وإنه
لشديد العقاب للمصرّين على الشّرك. وقال مقاتل : لذو تجاوز عن شركهم في تأخير
العذاب ، وإنه لشديد العقاب إذا عذّب.
فصل
: وذهب بعض
المفسّرين إلى أنّ هذه الآية منسوخة بقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، والمحقّقون على أنها محكمة.
قوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ
رَبِّهِ) «لو لا» بمعنى
هلّا ، والآية التي طلبوها ، مثل عصا موسى وناقة صالح. ولم يقنعوا بما رأوا ، فقال
الله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ) أي : مخوف عذاب الله ، وليس لك من الآيات شيء.
وفي قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ستة أقوال : أحدها
: أنّ المراد
بالهادي : الله عزوجل ،
__________________
رواه العوفيّ عن
ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضّحّاك ، والنّخعيّ.
فيكون المعنى : إنما إليك الإنذار ، والله الهادي. والثاني : أنّ الهادي : الدّاعي ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن
عباس. والثالث
: أنّ الهادي :
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، قاله الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، وابن زيد ، فالمعنى :
ولكلّ قوم نبيّ ينذرهم. والرابع
: أنّ الهادي :
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أيضا ، قاله عكرمة ، وأبو الضّحى ، والمعنى : أنت منذر ،
وأنت هاد. والخامس
: أنّ الهادي :
العمل ، قاله أبو العالية. والسادس
: أنّ الهادي :
القائد إلى الخير أو إلى الشرّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٨٢٣) وقد روى
المفسّرون من طرق ليس فيها ما يثبت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا نزلت
هذه الآية ، وضع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده على صدره ، فقال : «أنا المنذر» ، وأومأ بيده إلى منكب
عليّ ، فقال : «أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدى من بعدي». قال المصنّف : وهذا من
موضوعات الرّافضة.
ثم إنّ الله تعالى
أخبرهم عن قدرته ، ردّا على منكري البعث ، فقال : (اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي : من علقة أو مضغة ، أو زائد أو ناقص ، أو ذكر أو أنثى
، أو واحد أو اثنين أو أكثر ، (وَما تَغِيضُ
الْأَرْحامُ) أي : ما تنقص ، (وَما تَزْدادُ) وفيه أربعة أقوال :
أحدها
: ما تغيض : بالوضع
لأقلّ من تسعة أشهر ، وما تزداد : بالوضع لأكثر من تسعة أشهر ، رواه الضّحّاك عن
ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضّحّاك ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. والثاني : وما تغيض : بالسّقط الناقص ، وما تزداد : بالولد التّام ،
رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وعن الحسن كالقولين. والثالث : وما تغيض : بإراقة الدّم في الحمل حتى يتضاءل الولد ، وما
تزداد : إذا أمسكت الدّم فيعظم الولد ، قاله مجاهد. والرابع : «ما تغيض الأرحام»
من ولدته من قبل ، «وما تزداد» من تلده من بعد ، روي عن قتادة ، والسّدّيّ.
قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي : بقدر. قال أبو عبيدة : هو مفعال من القدر. قال ابن
عباس : علم كلّ شيء فقدّره تقديرا.
____________________________________
(٨٢٣) باطل لا أصل
له ، أخرجه الطبري ٢٠١٦١ من حديث ابن عباس ، وفيه عطاء بن السائب صدوق اختلط بأخرة
، وعنه معاذ بن مسلم ذكره الذهبي في «الميزان» وقال : مجهول ، وله عن عطاء بن
السائب خبر باطل. وعنه الحسن بن حسين الكوفي ، قال ابن عدي : لا يشبه حديثه حديث
الثقات. وقال ابن حبان : يأتي عن الثقات بالملزقات اه. وقد حكم ابن الجوزي بوضعه
كما ترى. وقال ابن كثير : هذا الحديث فيه نكارة شديدة. انظر «تفسير ابن كثير» ٢ /
٦١٨. وورد من حديث علي ، أخرجه عبد الله بن أحمد ١٠٤٤ ، والطبراني في «الأوسط»
١٣٨٣ و «الصغير» ٧٣٩ عن علي به. وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٠٩٠ : رجال المسند
ثقات اه. وفيما قاله نظر ، فإن في الإسناد المطلب بن زياد الثقفي ، وهو وإن كان
وثقه أحمد ويحيى وابن حبان ، فقد قال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ولا يحتج به. وضعفه
عيسى بن شاذان ، وقال ابن سعد : كان ضعيفا جدا. وشيخه السدي أيضا ضعفه غير واحد.
وورد عن علي موقوفا أخرجه الحاكم ٣ / ١٢٩ وصححه. ورده الذهبي بقوله : بل كذب ، قبح
الله واضعه. اه. وهو كما قال الذهبي : موضوع ، لا يصح بوجه من الوجوه. وهو من بدع
التأويل ، ولو صح مثل هذا لكان مقام عليّ أعلى من مقام رسول الله عليه الصلاة
والسلام. وهذا لا يقوله مسلم ، بل الصواب أن المنذر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأن الله هو الهادي لمن أراد والله تعالى أعلم. انظر «تفسير
الشوكاني» ١٢٨٦ ـ ١٢٨٧ بتخريجنا.
قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) قد شرحنا ذلك في (الأنعام) . و (الْكَبِيرُ) بمعنى : العظيم. ومعناه : يعود إلى كبر قدره واستحقاقه
صفات العلوّ ، فهو أكبر من كلّ كبير ، لأنّ كلّ كبير يصغر بالإضافة إلى عظمته.
ويقال : «الكبير» الذي كبر عن مشابهة المخلوقين.
فأمّا (الْمُتَعالِ) فقرأ ابن كثير «المتعالي» بياء في الوصل والوقف ، وكذلك
روى عبد الوارث عن أبي عمرو ، وأثبتها في الوقف دون الوصل ابن شنبوذ عن قنبل ،
والباقون بغير ياء في الحالين. والمتعالي هو المتنزّه عن صفات المخلوقين ، قال
الخطّابيّ : وقد يكون بمعنى العالي فوق خلقه ، وروي عن الحسن أنه قال : المتعالي
عمّا يقول المشركون.
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ
أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠))
قوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ) قال ابن الأنباري : ناب «سواء» عن مستو ، والمعنى : مستو
منكم (مَنْ أَسَرَّ
الْقَوْلَ) أي أخفاه وكتمه (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أعلنه وأظهره ، والمعنى : أنّ السّرّ والجهر سواء عنده.
قوله تعالى : (وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ المستخفي : هو المستتر المتواري في ظلمة الليل ،
والسّارب بالنّهار : الظّاهر المتصرّف في حوائجه. يقال : سربت الإبل تسرب : إذا
مضت في الأرض ظاهرة ، وأنشدوا :
أرى كلّ قوم
قاربوا قيد فحلهم
|
|
ونحن خلعنا قيده
فهو سارب
|
أي : ذاهب. ومعنى
الكلام : أنّ الظاهر والخفيّ عنده سواء ، هذا قول الأكثرين. وروى العوفيّ عن ابن
عباس : «ومن هو مستخف» قال : صاحب ريبة بالليل ، فإذا خرج بالنّهار أرى الناس أنه
بريء من الإثم. والثاني
: أنّ المستخفي
بالليل : الظّاهر ، والسّارب بالنهار : المستتر ، يقال : انسرب الوحش : إذا دخل في
كناسه ، وهذا قول الأخفش ، وذكره قطرب أيضا واحتجّ له ابن جرير بقولهم : خفيت
الشيء : إذا أظهرته ، ومنه (أكاد أخفيها) بفتح الألف ، أي : أظهرها ، قال : وإنما قيل للمتواري : سارب
، لأنه صار في السّرب مستخفيا.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ
اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا
أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ
والٍ (١١))
قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) في هاء «له» أربعة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثاني : إلى الملك من ملوك الدنيا ، رواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس. والثالث
: إلى الإنسان ،
قاله الزّجّاج. والرابع
: إلى الله تعالى ،
ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان الدّمشقي.
وفي المعقّبات
قولان : أحدهما
: أنها الملائكة ،
رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة في آخرين. قال الزّجّاج
: والمعنى : للإنسان ملائكة يعتقبون ، يأتي بعضهم بعقب بعض. وقال أكثر المفسّرين :
هم الحفظة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل ، إذا مضى فريق ، خلف بعده فريق ،
ويجتمعون عند صلاة المغرب والفجر. وقال قوم ، منهم ابن زيد : هذه الآية خاصّة في
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، عزم عامر بن الطّفيل وأربد بن قيس على قتله ، فمنعه الله
منهما ، وأنزل هذه الآية . والقول
الثاني : أنّ المعقّبات
حرّاس الملوك الذين يتعاقبون الحرس ، وهذا مرويّ عن ابن عباس وعكرمة. وقال
الضّحّاك : هم السّلاطين المشركون المحترسون من الله تعالى.
وفي قوله تعالى : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) سبعة أقوال : أحدها : يحرسونه من أمر الله ولا يقدرون ، هذا على قول من قال : هي
في المشركين المحترسين من أمر الله. والثاني : أنّ المعنى : حفظهم له من أمر الله ، قاله ابن عباس ، وابن
جبير ، فيكون تقدير الكلام : هذا الحفظ ممّا أمرهم الله به. والثالث : يحفظونه بأمر الله ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة. قال
اللغويون : والباء تقوم مقام «من» ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. والرابع : يحفظونه من الجنّ ، قاله مجاهد ، والنّخعيّ. وقال كعب : لو
لا أنّ الله تعالى وكّل بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم ، إذن
لتخطّفتكم الجنّ. وقال مجاهد : ما من عبد إلّا وملك موكّل به يحفظه في نومه ويقظته
من الجنّ والإنس والهوامّ ، فإذا أراده شيء ، قال : وراءك وراءك ، إلّا شيء قد قضي
له أن يصيبه. وقال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى عليّ عليهالسلام ، فقال : احترس ، فإنّ ناسا من مراد يريدون قتلك ، فقال :
إنّ مع كلّ رجل ملكين يحفظانه ممّا لم يقدّر ، فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه ،
وإنّ الأجل جنّة حصينة. والخامس
: أنّ في الكلام
تقديما وتأخيرا ، والمعنى : له معقّبات من أمر الله يحفظونه ، قاله أبو صالح ،
والفرّاء. والسادس
: يحفظونه لأمر الله
فيه حتى يسلموه إلى ما قدّر له ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي ، واستدلّ بما روى
عكرمة عن ابن عباس أنه قال : يحفظونه من أمر الله ، حتى إذا جاء القدر خلّوا عنه.
وقال عكرمة : يحفظونه لأمر الله. والسابع : يحفظون عليه الحسنات والسّيئات ، قاله ابن جريج. قال الأخفش
: وإنما أنّث المعقّبات لكثرة ذلك منها ، نحو النّسّابة ، والعلّامة ثم ذكّر في
قوله : «يحفظونه» لأنّ المعنى مذكّر.
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) أي : لا يسلبهم نعمه (حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ) فيعملوا بمعاصيه. قال مقاتل : ويعني بذلك كفّار مكّة. قوله
تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ
بِقَوْمٍ سُوْءاً) فيه قولان : أحدهما : أنه العذاب. والثاني : البلاء.
قوله تعالى : (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي : لا يردّه شيء ولا تنفعه المعقّبات. (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) يعني : من دون الله (مِنْ والٍ) أي : من وليّ يدفع عنهم العذاب والبلاء.
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢))
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً وَطَمَعاً) فيه أربعة أقوال : أحدها : خوفا للمسافر وطمعا للمقيم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
قال قتادة : فالمسافر خاف أذاه ومشقّته والمقيم يرجو منفعته. والثاني : خوفا من الصّواعق وطمعا في الغيث ، رواه عطاء عن ابن عباس
، وبه قال الحسن. والثالث
: خوفا للبلد الذي
يخاف ضرر المطر وطمعا لمن يرجو الانتفاع به ، ذكره الزّجّاج. والرابع : خوفا من العقاب وطمعا في الثّواب ، ذكره الماوردي. وكان ابن
الزّبير إذا سمع صوت الرّعد يقول : إن هذا وعيد شديد لأهل الأرض.
__________________
قوله تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي : ويخلق السّحاب الثّقال بالماء. قال الفرّاء : السّحاب
، وإن كان لفظه واحدا ، فإنه جمع واحدته سحابة ، جعل نعته على الجمع ، كما قال (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ
وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) ولم يقل : أخضر ، ولا حسن.
(وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ
فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحالِ (١٣))
قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) فيه قولان : أحدهما : أنه اسم الملك الذي يزجر السّحاب ، وصوته : تسبيحه ، قاله
مقاتل. والثاني
: أنه الصّوت
المسموع. وإنما خصّ الرّعد بالتّسبيح ، لأنه من أعظم الأصوات. قال ابن الأنباري :
وإخباره عن الصّوت بالتّسبيح مجاز ، كما يقول القائل : قد غمّني كلامك. قوله تعالى
: (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله عزوجل ، وهو الأظهر. قال ابن عباس : يخافون الله ، وليس كخوف ابن
آدم ، لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره ، ولا يشغله عن عبادة الله شيء. والثاني : أنها ترجع إلى الرّعد ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها
مَنْ يَشاءُ) ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
(٨٢٤) أحدها : أنها نزلت في أربد بن قيس ، وعامر بن الطّفيل ، أتيا إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريدان الفتك به ، فقال : «اللهمّ اكفنيهما بما شئت» ،
فأمّا أربد فأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته ، وأما عامر فأصابته
غدّة فهلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، هذا قول الأكثرين ، منهم ابن جريج ،
وأربد هو أخو لبيد بن ربيعة لأمّه.
(٨٢٥) والثاني : أنها نزلت في رجل جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : حدّثني يا محمّد عن إلهك ، أياقوت هو؟ أذهب هو؟
فنزلت على السّائل صاعقة فأحرقته ، ونزلت هذه الآية ، قاله عليّ بن أبي طالب عليهالسلام. قال مجاهد : وكان يهوديّا.
(٨٢٦) وقال أنس بن
مالك : بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى بعض فراعنة العرب يدعوه إلى الله تعالى ،
____________________________________
(٨٢٤) أخرجه
الطبراني ١٠٧٦٠ ، وفي «الطوال» ٣٧ من حديث ابن عباس. وقال الهيثمي في «المجمع»
١١٠٩١ : في إسنادهما عبد العزيز بن عمران ، وهو ضعيف. وذكره الواحدي في الأسباب
٥٤٧ بقوله : قال ابن عباس في رواية أبي صالح وهو واه ، وابن جريج ، وابن زيد ،
فساقه بلا سند. وأثر ابن جريج أسنده الطبري ٢٠٢٧٢ عنه وهو معضل .. وانظر «تفسير
ابن كثير» ٢ / ٦٢٤.
(٨٢٥) أخرجه
الطبري ٢٠٢٦٩ من حديث علي ، وإسناده واه ، فيه سيف ابن أخت سفيان الثوري ، متروك
الحديث.
وله شاهد من مرسل
مجاهد ، أخرجه الطبري ٢٠٢٦٧ ، ومع إرساله فيه ليث ، وهو ضعيف. وانظر ما بعده.
(٨٢٦) جيد. أخرجه
ابن أبي عاصم في «السنة» ١ / ٣٠٤ ، والبزار ٢٢٢١ ، وأبو يعلى ٣٣٤١ و ٣٣٤٢ من رواية
ديلم بن غزوان عن ثابت عن أنس مطوّلا ، ورجال البزار وأبي يعلى في الرواية الأولى
ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٤٢ : ورجال البزار رجال الصحيح غير ديلم بن
غزوان ، وهو ثقة ، وفي رجال أبي يعلى والطبراني علي بن أبي سارة ، وهو ضعيف اه.
وأخرجه أبو يعلى ٣٣٤٢ و ٣٤٦٨ ، والواحدي ٥٤٦ ،
__________________
فقال للرسول : وما
الله ، أمن ذهب هو ، أم من فضّة ، أم من نحاس؟ فرجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فأخبره ، فقال : «ارجع إليه فادعه» ، فرجع ، فأعاد عليه
الكلام ، إلى أن رجع إليه ثالثة ، فبينما هما يتراجعان الكلام ، إذ بعث الله سحابة
حيال رأسه ، فرعدت ووقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه ، ونزلت هذه الآية.
(٨٢٧) والثالث : أنها في رجل أنكر القرآن وكذّب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ونزلت هذه الآية ، قاله
قتادة.
قوله تعالى : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) فيه قولان : أحدهما : يكذّبون بعظمة الله ، قاله ابن عباس. والثاني : يخاصمون في الله ، حيث قال قائلهم : أهو من ذهب ، أم من
فضّة؟ على ما تقدم بيانه. قوله تعالى : (وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحالِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : شديد الأخذ ، قاله عليّ عليهالسلام. والثاني
: شديد المكر ، شديد
العداوة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : شديد العقوبة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وقال مجاهد في
رواية عنه : شديد الانتقام. وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة والمكر والنّكال ،
وأنشد للأعشى :
فرع نبع يهتزّ
في غصن المج
|
|
د ، غزير النّدى
، شديد المحال
|
إن يعاقب يكن
غراما وإن يع
|
|
ط جزيلا فإنّه
لا يبالي
|
والرابع
: شديد القوّة ،
قاله مجاهد. قال الزّجّاج : يقال : ما حلته محالا : إذا قاويته حتى تبيّن له
أيّكما الأشدّ ، والمحل في اللغة : الشّدة. والخامس : شديد الحقد ، قاله الحسن البصريّ فيما سمعناه عنه مسندا من
طرق ، وقد رواه عنه جماعة من المفسّرين منهم ابن الأنباري ، والنّقّاش ، ولا يجوز
هذا في صفات الله عزوجل. قال النّقّاش : هذا قول منكر عند أهل الخبر والنّظر في
اللغة لا يجوز أن تكون هذه صفة من صفات الله تعالى. والذي أختاره في هذا ما قاله
عليّ عليهالسلام : شديد الأخذ ، يعني : أنه إذا أخذ الكافر والظالم لم
يفلته من عقوباته.
(لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ
إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ
وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤))
قوله تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) فيه قولان : أحدهما : أنها كلمة التّوحيد ، وهي : لا إله إلّا الله ، قاله عليّ
وابن عباس والجمهور ، فالمعنى له من خلقه الدعوة الحقّ ، فأضيفت الدّعوة إلى الحقّ
لاختلاف اللفظين. والثاني
: أنّ الله عزوجل هو الحقّ ، فمن دعاه دعا الحقّ ، قاله الحسن.
____________________________________
والطبري ٢٠٢٧٠ ،
والنسائي في «التفسير» ٢٧٩ ، والعقيلي في «الضعفاء» ٣ / ٢٣٢ من طريق علي بن أبي
سارة مطوّلا. وإسناده ضعيف ، لضعف ابن أبي سارة. قال البخاري : في حديثه نظر. وقال
أبو حاتم : شيخ ضعيف الحديث اه. انظر «الميزان» ٣ / ١٣٠ ، و «التهذيب» ٧ / ٣٢٤.
(٨٢٧) مرسل. أخرجه
الطبري ٢٠٢٧١ عن قتادة مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، لكن يشهد لما قبله ، فأصل
الخبر قوي بشواهده وطرقه ، وإن اختلفت بعض ألفاظه. وأصح شيء في الباب حديث أنس.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٣٧٢٥ بتخريجنا ، والله الموفق.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام آلهة. قال أبو عبيدة : المعنى : والذين يدعون
غيره من دونه. قوله تعالى : (لا يَسْتَجِيبُونَ
لَهُمْ) أي : لا يجيبونهم.
قوله تعالى : (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى
الْماءِ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو
ببالغه ؛ قاله عليّ عليهالسلام ، وعطاء. والثاني : أنه الرجل العطشان قد وضع كفّيه في الماء وهو لا يرفعهما ،
رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث
: أنه العطشان يرى
خياله في الماء من بعيد ، فهو يريد أن يتناوله فلا يقدر عليه ، رواه ابن أبي طلحة
عن ابن عباس. والرابع
: أنه الرجل يدعو
الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا ، قاله مجاهد. والخامس : أنه الباسط كفّيه ليقبض على ماء حتى يؤدّيه إلى فيه ، لا
يتمّ له ذلك ، والعرب تقول : من طلب ما لا يجد فهو القابض على الماء ، وأنشدوا :
وإنّي وإيّاكم
وشوقا إليكم
|
|
كقابض ماء لم
تسقه أنامله
|
أي : لم تحمله ،
والوسق : الحمل ، وقال آخر :
فأصبحت ممّا كان
بيني وبينها
|
|
من الودّ مثل
القابض الماء باليد
|
هذا قول أبي عبيدة
، وابن قتيبة.
قوله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلالٍ) فيه قولان : أحدهما : وما دعاء الكافرين ربّهم إلّا في ضلال ، لأنّ أصواتهم
محجوبة عن الله عزوجل ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : وما عبادة الكافرين الأصنام إلّا في خسران وباطل ، قاله
مقاتل.
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ (١٥))
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّماواتِ) أي : من الملائكة ، ومن في الأرض من المؤمنين (طَوْعاً وَكَرْهاً). وفي معنى سجود السّاجدين كرها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه سجود من دخل في الإسلام بالسّيف ، قاله ابن زيد. والثاني : أنه سجود ظلّ الكافر ، قاله مقاتل. والثالث : أنّ سجود الكاره تذلّله وانقياده لما يريده الله عزوجل منه من عافية ومرض وغنى وفقر .
قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ) أي : وتسجد ظلال السّاجدين طوعا وكرها ، وسجودها : تمايلها
من جانب إلى جانب ، وانقيادها للتّسخير بالطّول والقصر. قال ابن الأنباري : قال
اللغويون : الظلّ ما كان بالغدوات قبل انبساط الشمس ، والفيء ما كان بعد انصراف
الشمس ، وإنما سمّي فيئا ، لأنه فاء ، أي : رجع إلى الحال التي كان عليها قبل أن
تنبسط الشمس ، وما كان سوى ذلك فهو ظلّ ، نحو ظلّ
__________________
الإنسان ، وظلّ
الجدار ، وظلّ الثوب ، وظلّ الشجرة ، قال حميد بن ثور :
فلا الظّلّ من
برد الضّحى تستطيعه
|
|
ولا الفيء من
برد العشيّ تذوق
|
وقال لبيد :
بينما الظّلّ
ظليل مونق
|
|
طلعت شمس عليه
فاضمحلّ
|
وقال آخر :
أيا أثلاث القاع
من بطن توضح
|
|
حنيني إلى
أظلالكنّ طويل
|
وقيل : إنّ الكافر
يسجد لغير الله ، وظلّه يسجد لله. وقد شرحنا معنى الغدوّ والآصال في (الأعراف) .
(قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) إنما جاء السؤال والجواب من جهة ، لأنّ المشركين لا ينكرون
أنّ الله خالق كلّ شيء فلمّا لم ينكروا ، كان كأنّهم أجابوا. ثم ألزمهم الحجة
بقوله : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ
مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يعني : الأصنام تولّيتموهم فعبدتموهم وهم لا يملكون
لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، فكيف لغيرهم؟! ثم ضرب مثلا للذي يعبد الأصنام والذي يعبد
الله بقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) يعني المشرك والمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي
الظُّلُماتُ وَالنُّورُ). وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن
عاصم : «تستوي» بالتاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «يستوي»
بالياء. قال أبو عليّ : التأنيث حسن ، لأنه فعل مؤنث ، والتّذكير سائغ ، لأنه
تأنيث غير حقيقي. ويعني بالظّلمات والنّور : الشرك والإيمان. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) قال ابن الأنباري : معناه : أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه
، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء؟ وهذا استفهام إنكار ، والمعنى : ليس الأمر على هذا
، بل إذا فكّروا علموا أنّ الله هو المنفرد بالخلق ، وغيره لا يخلق شيئا.
قوله تعالى : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) قال الزّجّاج : قل ذلك وبيّنه بما أخبرت به من الدّلالة في
هذه السّورة مما يدلّ على أنه خالق كلّ شيء ، وقد ذكرنا في (يوسف) معنى الواحد القهّار.
(أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ
الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ
الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))
__________________
قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني : المطر (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) وهي جمع واد ، وهو كلّ منفرج بين جبلين يجتمع إليه ماء
المطر فيسيل (بِقَدَرِها) أي : بمبلغ ما تحمل ، فإن صغر الوادي ، قلّ الماء ، وإن هو
اتّسع ، كثر. وقرأ الحسن ، وابن جبير ، وأبو العالية ، وأيوب ، وابن يعمر ، وأبو
حاتم عن يعقوب : «بقدرها» بإسكان الدال. وقوله تعالى : «فسالت أودية» توسّع في
الكلام ، والمعنى : سالت مياهها ، فحذف المضاف ، وكذلك قوله : «بقدرها» أي : بقدر
مياهها. (فَاحْتَمَلَ
السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي : عاليا فوق الماء ، فهذا مثل ضربه الله عزوجل. ثم ضرب مثلا آخر ، فقال : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ
عَلَيْهِ فِي النَّارِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر
عن عاصم : «توقدون عليه» بالتاء. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم بالياء.
قال أبو عليّ : من قرأ بالتاء ، فلما قبله من الخطاب ، وهو قوله : «أفاتّخذتم» ،
ويجوز أن يكون خطابا عامّا للكافّة ، ومن قرأ بالياء فلأنّ ذكر الغيبة قد تقدّم في
قوله : «أم جعلوا لله شركاء».
ويعني بقوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ) ما يدخل إلى النار فيذاب من الجواهر (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) يعني : الذّهب والفضّة (أَوْ مَتاعٍ) يعني : الحديد والصّفر والنّحاس والرّصاص تتّخذ منه
الأواني والأشياء التي ينتفع بها ، (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي : له زبد إذا أذيب مثل زبد السّيل ، فهذا مثل آخر.
وفيما ضرب له هذان
المثلان ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه القرآن ،
شبّه نزوله من السماء بالماء ، وشبّه قلوب العباد بالأودية تحمل منه على قدر
اليقين والشّكّ ، والعقل والجهل ، فيستكنّ فيها ، فينتفع المؤمن بما في قلبه
كانتفاع الأرض التي يستقرّ فيها المطر ، ولا ينتفع الكافر بالقرآن لمكان شكّه
وكفره ، فيكون ما حصل عنده من القرآن كالزّبد وكخبث الحديد لا ينتفع به. والثاني : أنه الحقّ والباطل ، فالحقّ شبّه بالماء الباقي الصّافي ،
والباطل مشبّه بالزّبد الذّاهب ، فهو وإن علا على الماء فإنه سيمحق ، كذلك الباطل
، وإن ظهر على الحقّ في بعض الأحوال ، فإنّ الله سيبطله. والثالث : أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فمثل المؤمن واعتقاده
وعمله كالماء المنتفع به ، ومثل الكافر واعتقاده وعمله كالزّبد.
قوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : كما ذكر هذا ، يضرب الله مثل الحقّ والباطل. وقال أبو
عبيدة : كذلك يمثّل الله الحقّ ويمثّل الباطل.
فأمّا الجفاء ،
فقال ابن قتيبة : هو ما رمى به الوادي إلى جنباته ، يقال : أجفأت القدر بزبدها :
إذا ألقته عنها. قال ابن فارس : الجفاء : ما نفاه السّيل ، ومنه اشتقاق الجفاء.
وقال ابن الأنباري : «جفاء» أي : باليا متفرّقا. قال ابن عباس : إذا مسّ الزّبد لم
يكن شيئا.
قوله تعالى : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء والجواهر التي زال زبدها (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فينتفع به (كَذلِكَ) يبقى الحقّ لأهله. قوله تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ
الْحُسْنى) يعني : المؤمنين ، (وَالَّذِينَ لَمْ
__________________
يَسْتَجِيبُوا
لَهُ)
يعني : الكفّار.
قال أبو عبيدة : استجبت لك واستجبتك سواء ، وهو بمعنى : أجبت. وفي الحسنى ثلاثة
أقوال : أحدها
: أنها الجنّة ،
قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني
: أنها الحياة
والرّزق ، قاله مجاهد. والثالث
: كلّ خير من
الجنّة فما دونها ، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى : (لَافْتَدَوْا بِهِ) أي : لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، ولا يقبل منهم.
وفي سوء الحساب
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها المناقشة
بالأعمال ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. وقال النّخعيّ : هو أن يحاسب بذنبه كلّه
، فلا يغفر له منه شيء. والثاني
: أن لا تقبل منهم
حسنة ، ولا يتجاوز لهم عن سيّئة. والثالث : أنه التّوبيخ والتّقريع عند الحساب.
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩))
قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) قال ابن عباس : نزلت في حمزة ، وأبي جهل. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) أي : إنما يتّعظ ذوو العقول. والتّذكّر : الاتّعاظ.
(الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ
اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١))
قوله تعالى : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) في هذا العهد قولان :
أحدهما
: أنه ما عاهدهم
عليه حين استخرجهم من ظهر آدم.
والثاني
: ما أمرهم به
وفرضه عليهم. وفي الذي أمر الله به ، عزوجل ، أن يوصل ، ثلاثة أقوال قد نسبناها إلى قائلها في أوّل
سورة «البقرة» ، وقد ذكرنا سوء الحساب آنفا.
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ
صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) أي : على ما أمروا به (ابْتِغاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ) أي : طلبا لرضاه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أتمّوها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ) من الأموال في طاعة الله. قال ابن عباس : يريد بالصّلاة : الصّلوات
الخمس ، وبالإنفاق : الزّكاة.
قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ) أي : يدفعون (بِالْحَسَنَةِ
السَّيِّئَةَ). وفي المراد بهما خمسة أقوال : أحدها : يدفعون بالعمل
الصالح الشرّ من العمل ، قاله ابن عباس. والثاني : يدفعون بالمعروف المنكر ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : بالعفو الظّلم ، قاله جويبر. والرابع : بالحلم السّفه ، كأنهم إذا سفه عليهم حلموا ، قاله ابن
قتيبة. والخامس
: بالتّوبة الذّنب
، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) قال ابن عباس : يريد : عقباهم الجنّة ، أي : تصير الجنة
آخر
__________________
أمرهم. قوله تعالى
: (وَمَنْ صَلَحَ) وقرأ ابن أبي عبلة : «صلح» بضمّ اللام. ومعنى «صلح» : آمن
، وذلك أنّ الله تعالى ألحق بالمؤمن أهله المؤمنين إكراما له ، لتقرّ عينه بهم. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ
مِنْ كُلِّ بابٍ) قال ابن عباس : بالتّحية من الله والتّحفة والهدايا.
قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قال الزّجّاج : أضمر القول ها هنا ، لأنّ في الكلام دليلا
عليه. وفي هذا السّلام قولان : أحدهما
: أنه التّحية
المعروفة ، يدخل الملك فيسلّم وينصرف. قال ابن الأنباري : وفي قول
المسلّم : سلام عليكم ، قولان : أحدهما
: أنّ السلام :
الله عزوجل ، والمعنى : الله عليكم ، أي : على حفظكم. والثاني : أنّ المعنى : السّلامة عليكم ، فالسّلام جمع سلامة. والثاني : أنّ معناه : إنّما سلّمكم الله تعالى من أهوال القيامة
وشرّها بصبركم في الدنيا.
وفيما صبروا عليه
خمسة أقوال : أحدها
: أنه أمر الله ،
قاله سعيد بن جبير. والثاني
: فضول الدنيا ،
قاله الحسن. والثالث
: الدّين. والرابع : الفقر ، رويا عن أبي عمران الجوني. والخامس : أنه فقد المحبوب ، قاله ابن زيد.
(وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) قد سبق تفسيره في سورة (البقرة) . وقال مقاتل : نزلت في كفّار أهل الكتاب. وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي : عليهم.
(اللهُ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦))
قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي : يوسّع على من يشاء (وَيَقْدِرُ) أي : يضيّق. (وَفَرِحُوا
بِالْحَياةِ الدُّنْيا) قال ابن عباس : يريد مشركي مكّة ، فرحوا بما نالوا من
الدنيا فطغوا وكذّبوا الرّسل. وقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) أي : بالقياس إليها (إِلَّا مَتاعٌ) أي : كالشيء الذي يتمتّع به ، ثم يفنى.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧))
قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) نزلت في مشركي مكّة حين طلبوا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل آيات الأنبياء . (قُلْ إِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي : يردّه عن الهدى كما ردّكم بعد ما أنزل من الآيات
وحرمكم الاستدلال بها ، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ أَنابَ) أي : رجع إلى الحقّ ، وإنما يرجع إلى الحقّ من شاء الله
رجوعه ، فكأنه قال : ويهدي من يشاء.
__________________
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ
مَآبٍ (٢٩))
قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا) هذا بدل من قوله : (أَنابَ) ، والمعنى : يهدي الذين آمنوا ، (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ
اللهِ) في هذا الذّكر قولان : أحدهما : أنه القرآن. والثاني : ذكر الله على الإطلاق. وفي معنى هذه الطّمأنينة قولان : أحدهما : أنها الحبّ له والأنس به. والثاني : السّكون إليه من غير شكّ ، بخلاف الذين إذا ذكر الله
اشمأزّت قلوبهم.
قوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ) قال الزّجّاج : «ألا» حرف تنبيه وابتداء ، والمعنى :
تطمئنّ القلوب التي هي قلوب المؤمنين ، لأنّ الكافر غير مطمئن القلب.
قوله تعالى : (طُوبى لَهُمْ) فيه ثمانية أقوال : أحدها : أنه اسم شجرة في الجنّة.
(٨٢٨) روى أبو
سعيد الخدريّ «عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، ما طوبى؟ قال : شجرة في
الجنّة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنّة تخرج من أكمامها».
وقال أبو هريرة :
طوبى : شجرة في الجنّة ، يقول الله عزوجل لها : تفتّقي لعبدي عمّا شاء ، فتتفتّق له عن الخيل
بسروجها ولجمها ، وعن الإبل بأزمّتها ، وعمّا شاء من الكسوة. وقال شهر بن حوشب :
طوبى : شجرة في الجنّة ، كلّ شجر الجنّة منها أغصانها ، من وراء سور الجنّة ، وهذا
مذهب عطيّة ، وشمر بن عطيّة ، ومغيث بن سميّ ، وأبي صالح. والثاني : أنه اسم الجنّة بالحبشيّة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس. قال المصنّف : وقرأت على شيخنا أبي منصور عن سعيد بن مسجوح قال : طوبى : اسم
الجنّة بالهنديّة ، وممن ذهب إلى أنه اسم الجنّة عكرمة ، وعن مجاهد كالقولين. والثالث : أنّ معنى طوبى لهم : فرح وقرّة عين لهم ، رواه عليّ بن أبي
طلحة عن ابن عباس. والرابع
: أن معناه : نعمى
لهم ، قاله عكرمة في رواية ، وفي رواية أخرى عنه : نعم ما لهم. والخامس : غبطة لهم ، قاله سعيد بن جبير ، والضّحّاك. والسادس : أن معناه : خير لهم ، قاله النّخعيّ في رواية ، وفي أخرى
عنه قال : الخير والكرامة اللّذان أعطاهم الله ، وروى معمر عن قتادة قال : يقول
الرجل للرجل : طوبى لك ، أي : أصبت خيرا ، وهي كلمة عربية. والسابع : حسنى لهم ، رواه سعيد عن قتادة عن الحسن. والثامن : أنّ المعنى : العيش الطّيّب لهم. و «طوبى» عند النّحويين :
فعلى من الطّيّب ، هذا قول الزّجّاج. وقال ابن الأنباري : تأويلها : الحال
المستطابة ، والخلّة المستلذّة ، وأصلها : «طيبي» فصارت الياء واوا لسكونها
وانضمام ما قبلها كما صارت في «موقن» والأصل فيه «ميقن» لأنه مأخوذ من اليقين ،
فغلبت الضّمة فيه الياء فجعلتها واوا.
____________________________________
(٨٢٨) صدره حسن ،
وعجزه ضعيف ، أخرجه أحمد ٣ / ٧١ وأبو يعلى ١٣٧٤ وابن حبان ٧٤١٣ والخطيب ٤ / ٩١
والطبري ٢٠٣٩٤. من طريق درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا. وهذا إسناد ضعيف
، لضعف درّاج في روايته عن أبي الهيثم ، ولصدره شواهد ، والوهن فقط في عجزه «ثياب
أهل الجنة تخرج من أكمامها». وله شاهد من حديث عتبة بن عبد السلمي ، أخرجه الطبري
٢٠٣٩٢ وابن حبان ٧٤١٤ وأحمد ٤ / ١٨٣ وإسناده ضعيف لجهالة عامر بن زيد ، لكن يشهد
لما قبله. وله شاهد من حديث قرة بن إياس ، أخرجه الطبري ٢٠٣٩٣ وإسناده ضعيف لضعف
فرات بن أبي الفرات. وله شواهد أخرى واهية.
قوله تعالى : (وَحُسْنُ مَآبٍ) المآب : المرجع والمنقلب.
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ
فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))
قوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) أي : كما أرسلنا الأنبياء قبلك.
قوله تعالى : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :
(٨٢٩) أحدها : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم لمّا قال لكفّار قريش : اسجدوا للرّحمن ، قالوا : وما
الرّحمن؟ فنزلت هذه الآية ، وقيل لهم : إنّ الرحمن الذي أنكرتم هو ربّي ، هذا قول
الضّحّاك عن ابن عباس.
(٨٣٠) والثاني : أنهم لمّا أرادوا كتاب الصّلح يوم الحديبية ، كتب عليّ عليهالسلام : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فقال سهيل بن عمرو : ما نعرف
الرّحمن إلّا مسيلمة ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل.
(٨٣١) والثالث : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يوما في الحجر يدعو ، وأبو جهل يستمع إليه وهو يقول : يا
رحمن ، فولّى مدبرا إلى المشركين فقال : إنّ محمّدا كان ينهانا عن عبادة الآلهة
وهو يدعو إلهين! فنزلت هذه الآية ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوري.
قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ مَتابِ) قال أبو عبيدة : هو مصدر تبت إليه.
(وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ
حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))
قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبالُ).
(٨٣٢) سبب نزولها
أنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : لو وسّعت لنا أودية مكّة بالقرآن ، وسيّرت
____________________________________
(٨٢٩) لا أصل له ،
عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، وراوية الضحاك هو
جويبر بن سعيد ذاك المتروك ، فقد روى عن الضحاك تفسيرا مصنوعا عن ابن عباس.
ـ وذكره الواحدي في «الأسباب» ٥٤٩ وعزاه للضحاك عن
ابن عباس.
(٨٣٠) لم أقف عليه
مسندا بهذا اللفظ ، وهو باطل لا أصل له. وذكره الواحدي ٥٤٨ بقوله : قال المفسرون
... فهذا بدون إسناد كما ترى ، أي لا أصل له ، والأشبه كونه كلام مقاتل ، وهو ابن
سليمان ، وهو ممن يضع الحديث.
وتفرّد بذكر نزول
الآية مع لفظ «إلا مسيلمة». وأخرجه الطبري ٢٠٣٩٦ عن قتادة مرسلا ، دون ذكر نزول
الآية ، ودون استثناء مسيلمة. وكذا أخرجه ٢٠٣٩٧ عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا أيضا
هكذا. وأصل حديث الحديبية متفق عليه. دون ذكر نزول الآية واستثناء مسيلمة. وسيأتي
في سورة الفتح.
(٨٣١) لم أقف عليه
، وعزاه المصنف للمفسر النيسابوري ، وهو يذكر ما لا أصل له. وقد ورد شيء من هذا في
أواخر سورة الإسراء ، وسيأتي.
(٨٣٢) حسن. أخرجه
الطبري ٢٠٣٩٨ من رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، وعطية العوفي روى مناكير كثيرة ،
وهو
جبالها فاحترثناها
، وأحييت من مات منّا ، فنزلت هذه الآية ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.
(٨٣٣) وقال
الزّبير بن العوّام : قالت قريش لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : ادع الله أن يسيّر عنّا هذه الجبال ويفجّر لنا الأرض
أنهارا فنزرع ، أو يحيي لنا موتانا فنكلّمهم ، أو يصيّر هذه الصخرة ذهبا فتغنينا
عن رحلة الشتاء والصيف فقد كان للأنبياء آيات ، فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ
إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) . ومعنى قوله : (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الْأَرْضُ) أي : شقّقت فجعلت أنهارا ، (أَوْ كُلِّمَ بِهِ
الْمَوْتى) أي : أحيوا حتى كلّموا.
واختلفوا في جواب «لو»
على قولين : أحدهما
: أنه محذوف. وفي
تقدير الكلام قولان : أحدهما
: أنّ تقديره :
لكان هذا القرآن ، ذكره الفرّاء ، وابن قتيبة. قال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير
قرآنكم لفعل بقرآنكم. والثاني
: أنّ تقديره : لو
كان هذا كلّه لما آمنوا. ودليله قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا
عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ، قاله الزّجّاج. والثاني : أن جواب «لو» مقدّم ، والمعنى : وهم يكافرون بالرحمن ، ولو
أنزلنا عليهم ما سألوا ، ذكره الفراء أيضا.
قوله تعالى : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي : لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا ، وإذا لم يشأ ، لم ينفع ما
اقترحوا من الآيات. ثم أكّد ذلك بقوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ
الَّذِينَ آمَنُوا) وفيه أربعة أقوال :
أحدها
: أفلم يتبيّن ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وروى عنه عكرمة
أنه كان يقرؤها كذلك ، ويقول : أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس ، وهذا قول مجاهد ،
وعكرمة ، وأبي مالك ، ومقاتل.
والثاني
: أفلم يعلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن
، وقتادة ، وابن زيد. وقال ابن قتيبة : ويقال : هي لغة للنّخع «ييأس» بمعنى «يعلم»
، قال الشاعر :
أقول لهم
بالشّعب إذ يأسرونني
|
|
ألم تيأسوا أنّي
ابن فارس زهدم
|
وإنما وقع اليأس
في مكان العلم ، لأنّ في علمك الشيء وتيقّنك به يأسك من غيره.
والثالث
: أنّ المعنى : قد
يئس الذين آمنوا أن يهدوا واحدا ، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا ، قاله أبو
العالية. والرابع
: أفلم ييأس الذين آمنوا أن يؤمن هؤلاء المشركون ، قاله
الكسائيّ. وقال
____________________________________
ضعيف ، وأخرجه
الطبراني ١٢٦١٧ من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس ، وقابوس ضعيف. وأخرجه
ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ٦٣٥ من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد
الخدري. وله شاهد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٢٠٤٠٣ و ٢٠٤٠٤. وله شاهد من مرسل
الضحاك ، أخرجه الطبري ٢٠٤٠٥. وله شاهد من مرسل ابن زيد ، أخرجه الطبري ٢٠٤٠٦.
ويشهد له ما بعده ، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها ، فهو حسن إن شاء الله.
(٨٣٣) حسن. أخرجه
أبو يعلى ٦٧٩ ، والواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٠ من حديث الزبير. وإسناده ضعيف فيه
عبد الجبار بن عمر الأيلي عن عبد الله بن عطاء ، وكلاهما ضعيف ، لكن يشهد له ما
قبله.
__________________
الزّجّاج : المعنى
عندي : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم لا يؤمنون ،
لأنه لو شاء لهدى الناس جميعا.
قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيهم قولان : أحدهما : أنهم جميع الكفّار ، قاله ابن السّائب. والثاني : كفار مكّة ، قاله مقاتل. فأمّا القارعة ، فقال الزّجّاج :
هي في اللغة : النّازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم. وفي المراد بها ها هنا قولان : أحدهما : أنها عذاب من السماء ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : السّرايا والطّلائع التي كان ينفذها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله عكرمة . وفي قوله : (أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) قولان : أحدهما
: أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فالمعنى : أو تحلّ أنت يا محمّد ، رواه سعيد بن جبير عن
ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة. والثاني : أنها القارعة ، قاله الحسن. وفي قوله : (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) قولان : أحدهما
: فتح مكّة ، قاله
ابن عباس ، ومقاتل. والثاني
: القيامة ، قاله
الحسن.
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))
قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ
بِما كَسَبَتْ) يعني : نفسه عزوجل. ومعنى القيام ها هنا : التّولّي لأمور خلقه ، والتّدبير
لأرزاقهم وآجالهم ، وإحصاء أعمالهم للجزاء ، والمعنى : أفمن هو مجازي كلّ نفس بما
كسبت ، يثيبها إذا أحسنت ، ويأخذها بما جنت ، كمن ليس بهذه الصّفة من الأصنام؟ قال
الفرّاء : فترك جوابه ، لأنّ المعنى معلوم ، وقد بيّنه بعد هذا بقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) كأنه قيل : كشركائهم. قوله تعالى : (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي : بما يستحقّونه من الصّفات وإضافة الأفعال إليهم إن
كانوا شركاء لله كما يسمّى الله بالخالق ، والرّزاق ، والمحيي ، والمميت ، ولو
سمّوهم بشيء من هذا لكذبوا. قوله تعالى : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ
بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) هذا استفهام منقطع ممّا قبله ، والمعنى : فإن سمّوهم بصفات
الله ، فقل لهم : أتنبئونه ، أي : أتخبرونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلم لنفسه
شريكا ، ولو كان لعلمه؟
قوله تعالى : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أم بظنّ من القول ، قاله مجاهد. والثاني : بباطل ، قاله قتادة. والثالث : بكلام لا أصل له ولا حقيقة. قوله تعالى : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مَكْرُهُمْ) قال ابن عباس : زيّن لهم الشيطان الكفر. قوله تعالى : (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «وصدّوا»
بفتح الصّاد ، ومثله في (حم المؤمن). وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «وصدّوا»
بالضمّ فيهما. فمن فتح ، أراد : صدّوا المسلمين ، إمّا عن الإيمان ، أو عن البيت
الحرام. ومن ضمّ ، أراد : صدّهم الله عن سبيل الهدى.
(لَهُمْ عَذابٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
واقٍ (٣٤))
__________________
قوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو القتل ، والأسر ، والسّقم ، فهو لهم في الدنيا عذاب ،
وللمؤمنين كفّارة ، (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَشَقُ) أي : أشدّ (وَما لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ واقٍ) أي : مانع يقيهم عذابه.
(مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ
(٣٥))
قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي : صفتها أنّ الأنهار تجري من تحتها ، هذا قول الجمهور.
وقال ثعلب : خبر المثل مضمر قبله ، والمعنى : فيما نصف لكم مثل الجنّة ، وفيما
نقصّه عليكم خبر الجنّة (أُكُلُها دائِمٌ) قال الحسن : يريد أنّ ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا (وَظِلُّها) لأنه لا يزول ولا تنسخه الشّمس.
قوله تعالى : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : عاقبة أمرهم المصير إليها.
(وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ
بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم مسلمو اليهود ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال
مقاتل : هم عبد الله بن سلام وأصحابه. والثاني : أنهم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله قتادة. والثالث : مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنّصارى ، ذكره الماوردي.
والذي أنزل إليه : القرآن ، فرح به المسلمون وصدّقوه ، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب ،
لأنه صدّق ما عندهم. وقيل : إنّ عبد الله بن سلام ومن آمن معه من أهل الكتاب ،
ساءهم قلّة ذكر الرّحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التّوراة ، فلمّا نزل ذكره
فرحوا ، وكفر المشركون به ، فنزلت هذه الآية.
فأمّا الأحزاب ،
فهم الكفّار الذين تحزّبوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمعاداة ، وفيهم أربعة أقوال : أحدها
: أنهم اليهود
والنّصارى ، قاله قتادة. والثاني
: أنهم اليهود
والنّصارى والمجوس ، قاله ابن زيد. والثالث : بنو أميّة وبنو المغيرة وآل أبي طلحة بن عبد العزّى ، قاله
مقاتل. والرابع
: كفّار قريش ، ذكره
الماوردي. وفي بعضه الذي أنكروه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ذكر الرّحمن والبعث ومحمّد صلىاللهعليهوسلم ، قاله مقاتل. والثاني : أنهم عرفوا بعثة الرّسول في كتبهم وأنكروا نبوّته. والثالث : أنهم عرفوا صدقه ، وأنكروا تصديقه ، ذكرهما الماوردي.
__________________
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أي : وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلغاتهم ، أنزلنا
عليك القرآن (حُكْماً عَرَبِيًّا) قال ابن عباس : يريد ما فيه من الفرائض. وقال أبو عبيدة :
دينا عربيّا.
قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) فيه قولان : أحدهما : في صلاتك إلى بيت المقدس (بَعْدَ ما جاءَكَ
مِنَ الْعِلْمِ) أنّ قبلتك الكعبة ، قاله ابن السّائب. والثاني : في قبول ما دعوك إليه من ملّة آبائك ، قاله مقاتل. قوله
تعالى : (ما لَكَ مِنَ اللهِ
مِنْ وَلِيٍ) أي : ما لك من عذاب الله من قريب ينفعك (وَلا واقٍ) يقيك.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ
قَبْلِكَ) الآية.
(٨٣٤) سبب نزولها
أنّ اليهود عيّروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بكثرة التّزويج ، وقالوا : لو كان نبيّا كما يزعم ، شغلته
النبوّة عن تزويج النّساء ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية : أنّ
الرّسل قبلك كانوا بشرا لهم أزواج ، يعني النّساء ، وذريّة ، يعني الأولاد. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره ، وهذا جواب للذين اقترحوا عليه الآيات.
قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لكلّ أجل من آجال الخلق كتاب عند الله ، قاله الحسن. والثاني : أنه من المقدّم والمؤخّر ، والمعنى : لكلّ كتاب ينزل من
السماء أجل ، قاله الضّحّاك والفرّاء. والثالث : لكلّ أجل قدّره الله عزوجل ولكلّ أمر قضاه كتاب أثبت فيه ولا تكون آية ولا غيرها إلّا
بأجل قد قضاه الله في كتاب ، هذا معنى قول ابن جرير.
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩))
قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : «ويثبت» ساكنة الثاء
خفيفة الباء. وقرأ ابن عامر : وحمزة ، والكسائيّ : «ويثبّت» مشددة الباء مفتوحة
الثاء. قال أبو عليّ : المعنى : ويثبّته ، فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن
تعدية الثاني.
واختلف المفسّرون
في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال : أحدها
: أنه عامّ ، في
____________________________________
(٨٣٤) لا أصل له.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي وتقدم مرارا ،
أنهما رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٥١ عن
الكلبي.
__________________
الرّزق ، والأجل ،
والسعادة. والشّقاوة ، وهذا مذهب عمر ، وابن مسعود ، وأبي وائل ، والضّحّاك ، وابن
جريج. والثاني
: أنه النّاسخ والمنسوخ
، فيمحو المنسوخ ، ويثبت النّاسخ ، روى هذا المعنى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ،
وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، والقرظيّ ، وابن زيد. وقال ابن قتيبة : «يمحو
الله ما يشاء» أي : ينسخ من القرآن ما يشاء «ويثبت» أي : يدعه ثابتا لا ينسخه ،
وهو المحكم. والثالث
: أنه يمحو ما يشاء
، ويثبت ، إلّا الشّقاوة والسّعادة ، والحياة والموت ، رواه سعيد بن جبير عن ابن
عباس ، ودليل هذا القول ما روى مسلم في (صحيحه) من حديث حذيفة بن أسيد قال :
(٨٣٥) سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا مضت على النّطفة خمس وأربعون ليلة ، يقول
الملك الموكّل : أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله عزوجل ، ويكتب الملك ، فيقول : أشقيّ ، أم سعيد؟ فيقضي الله ،
ويكتب الملك ، فيقول : عمله وأجله؟ فيقضي الله ، ويكتب الملك ، ثم تطوى الصّحيفة ،
فلا يزاد فيها ولا ينقص منها».
والرابع
: يمحو ما يشاء
ويثبت ، إلّا الشقاوة والسعادة لا يغيّران ، قاله مجاهد. والخامس : يمحو من جاء أجله ، ويثبت من لم يجئ أجله ، قاله الحسن. والسادس : يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها ، ويثبت ما يشاء فلا
يغفرها ، روي عن سعيد بن جبير. والسابع
: يمحو ما يشاء
بالتّوبة ، ويثبت مكانها حسنات ، قاله عكرمة. والثامن : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما
فيه ثواب وعقاب ، قاله الضّحّاك ، وأبو صالح. وقال ابن السّائب : القول كلّه يكتب
، حتى إذا كان في يوم الخميس ، طرح منه كلّ شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قولك
: أكلت ، شربت ، دخلت ، خرجت ، ونحوه ، وهو صادق ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال الزّجّاج : أصل الكتاب. قال المفسّرون : وهو اللوح
____________________________________
(٨٣٥) صحيح. أخرجه
مسلم في صحيحه ٢٦٤٥ ، والآجري في «الشريعة» ص ١٨٣ ـ ١٨٤ ،
واللالكائي في «أصول الاعتقاد» ١٠٤٧ من طريقين عن ابن جريج عن أبي الزبير به.
وأخرجه الحميدي ٨٢٦ ، وأحمد ٤ / ٦ ـ ٧ ، والآجري ص ١٨٢ ـ ١٨٣ ،
واللالكائي ١٠٤٥ ، ١٠٤٦ ، وابن أبي عاصم في «السنة» ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٠ ، والطبراني
٣٠٣٦ و ٣٠٤٣ و ٣٠٤٥ من طرق عن عامر بن واثلة به. واللفظ عند مسلم : عن عامر بن
واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول : الشقيّ من شقي في بطن أمه ، والسعيد من
وعظ بغيره. فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري ، فحدثه بذلك من قول ابن
مسعود فقال : وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل : أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة ، بعث الله
إليها ملكا. فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب!
أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء. ويكتب الملك. ثم يقول : يا رب! أجله. فيقول ربك
ما شاء ويكتب الملك. ثم يقول : يا رب! رزقه. فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ، ثم
يخرج الملك بالصحيفة في يده. فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص».
__________________
المحفوظ الذي أثبت
فيه ما يكون ويحدث. وروى أبو الدّرداء عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال :
(٨٣٦) «إنّ الله
تعالى في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ،
فيمحو ما يشاء ويثبت». وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هما كتابان ، كتاب سوى أمّ
الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء.
(وَإِنْ ما
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))
قوله تعالى : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) أي : من العذاب وأنت حيّ (أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك ذلك ، فليس عليك إلّا أن تبلّغ ، (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) قال مقاتل : يعني الجزاء. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس
أنّ قوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ) نسخ بآية السّيف وفرض الجهاد ، وبه قال قتادة.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١))
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي
الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) فيه خمسة أقوال :
أحدها
: أنه ما يفتح الله
على نبيّه من الأرض ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والضّحّاك. قال
مقاتل : (أو لم يروا) يعني : كفّار مكّة (أنّا نأتي الأرض) يعني : أرض مكّة «ننقصها
من أطرافها» يعني : ما حولها. والثاني
: أنها القرية تخرب
حتى تبقى الأبيات في ناحيتها ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة. والثالث : أنه نقص أهلها وبركتها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال
الشّعبيّ : نقص الأنفس والثّمرات. والرابع : أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها ، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس : أنه موت أهلها ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وقتادة.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ) قال ابن قتيبة : لا يتعقّبه أحد بتغيير ولا نقص. وقد شرحنا
معنى سرعة الحساب في سورة (البقرة) .
____________________________________
(٨٣٦) ضعيف جدا.
أخرجه الطبري ٢٠٥٠٢ و ٢٠٥٠٣ والبزار ٣٥١٦ «كشف» ، وأبو نعيم في «صفة الجنة» ٨ ،
وابن الجوزي في «العلل» ٢١ من حديث أبي الدرداء. وقال ابن الجوزي : هذا الحديث من
عمل زيادة بن محمد ، ولم يتابعه عليه أحد اه. وقال في «المجمع» ١٨٧١٩ : زيادة بن
محمد ، ضعيف.
ـ قلت : الصواب أنه ضعيف جدا ، قال الذهبي في «الميزان»
٢ / ٩٨ : قال البخاري والنسائي : منكر الحديث.
ثم ذكر الذهبي هذا
الحديث بأتم منه ، وقال : فهذه ألفاظ منكرة ، لم يأت بها غير زيادة.
وقاعدة البخاري :
كل من قلت عنه منكر الحديث ، فلا تحل الرواية عنه.
__________________
(وَقَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢))
قوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) يعني : كفّار الأمم الخالية ، مكروا بأنبيائهم يقصدون
قتلهم ، كما مكرت قريش برسول الله صلىاللهعليهوسلم ليقتلوه. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ
جَمِيعاً) يعني : أنّ مكر الماكرين مخلوق له ، ولا يضرّ إلّا بإرادته
؛ وفي هذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وتسكين له. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ) من خير وشرّ ، ولا يقع ضرر إلّا بإذنه. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «وسيعلم الكافر». قال
ابن عباس : يعني : أبا جهل. وقال الزّجّاج : الكافر ها هنا : اسم جنس. وقرأ عاصم ،
وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «الكفّار» على الجمع.
قوله تعالى : (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي : لمن الجنّة آخر الأمر.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))
قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيهم قولان : أحدهما : أنهم اليهود والنّصارى. والثاني : كفّار قريش. (قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً) أي : شاهدا (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بما أظهر من الآيات ، وأبان من الدّلالات على نبوّتي. قوله
تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) فيه سبعة أقوال : أحدها
: أنهم علماء
اليهود والنّصارى ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنه عبد الله بن سلام ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ،
وابن زيد ، وابن السّائب ، ومقاتل. والثالث : أنهم قوم من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحقّ ، منهم عبد
الله بن سلام ، وسلمان الفارسيّ ، وتميم الدّاريّ ، قاله قتادة. والرابع : أنه جبريل عليهالسلام ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : أنه عليّ بن أبي طالب ، قاله ابن الحنفيّة. والسادس : أنه ابن يامين ، قاله شمر. والسابع : أنه الله عزوجل ، روي عن الحسن ، ومجاهد ، واختاره الزّجّاج واحتجّ له
بقراءة من قرأ : «ومن عنده علم الكتاب» وهي قراءة ابن السّميفع ، وابن أبي عبلة ،
ومجاهد ، وأبي حياة. ورواية ابن أبي سريج عن الكسائيّ : «ومن» بكسر الميم «عنده»
بكسر الدّال «علم» بضمّ العين وكسر اللام وفتح الميم «الكتاب» بالرّفع. وقرأ الحسن
«ومن» بكسر الميم «عنده» بكسر الدّال «علم» بكسر العين وضمّ الميم «الكتاب» مضاف ،
كأنه قال : أنزل من علم الله عزوجل.
__________________
سورة ابراهيم
وهي مكيّة من غير
خلاف علمناه بينهم ، إلّا ما روي عن ابن عباس ، وقتادة أنهما قالا : سوى آيتين
منها ، وهما قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) والتي بعدها .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ
(٢))
قوله تعالى : (الر) قد سبق بيانه. وقوله : (كِتابٌ) قال الزّجّاج : المعنى : هذا كتاب ، والكتاب : القرآن. وفي
المراد بالظّلمات والنّور ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الظّلمات : الكفر. والنّور : الإيمان ، رواه العوفيّ
عن ابن عباس. والثاني
: أنّ الظّلمات :
الضّلالة. والنّور : الهدى ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثالث : أنّ الظّلمات : الشّكّ. والنّور : اليقين ، ذكره الماوردي.
وفي قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : بأمر ربّهم ، قاله مقاتل. والثاني : بتوفيق ربّهم ، قاله أبو سليمان. والثالث : أنه الإذن نفسه ، فالمعنى : بما أذن لك من تعليمهم ، قاله
الزّجّاج ، قال : ثم بيّن ما النّور ، فقال : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ) قال ابن الأنباري : وهذا مثل قول العرب : جلست إلى زيد ،
إلى العاقل الفاضل ، وإنما تعاد «إلى» بمعنى التّعظيم للأمر ، قال الشاعر :
إذا خدرت رجلي
تذكّرت من لها
|
|
فناديت لبنى
باسمها ودعوت
|
دعوت الّتي لو
أنّ نفسي تطيعني
|
|
لألقيتها من
حبّها وقضيت
|
فأعاد «دعوت»
لتفخيم الأمر.
قوله تعالى : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «الحميد
الله» على البدل. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبان ، والمفضّل : «الحميد. الله» رفعا
على الاستئناف ، وقد سبق بيان ألفاظ الآية.
__________________
(الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا
مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ
يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
(٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ (٦))
قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ
الدُّنْيا) أي : يؤثرونها (عَلَى الْآخِرَةِ) قال ابن عباس : يأخذون ما تعجّل لهم منها تهاونا بأمر
الآخرة. قوله تعالى : (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) أي : يمنعون الناس من الدّخول في دينه ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) قد شرحناه في (آل عمران) . قوله تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ) أي : في ذهاب عن الحقّ (بَعِيدٍ) من الصّواب.
قوله تعالى : (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي : بلغتهم. قال ابن الأنباري : ومعنى اللغة عند العرب : الكلام
المنطوق به ، وهو مأخوذ من قولهم : لغا الطائر يلغو : إذا صوّت في الغلس. وقرأ أبو
رجاء ، وأبو المتوكّل ، والجحدريّ : «إلّا بلسن قومه» برفع اللام والسين من غير
ألف. وقرأ أبو الجوزاء ، وأبو عمران : «بلسن قومه» بكسر اللام وسكون السين من غير
ألف.
قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي : الذي أرسل به فيفهمونه عنه. وهذا نزل ، لأنّ قريشا
قالوا : ما بال الكتاب كلّها أعجميّة ، وهذا عربيّ!
قوله تعالى : (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) قال الزّجّاج : «أن» مفسّر ، والمعنى : قلنا له : أخرج
قومك ، وقد سبق بيان الظّلمات والنّور. وفي قوله : (وَذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللهِ) ثلاثة أقوال :
(٨٣٧) أحدها : أنّها نعم الله ، رواه أبيّ بن كعب عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وبه قال مجاهد وقتادة وابن قتيبة.
____________________________________
(٨٣٧) أخرجه أحمد
٥ / ١٢٢ من طريق محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن
أبي بن كعب مرفوعا ، وكرره عبد الله بن أحمد من طريق الطيالسي عن الجعفي به
موقوفا. وأخرجه مسلم ٢٣٨٠ ح ٧١ من طريق آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا في أثناء خبر
مطول ، وفيه «وأيام الله نعماؤه وبلاؤه». وأخرجه النسائي في «التفسير» ٢٨٠ من طريق
آخر عن أبي إسحاق به مرفوعا ، وليس فيه لفظ «بلاؤه». الخلاصة هذه الروايات تتأيد
بمجموعها ، وقد ورد موقوفا عن جماعة من التابعين ، فهو صحيح إن شاء الله تعالى ،
والله أعلم.
__________________
والثاني
: أنها وقائع الله
في الأمم قبلهم ، قاله ابن زيد وابن السّائب ومقاتل. والثالث : أنها أيّام نعم الله عليهم وأيّام نقمه ممّن كفر من قوم
نوح وعاد وثمود ، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني : التّذكير (لَآياتٍ لِكُلِّ
صَبَّارٍ) على طاعة الله وعن
معصيته (شَكُورٍ) لأنعمه. والصّبّار : الكثير الصّبر ، والشّكور : الكثير
الشّكر ، وإنما خصّه بالآيات ، لانتفاعه بها. وما بعد هذا مشروح في سورة البقرة.
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي
لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ
لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا
إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ
يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ
إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ
عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى
اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ
وَعِيدِ (١٤))
قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) مذكور في (الأعراف) . وفي قوله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ) ثلاثة أقوال : أحدها : لئن شكرتم لأزيدنّكم من طاعتي ، قاله الحسن. والثاني : لئن شكرتم إنعامي لأزيدنّكم من فضلي ، قاله الرّبيع. والثالث : لئن وحّدتموني لأزيدنّكم خيرا في الدنيا ، قاله مقاتل. وفي
قوله : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) قولان : أحدهما
: أنه كفر
بالتّوحيد. والثاني
: كفران النّعم.
قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ
لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي : غنيّ عن خلقه ، محمود في أفعاله ، لأنه إمّا متفضّل
بفعله ، أو عادل.
قوله تعالى : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) قال ابن الأنباري : أي : لا يحصي عددهم إلّا هو ، على أنّ
الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها ، فانقطعت أخبارهم ، وعفت آثارهم ، فليس
يعلمهم أحد إلّا الله. قوله تعالى : (فَرَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) فيه سبعة أقوال :
أحدها
: أنهم عضّوا
أصابعهم غيظا ، قاله ابن مسعود ، وابن زيد. وقال ابن قتيبة : «في» ها هنا بمعنى : «إلى»
، ومعنى الكلام : عضّوا عليها حنقا وغيظا ، كما قال الشاعر :
__________________
يردّون في فيه عشر الحسود
يعني : أنهم
يغيظون الحسود حتى يعضّ على أصابعه العشر ، ونحوه قول الهذليّ :
قد أفنى أنامله
أزمه
|
|
فأضحى يعضّ عليّ
الوظيفا
|
يقول : قد أكل
أصابعه حتى أفناها بالعضّ ، فأضحى يعضّ عليّ وظيف الذّراع.
والثاني
: أنهم كانوا إذا
جاءهم الرّسول فقال : إنّي رسول ، قالوا له : اسكت ، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواه
أنفسهم ، ردّا عليه وتكذيبا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنهم لمّا سمعوا كتاب الله ، عجّوا ورجعوا بأيديهم إلى
أفواههم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والرابع : أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرّسل. ردّا لقولهم ، قاله
الحسن. والخامس
: أنهم كذّبوهم
بأفواههم ، وردّوا عليهم قولهم ، قاله مجاهد ، وقتادة. والسادس : أنه مثل ، ومعناه : أنهم كفّوا عمّا أمروا بقبوله من الحقّ
، ولم يؤمنوا به. يقال : ردّ فلان يده إلى فمه ، أي : أمسك فلم يجب ، قاله أبو
عبيدة. والسابع
: ردّوا ما لو
قبلوه لكان نعما وأيادي من الله ، فتكون الأيدي بمعنى : الأيادي ، و «في» بمعنى :
الباء ، والمعنى : ردّوا الأيادي بأفواههم ، ذكره الفرّاء ، وقال : قد وجدنا من
العرب من يجعل «في» موضع الباء ، فيقول : أدخلك الله بالجنّة ، يريد : في الجنّة ،
وأنشدني بعضهم :
وأرغب فيها عن
لقيط ورهطه
|
|
ولكنّني عن سنبس
لست أرغب
|
فقال : أرغب فيها
، يعني : بنتا له ، يريد : أرغب بها ، وسنبس : قبيلة.
قوله تعالى : (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي : على زعمكم أنكم أرسلتم ، لا أنهم أقرّوا بإرسالهم.
وباقي الآية قد سبق تفسيره. (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللهِ شَكٌ) هذا استفهام إنكار ، والمعنى : لا شكّ في الله ، أي : في
توحيده (يَدْعُوكُمْ) بالرّسل والكتاب (لِيَغْفِرَ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال أبو عبيدة : «من» زائدة ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ) ، قال أبو ذؤيب :
جزيتك ضعف الحبّ
لمّا شكوته
|
|
وما إن جزاك
الضّعف من أحد قبلي
|
أي : أحد. وقوله
تعالى : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الموت ، والمعنى : لا يعاجلكم بالعذاب. (قالُوا) للرّسل (إِنْ أَنْتُمْ) أي : ما أنتم (إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا) أي : ليس لكم علينا فضل ، والسلطان : الحجّة. قالت الرّسل
: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فاعترفوا لهم بذلك ، (وَلكِنَّ اللهَ
يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ) يعنون : بالنبوّة والرّسالة ، (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ
بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : ليس ذلك من قبل أنفسنا.
قوله تعالى : (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) فيه قولان : أحدهما : بيّن لنا رشدنا. والثاني : عرّفنا طريق التّوكّل. وإنما نصّ هذا وأمثاله على نبيّنا صلىاللهعليهوسلم ليقتدي بمن قبله في الصّبر وليعلم ما جرى لهم. قوله تعالى
: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) يعني : الكافرين بالرّسل. وقوله : (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : بعد هلاكهم. (ذلِكَ) الإسكان (لِمَنْ خافَ مَقامِي) قال ابن عباس : خاف مقامه بين يديّ. قال الفرّاء : العرب
قد
__________________
تضيف أفعالها إلى
أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : قد ندمت على ضربي إيّاك ، وندمت على ضربك ،
فهذا من ذاك ، ومثله (وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ) أي : رزقي إيّاكم. وقوله تعالى : (وَخافَ وَعِيدِ) أثبت ياء «وعيدي» في الحالين يعقوب ، وتابعه ورش في الوصل.
(وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ
صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ
كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))
قوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا) يعني : استنصروا. وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وحميد
، وابن محيصن : «واستفتحوا» بكسر التاء على الأمر. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الرّسل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. والثاني : أنهم الكفّار ، واستفتاحهم : سؤالهم العذاب ، كقولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) وقولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، هذا قول ابن زيد.
قوله تعالى : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ) قال ابن السّائب : خسر عند الدّعاء ، وقال مقاتل : خسر عند
نزول العذاب ، وقال أبو سليمان الدّمشقي : يئس من الإجابة. وقد شرحنا معنى الجبّار
والعنيد في سورة (هود) . قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِ
جَهَنَّمُ) فيه قولان :
أحدهما
: أنه بمعنى
القدّام ، قال ابن عباس ، يريد : أمامه جهنّم. وقال أبو عبيدة : «من ورائه» أي :
قدّامه ، يقال : الموت من ورائك ، وأنشد :
أترجو بنو مروان
سمعي وطاعتي
|
|
وقومي تميم
والفلاة ورائيا
|
والثاني
: أنها بمعنى : «بعد»
، قال ابن الأنباري : «من ورائه» أي : من بعد يأسه ، فدلّ «خاب» على اليأس ، فكنّى
عنه ، وحملت «وراء» على معنى : «بعد» كما قال النّابغة :
حلفت فلم أترك
لنفسك ريبة
|
|
وليس وراء الله
للمرء مذهب
|
أراد : ليس بعد
الله مذهب. قال الزّجّاج : والوراء يكون بمعنى الخلف والقدّام ، لأنّ ما بين يديك
وما قدّامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك ، قال الشاعر :
أليس ورائي إن
تراخت منيّتي
|
|
لزوم العصا تحنى
عليها الأصابع
|
قال : وليس الوراء
من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة. وسئل ثعلب : لم قيل : الوراء للإمام؟ فقال :
الوراء : اسم لما توارى عن عينك ، سواء أكان أمامك أو خلفك. وقال الفرّاء : إنما
يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدّهر ، تقول : وراءك برد شديد ، وبين
يديك برد شديد. ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك : هو وراءك ، ولا للرجل وراءك
: هو بين يديك.
قوله تعالى : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) قال عكرمة ، ومجاهد ، واللغويون : الصّديد : القيح والدّم
،
__________________
قاله قتادة ، وهو
ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه. وقال القرظيّ : هو غسالة أهل النار ، وذلك ما
يسيل من فروج الزّناة. وقال ابن قتيبة : المعنى : يسقى الصّديد مكان الماء ، قال :
ويجوز أن يكون على التشبيه ، أي : ما يسقى ماء كأنه صديد. قوله تعالى : (يَتَجَرَّعُهُ) والتّجرّع : تناول المشروب جرعة جرعة ، لا في مرّة واحدة ،
وذلك لشدة كراهته له ، وإنما يكره على شربه. قوله تعالى : (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) قال الزّجّاج : لا يقدر على ابتلاعه ، تقول : ساغ لي الشيء
، وأسغته.
(٨٣٨) وروى أبو
أمامة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يقرّب إليه فيكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه
ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره».
قوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي : همّ الموت وكربه وألمه (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : من كلّ شعرة في جسده ، رواه عطاء عن ابن عباس. وقال سفيان
الثّوريّ : من كلّ عرق. وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه
فتموت ولا ترجع إلى مكانها فتجد راحة. والثاني : من كلّ جهة ، من فوقه وتحته وعن يمينه وشماله وخلفه
وقدّامه ، قاله ابن عباس أيضا. والثالث
: أنها البلايا
التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتا ، قاله الأخفش. قوله تعالى : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي : موتا تنقطع معه الحياة. (وَمِنْ وَرائِهِ) أي : من بعد هذا العذاب. قال ابن السّائب : من بعد الصّديد
(عَذابٌ غَلِيظٌ). وقال إبراهيم التّيميّ : بعد الخلود في النار. والغليظ :
الشّديد.
(مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ (١٨))
قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) قال الفرّاء : أضاف المثل إليهم ، وإنما المثل للأعمال ،
فالمعنى : مثل أعمال الذين كفروا. ومثله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي : ترى وجوههم. وجعل العصوف تابعا لليوم في إعرابه ،
وإنما العصوف للرّيح ، وذلك جائز على جهتين :
____________________________________
(٨٣٨) حديث حسن ،
أو يقرب من الحسن بمجموع طرقه وشواهده ، أخرجه الترمذي ٢٥٨٣ والنسائي في «التفسير»
٢٨٣ ، وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» ٣١٤ ، وأحمد ٥ / ٢٦٥ والحاكم ١ / ٣٥١ ،
والطبري ٢٠٦٣٢ ، والبيهقي في «البعث» ٦٠٢ ، رووه من طرق عن ابن المبارك به ، وصححه
الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي! وهو ضعيف لضعف ابن بسر. وقال الترمذي : هذا
حديث غريب ، وهكذا قال البخاري عن عبيد الله بن بسر ، ولا نعرف عبيد الله بن بسر
إلا في هذا الحديث. وله شاهد من حديث أبي سعيد ، أخرجه أحمد ٣ / ٧٠ ، وابن حبان
٣٤٧٣ ، وإسناده ضعيف ، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم. وله شاهد من حديث أبي
هريرة ، أخرجه البيهقي في «البعث ٥٧٩ ، وفيه دراج ، لكن رواه عن غير أبي الهيثم ،
فالإسناد لا بأس به. الخلاصة : هذا الحديث بشواهده يصير حسنا ، أو قريبا من الحسن
، والآية تشهد لبعضه ، وهناك آيات تشهد لبعضه الآخر ، والحديث في الترهيب ، ومذهب
ابن المبارك وأحمد وغيرهما التساهل في هذا الباب ، والله أعلم.
__________________
إحداهما : أنّ العصوف ، وإن كان للريح ، فإنّ اليوم يوصف به ، لأنّ
الريح فيه تكون ، فجاز أن تقول : يوم عاصف ، كما تقول : يوم بارد ، ويوم حارّ.
والوجه الآخر : أن تريد : في يوم عاصف الرّيح ، فتحذف الرّيح ، لأنها قد ذكرت في
أول الكلام ؛ قال الشاعر :
وتضحك عرفان
الدّروع جلودنا
|
|
إذا كان يوم
مظلم الشّمس كاسف
|
يريد : كاسف
الشّمس. وروي عن سيبويه أنه قال : في هذه الآية إضمار ، والمعنى : وممّا نقصّ عليك
مثل الذين كفروا ، ثم ابتدأ فقال : (أَعْمالُهُمْ
كَرَمادٍ). وقرأ النّخعيّ ، وابن يعمر ، والجحدريّ : «في يوم عاصف»
بغير تنوين اليوم. قال المفسّرون : ومعنى الآية : أنّ كلّ ما يتقرّب به المشركون
يحبط ولا ينتفعون به ، كالرّماد الذي سفته الرّيح فلا يقدر على شيء منه ، فهم لا
يقدرون ممّا كسبوا في الدنيا على شيء في الآخرة ، أي : لا يجدون ثوابه ، (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) من النّجاة.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) فيه قولان : أحدهما : أنّ معناه : ألم تخبر ، قاله ابن السّائب. والثاني : ألم تعلم ، قاله مقاتل ، وأبو عبيدة.
قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِ) قال المفسّرون : أي : لم يخلقهنّ عبثا ، وإنما خلقهنّ لأمر
عظيم. (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ) قال ابن عباس : يريد : يميتكم يا معشر الكفّار ويخلق قوما
غيركم خيرا منكم وأطوع ، وهذا خطاب لأهل مكّة.
قوله تعالى : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي : بممتنع متعذّر.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا
لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما
لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))
قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) لفظه لفظ الماضي ، ومعناه المستقبل ، والمعنى : خرجوا من
قبورهم يوم البعث ، واجتمع التّابع والمتبوع ، (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) وهم المتبوعون : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً) قال الزّجّاج : هو جمع تابع ، يقال : تابع وتبع ، مثل :
غائب وغيب ، والمعنى : تبعناكم فيما دعوتمونا إليه.
قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) أي : دافعون عنّا (مِنْ عَذابِ اللهِ
مِنْ شَيْءٍ). قال القتادة : (لَوْ هَدانَا اللهُ) أي : لو أرشدنا في الدنيا لأرشدناكم ، يريدون : أنّ الله
أضلّنا فدعوناكم إلى الضّلال ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا
أَمْ صَبَرْنا) قال ابن زيد : إنّ أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا نبكي
ونتضرّع ، فإنما أدرك أهل الجنّة الجنّة ببكائهم وتضرّعهم ، فبكوا وتضرّعوا ،
فلمّا رأوا ذلك لا ينفعهم ، قالوا : تعالوا نصبر ، فإنما أدرك أهل الجنّة بالصّبر
، فصبروا صبرا لم ير مثله قطّ ، فلم ينفعهم ذلك ، فعندها قالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ
صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ). وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال : جزعوا مائة سنة ،
وصبروا مائة سنة. وقال مقاتل : جزعوا خمسمائة عام ، وصبروا خمسمائة عام. وقد
شرحنا معنى المحيص
في سورة النّساء .
(وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها
سَلامٌ (٢٣))
قوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ) قال المفسّرون : يعني به إبليس ، (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي : فرغ منه ، فدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النّار
النّار ، فحينئذ يجتمع أهل النار باللّوم على إبليس ، فيقوم فيما بينهم خطيبا
ويقول : (إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) أي : وعدكم كون هذا اليوم فصدقكم (وَوَعَدْتُكُمْ) أنه لا يكون (فَأَخْلَفْتُكُمْ) الوعد (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : ما أظهرت لكم حجّة على ما ادّعيت. وقال بعضهم : ما
كنت أملككم فأكرهكم (إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ) وهذا من الاستثناء المنقطع ، والمعنى : لكن دعوتكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث أجبتموني من غير برهان ، (ما أَنَا
بِمُصْرِخِكُمْ) أي : بمغيثكم (وَما أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَ) أي : بمغيثيّ. قرأ حمزة «بمصرخيّ» فحرّك الياء إلى الكسر ،
وحرّكها الباقون إلى الفتح. قال قطرب : هي لغة في بني يربوع ؛ يعني : قراءة حمزة.
قال اللغويون : يقال : استصرخني فلان فأصرخته ، أي : استغاثني فأغثته. (إِنِّي كَفَرْتُ) اليوم بإشراككم إيّاي في الدنيا مع الله في الطاعة ، (إِنَّ الظَّالِمِينَ) يعني : المشركين. قوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : بأمر ربّهم. وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها
سَلامٌ) قد ذكرناه في سورة يونس .
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها
وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥))
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً) ، قال المفسرون : ألم تر بعين قلبك كيف ضرب الله مثلا أي :
بيّن شبها ، (كَلِمَةً طَيِّبَةً) قال ابن عباس : هي شهادة أن لا إله إلّا الله. (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي : طيّبة الثّمرة ، فترك ذكر الثّمرة اكتفاء بدلالة
الكلام عليه. وفي هذه الشّجرة ثلاثة أقوال : أحدها : أنها النّخلة.
(٨٣٩) وهو في (الصّحيحين)
من حديث ابن عمر عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقد رواه سعيد بن جبير عن
____________________________________
(٨٣٩) صحيح. أخرجه
البخاري ٦١ ومسلم ٢٨١١ ، والترمذي ٢٨٦٧ ، وأحمد ٢ / ٦١ و ١٥٧ و ٢ / ٣١ و ٢ / ١٢ و
١١٥ ، والحميدي ٦٧٦ ، وابن مندة في «الإيمان» ١٩٠ ، وابن حبان ٢٤٦ و ٢٤٣ و ٢٤٤.
واللفظ عند البخاري : عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم ،
حدّثوني ما هي؟» قال : فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله : فوقع في نفسي
أنها النخلة. ثم قالوا : حدّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال : «هي النخلة».
__________________
ابن عباس ، وبه
قال ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضّحّاك في آخرين.
والثاني
: أنها شجرة في
الجنّة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والثالث : أنها المؤمن ، وأصله الثّابت أنه يعمل في الأرض ويبلغ عمله
السماء. وقوله عزوجل : (تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ) فالمؤمن يذكر الله كلّ ساعة من النهار ، ورواه عطيّة عن
ابن عباس.
قوله تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ) أي : في الأرض ، (وَفَرْعُها) أعلاها عال (فِي السَّماءِ) أي : نحو السّماء ، وأكلها : ثمرها.
وفي الحين ها هنا
ستة أقوال : أحدها
: أنه ثمانية أشهر
، قاله عليّ عليهالسلام. والثاني
: ستة أشهر ، رواه
سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، وقتادة. والثالث : أنه بكرة وعشيّة ، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والرابع : أنه السّنة ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال مجاهد ، وابن
زيد. والخامس
: أنه شهران ، قاله
سعيد بن المسيّب. والسادس
: أنه غدوة وعشيّة
وكلّ ساعة ، قاله ابن جرير. فمن قال : ثمانية أشهر ، أشار إلى مدّة حملها باطنا
وظاهرا ، ومن قال : ستة أشهر ، فهي مدّة حملها إلى حين صرامها ، ومن قال : بكرة
وعشيّة ، أشار إلى الاجتناء منها ، ومن قال : سنة ، أشار إلى أنها لا تحمل في
السّنة إلّا مرّة ، ومن قال : شهران ، فهو مدّة صلاحها. قال ابن المسيّب : لا يكون
في النّخلة أكلها إلّا شهرين. ومن قال : كلّ ساعة ، أشار إلى أنّ ثمرتها تؤكل
دائما. قال قتادة : تؤكل ثمرتها في الشتاء والصّيف. وقال ابن جرير : الطّلع في
الشتاء من أكلها ، والبلح والبسر والرّطب والتّمر في الصّيف.
فأمّا الحكمة في
تمثيل الإيمان بالنّخلة ، فمن أوجه : أحدها : أنها شديدة الثّبوت ، فشبّه ثبات الإيمان في قلب المؤمن
بثباتها. والثاني
: أنها شديدة
الارتفاع ، فشبّه ارتفاع عمل المؤمن بارتفاع فروعها. والثالث : أنّ ثمرتها تأتي في كلّ حين ، فشبّه ما يكسب المؤمن من
بركة الإيمان وثوابه في كلّ وقت بثمرتها المجتناة في كلّ حين على اختلاف صنوفها ،
فالمؤمن كلّما قال : لا إله إلّا الله ، صعدت إلى السماء ، ثم جاءه خيرها ومنفعتها.
والرابع
: أنها أشبه الشّجر
بالإنسان ، فإنّ كلّ شجرة يقطع رأسها تتشعّب غصونها من جوانبها ، إلّا هي ، إذا
قطع رأسها يبست ، ولأنها لا تحمل حتى تلقّح ، ولأنها فضلة تربة آدم عليهالسلام فيما يروى .
__________________
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ
قَرارٍ (٢٦))
قوله تعالى : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) قال ابن عباس : هي الشّرك.
وقوله عزوجل : (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) فيها خمسة أقوال : أحدها :
(٨٤٠) أنها
الحنظلة ، رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وبه قال أنس ، ومجاهد .
والثاني
: أنها الكافر ،
رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وروى العوفيّ عنه أنه قال : الكافر لا يقبل عمله
، ولا يصعد إلى الله تعالى ، فليس له أصل في الأرض ثابت ، ولا فرع في السماء. والثالث : أنها الكشوثى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والرابع : أنه مثل ، وليست بشجرة مخلوقة ، رواه أبو ظبيان عن ابن
عباس. والخامس
: أنها الثّوم ،
روي عن ابن عباس أيضا.
قوله تعالى : (اجْتُثَّتْ) قال ابن قتيبة : استؤصلت وقطعت. قال الزّجّاج : ومعنى
اجتثّ الشيء في اللغة : أخذت جثّته بكمالها. وفي قوله تعالى : (ما لَها مِنْ قَرارٍ) قولان :
أحدهما
: مالها من أصل ،
لم تضرب في الأرض عرقا. والثاني
: مالها من ثبات.
ومعنى تشبيه
الكافر بهذه الشجرة أنه لا يصعد للكافر عمل صالح ، ولا قول طيّب ، ولا لقوله أصل
ثابت.
(يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))
قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : يثبّتهم على الحقّ بالقول الثّابت ، وهو شهادة أن لا
إله إلّا الله. قوله تعالى : (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ الحياة الدنيا : زمان الحياة على وجه الأرض ، والآخرة
: زمان المساءلة في القبر ، وإلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب ، وفيه أحاديث
تعضده. والثاني
: أنّ الحياة
الدنيا : زمن السؤال في القبر ، والآخرة : السّؤال في القيامة ، وإلى هذا المعنى
ذهب طاوس ، وقتادة.
____________________________________
(٨٤٠) أخرجه
الترمذي ٣١١٩ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٦٢ ، و «التفسير» ٢٨٢ ، وأبو يعلى ٤١٦٥ ،
والحاكم ٢ / ٣٥٢ ، والطبري ٢٠٦٦٩ و ٢٠٦٧٠ عن حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن
أنس مرفوعا. وإسناده صحيح ، حماد من رجال مسلم ، وشيخه روى له الشيخان ، لكن أعله
الترمذي بالوقف حيث قال : وروى غير واحد مثل هذا موقوفا ، ولا نعلم أحدا رفعه غير
حماد بن سلمة ، ورواه معمر وحماد بن زيد وغير واحد فلم يرفعوه. وأخرجه الطبري
٢٠٦٦٨ من طريق ابن علية و ٢٠٦٧٢ من طريق مهدي بن ميمون كلاهما عن شعيب به موقوفا.
انظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٣٠٨ بتخريجنا.
__________________
قال المفسّرون :
هذه الآية وردت في فتنة القبر ، وسؤال الملكين ، وتلقين الله تعالى للمؤمنين كلمة
الحقّ عند السؤال ، وتثبيته إيّاهم على الحقّ . (وَيُضِلُّ اللهُ
الظَّالِمِينَ) يعني : المشركين ، يضلّهم عن هذه الكلمة ، (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من هداية المؤمن وإضلال الكافر.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ
الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩))
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) في المشار إليهم سبعة أقوال :
أحدها
: أنهم الأفجران من
قريش : بنو أميّة ، وبنو المغيرة ، روي عن عمر بن الخطّاب ، وعليّ بن أبي طالب. والثاني : أنهم منافقو قريش ، رواه أبو الطّفيل عن عليّ. والثالث : بنو أميّة ، وبنو المغيرة ، ورؤساء أهل بدر الذين ساقوا
أهل بدر إلى بدر ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : أهل مكّة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والخامس : المشركون من أهل بدر ، قاله مجاهد ، وابن زيد. والسادس : أنهم الذين قتلوا ببدر من كفّار قريش ، قاله سعيد بن جبير
، وأبو مالك. والسابع
: أنها عامّة في
جميع المشركين ، قاله الحسن.
قال المفسّرون :
وتبديلهم نعمة الله كفرا ، أنّ الله أنعم عليهم برسوله ، وأسكنهم حرمه ، فكفروا
بالله وبرسوله ، ودعوا قومهم إلى الكفر به ، فذلك قوله عزوجل : (وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي : الهلاك. ثم فسّر الدّار بقوله تعالى : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي : يقاسون حرّها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي : بئس المقرّ هي.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى
النَّارِ (٣٠))
قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) قد بيّنّاه في سورة البقرة ، واللام في «ليضلّوا» لام العاقبة ، وقد سبق شرحها ، ومن قرأ «ليضلوا» بضمّ الياء ، أراد : ليضلّوا الناس عن
دين الله. قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا) أي : في حياتكم الدنيا ، وهذا وعيد لهم. قال ابن عباس : لو
كان الكافر مريضا لا ينام ، جائعا لا يأكل ولا يشرب ، لكان هذا نعيما يتمتّع به
بالقياس إلى ما يصير إليه من العذاب ، ولو كان المؤمن في أنعم عيش لكان بؤسا عند
ما يصير إليه من نعيم الآخرة.
(قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ
__________________
رِزْقاً
لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ
لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما
سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ
آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦))
قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أسكن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ياء «عبادي».
قوله تعالى : (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن الأنباري : معناه : قل لعبادي : أقيموا الصلاة
وأنفقوا ، يقيموا وينفقوا ، فحذف الأمران ، وترك الجوابان ، قال الشاعر :
فأيّ امرئ أنت
أيّ امرئ
|
|
إذا قيل في
الحرب من يقدم
|
أراد : إذا قيل :
من يقدم تقدم. ويجوز أن يكون المعنى : قل لعبادي أقيموا الصلاة ، وأنفقوا ، فصرف
عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر. ويجوز أن يكون المعنى : قل لهم ليقيموا الصلاة ،
ولينفقوا ، فحذف لام الأمر ، لدلالة «قل» عليها. قال ابن قتيبة : والخلال مصدر
خاللت فلانا خلالا ومخالّة ، والاسم الخلّة ، وهي الصّداقة.
قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) أي : ذلّلها ، تجري حيث تريدون ، وتركبون فيها حيث تشاؤون.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما (دائِبَيْنِ) في إصلاح ما يصلحانه من النّبات وغيره ، لا يفتران. ومعنى
الدّؤوب : مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه. (وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ) لتسكنوا فيه ، راحة لأبدانكم ، (وَالنَّهارَ) لتنتفعوا بمعاشكم ، (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ) وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : من كلّ الذي سألتموه ، قاله الحسن وعكرمة. والثاني : من كلّ ما سألتموه لو سألتموه ، قاله الفرّاء. والثالث : وآتاكم من كلّ شيء سألتموه شيئا ، فأضمر الشيء ، كقوله
تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) أي ، من كلّ شيء في زمانها شيئا ، قاله الأخفش. والرابع : من كلّ ما سألتموه وما لم تسأله لأنّكم لم تسألوا شمسا ولا
قمرا ولا كثيرا من النّعم التي ابتدأكم بها ، فاكتفي بالأول من الثاني ، كقوله عزوجل : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) ، قاله ابن الأنباري. والخامس : على قراءة ابن مسعود ، وأبي رزين والحسن وعكرمة وقتادة
وأبان عن عاصم وأبي حاتم عن يعقوب : «من كل ما» بالتنوين من غير إضافة ، فالمعنى :
آتاكم من كلّ ما لم تسألوه ، قاله قتادة والضّحّاك.
قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ) أي : إنعامه (لا تُحْصُوها) لا تطيقوا الإتيان على جميعها بالعدّ لكثرتها. (إِنَّ الْإِنْسانَ) قاله ابن عباس : يريد أبا جهل. وقال الزّجّاج : الإنسان
اسم للجنس يقصد به الكافر خاصّة. وقوله تعالى : (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) الظّلوم هاهنا : الشّاكر غير من أنعم عليه ، والكفّار : الجحود
لنعم الله تعالى.
__________________
قوله تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) قد سبق تفسيره في سورة البقرة .
قوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) أي : جنّبني وإيّاهم ، والمعنى : ثبّتني على اجتناب
عبادتها. (رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) يعني : الأصنام ، وهي لا توصف بالإضلال ولا بالفعل ،
ولكنّهم لمّا ضلّوا بسببها ، كانت كأنّها أضلّتهم. (فَمَنْ تَبِعَنِي) أي : على ديني التّوحيد (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : فهو على ملّتي ، (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ومن عصاني ثمّ تاب فإنك غفور رحيم ، قاله السّدّيّ. والثاني : ومن عصاني فيما دون الشّرك ، قاله مقاتل بن حيّان. والثالث : ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إلى
التّوحيد ، قاله مقاتل بن سليمان. وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون دعا بهذا قبل
أن يعلمه الله تعالى أنه لا يغفر الشّرك كما استغفر لأبيه.
(رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧))
قوله تعالى : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي) في «من» قولان : أحدهما : أنها للتّبعيض ، قاله الأخفش ، والفرّاء. والثاني : أنها للتوكيد ، والمعنى : أسكنت ذرّيّتي ، ذكره ابن
الأنباري.
قوله تعالى : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يعني : مكّة ، ولم يكن فيها حرث ولا ماء. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إنما سمّي محرّما ، لأنه يحرم استحلال حرماته والاستخفاف
بحقّه. فإن قيل : ما وجه قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ) ولم يكن هناك بيت
حينئذ ، إنما بناه إبراهيم بعد ذلك بمدّة؟ فالجواب من ثلاثة وجوه : أحدها : أنّ الله تعالى حرّم موضع البيت منذ خلق السّماوات والأرض
، قاله ابن السّائب. والثاني
: عند بيتك الذي
كان قبل أن يرفع أيام الطّوفان. والثالث
: عند بيتك الذي قد
جرى في سابق علمك أنه يحدث هاهنا ، ذكرهما ابن جرير .
وكان أبو سليمان
الدّمشقي يقول : ظاهر الكلام يدلّ على أنّ هذا الدّعاء إنما كان بعد أن بني البيت
وصارت مكّة بلدا. والمفسّرون على خلاف ما قال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنّ
إبراهيم خرج من الشّام ومعه ابنه إسماعيل وأمّه هاجر ومعه جبريل حتى قدم مكّة وبها
ناس يقال لهم : العماليق ، خارجا من مكّة ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فقال
إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم ؛ فأنزلهما في مكان من الحجر ،
وأمر هاجر أن تتّخذ فيه عريشا ، ثم قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي) الآية وفتح أهل الحجاز ، وأبو عمرو ياء «إني أسكنت».
قوله تعالى : (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) في متعلّق هذه اللام قولان : أحدهما : أنها تتعلّق بقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، فالمعنى : جنّبهم الأصنام ليقيموا الصّلاة ، هذا قول
مقاتل. والثاني
: أنها تتعلّق بقوله
تعالى : (أَسْكَنْتُ) ، فالمعنى : أسكنتهم عند بيتك ليقيموا الصلاة ، لأنّ البيت
قبلة الصّلوات ، ذكره الماوردي. قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ) ، فيه قولان : أحدهما : أنها القلوب ، قاله الأكثرون. قال ابن الأنباري : وإنّما
عبّر عن القلوب بالأفئدة ، لقرب القلب من الفؤاد
__________________
ومجاورته ، قال
امرؤ القيس :
رمتني بسهم أصاب
الفؤاد
|
|
غداة الرّحيل
فلم أنتصر
|
وقال آخر :
كأنّ فؤادي
كلّما مرّ راكب
|
|
جناح غراب رام
نهضا إلى وكر
|
وقال آخر :
وإنّ فؤادا
قادني لصبابة
|
|
إليك على طول
الهوى لصبور
|
يعنون بالفؤاد :
القلب. والقول
الثاني : أنّ المراد
بالأفئدة الجماعة من الناس. قاله الزّجّاج.
قوله تعالى : (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس : تحنّ إليهم. وقال قتادة : تنزع إليهم. وقال
الفرّاء : تريدهم ، كما تقول : رأيت فلانا يهوي نحوك ، أي : يريدك. وقرأ بعضهم : «تهوى
إليهم» بمعنى : تهواهم ، كقوله : (رَدِفَ لَكُمْ) ، أي : ردفكم. و «إلى» توكيد للكلام. وقال ابن الأنباري : «تهوي»
: تنحطّ إليهم وتنحدر. وفي معنى هذا الميل قولان : أحدهما : أنه الميل إلى الحجّ ، قاله الأكثرون. والثاني : أنه حبّ سكنى مكّة ، رواه عطيّة عن ابن عباس. وروى سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال : لو كان إبراهيم قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ،
لحجّة اليهود والنّصارى ، ولكنه قال : من النّاس.
(رَبَّنا إِنَّكَ
تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨))
قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي) قال أبو صالح عن ابن عباس : ما نخفي من الوجد بمفارقة إسماعيل
، وما نعلن من الحبّ له. قال المفسّرون : إنما قال هذا لمّا نزل إسماعيل الحرم ،
وأراد فراقه.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي
رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠))
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
عَلَى الْكِبَرِ) أي : بعد الكبر (إِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ) قال ابن عباس : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين ، وولد
له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. قوله تعالى : (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وهبيرة عن حفص عن عاصم
: «وتقبّل دعائي» بياء في الوصل. وقال البزّي عن ابن كثير : يصل ويقف بياء. وقال
قنبل عن ابن كثير : يشمّ الياء في الوصل ، ولا يثبتها ، ويقف عليها بالألف.
الباقون «دعاء» بغير ياء في الحالين. قال أبو عليّ : الوقف والوصل بياء هو القياس
، والإشمام جائز ، لدلالة الكسرة على الياء.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))
قوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) قال ابن الأنباري : استغفر لأبويه وهما حيّان ، طمعا في أن
يهديا إلى الإسلام. وقيل : أراد بوالديه : آدم ، وحوّاء. وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ ،
والنّخعيّ ، والزّهريّ : «ولولديّ» يعني : إسماعيل وإسحاق ، يدلّ عليه ذكرهما قبل
ذلك. وقرأ مجاهد : «ولوالدي» على
__________________
التّوحيد. وقرأ
عاصم الجحدريّ : «ولولدي» بضمّ الواو. وقرأ يحيى بن يعمر ، والجوني : «ولولدي»
بفتح الواو وكسر الدال على التّوحيد. (يَوْمَ يَقُومُ
الْحِسابُ) أي : يظهر الجزاء على الأعمال. وقيل : معناه : يوم يقوم
الناس للحساب. ، فاكتفي بذكر الحساب من ذكر الناس إذ كان المعنى مفهوما.
(وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣))
قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) قال ابن عباس : هذا وعيد للظّالم ، وتعزية للمظلوم.
قوله تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو رزين ، وقتادة : «نؤخرهم»
بالنون ، أي : يؤخّر جزاءهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : تشخص أبصار الخلائق لظهور الأحوال فلا تغتمض.
قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن الإهطاع : النّظر من غير أن يطرف النّاظر ، رواه
العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والضّحّاك ، وأبو الضّحى. والثاني : أنه الإسراع ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وأبو
عبيدة. وقال ابن قتيبة : يقال : أهطع البعير في سيره ، واستهطع : إذا أسرع. وفي ما
أسرعوا إليه قولان : أحدهما
: إلى الدّاعي ،
قاله قتادة. والثاني
: إلى النار ، قاله
مقاتل. والثالث
: أنّ المهطع :
الذي لا يرفع رأسه ، قاله ابن زيد.
وفي قوله تعالى : (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) قولان : أحدهما
: رافعي رؤوسهم ،
رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وأبو عبيدة
، وأنشد أبو عبيدة :
أنغض نحوي رأسه
وأقنعا
|
|
كأنّما أبصر
شيئا أطمعا
|
وقال ابن قتيبة :
المقنع رأسه : الذي رفعه وأقبل بطرفه على ما بين يديه. وقال الزّجّاج : رافعي
رؤوسهم ، ملتصقة بأعناقهم. و «مهطعين مقنعي رؤوسهم» نصب على الحال ، المعنى : ليوم
تشخص فيه أبصارهم مهطعين. والثاني
: ناكسي رؤوسهم ،
حكاه الماوردي عن المؤرّج.
قوله تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي : لا ترجع إليهم أبصارهم من شدّة النّظر ، فهي شاخصة. قال
ابن قتيبة : والمعنى : أن نظرهم إلى شيء واحد ، وقال الحسن : وجوه الناس يوم
القيامة إلى السماء ، لا ينظر أحد إلى أحد.
قوله تعالى : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) الأفئدة : مساكن القلوب. وفي معنى الكلام أربعة أقوال :
أحدها
: أنّ القلوب خرجت
من مواضعها فصارت في الحناجر ، رواه عطاء عن ابن عباس. وقال قتادة : خرجت من
صدورهم فنشبت في حلوقهم ، فأفئدتهم هواء ليس فيها شيء.
والثاني
: وأفئدتهم ليس
فيها شيء من الخير ، فهي كالخربة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.
والثالث
: وأفئدتهم منخرقة
لا تعي شيئا ، قاله مرّة بن شراحيل. وقال الزّجّاج : متخرّقة لا تعي
__________________
شيئا من الخوف. والرابع : وأفئدتهم جوف لا عقول لها ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لحسّان
:
ألا أبلغ أبا
سفيان عنّي
|
|
فأنت مجوّف نخب
هواء
|
فعلى هذا يكون
المعنى : أنّ قلوبهم خلت عن العقول لما رأوا من الهول ، والعرب تسمّي كلّ أجوف خاو
هواء. قال ابن قتيبة : ويقال : أفئدتهم منخوبة من الخوف والجبن.
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤))
قوله تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) أي : خوّفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذابُ) يعني به يوم القيامة ؛ وإنما خصّه بذكر العذاب ، وإن كان
فيه ثواب ، لأنّ الكلام خرج مخرج التّهديد للعصاة. قال ابن عباس : يريد بالناس
هاهنا : أهل مكّة. قوله تعالى : (فَيَقُولُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا) أي : أشركوا (رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي : أمهلنا مدّة يسيرة. وقال مقاتل : سألوا الرّجوع إلى
الدنيا ، لأنّ الخروج من الدنيا قريب. (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) يعني : التّوحيد ، فيقال لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ
قَبْلُ) أي : حلفتم في الدنيا أنّكم لا تبعثون ولا تنتقلون من
الدنيا إلى الآخرة.
(وَسَكَنْتُمْ فِي
مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))
قوله تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : نزلتم في أماكنهم وقراهم ، كالحجر ومدين ، والقرى
التي عذّب أهلها. ومعنى «ظلموا أنفسهم» ضرّوها بالكفر والمعصية. (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وأبو المتوكّل النّاجي «وتببّن»
بضمّ التاء. (كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ) يعني : كيف عذّبناهم ، يقول : فكان ينبغي لكم أن تنزجروا
عن المخالفة اعتبارا بمساكنهم بعد ما علمتم فعلنا بهم ، (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) قال ابن عباس : يريد الأمثال التي في القرآن.
(وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧))
قوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) في المشار إليهم أربعة أقوال :
أحدها
: أنه نمرود الذي
حاجّ إبراهيم في ربّه ، قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى السماء ، فأمر بفرخي نسر
فربّيا حتى سمنا واستعلجا ، ثم أمر بتابوت فنحت ، ثم جعل في وسطه خشبة ، وجعل على
رأس الخشبة لحما شديد الحمرة ، ثم جوّعهما وربط أرجلهما بأوتار إلى قوائم
التّابوت. ودخل هو وصاحب له في التّابوت وأغلق بابه ، ثم أرسلهما ، فجعلا يريدان
اللحم ، فصعدا في السماء ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه : افتح وانظر ما ذا ترى؟
ففتح ، فقال : أرى الأرض كأنّها الدّخان ، فقال له : أغلق ، ثم صعد ما شاء الله ،
ثم قال : افتح فانظر ، ففتح ، فقال : ما أرى إلّا السماء ، وما نزداد منها إلا
بعدا ، قال : فصوّب
خشبتك ، فصوّبها ،
فانقضّت النّسور تريد اللحم ، فسمعت الجبال هدّتها ، فكادت تزول عن مراتبها . هذا قول عليّ بن أبي طالب عليهالسلام. وفي رواية عنه : كانت النّسور أربعة. وروى السّدّيّ عن
أشياخه : أنه ما زال يصعد إلى أن رأى الأرض يحيط بها بحر ، فكأنّها فلكة في ماء ،
ثم صعد حتى وقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته ، ففزع ، فصوّب اللحم ،
فانقضّت النّسور ، فلمّا نزل أخذ في بناء الصّرح. وروي عن ابن عباس أنه بنى الصّرح
، ثم صعد منه مع النّسور ، فلمّا لم يقدر على السماء ، اتّخذه حصنا ، فأتى الله
بنيانه من القواعد. وقال عكرمة : كان معه في التّابوت غلام قد حمل القوس والنّشّاب
، فرمى بسهم فعاد إليه ملطّخا بالدّم ، فقال : كفيت إله السماء ، وذلك من دم سمكة
في بحر معلّق في الهواء ، فلمّا هاله الارتفاع ، قال لصاحبه : صوّب الخشبة ،
فصوّبها ، فانحطت النّسور ، فظنّت الجبال أنه أمر نزل من السماء فزالت عن مواضعها.
وقال غيره : لمّا رأت الجبال ذلك ، ظنّت أنه قيام السّاعة ، فكادت تزول ، وإلى هذا
المعنى ذهب سعيد بن جبير ، وأبو مالك.
والقول
الثاني : أنه بخت نصّر ،
وأنّ هذه القصة له جرت ، وأنّ النسور لمّا ارتفعت تطلب اللحم إلى حيث شاء الله ،
نودي : يا أيّها الطّاغية ، أين تريد؟ ففرق ، ثم سمع الصوت فوقه ، فنزل ، فلمّا
رأت الجبال ذلك ، ظنّت أنه قيام الساعة فكادت تزول ، وهذا قول مجاهد.
والثالث
: أنّ المشار إليهم
الأمم المتقدّمة. قال ابن عباس : وعكرمة : مكرهم : شركهم.
والرابع
: أنهم الذين مكروا
برسول الله صلىاللهعليهوسلم حين همّوا بقتله وإخراجه.
وفي قوله تعالى : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) قولان : أحدهما
: أنه محفوظ عنده
حتى يجازيهم به ، قاله الحسن ، وقتادة. والثاني : وعند الله جزاء مكرهم.
قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) وقرأ أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وابن
عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية : «وإن كاد مكرهم» بالدال ، (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) وقرأ الأكثرون «لتزول» بكسر اللام الأولى من «لتزول» وفتح
الثانية. أراد : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : هو أضعف وأوهن ، كذلك فسّرها
الحسن البصريّ. وقرأ الكسائيّ «لتزول» بفتح اللام الأولى وضمّ الثانية ، أراد : قد
كادت الجبال تزول من مكرهم ، كذلك فسّرها ابن الأنباري. وفي المراد بالجبال قولان
: أحدهما
: أنها الجبال
المعروفة ، قاله الجمهور. والثاني
: أنها ضربت مثلا
لأمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وثبوت دينه كثبوت الجبال الرّاسية ، والمعنى : لو بلغ
كيدهم إلى إزالة الجبال ، لما زال أمر الإسلام ، قاله الزّجّاج. قال أبو عليّ :
ويدلّ على صحّة هذا قوله عزوجل : (فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) أي : فقد وعدك الظهور عليهم ، قال ابن عباس : يريد بوعده :
النّصر والفتح وإظهار الدّين. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي : منيع (ذُو انتِقامٍ) من الكافرين ، وهو أن يجازيهم بالعقوبة على كفرهم.
(يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ (٤٨))
قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ) وروى أبان «يوم نبدّل» بالنون وكسر الدال «الأرض»
__________________
بالنّصب ، «والسماوات»
بخفض التاء ، ولا خلاف في نصب «غير». وفي معنى تبديل الأرض قولان : أحدهما : أنها تلك الأرض ، وإنّما يزاد فيها وينقص منها ، وتذهب
آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها ، وتمدّ مدّ الأديم ، روى هذا المعنى أبو صالح عن
ابن عباس.
(٨٤١) وقد روى أبو
هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : «يبسطها ويمدّها مدّ الأديم».
والثاني
: أنها تبدّل
بغيرها. ثم فيه أربعة أقوال : أحدها
: أنها تبدّل بأرض
غيرها بيضاء كالفضّة لم يعمل عليها خطيئة ، رواه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ،
وعطاء عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثاني : أنها تبدّل نارا ، قاله أبيّ بن كعب. والثالث : أنها تبدّل بأرض من فضّة ، قاله أنس بن مالك. والرابع : تبدّل بخبزة بيضاء ، فيأكل المؤمن من تحت قدميه ، قاله أبو
هريرة ، وسعيد بن جبير ، والقرظيّ. وقال غيرهم : يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغ
من حسابهم.
فأمّا تبديل
السّماوات ، ففيه ستة أقوال : أحدها
: أنها تجعل من ذهب
، قاله عليّ عليهالسلام. والثاني
: أنها تصير جنانا
، قاله أبيّ بن كعب. والثالث
: أنّ تبديلها :
تكوير شمسها وتناثر نجومها ، قاله ابن عباس. والرابع : أنّ تبديلها : اختلاف أحوالها ، فمرّة كالمهل ، ومرّة تكون
كالدّهان ، قاله ابن الأنباري. والخامس
: أنّ تبديلها أن
تطوى كطيّ السّجلّ للكتاب. والسادس
: أن تنشق فلا تظلّ
، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي : خرجوا من القبور.
(وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١))
قوله تعالى : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) يعني : الكفّار (مُقَرَّنِينَ) يقال : قرنت الشيء إلى الشيء : إذا
____________________________________
(٨٤١) ضعيف. هو
بعض حديث الصور ، أخرجه الطبراني في «الطوال» ٣٦ ، وأبو الشيخ في «العظمة» ٣٨٨ و ٣٨٩
و ٣٩٠ ، والبيهقي في «البعث» ٦٦٨ و ٦٦٩ ، والطبري ٢ / ٣٣٠ و ٣٣١ و ٢٠٩٦٢ من طرق عن
إسماعيل بن رافع تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة.
وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن يزيد بن أبي
زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة. وتارة عن محمد بن كعب القرظي
عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع ، ولم
يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد ، وهو واه. وانظر مزيد الكلام عليه في سورة
الأنعام عند الآية : ٧٣.
__________________
وصلته به. وفي
معنى «مقرّنين» ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم يقرّنون مع
الشّياطين ، قاله ابن عباس. والثاني
: أنّ أيديهم
وأرجلهم قرنت إلى رقابهم ، قاله ابن زيد. والثالث : يقرّن بعضهم إلى بعض ، قاله ابن قتيبة. وفي الأصفاد ثلاثة
أقوال : أحدها
: أنها الأغلال ،
قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزّجّاج ، وابن الأنباري.
والثاني
: القيود والأغلال
، قاله قتادة. والثالث
: القيود ، قاله
أبو سليمان الدّمشقي. فأمّا السّرابيل ، فقال أبو عبيدة : هي القمص ، واحدها
سربال. وقال الزّجّاج : السّربال : كلّ ما لبس. وفي القطران ثلاث لغات : فتح القاف
وكسر الطاء ، وفتح القاف مع تسكين الطاء ، وكسر القاف مع تسكين الطاء ، وفي معناه
قولان : أحدهما
: أنه النّحاس
المذاب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنه قطران الإبل ، قاله الحسن ، وهو شيء يتحلّب من شجر
تهنأ به الإبل. قال الزّجّاج : وإنما جعل لهم القطران ، لأنه يبالغ في اشتعال
النار في الجلود ، ولو أراد الله تعالى المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ، ولكنه
حذّرهم ما يعرفون حقيقته. وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وعكرمة ،
وقتادة ، وابن أبي عبلة ، وأبو حاتم عن يعقوب : «من قطر» بكسر القاف وسكون الطاء
والتنوين «آن» بقطع الهمزة وفتحها ومدّها. والقطر : النّحاس ، وآن : قد انتهى
حرّه. قوله تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) : أي تعلوها. واللام في (لِيَجْزِيَ) متعلّقة بقوله : (وَبَرَزُوا).
(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))
قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) في المشار إليه قولان : أحدهما : أنه القرآن. والثاني : الإنذار. والبلاغ : الكفاية. قال مقاتل : والمراد بالناس :
أهل مكّة.
قوله تعالى : (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي : أنزل لينذروا به ، وليعملوا بما فيه من الحجج (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ
وَلِيَذَّكَّرَ) أي : وليتّعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ).
سورة الحجر
وهي مكّيّة كلّها من غير خلاف نعلمه
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١))
قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قد سبق بيانه. قوله تعالى : (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) فيه قولان : أحدهما : أنّ القرآن : هو الكتاب ، جمع له بين الاسمين. والثاني : أنّ الكتاب : هو التّوراة والإنجيل ، والقرآن : كتابنا.
وقد ذكرنا في أوّل يوسف معنى المبين.
(رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢))
قوله تعالى : (رُبَما) وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ،
والكسائيّ «ربّما» مشدّدة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وعبد الوارث «ربما» بالتّخفيف. قال
الفرّاء : أسد وتميم يقولون : «ربّما» بالتشديد ، وأهل الحجاز وكثير من قيس يقولون
: «ربما» بالتّخفيف. قال الفرّاء : أسد وتميم يقولون : «ربّما» بالتشديد ، وأهل
الحجاز وكثير من قيس يقولون : «ربما» بالتخفيف. وتيم الرّباب يقولون : «ربّما»
بفتح الراء. وقيل : إنما قرئت بالتّخفيف ، لما فيها من التّضعيف ، والحروف
المضاعفة قد تحذف ، نحو «إنّ» و «لكنّ» فإنهم قد خفّفوها. قال الزّجّاج : يقولون :
ربّ رجل جاءني ، ورب رجل جاءني ، وأنشد :
أزهير إن يشب
القذال فإنّني
|
|
رب هيضل مرس
لففت بهيضل
|
هذا البيت لأبي
كبير الهذلي ، وفي ديوانه :
رب هيضل لجب لففت بهيضل
والهيضل : جمع
هيضلة ، وهي الجماعة يغرى بهم ، يقول لففتهم بأعدائهم في القتال.
و «ربّ» كلمة
موضوعة للتّقليل ، كما أنّ «كم» للتّكثير ، وإنما زيدت «ما» مع «ربّ» ليليها الفعل
، تقول : ربّ رجل جاءني ، وربّما جاءني زيد. وقال الأخفش : أدخل مع «ربّ» ما ،
ليتكلّم بالفعل بعدها ، وإن شئت جعلت «ما» بمنزلة «شيء» ، فكأنّك قلت : ربّ شيء ،
أي : ربّ ودّ يودّه الذين كفروا. وقال أبو سليمان الدّمشقي : «ما» ها هنا بمعنى «حين»
، فالمعنى : ربّ حين يودّون فيه. واختلف المفسّرون متى يقع هذا من الكفّار ، على
قولين :
أحدهما
: أنه في الآخرة.
ومتى يكون ذلك؟ فيه أربعة أقوال :
__________________
(٨٤٢) أحدها : «أنه إذا اجتمع
أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفّار للمسلمين : ألم
تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في
النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ؛ فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في
النار من أهل القبلة فأخرجوا ، فلمّا رأى ذلك الكفار ، قالوا : يا ليتنا كنّا
مسلمين فنخرج كما أخرجوا» رواه أبو موسى الأشعريّ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وذهب إليه ابن عباس في رواية وأنس بن مالك ، ومجاهد ،
وعطاء ، وأبو العالية ، وإبراهيم. والثاني : أنه ما يزال الله يرحم ويشفّع حتى يقول : من كان من
المسلمين فليدخل الجنّة ، فذلك حين يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، رواه مجاهد
عن ابن عباس. والثالث
: أنّ الكفار إذا
عاينوا القيامة ، ودّوا لو كانوا مسلمين ، ذكره الزّجّاج. والرابع : أنه كلّما رأى أهل الكفر حالا من أحوال القيامة يعذّب فيها
الكافر ويسلم من مكروهها المؤمن ، ودّوا ذلك ، ذكره ابن الأنباري.
والقول
الثاني : أنه في الدنيا ،
إذا عاينوا وتبيّن لهم الضّلال من الهدى وعلموا مصيرهم ، ودّوا ذلك ، قاله الضّحّاك.
فإن قيل : إذا
قلتم : إنّ «ربّ» للتّقليل ، وهذه الآية خارجة مخرج الوعيد ، فإنّما يناسب الوعيد
تكثير ما يتواعد به؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري : أحدها : أنّ «ربما» تقع على التّقليل والتّكثير ، كما يقع النّاهل
على العطشان والرّيّان ، والجون على الأسود والأبيض. والثاني : أنّ أهوال القيامة وما يقع بهم من الأهوال تكثر عليهم ،
فإذا عادت إليهم عقولهم ، ودّوا ذلك. والثالث : أنّ هذا الذي خوّفوا به ، لو كان مما يودّ في حال واحدة من
أحوال العذاب ، أو كان الإنسان يخاف النّدم إذا حصل فيه ولا يتيقّنه ، لوجب عليه
اجتنابه.
فإن قيل : كيف جاء
بعد «ربما» مستقبل ، وسبيلها أن يأتي بعدها الماضي ، تقول : ربما لقيت عبد الله؟
فالجواب : أنّ ما وعد الله حقّ ، فمستقبله بمنزلة الماضي ، يدلّ عليه قوله تعالى :
(وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وقوله : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ) (وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) ، على أنّ الكسائيّ
____________________________________
(٨٤٢) حسن. أخرجه
ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٣ والطبراني كما في «تفسير ابن كثير» ٢ / ٦٧٤ والحاكم ٢
/ ٢٤٢ والبيهقي في «البعث والنشور» ٨٥ من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن
أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى مرفوعا. وأخرجه الطبري ٢١٠٠٥ من طريق خالد بن نافع
بالإسناد المذكور عن أبي موسى الأشعري قال : بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة ...
فذكره ثم قال في عجزه : «ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ...)». وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي؟ ومداره على خالد بن نافع
قال الحافظ في «لسان الميزان» : ضعفه أبو زرعة والنسائي ، وهو من أولاد أبي موسى
وقال أبو حاتم : ليس بقوي يكتب حديثه.
وقال أبو داود :
متروك. وهذا تجاوز في الحد فإن الرجل قد حدّث عنه أحمد بن حنبل ومسدد ، فلا يستحق
الترك ا ه. وله شاهد من حديث جابر : أخرجه النسائي في «التفسير» ٢٩١ والطبراني في «الأوسط»
٥١٤٢.
وإسناده حسن فيه
محمد بن عباد بن الزبرقان ، وهو صدوق يهم كما في «التقريب». وله شاهد آخر من حديث
أنس : أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» ٨٤٤ وإسناده منقطع فيه أبو الخطاب حرب بن
ميمون الراوي عن أنس لا يعرف له رواية عن أحد من الصحابة. الخلاصة : هو حديث حسن
بطرقه وشواهده.
__________________
والفرّاء حكيا عن
العرب أنهم يقولون : ربّما يندم فلان ، قال الشاعر :
ربّما تجزع
النّفوس من الأم
|
|
ر له فرجة كحلّ
العقال
|
(ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣))
قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) أي : دع الكفار يأخذوا حظوظهم في الدنيا ، (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي : ويشغلهم ما يأملون في الدنيا عن أخذ حظّهم من الإيمان
والطاعة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا ، وهذا وعيد وتهديد ،
وهذه الآية عند المفسّرين منسوخة بآية السّيف.
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها
وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))
قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : ما عذّبنا من أهل قرية (إِلَّا وَلَها كِتابٌ
مَعْلُومٌ) أي أجل موقّت لا يتقدّم ولا يتأخّر عنه. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) «من» صلة ،
والمعنى : ما تتقدّم وقتها الذي قدر لها بلوغه ، ولا تستأخر عنه. قال الفرّاء :
إنما قال : «أجلها» لأنّ الأمّة لفظها مؤنّث ، وإنما قال : «يستأخرون» إخراجا له
على معنى الرّجال.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ
إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨))
قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ) قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي أميّة والنّضر بن
الحارث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة. قال ابن عباس : والذّكر ؛ القرآن.
وإنما قالوا هذا استهزاء ، لو أيقنوا أنه نزّل عليه الذّكر ، ما قالوا (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). قال أبو عليّ الفارسيّ : وجواب هذه الآية في سورة أخرى في
قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) .
قوله تعالى : (لَوْ ما تَأْتِينا) قال الفرّاء : «لو ما» و «لو لا» لغتان معناهما : هلّا ،
وكذلك قال أبو عبيدة : هما بمعنى واحد ، وأنشد لابن مقبل :
لو ما الحياء
ولو ما الدّين عبتكما
|
|
ببعض ما فيكما
إذ عبتما عوري
|
قال المفسّرون :
إنما سألوا الملائكة ليشهدوا له بصدقه ، وأنّ الله أرسله ، فأجابهم الله تعالى
بقوله : (ما نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر «ما تنزّل»
بالتاء المفتوحة «الملائكة» بالرفع. وروى أبو بكر عن عاصم «ما تنزّل» بضمّ التاء
على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم ، وخلف «ما ننزّل»
بالنون والزاي مشددة «الملائكة» نصبا. وفي المراد بالحق أربعة أقوال : أحدها : أنه العذاب إن لم يؤمنوا ، قاله الحسن. والثاني : الرّسالة ، قاله مجاهد. والثالث : قبض الأرواح عند الموت ، قاله ابن السّائب. والرابع : أنه القرآن ، حكاه الماوردي.
قوله تعالى : (وَما كانُوا) يعني المشركين (إِذاً مُنْظَرِينَ) أي عند نزول الملائكة إذا نزلت.
__________________
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩))
قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ، من عادة الملوك إذا فعلوا شيئا ، قال أحدهم : نحن فعلنا
، يريد نفسه وأتباعه ، ثم صار هذا عادة للملك في خطابه ، وإن انفرد بفعل الشيء ،
فخوطبت العرب بما تعقل من كلامها. والذّكر : القرآن ، في قول جميع المفسّرين. وفي
هاء «له» قولان : أحدهما
: أنها ترجع إلى
الذّكر ، قاله الأكثرون. قال قتادة : أنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إبليس أن
يزيد فيه باطلا ، ولا ينقص منه حقّا. والثّاني : أنها ترجع إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فالمعنى : (وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ) من الشّياطين والأعداء ، لقولهم : «إنك لمجنون» ، هذا قول
ابن السّائب ، ومقاتل.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يعني : رسلا ، فحذف المفعول ، لدلالة الإرسال عليه. والشيع
: الفرق ، وحكي عن الفرّاء أنه قال : الشّيعة : الأمّة المتابعة بعضها بعضا فيما
يجتمعون عليه من أمر.
(وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١))
قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا تعزية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى : إنّ كلّ نبيّ قبلك كان مبتلى بقومه كما
ابتليت.
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ (١٣))
قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) في المشار إليه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الشّرك ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد. والثاني : أنه الاستهزاء ، قاله قتادة. والثالث : التّكذيب ، قاله ابن جريج ، والفرّاء. ومعنى الآية : كما
سلكنا الكفر في قلوب شيع الأوّلين ، ندخل في قلوب هؤلاء التّكذيب فلا يؤمنوا. ثم
أخبر عن هؤلاء المشركين ، فقال تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ). وفي المشار إليه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الرسول. والثاني : القرآن. والثالث
: العذاب.
قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فيه قولان : أحدهما : مضت سنّة الله في إهلاك المكذّبين. والثاني : مضت سنّتهم بتكذيب الأنبياء.
(وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا
إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))
قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ
السَّماءِ) يعني : كفّار مكّة (فَظَلُّوا فِيهِ
يَعْرُجُونَ) أي : يصعدون ، يقال : ظلّ يفعل كذا : إذا فعله بالنّهار. وفي
المشار إليهم بهذا الصّعود قولان : أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، فالمعنى : لو
كشف عن أبصار هؤلاء فرأوا بابا مفتوحا في السماء والملائكة تصعد فيه ، لما آمنوا
به. والثاني
: أنهم المشركون ،
قاله الحسن ، وقتادة ، فيكون المعنى : لو وصّلناهم إلى صعود السماء لم يستشعروا
إلّا الكفر ، لعنادهم.
قوله تعالى : (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قرأ الأكثرون بتشديد الكاف. وقرأ ابن كثير ، وعبد الوارث
بتخفيفها. قال الفرّاء : ومعنى القراءتين متقارب ، والمعنى : حبست ، من قولهم :
سكرت الريح : إذا سكنت وركدت. وقال أبو عمرو بن العلاء : معنى «سكرت» بالتخفيف ،
مأخوذ من سكر الشراب ، يعني : أنّ الأبصار حارت ، ووقع بها من فساد النّظر مثل ما
يقع بالرجل السّكران من تغيّر العقل. قال ابن الأنباري : إذا كان هذا معنى الوصف ،
فسكّرت ، بالتشديد ، يراد به وقوع هذا الأمر مرّة بعد مرّة. وقال أبو عبيدة : «سكّرت»
بالتشديد ، من السّكور التي تمنع الماء الجرية ، فكأنّ هذه الأبصار منعت من النّظر
كما يمنع السّكر الماء من الجري. وقال الزّجّاج : «سكّرت» بالتشديد ، فسّروها : أغشيت
، و «سكرت» بالتخفيف : تحيّرت وسكنت عن أن تنظر ، والعرب تقول : سكرت الريح تسكر :
إذا سكنت. وروى العوفيّ عن ابن عباس : (إِنَّما سُكِّرَتْ
أَبْصارُنا) قال : أخذ بأبصارنا وشبّه علينا ، وإنما سحرنا. وقال مجاهد
: «سكّرت» سدّت بالسّحر ، فيتماثل لأبصارنا غير ما ترى.
(وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ
مُبِينٌ (١٨))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ
بُرُوجاً) في البروج ثلاثة أقوال : أحدها : أنها بروج الشمس والقمر ، أي : منازلهما ، قاله ابن عباس ،
وأبو عبيدة في آخرين. قال ابن قتيبة : وأسماؤها : الحمل ، والثّور ، والجوزاء ،
والسّرطان ، والأسد ، والسّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدّلو
، والحوت. والثاني
: أنها قصور ، روي
عن ابن عباس أيضا. وقال عطيّة : هي قصور في السماء فيها الحرس. وقال ابن قتيبة :
أصل البروج : الحصون. والثالث
: أنها الكواكب ،
قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل. قال أبو صالح : هي النّجوم العظام. قال قتادة :
سمّيت بروجا ، لظهورها.
قوله تعالى : (وَزَيَّنَّاها) أي : حسّنّاها بالكواكب. وفي المراد بالنّاظرين قولان :
أحدهما
: أنهم المبصرون. والثاني : المعتبرون.
قوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
رَجِيمٍ) أي : حفظناها أن يصل إليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئا
إلّا استراقا ، ثم يتبعه الشّهاب. والرّجيم مشروح في سورة آل عمران . واختلف العلماء : هل كانت الشّياطين ترمى بالنّجوم قبل
مبعث نبيّنا صلىاللهعليهوسلم ، أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنها لم ترم حتى بعث صلىاللهعليهوسلم ، وهذا المعنى : مذكور في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٨٤٣) وقد أخرج في
«الصّحيحين» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «انطلق
____________________________________
(٨٤٣) صحيح. أخرجه
البخاري ٧٧٣ و ٤٩٢١ ، ومسلم ٤٤٩ ، والترمذي ٣٣٢٠ ، وأحمد ١ / ٢٥٢ و ٢٧٠ ، وأبو
يعلى ٢٣٦٩ من حديث ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين
الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين فقالوا : ما لكم؟
قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قال : ما حال بينكم وبين
خبر السماء إلا ما حدث ، فاضربوا
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين
الشّياطين وبين خبر السّماء ، وأرسلت عليهم الشّهب». وظاهر هذا الحديث أنها لم تكن
قبل ذلك. قال الزّجّاج : ويدل على أنها إنما كانت بعد مولد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّ شعراء العرب الذين يمثّلون بالبرق والأشياء المسرعة ،
لم يوجد في أشعارها ذكر الكواكب المنقضّة ، فلما حدثت بعد مولد نبيّنا صلىاللهعليهوسلم ، استعملت الشعراء ذكرها ، فقال ذو الرّمّة :
كأنّه كوكب في
إثر عفرية
|
|
مسوّم في سواد
الليل منقضب
|
والثاني
: أنه قد كان ذلك
قبل نبيّنا صلىاللهعليهوسلم.
(٨٤٤) فروى مسلم
في «صحيحه» من حديث عليّ بن الحسين عن ابن عباس قال : بينا النبيّ صلىاللهعليهوسلم جالس في نفر من أصحابه ، إذ رمي بنجم ، فاستنار ، فقال : «ما
كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية»؟ قالوا : كنّا نقول : يموت عظيم ، أو
يولد عظيم ، قال : «فإنّها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربّنا إذا قضى
أمرا ، سبّح حملة العرش ، ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التّسبيح
أهل هذه السماء ، ثم يستخبر أهل كلّ سماء أهل سماء ، حتى ينتهي الخبر إلى هذه
السماء ، وتخطف الجنّ ويرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حقّ ، ولكنهم يقرفون فيه
ويزيدون». وروي عن ابن عباس أنّ الشياطين كانت لا تحجب عن السّماوات ، فلمّا ولد
عيسى ، منعت من ثلاث سماوات ، فلمّا ولد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، منعوا من السّماوات كلّها. وقال الزّهريّ : قد كان يرمى
بالنّجوم قبل مبعث رسول الله ، ولكنّها غلّظت حين بعث صلىاللهعليهوسلم ، وهذا مذهب ابن قتيبة ، قال : وعلى هذا وجدنا الشعر
القديم ، قال بشر بن أبي خازم ، وهو جاهليّ :
والعير يرهقها
الغبار وجحشها
|
|
ينقضّ خلفهما
انقضاض الكوكب
|
وقال أوس بن حجر ،
وهو جاهليّ :
فانقضّ
كالدّرّيء يتبعه
|
|
نقع يثور تخاله
طنبا
|
قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي : اختطف ما سمعه من كلام الملائكة. قال ابن فارس : استرق
السّمع : إذا تسمّع مستخفيا. (فَأَتْبَعَهُ) أي : لحقه (شِهابٌ مُبِينٌ) قال ابن قتيبة : كوكب مضيء. وقيل : «مبين» بمعنى : ظاهر
يراه أهل الأرض. وإنما يسترق الشيطان ما يكون من أخبار الأرض ، فأمّا وحي الله عزوجل ، فقد صانه عنهم. واختلفوا ، هل يقتل الشّهاب ، أم لا؟ على
قولين : أحدهما
: أنه
____________________________________
مشارق الأرض
ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء قال : فانطلق الذين
توجّهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة
الفجر ، فلما سمعوا تسمّعوا له فقالوا : هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ،
فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد
فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وأنزل الله عزوجل على نبيه صلىاللهعليهوسلم (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) وإنما أوحي إليه قول الجن.
(٨٤٤) صحيح. أخرجه
مسلم ٢٢٢٩ والترمذي ٣٢٢٤ وأحمد ١ / ٢١٨ والطحاوي في «المشكل» ٢٣٣٢ وابن حبان ٦١٢٩
والبيهقي ٨ / ١٣٨ من حديث ابن عباس.
__________________
يحرق ويخبل ولا
يقتل ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني
: أنه يقتل ، قاله
الحسن. فعلى هذا القول ، هل يقتل الشيطان قبل أن يخبر بما سمع ، فيه قولان : أحدهما : أنه يقتل قبل ذلك ، فعلى هذا ، لا تصل أخبار السماء إلى
غير الأنبياء. قال ابن عباس : ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني : أنه يقتل بعد إلقائه ما سمع إلى غيره من الجنّ ، ولذلك
يعودون إلى الاستراق ، ولو لم يصل لقطعوا الاستراق.
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرازِقِينَ (٢٠))
قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي : بسطناها على وجه الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) وهي الجبال الثّوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها) في المشار إليها قولان : أحدهما : أنها الأرض ، قاله الأكثرون. والثاني : الجبال ، قاله الفرّاء. وفي قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قولان :
أحدهما
: أنّ الموزون :
المعلوم ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، والضّحّاك. وقال
مجاهد ، وعكرمة في آخرين : الموزون : المقدور. فعلى هذا يكون المعنى : معلوم القدر
كأنه قد وزن ، لأنّ أهل الدنيا لمّا كانوا يعلمون قدر الشيء بوزنه ، أخبر الله
تعالى عن هذا أنه معلوم القدر عنده بأنه موزون. وقال الزّجّاج : المعنى : أنه جرى
على وزن من قدر الله تعالى ، لا يجاوز ما قدّره الله تعالى عليه ، ولا يستطيع خلق
زيادة فيه ولا نقصانا.
والثاني
: أنه عنى به الشيء
الذي يوزن كالذّهب ، والفضّة ، والرّصاص ، والحديد ، والكحل ، ونحو ذلك ، وهذا
المعنى مرويّ عن الحسن ، وعكرمة ، وابن زيد ، وابن السّائب ، واختاره الفرّاء.
قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) في المشار إليها قولان :
أحدهما
: أنها الأرض. والثاني : أنها الأشياء التي أنبتت.
والمعايش جمع
معيشة. والمعنى : جعلنا لكم فيها أرزاقا تعيشون بها.
وفي قوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أربعة أقوال : أحدها
: أنه الدّوابّ
والأنعام ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني : الوحوش ، رواه منصور ، عن مجاهد. وقال ابن قتيبة : الوحش ،
والطّير ، والسّباع ، وأشباه ذلك ممّا لا يرزقه ابن آدم. والثالث : العبيد والإماء ، قاله الفرّاء. والرابع : العبيد ، والأنعام ، والدّوابّ ، قاله الزّجّاج. قال
الفرّاء : و «من» في موضع نصب ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها المعايش ، والعبيد ،
والإماء. ويقال : إنها في موضع خفض ، فالمعنى : جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له
برازقين. وقال الزّجّاج : المعنى : جعلنا لكم الدّوابّ ، والعبيد ، وكفيتم مؤونة
أرزاقها.
فإن قيل : كيف
قلتم : إنّ «من» هاهنا للوحوش والدّوابّ ، وإنما تكون لمن يعقل؟
فالجواب : أنه
لمّا وصفت الوحوش وغيرها بالمعاش الذي الغالب عليه أن يوصف به الناس ،
__________________
فيقال : للآدميّ
معاش ، ولا يقال : للفرس معاش ، جرت مجرى الناس ، كما قال : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ) ، وقال : (رَأَيْتُهُمْ لِي
ساجِدِينَ) ، وقال : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) ، وإن قلنا : أريد به العبيد ، والوحوش ، فإنه إذا اجتمع
الناس وغيرهم ، غلّب الناس على غيرهم ، لفضيلة العقل والتّمييز.
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))
قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) أي : وما من شيء (إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ) وهذا الكلام عامّ في كلّ شيء. وذهب قوم من المفسّرين إلى
أنّ المراد به المطر خاصّة ، فالمعنى عندهم : وما من شيء من المطر إلّا عندنا
خزائنه ، أي : في حكمنا وتدبيرنا ، (وَما نُنَزِّلُهُ) كلّ عام (إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ) لا يزيد ولا ينقص ، فما من عام أكثر مطرا من عام ، غير أنّ
الله تعالى يصرفه إلى من يشاء ، ويمنعه من يشاء.
(وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما
أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ
الْوارِثُونَ (٢٣))
قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وقرأ حمزة ؛ وخلف : «الريح». وكان أبو عبيدة يذهب إلى أنّ «لواقح»
بمعنى ملاقح ، فسقطت الميم منه ، قال الشاعر :
ليبك يزيد بائس
لضراعة
|
|
وأشعث ممّن
طوّحته الطّوائح
|
أراد : المطاوح ،
فحذف الميم ، فمعنى الآية عنده : وأرسلنا الرّياح ملقحة ، فيكون هاهنا فاعل بمعنى
مفعل ، كما أتى فاعل بمعنى مفعول ، كقوله تعالى : (ماءٍ دافِقٍ) أي : مدفوق ، و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : مرضيّة ، وكقولهم : ليل نائم ، أي : منوم فيه ،
ويقولون : أبقل النّبت ، فهو باقل ، أي : مبقل. قال ابن قتيبة : يريد أبو عبيدة
أنها تلقح الشّجر ، وتلقح السّحاب كأنها تنتجه. ولست أدري ما اضطرّه إلى هذا
التّفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمّي الرّياح لواقح ، والرّيح لاقحا ، قال
الطّرمّاح ، وذكر بردا مدّه على أصحابه في الشمس يستظلّون به :
قلق لأفنان
الرّيا
|
|
ح للاقح منها
وحائل
|
فاللاقح : الجنوب
، والحائل : الشّمال ، ويسمّون الشّمال أيضا : عقيما ، والعقيم : التي لا تحمل ،
كما سمّوا الجنوب لاقحا ، قال كثيّر :
ومرّ بسفساف التّراب عقيمها
__________________
يعني : الشّمال.
وإنما جعلوا الرّيح لاقحا ، أي : حاملا ، لأنها تحمل السّحاب وتقلّبه وتصرّفه ، ثم
تحلّه فينزل ، فهي على هذا حامل ، ويدلّ على هذا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً) أي : حملت ، قال ابن الأنباري : شبّه ما تحمله الرّيح من
الماء وغيره ، بالولد الذي تشتمل عليه النّاقة ، وكذلك يقولون : حرب لاقح ، لما
تشتمل عليه من الشّرّ ، فعلى قول أبي عبيدة ، يكون معنى «لواقح» : أنها ملقحة
لغيرها ، وعلى قول ابن قتيبة : أنها لاقحة نفسها ، وأكثر الأحاديث تدلّ على القول
الأول . قال عبد الله بن مسعود : يبعث الله الرّياح لتلقح السّحاب ، فتحمل الماء ،
فتمجّه في السّحاب ثم تمريه ، فيدرّ كما تدرّ اللقحة . وقال الضّحّاك : يبعث الله الرّياح على السّحاب فتلقحه
فيمتلئ ماء. قال النّخعيّ : تلقح السّحاب ولا تلقح الشّجر. وقال الحسن في آخرين :
تلقح السّحاب والشّجر ، يعنون أنها تلقح السّحاب حتى يمطر والشّجر حتى يثمر.
قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) يعني السّحاب (ماءً) يعني المطر (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي : جعلناه سقيا لكم. قال الفرّاء : العرب مجتمعون على أن
يقولوا : سقيت الرّجل ، فأنا أسقيه : إذا سقيته لشفته ، فإذا أجروا للرّجل نهرا
قالوا : أسقيته وسقيته ، وكذلك السّقيا من الغيث ، قالوا فيها : سقيت وأسقيت ،
وقال أبو عبيدة : كلّ ما كان من السماء ، ففيه لغتان : أسقاه الله ، وسقاه الله ،
قال لبيد :
سقى قومي بني
مجد وأسقى
|
|
نميرا والقبائل
من هلال
|
فجاء باللغتين.
وتقول : سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغيره ، وليس فيه إلّا لغة واحدة بغير ألف ،
إذا كان في الشّفة ، وإذا جعلت له شربا ، فهو : أسقيته ، وأسقيت أرضه ، وإبله ،
ولا يكون غير هذا ، وكذلك إذا استسقيت له ، كقول ذي الرّمّة :
وقفت على رسم لميّة ناقتي
|
|
فما زلت أبكي
عنده وأخاطبه
|
وأسقيه حتّى كاد
ممّا أبثّه
|
|
تكلّمني أحجاره
وملاعبة
|
فإذا وهبت له
إهابا ليجعله سقاء ، فقد أسقيته إيّاه.
قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ لَهُ) يعني : الماء المنزل (بِخازِنِينَ) وفيه قولان : أحدهما : بحافظين ، أي : ليست خزائنه بأيديكم ، قاله مقاتل. والثاني : بمانعين ، قاله سفيان الثّوريّ.
قوله تعالى : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) يعني : أنه الباقي بعد فناء الخلق.
__________________
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ
رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ) يقال : استقدم الرّجل ، بمعنى : تقدّم ، واستأخر ، بمعنى :
تأخّر ، وفي سبب نزولها قولان :
(٨٤٥) أحدهما : أنّ امرأة حسناء كانت تصلّي خلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكان بعضهم يستقدم حتى
____________________________________
(٨٤٥) باطل. أخرجه
الترمذي ٣١٢٢ ، والنسائي في «الكبرى» ١١٢٢٧٣ ، و «التفسير» ٢٩٣ وابن ماجة ١٠٤٦ ،
والطيالسي ٢٧١٢ ، وأحمد ١ / ٣٠٥ ، وابن حبان ٤٠١ ، والحاكم ٢ / ٣٥٣ والطبراني ١٢ /
١٧١ ، والطبري ٢١١٣٦ و ٢١١٣٧ ، والبيهقي من طرق عن نوح بن قيس عن عمر بن مالك
النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. قال الترمذي : روى جعفر بن سليمان هذا
الحديث عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء نحوه ، ولم يذكر فيه عن ابن عباس ،
وهو أشبه أن يكون أصح من حديث نوح. وقال الحاكم : صحيح. وقال عمرو بن علي ـ الفلاس ـ : لم
يتكلم أحد في نوح بن قيس الطاحي بحجة. وقال الذهبي : هو صدوق خرّج له مسلم. وقال
الشيخ أحمد شاكر في «تعليقه على المسند» : ٢ / ٢٧٨ : إسناده صحيح. وجعله الألباني
في «صحيح السنن» و «الصحيحة» ٢٤٧٢. وليس كما قالوا والصواب أنه غير صحيح ، وهو
معلول بالإرسال ، وبأنه ورد عن ابن عباس خلافه.
ـ فقد أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١٤٤٥ والطبري
٢١١٣٥ عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال : المستقدمين منكم في
الصفوف في الصلاة والمستأخرين. وجعفر بن سليمان من رجال مسلم. ونوح بن قيس ، وإن
روى له مسلم ، ووثقه أحمد ويحيى ، فقد ضعّفه يحيى في رواية. وقال النسائي : لا بأس
به ، وقال الذهبي : بصري صالح الحال اه. فليس هو بالثبت. وقد خالفه غيره ، فرواه
من قول أبي الجوزاء ، وبدون القصة. وقال ابن كثير رحمهالله ٢ / ٦٧٨ ـ ٦٧٩ : غريب جدا ، وفيه نكارة شديدة. ورواه عبد
الرزاق عن أبي الجوزاء ليس فيه ذكر ابن عباس ، وصوّب الترمذي الإرسال. فهذه علّة
للحديث. وله علّة أخرى ، وهي : أنه ورد عن ابن عباس «يعني بالمستقدمين من مات ،
وبالمستأخرين من هو حيّ ولم يمت».
وهذا أخرجه الطبري
٢١١٢١ لكن فيه عطية العوفي ، وهو ضعيف وكرره ٢١١١٨ عن قتادة عن ابن عباس ، وهو
منقطع ، لكن يصلح للمتابعة. وورد مثله عن الشعبي وابن زيد وغيرهم. وورد عن مجاهد «المستقدمين»
أي القرون الأول ، والمستأخرين : أمة محمد صلىاللهعليهوسلم اه. وهذا أخرجه عبد الرزاق ١٤٤٧ والطبري ٢١١٢٧ و ٢١١٢٨ و ٢١١٢٩
و ٢١١٣٠ وأسند عبد الرزاق ١٤٤٦ عن عكرمة : أن المراد بالمستقدمين ما خرج من الخلق
، وبالمستأخرين ما بقي في الأصلاب لم يخرج بعد. ومجاهد وعكرمة من أجلّة أصحاب ابن
عباس ، ولم يذكرا أن المراد بذلك صفوف الصلاة ، فلو صح هذا الحديث عند شيخهم ابن
عباس لروياه عنه ، ولفسّرا الآية الكريمة به. وقال الطبري رحمهالله بعد أن ذكر هذه الأقوال جميعا : وأولى الأقوال عندي قول من
قال : معنى ذلك : ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته ، ولقد علمنا
المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حي ، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد
لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله (وَإِنَّا لَنَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) وما بعده وهو قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَحْشُرُهُمْ). ومما يدل على وهن الخبر ونكارته : وهو أنهم أجمعوا على أن
السورة مكية ، نقل الإجماع القرطبي ، ووافقه الشوكاني وغيره. ثم إن الآية المتقدمة
، والآية الآتية فيهما قرينة ترجيح أن المراد بالمستقدمين من مات ، وبالمستأخرين
من هو على قيد الحياة ، ولم يولد بعد. وبهذا يتبين وهن الحديث ونكارته كما ذهب
إليه الحافظ الناقد ابن كثير رحمهالله خلافا لمن صححه اعتمادا منه على ظاهر إسناده من غير تأمل
لما جاء في تفسير هذه الآية ، وبأنها مكية لا مدنية والله الموفق. وانظر «تفسير
الشوكاني» ١٣٤١ ، وأحكام القرآن لابن العربي ١٣١٦ ، وهما بتخريجنا ، ولله الحمد
والمنة.
يكون في أوّل
الصفّ لئلّا يراها ، ويتأخّر بعضهم حتى يكون في آخر صفّ ، فإذا ركع نظر من تحت
إبطه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
(٨٤٦) والثاني : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم حرّض على الصّفّ الأول ، فازدحموا عليه ، وقال قوم بيوتهم
قاصية عن المدينة : لنبيعنّ دورنا ، ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد حتى ندرك
الصّفّ المتقدّم ، فنزلت هذه الآية ؛ ومعناها : إنّما تجزون على النّيات ،
فاطمأنّوا وسكنوا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وللمفسّرين في
معنى المستقدمين والمستأخرين ثمانية أقوال : أحدها
: التّقدّم في
الصّفّ الأول ، والتّأخّر عنه ، وهذا على القولين المذكورين في سبب نزولها ، فعلى
الأول : هو التّقدّم للتّقوى ، والتّأخّر للخيانة بالنّظر ، وعلى الثاني : هو
التّقدّم لطلب الفضيلة ، والتّأخّر للعذر. والثاني : أنّ المستقدمين : من مات ، والمستأخرين : من هو حيّ لم يمت
، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وخصيف عن مجاهد ، وبه قال عطاء ، والضّحّاك ،
والقرظيّ. والثالث
: أنّ المستقدمين :
من خرج من الخلق فكان. والمستأخرين : الذين في أصلاب الرجال ، رواه الضّحّاك عن
ابن عباس ، وبه قال عكرمة. والرابع
: أنّ المستقدمين :
من مضى من الأمم ، والمستأخرين : أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس : أنّ المستقدمين : المتقدّمون في الخير ، والمستأخرين ،
المثبّطون عنه ، قاله الحسن وقتادة. والسادس : أنّ المستقدمين في صفوف القتال ، والمستأخرين عنها ، قاله
الضّحّاك. والسابع
: أنّ المستقدمين : من قتل في الجهاد ، والمستأخرين : من لم
يقتل ، قاله القرظيّ. والثامن
: أنّ المستقدمين :
أول الخلق ، والمستأخرين : آخر الخلق ، قاله الشّعبيّ.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ
قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني آدم (مِنْ صَلْصالٍ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الطّين اليابس الذي لم تصبه نار ، فإذا نقرته صلّ ،
فسمعت له صلصلة ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو عبيدة وابن قتيبة. والثاني : أنه الطين المنتن ، قاله مجاهد والكسائيّ وأبو عبيد. ويقال
: صلّ اللحم : إذا تغيّرت رائحته. والثالث : أنه طين خلط برمل ، فصار له صوت عند نقره ، قاله الفرّاء.
فأمّا الحمأ ،
فقال أبو عبيدة : هو جمع حمأة ، وهو الطّين المتغيّر. وقال ابن الأنباري : لا خلاف
أنّ الحمأ : الطّين الأسود المتغيّر الرّيح ، وروى السّدّيّ عن أشياخه قال : بلّ
التّراب حتى صار طينا. ثم ترك حتى أنتن وتغيّر.
وفي المسنون أربعة
أقوال : أحدها
: أنه المنتن أيضا
، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال
____________________________________
(٨٤٦) لا أصل له.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح هو الكلبي ، وتقدم أنهما
رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٣ عن الربيع
بن أنس بدون إسناد.
__________________
مجاهد ، وقتادة في
آخرين. قال ابن قتيبة : المسنون : المتغيّر الرّائحة. والثاني : أنه الطّين الرّطب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنه المصبوب ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وأبو عبيد. والرابع : أنه المحكوك ، ذكره ابن الأنباري ، قال : فمن قال : المسنون
: المنتن ، قال : هو من قولهم : قد تسنّى الشيء : إذا أنتن ، ومنه قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ، وإنما قيل له : مسنون لتقادم السّنين عليه ، ومن قال :
الطّين الرّطب ، قال : سمّي مسنونا ، لأنه يسيل وينبسط ، فيكون كالماء المسنون
المصبوب. ومن قال : المصبوب ، احتجّ بقول العرب : قد سننت عليّ الماء : إذا صببته.
ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال ، من قوله : رأيت سنّة وجهه ، أي : صورة وجهه
، قال الشاعر :
تريك سنّة وجه
غير مقرفة
|
|
ملساء ليس بها
خال ولا ندب
|
ومن قال : المحكوك
، احتجّ بقول العرب : سننت الحجر على الحجر : إذا حككته عليه. وسمّي المسنّ مسنّا
، لأنّ الحديد يحكّ عليه. قال : وإنّما كرّرت «من» لأنّ الأولى متعلّقة ب «خلقنا»
، والثانية متعلّقة بالصّلصال ، تقديره : ولقد خلقنا الإنسان من الصّلصال الذي هو
من حمأ مسنون.
قوله تعالى : (وَالْجَانَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مسيخ الجنّ ، كما أنّ القردة والخنازير مسيخ الإنس ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : أنه أبو الجنّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وروى عنه
الضّحّاك أنه قال : الجانّ أبو الجنّ ، وليسوا بشياطين ، والشّياطين ولد إبليس لا يموتون إلّا مع إبليس ، والجنّ يموتون ، ومنهم المؤمن
ومنهم الكافر. والثالث
: أنه إبليس ، قاله
الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، ومقاتل.
فإن قيل : أليس
أبو الجنّ هو إبليس؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه هو ، فيكون هذا القول هو الذي قبله. والثاني : أنّ الجانّ أبو الجنّ ، وإبليس أبو الشّياطين ، فبينهما
إذا فرق على ما ذكرنا عن ابن عباس ، قال العلماء : وإنّما سمّي جانّا ، لتواريه عن
العيون.
قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) يعني : قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) ، وقال ابن مسعود : من نار الريح الحارّة ، وهي جزء من
سبعين جزءا من نار جهنّم . والسّموم في اللغة : الرّيح الحارّة وفيها نار ، قال
__________________
ابن السّائب : وهي
نار لا دخان لها.
(فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ
مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ
صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
(٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
(٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ
عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١))
قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي : عدّلت صورته ، وأتممت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) هذه الرّوح هي التي يحيا بها الإنسان ، ولا تعلم ماهيّتها
، وإنما أضافها إليه ، تشريفا لآدم ، وهذه إضافة ملك. وإنما سمّي إجراء الرّوح فيه
نفخا ، لأنها جرت في بدنه على مثل جري الرّيح فيه.
قوله تعالى : (فَقَعُوا) أمر من الوقوع. وقوله تعالى : (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) قال فيه سيبويه والخليل : هو توكيد بعد توكيد. وقال
المبرّد : «أجمعون» يدلّ على اجتماعهم في السّجود ، فالمعنى : سجدوا كلّهم في حالة
واحدة. قال ابن الأنباري : وهذا ، لأنّ «كلّا» تدلّ على اجتماع القوم في الفعل ،
ولا تدلّ على اجتماعهم في الزّمان. قال الزّجّاج : وقول سيبويه أجود ، لأنّ «أجمعين»
معرفة ، ولا تكون حالا.
قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) قال المفسّرون : معناه : يلعنك أهل السماء والأرض إلى يوم
الحساب. قال ابن الأنباري : وإنّما قال : (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) لأنه يوم له أوّل وليس له آخر ، فجرى مجرى الأبد الذي لا
يفنى ، والمعنى : عليك اللعنة أبدا.
قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) يعني : المعلوم بموت الخلائق فيه ، فأراد أن يذيقه ألم
الموت قبل أن يذيقه العذاب الدائم في جهنّم.
قوله تعالى : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) مفعول التّزيين محذوف ، والمعنى : لأزيّننّ لهم الباطل حتى
يقعوا فيه. (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) أي : ولأضلّنّهم. والمخلصون : الذين أخلصوا دينهم لله عن
كلّ شائبة تناقض الإخلاص. وما أخللنا به من الكلمات ها هنا ، فقد سبق تفسيرها في
سورة الأعراف وغيرها.
قوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يعني بقوله هذا : الإخلاص ، فالمعنى : إنّ الإخلاص
طريق إليّ مستقيم ، و «عليّ» بمعنى «إليّ». والثاني : هذا طريق عليّ جوازه ، لأنّي بالمرصاد ، فأجازيهم بأعمالهم
، وهو خارج مخرج الوعيد ، كما تقول للرجل تخاصمه : طريقك عليّ ، فهو كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) . والثالث
: هذا صراط عليّ
استقامته ، أي : أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان.
وقرأ قتادة ،
ويعقوب : «هذا صراط عليّ» بكسر اللام ورفع الياء وتنوينها ، أي : رفيع.
__________________
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))
قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي) فيهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم المؤمنون. والثاني : المعصومون ، رويا عن قتادة. والثالث : المخلصون ، قاله مقاتل. والرابع : المطيعون ، قاله ابن جرير. فعلى هذه الأقوال ، تكون الآية
من العامّ الذي أريد به الخاصّ ، وفي المراد بالسّلطان قولان : أحدهما : أنه الحجّة ، قاله ابن جرير ، فيكون المعنى : ليس لك حجّة
في إغوائهم. والثاني
: أنه القهر
والغلبة ؛ إنما له أن يغرّ ويزيّن ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. وسئل سفيان بن
عيينة عن هذه الآية ، فقال : ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عفوي عنه.
قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ
أَجْمَعِينَ) يعني : الذين اتّبعوه.
قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) وهي دركاتها بعضها فوق بعض ، قال عليّ عليهالسلام : أبواب جهنّم ليست كأبوابكم هذه ، ولكنها هكذا وهكذا
وهكذا بعضها فوق بعض ، ووصف الرّاوي عنه بيده وفتح أصابعه. قال ابن جرير : لها
سبعة أبواب ، أوّلها جهنّم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السّعير ، ثم سقر ، ثم
الجحيم ، ثم الهاوية. وقال الضّحّاك : هي سبعة أدراك بعضها فوق بعض ، فأعلاها فيه
أهل التّوحيد يعذّبون على قدر ذنوبهم ثم يخرجون ، والثاني فيه النّصارى ، والثالث
فيه اليهود ، والرابع فيه الصّابئون ، والخامس فيه المجوس ، والسادس فيه مشركو
العرب ، والسابع فيه المنافقون. قال ابن الأنباري : لمّا اتّصل العذاب بالباب ،
وكان الباب من سببه ، سمّي باسمه للمجاورة ، كتسميتهم الحدث غائطا.
قوله تعالى : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) أي من أتباع إبليس (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) والجزء بعض الشيء.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ
فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨))
قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ) (٤٥) قد شرحنا في
سورة (البقرة) معنى التّقوى والجنّات. فأمّا العيون ، فهي عيون الماء ، والخمر ،
والسّلسبيل ، والتّسنيم ، وغير ذلك ممّا ذكر أنه من شراب الجنّة.
قوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) المعنى : يقال لهم : ادخلوها بسلام ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها
: بسلامة من النار.
والثاني
: بسلامة من كلّ
آفة. والثالث
: بتحيّة من الله
تعالى.
وفي قوله : (آمِنِينَ) أربعة أقوال : أحدها : آمنين من عذاب الله. والثاني : من الخروج. والثالث : من الموت. والرابع : من الخوف والمرض.
قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍ) قد ذكرنا تفسيرها في سورة الأعراف ، فإنّ المفسّرين ذكروا ما هناك هاهنا من تفسير وسبب نزول.
__________________
قوله تعالى : (إِخْواناً) منصوب على الحال ، والمعنى : أنّهم متوادّون.
فإن قيل : كيف نصب
«إخوانا» على الحال ، فأوجب ذلك أنّ التّآخي وقع من نزع الغلّ وقد كان التّآخي
بينهم في الدنيا؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري ، فقال : ما مضى من التّآخي قد كان
تشوبه ضغائن وشحناء ، وهذا التّآخي بينهم الموجود عند نزع الغلّ هو تآخي المصافاة
والإخلاص ، ويجوز أن ينتصب على المدح ، المعنى : اذكر إخوانا. فأمّا السّرر ، فجمع
سرير ، قال ابن عباس : على سرر من ذهب مكلّلة بالزّبرجد والدّرّ والياقوت ،
السّرير مثل ما بين عدن إلى أيلة ، (مُتَقابِلِينَ) لا يرى بعضهم قفا بعض ، حيثما التفت رأى وجها يحبّه
يقابله.
قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي : لا يصيبهم في الجنّة إعياء وتعب.
(نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ
الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا
تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣))
قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
(٨٤٧) سبب نزولها
ما روى ابن المبارك بإسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : طلع علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، ونحن نضحك ، فقال : «ألا
أراكم تضحكون؟» ثم أدبر ، حتى إذا كان عند الحجر ، رجع إلينا القهقرى ، فقال : «إنّي
لمّا خرجت ، جاء جبريل عليهالسلام ، فقال : يا محمّد ، يقول الله تعالى : لم تقنّط عبادي؟
نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرّحيم».
وقرأ ابن كثير ،
ونافع ، وأبو عمرو بتحريك ياء «عبادي» وياء «أني أنا» ، وأسكنها الباقون.
قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١) قد شرحنا
القصّة في (هود) وبيّنّا هنالك معنى الضّيف والسبب في خوفه منهم ، وذكرنا
معنى الوجل في (الأنفال) .
قوله تعالى : (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي : إنه يبلغ ويعلم.
____________________________________
(٨٤٧) ضعيف. أخرجه
الطبري ٢١٢١٤ عن عطاء عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم مرفوعا ، وفي إسناده مصعب بن ثابت ضعفه أحمد ويحيى ، وكذا
عاصم بن عبيد الله ضعفوه. وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير أخرجه الطبراني كما
في «المجمع» ١١١٠٧ وقال الهيثمي : وفيه موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف متروك. وفيه أيضا
مصعب بن ثابت ، وهو ضعيف كما تقدم. وفي الباب من حديث عمر أخرجه الطبراني في «الأوسط»
كما في «المجمع» ١٠ / ١٨٥٧٣ مطوّلا ، وإسناده ضعيف ، فيه سلام الطويل ، وهو مجمع
على ضعفه قاله الهيثمي.
فالخبر ضعيف
الإسناد ، والمتن منكر بهذا اللفظ.
__________________
(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨)
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ
الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ
بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ
(٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا
يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا
إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))
قوله تعالى : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) أي : بالولد (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ
الْكِبَرُ) أي : على حالة الكبر والهرم (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «تبشّرون»
بفتح النون. وقرأ نافع بكسر النون ، ووافقه ابن كثير في كسرها ، لكنه شدّدها. وهذا
استفهام تعجّب ، كأنه عجب من الولد على كبره. (قالُوا بَشَّرْناكَ
بِالْحَقِ) أي : بما قضى الله أنه كائن (فَلا تَكُنْ مِنَ
الْقانِطِينَ) يعني : الآيسين. (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : «ومن
يقنط» بفتح النون في جميع القرآن. وقرأ أبو عمرو ، والكسائيّ : «يقنط» بكسر النون.
وكلّهم قرءوا (مِنْ بَعْدِ ما
قَنَطُوا) بفتح النون ، وروى خارجة عن أبي عمرو «ومن يقنط» بضمّ
النون. قال الزّجّاج : يقال : قنط يقنط ، وقنط يقنط ، والقنوط بمعنى اليأس ، ولم
يكن إبراهيم قانطا ، ولكنه استبعد وجود الولد. (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي : ما أمركم؟ (قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا) أي : بالعذاب. وقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء ليس من الأوّل. فأمّا آل لوط فهم أتباعه المؤمنون.
قوله تعالى : (إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «لمنجّوهم»
مشدّدة الجيم. وقرأ حمزة والكسائيّ «لمنجوهم» خفيفة.
قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) المعنى : إنّا لمنجّوهم إلّا امرأته (قَدَّرْنا) وروى أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بالتّخفيف ، والمعنى واحد ،
يقال : قدّرت وقدرت ، والمعنى : قضينا (إِنَّها لَمِنَ
الْغابِرِينَ) يعني : الباقين في العذاب.
قوله تعالى : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) يعني : لا أعرفكم ، (قالُوا بَلْ جِئْناكَ
بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) يعنون : العذاب ، كانوا يشكّون في نزوله. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) أي : بالأمر الذي لا شكّ فيه من عذاب قومك. قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي : سر خلفهم (وَامْضُوا حَيْثُ
تُؤْمَرُونَ) أي : حيث يأمركم جبريل ، وفي المكان الذي أمروا بالمضيّ
إليه قولان : أحدهما
: أنه الشّام ،
قاله ابن عباس. والثاني
: قرية من قرى لوط ،
قاله ابن السّائب.
قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي : أوحينا إليه ذلك الأمر ، أي : الأمر بهلاك قومه. قال
الزّجّاج : فسّر : ما الأمر بباقي الآية ، والمعنى : وقضينا إليه أنّ دابر هؤلاء
مقطوع مصبحين. فأمّا الدّابر ، فقد سبق تفسيره ، والمعنى : إنّ آخر من يبقى منكم
يهلك وقت الصّبح.
(وَجاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ
(٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ
الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١))
قوله تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) وهي قرية لوط ، واسمها سدوم ، (يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط ، طمعا في ركوب الفاحشة ، فقال لهم لوط : (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي : بقصدكم إيّاهم بالسّوء ، يقال : فضحه يفضحه : إذا
أبان من أمره ما يلزمه به العار. وقد أثبت يعقوب ياء «تفضحون» ، وياء «تخزون» في
الوصل والوقف.
قوله تعالى : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي : عن ضيافة العالمين.
قوله تعالى : (بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ) حرّك ياء «بناتي» نافع ، وأبو جعفر.
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣)
فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ
(٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ
مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))
قوله تعالى : (لَعَمْرُكَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ معناه : وحياتك يا محمّد ، رواه أبو الجوزاء عن ابن
عباس. والثاني
: لعيشك ، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الأخفش ، وهو يرجع إلى معنى الأول. والثالث : أنّ معناه : وحقّك على أمّتك ، تقول العرب : لعمر الله لا
أقوم ، يعنون : وحقّ الله ، ذكره ابن الأنباري ، قال : وفي العمر ثلاث لغات : عمر
وعمر ، وعمر ، وهو عند العرب : البقاء. وحكى الزّجّاج أنّ الخليل وسيبويه وجميع
أهل اللغة قالوا : العمر والعمر في معنى واحد ، فإذا استعمل في القسم ، فتح لا غير
، وإنّما آثروا الفتح في القسم ، لأنّ الفتح أخفّ عليهم ، وهم يؤثرون القسم ب «لعمري»
و «لعمرك» فلمّا كثر استعمالهم إيّاه ، لزموا الأخفّ عليهم ، قال : وقال النّحويون
: ارتفع «لعمرك» بالابتداء ، والخبر محذوف ، والمعنى : لعمرك قسمي ، ولعمرك ما
أقسم به ، وحذف الخبر ، لأنّ في الكلام دليلا عليه. المعنى : أقسم (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ) وفي المراد بهذه السّكرة قولان : أحدهما : أنها بمعنى الضّلالة ، قاله قتادة. والثاني : بمعنى الغفلة ، قاله الأعمش ، وقد شرحنا معنى العمه في
سورة البقرة . وفي المشار إليهم بهذا قولان : أحدهما : أنهم قوم لوط ، قاله الأكثرون. والثاني : قوم نبينا صلىاللهعليهوسلم ، قاله عطاء.
قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) يعني : صيحة العذاب ، وهي صيحة جبريل عليهالسلام. (مُشْرِقِينَ) قال الزّجّاج : يقال : أشرقنا ، فنحن مشرقون : إذا صادفوا
شروق الشمس وهو طلوعها ، كما يقال : أصبحنا : إذا صادفوا الصّبح ، يقال : شرقت
الشمس : إذا طلعت ، وأشرقت : إذا أضاءت وصفت ، هذا أكثر اللغة. وقد قيل : شرقت
وأشرقت في معنى واحد ، إلّا أنّ «مشرقين» في معنى
__________________
مصادفين لطلوع
الشّمس. قوله تعالى : (فَجَعَلْنا عالِيَها
سافِلَها) قد فسّرنا الآية في سورة (هود) ، وفي المتوسّمين أربعة أقوال : أحدها : أنهم المتفرّسون.
(٨٤٨) روى أبو
سعيد الخدريّ عن النّبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثمّ
____________________________________
(٨٤٨) ضعيف. أخرجه
الترمذي ٣١٢٧ والبخاري في «تاريخه» ٤ / ١ / ٣٥٤ والطبري ٢١٤٩ والعقيلي ٤ / ١٢٩
وأبو نعيم ١٠ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ والخطيب ٧ / ٢٤٢ والطبراني في «الأوسط» ٧٨٣٩
وابن الجوزي في «الموضوعات» ٣ / ١٤٥ ـ ١٤٦ كلهم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد مرفوعا
، وإسناده واه لأجل عطية ، فقد ضعفوه ، وهو مدلس ، وقد عنعن. وضعف الترمذي إسناده
بقوله غريب ، وحكم ابن الجوزي بوضعه. وله شاهد من حديث ابن عمر ، أخرجه الطبري
٢١٢٥١ وأبو نعيم ٤ / ٩٤ وابن الجوزي ٣ / ١٤٥ ـ ١٤٦
وإسناده ساقط ، لأجل الفرات بن السائب ، ضعفه الجمهور ، وقال أبو حاتم : كان كذابا
، فلا يفرح بهذا الشاهد. وله شاهد ثان من حديث ثوبان ، أخرجه ابن حبان في «المجروحين»
٣ / ٣٣ ، والطبري ٢١٢٥٥ وأبو الشيخ في «الأمثال» ١٢٨ وفيه سليمان بن سلمة الخبائري
، ضعفه النسائي وغيره ، وقال ابن الجنيد : كان يكذب ، وفيه مؤمل بن سعيد متروك.
وله شاهد ثالث من حديث أبي أمامة ، أخرجه الخطيب ٥ / ٩٩ والطبراني ٧٤٩٧ وأبو نعيم
٦ / ١١٨ وابن الجوزي ٣ / ١٤٦ ـ ١٤٧ وأعله ابن الجوزي بعبد الله بن صالح ، ونقل
أحمد قوله ليس بشيء ، وقال ابن حبان : يروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات. وله
شاهد رابع من حديث أبي هريرة ، أخرجه أبو الشيخ في «الأمثال» ١٢٦ وابن الجوزي ٣ /
١٤٧ وأعله بسليمان بن أرقم ، وأنه متروك ، واتهمه ابن حبان بالوضع. قال ابن الجوزي
: قال الخطيب : فالمحفوظ ما رواه سفيان عن عمرو بن قيس أنه قال : كان يقال : اتقوا
فراسة المؤمن. ثم أسنده الخطيب عن عمرو بن قيس. ووافقه ابن الجوزي ، وهو الراجح ،
والله تعالى أعلم. الخلاصة : هو حديث ضعيف ، لا يرقى عن درجة الضعف بسبب شدة ضعف
طرقه وشواهده.
ـ وورد بلفظ آخر عن أنس ، أخرجه البزار ٣٦٣٢
والطبري ٢١٢٥٢ والطبراني في «الأوسط» ٢٩٥٦ والقضاعي ١٠٠٥ والواحدي في «الوسيط»
٢٩٥٦ من طرق عن سعيد بن محمد الجرمي ثنا عبد الواحد بن واصل ، قال : ثنا أبو بشر
المزلّق عن ثابت البناني عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن لله عبادا
يعرفون الناس بالتوسم».
وإسناده غير قوي ،
وحسنه الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٢٦٨ ، وكذا حسنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» ٢٣
وكذا الألباني في «الصحيحة» ١٦٩٣ ومما قاله : وهذا إسناد حسن ، رجاله ثقات غير أبي
بشر واسمه بكر بن الحكم ، وثقه أبو عبيدة الحداد وأبو سلمة التبوذكي وسعيد بن محمد
الحربي ـ كذا وقع والصواب الجرمي ـ وابن
حبان ، ولم يضعفه أحد غير أن أبا زرعة قال : شيخ ليس بالقوي. قلت : إسناده إلى
الضعف أقرب. فليس في الإسناد علة واحدة. بل فيه أيضا عبد الواحد بن واصل ، فهو وإن
وثقه غير واحد ، فقد قال الإمام أحمد : لم يكن صاحب حفظ ، كان كتابه صحيحا اه. وما
الذي يدرينا هل روى هذا الحديث من كتابه أو من حفظه؟ والذي يترجح عندي أنه رواه من
حفظه ، والدليل على ذلك هو أنه لم يرو في شيء من الكتاب الستة والمسانيد المشهورة.
ولقد ضعفه أحمد فيما نقله الأزدي عن عبد الله بن أحمد ، وقال الأزدي : ما أقرب ما
قال أحمد ، لأن له أحاديث غير مرضية عن شعبة وغيره. راجع «التهذيب» ٦ / ٣٩٥. وقال
الحافظ في ترجمة أبي بشر المزلّق : صدوق فيه لين. وقال الذهبي في «الميزان» ١ /
٣٤٤ : صدوق ، وقال أبو زرعة : ليس بالقوي. وقال التبوذكي : ثقة. قلت : روى خبرا
منكر ـ قاله أبو حاتم ـ عن
ثابت عن أنس فذكر هذا الحديث. واعترض الألباني على الذهبي بقوله : وقول الذهبي :
روى خبرا منكرا ... ثم ذكره. غير مقبول منه ، إلا أن يعني أنه تفرد به. قلت : وهذا
وهم من العلامة الألباني ، فإن الذي حكم بنكارة هذا الحديث إنما هو أبو حاتم كما
هو واضح في السياق الذي ذكرته. والذهبي وافقه فحسب. والذي أوزع به هو ما ذهب إليه
أبو حاتم وكذا الذهبي من أنه خبر منكر. ولعل الراجح وقفه على أنس ، وهو أقرب ،
والله تعالى أعلم.
__________________
قرأ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال : «المتفرّسين» وبهذا قال مجاهد ، وابن قتيبة. قال ابن
قتيبة : يقال : توسّمت في فلان الخير ، أي : تبيّنته. وقال الزّجّاج : المتوسّمون
، في اللغة : النّظّار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء ، يقال :
توسّمت في فلان كذا ، أي : عرفت وسم ذلك فيه. وقال غيره : المتوسّم : النّاظر في
السّمة الدّالّة على الشيء.
والثاني
: المعتبرون ، قاله
قتادة. والثالث
: النّاظرون ، قاله
الضّحّاك. والرابع
: المتفكّرون ،
قاله ابن زيد ، والفرّاء.
قوله تعالى : (وَإِنَّها) يعني : قرية قوم لوط (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) فيه قولان : أحدهما : لبطريق واضح ، رواه نهشل عن الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه
قال قتادة ، والزّجّاج. وقال ابن زيد : لبطريق مبين. والثاني : لبهلاك. رواه أبو روق عن الضّحّاك عن ابن عباس ، والمعنى :
إنها بحال هلاكها لم تعمر حتى الآن! فالاعتبار بها ممكن ، وهي على طريق قريش إذا
سافروا إلى الشّام.
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ
مُبِينٍ (٧٩))
قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ
لَظالِمِينَ) قال الزّجّاج : معنى «إن» واللام : التوكيد ، والأيك : الشّجر
الملتفّ ، فالفصل بين واحده وجمعه ، الهاء. فالمعنى : أصحاب الشّجرة. قال
المفسّرون : هم قوم شعيب ، كان مكانهم ذا شجر ، فكذّبوا شعيبا فأهلكوا بالحرّ كما
بيّنا في سورة (هود).
قوله تعالى : (وَإِنَّهُما) في المكنّى عنهما قولان : أحدهما : أنهما الأيكة ومدينة قوم لوط ، قاله الأكثرون. والثاني : لوط وشعيب ، ذكره ابن الأنباري. وفي قوله : (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) قولان : أحدهما
: لبطريق ظاهر ،
قاله ابن عباس ، قال ابن قتيبة : وقيل للطّريق : إمام ، لأنّ المسافر يأتمّ به حتى
يصير إلى الموضع الذي يريده. والثاني
: لفي كتاب مستبين
، قاله السّدّيّ. قال ابن الأنباري : «وإنهما» يعني : لوطا وشعيبا لبطريق من الحقّ
يؤتمّ به.
(وَلَقَدْ كَذَّبَ
أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ (٨١))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ) يعني بهم ثمود. قال ابن عباس : كانت منازلهم بالحجر بين
المدينة والشّام ، وفي الحجر قولان : أحدهما : أنه اسم الوادي الذي كانوا به ، قاله قتادة ، والزّجّاج. والثاني : اسم مدينتهم ، قاله الزّهريّ ، ومقاتل.
قال المفسّرون :
والمراد بالمرسلين : صالح وحده ، لأنه من كذّب نبيّا فقد كذّب الكلّ.
والمراد بالآيات :
النّاقة ، قال ابن عباس : كان فيها آيات : خروجها من الصّخرة ، ودنوّ نتاجها عند
خروجها ، وعظم خلقها فلم تشبهها ناقة ، وكثرة لبنها حتى كان يكفيهم جميعا ، (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لم يتفكّروا فيها ولم يستدلّوا بها.
(وَكانُوا يَنْحِتُونَ
مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ
(٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ
(٨٦))
قوله تعالى : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ
بُيُوتاً) قد شرحناه في (الأعراف) . وفي قوله : (آمِنِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : آمنين أن تقع عليهم. والثاني : آمنين من خرابها. والثالث : من عذاب الله عزوجل. وفي قوله : (ما كانُوا
يَكْسِبُونَ) قولان : أحدهما
: ما كانوا يعملون
من نحت الجبال. والثاني
: ما كانوا يكسبون
من الأموال والأنعام.
قوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : للحقّ ولإظهار الحقّ ، وهو ثواب المصدّق وعقاب
المكذّب. (وَإِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ) أي : وإنّ القيامة لتأتي ، فيجازى المشركون بأعمالهم ، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) عنهم ، وهو الإعراض الخالي من جزع وفحش ، قال المفسّرون :
وهذا منسوخ بآية السّيف.
فأما (الْخَلَّاقُ) فهو خالق كلّ شيء. و (الْعَلِيمُ) قد سبق شرحه في سورة البقرة .
(وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ
إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ
جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ
الْمَثانِي). سبب نزولها :
(٨٤٩) «أنّ سبع
قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنّضير في يوم واحد ، فيها أنواع من البزّ
والطّيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها
وأنفقناها في سبيل الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال : أعطيتكم سبع آيات
هي خير لكم من هذه السّبع القوافل» ، ويدلّ على صحّة هذا قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الآية ، قاله الحسين بن الفضل. وفي المراد بالسّبع المثاني
أربعة أقوال :
(٨٥٠) أحدها : أنها فاتحة الكتاب ، قاله عمر بن الخطّاب ، وعليّ بن أبي
طالب ، وابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية الأكثرين عنه ، وأبو هريرة ،
والحسن ، وسعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد في رواية ، وعطاء ، وقتادة في آخرين.
فعلى هذا ، إنما سمّيت بالسّبع ، لأنها سبع آيات. وفي تسميتها بالمثاني سبعة أقوال
: أحدها
: لأنّ الله تعالى
استثناها لأمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم ، فلم يعطها أمّة قبلهم ،
____________________________________
(٨٤٩) عزاه المصنف
للحسين بن الفضل تبعا للواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٦ ، والحسين هذا لم أجد له
ترجمة ، فهو مجهول ، وخبره معضل ، وتفرده به دون سائر أهل الحديث والأثر دليل وهنه
بل بطلانه ، والخبر أمارة الوضع لائحة عليه.
(٨٥٠) هو أصح
الأقوال حيث ورد مرفوعا. أخرجه البخاري ٤٧٠٤ والترمذي ٣١٢٤ وأحمد ٢ / ٤٤٨ من حديث
أبي هريرة. وورد من حديث أبي سعيد بن المعلى ، أخرجه البخاري ٤٧٠٣ وغيره ، وتقدم.
وفي الباب أحاديث أخرجها الطبري ٢١٣٥٣ ـ ٢١٣٦١.
__________________
رواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس. والثاني
: لأنها تثنّى في
كلّ ركعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال ابن الأنباري : والمعنى : آتيناك
السّبع الآيات التي تثنّى في كلّ ركعة ، وإنما دخلت «من» للتّوكيد ، كقوله تعالى :
(وَلَهُمْ فِيها مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) . وقال ابن قتيبة : سمّي «الحمد» مثاني ، لأنها تثنّى في
كلّ صلاة. والثالث
: لأنها ما أثني به
على الله تعالى ، لأنّ فيها حمد الله وتوحيده وذكر مملكته ، ذكره الزّجّاج. والرابع : لأنّ فيها «الرّحمن الرّحيم» مرّتين ، ذكره أبو سليمان
الدّمشقي عن بعض اللغويين ، وهذا على قول من يرى التّسمية منها. والخامس : لأنها مقسومة بين الله تعالى وبين عبده.
(٨٥١) ويدلّ عليه
حديث أبي هريرة «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي».
والسادس
: لأنها نزلت
مرّتين ، ذكره الحسين بن الفضل. والسابع
: لأنّ كلماتها
مثنّاة ، مثل : الرّحمن الرّحيم ، إيّاك إيّاك ، الصّراط صراط ، عليهم عليهم ، غير
غير ، ذكره بعض المفسّرين. ومن أعظم فضائلها أنّ الله تعالى جعلها في حيّز ،
والقرآن كلّه في حيز ، وامتنّ عليه بها كما امتنّ عليه بالقرآن كلّه.
والقول
الثاني : أنها السّبع
الطّول ، قاله ابن مسعود في رواية ، وابن عباس في رواية ، وسعيد بن جبير في رواية
، ومجاهد في رواية ، والضّحّاك. فالسّبع الطّول هي : (البقرة) ، و (آل عمران) ، و
(النساء) ، و (المائدة) ، و (الأنعام) ، و (الأعراف) ، وفي السّابعة ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنها (يونس) ،
قاله سعيد بن جبير. والثاني
: (براءة) ، قاله أبو مالك. والثالث : (الأنفال) و (براءة)
جميعا ، رواه سفيان عن مسعر عن بعض أهل العلم. قال ابن قتيبة : وكانوا يرون (الأنفال)
و (براءة) سورة واحدة ، ولذلك لم يفصلوا بينهما. قال شيخنا أبو منصور اللغويّ : هي
الطّول بضمّ الطاء ، ولا تقلها بالكسر ، فعلى هذا ، في تسميتها بالمثاني قولان : أحدهما : لأنّ الحدود والفرائض والأمثال ثنّيت فيها ، قاله ابن
عباس. والثاني
: لأنها تجاوز
المائة الأولى إلى المائة الثانية ، ذكره الماوردي.
والقول الثالث :
أنّ السّبع المثاني سبع معان أنزلت في القرآن : أمر ؛ ونهي ، وبشارة ، وإنذار ،
وضرب الأمثال وتعداد النّعم ، وأخبار الأمم ، قاله زياد بن أبي مريم.
والقول الرابع :
أنّ المثاني : القرآن كلّه ، قاله طاوس ، والضّحّاك ، وأبو مالك ، فعلى هذا ، في
تسمية القرآن بالمثاني أربعة أقوال : أحدها : لأنّ بعض الآيات يتلو بعضا ، فتثنّى الآخرة على الأولى ،
ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتى تنقضي السّورة ، قاله أبو عبيدة. والثاني : أنه سمّي بالمثاني لما يتردّد فيه من الثّناء على الله عزوجل. والثالث
: لما يتردّد فيه
من ذكر الجنّة ، والنّار ، والثّواب ، والعقاب. والرابع : لأنّ الأقاصيص ، والأخبار ، والمواعظ ، والآداب ، ثنّيت
فيه ، ذكرهنّ ابن الأنباري. وقال ابن قتيبة : قد يكون المثاني سور القرآن كلّه ،
قصارها وطوالها ، وإنما سمّي مثاني ، لأنّ الأنبياء
____________________________________
(٨٥١) تقدم في
سورة الفاتحة ، رواه الشيخان.
__________________
والقصص تثنّى فيه
، فعلى هذا القول ، المراد بالسّبع : سبعة أسباع القرآن ، ويكون في الكلام إضمار ،
تقديره : وهي القرآن العظيم.
فأمّا قوله تعالى
: (مِنَ الْمَثانِي) ففي «من» قولان : أحدهما : أنها للتّبعيض ، فيكون المعنى : آتيناك سبعا من جملة
الآيات التي يثنى بها على الله تعالى ، وآتيناك القرآن. والثاني : أنها للصّفة ، فيكون السّبع هي المثاني ، ومنه قوله تعالى
: (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) لا أنّ بعضها رجس ، ذكر الوجهين الزّجّاج ، وقد ذكرنا عن
ابن الأنباري قريبا من هذا المعنى.
قوله تعالى : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) يعني : العظيم القدر ، لأنه كلام الله تعالى ، ووحيه ، وفي
المراد به ها هنا قولان : أحدهما
: أنه جميع القرآن.
قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضّحّاك. والثاني : أنه الفاتحة أيضا ، قاله أبو هريرة ، وقد روينا فيه حديثا
في أوّل تفسير (الفاتحة). قال ابن الأنباري : فعلى القول الأوّل ، يكون قد نسق
الكلّ على البعض ، كما يقول العربيّ : رأيت جدار الدّار والدّار ، وإنما يصلح هذا
، لأنّ الزّيادة التي في الثاني من كثرة العدد أشبه بها ما يغاير الأوّل ، فجوّز
ذلك عطفه عليه. وعلى القول الثاني ، نسق الشيء على نفسه لمّا زيد عليه معنى المدح
والثّناء ، كما قالوا : روي ذلك عن عمر ، وابن الخطّاب ، يعنون بابن الخطّاب :
الفاضل العالم الرّفيع المنزلة ، فلما دخلته زيادة ، أشبه ما يغاير الأوّل ؛ فعطف
عليه.
ولمّا ذكر الله
تعالى منّته عليه بالقرآن ، نهاه عن النّظر إلى الدنيا ليستغني بما آتاه من القرآن
عن الدنيا ، فقال : (لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي : أصنافا من اليهود والمشركين ، والمعنى : أنه نهاه عن
الرّغبة في الدنيا ، وفي قوله : (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) قولان :
أحدهما
: لا تحزن عليهم إن
لم يؤمنوا. والثاني
: لا تحزن بما
أنعمت عليهم في الدنيا.
قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : ألن جانبك لهم ، وخفض الجناح ، عبارة عن السّكون وترك
التّعصّب والإباء ، قال ابن عباس : ارفق بهم ولا تغلظ عليهم.
قوله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ) حرّك ياء «إني» ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع. وذكر بعض
المفسّرين أنّ معناها منسوخ بآية السّيف.
(كَما أَنْزَلْنا
عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ
رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣))
قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) (٩٠) في هذه الكاف
قولان :
أحدهما
: أنها متعلّقة
بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) ثمّ في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنّ المعنى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني ، كما أنزلنا
الكتاب على المقتسمين ، قاله مقاتل. والثاني : أنّ المعنى : ولقد شرّفناك وكرّمناك بالسّبع المثاني ، كما
شرّفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب ، والكاف بمعنى «مثل» و «ما»
بمعنى «الذي» ذكره ابن الأنباري. والثاني : أنّها
__________________
متعلّقة بقوله : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ) ، والمعنى : إنّي أنا النّذير ، أنذرتكم مثل الذي أنزل على
المقتسمين من العذاب ، وهذا معنى قول الفرّاء. فخرج في معنى «أنزلنا» قولان : أحدهما : أنزلنا الكتاب ، على قول مقاتل. والثاني : العذاب ، على قول الفرّاء.
وفي «المقتسمين»
ثلاثة أقوال : أحدها
: أنهم اليهود
والنّصارى ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ومجاهد. فعلى هذا في
تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه ، رواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس. والثاني
: أنهم اقتسموا
القرآن ، فقال بعضهم : هذه السّورة لي ، وقال آخر : هذه السّورة لي ، استهزاء به ،
قاله عكرمة. والثالث
: أنهم اقتسموا
كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها ، وآمن آخرون بما كفر به غيرهم ، قاله مجاهد.
والثاني
: أنهم مشركو قريش.
قاله قتادة ، وابن السّائب ، فعلى هذا في تسميتهم بالمقتسمين قولان : أحدهما : أنّ أقوالهم تقسّمت في القرآن ، فقال بعضهم : إنه سحر ،
وزعم بعضهم أنه كهانة ، وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين ، منهم الأسود بن عبد يغوث
، والوليد بن المغيرة ، وعديّ بن قيس السّهميّ ، والعاص بن وائل ، قاله قتادة. والثاني : أنهم اقتسموا على عقاب مكّة ، قال ابن السّائب : هم رهط من
أهل مكّة اقتسموا على عقاب مكّة حين حضر الموسم ، قال لهم الوليد بن المغيرة :
انطلقوا فتفرّقوا على عقاب مكّة حيث يمرّ بكم أهل الموسم ، فإذا سألوكم عنه ، يعني
: رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فليقل بعضكم : كاهن ، وبعضكم : ساحر ، وبعضكم : شاعر ،
وبعضكم : غاو ، فإذا انتهوا إليّ صدّقتكم ، ومنهم حنظلة بن أبي سفيان ، وعتبة
وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل ، والعاص بن هشام ، وأبو قيس بن
الوليد ، وقيس بن الفاكه ، وزهير بن أبي أميّة ، وهلال بن عبد الأسود ، والسّائب
بن صيفيّ ، والنّضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الحجّاج ، وأميّة
بن خلف ، وأوس بن المغيرة.
والثالث
: أنهم قوم صالح
الذي تقاسموا بالله : (لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ) فكفاه الله شرّهم ، قاله عبد الرّحمن بن زيد. فعلى هذا هو
من القسم ، لا من القسمة.
قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) في المراد بالقرآن قولان : أحدهما : أنه كتابنا ، وهو الأظهر ، وعليه الجمهور. والثاني : أنّ المراد به : كتب المتقدّمين قبلنا. وفي «عضين» قولان :
أحدهما
: أنه مأخوذ من
الأعضاء. قال الكسائيّ ، وأبو عبيدة : اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاء. ثم فيما
فعلوا فيه قولان : أحدهما
: أنهم عضّوه أعضاء
، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه ، والمعضيّ : المفرّق ، والتّعضية : تجزئة الذّبيحة
أعضاء ، قال عليّ عليهالسلام : لا تعضية في ميراث ، أراد : تفريق ما يوجب تفريقه ضررا
على الورثة كالسّيف ، ونحوه. وقال رؤبة :
وليس دين الله بالمعضّى
وهذا المعنى في
رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : أنهم عضّوا القول فيه ، أي : فرّقوا ، فقالوا : شعر ،
وقالوا : سحر ، وقالوا : كهانة ، وقالوا : أساطير الأوّلين ، وهذا المعنى في رواية
__________________
ابن جريج عن مجاهد
، وبه قال قتادة ، وابن زيد. والثاني
: أنه مأخوذ من
العضه ، والعضه ، بلسان قريش : السّحر ، ويقولون للسّاحرة : عاضهة. وفي الحديث :
(٨٥٢) أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لعن العاضهة والمستعضهة. فيكون المعنى : جعلوه سحرا ، وهذا
المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والفرّاء.
قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) هذا سؤال توبيخ ، يسألون عمّا عملوا في ما أمروا به من
التّوحيد والإيمان ، فيقال لهم : لم عصيتم وتركتم الإيمان؟ فتظهر فضيحتهم عند
تعذّر الجواب. قال أبو العالية : يسأل العباد كلّهم يوم القيامة عن خلّتين : عمّا
كانوا يعبدون ، وعمّا أجابوا المرسلين. فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين
قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) ؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه لا يسألهم : هل عملتم كذا؟ لأنّه أعلم ، وإنما يقول :
لم عملتم كذا؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنهم يسألون في بعض مواطن القيامة ، ولا يسألون في بعضها ،
رواه عكرمة عن ابن عباس.
(فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤))
قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : فامض لما تؤمر ، قاله ابن عباس. والثاني : أظهر أمرك ، رواه ليث عن مجاهد ، قال ابن قتيبة : «فاصدع
بما تؤمر» أي : أظهر ذلك. وأصله : الفرق والفتح ، يريد : اصدع الباطل بحقّك. وقال
الزّجّاج : اظهر بما تؤمر به ، أخذ ذلك من الصّديع ، وهو الصّبح ، قال الشاعر :
كأنّ بياض غرّته صديع
وقال الفرّاء :
إنما لم يقل : بما تؤمر به ، لأنه أراد : فاصدع بالأمر. وذكر ابن الأنباري أنّ «به»
مضمرة ، كما تقول : مررت بالذي مررت. والثالث : أنّ المراد به : الجهر بالقرآن في الصّلاة ، رواه ابن أبي
نجيح عن مجاهد. قال موسى بن عبيدة :
(٨٥٣) ما زال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية ، فخرج هو وأصحابه.
وفي قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : اكفف عن حربهم. والثاني : لا تبال بهم ، ولا تلتفت إلى لومهم على إظهار أمرك. والثالث : أعرض عن الاهتمام باستهزائهم. وأكثر المفسّرين على أنّ هذا
القدر من الآية منسوخ بآية السّيف.
____________________________________
(٨٥٢) ضعيف. أخرجه
ابن عدي في «الكامل» ٣ / ٣٣٩ من حديث ابن عباس وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن
وهرام ، وكلاهما ضعيف. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢ / ٥٩٠ : وله شاهد عند عبد
الرزاق من رواية ابن جريح عن عطاء اه. وهذا مرسل ، فهو ضعيف.
(٨٥٣) ضعيف جدا.
أخرجه الطبري ٢١٤١٣ عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة وإسناده ضعيف جدا
، فهو مرسل ، ومع إرساله موسى بن عبيدة ضعيف.
__________________
(إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ
(٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))
قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٩٥) المعنى :
فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين ، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن ، وفي
عددهم قولان :
أحدهما
: أنهم كانوا خمسة
: الوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن وائل ،
والحارث بن قيس ، قاله ابن عباس ، واسم أبي زمعة : الأسود بن المطّلب. وكذلك ذكرهم
سعيد بن جبير ، إلّا أنه قال مكان الحارث بن قيس ، الحارث ابن غيطلة ، قال
الزّهريّ : غيطلة أمّه ، وقيس أبوه ، فهو واحد ، وإنما ذكرت ذلك ، لئلّا يظنّ أنه
غيره ، وقد ذكرت في كتاب «التّلقيح» من ينسب إلى أمّه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وسمّيت
آباءهم ليعرفوا إلى أيّ الأبوين نسبوا. وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث بن قيس
: عديّ بن قيس.
والثاني
: أنهم كانوا سبعة
، قاله الشّعبيّ ، وابن أبي بزّة ، وعدّهم ابن أبي بزّة ، فقال : العاص بن وائل ،
والوليد بن المغيرة ، والحارث بن عديّ ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث
، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السبّاق. وكذلك عدّهم مقاتل ، إلّا أنّه قال
مكان الحارث بن عديّ :
الحارث بن قيس
السّهميّ ، وقال : أصرم وبعكك ابنا الحجّاج بن السبّاق.
ذكر ما أهلكهم الله به فكفى رسوله صلىاللهعليهوسلم أمرهم
(٨٥٤) قال
المفسّرون : أتى جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمستهزئون يطوفون بالبيت ، فمرّ الوليد بن المغيرة ،
فقال جبريل : يا محمّد ، كيف تجد هذا؟ فقال «بئس عبد الله» ، قال : قد كفيت ، وأومأ
إلى ساق الوليد ، فمرّ الوليد برجل يريش نبلا له ، فتعلّقت شظيّة من نبل بإزاره ، فمنعه الكبر أن
يطامن لينزعها ، وجعلت تضرب ساقه ، فمرض ومات. وقيل : تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله
فقطعه ، فمات. ومرّ العاص بن وائل ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمّد ، فقال : «بئس
عبد الله» فأشار إلى أخمص
____________________________________
(٨٥٤) متن حسن
بطرقه وشواهده من جهة الإسناد ، لكن المتن غريب. أخرجه الطبري ٢١٤١٧ عن ابن إسحاق
عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير به مع اختلاف يسير وهذا مرسل. وكرره ٢١٤١٩ عن
سعيد بن جبير مرسلا ، وكرره ٢١٤٣٠ من مرسل قتادة. وورد بنحوه عن قتادة ومقسم أخرجه
الطبري ٢١٤٢٨. وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند الطبراني في «الطوال» ٣٣ وفي «الأوسط»
٤٩٨٣ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٣١٧ ـ ٣١٨ من طريقين عن جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن
عباس. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٤٦ ـ
٤٧ وقال : وفيه محمد بن عبد الحكيم
النيسابوري ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات. قلت : توبع عند البيهقي.
الخلاصة : هذه
روايات عامتها مرسلة ، والموصول لا بأس به بطريقيه ، فالحديث حسن من جهة الإسناد
بطرقه وشواهده ، لكن المتن فيه غرابة والله تعالى أعلم.
__________________
رجله ، وقال : قد
كفيت ، فدخلت شوكة في أخمصه ، فانتفخت رجله ومات. ومرّ الأسود بن المطّلب ، فقال :
كيف تجد هذا؟ قال : «عبد سوء» فأشار بيده إلى عينيه ، فعمي وهلك. وقيل : جعل ينطح
برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشّوك ، فاستغاث بغلامه ، فقال : لا أرى أحدا يصنع بك
هذا غير نفسك ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد. ومرّ الأسود بن عبد يغوث ، فقال
جبريل : كيف تجد هذا؟ فقال : «بئس عبد الله» ، فقال : قد كفيت ، وأشار إلى بطنه ،
فسقى بطنه ، فمات. وقيل : أصاب عينه شوك ، فسالت حدقتاه ، وقيل : خرج عن أهله
فأصابه السّموم ، فاسودّ حتى عاد حبشيّا ، فلمّا أتى أهله لم يعرفوه ، فأغلقوا
دونه الأبواب حتى مات. ومرّ به الحارث بن قيس ، فقال : كيف تجد هذا؟ قال : «عبد
سوء» فأومأ إلى رأسه ، وقال : قد كفيت ، فانتفخ رأسه فمات ، وقيل : أصابه العطش ،
فلم يزل يشرب الماء حتى انقدّ بطنه ، وأمّا أصرم وبعكك ، فقال مقاتل : أخذت أحدهما
الدّبيلة والآخر ذات الجنب ، فماتا جميعا. قال عكرمة : هلك
المستهزئون قبل بدر. وقال ابن السّائب : أهلكوا جميعا في يوم وليلة.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنه التّكذيب. والثاني : الاستهزاء. قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) فيه قولان : أحدهما : قل سبحان الله وبحمده ، قاله الضّحّاك. والثاني : فصلّ بأمر ربّك ، قاله مقاتل. وفي قوله : (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قولان : أحدهما
: من المصلّين. والثاني : من المتواضعين ، رويا عن ابن عباس. قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فيه قولان : أحدهما : أنه الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور. وسمّي
يقينا ، لأنه موقن به. وقال الزّجّاج : معنى الآية : اعبد ربّك أبدا ، ولو قيل :
اعبد ربّك ، بغير توقيت ، لجاز إذا عبد الإنسان مرّة أن يكون مطيعا ، فلمّا قال : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أمر بالإقامة على العبادة ما دام حيّا . والثاني
: أنه الحقّ الذي
لا ريب فيه من نصرك على أعدائك ، حكاه الماوردي.
__________________
سورة النّحل
فصل
في نزولها : روى مجاهد ،
وعطيّة ، وابن أبي طلحة عن ابن عباس : أنها مكّيّة ، وكذلك روي عن الحسن ، وعكرمة
، وعطاء : أنها مكّيّة كلّها. وقال ابن عباس في رواية : إنه نزل منها بعد قتل حمزة
: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) . وقال في رواية : هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة ،
وهي قوله : (وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى قوله : (يَعْمَلُونَ) . وقال الشّعبيّ : كلّها مكيّة إلّا قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) ... إلى آخر الآيات. وقال قتادة : هي مكّية إلّا خمس آيات
: (وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ... الآيتين ، ومن قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) ... إلى آخرها. وقال ابن السّائب : هي مكيّة إلّا خمس آيات
: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) الآية ، وقوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) الآية ، وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها. وقال مقاتل : مكيّة إلّا سبع آيات ، قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
هاجَرُوا) الآية ، وقوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) الآية ، وقوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) الآية ، وقوله : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً) الآية ، وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها. قال جابر بن زيد : أنزل من أول النّحل أربعون
آية بمكّة وبقيّتها بالمدينة. وروى حمّاد عن عليّ بن زيد قال : كان يقال لسورة
النّحل : سورة النّعم ، يريد لكثرة تعداد النّعم فيها.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ
أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣))
قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) قرأ حمزة والكسائيّ بالإمالة.
__________________
(٨٥٥) سبب نزولها
: أنه لمّا نزل قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ) ، فقال الكفّار بعضهم لبعض : إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد
اقتربت ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ، فلمّا رأوا أنّه لا ينزل شيء ؛
قالوا : ما نرى شيئا ، فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ) فأشفقوا ، وانتظروا قرب الساعة ، فلمّا امتدّت الأيام
قالوا : يا محمّد ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به ، فأنزل الله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) ، فوثب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ورفع الناس رؤوسهم ، فنزل : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنّوا ، قاله ابن عباس.
وفي قوله : (أَتى) ثلاثة أقوال : أحدها : أتى بمعنى : يأتي ، كما يقال : أتاك الخير فأبشر ، أي : سيأتيك
، قاله ابن قتيبة ، وشاهده : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ) ، (وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى) ونحو ذلك. والثاني : أتى بمعنى : قرب ، قال الزّجّاج : أعلم الله تعالى أنّ ذلك
في قربه بمنزلة ما قد أتى. والثالث
: أنّ «أتى» للماضي
، والمعنى : أتى بعض عذاب الله ، وهو : الجدب الذي نزل بهم ، والجوع. (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فينزل بكم مستقبلا كما نزل ماضيا ، قاله ابن الأنباري.
وفي المراد ب «أمر
الله» خمسة أقوال : أحدها
: أنها السّاعة ،
وقد يخرّج على قول ابن عباس الذي قدّمناه ، وبه قال ابن قتيبة. والثاني : خروج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، يعني : أنّ خروجه من أمارات
السّاعة. وقال ابن الأنباري : أتى أمر الله من أشراط السّاعة ، فلا تستعجلوا قيام
السّاعة. والثالث
: أنه الأحكام
والفرائض ، قاله الضّحّاك . والرابع
: عذاب الله ، ذكره
ابن الأنباري. والخامس
: وعيد المشركين ،
ذكره الماوردي.
قوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي : لا تطلبوه قبل حينه ، (سُبْحانَهُ) أي : تنزيه له وبراءة من السّوء عمّا يشركون به من
الأصنام.
قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «ينزل» بإسكان النّون وتخفيف
الزاي. وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : (يُنَزِّلُ) بالتشديد ، وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم : «تنزّل»
بالتاء مضمومة ، وفتح الزاي مشدّدة. «الملائكة» رفع. قال ابن عباس : يريد
____________________________________
(٨٥٥) واه بمرة.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٧ عن ابن عباس بدون إسناد. والظاهر أنه من رواية
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري ٢١٤٤٨ عن ابن
جريج مرسلا بنحوه ، ومراسيل ابن جريج واهية ، فالخبر لا شيء ، وهو شبه موضوع.
__________________
بالملائكة جبريل عليهالسلام وحده. وفي المراد بالرّوح ستة أقوال :
أحدها
: الوحي ، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني
: أنه النّبوّة ،
رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث
: أنّ المعنى :
تنزّل الملائكة بأمره ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى : أنّ أمر
الله كلّه روح. قال الزّجّاج : الرّوح ما كان فيه من أمر الله حياة النّفوس
بالإرشاد. والرابع
: أنه الرّحمة ،
قاله الحسن ، وقتادة. والخامس
: أنه أرواح الخلق
: لا ينزل ملك إلّا ومعه روح ، قاله مجاهد. والسادس : أنه القرآن ، قاله ابن زيد. فعلى هذا سمّاه روحا ، لأنّ
الدّين يحيا به ، كما أنّ الرّوح تحيي البدن.
وقال بعضهم :
الباء في قوله : (بِالرُّوحِ) بمعنى : مع ، فالتّقدير : مع الرّوح ، (مِنْ أَمْرِهِ) أي : بأمره ، (عَلى مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ) يعني : الأنبياء ، (أَنْ أَنْذِرُوا) قال الزّجّاج : والمعنى : أنذروا أهل الكفر والمعاصي (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي : مروهم بتوحيدي ، وقال غيره : أنذروا بأنه لا إله إلّا
أنا ، أي : مروهم بالتّوحيد مع تخويفهم إن لم يقرّوا.
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤))
قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) قال المفسّرون : أخذ أبيّ بن خلف عظما رميما ، فجعل يفتّه
ويقول : يا محمّد كيف يبعث الله هذا بعد ما رمّ؟ فنزلت فيه هذه الآية. والخصيم :
المخاصم ، والمبين : الظّاهر الخصومة. والمعنى : أنه مخلوق من نطفة ، وهو مع ذلك
يخاصم وينكر البعث ، أفلا يستدلّ بأوّله على آخره ، وأنّ من قدر على إيجاده أوّلا
، يقدر على إعادته ثانيا؟! وفيه تنبيه على إنعام الله عليه حين نقله من حال ضعف
النّطفة إلى القوّة التي أمكنه معها الخصام.
(وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى
بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))
قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) الأنعام : الإبل ، البقر ، والغنم.
قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه ما استدفئ من أوبارها تتّخذ ثيابا ، وأخبية ، وغير
ذلك. روى العوفيّ عن ابن عباس أنه قال : يعني بالدّفء : اللباس ، وإلى هذا المعنى
ذهب الأكثرون. والثاني
: أنه نسلها. روى
عكرمة عن ابن عباس : (فِيها دِفْءٌ) قال : الدّفء : نسل كلّ دابّة ، وذكر ابن السّائب قال :
يقال : الدّفء أولادها ، ومن لا يحمل من الصّغار ، وحكى ابن فارس اللغويّ عن
الأمويّ ، قال : الدّفء عند العرب : نتاج الإبل وألبانها.
قوله تعالى : (وَمَنافِعُ) أي : سوى الدّفء من الجلود ، والألبان ، والنّسل ،
والرّكوب ، والعمل عليها ، إلى غير ذلك ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يعني : من لحوم الأنعام.
__________________
قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي : زينة ، (حِينَ تُرِيحُونَ) أي : حين تردّونها إلى مراحها ، وهو المكان الذي تأوي إليه
، فترجع عظام الضّروع والأسنمة ، فيقال : هذا مال فلان ، (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) : ترسلونها بالغداة إلى مراعيها. فإن قيل : لم قدّم
الرّواح وهو مؤخّر؟ فالجواب : أنها في حال الرّواح تكون أجمل ؛ لأنها قد رعت ،
وامتلأت ضروعها ، وامتدّت أسنمتها.
قوله تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الإشارة بهذا إلى ما يطيق الحمل منها ، والأثقال : جمع ثقل
، وهو متاع المسافر. وفي قوله تعالى : (إِلى بَلَدٍ) قولان : أحدهما
: أنه عامّ في كلّ
بلد يقصده المسافر ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنّ المراد به : مكّة ، قاله عكرمة ، والأول أصحّ. والمعنى
: أنها تحملكم إلى كلّ بلد لو تكلّفتم أنتم بلوغه لم تبلغوه إلّا بشقّ الأنفس.
وفي معنى «شق
الأنفس» قولان : أحدهما
: أنه المشقّة ، قاله
الأكثرون. قال ابن قتيبة : يقال : نحن بشقّ من العيش ، أي : بجهد.
(٨٥٦) وفي حديث
أمّ زرع : «وجدني في أهل غنيمة بشقّ».
والثاني
: أنّ الشّقّ :
النّصف ، فكان الجهد ينقص من قوة الرّجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه ، ذكره الفرّاء.
قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي حين منّ عليكم بالنّعم التي فيها هذه المرافق.
(وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ
(٨))
قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ) أي : وخلق الخيل (وَالْبِغالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) قال الزّجّاج : المعنى : وخلقها زينة.
فصل
: ويجوز أكل لحم
الخيل ، وإنما لم يذكر في الآية ، لأنه ليس هو المقصود ، وإنما معظم المقصود بها
الرّكوب والزّينة ، وبهذا قال الشّافعيّ. وقال أبو حنيفة ومالك : لا تؤكل لحوم
الخيل.
قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ذكر قوم من المفسّرين : أنّ المراد به عجائب المخلوقات في
السّماوات والأرض التي لم يطّلع عليها ، مثل ما يروى : إنّ لله ملكا من صفته كذا ،
وتحت العرش نهر من صفته كذا. وقال قوم : هو ما أعدّ الله لأهل الجنّة فيها ولأهل
النّار. وقال أبو سليمان الدّمشقي : في النّاس من كره تفسير هذا الحرف. وقال
الشعبيّ : هذا الحرف من أسرار القرآن.
(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢))
____________________________________
(٨٥٦) صحيح ، هو
قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري ٥١٨٩ ومسلم ٢٤٤٨ ، وأبو يعلى ٤٧٠١ والترمذي في «الشمائل»
٢٥١ وابن حبان ٧١٠٥ من حديث عائشة.
قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) القصد : استقامة الطّريق ، يقال : طريق قصد وقاصد : إذا
قصد بك ما تريد. قال الزّجّاج : المعنى : وعلى الله تبيين الطّريق المستقيم ،
والدّعاء إليه بالحجج والبرهان. قوله تعالى : (وَمِنْها جائِرٌ) قال أبو عبيدة : السّبيل لفظه لفظ الواحد ، وهو في موضع
الجميع ، فكأنّه قال : ومن السّبل سبيل جائر. قال ابن الأنباري : لمّا ذكر السّبيل
، دلّ على السّبل ، فلذلك قال : (وَمِنْها جائِرٌ) ، كما دلّ الحدثان على الحوادث في قول العبدي :
ولا يبقى على
الحدثان حيّ
|
|
فهل يبقى عليهنّ
السّلام
|
أراد : فهل يبقى
على الحوادث ، والسّلام : الصّخور ، قال : ويجوز أن يكون إنما قال : (ومنها) لأنّ
السّبيل تؤنّث وتذكّر ، فالمعنى : من السّبيل جائر. وقال ابن قتيبة : المعنى : ومن
الطّرق جائر لا يهتدون فيه ، والجائر : العادل عن القصد ، قال ابن عباس : (وَمِنْها جائِرٌ) الأهواء المختلفة. وقال ابن المبارك : الأهواء والبدع.
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً) يعني : المطر (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) وهو ما تشربونه ، (وَمِنْهُ شَجَرٌ) ذكر ابن الأنباري في معناه قولين : أحدهما : ومنه سقي شجر ، وشرب شجر ، فخلف المضاف إليه المضاف ،
كقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) . والثاني
: أنّ المعنى : ومن
جهة الماء شجر ، ومن سقيه شجر ، ومن ناحيته شجر ، فحذف الأول ، وخلفه الثاني ، قال
زهير :
لمن الدّيار
بقنّة الحجر
|
|
أقوين من حجج
ومن شهر
|
أي : من ممرّ حجج.
قال ابن قتيبة : والمراد بهذه الشّجر : المرعى. وقال الزّجّاج : كلّ ما نبت على
الأرض فهو شجر ، قال الشاعر يصف الخيل:
يعلفها اللّحم
إذا عزّ الشّجر
|
|
والخيل في
إطعامها اللّحم ضرر
|
يعني : أنهم يسقون
الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض. و (تُسِيمُونَ) بمعنى : ترعون ، يقال : سامت الإبل فهي سائمة : إذا رعت ،
وإنما أخذ ذلك من السّومة ، وهي : العلامة ، وتأويلها : أنها تؤثّر في الأرض
برعيها علامات. قوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
الزَّرْعَ) وروى أبو بكر عن عاصم : «ننبت» بالنون. قال ابن عباس : يريد
الحبوب ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى : (وَالنُّجُومُ
مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) قال الأخفش : المعنى : وجعل النّجوم مسخّرات ، فجاز إضمار
فعل غير الأوّل ، لأنّ هذا المضمر في المعنى مثل المظهر ، وقد تفعل العرب أشدّ من
هذا ، قال الرّاجز :
تسمع في
أجوافهنّ صردا
|
|
وفي اليدين جسأة
وبددا
|
المعنى : وترى في
اليدين. والجسأة : اليبس. والبدد : السّعة. وقال غيره : قوله تعالى : (مُسَخَّراتٌ) حال مؤكّدة ، لأنّ تسخيرها قد عرف بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ). وقرأ ابن عامر : «والشمس
__________________
والقمر والنجوم
مسخرات» ، رفعا كلّه ، وروى حفص عن عاصم : بالنّصب ؛ كالجمهور ؛ إلّا قوله تعالى :
(وَالنُّجُومُ
مُسَخَّراتٌ) فإنه رفعها.
(وَما ذَرَأَ لَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ
مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))
قوله تعالى : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) أي : وسخّر ما ذرأ لكم. وذرأ بمعنى : خلق. و (سَخَّرَ الْبَحْرَ) أي : ذلّله للركوب والغوص فيه (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) يعني : السّمك (وَتَسْتَخْرِجُوا
مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يعني : الدّرّ ، واللؤلؤ ، والمرجان ، وفي هذا دلالة على
أنّ حالفا لو حلف : لا يلبس حليّا ، فلبس لؤلؤا ، أنه يحنث ، وقال أبو حنيفة : لا
يحنث. قوله تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ) يعني : السّفن. وفي معنى (مَواخِرَ) قولان : أحدهما
: جواري ، قاله ابن
عباس. قال اللغويون : يقال : مخرت السّفينة مخرا : إذا شقّت الماء في جريانها. والثاني : المواخر ، يعني : المملوءة ، قاله الحسن. وفي قوله تعالى :
(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) قولان : أحدهما
: بالرّكوب فيه
للتّجارة ابتغاء الرّبح من فضل الله؟! والثاني : بما تستخرجون من حليته ، وتصيدون من حيتانه. قال ابن
الأنباري : وفي دخول الواو في قوله تعالى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) وجهان : أحدهما
: أنها معطوفة على
لام محذوفة تقديره : وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا. والثاني : أنها دخلت لفعل مضمر ، تقديره : وفعل ذلك لكي تبتغوا.
قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : نصب فيها جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ) أي : لئلّا تميد ، وقال الزّجّاج : كراهة أن تميد ، يقال :
ماد الرجل يميد ميدا : إذا أدير به ، وقال ابن قتيبة : الميد : الحركة والميل ،
يقال : فلان يميد في مشيته ، أي : يتكفّأ. قوله تعالى : (وَأَنْهاراً) قال الزّجّاج : المعنى : وجعل فيها سبلا ، لأنّ معنى «ألقى»
: «جعل» ، فأمّا السّبل ، فهي الطّرق ، (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) أي : لكي تهتدوا إلى مقاصدكم. قوله تعالى : (وَعَلاماتٍ) فيها ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها معالم
الطّرق بالنهار ، وبالنّجم هم يهتدون بالليل ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنها النّجوم أيضا ، منها ما يكون
__________________
علامة لا يهتدى به
، ومنها ما يهتدى به ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والنّخعيّ. والثالث : الجبال ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. وفي المراد بالنّجم
أربعة أقوال : أحدها
: أنه الثّريّا ،
والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدي ، قاله السّدّيّ. والثاني : أنه الجدي ، والفرقدان ، قاله ابن السائب. والثالث : أنه الجدي وحده ، لأنه أثبت النّجوم كلّها في مركزه ، ذكره
الماوردي. والرابع
: أنه اسم جنس ،
والمراد جميع النّجوم ، قاله الزّجّاج. وقرأ الحسن ، والضّحّاك ، وأبو المتوكّل ،
ويحيى بن وثّاب : «وبالنّجم» بضمّ النون وإسكان الجيم ، وقرأ الجحدريّ : «وبالنّجم»
بضمّ النون والجيم ، وقرأ مجاهد : «وبالنجوم» بواو على الجمع. وفي المراد بهذا
الاهتداء قولان : أحدهما
: الاهتداء إلى
القبلة. والثاني
: إلى الطريق في
السّفر.
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ (١٩))
قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) يعني : الأوثان ، وإنما عبّر عنها ب «من» لأنهم نحلوها
العقل والتّمييز ، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : المشركين ، يقول : أفلا تتّعظون كما اتّعظ المؤمنون؟
قال الفرّاء : وإنما جاز أن يقول : (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) ، لأنه ذكر مع الخالق ، كقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) ، والعرب تقول : اشتبه عليّ الراكب وجمله ، فما أدري من ذا
من ذا ، لأنهم لمّا جمعوا بين الإنسان وغيره صلحت «من» فيهما جميعا.
قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا
تُحْصُوها) قد فسّرناه في سورة إبراهيم .
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) أي : لما كان منكم من تقصيركم في شكر نعمه (رَحِيمٌ) بكم إذ لم يقطعها عنكم بتقصيركم.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ) (١٩) ، روى عبد
الوارث ، إلّا القزّاز «يسرون» و «يعلنون» بالياء.
(وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠)
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، قرأ عاصم : يدعون ، بالياء.
قوله تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) يعني : الأصنام. قال الفرّاء : ومعنى الأموات هاهنا : أنها
لا روح فيها. قال الأخفش : وقوله : (غَيْرُ أَحْياءٍ) توكيد.
قوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ، «أيّان» بمعنى : «متى». وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنها الأصنام ، عبّر عنها كما يعبّر عن الآدميين. قال ابن
عباس : وذلك أنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها ، فيتبرّؤون من
عبادتهم ، ثم يؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار. الثاني : أنهم
الكفّار ، لا يعلمون متى بعثهم ، قاله مقاتل.
__________________
(إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما
ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧))
قوله تعالى : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) قد ذكرناه في سورة (البقرة) .
قوله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ) أي : بالبعث والجزاء (قُلُوبُهُمْ
مُنْكِرَةٌ) أي : جاحدة لا تعرف التّوحيد (وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ) أي : ممتنعون من قبول الحقّ.
قوله تعالى : (لا جَرَمَ) قد فسّرناه في (هود) . ومعنى الآية : أنّه يجازيهم بسرّهم وعلنهم ، لأنه يعلمه.
والمستكبرون : المتكبّرون عن التّوحيد والإيمان. وقال مقاتل : (ما يسرون) حين
بعثوا في كلّ طريق من يصدّ الناس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، (وما يعلنون) حين أظهروا العداوة لرسول الله. قوله تعالى
: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعني : المستكبرين (ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ) على محمّد صلىاللهعليهوسلم؟ قال الزّجّاج : «ما ذا» بمعنى «ما الذي». و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) مرفوعة على الجواب ، كأنهم قالوا : الذي أنزل : أساطير
الأوّلين ، أي : الذي تذكرون أنتم أنه منزّل أساطير الأوّلين. وقد شرحنا معنى
الأساطير في سورة الأنعام . قال مقاتل : الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكّة
يصدّون الناس عن الإيمان ، ويقول بعضهم : إنّ محمّدا ساحر ، ويقول بعضهم : شاعر ،
وقد شرحنا هذا المعنى في الحجر : في ذكر المقتسمين .
قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) هذه لام العاقبة ، وقد شرحناها في غير موضع ، والأوزار : الآثام
، وإنما قال : كاملة ، لأنه لم يكفّر منها شيء بما يصيبهم من نكبة ، أو بليّة ،
كما يكفّر عن المؤمن ، (وَمِنْ أَوْزارِ
الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : أنهم أضلّوهم بغير دليل ، وإنما حملوا من أوزار
الأتباع ، لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضّلالة ، وقد ذكر ابن الأنباري في «من»
وجهين : أحدهما
: أنها للتّبعيض ،
فهم يحملون ما شركوهم فيه ، فأمّا ما ركبه أولئك باختيارهم من غير تزيين هؤلاء ،
فلا يحملونه ، فيصحّ معنى التّبعيض. والثاني : أنّ «من» مؤكّدة ، والمعنى : وأوزار الذين يضلّونهم. (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي : بئس ما حملوا على ظهورهم.
قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال المفسّرون : يعني به : النّمرود بن كنعان ، وذلك أنه
بنى صرحا طويلا ، واختلفوا في طوله ، فقال ابن عباس : خمسة آلاف ذراع ، وقال مقاتل
: كان طوله فرسخين ، قالوا : ورام أن يصعد إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه. ومعنى «المكر»
ها هنا : التّدبير
__________________
الفاسد. وفي الهاء
والميم من «قبلهم» قولان : أحدهما
: أنها للمقتسمين
على عقاب مكّة ، قاله ابن السّائب. والثاني : لكفّار مكّة ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ
الْقَواعِدِ) أي : من الأساس. قال المفسّرون : أرسل الله ريحا فألقت رأس
الصّرح في البحر ، وخرّ عليهم الباقي. قال السّدّيّ : لمّا سقط الصّرح ، تبلبلت
ألسن الناس من الفزع ، فتكلّموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سمّيت «بابل» ، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسّريانيّة ، وهذا قول
مردود ، لأنّ التّبلبل يوجب الاختلاط والتّكلّم بشيء غير مستقيم ، فأمّا أن يوجب
إحداث لغة مضبوطة الحواشي ، فباطل ، وإنما اللغات تعليم من الله تعالى. فإن قيل :
إذا كان الماكر واحدا ، فكيف قال : «الذين» ولم يقل : «الذي»؟ ، فعنه ثلاثة أجوبة
: أحدها
: أنه كان الماكر
ملكا له أتباع ، فأدخلوا معه في الوصف. والثاني : أنّ العرب توقع الجمع على الواحد ، فيقول قائلهم : خرجت
إلى البصرة على البغال ، وإنما خرج على بغل واحد. والثالث : أنّ «الذين» غير موقع على واحد معيّن ، لكنه يراد به : قد
مكر الجبّارون الذين من قبلهم ، فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم ، ذكر هذه
الأجوبة ابن الأنباري. قال : وذكر بعض العلماء : أنه إنما قال : «من فوقهم» ،
لينبّه على أنهم كانوا تحته ، إذ لو لم يقل ذلك ، لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته ،
لأنّ العرب تقول : سقط علينا البيت ، وخرّ علينا الحانوت ، وتداعت علينا الدّار ،
وليسوا تحت ذلك.
قوله تعالى : (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ) أي : من حيث ظنّوا أنهم آمنون فيه. قال السّدّيّ : أخذوا
من مأمنهم ، وروى عطيّة عن ابن عباس قال : خرّ عليهم عذاب من السماء ، وعامّة
المفسّرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط. وقال ابن قتيبة : هذا مثل ، والمعنى :
أهلكهم الله ، كما هلك من هدم مسكنه من أسفله ، فخرّ عليه.
قوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) أي : يذلّهم بالعذاب. (وَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ،
والكسائيّ ، «شركائي الذين» بهمزة وفتح الياء ، وقال البزّيّ عن ابن كثير : «شركاي»
مثل : هداي ، والمعنى : أين شركائي على زعمكم؟ هلّا دفعوا عنكم!. (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي : تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله ، وقرأ
نافع : «تشاقّون» بكسر النون ، أراد : تشاقّونني ، فحذف النون الثانية ، وأبقى
الكسرة تدلّ عليها ، والمعنى : كنتم تنازعونني فيهم ، وتخالفون أمري لأجلهم.
قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس. والثاني : الحفظة من الملائكة ، قاله مقاتل. والثالث : أنهم المؤمنون.
فأمّا «الخزي» فقد
شرحناه في مواضع ، و «السّوء» ها هنا : العذاب.
(الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما
كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))
__________________
قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) قال عكرمة : هؤلاء قوم كانوا بمكّة أقرّوا بالإسلام ولم
يهاجروا ، فأخرجهم المشركون كرها إلى بدر ، فقتل بعضهم ، وقد شرحنا هذا في سورة (النساء)
. قوله تعالى : (فَأَلْقَوُا
السَّلَمَ) قال ابن قتيبة : انقادوا واستسلموا ، والسّلم : الاستسلام.
قال المفسّرون : وهذا عند الموت يتبرّؤون من الشّرك ، وهو قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وهو الشّرك ، فتردّ عليهم الملائكة فتقول : «بلى». وقيل :
هذا ردّ خزنة جهنّم عليهم (بَلى إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الشّرك والتّكذيب. ثم يقال لهم : ادخلوا أبواب جهنّم ،
وقد سبق تفسير ألفاظ الآية .
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))
قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا
أَنْزَلَ رَبُّكُمْ).
(٨٥٧) روى أبو
صالح عن ابن عباس أنّ مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلا إلى عقاب مكّة أيام الحجّ على طريق الناس ، ففرّقوهم على كلّ عقبة
أربعة رجال ، ليصدّوا الناس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا لهم : من أتاكم من الناس يسألكم عن محمّد فليقل
بعضكم شاعر ، وبعضكم كاهن ، وبعضكم مجنون ، وألّا تروه ولا يراكم خير لكم ، فإذا
انتهوا إلينا صدّقناكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فبعث إلى كلّ أربعة منهم أربعة من المسلمين ، فيهم عبد
الله بن مسعود ، فأمروا أن يكذّبوهم ، فكان الناس إذا مرّوا على المشركين ، فقالوا
ما قالوا ، ردّ عليهم المسلمون ، وقالوا : كذبوا ، بل يدعو إلى الحقّ ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير ، فيقولون : وما هذا الخير الذي يدعو
إليه؟ فيقولون : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ).
قوله تعالى : (قالُوا خَيْراً) أي : أنزل خيرا ، ثم فسّر ذلك الخير فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ
الدُّنْيا) قالوا : لا إله إلّا الله ، وأحسنوا العمل (حَسَنَةٌ) أي : كرامة من الله تعالى في الآخرة ، وهي الجنة ، وقيل : «للذين
أحسنوا في هذه الدنيا حسنة» في الدنيا وهي ما رزقهم من خيرها وطاعته فيها ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) يعني : الجنّة (خَيْرٌ) من الدنيا.
وفي قوله تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) قولان : أحدهما
: أنها الجنّة ،
قاله الجمهور. قال ابن الأنباري : في الكلام محذوف ، تقديره : ولنعم دار المتّقين
الآخرة ، غير أنه لمّا ذكرت أولا ، عرف
____________________________________
(٨٥٧) لا أصل له ،
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، ورواية أبي صالح هو الكلبي ، وقد رويا عن ابن
عباس تفسيرا مصنوعا ، ليس له أصل ، وتفردهما بهذا الخبر لا شيء ، وهو مما لا أصل
له.
__________________
معناها آخرا ،
ويجوز أن يكون المعنى : ولنعم دار المتّقين جنّات عدن. والثاني : أنها الدنيا. قال الحسن : ولنعم دار المتّقين الدنيا ،
لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة.
قوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) قد شرحناه في (براءة) .
قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) وقرأ حمزة «يتوفاهم» بياء مع الإمالة. وفي معنى (طَيِّبِينَ) خمسة أقوال : أحدها : مؤمنين. والثاني
: طاهرين من
الشّرك. والثالث
: زاكية أفعالهم
وأقوالهم. والرابع
: طيّبة وفاتهم سهل
خروج أرواحهم. والخامسة : طيّبة أنفسهم بالموت ، ثقة بالثواب. قوله تعالى : (يَقُولُونَ) يعني الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، وفي أيّ وقت يكون هذا السلام؟ فيه قولان : أحدهما : عند الموت. قال البراء بن عازب : يسلّم عليه ملك الموت إذا
دخل عليه. وقال القرظيّ : ويقول له : الله عزوجل يقرأ عليك السّلام ، ويبشّره بالجنّة. والثاني : عند دخول الجنّة. قال مقاتل : هذا قول خزنة الجنّة لهم في
الآخرة. يقولون : سلام عليكم.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ
فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))
قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ «يأتيهم» بالياء ، وهذا تهديد
للمشركين ، وقد شرحناه في سورة البقرة . وآخر سورة الأنعام . وفي قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ) قولان : أحدهما
: أمر الله فيهم ،
قاله ابن عباس. والثاني
: العذاب في الدنيا
، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) يريد : كفّار الأمم الماضية ، كذّبوا كما كذّب هؤلاء. (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاكهم (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالشّرك (فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي : جزاؤها ، قال ابن عباس : جزاء ما عملوا من الشّرك ، (وَحاقَ بِهِمْ) قد بيّناه في سورة الأنعام ، والمعنى : أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب.
(وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ
بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ
يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))
قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعني : كفّار مكّة (لَوْ شاءَ اللهُ ما
عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)
__________________
يعني : الأصنام ،
أي : لو شاء ما أشركنا ولا حرّمنا من دونه من شيء من البحيرة ، والسّائبة ،
والوصيلة ، والحام ، والحرث ، وذلك أنه لمّا نزل : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) قالوا هذا ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل الاعتقاد ،
وقيل : معنى كلامهم : لو لم يأمرنا بهذا ويرده منّا ، لم نأته.
قوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) أي : من تكذيب الرّسل وتحريم ما أحلّ الله ، (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يعني : ليس عليهم إلّا التّبليغ ، فأمّا الهداية ، فهي إلى
الله تعالى ، وبيّن ذلك بقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) أي : كما بعثناك في هؤلاء (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحّدوه (وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ) وهو الشّيطان (فَمِنْهُمْ مَنْ
هَدَى اللهُ) أي : أرشده (وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي : وجبت في سابق علم الله ، فأعلم الله عزوجل أنه إنّما بعث الرّسل بالأمر بالعبادة ، وهو من وراء
الإضلال والهداية ، (فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ) أي : معتبرين بآثار الأمم المكذّبة ، ثم أكّد أنّ من حقّت
عليه الضّلالة لا يهتدي ، فقال : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى
هُداهُمْ) أي : إن تطلب هداهم بجهدك (فَإِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، «لا يهدى»
برفع الياء وفتح الدال ، والمعنى : من أضلّه ، فلا هادي له ، وقرأ عاصم ، وحمزة ،
والكسائيّ : «يهدي» بفتح الياء وكسر الدال ، ولم يختلفوا في «يضل» أنها بضمّ الياء
وكسر الضاد ، وهذه القراءة تحتمل معنيين ، ذكرهما ابن الأنباري : أحداهما : لا
يهدي من طبعه ضالا ، وخلقه شقيّا. والثاني : لا يهدي ، أي : لا يهتدي من أضلّه ، أي : من أضلّه الله لا
يهتدي ، فيكون معنى يهدي : يهتدي ، تقول العرب : قد هدى فلان الطّريق ، يريدون :
اهتدى.
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ
(٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
(٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))
قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ).
(٨٥٨) سبب نزولها
أنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما
تكلّم به : والذي أرجوه بعد الموت ، فقال المشرك : وإنّك لتزعم أنك تبعث بعد الموت؟!
فأقسم بالله (لا يَبْعَثُ اللهُ
مَنْ يَمُوتُ) ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو العالية.
و (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مفسّر في المائدة . وقوله : (بَلى) ردّ عليهم ، قال الفرّاء : والمعنى : (بَلى) ليبعثنّهم (وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا).
قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) قال الزّجّاج : يجوز أن يكون متعلّقا بالبعث ، فيكون
____________________________________
(٨٥٨) ضعيف. أخرجه
الطبري ٢١٥٨٧ عن أبي العالية مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
__________________
المعنى : بلى
يبعثهم فيبين لهم ، ويجوز أن يكون متعلّقا بقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً) ليبيّن لهم. وللمفسّرين في قوله (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) قولان : أحدهما
: أنهم جميع الناس
، قاله قتادة. والثاني
: أنهم المشركون ،
يبيّن لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه.
قوله تعالى : (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) أي : فيما أقسموا عليه من نفي البعث. ثم أخبر بقدرته على
البعث بقوله : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة «فيكون»
رفعا ، وكذلك في كلّ القرآن. وقرأ ابن عامر ، والكسائيّ «فيكون» نصبا. قال مكّيّ
بن إبراهيم : من رفع ، قطعه عمّا قبله ، والمعنى : فهو يكون ، ومن نصب ، عطفه على «يقول»
، وهذا مثل قوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقد فسّرناه في البقرة . فإن قيل : كيف سمّي الشيء قبل وجوده شيئا؟. فالجواب : أنّ
الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق ، لأنه بمنزلة ما قد عوين وشوهد.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال :
(٨٥٩) أحدها : أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بلال ، وعمّار ، وصهيب ، وخبّاب بن الأرتّ ، وعايش وجبر
موليان لقريش ، أخذهم أهل مكّة فجعلوا يعذّبونهم ، ليردّوهم عن الإسلام ، قاله أبو
صالح عن ابن عباس.
والثاني
: أنها نزلت في أبي
جندل بن سهيل بن عمرو ، قاله داود بن أبي هند.
والثالث
: أنهم جميع
المهاجرين من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قاله قتادة. ومعنى (هاجروا في الله) ، أي : في طلب رضاه
وثوابه (مِنْ بَعْدِ ما
ظُلِمُوا) بما نال المشركون منهم ، (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) وفيها خمسة أقوال : أحدها
: لنزلنّهم المدينة
، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والشّعبيّ ، وقتادة ،
فيكون المعنى : لنبوّئنّهم دارا حسنة وبلدة حسنة. والثاني : لنرزقنّهم في الدنيا الرزق الحسن ، قاله مجاهد. والثالث : النّصر على العدوّ ، قاله الضّحّاك. والرابع : أنه ما بقي بعدهم من الثّناء الحسن ، وصار لأولادهم من
الشّرف ، ذكره الماوردي ، وقد روي معناه عن مجاهد ، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال
: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قال : لسان صادق. والخامس : أنّ المعنى : لنحسننّ إليهم في الدنيا ، قال بعض أهل
المعاني : فتكون على هذه الأقوال «لنبوّئنهم» ، على سبيل الاستعارة ، إلّا على
القول الأول.
قوله تعالى : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) قال ابن عباس : يعني : الجنّة ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يعني : أهل مكّة. ونقل عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ،
أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه ،
____________________________________
(٨٥٩) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وتقدم الكلام على هذه الرواية مرارا ، فهو لا شيء.
__________________
قال : خذ بارك
الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أفضل ، ثم يتلو
هذه الآية. ثم إنّ الله أثنى عليهم ومدحهم بالصّبر فقال : (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي : على دينهم ، لم يتركوه لأذى نالهم ، وهم في ذلك
واثقون بربّهم.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))
قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
رِجالاً).
(٨٦٠) قال
المفسّرون : لمّا أنكر مشركو قريش نبوّة محمّد صلىاللهعليهوسلم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فهلّا بعث
إلينا ملكا! فنزلت هذه الآية.
والمعنى : أنّ
الرّسل كانوا مثلك آدميّين ، إلّا أنهم يوحى إليهم. وقرأ حفص عن عاصم : «نوحي»
بالنون وكسر الحاء. (فَسْئَلُوا) يا معشر المشركين (أَهْلَ الذِّكْرِ) وفيهم أربعة أقوال : أحدها
: أنهم أهل
التّوراة والإنجيل ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أهل التّوراة ، قاله مجاهد. والثالث : أهل القرآن ، قاله ابن زيد. والرابع : العلماء بأخبار من سلف ، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قولان : أحدهما
: لا تعلمون أنّ الله
تعالى بعث رسولا من البشر. والثاني
: لا تعلمون أنّ
محمّدا رسول الله. فعلى القول الأول ، جائز أن يسأل من آمن برسول الله ومن كفر ،
لأنّ أهل الكتاب والعلم بالسّير متّفقون على أنّ الأنبياء كلّهم من البشر ، وعلى
الثاني إنّما يسأل من آمن من أهل الكتاب. وقد روي عن مجاهد (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) قال : عبد الله بن سلام ، وعن قتادة ، قال : سلمان
الفارسيّ.
قوله تعالى : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) في هذه «الباء» قولان : أحدهما : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : وما أرسلنا من
قبلك إلّا رجالا أرسلناهم بالبيّنات. والزّبر : الكتاب. وقد شرحنا هذا في آل عمران
.
____________________________________
(٨٦٠) ضعيف جدا ،
ذكره الواحدي في «أسباب نزول القرآن» ٥٦٢ من دون عزو لقائل ، فهو لا أصل له من هذا
الوجه. وأخرجه الطبري ٢١٦٠٢ من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن
عباس ، وهذا إسناد ساقط ، بشر ضعيف ، والضحاك لم يلق ابن عباس.
__________________
قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) وهو القرآن بإجماع المفسّرين (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فيه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك فيعتبرون.
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ
فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))
قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئاتِ) قال المفسّرون : أراد مشركي مكّة. ومكرهم السّيئات : شركهم
وتكذيبهم ، وسمّي ذلك مكرا ، لأنّ المكر في اللغة : السّعي بالفساد ، وهذا استفهام
إنكار ، ومعناه : ينبغي أن لا يأمنوا العقوبة ، وكان مجاهد يقول : عنى بهذا الكلام
نمرود بن كنعان. قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ
فِي تَقَلُّبِهِمْ) فيه أربعة أقوال : أحدها : في أسفارهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. والثاني : في منامهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : في ليلهم ونهارهم ، قاله الضّحّاك وابن جريج ومقاتل. والرابع : أنه جميع ما يتقلّبون فيه ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) فيه قولان : أحدهما : على تنقّص ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحّاك. قال ابن
قتيبة : التّخوّف : التّنقّص ، ومثله التّخوّن. يقال : تخوّفته الدّهور وتخوّنته :
إذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عديّ : التّخوّف : التّنقّص ، بلغة
أزد شنوءة. ثم في هذا التّنقّص ثلاثة أقوال : أحدها : أنه تنقّص من أعمالهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أخذ واحد بعد واحد ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : تنقّص أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم ، قاله الزّجّاج. والثاني : أنه التّخوّف نفسه ، ثم فيه قولان : أحدهما : يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز ، قاله قتادة. والثاني : أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى ، قاله الضّحّاك. وقال
الزّجّاج : يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها ، فعلى هذا
خوّفهم قبل هلاكهم ، فلم يتوبوا ، فاستحقّوا العذاب.
قوله تعالى : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) إذ لم يعجّل بالعقوبة ، وأمهل للتّوبة.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ (٥٠))
قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «أو لم يروا»
بالياء وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «تروا» بالتاء ، واختلف عن عاصم. قوله تعالى : (إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أراد من شيء له ظلّ ، من جبل ، أو شجر ، أو جسم قائم (يَتَفَيَّؤُا) قرأ الجماعة بالياء ، وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتاء (ظِلالُهُ) وهو جمع ظلّ ، وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد ، لأنه واحد
يراد به الكثرة ، كقوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ) قال ابن قتيبة : ومعنى يتفيّأ ظلاله : يدور ويرجع من جانب
إلى جانب ، والفيء : الرّجوع ، ومنه قيل للظّلّ بالعشيّ : فيء ، لأنه فاء عن
المغرب إلى المشرق ، قال
__________________
المفسّرون : إذا
طلعت الشمس وأنت متوجّه إلى القبلة ، كان الظّلّ قدّامك ، فإذا ارتفعت كان عن
يمينك ، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك ، وإذا دنت للغروب كان على يسارك ، وإنما وحّد
اليمين ، والمراد به : الجمع ، إيجازا في اللفظ ، كقوله تعالى : (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، ودلّت «الشمائل» على أنّ المراد به الجميع ، وقال
الفرّاء : إنما وحّد اليمين ، وجمع الشّمائل ، ولم يقل : الشّمال ، لأنّ كلّ ذلك
جائز في اللغة ، وأنشد :
الواردون وتيم
في ذرى سبأ
|
|
قد عضّ أعناقهم
جلد الجواميس
|
ولم يقل : جلود ،
ومثله :
كلوا في نصف
بطنكم تعيشوا
|
|
فإنّ زمانكم زمن
خميص
|
وإنما جاز
التّوحيد ، لأنّ أكثر الكلام يواجه به الواحد. وقال غيره : اليمين راجعة إلى لفظ
ما ؛ وهو واحد ، والشّمائل راجعة إلى المعنى.
قوله تعالى : (سُجَّداً لِلَّهِ) قال ابن قتيبة : مستسلمة ، منقادة ، وقد شرحنا هذا المعنى
عند قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) . وفي قوله تعالى : (وَهُمْ داخِرُونَ) قولان : أحدهما
: والكفار صاغرون. والثاني : وهذه الأشياء داخرة مجبولة على الطاعة ، قال الأخفش : إنما
ذكر من ليس من الإنس ، لأنه لمّا وصفهم بالطاعة أشبهوا الإنس في الفعل.
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ) الآية. السّاجدون على ضربين : أحدهما : من يعقل ، فسجوده عبادة. والثاني : من لا يعقل ، فسجوده بيان أثر الصّنعة فيه ، والخضوع الذي
يدلّ على أنه مخلوق ، هذا قول جماعة من العلماء ، واحتجّوا في ذلك بقول الشاعر :
بجيش تضلّ البلق
في حجراته
|
|
ترى الأكم فيه
سجّدا للحوافر
|
قال ابن قتيبة :
حجراته ، أي : جوانبه ، يريد أنّ حوافر الخيل قد قلعت الأكم ووطئتها حتى خشعت
وانخفضت. فأما الشمس والقمر والنّجوم ، فألحقها جماعة بمن يعقل ، فقال أبو العالية
: سجودها حقيقة ، ما منها غارب إلّا خرّ ساجدا بين يدي الله عزوجل ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له. ويشهد لقول أبي العالية حديث
أبي ذرّ قال :
(٨٦١) كنت مع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في المسجد حين وجبت الشمس ، فقال : «يا أبا ذرّ! تدري أين
____________________________________
(٨٦١) صحيح. أخرجه
البخاري ٣١٩٩ و ٤٨٠٢ و ٧٤٢٤ ، ومسلم ١٥٩ ، والترمذي ٢١٨٦ و ٣٢٢٧ ، والطيالسي ٦٤٠ ،
وأحمد ٥ / ١٧٧ ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ،
والبغوي في «معالم التنزيل» ٤ / ١٢ ـ ١٣. من طرق عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه
عن أبي ذر مرفوعا ، وسيأتي.
__________________
ذهبت الشّمس» قلت
: الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها عزوجل ، فتستأذن في الرّجوع ، فيؤذن لها ، فكأنّها قد قيل لها :
ارجعي من حيث جئت ، فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرّها ، ثم قرأ : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) ، أخرجه البخاريّ ومسلم.
وأمّا النّبات
والشّجر ، فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء. أحدها : أن يكون سجودا لا نعلمه وهذا إذا قلنا : إنّ الله يودعه
فهما. والثاني
: أنه تفيّؤ ظلاله.
والثالث
: بيان الصّنعة
فيه. والرابع
: الانقياد لما
سخّر له.
قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ) إنما أخرج الملائكة من الدّوابّ لخروجهم بالأجنحة عن صفة
الدّبيب. وفي قوله : (وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) قولان :
أحدهما
: أنه من صفة
الملائكة خاصّة ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل.
والثاني
: أنه عامّ في جميع
المذكورات ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
وفي قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) قولان ، ذكرهما ابن الأنباري : أحدهما : أنه ثناء على الله تعالى ، وتعظيم لشأنه ، وتلخيصه :
يخافون ربّهم عاليا رفيعا عظيما. والثاني : أنه حال ، وتلخيصه : يخافون ربّهم معظّمين له عالمين بعظيم
سلطانه.
(وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً
أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢))
قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ
اثْنَيْنِ).
(٨٦٢) سبب نزولها
: أنّ رجلا من المسلمين دعا الله في صلاته ، ودعا الرّحمن ، فقال رجل من المشركين
: أليس يزعم محمّد وأصحابه أنهم يعبدون ربّا واحدا ، فما بال هذا يدعو ربّين اثنين؟
فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.
قال الزّجّاج :
ذكر الاثنين توكيد ، كما قال تعالى : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ
واحِدٌ).
قوله تعالى : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) في المراد بالدّين أربعة أقوال : أحدها : أنه الإخلاص ، قاله مجاهد. والثاني : العبادة ، قاله سعيد بن جبير. والثالث : شهادة أن لا إله إلّا الله ، وإقامة الحدود ، والفرائض ،
قاله عكرمة. والرابع
: الطّاعة ، قاله
ابن قتيبة.
وفي معنى «واصبا»
أربعة أقوال. أحدها
: دائما ، رواه ابن
أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد والضّحّاك وقتادة وابن زيد
والثّوريّ واللغويون. قال أبو الأسود الدّؤلي :
لا أبتغي الحمد
القليل بقاؤه
|
|
يوما بذمّ
الدّهر أجمع واصبا
|
____________________________________
(٨٦٢) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيث أطلق ، وهو ممن يضع الحديث.
ـ وقد ورد نحو هذا في آخر سورة الإسراء ، وسيأتي.
__________________
قال ابن قتيبة :
معنى الكلام : أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلّا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلكة ،
غير الله عزوجل ، فإنّ الطاعة تدوم له. والثاني : واجبا ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : خالصا ، قاله الرّبيع بن أنس. والرابع : وله الدّين موصبا ، أي : متعبا ، لأنّ الحقّ ثقيل ، وهو
كما تقول العرب : همّ ناصب ، أي : منصب ، قال النّابغة :
كليني لهمّ يا
أميمة ناصب
|
|
وليل أقاسيه
بطيء الكواكب
|
ذكره ابن الأنباري.
قال الزّجّاج : ويجوز أن يكون المعنى : له الدّين ، والطّاعة ، رضي العبد بما يؤمر
به وسهل عليه ، أو لم يسهل ، فله الدّين وإن كان فيه الوصب. والوصب : شدّة التّعب.
(وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣)
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ (٥٥))
قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ) قال الزّجّاج : المعنى : ما حلّ بكم من نعمة ، من صحة في
جسم ، أو سعة في رزق ، أو متاع من مال وولد (فَمِنَ اللهِ) وقرأ ابن أبي عبلة : «فمنّ الله» بتشديد النون. قوله تعالى
: (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ) قال ابن عباس : يريد الأسقام ، والأمراض ، والحاجة. قوله
تعالى : (فَإِلَيْهِ
تَجْئَرُونَ) قال الزّجّاج : «تجأرون» : ترفعون أصواتكم إليه بالاستغاثة
، يقال : جأر يجأر جؤارا ، والأصوات مبنيّة على «فعال» و «فعيل» ، فأمّا «فعال»
فنحو «الصّراخ» و «الخوار» ، وأمّا «الفعيل» فنحو «العويل» و «الزّئير» ، والفعال
أكثر. قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ
مِنْكُمْ) قال ابن عباس : يريد أهل النّفاق. قال ابن السّائب : يعني
الكفّار. قوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ) قال الزّجّاج : المعنى : ليكفروا بأنّا أنعمنا عليهم ،
فجعلوا نعمنا سببا إلى الكفر ، وهو كقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ
آتَيْتَ فِرْعَوْنَ) إلى قوله : (لِيُضِلُّوا عَنْ
سَبِيلِكَ) ، ويجوز أن يكون «ليكفروا» ، أي : ليجحدوا نعمة الله في
ذلك. قوله تعالى : (فَتَمَتَّعُوا) تهدّد ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أمركم.
(وَيَجْعَلُونَ لِما
لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا
كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ
ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ
بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما
يَحْكُمُونَ (٥٩))
قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) يعني : الأوثان. وفي الذين لا يعلمون قولان : أحدهما : أنهم الجاعلون ، وهم المشركون ، والمعنى : لما لا يعلمون
لها ضرّا ولا نفعا ؛ فمفعول العلم محذوف ، وتقديره : ما قلنا ، هذا قول مجاهد ،
وقتادة. والثاني
: أنها الأصنام
التي لا تعلم شيئا ، وليس لها حسّ ولا معرفة ، وإنما قال : يعلمون ، لأنهم لمّا
نحلّوها الفهم ، أجراها مجرى من يعقل على زعمهم ، قاله جماعة من أهل المعاني ، قال
المفسّرون : وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءا من أموالهم ، كالبحيرة
والسّائبة وغير ذلك ممّا شرحناه في الأنعام .
__________________
قوله تعالى : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ) رجع عن الإخبار عنهم إلى الخطاب لهم ، وهذا سؤال توبيخ.
قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) قال المفسّرون : يعني : خزاعة وكنانة ، زعموا أنّ الملائكة
بنات الله (سُبْحانَهُ) أي : تنزّه عمّا زعموا. (وَلَهُمْ ما
يَشْتَهُونَ) يعني : البنين. قال أبو سليمان : المعنى : ويتمنّون
لأنفسهم الذّكور. قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي أخبر بأنه قد ولد له بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا) قال الزّجّاج : أي : متغيّرا تغيّر مغتمّ ، يقال لكلّ من
لقي مكروها : قد اسودّ وجهه غمّا وحزنا. قوله تعالى : (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي : يكظم شدّة وجده ، فلا يظهره ، وقد شرحناه في سورة
يوسف. قوله تعالى : (يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ) قال المفسّرون : وهذا صنيع مشركي العرب ، كان أحدهم إذا
ضرب امرأته المخاض ، توارى إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكرا سرّ به ، وإن
كانت أنثى ، لم يظهر أياما يدبّر كيف يصنع في أمرها ، وهو قوله : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) فالهاء ترجع إلى
ما في قوله : (ما بُشِّرَ بِهِ) ، والهون في كلام العرب : الهوان. وقرأ ابن مسعود ، وابن
أبي عبلة ، والجحدريّ : «على هوان» ، والدّسّ : إخفاء الشيء في الشيء ، وكانوا
يدفنون البنت وهي حيّة (أَلا ساءَ ما
يَحْكُمُونَ) إذ جعلوا لله البنات اللاتي محلهنّ منهم هذا ، ونسبوه إلى
الولد ، وجعلوا لأنفسهم البنين.
(لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))
قوله تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
مَثَلُ السَّوْءِ) أي : صفة السّوء من احتياجهم إلى الولد ، وكراهتهم للإناث
، خوف الفقر والعار (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) أي : الصّفة العليا من تنزّهه وبراءته عن الولد.
(وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ
ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١))
قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ
بِظُلْمِهِمْ) أي : بشركهم ومعاصيهم ، كلّما وجد شيء منهم أو خذوا به (ما تَرَكَ عَلَيْها) يعني : الأرض ، وهذه كناية عن غير مذكور ، غير أنه مفهوم ،
لأنّ الدّوابّ إنما هي على الأرض. وفي قوله : (مِنْ دَابَّةٍ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه عنى جميع ما يدبّ على وجه الأرض ، قاله ابن مسعود. قال
قتادة : وقد فعل ذلك في زمن نوح عليهالسلام ، وقال السّدّيّ : المعنى : لأقحط المطر فلم تبق دابّة
إلّا هلكت ، وإلى نحوه ذهب مقاتل ، والثاني : أنه أراد من الناس خاصّة ، قاله ابن جريج. والثالث : من الإنس والجنّ ، قاله ابن السّائب ، وهو اختيار
الزّجّاج.
قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى) وهو منتهى آجالهم ، وباقي الآية قد تقدّم.
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))
قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) المعنى : ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم ، وهو البنات ، (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي : تقول الكذب ، وقرأ أبو العالية ، والنّخعيّ ، وابن
أبي عبلة : «الكذب» بضمّ الكاف والذّال. ثم فسّر ذلك الكذب بقوله : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنّها البنون ،
قاله مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل. والثاني
: أنّها الجزاء
الحسن من الله تعالى ، قاله الزّجّاج. والثالث : أنّها الجنّة ، وذلك أنه لمّا وعد الله المؤمنين الجنّة ،
قال المشركون : إن كان ما تقولونه حقّا ، لندخلنّها قبلكم ، ذكره أبو سليمان
الدّمشقي.
قوله تعالى : (لا جَرَمَ) قد شرحناها فيما مضى . وقال الزّجّاج : «لا» ردّ لقولهم ، والمعنى : ليس ذلك كما
وصفوا «جرم» أنّ لهم النّار ، المعنى : جرم فعلهم ، أي : كسب فعلهم هذا (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ) وفيه أربعة أوجه ، قرأ الأكثرون : «مفرطون» بسكون الفاء
وتخفيف الراء وفتحها ، وفي معناها قولان : أحدهما : متركون ، قاله ابن عباس. وقال الفرّاء : منسيّون في النار.
والثاني
: معجّلون ، قاله
ابن عباس أيضا. وقال ابن قتيبة : معجّلون إلى النار. قال الزّجّاج : معنى «الفرط»
في اللغة : المتقدّم ، فمعنى «مفرطون» : مقدّمون إلى النار ، ومن فسّرها «متركون»
فهو كذلك أيضا ، أي : قد جعلوا مقدّمين إلى العذاب أبدا ، متروكين فيه. وقرأ نافع
، ومحبوب عن أبي عمرو ، وقتيبة عن الكسائيّ «مفرطون» بسكون الفاء وكسر الراء
وتخفيفها ، قال الزّجّاج : ومعناها : أنهم أفرطوا في معصية الله. وقرأ أبو جعفر
وابن أبي عبلة «مفرّطون» بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها ، قال الزّجّاج : ومعناها
: أنهم فرّطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة ، وتصديق هذه القراءة : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي
جَنْبِ اللهِ) ، وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر «مفرّطون» بفتح الفاء
والراء وتشديدها ، قال الزّجّاج : وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى ، فالمفرّط
والمفرط بمعنى واحد.
(تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))
قوله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ
مِنْ قَبْلِكَ) قال المفسّرون : هذه تعزية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم (فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة حتى عصوا وكذّبوا ، (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ
الْيَوْمَ) فيه قولان : أحدهما : أنه يوم القيامة ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل ، كأنّهما
أرادا : فهو وليّهم يوم تكون لهم النار. والثاني : أنه الدنيا ، فالمعنى : فهو مواليهم في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، قاله أبو سليمان الدّمشقي. قوله تعالى : (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) يعني : الكفّار (الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ) أي : ما خالفوا فيه المؤمنين من التّوحيد والبعث والجزاء ،
فالمعنى : أنزلناه بيانا لما وقع فيه الاختلاف.
(وَاللهُ أَنْزَلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً
سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (٦٧))
قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني : المطر (فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي : بعد يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : يعتبرون.
__________________
قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ : «نسقيكم»
بضمّ النون ، ومثله في (المؤمنين) . وقرأ نافع ، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : «نسقيكم» بفتح
النون فيهما. وقرأ أبو جعفر : «تسقيكم» بتاء مفتوحة ، وكذلك في (المؤمنين) وقد سبق بيان الأنعام ، وذكرنا معنى «العبرة» في آل عمران ، والفرق بين «سقى» و «أسقى» في (الحجر) . فأمّا قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) فقال الفرّاء : النّعم والأنعام شيء واحد ، وهما جمعان ،
فرجع التّذكير إلى معنى «النّعم» إذ كان يؤدّي عن الأنعام ، أنشدني بعضهم.
وطاب ألبان اللّقاح وبرد
فرجع إلى اللبن ،
لأنّ اللبن والألبان في معنى ؛ قال : وقال الكسائيّ : أراد : نسقيكم ممّا في بطون
ما ذكرنا ، وهو صواب ، أنشدني بعضهم :
مثل الفراخ نتفت حواصله
وقال المبرّد :
هذا فاش في القرآن ، كقوله للشّمس : (هذا رَبِّي) يعني : هذا الشيء الطّالع ؛ وكذلك : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ) ثم قال : (فَلَمَّا جاءَ
سُلَيْمانَ) ولم يقل : «جاءت» لأنّ المعنى : جاء الشيء الذي ذكرنا ،
وقال أبو عبيدة : الهاء في «بطونه» للبعض ، والمعنى : نسقيكم ممّا في بطون البعض
الذي له لبن ، لأنه ليس لكلّ الأنعام لبن ، وقال ابن قتيبة : ذهب بقوله : «مما في
بطونه» إلى النّعم ، والنّعم تذكّر وتؤنّث. والفرث : ما في الكرش ، والمعنى : أنّ
اللبن كان طعاما ، فخلص من ذلك الطعام دم ، وبقي فرث في الكرش ، وخلص من ذلك الدّم
(لَبَناً خالِصاً
سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي : سهلا في الشّرب لا يشجى به شاربه ، ولا يغصّ. وقال
بعضهم : سائغا ، أي : لا تعافه النّفس وإن كان قد خرج من بين فرث ودم ، وروى أبو
صالح عن ابن عباس قال : إذا استقرّ العلف في الكرش طحنه فصار أسفله فرثا ، وأعلاه
دما ، وأوسطه لبنا ، والكبد مسلّطة على هذه الأصناف الثلاثة ، فيجري الدّم في
العروق ، واللبن في الضّرع ، ويبقى الفرث في الكرش.
قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ
وَالْأَعْنابِ) تقدير الكلام : ولكم من ثمرات النّخيل والأعناب ما تتّخذون
منه سكرا. والعرب تضمر «ما» كقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) أي : ما ثمّ. والكناية في «منه» عائدة على «ما» المضمرة.
وقال الأخفش : إنما لم يقل : منهما ، لأنه أضمر الشيء ، كأنه قال : ومنها شيء
تتّخذون منه سكرا. وفي المراد بالسّكر ثلاثة أقوال : أحدها
: أنه الخمر ، قاله
ابن مسعود ، وابن عمر ، والحسن ؛ وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وابن أبي
ليلى ، والزّجّاج ، وابن قتيبة. وروى
__________________
عمرو بن سفيان عن
ابن عباس قال : السّكر : ما حرم من ثمرتها ، وقال هؤلاء المفسّرون : وهذه الآية
نزلت إذ كانت الخمرة مباحة ، ثم نسخ ذلك بقوله : (فَاجْتَنِبُوهُ) ، وممّن ذكر أنها منسوخة ، سعيد بن جبير ، ومجاهد ،
والشّعبيّ ، والنّخعيّ. والثاني
: أنّ السّكر :
الخلّ ، بلغة الحبشة ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. وقال الضّحّاك : هو الخلّ ، بلغة
اليمن. والثالث
: أنّ «السّكر»
الطّعم ، يقال : هذا له سكر ، أي : طعم ، وأنشدوا :
جعلت عيب الأكرمين سكرا
قاله أبو عبيدة.
فعلى هذين القولين ، الآية محكمة. فأمّا الرّزق الحسن ، فهو ما أحلّ منهما ،
كالتّمر ، والعنب ، والزّبيب ، والخلّ ، ونحو ذلك.
(وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ
شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))
قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) في هذا الوحي قولان : أحدهما : أنه إلهام ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ،
والضّحّاك ، ومقاتل. والثاني
: أنه أمر ، رواه
العوفيّ عن ابن عباس. وروى ابن مجاهد عن أبيه قال : أرسل إليها. والنّحل : زنابير
العسل ، واحدتها نحلة ، و «يعرشون» يجعلونه عريشا ، وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن
عاصم «يعرشون» بضمّ الراء ، وهما لغتان ، يقال : «يعرش» و «يعرش» مثل «يعكف» و «يعكف»
ثم فيه قولان : أحدهما
: ما يعرشون من
الكروم ، قاله ابن زيد. والثاني
: أنها سقوف البيوت
، قاله الفرّاء ، وقال ابن قتيبة : كلّ شيء عرش ، من كرم ، أو نبات ، أو سقف ، فهو
عرش ، ومعروش. وقيل : المراد ب «مما يعرشون» : مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي
فيها العسل ، ولو لا التّسخير ، ما كانت تأوي إليها.
قوله تعالى : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) قال ابن قتيبة : أي : من الثّمرات ، و «كلّ» ها هنا ليست
على العموم ، ومثله قوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ) . قال الزّجّاج : فهي تأكل الحامض ، والمرّ ، وما لا يوصف
__________________
طعمه ، فيحيل الله
عزوجل من ذلك عسلا.
قوله تعالى : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) السّبل : الطّرق ، وهي التي يطلب فيها الرّعي. و «الذلل»
جمع ذلول. وفي الموصوف بها قولان : أحدهما : أنها السّبل ، فالمعنى : اسلكي السّبل مذلّلة لك ، فلا
يتوعّر عليها مكان سلكته ، وهذا قول مجاهد ، واختيار الزّجّاج. والثاني : أنها النّحل ، فالمعنى ، إنك مذلّلة بالتّسخير لبني آدم ،
وهذا قول قتادة ، واختيار ابن قتيبة. قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِها شَرابٌ) يعني : العسل (مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ) قال ابن عباس : منه أحمر ، وأبيض ، وأصفر. قال الزّجّاج :
يخرج من بطونها ، إلّا أنها تلقيه من أفواهها ، وإنما قال : من بطونها ، لأنّ
استحالة الأطعمة لا تكون إلّا في البطن ، فيخرج كالرّيق الدائم الذي يخرج من فم
ابن آدم.
قوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) في هاء الكناية ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنها ترجع إلى
العسل ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، واختلفوا هل الشّفاء الذي
فيه يختصّ بمرض دون غيره أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنه عامّ في كلّ مرض. قال ابن مسعود : العسل شفاء من كلّ
داء. وقال قتادة : فيه شفاء للناس من الأدواء.
(٨٦٣) وقد روى أبو
سعيد الخدريّ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّ أخي استطلق بطنه ، فقال : «اسقه عسلا» فسقاه ،
ثم أتى فقال : قد سقيته فلم يزده إلّا استطلاقا ، قال : «اسقه عسلا» ، فذكر الحديث
... إلى أن قال : فشفي ، إمّا في الثالثة ، وإمّا في الرابعة. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «صدق الله وكذب بطن أخيك» أخرجه البخاريّ ، ومسلم.
ويعني بقوله : «صدق
الله» : هذه الآية. والثاني
: فيه شفاء للأوجاع
التي شفاؤها فيه ، قاله السّدّيّ. والصحيح أنّ ذلك خرّج مخرج الغالب. قال ابن
الأنباري : الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء ، ويدخل في الأدوية ، فإذا لم
يوافق آحاد المرضى ، فقد وافق الأكثرين ، وهذا كقول العرب :
الماء حياة كلّ
شيء ، وقد نرى من يقتله الماء ، وإنما الكلام على الأغلب.
والثاني
: أنّ الهاء ترجع
إلى الاعتبار. والشّفاء : بمعنى الهدى ، قاله الضّحّاك.
والثالث
: أنّها ترجع إلى
القرآن ، قاله مجاهد.
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ
ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))
قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أي : أوجدكم ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) عند انقضاء آجالكم ، (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو أردؤه ، وأدونه ، وهي حالة الهرم. وفي مقداره من
السّنين ثلاثة أقوال : أحدها
: خمس وسبعون سنة ،
قاله عليّ عليهالسلام. والثاني
: تسعون سنة ، قاله
قتادة.
والثالث
: ثمانون سنة ،
قاله قطرب.
قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ
شَيْئاً) قال الفرّاء : لكي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئا. وقال
____________________________________
(٨٦٣) صحيح. أخرجه
البخاري ٥٧١٦ و ٥٦٨٤ ، ومسلم ٢٢١٧ ، والترمذي ٢٠٨٣ وأحمد ٣ / ١٩ و ٩٢ ، وأبو يعلى
١٢٦١ ، والبغوي في «شرح السنة» ٣١٢٥. من حديث أبي سعيد الخدري.
ابن قتيبة : أي :
حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا ، لشدّة هرمه. وقال الزّجّاج : المعنى : أنّ
منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفا ، فيصير بعد أن كان عالما جاهلا ، ليريكم من
قدرته ، كما قدر على إماتته وإحيائه ، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل. وروى
عطاء عن ابن عباس أنه قال : ليس هذا في المسلمين ، المسلم لا يزداد في طول العمر
والبقاء إلّا كرامة عند الله ، وعقلا ، ومعرفة. وقال عكرمة : من قرأ القرآن ، لم
يردّ إلى أرذل العمر.
(وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي
رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ
اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١))
قوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ
فِي الرِّزْقِ) يعني : فضّل السّادة على المماليك (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) يعني : السّادة (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ
عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) فعبّرت «ما» عن «من» لأنّه موضع إبهام ، تقول : ما في
الدّار؟ فيقول المخاطب : رجلان أو ثلاثة ، ومعنى الآية : أنّ المولى لا يردّ على
ما ملكت يمينه من ماله حتى يكون المولى والمملوك في المال سواء ، وهو مثل ضربه
الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له ، والأصنام ملكا له ، يقول :
إذا لم يكن عبيدكم معكم في الملك سواء ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء ، وترضون لي
ما تأنفون لأنفسكم منه؟! وروى العوفيّ عن ابن عباس ، قال : لم يكونوا أشركوا
عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ وروى أبو صالح عن
ابن عباس قال : نزلت في نصارى نجران حين قالوا : عيسى ابن الله تعالى.
قوله تعالى : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) قرأ أبو بكر عن عاصم : «تجحدون» بالتاء. وفي هذه النّعمة
قولان : أحدهما
: حجّته وهدايته. والثاني : فضله ورزقه.
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ
وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا
يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))
قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) يعني النّساء ، وفي معنى «من أنفسكم» قولان : أحدهما : أنه خلق آدم ، ثم خلق زوجته منه ، قاله قتادة. والثاني : «من أنفسكم» ، أي
: من جنسكم من بني آدم ، قاله ابن زيد. وفي الحفدة خمسة أقوال : أحدها : أنهم الأصهار ، أختان الرجل على بناته ، قاله ابن مسعود ،
وابن عباس في رواية ، ومجاهد في رواية ، وسعيد بن جبير ، والنّخعيّ ، وأنشدوا من
ذلك :
ولو أنّ نفسي
طاوعتني لأصبحت
|
|
لها حفد ممّا
يعدّ كثير
|
ولكنّها نفس
عليّ أبيّة
|
|
عيوف لأصهار
اللّئام قذور
|
والثاني
: أنهم الخدم ،
رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد في رواية الحسن ، وطاوس وعكرمة في رواية
الضّحّاك ، وهذا القول يحتمل وجهين : أحدهما : أنه يراد بالخدم : الأولاد ، فيكون
__________________
المعنى : أنّ
الأولاد يخدمون. قال ابن قتيبة : الحفدة : الخدم والأعوان ، فالمعنى : هم بنون ،
وهم خدم. وأصل الحفد : مداركة الخطو والإسراع في المشي ، وإنما يفعل الخدم هذا ،
فقيل لهم : حفدة. ومنه يقال في دعاء الوتر :
(٨٦٤) «وإليك نسعى
ونحفد».
والثاني
: أن يراد بالخدم :
المماليك ، فيكون معنى الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، وجعل لكم حفدة من غير الأزواج
، ذكره ابن الأنباري. والثالث
: أنهم بنوا امرأة
الرجل من غيره ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والرابع : أنهم ولد الولد ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والخامس : أنهم : كبار الأولاد ، والبنون : صغارهم ، قاله ابن السّائب
، ومقاتل. قال مقاتل : وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم. قال الزّجّاج : وحقيقة
هذا الكلام أنّ الله تعالى جعل من الأزواج بنين ، ومن يعاون على ما يحتاج إليه
بسرعة وطاعة.
قوله تعالى : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) قال ابن عباس : يريد : من أنواع الثّمار والحبوب والحيوان.
قوله تعالى : (أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الأصنام ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه الشّريك والصّاحبة والولد ، فالمعنى : يصدّقون أنّ لله
ذلك؟! قاله عطاء. والثالث
: أنه الشيطان ،
أمرهم بتحريم البحيرة والسّائبة ، فصدّقوا.
وفي المراد ب «نعمة
الله» ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها التّوحيد ،
قاله ابن عباس. والثاني
: القرآن ،
والرّسول. والثالث
: الحلال الذي
أحلّه الله لهم.
قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً) وفي المشار إليه قولان :
أحدهما
: أنها الأصنام ،
قاله قتادة. والثاني
: الملائكة ، قاله
مقاتل.
قوله تعالى : (مِنَ السَّماواتِ) يعني : المطر ، ومن «الأرض» النّبات والثّمر. قوله تعالى :
(شَيْئاً) قال الأخفش : جعل «شيئا» بدلا من الرّزق ، والمعنى : لا
يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي لا يقدرون على شيء. قال الفرّاء : وإنّما قال في أول
الكلام «يملك» وفي آخره «يستطيعون» ، لأنّ «ما» في مذهب : جمع لآلهتهم ، فوحّد «يملك»
على لفظ «ما» وتوحيدها ، وجمع في «يستطيعون» على المعنى ، كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) .
قوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي : لا تشبّهوه بخلقه ، لأنه لا يشبه شيئا ، ولا يشبهه
شيء ، فالمعنى : لا تجعلوا له شريكا. وفي قوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أربعة أقوال :
____________________________________
(٨٦٤) ضعيف. أخرجه
البيهقي ٢ / ٢١٠ عن خالد بن أبي عمران مرسلا مرفوعا ، فهو ضعيف. وهو بعض حديث. وأخرجه
البيهقي ٢ / ٢١٠ ، ٢١١ عن عمر موقوفا ، وقال الزيلعي في «نصب الراية» ٢ / ١٣٥ :
روى هذا الدعاء أبو داود في مراسيله عن خالد بن أبي عمران أن جبريل علمه للنبي صلىاللهعليهوسلم. وهذا مرسل جيد الإسناد رجاله ثقات إلا أنه لم يذكر أنه في
وتر أو في غير وتر. وانظر «تلخيص الحبير» ٢ / ٢٤.
__________________
أحدها
: يعلم ضرب المثل ،
وأنتم لا تعلمون ذلك ، قاله ابن السّائب. والثاني : يعلم أنه ليس له شريك ، وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك ،
قاله مقاتل. والثالث
: يعلم خطأ ما
تضربون من الأمثال ، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه. والرابع : يعلم ما كان ويكون ، وأنتم لا تعلمون قدر عظمته حين أشركتم
به ونسبتموه إلى العجز عن بعث خلقه.
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما
يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))
قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي : بيّن شبها فيه بيان المقصود ، وفيه قولان :
أحدهما
: أنه مثل للمؤمن
والكافر. فالذي (لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) هو الكافر ، لأنه لا خير عنده ، وصاحب الرّزق هو المؤمن ،
لما عنده من الخير ؛ هذا قول ابن عباس ، وقتادة.
والثاني
: أنه مثل ضربه
الله تعالى لنفسه وللأوثان ، لأنه مالك كلّ شيء ، وهي لا تملك شيئا ، هذا قول
مجاهد ، والسّدّيّ.
وذكر في التّفسير
أنّ هذا المثل ضرب بقوم كانوا في زمن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفيهم قولان :
أحدهما
: أنّ المملوك :
أبو الجوار ، وصاحب الرّزق الحسن : سيّده هشام بن عمرو ، رواه عكرمة عن ابن عباس.
وقال مقاتل : المملوك : أبو الحواجر . والثاني
: أنّ المملوك :
أبو جهل بن هشام ، وصاحب الرّزق الحسن : أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه ، قاله ابن
جريج.
فأمّا قوله : (هَلْ يَسْتَوُونَ) ولم يقل : يستويان ، لأنّ المراد : الجنس. وقال ابن
الأنباري : لفظ «من» لفظ توحيد ، ومعناها معنى الجمع ، ولم يقع المثل بعبد معيّن ،
ومالك معيّن ، لكن عني بهما جماعة عبيد ، وقوم مالكون ، فلمّا فارق من تأويل الجمع
، جمع عائدها لذلك.
وقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : هو المستحقّ للحمد ، لأنه المنعم ، ولا نعمة للأصنام
، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) يعني المشركين (لا يَعْلَمُونَ) أنّ الحمد لله. قال العلماء : وصف أكثرهم بذلك ، والمراد :
جميعهم.
قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ) قد فسّرنا «البكم» في سورة البقرة . ومعنى (لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) أي : من الكلام ، لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه. (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) قال ابن قتيبة : أي : ثقل على وليّه وقرابته. وفيمن أريد
بهذا المثل أربعة أقوال : أحدها
: أنه مثل ضربه
الله تعالى للمؤمن والكافر ، فالكافر هو الأبكم ، والذي يأمر بالعدل هو المؤمن ،
رواه العوفيّ عن ابن
__________________
عباس. والثاني : أنها نزلت في عثمان بن عفّان ، هو الذي يأمر بالعدل ، وفي
مولى له كان يكره الإسلام وينهى عثمان عن النّفقة في سبيل الله ، وهو الأبكم ،
رواه إبراهيم بن يعلى بن منية عن ابن عباس. والثالث : أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه ، وللوثن. فالوثن : هو
الأبكم ، والله تعالى : هو الآمر بالعدل ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، وابن السّائب
، ومقاتل. والرابع
: أنّ المراد
بالأبكم : أبيّ بن خلف ، وبالذي يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفّان ، وعثمان بن
مظعون ، قاله عطاء. فيخرّج على هذه الأقوال في معنى مولاه» قولان : أحدهما : أنه مولى حقيقة ، إذا قلنا : إنه رجل من الناس. والثاني : أنه بمعنى الوليّ ، إذا قلنا : إنه الصّنم ، فالمعنى : وهو
ثقل على وليّه الذي يخدمه ويزيّنه.
ويخرّج في معنى «أينما
يوجهه» قولان : إن قلنا : إنه رجل ، فالمعنى : أينما يرسله. والتّوجيه : الإرسال
في وجه من الطريق. وإن قلنا : إنه الصّم ، ففي معنى الكلام قولان : أحدهما : أينما يدعوه ، لا يجيبه ، قاله مقاتل. والثاني : أينما توجّه تأميله إيّاه ورجاه له ، لا يأته ذلك بخير ،
فحذف التّأميل ، وخلفه الصّنم ، كقوله : (ما وَعَدْتَنا عَلى
رُسُلِكَ) أي : على ألسنة رسلك. وقرأ البزي عن ابن محيصن «أينما
توجّهه» بالتاء على الخطاب. فأمّا قوله : (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) فإن قلنا : هو رجل ، فإنّما كان كذلك ، لأنه لا يفهم ما
يقال له ، ولا يفهم عنه ، إمّا لكفره وجحوده ، أو لبكم به. وإن قلنا : إنه الصّنم
، فلكونه جمادا. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) أي : هذا الأبكم (وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ) أي : ومن هو قادر على التّكلّم ، ناطق بالحقّ.
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ
هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) قد ذكرناه في آخر (هود) ، وسبب نزول هذه الآية أنّ كفّار مكّة سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : متى السّاعة؟ فنزلت هذه ، قاله مقاتل.
وقال ابن السّائب
: المراد بالغيب هاهنا : قيام السّاعة.
قوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) يعني : القيامة (إِلَّا كَلَمْحِ
الْبَصَرِ) واللمح : النّظر بسرعة ، والمعنى : إنّ القيامة في سرعة
قيامها وبعث الخلائق ، كلمح العين ، لأنّ الله تعالى يقول : (كُنْ فَيَكُونُ) ، (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) قال مقاتل : بل هو أسرع. وقال الزّجّاج : ليس المراد أنّ
الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر ، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى
شاء.
(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))
قوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ) قرأ حمزة «إمّهاتكم» بكسر الألف والميم ، وقرأ الكسائيّ بكسر
الألف وفتح الميم ، والباقون بضمّ الألف وفتح الميم ، وكذلك في النور والزمر
__________________
والنجم ، ولا خلاف بينهم في الابتداء بضم الهمزة.
قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لفظه لفظ الواحد ، والمراد به الجميع ، وقد بيّنّا علّة
ذلك في أوّل البقرة والأفئدة : جمع فؤاد. قال الزّجّاج : مثل غراب وأغربة ،
ولم يجمع «فؤاد» على أكثر العدد ، لم يقل فيه : «فئدان» مثل غراب وغربان. وقال أبو
عبيدة : وإنما جعل لهم السّمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم. غير أنّ العرب
تقدّم وتؤخّر ، وأنشد :
ضخم تعلّق أشناق
الدّيات به
|
|
إذا المئون
أمرّت فوقه حملا
|
الشّنق : ما بين
الفريضتين. والمئون أعظم من الشّنق ، فبدأ بالأقلّ قبل الأعظم.
قال المفسّرون :
ومقصود الآية : أنّ الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهّالا بالأشياء ، وخلق
لهم الآلات التي يتوصّلون بها إلى العلم.
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))
قوله تعالى : (مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) قال الزّجّاج : هو الهواء البعيد من الأرض.
قوله تعالى : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) فيه قولان : أحدهما : ما يمسكهنّ عند قبض أجنحتهنّ وبسطها أن يقعن على الأرض
إلّا الله ، قاله الأكثرون. والثاني
: ما يمسكهنّ أن
يرسلن الحجارة على شرار هذه الأمّة ، كما فعل بغيرهم ، إلّا الله ، قاله ابن
السّائب.
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ
أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ
كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ
اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))
قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ
سَكَناً) أي : موضعا تسكنون فيه ، وفي المساكن المتّخذة من الحجر
والمدر تستر العورات والحرم ، وذلك أنّ الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي
بها يمكن بناء البيت وتسقيفه ، (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) وهي القباب والخيم المتّخذة من الأدم (تَسْتَخِفُّونَها) أي : يخفّ عليكم حملها (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو «ظعنكم» بفتح العين.
وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ بتسكين العين ، وهما لغتان ، كالشّعر والشّعر ،
والنّهر والنّهر ، والمعنى : إذا سافرتم ، (وَيَوْمَ
إِقامَتِكُمْ) أي : لا تثقل عليكم في الحالين (وَمِنْ أَصْوافِها) يعني : الضّأن (وَأَوْبارِها) يعني : الإبل (وَأَشْعارِها) يعني : المعز (أَثاثاً) قال الفرّاء : الأثاث : المتاع ، لا
__________________
واحد له ، كما أنّ
المتاع لا واحد له. والعرب تقول : جمع المتاع أمتعة ، ولو جمعت الأثاث ، لقلت : ثلاثة
أئثّة ، وأثث : مثل أعثّة وعثث لا غير. وقال ابن قتيبة : الأثاث : متاع البيت من
الفرش والأكسية. قال أبو زيد : واحد الأثاث : أثاثة. وقال الزّجّاج : يقال : قد
أثّ يأثّ أثّا : إذا صار ذا أثاث. وروي عن الخليل أنه قال : أصله من الكثرة
واجتماع بعض المتاع إلى بعض ، ومنه : شعر أثيث.
فأما قوله : (وَمَتاعاً) فقيل : إنما جمع بينه وبين الأثاث ، لاختلاف اللفظين. وفي
قوله : (إِلى حِينٍ) قولان : أحدهما
: أنه الموت ،
والمعنى : ينتفعون به إلى حين الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد. والثاني : أنه إلى حين البلى ، فالمعنى : إلى أن يبلى ذلك الشيء ،
قاله مقاتل.
قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ
ظِلالاً) أي : ما يقيكم حرّ الشمس ، وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه ظلال الغمام ، قاله ابن عباس. والثاني : ظلال البيوت ، قاله ابن السّائب. والثالث : ظلال الشّجر ، قاله قتادة ، والزّجّاج. والرابع : ظلال الشّجر والجبال ، قاله ابن قتيبة. والخامس : أنه كلّ شيء له ظلّ من حائط وسقف وشجر وجبل وغير ذلك ،
قاله أبو سليمان الدّمشقي.
قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ
أَكْناناً) أي : ما يكنّكم من الحرّ والبرد ، وهي الغيران والأسراب.
وواحد الأكنان «كنّ» ، وكلّ شيء وقى شيئا وستره فهو «كنّ». (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) وهي القمص (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل : البرد ، لأنّ ما وقى من الحرّ ، وقى من البرد.
وأنشد:
وما أدري إذا
يممت أرضا
|
|
أريد الخير
أيهما يليني
|
وقال الزجاج :
إنما خص الحر لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناة له من البرد. وهذا مذهب عطاء
الخراساني.
قوله تعالى : (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يريد الدّروع التي يتّقون بها شدّة الطّعن والضّرب في
الحرب. قوله تعالى : (كَذلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي : مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء ، يتمّ نعمته
عليكم في الدنيا (لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ) والخطاب لأهل مكّة ، وكان أكثرهم حينئذ كفّارا ، ولو قيل :
إنه خطاب للمسلمين ، فالمعنى : لعلّكم تدومون على الإسلام وتقومون بحقّه. وقرأ ابن
عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وأبو رجاء : «لعلكم تسلمون» بفتح التاء واللام ،
على معنى : لعلّكم إذا لبستم الدّروع تسلمون من الجراح في الحرب.
قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وهذه عند المفسّرين منسوخة بآية السّيف.
قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ
يُنْكِرُونَها) وفي هذه النّعمة قولان :
أحدهما
: أنها المساكن نعم
الله عزوجل عليهم في الدنيا. وفي إنكارها ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم يقولون : هذه ورثناها عن آبائنا. روى ابن أبي نجيح عن
مجاهد قال : نعم الله المساكن ، والأنعام ، وسرابيل الثّياب ، والحديد ، يعرفه
كفّار قريش ، ثم ينكرونه بأن يقولوا : هذا كان لآبائنا
__________________
ورثناه عنهم ،
وهذا عن مجاهد. والثاني
: أنهم يقولون : لو
لا فلان ، لكان كذا ، فهذا إنكارهم ، قاله عون بن عبد الله. والثالث : يعرفون أنّ النّعم من الله ، ولكن يقولون : هذه بشفاعة
آلهتنا ، قاله ابن السّائب ، والفرّاء ، وابن قتيبة.
والثاني
: أنّ المراد
بالنّعمة ها هنا : محمّد صلىاللهعليهوسلم يعرفون أنه نبيّ ثم يكذّبونه ، وهذا مرويّ عن مجاهد ،
والسّدّيّ ، والزّجّاج.
قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) قال الحسن : وجميعهم كفّار ، فذكر الأكثر ، والمراد به
الجميع.
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ
دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا
إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧))
قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً) يعني : يوم القيامة ، وشاهد كلّ أمّة نبيّها يشهد عليها
بتصديقها وتكذيبها (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) أي : لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى ما أمر الله به لأنّ
الآخرة ليست بدار تكليف.
قوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أشركوا (الْعَذابَ) يعني : النّار (فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ) العذاب (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) لا يؤخّرون ولا يمهلون (وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) يعني : الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة ، وذلك
أنّ الله يبعث كلّ معبود من دونه ، فيقول المشركون : (رَبَّنا هؤُلاءِ
شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا) أي : نعبد من دونك.
فإن قيل : فهذا
معلوم عند الله تعالى ، فما فائدة قولهم : «هؤلاء شركاؤنا»؟ فعنه جوابان :
أحدهما
: أنهم لمّا كتموا
الشّرك في قولهم : والله ما كنّا مشركين ، عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم ،
وإنطاق جوارحهم ، فقالوا عند معاينة آلهتهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ
شُرَكاؤُنَا) أي : قد أقررنا بعد الجحد ، وصدّقنا بعد الكذب ، التماسا
للرّحمة ، وفرارا من الغضب ، وكأنّ هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذّنب ، لا
على وجه إعلام من لا يعلم.
والثاني
: أنهم لمّا عاينوا
عظم غضب الله تعالى قالوا : هؤلاء شركاؤنا ، تقدير أن يعود عليهم من هذا القول روح
، وأن تلزم الأصنام إجرامهم ، أو بعض ذنوبهم إذ كانوا يدّعون لها العقل والتّمييز
، فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم.
قوله تعالى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) أي : أجابوهم وقالوا لهم : (إِنَّكُمْ
لَكاذِبُونَ) قال الفرّاء : ردّت عليهم آلهتهم قولهم. وقال أبو عبيدة : «فألقوا»
، أي : قالوا لهم. يقال : ألقيت إلى فلان كذا ، أي : قلت له. قال العلماء :
كذّبوهم في عبادتهم إيّاهم ، وذلك أنّ الأصنام كانت جمادا لا تعرف
عابديها فظهرت
فضيحتهم يومئذ إذ عبدوا من لم يعلم بعبادتهم وذلك كقوله : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) . قوله تعالى : (وَأَلْقَوْا إِلَى
اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) المعنى : أنهم استسلموا له. وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم المشركون ، قاله الأكثرون. ثمّ في معنى استسلامهم
قولان : أحدهما
: أنهم استسلموا له
بالإقرار بتوحيده وربوبيّته. والثاني
: أنهم استسلموا
لعذابه. والثاني
: أنهم المشركون
والأصنام كلّهم. قال الكلبيّ : والمعنى : أنهم استسلموا لله منقادين لحكمه.
قوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فيه قولان : أحدهما : بطل قولهم أنها تشفع لهم. والثاني : ذهب عنهم ما زيّن لهم الشّيطان أنّ لله شريكا وولدا.
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))
قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) قال ابن عباس : منعوا النّاس من طاعة الله والإيمان
بمحمّد. قوله تعالى : (زِدْناهُمْ عَذاباً
فَوْقَ الْعَذابِ) إنما نكّر العذاب الأول ، لأنه نوع خاصّ لقوم بأعيانهم ،
وعرّف العذاب الثاني ، لأنه العذاب الذي يعذّب به أكثر أهل النار ، فكأنّ في شهرته
بمنزلة النار في قول القائل : نعوذ بالله من النّار ، وقد قيل : إنما زيدوا هذا
العذاب على ما يستحقّونه من عذابهم ، بصدّهم عن سبيل الله. وفي صفة هذا العذاب
الذي زيدوا أربعة أقوال : أحدها
: أنها عقارب
كأمثال النّخل الطّوال ، رواه مسروق عن ابن مسعود. والثاني : أنها حيّات كأمثال الفيلة ، وعقارب كأمثال البغال ، رواه
زرّ عن ابن مسعود. والثالث
: أنها خمسة أنهار
من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذّبون بها ، ثلاثة على مقدار
الليل ، واثنان على مقدار النهار ، قاله ابن عباس. والرابع : أنه الزّمهرير ، ذكره ابن الأنباري. قال الزّجّاج : يخرجون
من حرّ الزّمهرير ، فيتبادرون من شدّة برده إلى النار.
قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم قومه ، قاله ابن عباس. والثاني : أمّته قاله مقاتل. وتمّ الكلام ها هنا. ثم قال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
تِبْياناً) قال الزّجّاج : التّبيان : اسم في معنى البيان. فأمّا قوله
تعالى : (لِكُلِّ شَيْءٍ) فقال العلماء بالمعاني : يعني : لكلّ شيء من أمور الدّين ،
إمّا بالنّصّ عليه ، أو بالإحالة على ما يوجب العلم ، مثل بيان رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو إجماع المسلمين.
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
(٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ
__________________
قُوَّةٍ
أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه شهادة أن لا إله إلّا الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن
عباس. والثاني
: أنه الحقّ ، رواه
الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث
: أنه استواء
السّريرة والعلانية في العمل لله تعالى ، قاله سفيان بن عيينة. والرابع : أنه القضاء بالحقّ ، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان :
العدل في كلام العرب : الإنصاف ، وأعظم الإنصاف : الاعتراف للمنعم بنعمته. وفي
المراد بالإحسان خمسة أقوال : أحدها
: أنه أداء الفرائض
، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : العفو. رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث : الإخلاص ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : أن تعبد الله كأنّك تراه ، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس : أن تكون السّريرة أحسن من العلانية ، قاله سفيان بن عيينة.
فأما قوله تعالى :
(وَإِيتاءِ ذِي
الْقُرْبى) فالمراد به : صلة الأرحام.
وفي الفحشاء قولان
: أحدهما
: أنها الزّنا ،
قاله ابن عباس. والثاني
: المعاصي ، قاله
مقاتل.
وفي (المنكر)
أربعة أقوال : أحدها
: أنه الشّرك ،
قاله مقاتل. والثاني
: أنه ما لا يعرف
في شريعة ولا سنّة. والثالث
: أنه ما وعد الله
عليه النار ، ذكرهما ابن السّائب. والرابع : أن تكون علانية الإنسان أحسن من سريرته ، قاله سفيان بن
عيينة.
فأمّا (البغي)
فقال ابن عباس : هو الظّلم ، وقد سبق شرحه في مواضع.
قوله تعالى : (يَعِظُكُمْ) قال ابن عباس : يؤدّبكم ، وقد ذكرنا معنى الوعظ في سورة
النّساء . و (تَذَكَّرُونَ) بمعنى : تتّعظون. قال ابن مسعود : هذه الآية أجمع آية في
القرآن لخير أو لشرّ. وقال الحسن : والله ما ترك العدل والإحسان شيئا من طاعة الله
إلّا جمعاه ، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئا من معصية الله إلّا جمعوه.
قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما
: أنها نزلت في
__________________
حلف أهل الجاهليّة
، قاله مجاهد ، وقتادة. والثاني
: أنها نزلت في
الذين بايعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال المفسّرون : العهد الذي يجب الوفاء به ، هو الذي يحسن
فعله ، فإذا عاهد العبد عليه ، وجب الوفاء به ، والوعد من العهد (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِها) أي : بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين ،
بخلاف لغو اليمين ، ووكّدت الشيء توكيدا ، لغة أهل الحجاز. فأمّا أهل نجد ،
فيقولون : أكّدته تأكيدا. وقال الزّجّاج : يقال : وكّدت الأمر ، وأكّدت ، لغتان
جيّدتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل منها. قوله تعالى : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلاً) أي : بالوفاء وذلك أنّ من حلف بالله ، فكأنه أكفل الله
بالوفاء بما حلف عليه. وللمفسّرين في معنى «كفيلا» ثلاثة أقوال : أحدها : شهيدا ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : وكيلا ، قاله مجاهد. والثالث : حفيظا مراعيا لعقدكم ، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَها) قال مجاهد : هذا فعل نساء أهل نجد ، تنقض إحداهنّ حبلها ،
ثم تنفشه ، ثم تخلطه بالصّوف فتغزله. وقال مقاتل : هي امرأة من قريش تسمّى «ريطة»
بنت عمرو بن كعب ، كانت إذا غزلت ، نقضته. وقال ابن السّائب : اسمها «رائطة» وقال
ابن الأنباري : اسمها «ريطة» بنت عمرو المريّة ، ولقبها الجعراء ، وهي من أهل مكّة
، وكانت معروفة عند المخاطبين ، فعرفوها بوصفها ، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك ،
كانت متناهية الحمق ، تغزل الغزل من القطن أو الصّوف فتحكمه ، ثم تأمر جاريتها
بتقطيعه. وقال بعضهم : كانت تغزل هي وجواريها ، ثم تأمرهنّ أن ينقضن ما غزلن ،
فضربها الله مثلا لناقضي العهد. و «نقضت» ، بمعنى : تنقض ، كقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) بمعنى : وينادي. وفي المراد بالغزل قولان : أحدهما : أنه الغزل المعروف ، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر ، وهو
قول الأكثرين. والثاني
: أنه الحبل ، قاله
مجاهد. وقوله : (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) قال قتادة : من بعد إبرام ، وقوله : (أَنْكاثاً) أي : أنقاضا. قال ابن قتيبة : الأنكاث : ما نقض من غزل
الشّعر وغيره. وواحدها
: نكث. يقول : لا
تؤكّدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه ، فتكونوا كامرأة
غزلت ونسجت ، ثم نقضت ذلك النّسج ، فجعلته أنكاثا.
قوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ) أي : دغلا ، ومكرا ، وخديعة ، وكلّ شيء دخله عيب ، فهو
مدخول ، وفيه دخل.
قوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) قال ابن قتيبة : لأن تكون أمّة ، (هِيَ أَرْبى) أي : هي أغنى (مِنْ أُمَّةٍ) وقال الزّجّاج : المعنى : بأن تكون أمّة هي أكثر ، يقال :
ربا الشيء يربو : إذا كثر. قال ابن الأنباري : قال اللغويون : «أربى» : أزيد عددا.
قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم
__________________
وأعزّ ، فينقضون
حلف هؤلاء ويحالفون أولئك ، فنهوا عن ذلك! وقال الفرّاء : المعنى : لا تغدروا بقوم
لقلّتهم وكثرتكم ، أو قلّتكم وكثرتهم وقد غرّرتموهم بالأيمان.
قوله تعالى : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) في هذه الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى الكثرة ، قاله سعيد بن جبير ، وابن السّائب
، ومقاتل ، فيكون المعنى : إنما يختبركم الله بالكثرة ، فإذا كان بين قومين عهد
فكثر أحدهما ، فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقلّ. فإن قيل : إذا كنّى عن
الكثرة ، فهلّا قيل بها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري. بأنّ الكثرة ليس تأنيثها
حقيقيا ، فحملت على معنى التّذكير ، كما حملت الصّيحة على معنى الصّياح. والثاني : أنها ترجع إلى العهد ، فإنّه لدلالة الأيمان عليه ، يجري
مجرى المظهر ، ذكره ابن الأنباري. والثالث : أنها ترجع إلى الأمر بالوفاء ، ذكره بعض المفسّرين.
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) قد فسّرناه في آخر هود .
قوله تعالى : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) صريح في تكذيب القدريّة ، حيث أضاف الإضلال والهداية إليه
، وعلّقهما بمشيئته.
(وَلا تَتَّخِذُوا
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا
السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا
تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ
باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٩٦))
قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) هذا استئناف للنّهي عن أيمان الخديعة. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) قال أبو عبيدة : هذا مثل يقال لكلّ مبتلى بعد عافية ، أو
ساقط في ورطة بعد سلامة : زلّت به قدمه. قال مقاتل : ناقض العهد يزلّ في دينه كما
تزلّ قدم الرّجل بعد الاستقامة. قال المفسّرون : وهذا نهي للذين بايعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الإسلام ونصرة الدّين عن نقض العهد ، ويدلّ عليه قوله
تعالى : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) يعني : العقوبة (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) يريد أنهم إذا نقضوا عهدهم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، صدّوا الناس عن الإسلام ، فاستحقّوا العذاب.
وقوله تعالى : (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) يعني : في الآخرة. ثم أكّد ذلك بقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً).
(٨٦٥) قال أبو
صالح عن ابن عباس : نزلت في رجلين اختصما إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أرض ، يقال لأحدهما : «عيدان بن أشوع»
وهو صاحب الأرض ، وللآخر : «امرؤ القيس» وهو المدّعى عليه ، فهمّ امرؤ القيس أن
يحلف ، فأخّره رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية.
____________________________________
(٨٦٥) عزاه المصنف
لأبي صالح عن ابن عباس ، وراوية أبي صالح هو الكلبي ، وتقدم أن هذا إسناد ساقط ،
وتقدم في سورة النساء بسياق آخر صحيح ، فالخبر بذكر نزول هذه الآية ، ليس له أصل.
__________________
وذكر أبو بكر
الخطيب أنّ اسم صاحب الأرض «ربيعة بن عبدان» ، وقيل : «عيدان» ، بفتح العين وياء
معجمة باثنتين. ومعنى الآية : لا تنقضوا عهودكم ، تطلبون بنقضها عرضا يسيرا من
الدنيا ، إنّ ما عند الله من الثّواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل. (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) أي : يفنى (وَما عِنْدَ اللهِ) في الآخرة (باقٍ) وقف بالياء ابن كثير في رواية عنه ، ولا خلاف في حذفها في
الوصل. (وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «وليجزينّ»
بالياء. وقرأ ابن كثير ، وعاصم «ولنجزينّ» بالنّون. ولم يختلفوا في (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) أنها بالنون ، ومعنى هذه الآية : وليجزينّ الذين صبروا على
أمره أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون في الدّنيا ، ويتجاوز عن سيّئاتهم.
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))
قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنّ امرأ القيس المتقدّم ذكره أقرّ بالحقّ الذي كان همّ أن
يحلف عليه ، فنزلت فيه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ، وهو إقراره بالحقّ ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ ناسا من أهل التّوراة وأهل الإنجيل وأهل الأوثان جلسوا
فتفاضلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح.
قوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطّيّبة على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها في الدنيا ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. ثم فيها
للمفسّرين تسعة أقوال : أحدها
: أنها القناعة ،
قاله عليّ عليهالسلام ، وابن عباس في رواية ، والحسن في رواية ، ووهب بن منبّه. والثاني : أنها الرّزق الحلال ، رواه أبو مالك عن ابن عباس. وقال
الضّحّاك : يأكل حلالا ويلبس حلالا. والثالث : أنها السعادة ، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع : أنها الطّاعة ، قاله عكرمة. والخامس : أنها رزق يوم بيوم ، قاله قتادة. والسادس : أنها الرّزق الطيّب ، والعمل الصالح ، قاله إسماعيل بن أبي
خالد. والسابع
: أنها حلاوة
الطّاعة ، قاله أبو بكر الورّاق. والثامن : العافية والكفاية. والتاسع : الرّضى بالقضاء ، ذكرهما الماوردي. والثاني : أنها في الآخرة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ،
وقتادة ، وابن زيد ، وذلك إنما يكون في الجنّة. والثالث : أنها في القبر ،
رواه أبو غسّان عن شريك.
(فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما
يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢))
__________________
قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللهِ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها
: أنّ المعنى :
فإذا أردت القراءة فاستعذ ، ومثله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وقوله : (وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) وقوله : (إِذا ناجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) . ومثله في الكلام : إذا أكلت ، فقل بسم الله ، هذا قول
عامّة العلماء واللغويين. والثاني
: أنه على ظاهره ،
وأنّ الاستعاذة بعد القراءة ، روي عن أبي هريرة ، وداود . والثالث
: أنه من المقدّم
والمؤخّر ، فالمعنى : فإذا استعذت بالله فاقرأ ، قاله أبو حاتم السّجستاني ،
والأول أصحّ.
فصل
: والاستعاذة عند
القراءة سنّة في الصلاة وغيرها. وفي صفتها عن أحمد روايتان :
إحداهما : أعوذ
بالله من الشّيطان الرّجيم ، إنّ الله هو السّميع العليم ، رواها أبو بكر
المروزيّ. والثانية : أعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم ، إنّ الله
هو السّميع العليم ، رواها حنبل. وقد بيّنّا معنى «أعوذ» في أوّل الكتاب ، وشرحنا
اشتقاق الشّيطان في البقرة والرّجيم في آل عمران .
قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا) في المراد بالسّلطان قولان : أحدهما
: أنه التّسلّط. ثم
فيه ثلاثة أقوال : أحدها
: ليس له عليهم
سلطان بحال ، لأنّ الله صرف سلطانه عنهم بقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) . والثاني
: ليس له عليهم
سلطان ، لاستعاذتهم منه. والثالث
: ليس له قدرة على
أن يحملهم على ذنب لا يغفر. والثاني
: أنه الحجّة. فالمعنى
: ليس له حجّة على ما يدعوهم إليه من المعاصي ، قاله مجاهد. فأما قوله : (يَتَوَلَّوْنَهُ) معناه : يطيعونه. وفي هاء الكناية في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) قولان : أحدهما
: أنها ترجع إلى
الله تعالى ، قاله مجاهد ، والضّحّاك. والثاني : أنها ترجع إلى الشّيطان ، فالمعنى : الذين هم من أجله
مشركون بالله ، وهذا كما يقال : صار فلان بك عالما ، أي : من أجلك ، هذا قول ابن
قتيبة. وقال ابن الأنباري : المعنى : والذين هم بإشراكهم إبليس في العبادة ،
مشركون بالله تعالى.
قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ).
(٨٦٦) سبب نزولها
أنّ الله تعالى كان ينزّل الآية ، فيعمل بها مدّة ، ثم ينسخها ، فقال كفّار قريش :
والله ما محمّد إلّا يسخر من أصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، ويأتيهم غدا بما هو
أهون عليهم منه ،
____________________________________
(٨٦٦) لا أصل له.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وهذه رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب
النزول» ٥٦٥ ، دون عزو لقائل. والخبر باطل لا أصل له ، وهل علم كفار قريش بالناسخ
والمنسوخ أيضا؟!!
__________________
فنزلت هذه الآية ،
قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والمعنى : إذا
نسخنا آية بآية ، إمّا نسخ الحكم والتّلاوة ، أو نسخ الحكم مع بقاء التّلاوة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من ناسخ ومنسوخ ، وتشديد وتخفيف ، فهو عليم بالمصلحة في
ذلك (قالُوا إِنَّما
أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي : كاذب (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) فيه قولان :
أحدهما
: لا يعلمون أنّ
الله أنزله. والثاني
: لا يعلمون فائدة
النّسخ.
قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ) يعني : القرآن (رُوحُ الْقُدُسِ) يعني : جبريل. وقد شرحنا هذا الاسم في البقرة . وقوله تعالى : (مِنْ رَبِّكَ) أي : من كلامه (بِالْحَقِ) أي : بالأمر الصّحيح (لِيُثَبِّتَ
الَّذِينَ آمَنُوا) بما فيه من البيّنات فيزدادوا يقينا.
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ
هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) يعني : قريشا (إِنَّما يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ) أي : آدميّ ، وما هو من عند الله. وفيمن أرادوا بهذا البشر
تسعة أقوال :
(٨٦٧) أحدها : أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له : يعيش ، يقرأ التّوراة
، فقالوا : منه يتعلّم محمّد ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال
عكرمة في رواية : كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤيّ ، وكان روميّا.
(٨٦٨) والثاني : أنه فتّى كان بمكّة يسمى بلعام وكان نصرانيا أعجميّا ،
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعلّمه ، فلمّا رأى المشركون دخوله إليه وخروجه ، قالوا
ذلك ، روي عن ابن عباس أيضا.
(٨٦٩) والثالث : أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيملي عليه «سميع عليم» فيكتب هو «عزيز حكيم» أو نحو هذا
، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيّ ذلك كتبت فهو كذلك» ، فافتتن ، وقال : إنّ محمّدا
يكل ذلك إليّ فأكتب ما شئت ، روي عن سعيد بن المسيّب.
(٨٧٠) والرابع : أنه غلام أعجميّ لامرأة من قريش يقال له : جابر ، وكان
جابر يأتي
____________________________________
(٨٦٧) مرسل. أخرجه
الطبري ٢١٩٣٤ عن عكرمة مرسلا ، وورد من مرسل قتادة برقم ٢١٩٣٥. وعزاه المصنف
لعكرمة عن ابن عباس أيضا ، ولم أره عن ابن عباس من طريقة عكرمة. وانظر ما بعده.
(٨٦٨) ضعيف. أخرجه
الطبري ٢١٩٣٣ من حديث ابن عباس ، وضعّفه السيوطي في «الدر» ٤ / ٢٤٧.
ـ وعلّته مسلم بن كيسان أبو عبد الله الملائي ،
فقد ضعفه الجمهور.
(٨٦٩) أخرجه
الطبري ٢١٩٤٣ عن سعيد بن المسيب مرسلا. والمشهور في هذا السياق ما يأتي في مطلع
سورة «المؤمنون».
(٨٧٠) هو مرسل ،
وانظر ما يأتي.
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيتعلّم منه ، فقال المشركون : إنما يتعلّم محمّد من هذا ،
قاله سعيد بن جبير.
(٨٧١) والخامس : أنهم عنوا سلمان الفارسيّ ، قاله الضّحّاك ؛ وفيه بعد من
جهة أنّ سلمان أسلم بالمدينة ، وهذه الآية مكّيّة.
(٨٧٢) والسادس : أنهم عنوا به رجلا حدّادا كان يقال له : يحنّس النّصراني ،
قاله ابن زيد.
(٨٧٣) والسابع : أنهم عنوا به غلاما لعامر بن الحضرميّ ، وكان يهوديّا
أعجميّا ، واسمه «يسار» ، ويكنّى أبا فكيهة ، قاله مقاتل. وقد روي عن سعيد بن جبير
نحو هذا ، إلّا أنه لم يقل : إنه كان يهوديّا.
(٨٧٤) والثامن : أنهم عنوا غلاما أعجميّا اسمه عايش ، وكان مملوكا لحويطب ،
وكان قد أسلم ، قاله الفرّاء ، والزّجّاج.
(٨٧٥) والتاسع : أنهما رجلان ، قال عبد الله بن مسلم الحضرميّ : كان لنا
عبدان من أهل عين التّمر ، يقال لأحدهما : «يسار» وللآخر «جبر»
وكانا يصنعان السّيوف بمكّة ، ويقرآن الإنجيل ، فربّما مرّ بهما النبيّ صلىاللهعليهوسلم وهما يقرآن ، فيقف يستمع ، فقال المشركون : إنما يتعلّم
منهما. قال ابن الأنباري ؛ فعلى هذا القول ، يكون البشر واقعا على اثنين ، والبشر
من أسماء الأجناس ، يعبّر عن اثنين ، كما يعبّر «أحد» عن الاثنين والجميع ،
والمذكّر والمؤنّث.
قوله تعالى : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «يلحدون»
بضمّ الياء وكسر الحاء ، وقرأ حمزة والكسائيّ : «يلحدون» بفتح الياء والحاء. فأمّا
القراءة الأولى ، فقال ابن قتيبة : «يلحدون» أي : يميلون إليه ، ويزعمون أنه
يعلّمه ، وأصل الإلحاد الميل. وقال الفرّاء : «يلحدون» بضمّ الياء : يعترضون ،
ومنه قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) أي : باعتراض ، و «يلحدون» بفتح الياء : يميلون. وقال
الزّجّاج : يلحدون إليه ، أي : يميلون القول فيه أنه أعجميّ. قال ابن قتيبة : لا
يكاد عوامّ الناس يفرّقون بين العجميّ والأعجمي ، والعربيّ والأعرابي ، فالأعجميّ
: الذي لا يفصح وإن كان نازلا بالبادية ، والعجميّ : منسوب إلى العجم وإن كان
فصيحا ؛ والأعرابيّ : هو البدويّ ، والعربيّ : منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويّا.
قوله تعالى : (وَهذا لِسانٌ) يعني : القرآن ، (عَرَبِيٌ) قال الزّجّاج : أي : أنّ صاحبه يتكلّم بالعربية. قوله
تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي : الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلّا
____________________________________
(٨٧١) باطل. أخرجه
الطبري ٢١٩٤١ عن الضحاك مرسلا ، فهذه علة ، وله علّة ثانية ، فيه راو لم يسم ، وله
علة ثالثة ، وهي كون السورة مكية ، وسلمان كان في المدينة. وكذا ضعف هذا القول ابن
كثير في «التفسير».
(٨٧٢) هذا معضل ،
وابن زيد واسمه عبد الرحمن ضعيف متروك إذا وصل الحديث ، فكيف إذا أرسله؟! (٨٧٣)
عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك متهم.
(٨٧٤) عزاه المصنف
للفراء والزجاج ، ولم أر من أسنده.
(٨٧٥) مرسل. أخرجه
الطبري ٢١٩٣٨ و ٢١٩٣٩ و ٢١٩٤٠ والواحدي في «الأسباب» ٥٦٦ عن عبد الله بن مسلم
الحضرمي مرسلا ، فهو ضعيف. وله شاهد من مرسل مجاهد ، أخرجه الطبري ٢١٩٤٢.
ـ الخلاصة : هذه الروايات جميعا ضعيفة ، لا يحتج
بشيء منها بمفرده. لكن تعدد هذه الروايات مع اختلاف مخارجها يدل على صحة أصل هذه
الأخبار مع ضعف تعيين ذاك الرجل الذي يقصده المشركون في ذلك.
الله ، كذّبوا بها
، (وَأُولئِكَ هُمُ
الْكاذِبُونَ) أي : أنّ الكذب نعت لازم لهم ، وعادة من عاداتهم ، وهذا
ردّ عليهم إذ قالوا : (إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ) . وهذه الآية من أبلغ الزّجر عن الكذب ، لأنه خصّ به من لا
يؤمن.
(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى
الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ
هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ
(١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ
جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ
تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))
قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمانِهِ). قال مقاتل :
(٨٧٦) نزلت في عبد
الله بن سعد بن أبي سرح القرشي ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن أنس بن خطل ،
وطعمة بن أبيرق ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه المخزومي.
فأمّا قوله تعالى
: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال :
(٨٧٧) أحدها : أنه نزل في عمّار بن ياسر ، أخذه المشركون فعذّبوه ،
فأعطاهم ما أرادوا بلسانه ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال قتادة.
(٨٧٨) والثاني : أنه لمّا نزل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) إلى آخر الآيتين اللتين
____________________________________
(٨٧٦) عزاه المصنف
لمقاتل ، وهو ابن سليمان إن أطلق ، وهو ممن يضع الحديث ، فهذا خبر باطل ، وقد
تفرّد به.
(٨٧٧) حسن ، أخرجه
الطبري ٢١٩٤٤ عن ابن عباس في قوله (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ... إلى آخر الآية ، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر
فعذبوه ، ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فحدثه بالذي لقي من قريش والذي قال. فأنزل الله تعالى
ذكره عذره (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ....) إلى قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ١ / ١٤٠ عن مجاهد مرسلا.
وله شاهد عند
الحاكم ٢ / ٣٥٧ ، وعبد الرزاق في تفسيره ١٥٠٩ ، والطبري ٢١٩٤٦ من طريق أبي عبيدة
بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه. وصححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، مع
أن مداره على محمد بن عمار بن ياسر ، وهو مقبول ، ولم يرو له الشيخان ، لكن أصل
الخبر محفوظ ، فقد أخرجه الطبري ٢١٩٤٧ عن أبي مالك مرسلا. وله شاهد من مرسل قتادة
: أخرجه الطبري ٢١٩٤٤. الخلاصة : هذه الروايات تتأيد بمجموعها ، وله شواهد أخرى أوردها
السيوطي في «الدر» ٤ / ٢٤٩.
(٨٧٨) حسن. أخرجه
الطبري ٢١٩٥٣ بإسناد حسن عن ابن عباس. وله شاهد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري
٢١٩٥٢. وله شاهد من مرسل مجاهد ، أخرجه الطبري ٢١٩٥٠ و ٢١٩٥١.
__________________
في سورة النّساء ، كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى من كان بمكّة ،
فخرج ناس ممّن أقرّ بالإسلام ، فاتّبعهم المشركون ، فأدركوهم ، فأكرهوهم حتى أعطوا
الفتنة ، فنزل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد.
(٨٧٩) والثالث : أنه نزل في عيّاش
بن أبي ربيعة ، كان قد هاجر فحلفت أمّه ألّا تستظلّ ولا تشبع من طعام حتى يرجع ،
فرجع إليها ، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون ، قاله ابن سيرين.
(٨٨٠) والرابع : أنه نزل في جبر ، غلام ابن الحضرمي ، كان يهوديّا فأسلم ،
فضربه سيّده حتى رجع إلى اليهودية ، قاله مقاتل.
وأمّا قوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً) فقال مقاتل : هم النّفر المسمّون في أوّل الآية.
فأمّا التّفسير ،
فاختلف النّحاة في قوله : (مَنْ كَفَرَ) وقوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ) فقال الكوفيون : جوابهما جميعا في قوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) ، فقال البصريّون : بل قوله : (مَنْ كَفَرَ) مرفوع بالرّدّ على (الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ). قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون خبر (مَنْ كَفَرَ) محذوفا ، لوضوح معناه ، تقديره : من كفر بالله ، فالله
عليه غضبان.
قوله تعالى : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي : ساكن إليه راض به. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً) قال قتادة : من أتاه بإيثار واختيار. وقال ابن قتيبة : من
فتح له صدره بالقبول. وقال أبو عبيدة : المعنى : من تابعته نفسه ، وانبسط إلى ذلك
، يقال : ما ينشرح صدري بذلك ، أي : ما يطيب : وجاء قوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) على معنى الجميع ، لأنّ «من» تقع على الجميع.
فصل
: الإكراه على كلمة
الكفر يبيح النّطق بها. وفي الإكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان : إحداهما : أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التّلف
إن لم يفعل ما أمر به. والثانية : أنّ التّخويف لا يكون إكراها حتى ينال بعذاب.
وإذا ثبت جواز «التّقيّة» فالأفضل ألّا يفعل ، نصّ عليه أحمد ، في أسير خيّر بين
القتل وشرب الخمر ، فقال : إن صبر على القتل فله الشّرف ، وإن لم يصبر ، فله
الرّخصة ، فظاهر هذا ، الجواز. وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التّقيّة في شرب الخمر
فقال : إنما
____________________________________
(٨٧٩) عزاه
السيوطي في «الدر» ٤ / ٥٤٩ لابن أبي حاتم عن ابن سيرين لكن ذكره مختصرا ، وهو غير
صحيح ، وما قبله هو الراجح ، وكذا حديث عمار ، هو أشهر وأصح حديث في الباب.
(٨٨٠) باطل. عزاه
المصنف لمقاتل ، وهو ابن سليمان حيث أطلق ، وهو ممن يضع الحديث.
__________________
التّقيّة في
القول. فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك. فأمّا إذا أكره على الزّنا ، لم يجز له
الفعل ، ولم يصحّ إكراهه ، نصّ عليه أحمد. فإن أكره على الطّلاق ، لم يقع طلاقه ،
نصّ عليه أحمد ، وهو قول مالك ، والشّافعيّ. وقال أبو حنيفة : يقع.
قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا
الْحَياةَ الدُّنْيا) في المشار إليه بذلك قولان :
أحدهما
: أنه الغضب
والعذاب ، قاله مقاتل.
والثاني
: أنه شرح الصّدر
للكفر. و «استحبّوا» بمعنى : أحبّوا الدنيا واختاروها على الآخرة.
قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ) أي : وبأن الله لا يريد هدايتهم. وما بعد هذا قد سبق شرحه إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) ففيه قولان :
أحدهما
: الغافلون عمّا يراد
بهم ، قاله ابن عباس. والثاني
: عن الآخرة ، قاله
مقاتل.
قوله تعالى : (لا جَرَمَ) قد شرحناها في هود . وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :
(٨٨١) أحدها : أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكّة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٨٨٢) والثاني : أنّ قوما من المسلمين خرجوا للهجرة ، فلحقهم المشركون
فأعطوهم الفتنة ، فنزل فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذابِ اللهِ) فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا ، وأدركهم المشركون
فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عكرمة عن
ابن عباس.
(٨٨٣) والثالث : أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان الشيطان قد
أزلّه حتى لحق بالكفار ، فأمر به رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يقتل يوم الفتح ، فاستجار له عثمان بن عفّان ، فأجاره
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهذا مرويّ عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وفيه بعد ،
لأنّ المشار إليه وإن كان قد عاد إلى الإسلام ، فإنّ الهجرة انقطعت بالفتح.
والرابع
: أنها نزلت في
عيّاش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو ، وعبد الله بن أسيد الثّقفي ،
قاله مقاتل.
فأمّا قوله تعالى
: (مِنْ بَعْدِ ما
فُتِنُوا) فقرأ الأكثرون : «فتنوا» بضمّ الفاء وكسر التاء ، على معنى
: من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم. قال ابن عباس : فتنوا بمعنى : عذّبوا. وقرأ
عبد الله بن عامر :
____________________________________
(٨٨١) تقدم قبل
قليل ، ويدل عليه ما بعده.
(٨٨٢) أخرجه
الطبري ٢١٩٥٣ من رواية عكرمة عن ابن عباس بنحوه ، وتقدم قبل قليل.
(٨٨٣) أخرجه
الطبري ٢١٩٥٥ عن عكرمة والحسن مرسلا ، وهو ضعيف بذكر نزول الآية فيه ، وأما
استشفاع عثمان له وإعلان إسلامه فصحيح ، ولعله يأتي.
__________________
«فتنوا» بفتح
الفاء والتاء ، على معنى : من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله ، يشير إلى من أسلم
من المشركين. وقال أبو عليّ : من بعد ما فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للتّقيّة ،
لأنّ الرّخصة لم تكن نزلت بعد. قوله تعالى : (ثُمَّ جاهَدُوا) أي : قاتلوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَصَبَرُوا) على الدّين والجهاد. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها) في المكنيّ عنها أربعة أقوال : أحدها : الفتنة ، وهو مذهب مقاتل. والثاني : الفعلة التي فعلوها ، قاله الزّجّاج. والثالث : المجاهدة ، والمهاجرة ، والصّبر. والرابع : المهاجرة. ذكرهما واللّذين قبلهما ابن الأنباري.
قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي) قال الزّجّاج : هو منصوب على أحد شيئين ، إمّا على معنى :
إنّ ربّك لغفور يوم تأتي ، وإمّا على معنى : اذكر يوم تأتي. ومعنى (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي : عنها. والمراد : أنّ كلّ إنسان يجادل عن نفسه. وقد
روي عن عمر بن الخطّاب أنه قال لكعب الأحبار : يا كعب خوّفنا ، فقال : إنّ لجهنّم
زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إنّ
إبراهيم خليل الرّحمن ليدلي بالخلّة فيقول : يا ربّ أنا خليلك إبراهيم ، لا أسألك
إلّا نفسي ، وإنّ تصديق ذلك في كتاب الله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها). وقد شرحنا معنى «الجدال» في هود .
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ
كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢))
قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ
آمِنَةً) في هذه القرية قولان :
أحدهما
: أنها مكّة ، قاله
ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور ، وهو الصّحيح.
والثاني
: أنها قرية أوسع
الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز ، فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا
يأكلون ما يقاعدون ، قاله الحسن. فأمّا ما يروى عن حفصة أنها قالت : هي المدينة ،
فذلك على سبيل التّمثيل ، لا على وجه التّفسير ، وبيانه : ما روى سليم بن عتر ، قال : صدرنا من الحجّ مع حفصة ، وعثمان محصور بالمدينة ،
فرأت راكبين فسألتهما عنه ، فقالا : قتل ، فقالت : والذي نفسي بيده إنها للقرية ،
تعني المدينة التي قال الله تعالى في كتابه : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) ، تعني حفصة : أنها كانت على قانون الاستقامة في أيّام
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) عند قتل عثمان رضي الله عنه. ومعنى (كانَتْ آمِنَةً) أي : ذات أمن يأمن فيها أهلها أن يغار عليهم ، (مُطْمَئِنَّةً) أي : ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو
ضيق. وقد شرحنا معنى الرّغد في البقرة .
وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي : يجلب إليها من كلّ بلد وذلك كلّه بدعوة إبراهيم عليهالسلام ، (فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللهِ) بتكذيبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وفي واحد الأنعم قولان : أحدهما : أنّ واحدها «نعم» قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة. والثاني : «نعمة» قاله
الزّجّاج : قال ابن قتيبة : ليس قول من
__________________
قال : هو جمع «نعمة»
بشيء ، لأن «فعلة» لا تجمع على «أفعل» ، وإنما هو جمع «نعم» ، يقال : يوم نعم ،
ويوم بؤس ، ويجمع «أنعما» ، و «أبؤسا».
قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ) وروى عبيد بن عقيل ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : «والخوف»
بنصب الفاء. وأصل الذّوق إنما هو بالفم ، وهذا استعارة منه ، وقد شرحنا هذا المعنى
في آل عمران . وإنما ذكر اللباس هاهنا تجوّزا ، لما يظهر عليهم من أثر
الجوع والخوف ، فهو كقوله : (وَلِباسُ التَّقْوى) وذلك لما يظهر على المتّقي من أثر التّقوى. قال المفسّرون
: عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة. فأما الخوف ،
فهو خوفهم من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم. والكلام في هذه الآية
خرّج على القرية ، والمراد أهلها ، ولذلك قال : (بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ) يعني به : بتكذيبهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وإخراجهم إيّاه وما همّوا به من قتله.
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))
قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) يعني أهل مكّة (رَسُولٌ مِنْهُمْ) يعني : محمّدا صلىاللهعليهوسلم (فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) وفيه قولان : أحدهما : أنه الجوع ، قاله ابن عباس. والثاني : القتل ببدر ، قاله مجاهد. قال ابن السّائب : (وَهُمْ ظالِمُونَ) أي : كافرون.
(فَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥))
قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) في المخاطبين بهذا قولان :
أحدهما
: أنهم المسلمون ،
وهو قول الجمهور.
والثاني
: أنهم أهل مكّة
المشركون ، لمّا اشتدّت مجاعتهم ، كلّم رؤساؤهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إن كنت عاديت الرّجال ، فما بال النساء والصّبيان؟!
فأذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم للناس أن يحملوا الطعام إليهم ، حكاه الثّعلبيّ ، وذكر
نحوه الفرّاء. وهذه الآية والتي تليها مفسّرتان في البقرة .
(وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))
قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) قال ابن الأنباري : اللام في «لما» بمعنى من أجل ، وتلخيص
الكلام : ولا تقولوا : هذه الميتة حلال ، وهذه البحيرة حرام ، من أجل كذبكم ،
وإقدامكم على الوصف ، والتّخرّص لما لا أصل له ، فجرت اللام ها هنا مجراها في قوله : (وَإِنَّهُ
__________________
لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي : وإنّه من أجل حبّ الخير لبخيل ، و «ما» بمعنى المصدر
، والكذب منصوب ب «تصف» ، والتّخليص : لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب. وقرأ ابن أبي
عبلة : «الكذب» ، قال ابن القاسم : هو نعت الألسنة ، وهو جمع كذوب. قال المفسّرون
: والمعنى : أنّ تحليلكم وتحريمكم ليس له معنى إلّا الكذب. والإشارة بقوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) إلى ما كانوا يحلّون ويحرّمون ، (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التّحليل والتّحريم إلى الله
تعالى ، ويقولون : هو أمرنا بهذا.
وقوله تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل.
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا
السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ
مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))
قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما
قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يعني به ما ذكر في الأنعام وهو قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ، (وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريمنا ما حرّمنا عليهم ، (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالبغي والمعاصي.
قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) قد شرحناه في سورة النّساء ، وشرحنا في البقرة التّوبة والإصلاح ، وذكرنا معنى قوله : (مِنْ بَعْدِها) آنفا.
(إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠)
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١)
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ (١٢٢))
قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) قال ابن الأنباري : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة ، وفلان
علّامة ، ونسّابة ، ويقصدون بهذا التّأنيث قصد التّناهي في المعنى الذي يصفونه ،
والعرب قد توقع الأسماء المبهمة على الجماعة ، وعلى الواحد ، كقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) ، وإنما ناداه جبريل وحده. وللمفسّرين في المراد بالأمّة
ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها
: أنّ الأمّة :
الذي يعلّم الخير ، قاله ابن مسعود ، والفرّاء ، وابن قتيبة. والثاني : أنه المؤمن وحده في زمانه ، روى هذا المعنى الضّحّاك عن
ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثالث
: أنه الإمام الذي
يقتدى به ، قاله قتادة ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وهو في معنى القول الأوّل. فأمّا
القانت فقال ابن مسعود : هو المطيع ، وقد شرحنا «القنوت» في البقرة وكذلك الحنيف .
قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُ) قال الزّجّاج : أصلها : لم يكن ، وإنما حذفت النون عند
سيبويه ، لكثرة
__________________
استعمال هذا الحرف
، وذكر الجلّة من البصريين أنها إنما احتملت الحذف ، لأنه اجتمع فيها كثرة
الاستعمال ، وأنها عبارة عن كلّ ما يمضي من الأفعال وما يستأنف ، وأنها قد أشبهت
حروف اللين ، وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة ، وأنها غنّة تخرج من
الأنف ، فلذلك احتملت الحذف.
قوله تعالى : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) انتصب بدلا من قوله : (أُمَّةً قانِتاً) وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفا ، وشرحنا معنى «الاجتباء» في (الأنعام)
. قال مقاتل : والمراد بالصّراط المستقيم ها هنا : الإسلام.
قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) فيها ستة أقوال : أحدها
: أنها الذّكر
الحسن ، قاله ابن عباس. والثاني
: النّبوّة ، قاله
الحسن. والثالث
: لسان صدق ، قاله
مجاهد. والرابع
: اجتماع الملل على
ولايته ، فكلّهم يتولّونه ويرضونه ، قاله قتادة. والخامس : أنها الصّلاة عليه مقرونة بالصّلاة على محمّد صلىاللهعليهوسلم ، قاله مقاتل بن حيّان. والسادس : الأولاد الأبرار على الكبر ، حكاه الثّعلبيّ. وباقي الآية
مفسّر في البقرة .
(ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))
قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ملّته : دينه. وفيما أمر باتّباعه من ذلك قولان : أحدهما : أنه أمر باتّباعه في جميع ملّته ، إلّا ما أمر بتركه ،
وهذا هو الظاهر. والثاني
: اتّباعه في
التّبرّؤ من الأوثان ، والتّديّن بالإسلام ، قاله أبو جعفر الطّبري. وفي هذه الآية
دليل على جواز اتّباع المفضول ، لأنّ رسولنا أفضل الرّسل ، وإنما أمر باتّباعه ،
لسبقه إلى القول بالحقّ.
(إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))
قوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) أي : إنما فرض تعظيمه وتحريمه ، وقرأ الحسن ، وأبو حياة : «إنما
جعل» بفتح الجيم والعين ، «السبت» بنصب التاء (عَلَى الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ) والهاء ترجع إلى السّبت. وفي معنى اختلافهم فيه قولان : أحدهما : أنّ موسى قال لهم : تفرّغوا لله في كلّ سبعة أيام يوما ،
فاعبدوه في يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه شيئا من صنيعكم ، فأبوا أن يقبلوا ذلك ،
وقالوا : لا نبتغي إلّا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، وهو يوم السّبت ، فجعل ذلك
عليهم ، وشدّد عليهم فيه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل : لمّا أمرهم
موسى بيوم الجمعة ، قالوا : نتفرّغ يوم السّبت ، فإنّ الله لم يخلق فيه شيئا ،
فقال : إنما أمرت بيوم الجمعة ، فقال أحبارهم : انتهوا إلى أمر نبيّكم ، فأبوا ،
__________________
فذلك اختلافهم ،
فلمّا رأى موسى حرصهم على السّبت ، أمرهم به ، فاستحلّوا فيه المعاصي. وروى سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال : رأى موسى رجلا يحمل قصبا يوم السّبت ، فضرب عنقه ،
وعكفت عليه الطّير أربعين صباحا. وذكر ابن قتيبة في (مختلف الحديث) : أنّ الله
تعالى بعث موسى بالسّبت ، ونسخ السّبت بالمسيح. والثاني : أنّ بعضهم استحلّه ، وبعضهم حرّمه ، قاله قتادة.
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))
قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) قال ابن عباس : نزلت مع الآية التي بعدها ، وسنذكر هناك
السّبب. فأمّا السّبيل ، فقال مقاتل : هو دين الإسلام. وفي المراد (بِالْحِكْمَةِ) ثلاثة أقوال : أحدها
: أنها القرآن ،
رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني
: الفقه ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : النبوّة ، ذكره الزّجّاج. وفي (وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ) قولان : أحدهما
: مواعظ القرآن ،
قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني
: الأدب الجميل
الذي يعرفونه ، قاله الضّحّاك عن ابن عباس. قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم أهل مكّة ، قاله أبو صالح. والثاني : أهل الكتاب ، قاله مقاتل. وفي قوله : (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثلاثة أقوال : أحدها : جادلهم بالقرآن. والثاني : ب «لا إله إلّا الله» ، روي القولان عن ابن عباس. والثالث : جادلهم غير فظّ ولا غليظ ، وألن لهم جانبك ، قاله
الزّجّاج. وقال بعض علماء التّفسير : وهذا منسوخ بآية السّيف . قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ) المعنى : هو أعلم بالفريقين ، فهو يأمرك فيهما بما فيه
الصلاح.
(وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))
قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ
ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) في سبب نزولها قولان :
(٨٨٤) أحدهما : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أشرف على حمزة ، فرآه صريعا ، فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه
____________________________________
(٨٨٤) عجزه ضعيف.
أخرجه البزار ١٧٩٥ من حديث أبي هريرة ، وقال : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من
هذا الوجه. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠١٠٤ : فيه صالح بن بشير المري ، وهو ضعيف.
ا ه. وقد ضعفه ابن كثير أيضا ٢ / ٧٣٢ ، والوهن فقط في ذكر نزول جبريل ، ونزول
الآية ، ولفظ : «وكفر عن يمينه» ، وأما صدره فهو حسن ، وله شاهد من حديث أنس ،
أخرجه ابن سعد ٣ / ١ / ٨ والدار قطني ٤ / ١١٦ ، وفيه عبد العزيز بن عمران ضعيف.
__________________
منه ، فقال : «والله
لأمثّلنّ بسبعين منهم» ، فنزل جبريل ، والنبيّ صلىاللهعليهوسلم واقف ، بقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها ، فصبر رسول الله وكفّر عن يمينه ، قاله أبو
هريرة.
(٨٨٥) وقال ابن
عباس : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حمزة قد شقّ بطنه ، وجدعت أذناه ، فقال : «لو لا أن تحزن
النساء أو تكون سنّة بعدي لتركته حتّى يبعثه الله من بطون السّباع والطّير
ولأقتلنّ مكانه سبعين رجلا منهم» ، فنزل قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ) إلى قوله : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا
بِاللهِ).
(٨٨٦) وروى
الضّحّاك عن ابن عباس أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يومئذ : «لئن
ظفرت بقاتل حمزة لأمثّلنّ به مثلة تتحدّث بها العرب» ، وكانت هند وآخرون معها قد
مثّلوا به ، فنزلت هذه الآية.
(٨٨٧) والثاني : أنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون ، ومن المهاجرين
ستة منهم حمزة ، ومثّلوا بقتلاهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما من الدّهر
، لنزيدنّ على عدّتهم مرّتين ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبيّ بن كعب.
(٨٨٨) وروى أبو
صالح عن ابن عباس : أنّ المسلمين قالوا : لئن أمكننا الله منهم لنمثّلنّ بالأحياء
فضلا عن الأموات ، فنزلت هذه الآية ، يقول : إن كنتم فاعلين ، فمثّلوا بالأموات ،
كما مثّلوا بأمواتكم. قال ابن الأنباري : وإنما سمّى فعل المشركين معاقبة وهم
ابتدءوا بالمثلة ، ليزدوج اللفظان ، فيخفّ على اللسان ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) .
فصل
: واختلف العلماء ،
هل هذه الآية منسوخة ، أم لا؟ على قولين : أحدهما
: أنها نزلت قبل (براءة)
فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يقاتل من قاتله ، ولا يبدأ بالقتال ، ثم نسخ ذلك ، وأمر
بالجهاد ، قاله
____________________________________
(٨٨٥) ذكره
الواحدي في «أسباب النزول» ٥٧٣ بدون إسناد ، وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٣ / ١٠ ،
والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٢٨٧ ، والواحدي ٥٧٠ و ٥٧٢ من حديث ابن عباس ، بإسناد
ضعيف جدا ، فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني ، متهم بسرقة الحديث كما في «التقريب»
، وقيس بن الربيع تغير لما كبر.
وأيضا هذا إسناد
منقطع بين الحكم ومقسم ، كما في «تهذيب التهذيب» ٢ / ٣٧٣. وانظر ما قبله.
(٨٨٦) عزاه المصنف
للضحاك عن ابن عباس ، والضحاك لم يلق ابن عباس ، وانظر ما تقدم.
(٨٨٧) جيد ، أخرجه
الترمذي ٣١٢٩ ، وأحمد ٥ / ١٣٥ ، والحاكم ٢ / ٣٥٩ ـ ٣٥٨ ،
والنسائي في «التفسير» ٢٩٩ ، وابن حبان ٤٨٧ ، من حديث أبي بن كعب. وإسناده حسن لأجل
الربيع بن أنس ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وحسنه الترمذي. وله شاهد مرسل ،
أخرجه الطبري ٢١٩٩٦ و ٢١٩٩٧ عن الشعبي مرسلا. وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار ،
أخرجه الطبري ٢١٩٩٨. وآخر من مرسل قتادة برقم ٢١٩٩٩. وآخر من مرسل ابن جريح برقم
٢٢٠٠٠. فهذه المراسيل تشهد للموصول المتقدم ، وترقى به إلى درجة الجودة. وانظر «تفسير
الشوكاني» ١٣٩٦ بتخريجي.
(٨٨٨) باطل بهذا
اللفظ ، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وتقدم مرارا أنه إسناد ساقط.
__________________
ابن عباس ،
والضّحّاك ، فعلى هذا يكون المعنى : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) عن القتال ، ثم نسخ هذا بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) . والثاني
: أنها محكمة ،
وإنما نزلت فيمن ظلم ظلامة ، فلا يحلّ له أن ينال من ظالمه أكثر ممّا ناله الظالم
منه ، قاله مجاهد ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، وابن سيرين ، والثّوريّ ، وعلى هذا
يكون المعنى : ولئن صبرتم عن المثلة ، لا عن القتال.
قوله تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي : بتوفيقه ومعونته. وهذا أمر بالعزيمة.
وفي قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قولان : أحدهما
: على كفّار مكّة
إن لم يسلموا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : ولا تحزن على قتلى أحد ، فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ، ذكره
عليّ بن أحمد النّيسابوري. قوله تعالى : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) قرأ الأكثرون بنصب الضّاد ، وقرأ ابن كثير : «في ضيق» بكسر
الضّاد ها هنا وفي (النّمل) . قال الفرّاء : الضّيق بفتح الضاد : ما ضاق عنه صدرك ،
والضّيّق : ما يكون في الذي يضيق ويتّسع ، مثل الدّار والثّوب وأشباه ذلك. وقال
ابن قتيبة : الضّيق : تخفيف ضيّق ، مثل : هين ولين. وهو ، إذا كان على هذا
التّأويل : صفة ، كأنه قال : لا تك في أمر ضيّق من مكرهم. قال : ويقال : مكان ضيق
وضيق ، بمعنى واحد ، كما يقال : رطل ورطل ، وهذا أعجب إليّ. فأمّا مكرهم المذكور
ها هنا ، فقال أبو صالح عن ابن عباس : فعلهم وعملهم. قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) ما نهاهم عنه ، وأحسنوا فيما أمرهم به ، بالعون والنّصر.
__________________
|