شرح إعراب سورة مريم
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال أبو جعفر : لا
اختلاف في إسكانها. قال أبو إسحاق : أسكنت لأنها حروف تهجّ النيّة فيها الوقف. قرأ
أهل المدينة بين التفخيم والإمالة ، وروى محمّد بن سعدان عن أبي محمد عن أبي عمرو
بن العلاء أنه قرأ (كهيعص) الياء ممالة والهاء بين التفخيم والإمالة والصاد مدغمة ،
وحكى أبو عبيد أنّ حمزة كان يميل الياء ويفخم الهاء ، وأن عاصما والكسائي كانا
يكسران الهاء والياء ، وحكى خارجة أن الحسن كان يضمّ كاف ، وحكى غيره أنه كان يضم «ها»
، وحكى إسماعيل بن إسحاق أن الحسن كان يضمّ يا ، قال أبو حاتم لا يجوز ضم الكاف
ولا الهاء ولا الياء. قال أبو جعفر :
قراءة أهل المدينة
من أحسن ما في هذا والإمالة جائزة في «ها» وفي «يا» وما أشبههما نحو با وتا وثا
إذا قصرت ، وهذا قول الخليل وسيبويه . قال : وحكى لي علي بن سليمان أنّ البصريين ينفردون
بالكلام في الإمالة ، وأن الكوفيين لم يذكروا ذلك كما ذكروا غيره من النحو وإنما
جازت الإمالة عند سيبويه والخليل فيما ذكرناه لأنها أسماء ما يكتب ففرقوا بينها وبين الحروف
، نحو «لا» و «ما» ، ومن أمال منها شيئا فهو مخطئ ، وكذلك «ما» التي بمعنى الذي ،
ولا يجيز أن تمال «حتّى» ولا «إلّا» التي للاستثناء ؛ لأنهما حرفان وإن سمّيت بهما
جازت الإمالة ، وأجازا «أنّى» لأنها اسم ظرف كأين وكيف ، ولا يجوز إمالة كاف لأن
الألف متوسطة. فأما قراءة الحسن فقد أشكلت على جماعة حتّى قالوا : لا تجوز ، منهم
أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هارون القارئ.
قال : كان الحسن
يشمّ الرفع فمعنى هذا أنه كان يومئ ، كما حكى سيبويه أن من العرب من يقول : الصلاة
والزكاة يومئ إلى الواو ، ولهذا كتبت في المصاحف بالواو.
__________________
(ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)
(٢) في رفعه ثلاثة
أقوال : قال الفراء : وهو مرفوع بكهيعص. قال أبو إسحاق : هذا محال لأن «كهيعص»
ليس هو مما أنبأنا الله جلّ وعزّ به عن زكرياء ، وقد خبّر الله جلّ وعزّ عنه وعما
بشّره به وليس «كهيعص» من قصّته. قال الأخفش :
التقدير : فيما
نقص عليكم ذكر رحمة ربك ، والقول الثالث أن المعنى: هذا الذي نتلوه عليكم ذكر رحمة
ربك عبده ، ورحمة بالهاء تكتب ، ويوقف عليها ، وكذلك كلّ ما كان مثلها. لا نعلم
بين النحويين اختلافا في ذلك إذا لم يكن في شعر بل قد اعتلّوا في ذلك أن هذه الهاء
لتأنيث الأسماء وفرقوا بينها وبين الأفعال.
قال الأخفش : (عَبْدَهُ) منصوب برحمة. (زَكَرِيَّا) بدل منه ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. هذا فيمن جعله مشتقا
عربيا ، ولا يصرفه في معرفة ولا نكرة ، ومن جعله عجميا صرفه في النكرة.
(إِذْ) في موضع نصب على
الظرف. (نادى رَبَّهُ نِداءً) مصدر مؤكّد (خَفِيًّا) من نعته.
(قالَ رَبِّ إِنِّي
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) والمستقبل يهن أصله يوهن حذفت الواو لوقوعها بين ياء
وكسرة. (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) في نصبه قولان : أحدهما أنه مصدر ، لأن معنى اشتعل شاب ،
وهذا قول الأخفش سعيد. قال أبو إسحاق : هو منصوب على التمييز ، وقول الأخفش أولى
لأنه مشتقّ من فعل ، والمصدر أولى به. (وَلَمْ أَكُنْ
بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) خبر أكن.
(وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي)
صب بخفت وحركت
الياء في موضع النصب لخفته وأسكنتها في موضع الرفع والخفض لثقلهما ، كما روي عن
عثمان رضي الله عنه أنه قرأ خفّت الموالي من ورائي وهذه قراءة شاذّة وإنما رواها كعب مولى سعيد بن العاص عن
سعيد عن عثمان ، وهي بعيدة جدا ، وقد زعم بعض العلماء أنها لا تجوز.
قال : كيف يقول :
خفّت الموالي من بعد موتي وهو حيّ؟ والتأويل لها أن لا يعني بقوله
__________________
من ورائي من بعد
موتي ولكن من ورائي في ذلك الوقت ، وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنّهم خفّوا في
ذلك الوقت وقلّوا ، وقد أخبر الله عزوجل عنهم بما يدلّ على الكثرة حين قالوا : أيّهم يكفل مريم؟ (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد كأنّ بها عقرا.
والفعل منه عقرت
مسموع من العرب ، والقياس عقرت. (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا) والمستقبل يهب ، والأصل يوهب بكسر الهاء ، ومن قال : الأصل
يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو وكما لم تحذف في يوجل
، وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف
الحلق.
وقرأ أهل الحرمين
والحسن وعاصم وحمزة (يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) برفعهما ، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب
والأعمش والكسائي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) بالجزم فيهما. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بالرفع أولى
في العربية وأحسن ، والحجّة في ذلك ما قاله أبو عبيد فإن حجّته حسنة. قال : المعنى
:
فهب لي من لدنك
الوليّ الذي هذه حاله وصفته لأن الأولياء منهم من لا يرث ، فقال :
هب الّذي يكون
وارثي ، وردّ الجزم ؛ لأن معناه إن وهبته لي ورثني ، فكيف يخبر الله جلّ وعزّ بهذا
وهو أعلم به منه؟ وهذه حجة مقتضاة لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط
والمجازاة. تقول : أطع الله جلّ وعزّ يدخلك الجنة والمعنى : إن تطعه يدخلك الجنة.
فأما معنى (يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة :
قيل : هي وراثة
نبوّة ، وقيل : هي وراثة حكمة ، وقيل : هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة محال
؛ لأن النبوة لا تورث ، ولو كانت تورث لقال قائل : الناس كلّهم ينسبون إلى نوحصلىاللهعليهوسلم ، وهو نبيّ مرسل. ووراثة الحكمة والعلم مذهب حسن. وفي
الحديث «العلماء ورثة الأنبياء» وأما وراثة المال فلا يمتنع وإن كان قوم قد أنكروه لقول
النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لا نورث ما تركنا صدقة» فهذا لا حجّة فيه ؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجميع
وقد يؤول هذا بمعنى لا نورث الذي تركناه صدقة لأن النبيّ صلىاللهعليهوسلم لم يخلف شيئا يورث عنه ، وإنما كان الذي له أباحه الله عزوجل إياه في حياته بقوله جلّ وعزّ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] لأن معنى لله جلّ وعزّ لسبل الله جلّ ثناؤه
، ومن سبل الله تبارك وتعالى ما يكون في مصلحة الرسول صلىاللهعليهوسلم ما دام حيّا فإن قيل : ففي بعض الروايات «إنّا معشر
الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ففيه التأويلان جميعا أن يكون «ما» بمعنى الذي ،
والآخر لا يورث من
__________________
كانت هذه حاله. (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) لم ينصرف لأنه أعجمي وزعم عاصم الجحدري أنهم لو قالوا هو
يعقوب آخر غير يعقوب بن إسحاق لصروفه ، وقال : إنّهم قالوا : إنه غير يعقوب بن
إسحاق عليهماالسلام.
(يا زَكَرِيَّا) منادى مفرد. (اسْمُهُ يَحْيى) مبتدأ وخبر ولم ينصرف يحيى لأنه في الأصل فعل مستقبل وكتب
بالياء فرقا بينه وبين الفعل (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ
مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قد ذكرناه ، وقد قيل: معناه لم نأمر أحدا أن يسمّي ابنه
يحيى قبلك.
(أَنَّى) في موضع نصب على الظرف. (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
الْكِبَرِ عِتِيًّا) قال قتادة :
أي سنّا ،
والتقدير في العربية : سنّا عتيّا. والأصل عتوّا لأنه من ذوات الواو فأبدل من
الواو ياء لأنها أختها ، وهي أخفّ منها والآيات على الياء ، ومن قرأ (عِتِيًّا) كره الضمة مع الكسرة والياء.
(قالَ كَذلِكَ قالَ
رَبُّكَ) الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك. (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) قال الفراء : أي خلقه عليّ هين ، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) ، وقرأ سائر الكوفيين وقد خلقناك قال أبو جعفر : والقراءة الأولى أشبه بالسواد.
(قالَ آيَتُكَ) مبتدأ وخبره (أن) وصلتها (تُكَلِّمَ) نصب بأن لأن «لا» غير حائلة ، وأجاز الكسائي والفراء «أن لا تكلّم
الناس» بالرفع : بمعنى أنك لا تكلم الناس ، وهذا كما قال : [الطويل]
٢٨٢ ـ ألا زعمت
بسباسة اليوم أنّني
|
|
كبرت وأن لا
يشهد اللهو أمثالي
|
__________________
قال الأخفش : (سَوِيًّا) نصب على الحال. قال أبو جعفر : والمعنى : يكفّ عن الكلام
في هذه الحال.
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ
أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ظرفان ، وزعم الفراء أنّ العشيّ يؤنّث ويجوز تذكيره إذا
أبهمت. قال : وقد يكون العشيّ جمع عشيّة.
(يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) ومن أخذ يأخذ. الأصل أوخذ ، حذفت الهمزة الثانية لكثرة
الاستعمال ، وقيل لاجتماع حرفين من حروف الحلق ، واستغني عن الهمزة وكسرت الذال
لالتقاء الساكنين. (وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا) على الحال.
(وَحَناناً) عطف على الحكم. وفي معناه قولان عن ابن عباس أحدهما قال : تعطّف
الله جلّ وعزّ عليه بالرحمة ، والقول الآخر : ما أعطيه من رحمة الناس حتّى يخلّصهم
من الكفر والشرّ. (وَزَكاةً) في معناه قولان : أحدهما أنه أعطي الزيادة في الخير
والنماء فيه ، والقول الآخر أنّ الله جلّ وعزّ زكّاه بأن وصفه أنه زكيّ تقيّ فقال
جلّ وعزّ : (وَكانَ تَقِيًّا).
(وَبَرًّا
بِوالِدَيْهِ) عطف على تقي.
(وَسَلامٌ عَلَيْهِ) رفع بالابتداء ، وحسن الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى
الدعاء.
ومعنى سلام عليك
وسلام الله عليك واحد في اللغة.
(فَأَرْسَلْنا
إِلَيْها رُوحَنا) وهو جبرائيل عليهالسلام. سمّي روحا لأنه يأتي بما يحيا به العباد من الوحى فلما
كان ما يأتي به يحيا العباد به سمّي روحا ولهذا سمّي عيسى صلىاللهعليهوسلم روحا (فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) على الحال.
(قالَ إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ) ابتداء وخبر. (لِأَهَبَ لَكِ) قراءة أكثر الناس وهي الصحيحة عن نافع بن أبي نعيم. حكى ذلك
أبو عبيد وإسماعيل بن إسحاق وغيرهما من أهل الضبط إلّا ورشا فإنه روى عنه ليهب وقراءة أبي عمرو ليهب بلا اختلاف عنه. قال أبو عبيد : وهذا مخالف لجميع المصاحف
كل ها : قال : ولو جاز أن يغيّر حرف من المصحف للرأي لجاز في غيره. قال : وفي هذا
تحويل القرآن حتى لا يعرف المنزل منه من غيره قال أبو جعفر : «ليهب» يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يريد لأهب ثم يخفف الهمزة ، والآخر يكون على غير تخفيف الهمزة : ويكون
معناه ارسلني ليهب ، ومن يقرأ «لأهب» فتقديره : قال لأهب لأن في قوله : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) ما يدلّ على هذا.
(وَلَمْ يَمْسَسْنِي) ظهر التضعيف لما سكن الحرف الثاني. (بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) الأصل أكن وقد ذكرناه .
(وَكانَ أَمْراً
مَقْضِيًّا) الأصل مقضويّ ثم أدغمت الواو في الياء.
ظرف وإن شئت كان
مفعولا أي قصدت به مكانا قصيا.
(فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) قيل : لأنها طلبت الظلّ. (قالَتْ يا لَيْتَنِي
مِتُ) من قال متّ ففي تقديره قولان : أحدهما أنه من متّ أمات مثل
خفت أخاف ، والآخر هو قول سيبويه أنه من متّ أموت ، وزعم سيبويه أنه جاء في كلام العرب على فعلت أفعل : فضل يفضل ، ومتّ
تموت ، ولا يعرف غيرهما. (وَكُنْتُ نَسْياً
مَنْسِيًّا) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم والكسائي ، وقرأ يحيى
بن وثاب والأعمش وحمزة (وَكُنْتُ نَسْياً) بفتح النون. قال أبو جعفر : كسر النون في هذا أولى في
العربية لجهتين : إحداهما أن
__________________
المفتوحة مصدر
والمكسورة اسم ، والاسم هاهنا أولى من المصدر ، والجهة الأخرى أن المصدر إنما
تستعمله العرب هاهنا على فعلان فيقولون : نسيت نسيانا.
(فَناداها مِنْ
تَحْتِها) فأما أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة إلّا الحسن وأبا
عمرو النّخعي وعاصما فإنهم قرءوا من تحتها بفتح الميم. فزعم أبو عبيد أن من قرأ «من تحتها» جاز في
قراءته أن يكون لجبرائيل صلىاللهعليهوسلم ولعيسى عليهالسلام ، ومن قرأ «من تحتها» فهو لعيسى صلىاللهعليهوسلم خاصّة. قال أبو جعفر : «من» اسم و «تحتها» ظرف ولا يمتنع
أن يكون معناه لجبرائيل صلىاللهعليهوسلم كما كان في الأول .
فيه ستّ قراءات :
قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي (تُساقِطْ) بالتاء وتشديد السين ، وقرأ الأعمش وحمزة تساقط بالتاء
وتخفيف السين ، وقرأ البراء بن عازب يسّاقط بالياء وتشديد السين ، وقرأ مسروق بن
الأجدع تسقط والقراءتان الباقيتان (تُساقِطْ) ونساقط. قال أبو جعفر : فالقراءة الأولى أصلها تتساقط ثم
أدغمت التاء في السين ، والثانية على الحذف ، والثالثة على الإدغام ولا يجوز معها
الحذف. ونصب رطب في هذه القراءات الثلاث على البيان كما قال : [الطويل]
٢٨٣ ـ فلو أنّها
نفس تموت سويّة
|
|
ولكنّها نفس
تساقط أنفسا
|
وحكى أبو إسحاق عن
أبي العباس أنه منصوب بهزّي ، والقراءة الرابعة على أن يكون منصوبا بتسقط أو بهزّي
، وكذا الخامسة. قال أبو إسحاق : ومن قرأ نساقط أراد : نساقط نحن عليك رطبا جنيّا
ليكون ذلك آية. قال أبو جعفر : والرطب يذكّر على معنى الجنس ويؤنث على معنى
الجماعة.
(فَكُلِي وَاشْرَبِي
وَقَرِّي عَيْناً) قال أبو إسحاق : فكلي من الرطب واشربي من الماء.
قال و (عَيْناً) منصوب على التمييز. قال أبو جعفر : الأصل أأكلي بهمزتين
فحذفت
__________________
إحداهما
لاجتماعهما وكثرة الاستعمال ، وكان القياس أن تخفّف الثانية فتكون واوا فيقال أوكل
كما يقال : أوجر فلان من الأجر ، فلمّا حذفت الهمزة الثانية استغني عن الأولى فقيل
: كلي ، وحذفت النون لأن الفعل غير معرب وللجزم عند الكوفيين وكذا واشربي وقرّي.
قال الأصمعي : قررت به عينا ، مشتقّ من القرّ أي بردت عيني فلم تدمع فتسخن ، وقال
أبو عمرو الشيباني : هو من قررت في المكان أي قرّت عيني فنامت ولم تسهر ، وقيل :
معناه قررت أي هدأت لمّا نلت ما كنت متطلعا إليه. (فَإِمَّا تَرَيِنَ) في موضع جزم بالشرط. والأصل فإما تريي ، زيدت النون توكيدا
، وصلح ذلك في الخبر لدخول «ما» ، وحكى سيبويه ، «بألم ما تختننّه» ولو نطق به بغير نون لكان «فإما ترى» فلمّا زدت النون
رددته إلى أصله وكسرت الياء لالتقاء الساكنين ، وكانت الكسرة أولى للفرق بين
المذكّر والمؤنّث ثم خفّفت الهمزة فألقيت حركتها على الراء وحذفت فصار ترين. (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) مشتق من آنس إذا علم وأبصر ، والانسيّ مبصر معلوم به
والجمع «أناسي» ، تزاد الألف ثالثة ، كما يعمل في المجموع فتقول : بختيّ وبخاتيّ
وذلك كثير معروف.
(فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ) في موضع الحال.
(يا أُخْتَ هارُونَ) نداء مضاف. والأصل أخوة يدلّ على ذلك أخوات وقال محمد بن
يزيد : حذفت الواو فرقا بين المتشبّث وغير المتشبّث. ولا نعلم أحدا سبق أبا العباس
إلى هذا القول مع حسنه وجودته. وزعم الفراء أنه إنما ضمّت الهمزة في قولهم أخت
وكسرت الباء في قولهم : بنت للفرق بين ما حذفت منه الواو وبين ما حذفت منه الياء
فالضمة علم الواو والكسرة علم الياء. وذكر محمد بن يزيد أن هذا القول خطأ. قال أبو
جعفر : في قوله : «يا أخت هارون» قولان للعلماء : أحدهما أن هارون كان رجلا صالحا
فقالوا يا أخت هارون أي يا شبيهته في الصّلاح ، وإنما المؤمنون إخوة من هذا ، وآخى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أصحابه. وروى جعفر عن سعيد بن جبير أنه كان رجل فاسق
يقال له هارون فقالوا لها : يا أخت هارون. قال أبو جعفر : والقول الأول أولى لأن
فيه حديثا مسندا.
__________________
(قالُوا كَيْفَ
نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن تكون «كان» زائدة ونصب (صَبِيًّا) على الحال ، والعامل فيه الاستقرار ، وقيل : «كان» بمعنى
وقع نصب صبيّ على الحال إلّا أن العامل فيه كان ، والقول الثالث قول أبي إسحاق.
قال :
من للشرط ،
والمعنى : من كان في المهد صبيا فكيف نكلّمه؟ قال : كما تقول : من كان لا يسمع ولا
يبصر فكيف أخاطبه؟ قال أبو جعفر : وإنما احتاج النحويون إلى هذه التقديرات ؛ لأن
الناس كلّهم كانوا في المهد صبيانا ولا بد من أن يبيّن عيسى صلىاللهعليهوسلم بشيء منهم وقد حكى سيبويه زيادة كان ، وأنشد : [الوافر]
٢٨٤ ـ فكيف إذا
مررت بدار قوم
|
|
وجيران لنا
كانوا كرام
|
وحكى النحويون :
ما كان أحسن زيدا وقالوا على إلغاء كان.
(قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) في معناه قولان : أحدهما قدّر أن يؤتينيه ، والآخر أنّ
الله جلّ وعزّ أكمل عقله وآتاه الكتاب وجعله نبيا وهو في المهد. قال قتادة : في
المهد أي في الحجر.
(وَجَعَلَنِي
مُبارَكاً أَيْنَ ما) مشتقّ من البركة وهو الثبوت على الخير. وكان ثابتا على
الخير مشبا ، كما قال عمرو بن قيس : معنى «وجعلني مباركا» معلّما مؤدبا. وبيّن هذا
ما رواه شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلميّ عن
عثمان عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم وروى عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «خيركم من علم القرآن وعلّمه» وروى شريك عن عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن عن عبد
الله بن مسعود عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «خيركم من علم القرآن وأقرأه». (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) قال أبو إسحاق : «الزكاة» الطهارة ، وقال غيره وأوصاني
بالزكاة أن أؤدّيها إذا وجبت علي وآمر بها ، (ما دُمْتُ حَيًّا) خبر دمت وعلى الحال عند الفراء.
(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) قال الكسائي : هو نسق على مبارك أي وجعلني برا. وقرأ ابن
__________________
نهيك وبرّ بوالدتي
بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة وبرّ بوالدتي.
(وَيَوْمَ أُبْعَثُ
حَيًّا) آخر كلام عيسى عليهالسلام فلمّا تكلّم في حجر أمّه ظهرت لهم الآية.
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) قال الكسائي : «قول الحقّ» نعت ، وقال أبو حاتم : المعنى
هو قول الحق ، وقيل : التقدير هذا الكلام قول الحق. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر (قَوْلَ الْحَقِ) بالنصب. قال الفراء : بمعنى حقّا. قال أبو إسحاق : هو مصدر أي أقول قول الحق ؛
لأن ما قبله يدلّ عليه.
(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَنْ) في موضع رفع اسم كان (مِنْ وَلَدٍ) في موضع نصب و «من» زائدة للتوكيد ، وحقيقة هذا أنك إذا
قلت : ما اشتريت فرسا ، جاز أن يكون المعنى أنك ما اشتريت شيئا البتة ، وجاز أن
يكون المعنى أنك اشتريت أفراسا.
فإذا قلت : ما
اشتريت فرسين ، جاز فيه ثلاثة أوجه : منها أن يكون لم تشتر شيئا ، وجاز أن تكون
اشتريت واحدا ، وجاز أن تكون اشتريت أكثر من اثنين. فإذا قلت : ما اشتريت من فرس
صار المعنى أنك لم تشتر من هذا الجنس شيئا البتة. (سُبْحانَهُ) مصدر (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قراءة الجماعة ، وقرأ ابن عامر الشامي فيكون.
(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ) قراءة أهل المدينة وقراءة أهل الكوفة و «إنّ» بكسر الهمزة على أنه مستأنف ، وفي الفتح أقوال : فمذهب
الخليل وسيبويه رحمهماالله أن المعنى ولأن «ربّي وربّكم» ، وكذا عندهما (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا) [الجنّ : ١٨] فإنّ
في موضع نصب عندهما ، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام ، وأجاز أيضا أن يكون
في موضع خفض بمعنى «وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم» ، وأجاز الكسائي
أن يكون في موضع رفع بمعنى «والأمر أن الله ربي وربكم» ،
__________________
وفيها قول خامس
حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله ، وهو أن يكون المعنى :
وقضى أنّ الله ربّي وربكم.
(أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) مبني على السكون لأن لفظه لفظ الأمر ومعناه معنى التعجّب :
ما أسمعهم وما أبصرهم!
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ) قد ذكرناه وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من أحد
يدخل النار إلّا وله بيت في الجنة فيتحسّر عليه ، وقيل : تقع الحسرة إذا أعطي
كتابه بشماله. وأن معنى : (إِذْ قُضِيَ
الْأَمْرُ) عرّف كلّ إنسان ما له وما عليه ، وقيل : التقدير :
وأنذرهم خبر يوم
الحسرة إذ قضي الأمر فخبّر أنّهم معذّبون.
(إِنَّهُ كانَ
صِدِّيقاً نَبِيًّا) خبر «كان» و «نبيّا» من نعته ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ،
وأن يكون حالا من المضمر.
قال أبو إسحاق :
الوقف إذ قال لأبيه يا أبه بالهاء لأنها هاء تأنيث ، وقال أبو الحسن بن كيسان :
الوقف بالتاء لأنه مضاف إلى ما لا ينفصل ، كما تقول : هذه نعمتي. قال أبو جعفر :
وقد ذكرنا هذا في سورة «يوسف» بأكثر من هذا. قال الكسائي : عصيّ
وعاصي واحد.
(قالَ أَراغِبٌ) رفع بالابتداء ، و «أنت» فاعل سدّ مسدّ الخبر ، كما تقول :
أقائم أنت؟ وحسن الابتداء بالنكرة لما تقدمها.
(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) صلح الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى المنصوب وفيها في هذا
الموضع معنى التفرّق والترك ، ومثله (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].
(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي) أي إن أسلمت وتبت. (إِنَّهُ كانَ بِي
حَفِيًّا) قال علي بن أبي
__________________
طلحة عن ابن عباس
رضي الله عنه : أي لطيفا. قال الكسائي : قال : حفي به حفاوة وحفوة. وقال الفراء : «إنه كان بي حفيا» أي عالما يجيبني إذا دعوته. قال أبو
إسحاق : ويقال : قد تحفّى فلان بفلان حفوة إذا ألطفه وبرّه.
(وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) «ما» في موضع نصب
لأنها معطوفة أي واعتزل ما تدعون.
(وَجَعَلْنا لَهُمْ
لِسانَ صِدْقٍ) أي قول صدق ، كما قال أعشى باهلة : [البسيط]
٢٨٥ ـ إنّي
أتتني لسان لا أسرّ بها
|
|
من علو لا عجب
فيها ولا سخر
|
وأنّث اللسان في
هذا البيت ، وهي لغة معروفة ، وإن كان القرآن قد جاء بالتذكير.
قال جلّ وعزّ (عَلِيًّا) وهو نعت للسان ، وقال الآخر : [الوافر]
٢٨٦ ـ ندمت على
لسان فات منّي
|
|
فليت بيانه في
جوف عكم
|
(وَكانَ
عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) مشتقّ من الرّضوان ، والأصل مرضوّ عند سيبويه أبدل من
الواو ياء ؛ لأنها أخفّ ، وكذا مسنيّة وإنما أبدل من الواو ياء لأنها قبلها ضمة
والساكن ليس بحاجز حصين ، وقال الكسائي والفراء من قال : مرضي بناه على رضيت. قالا :
وأهل الحجاز
يقولون : مرضو ، وفيه قول ثالث حكاه الكسائي والفراء قالا : من العرب من يقول : رضوان ورضيّان فرضوان على مرضو
ورضيّان على مرضي ، ولا يجيز البصريون أن يقال إلّا رضوان وربوان. قال أبو جعفر :
سمعت أبا إسحاق يقول :
يخطئون في الخطّ
فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشدّ من هذا فيكتبون ربيان ، ولا يجوز إلّا
ربوان ورضوان قال الله جلّ وعزّ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) [الروم : ٣٩].
__________________
(وَقَرَّبْناهُ
نَجِيًّا) نصب على الحال. قال الفراء : نجيّ مثل جليس قال : ونجيّ
ونجوى يكونان اسمين ومصدرين.
(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ) بدل من الأخ ولم ينصرف لأنه معرفة عجمي ، وكذا إدريس عليهالسلام.
(خَرُّوا سُجَّداً) على الحال. (وَبُكِيًّا) عطف عليه وقيل هو مصدر أي وبكوا بكيا.
ويقال : بكى يبكي
بكاء وبكي وبكيّا إلّا أن الخليل رحمهالله قال : إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن أي ليس معه صوت. قال
: [الوافر]
٢٨٧ ـ بكت عيني وحقّ
لها بكاها
|
|
وما يغني البكاء
ولا العويل
|
(فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا) الغيّ في اللغة الخيبة. قال أبو جعفر : وقد ذكرناه.
(إِلَّا مَنْ تابَ) في موضع نصب على الاستثناء. قال أبو إسحاق : ويجوز أن يكون
المعنى لكن من تاب. (فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً).
(جَنَّاتِ عَدْنٍ) على البدل. قال أبو إسحاق : ويجوز جنّات عدن» على
الابتداء.
قال أبو حاتم :
ولو لا الخطّ لجاز جنّة عدن ، لأن قبله يدخلون الجنة. (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) قال الكسائي : أي يؤتى إليه ويصار ، وزعم القتبيّ : أنّ مأتيا بمعنى آت ومائتي مهموز لأنه من أتى يأتي ومن
خفّف الهمزة جعلها ألفا.
__________________
(لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً إِلَّا سَلاماً) قال الأخفش سعيد : وهذا على الاستثناء الذي ليس من الأول ،
قال : وإن شئت كان بدلا أي لا يسمعون إلا سلاما. (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ظرفان. قال أبو إسحاق : أي يقسم لهم في هذين الوقتين ما
يحتاجون إليه في كلّ ساعة. قال الأخفش : أي على مقادير الغداة والعشيّ مما في
الدنيا لأنه ليس هناك ليل ولا نهار إنما هو نور العرش.
قال الأخفش : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) أي قبل أن نخلق (وَما خَلْفَنا) ما يكون بعد الموت. (وَما بَيْنَ ذلِكَ) مذ خلقنا.
(فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) الأصل اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل
من التاء طاء ، كما تقول من الصوم : اصطام.
قرأ أهل الكوفة
إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر أولا يذكر الإنسان وقرأ شعبة ونافع وعاصم (أَوَلا يَذْكُرُ) بالتخفيف ، وفي حرف أبيّ أولا يتذكّر وهذه القراءة على
التفسير لأنها مخالفة لخطّ المصحف ؛ لأن الأصل في يذّكّر يتذكر فأدغمت التاء في
الذال. ومعنى يتذكّر : يتفكّر ، ومعنى يذكر يتنبّه ويعلم.
(فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) عطف على الهاء والميم والشياطين الذين أغووهم (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا) نصب على الحال. والأصل جثوّ أبدل من الواو ياء ؛ لأنها ظرف
، والجمع بابه التغيير. ومن قال : جثيّ أتبع الكسرة الكسرة.
وهذه آية مشكلة في
الإعراب لأن القراء كلّهم يقرءون (أَيُّهُمْ) بالرفع إلّا
__________________
هارون القارئ ،
فإن سيبويه حكى عنه ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعة أيّهم بالنصب أوقع على أيّهم لننزعنّ. قال أبو إسحاق : في رفع «أيّهم»
ثلاثة أقوال : قال الخليل بن أحمد ـ حكاه عنه سيبويه ـ إنه مرفوع على الحكاية ، والمعنى عنده : ثم لننزعنّ من
كلّ شيعة الذي يقال من أجل عتوّه أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا ، وأنشد الخليل : [الكامل]
٢٨٨ ـ ولقد أبيت
من الفتاة بمنزل
|
|
فأبيت لا حرج ولا
محروم
|
أي فأبيت بمنزلة
الذي يقال له : لا هو حرج ولا محروم. قال أبو جعفر : ورأيت أبا إسحاق يختار هذا
القول ويستحسنه ، قال : لأنه بمعنى قول أهل التفسير ، وزعم أن معنى «ثم لننزعنّ من
كلّ شيعة» ثم لننزعنّ من كلّ فرقة الأعتى فالأعتى ، كأنه يبدأ بالتعذيب بأشدهم
عتيا ثمّ الذي يليه. وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس : لننزعن
بمنزلة الأفعال التي تلغى فرفع «أيّهم» بالابتداء. وقال سيبويه : «أيّهم» مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف
لأنك لو قلت : رأيت الذي أفضل منك ، ومن أفضل ، كان قبيحا حتى تقول : من هو أفضل ،
والحذف في أيّهم جائز. قال أبو جعفر : وما علمت أن أحدا من النحويين إلّا وقد خطّأ
سيبويه في هذا. سمعت أبا إسحاق يقول : ما يبين لي أنّ سيبويه غلط في كتابه إلّا في
موضعين هذا أحدهما ، قال :
وقد علمنا سيبويه
أنه أعرب «أيّا» وهي منفردة ؛ لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة؟ ولم يذكر أبو
إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال. قال أبو جعفر : وفيه أربعة أقوال سوى
هذه الثلاثة الأقوال التي ذكرها أبو إسحاق ، قال الكسائي : لننزعنّ واقعة على
المعنى كما تقول : لبست من الثياب ، وأكلت من الطعام ، ولم يقع لننزعن على أيّهم
فينصبها. وقال الفراء : المعنى ثم لننزعن بالنداء. ومعنى لننزعن لننادين إذا كان
معناه لننزعن بالنداء. قال أبو جعفر : وحكى أبو بكر بن شقير أنّ بعض الكوفيين يقول
:
في أيّهم معنى
الشرط والمجازاة ، فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها ، والمعنى ثم لننزعن من كلّ فرقة
إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول : ضربت القوم أيّهم غضب ، والمعنى : إن غضبوا
أو لم يغضبوا ، فهذه ستة أقوال ، وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال :
أيّهم متعلّق بشيعة فهو مرفوع لهذا ، والمعنى : ثم لننزعن من الذين تشايعوا
__________________
أيهم ، أي من
الذين تعاونوا فنظروا أيّهم أشدّ على الرحمن عتيا. وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي
: إنّ التشايع التعاون ، «عتيا» على البيان.
(وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) قد ذكرنا فيه أقوالا : قال خالد بن معدان : إذا دخل أهل
الجنة قالوا : يا ربنا إنك وعدتنا أن نرد النار ، فيقال لهم : إنكم وردتموها وهي
خامدة.
قال أبو جعفر :
ومن أحسن ما قيل فيه ، أعني في الآية ـ أن المعنى : وإن منكم إلّا وارد القيامة
لأن الله جلّ وعزّ قال في المؤمنين : (لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها) [الأنبياء : ١٠٨]
، وقال جلّ ثناؤه : (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [المائدة : ٦٩
والأنعام : ٤٨] ودلّ على أنّ المضمر للقيامة (فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ) فالحشر إنما هو في القيامة ثم قال جلّ وعزّ : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ
عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) واسم كان فيها مضمر أي كان ورودها. فأما (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) فالإضمار للنار لأنها في القيامة فكنى عنها لمّا كانت
فيها. وهذا من كلام العرب الفصيح الكثير. وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) بفتح الثاء ، وقرأ ابن أبي ليلى ثمة :
«ثم» ظرف إلّا أنه
مبني لأنه غير محصّل فبني كما بني «ذا» والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف
لأن الحركة في الوصل بيّنة ، ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فتثبت في الوصل تاءا.
(خَيْرٌ مَقاماً) منصوب على البيان ، وكذا (نَدِيًّا) وكذا (أَحْسَنُ أَثاثاً
وَرِءْياً) فيه خمس قراءات : قرأ أهل المدينة وريّا بغير همز ، وقرأ أهل الكوفة وأبو
عمرو (وَرِءْياً) بالهمز ، وحكى يعقوب أنّ طلحة قرأ وريا بياء واحدة مخفّفة
وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس هم أحسن أثاثا وزيّا بالزاي فهذه
أربع قراءات ، قال أبو إسحاق ويجوز هم أحسن أثاثا وريئا بياء بعدها همزة. قال أبو
جعفر : قراءة أهل المدينة في هذا حسنة ، وفيها تقديران : أحدهما أن يكون «من رأيت»
ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء. وكذا هذا حسنا لتتّفق رؤوس الآيات
__________________
لأنها غير مهموزات
وعلى هذا قال ابن عباس : الريّ المنظر. والمعنى : هم أحسن أثاثا ولباسا ، والوجه
الثاني أن يكون المعنى أنّ جلودهم مرتوية من النعمة فلا يجوز الهمز لأنه مصدر من
رويت ريّا ، وفي رواية ورش : وريّا ، ومن رواه عنه ورئيا بالهمز فهو يكون على
الوجه الأول. وقراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل وقراءة طلحة بن مصرف
وريا بياء واحدة مخفّفة أحسبها غلطا ، وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها ورئيا
ثم حذفت الهمزة والزيّ الهيأة : والقراءة الخامسة على قلب الهمزة. حكى سيبويه راء
بمعنى رأى.
(قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) قيل : المعنى : فليعش ما شاء فإنّ مصيره إلى الموت
والعذاب. (حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ). قال أبو إسحاق : هذا على البدل من «ما» والمعنى : حتّى
إذا رأوا العذاب أو الساعة.
(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) ألف الاستفهام وفيه معنى التوبيخ ، وحذفت ألف الوصل لأنه
قد استغني عنها.
(وَيَأْتِينا فَرْداً) على الحال.
فيه تقديران :
أحدهما أن يكون «من» في موضع رفع البدل من الواو أي لا يملك الشفاعة إلا من اتّخذ
، والتقدير الآخر : أي يكون من في موضع نصب استثناء ليس من الأول. والمعنى : لكن
من اتّخذ عند الرحمن عهدا بأنّه يشفع له ، والمعنى عند الفراء
لا يملكون الشفاعة
إلا لمن اتّخذ عند الرحمن عهدا ، ليس أنّ اللام مضمرة ولكن المعنى عنده على هذا.
قرأ أهل المدينة
وأبو عمرو وعاصم (وَلَداً) بفتح الواو واللام ، وقرأ سائر
__________________
الكوفيين ولدا بضم
الواو وإسكان اللام. وفرّق أبو عبيد بينهما : فزعم أن الولد يكون للأهل والولد
جميعا. قال أبو جعفر : وهذا قول مردود عليه لا يعرفه أحد من أهل اللغة ، ولا يكون
الولد والولد إلّا لولد الرجل وولد ولده إلّا أن ولدا أكثر في كلام العرب ، كما
قال النابغة : [البسيط]
٢٨٩ ـ مهلا فداء
لك الأقوام كلّهم
|
|
وما أثمّر من
مال ومن ولد
|
قال أبو جعفر :
وسمعت محمد بن الوليد يقول : يجوز أن يكون ولد جمع ولد ، كما يقال : وثن ووثن وأسد
وأسد ، ويجوز أن يكون ولد وولد جمعا بمعنى واحد ، كما يقال : عجمّ وعجم وعرب وعرب.
وقرأ أبو عبد
الرحمن بفتح الهمزة ، ويجوز شيئا أادّا كما تقول : رادّا ، يقال ؛ أدّ يؤدّ أدّا
فهو أادّ ، والاسم الأدّ إذا جاء بشيء عظيم منكر.
(تَكادُ السَّماواتُ) على تأنيث الجماعة ويكاد على تذكير الجمع ينفطرن بالياء والنون قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة ، وقرأ الأعمش
والحسن ونافع والكسائي (يَتَفَطَّرْنَ) بالياء والتاء والأولى اختيار أبي عبيد ، واحتجّ بقوله جلّ
وعزّ (إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] ولم يقل : تفطّرت. قال أبو جعفر : يتفطّرن
بالياء والتاء في هذا الموضع أولى لأن فيه معنى التكثير فهو أولى لأنهم كفروا
فكادت السموات تتشقّق فتسقط عليهم عقوبة بما فعلوه. (وَتَخِرُّ الْجِبالُ
هَدًّا) مصدر لأن معنى تخرّ تهدّ.
(أَنْ) في موضع نصب عند الفراء بمعنى لأن دعوا ومن أن دعوا وزعم الفراء أن الكسائي قال :
هي في موضع خفض.
لأن الله جلّ وعزّ
لا يشبهه شيء ، وولد الرجل يشبهه.
__________________
(آتِي) بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف تخفيفا وأضيف.
(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ) على لفظ كلّ ، وعلى المعنى آتوه.
(سَيَجْعَلُ لَهُمُ
الرَّحْمنُ وُدًّا) أي في قلوب المؤمنين. ولدّ جمع ألدّ ، مثل أصمّ وصمّ.
(هَلْ تُحِسُّ
مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) في موضع نصب (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزاً) أي قد ماتوا وحصلوا على أعمالهم.
٢٠
شرح إعراب سورة طه
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قراءة أهل المدينة
وأبي عمرو بغير إمالة ، وقراءة الكوفيين بالإمالة إلا عاصما فإنه روي عنه
اختلاف. قال أبو جعفر : لا وجه للإمالة في هذا عند أكثر أهل العربية لعلتين :
إحداهما أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة ، والعلة الأخرى أن الطاء من
الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان. وقد اختار بعض النحويين الإمالة ،
فقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري : من كسر «طه» أمال إلى الكسر لأن المقصور الأغلب
عليه الكسر إلى الإمالة ، قال أبو جعفر : وهذا ليس بحجّة ، ولا يجوز في كثير من المقصور
الإمالة ولكن زعم سيبويه أن الإمالة تجوز في حروف المعجم فيقال : با تا ثا لأنها
أسماء فيفرق بينها وبين الحروف نحو «لا» فإنها لا تمال لأنها حرف. قال أبو إسحاق :
من قرأ (طه ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) فالأصل عنده طأ ، أي طإ الأرض بقدميك جميعا في الصلاة.
فأبدل من الهمزة هاء ، كما يقال : إيّاك وهيّاك وأرقت الماء وهرقت الماء. قال :
ويجوز أن يكون على البدل الهمز فيكون الأصل : ط يا هذا ، ثم جاء بالهاء لبيان
الحركة في الوقف.
بعض النحويين يقول
هذه لام النفي ، وبعضهم يقول لام الجحود. قال أبو جعفر : وسمعت أبا الحسن بن كيسان
يقول في مثلها : إنها لام الخفض. والمعنى عنده : ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء.
والشقاء يمدّ ويقصر ، وهو من ذوات الواو.
قال أبو إسحاق :
هو بدل من يشقى أي ما أنزلناه إلّا تذكرة. قال أبو جعفر : وهذا
__________________
وجه بعيد ،
والقريب أنه منصوب على المصدر أو مفعول من أجله.
(تَنْزِيلاً) مصدر. (مِمَّنْ خَلَقَ
الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) ولا يجوز عند الخليل وسيبويه أن يأتي مثل هذا إلّا بالألف
واللام ، وهو قول الكوفيين ، وقال : محال : سقطت له ثنيّتان علييان لا سفليان ،
لأنه إنما يراد به المعرفة فإن أردت النكرة ، وتفضيل شيء على شيء جئت بمن فقلت :
سقطت له ثنية أعلى من كذا.
ويجوز النصب على
المدح. قال أبو إسحاق : ويجوز الخفض على البدل من من ، وقال سعيد بن مسعدة : الرفع
بمعنى هو الرحمن. قال أبو جعفر : ويجوز الرفع بالابتداء وعلى البدل من المضمر الذي
في خلق. (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ) في موضع رفع بالابتداء (وَما بَيْنَهُما وَما
تَحْتَ الثَّرى) عطف عليه.
(وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ) مجزوم بالشرط ، والجواب (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفى) أي وأخفى منه.
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) مرفوع على البدل مما في «يعلم» ، أو على إضمار مبتدأ ، أو
بالابتداء. (لَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) رفع بالابتداء (الْحُسْنى) من نعتها.
قرأ حمزة (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) وكذا في القصص . قال أبو جعفر : وهذا على لغة من قال : مررت بهو يا هذا ،
فجاء به على الأصل ، وهو جائز إلّا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة.
لأن معنى نودي :
قيل له. قرأ الحسن وأبو جعفر وأبو عمرو نودي يا موسى
__________________
أنّي بفتح الهمزة بمعنى نودي «بأنّي» و «أنّ» في موضع نصب ، ومن
كسر فالمعنى عنده : قال إني.
وقرأ أهل المدينة
وأهل البصرة بالواد المقدّس طوى بغير تنوين ، وقرأ أهل الكوفة (طُوىً) بالتنوين. قال أبو جعفر : الوجه ترك التنوين ؛ لأنه مثل «عمر»
معدول ، وهو معرفة ، ويجوز أن يكون اسما للبقعة فلا ينصرف أيضا ، ومن نوّن فزعم
أبو إسحاق أنه يقدّره اسما للمكان غير معدول ، مثل حطم وصرد. قال : ومن قال : طوى
فصرف جعله كضلع ، ومعى على أنه اسم للمكان ، ويجوز ترك صرفه على أنه اسم للبقعة.
قال أبو جعفر : من جعل طوى بمعنى ثنى نوّن لا غير ، يأخذه من ثنيت الشيء ثنى أي
قدّس مرّتين. وفي الحديث «لا ثنى في الصّدقة» أي لا تثنى فتؤخذ مرّتين.
قرأ أهل المدينة
وأبو عمرو وعاصم والكسائي (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) وقرأ سائر الكوفيين وإنّا اخترناك والمعنى واحد إلّا أن «وأنا اخترتك» هاهنا أولى من جهتين :
إحداهما أنه أشبه بالخطّ ، والثانية أنه أولى بنسق الكلام لقوله جلّ وعزّ (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وعلى هذا النسق جرت المخاطبة.
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) قال أبو إسحاق : فيه قولان يكون المعنى : أقم الصلاة لأن
تذكرني فيها لأن الصلاة لا تكون إلّا بذكر ، والقول الآخر : أقم الصلاة متى ذكرتها
كان ذلك في وقت صلاة. قال أبو جعفر : وفيها قول ثالث يكون المعنى : أقم الصّلاة
لأن أذكرك بالمدح. وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو رجاء والشعبي (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وفي هذه القراءة وجهان : أحدهما أن تكون هذه ألف التأنيث ،
والوجه الآخر أن تكون هذه الألف أبدلت من الياء ، كما يقال : يا غلاما أقبل ، وفعل
ذلك لتتّفق رؤوس الآيات.
(إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) آية مشكلة. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا شيئا مما قيل فيها.
وعن سعيد بن جبير روايتان : إحداهما ما حدّثناه الحسن بن الفرج بغزّة قال :
__________________
حدّثنا يوسف بن
عديّ قال : حدّثنا محمد بن سهل الكوفي عن ورقاء وهو ابن إياس عن سعيد بن جبير أنه
قرأ (أَكادُ أُخْفِيها) بفتح الهمزة قال : أظهرها وليس لهذه الرواية طريق غير هذا
، وقد رواها أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل هذا. وأجود من هذا الإسناد ما
رواه يحيى القطّان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ (أَكادُ أُخْفِيها) بضم الهمزة. قال أبو جعفر : يقال : خفى الشيء يخفيه إذا
أظهره ، وقد حكي أنه يقال : أخفاه إذا أظهره ، وليس بالمعروف. قال أبو جعفر :
ورأيت علي ابن سليمان لما أشكل عليه معنى أخفيها عدل إلى هذا القول ، وقد قال
معناه كمعنى أخفيها أي أظهرها. قال أبو جعفر : ليس المعنى على أظهرها ولا سيّما
وأخفيها قراءة شاذة. فكيف نردّ القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة؟ ومعنى الضم
أولى ويكون التقدير أنّ الساعة آتية أكاد آتي بها ، ودلّ آتيه على آتي بها ثم قال
جلّ وعزّ : (أُخْفِيها) على الابتداء. وهذا معنى صحيح لأن الله جلّ وعزّ قد أخفى
الساعة التي هي يوم القيامة : والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل
، والأمر عنده مبهم ولا يؤخّر التوبة. وقيل : المعنى : أكاد أخفيها أي أقارب ذلك
لأنك إذا قلت : كاد زيد يقوم ، يجوز أن يكون قام ، وأن يكون لم يقم ، ودل على أنه
قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب ، وقيل: إن المعنى أنّ الساعة آتية (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) وقيل :
المعنى أقم الصلاة
لذكري لتجزى كلّ نفس بما تسعى.
(فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها) أي عن الإيمان بها ، وبما فيها ، (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ
هَواهُ) أي في الكفر بها (فَتَرْدى) من ردي يردى إذا هلك.
(وَما تِلْكَ) ابتداء وخبر ، وفيه معنى التنبيه. وزعم الفراء أن تلك
هاهنا اسم ناقص وصلته : بيمينك. قال أبو جعفر : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا
القول ويقول به ، والمعنى عندهما : وما التي بيمينك. وسمعت علي بن سليمان يقول :
سمعت أبا العباس ينكر هذا القول ، ويقول : لا يجوز أن توصل الأسماء المبهمة. ويقال
:
(أَهُشُ) و «أهشّ».
__________________
(فَأَلْقاها فَإِذا
هِيَ حَيَّةٌ) ابتداء وخبر ، ويجوز النصب ، يقال : خرجت فإذا زيد جالس ،
وجالسا ، على الحال. قال أبو جعفر : وقد شرحناه فيما تقدم. والوقف حيه بالهاء.
(سَنُعِيدُها
سِيرَتَهَا الْأُولى) قال أبو جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول : التقدير إلى
سيرتها ، مثل (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥]
قال : ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى سنعيدها سنسيرها.
(وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ) ويجوز في غير القرآن ضمّ بفتح الميم وكسرها وضمّها لالتقاء
الساكنين ، والفتح أجود لخفته ، والكسر على الأصل ، والضم اتباع. فإن جئت بالألف
واللام كان الكسر أجود ، فإن جئت بمضمر غائب كان الضمّ أكثر وإظهار التضعيف ، لأن
الثاني قد سكن. ويد أصلها يدي على فعل. يدلّ على ذلك أيد ، وتصغيرها يديّة لأنها
مؤنّثة. (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) نصب على الحال ، ولم تنصرف لأن فيها ألفي التأنيث لا
يزايلانها فكأن لزومها علّة ثانية فلم تنصرف في النكرة وخالفتها الهاء لأن الهاء
تفارق الاسم (آيَةً أُخْرى) قال الأخفش : على البدل من بيضاء : وهو قول حسن ؛ لأن
المعنى في بيضاء : مبيّنة. قال أبو إسحاق : المعنى آتيناك آية أخرى ، أو نؤتيك آية
لأنه لما قال : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى. قال :
ويجوز آية بالرفع
بمعنى : هذه آية.
أي تجاوز في
الكفر.
أي وسّعه وسهّل
عليّ أداء ما أمرتني به.
ولم يقل : احلل
كلما بلساني ، فلذلك قال فرعون : ولا يكاد يبين.
مجزوم لأنه جواب
الطلب.
يكون على التقديم
والتأخير ، ويكونان مفعولين ، والأخ نعت ، والتقدير واجعل
هارون أخي وزيرا
لي ، ويجوز أن يكون هارون بدلا من وزير لأن المعرفة تبدل من النكرة ، ويجوز الرفع.
على الدعاء ، وعن
الحسن وابن أبي إسحاق أنهما قرءا (اشْدُدْ) بفتح الهمزة وضم الدال الأولى وإسكان الثانية (وَأَشْرِكْهُ) بضم الهمزة وإسكان الكاف يجعلان الفعلين في موضع جزم جوابا
لقوله : اجعل لي وزيرا من أهلي. وهذه القراءة شاذّة بعيدة ؛ لأن جواب مثل هذا إنما
ينجزم بمعنى الشرط والمجازاة فيكون المعنى : إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به
أزري وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة ، وليس هذا إليه صلىاللهعليهوسلم فيخبر به ، وإنما يسأل الله جلّ وعزّ أن يشركه معه في
النبوة. وعن ابن عباس «أشدد به أزري» أي قوّني ، وعنه أي ظهري. قال أبو جعفر : وهو
مشتقّ من الإزار ، لأنه يشدّ به. وقد يقال للظهر : أزر لما فيه من القوة. وآزره
قواه وليس وزير من هذا ، إنّما هو مشتقّ من الوزر ، وهو الجبل.
(كَيْ نُسَبِّحَكَ
كَثِيراً) نعت لمصدر أي تسبيحا كثيرا ويجوز أن يكون نعتا لوقت ،
والإدغام حسن ، وكذا (وَنَذْكُرَكَ
كَثِيراً) مدغم ، وكذا (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا
بَصِيراً) لأن الحرفين من كلمتين «بصيرا» أي عليما بما يصلحنا.
(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ) الضمير للتابوت (فَلْيُلْقِهِ
الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أمر. قال الفراء : وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا عنده (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ
خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢]. (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي على علمي بك. والإدغام جائز ليس في حسن الأول لبعد حروف
الحلق.
(ثُمَّ جِئْتَ عَلى
قَدَرٍ يا مُوسى) في الوقت الذي أراد الله جل وعزّ أن يرسله.
__________________
أي قوّيتك وعلّمتك
لتبلغ عبادي أمري ونهيي.
(اذْهَبْ أَنْتَ
وَأَخُوكَ) عطف على المضمر ، وحسن العطف عليه لمّا وكّدته.
(إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز في الكفر.
(لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) قال أبو جعفر : قد ذكرناه .
قال الضحاك : يفرط
يعجل ، قال : ويطغى يعتدي. قال أبو جعفر : التقدير : نخاف أن يفرط علينا منه أمر
أي يبدر أمر. قال الفراء : يقال فرط منه أمر ، قال : وأفرط أسرف ، قال : وفرّط
ترك. قال أبو إسحاق : أصله كلّه من التقديم.
(إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) أي أسمع كلامه ، وأرى فعله ، ولا أخلّي بينه وبينكما.
(وَالسَّلامُ عَلى
مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) قال أبو إسحاق : أي من اتّبع الهدى سلم من سخط الله جلّ
وعزّ وعذابه. قال : وليس بتحية ، قال : والدليل على ذلك إنه ليس بابتداء لقاء ،
ولا خطاب. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ (الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ) بفتح اللام.
(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ
الْأُولى) قال : كيف يحيون ويجارون أي إن هذا بعيد ، فأجابه موسى صلىاللهعليهوسلم بأن الله جلّ وعزّ يعلمهما. (قالَ عِلْمُها عِنْدَ
رَبِّي فِي كِتابٍ) وفي معناه قولان :
أحدهما أنه تمثيل
مجاز ، والآخر أنه حقيقة ، وأنّ ذلك مكتوب تقرأه الملائكة فتستدلّ
__________________
على قدرة الله جلّ
وعزّ وعلى عظمته. (لا يَضِلُّ رَبِّي
وَلا يَنْسى) في معناه ثلاثة أقوال :
ذكر أبو إسحاق
منها واحدا أنه نعت لكتاب أي لا يضلّه ربي ولا ينساه ، والقول الثاني أنه قد تمّ
الكلام ثم ابتدأ فقال : لا يضلّ ربي أي لا يهلك من قوله : أإذا ضللنا في الأرض ،
ولا ينسى شيئا ، والقول الثالث أشبهها بالمعنى أخبر الله جلّ وعزّ أنه لا يحتاج
إلى كتاب ، فالمعنى لا يضلّ عنه علم شيء من الأشياء ، ولا معرفتها ، ولا ينسى علمه
منها. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى وعاصم الجحدري (فِي كِتابٍ لا
يَضِلُّ رَبِّي) أي لا يضيّعه ربّي ولا ينساه.
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وقرأ الكوفيون (مَهْداً) ، ومهادا هاهنا أولى ؛ لأن مهدا مصدر وليس هذا موضع مصدر
إلّا على حذف : أي ذات مهد. (وَسَلَكَ لَكُمْ
فِيها سُبُلاً) مجاز أي جعل لكم فيها السبل. (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) أي من نواحيها.
(مِنْها خَلَقْناكُمْ) أي من الأرض. قال أبو إسحاق : لأن آدم صلىاللهعليهوسلم خلق من الأرض ، وقال غير أبي إسحاق : النطفة مخلوقة من
التراب. يدلّ على هذا ظاهر القرآن.
(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها) المعنى : ولقد أرينا فرعون آياتنا التي أعطينا لموسى صلىاللهعليهوسلم كلها. والفائدة في هذا أن فرعون رأى الآيات كلّها عيانا لا
خبرا (فَكَذَّبَ وَأَبى) أن يؤمن.
(فَاجْعَلْ بَيْنَنا
وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً).
وقرأ الكوفيون (سُوىً) بضم السين ، والكسر أشهر وأعرف . قيل : معناه سوى ذلك المكان. وأهل التفسير على أن معنى
سوى نصف وعدل ، وهو قول حسن ، وأصله من قولك : جلس في سواء الدار ، أي في وسطها
وفي سواها. ووسط كلّ شيء
__________________
أعدله. وفي الحديث
عن النبي صلىاللهعليهوسلم (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] أي
عدلا. قال زهير : [الوافر]
٢٩٠ ـ أرونا
خطّة لا ضيم فيها
|
|
يسوّى بيننا
فيها السّواء
|
(قالَ
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) مبتدأ وخبره. قال أبو إسحاق : المعنى وقت موعدكم يوم
الزينة. وقرأ الحسن (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ) على الظرف. قال أبو إسحاق : أي يقع يوم الزينة (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (أن) في موضع رفع
، يعني على قراءة من قرأ «يوم الزينة» ظرف و (أَنْ يُحْشَرَ
النَّاسُ) بمعنى المصدر ، فلا يعطف أحدهما على صاحبه إلا على حذف
بمعنى ويوم أن يحشر الناس ، وأولى من هذا أن تكون «أن» في موضع خفض عطفا على
الزينة ، و (الضُّحى) مؤنثة تصغّرها العرب بغير هاء لئلّا يشبه تصغيرها تصغير
ضحوة.
(قالَ لَهُمْ مُوسى
وَيْلَكُمْ) بمعنى المصدر. قال أبو إسحاق : أي الزمهم الله جلّ وعزّ
ويلا ، قال : ويجوز أن يكون نداء مضافا. (فَيُسْحِتَكُمْ
بِعَذابٍ) جواب النهي ، وقرأ الكوفيون : (فَيُسْحِتَكُمْ) والأولى لغة أهل الحجاز ، وهذه لغة بني تميم ، قال الفرزدق
: [الطويل]
٢٩١ ـ وعضّ زمان
يا ابن مروان لم يدع
|
|
من المال إلّا مسحتا
أو مجلّف
|
ومعنى (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) لا تقولوا : إنّ الذي أجيء به من البراهين سحر (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) أي خاب من الرحمة والثواب.
(قالُوا إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) فيه ست قراءات قرأ المدنيون والكوفيون إنّ هذان
__________________
لساحران وقرأ أبو
عمرو إنّ هذين لساحران وهذه القراءة مروية عن الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي
وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري ، وقرأ الزهري وإسماعيل بن قسطنطين والخليل بن أحمد
وعاصم في إحدى الروايتين (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) بتخفيف إن.
فهذه ثلاث قراءات
، قد رواها الجماعة عن الأئمة. وروي عن عبد الله بن مسعود إن هذان إلّا ساحران
وقال الكسائي : في قراءة عبد الله إن هذان ساحران بغير لام ، وقال الفراء : في حرف أبيّ إن ذان إلّا ساحران فهذه ثلاث قراءات أخرى ،
تحمل على التفسير ، إلا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف. قال أبو جعفر :
القراءة الأولى للعلماء فيها ستة أقوال : منها أن يكون إنّ بمعنى نعم ، كما حكى
الكسائي عن عاصم قال العرب :
تأتي بإنّ بمعنى
نعم ، وحكى سيبويه : أنّ «إنّ» تأتي بمعنى أجل. وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد
وإسماعيل بن إسحاق يذهبان. قال أبو جعفر : ورأيت أبا إسحاق وأبا الحسن علي بن
سليمان يذهبان إليه. وحدّثنا علي بن سليمان قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد
السّلام النيسابوري ، ثمّ لقيت عبد الله بن أحمد هذا فحدّثني قال : حدّثنا عمير بن
المتوكل قال : حدّثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب قال :
حدّثنا عمرو بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي وهو علي بن الحسين عن
أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال : لا أحصي كم سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم على منبره يقول : «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ثم يقول :
أنا أفصح قريش كلّها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص» قال أبو محمد : قال عمير : إعرابه عند أهل العربية في
النحو إنّ الحمد لله بالنصب إلّا أن العرب تجعل «إنّ» في معنى نعم كأنه أراد : نعم
الحمد لله ، وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح في خطبتها بنعم ، وقال الشاعر في
معنى نعم : [الكامل]
٢٩٢ ـ قالوا :
غدرت فقلت إنّ وربّما
|
|
نال العلى وشفى
الغليل الغادر
|
وقال ابن قيس
الرقيات : [مجزوء الكامل]
٢٩٣ ـ بكر
العواذل في الصّبوح
|
|
يلمنني
وألومهنّه
|
ويقلن شيب قد
علاك
|
|
وقد كبرت ، فقلت
: إنّه
|
فعلى هذا جائز أن
يكون قول الله عزوجل : (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) بمعنى نعم.
__________________
قال أبو جعفر :
أنشدني داود بن الهيثم قال : أنشدني ثعلب : [الخفيف]
٢٩٤ ـ ليت شعري
هل للمحبّ شفاء
|
|
من جوى حبّهنّ
إنّ اللّقاء
|
أي : نعم ، فهذا
قول. وقال أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء : هذا على لغة بني الحارث بن كعب. قال
الفراء : يقولون : رأيت الزّيدان ، ومررت بالزّيدان وأنشد : [الطويل]
٢٩٥ ـ فأطرق
إطراق الشّجاع ولو يرى
|
|
مساغا لناباه
الشّجاع لصمّما
|
وحكى أبو الخطاب
أنّ هذه لغة بني كنانة ، وللفراء قول آخر قال : وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل
فزدت عليها نونا ولم أغيرها ، كما قلت : الذي ، ثم زدت عليها نونا فقلت : جاءني
الذين عندك ، ورأيت الذين عندك. قال أبو جعفر : وقيل : شبّهت الألف في قولك : هذان
بالألف في يفعلان ، فلم تغير. قال أبو إسحاق : النحويون القدماء يقولون : الهاء
هاهنا مضمرة ، والمعنى : إنّه هذان لساحران. فهذه خمسة أقوال ، قال أبو جعفر :
وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال : إن شئت أجبتك بجواب النحويين ، وإن
شئت أجبتك بقولي فقلت : بقولك ، فقال : سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت : القول
عندي أنه لما كان يقال : هذا في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة ، وكانت
التثنية يجب أن لا يغيّر لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد ، فقال : ما أحسن
هذا لو تقدّمك بالقول به حتى يؤنس به ، فقلت : فيقول القاضي «به» حتى يؤنس به ؛
فتبسّم. قال أبو جعفر : القول الأول أحسن إلّا أنّ فيه شيئا لأنه إنما قال : إنما
يقال : نعم زيد خارج ، ولا يكاد يقع اللام هاهنا ، وإن كان النحويون قد تكلّموا في
ذلك فقالوا : اللّام ينوى بها التقديم. وقال أبو إسحاق : المعنى إنّ هذان لهما
ساحران ، ثمّ حذف المبتدأ كما قال : [الرجز]
٢٩٦ ـ أمّ الحليس لعجوز شهربه
والقول الثاني من
أحسن ما حملت عليه الآية إذ كانت هذه اللّغة معروفة ، وقد
__________________
حكاها من يرتضى
علمه وصدقه وأمانته ، منهم أبو زيد الأنصاري ، وهو الذي يقول ؛ إذا قال سيبويه :
حدّثني من أثق به فإنما يعنيني. وأبو الخطاب الأخفش ، وهو رئيس من رؤساء أهل اللغة
، روى عنه سيبويه وغيره. ومن بين ما في هذا قول سيبويه : واعلم أنّك إذا ثنّيت
الواحد زدت عليه زائدتين ، الأولى منهما حرف مدّ ولين ، وهو حرف الإعراب. قال أبو
جعفر : فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب ، يوجب أنّ الأصل أن لا يتغير إنّ هذان ، جاء
على أصله ليعلم ذلك وقد قال الله جلّ وعزّ : (اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩]
ولم يقل : استحاذ ، فجاء على هذا ليدل على الأصل إذ كان الأئمة قد رووها وتبيّن
أنها الأصل ، وهذا بيّن جدا. (وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) تأنيث أمثل ، كما يقال : الأفضل والفضلى ، وأنّثت الطريقة
على اللفظ ، وإن كان يراد بها الرجال ، ويجوز أن يكون التأنيث على معنى الجماعة.
(فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ) قراءة أهل الأمصار إلّا أبا عمرو فإنه قرأ فاجمعوا بالوصل وفتح الميم ، واحتج بقوله جلّ وعزّ : (فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه : ٦٠] وفيما
حكى عن محمد بن يزيد أنه قال : يجب على أبي عمرو ومن بحجّته أن يقرأ بخلاف قراءته
هذه ، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس ، قال : لأنه احتجّ بجمع وقوله جلّ وعزّ
: (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده فاجمعوا ، ويقرب أن يكون
بعده فأجمعوا أي اعزموا وجدّوا لما تقدّم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه.
يقال : أمر مجمع
عليه. وقال أبو جعفر : تصحيح قراءة أبي عمرو فأجمعوا كلّ كيد وكلّ حيلة فضمّوه مع
أخيه. (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) منصوب بوقوع الفعل عليه. وقول أبي عبيدة قال : يقال : أتيت
الصفّ أي المصلى ، فالمعنى عنده : أتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وزعم
أبو إسحاق أنه يجوز أن يكون منصوبا على الحال.
قال هارون القارئ
: لغة بني تميم عصيهم وبها يأخذ الحسن. قال أبو جعفر : من كسر العين أتبع الكسرة
الكسرة وقد ذكرناه . (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) قال أبو إسحاق : «أن» في موضع رفع أي يخيل إليه سعيها ،
وزعم الفراء : «أنّ» موضعها موضع نصب أي بأنها ثم حذف الباء. وقرأ الحسن تخيّل بالتاء. قال أبو عبيد :
__________________
أراد الحبال. قال
أبو إسحاق : من قرأ بالتاء جعل «أنّ» في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي. قال :
ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل ، بدل الاشتمال ، كما حكى سيبويه : ما لي بهم
علم أمرهم. أي ما لي بأمرهم علم. قال : وأنشد : [الرجز]
٢٩٧ ـ وذكرت تقتد برد مائها
أي ذكر برد ماء
تقتد.
(فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) يقال : إنه خاف أن يفتن الناس لمّا ألقى السحرة حبالهم
وعصيّهم ، وكانوا بالبعد من الناس في ناحية ، وفرعون وجنوده في ناحية ، وموسى
وهارون صلّى الله عليهما في ناحية. فخاف موسى صلىاللهعليهوسلم أن يشبّه على النّاس إذ كانوا يتخيّلون أنّ الحبال والعصيّ
تسعى ، وأنها حيات فيتوهمون أنهم قد ساووا موسى صلىاللهعليهوسلم فيما جاء به. ويقال : إن موسىصلىاللهعليهوسلم إنما خاف لأنه أبطأ عليه الأمر بإلقاء العصا فأوحى الله
جلّ وعزّ إليه (لا تَخَفْ إِنَّكَ
أَنْتَ الْأَعْلى) أي لا تخف الشّبه فإنّا سنبيّن أمرك حتى تعلو عليهم
بالبرهان.
(وَأَلْقِ ما فِي
يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) فألقى العصا فتلقّفت حبالهم وعصيهم ، وكانت حمل ثلاثمائة
بعير ، ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصيّ إلّا الله جل وعزّ. قال
أبو إسحاق : الأصل في «خيفة» خوفة أبدل من الواو ياء لانكسار ما قبلها.
قال : ويجوز (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) بالرفع يكون فعلا مستقبلا في موضع الحال المقدّرة.
قال : ويجوز «أنّ
ما صنعوا» بفتح الهمزة. أي لأن ما. (كَيْدُ ساحِرٍ) بالرفع على خبر إنّ ؛ و «ما» بمعنى الذي ، والنصب على أن
تكون ما كافة. وقرأ الكوفيون إلّا عاصما كيد سحر على إضافة النوع والجنس ، كما تقول : ثوب خزّ.
(إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) الضمير عائد على موسى صلىاللهعليهوسلم ، احتال فرعون في
__________________
التشبيه على الناس
بهذا. فقال للسحرة : إن موسى كبيركم أي هو أحذق منكم بالسحر فواطأكم على هذا ،
وعلّمكم إيّاه. فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وصلّبهم حتّى ماتوا. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ
عَذاباً وَأَبْقى) قال أبو إسحاق : رفعت أيّا لأن لفظها لفظ الاستفهام فلم
يعمل فيها ما قبلها لأنه خبر.
قال أبو إسحاق : «الذي»
في موضع خفض على العطف. والمعنى : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الله جلّ
وعزّ. قال : ويجوز أن يكون في موضع خفض على القسم.
(فَاقْضِ ما أَنْتَ
قاضٍ) بحذف الياء في الوصل لسكونها وسكون التنوين ، وتحذف في
الوقف دلالة على أنها في الوصل بغير ياء واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد
زالت علّة التقاء الساكنين (إِنَّما تَقْضِي
هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) منصوبة على الظرف. والمعنى : إنما تقضي في متاع هذه الحياة
الدنيا. وأجاز الفراء الرفع على أن يجعل «ما» بمعنى الذي.
(ما) في موضع نصب معطوفة على الخطايا ، وقيل : لا موضع لها وهي
نافية أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه ، والأولى أولى. (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) الهاء كناية عن الحديث والجملة خبر إنّ.
(أَنْ أَسْرِ) من أسرى ، وأن أسر من سرى ، لغتان فصيحتان. (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي
الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم والكسائي وقرأ الأعمش
وحمزة لا تخف دركا والقراءة الأولى أبين لأنه بعده (وَلا تَخْشى) مجمع عليه بلا جزم. فالقراءة الأولى فيها ثلاث تقديرات :
يكون في موضع الحال ، وفي موضع النعت لطريق على حذف فيه ، ومقطوعة من الأول.
والقراءة الثانية فيها تقديران : أحدهما الجزم على النهي ، والآخر الجزم على جواب
الأمر وهو فاضرب. فأما (وَلا تَخْشى) إذا جزمت لا تخف فللنحويين فيه تقديران : أحدهما وهو الذي
لا يجوز غيره أن يكون
__________________
مقطوعا من الأول ،
مثل (يُوَلُّوكُمُ
الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : ١١١]
، والتقدير الآخر ـ ذكره الفراء : أن يكون «ولا تخشى» ينوى به الجزم وتثبت فيه الياء ـ زعم
كما قال الشاعر : [البسيط]
٢٩٨ ـ هجوت
زبّان ثمّ جئت معتذرا
|
|
من سبّ زبّان لم
تهجو ولم تدع
|
وأنشد : [الوافر]
٢٩٩ ـ ألم يأتيك
والأنباء تنمى
|
|
بما لاقت لبون
بني زياد
|
قال أبو جعفر :
هذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على شذوذ من الشعر ، وأيضا فإن الذي
جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا ؛ لأن الواو والياء مخالفتان للألف لأنهما
تتحركان والألف لا تتحرك ، فللشاعر إذا اضطر أن يقدّرهما متحرّكتين ثم يحذف الحركة
للجزم ، وهذا محال في الألف. وأيضا فليس في البيتين اضطرار يوجب هذا لأنهما إذا
رويا بحذف الواو والياء كانا وزنا صحيحا من البسيط والوافر ، يسمي الخليل الأول
مطويا والثاني منقوصا .
على معنى التعظيم
والمعرفة بالأمر.
أي أضلّهم عن
الرشد ، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدّر أنّ موسى صلىاللهعليهوسلم ومن تبعه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر ، فلما ضرب موسى
صلىاللهعليهوسلم البحر بعصاه انفلق منه اثنا
__________________
عشر طريقا ، وبين
الطرق الماء قائما كالجبال. فأخذ كلّ سبط طريقا ، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في
البحر والماء قائما أوهمهم أنّ البحر فعل ذلك لهيبته فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر
عليهم.
أي أمرنا موسى صلىاللهعليهوسلم أن يأمركم بالخروج معه ليكلّمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام.
(وَنَزَّلْنا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) أي في البرية.
أي لا تحملكم
السّعة والعافية أن تعصوا ؛ لأن الطغيان : التجاوز إلى ما لا يجب.
(فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) وأكثر الكوفيين يقرأ يحلل حكى أبو عبيد
وغيره أنه يقال : حلّ يحلّ إذا وجب ، وحلّ يحلّ إذا نزل. والمعنيان متقاربان إلّا
أن الكسر أولى لأنهم قد أجمعوا على قوله : (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ
عَذابٌ مُقِيمٌ) [الزمر :
٤٠] قال أبو إسحاق
: (فَقَدْ هَوى) فقد هلك صار إلى الهاوية وهي قعر النار.
قال وكيع عن سفيان
: كنّا نسمع في قوله عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ) أي من الشرك (وَآمَنَ) أي بعد الشرك (وَعَمِلَ صالِحاً) صلى وصام (ثُمَّ اهْتَدى) مات على ذلك. وهذا أحسن ما قيل في الآية ، وقال الفراء : (ثُمَّ اهْتَدى) علم أنّ لذلك ثوابا وعليه عقابا.
ـ الآية ـ أمر أن
يأمر قومه بالخروج معه ليسمعوا كلام الله جلّ وعزّ.
(قالَ هُمْ أُولاءِ
عَلى أَثَرِي) أي هم قريبا منّي. قال أبو حاتم : قال عيسى : بنو تميم
يقولون هم أولى مرسلة مقصورة ، وأهل الحجاز يقولون : (أُولاءِ) ممدودة ، وحكى الفراء هم أولاء على أثري وزعم أبو إسحاق أن هذا لا وجه له ، وهو
كما قال : لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي ، ولا يخلو من إحدى جهتين : إما أن
__________________
يكون اسما مبهما
فإضافته محال ، وإما أن يكون بمعنى الذي فلا يضاف أيضا ؛ لأن ما بعده من تمامه وهو
معرفة. وقرأ عيسى (هُمْ أُولاءِ عَلى
أَثَرِي) وهو بمعنى أثر (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضى) أي عجلت بالمصير إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه
لترضى عنّي.
(قالَ فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلّوا على الله (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي دعاهم إلى الضلالة فاتّبعوه.
(فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) على الحال (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) وعدهم جل وعز الجنة إذا قاموا على طاعته ، ووعدهم أنه
يسمعهم كلامه.
(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ) أي أفطال عليكم الوقت الذي ينجز لكم فيه وعده فتوهمتم أنه
لا ينجزه. حقيقته في النحو : أفطال عليكم إنجاز العهد (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) لأنهم وعدوه أنهم يقيمون على إطاعة الله جلّ وعزّ.
(قالُوا ما أَخْلَفْنا
مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي قيل : هذا عامّ يراد به الخاصّ أي قال : الذين ثبتوا
على طاعة الله ما أخلفنا موعدك بملكنا أي لم نملك ردّهم عن عبادة العجل.
(وَلكِنَّا حُمِّلْنا
أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها) أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحليّ فقذفناه في النار
ليذوب. (فَكَذلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُ) الكاف في موضع نصب أي فألقى السامريّ إلقاء مثل ذلك.
(فَأَخْرَجَ لَهُمْ
عِجْلاً جَسَداً) قيل : معناه متجسّدا عظيما ، وقيل : معناه جسد لا روح فيه.
(لَهُ خُوارٌ) لأنه خرقه وثقبه ليحتال في إخراج الصوت منه.
(أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) بمعنى أنه لا يرجع إليهم. قال أبو إسحاق : ويجوز
__________________
(أَلَّا يَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ قَوْلاً) بالنصب على أن تنصب بأن ، والرفع أولى وقد ذكرناه.
(وَإِنَّ رَبَّكُمُ
الرَّحْمنُ) اسم إنّ وخبرها.
(لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ) خبر نبرح ، وعلى الحال (حَتَّى يَرْجِعَ
إِلَيْنا مُوسى) نصب بحتى ، ولا يجوز الرفع لأنه مستقبل لا غير.
(أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي ألّا تلحق بي. (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) لأنه كان أمره أن يلحق به معهم.
(قالَ يَا بْنَ أُمَ) بالفتح يجعل الاسمين اسما واحدا ، وبالخفض على الإضافة.
قال أبو إسحاق : ويجوز في غير القرآن «يا ابن أمّي» بالياء. (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف وعقوبة ، وقد قيل
: إنّ موسى عليهالسلام إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان
بلحية نفسه ، والله أعلم بما أراد نبيّه صلىاللهعليهوسلم. (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ
تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم ، فتقول
: فرّقت بينهم ولم ترقب قولي لأنك أمرتني بأن أكون معهم.
قال أبو إسحاق أي
ما أمرك الذي تخاطب به.
(قالَ بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) وكان بصر بجبرائيل صلىاللهعليهوسلم حين نزل إلى موسى صلىاللهعليهوسلم
__________________
فظنّ أن له بذلك
فضلا عليهم فأخذ قبضة من أثر دابّة جبرائيل عليهالسلام ونبذها في العجل ، وإنما فعل هذا ليوهمهم أنه يجب أن يعظّم
العجل لهذا قال أبو إسحاق :
ويجوز قبضة مثل
غرفة. والقبضة مقدار ملء الكفّ ، والقبضة بالفتح ملء الكفّ كلّها.
وقرأ الحسن (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً) وفسّرها بأطراف الأصابع.
على التبرية ، قال
هارون ولغة العرب «لا مساس» بكسر السين وفتح الميم. وقد تكلم النحويون في هذا.
فأما سيبويه فيذهب إلى أنه مبني على الكسر ، كما يقال :
اضرب الرّجل ،
وشرح هذا أبو إسحاق فقال : لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسر من علامة المؤنّث.
تقول : فعلت يا امرأة ، وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : إذا
اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى وإذا اعتلّ من جهتين وجب أن لا يصرف لأنه
ليس بعد ترك الصرف إلّا البناء فمساس ودراك اعتلّ من ثلاث جهات : منها أنه معدول ،
ومنها أنه مؤنث ، وأنه معرفة. فلمّا وجب البناء فيها وكانت الألف قبل السين ساكنة
كسرت السين لالتقاء الساكنين ، كما يقال : اضرب الرجل. قال أبو جعفر : ورأيت أبا
إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ ، وألزم أبا العباس إذا سمّى امرأة بفرعون أن
يبينه ولا يقول هذا أحد. وقرأ البصريون (وَإِنَّ لَكَ
مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) بكسر اللام فيحتمل معنيين : أحدهما لن تجده مخلفا ، كما
يقال :
أحمدته أي وجدته
محمودا ، والمعنى الآخر على التهديد أي لا بدّ لك من أن تصير إليه ، وفي قراءة ابن
مسعود رحمة الله عليه (الَّذِي ظَلْتَ) بكسر الظاء. ويقال :
ظللت أفعل ذاك إذا
فعلته نهارا ، وظلت وظلت : فمن قال : ظلت حذف اللام تخفيفا ، ومن قال : ظلت ألقى
حركة اللام على الظاء. (عاكِفاً) خبر. يروى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (لنحرقنّه) وكذلك يروى عن أبي جعفر ، وقرأ الحسن (لنحرقنّه) ، وعن سائر الناس (لَنُحَرِّقَنَّهُ) . يقال : حرقه يحرقه ، ويحرقه إذا نحته
__________________
بمبرد أو غيره ،
وأحرقه يحرقه بالنار وحرقه يحرّقه يكون منهما جميعا على التكثير.
ويروى عن قتادة
أنه قرأ (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً) أي ملأه.
(كَذلِكَ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) الكاف في موضع نصب والمعنى : نقصّ عليك كما قصصنا عليك قصة
موسى عليهالسلام وفرعون والسامريّ. (آتَيْناكَ مِنْ
لَدُنَّا ذِكْراً كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) الكاف في موضع نصب والمعنى : نقصّ عليك كما قصصنا عليك قصة
موسى عليهالسلام وفرعون والسامريّ. (آتَيْناكَ مِنْ
لَدُنَّا ذِكْراً) وهو القرآن.
(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي فلم يتدبّره ولم يؤمن به.
(حِمْلاً) على البيان و (زُرْقاً) على الحال ، وكذا (قاعاً صَفْصَفاً) و (عَشْراً) منصوب بلبثتم ، والكوفيون يقولون في المعنى : ما لبثتم
إلّا عشرا.
(إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ) (من) في موضع نصب
على الاستثناء الخارج من الأول.
قال أبو إسحاق : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الآخرة وجميع ما يكون (وَما خَلْفَهُمْ) ما قد وقع من أعمالهم ، وقال غيره : معنى (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ولا يحيطون بما ذكرنا ، والله أعلم.
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) في معناه قولان : أحدهما أنّ هذا في الآخرة ، وروى عكرمة
عن ابن عباس (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) قال : الركوع والسجود. ومعنى عنت في اللغة خضعت وأطاعت ،
ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة.
(فَلا يُخْرِجَنَّكُما) مجاز أي لا تقبلا منه فيكون سببا لخروجكما (فَتَشْقى) ولم يقل :
__________________
فتشقيا ؛ لأن المعنى
معروف ، وآدم صلىاللهعليهوسلم هو المخاطب والمقصود. قال الحسن : في قوله : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ
فَتَشْقى) قال : يعني شقاء الدنيا لا ترى ابن آدم إلّا ناصبا.
قال الفراء : هو
أن يأكل من كدّ يديه.
قراءة أبي عمرو
وأبي جعفر والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ عاصم ونافع وإنك بكسر الهمزة. فالفتح على أن تكون «أنّ» اسما في موضع نصب
عطفا على «أن» والمعنى : وإنّ لك أنّك لا تظمأ فيها ، ويجوز أن يكون في موضع رفع
عطفا على الموضع ، والمعنى : ذلك أنّك لا تظمأ فيها ، والكسر على الاستئناف وعلى
العطف على «إن لك».
قال الفراء : (وَطَفِقا).
في العربية أقبلا
: وقيل : جعلا يلصقان عليهما الورق ورق التين.
(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى) قلبت الياء ألفا لتحرّكها وتحرّك ما قبلها ، ولهذا كتبه
الكوفيون بالياء ليدلّوا على أصله.
(ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ) أي اختاره (فَتابَ عَلَيْهِ
وَهَدى) أي وهداه للتوبة وروى حمّاد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن
أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم في قول الله جلّ وعزّ (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : عذاب القبر.
(أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ) أي يبيّن لهم ، وهذه قراءة أبي عبد الرحمن وقتادة بالياء.
وقد تكلّم النحويون فيه لأنه مشكل من أجل الفاعل ليهد. فقال بعضهم : «كم» الفاعل ،
وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها ، وقال أبو إسحاق : المعنى : أفلم
يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكنا. قال : وحقيقة «أفلم يهد لهم» أفلم يبيّن لهم
بيانا يهتدون به لأنهم كانوا يمرّون على منازل عاد وثمود فلذلك قال جلّ وعزّ : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ)
__________________
وفي مسكنهم على
أنه مصدر. وقال محمد بن يزيد ، فيما حكاه لنا عنه علي بن سليمان : وهذا معنى
كلامه. قال : يهدي يدلّ على الهدى ، فالفاعل هو الهدى. قال أبو إسحاق : «كم» في
موضع نصب بأهلكنا. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) قال : لأولي التّقى.
قال : (لَكانَ لِزاماً) أي موتا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوف على «كلمة» ، وواحد الإناء إني. لا يعرف البصريون
غيره ، وحكى الفراء في واحد الإناء إنّى ـ مقصورة واحد الآنية ـ إنا ممدود ،
وللفراء في هذا الباب في كتاب «المقصور والممدود» أشياء ـ قد جاء بها على أنها
فيها مقصور وممدود ، مثل الإناء والإنى ، والوراء والورى ـ قد أنكرت عليه ، ورواها
الأصمعي وابن السكيت والمتقنون من أهل اللغة على خلاف ما روي ، والذي يقال في هذا
أنه مأمون على ما رواه غير أنّ سماع الكوفيين أكثره عن غير الفصحاء.
(وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) وهم الأغنياء ، أي لا تنظر إلى ما أعطي الكفار في الدنيا.
وقرأ عيسى بن عمر وعاصم الجحدري (زَهْرَةَ) بفتح الهاء. قال أبو إسحاق «زهرة» منصوبة بمعنى متّعنا ،
لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدّنيا زهرة (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم ، ونشدّد التعبّد عليهم ؛ لأن الأغنياء يشتد
عليهم التواضع ، والمحنة عليهم أشدّ. (وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقى) قال الفراء : أي ثواب ربك. وحكى الكسائي (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) قال : ويجوز على هذا (بَيِّنَةُ ما فِي
الصُّحُفِ الْأُولى) قال أبو جعفر: إذا نوّنت بيّنة ورفعت جعلت «ما» بدلا منها
، وإذا نصبتها على الحال. والمعنى : أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيّنا. (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ) قيل : من قبل التنزيل ، وقال الفراء : من قبل الرسول. (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) جواب لو لا.
__________________
قال أبو إسحاق : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ) «من» في موضع رفع
، وقال الفراء:
يجوز أن يكون في
موضع نصب ، مثل (وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠].
قال أبو إسحاق : وهذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ومن هاهنا استفهام ؛
لأن المعنى : فستعلمون أأصحاب الصراط نحن أم أنتم ، وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم
الجحدري (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) على فعلى بغير همز ، وتأنيث الصراط شاذ قليل. قال الله جلّ
وعزّ (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦]
فجاء مذكّرا في هذا وفي غيره. وقد ردّ هذا أبو حاتم فقال : إن كان من السّوء وجب
أن يكون السوءى ، وإن كان من السواء وجب أن يقول : السيّى بكسر السين ، والأصل
السويا ، قال أبو جعفر : جواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل السوءى ،
والساكن ليس بحاجز حصين فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها ، والساكن ليس بحاجز ألفا
إذا انفتح ما قبلها. (وَمَنِ اهْتَدى) معطوف على «من» الأولى.
والفراء يذهب إلى أنّ معنى من أصحاب الصراط السّويّ : من لم يضلّ ،
وإلى أن معنى «ومن اهتدى» من ضلّ ثم اهتدى.
__________________
٢١
شرح إعراب سورة الأنبياء
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ) ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للنّاس لئلا يتقدّم مضمر
على المظهر لا يجوز أن ينوى به التأخير (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
مُعْرِضُونَ) ابتداء وخبر ، ويجوز النصب في غير القرآن على الحال.
والمعنى : وهم في غفلة معرضون عن التأهب للحساب.
(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) نعت لذكر ، وأجاز الكسائي والفراء : محدثا بمعنى ما يأتيهم
محدثا ، وأجاز الفراء رفع محدث على تأويل ذكر لأنك لو حذفت «من» رفعت ذكرا. (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ).
(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) قال الكسائي : أي إلّا استمعوه لاهية قلوبهم ، وأجاز
الفراء أن يكون مخرّجا من المضمر الذي في يلعبون ، وأجاز هو
والكسائي (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية ، وأجاز غيرهم الرفع على أن
يكون خبرا بعد خبر أو على إضمار مبتدأ. (وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولم يقل : وأسرّ النجوى ، والفعل متقدّم لأن الفعل إذا
تقدّم الأسماء وحد ، وإذا تأخّر ثنّي وجمع للضمير الذي فيه ، فكيف جاء هذا
__________________
متقدما مجموعا؟
ففيه ستة أقوال : يكون بدلا من الواو ، وعلى إضمار مبتدأ ، ونصبا بمعنى أعني ،
وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم ، وأجاز الأخفش
أن يكون على لغة من قال : «أكلوني البراغيث» ، والجواب السادس أحسنها وهو أن يكون
التقدير: يقول الذين ظلموا ، وحذف القول مثل (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣]
فالدليل على صحّة هذا الجواب أنّ بعده (هَلْ هذا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فهذا الذي قالوه والمعنى : هل هذا إلّا بشر مثلكم. وقد بين
الله جلّ وعزّ أنه لا يجوز أن يرسل إليهم بشرا ليفهموا عنه ويعلّمهم ، ثمّ قال (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) والسحر في اللغة كلّ مموّه لا حقيقة له ولا صحة (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) قيل : معناه وأنتم تبصرون أنه إنسان مثلكم ، وقيل : وأنتم
تعقلون لأن العقل هو البصر بالأشياء.
قل ربي وفي مصاحف
أهل الكوفة (قالَ رَبِّي) فقيل : إنّ القراءة الأولى أظهر وأولى ؛ لأنهم أسرّوا هذا
القول فأظهر الله عليه نبيّه وأمره أن يقول لهم هذا. قال أبو جعفر : والقراءتان
صحيحتان. وهما بمنزلة الآيتين ، وفيهما من الفائدة أنه صلىاللهعليهوسلم أمر وأنه قال كما أمر.
(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ) قال أبو إسحاق : أي بل قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام ،
وقال غيره : هو أحلام اختلاط. والمعنى كالأحلام المختلطة فلما رأوا أن الأمر ليس
كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا : (بَلِ افْتَراهُ) ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي كما أرسل موسى صلىاللهعليهوسلم بالعصا وغيرها من الآيات ، وكان هذا منهم تعنّتا إذ كان
الله جلّ وعزّ قد أعطاه من الآيات ما فيه كفاية ، ويبيّن الله جلّ وعزّ أنّهم لو
كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوا كقوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣].
(ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية و «من» زائدة للتوكيد.
__________________
(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ) أي بإنجائهم ونصرهم ، وإهلاك مكذّبيهم.
(فِيهِ ذِكْرُكُمْ) رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب ثم
نبّههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال جلّ وعزّ : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).
(وَكَمْ قَصَمْنا) «كم» في موضع نصب
بقصمنا (مِنْ قَرْيَةٍ) لو حذفت «من» لجاز الخفض لأن «كم» هاهنا للخبر ، والعرب
تقول : «كم قرية قد دخلتها». فتخفض. وفيه تقديران : أحدهما أن تكون «كم» بمنزلة
ثلاثة من العدد ، والفراء يقول بإضمار «من» فإذا فرقت جاز الخفض والنصب ، وأنشد
النحويون : [السريع]
٣٠٠ ـ كم بجود
مقرفا نال العلى
|
|
وكريما بخله قد
وضعه
|
وأجود اللّغات فيه
إذا فرقت أن تأتي بمن ، وبها جاء القرآن في هذا الموضع وغيره.
(قالُوا يا وَيْلَنا) نداء مضاف.
(فَما زالَتْ تِلْكَ
دَعْواهُمْ) «تلك» في موضع رفع
إن جعلت دعواهم خبرا ، وفي موضع نصب إن جعلت دعواهم الاسم.
أي : ما خلقنا
السماء والأرض ليظلم الناس بعضا ويكفر بعضهم ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا فلا
يجازوا بأفعالهم ، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ، ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب
المنفي عن الحكيم وضدّ الحكمة.
(لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) لأنهم نسبوا إلى الله جلّ وعزّ الولد ، والصاحبة. فالمعنى
: لو أردنا أن نتّخذ ولدا أو صاحبة لما اتّخذناه من البشر الذين
__________________
تلحقهم الآفات ،
والحجارة التي لا تعقل فبيّن به الله عزوجل جهلهم بنسبهم إليه مثل هذا بلا حجّة ولا شبهة.
(بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِ) أي بالحجج والبراهين. (عَلَى الْباطِلِ) وهو قولهم (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) حكى أهل اللغة زهق يزهق زهقا وزهوقا إذا انكسر واضمحلّ.
(يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ظرفان.
(لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) التقدير عند سيبويه والكسائي «غير الله» فلمّا جعلت إلّا
في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير ، كما قال : [الوافر]
٣٠١ ـ وكل أخ
مفارقه أخوه
|
|
لعمر أبيك إلّا
الفرقدان
|
وحكى سيبويه لو
كان معنا رجل إلّا زيد لهلكنا ، وقال الفراء : إلا هاهنا في موضع سوى ، والمعنى : لو كان فيهما آلهة
سوى الله لفسد أهلهما ، وقال غيره : أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير ؛ لأن
أحدهما إذا أراد شيئا وأراد الآخر ضدّه كان أحدهما عاجزا.
وحكى أبو حاتم أنّ
يحيى بن يعمر وطلحة قرأ : (هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) فزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق في هذه القراءة :
المعنى هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي ، وذكر ممّن قبلي ، وقال غيره : التقدير
فيها هذا ذكر ذكر من معي مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. وروي
عن الحسن أنه قرأ : (الْحَقَّ فَهُمْ
مُعْرِضُونَ) بالرفع بمعنى هو الحقّ وهذا الحقّ.
__________________
(سُبْحانَهُ بَلْ
عِبادٌ مُكْرَمُونَ) قال أبو إسحاق : المعنى : بل هم عباد مكرمون يعني الملائكة
وعيسى عليهمالسلام. قال : ويجوز في غير القرآن بل عبادا مكرمين بمعنى بل اتخذ
عبادا مكرمين ، وأجازه الفراء أيضا على أن تردّه على ولد أي لم نتّخذهم ولدا بل
اتّخذناهم عبادا مكرمين.
أي لا يفعلون شيئا
إلا بإذنه ثم خبّر بحكمه جلّ وعزّ في كلّ أحد فقال :
الكاف في موضع
نصب.
قال الأخفش : قال
: (كانَتا) لأنهما صنفان كما تقول العرب : هما لقاحان أسودان ، وكما
قال جلّ وعزّ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] قال
أبو إسحاق : كانتا لأنه يعبّر عن السموات بلفظ الواحد بسماء ولأن السموات كانت
سماء واحدة ، وكذا الأرضون. قال : وقال : رتقا ولم يقل رتقين لأنه مصدر والمعنى :
كانتا ذواتي رتق. قال أبو جعفر : وروي عن الحسن أنه قرأ (كانَتا رَتْقاً) قال عيسى : هو صواب وهي لغة. (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) نعت لشيء ، وأجاز الفراء : كلّ شيء حيا بمعنى : وجعلنا كلّ شيء حيّا من الماء.
(وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) نعت لسقف ، ولو كان محفوظة على أن يكون نعتا للسماء لجاز.
__________________
فيه من النحو أنه
لم يقل : يسبحن ولا يسبح. ومذهب سيبويه أنه لما خبّر بفعل من يعقل ، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من
يعقل خبّر عنهن بالواو والنون ، وقال الفراء : لمّا خبّر عنهنّ بأفعال الآدميين قال : يسبحون ، وقال
الكسائي يسبحون لأنه رأس آية ، كما قال : (نَحْنُ جَمِيعٌ
مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤] ،
ولم يقل منتصرون.
(أَفَإِنْ مِتَّ
فَهُمُ الْخالِدُونَ) جيء بالفاء التي في فهم عند الفراء لتدلّ على الشرط لأنه جواب قولهم : ستموت ، ويجوز أن يكون
جيء بها لأن التقدير فيها : أفهم الخالدون إن متّ. قال الفراء : ويجوز حذف الفاء
واضمارها لأن هم لا يتبيّن فيها الإعراب ، أو لأن المعنى أهم الخالدون إن مت.
(وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) قال الكسائي : والمصدر بلاء.
«متى» عند
الكوفيين في موضع نصب وكذا الجواب عندهم في المعرفة إذا قيل :
متى وعدك قيل :
يوم الجمعة فإن كان نكرة رفعت فقلت : موعدك يوم قريب ، وكذا ظروف المكان ، وحكى
الفراء : اجتمع الجيشان فالمسلمون جانب والكفار جانب صاحبهم.
الثاني منصوب لأنه معرفة والأول مرفوع لأنه نكرة فاعتل في النصب مع المعرفة لأن
الخبر مسند إليها لأنها معرفة ، فحسنت الصفة ، وبنوا المسائل على هذا فتقول : عبد
الله جانب المسجد ، وزيد جانب منه. وأما البصريون فالرفع عندهم الوجه إذا كان
الظرف متمكنا. قال سيبويه وتقول : موعدك غدوة وبكرة وموعدك بكرا لأن بكرا لا يتمكن.
والدليل على صحة قول البصريين قراءة القراء ، إلّا من شذّ منهم قال :
(مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ) [طه : ٥٩]. وحكى
الفراء في النكرة : إنما البرد شهران ، وإنما الصيف شهران ، وزيد
دون من الرجال ، وهو دونك بالنصب في المعرفة.
(هُمْ) في موضع رفع بالابتداء ولا تعمل إلا في معرفة. (يُنْظَرُونَ) في موضع الخبر.
__________________
(قُلْ مَنْ
يَكْلَؤُكُمْ) فإن خفّفت الهمزة جعلتها بين الهمزة والواو ، ولهذا كتبت
واوا وحكى الكسائي والفراء في التخفيف وجهين آخرين : «قل من يكلوكم» بفتح اللام
وإسكان الواو ، وحكيا «من يكلاكم» قال : فأما «يكلاكم» فخطأ من جهتين إحداهما :
أنّ بدل الهمزة إنما يجوز في الشعر ، والجهة الأخرى : أنهما يقولان في الماضي :
كليته فينقلب المعنى ؛ لأن المعنى كليته أوجعت كليته ، ومن قال لرجل : كلأك الله ،
فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بوجع في كليته ، والدليل على هذا أنه لا يقال : رجل
مكليّ إلّا من هذا ، هكذا السماع ، ولا نلتفت إلى سماع لا يصحّ. وأما (يَكْلَؤُكُمْ) فقد حكى مثله سيبويه في آخر الكلمة إنّ من العرب من يقول : هو الوثو فيبدل من الهمزة واوا حرصا على تبيينها ، وفي الخفض من
الوثي ، وهو الكلو ، ومن الكلي ، وأخذت الكلا.
قال الفراء : ومن قال :
يكلوهم قال في الماضي : كلات فيترك النبرة.
قرأ أبو عبد
الرحمن السلمي ولا تسمع الصم الدعاء جعلهما مفعولين فردّ عليه بعض أهل اللغة وقال : كان يجب
على قوله إذا ما تنذرهم. قال أبو جعفر : وذلك جائز لأنه قد عرف المعنى.
(مِثْقالَ حَبَّةٍ) اسم كان ولا خبر لها ؛ لأنها بمعنى وقع ، ويجوز النصب على
أن تضمر فيها اسمها.
وروي عن ابن عباس
وعكرمة ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء بغير واو ، وزعم الفراء أنّ حذف الواو والمجيء بها واحد ، كما قال جلّ وعزّ :
__________________
(وَحِفْظاً) [الصافات : ٦ و ٧]
وردّ عليه هذا القول أبو إسحاق ؛ لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد. قال : وتفسير
الفرقان : التوراة ، لأنّ فيها الفرق بين الحلال والحرام. قال :
«وضياء» مثل (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٦] ،
وأجاز الفراء (وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) بمعنى أنزلناه مباركا.
(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ
رُشْدَهُ) مفعولان. قال الفراء : «رشده» هداه.
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ) قال أبو إسحاق «إذ» في موضع نصب أي آتيناه رشده في ذلك
الوقت.
(وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ) فجاء مذكّرا لأنهم جعلوا الأصنام بمنزلة ما يعقل في
عبادتهم إياها (إِلَّا كَبِيراً
لَهُمْ) على الاستثناء.
قال أبو إسحاق :
إبراهيم ، يرتفع من جهتين على معنى : هو إبراهيم والمعروف به إبراهيم ، وعلى
النداء. قال أبو جعفر : واسم ما لم يسمّ فاعله على مذهب الخليل رحمهالله وسيبويه له ، كما تقول : سيريه. وعلى مذهب محمد بن يزيد
اسم ما لم يسمّ فاعله مضمر أي يقال له القول واحتيج إلى الإضمار ، لأن إبراهيم لا
يجوز أن يكون اسم ما لم يسمّ فاعله بل ذلك محال على كل قول ؛ لأنه من قال : قلت
زيدا منطلقا ، على اللغة الشاذة لم يقل :
كلّمته فقلت له
إبراهيم ولم يقل هذا إلّا بالرفع ، وإن كانت تلك اللغة شاذة لا يتكلّم بها في كتاب
الله عزوجل لشذوذها وخروجها على القياس ، ولو لا أنّ هذا القول لم
يقله أحد من العلماء علمناه لزدنا في الشرح ولكن غنينا عن ذلك بما تقدّم وبما
وصفناه ، وأنه يلزم من رفع هذا على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله أن يقول : قلت زيدا ،
كما أنه إذا قال : يضرب زيد قال : ضربت زيدا ، ولا يقول أحد : قلت زيدا ، ولا له
معنى ، ويلزمه أن يقرأ (سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ) [الكهف : ٥]
بالنصب ، فإذا لزمه ما لا يقوله أحد استغنى عن الزيادة. ولو لم يكن في هذا إلّا
أنّ النحويين يعلّمون المتعلّم أنّ ما بعد القول محكيّ ، فيقولون : قلت له زيد
خارج ، وكذا قيل له ، لا فرق بين الفعلين في الحكاية.
__________________
قال أبو إسحاق : (أُفٍّ لَكُمْ) وأفّ وأفّ لكم. وينوّن في اللغات الثلاث ، ويقال : أفّه
ومن كسر لالتقاء الساكنين قال ؛ الأصوات أكثرها مبنيّ على الكسر والفتح ؛ لأنه
خفيف والضمّ اتباع ، والتنوين فرق بين المعرفة والنكرة.
(وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً) عطف على الهاء. (إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها) لأن الأرض مؤنّثة ، فأما قول الشاعر : [المتقارب]
٣٠٢ ـ فلا مزنة
ودقت ودقها
|
|
ولا أرض أبقل إبقالها
|
فرواه أبو حاتم
«ولا أرض أبقلت إبقالها».
كره تذكير الأرض.
قال أبو جعفر :
وما في هذا ما
ينكر لأنه تأنيث حقيقي. قال محمد بن يزيد : لو قلت : هدم دارك لجاز ، والكوفيون
يقولون : يجوز التذكير لأنه لا علاقة فيه للتأنيث.
الأصل أقوام
فألقيت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وحذفت لالتقاء الساكنين ، فإن
أفردت ألحقت الهاء وقبح حذفها لأنها عوض مما حذف.
(وَلُوطاً آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً) بمعنى : واذكر لوطا ، أو معنى وآتينا لوطا (وَنُوحاً).
(وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ) بمعنى واذكروا. ولم ينصرف «داود» لأنه اسم عجميّ لا يحسن
فيه الألف واللام ، ولم ينصرف «سليمان» لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين.
(فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ) قال أبو إسحاق : أي ففهّمنا القصّة. (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ
يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) معطوف على الجبال ، ويجوز أن يكون بمعنى مع الطير ، كما
تقول :
__________________
التقى الماء
والخشبة. قال أبو إسحاق : ويجوز «الطير» بالرفع بمعنى يسبّحن هنّ والطير. قال (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي نقدر على ما نريد ، وقال غيره : المعنى وكنا فاعلين
للأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذه الآيات. (وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ عاصِفَةً) معطوف أي وسخّرنا لسليمان الريح ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج
ولسليمان الريح بالرفع قطعه من الأول ، ورفع بالابتداء ، كما تقول :
أعطيت زيدا درهما
ولعمر دينار.
(وَمِنَ الشَّياطِينِ
مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ)
(٨٢)
(مِنَ) في موضع نصب إن نصبت الريح ، ويجوز الرفع بالابتداء وإن
رفعت الريح فمن في موضع رفع عطف عليها ، وإن شئت بالابتداء أيضا. و (يَغُوصُونَ) على معنى «من» ، ولو كان في غير القرآن لجاز يغوص على
اللفظ.
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ
وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) لأهل التفسير في معناه قولان عن مجاهد وعكرمة بإسنادين
صحيحين قالا : قيل لأيوب صلىاللهعليهوسلم ، قد آتيناك أهلك في الجنّة ، فإن شئت تركناهم لك في
الآخرة ، وإن شئت آتيناك هم في الدنيا. قال مجاهد : فتركهم الله جلّ وعزّ له في
الجنّة وأعطاه مثلهم في الدنيا ، وقال عكرمة : فاختار أن يكونوا له في الجنّة
ويؤتي مثلهم في الدنيا ، وقال الضحاك : قال عبد الله بن مسعود : كان أهل أيوب عليهالسلام قد ماتوا إلّا امرأته فأحياهم الله جلّ وعزّ له وآتاه
مثلهم معهم ، وعن ابن عباس رحمة الله عليه قال : كان بنوه قد ماتوا ، فأحيوا له
وولد لهم مثلهم معهم.
(وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) بمعنى : واذكر كذا.
قال أبو جعفر : قد
ذكرنا عن سعيد بن جبير أنه قال : مغاضبا لربه جلّ وعزّ.
__________________
وربّما أنكر هذا
من لا يعرف اللغة ، وهذا قول صحيح والمعنى مغاضبا من أجل ربه ، كما تقول : غضبت لك
أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله جلّ وعزّ إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول
النبيّ صلىاللهعليهوسلم لعائشة رضي الله عنها : «اشترطي لهم الولاء» من هذا. وقال
الضحاك : (إِذْ ذَهَبَ
مُغاضِباً) أي لقومه فيكون معنى هذا أنه غاضبهم لعصيانهم. وقال الأخفش
: إنّما غاضب بعض الملوك. وقرأ الحسن فظنّ أن لن يقدر عليه وقرأ يعقوب القارئ فظنّ أن لن يقدر عليه .
(وَزَكَرِيَّا) بمعنى واذكر.
وقد ذكرنا أنّ
معنى (وَأَصْلَحْنا لَهُ
زَوْجَهُ) أنها كانت سيئة الخلق ، وقال سعيد بن جبير: إنها كانت لا
تلد. قال أبو إسحاق : (وَيَدْعُونَنا
رَغَباً) على أنه مصدر ورغبا بخلاف ، ورغبا مثل بخلا.
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها) في موضع نصب بمعنى واذكر (وَجَعَلْناها
وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ولم يقل : آيتين. قال أبو إسحاق : لأن الآية فيهما واحدة
لأنها ولدته من غير فحل. وعلى مذهب سيبويه أنّ التقدير : وجعلناها آية للعالمين ،
وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف ، وعلى مذهب محمد بن يزيد أن المعنى وجعلناها
آية للعالمين وابنها مثل (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢].
وفي قصة ذي النون حرف مشكل الإعراب على قراءة عاصم. وكذلك نجّي المؤمنين بنون واحدة لأنها في المصحف كذا. وتكلم النحويون في هذا
فقال بعضهم : هو لحن لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله. وكان أبو إسحاق يذهب إلى هذا
القول. وذهب الفراء وأبو عبيد إلى أنّ المعنى : وكذلك نجّي النجاء المؤمنين.
قال أبو إسحاق : هذا خطأ لا يجوز ضرب زيدا. المعنى الضرب زيدا ؛ لأنه لا فائدة فيه
إذ كان ضرب يدلّ على الضرب ، ولأبي
__________________
عبيد فيه قول آخر
وهو أنه أدغم النون في الجيم. وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين علمناه لبعد
النون من الجيم ، فلا تدغم فيها ، ولا يجوز في (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ) [الأنعام : ١٦٠]
مجّاء بالحسنة. قال أبو جعفر : ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن
سليمان قال : الأصل ننجّي فحذف إحدى النونين لاجتماعهما ، كما يحذف إحدى التاءين
لاجتماعهما نحو قول الله جلّ وعزّ (وَلا تَفَرَّقُوا) [الأنعام : ١٠٣]
الأصل تتفرقوا. والدليل على صحة ما قال أن عاصما يقرأ (نجّي) بإسكان الياء ، ولو
كان على ما تأوله من ذكرناه لكان مفتوحا.
(إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على الحال. قال أبو إسحاق : أي إنّ هذه أمتكم في حال
اجتماعها فإذا تفرّقت لم تدخل في ذلك. قال : ويجوز إنّ هذه أمتكم أمة واحدة ، تجعل
أمتكم بدلا من هذه ، وفيه معنى التوكيد. قال أبو جعفر : وقرأ ابن أبي إسحاق (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) «أمتكم» خبر إن «وأمة
واحدة» خبر بعد خبر ، وإن شئت على إضمار مبتدأ ، وإن شئت على بدل النكرة من
المعرفة.
قال الكسائي : وفي
حرف ابن مسعود فلا كفر لسعيه وكفر وكفران وكفور بمعنى واحد.
(وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ) قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة ، وعن علي وابن مسعود وابن
عباس وحرم على قرية ، وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ وحرم على قرية بفتح الحاء والميم وكسر الراء ، وروي عنه بضمّ الراء وفتح
الحاء والميم.
والآية مشكلة ،
وقد ذكرنا فيها أقوالا : فمن أحسن ما قيل فيه وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن عليّة
وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيّان ومعلّى عن داود بن أبي هند عن
عكرمة عن ابن عباس رحمهالله في قوله جلّ وعزّ (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) قال : وجب (أَنَّهُمْ لا
يَرْجِعُونَ) قال : لا يتوبون. قال أبو جعفر : واشتقاق هذا بيّن من
اللغة. وشرحه أنّ معنى حرم الشيء حظر ومنع منه ، كما أن معنى أحلّ
__________________
أبيح ولم يمنع
منه. فإذا كان حرام وحرم بمعنى واحد فمعناه أنه قد ضيّق الخروج منه ومنع فقد دخل
في باب المحظور بهذا ، فأما قول أبي عبيد : إنّ «لا» زائدة فقد ردّه عليه جماعة ؛
لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع ، ولا فيما يقع فيه إشكال ، ولو كانت زائدة لكان
التأويل بعيدا أيضا ، لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أنهم يرجعون إلى
الدنيا. فهذا ما لا فائدة فيه ، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرّم.
(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وقرأ عاصم والأعرج (يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ) بالهمز. قال أبو إسحاق : هما مشتقّان من أجّة الحريق ، ومن
ملح أجاج. ولا يصرف ، تجعلهما اسما للقبيلتين على فاعول ومفعول ، ومن لم يهمز
جعلهما أعجميين على قول أكثر النحويين. قال الأخفش : يأجوج : من يججت ، ومأجوج :
من مججت. وروى علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال : من كل شرف يقبلون. والتقدير في العربية : حتّى إذا
فتح سدّ يأجوج ومأجوج ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. فأما
جواب إذا ففيه ثلاثة أقوال : قال الكسائي والفراء : حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج
اقترب الوعد الحقّ والواو عندهما زائدة ، وأنشد الفراء : [الطويل]
٣٠٣ ـ فلمّا
أجزنا ساحة الحيّ وانتحى
|
|
بنا بطن خبت ذي
قفاف عقنقل
|
المعنى عنده
انتحى. وأجاز الكسائي أن يكون جواب إذا (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ
أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والقول الثالث أنّ المعنى قالوا (يا وَيْلَنا) ثم حذف قالوا. وهذا قول أبي إسحاق ، وهو قول حسن. قال الله
جلّ وعزّ : (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى
اللهِ) [الزمر : ٣]
المعنى قالوا ، وحذف القول كثير.
المعنى إنكم
والأوثان التي تعبدونها من دون الله. ولا يدخل في هذا عيسى صلىاللهعليهوسلم ، ولا عزير ، ولا الملائكة ؛ لأن «ما» لغير الآدميين.
والمعنى : لأن أوثانهم تدخل معهم
__________________
النار ليعذّبوهم
بها إمّا بأن تحمى وتلصق بهم ، وإمّا يبكّتوا بعبادتها ، و «ما» في موضع نصب عطفا
على اسم إن والخبر (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي يرمى بالحصباء.
(وَكُلٌّ فِيها
خالِدُونَ) ابتداء وخبر ، ويجوز نصب خالدين في غير القرآن.
قيل : في الكلام
حذف ، والمعنى ـ والله أعلم ـ وهم فيها لا يسمعون شيئا يسرّهم لأنهم صمّ.
(إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قيل : يعني بها الجنة ، وقيل : يعني بها الوعد.
(أُولئِكَ عَنْها
مُبْعَدُونَ) ابتداء وخبر في موضع خبر إن.
(لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها) قال أبو عثمان النهدي : على الصراط حيّات تلسع أهل النار
فيقولون : حسّ حسّ.
(لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) على لغة من قال : حزن يحزن ، وهي أفصح اللغتين ، وبها قرأ
الكوفيون في جميع القرآن وقرأ ابن محيصن بلغة من قال : أحزن يحزن في جميع القرآن ،
وبها قرأ نافع إلّا في هذا الحرف ، وبها قرأ أبو جعفر في هذا الحرف خاصة ، وقرأ كل
ما في القرآن من نظائرها على لغة من قال حزن يحزن.
(كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) قال سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن
مسعود قال : يرسل الله ماءا من تحت العرش كمنيّ الرجال فتنبت منه لحما منهم
وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى ، وقرأ (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). قال أبو جعفر : في قوله جلّ وعزّ : (وَعْداً عَلَيْنا) حذف والمعنى ـ والله أعلم ـ علينا إنجازه والوفاء به ثم
أكّد ذلك بقوله جلّ وعزّ (إِنَّا كُنَّا
فاعِلِينَ) قال أبو إسحاق : معنى (إِنَّا كُنَّا
فاعِلِينَ) إنّا كنا قادرين على فعل ما نشاء.
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ) والزبور والكتاب واحد ، فلذلك جاز أن يقال للتوراة
والإنجيل: زبور ، من زبرت أي كتبت ، وجمعه زبر ، ومن قال : زبور جعله جمع زبر (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة لأن الأرض التي في
الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم.
قال سفيان : بلغني
أنهم أهل الصلوات الخمس.
قال سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال : كان محمد عليهالسلام رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدّق به سعد ومن لم يؤمن به
سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق.
يجوز أن يكون «إنّما»
بالكسر ؛ لأن معنى يوحى إلىّ : يقال إليّ.
(وَإِنْ أَدْرِي) بمعنى ما أدري ، وأدري في موضع رفع لأنه فعل مستقبل لم يقع
عليه ناصب ولا جازم ، وحذفت الضمة من الياء لثقل الضمة فيها. (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) قيل : يعني القيامة.
(وَإِنْ أَدْرِي
لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) قيل : يعني وما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم أي اختبار وتشديد
في العبادة. (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) إلى انقضاء المدة.
(قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِ) في موضع نصب ؛ لأنه نداء مضاف ، ومن قرأ أحكم بالحقّ فهو ابتداء وخبر ، وعن أبي جعفر أنه قرأ ربّ احكم بالحقّ وهذا عند النحويين لحن. لا يجوز عندهم : رجل أقبل ، حتّى
تقول : يا رجل ، أو ما أشبهه :
(وَرَبُّنَا
الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي على ما تصفونه من الكفر.
__________________
٢٢
شرح
إعراب سورة الحجّ
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
النَّاسُ) مرفوعون على النعت لأي ، وأجاز المازني النصب على الموضع
كما تقول : يا زيد الكريم أقبل. قال أبو إسحاق : هذا غلط من المازني ، لأن زيدا
يجوز الوقف والاقتصار عليه ، ولا يجوز يا أيّها والنّاس هم المقصودون.
والمعنى : يا ناس
اتّقوا ربّكم. (إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ) وهي شدائدها ، ورجفة الأرض ، والآيات الباهرة.
(يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) قال أبو إسحاق : تذهل تحيّر وتترك. مرضعة جارية على الفعل
؛ لأن بعدها (أَرْضَعَتْ) والكوفيون يقولون : ما كان مخصوصا به المؤنث لم تدخل الهاء فيه نحو حائض
وطالق وما أشبههما. قال علي بن سليمان :
الدليل على أنّ
هذا القول غلط إثبات الهاء في موضعه. (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) أي هي لشدّة الهول وخفقان القلب. وقرأ أبو هريرة (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) يكونان مفعولين. قال سيبويه يقال : سكارى وسكارى قال : وقوم يقولون : سكرى شبّهوه
بمرضى ؛ لأنه آفة تدخل على العقل كالمرض. قال أبو جعفر :
قول سيبويه : وقوم
يقولون : سكرى يدلّ على أنّ غير هذه اللغة أشهر منها.
__________________
(مِنَ) في موضع رفع بالابتداء ، ويجادل على اللفظ ، ويجوز في غير
القرآن يجادلون على المعنى. (وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطانٍ مَرِيدٍ) يقال : مريد ومارد للمتجاوز في الشرّ القويّ فيه ، وصخرة
مرداء أي ملساء ، ومنه قيل : أمرد.
(كُتِبَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) (أن) في موضع رفع (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) عطف عليه ومذهب سيبويه أنّ «أنّ» الثانية مكررة للتوكيد ،
وأن المعنى : كتب عليه أنه من تولّاه يضلّه. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان
يقول : التقدير : كتب عليه أنه من تولّاه فالواجب أن يضلّه بفتح الهمز ، ومن زعم
أنّ «أنّ» في موضع رفع بالابتداء فقد أخطأ ، لأنّ سيبويه منع أن يبتدأ بأنّ
المفتوحة ، وأجاز سيبويه (كُتِبَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) بكسر الهمزة لأن الفاء جواب للشرط فسبيل ما بعدها أن يكون
مبتدأ ، والابتداء بأن يكون مكسورا. (وَيَهْدِيهِ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ) مجاز لمّا كان يأمره بما يؤديه إلى النار قام ذلك مقام
الهداية إليها.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) وحكى النحويون : من البعث ، وأجاز الكوفيون في كلّ ما كان
ثانية حرفا من حروف الحلق أن تسكّن وتفتح نحو نعل ، ونعل وبخل وبخل. قال أبو إسحاق
: هذا خطأ وإنما يرجع في هذا إلى اللغة فيقال : لفلان عليّ وعد ولا يقال : وعد ،
ولا فرق بين حروف الحلق وغيرها في هذا ، وإنما هذا مثل قدر وقدر. قال أبو عبيد :
العلقة الدمّ إذا اشتدّت حمرته. قال الكسائي : ويجوز (مُخَلَّقَةٍ) بالنصب (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) على الفعل والقطع. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي لنبيّن لكم قدرتنا على تصويرنا ما نشاء. وروى أبو حاتم
عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ) (فِي الْأَرْحامِ ما
نَشاءُ) بالنصب. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).
قال أبو حاتم :
النصب على العطف. قال أبو إسحاق : (وَنُقِرُّ) بالرفع لا غير ؛ لأنه
__________________
ليس المعنى فعلنا
ذلك لنقرّ في الأرحام ما نشاء لأن الله جل وعز لم يخلق الأنام ليقرّ في الأرحام ما
نشاء ، وإنّما خلقهم ليدلّهم على الرشد والصلاح. قال : وطفل بمعنى أطفال قال :
ودلّ على ذلك لفظ الجميع قال : وفيه معنى ويخرج كلّ واحد منكم طفلا.
ومن قرأ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) فمعناه عنده يستوفي أجله. (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى الكبر ؛ لأنه لا يرجو قوّة ولا طول عمر فهو في أرذل
العمر (لِكَيْلا يَعْلَمَ
مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) مذهب الفراء لكي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) قال الكسائي : يقال : بهج بهجة وبهاجة.
موضع «ذلك» رفع
بمعنى الأمر ذلك. قال أبو إسحاق : يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى فعل الله ذلك
لأنه الحق.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) في موضع رفع بالابتداء.
(ثانِيَ عِطْفِهِ) نصب على الحال. ويتأوّل على معنيين : أحدهما أنه روي عن
ابن عباس أنه قال : هو النّضر بن الحارث لوى عنقه مرحا وتعظّما ، والمعنى الآخر ،
وهو قول الفراء : إن التقدير : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني
عطفه أي معرضا عن الذكر.
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ) قال أبو إسحاق : «ذلك» في موضع رفع بالابتداء وخبره (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ. وَأَنَّ
اللهَ) في موضع خفض عطفا على الأول ، ويجوز أن يكون في موضع رفع
على معنى «والأمر أنّ الله ليس بظلام للعبيد». قال : ويجوز الكسر «وإنّ الله».
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) في موضع رفع بالابتداء ، والتمام (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ)
__________________
على قراءة من قرأ (خَسِرَ) وقرأ مجاهد وحميد خاسر الدنيا والآخرة نصبا على الحال خسر الدنيا بذمّ الله جل وعز إياه وأمره
بلعنه وأن لا حظّ له في غنيمة ولا ثناء وخسر الآخرة بأن لا ثواب له فيها.
(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) قال الفراء : أي الطويل.
(يَدْعُوا لَمَنْ
ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) قد ذكرنا فيه أقوالا : منها قول الكسائي إن اللام في غير
موضعها ، وإن التقدير يدعو من لضرّه أقرب من نفعه. قال أبو جعفر : وليس للام من
التصرف ما يوجب أن يجوز فيها تقديم وتأخير. وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن
يزيد قال : في الكلام حذف ، والمعنى : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلها. قال :
وأحسب هذا القول غلط على محمد بن يزيد ؛ لأنه لا معنى له لأنّ ما بعد اللام مبتدأ
فلا يجوز نصب إله ، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلّا قول الأخفش سعيد ، وهو أحسن
ما قيل في الآية عندي ، والله أعلم. قال : «يدعو» بمعنى يقول و «من» مبتدأ وخبره
محذوف ، والمعنى : يقول لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه ، ولو كانت اللام مكسورة لكان
المعنى يدعو إلى من ضرّه أقرب من نفعه. وقال الله جلّ وعزّ : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] أي
إليها. (لَبِئْسَ الْمَوْلى) في موضع رفع ببئس. وقد شرحنا مثل هذا .
قد تكلّم النحويون
في معنى هذه الآية وفي بيان ما أشكل منها. فمن أحسن ما قيل فيها أنّ المعنى : من
كان يظنّ أن لن ينصر الله جلّ وعزّ محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وأنه يتهيّأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه ، فليمدد بسب
إلى السماء أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي ثم ليقطع النصر إن تهيّأ له (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) وحيلته ما يغيظه من نصر النبيّ صلىاللهعليهوسلم والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيّأ له الكيد والحيلة
بأن يفعل
__________________
مثل هذا لم يصل
إلى قطع النصر. وقرأ أهل الكوفة بإسكان اللام. وهذا بعيد في العربية ؛ لأن ثمّ
ليست مثل الواو والفاء لأنها يوقف عليها وتنفرد.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) خبر «إن». (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ
بَيْنَهُمْ) قال الفراء ولا يجوز في الكلام : إنّ زيدا إنّ أخاه منطلق ، فزعم أنه
إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة أي من آمن ، ومن تهوّد ، أو تنصّر
، أو صبأ ، ففصل ما بينهم وحسابهم على الله عزوجل ، وردّ أبو إسحاق على الفراء هذا واستقبح قوله : إنّ زيدا
إنّ أخاه منطلق. قال : لأنه لا فرق بين زيد وبين الذي ، «وإنّ» تدخل على كل مبتدأ
فتقول : إنّ زيدا هو منطلق ، ثم تأتي بإنّ فتقول: إنّ زيدا إنّه منطلق.
معطوفة على «من»
وكذا (وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم قال جلّ وعزّ : (وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذابُ) وهذا مشكل من الإعراب. فيقال : كيف لم ينصب ليعطف ما عمل
فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل مثل (وَالظَّالِمِينَ
أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١]
فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا. ولكن اختير الرفع لأنّ المعنى :
وكثير أبى السجود ، وفي رفعه قول آخر ، يكون معطوفا على الأول داخلا في السجود ؛
لأن السجود هاهنا إنّما هو الانقياد لتدبير الله جل وعز من ضعف وقوّة وصحّة وسقم
وحسن وقبح ، وهذا يدخل فيه كل شيء. وحكى الكسائي والأخفش والفراء (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ) أي من إكرام.
قرأ ابن كثير وشبل
(هذانِ خَصْمانِ) بتشديد النون ، وفي ذلك قولان : أحدهما أن تشديدها عوض مما
حذف من هذين ، والآخر على أنها غير ساقطة في الإضافة. وتأوّل
__________________
الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين ، وزعم أنّ الخصم
الواحد المسلمون ، والآخر اليهود والنصارى ، اختصموا في دين ربهم. قال : فقال :
اختصموا لأنهم جميع.
قال : ولو قال
اختصما لجاز. قال أبو جعفر : وهذا تأويل من لا دربة له بالحديث ، ولا بكتب أهل
التفسير ، لأن الحديث في هذه الآية مشهور رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن
أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إنّ هذه الآية نزلت في حمزة
وعليّ وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة ،
وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس .
(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي
بُطُونِهِمْ) رفع بفعل ما لم يسمّ فاعله. (وَالْجُلُودُ) عطف على «ما». قال الكسائي. يقال : صهرته أنضجته.
والكوفيون يقولون : معنى والجلود :
وجلودهم.
قال أبو إسحاق
ويقرأ ويحلون فيها من أساور من ذهب على قولك : حلي يحلى إذا صار ذا حلي
، قال : (وَلُؤْلُؤاً) بمعنى ويحلّون لؤلؤا ، قال : و «لؤلؤ» بمعنى :
ومن لؤلؤ. قال :
ويجوز أن يكون ذلك خلطا منهما.
(وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) فيه ثلاثة أوجه : يكون في اللغة على العموم ، وقيل : الطيب
من القول البشارات الحسنة ، وقيل : هو قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤].
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) اسم «إنّ» و (كَفَرُوا) صلته (وَيَصُدُّونَ) عطف على الذين كفروا. فإن قيل : كيف يعطف مستقبل على ماض؟
ففيه ثلاثة أوجه : منها أن يكون عطف جملة على جملة ، ومنها أن يكون في موضع الحال
، كما تقول : كلّمت زيدا
__________________
وهو جالس ، وقال
أبو إسحاق : هو معطوف على المعنى لأن المعنى إنّ الكافرين والصادين عن المسجد
الحرام. وفي خبر «إنّ» ثلاثة أوجه : أصحّها أن يكون محذوفا ، ويكون المعنى : إنّ
الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله هلكوا ، وقيل : المعنى : إنّ الذين كفروا يصدّون
عن سبيل الله والواو مقحمة. قال أبو جعفر : في كتابي عن أبي إسحاق قال : وجائز أن
يكون ، وهو وجه الخبر (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ). قال أبو جعفر : هذا غلط ، ولست أعرف ما الوجه فيه ؛ لأنه
جاء بخبر إنّ جزما ، وأيضا فإنه جواب الشرط ، ولو كان خبرا لبقي الشرط بلا جواب
ولا سيما والفعل الذي للشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
(الَّذِي جَعَلْناهُ
لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) . فيه ثلاثة أوجه من القراءات : قراءة العامة برفع سواء
والعاكف والبادي ، وعن أبي الأسود الدؤلي أنه قرأ سواء العاكف فيه والبادي بنصب
سواء ورفع العاكف والبادي ، وتروى هذه القراءة عن الأعمش باختلاف عنه ، والوجه
الثالث (الَّذِي جَعَلْناهُ
لِلنَّاسِ سَواءً) منصوبة منونة.
(الْعاكِفُ) فيه بالخفض. فالقراءة الأولى فيها ثلاثة أوجه : يكون الذي
جعلناه للناس من تمام الكلام ثم تقول سواء فترفعه بالابتداء ، وخبره العاكف فيه
والبادي ، والوجه الثاني أن ترفع سواء على خبر العاكف ، وتنوي به التأخير أي
العاكف فيه والبادي سواء ، والوجه الثالث أن تكون الهاء التي في جعلناه مفعولا أول
، وسواء العاكف فيه والبادي في موضع المفعول الثاني ، كما تقول : ظننت زيدا أبوه
خارج ، ومن هذا الوجه تخرج قراءة من قرأ بالنصب «سواء» يجعله مفعولا ثانيا ، ويكون
العاكف فيه رفعا إلّا أن الاختيار في مثل هذا عند سيبويه الرفع ؛ لأنه ليس جاريا
على الفعل ، والقراءة الثالثة على أن ينصب «سواء» لأنه مفعول ثان ويخفض «العاكف»
لأنه نعت للناس ، والتقدير :
الذي جعلناه للناس
العاكف فيه والبادي سواء (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) شرط ؛ وجوابه (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ). وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ) قال : الشرك. وقال عطاء : الشرك والقتل. وقد ذكرنا هذه
الآية.
(وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) في دخول اللام ثلاثة أوجه : لأنه يقال : بوّأت زيدا منزلا
، فأخذ الثلاثة الأوجه أن تحمله على معنى جعلنا لإبراهيم مكان البيت
__________________
مبوّءا ، والوجه
الثاني أن تكون اللام متعلقة بالمصدر مثل «ومن يرد فيه بإلحاد» ، والوجه الثالث أن
تكون اللام زائدة ، وهذا قول الفراء . قال : مثل (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) في «أن» ثلاثة أوجه : قال الكسائي : في المعنى «بأنّ لا» ،
والوجه الثاني أن تكون «أن» بمعنى أي مثل (وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٦] ، والوجه
الثالث تكون «أن» زائدة لتوكيد مثل (فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ) [يوسف : ٦٩] وفي
قوله : (لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً) وفي (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِ) وما بينهما من المخاطبة ثلاثة أوجه كلّها عن العلماء :
فأما قول المتقدّمين فإنّ هذا كلّه مخاطبة لإبراهيم عليهالسلام. كما روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير
عن ابن عباس قال لإبراهيم عليهالسلام : (أَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِ) فجعل لا يمرّ بقوم إلّا قال : إنه قد بني لكم بيت فحجوه
فأجابه كل شيء من صخرة وشجرة وغيرها بلبّيك اللهمّ لبّيك. وروى حماد بن سلمة عن
أبي عاصم الغنويّ عن أبي الطفيل قال:
قال ابن عباس : أتدري
ما كان أصل التلبية؟ قلت : لا ، قال : لمّا أمر إبراهيم عليهالسلام أن يؤذّن في الناس بالحجّ خفضت الجبال رؤوسها له ، ورفعت
له القرى ، فنادى في الناس بالحجّ فأجابه كلّ شيء بلبيّك اللهمّ لبّيك ، فهذا وجه.
وقيل : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) لإبراهيم عليهالسلام. وتمّ الكلام. ثم خاطب الله جلّ وعزّ محمدا عليهالسلام فقال : (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِ) أي أعلمهم أن عليهم الحجّ ، والوجه الثالث أنّ هذا كله
مخاطبة للنبيصلىاللهعليهوسلم وهذا قول أهل النظر ؛ لأن القرآن أنزل على النبيّ عليهالسلام فكلّ ما فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن يدلّ دليل قاطع
على غير ذلك ، وهاهنا دليل آخر يدلّ على أنّ المخاطبة للنبيّ عليهالسلام وهو «أنّ لا تشرك» بالتاء ، وهذا مخاطبة لمشاهد ، وإبراهيم
عليهالسلام غائب. فالمعنى على هذا وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت
فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله جلّ وعزّ ، وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده
فلا تشرك بي شيئا ، وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، وأذن في الناس
بالحجّ. قيل : المعنى أعلمهم أنك تحجّ حجّة الوداع ليحجّوا (يَأْتُوكَ رِجالاً) نصب على الحال. (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ
يَأْتِينَ) فيه ثلاثة أوجه : «يأتين» لأن معنى ضامر معنى ضوامر ،
فنعته بيأتين ، وفي بعض القراءات يأتون يكون للناس.
قال الفراء :
ويجوز يأتي على اللفظ.
(ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ) وقرأ أهل الكوفة بإسكان باللام ، وهو وجه بعيد في
__________________
العربية لأن ثمّ
يوقف عليها ، ولا يجوز أن يبتدأ بساكن وجوازه على بعد «ثمّ» عاطفة كالواو والفاء
وفتحت الميم من ثمّ لالتقاء الساكنين ، ولا يجوز ضمّها ولا كسرها ؛ لأنها لا
تنصرف. والتقدير في العربية : ثم ليقضوا أجل تفثهم ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) فيه ثلاثة أوجه : كسر اللام على الأصل ، وإسكانها لثقل
الكسرة ، والوجه الثالث أن عاصما قرأ (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) .
(ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أي الأمر ذلك من الفروض والمعنى ومن يعظم عنده فعل الحرام
تعظيما لله جلّ وعزّ وخوفا منه. (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ابتداء وخبر. (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) في موضع نصب على الاستثناء. (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (من) عند النحويين
لبيان الجنس إلّا أنّ الأخفش زعم أنها للتبعيض أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو من
الأوثان أي عبادتها. وهو قول غريب حسن.
(حُنَفاءَ) نصب على الحال وكذا (غَيْرَ مُشْرِكِينَ. وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي هو يوم القيامة لا يملك لنفسه نفعا ، ولا يدفع عن نفسه
عذابا بمنزلة من خرّ من السماء فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه ما هو فيه (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تقطّعه بمخالبها ، ولا يمكن دفعها عن نفسه. وفي «تخطفه»
ثلاثة أوجه سوى هذا. قرأ الأعرج (فَتَخْطَفُهُ) بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء ، وقرأ أبو رجاء (فَتَخْطَفُهُ) بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء ، وتروى هذه القراءة
عن الحسن ، والوجه الثالث يروى عن الحسن (فَتَخْطَفُهُ) بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء. فقراءة الأعرج الأصل فيها
فتختطفه ثم أدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء. وقراءة أبي رجاء على
أنه كسر الخاء لالتقاء الساكنين ، والقراءة الآخرة على هذا إلّا أنه كسر التاء على
لغة من قال : أنت تضرب. والسحيق : البعيد.
__________________
(ذلِكَ) فيه ثلاثة أوجه : يكون في موضع رفع بالابتداء أي ذلك أمر
الله جل وعزّ ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون في
موضع نصب أي اتّبعوا ذلك من أمر الله جلّ وعزّ في الحجّ. (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أحسن ما قيل فيه أن المعنى ومن يعظّم ما أمر به في الحجّ.
سمّي شعائر ؛ لأن الله جلّ وعزّ أشعر به أي أعلم به وتعظيمه إيّاه أن لا يعصي الله
جلّ وعزّ فيه (فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي من تقوى الإنسان ربّه بقلبه ، وهو مجاز.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم وقرأ الكوفيون إلّا
عاصما (مَنْسَكاً) بكسر السين. قال : وفي كتابي عن أبي إسحاق منسك بفتح السين
مصدر بمعنى النّسك والنّسوك ، ومنسك أي مكان نسك مثل مجلس. قال أبو جعفر : وهذا
غلط قبيح إنما يكون هذا في فعل يفعل نحو جلس يجلس والمصدر مجلس والموضع مجلس فأما
فعل يفعل فلا يكون منه مفعل اسما للمكان ، ولا مصدرا إلّا أن يسمع شيء فيؤدّى على
ما سمع ، على أن الكثير من كلام العرب منسك ، وهو القياس ، والباب ، ومنسك يقع في
كلام العرب على ثلاثة أوجه : يكون مصدرا ، ولظرف الزمان ، ولظرف المكان. قال
الفراء المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شرّ. وقيل
: مناسك الحج لترداد الناس إليها. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) أي لا تذكروا على ذبائحكم اسم غيره (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) عن أهل التفسير فيه ثلاثة أقوال :
قال عمرو بن أوس :
المخبت الذي لا يظلم وإذا أظلم لم ينتصر. وقال الوليد بن عبد الله : المخبتون :
المخلصون لله جلّ وعزّ. وقال مجاهد : هم المطمئنّون بأمر الله جلّ وعزّ. قال أبو
جعفر: الخبت من الأرض : المكان المطمئنّ المنخفض ، فاشتقاقه من هذا.
(الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أن يعصوه فيعاقبوا. (وَالصَّابِرِينَ عَلى
ما أَصابَهُمْ) أي يصبرون على الشدائد في الطاعة والنهي عن المنكر (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) فيه ثلاثة أوجه :
(وَالْمُقِيمِي
الصَّلاةِ) بالخفض على الإضافة وتحذف النون منها ، ويجوز النصب مع
__________________
حذف النون لأن
الألف واللام بمعنى الذي ، هذا قول سيبويه . وقال أحمد بن يحيى : جاز النصب مع حذف النون يجريه مجرى
الواحد ؛ لأنك في الواحد تنصبه فتقول : هو الآخذ درهما ، والوجه الثالث في الكلام
والمقيمين الصّلاة على الأصل.
(وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ) منصوبة بإضمار فعل مثل الثاني ، وقرأ ابن أبي إسحاق والبدن بضم الباء والدال ، وكذا روي عن عيسى والحسن وأبي جعفر.
وحكى الفراء أنه يقال للواحدة بدنة وبدن. قال أبو جعفر : فبدن وبدن مثل وثن ووثن ،
وبدن يقال : إنه جمع الجمع أي بدنة وبدان وبدن. فإن قال قائل : فلم صار بدنة وبدن
أفصح ، وخشبة وخشب أفصح ، والوزن واحد؟ فالجواب أنّ بدنة في الأصل نعت من البدانة
، وهي السمن ، وخشية ليست بنعت والنعت أولى بالتسكين ، وما ليس بنعت أولى بالحركة.
ألا ترى إلى قولهم : خذلة وخذلات ، وحلوة وحلوات ، وجفنة وجفنات ، وظلمة وظلمات. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها
صَوافَ) فيه ثلاثة أوجه قد قرئ بها :
قراءة العامة (صَوافَ) ، وعن الحسن والأعرج صوافي فإذا جمع صافية ، الخالصة. وعن عبد الله بن مسعود صوافن جمع صافنة. قال الفراء : الصافنة القائمة ، وحكى غيره أنها القائمة على ثلاث ،
وحكى أبو عبيدة أن الصافنة التي قد جمعت رجليها ورفعت سنبكها ، وقال أبو عمر
الجرمي : الصافن عرق في مقدّم الرجل فإذا ضرب على الفرس رفع رجليه (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) قال مقسم عن ابن عباس قال : فإذا وقعت على جنوبها.
(لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها) على تذكير الجمع ، ويقال على تأنيث الجماعة (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى) لأن التّقوى والتّقى واحد ، ويناله على لفظ التقوى. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين أحسنوا في أداء ما عليهم.
__________________
(أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) فيه ثلاثة أوجه من القراءات : هذه التي ذكرناها قراءة أهل
المدينة ، وقرأ أبو عمرو وعاصم (أُذِنَ) كما قرأ أهل المدينة وقرأ يقاتلون بكسر التاء ، وقرأ
الكوفيون إلّا عاصما أذن بفتح الهمزة والذين يقاتلون بكسر التاء والمعاني في هذا
متقاربة لأنهم قد قاتلوا وقوتلوا إلّا أن قراءة أهل المدينة في هذا أصحّ معنى ،
وأبين من وجهين : أحدهما أنه قد صحّ عن ابن عباس أنها أول آية نزلت في القتال. قال
أبو جعفر : كما حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمد قال : حدّثنا محمد بن حمّاد
الطهرانيّ قال : أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسلم عن سعيد عن ابن
عباس أنه يقرأها (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) وقال : هي أول آية أنزلت في القتال.
قال الطهراني : لا
أدري كيف القراءة فإذا كانت أول آية أنزلت في القتال فهم لم يقاتلوا بعد. فيبعد أن
يكون (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) وكان يقاتلون بيّنا ، والجهة الأخرى أن بعده «بأنّهم ظلموا»
، وبعده (الَّذِينَ أُخْرِجُوا) فوجب أيضا أن يكون «يقاتلون» بأنهم ظلموا ولأنهم ظلموا
واحد ، كما تقول : جزيته ببغيه ولبغيه. قال أبو إسحاق : ولا يجوز : وأنّ الله على
نصرهم لقدير. بفتح الهمزة لأن إنّ إذا كانت معها اللام لم يجز فتحها.
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) في موضع خفض بدلا من الذين. (إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) في موضع نصب على مذهب سيبويه استثناء ليس من الأول ، وقال
الفراء : يجوز أن تكون «أن» في موضع خفض يقدّرها مردودة على الباء
، وهو قول أبي إسحاق ، والمعنى عنده : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّا بأن
يقولوا : ربّنا الله أي أخرجوا بتوحيدهم. أخرجهم أهل الأوثان. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) روي عن أبي الدّرداء أنه قال: لو لا أنّ الله جلّ وعزّ
يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد ، وبمن يغزو عمن لا يغزو لأراهم العذاب ،
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : لو لا أن الله جلّ وعزّ يدفع بأخذ الحقوق بالشهادات (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) ولم ينصرف ، صوامع ومساجد ، لأنهما جمعان ، وهما نهاية
الجموع فثقلا فمنعا الصّرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف وبعد الألف حرفان أو
ثلاثة. وقوله جلّ وعزّ (يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللهِ كَثِيراً) الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر
__________________
أن يكون يذكر فيها
اسم الله عائدا على المساجد لا على غيرها لأن الضمير يليها ، ويجوز أن يكون يعود
على صوامع وما بعدها. ويكون المعنى : في وقت شرائعهم وإقامتهم الحدود والحقّ.
(الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) قال أبو إسحاق : (الَّذِينَ) في موضع نصب ردا على «من» يعني في «ولينصرنّ الله من ينصره»
، وقال غيره : «الذين» في موضع خفض ردّا على قوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ) ، ويكون (الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) لأربعة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولم يمكّن في الأرض غيرهم من الذين قيل فيهم : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وبهذه الآية
يحتجّ في إمامة أبي بكر وعمر وغيرها من الآي. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا ما في (وَثَمُودُ) من الصّرف وتركه.
(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) قال الضحاك : أي متروكة ، وقرأ الجحدري (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) وإن المعنى واحد ، وفي هذا أعظم الموعظة. وعظهم الله جلّ
وعزّ بقوم قد أهلكوا وبقيت آثارهم يعرفونها. قال الأصمعي : سألت نافع بن أبي نعيم أتهمز
البئر والذئب فقال : إذا كانت العرب تهمزها فأهمزها ، وأكثر الروايات عن نافع
بهمزهما إلّا ورشا فإنّ روايته عنه بغير همز فيهما ، والأصل الهمز. قال أحمد بن
يحيى : الذئب مشتقّ من تذاءبت الريح ، إذا جاءت من وجوه كثيرة ، وكذلك الذئب. قال
أبو جعفر : فإذا حذفت الهمزة ، وهي ساكنة لم يكن بعد السكون إلّا قلبها إلى ما
أشبه ما قبلها. والفراء يذهب إلى أن «وبئر» معطوفة على عروضها ، وأبو إسحاق يذهب
إلى أنها معطوفة من «قرية» أي ومن بئر ، ثم قال : «أخذتها وإلى المصير». قال أبو إسحاق
: أي بالعذاب ، ثم حذف ؛ لأن قبله ما يدلّ عليه (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ).
هذه آية مشكلة من
جهتين : إحداهما أن قوما يرون أن الأنبياء فيهم مرسلون وغير
__________________
مرسلين ، صلوات
الله عليهم أجمعين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال : نبيّ حتى يكون مرسلا.
والدليل على صحة هذا قوله جلّ وعزّ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) فأوجب للنبيّ الرسالة. وإنّ معنى نبيّ أنبأ عن الله جلّ
وعزّ ، ومعنى أنبأ عن الله جلّ وعزّ هو الإرسال بعينه. والجهة الأخرى التي فيها
الإشكال الحديث المروي. قال أبو جعفر : وقد ذكرناه بإسناده وهو أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قرأ : «أفرأيتم اللات والعزّى فإنّ شفاعتهم ترتجى» وسها كذا في رواية الزّهري ، وفي رواية غيره «فإنهن
الغرانيق العلى». قال أبو جعفر : وهذا يجب أن يوقف على معناه من جهة الدين لطعن من
طعن فيه من الملحدين. فأول ذلك أنّ الحديث ليس بمتصل الإسناد ، ولو اتّصل إسناده
وصحّ لكان المعنى فيه صحيحا. فأما معنى «وسها» فإنّ معناه وأسقط. ويكون تقديره (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) وتمّ الكلام ، ثمّ أسقط والغرانيق العلى ، يعني الملائكة
فإن شفاعتهم ، يعود الضمير على الملائكة. فأمّا من روى «فإنّهنّ الغرانيق العلى»
ففي روايته أجوبة عنها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة ،
ويجوز أن يكون بغير حذف ، ويكون توبيخا ؛ لأن قبله أفرأيتم فيكون هذا احتجاجا
عليهم. فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة ، ويجوز أن يكون الضمير
للملائكة كما يضمر ما يعرف معناه فينسخ الله جلّ وعزّ ذلك لما فيه من الصلاح.
والذي فيه من الصلاح إزالة التمويه أن يموّه على قوم فيقال لهم : هذا الضمير للّات
والعزّى ، فأنزل الله جلّ وعزّ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) وفي الآية قولان آخران : أحدهما أن يكون المعنى لمّا تلا (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) قال رجل ألقى الشيطان على لسانه : فإنهنّ الغرانيق العلى ،
والقول الآخر أنّ علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس في قوله الله جلّ وعزّ :
(إِلَّا إِذا تَمَنَّى) قال : إذا تحدّث ألقى الرداءة الشيطان في أمنيته ، قال :
في حديثه (فَيَنْسَخُ اللهُ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ) قال : فيبطل الله ما يلقي الشيطان. وهذا من أحسن ما قيل في
الآية وأعلاه وأجلّه. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل : بمصر صحيفة في التّفسير
رواها عليّ بن أبي طلحة لو رحل فيها رجل إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا.
والمعنى عليه أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوسلم إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة ،
فيقول له : لو سألت الله جلّ وعزّ أن يغنّمك كذا ليتّسع المسلمون ، ويعلم الله جلّ
وعزّ الصّلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان ، كما قال ابن عباس وحكى الكسائي
والفراء جميعا تمنّى إذا حدّث نفسه. وهذا هو المعروف في اللغة. وقد
حكيا أيضا تمنّى إذا تلا ، وروي ذلك عن الضحاك.
__________________
وحكى أبو عبد
الرحمن السلمي (فِي مِرْيَةٍ) بضم الميم والكسر أعرف (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً) قال محمد بن يزيد : هو مصدر في موضع الحال (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ) سمّي يوم القيامة عقيما لأنّه ليس يعقب بعده يوما مثله.
فتصبح ليس بجواب
وإنما هو خبر عند الخليل رحمهالله. قال الخليل : المعنى انتبه أنزل من السماء ماءا فكان كذا
وكذا كما قال : [الطويل]
٣٠٤ ـ ألم تسأل
الرّبع القوّاء فينطق
|
|
وهل تخيرنك
اليوم بيداء سملق
|
وقال الفراء : «ألم تر» خبر ، كما تقول في الكلام : اعلم أنّ الله
تبارك وتعالى ينزل من السماء ماءا فتصبح الأرض مخضرة.
(وَالْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) وسخر الفلك ، ويجوز أن يكون المعنى وأنّ الفلك ، ويجوز
الرفع على الابتداء (وَيُمْسِكُ السَّماءَ
أَنْ تَقَعَ) في موضع نصب أي ويمسك السماء كراهة أن تقع على الأرض.
(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) فيها ثلاثة أوجه : الرفع بمعنى هو النار أو هي
__________________
النار ، والخفض
على البدل ، والنصب فيه ثلاثة أوجه : يكون بمعنى أعني ، وعلى إضمار فعل مثل الثاني
، ويكون محمولا على المعنى أي أعرّفكم بشرّ من ذلكم النار.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ) أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى ضرب لله جلّ وعزّ مما يعبد من
دونه مثل.
(وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ) قال أبو إسحاق : قيل : إن هذا منسوخ. قال : وكذا (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢]
قال أبو جعفر : وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ ، لأنه واجب على الإنسان ، كما
روى حيوة بن شريح عن أبي هاني الخولاني عن عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد عن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «المجاهد من جاهد نفسه لله جلّ وعزّ» ، وكما روى أبو طالب عن أبي أسامة أنّ رجلا سأل النبيّ صلىاللهعليهوسلم أي الجهاد أفضل عند الجمرة الأولى؟ فلم يجبه ثم سأله عند
الجمرة الثانية فلم يجبه ، ثم سأله عند جمرة العقبة فقال عليه السلام : أين السائل؟
فقال : أنا ذا فقال صلىاللهعليهوسلم : «كلمة عدل عند سلطان جائر» . (هُوَ اجْتَباكُمْ) فدلّ بهذا على فضل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعلى الردّ على من يتنقّصهم ؛ لأنه جلّ وعز اختارهم
لنصرة نبيّه عليهالسلام. (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) في موضع نصب و (من) زائدة للتوكيد. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) قال الفراء : أي كملّة أبيكم ، فإذا ألقيت الكاف نصبت أي وسّع عليكم
كملّة أبيكم. قال :
وإن شئت نصبت على
الأمر. قال أبو إسحاق : المعنى اتّبعوا ملّة أبيكم. قال : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) يجوز أن يكون لإبراهيم عليهالسلام أي سماكم المسلمين فيما تقدّم
__________________
(وَفِي هذا) أي وفي حكمه أنّ من اتّبع محمدا صلىاللهعليهوسلم موحد فقد سمّاكم المسلمين. قال أبو جعفر: هذا القول مخالف
لقول العلماء الأئمة. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو سمّاكم المسلمين ، قال
: الله جلّ وعزّ ، وكذا روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وروى ابن نجيح عن مجاهد
في قوله جلّ وعزّ : (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) قال : سمّاكم المسلمين من قبل الكتب والذكر ، وفي هذا
القرآن. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي بتبليغه إياكم.
وبإجابتكم إياه (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغكم إياهم وبما ترون منهم وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) قيل : أي امتنعوا بما أعطاكم من القوة وانبساط اليد من
المعاصي.
(هُوَ مَوْلاكُمْ) أي وليّ نعمكم ، ووليّ ما تحتاجون إليه في حياتكم. ولهذا
كره أن يقال للإنسان : يا مولاي من هذه الجهة ، ويقول : هذا عبدي ، أو أمتي. قال
النبيّ صلىاللهعليهوسلم :
ولكن ليقل فتاي أو
فتاتي. (فَنِعْمَ الْمَوْلى) أي فنعم الوليّ لكم لأنه يريد بكم الخير (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن أطاعه.
٢٣
شرح إعراب سورة المؤمنين
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ومن قرأ (قد أفلح)
ألقى حركة الهمزة على الدال وحذف الهمزة لأن الدال كانت ساكنة ، وإذا خفّفت الهمزة
قربت من الساكنين ، فحذفت الهمزة لهذا ثم ألقيت حركتها على الدال.
(الَّذِينَ) في موضع رفعت نعت للمؤمنين (هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خاشِعُونَ) مبتدأ وخبره داخلون في الصلة ، وكذلك ما بعده.
قال الضحاك :
اللّغو الشرك. قال أبو جعفر : اللّغو في اللغة ما يجب أن يلغى أي يطرح. ومن أحسن
ما قيل فيه قول الحسن : إنها المعاصي كلّها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال :
هو الشرك. وقول من قال : هو الغناء. كما روى مالك بن أنس عن محمد بن المنذر أنّ
الله جلّ وعزّ يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن
اللهو ومزامير الشياطين ، أدخلوهم في رياض المسك ثم يقول للملائكة : أسمعوهم حمدي
وثنائي ، وأخبرهم أن (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
فمدح الله جلّ
وعزّ ومن أخرج من ماله الزكاة وإن لم يخرج منه غيرها. فكأن الذين يكنزون الذهب
والفضة هم الذين لا يخرجون الزكاة.
قال الفراء : أي إلّا من أزواجهم اللاتي أحلّ الله جلّ وعزّ لهم
الأربع لا تجاوز. (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) في موضع خفض معطوفة على أزواجهم و «ما» مصدر.
وقد أخبر جلّ وعزّ
أنه لا يحبّ المعتدين ، وإذا لم يحبّهم أبغضهم وعاداهم لا واسطة في ذلك.
وقرأ المكّيّون (لأمانتهم)
على واحدة. قال أبو جعفر : أمانة مصدر يؤدي عن الواحد والجمع ، فإذا أردت
اختلاف الأنواع جاز الجمع والتوحيد إلّا أن الجمع هاهنا حسن ؛ لأن الله جل وعز قد
ائتمن العباد على أشياء كثيرة منها الوضوء وغسل الجنابة والصلاة والصيام وغيرهن.
فأما احتجاج أبي عبيد في اختياره لأماناتهم بقوله : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨]
فمردود لا يشبهه هذا ؛ لأن الأمانات هاهنا هو الشيء بعينه بمنزلة الودائع ، وليس
مثل ذلك. ألا ترى أن بعده (وَعَهْدِهِمْ) ولم يقل وعهودهم فالجمع والتوحيد جائزان.
(أُولئِكَ) مبتدأ «هم» مبتدأ ثان ، وإن شئت كانت فاصلة. (الْوارِثُونَ) على أن قوله «هم» فاصلة خبر «أولئك» ، وعلى القول الآخر
خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر «أولئك» وروى الزّهري عن عروة عن عبد الرحمن بن
عبد القاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة ثم
قرأ (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) إلى عشر آيات. قال أبو جعفر : معنى «من أقامهنّ» من قام
عليهنّ ولم يخالف ما فيهنّ ، وأدّاه ، كما تقول : فلان يقوم بعمله ، ثم نزل بعد
هذه الآيات فرض الصوم والحجّ فدخل معهن.
والذين قرءوا «لأماناتهم»
قرءوا (فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) إلّا عاصما فإنه قرأ فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظام لحما ، وكذا قرأ الأعرج وقتادة وعبد الله بن
عامر. والقراءة الأولى حسنة بيّنة لأن المضغة تفترق فتكون عظاما
__________________
فالجمع في هذا أبين
والتوحيد جائز يكون يؤدي عن الجمع ، وقال أبو إسحاق في العلة في جوازه لأنه قد علم
أن الإنسان ذو عظام ، واختار أبو عبيد الجمع واحتجّ بقول الله جلّ وعزّ : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ
نُنْشِزُها) [البقرة : ٢٥٩] أي
لأنهم قد أجمعوا على هذا. وهذا التشبيه غلط لأن المضغة لمّا كانت تفترق عظاما كان
كلّ جزء منها عظما فكل واحد منها يؤدي عن صاحبه فليس كذا «وانظر إلى العظام» لأن
هذا إشارة إلى جمع ، فإن ذكرت واحدا كانت الإشارة إلى واحد. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مجاز ، و (خَلْقاً) مصدر لأنّ معنى أنشأناه خلقناه ، واحد الطرائق طريقة.
(وَشَجَرَةً) معطوف على (جَنَّاتٍ) [آية : ١٩] ،
وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل بمعنى «وثمّ شجرة» (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) بفتح السين قراءة الك وفيين على وزن فعلاء. وفعلاء في
الكلام كثير يمتنع من الصرف في المعرفة والنكرة ؛ لأن في آخرها ألف التأنيث وألف
التأنيث ملازمة لما هي فيه ، وليس في الكلام فعلاء ولكن من قرأ (سيناء) بكسر السين جعله فعلالا ، ومنعه من الصرف على أنه للبقعة
وقال الأخفش : هو اسم عجمي. وقد ذكرنا تنبت وتنبت.
مصدر ، ومنزلا
بفتح الميم بمعنى اجعل لي منزلا. قال أبو إسحاق : ومن قرأ (مُنْزَلاً) بفتح الميم والزاي جعله مصدرا من نزل نزولا منزلا.
وزعم الفراء أن معنى (وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ) على حذف «منه» أي ويشرب مما تشربون منه. وذا لا يجوز عند
البصريين فلا يحتاج إلى حذف البتّة لأن «ما» إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد فإن
جعلتها بمعنى الّذي وحذفت المفعول ، ولم يحتج إلى إضمار من. قال أبو جعفر: وقد
ذكرنا (أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) بما لا يحتاج إلى زيادة.
__________________
قرئت على ثلاثة
أوجه. قرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) مفتوحة غير منوّنة إلّا أبا جعفر فإنه قرأ (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) مكسورة غير منونة ، وقرأ عيسى بن عمر (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) مكسورة منونة. فهذه ثلاثة قراءات. قال أبو جعفر ويجوز (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) مفتوحة منوّنة. قال الكسائي : وناس من العرب كثير يقولون :
أيهات يعني أنهم يبدلون من الهاء همزة ، ويجوز فيها ما جاز في هيهات من اللغات. قال
أبو جعفر : من قال هيهات هيهات لما توعدون وقف بالهاء عند سيبويه والكسائي لا غير لأنها واحدة ، وبنيت على الفتح وموضعها رفع ؛ لأن
المعنى البعد ؛ لأنها لم يشتقّ منها فعل فهي بمنزلة الحروف فاختير لها الفتح لأنّ
فيها هاء التأنيث فهي بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم كخمسة عشر ، وزعم الفراء أن الوقف
عليها بالياء ومن كسر وقف بالتاء عند الجماعة نوّن أو لم ينوّن ؛ لأنها جمع كبيضات
، واحدها هيهة كبيضة ونصب الجميع كخفضه. والتنوين فيه قولان : أحدهما أن التنوين
في جمع المؤنّث لازم ، والآخر أن فرق بين المعرفة والنكرة ، ولهذا حذف من حذف على
أنه جعلها معرفة ، ويقال : هيهات لما قلت ، وهيهات ما قلت أي البعد لما قلت ،
والبعيد ما قلت.
(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) ما زائدة مؤكّدة عند البصريين.
(ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا) فيه ثلاثة أوجه : قرأ الكوفيون ونافع والحسن وابن محيصن (تَتْرا) بغير تنوين ، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر والأعرج (تَتْرا) منوّنة ويجوز (تَتْرا) بكسر التاء الأولى موضعها نصب على المصدر لأن معنى «ثم
أرسلنا» ثم واترنا ، ويجوز أن يكون موضع الحال أي مواترين. قال الأصمعي : واترت
كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا إلّا أن بين كلّ واحد منها وبين الآخر مهلة ، وقال
غيره من أهل اللغة : المواترة التتابع بلا مهلة. قال أبو جعفر : من قرأ تترى بلا
تنوين وجعلها فعلى مثل سكرى ، ومن نون جعل الألف للنصب كما تقول : رأيت زيدا يا
هذا ، والتاء في القراءتين جميعا مبدلة من واو كما يقال : تالله والله. وهو من
واترت واشتقاقه من الوتر
__________________
والوتر. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدّث بخبرهم ويتعجّب منه ويعتبر به (فَبُعْداً) مصدر أي أبعدهم الله جلّ وعزّ من ثواب الآخرة.
(وَآوَيْناهُما إِلى
رَبْوَةٍ) ويقال : بالكسر والفتح ، ويقال في معناها رباوة ، وقرأ بها ابن أبي إسحاق ويقال : رباوة ورباوة بالفتح والكسر. وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس رحمهالله. قال : نبئت أنها دمشق لأن قوله نبئت يدلّ على أنه توقيف.
(يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ) نعت لأي. (كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ) قال الحسن : أي من الحلال ويدلّ على هذا ما رواه أبو حازم
عن أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا وإنّ الله
أمر الأنبياء بما أمر به المؤمنين» فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢]
وقال : «يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات».
(وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) في هذا ثلاثة أوجه من القراءات : قرأ المدنيون وأبو عمرو (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) بفتح الهمزة ونصب أمة واحدة ، وقرأ الكوفيون بكسر الهمزة
ونصب أمة واحدة أيضا ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق (وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) برفع كلّ شيء ففي فتح الهمزة ثلاثة أقوال : فقول البصريين
أن المعنى :
ولأنّ وحذفت اللام
، وأن في موضع نصب ، وقول الكسائي وهو أحد قولي الفراء أنّ في موضع خفض نسقا على «ما تعملون» أي إني بما تعملون
عليم وبأنّ هذه أمتكم ، والقول الثالث قول الفراء : إنّها في موضع نصب على إضمار فعل ، والتقدير :
واعلموا أنّ هذه
أمتكم وكسر الهمزة عنده على الاستئناف ، وعند الكسائي أنها نسق على أني بما تعملون
عليم. (أُمَّةً واحِدَةً) نصب على الحال. والرفع من ثلاثة أوجه :
على إضمار مبتدأ ،
وعلى البدل ، وعلى خبر بعد خبر.
(فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) نصب على الحال ، والمعنى مثل زبر. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كلّ فريق يظنّ أنه على الحق ، فهو فرح بما هو عليه
وعليه أن يبيّن الحق لأنّه
__________________
ظاهر. وقيل : كلّ
حزب بما لديهم فرحون أي بما هم فيه من اللذات وطلب الرئاسة.
(فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ) أي فيما غطّى عليهم من حبّ الدنيا والتواني عن الموت وعن
أمر الآخرة. وقيل : في غمرتهم أي فيما غمرهم من الجهل. قال أبو إسحاق : (حَتَّى حِينٍ) إلى حين ما يأتيهم ما وعدوا به من العذاب.
(أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) «ما» بمعنى الذي ،
وفي خبر أن ثلاثة أقوال : منها أنه محذوف ، وقال أبو إسحاق : المعنى نسارع لهم به
، وحذفت به ، وقال هشام قولا دقيقا قال : «ما» هي الخيرات ، وليس في الكلام حذف ؛
لأن معنى في الخيرات فيه ، وهذا قول بعيد ومثله: إنّ زيدا تكلّم عمرو في زيد ،
والأجود تكلّم عمرو فيه ، وقد أجاز مثله سيبويه ، وأنشد : [الخفيف]
٣٠٥ ـ لا أرى
الموت يسبق الموت شيء
|
|
نغّص الموت ذا
الغنى والفقيرا
|
ومن قرأ يسارع لهم
في الخيرات ففي قراءته ثلاثة أوجه : أحدها على حذف به ، ويجوز أن يكون
التقدير يسارع الأمداد ، ويجوز أن يكون «لهم» اسم ما لم يسمّ فاعله.
خبر أن.
(أُولئِكَ يُسارِعُونَ
فِي الْخَيْراتِ) أي في عمل الخيرات أي الطاعات. قال أبو إسحاق : يسارعون
أبلغ من يسرعون. (وَهُمْ لَها
سابِقُونَ) أحسن ما قيل فيه أنهم يسبقون إلى أوقاتها ، ودلّ أنّ
الصلاة في أول الوقت أفضل ، وكلّ من تقدّم في شيء فقد سابق إليه ، وكلّ من تأخر
عنه فقد سبقه وفاته.
(وَلَدَيْنا كِتابٌ
يَنْطِقُ بِالْحَقِ) قيل : يعني به الكتاب الذي كتب فيه أعمال الخلق عند
الملائكة محتفظ به.
__________________
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هذا) قال أبو إسحاق : أي بل قلوبهم في عماية من هذا وقيل : بل
قلوبهم في غمرة من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق وأعمالهم فيه محصاة.
وهذه قراءة حسنة
مشاكلة لأول القصّة لأن في القصة ذكر نكوصهم على أعقابهم فيشبه هذا أنهم هجروا
النبي صلىاللهعليهوسلم والكتاب. وقال الكسائي : (تَهْجُرُونَ) تهذون. قال أبو جعفر : يقال : هجر المحموم إذا غلب على
عقله فهذي ، فيكون معنى الآية ـ والله أعلم ـ أنكم تتكلّمون في النبيّ صلىاللهعليهوسلم بما لا يضرّه وبما ليس فيه فأنتم كمن يهذي.
ويقال : ما زال
ذاك إهجيراه وهجيراه أي عادته كأنه يهذي به حتى صار له عادة.
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح ، فيقولون
الخير أحبّ إليك أم الشرّ ، أي قد اخترت الشرّ.
أهل التفسير مجاهد
وأبو صالح وغيرهما يقولون : «الحقّ» هاهنا الله جلّ وعزّ. وتقديره في العربية :
ولو اتّبع صاحب الحقّ ، وقد قيل : هو مجاز أي لو وافق الحقّ أهواءهم فجعل موافقته
اتّباعا مجازا أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله جلّ وعزّ ثم لا يعاقبون ولا
يجازون على ذلك إمّا عجزا وإمّا جهلا لفسدت السموات والأرض. وقيل : المعنى لو كان
الحقّ فيما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله لتنافست الآلهة وأراد بعضهم ما لا يريد
بعض فاضطرب التدبير ، وفسدت السموات والأرض ، وإذا فسدتا فسد من فيهما.
قال الأخفش :
الخرج واحد إلّا أنّ اختلاف الكلام أحسن. وقال أبو حاتم : الخرج الجعل والخراج
العطاء ، وقول محمد بن يزيد : الخرج المصدر ، والخراج الاسم ، والمعنى أم تسألهم
رزقا ، فرزق ربّك خير وهو خير الرازقين أي ليس أحد يرزق مثل رزقه ولا ينعم مثل
إنعامه.
أي إلى دين مستقيم
، والصراط في اللغة الطريق فسمّي الدين طريقا ؛ لأنه يؤدي إلى الجنة أي فهو طريق
إليها.
قيل : هل مثل
الأول أي عن الدين ، وقيل : إنهم عن طريق الجنة لعادلون حتى يصيروا إلى النار.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ
وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحنّاهم. (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ) قال السّدّي : أي في معصيتهم. (يَعْمَهُونَ). قال الأخفش : يترددون.
(وَلَقَدْ
أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قال الضحاك : أي بالجوع.
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) قال عكرمة : هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربعمائة
ألف ، سود وجوههم ؛ كالحدأ أنيابهم ، قد قلعت الرحمة من قلوبهم إذا بلغوه فتحه
الله عليهم.
قل ... لله وقل ...
الله قد ذكرناه بما لا يحتاج إلى زيادة.
(عالِمِ الْغَيْبِ) ، قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة على إضمار مبتدأ ، وقراءة
أبي عمرو (عالِمِ الْغَيْبِ) بالخفض على النعت لله جلّ وعزّ وأكثر النحويين الكوفيين
والبصريين يذهبون إلى أن الرفع أولى. فحجّة البصريين أنّ قبله رأس آية وقد تمّ
الكلام فالابتداء أحسن ، وحجّة الكوفيين منهم الفراء أن الرفع أولى قال : لأنه لو كان مخفوضا لكان بالواو فكان
يكون عالم الغيب وتعالى ، فلما كان «فتعالى» كان الرفع أولى.
قال أبو إسحاق :
ويجوز «ربّ» بضم الباء ، ويجوز «ربّي» بإسكان الياء وفتحها.
و «إنّ» هاهنا
للشرط و «ما» زائدة للتوكيد فلمّا زيدت «ما» حسن دخول النون للتوكيد ،
__________________
وجواب الشرط (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم.
(ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) قال الحسن البصري : والله لا يصيبها أحد حتّى يكظم غيظا
ويصبر على مكروه.
قال عبد الله بن
مسعود : وبعضهم يرفعه همزه الموتة. والموتة : ضرب من الجنون. وجمعت همزة وهي ساكنة
على همزات فرقا بين الاسم والنعت.
وقد يكون القول في
النفس قال جلّ وعزّ : (وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ) [المجادلة : ٨] فأمّا قوله : (ارْجِعُونِ) وهو يخاطب ربّه جلّ وعزّ ولم يقل : ارجعني ففيه قولان
للنّحويّين : أحدهما أنّ العرب تتعارف أن الجبار إذا أخبر عن نفسه قال :
لنفعلنّ ولنرجعنّ
فإذا خوطب كانت مخاطبته مخاطبة الجميع فيقال له : برّونا وأرجعونا فجاءت هذه الآية
بهذا ، والقول الآخر : إن معنى ارجعون على جهة التكرير ارجعن ارجعن ارجعن ، وهكذا
قال المازني في قوله جلّ وعزّ : (أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤] قال معناه
ألق ألق.
(وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ) البرزخ في اللغة كل حاجز بين شيئين فالبرزخ بين الدنيا
والآخرة كما روي أن رجلا قال بحضرة الشعبي : رحم الله فلانا قد صار من أهل الآخرة
قال : لم يصر من أهل الآخرة ولكن صار من أهل البرزخ ، وليس من الدنيا ولا من
الآخرة. وأضفت يوما إلى يبعثون لأنه ظرف زمان ، والمراد بالإضافة المصدر ، وقال
أبو إسحاق : حقيقته الحكاية.
في معناه قولان :
أحدهما قول ابن عباس : أنهم في وقت لا يتساءلون. ويوم في اللغة بمعنى وقت معروف.
والقول الآخر أبين من هذا : يكون معنى (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ) أنّهم لا يتفاخرون بالأنساب يوم القيامة ، ولا يتساءلون
بها كما كانوا في الدنيا يفعلون.
(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) ويقال : «تنفح» في معنا إلّا أن «تلفح» أبلغ بأسا. (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) ابتداء وخبر ، ويجوز النصب في غير القرآن على الحال.
والكالح في كلام العرب الذي قد تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه كما ترى رؤوس الغنم. وقد
جاء عن النبيصلىاللهعليهوسلم التوقيف بمعنى هذا قال : «تحرق واحدهم النار فتقلص شفته
العليا حتّى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته» .
(قالُوا رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون إلا
عاصما شقاوتنا وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال : شقا
وشقاء بالقصر والمدّ. وأحسن ما قيل في معناه والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها ،
كما قال جلّ وعزّ : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً) [النساء : ١٠] لأن
ذلك يؤديهم إلى النار (وَكُنَّا قَوْماً
ضالِّينَ) أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذارا منهم
إنّما هو إقرار ويدل على ذلك (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ).
(قالَ اخْسَؤُا فِيها) والمصدر خسء في اللازم والمتعدّي على فعل.
(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ
مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) قال مجاهد : هم بلال وخبّاب وصهيب وفلان وفلان من ضعفاء
المسلمين ، كان أبو جهل وأصحابه يهزئون بهم.
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا) بالكسر والضم. وفرق أبو عمرو بينهما فجعل المكسورة من جهة
التهزّؤ ، والمضمومة من جهة السّخرة. ولا يعرف هذا التفريق الخليل وسيبويه رحمهماالله ، ولا الكسائي ولا الفراء . قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد كما
__________________
يقال : عصيّ وعصيّ
، وقال محمد بن يزيد : إنّما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب ، فأما التأويل
فلا يكون. والكسر في «سخريّ» في المعنيين جميعا وفي عصيّ أكثر ؛ لأن الضمة تستثقل
في مثل هذا.
(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) وقل كم لبثتم معنيان مختلفان لا يجوز أن يقال أحدهما أجود
من الآخر (عَدَدَ سِنِينَ) بفتح النون على أنه جمع مسلم ، ومن العرب من يخفضها
وينوّنها.
(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وليس في هذا ما ينفي عذاب القبر لأنه لا بدّ من خمدة قبل
البعث.
(رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ) كمن نعت العرش لارتفاعه وأنّ الأيدي لا تناله.
(وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ) مبتدأ وخبره. والاسم عند البصريين «أن» والتاء للخطاب.
والاحتجاج لأبي
عمرو في تفريقه بين سخري وسخريّ أن يكون خبّر بمذهبه في القراءة فقط. فأمّا «لبتّم»
بالإدغام فلقرب التاء من الثاء ، وكذا فاتّختّموهم مدغم لقرب الذال من التاء ، ومن لم يدغم فيهما فلأن التاء
اسم فكأنها منفصلة والمخرجان مختلفان. وقال مجاهد : العادّون الملائكة لأنهم يحصون ذلك. وقرأ الأعمش عددا سنين ونصب عددا على البيان في القراءتين جميعا «وكم» في موضع
نصب بلبثتم.
__________________
٢٤
شرح إعراب سورة النور
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها) بمعنى هذه سورة ، وقرأ عيسى بن عمر (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) بالنصب بمعنى أنزلنا سورة. ويجوز أن يكون المعنى : اتل
سورة أنزلناها (وَفَرَضْناها) أي وفرضنا فيها من الحلال والحرام «وفرضناها» فيه ثلاثة
أقوال : قال أبو عمرو فصلناها ، وقيل : هو على التكثير لكثرة ما فيها من الفرائض ،
والقول الثالث قال الفراء : إنّه بمعنى فرضناها عليكم وعلى من بعدكم.
(الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وقرأ عيسى بن عمر (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) بالنصب. وهو اختيار الخليل وسيبويه رحمهماالله لأن الأمر بالفعل أولى ، وسائر النحويين على خلافهما ،
واستدلّ محمد بن يزيد على خلافهما بقول الله جلّ وعزّ :
(وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النساء : ١٦] ،
والحجة للرفع أنه ليس يقصد به اثنان ـ بأعيانهما ـ زنيا فينصب ، فلما كان مبهما
وجب الرفع فيه من ثلاثة أوجه : مذهب سيبويه أن المعنى : وفيما فرض عليكم الزانية
والزاني ، وقيل بما عاد عليه. (وَلا تَأْخُذْكُمْ
بِهِما رَأْفَةٌ) ورأفة لأن فعالة في الخصال كثير ، نحو القباحة ، وفعلة على
الأصل.
__________________
(الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قد ذكرنا معناه وأن الوجه فيه أن يكون منسوخا وحرّم ذلك أن
ينكح الرجل زانية والمرأة زانيا.
وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وفيه ثلاثة أوجه : يكون «شهداء» في موضع جرّ على النعت
لأربعة ، ويكون في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء. والوجه الثالث أن
يكون حالا من النكرة. (وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) في موضع نصب على الاستثناء ، ويجوز أن يكون في موضع خفض
على البدل. والمعنى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا.
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) على البدل والنصب على الاستثناء وعلى خبر يكون (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهاداتٍ بِاللهِ) بالنصب قراءة أهل المدينة وأبي عمرو ، وقراءة الكوفيين (أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) بالرفع على الابتداء ، والخبر : أي فشهادة أحدهم التي تزيل
عنه حدّ القاذف أربع شهادات ، كما تقول : صلاة الظهر أربع ركعات ، والنصب لأن معنى
شهادة أن شهد ، فالتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات ، أو فالأمر أن يشهد
أحدهم أربع شهادات.
(وَالْخامِسَةُ) رفع بالابتداء ، والخبر «أنّ» وصلتها ومعنى المخفّفة كمعنى
الثقيلة ؛ لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة (والخامسة أنّ) بالنصب بمعنى ويشهد الشهادة الخامسة.
__________________
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ) رفع بالابتداء عند سيبويه ، والخبر محذوف ولا يظهره العرب (وَرَحْمَتُهُ) عطف عليه. (وَأَنَّ اللهَ
تَوَّابٌ حَكِيمٌ) عطف عليه أيضا. وحذف جواب لو لا لأنه قد ذكر مثله بعد. قال
الله : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ)
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ) اسم إنّ. (عُصْبَةٌ) خبرها ، ويجوز النصب في «عصبة» على الحال ، ويكون الخبر (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ
مِنَ الْإِثْمِ) وقرأ حميد الأعرج ويعقوب (وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ) بضم الكاف. قال الفراء : وهو وجه جيد لأن العرب تقول :
فلان أولى عظم كذا
وكذا أي أكثره. قال أبو جعفر : والذي جاء به لا حجّة فيه لأنه قد يكون الشيء بمعنى
الشيء ، والحركة فيها مختلفة. والأشهر في كلام العرب في مثل هذا الكبر والكبر في
النسب ويقال : الولاء للكبر.
(لَوْ لا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) أي بإخوانهم. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ
مُبِينٌ) فأوجب الله جلّ وعزّ على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف
أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ، ويكذّبوه ، وتواعد من ترك ذلك
ومن نقله.
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ) والأصل تتلقونه أي يأخذه بعضكم عن بعض ، ويقبله بعضكم من
بعض ، ومثله (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] وعن
عائشة رضي الله عنها أنها قرأت (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) وإسناده صحيح ، ولا يعرف له مخرج إلّا من حديث ابن عمر
الجمحي والمعنيان صحيحان لأنهم قد تلقّوه وو لقوه. والأصل : تولقونه فحذفت الواو
اتباعا ليلق ، يقال : ولق يلق إذا أسرع في الكذب ، واشتقاقه من الولق ، وهو الخفّة
والسرعة.
__________________
(يَعِظُكُمُ اللهُ
أَنْ تَعُودُوا) في موضع نصب.
فتواعدهم الله جلّ
وعزّ على إرادة الفسق أي إذاعة الفاحشة في الذين آمنوا (وَاللهُ يَعْلَمُ) أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ، ويعلم كل
شيء.
هو من ذوات الواو
وإن كان قد كتب بالياء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رحمهالله في قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) قال : ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء ينفع به نفسه أو ينفي
به ما يدفعه عن نفسه.
(وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) حذفت الياء للجزم ، قرأ يزيد بن القعقاع وزيد بن أسلم. ولا
يتألّ أولوا الفضل حذفت الألف للجزم. والمعنى واحد ، كما تقول : فلان يتكسّب
ويكتسب.
من أحسن ما قيل في
هذا أنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ، والتقدير : الذين يرمون الأنفس
المحصنات فدخل في هذا المذكّر والمؤنّث. وكذا : في الذين يرمون ، إلّا أنه غلّب
المذكّر على المؤنّث.
وقرأ مجاهد (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ
دِينَهُمُ الْحَقَ) يرفع الحقّ على أنه نعت لله جلّ وعزّ. قال أبو عبيد : ولو
لا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ، ليكون نعتا لله جلّ
__________________
وعزّ ، ويكون
موافقا لقراءة أبيّ ، وذلك أن جرير بن حازم قال : رأيت في مصحف أبيّ ليوفيهم الله
الحقّ دينهم وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضيّ لأنه احتجّ لما هو
مخالف للسواد الأعظم ، ولا حجة فيه أيضا لأنه لو صحّ هذا أنّ في مصحف أبيّ كذلك
جاز أن تكون القراءة : يومئذ يوفّيهم الله الحقّ دينهم يكون دينهم بدلا من الحق
على أن قراءة العامة (دِينَهُمُ الْحَقَ) يكون «الحقّ» نعتا لدينهم والمعنى حسن لأنّ الله جل وعز قد
ذكر المسيئين فاعلم أنه يجازيهم بالحق ، كما قال جلّ وعزّ : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] لأن
مجازاة الله جلّ وعزّ للكافر والمسيء بالحقّ والعدل ، ومجازاته للمحسنين بالفضل
والإحسان.
(الْخَبِيثاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) قد ذكرنا فيه أقوالا : فمن أحسن ما قيل فيه :
أنّ المعنى الزناة
للزناة على ما كان التعبّد مبرئا.
(لا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) قال عكرمة : أي حتى تستأذنوا وحقيقته في اللّغة تستعملوا
مشتقّ من آنست الشيء أي استعملته. (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ) أي من الدخول بغير استئذان لما فيه من التّهمة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تنتبهون على ما لكم فيه الصّلاح.
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) «من» هاهنا لبيان
الجنس وكذا (يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَ)
__________________
وظهر التضعيف في الثاني
، لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة وهما في موضع جزم جوابا. والتقدير
عند المازني : قل للمؤمنين غضّوا يغضّوا (وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ) قال أبو العالية : أي حتى لا يراها أحد ، وقال غيره :
فحرّم الله على المسلمين أيضا أن يدخلوا حمّاما بغير مئزر ، وأجمع المسلمون على أن
السوأتين عورة من الرجل ، وأن المرأة كلّها عورة إلّا وجهها ويديها فإنّهم اختلفوا
فيهما ، وقال أكثر العلماء في الرجل : من سرته إلى ركبته عورة لا يجوز أن ترى. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) اسم إن وخبرها. (وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) ويجوز وليضربن بكسر اللام وهو الأصل وحذفت الكسرة لثقلها.
ويضربن في موضع جزم بالأمر إلّا أنه مبنيّ على حال وحدة اتباعا للماضي عند سيبويه.
والمعنى : وليلصقن خمرهنّ وهنّ المقانع على جيوبهنّ لئلا تبدو صدورهنّ أو
أعناقهنّ. والصحيح من قراءة الكوفيين (عَلى جُيُوبِهِنَ) كما يقرءون (بُيُوتاً) والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ، ويقولون : بيت
وبيوت كفلس وفلوس. وقال أبو إسحاق : هي تجوز على أن تبدل من الضمة كسرة. فأما ما
روي عن حمزة من الجمع بين الضمّ والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلّا على
الإيماء إلى ما لا يجوز. (أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) وقرأ يزيد بن القعقاع وعاصم وابن عامر أو التابعين غير بنصب غير على الاستثناء. قال أبو حاتم : على الحال والخفض
على النعت ، وإن كان الأول معرفة لأنه ليس بمقصود قصده ، وإن شئت قلت : هو بدل
ونظيره (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] في
الخفض والنصب جميعا (أَوِ الطِّفْلِ) بمعنى الأطفال ، والدليل على ذلك نعته بالذين (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى
عَوْراتِ) وحكى الفراء أنّ لغة قيس «عورات» بفتح الواو ، وهذا هو القياس
لأنه ليس بنعت ، كما تقول : جفنة وجفنات إلّا أن التسكين أجود في عورات وما أشبهه
لأن الواو إذا تحرّكت وتحرّك ما قبلها قلبت ألفا ، ولو فعل هذا لذهب المعنى وحكى
الكسائي (أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ) بضم الهاء وهذه لغة شاذّة لا وجه لها لأن ها للتنبيه.
(وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) جمع أيّم والأيّم عند أهل اللغة من لا زوج لها كانت بكرا
أم ثيّبا. حكى ذلك أبو عمرو بن العلاء والكسائي وغيرهما. وذلك بيّن في قوله جلّ
وعزّ : (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) فلم يبح ثيّبا دون بكر. وحديث النبيّ صلىاللهعليهوسلم «الأيّم أحقّ
__________________
بنفسها» من هذا بعينه. وجمع أيّم أيامى وأيايم وإيام مثل جيّد
وجياد ، وجمع أمة في التكسير إماء وآم ، وفي النصب رأيت آميا وإموان مثل أخ وإخوان
، لأن الأصل في أمة أموة وفي المسلّم أموات. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان
يقول : حكى هشام أميات. قال : وهذا خطأ لأنها من ذوات الواو. وقرأ الحسن
والصّالحين من عبيدكم و «عبيد» اسم
للجمع ، وليس بجمع مستتبّ ، والجمع المستتبّ أعبد وعباد ، ونظير عبيد في أنه اسم
للجمع قولهم : معبوداء وعبدّى. قال الفراء : ويجوز والصالحين من عبادكم وإماءكم بالنصب يردّه على
الصّالحين. (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) شرط وجوابه. قيل : يغنهم بالتزويج وهذا صحيح في اللغة لأن
فقيرا إنما يعرف بالإضافة فيقال : فقير إلى الطّعام ، وفقير إلى اللباس ، وفقير
إلى التزويج.
(وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) في موضع رفع بالابتداء وفي موضع نصب عند الخليل وسيبويه
على إضمار فعلا لأن بعده أمرا.
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبتدأ وخبره. وتقديره : الله ذو نور السّموات والأرض مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها
مِصْباحٌ) مبتدأ وخبره أيضا.
وقد ذكرنا معناه ،
وقد روى شمر بن عطية عن كعب في قول الله جلّ وعزّ (مَثَلُ نُورِهِ)
__________________
قال : نوره محمد صلىاللهعليهوسلم. قال أبو جعفر : لأن محمدا صلىاللهعليهوسلم في تبيانه للناس بمنزلة النور الذي يضيء لهم. قال كعب : (كَمِشْكاةٍ) ، ككوّة فيها مصباح قال : (الْمِصْباحُ) قلب محمد صلىاللهعليهوسلم (فِي زُجاجَةٍ) قال : (الزُّجاجَةُ) صدره (كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌ) لصدره ثم رجع إلى المصباح الذي هو في القلب فقال : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ
زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال لم تصبها شمس المشرق ولا شمس المغرب. (شَرْقِيَّةٍ) نعت لزيتونة. (وَلا) ليست تحول بين النعت والمنعوت (وَلا غَرْبِيَّةٍ) عطف. (يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ) قال كعب :
يكاد محمد صلىاللهعليهوسلم يستبين لمن يراه أنّه نبيّ وإن لم ينطق لما جعل عليه صلىاللهعليهوسلم من الدلائل ، كما يكاد هذا الزيت يضيء ولو لم تمسّه نار.
وقد قرئ دري على أربعة أوجه :
قرأ الحسن وأهل
الحرمين (كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌ) بضم الدال وتشديد الياء إلّا أن سعيد ابن المسيّب قرأ هو
وأبو رجاء العطارديّ ونصر بن عاصم وقتادة (كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌ) بفتح الدال وتشديد الياء وقرأ أبو عمرو والكسائي كأنّها
كوكب درء بكسر الدال والهمز ، وقرأ حمزة كأنّها كوكب درّيء بضم الدال والهمز. فهذه
أربع قراءات ، وحكى الفراء أنّه يقال : درّي بكسر الدال وتشديد الياء بغير همز. قال
أبو جعفر :
القراءة الأولى
بيّنة نسب الكوكب إلى الدّرّ. فإن قال قائل : فالكوكب نورا من الدّرّ قيل له: إنما
المعنى أنّ هذا الكوكب فضله على الكواكب كفضل الدّرّ على سائر الحبّ.
والقراءة الثانية
بهذا المعنى فأبدل من الضمّة فتحة لأن النسب باب تغيير. والقراءة الثالثة أبي عمرو
والكسائي ضعّفها أبو عبيد تضعيفا شديدا لأنه تأولها من درأت أي دفعت أي كوكب يجري
من الأفق إلى الأفق فإن كان التأويل على ما تأوّله لم يكن في الكلام فائدة ولا كان
لهذا الكوكب مزيّة على أكثر الكواكب. ألا ترى أنّه لا يقال : جاءني إنسان من بني
آدم ، ولا ينبغي أن يتأوّل لمثل أبي عمرو والكسائي رحمهماالله مع محلّهما وجلالهما هذا التأويل البعيد ، ولكن التأويل
لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك كوكب مندفع بالنور كما يقال :
اندرأ الحريق ، أي اندفع ، وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى الأخفش سعيد بن
مسعدة أنه يقال : درأ الكوكب بضوئه إذا امتدّ ضوءه وعلا. فأما قراءة حمزة فأهل
اللغة جميعا إلا أقلّهم يقولون : هي لحن لا يجوز لأنه ليس في كلام العرب اسم على
فعّيل ، وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال : ليس هو فعّل إنما هو فعّول
مثل سبّوح أبدل من الواو ياء كما قالوا : عتيّ. قال أبو جعفر وهذا الاعتراض
والاحتجاج من أعظم الغلط وأشدّه
__________________
لأن هذا لا يجوز
البتّة ، ولو جاز ما قال لقيل في سبّوح : سبّيح ، وهذا لا يقوله أحد.
وليس عتيّ من هذا
، والفرق بينهما واضح بيّن لأنه ليس يخلو عتيّ من إحدى جهتين :
إما أن يكون جمع
عات فيكون البدل فيه لازما لأن الجمع باب تغيير والواو لا تكون ظرفا في الأسماء
وقبلها ضمة ، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل
من الضم كسرة وقلبت الواو ياء ، وإن كان عتى واحدا كان بالواو أولى وكان قبلها
لأنها طرف والواو في فعول ليست طرفا ولا يجوز قلبها. ومن احتجّ لحمزة بشيء مشبه
قال : قد جاء مرّيق وهو فعّيل ، والحق في هذا أن مرّيقا عجميّ ، والذي حكى الفراء
ـ من كسر الدال جائز على أن تبدل من الضمة كسرة.
(يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قرئ على أربعة أوجه : قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي ومجاهد وأبو جعفر وأبو
عمرو بن العلاء توقّد من شجرة بفتح الدال يجعله فعلا ماضيا ، وقرأ شيبة ونافع (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعا للمصباح ، وهو
أشبه بهذا الوصف لأنه الذي يبين ويضيء ، وإنما الزجاجة وعاء له ، فتوقّد فعل ماض
من توقّد يتوقّد ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد ، وقرأ نصر ابن عاصم توقّد والأصل
على قراءته تتوقّد وحذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدلّ عليها. وقرأ الكوفيون توقد وهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) على تأنيث النار ، وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلّا هذه
القراءة. وحكى أبو حاتم أنّ السّديّ روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ ولو لم
يمسسه نار بالياء.
قال محمد بن يزيد
: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي ، وكذا سبيل الموات عنده.
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) قد ذكرناه . وقيل المعنى صلّوا في بيوت. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) ، وكذا يروى عن الحسن ، وقد ذكر سيبويه مثل هذا ، وأنشد : [الطويل]
٣٠٦ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة
والتقدير : يسبّح
له فيها رجال على إضمار هذا الفعل ؛ لأنه لما قال : يسبّح دلّ
__________________
على أن ثمّ
مسبّحين وعلى هذا تقول : ضرب زيد عمرو. ولمّا أن قلت : ضرب زيد.
دلّ على أنّ له
ضاربا فذكرته وأضمرت له فعلا.
(وَإِقامِ الصَّلاةِ) ويقال : أقام الصلاة إقامة ، والأصل إقوامة فقلبت حركة
الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف وهما ساكنتان فحذفت إحداهما وأثبت
الهاء لئلّا تحذفها فيجحف فلما أضفت قام المضاف إليه مقام الهاء فجاز حذفها ، فإن
لم تضف لم يجز حذفها ، ألا ترى أنك تقول : وعد عدة ، فلا يجوز حذف الهاء لأنك قد
حذفت واوا لأن الأصل وعدة فإن أضفت جاز حذف الهاء ، وأنشد الفراء : [البسيط]
٣٠٧ ـ إنّ
الخليط أجدّوا البين فانجردوا
|
|
وأخلفوك عد
الأمر الّذي وعدوا
|
يريد عدة فحذف
الهاء لمّا أضاف. (يَخافُونَ يَوْماً
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) قد ذكرناه. وقيل : معناه تتقلّب قلوب الفجّار على النار ،
وقيل تتقلّب أي تنضج مرّة وتلفحها النار مرة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ابتداء (أَعْمالُهُمْ) ابتداء ثان ، ويجوز أن يكون بدلا من الذين ويكون الخبر (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ ماءً) فإن خففت الهمزة قلت الظّمآن.
(ظُلُماتٌ) على إضمار مبتدأ ومن قرأ ظلمات جعلها بدلا من ظلمات الأولى ، ويقال : «ظلمات» لخفّة
الفتحة و «ظلمات» لنقل الضمة.
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). تأوّله أبو إسحاق على أنه في الدّنيا أي من لم يجعل الله
له هداية إلى الإسلام لم يهتد ، وتأوله غيره على أنه في الآخرة أي من لم يجعل الله
له نورا في القيامة لم يهتد إلى الجنّة.
__________________
عطفا على «من».
قال أبو إسحاق : ويجوز «والطير» بمعنى مع الطير ، ولم يقرأ به. قال أبو جعفر :
وسمعته يجيز قمت وزيدا ، بمعنى مع زيد. قال : وهو أجود من الرفع. قال : فإن قلت :
قمت أنا وزيد ، كان الأجود الرفع ، ويجوز النصب. (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) يجوز أن يكون المعنى : كلّ قد علم الله صلاته وتسبيحه. ومن
هذه الجهة يجوز نصب كلّ عند البصريين والكوفيين. قال أبو إسحاق : والصلاة للناس
والتسبيح لغيرهم ولهم ، ويجوز أن يكون المعنى : كلّ قد علم صلاة نفسه وتسبيحه.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يقال : «بين» لا يقع إلّا لاثنين فصاعدا فكيف جاء بينه؟
فالجواب أن بينه هاهنا لجماعة السحاب ، كما تقول : الشجر حسن ، وقد جلست بينه.
وفيه قول آخر : وهو ، أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال : بينه لأنه مشتمل على
قطع كثيرة كما قال الشاعر : [الطويل]
٣٠٨ ـ قفا نبك
من ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللّوى بين
الدّخول فحومل
|
فأوقع بينا على
الدخول وهو واحد لاشتماله على مواضع. هذا قول النحويين ، إلا الأصمعي فإنه زعم أن
هذا لا يجوز وكان يرويه «بين الدّخول وحومل» ، قرأ ابن عباس والضحاك (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) وخلل : واحد خلال مثل جمل وجمال ، وهو واحد يدلّ على جمع. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ
فِيها مِنْ بَرَدٍ) من قال : إنّ المعنى من جبال برد فيها ، فبرد عنده في موضع
خفض هكذا يقول الفراء ، كما تقول : الإنسان من لحم ودم ، والإنسان لحم ودم ،
ويجب أن يكون على قوله : المعنى من جبال برد فيها بتنوين الجبال ، لأنه قال:
الجبال هي البرد. فأما على قول البصريين
__________________
فيكون من برد في
موضع نصب ، ويجوز الخفض كما تقول : مررت بخاتم حديدا وبخاتم حديد ، الخفض على
البدل والنصب عند سيبويه على الحال ، وعند أبي العبّاس على البيان.
ومن قال : المعنى
من مقدار جبال فمن برد عنده في موضع نصب لا غير. قال الفراء :
كما تقول عندي
بيتان تبنا ، ومثله عنده (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ
صِياماً) [المائدة : ٩٥].
ومن قال :
إنّ «من» زائدة
فيهما فهما عنده في موضع نصب لا غير. وقرأ أبو جعفر : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ
بِالْأَبْصارِ) بضم الياء ، وزعم أبو حاتم أن هذا لحن ، وهو قول أستاذه
الأخفش يقول : دخل بالمدخل ولا يجيز هاهنا أدخل ، ويزعم أن الباء تعاقب الألف ،
وهذا هو القول البين. فأما أن يكون خطأ لا يجوز ولا يحمل عليه فقد زعم جماعة أن
الباء تزاد واحتجوا بقول الله جلّ وعزّ : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [الحجّ : ٢٥] وإن
كان غير هذا القول أولى منه ، وهو ما حكاه لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد. قال
: تكون الباء متعلقة بالمصدر إذ كان الفعل دالا عليه ومأخوذا منه فعلى هذا يكون
التقدير ذهابه بالأبصار أو إذهابه وكذا : أدخل بالمدخل السّجن الدار ، جائز على
هذا.
(يُقَلِّبُ اللهُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) مجاز أي يقلب هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فإذا زال أحدهما
ودخل الآخر كان بمنزلة ما قلب إليه.
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم وسائر الكوفيين يقرءون
خالق كلّ دابّة والمعنيان صحيحان. أخبر الله جلّ وعزّ بخبرين ولا ينبغي أن
يقال في هذا أحد القراءتين أصحّ من الأخرى لأنهما يدلّان على معنيين ، ولكن إن قال
قائل : «خلق» في هذا أكثر لأنه ليس بشيء مخصوص ، وإنما يقال : خالق على العموم ،
كما قال جلّ وعزّ : (الْخالِقُ الْبارِئُ
الْمُصَوِّرُ) [الحشر : ٢٤] وفي
الخصوص (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] ،
وكذا (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأعراف : ١٨٩]
فكذا يجب (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ). والدابّة كلّ ما دبّ على الأرض من الحيوان يقال : دبّ ،
وهو داب ، والهاء للمبالغة. وقيل : يعني بالماء هاهنا المنيّ كما قال : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] وقيل
: لمّا كان خلق الأرض
__________________
من ماء جاء هذا
هكذا. وقيل : أصل خلق النار والنور من الماء. (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) ومن مشى على أكثر من أربع فهو يمشي على أربع ، وغلب ما
يعقل لمّا اجتمع مع ما لا يعقل ؛ لأنه المخاطب والمتعبّد.
(مُذْعِنِينَ) في موضع الحال.
(أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا) فأنكر الله عليهم ذلك لما أظهر من البراهين فقال : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وقرأ الحسن (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) جعله اسم كان والخبر (أَنْ يَقُولُوا).
(قُلْ لا تُقْسِمُوا) نهاهم عن الحلف لأنّ عزمهم كان على غير ذلك فهم آثمون إذا
حلفوا. (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) على إضمار لتكن طاعة ، ويجوز أن يكون المعنى : طاعة أولى
بكم.
قال أبو إسحاق :
يجوز طاعة بالنصب يعني على المصدر.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) في موضع جزم بالشرط ، والأصل تتولّوا فحذفت إحدى التاءين
لدلالة الأخرى ، وحذفت النون للجزم ، والجواب في الفاء وما بعدها.
فكان في هذه الآية
دلالة عن نبوّة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأن الله أنجز ذلك الوعد ، وكان
__________________
فيها دلالة على
خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ؛ لأنه لم يستخلف أحدا ممّن
خوطب بهذه الآية غيرهم ؛ لأن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة.
وعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الخلافة بعدي ثلاثون» هذا للآية (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وعاصم يقرأ : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) مخففا ، وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال :
قرأ عاصم والأعمش
: (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) مشددة ، وهذا غلط على عاصم وقد ذكرنا بعده غلطا أشدّ منه ،
وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال أبو جعفر : زعم أحمد بن يحيى أن بين
التخفيف والتثقيل فرقا وأنّه يقال : بدلته أي غيرته وأبدلته أنزلته ، وجعلت غيره.
قال أبو جعفر : وهذا القول صحيح ، كما تقول : أبدل لي هذا الدرهم ، أي أزله وأعطني
غيره ، وتقول : قد بدّلت بعدنا أي غيرت غير أنه قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر ،
والذي ذكر أكثر (يَعْبُدُونَنِي) في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون مستأنفا في موضع
رفع.
(لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) مفعولان ، وقرأ حمزة لا يحسبنّ
الذين كفروا
معجزين في الأرض قال أبو جعفر : وما علمت أحدا من أهل العربيّة واللغة
بصريا ولا كوفيّا وإلّا وهو يحظر أن تقرأ هذه القراءة. فمنهم من يقول هي لحن لأنه
لم يأت إلّا بمفعول واحد ليحسبن ، وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء : هو ضعيف وأجازه على ضعفه على أنه يحذف المفعول الأول.
والمعنى عنده : لا يحسبنّ الذين كفروا إيّاهم معجزين في الأرض ، ومعناه لا يحسبنّ
أنفسهم معجزين في الأرض.
ورأيت أبا إسحاق
يذهب إلى هذا القول أعني قول الفراء وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة :
ويكون «الذي» في موضع نصب قال : ويكون المعنى : لا يحسبنّ الكافر الذين كفروا
معجزين في الأرض.
__________________
وقرأ الحسن (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) بإسكان اللام لثقل الضمة. وقرأ المدنيون وأبو عمرو (ثَلاثُ عَوْراتٍ) بالرفع ، وقرأ الكوفيون (ثلاث عورات) بالنصب ، والقول في هذا قريب من القول في يحسبنّ. قال أبو
حاتم : النصب ضعيف مردود. قال الفراء : الرفع أحبّ إليّ. قال : وإنّما اخترت الرفع لأن المعنى
هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء ، والخبر عنده ما بعده. ولم يقل
بالعائد ، وقال نصا بالابتداء. قال : العورات الساعات التي تكون فيها العورة
والخلوة إلا أنه قرأ بالنصب والنصب فيه قولان : أحدهما أنه مردود على قوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ولهذا استبعده الفراء. قال أبو إسحاق : المعنى ليستأذنكم
أوقات ثلاث عورات (طَوَّافُونَ) بمعنى هم طوافون.
قال الفراء : كقولك في الكلام : إنّما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء نصب طوافون لأنه نكرة والمضمر في عليكم معرفة ، ولا يجيز
البصريون أن يكون حالا من المضمر من الذين في «عليكم» وفي «بعضكم» لاختلاف
العاملين. لا يجوز مررت بزيد ، ونزلت على عمرو العاقلين ، على النعت لهما. (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) لله بإضمار فعل أي يطوف بعضكم على بعض (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ) الكاف في موضع نصب أي يبيّن الله لكم آياته الدالّة على
وحدانيته. تبيانا مثل ما بيّن لكم هذه الأشياء.
وقرأ الحسن الحلم حذف الضمة لثقلها. (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) أي فليستأذنوا في كلّ الأوقات ، ولم يقل : فليستأذنوكم ،
وقال في الأول : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبّدين ...
(وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ) جمع قاعد بحذف الهاء. وفيه ثلاثة أقوال : مذهب البصريين
أنه على النسب ، ومذهب الكوفيين أنه لمّا كان لا يقع إلّا للمؤنّث لم يحتج فيه إلى
الهاء ، والقول الثالث أنه جاء بغير هاء تفريقا بينه وبين القاعدة بمعنى الجالسة (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) على الحال ، أي لا يردن أن يظهرن زينتهنّ للرجال.
__________________
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ) اسم ليس وقد ذكرناه. ومن حسن ما قيل فيه أنه في الجهاد.
فأما معنى (وَلا عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) إلى آخر الآية. ففيه ثلاثة أقوال : منها أنه إنما يجوز ذلك
بعد الإذن ، ومنها أنه قد كان علم أنهم لا يبخلون عليهم بهذا. والقول الثالث أن
الآية منسوخة وأنّ هذا كان أول ، فلمّا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ دماءكم وأموالكم حرام إلّا بإذن ، وحرمة مال المسلم
كحرمة دمه» فوجب من هذا أنّه لا يحلّ لأحد شيء من مال أحد إلّا بإذن
أو ما أجمع عليه المسلمون عند خوفه على هلاك نفسه. وقد قيل : إنّ الآية منسوخة
بقوله جلّ وعزّ : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) [النور : ٢٧] فإذا
كان لا يدخل إلّا بإذن فهو من الطعام أبعد ، وقال جلّ وعزّ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣]
ولو لم يكن في نسخ الآية إلّا الحديث الذي رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبيّ
صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يحتلبنّ أحدكم ماشية أخيه إلّا بإذنه أيحبّ
أحدكم أن يؤتى إلى مشربته فتفتح خزانته فيوخذ طعامه لكان كافيا» . وقرأ قتادة مفتاحه
وهي لغة ومفتح
أكثر في كلام العرب يدلّك على ذلك جمعه على مفاتح. (أَنْ تَأْكُلُوا
جَمِيعاً) نصب على الحال. (تَحِيَّةً) مصدر. قال أبو إسحاق : لأن معنى (فَسَلِّمُوا) فحيّوا ، وأجاز الكسائي والفراء رفع تحيّة بمعنى هي تحيّة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) لأن الله أمر بها (مُبارَكَةً طَيِّبَةً) لأن سامعها يستطيب سمعها.
__________________
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) مبتدأ وخبره (وَإِذا كانُوا مَعَهُ
عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي ما يحتاج فيه إلا الاجتماع من الحرب وغيرها (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) لأنه قد يحتاج إلى حضورهم.
(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ) الكاف في موضع نصب مفعول ثان. (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) مصدر ، ويجوز أن يكون في موضع الحال أي ملاوذين. قال أبو
إسحاق : أي مخالفين وحقيقته أنّ بعضهم يلوذ ببعض أي يستتر به لئلا يرى. يقال :
لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا ، ولاذ يلوذ لوذا ولياذا تقلب الواو ياء لانكسار ما
قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال ، فإذا كان مصدر فاعل لم يعلّ لأن فاعل لا يجوز أن
يعلّ (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) «أن» في موضع نصب
بيحذر ، ولا يجوز عند أكثر النحويين : حذر زيدا ، وهو في أن جائز لأن حروف الخفض
تحذف معها (عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ) مبتدأ وخبره.
٢٥
شرح إعراب سورة الفرقان
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(تَبارَكَ) قد تكلّم أهل اللغة في معناه ، فقال الفراء : هي في العربية وتقدس واحد ، وهما للعظمة ، وقال أبو
إسحاق ؛ تفاعل من البركة. قال : ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير ، وقيل : تبارك
تعالى ، وقيل : المعنى تعالى عطاؤه أي زاد وكثر ، وقيل : المعنى دام وثبت أنعامه.
وهذا أولاها في اللغة ، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت ، ومنه برك الجمل. فأما
القول الأول فمخلّط لأن التقدير إنما هو من الطهارة ، وليس من ذا في شيء (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) في موضع رفع بفعله. والفرقان القرآن ؛ لأنه فرق بين الحقّ
والباطل ، والمؤمن والكافر (عَلى عَبْدِهِ) ليكون إليه ، ويجوز أن يكون يعود على الفرقان. ويقال :
أنذر إذا خوّف ، ونذير على التكثير.
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في موضع رفع نعتا أو بدلا من الذي قبله.
قال أبو إسحاق : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً) أي بظلم ، وقال غيره فقد آتوا ظلما وزورا.
(وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) على إضمار مبتدأ أي وقالوا الذي أتيت به أساطير الأولين.
قال أبو إسحاق ؛ واحدها اسطورة مثل أحدوثة وأحاديث ، وقال غيره : أساطير جمع أسطار
مثل أقوال وأقاويل. وروي عن ابن عباس رحمهالله أن الذي قال هذا النّضر بن الحارث ، وكذا كلّ ما كان في
القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن
__________________
إسحاق فكان مؤذيا
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم (اكْتَتَبَها فَهِيَ
تُمْلى عَلَيْهِ) على لغة من قال : أملى ، ومن قال: أملّ قال تملّ عليه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً).
(وَقالُوا ما لِهذَا
الرَّسُولِ) قال أبو إسحاق : «ما» منفصلة. والمعنى أيّ شيء لهذا الرسول
في حال مشيه وأكله؟ (لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ) أي هلّا (فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيراً) جواب الاستفهام.
(أَوْ يُلْقى) في موضع رفع ، والمعنى أو هلّا يلقى إليه كنز أو هلّا (تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون (نَأْكُلَ مِنْها) بالنون. والقراءتان حسنتان تؤدّيان عن معنيين ، وإن كانت
القراءة بالياء أبين لأنه قد تقدّم ذكر النبيّ صلىاللهعليهوسلم وحده فأن يعود
الضمير إليه أبين.
(انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك (فَضَلُّوا) عن سبيل الحقّ وعن بلوغ ما أرادوا (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي إلى تصحيح ما قالوا فيك.
(تَبارَكَ الَّذِي
إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) شرط ومجازاة ، ولم يدغم لأن الكلمتين منفصلتان ، ويجوز
الإدغام لاجتماع المثلين (وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُوراً) يكون في موضع جزم عطفا على موضع «جعل» ، ويجوز أن يكون في
موضع رفع معطوفا على الأولين ثم يدغم ، وأجاز الفراء النصب على الصرف. وقرأ أهل الشام ويروى عن عاصم أيضا (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) بالرفع أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا.
__________________
قال أبو إسحاق : (ثُبُوراً) نصبه على المصدر أي ثبرنا ثبورا ، وقال غيره : هو مفعول به
أي دعوا الثبور ، كما يقال : يا عجباه أي هذا من أوقاتك فاحضر ، وهذا أبلغ من
تعجّبت.
أي بلاؤكم أعظم من
أن تدعوا الثبور مرة واحدة ولكن يدعونه مرارا كثيرة ، ولم يجمع الثبور لأنه مصدر.
كما حكى سيبويه عن العرب : الشّقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ وقد علم أن
السعادة أحبّ إليه ، وقيل : هذا للتنبيه ، وقيل : المعنى : أذلك خير على غير تأويل
من ، كما يقال : عنده خير. وهذا قول حسن ، كما قال : [الوافر]
٣٠٩ ـ فشرّكما لخيركما الفداء
وفي الآية قول
ثالث وهو أن الكوفيين يجيزون : العسل أحلى من الخل ، وهذا قول مردود ؛ لأنّ معنى :
فلان خير من فلان ، أنّه أكثر خيرا منه ، ولا حلاوة في الخلّ ولا يجوز أن تقول :
النصرانيّ خير من اليهوديّ ؛ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير من
الآخر ، ولكن يقال : اليهوديّ شرّ من النصرانيّ ، فعلى هذا كلام العرب.
وقرأ الحسن وأبو
جعفر أن نتّخذ بضم النون. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون ، وأجمعوا
على أن فتح النون أولى ، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر لا يجوز (نتّخذ)
قال أبو عمرو : لو كانت «نتّخذ» لحذفت (من) الثانية ، فقلت : أن نتّخذ من دونك
أولياء ، ومثل أبي عمرو على جلالته ومحلّه يستحسن منه هذا القول : لأنه جاء بعلّة
بيّنة. وشرح ما قال إنه يقال : ما اتّخذت رجلا وليّا ، فيجوز أن يقع هذا لواحد
__________________
بعينه ثم يقال :
ما اتخذت من رجل وليّا ، فيكون نفيا عاما ، وقولك : وليّا تابع لما قبله فلا يجوز
أن يدخل فيه من لأنه لا فائدة في ذلك ، وحكى الفراء عن العرب أنهم لا يقولون : ما رأيت عبد الله من رجل ، غير
أنه أبطل هذا ، وترك ما روى عن العرب ، وأجاز ذلك من قبل نفسه فقال : ولو أرادوا
ما رأيت من رجل عبد الله لجاز إدخال من تتأوّل القلب. قال أبو إسحاق : وهذا خطأ لا
يجوز البتّة ، وهو كما قال. ثم رجع الفراء فقال : والعرب إنما تدخل من في الأسماء
وهذه مناقضة بيّنة وأجاز ذلك الكسائي أيضا ، ثم قال : وهو قبيح. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) أي طالت أعمارهم بعد موت الرسل صلوات الله عليهم فنسوا
وهلكوا.
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ
بِما تَقُولُونَ) تأوله أبو عبيد بمعنى فيما يقولون ، وقال غيره : هذه
مخاطبة للأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم فما تستطيعون صرفا ولا نصرا. قيل : فما
يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ولا أن ينصر بعضهم بعضا.
إذا دخلت اللام لم
يكن في «إن» إلا الكسر ، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر لأنها مستأنفة.
وهذا قول جميع النحويين إلا أنّ علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد أنه قال :
يجوز الفتح في إنّ هذه وإن كان بعدها اللام ، وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق :
المعنى : وما أرسلنا قبلك رسلا إلّا أنهم ليأكلون الطعام ثم حذف من لأنّ من تدلّ
على المحذوف. وقال الفراء : «من» محذوفة أي إلّا أن منهم من ليأكلون الطّعام ،
وشبّهه بقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤].
قال أبو إسحاق :
هذا خطأ لأنّ من موصولة فلا يجوز حذفها. (وَجَعَلْنا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) الفتنة في اللغة الاختبار ، وفي الحديث «الغنيّ للفقير
فتنة والفقير للغنيّ فتنة والقويّ للضعيف فتنة والضعيف للقويّ فتنة». والمعنى في
هذا أن كلّ واحد منهما مختبر بصاحبه فالغنيّ مختبر بالفقير عليه أن يواسيه ولا
يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغنيّ عليه أن لا يحسده وأن لا يأخذ منه إلا ما أعطاه
، وأن يصبر كلّ واحد منهما على الحقّ ، كما قال الضحاك : في معنى (أَتَصْبِرُونَ) أي على الحق. (وَكانَ رَبُّكَ
بَصِيراً) أي بما تعملون أي فيما امتحنكم فيه.
__________________
لا يجوز أن يكون
يوم يرون منصوبا ببشرى لأن ما في خبر التعجّب أو في خبر النفي لا يعمل فيما قبله
ولكن فيه تقديران : يكون المعنى : يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة ودلّ على هذا
الحذف ما بعده ، ويجوز أن يكون التقدير لا بشرى تكون «يوم يرون الملائكة» و «يومئذ»
مؤكد ، ويجوز أن يكون المعنى اذكر يوم يرون الملائكة.
(وَيَقُولُونَ حِجْراً) مصدر أي منعا ومنه حجرت على فلان ، ومنه قيل حجرة.
أي لا ينتفع به أي
أبطلناه. وليس هباء من ذوات الهمزة وإنما همزت لالتقاء الساكنين ، والتصغير هبيّ
في موضع الرفع ، ومن النحويين من يقول : هبيّ في موضع الرفع.
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) ابتداء وخبر ، وقد ذكرنا مثله قبل هذا في (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) [الفرقان : ١٥]
وحكينا قول الكوفيين أنهم يجيزون : العسل أحلى من الخلّ. وذكر الفراء في هذه الآية ما هو أكثر من هذا ، فزعم أنّ المعنى :
أصحاب الجنة يومئذ
خير مستقرّا من أهل النار ، وليس في مستقرّ أهل النار خير ، فكأنه ردّ على نفسه ،
وسمعت علي بن سليمان يقول في هذا ويحكيه إنّ المعنى : لمّا كنتم تعملون عمل أهل
النار صرتم كأنكم تقولون : إنّ في ذلك خيرا ، وقيل خير مستقرّا مما أنتم فيه ،
وقيل : خير على غير معنى أفعل ، ويكون مستقرّ ظرفا ، وعلى ما مرّ يكون منصوبا على
البيان.
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ) الأصل تتشقّق أدغمت التاء في الشين ، وقرأ الكوفيون (تَشَقَّقُ) حذفوا التاء لأن التاء الباقية تدلّ عليها.
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) مبتدأ وخبر. وأجاز أبو إسحاق نصب الحقّ بمعنى أحقّ الحقّ
أو أعني الحقّ. (وَكانَ يَوْماً عَلَى
الْكافِرِينَ عَسِيراً) الفعل منه عسر يعسر وعسر يعسر.
__________________
(وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الماضي عضضت وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء
التوقيف عن أهل التفسير منهم ابن عباس وسعيد بن المسيّب أنّ الظالم هاهنا عقبة بن
أبي معيط ، وأن خليله أميّة بن خلف. فعقبة قتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
وأميّة قتله النبيّ صلىاللهعليهوسلم فكان هذا من دلائل النبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنه خبّر عنهما بهذا فقتلا على الكفر ولم يسميا في
الآية ؛ لأنه أبلغ في الفائدة ليعلم أنّ هذه سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية
الله جلّ وعزّ.
(يا وَيْلَتى) وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء. والقراءة الأولى أكثر في كلام العرب لأنهم يحذفون
إذا قالوا : يا غلام أقبل ؛ لأن النداء موضع حذف ، وكان الأصمعي ينشد بيت زهير :
[الطويل]
٣١٠ ـ تبصّر
خليل هل ترى من ظعائن
|
|
تحمّلن بالعلياء
من فوق جرثم
|
وينكر رواية من
روى «تبصر خليلي» لأنه كان يقصد الروايات الصّحاح الفصيحة ، ولا يعرّج على الشاذّ
، وكذا روى أهل اللغة : [البسيط]
٣١١ ـ قالت
هريرة لمّا جئت زائرها
|
|
ويلا عليك وويلا
منك يا رجل
|
(الْقُرْآنَ) نعت لهذا ؛ لأن هذا ينعت بما فيه الألف واللام وإن لم يكن
جاريا على الفعل (مَهْجُوراً) مفعول ثان.
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، وكذا الكاف في (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) المعنى تثبيتا كذلك التثبيت ، هذا على أن يكون التمام عند
قوله جلّ وعزّ : (جُمْلَةً واحِدَةً) وإن كان التمام عند «كذلك» كان التقدير ترتيلا
__________________
كذلك. وهذا لما لم
يجد المشركون سبيلا إلى تكذيب النبيّ صلىاللهعليهوسلم ببرهان ولا حجّة قالوا (لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) فسألوا ما الصّلاح في غيره ؛ لأن القرآن كان ينزّل مفرّقا
جوابا عما يسألون عنه ، وكان ذلك من علامات النبوة لأنهم لا يسألون عن شيء إلّا
أجيبوا عنه. وهذا لا يكون إلّا من نبيّ فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم ، ويدلّ
على هذا الجواب.
ولو نزل جملة لكان
قد سبق الحوادث التي كانت ينزل فيها القرآن ، ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض
لثقل ذلك عليهم علم الله جلّ وعزّ. إنّ الصلاح في إنزاله متفرّقا لأنهم ينبّهون به
مرّة بعد مرّة ولو نزل جملة لزال معنى التنبيه ، وفيه ناسخ ومنسوخ فكانوا يعبّدون
بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله جلّ وعزّ فيه الصلاح ثم ينزل النسخ بعد ذلك
فمحال أن ينزل جملة افعلوا كذا وكذا ، ولا تفعلوا ، والأولى أن يكون التمام «جملة
واحدة» ؛ لأنه إذا وقف على «كذلك» صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزّبور ، ولم
يتقدّم لهما ذكر. قال أبو إسحاق : (وَرَتَّلْناهُ
تَرْتِيلاً) أي أنزلناه. قيل :
الترتيل وهو
التمكّث وهو ضدّ العجلة.
(الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) في موضع رفع الابتداء وخبره في الجملة.
وقد ذكرنا معناه
المروي مرفوعا. وقد قيل : هو تمثيل ، كما تقول : جاءني على وجهه ، أي كارها.
(وَجَعَلْنا مَعَهُ
أَخاهُ هارُونَ) على البدل. (وَزِيراً) مفعول ثان. والوزير في اللغة المعاون الذي يلجأ إليه صاحبه
مشتقّ من الوزر وهو الملجأ. قال الله جلّ وعزّ (كَلَّا لا وَزَرَ) [القيامة : ١١].
قال الفراء : إنما أمر موسى صلىاللهعليهوسلم بالذهاب وحده في المعنى ، وهذا بمنزلة قوله :
(نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١] ،
وبمنزلة قوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢]
وإنما يخرج من أحدهما. قال أبو جعفر : وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ
__________________
به على كتاب الله
جلّ وعزّ وقد قال جلّ ثناؤه (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) [طه : ٤٤ ، ٤٥]
ونظير هذا في قوله :
(وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) [الرحمن : ٦٢] ،
وقد قال جلّ ثناؤه (ثُمَّ أَرْسَلْنا
مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) [المؤمنون : ٤٥].
(وَقَوْمَ نُوحٍ) في نصبه أقوال : يكون معطوفا على المضمر في (فَدَمَّرْناهُمْ) أو يكون بمعنى واذكر ، ويكون على إضمار فعل يفسّره ما بعده
، والتقدير وأغرقنا قوم نوح.
فهذه ثلاثة أقوال
، وزعم الفراء أنه منصوب بأغرقناهم ، وهذا لا يحصل لأن أغرقنا ليس ممّا يتعدّى إلى
مفعولين فيعمل في المضمر وفي قوم نوح.
يكون هذا كلّه
معطوفا على قوم نوح إذا كان قوم نوح منصوبا على العطف أو بمعنى واذكر ، ويجوز أن
يكون هذا كلّه منصوبا على أنه معطوف على المضمر في (وَجَعَلْناهُمْ) وهو أولى لأنه أقرب إليه.
(وَكُلًّا ضَرَبْنا
لَهُ الْأَمْثالَ) قال أبو إسحاق : وأنذر كلّا. قال : والتتبير التدمير ،
ومنه قيل : لمتكسّر الزجاج تبر ، وكذلك تبر الذهب.
قيل : هذا للكفار
الذين كفروا بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم لأنهم قد أتوا على مدائن قوم لوط عليهالسلام ، وعلموا أنهم أهلكوا بكفرهم (أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) من ينكر الأضداد يقول : يرجون على بابه لأنهم إنّما كفروا
بالآخرة على دفع منهم للحقّ ليس على يقين فهم لا يرجونها ، وكان أبو إسحاق أحد من
ينكر الأضداد ، وقال :
المعنى : بل كانوا
لا يرجون ثواب النشور فاجترؤوا على المعاصي.
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ) جواب (إِذا إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) لأن معناه يتّخذونك وقيل : الجواب محذوف لأن المعنى قالوا
: أهذا الذي بعث هو (الَّذِي بَعَثَ اللهُ
رَسُولاً)
ونصب رسول على
الحال ، ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى بعث أرسل. ومعنى رسول رسالة على هذا.
(أَفَأَنْتَ تَكُونُ
عَلَيْهِ وَكِيلاً) قيل معناه أفأنت تجبره على ذلك.
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) ولم يقل : أنّهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن وذمّهم جلّ
وعزّ بهذا (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) سماع قبول أو يفكّرون فيما تقوله فيعقلونه أي هم بمنزلة من
لا يعقل ولا يسمع. وقيل : المعنى أنهم لمّا ينتفعوا بما يسمعون فكأنّهم لم يسمعوا.
(إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ) أي إنّهم لا يفهمون (بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً) لأنهم يكذّبون بما يسمعون من الصدق ، وليس كذا الأنعام.
(أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ) حذفت الألف للجزم ، والأصل الهمز ، والتخفيف لازم للمضارع
من هذا لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا معنى الآية.
(وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) مفعولان (وَالنَّوْمَ سُباتاً) عطف و «سبات» بمعنى الراحة ، وأعاد «جعل» توكيدا ولو كان
والنهار نشورا لجاز في غير القرآن. قال الأخفش سعيد : واحد الأناسيّ إنسيّ. وكذا
قال محمد بن يزيد ، وهو أحد قولي الفراء ، وله قول آخر وهو أن يكون واحد الأناسيّ إنسانا لم يبدل
من النون ياء فيقول : أناسيّ ويجب على قوله أن يقول في جمع سرحان : سراحيّ. لا فرق
بينهما ، وحكى أيضا (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) بالتخفيف.
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ
بَيْنَهُمْ) وهو المطر كما قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس :
__________________
ليس عام بأكثر
مطرا من عام ، ولكنّ الله يصرفه حيث يشاء. (فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) لا يعلم بين أهل التفسير اختلافا أنّ الكفر هاهنا قولهم : «مطرنا
بنوء كذا وكذا» وأن نظيره قول المنجّم : فعل النجم كذا وكذا ، وأنّ كلّ من
نسب إليها فعلا فهو كافر.
(وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) للعلماء في هذا ثلاثة أقوال : فمن أجلها ما روي عن ابن
عباس ، قال : النسب سبع (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ
الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) [النساء : ٢٣]
والصّهر السبع (وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء : ٢٣] إلى
آخر الآية. وشرح هذا أنّ السبع الأول من النسب فتقديره في العربية : فجعله ذا نسب
وذا صهر. والسبع الذين من الصهر أي ممن يقع فيهم الصهر لو لا ما حدث ، وقال الضحاك
: النسب الأقرباء ، والصهر ذوات الرضاع ، والقول الثالث : أنّ النسب الذكر من
الأولاد ، والصهر الإناث من الأولاد ؛ لأنّ المصاهرة من جهتين تكون.
(وَكانَ الْكافِرُ
عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) روي عن ابن عباس الكافر هاهنا أبو جهل وشيعته لأنه يستظهر
بعبدة الأوثان على أولياء ربه. وقال عكرمة : الكافر إبليس ظهير على عداوة ربه ،
وقال مطر : الكافر هاهنا الشيطان.
(مِنْ) في موضع ونصب استثناء ليس من الأول. والتقدير : لكن من شاء
أن ينفق ابتغاء مرضاة الله ليتّخذ إلى ثواب ربّه طريقا فليفعل.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) في رفعه ثلاثة أوجه يكون بدلا من المضمر الذي في استوى ،
ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن ، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً). ويجوز الخفض بمعنى وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت الرّحمن
، يكون نعتا ، ويجوز النصب على المدح.
__________________
هذه قراءة
المدنيين والبصريين ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي لما يأمرنا بالياء. والقراءة الأولى اختيار أبي عبيد ، وتأوّل الثانية
فيما نرى «أنسجد لما يأمرنا الرحمن» ، قال : ولو أقرّوا بأنّ الرحمن أمرهم ما
كانوا كفارا ، وليس يجب أن يتأوّل عن الكوفيين في قراءتهم بهذا التأويل البعيد ،
ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم أنسجد لما يأمرنا النبيّ صلىاللهعليهوسلم فتصح القراءة على هذا ، وإن كانت الأولى أبين وأقرب
متناولا.
هذه قراءة
المدنيين والبصريين وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين سرجا والقراءة الأولى أولى عند أبي عبيد ، لأنه تأول أن السرج
النّجوم ، وأنّ البروج النجوم ، وليس يجب أن يتأوّل لهم هذا فيجيء المعنى نجوما
ونجوما ، ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال : السّرج النجوم الدراريّ فعلى هذا
تصحّ القراءة ويكون مثل قوله جلّ وعزّ (مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨]
فأعيد ذكر النجوم النيّرة ، وإن كانت القراءة الأولى أبين وأوضح تأويلا. قال ابن
عباس : السراج الشمس وروى عصمة عن الأعمش (وَقَمَراً) بضم القاف وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة.
ولو لم يكن فيها
إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال : لا تكتبوا ما يحكيه عصمة
الذي يروي القراءات. وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا.
(وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم على اختلاف عنه
والكسائي ، وقرأ الأعمش وحمزة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ)
الأصل في «يذّكّر»
يتذكّر ثم أدغمت التاء في الدال أي يتذكّر ويتفكّر في خلق الله ، فإنّ الدلالة فيه
بيّنة فهذه القراءة بيّنة ويذكر يجوز أن يتبيّن هذه الأشياء بذكره.
(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) رفع بالابتداء وقد أشكل على جماعة من النحويين هذا حتى قال
__________________
الأخفش : هو مبتدأ
بلا خبر يذهب إلى أنه محذوف ورأيت أبا إسحاق قد جاء في هذا بما هو أولى من قول
الأخفش هذا قال : «عباد» مرفوع بالابتداء و (الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) من صفتهم «والذين» الذي بعده عطف عليه والخبر (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) [الفرقان: ٧٥] قال : ويجوز أن يكون الخبر (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
قالُوا سَلاماً) مصدر. وقد ذكرنا معناه. (إِنَّها ساءَتْ
مُسْتَقَرًّا) قال أبو إسحاق : «مستقرا» منصوب على التمييز أي في المستقر
سبيل التمييز أن يكون فيه معنى «من» فالمعنى : ساءت من المستقرات.
(وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) هذه قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وعاصم ويحيى بن وثاب على
اختلاف عنهما وهي قراءة حسنة من قتر يقتر وهذا القياس في اللازم مثل قعد يقعد.
وقرأ أبو عمرو (لَمْ يَقْتُرُوا) وهي لغة معروفة حسنة ، وقرأ أهل المدينة (وَلَمْ يَقْتُرُوا) وتعجّب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه لأن أهل المدينة
عنده لا يقع في قراءتهم الشاذّ فانّما يقال : أقتر يقتر إذا افتقر ، كما قال جلّ
وعزّ (وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦]
وتأوّل أبو حاتم لهم أنّ المسرف يفتقر سريعا ، وهذا تأويل بعيد ولكن التأويل لهم
أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيّق : قتر يقتر ويقتر
وقتّر يقتّر وأقتر يقتر فعلى هذا تصحّ القراءة وإن كان فتح الياء أصحّ وأقرب
متناولا وأشهر وأعرف. ومن أحسن ما قيل في معناه ما حدّثناه الحسن بن غليب قال :
حدّثني عمران بن أبي عمران قال : حدّثنا خلّاد بن سليمان الحضرمي. قال : حدّثني
عمرو بن أبي لبيد عن أبي عبد الرحمن الحبلي في قوله جلّ وعزّ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) قال : من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ومن أمسك عن
طاعة الله فهو الإقتار ، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. قال أبو إسحاق : تفسر
هذه الآية على الحقيقة ما أدّب الله جلّ وعزّ به نبيّه صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) خبر كان واسم كان فيها مضمر دلّ عليه أنفقوا ، والتقدير :
كان الإنفاق بين
الإسراف والقتور عدلا. وللفراء قول آخر يجعل «بين» اسم كان وينصبها. قال أبو جعفر
: ما أدري ما وجه هذا لأن «بين» إذا كانت في موضع رفع رفعت كما يقال : بين عينيه
أحمر فترفع بين.
__________________
(وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) شرط ومجازاة.
(يُضاعَفْ لَهُ
الْعَذابُ) بدل من يلق قال سيبويه : لأن مضاعفة العذاب لقيّ الأنام ،
وقرأ عاصم يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا بالرفع ، والجزم أولى لما ذكرنا. وفي الرفع قولان : أحدهما
أن يقطعه مما قبله ، والآخر أن يكون محمولا على المعنى ، كأنّ قائلا قال : ما لقيّ
الآثام؟ فقيل : يضاعف له العذاب.
(إِلَّا مَنْ تابَ) في موضع نصب على الاستثناء. (فَأُوْلئِكَ
يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) مفعولان ، وقد ذكرنا معناه. ومن حسن ما قيل فيه أنه يكتب
موضع كافر مؤمن ، وموضع عاص مطيع.
(فَإِنَّهُ يَتُوبُ
إِلَى اللهِ مَتاباً) مصدر فيه معنى التوكيد.
(صُمًّا وَعُمْياناً) على الحال.
(قُرَّةَ أَعْيُنٍ) لم يجمع لأنه مصدر ، ولو جمع يراد به اختلاف الأجناس لجاز (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) واحد يدلّ على جمع.
(وَيُلَقَّوْنَ فِيها
تَحِيَّةً وَسَلاماً) هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وقرأ أهل الكوفة (وَيُلَقَّوْنَ فِيها) . قال الفراء : ويلقون أعجب إليّ لأن القراءة لو كانت
__________________
«يلقّون» كانت في
العربية بالباء. وهذا من الغلط أشدّ مما مرّ في السورة لأنه يزعم أنها لو كانت
يلقّون كانت في العربية بتحية وسلام. وقال كما يقال : فلان يتلقّى بالسّلام
وبالخير. فمن عجيب ما في هذا أنّه قال : يتلقّى ، والآية يلقّون ، والفرق بينهما
بيّن لأنه يقال : فلان يتلقّى بالجنّة ، ولا يجوز حذف الياء ، فكيف يشبه هذا ذاك
وأعجب من هذا أنّ في القرآن (وَلَقَّاهُمْ
نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١] لا
يجوز أن يقرأ بغيره وهذا يبيّن أن الأولى خلاف ما قال.
(خالِدِينَ فِيها) على الحال.
(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) وعن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قرأ : فقد كذّب الكافرون
فسوف يكون لزاما وكذا روى شعبة عن إبراهيم التيمي عن أبي الزبير قال شعبة :
وكذا في قراءة عبد الله بن مسعود. وهذه القراءة مخالفة للمصحف وينبغي أن تحمل على
التفسير ؛ لأن معنى (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أنّه يخاطب به الكفار ، وهذه القراءة مع موافقتها للسواد
أولى بسياق الكلام لأن الله جلّ وعزّ قال : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ
رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) فهذه مخاطبة ، وكذا (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) فهذا أولى من فقد كذّب الكافرون فسوف يكون لزاما وقد تكلم
النحويون فيه ، فمن حسن ما قيل فيه أنّ التقدير فسوف يكون التكذيب لأن كذبتم يدلّ
على التكذيب ، وحقيقته في العربية فسوف يكون جزاء التكذيب عذابا لزاما أي ذا لزام.
ولزام وملازمة واحد. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال : سمعت قعنبا أبا السّمال ليقرأ
: (فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزاماً) بفتح اللام. قال أبو جعفر : يكون مصدر لزم ، والكسر أولى
مثل قتال ومقاتلة كما أجمعوا على الكسر في قوله جلّ وعزّ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه : ١٢٩]
وللفراء قول آخر في اسم يكون قال : يكون فيها مجهول. وهذا غلط لأن المجهول
لا يكون خبره إلا جملة ، كما قال جلّ وعزّ : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ
وَيَصْبِرْ) [يوسف: ٩٠] وكما حكى النحويون : كان زيد منطلق. يكون في
كان مجهول ، ويكون المبتدأ وخبر مخبر المجهول ، والتقدير كان الحديث. فأما أن يقال
: كان منطلقا ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه.
__________________
٢٦
شرح إعراب سورة الشّعراء
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أبو جعفر : حكى أبو عبيد أنّ أبا عمرو كان يفتح ، وأنّ الكوفيين
يكسرون ، وأن المدنيين يقرءون بين الفتح والكسر. وهذا مشروع في سورة «طه» وقرأ
المدنيّون وأبو عمرو وعاصم والكسائي (طسم) بإدغام النون في الميم ، والقرّاء يقولون : بإخفاء النون ،
وقرأ الأعمش وحمزة طسين ميم بإظهار النون. قال أبو جعفر : للنون الساكنة والتنوين
أربعة أقسام عند سيبويه : يبيّنان عند حروف الحلق ، ويدغمان عند الراء واللام
والميم والواو والياء ، ويقلبان ميما عند الباء ، ويكونان من الخياشيم أي لا
يبينان ، فعلى هذه الأربعة الأقسام التي نصّها سيبويه لا تجوز هذه القراءة ؛ لأنه
ليس هاهنا حرف من حروف الحلق فتبيّن النون عنده ولكن في ذلك وجه وهو أن حروف المعجم
حكمها أن يوقف عليها فإذا وقف عليها تبيّنت النون. وحكى أبو إسحاق في كتابه «فيما
يجرى وما لا يجرى» أنه يجوز أن يقول «طسين ميم» بفتح النون وضم الميم ، كما
يقال : هذا معدي كرب يا هذا. (تِلْكَ آياتُ) رفع على إضمار مبتدأ أي : هذه تلك آيات الكتاب المبين أي
التي كنتم وعدتم بها لأنهم وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن. (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) خبر لعلّ. (أَلَّا يَكُونُوا) قال الفراء : في موضع نصب لأنهما جزاء. قال أبو جعفر : وإنما يقال :
إن مكسورة لأنها جزاء ، كذا المتعارف. والقول في
__________________
هذا ما قاله أبو
إسحاق في كتابه «في القرآن» قال : «أن» في موضع نصب مفعول له ، والمعنى : لعلّك
قاتل نفسك لتركهم الإيمان.
(إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) شرط ومجازاة. (فَظَلَّتْ) معناه فتظلّ ، لأن الماضي يأتي بمعنى المستقبل في
المجازاة. وقد ذكرنا «خاضعين» ولم يقل : خاضعات بما يستغني عن الزيادة.
أصل الكرم في
اللغة الشرف والفضل ، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر ، ورجل كريم فاضل شريف
صفوح ، قال الفراء : والزوج اللون.
(إِذْ) في موضع نصب ، واتل عليهم إذ نادى ربك موسى ، ويدل على هذا
أن بعده (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ) [الشعراء : ٦٩] (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
(قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل. (أَلا يَتَّقُونَ) لأنهم غيّب عن المخاطبة ، ويجوز ألا تتّقون بمعنى قل لهم ،
ومثله (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) [آل عمران : ١٢]
بالتاء والياء ..
(وَيَضِيقُ صَدْرِي
وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي). قال الكسائي : القراءة بالرفع يعني في (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ
لِسانِي) من وجهين : أحدهما : الابتداء ، والآخر : بمعنى وإنّي يضيق
صدري ولا ينطلق لساني يعني نسقا على «أخاف». قال : ويقرأ بالنصب ، وكلاهما وجه.
قال أبو جعفر : الوجه الرفع ؛ لأن النصب عطف على «يكذّبون» ، وهذا بعيد يدلّ على ذلك
قوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٧] فهذا
يدلّ على أن هذا كذا.
قال أبو إسحاق : (أَنْ أَرْسِلْ) في موضع نصب ، أي أرسلنا لأن ترسل معنا بني إسرائيل ،
فامتنّ عليه فرعون بالتربية.
(قالَ أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) نصب على الحال. (وَلَبِثْتَ فِينا) وإن شئت أدغمت الثاء في التاء لقربها منها (مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) وتحذف الضمّة لثقلها فيقال من عمرك ، وحكى سيبويه فتح العين وإسكان الميم ومنه لعمرك ولا يستعمل في القسم
عنده إلّا الفتح لخفّته. (سِنِينَ) على جمع التسليم ، وقد يقال : لبثت سنينا يا هذا. يجعل
الإعراب في النون.
تكون الجملة في
موضع الحال أي قتلت النفس وهذه حالك ، ويجوز أن يكون المعنى : وأنت السّاعة من
الكافرين لنعمتي لأنك تطالبني أن أرسل معك بني إسرائيل.
قيل : معناه أي
ضللت عن أن أعرف بأنّ تلك الضربة تقتل.
قال الأخفش : فقيل
المعنى أو تلك نعمة وحذفت ألف الاستفهام. قال أبو جعفر : وهذا لا يجوز لأن ألف
الاستفهام تحدث معنى وحذفها محال ، إلّا أن يكون في الكلام «أم» فيجوز حذفها في
الشعر ولا أعلم بين النحويين في هذا اختلافا إلّا شيئا قاله الفراء قال : يجوز حذف ألف الاستفهام في أفعال الشكّ وحكى : ترى
زيدا منطلقا بمعنى أترى. وكان عليّ بن سليمان يقول في مثل هذا : إنّما أخذه من
ألفاظ العامة وكذا عنده : نعم زيدا إذا تقدّم ذكره إنما أخذه من ألفاظ العامة.
ومذهب الفراء في معنى (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّها عَلَيَ) أنه على حذف. وأنّ المعنى هي لعمري نعمة إن مننت عليّ فلم
تستعبدني واستعبدت بني إسرائيل أي : إنّما صارت لأنك استعبدت بني إسرائيل. وقول
الضحاك : أنّ المعنى أنك تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به أي يكون هذا على
التّبكيت له والتبكيت يكون بغير استفهام وباستفهام ، ويجوز أن يكون هذا مثل (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩]
ويكون تبكيتا أيضا ، وقول رابع في الآيتين جميعا : أن يكون القول محذوفا «إن عبّدت»
في موضع رفع على البدل من نعمة ، ويجوز أن يكون أن في موضع نصب بمعنى لأن عبّدت
بني إسرائيل.
__________________
(قالَ فِرْعَوْنُ وَما
رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه موسى صلىاللهعليهوسلم ف (قالَ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إذا نظرتم إلى السموات والأرض وما فيهما من الآيات
والحوادث علمتم وأيقنتم أنّ لهما صانعا ومدبّرا.
عليهم من الأول
وأدنى إلى أفهامهم من الأول.
فخاطب موسى صلىاللهعليهوسلم الجماعة بما هو أقرب.
فجاء بدليل
يفهمونه عنه لأنهم يعلمون أنهم قد كان لهم آباء ، وأنهم قد فنوا ، وأنهم لا بدّ
لهم من مفن ، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا وأنهم لا بد لهم من مكوّن.
(قالَ إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) فأجابه موسى صلىاللهعليهوسلم عن هذا بأن (قالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ليس ملكه كملكك لأنك إنما تملك بلدا واحدا لا يجوز أمرك في
غيره ويميت من لا تحبّ أن يموت ، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب وما بينهما إن
كنتم تعقلون فستتبيّنون ما قلت.
(قالَ لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) فرفق به موسى صلىاللهعليهوسلم ف (قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشيء تتبيّن به صدق ما
جئت به.
فلم يحتج الشرط
إلى جواب عند سيبويه لأن ما تقدّم يكفي منه.
(قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ) قال أبو إسحاق : أي أخّره عن وقتك وأخّر استتمام مناظرته
حتى تجتمع كل
السحرة أرجئه بإثبات الهمزة في الإدراج ، ويجوز حذفها وإثبات الكسرة ، وفي الإدراج
يجوز حذفها ، وإثبات الضمة بالهمزة وضمّ الهاء بغير واو.
ويجوز إثبات الواو
على بعد. وإنما بعد ؛ لأن الهمزة ساكنة والواو ساكنة والحاجز بينهما ضعيف والواو
في الأصل والياء على البدل منه وحذفهما ؛ لأن قبلهما ما يدلّ عليهما ، وأنهما
زائدتان.
ومن قرأ (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) بغير استفهام جعل معناه إنّك ممن يحبّنا ويبرّنا.
أي الّذين كان
يقال لهم سحرة وذكروا بهذا الاسم ليدلّ على أنهم المذكورون قبل.
(إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) تمويه من فرعون وطغيان وعدوان أظهر أنّ السحرة واطئوا موسى
عليهالسلام على ما كان ، وأنّ موسى هو الذين علّمهم السحر.
(قالُوا لا ضَيْرَ) من ضار يضير. ويقال : ضار يضور بمعنى ضرّ يضرّ ضرّا وضررا.
(أَنْ) في موضع نصب والمعنى لأن كنا ، وأجاز الفراء كسرها على أن يكون مجازاة.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) من أسرى يسري ويجوز أن أسر من سرى يسري لغتان فصيحتان.
لام توكيد تدخل
كثيرا في خبر إن إلّا أن الكوفيين لا يجيزون : إن زيدا لسوف يقوم. والدليل على أنه
جائز (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الشعراء : ٤٩]
فهذه لام التوكيد
__________________
بعينها قد دخلت
على سوف (قَلِيلُونَ) جمع مسلّم كما يقال : أحدون.
من غاظ يغيظ وهي
اللغة الفصيحة.
قراءة المدنيين
وأبي عمرو ، وقراءة الكوفيين (حاذِرُونَ) ، وهي معروفة عن عبد الله بن مسعود وابن عباس حادرون بالدال غير معجمة ، قراءة ابن أبي عمار.
قال أبو جعفر :
أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرين وحاذرين واحد ، وهو قول سيبويه. وأجاز : هو حذر
زيدا ، كما يقال : حاذر زيدا ، وأنشد : [الكامل]
٣١٢ ـ حذر أمورا
لا تضير وآمن
|
|
ما ليس منجيه من
الأقدار
|
قال أبو جعفر :
حدّثني علي بن سليمان قال : حدّثنا محمد بن يزيد قال : سمعت أبا عثمان المازني
يقول : قال أبو عثمان اللّاحقي : لقيني سيبويه فقال : أتعرف بيتا فيه فعل ناصبا؟
فلم أحفظ فيه شيئا وفكّرت فعملت له فيه هذا البيت ، وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز
هو حذر زيدا ، على حذف «من». فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر منهم
الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد ، ويذهبون إلى أنّ معنى حذر في خلقته الحذر أي
منتبه متيقّظ فإذا كان هكذا لم يتعدّ ، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن
المتقدّمين. قال عبد الله بن مسعود في قول الله جلّ وعزّ : (حاذِرُونَ) قال : مؤدّون في الكراع والسلاح مقوون فهذا ذاك بعينه ،
وقوله : مؤدّون معناه معهم أداة ، وقيل : المعنى معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرّضون
على القتال. فأما «حادرون» فمعنا مشتقّ من قولهم : عين حدرة أي ممتلئة أي نحن
ممتلئون غيظا عليهم.
(كَذلِكَ) في موضع رفع والمعنى الأمر كذلك أي الأمر كما أخبرناكم من
خبرهم.
(فَلَمَّا تَراءَا) هكذا الوقف كما تقول : تجافى القوم ، وتراخى إخوتك. لم تقف
عليه فتقول : تجافى وتراخى ، ومن وقف فقال : تراءى فقد حذف لام الفعل ، وغلط من
اعتلّ أنه فعل متقدّم غلطا قبيحا ، وذلك أن العلّة في قولنا : تراءى أنه مثل تداعى
__________________
وتجافى ـ كما قلنا
، ولو كان متأخّرا لقيل : ترآيا فإن وصلت حذفت لالتقاء الساكنين فقلت : تراءى
الجمعان. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير (قالَ أَصْحابُ مُوسى
إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) . قال الفراء : حفر واحتفر بمعنى واحد ، وكذلك لمدركون ولمدّركون بمعنى
واحد. قال أبو جعفر : وليس كذا يقول النحويون الحذاق ، إنما يقولون مدركون ملحوقون
، ومدّركون مجتهد في لحاقهم ، كما يقال : كسبت بمعنى أصبت وظفرت ، واكتسبت بمعنى
اجتهدت وطلبت. وهذا معنى قول سيبويه.
على تخفيف الهمزة
الثانية ، وهو أحسن الوجوه لأنهم قد أجمعوا جميعا على تخفيف الثانية إذا كانتا في
كلمة واحدة ، نحو آدم ، وإن شئت حققتهما فقلت : «نبأ إبراهيم» وإن شئت خفّفتهما
فقلت «نبأ إبراهيم» ، وإن شئت خففت الأولى فقلت «نبأ إبراهيم». وثمّ وجه خامس إلّا
أنه بعيد في العربية ، بعد لأنه جمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة وحسن في فعال
لأنه لا يأتي إلّا مدغما.
(قالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ) قال الأخفش : فيه حذف ، والمعنى : هل يسمعون منكم أو هل
يسمعون دعاءكم فحذف كما قال : [البسط]
٣١٣ ـ القائد
الخيل منكوبا دوابرها
|
|
قد أحكمت حكمات
القدّ والأبقا
|
قال : والأبق
الكتان فحذف. والمعنى : وقد أحكمت حكمات الأبق. وروي عن قتادة أنه قرأ (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) بضمّ الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم. (إِذْ تَدْعُونَ) وإن شئت أدغمت الذال في التاء.
معطوف على
يسمعونكم.
__________________
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي) واحد يؤدّي عن جماعة ، وكذلك يقال للمرأة : هي عدوّ الله
وعدوّة الله ، حكاهما الفراء. قال أبو جعفر : وسألت علي بن سليمان عن العلّة فيه ،
فقال من قال : عدوّة فأثبت الهاء قال : هي بمعنى معادية. ومن قال عدوّ للمؤنّث ،
والجمع جعله بمعنى النسب. (إِلَّا رَبَّ
الْعالَمِينَ) قال أبو إسحاق : قال النحويون : هو استثناء ليس من الأول ،
وأجاز أبو إسحاق أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله جلّ وعزّ ويعبدون
معه الأصنام ، وتأوله الفراء على الأصنام وحدها ، والمعنى عنده فإنّهم لو عبدتهم عدوّ
لي إلّا ربّ العالمين أي عدوّ لي يوم القيامة.
(يَهْدِينِ
وَيَسْقِينِ) : بغير ياء لأن الحذف في رؤوس الآيات حسن لتتّفق كلّها.
وقد قرأ ابن أبي
إسحاق على جلالته ومحلّه من العربية هذه كلّها بالياء لأن الياء اسم وإنما دخلت
النون لعلّة.
وقرأ الحسن : الذي
أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين وقال ليست خطيئة واحدة. قال أبو جعفر : وخطيئة
بمعنى خطايا معروف في كلام العرب ، وقد أجمعوا جميعا على التوحيد في قوّته جلّ
وعزّ (فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١١]
ومعناه بذنوبهم ، وكذا (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) [النساء : ١٠٣]
ومعناه الصلوات فكذا (خَطِيئَتِي) إن كانت خطايا ، والله أعلم.
(فَكُبْكِبُوا فِيها) قيل الضمير يعود على الأصنام وقد جرى الإخبار عنهم
بالتذكير ، لأنهم أنزلوهم منزلة ما يعقل. (هُمْ وَالْغاوُونَ) الذين عبدوهم ، «والغاوون» الخائبون من رحمة الله جلّ
وعزّ.
الذين دعوهم إلى
عبادة الأصنام وساعدوا إبليس على ما يريد فهم جنوده.
__________________
رفع بفعلهم ،
والمجرمون : الذين دعوهم إلى عبادة الأصنام.
في موضع رفع لأن
المعنى : فما لنا شافعون.
ويجوز (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) بالرفع يكون عطفا على الموضع : لأن المعنى فما لنا شافعون
ولا صديق حميم. وجمع صديق أصدقاء ، وصدقاء وصداق. ولا يقال :
صدق ، للفرق بين
النعت وبين غيره ، وحكى الكوفيون أنه يقال في جمعه صدقان.
وهذا بعيد لأن هذا
جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان ، وحكوا أيضا صديق وأ صادق ، وأفاعل إنما هو جمع
أفعل إذا لم يكن نعتا ، نحو أشجع وأشاجع. ويقال :
صديق للجماعة
وللمرأة ، وجمع حميم أحمّاء وأحمّة ، وكرهوا أفعلاء للتضعيف.
أنّ في موضع رفع
والمعنى : فلو وقع لنا رجوع إلى الحياة لآمنّا.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ) على تأنيث الجماعة.
(الْأَرْذَلُونَ) جمع الأرذل والمكسر أراذل والأنثى الرّذلى والجمع رذل ،
ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه ، ومنعوا
جميعا سقطت له ثنّيتان علييان لا سفليان.
(الْفُلْكِ) زعم سيبويه أنه جمع فلك كأسد وأسد ، وقيل : فلك وفلك بمعنى
واحد.
قال محمد بن يزيد (رِيعٍ) جمع ريعة.
فذمّوا على أن
اتّخذوا ما لا يحتاجون إليه ووبخوا بقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ) أي لستم تخلدون فلم تبنون ما تموتون وتتركونه؟
قراءة شيبة ونافع
وعاصم والأعمش وحمزة ، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر والحسن (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بفتح الخاء. فالقراءة الأولى عند الفراء بمعنى عادة
الأولين. قال أبو جعفر : وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال : خلق
الأولين مذهبهم ، وما جرى عليه أمرهم. والقولان متقاربان من هذا الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله
جلّ وعزّ ، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا ، ولا أن يكون أكمل
إيمانا من السيئ الخلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر : وحكي لنا عن محمد بن يزيد
أنّ معنى «خلق الأولين» تكذيبهم وتخرّصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى لأن
فيها مدح آبائهم ، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم وقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢]. (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) الجملة في موضع خفض نعت لنخل. وأحسن ما قيل في معناه ما
رواه الدّراوردي عن ابن أخي الزّهري عن عمه في قوله جلّ وعزّ : (طَلْعُها هَضِيمٌ) قال : الرّخص اللطيف أول ما يطلع ، وهو الطلع النضيد لأن
بعضه فوق بعض.
(وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبالِ) ويقال : تنحتون لأنه فيه حرفا من حروف الحلق. بيوتا فرهين قراءة المدنيين والبصريين ، وقرأ أبو صالح والكوفيون (فارِهِينَ) وقد اختلف العلماء في معناهما ففرق بينهما بعضهم وجعلهما
بمعنى واحد. فقال أبو صالح ومعاوية بن قرّة ومنصور بن المعتمر والضحاك بن مزاحم ؛
فارهون حاذقون. قال مجاهد : «فرهون» أشرون بطرون. قال أبو جعفر : فهذا تفريق بين
معنيين ، يكون «فارهون» من فره إذا كان حاذقا نشيطا ، و «فرهون» بمعنى فرحين فأبدل
من الحاء هاء.
وقد روى علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس وينحتون من الجبال بيوتا فرهين قال :
__________________
حاذقين. قال :
فهذا بمعنى فارهين إن كان محفوظا عن ابن عباس وممن ذهب إلى أنّ فارهين وفرهين
بمعنى واحد أبو عبيدة وقطرب. وحكى قطرب : فره يفره فهو فاره وفرع يفره فهو فره
وفاره إذا كان نشيطا وهو منصوب على الحال.
(قالَ هذِهِ ناقَةٌ
لَها شِرْبٌ) قال الفراء : الشّرب الحظّ من الماء. قال أبو جعفر :
فأمّا المصدر
فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا : وأكثرها المضمومة لأنّ المفتوحة والمكسورة
يشتركان مع شيء آخر ، فيكون الشرب الحظّ من الماء ، ويكون الشّرب جمع شارب ، كما
قال : [البسيط]
٣١٤ ـ فقلت
للشّرب في درنا وقد ثملوا
|
|
شيموا وكيف يشيم
الشّارب الثّمل
|
إلّا أنّ أبا عمرو
بن العلاء رحمهالله والكسائي يختاران الشّرب بالفتح في المصدر ، ويحتجّان
برواية بعض العلماء أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «أنّها أيام أكل وشرب» .
(وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ) لا يجوز إظهار التضعيف هاهنا لأنهما حرفان متحرّكان من جنس
واحد (فَيَأْخُذَكُمْ) جواب النهي ، ولا يجوز حذف الفاء منه والجزم كما جاز في
الأمر إلّا شيء روي عن الكسائي أنه يجيزه.
أي على عقرها لما
أيقنوا بالعذاب ، ولم ينفعهم الندم لأن المحنة قد زالت لمّا وقع الاستيقان
بالعذاب. وقيل : لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا بل طلبوا صالحا صلىاللهعليهوسلم ليقتلوه لمّا أيقنوا بالعذاب.
(إِلَّا عَجُوزاً) نصب على الاستثناء. (فِي الْغابِرِينَ) روى سعيد عن قتادة قال : غبرت في عذاب الله جلّ وعزّ أي
بقيت ، وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت.
__________________
وقرأ أبو جعفر
ونافع أصحاب لئيكة المرسلين وكذا قرأ في «صاد» [آية : ١٣] ، وأجمع القراء على الخفض في
التي في سورة «الحجر» [آية : ٧٨] والتي في سورة «ق» [آية : ١٤] فيجب أن يردّ ما
اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. فأما ما حكاه أبو عبيدة من
أنّ «ليكة» هي اسم القرية التي كانوا فيها وأنّ الأيكة اسم البلد كلّه فشيء لا
يثبت ولا يعرف من قاله ، وإنما قيل : وهذا لا تثبت به حجّة حتّى يعرف من قاله
فيثبت علمه ، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر لأنّ أهل العلم جميعا من أهل التفسير
والعلم بكلام العرب على خلافه. روى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال
: أرسل شعيب صلىاللهعليهوسلم إلى أمّتين : أي قومه أهل مدين ، وإلى أصحاب الأيكة. قال :
والأيكة غيضة من شجر ملتفّ. وروى سعيد عن قتادة. قال : كان أصحاب الأيكة أهل غيضة
وشجر ، وكانت عامة شجرهم الدوم ، وهو شجر المقل وروى جويبر عن الضحاك ، قال : خرج
أصحاب الأيكة يعني حين أصابهم الحر فانضموا إلى الغيضة والشجر فأرسل الله عليهم
سحابة فاستظلّوا تحتها فلما تتامّوا تحتها أحرقوا ، ولو لم يكن في هذا إلّا ما روي
عن ابن عباس قال : تحتها الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أنّ الأيكة الشجر
الملتفّ. فأمّا احتجاج بعض من احتجّ لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح بأنه
في السواد ليكة فلا حجّة له فيه ، والقول فيه أنّ أصله الأيكة ثم خفّفت الهمزة
فألقيت حركتها على اللّام وسقطت واستغنيت عن ألف الوصل ، لأن اللام قد تحرّكت فلا
يجوز على هذا إلّا الخفض ، كما تقول : مررت بالأحمر ، على تحقيق الهمزة ثم تخفّفها
فتقول : مررت بلحمر. فإن شئت كتبته في الخطّ كما كتبته أولا ، وإن شئت كتبته
بالحذف ، ولم يجز إلّا بالخفض فكذا لا يجوز في الأيكة إلّا الخفض. قال سيبويه :
واعلم أنّ كلّ ما ينصرف إذا دخلته الألف واللام أو أضيف انصرف إذا دخلته ، ولا
نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا.
عطف على الكاف
والميم ويقال : جبلّة» والجمع فيهما جبال ، وتحذف الضمة والكسرة من الباء ، وكذلك
التشديد من اللام فيقال : جبلة وجبل وجبلة وجبل. ويقال :
جبلة وجبال ،
وتحذف الهاء من هذا كلّه.
__________________
(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة إلّا الحسن فإنه قرأ هو
والكوفيون (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ) وبعض أهل اللغة يحتجّ لهذه القراءة بقوله جلّ وعزّ (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ) لأن تنزيلا يدلّ على نزّل ، وهو احتجاج حسن ، وقد ذكره أبو
عبيد والحجّة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول : ليس هذا المصدر لأنّ المعنى وإنّ القرآن
لتنزيل ربّ العالمين نزل به جبرائيل صلىاللهعليهوسلم ، كما قال جلّ وعزّ (قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧]
فإنه نزّله على قلبك.
أي وإنّ الإنذار
بمن أهلك لفي كتب الأولين. وفي قراءة الأعمش (لَفِي زُبُرِ
الْأَوَّلِينَ) حذف الضمة لثقلها كما يقال رسل.
أي أو لم يكن لهم
علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا صحّة نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم فما عندهم في التوراة والإنجيل آية واضحة. ومن قرأ (تكن) أنّث لأن أن يعلمه هو الآية كما قال : [الكامل]
٣١٥ ـ فمضى
وقدّمها وكانت عادة
|
|
منه إذا هي
عرّدت إقدامها
|
ويبعد رفع آية لأن
أن يعلمه هو الآية. وقرأ عاصم الجحدري أن تعلمه علماء بني إسرائيل.
وقرأ الحسن على
بعض الأعجميّين . قال أبو جعفر : يقال رجل أعجم وأعجميّ إذا كان غير فصيح
وإن كان عربيا ، ورجل عجميّ أصله من العجم وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله ، إلّا أنّ
الفراء أجاز أن يقال : رجل عجميّ.
__________________
وأجاز الفراء الجزم في «يؤمنون» لأن فيه معنى الشرط والمجازاة ، زعم
وحكي عن العرب : ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم ، قال : لأن معناه إن لم أربطه
ينفلت. والرفع عنده بمعنى كيلا ينفلت وكيلا يؤمنوا فلما حذف «كي» رفع. وهذا الكلام
كلّه في يؤمنون خطأ على مذهب البصريين لا يجوز الجزم لا جازم ولا يكون شيء يعمل
عملا أقوى من عمله وهو موجود ، فهذا احتجاج بيّن وإن شذّ قول لبعض البصريين لم
يعرّج عليه إذ كان الأكثر يخالفه فيه.
قال الضحاك : يعني
أهل مكة.
قال : يعني من
العذاب والهلاك.
(ما) الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع ، ويجوز أن
تكون الأولى نفيا لا موضع لها.
قال الكسائي : (ذِكْرى) في موضع نصب على القطع ، وهذا لا يحصّل ، والقول فيه هو
قول الفراء وأبي إسحاق أنّها في موضع نصب على المصدر. قال الفراء : أي
يذّكّرون ذكرى وهذا قول صحيح لأنّ معنى (إِلَّا لَها
مُنْذِرُونَ) إلا لها مذكّرون. وذكرى لا يتبيّن فيه الإعراب ؛ لأن فيه
ألفا مقصورة ، ويجوز «ذكرى» بالتنوين ، ويجوز أن يكون «ذكرى» في موضع رفع على
إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق : أي إنذارنا ذكرى. وقال الفراء : أي ذلك ذكرى وتلك
ذكرى.
وقرأ الحسن
الشياطون وهو غلط عند جميع النحويين. قال أبو جعفر :
__________________
وسمعت علي بن
سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : هكذا يكون غلط العلماء إنما يكون بدخول
شبهة. لما رأى الحسن رحمهالله في آخره ياء ونونا وهو في موضع اشتبه عليه بالجمع المسلّم
فغلط. وفي الحديث «احذروا زلّة العالم» وقد قرأ هو مع الناس (وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ) [البقرة : ١٤] ولو
كان هذا بالواو في موضع الرفع لوجب حذف النون للإضافة.
(وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ) أي وما يصلح للشياطين أن ينزلوا بالوحي والأمر بطاعة الله
جلّ وعزّ (وَما يَسْتَطِيعُونَ) أن يتقوّلوا مثل القرآن ، ولا أن يأخذوه من الملائكة
استراقا لأنهم عن السمع لمعزولون.
قيل : قل لمن كفر
هذا ، وقيل : هو مخاطبة له صلىاللهعليهوسلم وإن كان لا يفعل هذا لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا
ليعلم الله جلّ وعزّ حكمه في من عبد غيره كائنا من كان وبعد هذا ما يدلّ عليه وهو (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي لئلا يتّكلوا على نسبهم وقرابتهم منك فيدعوا ما يجب
عليهم.
يقال : خفض جناحه
إذا لان ورفق.
أي إنّي بريء من
معصيتكم إيّاي ؛ لأن عصيانهم إياه عصيانهم لله جلّ وعزّ ؛ لأنه لا يأمرهم إلّا بما
يرضاه الله جلّ وعزّ ، ومن تبرّأ الله جلّ وعزّ منه.
قيل : الشياطين
تنزّل ؛ لأنها أكثر ما تكون في الهواء لضئولة خلقها وأنها بمنزلة الريح.
أي كذّاب يجترم
الإثم تتنزّل عليه توسوس له بالمعصية.
__________________
(يُلْقُونَ السَّمْعَ) قيل : الّذين يلقون السمع هم الذين تتنزّل عليهم أي
يستمعون إلى الشياطين ويقبلون منهم ، وقيل : هم الشياطين يسترقون السمع.
ويجوز النصب على إضمار
فعل يفسره يتّبعهم. وقيل : «الغاوون» هاهنا الزائلون عن الحقّ ، ودلّ : هذا على أن
الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك.
أي هم بمنزلة
الهائم لأنهم يذهبون في كلّ وجه من الباطل ولا يتّبعون سنن الحقّ ؛ لأن من اتّبع
الحقّ وعلم أنّه يكتب عليه قوله تثبّت ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما
قال.
(إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في موضع نصب على الاستثناء.
(وَذَكَرُوا اللهَ
كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وإنما يكون الانتصار بالحقّ وبما حدّه الله جلّ وعزّ فإذا
تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وفي هذا تهديد لمن انتصر بظلم و «أيّ» منصوب بينقلبون ،
وهو بمعنى المصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بسيعلم. والنحويون يقولون : لا يعمل
في الاستفهام ما قبله. قال أبو جعفر: وحقيقة العلّة في ذلك أن الاستفهام معنى وما
قبله معنى آخر ، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.
٢٧
شرح إعراب سورة النّمل
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(طس تِلْكَ آياتُ
الْقُرْآنِ) بمعنى هذه تلك آيات القرآن ، ويجوز في هذا ما جاز في أول «البقرة»
في قوله جلّ وعزّ (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢]. (وَكِتابٍ مُبِينٍ) عطف على القرآن. قال أبو إسحاق : ويجوز «وكتاب مبين» بمعنى وذلك كتاب مبين.
(هُدىً) في موضع نصب على الحال ، ويجوز فيه ما جاز في غيره في أول
سورة «البقرة» في قوله جلّ وعزّ (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، ويجوز فيه ما جاز في أول
سورة «البقرة» في قوله جلّ وعزّ (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣]
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) اسم «إنّ». (زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمالَهُمْ) في موضع الخبر.
(أُوْلئِكَ) في موضع رفع بالابتداء. وخبره (الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) ويقال : «الّذون» في موضع الرفع. (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْأَخْسَرُونَ. فِي
الْآخِرَةِ) تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين.
__________________
(لَدُنْ) بمعنى عند إلّا أنّها مبنية غير معربة لأنها لا تتمكّن.
وقرأ المدنيون
وأبو عمرو بشهاب قبس وقرأ الكوفيون (بِشِهابٍ قَبَسٍ) فزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) [يوسف : ١٠٩] يضاف
الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال أبو جعفر : إضافة الشيء إلى نفسه محال عند
البصريين ؛ لأن معنى الإضافة في اللغة ضمّ شيء ليبيّن به معنى الملك
والنوع فمحال أن يبيّن أنه مالك نفسه أو من نوعها. و «بشهاب قبس» إضافة النوع إلى
الجسم كما تقول : هذا ثوب خزّ. والشهاب كلّ ذي نور ، نحو الكوكب والعود الموقد.
والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبه ، فالمعنى : بشهاب من قبس. يقال :
قبست قبسا ،
والاسم قبس ، كما تقول : قبض قبضا والاسم القبض ، ومن قرأ «بشهاب قبس» جعله بدلا ،
ويجوز «بشهاب قبسا» في غير القرآن على أنه مصدر أو بيان أو حال. (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أصل الطاء تاء فأبدل منها طاء لأنّ الطاء مطبقة ، والصاد
مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا.
قال أبو إسحاق «أن»
في موضع نصب أي بأنه «قال». ويجوز أن يكون في موضع رفع ، جعلها اسم ما لم يسمّ
فاعله. وحكى أبو حاتم : أن في قراءة أبيّ وابن عباس ومجاهد أن بوركت النار ومن
حولها ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صحّ لكان على التفسير ، وقد روى سعيد عن
قتادة «أن بورك من في النّار ومن حولها» قال : الملائكة. وحكى الكسائي عن العرب :
باركك الله ، وبارك فيك.
(فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ) في موضع نصب على الحال. (كَأَنَّها جَانٌ) والجانّ عند العرب الثعبان ، وهو الحيّة العظيمة (وَلَّى مُدْبِراً) على الحال. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) قال قتادة : أي لم
__________________
يلتفت. (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي قيل له لا تخف من الحيّة وضررها. (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ
الْمُرْسَلُونَ) هذا تمام الكلام.
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ
ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) استثناء ليس من الأول في موضع نصب. وزعم الفراء أن الاستثناء من محذوف ، والمعنى عنده : إنّي لا يخاف لديّ
المرسلون إنّما يخاف غيرهم إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فإنه لا يخاف ، وزعم
الفراء : أيضا أنّ بعض النحويين يجعل إلّا بمعنى الواو. قال أبو
جعفر : استثناء من محذوف محال لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز :
إنّي أضرب القوم إلّا زيدا ، بمعنى لا أضرب القوم إنّما أضرب غيرهم إلّا زيدا ،
وهذا ضدّ البيان ، والمجيء بما لا يعرف معناه. وأما كان إلّا بمعنى الواو فلا وجه
له ولا يجوز في شيء من الكلام. ومعنى «إلّا» خلاف معنى الواو لأنك إذا قلت : جاءني
إخوتك إلّا زيدا ، أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة. وإذا قلت : جاءني إخوتك وزيد ،
أدخلت زيدا فيما دخل فيه الإخوة فلا شبه بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول ثالث :
يكون المعنى أن موسى صلىاللهعليهوسلم لما خاف من الحية فقال له جلّ وعزّ : (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ
الْمُرْسَلُونَ) ، علم جلّ وعزّ أنّ من عصى منهم يسرّ الخيفة فاستثناه فقال
: إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء أي فانه يخاف ، وإن كنت قد غفرت له فإن قال
قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله جلّ
وعزّ أن يكونوا خائفين من معاصيه ، وجلين ، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من
أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافون من المطالبة به ، وقرأ مجاهد (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) قال أبو جعفر :
وهذا بعيد من غير
جهة ، منها أنه أقام الصفة مقام الموصوف في شيء مشترك ، ومنها أن ازدواج الكلام
بدّل حسنا بعد سيئ على أن بعضهم قد أنشد بيت زهير : [البسيط]
٣١٦ ـ يطلب شأو
امرأين قدّما حسنا
|
|
فاقا الملوك
وبذّا هذه السّوقا
|
(تَخْرُجْ
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) جزم «تخرج» لأنه جواب الأمر ، وفيه معنى المجازاة.
(فِي تِسْعِ آياتٍ) أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى هذه الآية داخلة في تسع آيات.
__________________
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً) نصب على الحال. قال أبو إسحاق : ويجوز «مبصرة» أي مبيّنة
تبصر. قال الأخفش : ويجوز «مبصرة» مصدر ، وكما يقال : «الولد مجبنة».
قال سعيد عن قتادة
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) قال : ورث منه النبوّة والملك صلىاللهعليهوسلم (وَقالَ يا أَيُّهَا
النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) خبر ما لم يسم فاعله. والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام ،
والله جلّ وعزّ أعلم بما أراد.
يقال : إنّ الجنّ
سخّرت له لأنه ملك مضارّها ومنافعها ، وسخّرت له الطير بأن جعل فيها ما يفهم عنه
فكانت تستره من الشمس وغيرها. وقيل : لهذا تفقّد الهدهد.
الكلام في القول
كما مضى في المنطق. (يا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) فجاء على خطاب الآدميين لما خبر عنهن بأخبار الآدميين. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) يكون نهيا وجوابا ، والنون للتوكيد.
(وَتَفَقَّدَ
الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو بإسكان الياء وقرءوا وما لي
لا أعبد الذي فطرني [يس : ٢٢] بتحريك الياء ، فزعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين
ما كان مبتدأ وبين ما كان معطوفا على ما قبله ، قال أبو جعفر :
وهذا ليس بشيء
وإنما هي ياء النفس ، من العرب من يفتحها ، ومنهم من يسكنها ، فقرؤوا باللغتين
والدليل على هذا أن جماعة من جلّة القراء قرءوها جميعا بالفتح ، منهم عبد الله بن
كثير وعاصم والكسائي ، وأن حمزة قرأهما جميعا بالتسكين ، واللغة الفصيحة من ياء
النفس أن تكون مفتوحة لأنها اسم وهي على حرف واحد فكان الاختيار أن لا تسكّن فيجحف
بالاسم. (أَمْ كانَ مِنَ
الْغائِبِينَ) بمعنى أبل.
(لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) مؤكد بالنون الثقيلة ، وهي لازمة هي
والخفيفة. قال أبو
حاتم : ولو قرئت (لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) لجاز (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ويجوز أن يكون هذا النون الخفيفة ثمّ أدغمت في النون التي
مع الياء ، ويجوز أن تكون النون التي مع الياء حذفت ، كما يقال : إنّي ذاهب ويكون
مؤكّدا بالثقيلة ، وأهل مكة يقرءون «أو ليأتينّني» .
(فَمَكَثَ غَيْرَ
بَعِيدٍ) قراء عاصم ، وتروى عن الأعمش ، وقراءة سائر القراء (فَمَكَثَ) قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا ، كما قالوا : قعد يقعد
قعودا. قال :
ومكث مثل ظرف ،
وحجّة من ضمّ عند سيبويه أنه غير متعدّ كظرف. قال أبو جعفر :
وسمعت علي بن
سليمان يقول : الدليل على أن مكث أفصح قولهم ماكث ، ولا يقولون : مكث فهذا مخالف
لظرف. قال أبو جعفر : وهذا احتجاج بيّن لأن فعل فهو فاعل لا يعرف في كلام العرب
إلّا في أشياء مختلف فيها ، ومنها ما هو مردود. فأما اللواتي اختلف فيها فطلقت
المرأة فهي طالق ، وقد قيل : طلقت ، وحمض الخلّ فهو حامض ، وقد قيل : حمض. وزعم
أبو حاتم : أنّ قولهم فره فهو فاره لا اختلاف فيه.
كذا قال ، وقد حكى
غيره : فره يفره فهو فره وفاره مثل حذر ، حكى هذا قطرب. (غَيْرَ بَعِيدٍ) قال أبو إسحاق : أي وقتا غير بعيد. (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) فكان في هذا ردّ على من قال : إنّ الأنبياء تعلم الغيب ،
وحكى الفراء (أحطّ) يدغم التاء
في الطاء ، وحكى أحتّ يقلب الطاء تاءا ويدغم «وجئتك من سبأ بنبإ يقين» قراءة
المدنيين والكوفيين. وقرأ المكيون والبصريون (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ
يَقِينٍ) بغير صرف وزعم الفراء أن الرّؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء رحمهالله عن سبأ فقال : ما أدري ما هو. وتأوّل الفراء على أبي عمرو
أنه منعه من الصرف لأنه مجهول وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف واحتجّ بقوله : [الطويل]
٣١٧ ـ يكن ما أساء النّار في رأس كبكبا
وأبو عمرو أجلّ من
أن يقول مثل هذا ، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنّما منعه من الصرف لأنه
لم يعرفه وإنما قال : لا أعرفه ، ولو سئل نحويّ عن اسم
__________________
فقال : لا أعرفه ،
لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف بل الحقّ على غير هذا ، والواجب إذا لم
تعرفه أن تصرفه لأن أصل الأسماء الصرف ، وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلّة داخلة
عليه فالأصل ثابت فلا يزول بما لا يعرف. واحتجاجه بكبكب لا معنى له لأن كبكب جبل
معروف ، منع من الصرف لأنه بقعة ، وإن كان الصرف فيه حسنا. والدليل على ما قلنا إن
أبا عمرو إنما احتجّ بكلام العرب ولم يحتجّ بأنه لا يعرفه ، وأنشد للنابغة الجعدي
: [المنسرح]
٣١٨ ـ من سبأ
الحاضرين مأرب إذ
|
|
يبنون من دون
سيله العرما
|
وإن كان أبو عمرو
قد عورض من هذا فروي «من سبأ الحاضرين ...» حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال أبو
جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد ابن يزيد يقول : سمعت عمارة يقرأ (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ) [يس : ٤٠] بالنصب
، حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقد تكلّم أبو عبيد القاسم بن سلام في هذا بكلام
كثير التخليط ونمليه على نص ما قال ، إذ كان كتابه أصلا من الأصول ليوقف على نصّ
ما قال ، ويعلم موضع الغلط منه. قال أبو عبيد : وهي قراءتنا التي نختار ، يعني «من
سبأ بنبإ يقين» ، قال أبو عبيد : لأن سبأ اسم مؤنث لامرأة أو قبيلة ، وليس بخفيف
فيجري لخفّته والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل ، ومن ذهب إلى هذا لزمه أن يجري
ثمود في كلّ القرآن فإنه وإن كان اليوم اسم قبيلة فإنه في الأصل اسم رجل وكذلك سبأ
، فإن قيل : إن ثمود أكثر في العدد من سبأ بحرف ، قيل : إن الحركة التي في الباء
والهمزة قد زادتا في ثقله أكثر من ذلك الحرف أو مثله ، إنما الزيادة في ثمود واو
ساكنة. قال أبو جعفر : قوله : «لأن سبأ اسم مؤنّث لامرأة أو قبيلة» يوجب أنه ترك
صرفه لأحد هذين الأمرين ، وأحدهما لا يشبه صاحبه ، لأن اسم المرأة تأنيث حقيقى
واسم القبيلة تأنيث غير حقيقي ، والاختيار عند سيبويه في أسماء القبائل إذ كان لا يستعمل فيها «بنو» الصرف نحو
ثمود ، وقوله : «ليس بخفيف فيجري لخفّته» ليس بحجّة على من صرفه ؛ لأنه لم يقل أحد
علمناه : صرفته لأنه خفيف. وقوله : «والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل» ليس هذا
حجّة من أجراه ، إنما حجته أنه اسم للحيّ وإن كان أصله على الحقيقة أنه اسم لرجل.
روى فروة بن مسيك وعبد الله بن عباس عن النبي
__________________
صلىاللهعليهوسلم وهو معروف في النسب «سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان» وإن
كان أبو إسحاق قد زعم أنه من صرفه جعله اسما للبلد. وقوله «فإن قيل : إنّ ثمود
أكثر في العدد من سبأ قيل : إن الحركتين اللتين في الباء والهمزة قد زادتا في ثقله
أكثر من ذلك الحرف أو مثله» فهذا موضع التخليط لأن الحركة التي في الباء والهمزة
في ثمود وسبأ بالحركة لا معنى له لأنهما جميعا متحركان. قال أبو جعفر : والقول في
سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه اسم رجل في الأصل ، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحيّ
، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود ؛ إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف ،
وحجته في ذلك قاطعة لأن هذا الاسم لما كان يقع للتذكير والتأنيث كان التذكير أولى
؛ لأنه الأصل والأخف.
(وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة ، وقرأ الزهري وأبو
جعفر وأبو عبد الرحمن وحميد وطلحة والكسائي ألا يا اسجدوا لله القراءة الأولى هي أن دخلت عليها «وإن» في موضع نصب. قال
الأخفش : المعنى : لئلا يسجدوا. وقال الكسائي :
المعنى : فصدّهم
أن لا يسجدوا. وقال علي بن سليمان : أن بدل من أعمالهم في موضع نصب. وقيل : موضعها
خفض على البدل من السبيل ، والقراءة الثانية بمعنى ألا يا هؤلاء اسجدوا ، كما قال
: [الطويل]
٣١٩ ـ ألا يا
اسلمي يا دارمي على البلى
|
|
ولا زال منهلّا
بجرعائك القطر
|
وقال آخر : [البسيط]
٣٢٠ ـ يا لعنة
الله والأقوام كلّهم
|
|
والصّالحين على
سمعان من جار
|
__________________
والمعنى : يا
هؤلاء لعنة الله. قال أبو جعفر : وهذا موجود في كلام العرب إلّا أنه غير معتاد أن
يقال : يا قدم زيد ، والقراءة به بعيدة لأن الكلام يكون معترضا. والقراءة الأولى
يكون الكلام بها متّسقا ، وأيضا السواد على غير هذه القراءة ؛ لأنه قد حذف منها
ألفان وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو (يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ) [المائدة :
١١٠]. (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والوقف عليه بتسكين الهمزة ، وإذا كان في موضع رفع جاز
الرّوم والإشمام ولا يجوز التضعيف ، وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ
الّذي يخرج الخبا في السماوات والأرض بألف غير مهموزة ، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية واعتل
بأنه أن خفّف الهمزة ألقى حركتها على الباء وحذفها فقال :
«الخب في السّموات»
وأنه إن حول الهمزة قال : «الخبي» بإسكان الباء وبعدها ياء. قال أبو جعفر : قوله
لا يجوز «الخبا» وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : كان دون
أصحابه في النحو ، ولم يلحق بهم ، يعني أبا حاتم ، إلّا أنه إذا خرج من بلده لم
يلق أعلم منه. حكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن
وكانت مفتوحة ، وتبدل منها واوا إذ كان قبلها ساكن وكانت مضمومة ، وتبدل منها ياء
إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة ، وأنه يقال : هذا الوثو ، وعجبت من الوثى ،
ورأيت الوثا ، وهذا من وثئت يده ، وكذلك هذا الخبو ، وعجبت من الخبي ، ورأيت
الخبا. وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدلت منها هذه الحروف.
وحكى سيبويه عن
قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون : هذا الخبوء فيضمّون الساكن إذا كانت
الهمزة مضمومة ، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة ، ويفتحون
الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة. وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة
مضمومة إلّا أن هذا عن بني تميم ، فيقولون : هذا الرّدي ، وزعم أنهم لم يضمّوا
الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة لأنه ليس في الكلام فعل.
وهذا كلّه لغات
داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة.
(اذْهَبْ بِكِتابِي
هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) قال أبو إسحاق : فيها خمسة أوجه : (فألقهي إليهم) بإثبات الياء في اللفظ ، وبحذف الياء
وإثبات الكسرة دالّة عليها (فألقه إليهم) ،
__________________
وبضم الهاء واثبات
الواو على الأصل (فألقهو إليهم) ، وبحذف الواو واثبات الضمة (فألقه إليهم) ،
واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء (فألقه إليهم) وهذا عند النحويين لا
يجوز إلا على حيلة بعيدة يكون يقدّر الوقف. وسمعت علي بن سليمان يقول : لا تلتفت
إلى هذه اللغة ، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن تحذف الإعراب من الأسماء.
أي وإنّ الكلام ،
أو أنّ مبتدأ الكلام «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، وأجاز الفراء (إِنَّهُ مِنْ
سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ) بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بمعنى : ألقي إليّ
أنه من سليمان ، وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض.
(أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَ) ذكر أبو إسحاق في «أن» ثلاثة أوجه : تكون في موضع نصب على
معنى بأن ، وتكون في موضع رفع بمعنى ألقي إليّ أن ، والوجه الثالث أن تكون بمعنى
أي مثل (وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٦] المعنى أي
امشوا وقالوا أن امشوا ، وكذا «ألّا تعلو عليّ» أي قال : لا تعلوا عليّ ، وعن وهب
بن منبّه أنه قرأ ألّا تغلوا علي من غلا يغلو إذا تجاوز (وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ) يكتب بغير ياء لأن الواو لا تنفصل.
(قالَتْ يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي) بتخفيف الهمزة الثانية اللغة الفصيحة ، وإن شئت خففت
الأولى وحدها ، وإن شئت خففتهما جميعا ، وإن شئت حققتهما جميعا ، وهي أبعد اللغات
لثقل الجمع بين همزتين. (ما كُنْتُ قاطِعَةً
أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) حذفت النون للنصب ، وحذفت الياء لأن الكسرة دالة عليها
والنون مع الفعل وهي رأس آية ، ولا يجوز فتح النون ولو كان كذلك لكان الفعل
مرفوعا.
(أُولُوا) هذا اسم للجمع والواحد ذو. وروى الأعمش عن مجاهد قال : كان
__________________
تحت يديها اثنا
عشر ألفا قيول تحت يدي كلّ قيل مائة ألف فأجابتهم عن هذا (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا
قَرْيَةً أَفْسَدُوها) أي عنوة أي على القهر والغلبة (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها
أَذِلَّةً) قال الله جلّ وعزّ : (وَكَذلِكَ
يَفْعَلُونَ) وليس هذا من كلامها ، كذا قال سعيد بن جبير.
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ
إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أرسلت إليهم بلبنة من ذهب
أو بذهب ، قرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا به وقالت :
«مرسلة إليهم»
وإنما هو إلى سليمان صلىاللهعليهوسلم كما يخبر عن الملوك فيخاطبون ويخاطبون ، وقد قيل : إنّ
الهدية كانت غير هذا إلّا أن قوله : «أتمدّونني بمال» يدلّ على هذا (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ
الْمُرْسَلُونَ) والأصل «بما» ، حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ،
وإنما يكون هذا إذا كان قبل «ما» حرف جر ، تقول في الخبر : رغبت فيما عندك فتثبت
فيما عندك الألف لا غير. وتقول في الاستفهام : فيم نظرت؟ فتحذف الألف ، وأجاز
الفراء إثباتها في الاستفهام ، هذا الشذوذ الت جاء
القرآن بخلافها.
(فَلَمَّا جاءَ
سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) وإن شئت أدغمت النون في النون فذلك جائز وإن كان فيه جمع
بين ساكنين.
(فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ
بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) لام قسم والنون لها لازمة. قال أبو جعفر : وسمعت أبا الحسن
بن كيسان يقول : هي لام توكيد ، وكذا كان عنده أنّ اللامات كلّها ثلاث لا غير :
لام توكيد ولام أمر ولام خفض ، وهذا قول الحذّاق من النحويين لأنهم يردّون الشيء
إلى أصله ، وهذا لا يتهيّأ إلّا لمن درب بالعربية. (أَذِلَّةً) على الحال. (وَهُمْ صاغِرُونَ) في موضع الحال أيضا. قيل : إنما أراد بهذا أنهم إذا أتوا
مسلمين لم يجز أن يؤتى بعرشها إلّا بإذنها ، وقيل : إنما أراد سليمان صلىاللهعليهوسلم أن يظهر آية معجزة.
__________________
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ
الْجِنِ) قال أبو إسحاق : العفريت النافذ في الأمور المبالغ فيها
الذي معه خبث ودهاء. ويقال : عفر وعفارية وعفرية ، وعن أبي رجاء أنه قرأ قال عفرية
من الجنّ ويقال :
عفرية نفرية إتباع ، ومن قال : عفرية جمعه على عفار ، ومن قال :
عفريت كان له في
الجمع ثلاثة أوجه : إن شاء قال : عفاريت وإن شاء قال : عفار لأن التاء زائدة ، كما
يقال : طواغ في جمع طاغوت ، وإن شاء عوض من التاء فقال :
عفاريّ.
قال الأخفش :
المعنى : لينظر أأشكر أم أكفر ، وقال غيره : معنى ليبلوني ليتعبّدني وهو مجاز.
(قالَ نَكِّرُوا لَها
عَرْشَها) زعم الفراء أنه إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له :
إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها (نَنْظُرْ) جزم لأنه جواب الأمر ، ومن رفعه جعله مستأنفا (أَتَهْتَدِي) في معناه قولان : أحدهما أتهتدي بمعرفته ، والآخر أتهتدي
لهذه الآية العظيمة وتعلم أنّها لا يأتي بها إلّا نبيّ من عند الله جلّ وعزّ
فتهتدي وتدع الضّلالة.
(قالَتْ كَأَنَّهُ
هُوَ) خبر كأنّ مكنيّ عنه لأنه قد تقدّم ذكره. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) قيل :
العلم بالتوحيد (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) قيل : لأن قومها أسلموا قبلها.
تكون «ما» في موضع
رفع أي صدّها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم
، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب ، ويكون التقدير وصدها الله جل وعز عن عبادتها
أي وصدها سليمان صلىاللهعليهوسلم عن عبادتها فحذف «عن» وتعدّى الفعل ، وأنشد سيبويه : [الطويل]
__________________
٣٢١ ـ ونبئت عبد
الله بالجوّ أصبحت
|
|
كراما مواليها
لئيما صميمها
|
وزعم أنّ المعنى
عنده نبّئت عن عبد الله ، ومن قرأ (أنّها) بفتح الهمزة كانت أنّ في موضع نصب بمعنى لأنها ، ويجوز أن
يكون بدلا من «ما» والكسر على الاستئناف.
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي
الصَّرْحَ) التقدير على مذهب سيبويه ادخلي إلى الصرح فحذفت «إلى» وعدّي الفعل. وأبو العباس
يغلّطه في هذا قال لأن «دخل» يدلّ على مفعول.
(قالَتْ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي) كسرت إن لأنها مبتدأة بعد القول ، ومن العرب من يفتحها
فيعمل فيها القول (وَأَسْلَمْتُ مَعَ
سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إذا سكنت (مَعَ) فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين ، وإذا فتحتها
ففيها قولان : أحدهما أنها بمعنى الظرف اسم ، والآخر أنها حرف خافض مبني على
الفتح.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى
ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) جعل اسما للقبيلة فلم يصرف ، وصرفه حسن على أنه اسم للحيّ.
(فَإِذا هُمْ
فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) على المعنى ويختصمان على اللفظ.
(قالَ يا قَوْمِ لِمَ
تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قال أبو إسحاق : أي لم قلتم : إن كان ما أتيت به حقا فأتنا
بالعذاب.
(قالُوا اطَّيَّرْنا
بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) قال مجاهد : أي تشاءمنا. قال أبو إسحاق : الأصل تطيّرنا
فأدغمت التاء في الطاء لأنها من مخرجها واجتلبت ألف الوصل لئلا يبتدأ بساكن ، فإذا
وصلت حذفتها (قالَ طائِرُكُمْ
عِنْدَ اللهِ) قال الفراء : يقول في اللوح المحفوظ عند الله عزوجل تشاءمون بي وتتطيّرون ، وذلك من عند الله تعالى مثل قوله
__________________
(طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [يس : ١٩] أي لازم
لكم ما كان من خير أو شرّ لازم لكم وفي رقابكم.
(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ
تِسْعَةُ رَهْطٍ) اسم للجمع ، وجمعه أرهط ، وجمع الجمع أراهط.
(يُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) قال الضحاك : كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة ، وكانوا
يفسدون ويأمرون بالفساد فجلسوا تحت صخرة عظيمة على نهر فقلبها الله جلّ وعزّ عليهم
فقتلهم فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
(قالُوا تَقاسَمُوا
بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) وهذا ، من أحسن ما قرئ به هذا الحرف لأنه يدخل فيه
المخاطبون في اللفظ والمعنى. وإذا قرأ لتبيّننّه لم يدخل فيه المخاطبون في اللفظ ودخلوا في المعنى ، وقراءة
مجاهد ليبيّتنّه بالياء. قال أبو إسحاق : (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي قالوا لنبيتنه متقاسمين ، أي متحالفين (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما
شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) «مهلك» بمعنى
إهلاك ، ويكون بمعنى الظرف وعن عاصم ما شهدنا مهتل بمعنى هلاك وعنه (مَهْلِكَ) وهو اسم موضع الهلاك كما تقول : مجلس.
(وَمَكَرُوا مَكْراً) إنما عملوه. (وَمَكَرْنا مَكْراً) جازيناهم على ذلك ، وقيل المكر من الله الإتيان بالعقوبة
المستحقّة من حيث لا يدري العبد.
(فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) وقرأ الكوفيون والحسن وابن أبي إسحاق وهي قراءة الكسائي (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بفتح الهمزة ، وزعم الفراء أن فتحهما من جهتين : إحداهما أن تردّها على كيف. قال أبو
جعفر : وهذا لا يحصّل لأن كيف للاستفهام و «أنّا» غير داخل في الاستفهام ، والجهة
الأخرى عنده أن تكرّ عليها «كان» كأنك قلت : كان عاقبة أمرهم تدميرهم. قال أبو
جعفر : وهذا متعسّف ، وفي فتحها
__________________
خمسة أوجه : منها
أن يكون التقدير : لأنّا دمّرناهم وتكون أن في موضع نصب ، ويجوز أن تكون في موضع
رفع بدلا من عاقبة ، وليجوز أن تكون في موضع نصب على خبر كان ويجوز أن تنصب عاقبة
على خبر كان وتكون أنّ في موضع رفع على أنّها اسم كان ، ويجوز أن تكون في موضع رفع
على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة ، والتقدير : من أنّا دمرناهم ، ومن قرأ (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) جعلها مستأنفه قال أبو حاتم : وفي حرف أبيّ أن دمّرناهم تصديقا لفتحها.
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) النصب على الحال ، والرفع من خمسة أوجه تكون «بيوتهم» بدلا
من تلك و «خاوية» خبر الابتداء ، وتكون «بيوتهم» خبرا و «خاوية» خبرا ثانيا كما
يقال : هذا حلو حامض ، وتكون «خاوية» على إضمار مبتدأ أي هي خاوية ، وتكون بدلا من
بيوتهم لأن النكرة تبدل من المعرفة.
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ) بمعنى وأرسلنا لوطا أو واذكر لوطا.
(أَإِنَّكُمْ) بتخفيف الهمزة الثانية اختيار الخليل وسيبويه رحمهماالله فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلّها
لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. (وَتَأْتُونَ فِي
نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩].
قال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس.
وقرأ الحسن وابن
أبي إسحاق (فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) جعلا «أن» خبر كان ، فما كان جواب قومه إلّا قولهم. وقرأ
عاصم (قَدَّرْناها) مخفّفا ، والمعنى
واحد يقال : قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدّرته.
(قُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ) قال الفراء : المعنى قيل للوط صلىاللهعليهوسلم قل الحمد لله على هلكهم
__________________
(وَسَلامٌ عَلى
عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا فقالوا : هو مخاطبة
لنبيّنا صلىاللهعليهوسلم. قال أبو جعفر : وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وكلّ ما فيه فهو مخاطب به عليهالسلام إلّا ما لم يصحّ معناه إلّا بغيره. (آللهُ خَيْرٌ) وأجاز أبو حاتم أالله بهمزتين ولم نعلم أحدا تابعه على ذلك
هذه المدّة إنما جيء بها فرقا بين الاستفهام والخبر ، وهذه ألف التوقيف ، «وخير»
هاهنا ليس بمعنى أفعل منك إنما هو مثل قول الشاعر حسّان : [الوافر]
٣٢٢ ـ فشرّكما لخيركما الفداء
فالمعنى فالذي فيه
الشر منكما للذي فيه الخير الفداء ، ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت :
فلان شرّ من فلان ، ففي كلّ واحد منهما شرّ.
قال عكرمة :
الحدائق النخل (ذاتَ بَهْجَةٍ) قال أهل التفسير : البهجة الزينة والحسن.
(قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) قال أبو إسحاق : هذا بدل من «من» والمعنى لا يعلم أحد
الغيب إلّا الله قال : ومن نصب نصب على الاستثناء يعني في الكلام. قال أبو جعفر :
وسمعته يحتجّ بهذه الآية على من صدّق منجّما ، وقال : أخاف أن يكفر لعموم هذه
الآية.
(بَلِ ادَّارَكَ
عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) هذه قراءة أكثر النحويين منهم شيبة ونافع ويحيى بن وثاب وعاصم
والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير وحميد بل أدرك ، وقرأ عطاء بن يسار بل أدرك بتخفيف الهمزة ، وقرأ ابن محيصن بل أدرك علمهم في الآخرة
وقرأ ابن عباس بلى ادّارك وإسناده إسناد صحيح هو من حديث شعبة عن أبي حمزة عن ابن
عباس ، وزعم هارون القارئ أن قراءة أبيّ بن كعب بل تدارك علمهم. القراءة الأولى
والآخرة معناهما واحد ؛ لأن
__________________
أصل ادّارك تدارك
أدغمت التاء في الدال فجيء بألف الوصل ؛ لأنه لا يبتدأ بساكن فإذا وصلت سقطت ألف
الوصل وكسرت اللام لالتقاء الساكنين. وفي معناه قولان : أحدهما أنّ المعنى بل
تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كلّما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به ، والقول
الآخر أن المعنى بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة فقالوا تكون ، وقالوا لا تكون.
وفي معنى أدرك قولان : أحدهما معناه كمل في الآخرة ، وهو مثل الأول ، والآخر على
معنى الإنكار وهذا مذهب أبي إسحاق ، واستدلّ على معنى صحّة هذا القول بأن بعده (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ). فأما معنى أدرك فليس فيه إلّا وجه واحد ، يكون فيه معنى
الإنكار كما تقول : أأنا قاتلتك أي لم أقاتلك فيكون المعنى لم يدرك. (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) حذفت منه الياء لالتقاء الساكنين ، ولم يجز تحريكها لثقل
الحركة فيها.
هكذا يقرأ نافع في هذه السورة وفي سورة «العنكبوت» ، وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلّا أنه خفّف الهمزة ، وقرأ
عاصم وحمزة باستفهامين أيضا إلّا أنهما حقّقا
الهمزتين. وكل ما
ذكرناه في السورتين جميعا واحد ، وقرأ الكسائي (أَإِذا) بهمزتين (اننا) بنونين في هذه السورة وفي سورة «العنكبوت» باستفهامين. القراءة الأولى إذا كنا ترابا وآباؤنا أننا
موافقة للخطّ حسنة ، وقد عارض فيها أبو حاتم ، فقال : وهذا معنى كلامه «إذ» ليس
باستفهام و «أإنا» استفهام وفيه «أنّ» فكيف يجوز أن يعمل ما في حيّز الاستفهام
فيما قبله ، وكيف يجوز أن يعمل ما بعد أنّ فيما قبلها ، وكيف يجوز غدا أنّ زيدا
خارج ، فإذا كان فيه استفهام كان أبعد ، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره. قال
أبو جعفر : وسمعت محمد بن الوليد يقول : سألنا أبو العباس محمد بن يزيد عن آية من
القرآن صعبة الإعراب مشكلة وهي قوله جلّ وعزّ : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سبأ : ٧] فقال :
إنّ عمل في «إذا» ينبئكم كان محالا لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت ، وإن عمل فيه مابعد
إن كان المعنى صحيحا ، وكان خطأ في العربية أن يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها.
وهذا سؤال بيّن ،
ويجب أن يذكر في السورة التي هو فيها. فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع وردّ على
من جمع بين استفهامين ، واستدلّ بقول الله جلّ وعزّ (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤]
، وبقوله جلّ وعزّ (أَفَإِنْ مِتَّ
فَهُمُ
__________________
الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤]
وهذا الرّد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء ، ولا يشبه ما
جاء به من الآية شيئا ، والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد ، ومعنى (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) أفإن مت خلدوا ،
ونظير هذا :
أزيد منطلق ، ولا
يقال : أزيد أمنطلق ، لأنهما بمنزلة شيء واحد ، وليس كذا الآية ، لأن الثاني جملة
قائمة بنفسها فصلح فيها الاستفهام والأول كلام منفرد يصلح فيه الاستفهام فأما من
حذف الاستفهام من الثاني الاستفهام لأن في الكلام دليلا عليه لمعنى الإنكار.
(وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ) هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي ، وأجاز
الفراء وأبو حاتم وما أنت بهاد العمى وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وما أنت تهدي العمي عن
ضلالتهم وفي حرف عبد الله وما أن تهدي العمي عن ضلالتهم. القراءة
الأولى بحذف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين وإثباتها في الخط ، والقراءة الثانية
بحذف الياء في اللفظ والخطّ لسكونها وسكون التنوين بعدها ، من العرب من يثبتها في
الوقف فيقول : مررت بقاضي ، لأن التنوين لا يثبت في الوقف ، والقراءة الثالثة بحذف
الياء منها في اللفظ وفي الوصل لالتقاء الساكنين وفي حرف عبد الله وما إن تهدي إن
زائدة للتوكيد وهي كافّة لما عن العمل (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا
مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) قال أبو إسحاق : أي ما تسمع قال : والمعنى ما تسمع فيعي
ويعمل إلا من يؤمن بآياتنا فأما من يسمع ولا يقبل فبمنزلة الأصم.
(وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) قالت حفصة ابنة سيرين : سألت أبا العالية عن قول الله جلّ
وعزّ : (وَإِذا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) فقال : أوحى الله جلّ وعزّ إلى نوح صلىاللهعليهوسلم : (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] فكأنما
كان على وجهي غطاء فكشف. قال أبو جعفر : وهذا من حسن الجواب لأنّ الناس ممتحنون
ومؤخّرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين ، ومن قد علم الله جلّ وعزّ أنه سيؤمن ويتوب ،
ولهذا أمرنا بأخذ الجزية فإذا زال هذا وجب القول عليهم فصاروا كقوم نوح صلىاللهعليهوسلم حين قال الله جلّ وعزّ فيهم (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)(أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ
الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) قال عبد الله بن عمر رحمة الله عليه : تخرج الدابة من صدع
في الصفا ، وقرأ ابن عباس
__________________
وعكرمة وعاصم
الجحدري وطلحة وأبو زرعة : (أَخْرَجْنا لَهُمْ
دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) قال عكرمة : أي تسمهم. وفي معنى «تكلمهم» قولان : فأحسن ما
قيل فيه ما روي عن ابن عباس قال : هي والله تكلّمهم وتكلمهم. تكلّم المؤمن ، وتكلم
الكافر أو الفاجر تجرحه. وقال أبو حاتم : تكلّمهم كما تقول : تجرّحهم يذهب إلى
أنّه تكثير من تكلمهم. وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق (أَنَّ النَّاسَ) بفتح الهمزة ، وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة إن
الناس بكسر الهمزة. قال أبو جعفر : في المفتوحة قولان وكذا المكسورة ، قال الأخفش
: المعنى بأنّ الناس ، وقال أبو عبيد :
موضعها نصب بوقوع
الفعل عليها أي تخبرهم أن الناس. وقال الكسائي : والفراء :
إن الناس بالكسر
على الاستئناف ، وقال الأخفش : هو بمعنى تقول إنّ النّاس.
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ) بمعنى واذكر ، ومذهب الفراء أنّ المعنى وذلك يوم ينفخ في الصور ، وأجاز فيه الحذف
وجعله مثل (وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) [سبأ : ٥١].
(فَفَزِعَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فهذا ماض «وينفخ» مستقبل ، ويقال : كيف عطف ماض على مستقبل؟
وزعم الفراء أنه محمول على المعنى ، لأن المعنى إذا نفخ في الصور ففزع. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) في موضع نصب على الاستثناء. قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم
والكسائي وكلّ آتوه داخرين جعلوه فعلا مستقبلا ، وقرأ الأعمش وحمزة (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) جعلاه فعلا ماضيا. قال أبو جعفر : وفي كتابي عن أبي إسحاق
في القرآن من قرأ (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) وحده على لفظ كلّ ومن قرأ (آتَوْهُ) جمع على معناها.
وهذا القول غلط
قبيح لأنه إذا قال : وكلّ أتوه فلم يوحد وإنما جمع فلو وحّد لقال :
أتاه ، ولكن من
قال : أتوه جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنّه ردّه على «ففزع» ومن قرأ وكلّ آتوه
حمله على المعنى ، وقال : آتوه لأنها جملة منقطعة من الأول.
(وَتَرَى الْجِبالَ) من رؤية العين ، ولو كان من رؤية القلب لتعدّت إلى مفعولين
، والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الرّاء فتحرّكت الراء وحذفت الهمزة فهذه
سبيل
__________________
تخفيف الهمزة إذا
كان قبلها ساكن إلّا أنّ التخفيف لازم لترى وأخواتها من المضارع لكثرته في الكلام
، وأنه يقع لرؤية العين والقلب. (تَحْسَبُها جامِدَةً) لا بدّ لتحسب من مفعولين ، وظننت قد يتعدّى إلى واحد فقط.
وأهل الكوفة يقرءون (تَحْسَبُها) وهو القياس لأنه من حسب يحسب إلّا أنه قد روي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل فيكون على فعل يفعل ،
كما قالوا نعم ينعم ويئس ييئس ، وحكى بئس يبئس من السالم ، لا يعرف في كلام العرب
غير هذه الأحرف. (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ
السَّحابِ) مصدر ، وتقديره مرّا مثل مرّ السحاب فأقمت الصّفة مقام
الموصوف والمضاف إليه. (صُنْعَ اللهِ) منصوب عند الخليل وسيبويه رحمهماالله على أنه مصدر لأنه لما قال عزوجل «وهي تمرّ مرّ
السّحاب» دلّ على أنه صنع ذلك صنعا ، ويجوز النصب على الإغراء أي انظروا صنع الله.
قال أبو إسحاق : ويجوز الرفع على معنى ذلك صنع الله.
(وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ
يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) تخفض يوما على الإضافة وتحذف التنوين لها ومن نصب وأضاف فقرأ (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) جعل يومئذ مبنيا على الفتح ، مضاف إلى غير متمكّن ، وأنشد
سيبويه : [الطويل]
٣٢٣ ـ على حين ألهى النّاس جلّ أمورهم
فإن قال قائل : قد
قال سيبويه : التنوين علامة الأمكن عندهم ، وقال : وبعدت من المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكّنة ، فكيف
يكون التنوين علامة للأمكن ثمّ يدخل فيما لا يتمكّن بوجه من الوجوه فهذا ضرب من
المناقضة؟ فالجواب عن هذا أن التنوين الذي على سيبويه ليس هو هذا التنوين وإنما
يتوهّمه أنه كان ضعيفا في العربية والتنوين الذي أراده هو الذي يقول بعض النحويين
فيه : أدخل فرقا بيّن ما ينصرف وما لا ينصرف ، ويقول بعضهم : فرقا بين الاسم
والفعل. وللتنوين قسمان آخران يكون فرقا بين المعرفة والنكرة ، ويكون عوضا في قولك
: جوار وفي قولك يومئذ.
والفعل من هذا
كبيته واللازم منه أكبّ وقلّ ما يأتي هذا في كلام العرب.
__________________
(الَّذِي) في موضع نصب نعت لرب ، ولو كان بالألف واللام قلت :
المحرّمها ، فإن كان نعتا للبلدة المحرّمها هو ، لا بدّ من إظهار المضمر مع الألف
واللام لأن الفعل جرى على غير من هو له فإن قلت : الذي حرّمها لم تحتج أن تقول هو.
(وَأَنْ أَتْلُوَا) نصب بأن. قال الفراء : وفي إحدى القراءتين وأن أتل القرآن ، وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذفت منه الواو. قال
أبو جعفر :
ولا نعرف أحدا قرأ
بهذه القراءة وهي مخالفة لجميع المصاحف ، وقوله في موضع جزم خطأ عند البصريين لأنه
لا يكون جزم بلا جازم ، وتقديره اللام خطأ لم يكن بدّ من المجيء بحرف المضارعة
فكيف تضمر اللام وهي إذا جيء بها كان الكلام على غير ذلك ، وحروف الجزم لا تضمر ،
وهذا الفعل لا يجوز أن يكون معربا لأنه ليس بالمضارع. قال سيبويه : أسكنوها لأنها
لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة.
(وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بالتاء ليكون الكلام على نسق واحد ، وبالياء على أن يردّ
إلى ما قبله أو على تحويل المخاطبة.
__________________
٢٨
شرح إعراب سورة القصص
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(تِلْكَ) في موضع رفع بمعنى هذه تلك و (آياتُ) بدل منها ، ويجوز أن يكون «تلك» في موضع نصب بنتلو و «آيات»
بدل منها أيضا وانتصابها كما تقول : زيدا ضربت.
(عَلا) هاهنا فعل ، وقد يكون في غير هذا اسما إذا قلت : أخذته من
على الحائط ، وتكون حرفا ، في قولك : على زيد مال. ويجوز كتابته بالياء إذا كان
اسما أو حرفا ، لأن ألفه ينقلب ياء مع المضمر وإنما انقلبت ياء فرقا بينها وبين
المتمكن في قولك : رأيت عصاه يا هذا ، ومن العرب من لا يقلب الألف ياء ، كما قال :
[الرجز]
٣٢٤ ـ طاروا علاهنّ فطر علاها
وإذا كانت اسما
خفض ما بعدها بالإضافة ، وتخفض ما بعدها إذا كانت حرفا ، وإذا كانت فعلا رفعت ما
بعدها بفعله أو نصبته لتعدّيها إليه. (وَجَعَلَ أَهْلَها
شِيَعاً) مفعولان ، وواحد الشّيع شيعة وهي الفرقة التي يشيّع بعضها
بعضا أي يعاونه.
قال سعيد عن قتادة
قال : هم بنو إسرائيل. (وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً) قال : ولاة الأمر (وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ) قال : أي من بعد فرعون وقومه.
__________________
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ) عطف على ما قبله. قال أبو إسحاق : ويجوز و «نمكّن» بالرفع
على معنى ونحن نمكّن (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ) هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم ، وهي على نسق الكلام
لأن قبله و «نريد» ، وقرأ سائر الكوفيين ويرى فرعون وهامان وأجاز الفراء ويرى فرعون وهامان بمعنى ويري الله فرعون
وهامان (وَجُنُودَهُما
مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) تعدّى إلى مفعولين لأنه متعدّي يرى.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على النون وحذفتها لقربها
من الساكن ، وأن النون كانت قبلها ساكنة.
نصب «ليكون» بلام
كي ، وربما أشكل هذا على من يجهل اللغة ويكون ضعيفا في العربية فقال : ليست بلام
كي ولقبها بما لا يعرف الحذّاق من النحويين أصله ، وهذا كثير في كلام العرب ، يقال
: جمع فلان المال ليهلكه ، وجمعه لحتفه ، وجمعه ليعاقب عليه ، لمّا كان جمعه إيّاه
قد أدّاه إلى ذلك كان بمنزلة من جمعه له كما قال :
[المتقارب]
٣٢٥ ـ فللموت ما تلد الوالدة
وقرأ الكوفيون
إلّا عاصما (لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَناً) فهذا الاسم للغمّ ، والحزن مصدر حزن.
(وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) قال الكسائي : المعنى هذا قرّة عين لي ولك. قال أبو جعفر :
وفي رفعه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق : يكون رفعا بالابتداء
__________________
والخبر (لا تَقْتُلُوهُ) وإنما بعد لأنه يصير المعنى : أنه معروف بأنه قرّة عين له
، وجوازه أن يكون المعنى إذا كان قرّة عين لي ولك فلا تقتلوه ، ويجوز النصب بمعنى
: لا تقتلوا قرّة عين لي ولك. وقالت : لا تقتلوه ولم تقل : نقتله ، وهي تخاطب
فرعون كما يخاطب الجبّارون وكما يخبرون عن أنفسهم (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) يكون لبني إسرائيل ، ويجوز أن يكون لقوم فرعون أي لا
يشعرون أنه يسلبهم ملكهم.
(وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً) قد ذكرناه ، وعن فضالة بن عبيد (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) (إِنْ كادَتْ
لَتُبْدِي بِهِ) من بدا يبدو إذا ظهر ، وعن ابن مسعود قال :
كانت تقول : أنا
أمّة. قال الفراء : أي إن كادت لتبدي باسمه لضيق صدرها. (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) «أن» في موضع رفع
وحذف الجواب لأنه قد تقدّم ما يدلّ عليه ولا سيما وبعده (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
(الْمَراضِعَ) جمع مرضع على جمع التكسير ، ومن قال : مراضيع فهو جمع
مرضاع ومفعال تكون للتكثير ، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المذكّر والمؤنث ؛ لأنه
ليس بجار على الفعل ولكن من قال : مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة ، كما يقال :
مطرابة. قال الفراء : تدخل الهاء فيما كان مدحا يراد به الداهية وفيما كان ذما
يراد به البهيمة. وهذا القول خطأ عند البصريين ، ولو كان كما قال لكانت الهاء
للتأنيث. (مِنْ قَبْلُ) غاية ومعنى غاية أنه صار غاية الاسم لما حذف منه. قال محمد
بن يزيد : فأعطي الضمّة لأنها غاية الحركات ، وقال غيره : أعطي الضمّة لأنها لا
تلحقه في حال السلامة. قال أبو إسحاق : التقدير من قبل أن نردّه إليها (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ
بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) «يكفلونه» ليس
بجواب ، ولكن يكون مقطوعا من الأول ، أو في موضع نعت لأهل.
(وَهُمْ لَهُ
ناصِحُونَ) ليس «له» متعلقا بناصحين فلو كان ذلك لكان تفريقا بين
الصلة والموصول. وقد ذكرناه في «سورة الأعراف» .
__________________
(وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ) عند سيبويه جمع شدّة ، وقال غيره : هو جمع شدّ ، وقيل : هو واحد ،
وحكى أبو إسحاق في غير هذه السورة أنّه لا يعرف في كلام العرب اسم واحد على أفعل
بغير هاء إلا أشدّ وهو وهم ، وقد حكى أهل اللغة إصبع. قال أبو إسحاق :
وتأويل بلغ أشدّه
استكمل نهاية قوة الرجل. (وَاسْتَوى) أهل التفسير منهم ابن عباس على أنّ معنى واستوى بلغ أربعين
سنة ، وتأوّله أبو إسحاق : على أنه يجوز أن يكون حقيقة واستوى وصف بلوغ الأشدّ. (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) العالم والحكيم هو الذي يعمل بعلمه (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال أبو إسحاق : فجعل إتيان العلم والحكمة جزاء الإحسان
لأنهما يؤدّيان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين.
(وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس على أنه دخل نصف النهار ،
وقال الضحاك : طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخلها حين علم منهم ذلك فكان
منه ما كان من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله فاستغفر ربه فغفر له. ويقال في
الكلام : دخلت المدينة حين غفل أهلها ، ولا يقال : على حين غفل أهلها ، ودخلت «على»
في هذه الآية لأنّ الغفلة هي المقصودة ، فصار هذا كما تقول :
جئت على غفلة ،
وإن شئت قلت : جئت على حين غفلة فكذا الآية. (فَوَجَدَ فِيها
رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) ابتداء وخبر. والمعنى : إذا نظر إليهما الناظر قال : هذا
من شيعته أي من بني إسرائيل. (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي من قوم فرعون. وعدوّه بمعنى أعداء ، وكذا يقال في
المؤنّث : هي عدو لك. ومن العرب من يدخل الهاء في المؤنث لأنه بمعنى معادية عند
البصريين وعند الكوفيين لأن الواو خفيّة ، كذا يقولون. والواو ليست بخفيّة بل هي
حرف جلد. (إِنَّهُ عَدُوٌّ
مُضِلٌّ مُبِينٌ) خبر بعد خبر ، وإن شئت كان «مضلّ مبين» نعتا.
فيه قولان :
أحدهما أنه بمعنى الدعاء ، وهذا قول الكسائي والفراء ، وقدّره الفراء بمعنى اللهمّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، والقول الآخر أنه
بمعنى الخبر ، وزعم الفراء أن قوله «هو» قول ابن عباس. قال أبو جعفر : وأن يكون
بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق الكلام ، كما يقال : لا أعصيك لأنّك أنعمت عليّ ،
وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء ؛ لأن ابن عباس قال : لم يستثن فابتلي ،
__________________
والاستثناء لا
يكون في الدعاء ، لا تقول : اللهمّ اغفر لي إن شئت. وأعجب الأشياء أن الفراء روى
أن ابن عباس قال هذا ثم حكى عنه قوله.
(فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ) منصوب على خبر أصبح ، وإن شئت على الحال ويكون الظرف في
موضع الخبر ، قال الضحاك : خاف أن يراه أحد أو يظهر عليه قال :
و (يَتَرَقَّبُ) يتلفّت. (فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) «الذي» في موضع
رفع بالابتداء (يَسْتَصْرِخُهُ) في موضع الخبر ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال «وأمس»
إذا دخلت عليه الألف واللام تمكّن وأعرب عند أكثر النحويين ، ومنهم من يبنيه وفيه
الألف واللام ، وإذا أضيف أو نكر تمكّن أيضا. والعلّة في بنائه عند محمد بن يزيد
أنّ تعريفه ليس كتعريف المتمكّنات فوجب أن يبنى ولا يعرب فكسر آخره لالتقاء
الساكنين ، ومذهب الخليل رحمهالله أن الياء محذوفة منه. وللكوفيين فيه قولان : أحدهما أنه
منقول من قولهم : أمس بخير. والآخر أن خلقة السين الكسر ، هذا قول الفراء ، وحكى
سيبويه وغيره أنّ من العرب من يجري أمس مجرى ما لا ينصرف في موضع
الرفع خاصة ، وربّما اضطرّ الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب كما قال : [الرجز]
٣٢٦ ـ قد رأيت عجبا مذ أمسا
فخفض بمذ فيما مضى
واللغة الجيّدة الرفع وأجرى «أمس» في الخفض مجراه في الرفع على اللغة الثانية. (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) والغويّ الخائب أي لأنك تشار من لا تطيقه.
(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ) «أن» زائدة
للتوكيد. وقرأ يزيد بن القعقاع (أَنْ يَبْطِشَ) وهي لغة إلّا
__________________
أنّ (يَبْطِشَ) أعرف منها ، وإن كان الضمّ أقيس ، لأنه فعل لا يتعدّى. (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) قال عكرمة : لا يكون الإنسان جبّارا حتى يقتل نفسين. قال
أبو إسحاق :
الجبّار في اللغة
المتعظّم الذي لا يخضع لأمر الله جلّ وعزّ وإنما تأول عكرمة في قتل النفسين ـ الآية
كما تأول عطاء «فلن أكون ظهيرا للمجرمين» على أنه لا يحلّ لأحد أن يعين ظالما ،
ولا يكتب له ، ولا يصحبه ، وإنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين حتى
قال لمن استفتاه : ارم قلمك واسترزق الله جلّ وعزّ ولا تكن ظهيرا للمجرمين.
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقاءَ مَدْيَنَ) قال أبو إسحاق : أي سلك الطريق الذي هو تلقاء مدين ، قال :
ولم ينصرف مدين لأنه اسم للبقعة. (قالَ عَسى رَبِّي
أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) قال أبو إسحاق : وسواء السبيل قصد السبيل.
(وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) فقد ذكرنا قول ابن عباس : إن معنى تذودان تحبسان ، وذلك
معروف في اللغة يقال : ذاده يذوده إذا حبسه ، وإذا قاده ، لأن معنى قاده حبسه على
ما يريد ، وإنما كانتا تحبسان غنمهما لأنهما لا طاقة لهما بالسّقي وكانت غنمهما
تطرد عن الماء. (قالَ ما خَطْبُكُما) مبتدأ وخبره قال أبو إسحاق : والمعنى ما تريدان بذود
غنمكما عن الماء. (قالَتا لا نَسْقِي) أي لا نقدر على السّقي (حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعاءُ) قراءة أهل الكوفة وأهل الحرمين إلا أبا جعفر فإنه قرأ (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ)
وكذا قرأ أبو
عمرو. فمعنى القراءة الأولى حتى يصدر الرعاة مواشيهم ، ومعنى الثانية حتى ينصرف
الرعاء فأفادت القراءتان معنيين وهما حسنان إلّا أنّ «يصدر» أشبه بالمعنى ، وزعم
أبو حاتم أنّ المعنى حتى يصدروا مواشيهم. قال : ولم يرد حتى ينصرفوا إن شاء الله و
«الرعاء» جمع راع كما تقول : صاحب وصحاب. قال يعقوب :
وذكر لي في لغة
الرّعاء بضم الراء ، وأنكر أبو حاتم هذه اللغة ، وقال : إذا ضممت الراء لم تقل :
إلّا الرّعاة بالهاء والذي أنكره لا يمتنع ، كما يقال : غاز وغزّاء وغزّا بالمدّ
والقصر. (وَأَبُونا شَيْخٌ
كَبِيرٌ) قال أبو إسحاق : الفائدة في «وأبونا شيخ» أنه لا يمكنه أن
يحضر فيسقي فاحتجنا ونحن نساء أن نخرج فنسقي.
__________________
(فَسَقى لَهُما) أي قبل الوقت الذي كانتا تسقيان فيه. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) وهو في اللغة ما ليس عليه شمس ، والفيء ما كانت عليه شمس
ثم زالت. (فَقالَ رَبِّ إِنِّي
لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لقد قال موسى صلىاللهعليهوسلم ربّ إنّني لما أنزلت إليّ من خير فقير ، وما أحد من الخلق
أكرم على الله جلّ وعزّ منه ولقد افتقر إلى شقّ تمرة فمصّها فلزق بطنه بظهره من
الجوع.
(فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) قال عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب قال : جاءت
وقد جعلت كم قميصها على وجهها أو كمّ درعها. قال أبو إسحاق : ويقال : جاءت تمشي
مشي من لم يعتد الدخول والخروج مستحيية ، (قالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ) وفي الكلام حذف أي : فأجابها ومضى معها. (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ) حذفت الضمّة من الفاء للجزم ، وحذفت الألف لالتقاء
الساكنين.
(إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي من قوي على عملك وأدّى فيه الأمانة.
(قالَ ذلِكَ) في موضع رفع بالابتداء. (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) في موضع الخبر ، والتقدير عند سيبويه : بيننا ، وأعيدت
الثانية توكيدا. (أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ) نصب بقضيت و «ما» زائدة (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) تبرية ، ويجوز (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) من جهتين : إحداهما أن تكون «لا» عاملة كليس ، والأخرى أن
يكون «عدوان» مرفوعا بالابتداء ، و «عليّ» الخبر ، كما تقول:
لا زيد في الدار
ولا عمرو. (وَاللهُ عَلى ما
نَقُولُ وَكِيلٌ) ابتداء وخبر. قال أبو إسحاق :
والمعنى : والله
شهيدنا على ما عقد بعضنا على بعض.
وقرأ عاصم : (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) بفتح الجيم ، وروي عن الأعمش أو جذوة بضم الجيم.
__________________
وعن الأشهب
العقيلي (فِي الْبُقْعَةِ) بفتح الباء ، وهي لغات ، وقولهم بقاع يدلّ على بقعة ، كما
يقال : جفنة وجفان ، ومن قال : بقعة قال : في الجمع بقع مثل غرفة وغرف. قال أبو
إسحاق : ويجوز بقعة وبقاع مثل جفرة وجفار. قال : و (أَنْ) في موضع نصب بمعنى أنّه (يا مُوسى).
قال : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) عليها. (وَلَّى مُدْبِراً) على الحال. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يلتفت ، والتقدير قيل له (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) قال وهب : قيل له : ارجع إلى حيث كنت فرجع فلفّ درّاعته
على يده فقال له الملك : أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفّك يدك
فقال : لا ولكنّي ضعيف خلقت من ضعف وكشف يده فأدخلها في فم الحيّة فعادت عصا. قال (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) مما تحاذر.
(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) يكون التقدير : ولّى مدبرا من الرّهب أو لفّ يده من الرّهب
وعن ابن كثير والجحدريّ (مِنَ الرَّهْبِ) بضم الراء والهاء ، وعن قتادة (مِنَ الرَّهْبِ) بفتح الراء وإسكان الهاء على أصل المصدر. (فَذانِكَ بُرْهانانِ) ابتداء وخبر ، ومن قرأ فذانّك فله تقديران : منها أنه ثنّى ذلك فقال : ذانّك ومن قال :
ذانك وقيل : تشديد النون عوض من الألف التي حذفت من «ذا» وكذا (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النساء : ١٦] ،
وكذا (هذانِ خَصْمانِ) [الحج : ١٩] ،
وهذا القول الثاني قول أبي حاتم ، وقيل : تشديد النون للفرق بين النون التي لا تقع
معها إضافة فتحذف وبين النون المحذوفة في الإضافة ، فأما فذاناك وفذانيك فلا وجه
لهما.
__________________
(فَأَرْسِلْهُ مَعِي
رِدْءاً) نصب على الحال ومعنى «ردء» معين مشتق من أردأته أي أعنته ،
وقد حكي ردأته ردءا. وجمع ردء أرداء ، ومن خفف الهمزة حذفها وألقى حركتها على
الدال ، فقال : فأرسله معي ردّا. (يُصَدِّقُنِي) وقرأ عاصم وحمزة (يُصَدِّقُنِي) بالرفع يكون نعتا لردء ويكون حالا. قال أبو إسحاق : ومن
جزم فعلى جواب السؤال.
قال الفراء :
والصرح كلّ بناء متّسع (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
مِنَ الْكاذِبِينَ) فالظنّ هاهنا شكّ فكفر على الشكّ لأنه قد رأى من البراهين
ما لا يخيل على ذي فطنة.
(بَصائِرَ) نصب على الحال ، والتقدير ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر أي
مبيّنا (وَهُدىً وَرَحْمَةً) عطف على بصائر ، ويجوز الرفع بمعنى فهو هدي ورحمة.
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِ) أقيمت الصّفة مقام الموصوف أي بجانب الجبل الغربي.
(وَلكِنْ رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ) نصب على المصدر ، كذا عند الأخفش قال : ولكن رحمك ربّك
رحمة ، وعند أبي إسحاق مفعول من أجله أي للرّحمة ، وعند الكسائي على خبر كان. قال
: ويجوز الرفع بمعنى ولكن هي رحمة. قال أبو إسحاق : الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك
رحمة. (فَنَتَّبِعَ) جواب (لَوْ لا) أي هيلا.
_________________
قال الفراء (بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ
اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) بالرفع لأنه صلة للكتاب وكتاب نكرة. قال : وإذا جزمت وهو
الوجه فعلى الشرط.
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) ابتداء وخبر. قال أبو العالية : هؤلاء قوم من أهل الكتاب
آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. قال محمد بن إسحاق : سألت
الزّهري عن قوله جلّ وعزّ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) من هم ، فقال : النجاشي وأصحابه ، ووجّه باثني عشر رجلا
فجلسوا مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم فآمنوا بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه فقالوا لهم
خيّبكم الله من ركب ، وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه ، ما رأينا ركبا أحمق
ولا أجهل منكم ، فقالوا : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكن أعمالكم (وَيَدْرَؤُنَ) من درأت أي دفعت أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى
، وقيل يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب. (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فأثنى عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم.
شرط ومجازاة. تجبى
إليه ثمرات كلّ شيء على تأنيث الجماعة و (يُجْبى) على تذكير الجمع ، وثمرات جمع ثمرة ، وثمر جمعه ثمار.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) منصوب عند المازني بمعنى في معيشتها فلما حذف «في» تعدّى
الفعل ، وهو عند الفراء منصوب على التفسير ، قال : كما تقول : أبطرك مالك وبطرته ،
ونظيره عنده (إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] ،
وكذا عنده (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء : ٤] ونصب
المعارف على التفسير محال عند البصريين لأن معنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا
نكرة يدلّ على الجنس.
__________________
قال مجاهد : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً
فَهُوَ لاقِيهِ) حمزة بن عبد المطلب (كَمَنْ مَتَّعْناهُ
مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أبو جهل بن هشام.
(وَرَأَوُا الْعَذابَ
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ). قال أبو إسحاق : جواب «لو» محذوف ، والمعنى : لو أنّهم
كانوا يهتدون لما اتّبعوهم ، ولما رأوا العذاب ، وقال غيره : التقدير :
لو أنهم كانوا
يهتدون لأنجاهم الهدى ولما صاروا إلى العذاب.
(فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي تحيّروا فلم يدروا ما يجيبون به لمّا سئلوا ، فقيل لهم
: (ما ذا أَجَبْتُمُ
الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥].
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) قال علي بن سليمان : هذا وقف التمام ولا يجوز أن يكون «ما»
في موضع نصب بيختار لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء قال : وفي هذا رد
على القدرية ، وقال أبو إسحاق : «ويختار» هذا وقف التمام المختار ، قال : ويجوز أن
يكون «ما» في موضع نصب بيختار ، ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخير.
(أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي أفلا تقبلون ، وبعده (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تتبيّنون هذا.
(وَنَزَعْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) قيل معناه من كلّ قرن وفي كل أمة قوم يكونون عدولا يشهدون
على الناس يوم القيامة بأعمالهم. (فَقُلْنا هاتُوا
بُرْهانَكُمْ) أي حجّتكم بما كنتم تدينون به (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي أنّ الحق ما في الدنيا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ما كانوا يدعون من دون الله ، وقد قال جلّ وعزّ قبل هذا
: (وَقِيلَ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ) [القصص : ٦٤] أي
الذين جعلتموهم مع الله جلّ وعزّ شركاؤكم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم ، وهذا
على جهة التوبيخ أي ادعوهم لينجوكم مما أنتم فيه ، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي فلم
ينجّوهم ولم يعينوهم ، فهذا معنى (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ).
إن «قارون» لم
ينصرف ، لأنه اسم أعجميّ وما كان على فاعول أعجميا لا يحسن فيه الألف واللام لم
ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة فإن حسنت فيه الألف واللام انصرف إن كان اسما
لمذكر نحو طاوس وراقود. قال أبو إسحاق : ولو كان قارون من العربية من قرنت الشيء
لانصرف. (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) إنّ واسمها في صلة «ما» قال أبو جعفر : وسمعت علي بن
سليمان يقول : ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلاة أنه لا يجوز أن يكون صلة الذي
وأخواته «أنّ» وما علمت فيه وفي القرآن «ما أن مفاتحه». وهو جمع مفتح ، ومن قال:
مفتاح قال : مفاتيح (لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ) أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم من
ثقلها. كما يقال :
ذهبت به وأذهبته ،
وجئت به وأجأته ، وأنأته ونؤت به. فأما قولهم : له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع
كان يجب أن يقال : وأناءه ومثله يقال : هنأني الشيء ومرأني وأخذه ما قدم وما حدث. (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) تأوله الفراء على أن موسى صلىاللهعليهوسلم هو الذي قال له وحده فجمع ، ومثله عنده (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣]
وإنما هو نعيم ابن مسعود رجل من أشجع وحده. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان
يقول :
غير هذا ، وينكر
ما قال الفراء لأنه بطلان البيان. قال : وإنما هذا على أن نعيما قاله ومن يذهب
مذهبه. (لا تَفْرَحْ) تأوله أبو إسحاق على أنّ المعنى لا تفرح بالمال لأنّ الفرح
لا يؤدي فيه الحق. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ) فرّق الفراء بين الفرحين والفارحين ، وزعم أن الفرحين الذين هم في حال
الفرح وأن الفارحين الذين يفرحون في المستقبل ، وزعم أن مثله طمع وطامع وميّت
ومائت ، وبذلك على خلاف ما قال قول الله جلّ وعزّ (إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ولم يقل : مائت.
(قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) تأوله الفراء على معنيين : أحدهما على فضل عندي ، والآخر على علم فيما
رأى ، كما تقول : هذا كذا عندي ، وقال أبو إسحاق :
__________________
المعنى : إنما
أوتيته على علم بالتوراة ، لأنه كان عالما بها وأنكر قول من قاله إنه كان يعمل
الكيمياء ، قال : لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له.
أحسن ما قيل في
هذا قول الخليل رحمهالله ويونس وسيبويه والكسائي : إنّ القوم تنبّهوا أو نبّهوا
فقالوا وي ، والمتندّم من العرب يقول في حال تندّمه : وي ، وحكى الفراء : أن بعض النحويين قال : إنّها ويك أي ويلك ثم حذفت اللام.
قال أبو جعفر : وما أعلم جهة من الجهات إلّا هذا القول خطأ منها فمن ذلك أن المعنى
لا يصحّ عليه لأن القوم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا له ويلك ، وكان يجب على قوله أن
يكون «إنّه» بكسر «إنّ» لأن جميع النحويين يكسرون أنّ بعد ويلك ، وأيضا فإنّ حذف
اللام من ويل لا يجوز ، وأيضا فليس يكتب : هذا ويك.
(وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ) قال الضحّاك : الجنّة.
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال عكرمة : ليس شيء خيرا من «لا إله إلّا الله» ، وإنما
المعنى : من جاء بلا إله إلا الله ، فله خير.
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) استثناء. قال أبو إسحاق : ولو كان في غير القرآن لجاز إلا
وجهه بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك ، كما قال : [الوافر]
٣٢٧ ـ وكلّ أخ
مفارقه أخوه
|
|
لعمر أبيك إلّا
الفرقدان
|
والمعنى : وكلّ أخ
غير الفرقدين مفارقه أخوه. (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) بمعنى وترجعون إليه.
__________________
٢٩
شرح إعراب سورة العنكبوت
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَنْ) الأولى في موضع نصب بحسب وهي وصلتها مقام المفعولين على
قول سيبويه و (أَنْ) الثانية في موضع نصب على إحدى جهتين بمعنى لأن يقولوا وبأن
يقولوا وعلى أن يقولوا ، والجهة الأخرى أن يكون التقدير أحسبوا أن يقولوا.
(فَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه قولان : أحدهما أن يكون صدقوا مشتقّا من الصدق ،
والكاذبين مشتقّا من الكذب الذي هو ضدّ الصدق ، ويكون المعنى :
فليبيننّ الله
الذين صدقوا ، فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك ، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير
ذلك وصدقوا في قولهم نحن نصبر ونثبت مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم في الحرب ويعلم الذين كذبوا ، والقول الآخر أن يكون صدقوا
مشتقّا من الصدق ، وهو الصلب ، والكاذبين من كذب إذا انهزم ، فيكون المعنى :
فليعلمنّ الله الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا ، كما قال : [البسيط]
٣٢٨ ـ ليث بعثر
يصطاد الرّجال إذا
|
|
ما الّليث كذّب
عن أقرانه صدقا
|
وجعلت فليعلمنّ في
موضع ليبيّننّ مجازا.
(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) قدّر أبو إسحاق «ما» تقديرين أحدهما أن تكون في موضع
__________________
نصب بمعنى : ساء
شيئا يحكمون ، والتقدير الآخر أن يكون «ما» في موضع رفع بمعنى ساء الشيء حكمهم
وقدرها أبو الحسن بن كيسان تقديرين آخرين سوى ذينك : أحدهما أن يكون «ما» مع
يحكمون بمنزلة شيء واحد ، كما تقول :
أعجبني ما صنعت أي
صنيعك ، قال : وإن قلت ساء صنيعك لم يجز ، والتقدير الآخر أن يكون «ما» لا موضع
لها من الإعراب وقد قامت مقام الاسم لساء ، وكذا نعم وبئس. قال أبو الحسن بن كيسان
: وأنا أختار أن أجعل لما موضعا في كلّ ما أقدر عليه نحو قول الله جلّ وعزّ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١٥٩]
، وكذا (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] ،
وكذا : (أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) [القصص : ٢٨] «ما»
في موضع خفض في هذا كلّه وما بعدها تابع لها ، وكذا (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) [البقرة : ٢٦] «ما»
في موضع نصب وبعوضة تابعة لها.
(مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ) أهل التفسير على أنّ المعنى : من كان يخاف الموت فليفعل
عملا صالحا فإنه لا بدّ أن يأتيه ، و «من» في موضع رفع بالابتداء ، و «كان» في
موضع الخبر وفي موضع جزم بالشرط و «يرجو» في موضع خبر كان ، والمجازاة (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ).
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) قال أبو إسحاق : مثل ووصينا الإنسان بوالديه ما يحسن ، قال
: رويت إحسانا ، والمعنى : ووصّينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانا.
قيل : معناه يبيّن
أمرهم لأن المبيّن للأمر هو العالم به.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) قال أبو إسحاق : أي الطريق الذي نسلكه في ديننا. (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) قال : هو أمر في تأويل شرط وجزاء أي إن تتّبعوا سبيلنا
حملنا خطاياكم ، كما قال : [الوافر]
٣٢٩ ـ فقلت ادعي
وأدعو إنّ أندى
|
|
لصوت أن ينادي
داعيان
|
أي : إن دعوت دعوت
، ويجوز «وليحمل» بكسر اللام وهو الأصل إلّا أن الكسرة حذفت استخفافا ، حقيقة
المعنى : ـ والله أعلم ـ اتّبعوا سبيلنا ونحن لكم بمنزلة المأمورين في حمل خطاياكم
إن كانت لكم خطايا كما تقول : قلّدني وزر هذا.
(وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ) جمع ثقل ، والثقل في الأذن ، وربما دخل أحدهما على الآخر.
في الكلام حذف ،
والمعنى : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان فدعاهم إليه ألف سنة
إلّا خمسين عاما ، وأظهر البراهين فكذبوه ، ودلّ على هذا الحذف (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ
ظالِمُونَ) وإنّ هذه القصة قد ذكرت في غير موضع من القرآن (أَلْفَ سَنَةٍ) منصوب على الظرف (إِلَّا خَمْسِينَ) منصوب على الاستثناء من الموجب وهو عند سيبويه بمنزلة
المفعول ؛ لأنه مستثنى عنه كالمفعول ، وعند الفراء بإن لأنها عنده «إن» دخلت عليها «لا» فالنصب عنده بإن ،
والرفع عنده بلا إذا رفعت. فأما أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض كأنك
قلت عنده : استثنيت زيدا. قال أبو جعفر : ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن قول أبي
العباس هذا خطأ ، ولا يجوز عنده فيه إلّا ما قال سيبويه. ونملي كلام أبي إسحاق في
الاستثناء الذي ذكره في الآية نصّا لحسنه ، وأنه قد شرح فيه أشياء من هذا الباب.
قال أبو إسحاق : «الاستثناء في كلام العرب توكيد العدد وتحصيله» ؛ لأنك قد تذكر
الجملة ويكون الحاصل أكثرها فإذا أردت التوكيد في تمامها قلت كلّها وإذا أردت
التوكيد في نقصانها أدخلت فيها الاستثناء تقول: جاءني إخوتك ، تعني أنّ جميعهم
جاءك ، وجائز أن تعني أن أكثرهم قد جاءك
__________________
وإذا قلت : جاءني
إخوتك كلّهم أكّدت معنى الجماعة وأعلمت أنه لم يتخلّف منهم أحد وتقول : جاءني
إخوتك إلّا زيدا فتؤكد أن الجماعة تنقص زيدا ، وكذلك رؤوس الأعداد تشبّه بالجماعات
، تقول : عندي عشرة فجائز أن تكون ناقصة وجائز أن تكون تامة فإذا قلت : عندي عشرة
إلّا نصفا أو عشرة كاملة أعلمت تحقيقها ، وكذلك إذا قلت : لبث ألفا إلّا خمسين فهو
كقولك : عشرة إلّا نصفا لأنك استعملت الاستثناء فيما كان أملك بالعشرة من التّسعة
لأن النصف قد دخل في باب العاشر ولو قلت : عشرة إلّا واحدا أو إلّا اثنين كان
جائزا وفيه قبح ؛ لأن تسعة وثمانية يؤدّي عن ذلك العدد ولكنه جائز من جهة التوكيد
إنّ هذه التسعة لا تزيد ولا تنقص لأن قولك : عشرة إلّا واحدا قد أخبرت بحقيقة
العدد فيه. والاختيار في الاستثناء في الأعداد التي هي عقود الكسور والصّحاح أن
يستثنى. فأمّا استثناء نصف الشيء فقبيح جدا لا تتكلّم به العرب فإذا قلت عندي عشرة
إلّا خمسة فليس تكون الخمسة مستثناة من العشرة ؛ لأنها ليست تقرب منها ، وإنما
يتكلّم بالاستثناء كما يتكلّم بالنقصان فتقول : عندي درهم ينقص قيراطا فلو قلت :
عندي درهم ينقص
خمسة الدوانيق أو ينقص نصفه كان الأولى بذلك عندي نصف درهم لأن نصف درهم لا يقع
عليه اسم درهم وإخوتك يقع على بعضهم اسم الأخوة.
(فَأَخَذَهُمُ
الطُّوفانُ) مشتق من طاف يطوف ، وهو اسم موضع على ما أحاط بالأشياء من
غرق أو قتل أو غيرهما (وَهُمْ ظالِمُونَ) ابتداء وخبر في موضع الحال.
(فَأَنْجَيْناهُ
وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) معطوف على الهاء. قال الكسائي : (وَإِبْراهِيمَ) منصوب بأنجينا. يعني أنه معطوف على الهاء ، وأجاز أن يكون
معطوفا على نوح ، والمعنى وأرسلنا إبراهيم ، وقول ثالث أن يكون منصوبا بمعنى :
واذكر إبراهيم.
(إِنَّما تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) نصب بتعبدون و «ما» كافّة ، ولا يجوز أن يكون صلة لأن إنّ
لا تقع على الفعل فإن كان بعد «ما» اسم فقلت : إنما زيد جالس ، فما أيضا كافة ،
وأجاز بعض النحويين أن يكون صلة فتقول : إنما زيدا جالس. ويجوز في غير القرآن رفع
أوثان على أن تجعل «ما» اسما لأن و «تعبدون» صلتها ، وحذفت الهاء لطول الاسم ،
وجعلت أوثانا خبر إنّ. فأما (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) فهو منصوب بالفعل لا غير.
(وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ذكر أبو إسحاق فيه قولين : أحدهما أن المعنى : وما أنتم
بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء ، والآخر ولا لو كنتم في السماء. قال أبو جعفر :
وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال :
المعنى وما أنتم
بمعجزين في الأرض ولا من في السماء على أن من ليست موصولة ولكن يكون نكرة ويكون في
السماء من نعتها ، ثم أقام النعت مقام المنعوت. قال أبو إسحاق : وهذا خطأ لأن من
إذا كانت نكرة فلا بد من نعتها فقد صار بمنزلة الصلة لها فلا يجوز حذف الموصول
وإبقاء الصلة وكذا نعتها إذا كان بمنزلة الصلة ، ولكن الناس خوطبوا بما يعرفون ،
وعندهم أنه من كان في السماء فالوصول إليه أبعد ، فالمعنى وما أنتم بمعجزين في
الأرض ولو كنتم في السماء ما أعجزتم ، ومثله (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨].
(فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ) خبر كان ، واسمها (إِلَّا أَنْ قالُوا) ويجوز رفع «جواب» تجعله اسم كان والخبر (أَنْ قالُوا وَقالَ إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هذه قراءة الحسن ومجاهد وأبي عمرو والكسائي. قال أبو إسحاق
: وقرئ مودّة بينكم وقرأ أهل المدينة وعاصم وابن عامر (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) وقرأ حمزة مودّة بينكم. القراءة الأولى برفع مودة فيها
ثلاثة أوجه ، ذكر أبو إسحاق منها وجهين : أحدهما أنها مرفوعة على خبر إنّ ويكون ما
بمعنى الذي ، والتقدير : إنّ الذي اتّخذتموه من دون الله أوثانا مودّة بينكم ،
والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدأ أي هي مودّة أو تلك مودّة بينكم.
__________________
والمعنى : ألفتكم
وجماعتكم مودّة بينكم ، والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون «مودّة» رفعا
بالابتداء و (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) خبره ، فأما إضافة مودّة إلى بينكم فإنه جعل بينكم اسما
غير ظرف ، والنحويون يقولون : جعله مفعولا على السعة ، وحكى سيبويه : [الرجز] يا
سارق الليلة أهل الدار
ولا يجوز أن يضاف
إليه وهو ظرف لعلّة ليس هذا موضع ذكرها. والقراءة الثانية على أنه جعل بينكم ظرفا
فنصبه. والقراءة الثالثة على أنه نصب مودّة لأنه جعلها مفعولا من أجلها ، كما تقول
: جئتك ابتغاء العلم وقصدت فلانا مودّة له.
(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ
فِي الدُّنْيا) مفعولان قال أبو جعفر : قد ذكرناه وبيّنا معناه (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ) ليس «في الآخرة» داخلا في الضلة وإنما هو تبيين وقد ذكرناه
في غير هذا الموضع بأكثر من هذا.
(وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ) قال الكسائي : المعنى : وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا.
قال : وهذا الوجه
أحبّ إليّ.
قراءة الكوفيين (أَإِنَّكُمْ) في الأولى والثانية على الاستفهام ، وكذا قراءة أبي عمرو
إلّا أنه يخفّف ، وقرأ نافع إنّكم بغير استفهام في الأولى واستفهم في الثانية. وهذه القراءة
على اتّباع السواد ، وهي على الإلزام لا على الاستفهام. وكذا قال محمد بن يزيد في
قول الشاعر : [الخفيف]:
٣٣٠ ـ ثمّ قالوا : تحبّها قلت : بهرا
__________________
والقراءة الأولى عند
أبي عبيد بعيدة للجمع بين الاستفهامين. قال أبو جعفر :
وليس الأمر كذلك
لأن هذا استفهام بعد استفهام وليس ينكر في مثل هذا استفهامان وقد شبّهه بما لا
يشبهه ممّا ذكره في هذه السورة.
(إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ) عطف على الكاف في التأويل ، ولا يجوز العطف على موضعها
بغير تأويل لئلا يعطف ظاهر مخفوض على مكنيّ. (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من موجب.
(وَعاداً وَثَمُودَ) قال الكسائي : قال بعضهم : هو راجع إلى أول السورة (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) ... (وَعاداً وَثَمُودَ) ، قال : وأحبّ إليّ أن يكون على (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وأخذت عادا وثمودا. وزعم أبو إسحاق أن التقدير : وأهلكنا
عادا وثمودا.
(وَكانُوا
مُسْتَبْصِرِينَ) فيه قولان : أحدهما أنّ المعنى : وكانوا مستبصرين في
الضلالة ، والقول الآخر وكانوا مستبصرين ؛ أي قد عرفوا الحقّ من الباطل بظهور
البراهين. وهذا القول أشبه ـ والله أعلم ـ لأنه إنما يقال : فلان مستبصر إذا عرف
الشيء على الحقيقة ، ومن كفر فلم يعرف الشيء على حقيقته فلا يخلو أمره من إحدى
جهتين إمّا أن يكون معاندا وإما أن يكون قد ترك ما يجب عليه من الاستدلال وتعرّف
الحقّ ، وهو على أحد هذين يعاقب.
(وَقارُونَ
وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) قال الكسائي : إن شئت كان على عاد وكان فيه ما فيه وإن شئت
كان على (فَصَدَّهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ) [النمل : ٢٤] وصدّ
قارون وفرعون وهامان.
__________________
(فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ) قال الكسائي : «فكلّا» منصوب بأخذنا.
(مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) الكاف في موضع رفع على التأويل ، لأنها خبر الابتداء في
موضع نصب على الظرف. والعنكبوت مؤنّثة ، وحكى الفراء تذكيرها وأنشد : [الوافر]
٣٣١ ـ على
هطّالهم منهم بيوت
|
|
كأنّ العنكبوت
هو ابتناها
|
قال أبو جعفر :
وفي جمع العنكبوت وجوه يقال : عناكب وعناكيب وعكاب وعكب وأعكب ، وقد حكي أنّه يقال
: عنكب. (وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) قال الضحاك : ضرب مثلا لضعف آلهتهم ووهنها فشبّهها ببيت
العنكبوت.
قال : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ).
أي ما تعبدون من
دونه من شيء. قال أبو جعفر : «من» هاهنا للتبعيض ولو كانت زائدة للتوكيد لا نقلب
المعنى.
مذهب أبي العالية
أن المعنى إن مما يتلى في الصلاة ، والتقدير على هذا إن تلاوة الصلاة مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. قال
أبو جعفر : وقد ذكرنا غير هذا.
(وَلَذِكْرُ اللهِ
أَكْبَرُ) مذهب الضحّاك أن المعنى : ولذكر الله عند ما يحرم فيترك
أجلّ الذكر ، وقيل : المعنى : ولذكر الله النهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير ،
وأكبر يكون بمعنى كبير.
__________________
(وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ) بدل من أهل ، ويجوز أن يكون استثناء.
فجعل الله جلّ
وعزّ هذا دليلا على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكّة أهل
الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم ، وزالت الريبة والشك بهذه الأشياء.
(بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ) أي بل الكتاب ، وزعم الفراء أنّ في قراءة عبد الله بل هي آيات بينات بمعنى بل آيات
القرآن آيات بينات ، قال : ومثله (هذا بَصائِرُ) [الجاثية : ٢٠]
ولو كانت هذه لجاز ، ونظيره (هذا رَحْمَةٌ مِنْ
رَبِّي) [الكهف : ٨٩].
(وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) وكان طلبهم لهذا تعنّتا وتهزّؤا لأنه قد ظهر من الآيات ما
فيه كفاية فكان هذا مما لا نهاية له فأمر أن يقول لهم (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي يأتي منها بما فيه الصلاح. (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) قيل : معناه يبيّن لهم ما يجب عليهم وبيّن الأول بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ) «أنّا» في موضع
رفع بيكفي.
هذه «أيّ» دخلت
عليها كاف التشبيه فصار فيها معنى «كم» والتقدير عند الخليل وسيبويه رحمهماالله كالعدد. وشرح هذا أبو الحسن بن كيسان فقال. أيّ شيء من
الأشياء ، فالمعنى على قول الخليل وسيبويه : كشيء كثير من العدد ، قال : ولهذا قال
__________________
الكسائي : الأصل
في «كم» كما فإذا قلت : كم مالك؟ فالمعنى : كأي شيء من العدد مالك ، قال : ومثل
ذلك في الإبهام : له كذا وكذا درهما ، أي له كالعدد المذكور أو المشار إليه ثم كثر
استعمالهم لذلك حتى قالوا : له كذا وإن لم يتقدّم شي ولم يشر إلى شيء. فإذا قلت :
له عندي كذا درهما ، وجب له عند الكوفيين أحد عشر درهما ، فإذا قلت : له عندي كذا
وكذا درهما ، وجب له أحد وعشرون درهما ، وإذا قلت : له عندي كذا درهم كانت مائة ،
وإذا قلت : كذا دراهم كانت ثلاثة ، ولا يجوز عند البصريين الخفض بوجه ، وهي عندهم
مبهمة يقع للقليل والكثير ، وزعم أبو عبيدة أن الحيوان والحياة والحيّ واحد. وغيره
يقول : إنّ الحيّ جمع على فعول مثل عصيّ.
(وَلِيَتَمَتَّعُوا) لام كي ، ويجوز أن تكون لام أمر ، لأن أصل لام الأمر الكسر
إلّا أنه أمر فيه معنى التهديد. ومن قرأ وليتمتّعوا بإسكان اللام لم يجعلها لام كي ، لأن لام كي لا يجوز
إسكانها.
(وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ) لام توكيد ، ودخلت اللام في مع على أحد أمرين منهما أن
تكون اسما ولام التوكيد إنما تدخل على الأسماء ومنها أن تكون حرفا فتدخل عليها لأن
فيها معنى الاستقرار ، كما تقول : إنّ زيدا لفي الدار و «مع» إذا سكنت فهي حرف لا
غير ، وإذا فتحت جاز أن تكون اسما وأن تكون حرفا ، والأكثر أن تكون حرفا جاء لمعنى
إلّا أنها فتحت لما وقع فيها مما ليس في أخواتها.
__________________
٣٠
شرح إعراب سورة الرّوم
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال أبو جعفر :
هذه قراءة أكثر
الناس ، وروي عن أبي عمرو وأبي سعيد الخدري أنهما قرءا الَم غَلبَتِ الرُّومُ وقرءا سَتُغْلَبُونَ ، وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون أن هذه قراءة أهل
الشام ، وأحمد بن حنبل يقول : إن عصمة هذا ضعيف ، وأبو حاتم كثير الرواية عنه
والحديث يدلّ على أن القراءة (غُلِبَتِ) بضم الغين ؛ وكان في هذا الإخبار دليل على نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله جلّ وعزّ أن الروم
ستغلب فارس في بضع سنين ، وأن المؤمنين يفرحون بذلك لأن الروم أهل كتاب فكان هذا
من علم الغيب الذي أخبر الله جلّ وعزّ به مما لم يكن وأمر أبا بكر رضي الله عنه أن
يراهنهم على ذلك ، وأن يبالغ في الرهان ثم حرم الرهان ونسخ بتحريم القمار (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) زعم الفراء أن الأصل من بعد غلبتهم فحذفت التاء كما حذفت في قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) [النور : ٣٧] ، وهذا
غلط لا يخفى على كثير من أهل النحو لأن «أقام الصلاة» مصدر حذف منه لاعتلال فعله
فجعلت التاء عوضا من المحذوف ، و «غلب» ، ليس بمعتل ولا حذف منه شيء وقد حكى
الأصمعي : طرد طردا وحلب حلبا وغلب غلبا فأيّ حذف في هذا ، وهل يجوز أن يقال : في
أكل أكلا وما أشبهه حذف منه. (فِي بِضْعِ سِنِينَ) حذفت الهاء من بضع فرقا بين المذكّر والمؤنّث ، وفتحت
النون من سنين لأنه جمع مسلّم ، ومن العرب من يقول في بضع سنين كما يقول : من
غسلين
__________________
وإن جاز فجمع سنة
بالواو والنون والياء والنون ، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا ، وكسرت
السين وكانت مفتوحة في سنة لأن الكسرة جعلت دليلا على أنه جمع على غير ما يجب له.
هذا قول البصريين ، ويلزم الفراء أن يضمّها إلّا أنّه يقول :
الضمّة دليل على
الواو ، وقد حذف من سنة واو في أحد القولين ولا يضمها أحد علمناه. (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ) ويقال : من قبل ومن بعد ، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد. (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ) الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء ، «من قبل ومن بعد» مخفوضين بغير تنوين ، وللفراء في هذا
الفصل من كتابه في القرآن أشياء كثيرة ، الغلط فيها بيّن فمنها أنه زعم أنه يجوز «من
قبل ومن بعد» كما قال الشاعر: [مجزوء الكامل]
٣٣٢ ـ إلّا
علالة أو بداهة
|
|
سابح نهد الجزاره
|
وكما قال : [المنسرح]
٣٣٣ ـ يا من رأى
عارضا أكفكفه
|
|
بين ذراعي وجبهة
الأسد
|
والغلط في هذا
بيّن لأنه ليس في القرآن لله الأمر من قبل ومن بعد ذلك ، فيكون مثل قوله : «بين
ذراعي وجبهة الأسد» ألا ترى أنك تقول : أخذته بنصف وربع الدرهم ، ولا يجوز أخذته
بنصف وربع ، وتقول : قطع الله يد ورجل زيد.
ولا يجوز يد ورجل
، على أنّ هذا أيضا ليس بكثير في كلام العرب وإنما يحمل كتاب الله على الكثير
والفصيح ، ولا يجوز أن يقاس عليه ما لا يشبهه ، ولو قلت :
اشتريت دار وغلام
عمرو ، لم يجز عند أحد علمناه ومن ذلك أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد وأنت تريد
الإضافة وهذا نقض الباب كلّه لأن الضمّ إنما كان فيه لعدم الإضافة وإرادتها ، فإذا
خفضت وأنت تريدها تناقض الكلام وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على
__________________
أنهما نكرتان. قال
أبو إسحاق : والمعنى من متقدّم ومن متأخّر ، ومنها أنه شبّه من قبل ومن بعد بقولهم
: من عل ، وأنشد : [الرجز]
٣٣٤ ـ إن تأت من تحت أجئها من عل
وليس من قبل ومن
بعد من باب من عل. قال سيبويه : ولم يسكنوا من الأسماء ما ضارع المتمكّن ولا ما جعل في
موضع بمنزلة غير المتمكّن. فالمضارع «من عل» حرّكوه لأنهم يقولون : من عل فأما
التمكّن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن فقولهم : أبدأ بهذا أول ويا حكم ، أفلا ترى
أن سيبويه لحذفه قد فصل بين «من عل» وبين «أول» ثم جاء الفراء فجمع بينهما ، وأنشد
الذي ذكرناه ، وأنشد : [الطويل]
٣٣٥ ـ فو الله
ما أدري وإنّي لأوجل
|
|
على أيّنا تعدو
المنيّة أوّل
|
فخلط الجميع في
الباب وجاء بهما في «قبل وبعد» وأحدهما مخالف لقبل وبعد.
فأما الكلام في
قبل وبعد على مذهب سيبويه وعلى مذهب البصريين إنّ سبيلهما أن لا يعربا لأنهما قد
كانتا حذف منهما المضاف إليه والإضافة فصارتا معرفتين من غير جهة التعريف فزال
تمكّنهما فلم يخليا من حركة لأنهما قد كانتا معربتين فاختير لهما الضم لأنه قد
يلحقهما بحقّ الإعراب الجرّ والنصب فأعطيتا غير تينك الحركتين فضمّتا إلّا أن أبا
العباس محمد بن يزيد قال : لمّا كانتا غايتين أعطيتاه ما هو غاية الحركات. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) في معناه قولان : أحدهما أنهم فرحون بغلبة الروم فارس ؛
لأن الروم أهل كتاب فهم إلى المسلمين أقرب من الأوثان ، والقول الآخر وهو أولى أنّ
فرحهم إنما هو لإنجاز وعد الله جلّ وعزّ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر جلّ
وعزّ بما يكون في بضع سنين فكان فيه.
مصدر مؤكّد. قال
أبو إسحاق : ويجوز (وَعْدَ اللهِ) بالرفع بمعنى ذلك وعد الله.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وهم الكفار وهم أكثر.
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً
مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ثم بيّن ما يجهلونه بقوله : (وَهُمْ عَنِ
الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) «هم» الأول ابتداء
والثاني ابتداء ثان والجملة خبر الأول ، وفي الكلام معنى التوكيد ،
__________________
ويجوز أن يكون «هم»
الثاني بدلا من الأول كما تقول : رأيته إياه ، وفي الكلام أيضا معنى التوكيد.
(وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) اللام للتوكيد ، والتقدير : لكافرون بلقاء ربّهم على
التقديم والتأخير وعلى هذا تقول : إنّ زيدا في الدار لجالس ، ولو قلت : إنّ زيدا
لفي الدار لجالس ، لجاز ، فإن قلت : إنّ زيدا جالس لفي الدار. لم يجز لأن اللام
إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إنّ وخبرها ، فإذا جئت بهما لم يجز إن تأتي بها وكذا إن
قلت : إنّ زيدا لجالس لفي الدار لم يجز.
(وَأَثارُوا الْأَرْضَ) لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرب.
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ) اسم كان وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. (السُّواى) خبر كان ومن نصب (عاقِبَةَ) جعل «السّوأى» اسم كان ، وروي عن الأعمش أنه يقرأ ثمّ كان
عاقبة الذين أساؤا السّوء برفع السوء. (أَنْ كَذَّبُوا) في موضع نصب ، والمعنى : لأن كذّبوا.
وقرأ أبو عبد
الرحمن السلمي (يبلس) بفتح اللام والمعروف في اللغة أبلس الرجل. إذا سكت وانقطعت
حجّته ولم يؤمّل أن تكون له حجة ، وقريب منه تحيّر ، كما قال الراجز :
٣٣٦ ـ قال : نعم أعرفه وأبلسا
__________________
وقد زعم بعض
النحويين أنّ «إبليس» مشتقّ من هذا وأنه أبلس أي انقطعت حجّته ، ولو كان كما قال
لوجب أن ينصرف وهو في القرآن غير منصرف فاحتجّ بعضهم بأنه اسم ثقل لأنه لم يسمّ به
غيره.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) قيل : يعني بشركائهم ما عبدوه من دون الله جلّ وعزّ. (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) قالوا : ليسوا بآلهة.
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا) سمعت أبا إسحاق يقول : معنى «أمّا» دع ما كنّا فيه وخذ في
غيره ، وكذا قال سيبويه : إنّ معناها مهما يكن من شيء أي مهما يكن من شيء فخذ في
غير ما كنّا فيه. (الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع رفع بالابتداء (فَهُمْ) ابتداء ثان وما بعده خبر عنه والجملة خبر «الذين». قال
الضحاك : (فِي رَوْضَةٍ) في جنة. والرياض الجنات. وقال أبو عبيدة : الروضة ما كان
في تسفّل فإن كان مرتفعا فهو ترعة ، وقال غيره :
أحسن ما تكون
الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ ، كما قال الأعشى : [البسيط]
٣٣٧ ـ ما روضة من رياض الحزن معشبة
إلّا أنه لا يقال
: لها روضة إلّا إذا كان فيها نبت فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة وقد
قيل في الترعة غير هذا. قال الضحّاك : «يحبرون» يكرمون.
حكى الكسائي حبرته
أي أكرمته ونعمته. قال أبو جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول : هو مشتق من قولهم :
على أسنانه حبرة أي أثر فيحبرون أي يتبيّن عليهم أثر النعيم ، الحبر مشتقّ من هذا.
أهل التفسير على
أنّ هذا في الصلوات. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : حقيقته عندي
فسبّحوا الله في الصلوات لأن التسبيح يكون في الصلاة ، وعن
__________________
عكرمة أنه قرأ
فسبحان الله حينا تمسون وحينا تصبحون وهو منصوب على الظرف ، والمعنى : حينا تمسون فيه وحينا
تصبحون حتى يعود على حين من نعمته شيء ، ومثله في القرآن (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ
شَيْئاً) [البقرة : ٤٨] قال
أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول: حروف الخفض لا تحذف ولكن تقدّر فيه الهاء
فقط.
(وَلَهُ الْحَمْدُ) ويجوز النصب على المصدر.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أَنْ) في موضع رفع بالابتداء ، وكذا (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها. وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) روي عن ابن عباس المودّة حبّ الرجل امرأته ، والرحمة رحمته
إياها أن يصيبها سوء.
بيّن جلّ وعزّ
آياته الدالة عليه بخلق السّموات والأرض واختلاف اللسان في الفم واختلاف اللغات
واختلاف الألوان والصور على كثرة الناس فما تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين
الآخر ، فهذا من أدلّ دليل على المدبّر والباري ؛ لأن من صنع شيئا غيره لم يكن فيه
هذا التفريق.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي تقوم بلا عمد بقدرته ، وجعله أمرا مجازا كما يقال : هذا
أمر عظيم.
وفي معنى (يَسْمَعُونَ) قولان : يقبلون مثل قوله : سمع الله لمن حمده ، والآخر
__________________
أنّ منهم من كان
إذا تلي القرآن وهو حاضر سدّ أذنيه لئلّا يسمع فلمّا بيّن جلّ وعزّ الدلالة عليه
قال : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم ، وأجمع
القراء على فتح التاء هاهنا في «تخرجون» واختلفوا في التي في «الأعراف» فقرأ أهل
المدينة (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥] ،
وقرأ أهل العراق بالفتح ، وإليه يميل أبو عبيد والمعنيان متقاربان إلّا أن أهل
المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام ، فنسق الكلام في التي في «الأعراف» بالضم أشبه
إذ كان الموت ليس من فعلهم ، فكذا الإخراج والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام
أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم فالفعل بهم أشبه.
قال أبو الهيثم عن
أبي سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة» قال أبو جعفر : المعنى كلّ من في السّموات والأرض له
مطيعون طاعة انقيادهم على ما شاء من صحّة وسقم وغنى وفقر ، وليست هذه الطاعة التي
يجازون عليها.
(وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ) وقد ذكرناه. (وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) أي ما أراده جلّ وعزّ كان ، وقال الخليل رحمهالله : المثل الصفة.
(شُرَكاءَ) في موضع رفع و (مِنْ) زائدة للتوكيد. (فَأَنْتُمْ فِيهِ
سَواءٌ) مبتدأ وخبر وليست سواء هاهنا التي تكون ظرفا. (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ) نصب بالفعل والكاف والميم في موضع خفض ، وهي أيضا في موضع
رفع في التأويل كما تقول : عجبت من ضربكم عمرا. ويجوز من ضربكم عمرو لأن المصدر
يضاف إلى الفاعل والمفعول به ، وتقول : عجبت من وقع أنيابه بعضها على بعض ، وإن
شئت رفعت لأن أنيابه في موضع رفع في التأويل إلّا أن الرفع في الظاهر قبيح عند
الكوفيين ، فإن قلت : عجبت من وقعها بعضها على بعض ، حسن الرفع عند الجميع (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب ، والتقدير : نفصّل الآيات تفصيلا كذلك.
__________________
(بَلِ اتَّبَعَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) جمع هوى لأنّ أصله فعل.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ) أي اجعل جهتك للدين. (حَنِيفاً) على الحال. قال الضحاك : «حنيفا» مسلما حاجا. قال و (فِطْرَتَ اللهِ) دين الله. قال أبو إسحاق : «فطرة الله» نصب بمعنى اتّبع
فطرة الله ، قال : لأن معنى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ) اتبع الدين واتبع فطرة الله. قال محمد بن جرير : «فطرة»
مصدر من معنى فأقم وجهك ؛ لأن معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك فطرة. وقد ذكرنا
فطرة الله بأكثر من هذا في «المعاني» ، والحديث «كل مولود يولد على الفطرة» ، وقول
الفقهاء فيه. وقد قيل : معناه يولد على الخلقة التي تعرفونها ، وقيل : معنى فطرة
الله التي فطر الناس عليها أي اتّبعوا دين الله الذي خلق الناس له. وسمّيت الفطرة
دينا لأن الناس يخلقون له قال جلّ وعزّ (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]
واحتجّ قائل بقوله جلّ وعزّ : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَها) [الإسراء : ٧].
(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) منصوب على الحال. قال محمد بن يزيد : لأن معنى «فأقم وجهك»
: وفأقيموا وجوهكم. وهو قول أبي إسحاق واحتج بقوله جلّ وعزّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ،
وقال الفراء : المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين ورد أبو العباس قول من
قال : التقدير لا يعلمون منيبين لأن معنى منيبين راجعون فكيف لا يعلمون راجعين ،
وأيضا فإن بعده (وَاتَّقُوهُ) وإنما معناه فأقيموا وجوهكم واتّقوه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
(مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ) تأولته عائشة رضي الله عنها وأبو هريرة وأبو أمامة رحمهماالله على أنه لأهل القبلة ، وقال الربيع بن أنس : الذين فرقوا
دينهم أهل الكتاب. وفارقوا دينهم تركوا دينهم الذي يجب أن يتبعوه ، وهو التوحيد. (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا. (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) قيل : هم فرحون لأنهم لم يتبيّنوا الحق
__________________
وعليهم أن
يتبيّنوه ، وقيل : هذا قبل أن تظهر البراهين ، وقول ثالث أنّ العاصي لله جلّ وعزّ
قد يكون فرحا بمعصيته ، وكذلك الشيطان ، وقطّاع الطريق وغيرهم ، والله أعلم.
وزعم الفراء أنه يجوز أن يكون التمام «ولا تكونوا من المشركين» ويكون
المعنى «من الذين فارقوا دينهم» (وَكانُوا شِيَعاً) على الاستئناف ، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله ، قال
أبو جعفر : إذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين على البدل بإعادة الحرف كما
قال جلّ وعزّ : (لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥]
ولو كان بلا حرف لجاز.
(دَعَوْا رَبَّهُمْ
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) على الحال ، وعن ابن عباس أي مقبلين إليه بكلّ قلوبهم.
(لِيَكْفُرُوا بِما
آتَيْناهُمْ) لام كي ، وقيل : هي لام أمر فيه معنى التهديد ، كما قال
جلّ وعزّ (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وكما
تقول : كلّم فلانا حتى نرى ما يلحقك منّي وكذا (فَتَمَتَّعُوا) ، ودلّ على ذلك (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
(أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحّاك : «سلطانا» أي
كتابا ، وزعم الفراء أن العرب تؤنّث السلطان ، وتقول : قضت به عليك السلطان. فأما
البصريون فالتذكير عندهم أفصح ، وبه جاء القرآن ، والتأنيث جائز عندهم ؛ لأنه
بمعنى الحجّة. وقولنا سلطان معناه صاحب سلطان أي صاحب الحجّة ؛ إلّا أن محمد بن
يزيد قال غير هذا فيما حكى لنا عنه علي بن سليمان قال : سلطان جمع سليط كما تقول :
رغيف ورغفان ، فتذكيره على معنى الجميع وتأنيثه على معنى الجماعة.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) التقدير عند سيبويه قنطوا فلهذا كان جواب الشرط.
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ) تأوله مجاهد وقتادة على أنه قريب الرجل ، وجعلا صلة
__________________
الرحم فرضا من
الله جلّ وعزّ حتى قال مجاهد : لا يقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة ، وقيل : ذو
القربى القربى بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وحقّه مبيّن في قوله جلّ وعزّ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الأنفال : ٤١] ، «وابن
السبيل» الضيف فجعل الضيافة فرضا ، (فَأُولئِكَ) مبتدأ و (هُمُ) مبتدأ ثان (الْمُضْعِفُونَ) خبر الثاني والجملة خبر الأول ، وفي معنى المضعفين قولان :
أحدهما تضاعف لهم الحسنات والآخر أنه قد أضعف لهم الخير والنعيم أي هم أصحاب أضعاف
، كما يقال :
فلان مقو أي له
أصحاب أقوياء ، ويقال : فلان رديء مردئ أي هو رديء في نفسه وأصحابه أردياء.
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) في معناه قولان : أحدهما ظهر الجدب في البر أي في البوادي
وقرأها : وفي البحر أي في مدن البحر مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي ظهر قلّة الغيث وغلاء السعر بما كسبت أيدي
الناس من المعاصي لنذيقهم عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف. والقول الآخر : أنّ معنى (ظَهَرَ الْفَسادُ) ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على
الحقيقة. والأول مجاز إلّا أنه على الجواب الثاني يكون في الكلام حذف واختصار دلّ
عليه ما بعده.
ويكون المعنى ظهرت
المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهم الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض ما
عملوا (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) وروى داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس «لعلهم يرجعون»
لعلهم يتوبون. فأما قوله جلّ وعزّ : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ) فقد ذكرنا قول العلماء فيه أنه أن يهدي الرجل إلى الرجل
الهدية يريد عليها المكافأة ولا يريد الثواب فذلك مباح إلّا أنه لا يثاب عليه لأنه
لم يقصد به ثواب الله جلّ وعزّ غير أنّ الضحاك قال : نهى النبي صلىاللهعليهوسلم عن ذلك خاصة بقوله جلّ وعزّ : (لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] وقد
قيل : معنى وما آتيتم من ربا هو الربا الذي لا يحلّ ، وقال قائل هذا القول : معنى
فلا يربو عند الله فلا يحكم به لآخذه لأنه ليس له وإنما هو للمأخوذ منه. وتثنية
الربا ربوان ، كذا قول سيبويه ، ولا يجوز عند أصحابه غيره. وسمعت أبا إسحاق يقول : وذكر
قول الكوفيين ـ لا يكفيهم في قولهم ربيان أن يخطئوا في الخطّ فيكتبوا الربا بالياء
حتى يخطئوا في التثنية واستعظم هذا ، وقد قال الله جلّ وعزّ : (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ، فهذا
__________________
أبين أنه من ذوات
الواو ، وأن القول كما قال أبو إسحاق.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا يردّه الله جلّ وعزّ عنهم فإذا لم يردّه لم يتهيّأ
لأحد دفعه ، ويجوز عند غير سيبويه «لا مردّ له» وذلك
عند سيبويه بعيد إلّا أن يكون في الكلام عطف. (يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ) الأصل يتصدّعون أدغمت التاء في الصاد لقربها منها ، ويقال
: تصدّع القوم ، إذا تفرقوا ومنه اشتق الصّداع لأنه يفرق شعب الرأس.
(وَكانَ حَقًّا
عَلَيْنا) خبر كان. (نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ) اسمها ، ولو كان في غير القرآن لجاز رفع حقّ ونصب نصر ،
لأن حقّا ، وإن كان نكرة ، فبعده علينا ، ولجاز رفعهما على أن تضمر في كان والخبر
في الجملة. وفي الحديث : «من ردّ عن عرض صاحبه ردّ الله عنه نار جهنّم ثم تلا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم و (كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ)» .
(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) جمع كسفة وهي القطعة ، وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبد
الرحمن الأعرج. كسفا بإسكان السين ، وهو أيضا جمع كسفة كما يقال : سدرة وسدر ،
وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه أي فترى الودق يخرج من خلال
الكسف لأن كلّ جمع بينه وبين واحده «الهاء» لا غير ، التذكير فيه حسن ، ومن قرأ
كسفا فالمضمر عنده عائد على الحساب ، وفي قراءة الضحاك فترى الودق يخرج من خلله ويجوز أن يكون خلال جمع خلل.
__________________
(وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) قد ذكرناه ، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أنه على التوكيد ،
ويقول : إنّ قول قطرب التقدير من قبل التنزيل خطأ لأن المطر لا ينفك من التنزيل ،
وأنشد : [الطويل]
٣٣٨ ـ مشين كما
اهتزّت رماح تسفّهت
|
|
أغاليها مرّ
الرّياح النّواسم
|
فأنّث المرّ ،
لأنّ الرياح لا تنفكّ منه ، ولأن المعنى تسفّهت أعاليها الرياح ، فكذا معنى : «من
قبل أن ينزل عليهم المطر» من قبل المطر. ويقال : آثر وإثر. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ) لا يجوز فيه الإدغام لئلا يجمع فيه ساكنان.
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) قيل : التقدير فرأوا الزرع مصفرّا ، وقيل : فرأوا السحاب ،
وقيل فرأوا الريح ، وذكّرت الريح لأنها للمرسل منها ، وقال محمد بن يزيد لا يمتنع
تذكير كلّ مؤنث غير حقيقي نحو أعجبني الدار ، وما أشبهه (لَظَلُّوا) قال الخليل رحمهالله : معناه ليظلّنّ. قال أبو إسحاق : وجاز هذا لأن في الكلام
معنى المجازاة.
(فَإِنَّكَ لا
تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) جعلوا بمنزلة الموتى والصمّ ، لأنهم لا ينتفعون بما
يسمعون. (وَما أَنْتَ بِهادِي
الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) قال الفراء : ويجوز من ضلالتهم بمعنى وما أنت بمانعهم من ضلالتهم ،
وعن بمعنى وما أنت بصارفهم عن ضلالتهم.
(اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) قال عطية عن ابن عمر رحمهالله قال : قرأت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من ضعف» فقال لي (مِنْ ضَعْفٍ) وقرأ عيسى بن عمر (مِنْ ضَعْفٍ) ، وقرأ الكوفيون (مِنْ ضَعْفٍ) وهو المصدر ، وأجاز النحويون منهم من ضعف ، وكذا كلّ ما
كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا. قال أبو إسحاق :
تأويله الله الذي
خلقكم من النطفة التي حالكم معها الضعف ثم جعل من بعد الضعف الشبيبة.
__________________
(وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) وليس في هذا ردّ لعذاب القبر إذ كان قد صحّ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم من غير طريق أنه تعوّذ منه ، وأمر أن يتعوّذ منه. من ذلك
ما رواه عبد الله بن مسعود قال : سمع صلىاللهعليهوسلم أمّ حبيبة تقول : اللهمّ أمتعني بزوجي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «سألت الله في آجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن
يعيذك من عذاب جهنّم أو عذاب القبر» في أحاديث مشهورة. وفي معنى (ما لَبِثُوا غَيْرَ
ساعَةٍ) قولان : أولهما أنّه يريد لا بدّ من خمدة قبل يوم القيامة
ولحق الفناء الذي كتب على الخلق من رحم ومن عذّب فعلى هذا قالوا ما لبثنا غير ساعة
لأنهم لم يعملوا مقدار ذلك ، والقول الآخر أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها
وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون قال الله جلّ وعزّ (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذلك كانوا يكذبون في الدنيا ، وقد زعم جماعة من أهل
النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه ، والقرآن يدل على غير ذلك.
قال الله جلّ وعزّ : (كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ) وقال جلّ ثناؤه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨].
وردّ عليهم
المؤمنون فقالوا : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ
فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) قال أبو إسحاق: أي في اللّوح المحفوظ وحكى يعقوب عن بعض
القراء «إلى يوم البعث»
فهذا ما فيه حرف
من حروف الحلق.
(فَيَوْمَئِذٍ لا
يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) لمّا ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا
فلم يعذروا (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) ولا حالهم حال من يستعتب فيرجع.
__________________
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يدلّهم على ما يحتاجون إليه.
(وَلا
يَسْتَخِفَّنَّكَ) في موضع جزم بالنهي فأكّد بالنون الثقيلة فبني على الفتح ،
كما يبنى الشيئان إذا ضمّ أحدهما إلى الآخر (الَّذِينَ لا
يُوقِنُونَ) في موضع رفع ، ومن العرب من يقول الذّون في موضع الرفع.
٣١
شرح إعراب سورة لقمان
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم تِلْكَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هذه تلك ، ويقال : تيك.
(آياتُ الْكِتابِ
الْحَكِيمِ) بدل من «تلك».
(هُدىً وَرَحْمَةً) نصب على الحال ، مثل (هذِهِ ناقَةُ اللهِ
لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣ ،
وهود : ٦٤] وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي ، وقرأ حمزة هدى ورحمة بالرفع ، وهو من جهتين : إحداهما على إضمار مبتدأ لأنه أول
آية ، والأخرى أن يكون خبر تلك.
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، لأنه أول آية أو في موضع
نصب بمعنى أعني ، أو في موضع خفض على أنه نعت للمحسنين.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ مِنَ) في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة. وعن رجلين من أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «لهو الحديث» هاهنا
الغناء وأنه ممنوع بالكتاب والسنة فيكون التقدير ومن الناس من يشتري ذا لهو أو ذات
لهو ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أو
يكون التقدير : لما
__________________
كان إنما يشتريها
ويبالغ في ثمنها كأنه اشترى اللهو. (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) أي ليضلّ غيره ومن قرأ ليضل فعلى اللازم له عنده ، (وَيَتَّخِذَها) قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الأعمش وحمزة
والكسائي (وَيَتَّخِذَها) عطفا على ليضلّ. والرفع من وجهين : أحدهما أن يكون معطوفا
على يشتري ، والآخر أن يكون مستأنفا. والهاء كناية عن الآيات ، ويجوز أن تكون
كناية عن السبيل لأن السبيل يذكّر ويؤنّث.
(كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ
وَقْراً) اسم كأنّ وتحذف الضمة لثقلها فيقال : أذن.
(خَلَقَ السَّماواتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يكون (تَرَوْنَها) في موضع خفض على النعت لعمد أي بغير عمد مرئية ، ويجوز أن
يكون في موضع نصب على الحال. قال أبو جعفر :
وسمعت علي بن
سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا ويكون بغير عمد التمام. (أَنْ تَمِيدَ) في موضع نصب أي كراهة أن تميد ، والكوفيون يقدّرونه بمعنى
لئلا تميد.
(فَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) عن ابن عباس : من كلّ نوع حسن ، وتأوّله الشعبي على الناس
لأنهم مخلوقون من الأرض ، قال : فمن كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم ومن كان
يصير إلى النار فهو اللئيم ، وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب وظاهر القرآن
يدلّ على ذلك.
(هذا خَلْقُ اللهِ) مبتدأ وخبر. (فَأَرُونِي ما ذا
خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) «ما» في موضع رفع
بالابتداء وخبره «ذا» وذا بمعنى الذي ، وخلق واقع على هاء محذوفة على هذا ، تقول:
ماذا تعلّمت أنحو أم شعر ، ويجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بخلق و «ذا» زائدة ،
وعلى هذا تقول : ما ذا تعلمت أنحوا أم شعرا. (بَلِ الظَّالِمُونَ) رفع بالابتداء.
(فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع الخبر.
__________________
(وَلَقَدْ آتَيْنا
لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) مفعولان ولم ينصرف لقمان لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين
فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم يصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان وانصرف في
النكرة لأن أحد الثقلين زال. وزعم عكرمة أن لقمان كان نبيا وفي الحديث أنه كان
حبشيا . (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) فيه تقديران : أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي مفسرة أي قلنا
له اشكر ، والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها ، كما حكى سيبويه :
كتبت إليه أن قم إلا أن هذا الوجه بعيد. (وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) جزم بالشرط ، ويجوز الرفع على أن من بمعنى الذي.
(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) «إذ» في موضع نصب
، والمعنى واذكر ، وحكى أبو إسحاق في كتابه في القرآن أن «إذ» في موضع نصب بآياتنا
وأن المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. قال أبو جعفر : وأحسبه غلطا لأن في
الكلام واوا تمنع من ذلك وأيضا فإن اسم لقمان مذكور بعد قال. (يا بُنَيَ) بكسر الياء ؛ لأنها دالّة على الياء المحذوفة ومن فتحها
فلخفّة الفتحة عنده.
(إِنَّها) الكتابة عن القصة أو عن الفعلة أو بمعنى : إنّ التي سألتني
عنها لأنه يروى أنه سأله ، والبصريون يجيزون إنّها زيد ضربته ، بمعنى أن القصة ،
والكوفيون لا يجيزون هذا إلّا في المؤنث (إِنْ تَكُ مِثْقالَ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) خبر «تك» واسمها مضمر فيها ، واستبعد أبو حاتم أن يقرأ (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالرفع. لأن مثقالا مذكّر فلا يجوز عنده إلا بالياء. قال
أبو جعفر : وهذا جائز صحيح وهو محمول على المعنى لأن المعنى واحد ، وهذا كثير في
كلام العرب يقال : اجتمعت أهل القيامة لأن من كلامهم اجتمعت اليمامة ، وزعم الفراء
أن مثل الآية قول الشاعر :
٣٣٩ ـ وتشرق
بالقول الّذي قد أذعته
|
|
كما شرقت صدر
القناة من الدّم
|
فأما (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) فمعترض بين كلام لقمان كما روى شعبة عن سماك ابن حرب عن
مصعب بن سعد عن أبيه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله جلّ
__________________
وعزّ ببرّ الوالدة؟
فو الله لا أطعم ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها أو جروها بالعصا وجعلوا في
فيها الطعام والشراب ، فنزلت (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) إلى (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الآية فأما نصب «وهنا على وهن» قال أبو جعفر : فما علمت أن
أحدا من النحويين ذكره فيكون مفعولا ثانيا على حذف الحرف أي حملته بضعف على ضعف أو
فازدادت ضعفا على ضعف ، و (مَعْرُوفاً) نعت لمصدر محذوف. وزعم أبو إسحاق في كتابه أن «أن» في موضع
نصب وأن المعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك. وهذا القول على مذهب
سيبويه بعيد ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت غيره. وأجود منه أن تكون «أن» مفسرة
والمعنى : قلنا له اشكر لي ولوالديك.
(يا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ) معنى إقامة الصّلاة إتمامها بجميع فروضها ، كما يقال :
فلان قيّم بعمله الذي وليه أي قد وفّى العمل جميع حقوقه ، ومنه هذا قوام الأمر (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) وهو أن لا يخرج من الجزع إلى معصية الله وكذا الصبر عن
المعاصي.
(وَلا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قد ذكرناه وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال : «تصاعر» من واحد
مثل عافاه الله (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متكبرا. وهو مصدر في موضع الحال.
(وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ) أي توسّط والتوسط أحمد الأمور ، وكذا (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أدّبه الله جلّ وعزّ بالأمر بترك الصياح في وجوه الناس
تهاونا بهم (إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قال أبو عبيدة : أي أشدّ ، وقال الضحاك : وهما جميعا على المجاز.
وفي الحديث «ما
صاح حمار ولا نبح كلب إلّا أن يرى شيطانا» .
__________________
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وذلك من نعم الله جلّ وعزّ على بني آدم فالأشياء كلّها
مسخرة لهم من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم ، وتجرّ إليهم منافعهم ، ومن سماء وما
فيهما لا يحصى (وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) على الحالومن قرأ نعمة ظاهرة وباطنة جعله نعتا ، وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح مروية وفسرها
: الإسلام ؛ وشرح هذا أنّ سعيد بن جبير قال في قوله جلّ وعزّ :
(وَلكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٦] قال
: يدخلكم الجنة وتمام نعمة الله على العبد أن يدخله الجنة فكذا لمّا كان الإسلام
يؤول أمره إلى الجنة سمّي نعمة ، وعن ابن عباس قال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قال : هو النّضر بن الحارث.
(أَوَلَوْ كانَ
الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي أولو كان كذا يتّبعونه على التوبيخ.
(وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) وقراءة أبي عبد الرحمن السلمي (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ). قال : «يسلم» في هذا أعرف ، كما قال جلّ وعزّ : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) ومعنى «أسلمت وجهي لله» قصدت بعبادتي إلى الله وأقررت أنه
لا إله غيره ، ويجوز أن يكون التقدير : ومن يسلم نفسه إلى الله مثل (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]
معناه إلّا إياه. ويكون يسلّم على التكثير إلّا أنّ المستعمل في سلّمت أنه بمعنى
دفعت يقال : سلّمت في الحنطة وقد يقال : أسلمت. وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) قال : لا إله إلا الله.
(وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) «أنّ» في موضع رفع
، والتقدير ولو وقع هذا و «أقلام» خبر أن. (وَالْبَحْرُ
يَمُدُّهُ) مرفوع من جهتين : إحداهما العطف على الموضع ،
__________________
والأخرى أن يكون
في موضع الحال. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق (وَالْبَحْرُ
يَمُدُّهُ)
بالنصب على اللفظ. وحكى يونس عن ابن أبي
عمرو بن العلاء قال : ما أعرف للرفع وجها إلّا أن يجعل البحر أقلاما وأبو عبيد
يختار الرفع لكثرة من قرأ به إلا أنه قال : يلزم من قرأ بالرفع أن يقرأ و (كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)
[المائدة : ٤٥]. قال أبو جعفر :
هذا مخالف لذاك عند سيبويه ، قال سيبويه
(٢) : أي والبحر هذا أمره يجعل الواو تؤدّي عن الحال ، وليس هذا في (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)
(يمدّه) ، وحكي «يمدّه» على أنهما لغتان بمعنى واحد ، وحكي التفريق بين اللغتين
وأنّه يقال فيما كان يزيد في الشيء مدّة يمدّه كما تقول : مدّ النيل الخليج ، أي
زاد فيه ، وأمدّ الله جلّ وعزّ الخليج بالنيل. وهذا أحسن القولين ، وهو مذهب
الفراء (٣) ، ويجوز تمدّه. (مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)
على تأنيث السبعة. (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ
اللهِ)
قال قتادة : قالوا : إنّ ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم سينفد فأنزل الله جلّ
وعزّ يعني هذا.
(ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) قال الضحاك : أي ما ابتداء خلقكم جميعا إلّا كخلق نفس
واحدة ، وما بعثكم يوم القيامة إلّا كبعث نفس واحدة. قال أبو جعفر :
وهكذا قدّره
النحويون بمعنى إلّا كخلق نفس واحدة مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
(يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) عن ابن مسعود أنه قال : قصر نهار الشتاء في طول ليله ،
وقصر ليل الصيف في طول نهاره.
(وَإِذا غَشِيَهُمْ
مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) لأن سبيل الموج إذا اشتدّ أن يرتفع. قال الفراء : يعني
بالظّلل السحاب. قال الخليل وسيبويه رحمهماالله في قاض وجاز : يوقف عليهما بغير تاء ، وعلتهما في ذلك أن
يعرف أنه في الوصل كذلك وكان القياس أن يوقف عليهما بالياء لأن التنوين يزول في
الوقف ، وحكى يونس أن بعض العرب الموثوق بلغتهم يقف بالياء فيقول : جاءني قاضي
وجازي.
__________________
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ) (الْغَيْثَ) زعم الفراء أن في هذا معنى النفي أي ما لم يعلمه أحد إلّا الله جل
وعز. قال أبو جعفر : إنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلىاللهعليهوسلم على ذلك لأنه صلىاللهعليهوسلم في قول الله جلّ وعزّ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] لا يعلمها إلّا هو أنها هذه. قال أبو إسحاق
: فمن زعم أنه يعلم شيئا من هذا فقد كفر (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما
تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ومن العرب من يقول : بأيّة أرض. فمن قال :
بأيّ أرض قال :
تأنيث الأرض يكفي من تأنيث أي ، ومن قال : بأيّة أرض قال : أي تنفرد تأتي بغير
إضافة لو قال : جاءتني امرأة ، قلت أيّة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) نعت لعليم أو خبر بعد خبر.
__________________
٣٢
شرح إعراب سورة السجدة
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) الاجتماع على رفع تنزيل ، ورفعه من ثلاثة أوجه :
أحدها بالابتداء
والخبر (لا رَيْبَ فِيهِ) ، والثاني على إضمار مبتدأ أي هذا المتلو تنزيل ، والثالث
بمعنى هذه الحروف تنزيل و «ألم» تدل على الحروف كلها كما تدل عليها أب ت ث. ولو
كان تنزيل منصوبا على المصدر لجاز كما قرأ الكوفيون (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [يس : ٣ ـ ٥].
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ) «أم» تدلّ على
خروج من حديث إلى حديث (بَلْ هُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ وخبره ، وكذا (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) أي للكافرين من مولى يمنع من عذابهم (وَلا شَفِيعٍ) ، ويجوز بالرفع على الموضع (أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ) هذه الموعظة.
(الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير (خَلَقَهُ) بإسكان اللام ونصبه في هذه القراءة على المصدر عند سيبويه
مثل (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨] ،
وعند غيره على البدل من «كلّ» أي الّذي أحسن خلق كلّ شيء وهما مفعولان على مذهب
بعض النحويين بمعنى أفهم كلّ شيء خلقه و (خَلَقَهُ) على أنه فعل
__________________
ماض في موضع خفض
نعت لشيء والمعنى على ما يروى عن ابن عباس : أحكم كلّ شيء خلقه أي جاء به ما أراد
لم يتغيّر عن إرادته ، وقول آخر أن كلّ شيء يخلقه حسن لأنه لا يقدر أحد أن يأتي
بمثله ، وهو دالّ على خالقه. قال أبو إسحاق : ويجوز الذي أحسن كل شيء خلقه بالرفع
بمعنى ذلك خلقه. (وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني آدم صلىاللهعليهوسلم.
(ثُمَّ جَعَلَ
نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) مشتقّ من سللت الشيء وفعالة للقليل. (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) قال أبو إسحاق : أي ضعيف ، وقال غيره : أي لا خطر له عند
الناس.
(ثُمَّ سَوَّاهُ) يعني الماء. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ) أي الّذي يحيا به. (وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) فوحّد السمع وجمع الأبصار ، لأنّ السمع في الأصل مصدر ،
ويجوز أن يكون واحدا يدلّ على جمع (وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد وهو القلب.
وقالوا أأذا ضللنا
في الأرض أأنا لفي خلق جديد ويقرأ (أَإِنَّا) في هذا سؤال صعب من العربية يقال : ما العامل في «إذ» و «إنّ»
لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ والسؤال في الاستفهام أشدّ لأن ما بعد الاستفهام
أجدر أن لا يعمل فيما قبله من «أنّ» كيف وقد اجتمعا؟ فالجواب على قراءة من قرأ أنا
أنّ العامل ضللنا ، وعلى قراءة من قرأ (أَإِنَّا) أن العامل مضمر ، والتقدير : أنبعث إذا متنا ، وفيه أيضا
سؤال يقال : أين جواب إذا على القراءة الأولى لأن فيها معنى الشرط؟ فالقول في ذلك
أن بعدها فعلا ماضيا فلذلك جاز هذا ، وعن أبي رجاء وطلحة أنهما قرءا (أَإِذا ضَلَلْنا) وهي لغة شاذة ، وعن الحسن ا إذا صللنا بالصاد ، وهكذا
رواها الفراء ، وزعم أنها تروى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ولا
يعرف في اللغة صللنا ولكن يعرف صللنا ، يقال : صل اللحم وأصل ، وخمّ وأخمّ إذ
أنتن.
(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ) قال أبو إسحاق : هو من توفية العدد أي يستوفي عددكم
أجمعين.
__________________
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مبتدأ وخبر. قال أبو إسحاق : المخاطبة للنبيّ صلىاللهعليهوسلم مخاطبة لأمته ، والمعنى : ولو ترون ، ومذهب أبي العباس غير
هذا ، وأن يكون المعنى : يا محمد قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند
ربهم لندمت على ما كان منك وحذف جواب «لو» والقول.
(وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) مفعولان قيل : في معناه قولان : أحدهما أن سياق الكلام
يدلّ على أنه في الآخرة أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي حقّ القول منّي لأعذبنّ من عصاني بعذاب جهنّم وعلم الله
جلّ وعزّ أنّه لو ردّهم لعادوا كما قال (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].
(فَذُوقُوا بِما
نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) في معناه قولان : أحدهما أنه من النسيان الذي لا ذكر معه
أي لم تعملوا لهذا اليوم فكنتم بمنزلة الناسين ، والآخر أن نسيتم بمعنى تركتم ،
وكذا (إِنَّا نَسِيناكُمْ) واحتجّ محمد بن يزيد بقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] قال :
والدليل على أنه بمعنى ترك أنّ الله جلّ وعزّ أخبر عن إبليس أنه قال له : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠]
فلو كان آدم صلىاللهعليهوسلم ناسيا لكان قد ذكّره : وأنشد : [البسيط]
٣٤٠ ـ كأنّه
خارجا من جنب صفحته
|
|
سفّود شرب نسوه
عند مفتأد
|
أي تركوه ولو كان
من النسيان لكانوا قد عملوا به مرّة.
__________________
(إِنَّما يُؤْمِنُ
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) أي إنما يؤمن بالعلامات والبراهين والحجج الذين إذا ذكّروا
بها خضعوا لله وسبّحوا بحمده. (وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته ولا الانقياد لما أبانه.
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) في موضع نصب على الحال أو رفع لأنه فعل مستقبل ولم يتبيّن
فيه الإعراب لأنه فعل مقصور. ومعنى مقصور أنه قصر منه الإعراب ومعنى منقوص أنه نقص
منه الإعراب. (يَدْعُونَ) في موضع نصب على الحال (خَوْفاً) مفعول من أجله ، ويجوز أن يكون مصدرا. (وَطَمَعاً) مثله أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) تكون «ما» بمعنى الذي وتكون مصدرا ، وفي كلا الوجهين يجب
أن تكون منفصلة من «من».
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ
ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ويقرأ ما أخفي لهم بإسكان الياء على أنه فعل مستقبل. وفي قراءة عبد الله ما
نخفي بالنون ، قال أبو إسحاق : ويقرأ ما أخفي لهم بمعنى ما أخفى الله لهم فإن جعلت
«ما» بمعنى الذي كانت في موضع نصب على الوجوه كلّها ، وإن جعلتها بمعنى أي وقرأت
بقراءة المدنيين كانت في موضع رفع وإن قرأت بغيرها كانت في موضع نصب.
(جَزاءً) مفعول من أجله أو مصدر.
لأن لفظ «من»
تؤدّي عن الجماعة فلهذا قال : لا يستوون. هذا قول كثير من النحويين ، وقال بعضهم :
يستوون لاثنين إلّا أنّ الاثنين جمع ، لأنه واحد جمع مع آخر. والحديث يدلّ على هذا
القول لأنه عن ابن عباس رحمهالله وغيره قال : نزلت (أَفَمَنْ كانَ
مُؤْمِناً) في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، (كَمَنْ كانَ فاسِقاً) في الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
__________________
(أَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في موضع رفع بالابتداء فوصفه الله جلّ وعزّ بالإيمان ،
وخبر الابتداء (فَلَهُمْ جَنَّاتُ
الْمَأْوى) والمعنى : فله ولنظرائه فعلى هذا جاء الجمع ، وكذا (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا
فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما) ظرف.
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) لام قسم. (مِنَ الْعَذابِ
الْأَدْنى) أي الأقرب ، وأكثر أهل التفسير على أنها المصيبات في
الدنيا.
(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لنفسه. (مِمَّنْ ذُكِّرَ
بِآياتِ رَبِّهِ) أي بحججه وعلاماته. (ثُمَّ أَعْرَضَ
عَنْها) بترك القبول فاعلم أنه ينتقم منه ، فقال جلّ وعزّ : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
مُنْتَقِمُونَ).
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ) مفعولان. (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ
مِنْ لِقائِهِ) قد ذكرناه ، وقد قيل : إن معناه فلا تكن في شكّ من تلقي
موسى صلىاللهعليهوسلم الكتاب بالقبول ، وعن الحسن أنه قال في معناه : ولقد آتينا
موسى الكتاب فأوذي وكذّب فلا تكن في شكّ من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى.
وهو قول غريب إلّا أنه من رواية عمرو بن عبيد.
(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً) والكوفيون يقرءون أمّة وهو لحن عند جميع النحويين ، لأنه
جمع بين همزتين في كلمة واحدة وهو من دقيق النحو ، وشرحه أن الأصل أأممة ثم ألقيت
حركة الميم الأولى على الهمزة ، وأدغمت الميم في الميم وخفّفت الهمزة الثانية لئلا
تجتمع همزتان ، والجمع بين همزتين في حرفين بعيد فأما في حرف واحد فلا يجوز البتة
إلّا بتخفيف آدم وآخر وهذا آدم من هذا (لَمَّا صَبَرُوا) لصبرهم و (لَمَّا صَبَرُوا) أي حين صبروا جعلناهم أئمة.
__________________
(أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة أو لمن نهد لهم بالنون فهذه قراءة بيّنة. والقراءة الأولى بالياء فيها
إشكال لأنه يقال : الفعل لا يخلو من فاعل فأين الفاعل ليهد فتكلّم النحويون في هذا
فقال الفراء : «كم» في موضع رفع بيهد.
وهذا نقض لأصول
النحويين في قولهم : إنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا في كم بوجه أعني ما
قبلها. ومذهب أبي العباس أنّ يهد يدلّ على الهدى فالمعنى أو لم يهد لهم الهدى ،
وقيل : المعنى أو لم يهد الله لهم فيكون معنى الياء ومعنى النون واحدا ، وقال أبو
إسحاق : كم في موضع نصب بأهلكنا. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) في موضع نصب بأنّ. (أَفَلا يَسْمَعُونَ) بمعنى أفلا يقبلون مثل : سمع الله لمن حمده.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : هي
أرض اليمن ، وقال سفيان وحدّثني معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هي أبين ، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة «إلى الأرض الجرز» قال :
هي الظّمأى ، وقال
جويبر عن الضحاك (إِلَى الْأَرْضِ
الْجُرُزِ) قال : الميتة العطشى ، وقال الفراء : هي التي لا نبات فيها ، وقال الأصمعي : الأرض الجرز التي
لا تنبت شيئا. قال محمد بن يزيد : يبعد أن تكون إلّا أرضا بعينها لدخول الألف
واللام إلّا أنه يجوز على قول ما قال ابن عباس والضحاك. قال أبو جعفر : الإسناد عن
ابن عباس صحيح لا مطعن فيه ، وهذا إنما هو نعت ، والنعت للمعرفة يكون بالألف
واللام. وهو مشتق من قولهم : رجل جروز إذا كان لا يبقي شيئا إلّا أكله. وحكى
الفراء وغيره أنه يقال : أرض جرز وجرز وجرز ، وكذلك بخل ورعب ورهب
في الأربعة أربع لغات (فَنُخْرِجُ بِهِ
زَرْعاً) يكون معطوفا على نسوق ، أو منقطعا مما قبله (تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) في موضع نصب على النعت. (وَأَنْفُسُهُمْ) أي ويأكلون منه. والنفس في كلام العرب
__________________
على ضربين :
أحدهما أنه يراد بها الانفصال ، والآخر أنه يراد بها جملة الشيء وحقيقته قال جلّ
وعزّ (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]
أي تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. (أَفَلا يُبْصِرُونَ) يكون (ألا) للتنبيه.
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْفَتْحُ) «متى» في موضع رفع
ويجوز أن تكون في موضع نصب على الظرف. قال الفراء : يعني فتح مكة ، وأولى من هذا ما قاله مجاهد قال :
يعني يوم القيامة.
قال أبو جعفر : ويوم فتح مكة قد نفع من آمن إيمانه. ويروى أن المؤمنين قالوا :
سيحكم الله جلّ وعزّ بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، فقال الكفار
على التهزي : متى هذا الفتح أي هذا الحكم؟ ويقال : للحاكم فاتح وفتّاح ؛ لأن
الأشياء تتفتح على يديه وتنفصل ، وفي القرآن (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩].
(قُلْ يَوْمَ
الْفَتْحِ) على الظرف وأجاز الفراء الرفع.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قيل : معناه أعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به.
(وَانْتَظِرْ
إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي انتظر يوم الفتح يوم يحكم الله لك عليهم ، فإن قال
قائل: فكيف ينظرون يوم القيامة وهم لا يؤمنون به ففي هذا جوابان : أحدهما أن يكون
المعنى أنهم ينتظرون الموت ، وهو من أسباب القيامة فيكون هذا مجازا ، والآخر أن
فيهم من يشكّ ومنهم من يوقن بالقيامة فيكون هذا لهذين الصنفين والله جلّ وعزّ
أعلم.
__________________
٣٣
شرح إعراب سورة الأحزاب
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُ) ضممت أيا لأنه نداء مفرد والتنبيه لازم لها والنبي نعت
لأيّ عند النحويين إلّا الأخفش فإنه يقول : إنه صلة لأي ، وهو خطأ عند أكثر
النحويين لأن الصلة لا تكون إلّا جملة والاحتيال له فيما قال : إنه لما كان نعتا
لازما سماه صلة فهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها ، وأجاز بعض النحويين النصب ، (اتَّقِ اللهَ) حذفت الياء لأنه أمر. (وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي لا تطعهم فيما نهيت عنه ولا تمل إليهم ، ودلّ بقوله جلّ
وعزّ : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) على أنه إنما كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام أي
لو علم الله جلّ وعزّ أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه لأنه حكيم.
(وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ) أي من اجتنابهم.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) أي في الخوف من ضررهم. (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) أي كافيا لك مما تخافه منهم «وكيلا» نصب على البيان أو على
الحال.
(ما جَعَلَ اللهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) «من» زائدة
للتوكيد ، وشبه هذا بالأول أنّه لم
__________________
يجعل للإنسان
قلبين قلبا يخلص به لله جلّ وعزّ وقلبا يميل به إلى أعدائه. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي
تُظاهِرُونَ) (مِنْهُنَّ
أُمَّهاتِكُمْ) مفعولان وهو مشتق من الظهر لأن الظهر موضع الركوب. وكانت
العرب تطلق بالظّهار. (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. وفي الحديث
أن خديجة رضي الله عنها وهبته لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فجاء أبوه حارثة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : خذ مني فداه فقال له : أنا أخيّره فإن أراد أن يقيم
عندي أقام ، وإن اختارك فخذه فاختار المقام فأعتقه النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقال : «هو ابني يرثني وأرثه» ، ثم أنزل الله جلّ وعزّ (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ادعوهم لآبائهم. قال ابن عمر : ما كنا ندعوه إلّا زيد
بن محمد فنسب كلّ دعيّ إلى أبيه.
(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ
بِأَفْواهِكُمْ) ابتداء وخبره أي هو قول بلا حقيقة. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي القول الحقّ نعت لمصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا.
(فَإِنْ لَمْ
تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم (وَمَوالِيكُمْ) عطف عليه.
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) قول قتادة هو أن ينسب الرجل إلى غير أبيه ، وهو يرى أنه
أبوه. قال أبو جعفر : وقد قيل : إنّ هذا مجمل أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم به
، وكانت فتيا عطاء على هذا إذا حلف رجل ألّا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقّه فأخذ
منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زجاجا أنه لا شيء عليه ، وكذا عنده إذا حلف
أنه لا يسلّم على فلان فسلّم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث ؛ لأنه لم يعمد لذلك. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) «ما» في موضع خفض
ردّا على «ما» التي مع أخطأتم ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ،
والتقدير : ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم.
(النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) في معناه قولان : أحدهما النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم
لبعض مثل (فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] ،
والآخر أنه إذا أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم
__________________
بشيء ودعت النفس
إلى غيره كان أمر النبي صلىاللهعليهوسلم أولى. وفي الحديث «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك
مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فعليّ» .
(وَأَزْواجُهُ
أُمَّهاتُهُمْ) أي في الحرمة ولا يحلّ لهم تزوّجهنّ. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) مبتدأ و (بَعْضُهُمْ) مبتدأ ثان أو بدل (أَوْلى بِبَعْضٍ فِي
كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) يكون التقدير وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين ،
ويجوز أن يكون المعنى : أولى من المؤمنين والمهاجرين. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى
أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال محمد ابن الحنفية
رحمة الله عليه : نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي مكتوبا في نسق كالسطر. ويقال :
سطر والجمع أسطار
، ومن قال سطر قال : أسطر وسطور يصلح لهما جميعا إلّا أنه بالمسكّن أولى وأكثر.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) قال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم قال : على قومهم وعن أبيّ بن كعب قال : هو
مثل (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢]
الآية ، قال : فأخذ ميثاقهم وعلى الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ منهم النور كأنه
السّرج ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة للرسالة قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) الآية قال :
«ومن نوح» ولم يقل
: ونوح لأن المظهر إذا عطف على المضمر المخفوض أعيد الحرف تقول : مررت به وبزيد (وَإِبْراهِيمَ) عطف مظهر على مظهر فلم يعد الحرف وكذا (وَمُوسى وَعِيسَى).
(لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) قد ذكرناه.
(فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً) وفي الحديث «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» وكان في هذه الريح أعظم الآيات والدلالات للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن الله جلّ وعزّ أرسل على أعدائه ريحا
__________________
شديدة البرد فقطعت
خيامهم وشغلتهم ببردها ، والمؤمنون حذاءهم لم يلحقهم منها شيء.
(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا) والكوفيون يقرءونها بغير ألف ، وذلك مخالف للمصحف وإن كان
حسنا في العربية. وأولى الأشياء في هذا أن يوقف عليه بالألف ولا يوصل لأنه إن وصل
بالألف كان لاحنا ، وإن وصل بغير ألف كان مخالفا للمصحف ، وإذا وقف بالألف كان
متّبعا للسواد موافقا للإعراب ؛ لأن العرب تثبت هذه الألف في القوافي وتثبتها في
الفواصل ليتّفق الكلام.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ) أي في ذلك الوقت اختبر المؤمنون. واللام زائدة للتوكيد ،
وإن كانت مكسورة والكاف للخطاب. (وَزُلْزِلُوا
زِلْزالاً شَدِيداً) ، ويقال : زلزال في المضاعف خاصة وغير المضاعف لا يجوز فيه
الفتح. ويقال : دحرجته دحراجا.
(وَإِذْ) في موضع نصب بمعنى واذكر ، وكذا (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا
أَهْلَ يَثْرِبَ) قال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض والمدينة منها. (لا مُقامَ لَكُمْ) أي مكان يقيمون فيه ، وأنشد : [الوافر]
٣٤١ ـ فأيّي ما
وأيّك كان شرّا
|
|
فسيق إلى
المقامة لا يراها
|
وقرأ أبو عبد
الرحمن والأعرج (لا مُقامَ لَكُمْ) يكون مصدرا من قام يقيم أو موضعا يقيمون فيه أو يقامون (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) وقراءة أبي رجاء وتروى عن ابن عباس (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ
بِعَوْرَةٍ) وهذا اسم الفاعل من عور يعور عورة ويجوز أن يكون مصدرا أي
ذات عورة ويجوز أن يكون في موضع اسم الفاعل على السعة كما تقول : رجل عدل ، أي
عادل ويقال : أعور
__________________
المكان إذا تبيّنت
فيه عورة وأعور الفارس إذا تبيّن منه موضع خلل. (إِنْ يُرِيدُونَ
إِلَّا فِراراً) أي ليس قصدهم ما قالوا وإنما قصدهم للفرار.
(وَلَوْ دُخِلَتْ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) وهي البيوت أو المدينة. ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها هذه قراءة
أهل الحرمين ، وقراءة أهل البصرة وأهل الكوفة (لَآتَوْها) وهو اختيار أبي عبيد ، واحتجّ بحديث الجماعة الذين فيهم بلال أنهم أعطوا الفتنة من أنفسهم غير
بلال. قال أبو جعفر : الحديث في أمر بلال لا يشبه الآية ، لأن الله جلّ وعزّ خبّر
عن هؤلاء بهذا الخبر وبلال وأصحابه إنما أكرهوا ، وفي هذه الآية : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ
أَقْطارِها) أي لو دخل عليهم الكفار لجاءوهم ، وهذا خلاف ما عاهدوا
الله عليه وفي القصّة (وَلَقَدْ كانُوا
عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) فهذا يدلّ على «لأتوها» مقصورا.
(وَما تَلَبَّثُوا
بِها إِلَّا يَسِيراً) أي كان العذاب يأخذهم أو يهلكون.
(وَإِذاً لا
تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) وفي بعض الروايات وإذا لا تمتّعوا تنصب بإذن ، والرفع
بمعنى لا تمتّعون إذن فتكون إذن ملغاة ، ويجوز إعمالها فهذا حكمها إذا كان قبلها
الواو أو الفاء ، فإن كانت مبتدأة نصبت بها فقلت : إذن أكرمكم. وروى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل رحمهالله أنّ «أن» معها مضمرة وسماعه منه النصب بها فإن توسّطت لم
يجز أن تنصب عند البصريين تقول : أنا إذن أكرمك ، وكنت إذن أكرمك ، وإنّي إذن
أكرمك. الفراء ينصب هنا أعني في «إنّ» خاصة ، وأنشد : [الرجز]
٣٤٢ ـ إنّي إذا أهلك أو أطيرا
__________________
والشعر منصوب
وعلته في «إنّ» أنها لا تنصرف.
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي المتعرّضين لأن يصدّوا الناس عن النبي. مشتقّ من عاقني
عن كذا أي صرفني عنه ، وعوّق على التكثير. (وَالْقائِلِينَ
لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) على لغة أهل الحجاز وغيرهم يقول : هلمّوا للجماعة وهلمّي
للمرأة ؛ لأن الأصل ها التي للتنبيه ضمّت إليها «لمّ» ثم حذفت الألف استخفافا ،
وبنيت على الفتح ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تتصرّف. ومعنى «هلمّ» أقبل.
(أَشِحَّةً) نصب على الحال. قال أبو إسحاق : ونصبه عند الفراء من أربع جهات : إحداهما أن يكون على الذمّ ، ويجوز عنده أن
يكون نصبا يعوّقون أشحّة ، ويجوز عنده أن يكون التقدير : والقائلين أشحّة ، ويجوز
عنده ولا يأتون البأس إلّا قليلا يأتونه أشحّة أي أشحّة على الفقراء بالغنيمة
جبناء. قال أبو جعفر : لا يجوز أن يكون العامل فيه المعوّقين ولا القائلين لئلّا
يفرّق بين الصلة والموصول (فَإِذا جاءَ
الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي
يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وصفهم بالجبن ، وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محدّدا
بصره وربّما غشي عليه (فَإِذا ذَهَبَ
الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) وحكى الفراء صلقوكم بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي وإن كان ظاهرهم الإيمان فليسوا بمؤمنين لأن المنافق
كافر على الحقيقة وصفهم الله جلّ وعزّ بالكفر. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيراً) أي يقول الحقّ.
(يَحْسَبُونَ
الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي لجبنهم. وقرأ طلحة وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بدّا
في الأعراب يقال : باد وبدّا بالقصر مثل غاز وغزّى ويمدّ مثل صائم وصوّام.
وقرأ الحسن وعاصم الجحدري يسّاءلون عن أنبائكم والأصل يتساءلون
__________________
ثم أدغم. (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا
إِلَّا قَلِيلاً) نعت لمصدر أو لظرف.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ) (حَسَنَةٌ) أي في خروجه إلى الخندق وصبره ، وقرأ عاصم (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة. والكسر أكثر في كلام العرب والجمع فيهما جميعا
واحد عند الفراء ، والعلّة عنده في الضمّ على لغة من كسر في الواحد الفرق من ذوات
الواو وذوات الياء فيقولون : كسوة وكسى ، ولحية ولحي. (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) لا يجوز عند النحويين الحذّاق أن يكتب «يرجو» إلّا بغير
ألف إذا كان لواحد ؛ لأن العلّة التي في الجمع ليست في الواحد. (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي ذكرا كثيرا.
(وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) ومن العرب من يقول : راء على القلب. (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ) إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة ، وإن جعلتها مصدرا لم يحتج إلى عائد. (وَما زادَهُمْ إِلَّا
إِيماناً وَتَسْلِيماً) قال الفراء : وما زادهم النظر إلى الأحزاب. قال أبو جعفر :
وسمعت علي بن سليمان يقول : رأى يدلّ على الرؤية ، وتأنيث الرؤية غير حقيقي.
والمعنى : وما زادهم الرؤية ، مثل من كذب كان شرّا له.
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجالٌ) رفع بالابتداء ، وصلح الابتداء بالنكرة لأن «صدقوا» في
موضع النعت. قال أبو إسحاق : «ما» في موضع نصب. قال أبو جعفر : يقال : صدقت العهد
أي وفيت به. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى
نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) «من» في موضع رفع
بالابتداء ، وقد ذكرنا معناه.
(وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا) قال محمد بن عمرو عن أبيه عن جدّه عن
__________________
عائشة رضي الله
عنها قالت في قوله : (وَرَدَّ اللهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) أبو سفيان وعيينة ابن برد ، رجع أبو سفيان إلى تهامة
وعيينة إلى نجد. (وَكَفَى اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بأن أرسل عليهم الريح حتى رجعوا فرجعت بنو قريظة إلى
صياصيهم. قال أبو جعفر :
فكفي أمر بني قريظة بالرعب حتى نزلوا
على حكم سعد بن معاذ رحمة الله عليه فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم. (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا)
أي لا يردّ أمره (عَزِيزاً)
لا يغلب.
وبيّن هذا في بني
قريظة قال جلّ ثناؤه (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ) قال محمد بن يزيد : أصل الصيصية ما يمتنع به فالحصن صيصية
ويقال لقرون البقر : صياص لامتناعها. وكذا يقال في شوكة الديك قال : ويقال الشوكة
الحائك صيصية تشبيها بها ، وأنشد : [الطويل]
٣٤٣ ـ كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد
(فَرِيقاً) نصب بتقتلون. و (فَرِيقاً) نصب بتأسرون ، وحكى الفراء «تأسرون» بضم
السين.
(وَأَوْرَثَكُمْ
أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً) لأن المهاجرين لم تكن لهم بالمدينة دور.
(فَتَعالَيْنَ) نون المؤنّث فيه وهي لا تحذف لأنه مبنيّ ولو حذفت لأشكل.
قال الخليلرحمهالله : الأصل في تعال : ارتفع ثم كثر استعمالهم حتى قيل
للمتعالي : تعال أي أنزل.
(وَمَنْ يَقْنُتْ
مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) قراءة أهل الحرمين والحسن وأبي عمرو
__________________
وعاصم ، وقرأ سائر
الكوفيين ويعمل صالحا وأبو عبيد يميل إلى هذه القراءة لأنه عطف على الأول. وقد
أجمعوا على الأول بالياء فقرؤوا «ومن يقنت». قال أبو جعفر :
الثاني مخالف للأول ؛ لأن الأول محمول
على اللفظ وليس قبله ما يتبعه ، والثاني قب له منكن وهذه النون للتأنيث فتعمل
بالتاء أولى لأنه يلي مؤنثا وإن كان بالياء جائزا حسنا ، وبعده (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ)
بالتأنيث في السواد وكذا (وَأَعْتَدْنا لَها
رِزْقاً كَرِيماً)
أهل التفسير على أن الرزق الكريم هاهنا الجنة.
(يا نِساءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ولم يقل : كواحدة لأنّ «أحدا» نفي عام يقع للمذكّر
والمؤنّث ، والجميع على لفظ واحد. (فَلا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ) في موضع جزم بالنهي إلّا أنه مبني كما بني الماضي ، هذا
مذهب سيبويه ، وقال أبو العباس محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان
عنه ، ولا أعلمه في شيء من كتبه ، قال : إذا اعتلّ الشيء من جهتين وهو اسم منع
الصرف فإذا اعتلّ من ثلاث جهات بني لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء فهذا الفعل
معتلّ من ثلاث جهات : منها أن الفعل أثقل من الاسم وهو جمع ، والجمع أثقل من
الواحد وهو للمؤنّث ، والمؤنّث أثقل من المذكر ، وهذا القول عند أبي إسحاق خطأ ،
وقال : يلزمه ألّا يصرف فرعون إذا سمّي به امرأة لأن فيه ثلاث علل. (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) منصوب لأنه جواب النهي ، وقد بيّنّاه بأكثر من هذا ، وحكى
أبو حاتم أن الأعرج قرأ (فَيَطْمَعَ الَّذِي
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) بفتح الياء وكسر الميم. قال أبو جعفر : أحسب هذا غلطا وأن
يكون قرأ (فَيَطْمَعَ الَّذِي)
بفتح الميم وكسر
العين يعطفه على «يخضعن» وهذا وجه جيد حسن ، ويجوز «فيطمع» الذي بمعنى فيطمع الخضوع
أو القول (وَقُلْنَ قَوْلاً
مَعْرُوفاً).
(وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَ) هذه قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ أهل
__________________
المدينة وعاصم (وَقَرْنَ) بفتح القاف. و «قرن» بكسر القاف فيه تقديران : أما مذهب
الفراء وأبي عبيد فإنه من الوقار ويقال : وقر يقر وقورا إذا ثبت
في منزله ، والقول الآخر أن يكون من قرّ في المكان يقرّ بكسر القاف ، فيكون الأصل
وقررن حذفت الراء الأولى استثقالا للتضعيف وألقيت حركتها على القاف فصار وقرن كما
يقال : ظلت أفعل بكسر الظاء. فأما و «قرن» فقد تكلم فيه جماعة من أهل العربية فزعم
أبو حاتم أنه لا مذهب له في كلام العرب ، وزعم أبو عبيد أن أشياخه كانوا ينكرونه
من كلام العرب.
قال أبو جعفر :
أما في قول أبي عبيد إنّ أشياخه أنكروه ، ذكر هذا في «كتاب القراءات» فإنه قد حكى
في «الغريب المصنّف» نقض هذا. حكي عن الكسائي أنّ أهل الحجاز يقولون : قررت في
المكان أقرّ. والكسائي من أجلّ مشايخه ، ولغة أهل الحجاز هي اللغة القديمة
الفصيحة. وأما قول أبي حاتم : أنه لا مذهب له فقد خولف فيه ، وفيه مذهبان أحدهما
ما حكاه الكسائي ، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقوله ، قال : هو من قررت به عينا
أقرّ. فالمعنى : واقررن به عينا في بيوتكن ، وهذا وجه حسن إلّا أن الحديث يدلّ على
أنه من الأول كما روي أن عمار قال لعائشة رضي الله عنهما : إنّ الله جلّ وعزّ أمرك
أن تقرّي في منزلك ، فقالت : يا أبا اليقظان ما زلت قوّالا بالحقّ ، فقال : الحمد
لله الذي جعلني كذلك على لسانك. (وَلا تَبَرَّجْنَ) قال أبو العباس : حقيقة التبرّج إظهار الزينة وإظهار ما
ستره أحسن ، وهو مأخوذ من السعة يقال : في أسنانه تبرّج إذا كانت متفرّقة. قال : و
«الجاهلية الأولى» كما تقول : الجاهلية الجهلاء ، قال : وكانت النساء في الجاهلية
الجهلاء يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلمها فينفرد خلمها
بما فوق الإزار إلى الأعلى. وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل ، وربما سأل
أحدهما صاحبه البدل. (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قال أبو إسحاق : قيل : يراد به نساء النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقيل يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته. قال أبو
جعفر : والحديث في هذا مشهور عن أم سلمة وأبي سعيد الخدري أن هذا نزل في عليّ
وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، وكان عليهم كساء ، وقوله «عنكم» يدلّ على
أنه ليس للنساء خاصة. قال أبو إسحاق : (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على المدح ، قال : وإن شئت على النداء. قال : ويجوز
الرفع والخفض.
قال أبو جعفر : إن
خفضت على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند محمد بن يزيد ، قال : لا يبدل من
المخاطب ولا من المخاطب ، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) مصدر فيه معنى التوكيد حوّلت المخاطبة على الحديث المروي
إلى أزواج النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال جلّ وعزّ : (وَاذْكُرْنَ ما
يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ).
__________________
خفّفت النون
الأولى لأنها بمنزلة واو المذكر ، تقول في المذكر واذكروا ، وثقّلت في الثاني
لأنهما بمنزلة الميم والواو في قولك : في بيوتكم إلّا أن الواو يجوز حذفها لثقلها
، وأنّ قبلها ميما يدلّ عليها. (مِنْ آياتِ اللهِ
وَالْحِكْمَةِ) أكثر أهل التفسير على أنّ الحكمة هاهنا السّنة وبعضهم يقول
: هي من الآيات.
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ) اسم إن. (وَالْمُسْلِماتِ) عطف عليه ، ويجوز رفعهن عند البصريين. فأما الفراء فلا
يجيزه إلّا فيما لا يتبيّن فيه الإعراب. (وَالْحافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) التقدير والحافظاتها ثم حذف ، ويجوز على هذا : ضربني وضربت
زيد ، فإن لم تحذف قلت : وضربته ومثله : ونخلع ونترك من يفجرك ، وإن لم تحذف قلت :
وتتركه. وحكى
سيبويه : متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا ، فإن لم تحذف قلت : متى
ظننت أو قلت هو زيدا منطلقا ، وإن شئت قلت متى ظننت أو قلته زيدا منطلقا. فهذا
كلّه على إعمال الأول ، فإن أعملت الثاني قلت: متى ظننت أو قلت زيد منطلق. هذه
اللغة الجيدة ، وإن شئت قلت : متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا ، على إعمال الثاني
وتكون قلت عاملة كظننت. (وَالذَّاكِرِينَ
اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) مثله قال مجاهد : لا يكون ذاكرا الله كثيرا جلّ وعزّ قائما
وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري : من أيقظ أهله بالليل فصلّيا أربع ركعات
كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) قال الحسن : ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله بأمر ورسوله
بأمر أن يعصياه ، وقرأ الكوفيون (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ) وهو اختيار أبي عبيد لأنه قد فرق بين المؤنّث وبين فعله.
قال أبو جعفر : القراءة بالياء جائزة فأما أن تكون مقدّمة على التاء فلأن اللفظ
مؤنث فتأنيث فعله حسن ، والتذكير على أنّ (الْخِيَرَةُ) بمعنى التخيّر.
__________________
(وَإِذْ تَقُولُ) في موضع نصب وهي غير معربة لأنها لا تتمكّن. (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِوَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) قال بعض العلماء : لم يكن هذا من النبيّ صلىاللهعليهوسلم ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه ، وقد
يكون الشيء ليس بخطيئة إلّا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتن
الناس.
(ما كانَ عَلَى
النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) «من» زائدة
للتوكيد (سُنَّةَ اللهِ) مصدر لأن قبله ما هو بمعنى سنّ ذلك.
(الَّذِينَ
يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) قال أبو إسحاق : (الَّذِينَ) في موضع جرّ على النعت لقوله : (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) قال :
ويجوز أن يكون في
موضع رفع ، قال : ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح.
(ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) وقد كان لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أولاد منهم إبراهيم والقاسم والطّيب ، والحسن والحسين رضي
الله عنهم ولدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما أن عيسى عليهالسلام من ولد آدم صلىاللهعليهوسلم ، ففي هذا جوابان : أحدهما ، وهو قول أبي إسحاق ، أن
المعنى ما كان محمد أبا أحد ممن تبنّاه ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم ، وإنّ
نساءه رضي الله عنهن عليهم حرام ، وجواب آخر يكون هذا على الحقيقة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم في وقت نزلت فيه هذه الآية لم يكن أبا أحد من الرجال ، ومن
ذكرنا من إبراهيم والقاسم والطيّب ماتوا صبيانا. (وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ) قال الأخفش والفراء : أي ولكن كان رسول الله وأجاز (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ
النَّبِيِّينَ) بالرفع على إضمار مبتدأ ، وزعم الفراء أنه قد قرئ به ، وقرأ الحسن والشعبي وعاصم (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) بفتح التاء أي آخر النبيين ، كما قرأ علقمة بن قيس خاتمه
مسك [المطففين : ٢٦] أي آخره ، وخاتم من ختم فهو خاتم وفي قراءة عبد الله ولكنّ نبيا ختم النّبيّين ويقال للذي يلبس خاتم
__________________
وخاتم وخيتام
وخاتام. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً) خبر كان والتقدير : عليم بكلّ شيء.
قال محمد بن يزيد
: الأصيل العشيّ وجمعه أصائل والأصل بمعنى الأصيل وجمعه آصال ، وقال غيره : أصل
جمع أصيل كرغيف ورغف.
(هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) الأصل في الصلاة عند أهل اللغة الدعاء كما قال الأعشى : [البسيط]
٣٤٤ ـ عليك مثل
الّذي صلّيت فاغتمضي
|
|
يوما فإنّ لجنب
المرء مضطجعا
|
أي الزمي مثل
الدعاء الذي دعوت لي به لأن قبله :
٣٤٥ ـ تقول بنتي
وقد قرّبت مرتحلا
|
|
يا ربّ جنّب أبي
الأوصاب والوجعا
|
ويروى : عليك مثل
الذي صلّيت ، أي عليك مثل دعائك. وسمّيت الصلاة صلاة لما فيها من الدعاء ولهذا
وغيره يقول فقهاء أهل المدينة يدعو في صلاته بما أراد ، إلّا أن محمد بن يزيد زعم
أن أصل الصلاة : الترحّم ، وأخرجها كلّها من باب واحد ، والصلاة من الله رحمته
عباده ، ومن الملائكة رقّة لهم واستدعاء الرحمة من الله جلّ وعزّ إيّاهم ، والصلاة
من الناس لطلب الرحمة من الله جلّ وعزّ بأداء الفرض أو النفل. إلا أن في الحديث أن
بني إسرائيل سألوا صلىاللهعليهوسلم أن يصلي ربّك جلّ وعزّ فأعظم ذلك فأوحى جلّ وعزّ إليه أنّ
صلاتي أي رحمتي سبقت غضبي. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) قال الضحاك : «الظلمات» الكفر و «النور» الإيمان ، ويجوز «الظّلمات»
تبدل من الضمة فتحة لخفّة الفتحة إلا أن الكسائي كان يقول : ظلمات جمع ظلم ، وظلم
جمع ظلمة ، ومن قال : ظلمات حذف الضمة لثقلها.
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) مبتدأ وخبر. وأجل ما روي فيه أن البراء بن عازب قال :
تحيّتهم يوم
يلقونه سلام يسلّم ملك الموت على المؤمنين عند قبض روحه لا يقبض روحه حتى يسلم
عليه ، وتأوله أبو إسحاق على أن هذا في الجنّة ، واستشهد بقوله :
__________________
(تَحِيَّتُهُمْ فِيها
سَلامٌ) وفرق محمد بن يزيد بين التحية والسّلام ، فقال : التحيّة
تكون لكلّ دعاء والسلام فخصوص ، ومنه (يُلَقَّوْنَ فِيها
تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان : ٧٥].
نصب على الحال.
قال سعيد عن قتادة : (شاهِداً) على أمته بالبلاغ (وَمُبَشِّراً) بالجنة (وَنَذِيراً) من النار.
(وَداعِياً إِلَى
اللهِ) أي إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، (بِإِذْنِهِ) قال : بأمره. (وَسِراجاً مُنِيراً) قال : كتاب الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر : التقدير على
قوله وداعيا إلى توحيد الله جلّ وعزّ وذا سراج أي ذا كتاب بين ، وأجاز أبو إسحاق
أن يكون بمعنى وتاليا كتابا.
(وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ) والباء تحذف من مثل هذا ، ولا يجوز دخول اللام في الخبر.
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ
وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) تأوّله أبو إسحاق بمعنى : دع الأذى الذي يؤذونك به أي
لإنجازهم عليه حتى تؤمر فيهم بشيء. وتأوّله غيره لا تؤذهم وكان هذا عنده من قبل أن
يؤمر بالقتال.
(فَما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) «من» زائدة
للتوكيد. (وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً) عطف أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة. (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) قال أبو إسحاق : إن وهبت نفسها للنبيّ حلّت له.
وقرأ الحسن أن
وهبت بفتح الهمزة ، و «إن» في موضع نصب. قال أبو إسحاق : فهي لأن وهبت ، وقال غيره
: إنّ وهبت بدل الاشتمال من امرأة (خالِصَةً) نصب على الحال.
(قَدْ عَلِمْنا ما
فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) قال قتادة الذي فرض جلّ
وعزّ عليهم في
أزواجهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين وصداق ، وأن لا يتزوج الرجل أكثر من
أربع ، وقال غيره : يدلّ على هذا (وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢] ،
(وَلا تَعْضُلُوهُنَ)
[النساء : ١٩] (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ)
[الطلاق : ٣٢] مع ما يقوّي ذلك الحديث عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم
(وَما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ)
فالذي فرض فيه ألّا يحلّ من النساء إلّا سبي من لا ذمة له (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ)
أي لا تتعدّ هذا ، وقيل : هو راجع على قوله : (إِنَّا
أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ)
وما بعده.
ترجئ من تشاء
منهنّ بالهمزة من أرجأت الأمر إذا أخّرته. ويقرأ (تُرْجِي) بغير همز. وقد تكلم النحويون في الحيلة له فقال بعضهم : هي
لغة وإن كانت ليست بالفصيحة ، ومنهم من قال : على بدل الهمزة على لغة من قال :
قريت. قال أبو جعفر :
وسمعت علي بن
سليمان يقول : الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز بدل الهمزة لأن أبا زيد قال له :
من العرب من يقول في قرأت قريت مثل رميت فقال سيبويه : كيف يقولون في المستقبل؟
قال : يقولون يقرأه قال له سيبويه : كان يجب أن يقولوا : يقرى مثل رميت أرمي. قال
أبو الحسن : وهذا من كلام سيبويه يدلّ على أنه لا يجوز عنده ، قال : وسمعت محمد بن
يزيد يقول : هو من رجا يرجو مشتق ، يقال : رجا وأرجيته أي جعلته يرجو. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) قد ذكرناه . وقيل فيه : ذلك أقرب ألّا يحزن إذا لم تجتمع أحداهن مع
الأخرى ، وتعاين الأثرة والميل. (وَيَرْضَيْنَ بِما
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) على توكيد المضمر أي ويرضين كلّهن ، وأجاز أبو حاتم وأبو
إسحاق (وَيَرْضَيْنَ بِما
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) على التوكيد للمضمر الذي في «آتيتهنّ» ، والفراء لا يجيزه لأن المعنى ليس عليه إذ كان المعنى وترضى كلّ
واحدة منهن ، وليس المعنى بما أتيتهن كلّهن. قال أبو جعفر : والذي قال حسن.
(لا يَحِلُّ لَكَ
النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قال الفراء : اجتمعت القراء على القراءة بالياء
__________________
(لا يَحِلُّ لَكَ) وزعم أنه لو كان لجميع النساء لكان بالتاء أجود. وقال أبو
جعفر : وهذا غلط بين وكيف يقال : اجتمعت القراء على الياء ، وقد قرأ أبو عمرو
بالتاء بلا اختلاف عنه وإذا كان لجماعة النساء كان بالياء جائزا
حسنا. وسمعت علي بن سليمان يقول :
سمعت محمد بن يزيد
يقول : من قرأ لا تحل لك النساء قدره بمعنى جماعة النساء ، ومن قرأ بالياء قدّره
بمعنى جميع النساء. والفراء يقدره إذا كان بالياء لا يحلّ لك شيء من النساء فحمل
التذكير على هذا (إِلَّا ما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ) في موضع رفع على البدل من النساء ، ويجوز أن يكون في موضع
نصب على الاستثناء. (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) في موضع رفع عطفا على النساء أي لا يحلّ لك النساء التبدل
بهن ، ومن قال : إن الآية لا يجوز فإنما أجاز ذلك لأنها في معنى النهي ، وإن كان
لفظهما لفظ الأخبار لا يجوز أن تنسخ.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) «إن» في موضع نصب
على معنى إلّا بأن يؤذن لكم ، ويكون استثناء ليس من الأول (إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) نصب على الحال أي لا تدخلوا في هذه الحال ، ولا يجوز في
غير الخفض على النعت للطعام ؛ لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين وكان
يكون (غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ) أنتم ، ونظير هذا من النحو : هذا رجل مع رجل ملازم له ،
وإن شئت قلت : هذا رجل ملازم له هو ، ومررت برجل معه صقر صائد به ، وإن شئت قلت :
صائد به هو.
(وَلكِنْ إِذا
دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) الفاء في جواب إذا لازمة لما فيها من معنى المجازاة. (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) في موضع نصب عطفا على غير. ويجوز أن يكون خفضا عطفا على ما
بعد غير (فَيَسْتَحْيِي
مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) قال أبو إسحاق : ويقال : يستحي بياء واحدة تحذف الياء
تخفيفا. قال أبو جعفر : وقد ذكرت هذا في السورة التي تذكر فيها البقرة . (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) في موضع رفع اسم كان. (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا) معطوف عليه.
__________________
(إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ) عطف وحكي «وملائكته» بالرفع وأجاز الكسائي على هذا : إنّ
زيدا وعمرو منطلقان. ومنع هذا جميع النحويين غيره. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن
سليمان يقول : الآية لا تشبه ما أجازه لأنك لو قلت : إنّ زيدا وعمرو منطلقان ،
أعملت في منطلقين شيئين وهذا محال ، والتقدير في الآية : إنّ الله جلّ وعزّ يصلّي
على النبي وملائكته يصلّون على النبي صلىاللهعليهوسلم ثم حذفت من الأول لدلالة الثاني. والذي قال حسن. ولقد قال
بعض أهل النظر في قراءة من قرأ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) بالنصب مثال ما قال علي بن سليمان في الرفع قال : لأن
يصلون إنما هو للملائكة خاصة لأنه لا يجوز أن يجتمع ضمير لغير الله جلّ وعزّ مع
الله إجلالا له وتعظيما ، ولقد قال رجل للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : ما شاء الله وشئت ، وأنكر ذلك وعلمه النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال له: قل ما شاء الله ثم شئت.
(إِنَّ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ الَّذِينَ) في موضع نصب وما بعده صلته ، وهو يقع لكل غائب مذكر
وأخواته «من» و «ما» و «أي» ومؤنثه «التي» فإذا قلت : رأيت من في الدار ، كان
للآدميّين خاصة ، وإذا قلت : رأيت الذي في الدار ، كان مبهما للآدميين وغيرهم ،
وإذا قلت : رأيت ما في الدار ، كان لما لا يعقل خاصة ولنعت ما يعقل لو قال قائل :
ما عندك؟ فقلت : كريم ، كان حسنا. قال محمد بن يزيد : ولو قلت : رجل ، كان جائزا ؛
لأنه داخل في الأجناس ، ولا يجوز أن تقول : زيد ولا عمرو إلّا أن من وما يكونان في
الاستفهام والجزاء بغير صلة لأنك لو وصلتهما في الاستفهام كنت مستفهما عما تعرفه ،
والجزاء مبهم لا يختص شيئا دون شيء ؛ فلهذا لم تجز فيه الصلة ، و «يؤذون» مهموز
لأنه من آذى والأصل بين مهموز مثل آمن فإن خففت الهمزة أبدلت منها واوا فقلت :
يوذون لأنه لا سبيل إلى أن يجعلها بين بين لأنها ساكنة.
(وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) في موضع رفع بالابتداء ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على
العطف.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) واحدها زوج. يقال للمرأة : زوج وزوجة ، والفصيح
الكثير بغير هاء
وبها جاء كل ما في القرآن ولا يجوز أن تجمع زوجة على أزواج ، إنما أزواج جمع زوج
مثل حوض وأحواض والأصل زوج مثل فلس وأفلس واستثقلوا الحركة في الواو ، وقد جاء في
فعل أفعال فردّوه إليه فقالوا أزواج وأحواض وللكثير حياض وزياج ، وفي قولهم : زوج
بغير هاء قولان : أحدهما أن تأنيثه تأنيث صيغة مثل عقرب وعناق ، وليس بجار على
الفعل فيلزمه الهاء ، والجاري على الفعل متزوّجة ، والقول الآخر أن العرب تقول لكل
مقترنين : زوجان. يقال للخفّين : زوجان ، وكذا النعلان والمقرضان والمقصان. قال الله جلّ وعزّ (احْمِلْ فِيها مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] وقال جلّ وعزّ (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٨]. (وَبَناتِكَ) جمع مسلم ، وهو جمع بنة مثل هنة وهنات والمحذوف منه ياء ،
وقد قال بعض النحويين :
المحذوف منه واو
واستدلّ بقولهم البنوّة. قال أبو جعفر : وهذا لعمري مما تقع فيه المغالطة لأنه ليس
فيه دليل لأنهم قد قالوا : الفتوّة وهو من ذوات الياء يدلك على ذلك قوله جلّ وعزّ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) [يوسف : ٣٦]. قال
أبو جعفر : وأحسن ما سمعت فيه قول أبي إسحاق قال : هو عندي مشتقّ من بنى يبني. (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) قيل :
نساء جمع جواب
للأمر ، والأمر محذوف والتقدير عند المازني : قل لهنّ أدنين يدنين (مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) عن ابن مسعود وابن عباس الجلباب : الرداء. قال محمد بن
يزيد :
الجلباب كل ما ستر
من ثوب أو ملحفة أي يرخين على وجوههن منه. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي يعرفن بالستر والصيانة.
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ) أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، كما روى
سفيان بن سعيد بن منصور عن أبي رزين قال :
المنافقون والذين
في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم شيء واحد يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء ،
وعن ابن عباس (وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال فجور وشك ، قال : لئن لم ينتهوا عن أذى النبي وعن أذى
النساء وفي هذه الآية للعلماء غير قول فمنها أنه لم ينتهوا وأن الله جل وعز قد
أغراه بهم لأنه قد قال جلّ وعزّ (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) [التوبة : ٨٤]
وأنه أمره بلعنهم فهذا هو الإغراء فهذا قول ، وقال أبو العباس محمد بن يزيد : قد
أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع
__________________
اتصال الكلام بها
، وهو قوله جلّ وعزّ (أَيْنَما ثُقِفُوا
أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم وهذا
أمرهم أن يؤخذوا ويقتلوا إذ كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. وفي الحديث عن
النبي صلىاللهعليهوسلم «خمس يقتلن في
الحرم» فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. وهذا من أحسن ما قيل وفي
الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم «خمس يقتلن في
الحرم». (لَنُغْرِيَنَّكَ) لام القسم واليمين واقعة عليها وأدخلت اللام في إن توطئة
لها (ثُمَّ لا
يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) فكان الأمر كما قال جلّ وعزّ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء
فهذا أحد جوابي الفراء ، وهو الأولى عنده أي إلا في حال قتلهم ، والجواب الآخر أن
يكون المعنى : إلّا وقتا قليلا.
(مَلْعُونِينَ) هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد ، وهو منصوب على الحال
أي ثم لا يجاورونك إلا أقلاء. عن بعض النحويين أنه قال يكون المعنى أينما أخذوا
ملعونين ، وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله.
(سُنَّةَ اللهِ) نصب على المصدر أي سنّ الله جلّ وعزّ فيمن أرجف بالأنبياء
وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل.
(إِنَّ اللهَ لَعَنَ
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) فأنّث لأن السعير بمعنى النار. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).
(يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) وحكى الفراء «يوم تقلّب» بمعنى
تتقلّب. ويوم نقلّب وجوههم في النار (يَقُولُونَ يا
لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) هذه الألف تقع في الفواصل لتتفق فيوقف عليها ولا يوصل بها.
وقرأ الحسن إنّا
أطعنا ساداتنا بكسر التاء لأنه جمع مسلّم لسادة ، وكان في هذا زجر عن التقليد.
__________________
وقرأ عاصم وابن
عامر (وَالْعَنْهُمْ
لَعْناً كَبِيراً) و (كثيرا) في هذا أشبه كما قال جلّ وعزّ (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة : ١٥٩]
وهذا اللعن كثير.
(وَكانَ عِنْدَ اللهِ
وَجِيهاً) خبر كان. ولو قلت : كان عبد الله عندنا جالسا ، كان في
نصبه وجهان : يكون خبر كان ويكون على الحال. والوجيه عند العرب العظيم القدر ،
الرفيع المنزلة ، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه.
قال الحكم بن أبان
عن عكرمة «قولوا قولا سديدا» قال : لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق والصواب.
قال أبو جعفر : الاسم من هذا السّداد بفتح السين وقد استدّ فلان ، القياس من فعله
سدّ والأصل سدد. فأما السّداد بكسر السين فما غطّي به الشيء ، وهو سداد من عوز.
(إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها) قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في معناه أنّ معنى عرضنا أظهرنا
كما تقول : عرضت الجارية على البيع ، والمعنى: أنّا عرضنا الأمانة وتضييعها على
أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والجنّ والإنسان فأبين أن يحملنها أي أن يحملن
وزرها ، كما قال جلّ وعزّ (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] «وحملها
الإنسان» قال الحسن يراد به الكافر والمنافق ، قال : (إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً) لنفسه (جَهُولاً) بربّه فيكون على هذا الجواب مجازا ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات
والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن
وزرها وأطعن فيما أمرن به وما سخّرن له ، وحملها الإنسان على ما مر من الجواب الذي
تقدم.
__________________
(لِيُعَذِّبَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي بالحجج القائمة عليهم من عرض الأمانة عليهم ، وهي إظهار
ما أظهر لهم من الوعيد. قال عبد الله بن مسعود :
الأمانة : الصلاة
والصيام وغسل الجناية ، وعن أبيّ بن كعب قال : من الأمانة أنّ المرأة اؤتمنت على
فرجها. وفي حديث مرفوع «الأمانة الصلاة» إن شئت قلت صليت ، وإن شئت قلت لم أصلّ وكذا الصيام وغسل
الجنابة. وقرأ الحسن ويتوب الله
بالرفع يقطعه من
الأول أي يتوب عليهم بكل حال. (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) خبر بعد خبر لكان ، ويجوز أن يكون نعتا لغفور ، ويجوز أن
يكون حالا من المضمر.
__________________
٣٤
شرح إعراب سورة سبأ
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِي) في موضع خفض على النعت أو البدل ، ويجوز أن يكون في موضع
رفع على إضمار مبتدأ ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه : الحمد لله
أهل الحمد بالنصب والرفع والخفض. (وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ) مبتدأ وخبره.
(يَعْلَمُ) في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون مستأنفا.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي) قسم ، والجواب (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وقرأ أهل المدينة عالم الغيب بالرفع لأن جواب القسم قد تقدّم فحسن الرفع بالابتداء
والخبر ما بعده ، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ، ويجوز النصب بمعنى أعني
، وقرأ أبو عمرو وعاصم (عالِمِ الْغَيْبِ) على النعت ، وقرأ سائر الكوفيين علّام الغيب بالخفض على النعت أيضا ، فعالم يكون للقليل والكثير وعلّام
للكثير لا غير ، والمستعمل والأشبه في مثل هذا : عالم الغيب فإن قلت : علام الغيوب
كان علّام أشبه. وقرأ يحيى بن وثاب والكسائي لا يعزب بكسر الزاي ، يقال : عزب يعزب
__________________
ويعزب. قال الفراء
: والكسر أحبّ إليّ ، وهي قراءة الأعمش. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ
ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) بالفتح تعطفهما على «ذرّة» ، وقراءة العامة بالرفع على
العطف على مثقال.
(لِيَجْزِيَ) منصوب بلام كي ، والتقدير لتأتينّكم ليجزي.
وقرأ طلحة وعيسى (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ) بالرفع على النعت لعذاب.
(وَيَرَى) في موضع نصب معطوف على ليجزي ، ويجوز أن يكون في موضع رفع
على أنه مستأنف (الَّذِينَ) في موضع رفع بيرى. (أُوتُوا الْعِلْمَ) خبر ما لم يسمّى فاعله ، (الَّذِي) في موضع نصب على أنه مفعول أول ليرى (هُوَ الْحَقَ) مفعول ثان «وهو» فاصلة والكوفيون يقولون : عماد ، ويجوز
الرفع على أن يكون «هو» مبتدأ و «الحقّ» خبره والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف
واللام عند جميع النحويين ، وكذا ما كان نكرة لا تدخله الألف واللام فيشبه المعرفة
فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قولك : كان أخوك هو زيد. وزعم الفراء أن الاختيار فيه
الرفع وكذا : كان أبو محمد هو عمرو.
وعلّه في اختياره
الرفع أنه لما لم يكن فيه ألف ولام أشبه النكرة في قوله : كان زيد هو جالس ، لأن
هذا لا يجوز فيه إلا الرفع.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ) والمعنى : يقول لكم «وإذا» في موضع نصب ، والعامل فيها
مزّقتم ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت ، ولا
يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد أنّ لأنه لا يعمل فيما قبله ، وأجاز أبو إسحاق أن
يكون العامل فيها محذوفا ، والتقدير : إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم.
__________________
(أَفْتَرى) لمّا دخلت ألف الاستفهام واستغنيت عن ألف الوصل فحذفتها
وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) مفعولان : (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي رجّعي الحنين فكانت الجبال تجيبه إذا تلا الزبور ، وهو
من آب يؤوب إذا رجع. (وَالطَّيْرَ) بالرفع قراءة الأعرج وأبي عبد الرحمن ، والرفع من جهتين :
إحداهما على العطف على جبال ، والأخرى على العطف على المضمر الذي في أوّبي ، وحسن
ذلك ، لأن بعده «معه» ، والنصب عند أبي عمرو بن العلاء بمعنى وسخّرنا له الطير ،
وقال الكسائي : هو معطوف على فضلا أي آتيناه الطير ، وعند سيبويه معطوف على الموضع أي : نادينا الجبال والطير ، ويجوز أن
يكون مفعولا معه ، كما تقول : استوى الماء والخشبة : أي مع الخشبة. قال أبو جعفر :
سمعت أبا إسحاق يجيز قمت وزيدا. (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ) قيل :
إنه أول من سخّر
له الحديد ، وقيل أعطي من القوة أنه كان يثني الحديد ـ والله جلّ وعزّ أعلم بذلك ـ
وقال الحسن : وكان داود صلىاللهعليهوسلم يأخذ الحديد فيكون في يده مثل العجين فيعمل منه الدروع.
(أَنِ اعْمَلْ
سابِغاتٍ) لأبي إسحاق فيه جوابان : أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي
مفسّرة تؤدّي عن معنى : قلنا له اعمل ، والجواب الآخر أن يكون في موضع نصب أي
وألنّا له الحديد لها ووصلت أن بلفظ الأمر (سابِغاتٍ) في موضع نصب وأقيمت الصفة مقام الموصوف أي : اعمل دروعا
سابغات والدروع مؤنثة إذا كانت للحرب ، ودرع المرأة مذكر. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : قدر المسمار لا
يكون دقيقا فيسلس ولا غليظا فيفصمها.
(وَلِسُلَيْمانَ
الرِّيحَ) جعله الكسائي نسقا على (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ) وقال : المعنى : وألنّا لسليمان الرّيح ، وقال أبو إسحاق :
التقدير : وسخّرنا لسليمان الريح : وقرأ عاصم (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) بالرفع بالابتداء أو بالاستقرار أي لسليمان الريح ثابتة
وفيه ذلك
__________________
المعنى ، فإن قال
قائل : إذا قلت : أعطيت زيدا دينارا ولعمرو درهم ، فرفعت لم يكن فيه كمعنى الأول ،
وجاز أن يكون لم تعطه الدرهم قيل : الأمر كذا الآية على خلاف هذا من المعنى قد علم
أنه لم يسخّرها أحد غير الله جلّ وعزّ (غُدُوُّها شَهْرٌ) أي مسيرة شهر ، وكذا (وَرَواحُها شَهْرٌ) وروى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :
كان سليمان صلىاللهعليهوسلم إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسيّ ثم جلس رؤساء
الإنس مما يليه ، وجلس سفلة الإنس مما يليهم ، وجلس رؤساء الجنّ مما يلي سفلة
الإنس وجلس سفلة الجن مما يليهم ، وموكل بكلّ كرسي طائر يعمل بعينه ثم تقلّهم
الريح والطير تظلّهم من الشمس ، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر فيقيل بها ثم يروح
من إصطخر فيبيت في بيت المقدس ثمّ قرأ ابن عباس (غُدُوُّها شَهْرٌ
وَرَواحُها شَهْرٌ. وَمِنَ
الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) «من» في وضع نصب
بمعنى وسخرنا ، ويجوز أن يكون في موضع رفع كما تقدّم في الريح. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) شرط وجوابه. و (مِنَ) في موضع رفع بالابتداء وهو تام.
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) لم ينصرفا لأن هذا الجمع ليس له نظير في الواحد ، ولا يجمع
كما يجمع غيره من الجموع. والمحراب في اللغة كلّ موضع مرتفع وقيل للذي يصلّي إليه
: محراب ، لأنه يجب أن يرفّع ويعظّم ، وقال الضحاك : «من محاريب» أي من مساجد
وتماثيل ، قال : صور فقال قوم : عمل الصور جائز لهذه الآية ولما أخبر الله جلّ
وعزّ عن المسيح صلىاللهعليهوسلم ، وقال قوم : قد صحّ النهي عن النبي صلىاللهعليهوسلم عنها والتوعّد لمن عملها أو اتخذها فنسخصلىاللهعليهوسلم هذا ما كان مباحا قبله ، وكانت في ذلك الحكمة لأنه بعث صلىاللهعليهوسلم والصّور تعبد ، وكان الأصلح إزالتها. (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ
راسِياتٍ) الأولى أن يكون بالياء ، ومن حذف الياء قال : سبيل الألف
واللام أن يدخلا في النكرة فلا يغيّرها عن حالها فلما كان يقال : «جواب» ودخلت
الألف واللام أقرّ على حاله بحذف الياء وواحد الجوابي جابية وهي القدر العظيمة
والحوض الكبير الذي يجبى إليه الشيء أن يجمع ، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد أي
جعلت كساء فجمعته فيه ، إلا أنّ ليثا روى عن مجاهد قال :
الجوابي جمع جوبة.
قال أبو جعفر : الجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها ماء المطر (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) قال سعيد بن جبير : هي قدور النحاس تكون بفارس. قال
الضحاك: هي قدور كانت تعمل من حجارة الجبال. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ
شُكْراً) أي يقال لهم.
(آلَ داوُدَ) نداء مضاف ونصب شكر عند أبي إسحاق من جهتين : إحداهما
اعملوا للشكر أي لتشكروا الله جلّ وعزّ ، والأخرى أن يكون التقدير : اشكروا شكرا. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ
الشَّكُورُ) مبتدأ وخبره. والشكور على التكثير لا غير ، وشاكر يقع
للقليل والكثير ، والشكر لا يكون إلا في شيء بعينه ، والحمد أعمّ منه.
(مِنْسَأَتَهُ) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو ، وقرأها الكوفيون بالهمز
واشتقاقها يدلّ على أنها مهموزة لأنها مشتقة من نسأته أي أخّرته ودفعته فقيل لها :
منسأة لأنه يدفع بها الشيء ويؤخّر. قال مجاهد وعكرمة : هي العصا فمن قرأ (منساته)
أبدل من الهمزة ألفا ، فإن قال قائل : الإبدال من الهمزة قبيح إنما يجوز في الشعر
على بعد وشذوذ وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا ولا سيما وأهل المدينة على
هذه القراءة فالجواب عن هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا
كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمرو : ولست أدري ممّ هي؟ إلّا
أنها غير مهموزة. وهذا كلام العلماء لأن ما كان مهموزا قد يترك همزة وما لم يكن
مهموزا لم يجز همزه بوجه. (فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) موته وقال غيره : المعنى : تبيّن أمر الجن مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقيل
: المعنى تبيّنت الجن للإنس : وفي التفسير بالأسانيد الصحاح تفسير المعنى ، وروى
ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : أقام سليمان بن داود صلّى الله
عليهما حولا لا يعلم بموته وهو متّكئ على عصاه والجنّ متصرّفة فيما كان أمرها به
ثم سقط بعد حول. وقرأ ابن عباس فلما خرّ تبيّنت الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون
الغيب ما لبثوا في العذاب المهين قال أبو جعفر : وهذه القراءة عن ابن عباس على سبيل
التفسير. فأما. (أَنْ) فموضعها موضع رفع على البدل من الجن أي تبيّن أن لو كان
الجنّ يعلمون الغيب ، وهذا بدل الاشتمال ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى اللام.
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) بالصرف والتنوين على أنه اسم للحيّ ، وهو في الأصل اسم رجل
جاء بذلك التوقيف عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقرأ أبو عمرو (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) بغير صرف
__________________
جعله اسما للقبيلة
، وهو اختيار أبي عبيد واستدلّ على أنه اسم قبيلة أن بعده (فِي مَسْكَنِهِمْ) ولو كان كما كان لكان في مساكنها. (آيَةٌ) اسم كان أي علامة دالّة على قدرة الله جل وعزّ وانعامه على
عباده أنه جعل لأهل سبأ جنتين عن يمين وشمال ومما اجتمع من مطر بين جبلين في وجهه
مسنّاة قال يحيى بن سليمان الجعفي : المسنّاة هي التي يسمّيها أهل مصر الجسر
فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنّتهم سدّوها (جَنَّتانِ) بدل من الآية ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ،
ويجوز أن تنصب «آية» على أنها خبر كان ، ويجوز أن تنصب جنتين على الخبر أيضا في
غير القرآن.
والتقدير : قيل
لهم : كلوا من رزق ربّكم واشكروا له. قال الفراء : تمّ الكلام. (بَلْدَةٌ) بالرفع على إضمار مبتدأ أي هذه بلدة (وَرَبٌ) على إضمار مبتدأ أيضا. (غَفُورٌ) من نعته. فأما في مساكنهم فهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم
وأبي عمرو. وقرأ إبراهيم النخعي وحمزة (فِي مَسْكَنِهِمْ) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي (فِي مَسْكَنِهِمْ) بكسر الكاف. قال أبو جعفر : «مساكن» في هذا أبين لأنه يجمع
اللفظ والمعنى فإذا قلت : مسكنهم كان فيه تقديران : أحدهما أن يكون واحدا يؤدّي عن
جميع ، والآخر أن يكون مصدرا لا يثنّى ولا يجمع ، كما قال جلّ وعزّ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى
سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) [البقرة : ٧] فجاء
السمع مفردا ، وكذا (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر : ٥٥] ومن
قال : مسكن بكسر الكاف جعله مثل مسجد ، وهو خارج عن القياس لا يوجد مثله إلّا
سماعا.
(فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) قال عمرو بن شرحبيل : «العرم» المسنّاة ، وقال محمد بن
يزيد : العرم كلّ حاجز بين شيئين ، وهو الذي يسمّى السّكر وهو جمع عرمة (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) وقرأ أبو عمرو (ذَواتَيْ أُكُلٍ
خَمْطٍ) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل رحمهالله : «الخمط» : الأراك وقال محمد بن يزيد : الخمط : كلّ ما
تغيّر إلى ما لا يشتهى واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) بالتنوين على أنه نعت لأكل أو بدل منه لأن الأكل هو الخمط
بعينه عنده فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل
مرارة (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ
قَلِيلٍ) قال الفراء : هو السّمر.
__________________
(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِما كَفَرُوا) قال أبو إسحاق : «ذلك» في موضع نصب أي جزيناهم ذلك. وهل
يجازى إلا الكفور قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون إلا
عاصما (وَهَلْ نُجازِي
إِلَّا الْكَفُورَ) وهذا عند أبي عبيد أولى لأن قبله «جزيناهم» ولم يقل جوزوا.
قال أبو جعفر : الأمر في هذا واسع ، والمعنى فيه بين لو قال قائل : خلق الله جلّ
وعزّ آدم من طين ، وقال آخر : خلق آدم من طين لكان المعنى واحدا. وفي الآية سؤال
لا أعلم في السورة أشدّ منه يقال : ما معنى وهل يجازى إلّا الكفور ولم يذكر أصحاب
المعاصي غير الكفار؟ وقد تكلم العلماء في هذا فقال قوم :
ليس يجازى بمثل
هذا الجزاء الذي هو الاصطلام والهلاك إلّا من كفر. فأما قطرب فجوابه على هذه الآية
على خلاف لأنه جعلها في أهل المعاصي غير الكفار وجرى على مذهبه وقوله من كفر
بالنعم فعمل الكبائر. وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيه أنّ الحسن قال :
مثلا بمثل. وروى أيوب عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من حوسب هلك» فقلت يا نبيّ الله : فأين قوله جلّ
وعزّ (فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً) [الانشقاق : ٨]
قال : «إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك» . قال أبو جعفر : وهذا إسناد صحيح ، وشرحه أن الكافر يكافأ
على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير ، ويبين لك هذا قوله جلّ وعزّ في
الأولى (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِما كَفَرُوا) وفي الثاني «وهل يجازى» فمعنى «يجازى» يكافأ بما عمل ،
ومعنى «جزيناهم» وفيناهم فهذا حقيقة اللغة وإن كان جازى يقع بمعنى جزى مجازا.
(وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) قال أبو العباس : الظاهرة المرتفعة. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلناه بمقدار يسيرون ويبيتون في قرية. قال الفراء : (وَقَدَّرْنا فِيهَا
السَّيْرَ) أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم فهذا التقدير.
(سِيرُوا فِيها
لَيالِيَ وَأَيَّاماً) ظرفان (آمِنِينَ) على الحال.
__________________
(فَقالُوا رَبَّنا
باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فيه ستة أوجه من القراءات قرأ الحسن وأبو رجاء وأبو مالك وأبو جعفر وشيبة ونافع
ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ
أَسْفارِنا) ، وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ربّنا بعد بين أسفارنا
وقرأ محمد ابن الحنفية ويروى عن ابن عباس وأبي صالح ربّنا باعد بين أسفارنا ، وقرأ
يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس ربّنا بعّد بين أسفارنا ، وقرأ سعيد
بن أبي الحسن وهو أخو الحسن البصري فقالوا ربّنا بعد بين أسفارنا. فهذه خمس
قراءات. وروى الفراء وأبو إسحاق السادسة ربّنا بعد بين أسفارنا قال أبو جعفر :
القراءة الأولى ربّنا نصب على أنه نداء مضاف وهو منصوب على أنه مفعول به لأن معناه
ناديت ودعوت ، وكذلك القراءة الثانية و «باعد» و «بعّد» واحد في المعنى ، كما تقول
: قارب وقرّب ، والمعنى على ما روى محمد بن ثور عن معمر عن قتادة قال : كانوا
آمنين يخرجون إلى أسفارهم ولا يتزوّدون يبيتون في قرية ويقيلون في قرية فبطروا
النعمة فقالوا : ربّنا بعد بين أسفارنا فعاقبهم الله جلّ وعزّ.
والقراءة الثالثة «ربّنا»
رفع بالابتداء و «باعد» فعل ماض في موضع الخبر ، وكذا الرابعة ، وقد فسّرها ابن
عباس قال : شكوا أن ربّهم باعد بين أسفارهم. القراءة الخامسة ربّنا بعد بين
أسفارنا. «ربّنا» نداء مضاف ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا «بعد بين أسفارنا» ورفع «بين»
بالفعل أي بعد ما يتصل بأسفارنا. والقراءة السادسة مثل هذه إلا أنها تنصب «بين»
على أنه ظرف ، وتقديره في العربية : بعد سيرنا بين أسفارنا. وهذه القراءات إذا
اختلفت معانيها لم يجز أن يقال : إحداها أجود من الأخرى ، لا يقال ذلك في الأخبار
إذا اختلفت معانيها ولكن خبّر عنهم أنهم دعوا أن يبعّد بين أسفارهم بطر وأشرا ،
وخبّر أنهم لمّا فعل بهم ذلك خبّروا به وشكوا ، كما قال ابن عباس (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بكفرهم (فَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) أي يتحدّث بهم بأخبارهم ، وتقديره في العربية ذوي أحاديث. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي لمّا لحقهم ما لحقهم تفرّقوا وتمزّقوا. قال الشعبي :
فلحقت الأنصار
بيثرب. وغسان بالشام ، وأسد بعمان ، وخزاعة بتهامة. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) «صبّار» تكثير
صابر ، والصابر الذي يصبر عن المعاصي يمدح بهذا الاسم وإن أردت أنه صبر على المعصية
لم يستعمل فيه إلا صابر عن كذا قال جلّ وعزّ (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠].
__________________
(وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فيه أربع أوجه من القراءات : قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع
وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر يروى عن مجاهد (وَلَقَدْ صَدَّقَ) بالتخفيف. (عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ) بالرفع. (ظَنَّهُ) بالنصب. وقرأ ابن عباس ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة
والكسائي (صَدَّقَ) بالتشديد ، وقرأ أبو الهجهاج : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه بنصب إبليس ورفع ظنه ، قال أبو حاتم : لا وجه لهذه القراءة
عندي والله جلّ وعزّ أعلم. قال أبو جعفر : وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها أبو
إسحاق ، وقال :
المعنى : صدّق ظنّ
إبليس إبليس بما اتّبعوه ، والقراءة الرابعة (وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) برفع إبليس وظنّه. والقراءة الأولى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ) معناها في ظنّه. قال أبو إسحاق : هو منصوب على المصدر ،
والقراءة الثانية (وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) بنصب «ظنه» بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد : ظنّ ظنّا فكان
كما ظن فصدّق ظنّه ، وعن ابن عباس قال : إبليس خلق آدم من طين فهو ضعيف وأنا من
نار فلأحتنكنّ ذرّيّته إلّا قليلا فكان كما قال. وقال الحسن : ما ضربهم بسوط ولا
بعصا ، وإنما ظنّ ظنّا فكان كما ظنّ بوسوسته. (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) نصب بالاستثناء ، وفيه قولان : أحدهما أنه يراد به بعض
المؤمنين فأما ابن عباس فعنه أنه قال : هم المؤمنون كلّهم.
(مِنْ) زائدة للتوكيد. وأهل التفسير يقولون السلطان الحجّة. (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ) وقد علم الله جلّ وعزّ ذلك غيبا ، وهذا علم الشهادة الذي
تجب به الحجّة هذا قول أكثر أهل اللغة ، وهو عند بعضهم مجاز أي ليكون هذا علمه
جازى عليه ، وقول ثالث ، وهو مذهب الفراء يكون المعنى : إلّا لنعلم ذلك عندكم ،
كما قال : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧]. أي
على قولكم وعندكم.
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) في الكلام حذف ، والمعنى : قل ادعوا الّذين زعمتم أنّهم
آلهة لكم من دون الله لينفعوكم أو ليدفعوا عنكم ما قضاه الله جلّ وعزّ
__________________
عليكم فإنّهم لا
يملكون ذلك و (لا يَمْلِكُونَ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ
شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) قال الضحاك والسدي أي من معين.
(أَذِنَ) وأذن بمعنى واحد كما مرّ في وهل يجازى [سبأ : ١٧] و «من»
هاهنا للشافعين ، ويجوز أن تكون للمشفوع لهم ، وزعم أبو إسحاق أنها للشافعين أشبه
بالمعنى ، قال : لأن بعده (حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) فيكون هذا للملائكة صلوات الله عليهم. وفي هذا خمس قراءات
قراءة العامة (حَتَّى إِذا فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) بفتح الفاء والزاي فهاتان القراءتان بمعنى واحد أي فزّع
الله جلّ وعزّ عن قلوبهم أي كشف عنها الفزع أي تعدّاها الفزع ، وكذا يقول سيبويه في قول العرب : رميت عن القوس أي تعدّى رميي القوس ، وقد
ذكرنا معناه. وروى هيثم عن عوف عن الحسن أنه قرأ حتى إذا فرّغ عن قلوبهم بضم الفاء وبراء غير معجمة وبعدها غين معجمة وكذا قرأ أبو
مجلز. وروى مطر الوراق عن الحسن حتى إذا فزّع عن قلوبهم وهاتان القراءتان يؤول معناهما إلى معنى الأولين لأن
المعنى : حتّى إذا فرّغ عن قلوبهم الفزع أزيل عن قلوبهم إلّا أن مجاهدا قال في
تفسير هذه الآية على ما رواه عنه ورقاء عن أبي نجيح :
إنها في يوم
القيامة. قال : إذا كشف الغطاء. وروى أيّوب وحميد الطويل عن الحسن حتّى إذا فرغ عن
قلوبهم بضمّ الفاء وبراء مخففة غير معجمة وبعدها غين معجمة فهذه الروايات عن الحسن
مستقيمات الطرق لا مطعن في واحد رواها ، وكلّها صحاح عنه (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) «ماذا» في موضع
نصب بقال ويجوز أن يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» في موضع الخبر ، ومعناه
معنى الذي (قالُوا الْحَقَ) على أن «ماذا» في موضع نصب أي قال الحق ، ويجوز رفع «الحقّ»
على أن ما في موضع رفع. (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ) ابتداء وخبر. و «العليّ» الجبار المتعالي ، و «الكبير»
السيّد المقصود.
__________________
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ مَنْ) في موضع رفع بالابتداء ، وهي اسم تام لأنها للاستفهام و (يَرْزُقُكُمْ) في موضع الخبر ويجوز إدغام القاف في الكاف فتقلب القاف
كافا (وَإِنَّا) والأصل وإنّنا فحذفت النون تخفيفا (أَوْ إِيَّاكُمْ) معطوف على اسم «إنّ» ولو عطف على الموضع لكان أو أنتم
ويكون (لَعَلى هُدىً) للأول لا غير لو قلت : أو أنتم فإذا قلت : أو إيّاكم كان
للثاني أولى وحذفت من الأول ، ويجوز أن يكون للأول وهو اختيار أبي العباس ، قال :
ومعناه معنى قول المستنصر بصاحبه على صحّة الوعيد واستظهار بالحجّة الواضحة أحدنا
كاذب وقد عرف المعنى ، وكما تقول : أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ وقد
عرف أنه هو المخطئ ، وهكذا (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قُلْ
أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) تكون (أَرُونِيَ) هاهنا من رؤية القلب أي عرّفوني هذه الأصنام والأوثان التي
جعلتموها شركاء لله جلّ وعزّ هل شاركته في خلق شيء فبيّنوا ما هو وإلّا فلم
تعبدونها؟ ويجوز أن يكون من رؤية البصر فيكون «شركاء» حالا. قال أبو إسحاق :
والمعنى : أروني الذين ألحقتموهم به شركاء ثم حذف لأنه في الصلة. قال : ثم قال جلّ
وعزّ (كَلَّا) ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول ، وتنبهوا على ضلالكم.
(وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً) نصب على الحال. قال أبو إسحاق : والمعنى :
أرسلناك جامعا
للناس لأنه صلىاللهعليهوسلم أرسل إلى العرب والعجم.
وأجاز النحويون (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) على أنه بدل من ميعاد ، وأجازوا ميعاد يوما لا تستأخرون
عنه على أن يكون ظرفا وتكون الهاء تعود على يوم ولا يجوز الإضافة كما تقول : إنّ
يوما زيد فيه أمير عبد الله فيه وزير ، بتنوين يوم لا غير فإن حذفت فيه جار حذف
التنوين ونصبت عبد الله على أنه اسم إنّ ، ويجوز (مِيعادُ يَوْمٍ لا
تَسْتَأْخِرُونَ) بغير تنوين في يوم على أن يكون الهاء التي في «عنه» تعود
على ميعاد لا على يوم.
__________________
قال سعيد عن قتادة
: (وَلا بِالَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب والأنبياء عليهمالسلام.
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الظَّالِمُونَ) بالابتداء مرفوعون ، و (مَوْقُوفُونَ) خبره ، والجملة في موضع خفض بالإضافة ، ولا يجوز أن تنصب «موقوفون»
على الحال ؛ لأن إذ ظرف زمان فلا تكون خبرا عن الجثث ، وجواب «لو» محذوف لعلم
السامع. (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يجاوبه واللغة الفصيحة هذه يقال : رجعت زيدا. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) هذه اللغة الفصيحة ومن العرب من يقول : لولاكم حكاها
سيبويه ويكون «لو لا» تخفض المضمر وترفع المظهر بعدها بالابتداء
وتحذف خبره ، ومحمد بن زيد يقول : لا يجوز «لولاكم» لأن المضمر عقب المظهر فلما
كان المظهر مرفوعا بإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا.
(بَلْ كُنْتُمْ
مُجْرِمِينَ) أي أنتم اخترتم الكفر ولم يكن لنا عليكم سبيل إلّا أن
دعوناكم فاستجبتم لنا.
(بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قال الأخفش : أي هذا مكر الليل والنهار. قال أبو جعفر :
والمعنى والله جلّ
وعزّ أعلم ، مكركم في اللّيل والنهار أي مشارتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر الذي
حملنا على هذا. قال محمد بن يزيد : أي بل مكركم الليل والنهار كما تقول العرب :
نهاره صائم ، وليله قائم ، وأنشد : [الطويل]
٣٤٦ ـ لقد لمتنا
يا أمّ غيلان في السّرى
|
|
ونمت وما ليل
المطيّ بنائم
|
__________________
وأنشد سيبويه : [الرجز]
٣٤٧ ـ فنام ليلي وتجلّى همّي
أي نمت فيه ، وروى
جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير : (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قال ممرّ اللّيل والنّهار عليهم فغفلوا ، وقرأ راشد (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالنصب كما يقال : رأيته مقدم الحاج ، وإنما يجوز هذا فيما
يعرف ، ولو قلت : رأيته مقدم زيد لم يجز (إِذْ تَأْمُرُونَنا
أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) قال : ويقال : نديد وأنشد :
[الوافر]
٣٤٨ ـ أتيما
تجعلون إليّ ندّا
|
|
وما تيم لذي حسب
نديد
|
(وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) في معناه قولان : أحدهما أن معنى أسروا أظهروا وأنه من
الأضداد ، كما قال : [الطويل]
٣٤٩ ـ تجاوزت
أحراسا إليها ومعشرا
|
|
عليّ حراصا لو
يسرّون مقتلي
|
وقد روي يشرّون.
وقيل وأسرّوا الندامة تبيّنت الندامة في أسرار وجوههم.
وقيل : الندامة لا
تظهر وإنما تكون في القلب وإنما يظهر ما يتولّد عنها.
(إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) قال سعيد عن قتادة : مترفوها جبابرتها ورؤوسها وقادة الشر.
أحسن ما قيل في
هذا قاله الحسن ، قال : يخير له والمعنى على قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الله جلّ وعزّ إنما يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدر على
المحنة ويفعل بهم الذي هو خير لهم.
__________________
(وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) قال الأخفش : أي أزلافا. وهو اسم المصدر وزعم الفراء أن التي تكون للأموال والأولاد جميعا ، وله قول آخر ، وهو
مذهب أبي إسحاق ، يكون المعنى وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ولا أولادكم
بالتي تقربكم عندنا زلفى ثم حذف ، وأنشد الفراء : [الخفيف]
٣٥٠ ـ نحن بما عندنا
وأنت بما عندك
|
|
راض والرّأي
مختلف
|
وأنشد : [الكامل]
٣٥١ ـ إنّي ضمنت
بما أتاني ما جنى
|
|
وأبي وكان وكنت
غير غدور
|
ويجوز في غير
القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذين للأولاد خاصة. (إِلَّا مَنْ آمَنَ) في موضع نصب بالاستثناء. وزعم أبو إسحاق أنه في موضع نصب
على البدل من الكاف والميم التي في «تقربكم» وهذا القول كأنه غلط لأن الكاف والميم
للمخاطب فلا يجوز البدل ، ولو جاز هذا لجاز : رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو
قول الفراء إلّا أن الفراء لا يقول : بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين
ولكن قوله يؤول إلى ذلك وزعم أن مثله (إِلَّا مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩]
يكون منصوبا عنده بينفع وأجاز الفراء أن يكون «من» في قوله جلّ وعزّ (بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا
زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ) في موضع رفع بمعنى ما هو إلّا من آمن كذا قال ، ولست أحصل
معناه.
(فَأُولئِكَ لَهُمْ
جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) وأجاز النحويون أولئك لهم جزاء الضعف يكون بدلا من جزاء أو على إضمار مبتدأ ، وأجازوا «أولئك
لهم جزاء الضّعف» بمعنى أولئك لهم أن نجزيهم الضعف ، وأجازوا أولئك لهم جزاء الضعف
. قال أبو إسحاق :
والمعنى : أولئك
لهم الضعف جزاء أي في حال مجازاتهم. (وَهُمْ فِي
الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) وعن الحسن في الغرفات إسكان الراء ، وعن الأعمش وحمزة في الغرفة . قال أبو جعفر : «الغرفات» جمع غرفة على جمع التسليم إلّا
أن الراء ضمت فرقا بين الاسم والنعت ، ومن قال : غرفات حذف الضمة لثقلها ، ومن قال
:
__________________
غرفات أبدل من
الضمة فتحة لأنها أخف ، ويجوز أن يكون «غرفات» جمع غرف ومن قرأ (الْغُرْفَةَ) أتى بواحدة تدل على جماعة والجمع أشبه لأن الإخبار عن جمع.
(وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) وهذا فيما أنفق في طاعة الله جلّ وعزّ فهو مخلف لا محالة
إما في الدنيا وإما في الآخرة. (وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) أي رزق العباد.
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) على الحال (ثُمَّ يَقُولُ
لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) قال سعيد عن قتادة هذا استفهام مثل قوله جلّ وعزّ لعيسى عليهالسلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) [المائدة : ١١٦].
قال أبو جعفر : والمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا أكذبتهم كان في ذلك
تبكيت لهم.
(قالُوا سُبْحانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي أنت المتولّي لنا دونهم. (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي يطيعونهم. (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ
مُؤْمِنُونَ) بقبولهم منهم وهو مجاز.
(قُلْ إِنَّما
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) قال سفيان عن ليث عن مجاهد : «بواحدة» قال : لا إله إلا
الله ، وقال غيره : تقديره بخصلة واحدة ثم بينها بقوله جلّ وعزّ : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) وتكون «أن» في موضع خفض على البدل من واحدة أو في موضع رفع
على إضمار مبتدأ ، ومذهب أبي إسحاق أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا (مَثْنى وَفُرادى) على الحال وهو لا ينصرف لعلّتين قد ذكرناهما ، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) معطوف على تقوموا.
وقرأ عيسى بن عمر
علام الغيوب على أنه بدل أي : قل إنّ ربّي علّام
__________________
الغيوب يقذف
بالحقّ. قال أبو إسحاق : والرفع من جهتين : على الموضع لأن الموضع رفع وعلى البدل
مما في «يقذف». قال أبو جعفر : وفي الرفع وجهان آخران : يكون خبرا بعد خبر ، ويكون
على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد
خبر «إنّ» ومثله (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤].
(قُلْ جاءَ الْحَقُ) قال سعيد عن قتادة ، قال : القرآن. قال أبو جعفر :
والتقدير : جاء صاحب الحقّ أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج الحق. (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ) قال سعيد عن قتادة ، قال : الباطل إبليس. والتقدير في
العربية صاحب الباطل. وقال الضحاك : الباطل الآلهة ، وقال : وما يبدئ وما يعيد أي
ما يحيى وما يميت وقال قتادة (ما يُبْدِئُ) و (ما يُعِيدُ) ما يخلق وما يبعث ، وقال غيره : (ما يُبْدِئُ الْباطِلُ) أي ما يبتدي بحجة و (ما يُعِيدُ) ما يحكي عن غيره حجة «ما» الأولى في موضع نصب يبدئ ، و «ما»
الثانية في موضع نصب بيعيد. قال أبو إسحاق : والأجود أن تكون «ما» نافية.
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) شرط وجوابه ، وكذا (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ
فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فإن جعلت «ما» بمعنى الذي كانت الهاء محذوفة ، وإن جعلتها
مصدرا لم يحتج إلى عائد (إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ) أي يسمع ممن دعاه قريب الإجابة له.
(وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) حذف جواب «لو» قال أبو إسحاق : المعنى : ولو ترى إذ فزعوا
لرأيت ما يعتبر به عبرة شديدة أي فلا فوت لهم أي فلا يمكنهم الفوت.
وقرأ أبو عمرو
والكسائي والأعمش وحمزة (وَأَنَّى لَهُمُ
التَّناوُشُ) بالهمز وأبو عبيد يستبعد هذه القراءة ، لأن «التناؤش»
البعد فيكون فكيف يكون وأنّى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر : والقراءة
جائزة حسنة ولها وجهان في كلام العرب ولا يتناول بها هذا المتناول البعيد ، فأحد
الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية وذلك كثير في
كلام العرب ، وفي المصحف الذي نقلته
__________________
الجماعة عن
الجماعة (وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١]
والأصل «وقّتت» لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار : أدؤر. والوجه الآخر قد
ذكره أبو إسحاق :
قال : يكون مشتقا
من «النئيش» وهو الحركة في إبطاء أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد وقد كفروا به
من قبل؟
(وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) والعرب تقول لكلّ من يتكلّم بما لا يحقه : هو يقذف ويرجم
بالغيب. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)
على التمثيل بمن
يرجم ولا يصيب برجمه.
ومن قرأ (وَيَقْذِفُونَ) فمعناه عنده يقذف
به إليهم من يغويهم ويضلّهم.
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) قيل : حيل بينهم وبين النجاة من العذاب ، وقيل : حيل بينهم
وبين ما يشتهونه في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا
يشتهون أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جلّ وعزّ وينتهوا إلى ما يأمرهم به فحيل بينهم
وبين ذلك ، لأن ذلك إنما كان في الدنيا ، وقد زالت في ذلك الوقت. والأصل في حيل «حول»
فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء فحذفت حركتها لثقلها. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ) أي في الدنيا والتوحيد (مُرِيبٍ) أي يستراب به.
__________________
٣٥
شرح إعراب سورة فاطر
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه ثلاثة أوجه : الخفض على النعت ، والرفع على إضمار
مبتدأ ، أو النصب على المدح ، وحكى سيبويه : الحمد لله أهل الحمد ، مثله ، وكذا (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) ولا يجوز فيه التنوين لأنه لما مضى (رُسُلاً) مفعول ثان ، ويقال : على إضمار فاعل لأن «فاعلا» إذا كان
لما مضى مضافا لم يعمل شيئا (أُولِي أَجْنِحَةٍ) نعت ، قال أبو إسحاق : أي أصحاب أجنحة (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) لم ينصرف لأن فيها علّتين : إحداهما أنها معدولة فهذا
اتّفاق ، واختلف في الثانية لأن النحويين القدماء لم يذكروها. قال أبو إسحاق :
العلّة الثانية أنّه عدل في حال نكرة وقال غيره : العلّة الثانية أنه صفة ، وقول
ثالث إنه معدول عن اثنين اثنين فهذه علّة ثانية.
وأجاز النحويون في غير القرآن : فلا ممسك له ، على لفظ «ما» «ولها» على
المعنى وأجازوا : (وَما يُمْسِكْ) فلا مرسل لها على معنى «ما» ، وأجازوا : فلا ممسك لها ،
يكون بمعنى ليس وكذا «فلا مرسل له» وأجازوا : «ما يفتح الله للناس من رحمة» تكون «ما»
بمعنى الذي.
__________________
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) هذه قراءة شيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ شقيق بن سلمة
ويزيد بن القعقاع ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي هل من خالق غير الله ويجوز نصب غير على الاستثناء. والرفع من جهتين :
إحداهما بمعنى :
هل من خالق إلّا الله بمعنى ما خالق إلّا الله ، والوجه الثاني أن يكون نعتا على
الموضع ، لأن المعنى هو خالق غير الله. والخفض على اللفظ ، وقال حماد ابن سلمة :
حدّثنا حميد الطويل قال : قلت للحسن : من خلق الشرّ؟ فقال : سبحان الله ، هل من
خالق غير الله جلّ وعزّ الله خلق الخير والشرّ.
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تأسيا له صلىاللهعليهوسلم. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ) قال أبو إسحاق : أي الأمور مرجعها إلى الله جلّ وعزّ
فيجازي من كذّب وينصر من كذّب من رسله.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) قال سعيد بن جبير : غرور الحياة الدنيا أن يشغل الإنسان
بنعيمها وفتنتها عن عمل الآخرة حتى (يَقُولُ يا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). وقال شعبة عن سماك (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللهِ الْغَرُورُ) بضم الغين. وفيه ثلاثة أقوال : منها أن يكون مع غار ، كما
تقول جالس وجلوس ، وهذا أحسن ما قيل فيه ، ويكون معناه كمعنى «الغرور» ، قال أبو
حاتم :
الغرور جمع غر ،
وغر مصدر ، والقول الثالث يكون الغرور مصدرا ، وهذا بعيد عند أبي إسحاق لأن غررته
متعد ، والمصدر من المتعدّي إنّما هو على فعل نحو ضربته ضربا إلّا أشياء يسيرة
سمعت لا يقاس عليها قالوا : لزمته لزما ، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى هذا الحرف
فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير ، قال : الغرور بالله جلّ وعزّ أن يكون
الإنسان يعمل المعاصي ثم يتمنّى على الله جلّ وعزّ المغفرة.
(إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ) ويكون عدوّ بمعنى معاد فيثنّى ويجمع ويؤنث ، ويكون بمعنى
النسب فيكون موحّدا بكلّ حال كما قال جلّ وعزّ : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي) [الشعراء :
٧٧] وفي المؤنث
على هذا عدوّ أيضا. فأما قول بعض النحويين : إن الواو خفيّة فجاؤوا بالهاء فخطأ بل
الواو حرف جلد. (فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا) مفعولان. (إِنَّما يَدْعُوا
حِزْبَهُ)
__________________
كفّت «ما» «إنّ»
عن العمل فوقع بعدها الفعل (لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحابِ السَّعِيرِ)
(الَّذِينَ كَفَرُوا) يكون بدلا من «أصحاب» ويكون في موضع خفض ، ويكون بدلا من
حزبه فيكون في موضع نصب ، أو يكون بدلا من الواو فيكون في موضع رفع ، وقول رابع ،
وهو أحسنها ، يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ). فأما (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ففي موضع رفع بالابتداء وخبره (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).
(أَفَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) «من» في موضع رفع
بالابتداء ، وخبره محذوف لما دلّ عليه. قال الكسائي : والذي دلّ عليه. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَراتٍ) والمعنى : أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك
عليهم حسرات ، قال : وهذا كلام عربي حسن ظريف لا يعرفه إلّا قليل. والذي قاله
الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره فمن الدلالة على المحذوف ، والمعنى أنّ
الله جلّ وعزّ نهى النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن شدّة الاغتمام بهم والحزن عليهم كما قال جلّ وعزّ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء : ٣] قال
أهل التفسير : أي : قاتل نفسك ، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال
: حدثنا نصر بن علي قال : سألت الأصمعي عن قول النبي صلىاللهعليهوسلم في أهل اليمن «هم أرقّ قلوبا وأبخع طاعة» ما معنى أبخع طاعة ، قال أنصح طاعة قال : فقلت له : إنّ
أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون : في قول الله جلّ وعزّ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) معناه قاتل نفسك فقال : هو من ذلك بعينه كأنه من شدّة
النصح لهم قاتل نفسه ، وقراءة أبي جعفر (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) والمعنيان متقاربان و «حسرات» منصوب على أنه مفعول من أجله
أو مصدر.
و (بَلَدٍ مَيِّتٍ) وميّت واحد ، وكذا ميتة وميتة واحد. هذا قول الحذّاق من النحويين
، وقال محمد بن يزيد : هذا قول البصريين ولم يستثن أحدا واستدلّ على ذلك بدلائل
قاطعة من كلام العرب.
__________________
وأنشد : [الخفيف]
٣٥٢ ـ ليس من
مات فاستراح بميت
|
|
إنّما الميت
ميّت الأحياء
|
إنّما الميت من
يعيش كئيبا
|
|
كاسفا باله قليل
الرّخاء
|
ويروى «قليل
الرّجاء» قال : فهل ترى بين ميت وميت من فرق؟ وأنشد : [البسيط]
٣٥٣ ـ هينون
لينون أيسار بنو يسر
|
|
سوّاس مكرمة
أبناء أيسار
|
قال : قد أجمعوا
على أنّ قوله : هينون وهيّنون واحد ، فكذا ميت وميّت وسيد وسيّد ، قال : وزعم
سيبويه أن قولهم كان كينونة وصار صيرورة الأصل فيه كينونة وصيرورة ، وكذا قيدودة ،
وردّ محمد بن يزيد على الكوفيين قولهم : إنه فعلول من جهتين : إحداهما لأنه
ليس في كلام العرب فعلول والثانية أنه لو كان كما قالوا لكان بالواو. قال أبو جعفر
: هذا كلام بيّن حسن في كينونة لأنها من الكون وفي القيدودة لأنها من الأقود. (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كذلك تحيون بعد ما متّم. من نشر الإنسان نشورا إذا حيي
وأنشره الله جلّ وعزّ.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ) التقدير عند الفراء : من كان يريد علم العزّة ، وكذا قال
غيره من أهل العلم من كان يريد علم العزّة التي لا ذلة معها لأن العزّة إذا كانت
تؤدّي إلى ذلّة فإنها هي تعرّض للذلة ، والعزّة التي لا ذلّة معها لله جلّ وعزّ. (جَمِيعاً) على الحال. وقدر أبو إسحاق معناه : من كان يريد بعبادة
الله جلّ وعزّ العزّة به فإن الله يعزّه في الآخرة والدنيا. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) تمّ الكلام وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إليه يصعد الكلام والكلم جمع كلمة. وأهل التفسير ابن عباس ومجاهد والربيع
ابن أنس وشهر بن حوشب وغيرهم قالوا : والمعنى العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب.
وهذا رد على
المرجئة. (وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ) رفع بالابتداء أو على إضمار فعل. فأما أن يكون مرفوعا
بمعنى ويرفعه العمل الصالح فخطأ ؛ لأن الفاعل إذا كان قبل الفعل لم يرتفع بالفعل.
هذا قول جميع النحويين إلّا شيئا حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن
__________________
يحيى أنه أجاز :
زيد قام بمعنى قام زيد. قال أبو جعفر : ويبيّن لك فساد هذا قول العرب : الزيدان
قاما ، ولو كان كما قال لقيل : الزيدان قام. (وَالَّذِينَ
يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) بمعنى والذين يعملون السيئات فتكون السيئات مفعولة ، ويجوز
أن يكون التقدير والذين يسيئون فيكون السيئات مصدرا (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) خبر «الذين. (وَمَكْرُ أُولئِكَ) مبتدأ ، وهو ابتداء ثان و (يَبُورُ) خبر الثاني ، ويجوز أن يكون خبرا عن الأول ، ويكون هذا
زائدة. وتقول : بار يبور إذا هلك ومنه بارت السوق ، ونعوذ بالله جلّ وعزّ بوار
الأيّم.
(وَاللهُ خَلَقَكُمْ
مِنْ تُرابٍ) قال سعيد عن قتادة قال : يعني آدم صلىاللهعليهوسلم والتقدير على هذا خلق أصلكم من تراب. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) قال : أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) قال : أي زوّج بعضكم بعضا. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ). حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن حمد قال : حدّثنا ابن
عوانة عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : وما يعمّر من معمّر إلّا
كتب عمره كم هو سنة؟ كم هو شهرا؟ كم هو يوما؟ وكم هو ساعة؟ ثم يكتب عند عمره نقص
كذا نقص كذا حتى يوافق النقصان العمر. ومذهب الفراء في معنى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي ما يطوّل من عمره وما ينقص من عمره يعني آخر أي ولا
ينقص الآخر من عمر ذاك (إِلَّا فِي كِتابٍ
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) والفعل منه يسر ، ولو سمّيت به إنسانا انصرف لأنه فعيل.
(وَما يَسْتَوِي
الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) روى ابن عباس قال : فرات حلو ، وأجاج :
مالح مرّ. وقرأ
طلحة (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف ، وأما المالح فهو الذي
يجعل الملح لإصلاح الشيء. (وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) لا اختلاف في هذا أنّه منهما جميعا. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح فقيل :
منهما لأنهما مختلطان ، وقال غيره : إنما تستخرج
__________________
الأصداف التي قال
فيها الحلية من الدرّ وغيره ، ومن المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون وقال
محمد بن يزيد قولا ثالثا هو أحسنها قال : إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة ، وليس
هذا عنده لأنهما مختلطان ولكن جمعا ثم خبّر عن أحدهما كما قال جلّ وعزّ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [يونس : ٦٧] وكما
تقول : لو رأيت الحسن والحجّاج لرأيت خيرا وشرا ، وكما تقول : لو رأيت الأصمعيّ
وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا ، فقد عرف معنى هذا ، وهو كلام فيصيح كثير فكذا. (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) فاجتمع في الأول وانفرد الملح بالثاني فصارا مجتمعين في كل
هذا. قال : (وَتَرَى الْفُلْكَ
فِيهِ مَواخِرَ) أي في الملح خاصة ، ولو لا ذلك لقال : فيهما وقد مخرت
السفينة تمخر وتمخر إذا شقّت الماء ، كما قال طرفة : [الطويل]
٣٥٤ ـ يشقّ حباب
الماء حيزومها بها
|
|
كما قسم التّرب
المفايل باليد
|
وقيل : الأجل
المسمّى هاهنا القيامة لأنها عند الله جلّ وعزّ مسمّاة لوقت معلوم (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما
يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : القطمير جلد النواة.
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) شرط ومجازاة. (وَلَوْ سَمِعُوا مَا
اسْتَجابُوا لَكُمْ) فيه معنى الأول وإن كانت لو لا يجازى بها. قال قتادة (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) ما تبعوكم ولا قبلوا منكم. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). قال أبو إسحاق : أي يقولون : ما كانوا إيّانا يعبدون. (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) قال قتادة : الله جلّ وعزّ أخبر أنه يكون هذا منكم يوم
القيامة.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) بتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل رحمهالله ويجوز تخفيف الأولى وحذفها وتخفيفها جميعا وتحقيقهما
جميعا. (وَاللهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) تكون «هو» زائدة فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وتكون
مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
__________________
(إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ) شرط ومجازاة وفيه حذف تستعمله العرب كثيرا. والتقدير :
إن يشأ أن يذهبكم
يذهبكم وحذفت من «يشأ» الضمة التي كانت على الهمزة فلما سكنت حذفت الألف التي
قبلها. (وَيَأْتِ) معطوف على يذهبكم.
(وَلا تَزِرُ) مقطوع مما قبله والأصل توزر حذفت الواو اتباعا ليزر. (وازِرَةٌ) نعت لمحذوف أي نفس وازرة ، وكذا (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) قال الفراء : أي نفس مثقلة أو دابة قال: وهذا يقع للمذكّر والمؤنث.
قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنسانا (إِلى حِمْلِها) والحمل ما كان على الظهر ، وحمل المرأة وحمل النخلة حكاهما
الكسائي بالفتح لا غير ، وحكى ابن السكيت : إنّ حمل النخلة يفتح ويكسر (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) التقدير على قول الأخفش ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى ،
وأجاز الفراء : ولو كان ذو قربى قال أبو جعفر : وهذا جائز عند سيبويه ،
ومثله (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠]
وتكون «كان» بمعنى وقع أو يكون الخبر محذوفا أي وإن كان فيمن تطلبون ذو عسرة ،
وحكى سيبويه : الناس مجزيّون بأعمالهم إن خير فخير ، على هذا ، وإن خيرا فخيرا ،
على الأول وحكى الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال : بلغني أنّ اليهوديّ والنصراني
يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له : ألم أكن قد أسديت إليك يدا ألم أكن قد
أحسنت إليك فيقول : بلى فيقول : انفعني فلا يزال المسلم ينقص من عذابه ، وأن الرجل
ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول : ألم أكن بك بارا وعليك مشفقا وإليك محسنا ،
وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمل عني سيئة فيقول : إن الذي
سألتني يسير ولكني أخاف مثل ما تخاف ، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيردّ عليه
نحوا من هذا ، وإن الرجل ليقول لزوجته : ألم أكن حسن العشرة لك فتحملي عني خطيئة لعلي
أنجو فتقول : إنّ ذلك ليسير ولكنّي أخاف مما تخاف منه ثم تلا عكرمة (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها
لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. إِنَّما
تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وهو ينذر الخلق كلهم فخصّ الذين يخشون ربّهم لأنهم الذين
ينتفعون بالنذارة.
__________________
(وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) روي عن ابن عباس قال : المؤمن والكافر ، قال :
و (الظُّلُماتُ) الضلالة و (النُّورُ) الهدى و (الظِّلُ) الجنّة و (الْحَرُورُ) النار. قال الأخفش سعيد : «لا» زائدة والمعنى : ولا
الظلمات والنور ولا الظل والحرور. وقيل : الحرور لا يكون إلّا بالليل ، والسموم
يكون بالنهار. وقيل : الحرور يكون فيهما. وهذا أصحّ القولين ، لأن الحرور فعول من
الحرّ ، وفيه معنى التكثير أي الحرّ المؤذي.
وقرأ الحسن (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) تحذف التنوين تخفيفا أي هم بمنزلة أهل القبول في أنّهم لا
ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
(بِالْبَيِّناتِ
وَبِالزُّبُرِ) وفي موضع آخر (الزُّبُرِ) [آل عمران : ١٨٤]
بغير باء والمعنى واحد ، غير أنّ الكثير في كلام العرب بغير باء وما بعده بالباء
أيضا فتكون الباء إذا دخلت توكيدا أو عطف جملة على جملة وحذف الفعل لدلالة الأول
عليه.
نصبت (مُخْتَلِفاً) لأنه نعت لثمرات و (أَلْوانُها) مرفوع بمختلف وصلح أن يكون نعتا لثمرات لما عاد عليه من
ذكره ، ويجوز رفعه في غير القرآن ومثله : رأيت رجلا خارجا أبوه. (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) جمع جدّة. قال الأخفش : ولو كان جمع جديد لقيل جدد مثل
رغيف ورغف. (بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) رفع «مختلف» هاهنا ونصب ثمّ لأن ما قبله هاهنا مرفوع فهو
نعت له ، ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء والخبر.
فقيل هاهنا (أَلْوانُهُ) وثمّ (أَلْوانُها) لأن تقديره وخلق مختلف ألوانه. ومختلف نعت أقيم مقام
المنعوت. والكاف في موضع نعت لأنها نعت لمصدر محذوف. (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال مجاهد : إنما العالم من يخشى الله جلّ وعزّ وعن عبد
الله ابن مسعود رضي الله عنه : كفى بخشية الله جلّ وعزّ علما وبالاغترار به جهلا.
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) قال أحمد بن يحيى خبر «إنّ». (يَرْجُونَ تِجارَةً
لَنْ تَبُورَ).
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) هذه الآية مشكلة لأنه قال جلّ وعزّ (اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ثم قال جلّ وعزّ (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ) وقد كنا ذكرناها إلّا أنا نبيّنها هاهنا بغاية البيان وقد
تكلم جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فمن أصحّ ما روي في ذلك ما قرئ على أبي
بكر محمد بن جعفر ابن الإمام عن يوسف بن موسى عن وكيع بن الجراح قال : حدثنا سفيان
بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ) قال : الكافر ، وقرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حبيب
عن الفضل بن موسى عن حسين عن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) قال : نجت فرقتان. فهذا قول : ويكون التقدير في العربية «فمنهم»
فمن عبادنا «ظالم لنفسه» أي كافر ، وقال الحسن : أي فاسق ، ويكون الضمير الذي في
يدخلونها يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. فأما معنى «الذين اصطفينا من
عبادنا» ففيه قولان : أحدهما أن الذين اصطفوا هم الأنبياء صلوات الله عليهم أي
اختيروا للرسالة ، وقيل : المعنى الذين اصطفوا لإنزال الكتاب عليهم فهذا عام ،
وقيل الضمير في (يَدْخُلُونَها) يعود على الثلاثة الأصناف على أن لا يكون الظالم هاهنا
كافرا ولا فاسقا ، فمن روى عنه هذا القول أعني أنّ الذين يدخلونها هذه الثلاثة
الأصناف عمر وعثمان وأبو الدرداء وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم.
ولو لا كراهة الإطالة لذكرنا ذلك بأسانيده وإن كانت ليست مثل الأسانيد الأولى في
الصحة وهذا القول أيضا صحيح عن عبيد بن عمرو وكعب الأحبار وغيرهما من التابعين والتقدير
على هذا القول : أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر ، والمقتصد : قال محمد بن
يزيد : هو الذي يعطي الدّنيا حقّها ، والآخرة حقّها فيكون «جنّات عدن يدخلونها»
عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين. وفي الآية قول ثالث يكون «الظالم» صاحب
الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته. فيكون «جنّات
عدن يدخلونها» الذين سبقونا بالخيرات لا غير. وهذا قول
__________________
جماعة من أهل
النظر قالوا : لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقد ذكرنا قول العلماء المتقدمين قبل هذا (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ) جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار وسوار ، وقد حكي أنه يقال :
أسوار وجمع إسوار أساوير ، وقد حكي أن في حرف أبي «أساوير» وحذف الياء من مفاعل هذا
جائز غير أن المعروف أن الأسوار هو الرجل الجيّد الرمي من الفرس. (وَلُؤْلُؤاً) قراءة أهل المدينة. قال أبو إسحاق :
لأن معنى من أساور
ومعنى أساور واحد ، والخفض قراءة أهل الكوفة ، وهو أبين في العربية لأنه مخفوض
معطوف على مخفوض. وقرأ عاصم الجحدري (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها) بكسر التاء تكون في موضع جرّ على البدل من الخيرات ، ويجوز
أن يكون في موضع نصب على لغة من قال : زيدا ضربته وزعم بعض أهل النظر أن قوله جلّ
وعزّ : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ) للنساء لأن قوله جلّ وعزّ : (مِنْ عِبادِنا) مشتمل على الذكور والإناث. وهذا خطأ بيّن ، لأنه لو كان
للنساء لكان يحلّين ولكن هو للرجال لا غير إلّا أنه يجوز أن يحلّى به النساء فإذا
حلّي به النساء فهو لأزواجهنّ.
(وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) عن ابن عباس قال : النار. وقال سعيد عن قتادة قال : كانوا
يعملون في الدّنيا وينصبون ويلحقهم الحزن وقال شمر بن عطيّة في قول الله جلّ وعزّ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قال : همّ الطّعام. قال :
(إِنَّ رَبَّنا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ) غفر لهم الذّنوب التي عملوها ، وشكر لهم الخير الذي دلّهم
عليه فعملوه.
(الَّذِي أَحَلَّنا
دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) يكون «الذي» في موضع نصب نعت لاسم «إنّ» ويجوز أن يكون في
موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أو على خبر بعد خبر إن ، وعلى البدل من غفور ، أو على
البدل من المضمر الذي في «شكور» ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لاسم الله
جلّ وعزّ قال الكسائي والفراء : (الْمُقامَةِ) : الإمامة والمقامة : المجلس الذي يقام فيه. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب والنّصب الشرّ والنصب ما ينصب لذبح أو غيره وقرأ
أبو عبد الرحمن (وَلا يَمَسُّنا فِيها
لُغُوبٌ) بفتح اللام يكون مصدرا كالوقود والطّهور وقيل هو ما يلغب
منه.
__________________
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ والخبر (لَهُمْ نارُ
جَهَنَّمَ) ويجوز أن يكون الخبر (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا) وحذفت النون ؛ لأنه جواب النفي. وقرأ الحسن يقضى عليهم
فيموتون على العطف قال الكسائي (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦]
بالنون في المصحف لأنه رأس آية ، و (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا) بغير نون لأنه ليس برأس آية ويجوز في كلّ واحد منهما ما
جاز في صاحبه.
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها) الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه لأنهما مطبقتان
، ويقال : اصطرخ إذا استغاث (رَبَّنا أَخْرِجْنا) أي يقولون (نَعْمَلْ صالِحاً) جواب المسألة أي إن أخرجتنا عملنا صالحا غير الذي كنا نعمل
(أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ) أي فيقال لهم ، وروى أبو هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «من عمّر ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» ، وكذلك روى سهل بن سعد عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم مثل معناه وقال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قال ستين سنة. (وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ) أي المنذر وفي فعيل معنى المبالغة. قيل : يعني به النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : هو من أنذرهم ، وقيل : يعني به الشيب والله جلّ
وعزّ أعلم.
إذا كان بغير
تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل والحال ، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون
للماضي.
(هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) جمع خليفة أي تخلفون من كان قبلكم وفي هذا معنى التنبيه
والاعتبار أي فتحذرون أن تنزل بكم العقوبة ، كما نزلت بمن كان قبلكم (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي
عقوبة كفره.
__________________
(وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) مفعولان ، وكذا (وَلا يَزِيدُ
الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً).
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
شُرَكاءَكُمُ) منصوب بالرؤية ، ولا يجوز رفعه وقد يجوز الرفع عند سيبويه
في قولهم : قد علمت زيد أبو من هو ؛ لأن زيدا في المعنى يستفهم عنه ، ولو قلت :
أرأيت زيدا أبو من
هو؟ لم يجز الرفع والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه ، وكذا معنى هذا أخبروني
عن شركائكم الذين تدعون من دون الله أعبدتموهم لأن لهم شركة في خلق السّموات أم
خلقوا من الأرض شيئا أم آتيناهم كتابا بهذا أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم
بالشّركة أو بأنا أمرناهم بعبادتهم فكان في هذا ردّ على كل من عبد غير الله جلّ
وعزّ لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أنّ الله جلّ وعزّ أمر أن يعبد غيره.
على بيّنات منه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم والكسائي ، وقرأ أبو
عمرو وابن كثير والأعمش وحمزة (عَلى بَيِّنَةٍ
مِنْهُ) قال أبو جعفر : والمعنيان متقاربان إلّا أن القراءة
«بيّنات» أولى لأنه لا يخلو من قرأ «على بيّنة» أن يكون خالف السواد الأعظم أو
يكون جاء به على لغة من قال : جاءني طلحة ، فوقف بالتاء. وهذه لغة شاذّة قليلة.
(بَلْ إِنْ يَعِدُ
الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً) «إن» بمعنى «ما»
فلذلك رفعت الفعل. (بَعْضُهُمْ بَعْضاً) «بعضهم» (إِلَّا غُرُوراً) أي إلّا غرورا بالباطل.
(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) «أن» في موضع نصب
بمعنى كراهة أو يحمل على المعنى لأن المعنى إنّ الله يمنع السّموات والأرض من أن
تزولا (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ
أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ) قال الفراء : أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد من بعده و «أان» بمعنى «ما»
قال : وهو مثل قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا
رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) [الروم : ٥١].
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) قال أبو إسحاق : كانوا حلفوا واجتهدوا. قال أبو
__________________
جعفر : فاليمين
وقعت على (لَيَكُونُنَّ أَهْدى
مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) قال الأخفش : فأنّث إحدى لتأنيث أمة (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ
إِلَّا نُفُوراً) أي عن الحقّ.
(اسْتِكْباراً) مفعول من أجله أي تكبّرا عن الحقّ. (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) معطوف عليه.
قال سعيد عن قتادة
: أي ومكر الشرك. قال أبو جعفر : أصل المكر السّيّئ في اللغة الكذب والخديعة
بالباطل. وقرأ الأعمش وحمزة ومكر السّيئ ولا يحق المكر السيّئ إلا بأهله فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني. قال أبو إسحاق :
وهو لحن لا يجوز. قال أبو جعفر : وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه ، وزعم محمد
بن يزيد : أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر ، لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها
لأنها دخلت للفروق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته
ومحلّه يقرأ بهذا ، وقال : إنما كان يقف عليه فغلط من ادّعى عنه قال : والدليل على
هذا أنه تمام الكلام ، وإن الثاني لمّا لم يكن تمام الكلام أعربه ، والحركة في
الثاني أثقل منها في الأول ؛ لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتجّ بعض النحويين لحمزة
في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره : [الرجز]
٣٥٥ ـ إذا
اعوججن قلت صاحب قوّم
|
|
بالدوّ أمثال
السّفين العوّم
|
وقال الآخر : [السريع]
٣٥٦ ـ فاليوم
أشرب غير مستحقب
|
|
إثما من الله
ولا واغل
|
وهذا لا حجّة فيه
لأن سيبويه لم يجزه وإنما حكاه بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء
لم يكن فيه حجّة فكيف وإنما جاء به على الشذوذ ، وضرورة الشعر ، قد خولف فيه. وزعم
أبو إسحاق أن أبا العباس أنشده : [الرجز]
٣٥٧ ـ إذا اعوججن قلت صاح قوّم
وأنه أنشده «فاليوم
فاشرب» بالفاء. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي إنما ينظرون العقاب الذي نزل بالكفار الأولين (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ
تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي أجرى الله جلّ وعزّ العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنّة
فيهم فهو يعذب بمثله من
__________________
استحقّه لا يقدر
أحد أن يبدّل ذلك ، ولا يحوّله.
قال أبو إسحاق : (لِيُعْجِزَهُ) لتفوته ...
(وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) مهموز ؛ لأن العرب تقول : أخذت فلانا بكذا وكذا ، ولا يقال
: وأخذت ، ولكن إن خفّفت الهمزة في يؤاخذ جاز فقلت يؤاخذ تقلبها واوا. فإن قال
قائل : فلم لا يقلبها ألفا وهي مفتوحة؟ قلت : هذا محال لأن الألف لا يكون ما قبلها
أبدا إلا مفتوحا. (عَلى ظَهْرِها) يعود على الأرض وقد تقدّم ذكرها.
(فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) لا يجوز أن يكون العامل في إذا بصيرا ، كما لا يجوز :
اليوم أنّ زيدا خارج ، ولكن العامل فيها جاء لشبهها بحروف المجازاة ، وقد يجازى
بها ، كما قال : [الطويل]
٣٥٨ ـ إذا قصرت
أسيافنا كان وصلها
|
|
خطانا إلى
أعدائنا فنضارب
|
__________________
٣٦
شرح إعراب سورة يس
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال عبد الرحمن بن
أبي ليلى : لكلّ شيء قلب ، وقلب القرآن «يس» من قرأها نهارا كفي همّه ، ومن قرأها
ليلا غفر ذنبه. قال شهر بن حوشب : يقرأ أهل الجنة «طه» و «يس» فقط. قال أبو جعفر :
في (يس) أوجه من القراءات. قرأ أهل المدينة والكسائي (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) بإدغام النون في الواو ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) بإظهار النون ، وقرأ عيسى بن عمر يسين والقرآن الحكيم ،
وذكر الفراء قراءة رابعة ياسين والقرآن. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بالإدغام
على ما يجب في العربية لأنّ النون تدغم في الواو لشبهها بها ، ومن بيّن قال :
سبيل حروف التهجي
أن يوقف عليها ، وإنما يكون الإدغام في الإدراج ، وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين : إحداهما أن يكون مفعولا لا يصرفه ،
لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل. والتقدير : اذكر ياسين ، وجعله سيبويه اسما
للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل «كيف» و «أين» ، وأما الكسر فزعم
الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لأفعلن وجير لا أفعل .
(وَالْقُرْآنِ) قسم والواو مبدلة من ياء لشبهها بها ، كما أبدلوها من ربّ
، (الْحَكِيمِ) من نعت القرآن. قال أبو إسحاق : لأنه أحكم بالأمر والنهي
والأمثال وأقصيص الأمم.
جواب القسم ، وإن
مكسورة لأن في خبرها اللام ولو حذفت اللام لكانت أيضا
__________________
مكسورة إلّا في
قول الكسائي فإنّه يجيز فتحها ؛ لأن في الكلام معنى : أقسم.
قال الضحاك : أي
على طريقة مستقيمة. قال قتادة : أي على دين مستقيم. قال أبو إسحاق : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر بعد خبر ، قال : ويجوز أن يكون من صلة المرسلين أي
الذين أرسلوا على صراط مستقيم.
هذه قراءة أهل
المدينة وأبي عمرو ، وقرأ الكوفيون وعبد الله بن عامر اليحصبي (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) بالنصب وحكي الخفض. قال أبو جعفر : فالرفع على إضمار مبتدأ
أي الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم ، والنصب على المصدر ، والخفض على البدل من
القرآن.
(لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ما) لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير ؛ لأنها
نافية ، وعلى قول عكرمة موضعها النصب ؛ لأنه قال : أي قد أنذر آباؤهم فتكون على
هذا مثل قوله : (فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣] أي
بصاعقة. (فَهُمْ غافِلُونَ) ابتداء وخبر.
(لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) أي حقّ القول عليهم بالعذاب لكفرهم ، ومثله (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ
عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١].
(إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) عن ابن عباس أنه قال : إن أبا جهل أقسم لئن رأيت محمدا صلىاللهعليهوسلم يصلّي لأدمغنّه فأخذ حجرا والنبي صلىاللهعليهوسلم يصلّي ليرميه به. فلما أومأ به إليه جفّت يده على عنقه ،
والتصق الحجر بيده فهو على هذا تمثيل أي بمنزلة من غلّت يده إلى عنقه. وروى ابن
عيينة عن عمرو بن دينار قال : قرأ ابن عباس إنّا جعلنا في أيمانهم أغلالا فهي إلى الأذقان قال أبو إسحاق وقرئ إنّا جعلنا في
أيديهم أغلالا قال أبو جعفر : هذه القراءة على التفسير ، ولا يقرأ بما خالف المصحف
، وفي
__________________
الكلام حذف على
قراءة الجماعة فالتقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان
، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا ، ونظيره (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١]
فتقديره : وسرابيل تقيكم البرد فحذف لأن ما وقى الحرّ وقى البرد ، ولأنّ الغل إذا
كان في العنق فلا بد من أن يكون في اليد ولا سيما وقد قال جلّ وعزّ : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فقد أعلم الله جلّ وعزّ أنها يراد بها الأيدي. (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أجلّ ما روي فيه ما حكاه عبد الله بن يحيى أن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أراهم الأقماح فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال أبو
جعفر : وكان هذا مأخوذا مما حكاه الأصمعي قال : يقال أكمحت الدّابّة إذا جذبت
لجامها لترف رأسها. قال أبو جعفر : والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها ، كما يقال
:
قهرته وكهرته. قال
الأصمعي : ويقال : أكفحت الدابة إذا تلقّيت فاها باللجام لتضربه به. مشتقّ من
قولهم : لقيته كفاحا أي وجها لوجه ، وكفحت الدابّة بغير ألف إذا جذبت عنانها لتقف
ولا تجري.
قال محمد بن إسحاق
في روايته : جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأميّة بن خلف يراصدون النبي صلىاللهعليهوسلم ليبلغوا من أذاه فخرج عليهم يقرأ أول «يس» وفي يده تراب
فرماهم به ، وقرأ (وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) إلى رأس العشر ، فأطرقوا حتى مرّ النبي صلىاللهعليهوسلم وقد قيل إن هذا تمثيل كما يقال : فلان حمار أي لا يبصر
الهدى ، كما يقال : [البسيط]
٣٥٩ ـ لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقراءة ابن عباس
وعكرمة ويحيى بن يعمر وعمر بن عبد العزيز (فَأَغْشَيْناهُمْ)
قال أبو جعفر :
القراءة بالغين أشبه بنسق الكلام ، ويقال : غشيه الأمر وأغشيته إياه فأما
فأغشيناهم فإنّما يقال لمن ضعف بصره حتى لا يبصر بالليل ، أو لمن فعل فعله ، كما
قال : [الطويل]
٣٦٠ ـ متى تأته
تعشو إلى ضوء ناره
|
|
تجد خير نار
عندها خير موقد
|
قال قتادة : (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الهدى.
__________________
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) قيل : المعنى لا يكترثون بذلك ولا يعبئون به ولا يؤمنون.
قال ابن عباس :
فما آمن منهم أحد.
(إِنَّما تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي إنّما ينتفع بالإنذار. قال أبو إسحاق : ومعنى (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) خاف الله جلّ وعزّ من حيث لا يراه أحد إلّا الله عزوجل.
(فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) قال الضحاك عن ابن عباس في معنى كريم : أي حسن ، وقيل :
يراد به الجنة والله جلّ وعزّ أعلم.
الأصل في (إِنَّا) إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات (نُحْيِ) حذفت منه الضمة لثقلها ، ولا يجوز إدغام الياء في الياء
هاهنا لئلّا يلتقي ساكنان. (وَنَكْتُبُ ما
قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أي ذكر ما قدّموا ، وأقيم المضاف إليه مقام المضاف ،
وتأوله ابن عباس بمعنى خطاهم إلى المساجد. وهو أولى ما قيل فيه ؛ لأنه قال : إنّ
الآية نزلت في ذلك لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد. وفي حديث عمرو بن
الحارث عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «يكتب له برجل حسنة ، ويحطّ عنه برجل سيئة ذاهبا
وراجعا إذا خرج إلى المسجد» وتأوّله غير ابن عباس «ونكتب ما قدّموا وآثارهم» يعني نكتب
ما قدّموا من خير وما سنّوا من سنة حسنة يعمل بها بعدهم. وواحد الآثار :
أثر ، ويقال :
إثر. (وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ) منصوب على إضمار فعل ، ويجوز رفعه بالابتداء إلّا أنّ نصبه
أولى ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهذا قول الخليل وسيبويه رحمهماالله. قال مجاهد : (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) في اللوح المحفوظ.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) قال أبو إسحاق : أي اذكر لهم مثلا ، والضرب هو المثال
والجنس ، يقال : هذا من ضرب هذا ، أي من مثال هذا وجنسه والمعنى : ومثّل لهم مثلا.
(أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) بدل من مثل فالمعنى مثل أصحاب القرية. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي جاء أهلها المرسلون.
__________________
(إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) وقرأ عاصم (فَعَزَّزْنا) وربما غلط في هذا بعض الناس فتوهّم أنه من عز يعزّ ، وليس
منه إنما هو من قول العرب : عازّني فلان فعززته أعزّه أي غلبته وقهرته وله نظائر
في كلامهم ، وتأول الفراء (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أنّ الثالث أرسل قبل الاثنين وأنه شمعون وإنّ معنى فعزّزنا
به أنّه غلبهم.
والظاهر يدلّ على
خلاف ما قال ، ولو كان كما قال لكان الأولى في كلام العرب أن يقال: بالثالث إذ كان
قد أرسل قبل ، كما يقال : في أول الكتاب سلام عليك وفي آخره والسلام ، وكما يقال :
مررت برجل من قصّته كذا فقلت للرّجل.
(قالُوا ما أَنْتُمْ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) مبتدأ وخبره.
قال الفراء : (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لنقتلنّكم قال : وعامة ما في القرآن من الرجم معناه
القتل.
(قالُوا طائِرُكُمْ
مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) فيه سبعة أوجه من القراءات : قرأ أهل المدينة أين ذكرتم بتخفيف الهمزة الثانية ، وقرأ
أهل الكوفة (أَإِنْ) بتحقيق الهمزتين ، والوجه الثالث أاإن بهمزتين بينهما ألف
، أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين ، والوجه الرابع أاإن بهمزة بعدها ألف
وبعد الألف همزة مخففة ، والقراءة الخامسة أان ذكرتم بهمزتين إلا أنّ الثانية همزة
مخففة ، والوجه السادس أأن بهمزتين محققتين مفتوحتين. حكى الفراء : أنّ هذه قراءة أبي رزين. وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري
قالوا طائركم معكم أين ذكّرتم بمعنى حيث والمعنى : أين ذكّرتم تطيّركم معكم. ومعنى
أأن ألأن ، وقرأ يزيد بن القعقاع والحسن وطلحة ذكرتم
__________________
بالتخفيف وزعم
الفراء أن معنى (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي رزقكم وعملكم و (بَلْ) لخروج من كلام إلى كلام (أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ) ابتداء وخبر.
(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) وفي موضع آخر (رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ يَسْعى) [القصص : ٢٠]
والمعنى واحد إلّا أن حقّ الظروف أن تكون في آخر الكلام ، وتقديمها مجاز. ألا ترى
أن معنى : إنّ في الدار زيدا ، إن زيدا في الدار ، (قالَ يا قَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
(اتَّبِعُوا مَنْ لا
يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) هذا يدلّ على إعادة الفعل (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) محمول على معنى «من».
وقرأ الأعمش وحمزة
(وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ) بإسكان الياء وهذه ياء النفس تفتح وتسكّن ، إذا كان ما
قبلها متحرّكا فالفتح لأنها اسم فكره أن يكون اسم على حرف واحد ساكنا ، والإسكان
لاتصالها بما قبلها ، وموضع (لا أَعْبُدُ) موضع نصب على الحال.
(إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) شرط ومجازاة ، وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من الدال وحذفت
الياء التي قبل الدال لالتقاء الساكنين. والقول في الياء التي بعد النون كما تقدّم
من الفتح والإسكان إلّا أنك إذا أسكنتها حذفتها في الإدراج لالتقاء الساكنين وجواب
الشرط (لا تُغْنِ عَنِّي).
فأما ما روي عن
عاصم أنه قرأ (إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) بفتح النون فلحن لأنه في موضع جزم فإذا كسرت النون جاز
لأنها النون التي تكون مع الياء لا نون الإعراب. قال أبو إسحاق : أشهد الرسل على
إيمانه فقال : (إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ).
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) في الكلام حذف لعلم السامع والتقدير : فقتلوه فقيل : ادخل
الجنة فلمّا رأى ما هو فيه من النعيم. (قالَ يا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ).
(بِما غَفَرَ لِي
رَبِّي) فيه ثلاثة أوجه : تكون «ما» مصدرا ، وتكون بمعنى «الذي» ،
والثالث استفهاما ، وهذا ضعيف لأن الأكثر في الاستفهام : بم غفر لي ربّي؟ بغير ألف
(وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ) قال أبو مجلز : أي بإيماني وتصديقي الرسل. قال أبو إسحاق :
(مِنَ الْمُكْرَمِينَ) أي أدخلني الجنة.
(وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) أي لم ينزل جندا من السماء ينتصرون له.
(إِنْ كانَتْ إِلَّا
صَيْحَةً واحِدَةً) في «كانت» مضمر أي أن كانت عقوبتهم أو بليتهم إلّا صيحة.
قرأ أبو جعفر إن كانت إلّا صيحة واحدة بالرفع. قال أبو حاتم : ينبغي ألا يجوز لأنه
إنما يقال : ما جاءني إلّا جاريتك ، ولا يقال : ما جاءتني إلّا جاريتك ، لأن
المعنى ما جاءني أحد إلا جاريتك أي فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال : إن كان إلا
صيحة واحدة. قال أبو جعفر : لا يمتنع من هذا شيء ، يقال : ما جاءتني إلّا جاريتك ،
بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية. والتقدير : بالرفع في القراءة ما قاله أبو إسحاق
، قال : المعنى إن كانت عليهم صيحة إلّا صيحة واحدة وقدّره غيره بمعنى : ما وقعت
إلّا صيحة واحدة «وكان» بمعنى : وقع كثير في كلام العرب. وقرأ عبد الرحمن بن
الأسود ، ويقال : إنه في حرف عبد الله كذلك : إن كانت إلّا زقية واحدة . قال أبو جعفر : هذا مخالف للمصحف ، وأيضا فإن اللغة
المعروفة : زقا يزقو إذا صاح فكان يجب على هذا أن يكون إلّا زقوة. قال قتادة : (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي هالكون.
(يا حَسْرَةً) منصوب لأنه نداء نكرة لا يجوز فيه إلا النصب عند البصريين
، وزعم الفراء أنّ الاختيار النصب وأنها لو رفعت النكرة الموصولة بالصفة لكان
صوابا ، واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب : يا مهمّ بأمرنا لا تهتمّ. وأنشد :
[الكامل]
__________________
٣٦١ ـ يا دار غيّرها البلى تغييرا
قال أبو جعفر : في
هذا بطلان باب النداء أو أكثره لأنه يرفع النكرة المحضة ويرفع ما هو منزلة المضاف
في طوله ويحذف التنوين متوسطا ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك.
فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه ، لأن تقدير :
يا مهتمّ بأمرنا
لا تهتمّ ، على التقديم والتأخير ، والمعنى : يا أيّها المهتم لا تهتمّ بأمرنا.
وتقدير البيت : يا
أيّها الدار ، ثم حوّل المخاطبة أي يا هؤلاء غير هذه الدار البلى ، كما قال جلّ
وعزّ : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ
فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢]. وكان
أبو إسحاق يقول : بأن قوله جلّ وعزّ : (يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ) من أصعب ما في القرآن من المسائل ، وإنما قال هذا لأن
السؤال فيه أن يقال : ما الفائدة في نداء الحسرة؟ قال أبو جعفر : وقد شرح هذا
سيبويه بأحسن شرح ، ومذهبه أن المعنى إذا قيل : يا عجباه فمعناه يا عجب هذا من
أبانك ، ومن أوقاتك التي يجب أن تحضرها والمعنى على قوله إنه يجب أن تحضر الحسرة
لهم على أنفسهم لاستهزائهم بالرسل ، وفي معنى الآية قول غريب إسناده جيد رواه
الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : لمّا رأى الكفار العذاب قالوا : يا حسرة على
العباد ، يعنون بالعباد الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إليهم تحسروا على فواتهم إن لم
يحضروا حتى يؤمنوا. قال الله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الحجر : ١١].
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ) قال الفراء : «كم» في موضع نصب من وجهين : أحدهما بيروا ، واستشهد على
هذا القول بأنه في قراءة عبد الله بن مسعود ا لم يروا من أهلكنا ، والوجه الآخر أن
تكون «كم» في موضع نصب بأهلكنا. قال أبو جعفر : القول الأول محال لأن «كم» لا يعمل
فيها ما قبلها لأنها استفهام ، ومحال أن يدخل الاستفهام في حيّز ما قبله ، وكذا
حكمها إذا كانت خبرا ، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل «أنّهم» بدلا من «كم»
، وقد ردّ عليه محمد بن يزيد هذا أشدّ ردّ ، وقال : «كم» في موضع نصب بأهلكنا «وأنّهم»
في موضع نصب. والمعنى عنده :
بأنهم أي ألم يروا
كم أهلكنا قبلهم من القرون بالاستئصال.
__________________
هذه إن الثقيلة في
الأصل خفّفت فزال عملها في أكثر اللغات ، ولزمتها اللام فرقا بينها وبين «إن» التي
بمعنى «ما». وقرأ الكوفيون (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا) وفيه قولان :
أحدهما أنّ «لمّا»
بمعنى إلا و «إن» بمعنى «ما». حكى ذلك سيبويه في قولهم :
سألتك بالله لمّا
فعلت ، وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. والقول الآخر أن المعنى :
وإن كلّ لمن ما ،
وهذا قول الفراء . قال وحذفت ما ، كما يقال علماء بنو فلان ، أراد به : على
الماء بنو فلان.
(وَآيَةٌ) رفع بالابتداء ، والخبر (لَهُمُ) ، ويجوز أن يكون الخبر (الْأَرْضُ
الْمَيْتَةُ).
قال أبو إسحاق :
ويقال : الميتة ، والتخفيف أكثر.
(لِيَأْكُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) «ما» في موضع خفض
على العطف أي ومما عملته أيديهم ، ويجوز أن تكون «ما» نافية لا موضع لها أي ولم
تعمله أيديهم فإذا كان بحذف الهاء كانت «ما» في موضع خفض ، وحذف الهاء لطول الاسم
، ويبعد أن تكون نافية.
قال أبو إسحاق :
أي الأجناس من الحيوان والنبات.
(وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ) وعلامة دالّة على توحيد الله.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي) ويكون تقديره وآية لهم الشمس ، ويجوز أن تكون الشمس مرفوعة
بإضمار فعل يفسّره الثاني ، ويجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء.
__________________
(وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) يكون تقديره : وآية لهم القمر ، ويجوز أن يكون القمر
مرفوعا بالابتداء. وقرأ الكوفيون (وَالْقَمَرَ) بالنصب على إضمار فعل. وهو اختيار أبي عبيد ، قال : لأن
قبله فعلا وبعده فعلا مثله قبله «نسلخ» وبعده «قدّرناه» قال أبو جعفر :
أهل العربية جميعا
فيما علمت على خلاف ما قال ، منهم الفراء ، قال : الرفع أعجب إليّ ، وإنما كان الرفع عندهما أولى
لأنه معطوف على ما قبله فمعناه : وآية القمر والذي قاله : من أنّ قبله «نسلخ»
فقبله ما أقرب إليه منه وهو يجري وقبله : والشمس بالرفع ، والذي ذكره بعده وهو «قدّرناه»
قد عمل في الهاء. ووجه ثان في الرفع يكون مرفوعا بالابتداء ، ويقال : القمر ليس هو
المنازل فكيف قال : قدّرنا منازل؟ ففي هذا جوابان :
أحدهما أن تقديره
: قدرناه ذا منازل مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].
والتقدير الآخر : قدّرنا له منازل ثمّ حذف اللام ، وكان حذفها حسنا لتعدّي الفعل
إلى مفعولين مثل (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥].
رفعت الشمس
بالابتداء ، ولا يجوز أن تعمل «لا» في معرفة. وقد تكلّم العلماء في
معنى هذه الآية فقال : بعضهم معناها أن الشّمس لا تدرك القمر فيبطل معناه ، وقيل :
القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه. وأحسن ما قيل في
معناه وأبينه مما لا يدفع أن سير القمر سير سريع فالشمس لا تدركه في السير.
(وَلَا اللَّيْلُ
سابِقُ النَّهارِ) مما قد تكلموا فيه أيضا ، وقال بعضهم : هذا يدلّ على أن
النهار مخلوق قبل الليل وأن الليل لم يسبقه بالخلق ، وقيل : لا يجوز أن يتقدّم
أحدهما صاحبه ؛ لأن وجود هذا عدم هذا ولا يقع فيهما القبل والبعد. وهذا قول أهل
النظر ، وقيل : كل واحد منهما يجيء في وقته لا يسبق أحدهما صاحبه. قال أبو جعفر :
حدّثنا محمد بن الوليد وعلي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : سمعت عمارة بن عقيل
بن بلال بن جرير يقرأ (وَلَا اللَّيْلُ
سابِقُ النَّهارِ) فقلت ما هذا؟ قال : أردت سابق النهار فحذفت التنوين لأنه
أخفّ. قال أبو جعفر : يجوز أن يكون النهار منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف
لالتقاء الساكنين.
هذه الآية من أشكل
ما في السورة لقوله جلّ وعزّ (حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ) لأنهم هم المحمولون. فسمعت علي بن سليمان يقول : الضميران
مختلفان والمعنى : وآية لأهل
__________________
مكة أنّا حملنا
ذريات قوم نوح في الفلك. وفيها قول آخر حسن ، وهو أن يكون المعنى أن الله جلّ وعزّ
خبّر بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من
الذريات والصغار ، ويكون الضميران على هذا متفقين.
(وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) والأصل : يركبونه حذفت الهاء لطول الاسم ، وأنه رأس آية.
وفي معناه ثلاثة أقوال : مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير أنّ معنى «من
مثله» للإبل ، والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب ، والقول الثالث أنه
للسفن ، وهذا أصحّها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس رواه محمد بن فضيل عن عطاء بن
السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) قال : خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وبغير هذا
الإسناد أن ابن عباس احتجّ في أن هذا ليس للإبل بأن بعده (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا
صَرِيخَ لَهُمْ) وهو حسن لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع لأنّه معرفة
وهو (وَلا هُمْ
يُنْقَذُونَ) والنحويون يختارون : لا رجل في الدار ولا زيد.
(إِلَّا رَحْمَةً
مِنَّا) قال الكسائي : هو نصب على الاستثناء ، وقال أبو إسحاق :
نصب لأنه مفعول له أي للرحمة (وَمَتاعاً) معطوف عليه. قال قتادة : (إِلى حِينٍ) أي إلى الموت.
وفي قوله جلّ وعزّ
(ما يَنْظُرُونَ
إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) خمس قراءات : قرأ أبو عمرو وابن كثير وهم يخصّمون بفتح الياء والخاء
وتشديد الصاد ، وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش
فإنهم رووا عنه وهم يخصّمون بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع بين ساكنين وقرأ
عاصم والكسائي (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) بكسر الخاء وتشديد الصاد ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش
وحمزة وهم يخصمون بإسكان الخاء وتخفيف الصاد ، وفي حرف أبيّ وهم يختصمون. قال أبو
جعفر : القراءة الأولى وهم يخصّمون أبينها والأصل : يختصمون فأدغمت التاء في الصاد
فقلبت حركتها إلى الهاء ، وإسكان الخاء
__________________
لا يجوز لأنه جمع
بين ساكنين وليس أحدهما حرف مدّ ولين وإنما يجوز في مثل هذا إخفاء الحركة فلم يضبط
كما لم يضبط عن أبي عمرو (فَتُوبُوا إِلى
بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤]
إلّا من رواية من يضبط اللغة ، كما روى سيبويه عنه أنه كان يختلس الحركة. فأما
«يخصّمون» فالأصل فيه أيضا يختصمون فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء
الساكنين. وزعم الفراء
: أن هذه القراءة أجود وأكثر ، فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء
واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة ، وزعم أنه أجود وأكثر وكيف يكون أكثر
وبالفتح قراءة أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة. قال عكرمة في قوله جلّ وعزّ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً)
[يس : ٢٩] قال : هي النفخة الأولى في الصّور.
(فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً) روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : ينفخ في الصور
والناس في أسواقهم فمن جالب لقحة ، ومن ذارع ثوبا ، ومن مار في حاجة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا
إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) وذكر الفراء فيه قولين أحدهما لا يرجعون إلى أهليهم قولا ، والقول
الآخر لا يرجعون من أسواقهم إلى أهليهم.
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) في معناه قولان : قال قتادة : «الصّور» جمع صورة أي نفخ في
الصّور الأرواح ، وصورة وصور
مثل سورة البناء
وسور. قال العجاج : [الرجز]
٣٦٢ ـ فربّ ذي
سرادق محجور
|
|
سرت إليه في
أعالي السّور
|
وقد روي عن ابن
هرمز أنه قرأ (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) فهذا لا إشكال فيه. فأما «الصّور» بإسكان الواو فالصحيح
فيه أنه القرن جاء بذلك الحديث والتوقيف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة : [الرجز]
٣٦٣ ـ نحن
نطحناهم غداة الغورين
|
|
بالضّابخات في
غبار النقعين
|
نطحا
شديدا لا كنطح الصّورين
|
__________________
(قالُوا يا وَيْلَنا) منصوب على أنه نداء مضاف أي من أيّامك ومن ابّانك ، ويجوز
أن يكون منصوبا على معنى المصدر ، ويكون المنادى محذوفا على أن الكوفيين يقدّرونه «وي
لنا» منفصلة فإذا قيل لهم فلم قلتم : ويل زيد؟ ففتحتم اللام وهي لام خفض ولم قلتم
ويل له؟ فضممتم اللام ونونتموها ثم حكيتم : ويل زيد بالضم غير منوّن اعتلّوا بعلل
لا تصحّ. قال أبو جعفر : وسنذكرها إن شاء الله فيما يستقبل. (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) يقال : كيف قالوا هذا وهم من المعذّبين في قولكم في قبورهم؟
فالجواب أن أبيّ بن كعب قال : ناموا نومة. وقال أبو صالح : إذا نفخ النفخة الأولى
رفع العذاب عن أهل القبور ، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة
فذلك قولهم : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا). قال مجاهد : أي فيقول لهم المؤمنون (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) وقال قتادة : فقال لهم من هدى الله (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) وقال الفراء : أي فقال لهم الملائكة (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ). قال أبو جعفر : وهذه الأقوال متفقة لأن الملائكة من
المؤمنين وممن هدى الله وقرأ مجاهد ويروى عن ابن عباس (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا). قال أبو جعفر : وعلى هذا يتأوّل قول الله جلّ وعزّ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة : ٧] وكذا
الحديث «المؤمن عند الله خير من كلّ ما خلق»
ويجوز أن يكون
الملائكة صلّى الله عليهم وغيرهم من المؤمنين قالوا «هذا ما وعد الرحمن» ، والتمام
على هذا «من مرقدنا» «وهذا» في موضع رفع بالابتداء وخبره «ما وعد الرحمن» ويجوز أن
يكون «هذا» في موضع خفض على النعت لمرقدنا فيكون التمام «من مرقدنا هذا» ويكون «ما
وعد الرحمن» في موضع رفع من ثلاث جهات ذكر أبو إسحاق منها اثنتين ، قال : يكون
بإضمار «هذا» ، والثانية : أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن ، وقال أبو جعفر :
والثالثة: أن يكون بمعنى بعثكم ما وعد الرحمن.
(فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ) مبتدأ وخبره وجميع نكرة و (مُحْضَرُونَ) من نعته.
قال عبد الله بن
مسعود وابن عباس : شغلهم بافتضاض العذارى ، وقال أبو قلابة :
بينما الرجل من
أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول : أنا مع أهلي مشغول فيقال له :
تحوّل أيضا إلى أهلك ، وقيل : أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه
__________________
من اللذات والنعيم
عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار وما هم فيه من أليم العذاب وإن كانوا
أقوياء هم وأهليهم. وقرأ الكوفيون (فِي شُغُلٍ) بضم الشين والغين ، وعن مجاهد (فِي شُغُلٍ) وحكى أبو حاتم : أنّ هذا يروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه
قرأ به وهي لغات بمعنى واحد ويقال : شغل بفتح الشين وإسكان الغين (فاكِهُونَ) خبر إنّ ، وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ فاكهين نصبه على الحال.
مبتدأ وخبره ،
ويجوز أن يكون هم توكيدا (وَأَزْواجُهُمْ) عطفا على المضمر و (مُتَّكِؤُنَ) نعتا لقوله فاكهون.
الدال الثانية
مبدلة من تاء لأنه يفتعلون من دعاء.
(سَلامٌ) مرفوع عن البدل من «ما» ، ويجوز أن يكون «ما» نكرة و «سلام»
نعتا لها أي ولهم ما يدّعون مسلّم ويجوز أن يكون «ما» رفعا بالابتداء (سَلامٌ) خبرا عنها. وفي قراءة عبد الله بن مسعود سلاما يكون مصدرا. وإن شئت في موضع الحال أي ولهم الذي يدّعون
مسلّما و (قَوْلاً) مصدر أي نقوله قولا يوم القيامة ، ويجوز أن يكون معناه قال
الله جلّ وعزّ هذا قولا.
ويقال : تميّزوا
وانمازوا.
(أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ) ويقال : أعهد بكسر الهاء يكون من عهد يعهد. قال أبو إسحاق:
ويجوز أن يكون عهد يعهد مثل حسب يحسب. (أَنْ لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطانَ) قال الكسائي : «لا» للنهي.
__________________
(وَأَنِ اعْبُدُونِي) من كسر النون فعلى الأصل ، من ضم كره كسرة بعدها ضمة.
(وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلًّا) هذه قراءة أهل المدينة والعاصمين ، وقرأ الحسن وابن أبي
إسحاق وعيسى وعبد الله بن عبيد بن عمير والنضر بن أنس (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) بضم الجيم والباء وتشديد اللام ، قرأ ابن كثير والكوفيون
إلا عاصما (جِبِلًّا) بضم الجيم والباء وتخفيف اللام ، وقرأ أبو عمرو (جِبِلًّا) بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام وقرأ أبو يحيى
والأشهب العقيلي (جِبِلًّا) بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. قال أبو جعفر :
فهذه خمس قراءات أبينها القراءة الأولى الدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن
قرءوا (وَالْجِبِلَّةَ
الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٨٤]
ويكون جبل جمع جبلّة. والاشتقاق فيه كلّه واحد ، وإنما هو من : جبل الله الخلق أي
خلقهم وقد ذكرت قراءة سادسة وهي (وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) بالياء. (أَفَلَمْ تَكُونُوا
تَعْقِلُونَ) أي قد كنتم تعقلون ، وهذا على جهة التوبيخ ، وكذا «ألم
أعهد» أي قد عهدت.
(وَلَوْ نَشاءُ
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) أي لو شئنا لأعميناهم في الدنيا عقوبة على عصيان الله جلّ
وعزّ ، ولكنا أخّرنا عقوبتهم إلى يوم القيامة. (فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ) أي فبادروا الطريق إلى منازلهم في أول ما يعمون ليلحقوا
بأهليهم.
(وَلَوْ نَشاءُ
لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) أي لو نشاء لمسخناهم في الموضع الذي اجترءوا فيه على معصية
الله عزوجل. (فَمَا اسْتَطاعُوا
مُضِيًّا) أي فلم يستطيعوا أن يهربوا. (وَلا يَرْجِعُونَ) إلى أهليهم ، وحكى الكسائي : طمس يطمس ويطمس. (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) على مكانتهم يقال : مكان ومكانة ودار ودارة. وحكى ابن
الأعرابي أنّ العرب تقول : في جمع مكان أمكنة ومكنات وأنّ منه حديث النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «أقرّوا الطير على مكناتها» . قال أبو جعفر : مكنات جمع مكنة ، ومكنة ومكان بمعنى واحد.
وقد تكلّم الناس في معنى هذا الحديث فقال : بعض الناس لا تنفروها بالليل ولا
تصطادوها إلّا أن الشافعي رحمهالله فسّره لسفيان بن عيينة على غير هذا ، قال : كانت العرب
تزجر
__________________
الطير في مكناتها
إذا أرادوا الحاجة يتفاءلون بها ويتطيّرون فنهاهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فقال : «أقروا الطّير على مكناتها» أي لا تزجروها
فإن الأمور تجري على ما قضى الله جلّ وعزّ. وقد روي عن عبد الله بن سلام غير هذا
في تأويل هذه الآية وتأولها على أنها يوم القيامة. قال : إذا كان يوم القيامة ومدّ
الصراط نادى مناد ليقم محمد صلىاللهعليهوسلم وأمته فيقومون برّهم وفاجرهم فيتبعونه ليجاوزوا الصراط
فإذا صاروا عليه طمس الله جلّ وعزّ أعين فجارهم فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه
حتى يجاوزوه ثم ينادي ليقم عيسى صلىاللهعليهوسلم وأمته فيقومون برهم وفاجرهم فتكون سبيلهم تلك السبيل ،
وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله عليهم.
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) قال أبو إسحاق : يبدل من القوة ضعفا ، ومن الشباب هرما.
وعاصم والأعمش وحمزة يقرءون (نُنَكِّسْهُ) على التكثير والتخفيف يقع للقليل والكثير بمعنى واحد.
(وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ) وقد صحّ عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : [الرجز]
٣٦٤ ـ أنا
النّبيّ لا كذب
|
|
أنا ابن عبد
المطّلب
|
فتكلّم العلماء في
هذا فقال بعضهم : إنما الرواية بالإعراب فإن كانت بالإعراب لم تكن شعرا لأنه إذا
فتح الباء من البيت الأول أو ضمّها أو نوّنها وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن
وزن الشعر ، وقال بعضهم : ليس هذا الوزن من الشعر. قال أبو جعفر :
وهذا مكابرة
العيان لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. ومن حسن ما قيل في هذا قول
أبي إسحاق : إنّ معنى (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ) أي وما علّمناه أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا ، وهذا لا يمنع
أن ينشد شيئا من الشعر ، وقد قيل إنما خبر الله عزوجل ما علّمه الشعر ، ولم يخبر أنّه لا ينشد شعرا ، وهذا ظاهر
الكلام. وقد قيل فيه قول بين زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة ، وذلك أنهم قالوا
: كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر ، وهذا
قول بيّن. (وَما يَنْبَغِي لَهُ) قال أبو إسحاق : أي وما يتسهّل له ، وتأويله على معنى وما
يتسهّل قول الشعر لا الإنشاد (إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ) أي ما الذي أنزلنا إليك (إِلَّا ذِكْرٌ
وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).
__________________
لتنذر من كان حيّا
... هذه قراءة أهل المدينة ، ومال إليها أبو عبيد ، قال :
والشاهد لها «إنّما
أنت منذر» وقراءة أبي عمرو وأهل الكوفة (لِيُنْذِرَ) يكون معناها لينذر الله جلّ وعزّ ، أو لينذر القرآن ، أو
لينذر محمد صلىاللهعليهوسلم. وقرأ محمد بن السميفع اليماني (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) قال جويبر عن الضحاك : «من كان حيّا» أي من كان مؤمنا أي
لأن المؤمن بمنزلة الحيّ في قبوله ما ينفعه (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ
عَلَى الْكافِرِينَ) أي يحقّ عليهم أن الله جلّ وعزّ يعذّبهم وإنما يحقّ عليهم
هذا بعد كفرهم. وحكى بعض النحويين :
«لتنذر من كان
حيّا» أي لتعلم من قولهم : نذرت بالقوم أنذر إذا علمت بهم فاستعددت لهم وحكي :
ويحق القول على الكافرين بمعنى يوجب الحجة عليهم.
إن جعلت «ما»
بمعنى الذي حذفت الهاء لطول الاسم ، وإن جعلت «ما» مصدرا لم يحتج إلى إضمار الهاء.
وواحد الأنعام نعم والنّعم مذكّر.
(فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قرأت فمنها
ركوبتهم قال أبو جعفر : حكى النحويون الكوفيون أنّ العرب تقول :
امرأة صبور وشكور بغير هاء ، ويقولون : شاة حلوبة ، وناقة ركوبة لأنهم أرادوا أن
يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه فحذفوا الهاء مما كان
فاعلا ، وأثبتوها فيما كان مفعولا ، كما قال عنترة : [الكامل]
٣٦٥ ـ فيها
اثنتان وأربعون حلوبة
|
|
سودا كخافية
الغراب الأسحم
|
فيجب على هذا أن
يكون «ركوبتهم» فأما أهل البصرة فيقولون :
حذفت الهاء على
النسب والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال : الركوبة تكون للواحدة
والجماعة ، والركوب لا يكون إلّا للجماعة. فعلى هذا يكون على تذكير الجمع. وزعم
أبو حاتم أنه لا يجوز «فمنها ركوبهم» بضم الراء لأنه مصدر والرّكوب ما يركب وأجاز
الفراء : «فمنها ركوبهم» بضم الراء ، كما تقول :
فمنها أكلهم ،
ومنها شربهم.
__________________
(وَلَهُمْ فِيها
مَنافِعُ وَمَشارِبُ) لم ينصرفا ، لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد
ولا يجمع.
هذه اللغة الفصيحة
ومن العرب من يأتي بأن فيقول : لعلّه أن ينصر.
(لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ) يعني الآلهة ، وجمعوا على جمع الآدميين لأنه أخبر عنهم
بخبرهم (وَهُمْ) يعني الكفار (لَهُمْ) الآلهة (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) قال الحسن : يمنعون منهم ويدفعون عنهم ، وقال قتادة :
يغضبون لهم.
(فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ) هذه هي اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول : يحزنك (إِنَّا) بكسر الهمزة فيما بعد القول لأنه مستأنف.
(قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) حذفت الضمة من الياء لثقلها ، ولا يجوز الإدغام لئلا يلتقي
ساكنان وكذا (قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ).
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) فذكّر الشجر ومن العرب من يقول : الشجر الخضراء كما قال
جلّ وعزّ : (لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة : ٥٢ ، ٥٣].
وحكي أن سلاما أبا
المنذر قرأ (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم ، فالذي خلق
السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم .
__________________
وقرأ الكسائي
إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون بالنصب عطفا على يقول.
قال سعيد عن قتادة
: (مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ) مفاتح كل شيء. قال أبو جعفر : ملكوتي وملكوت في كلام العرب
بمعنى ملك. والعرب تقول : «جبروتي خير من رحموتي».
٣٧
شرح إعراب سورة الصّافات
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هذه قراءة أكثر
القراء ، وقرأ حمزة بالإدغام فيهن. وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل
لمّا سمعها. قال أبو جعفر : هي بعيدة في العربية من ثلاث جهات :
إحداهنّ أن التاء
ليست من مخرج الصاد ولا من مخرج الزاي ولا من مخرج الذال ، ولا هي من أخواتهن ،
وإنما أختاها الطاء والدال ، وأخت الزاي الصاد والسين ، وأخت الذال الظاء والثاء ،
والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى ، والجهة الثالثة أنك إذا
أدغمت فقلت : والصافات صفّا فجمعت بين ساكنين من كلمتين فإنما يجوز الجمع بين
ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة نحو دابّة. ومجاز قراءة حمزة أن التاء
قريبة المخرج من هذه الحروف «والصافات» خفض بواو القسم والواو بدل من الباء
والتقدير : أحلف بالصّافات ، وحقيقته بربّ الصافات فالزاجرات عطف ، وكذا «فالتاليات».
جواب القسم وأجاز
الكسائي فتح أن في القسم.
(رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) خبر بعد خبر ، ويجوز أن يكون بدلا من واحد ، ويجوز أن يكون
مرفوعا على إضمار مبتدأ ، وحكى الأخفش : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) بالنصب على النعت لاسم «إنّ».
__________________
هذه قراءة الحسن
وأهل المدينة ويحيى بن وثاب وهي المعروفة من قراءة أبي عمرو ، وحكى يعقوب القارئ
أن أبا عمرو والأعمش قرءا بزينة الكواكب بتنوين زينة ونصب الكواكب. وهي المعروفة من قراءة عاصم ،
وأما حمزة فقرأ (بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ) بتنوين زينة وخفض الكواكب ، وقراءة رابعة تجوز وهي بزينة
الكواكب بتنوين زينة ورفع الكواكب فالقراءة الأولى (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بحذف التنوين من زينة للإضافة ، وهي قراءة بيّنة حسنة أي
إنّا زيّنّا السماء الدنيا بتزيين الكواكب أي بحسنها ، وقرأه عاصم بتنوين زينة
ونصب الكواكب فيها ثلاثة أقوال : أحداهنّ أن تكون الكواكب منصوبة بوقوع الفعل
عليها أي بأنا زينا الكواكب ، كما تقول : عجبت من ضرب زيدا. وقال الله عزوجل : (أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤] إلّا
أن هذا أحسن للتفريق ، والقول الثاني أن يكون التقدير : أعني الكواكب ، والقول
الثالث ذكره أبو إسحاق أن يكون الكواكب بدلا من زينة على الموضع لأن موضعها نصب
وقراءة حمزة (بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ) على بدل المعرفة من النكرة.
(وَحِفْظاً) نصب على المصدر والفعل محذوف ، وهو معطوف على «زينا». (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) نعت لشيطان. وكلّ عات من الجنّ والإنس فهو شيطان ، فالعرب
تسميه شيطانا.
(لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر
الكوفيين لا يسمعون على أن الأصل : يتسمّعون فأدغمت التاء في السين لقربها
منها. ومال أبو عبيد إلى هذه القراءة واحتجّ في ذلك أنّ العرب لا تكاد تقول : سمعت
إليه ، ولكن تسمعت إليه ، قال : فلو كان «يسّمّعون الملأ» بغير «إلى» لكان مخفّفا.
قال أبو جعفر : يقال : سمعت منه كلاما وسمعت إليه يقول كذا ومعنى سمعت إليه : أملت
سمعي إليه. فأما قوله : لو كان يسمعون الملأ ، فكأنه غلط ، لأنه لا يقال : سمعت
زيدا ، وتسكت إنما تقول : سمعت زيدا يقول كذا وكذا فيسمعون إلى الملأ على هذا
أبين. وقد روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس : (لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) قال : هم لا يسمعون وهم يتسمّعون. وهذا قول بيّن (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ).
__________________
(دُحُوراً) مصدر ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (دُحُوراً) بفتح الدال يجعله مصدرا على فعول بمنزلة القبول وأما
الفراء فقدّره على أنه اسم الفاعل أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء
والكوفيون يستعملون هذا كثيرا ، كما أنشدوا لجرير : [الوافر]
٣٦٦ ـ تمرّون
الدّيار ولم تعوجوا
|
|
كلامكم عليّ إذا
حرام
|
قال أبو جعفر :
وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول : قرأت على عمارة
بن عقيل بن بلال بن جرير «مررتم بالديار».
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ) فيه لغات قد قرئ ببعضها ، وهي غير مخالفة للخطّ يقال :
إذا أخذ الشيء
بسرعة خطف وخطف وخطّف وخطّف وخطّف والأصل المشدّدات اختطف فأدغمت التاء في الطاء
لأنها أختها وفتحت الخاء ، لأن حركة التاء ألقيت عليها ومن كسرها فلالتقاء
الساكنين ، ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر. (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ
ثاقِبٌ) نعت لشهاب. قال أبو إسحاق : يقال : تبعه وأتبعه إذا مضى في
أثره وشهاب وشهب ، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يسمع من العرب ، وحكى الأخفش
سعيد : في الجمع شهب ثقب وثواقب وثقاب ، وحكى الكسائي : ثقب يثقب ثقابة وثقوبا.
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) «من» بمعنى الذين
والمعنى : أم الذين خلقناهم وقد تقدّم ذكر الملائكة وغيرهم (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ). وحكى الفراء عن العرب طين لاتب بمعناه أي لازق.
هذه قراءة أهل المدينة
وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما (بَلْ عَجِبْتَ) بضم التاء وإليها يذهب أبو عبيد ، واحتجّ بقول الله جلّ
وعزّ (وَإِنْ تَعْجَبْ
__________________
فَعَجَبٌ
قَوْلُهُمْ) [الرعد : ٥] ولا
حجة فيه. ومعناه على ما قاله أبو حاتم : وإن تعجب فلك في قولهم عجب ولمن سمعه وفيه
عجب. والقراءة بضم التاء مروية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن ابن مسعود رحمهالله رواها شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود
أنه قرأ (بَلْ عَجِبْتَ) بضم التاء ويروى عن ابن عباس قال أبو جعفر : سمعت علي بن
سليمان يقول : معنى القراءتين واحد ، والتقدير : قل : يا محمد بل عجبت لأن النبيّ صلىاللهعليهوسلم مخاطب بالقرآن ،
وهذا قول حسن. (وَيَسْخَرُونَ) بالسين في السواد ، ويجوز في غير القرآن عند الخليل رحمهالله أن يقال : «صخرت منه» بالصاد ، ولغة شاذة «سخرت به»
بالياء.
أي يستدعون
السّخريّ و «إذا» في موضع نصب بإضمار فعل قبلها ، ولا يعمل فيها ما بعدها. وحكى
الكسائي : دخر يدخر دخورا.
(فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) والجمع زجرات بتحريك الجيم فرقا بين الاسم والنعت.
(وَقالُوا يا وَيْلَنا) منصوب على أنه مصدر عند البصريين ، وزعم الفراء أن تقديره
يا وي لنا. ووي بمعنى : حزن ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل ، ولا
نعلم أحدا يكتبه إلّا متصلا فزاد الكوفيون على هذا ، فحكى بعضهم لغات شتّى أنه
يقال : ويل للشيطان ، وويلا للشيطان ، وويل للشيطان ، وويل الشيطان ، وويل الشيطان
، وويل الشيطان. فأما ويل للشيطان فبيّن لا نظر فيه ، وويلا للشيطان جائز بمعنى :
ألزمه الله ويلا ، وأما ويل للشيطان فشاذّ وهو مشبّه بالأصوات. فأما ويل الشيطان
فهو عند البصريين منصوب على معنى ألزمه الله ويلا أيضا ، وقال الفراء : لمّا كثر
استعمالهم إيّاه جعلوه بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم ، كما قالوا : يا لبكر ، وهي لام
الخفض ، ومن قال : ويل الشيطان جاء به على الأصل ، ومن قال : ويل الشيطان فالأصل
عنده ويل للشيطان ثم حذف لكثرة اللامات كما قرئ (إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) [الأعراف : ١٩٦]
بمعنى إنّ وليّي الله فحذف لكثرة الياءات. قال أبو جعفر :
لا تعرف هذه
القراءة ولكن قرأ عاصم الجحدري إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب بمعنى إنّ وليّ
الله الذي نزّل الكتاب جبريل صلىاللهعليهوسلم الذي نزّل الكتاب ثمّ أقيم النعت مقام المنعوت. (هذا يَوْمُ الدِّينِ) ابتداء وخبر. قال أبو جعفر : قال الضحاك وعطية العوفي : أي
هذا يوم الحساب.
«الذي» في موضع
رفع على النعت لليوم ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت للفصل.
(احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) معطوف على «الذين». وواحدهم زوج قال سفيان عن سماك عن
النعمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : (وَأَزْواجَهُمْ) قرناؤهم وهو مبيّن في حديث شريك عن سماك عن النعمان قال :
سمعت عمر بن الخطاب يقول في قول الله جلّ وعزّ : (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال : الزاني مع الزاني ، وشارب الخمر مع شارب الخمر ،
وصاحب السرقة مع صاحب السرقة. وقال سفيان عن أبيه عن المسيب بن رافع عن ابن عباس «احشروا
الذين ظلموا وأزواجهم» قال :
أشباههم. قال أبو
جعفر : وهذه الأقوال لا تدفع لجلالة قائلها وأنها معروفة في اللغة يقال : هذا زوج
هذا أي قرينه وشبهه ، ومن هذا قيل للرجل : زوج المرأة وللمرأة زوج الرجل وقيل
للخفّين: زوجان لأن كل واحد منهما زوج لصاحبه ، ولا يقال للاثنين إلا زوجان. وقال
سعيد عن قتادة (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) ، قال : الكفار مع الكفار. (وَما كانُوا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال الأصنام (فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ) يقال : هديته إلى الطريق وهديته الطريق أي دللته عليه ،
وأهديت الهديّة وهديت العروس ويقال أهديتها أي جعلتها بمنزلة الهدية.
وحكى عيسى بن عمر
أنهم بفتح الهمزة. قال الكسائي : أي لأنهم وبأنهم.
في موضع نصب على
الحال.
قال قتادة
مستسلمون في عذاب الله.
(وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فربما توهم الجاهل أن هذا من قول جلّ وعزّ : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ
وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١]
وليس منه في شيء ؛ لأن قوله جلّ وعزّ (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) إنما هو لا يتساءلون بالأرحام فيقول أحدهم :
أسألك بالرحم التي
بيني وبينك إمّا نفعتني أسقطت حقّا لك عليّ أو وهبت لي حسنة لأن قبله : فلا أنساب
بينهم أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم كما جاء بالحديث «إنّ الرجل يوم القيامة
ليسرّ بأن يصحّ له على أبيه أو على ابنه حقّ فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات» ، وفي حديث آخر «رحم الله امرأ كانت لأخيه عنده مظلمة في
مال أو عرض فأتاه فاستحلّه قبل أن يطلبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات
زيد عليه من سيئات المطالب» و «يتساءلون»
هاهنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبّخه في أنه أضلّه أو فتح له بابا من المعصية
يبيّن ذلك أنّ بعده (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قال سعيد عن قتادة : أي تأتونا عن طريق الخير وتصدّوننا ،
وعن ابن عباس نحو منه ، وقيل : تأتوننا عن اليمين من الجهة التي نحبّها وننقاد
إليها وتغرّونا بذاك. والعرب تتفاءل لما كان على اليمين ، وتسميه السانح وقيل :
تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدّقناه.
قال قتادة : هذا
قول للشياطين لهم.
(سُلْطانٍ) في موضع رفع لأن «من» زائدة للتوكيد. (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي متزايدين في الكفر ، وطغى الماء إذا زاد.
(فَحَقَّ عَلَيْنا
قَوْلُ رَبِّنا) أي فحقّ علينا ما كتبه الله جلّ وعزّ ، وما أعلم به
ملائكته صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا موافق للحديث «إنّ الله جلّ وعزّ كتب للنار
أهلا وللجنّة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم» .
أي كنا سببا
لغيّكم.
أي الضالّ والمضلّ
، ولو كان في غير القرآن لجاز نصب مشتركين.
الكاف من كذلك في
موضع نصب نعت لمصدر.
__________________
يكون يستكبرون في
موضع نصب على خبر كان ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر «إنّ» وكان ملغاة.
الأصل لذائقون
حذفت النون استخفافا ، وخفضت للإضافة ، ويجوز النصب ، كما أنشد سيبويه : [المتقارب]
٣٦٧ ـ فألفيته
غير مستعتب
|
|
ولا ذاكر الله
إلّا قليلا
|
وأجاز سيبويه (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) [الحج : ٣٥] على
هذا.
نصب على
الاستثناء.
(فَواكِهُ) بدل من رزق.
قال عكرمة : لا
ينظر بعضهم في قفا بعض ، ويجوز سرر لثقل الضمة مع التضعيف.
روي عن ابن عباس
قال : الخمر ، وعن مجاهد قال : هي خمر بيضاء ، وقال الضحاك : كل كأس في القرآن فهي
خمر ، وحكي من يوثق به من أهل اللغة أنّ العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر : كأس
فإن لم يكن فيه خمر فهو قدح ، كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام : مائدة فإن لم
يكن عليه طعام لم يقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان : ومثله ظعينة للهودج إذا
كانت فيه امرأة. قال أبو إسحاق : بكأس من معين :
خمر تجري العيون
على وجه الأرض.
قال : و (لَذَّةٍ) بمعنى ذات لذّة.
__________________
(لا فِيها غَوْلٌ) ويقال بمعناه : غيلة وغائلة ، وهو ما يؤذي الإنسان من
الصداع أو غيره (وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ) قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين
إلّا عاصما (يُنْزَفُونَ) بكسر الزاي. قال أبو جعفر : والقراءة الأولى أبين وأصحّ في
المعنى لأن معنى «ينزفون» عند جلّة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم فنفى
الله جلّ وعزّ عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع
والسكر. فأما معنى «ينزفون» فالصحيح فيه أنه يقال : أنزف الرجل إذا نفد شرابه ،
وهذا يبعد أن يوصف به شراب أهل الجنة ، ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفذ أبدا.
عن ابن عباس
ومجاهد ومحمد بن كعب قالوا : قصرن طرفهنّ على أزواجهن فلا يبغين غيرهم ، وقال
عكرمة : قاصرات الطرف أي محبوسات على أزواجهن والتفسير الأول أبين لأنه ليس في
الآية مقصورات موضع آخر (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) [الرحمن :
٧٢] من قول العرب
امرأة قصيرة ومقصورة إذا حبست على زوجها. (عِينٌ) جمع عيناء والأصل فيه فعل فكسرت العين لئلا تنقلب الياء
واوا.
قال مطر الوراق :
أي بيض محضون أي لم توسّخه الأيدي. قال أبو جعفر :
هكذا تقول العرب
إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة كأنه بيض النّعام المغطّى بالريش.
(فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) وإدغام التاء في السين جائز في العربية. قال الأخفش : إنما
سأل عن صاحبه ثم أخبر فقال (إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ) قال سعد بن مسعود :
وشريكه قرينه ،
وهما رجلان من بني إسرائيل اشتركا في تجارة فربحا ستة آلاف دينار ، فأخذ كل واحد
منهما ثلاثة آلاف دينار ، فافترقا فلقي أحدهما صاحبه فقال له : هل علمت أني تزوجت
امرأة من أفضل نساء بني إسرائيل بألف دينار؟ فمضى صاحبه فأخذ ألف دينار تصدّق بها
على المساكين والفقراء وقال : اللهمّ إنّ صاحبي تزوّج امرأة يموت عنها ، ويكبر
وتفارقه ، وأني أسألك أن تنكحني امرأة من نساء أهل الجنّة بهذه الألف ،
__________________
ثم إنّ صاحبه لقيه
فقال له : هل علمت أني اشتريت مسكنا من أفضل مساكن بني إسرائيل بألف دينار؟ فمضى
صاحبه فتصدّق بألف دينار على الفقراء والمساكين وقال :
اللهم إني اشتريت
منك مسكنا من مساكن أهل الجنّة بهذه الألف دينار ، ثمّ لقي صاحبه فقال : هل علمت
أني اشتريت جنة من أفضل جنة بني إسرائيل بألف دينار فصرت من أفضلهم بزوجتي ومسكني
وجنتي؟ فمضى صاحبه فتصدّق بالألف الباقي على الفقراء والمساكين وقال : اللهم إنّي
قد اشتريت منك جنة الخلد بهذا الألف ، ثمّ إنّ صاحبه الذي اكترى أجراء لجنّته فإذا
هو بصاحبه فيهم فعرفه فدعا به فقال له أشحّ هذا أم أفسدت ملكك فحدّثه بالقصة ،
فقال له : أتتوهّم أنك ستبعث ثم تدان بما علمت أنك لمغرور وإنّ هذا لباطل ، ففيهما
أنزل الله جلّ وعزّ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) إلى (مِنَ الْمُحْضَرِينَ).
قال أبو جعفر :
التقدير (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بأنّا مدينون أي محاسبون مجاوزون بأعمالنا ثم حذفت الياء
وكسرت «إنّ» ، لأن في خبرها اللام ، ولا يجوز أنك لمن المصدّقين لأنه لا معنى
للصدقة هاهنا.
وحكي (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) . قال أبو إسحاق : يقال : طلع ، وأطلع بمعنى واحد ، وقد حكي
: (هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ) بكسر النون وهي لحن لا يجوز لأنه جمع بين النون والإضافة ،
ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعيّ ، وإن كان سيبويه والفراء حكيا مثله ، وأنشدا :
[الطويل]
٣٦٨ ـ هم
القائلون الخير والآمرونه
|
|
إذا ما خشوا من
محدث الأمر معظما
|
وإنشاد الفراء «والفاعلونه»
وأنشد سيبويه وحده : [الطويل]
٣٦٩ ـ ولم يرتفق
والنّاس محتضرونه
|
|
جميعا وأيدي
المعتفين رواهقه
|
وأنشد الفراء وحده
: [الوافر]
٣٧٠ ـ وما أدري
وظنّي كلّ ظنّ
|
|
أمسلمني إلى
قومي شراح
|
__________________
أما البيتان
اللذان أنشدهما سيبويه وشركه الفراء في أحدهما فلا يعرف من قالهما ولا تثبت بهما
حجّة ، ولو عرف من قالهما لكانا شاذين خارجين عن كلام العرب وما كان هكذا لم يحتجّ
به في كتاب الله جلّ وعزّ ، ولا يدخل في الفصيح.
وأما البيت الذي
أنشده الفراء فالقول فيه ما حكاه أبو إسحاق قال : أنشدنا محمد بن يزيد «أأسلمني»
وزعم الفراء أنه يريد بشراح شراحيل. وهذا من أقبح الضرورات أن يرخّم في غير النداء
وإنما لم يجز «هل أنتم مطلعون» بكسر النون لأنه جاء إلى ما لا ينفصل مما قبله
بالنون وهذا ما لا وجه له ، وهذا قول من يوثق به من النحويين منهم محمد بن يزيد ،
وهو أيضا قول الفراء غير أنه أفسده بعد ذلك فقال : ضاربني مشبّه بيضربني.
وحكي (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ) وفيه قولان : أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا أي فأطلع أنا ،
ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام ، والقول الثاني على أن يكون فعلا ماضيا
ويكون أطلع واطلع واحدا (فَرَآهُ فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ) عن عبد الله بن مسعود قال : في وسطها والحسك حواليه.
قال الكسائي : أي
لثهّلكني ، وقال محمد بن يزيد : لو قيل : لتردين لتوقعني في النار لكان جائزا.
ما بعد لو لا
مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. قال الفراء : أي لكنت معك في النار
محضرا.
(إِلَّا مَوْتَتَنَا
الْأُولى) يكون استثناء ليس من الأول ، ويكون مصدرا لأنه منعوت.
يكون هو مبتدأ ،
وما بعده خبرا عنه ، والجملة خبر «إنّ» ويجوز أن يكون هو فاصلا.
__________________
والأصل ليعمل بكسر
اللام ، فحذفت الكسرة لثقلها. والتقدير ـ والله جلّ وعزّ أعلم ـ فليعمل العاملون
لمثل هذا فإن قال قائل : فالفاء في العربية تدلّ على أن الثاني بعد الأول فكيف صار
ما بعدها ينوى به التقديم؟ فالجواب أنّ التقديم كمثل التأخير لأنّ حقّ حروف الخفض
وما معها أن تكون متأخرة.
(أَذلِكَ خَيْرٌ) مبتدأ وخبره (نُزُلاً) على البيان والمعنى أنعيم أهل الجنة خير نزلا أم شجرة
الزقوم خير نزلا والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة وكذا النّزل والنزل إلّا أنه
يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة ، ويجوز أن يكون أصله النّزل فحذفت الضمة
لثقلها ، ومنه : أقيم للقوم نزلهم. واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه ،
ويقيموا فيه. وشجرة الزقوم مشتقّة من التزقّم ، وهو البلع على الجهد والشدّة ،
فقيل لها شجرة الزقوم لأنهم يبتلعونها على جهد وتقف في حلوقهم لكراهيتها ونتنها.
مفعولان.
(إِنَّها شَجَرَةٌ) خبر «إن» ولا يجوز حذف الألف من «إنها» كما حذفت الواو من
إنه لثقل الواو وخفة الألف. (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ) خبر بعد خبر مثل (كَلَّا إِنَّها لَظى
نَزَّاعَةً لِلشَّوى) [المعارج : ١٦]
ويجوز أن يكون تخرج نعتا للشجرة.
(طَلْعُها) مبتدأ ، وخبره في الجملة أو تجعل الكاف بمعنى مثل فتكون
خبرا.
(فَإِنَّهُمْ
لَآكِلُونَ مِنْها) دخلت اللام للتوكيد ، وكذا (لَشَوْباً) حكى الفراء شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء سواهما
يشوبهما شوبا وشابة.
قال الفراء : الإهراع الإسراع فيه شبيه بالرعدة ، وقال محمد بن يزيد :
المهرع
__________________
المستحب يقال : جاء
فلان يهرع إلى النار إذا استحثّه البرد إليها ، وحكى أبو إسحاق :
هرع وأهرع جميعا.
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ) من النداء الذي هو استغاثة ودعاء. (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال الكسائي : فلنعم المجيبون له كنا.
(وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ) عطف على الهاء.
(وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ) مفعول أول و (هُمُ) زائدة تسمّى فاصلة (الْباقِينَ) مفعول ثان. فأما معنى (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) فمن أحسن ما روي فيه ما ذكر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن
سعيد بن المسيّب في قوله جلّ وعزّ (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أنّ الناس كلّهم من ولد نوح صلىاللهعليهوسلم ، وأنهم كلّهم من ثلاثة أولاد لنوح سام وحام ويافث فالعرب
يعني يمنيها ونزارها والروم والفرس من ولد سام ، والسودان يعني أجناسهم من السند
والهند والزغاوة وغيرهم والبربر والقبط من ولد حام ، والصقالب والترك ويأجوج
ومأجوج من ولد يافث. والخير في ولد سام. قال أبو جعفر : صرفت نوحا وساما وإن كانت
أسماء أعجمية لأنها على ثلاثة أحرف فخفّت. هذا الصحيح ، وقد قيل إنها عربية مشتقة.
زعم الكسائي أن
فيه تقديرين : أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال : سلام على نوح أي تركنا عليه
هذا الثناء ، وهذا مذهب أبي العباس ، قال : والعرب تحذف القول كثيرا. والقول الآخر
أن يكون المعنى : وألقينا عليه وتمّ الكلام ثم ابتدأ فقال : سلام على نوح. قال
الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود سلاما منصوب بتركنا أي تركنا عليه ثناء حسنا.
أي يبقى عليهم
الثناء الحسن ، والكاف في موضع نصب أي جزاء كذلك.
__________________
الواحد : آخر
والأصل فيه أن يكون معه «من» إلا أنها حذفت ؛ لأن المعنى معروف لا يكون آخر ومعه
شيء من جنسه.
نصب بإنّ.
قال عوف الأعرابي
: سألت محمد بن سيرين : ما القلب السليم؟ فقال : الناصح لله في خلقه.
تكون «ما» في موضع
رفع بالابتداء و «ذا» خبره ، ويجوز أن تكون «ما» و «ذا» في موضع نصب بتعبدون.
(أَإِفْكاً) نصب بتعبدون. قال أبو العباس محمد بن يزيد : والإفك أسوأ
الكذب وهو الذي لا يثبت ويضطرب ، ومنه ائتفكت بهم الأرض ، (آلِهَةً) بدل من إفك.
(فَما ظَنُّكُمْ) مبتدأ وخبره.
يكون جمع نجم ،
ويكون واحدا مصدرا ، وهذا قول الخليل أي فيما نجم له من الرأي.
عن ابن عباس قال :
مريض ، وقال الضحاك : أي مطعون فينحّوا عنه لئلا يعديهم. وصدق إبراهيم في هذا لأن
كلّ أحد سيسقم بالموت ، كما قال جلّ وعزّ (إِنَّكَ مَيِّتٌ) [الزمر: ٣٠] فالمعنى إني سقيم فيما استقبل فتوهّموا أنه
سقيم الساعة.
قال أبو جعفر :
وهذا من معاريض الكلام.
نصب على الحال.
(فَراغَ إِلى
آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) فخاطبها كما يخاطب من يعقل ، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة
في عبادتهم إياها ، وكذا «قال ألا تأكلون» متعجبا منها ، وكذا (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) وكذا (فَراغَ عَلَيْهِمْ) ولم يقل : عليها ولا عليهنّ (ضَرْباً) مصدر ، وقرأ مجاهد ويحيى بن وثاب والأعمش (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) بضم الياء وزعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة وقد عرفها
جماعة من العلماء منهم الفراء وشبّهها بقولهم : أطردت الرجل ، أي صيّرته إلى ذلك
وطردته نحّيته. وأنشد هو وغيره : [الطويل]
٣٧١ ـ تمنّى
حصين أن يسود جذاعه
|
|
فأضحى حصين قد
أذلّ وأقهرا
|
أي صيّر إلى ذلك
فكذا «يزفّون» يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن يزيد :
الزفيف : الإسراع
، وقال أبو إسحاق : الزفيق : أول عدو النعام. قال أبو حاتم : وزعم الكسائي أنّ
قوما قرءوا (فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) من وزف يزف مثل وزن يزن فهذه حكاية أبي حاتم ، وأبو حاتم
لم يسمع من الكسائي شيئا. وروى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف «يزفون» مخفّفة.
قال الفراء : وأنا لا أعرفها. قال أبو إسحاق :
وقد عرفها غيرهما
أنه يقال : وزف يزف إذا أسرع ، ولا أعلم أحدا قرأ «يزفون».
ويقال : نحت ينحت
وينحت ؛ لأنه فيه حرف من حروف الحلق.
«ما» في موضع نصب
أي : وخلق ما تعلمون ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بيعملون أي : وأيّ شيء تعملون.
قال عبد الله بن
عمرو بن العاص : فلمّا صار في البنيان قال : حسبي الله ونعم الوكيل.
والأصل إنّني حذفت
لاجتماع النونات.
__________________
أي صالحا من الصالحين وحذف مثل هذا
كثير.
أي إنه يكون حليما
في كبره.
قال أبو جعفر :
فاختلف العلماء في المأمور بذبحه ، فقال أكثرهم : الذبيح إسحاق فممن قال ذلك
العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله ذلك الصحيح عنه ورواه الثوري عن داود بن أبي
هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : المفديّ إسحاق. وروى الثوري وابن جريج عن عبد الله
بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :
الذبيح إسحاق ،
وهذا هو الصحيح عن عبد الله بن مسعود رواه شعبة عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن عبد
الله بن مسعود : أن رجلا قال : أنا ابن الأشياخ الكرام ، فقال عبد الله : ذاك يوسف
بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله ، وقد روى حمّاد ابن زيد عن
محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين» . وروى أبو الزبير عن جابر قال : الذّبيح إسحاق ، وذلك
مرويّ أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن عمر أنّ الذبيح إسحاق عليهالسلام ، فهؤلاء ستة من الصحابة ومن التابعين وغيرهم منهم علقمة
والشّعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس وكعب الأحبار
قالوا : الذبيح إسحاق صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو جعفر :
أما من قال : هو إسماعيل صلىاللهعليهوسلم فأبو هريرة ، وهو يروي عن ابن عمر ثم تكلّم العلماء بعد
ذلك فمنهم من قال : نصّ التأويل يدلّ على أنه إسماعيل عليهالسلام لأن الله جلّ وعزّ قال : (وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) [الصافات : ١١٢]
فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا فهذا قد قيل ، وليس بقاطع والله جلّ وعزّ
أعلم لأن البشارة بنبوته في ما روي بشارة ثابتة بعد الأمر بذبحه ثوابا على ما كان
منه. فأمّا وعده بأن يكون من إسحاق ابن ، فكيف يأمره بذبحه فقد يجوز أن يكون ولد
لإسحاق غير ولد لأنه قد بلغ السعي ، فظاهر التنزيل يدلّ على أن الذبيح إسحاق ؛
لأنه أخبر جلّ وعزّ أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم حين قال : (هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فإذا كان
__________________
المفدّى هو
المبشّر به وقد بيّن أن الذي بشر به هو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وأن كلّ موضع
من القرآن ذكر بتبشيره إياه بولد فهو إسحاق نبيا أي بتبشيره إياه بقوله فبشرناه
بغلام حليم إنما هو إسحاق ، فأما اعتلال من اعتلّ بأن قرني الكبش كانا معلّقين في
الكعبة فليس يمتنع أن يكون حمل من الشام إلى مكّة على أن جماعة من العلماء قد
قالوا كان الأمر بالذبح. فأما قوله : (إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) فمن المشكل وقد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم : كان
إبراهيم صلىاللهعليهوسلم أمر إذا رأى رؤيا فيها كذا وكذا أن يذبح ابنه واستدلّ صاحب
هذا القول بأنها في قراءة ابن مسعود إنّي أرى في المنام أفعل ما أمرت به فهذه
قراءة على التفسير دالّة على أنه أمر بهذا قبل إذ كان مما لا يؤتى مثله برؤيا ،
وقال صاحب هذا القول : وقد ذبحه إبراهيم صلىاللهعليهوسلم لأن معنى ذبحت الشيء قطعته ، وليس هذا مما يجوز أن ينسخ
بوجه. واستدلّ عليه بقول مجاهد : قال إسحاق لإبراهيم عليهماالسلام : لا تنظر إلى وجهي وترحمني ، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض
فأخذ إبراهيم السكين فأمرّها على خلفة فانقلبت فقال له : ما لك؟ فقال : انقلبت
السكين ، قال : اطعنّي بها طعنة ففعل ، ثم فداه الله جلّ وعزّ. قال ابن عباس :
فداه الله بكبش قد رعى في الجنّة أربعين سنة. وقال الحسن : ما فدى الله إسماعيل
إلّا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير. قال أبو إسحاق : يقال إنه فدي بوعل ،
والوعل : التيس الجبليّ ؛ وأهل التفسير على أنه فدي بكبش. (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي ماذا تأتي به من رأيك. وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) .
قال الفراء : المعنى : فانظر ما ذا تري من صبرك أو جزعك ، وأما غيره
فقال : معناه ما ذا تشير وأنكر أبو عبيد «تري» ، وقال : إنما يكون هذا من رؤية
العين خاصّة ، وكذا قال أبو حاتم. قال أبو جعفر : وهذا غلط هذا يكون من رؤية العين
وغيرها وهو مشهور يقال : أريت فلانا الصواب ، وأريته رشده ، وهذا ليس من رؤية
العين. (قالَ يا أَبَتِ
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) والقول الآخر في رؤيا إبراهيم صلىاللهعليهوسلم أنه لم يعزم على ذبحه من أجل الرّؤيا ، وإنما أضجعه ينظر
الأمر ألا ترى أنه قال : يا أبت افعل ما تؤمر أي إن أمرت بشيء فافعله.
(فَلَمَّا أَسْلَما) قال قتادة : أسلم أحدهما لله جلّ وعزّ نفسه وأسلم الآخر
ابنه. (وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) يقال : كبه وحوّل وجهه إلى القبلة ، وجواب لمّا محذوف عند
البصريين أي فلمّا أسلما سعدا وأجزل لهما الثواب. وقال الكوفيون : الجواب (نادَيْناهُ) والواو زائدة.
__________________
قال أبو جعفر :
والواو من حروف المعاني فلا يجوز أن تزاد. وفي قراءة ابن مسعود فلما سلّما
وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا أي فعلت ما أمرت به ، وما رأيته في النوم.
(إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة.
أي النعمة الظاهرة
يقال : أبلاه الله بلاء وإبلاء إذا نعم عليه ، وقد يقال : بلاه قال زهير : [الطويل]
٣٧٢ ـ جزى الله
بالإحسان ما فعلا بكم
|
|
وأبلاهما خير
البلاء الّذي يبلو
|
فزعم قوم أنه جاء
باللغتين ، وقال آخرون : بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره ولا يقال في الاختبار
إلّا بلاه يبلوه ، ولا يقال من الابتلاء بلاه. وأصل هذا كلّه من الاختبار لأن
الاختبار يكون بالخير والشرّ. قال جلّ وعزّ (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥]
وقال ابن زيد : هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه ، قال : وهذا من البلاء
المكروه.
الذبح اسم المذبوح
وجمعه ذبوح ، والذبح بالفتح المصدر.
وروى الثوري عن
داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) قال : بشّر بنبوّته ، وذهب إلى أنّ البشارة به كانت مرتين.
(وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ) أي ثبتنا عليهما النعمة.
قال أبو إسحاق :
في معنى (وَنَجَّيْناهُما
وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من الغرق الذي لحق آل فرعون.
(وَنَصَرْناهُمْ) موسى وهارون وقومهما ، وذهب الفراء إلى أنه لموسى وهارون وحدهما واعتلّ بأن الاثنين جمع.
__________________
روى أبو إسحاق عن
عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود قال : إسرائيل هو يعقوب وإلياس : هو إدريس ،
وقيل : هو الخضر قال الفراء : إن أخذت إلياس من الأليس صرفته.
روى الحكم بن أبان
عن عكرمة عن ابن عباس (أَتَدْعُونَ بَعْلاً).
قال صنما ، وروى
عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) قال: ربّا. قال أبو جعفر : القولان صحيحان أي تدعون صنما
عملتموه ربّا. (أَتَدْعُونَ) بمعنى أتسمّون ، حكى ذلك سيبويه (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ).
بالنصب قراءة
الربيع بن خثيم والحسن وابن أبي إسحاق ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي
وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم ، وحكى أبو عبيد : أنها على النعت. قال أبو جعفر :
وهذا غلط وإنما هو البدل ولا يجوز النعت هاهنا لأنه ليس بتحلية ، وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع الله ربكم بالرفع.
قال أبو حاتم :
بمعنى هو الله ربّكم. قال أبو جعفر : وأولى مما قال إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا
حذف ، ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن الرفع أولى وأحسن لأن قلبه رأس آية
فالاستئناف أولى.
قراءة الأعرج
وشيبة ونافع وفيها قراءتان أخريان : قرأ عكرمة وأبو عمرو وحمزة والكسائي سلام على
إلياسين وقرأ الحسن سلام على الياسين بوصل الألف كأنها «ياسين» دخلت عليها الألف واللام
للتعريف. فمن قرأ سلام على آل ياسين كأنه والله أعلم جعل اسمه «الياس» و «ياسين»
ثم سلّم على آله أي أهل دينه ومن كان على مذهبه وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله
فهو داخل في السلام ، كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم «صلّ على آل أبي
أوفى» وقال جلّ وعزّ (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] فأما «الياسين»
فللعلماء فيها غير قول روى هارون عن ابن أبي إسحاق
__________________
قال : إلياسين مثل
إبراهيم يذهب إلى أنه اسم له وأبو عبيد يذهب إلى أنه جمع جمع التسليم على أنه وأهل مذهبه يسلّم
عليهم ، وأنشد : [الرجز]
٣٧٣ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي
وإنما يريد أبا
خبيب عبد الله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه ، وغير أبي عبيدة
يرويه «الخبيبين» على التثنية يريد عبد الله ومصعبا. قال أبو جعفر : ورأيت علي بن
سليمان يشرحه بأكثر من هذا الشرح ، قال : العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل
منهم فيقولون : المهالبة على أنهم سمّوا كلّ واحد بالمهلّب ، قال : فعلى هذا «سلام
على الياسين» سمّى كل رجل منهم الياس. وقد ذكر سيبويه «في كتابه» شيئا من هذا إلّا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على وجه
النسبة فيقولون : الأشعرون يريدون به النسب ، واحتجّ أبو عبيدة في قراءته «سلام
على الياسين» وأن اسمه كما أن اسمه الياس لأنه ليس في السورة «سلام على آل» لغيره
من الأنبياء صلّى الله عليه ، وكما سمّي الأنبياء ، كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج
أصله لأبي عمرو بن العلاء وهو غير لازم لأنّا قد بيّنا قول أهل اللغة أنّه إذا سلم
على آله من أجله فهو مسلم عليه والقول بأنّ اسمه الياس والياسين يحتاج إلى دليل
ورواية فقد وقع في الأمر إشكال كان الأولى اتباع الخط الذي في المصحف وفي المصحف «سلام
على آل ياسين» بالانفصال فهذا ما لا إشكال فيه. وللفراء في هذا قول حسن ليس بالمشروع سنذكره ونشرحه إن شاء الله ،
وذلك أنه شبهه بقول الله جلّ وعزّ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ) [المؤمنون : ٢٠]
وقال جلّ وعزّ : (وَطُورِ سِينِينَ) [التين : ٢]. قال
وهما بمعنى واحد وموضوع واحد وشرح هذا أن الياس اسم أعجمي والأسماء الأعجمية إذا
وقعت إلى العرب غيّرتها بضروب من التغيير فيقولون إبراهيم وإبراهيم وإبرهام هكذا
أيضا سيناء وسنين والياس والياسين ويس في قراءة «سلام على آل ياسين» بمعنى واحد. (إِلَّا عَجُوزاً) نصب على الاستثناء و (مُصْبِحِينَ) نصب على الحال.
(وَبِاللَّيْلِ) عطف على المعنى أي في الصبح وفي الليل.
لم ينصرف لأنه اسم
أعجميّ ولو كان عربيا لانصرف ، وإن كانت في أوله الياء لأنه
__________________
ليس في الأفعال
يفعل ، كما أنك إذا سمّيت بيعفر صرفته وإن سمّيته بيعفر لم تصرفه.
(إِذْ أَبَقَ) قال محمد بن يزيد : أصل أبق تباعد ومنه : غلام آبق وأبق
وقال غيره :
إنما قيل يونس أبق
لأنه خرج لغير أمر الله جلّ وعزّ مستترا من الناس. (إِلَى الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) قال الفراء : الفلك يذكّر ويؤنّث ويذهب به إلى معنى الجميع ، وقال غيره
:
إذا ذهب به إلى
معنى الجمع فهو جمع فلك مثل : وثن ووثن.
(فَساهَمَ) قال محمد بن يزيد : فقارع قال : وأصله من السّهام التي
تجال (فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) أي من المغلوبين به. قال الفراء : يقال : دحضت حجّته وأدحضها الله وأصله من الزلق.
من ألام إذا أتى
بما يجب أن يلام عليه مثل : أحمق فهو محمق ، فأما الملوم فهو الذي يلام استحق ذلك
أو لم يستحق.
قال الكسائي : لم
يكسر «أنّ» لدخول اللام لأن اللام ليست لها. قال أبو جعفر :
والأمر كما قال
إنما اللام في جواب لو لا وعن ابن مسعود وابن عباس «فلو لا أنه كان من المسبحين»
قالا أي من المصلين. قال قتادة : كان يصلّي قبل ذلك فحفظ الله جل وعز له ذلك
فنجاه. قال الربيع بن أنس : لو لا أنه كان قبل ذلك له عمل صالح (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) قال : ومكتوب في الحكمة أن العمل الصالح يرفع ربّه إذا
عشر.
قال سعيد بن جبير
: لما قال لا إله إلا أنت سبحانك أنّي كنت من الظالمين قذفه الحوت.
مما يسأل عنه يقال
: خبّر الله جلّ وعزّ هاهنا أنه نبذ بالعراء وقال جلّ وعزّ (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ
رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم : ٤٩]
فالجواب أن الله جلّ وعزّ خبّر هاهنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم ولو لا نعمة
الله جلّ وعزّ عليه لنبذه بالعراء وهو مذموم. وحكى الأخفش في جمع سقيم : سقمي
وسقامى وسقام.
__________________
جمع يقطينة قال
محمد بن يزيد : يقال لكلّ شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأر : يقطينة نحو
الدبّاء والبطيخ والحنظل فإن كان لها ساق يقلّها فهي شجرة فقط ، وإن كانت قائمة أي
بغير ورق مفترش فهي نجمة وجمعها نجم.
قال أبو جعفر : قد
ذكرت حديث ابن عباس أنه قال : كانت الرسالة بعد ما نبذه الحوت وليس له طريق إلّا
عن شهر بن حوشب ، وأجود منه إسنادا ، وأصحّ ما حدّثناه علي بن الحسين قال : حدّثنا
الحسن بن محمد قال : حدّثنا عمرو العنقريّ قال : حدّثنا إسرائيل عن ابن إسحاق عن
عمرو بن ميمون قال : حدّثنا عبد الله في بيت المال عن يونس النبي صلىاللهعليهوسلم قال : إنّ يونسصلىاللهعليهوسلم وعد قومه العذاب ، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام
ففرقوا بين كل والدة وولدها ، وخرجوا وجأروا إلى الله جلّ وعزّ ، واستغفروا فكفّ
الله جلّ وعزّ عنهم العذاب ، وهذا يونس صلىاللهعليهوسلم ينتظر العذاب فلم ير شيئا. وكان من كذب ولم تكن له بيّنة
قتل ، فخرج يونس صلىاللهعليهوسلم مغاضبا فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه ، فلما دخل
السفينة ركدت السفينة ، والسفن تسير يمينا وشمالا ، فقالوا : ما لسفينتكم؟ قالوا :
لا ندري ، فقال يونس صلّى الله عليه : إنّ فيها عبدا آبقا من ربّه جلّ وعزّ وإنها
لن تسير حتى تلقوه ، قالوا : أما أنت يا نبيّ الله فإنّا لا نلقيك ، قال :
فاقترعوا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه فأبوا أن يدعوه قالوا
: فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه ثلاث مرات أو
قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله جلّ وعزّ به حوتا فابتلعه فمرّ يهوي به إلى قرار
الأرض فسمع يونس صلّى الله عليه تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين قال : ظلمة اللّيل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت
قال : (فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) قال : كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش قال : وأنبت
الله جلّ وعزّ عليه شجرة من يقطين فنبتت ، فكان يستظلّ بها ، فيبست ، فبكى عليها ،
فأوحى الله جلّ وعزّ إليه أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون
أردت أن تهلكهم؟ قال : وخرج يونس صلىاللهعليهوسلم فإذا هو بغلام يرعى فقال : يا غلام من أنت؟ قال : من قوم
يونس ، قال : فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال له : إن كنت يونس فقد
علمت أنه من كذب قتل إذا لم يكن له بيّنة فمن يشهد لي قال : هذه الشجرة وهذه
البقعة ، قال : فمرهما فقال لهما يونس صلّى الله عليه : إذا جاءكما هذا الغلام
فاشهدا له ، قالتا : نعم. فرجع الغلام إلى قومه ، وكان في منعة ، وكان له إخوة فأتى
الملك ، فقال : إنّي قد لقيت يونس ، وهو يقرأ عليكم السلام قال : فأمر به أن يقتل
،
فقالوا : إنّ له
بينة فأرسلوا معه فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما : نشدتكما بالله جلّ وعزّ أشهدكما
يونس صلىاللهعليهوسلم قالتا : نعم ، قال : فرجع القوم مذعورين. يقولون : شهدت له
الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا ، قال عبد الله : فتناول الملك بيد
الغلام فأجلسه في مجلسه فقال : أنت أحقّ بهذا المكان منّي ، قال عبد الله : فأقام
لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. فقد تبيّن في هذا الحديث أن يونس صلّى الله عليه
كان قد أرسل قبل أن يلتقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من
الفائدة أن قوم يونس صلّى الله عليه آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب لأن فيه أنه
أخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كلّ والدة وولدها ، والفاء في اللغة
تدلّ على أن الثاني يلي الأول فكان حكم الله جلّ وعزّ فيهم كحكمه في غيرهم في قوله
جلّ وعزّ : (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥] ،
وقال جلّ ثناؤه (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ) [النساء : ١٨]
الآية وقد قال بعض العلماء : إنهم رأوا مخايل العذاب فتابوا. قال أبو جعفر : وهذا
لا يمتنع فأما قوله عزوجل : (إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ) [يونس : ٩٨] فهو
استثناء ليس من الأول. وقد ذكرنا معنى (أَوْ يَزِيدُونَ) وقول الفراء أنها بمعنى «بل» ، وقول غيره أنها بمعنى الواو. وأنه لا
يصحّ هذان القولان ، لأن «بل» ليس هذا من مواضعها ، لأنها للإضراب عن الأول
والإيجاب لما بعده. وتعالى الله عزوجل عن ذلك أو الخروج من شيء إلى شيء ، وليس هذا موضع ذلك.
والواو معناها خلاف معنى «أو» فلو كانت إحداهما بمعنى الأخرى لبطلت المعاني ، ولو
جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائة ألف أخصر ، وفي الآية قولان سوى هذين :
أحدهما أنّ المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر ،
وإنّما خوطب العباد على ما تعرفون ، والقول الآخر أنه كما تقول : جاءني زيد أو
عمرو ، وأنت تعرف من جاءك منهما إلّا أنك أبهمت على المخاطب.
وفي قراءة ابن
مسعود فآمنوا فمتعناهم حتى حين والمعنى واحد. (فَاسْتَفْتِهِمْ) قال أبو إسحاق : أي فاسألهم سؤال توبيخ وتقرير (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ
الْبَنُونَ) لأن معنى «فاستفتهم» فقل لهم.
(إِناثاً) جمع أنثى. قال أبو إسحاق : «أم» بمعنى : أبل. (وَهُمْ شاهِدُونَ) ابتداء وخبر في موضع الحال.
__________________
(أَلا إِنَّهُمْ) «إنّ» بعد «ألا»
مكسورة لأنها مبتدأة ، وحكى سيبويه أنّها تكون بعد «أما» تكون مفتوحة ومكسورة
فالفتح على أن تكون أما بمعنى حقا ، والكسر على أن يكون أما بمعنى ألا. قال أبو
جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : يجوز فتحها بعد «ألا» تشبيها بأما ، فأمّا في
الآية فلا يجوز إلّا كسرها لأن بعدها اللام.
(أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ) استفهام فيه معنى التوبيخ. فأما ما روي عن أبي جعفر وشيبة ونافع أنّهم قرءوا (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى
الْبَناتِ) بوصل الألف فلا يصحّ عنهم ، وزعم أبو حاتم أنه لا وجه له
لأن بعده (ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) فالكلام جار على التوبيخ. قال أبو جعفر : هذه القراءة وإن
كانت شاذة فهي تجوز من وجهتين إحداهما أن تكون تبيينا لما قالوا ويكون (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) منقطعا مما قبله ، والجهة الأخرى أنه قد حكى النحويون منهم
الفراء أنّ التوبيخ يكون استفهاما وبغير استفهام ، كما قال جلّ وعزّ (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي
حَياتِكُمُ الدُّنْيا) [الأحقاف : ٢٠]
وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا أكثر أهل التفسير على أن الجنّة هاهنا الملائكة وقال
أهل الاشتقاق : قيل لهم : جنّة لأنهم لا يرون ، وثم قول آخر غريب رواه إسرائيل عن
السّدّي عن أبي مالك قال : إنما قيل للملائكة جنّة لأنهم على الجنان ، والملائكة
كلهم جنّة.
كسرت إنّ لدخول
اللام.
(إِلَّا عِبادَ اللهِ) نصب على الاستثناء. (الْمُخْلَصِينَ) من نعتهم.
أهل التفسير
مجمعون فيما علمته على أن المعنى : ما أنتم بمضلّين أحدا إلّا من قدّر الله جلّ
وعزّ عليه أن يضلّ ، فروى فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم قال :
ليس بتابعكم على
عبادة آلهتكم وعبادتكم إلّا من كتب الله جلّ وعزّ عليه أن يصلى الجحيم. وروى عمر
بن ذر عن عمر بن عبد العزيز رحمهالله ما أنتم بمضلّين (إِلَّا مَنْ
__________________
هُوَ
صالِ الْجَحِيمِ). وعن ابن عباس : ما أنتم بمضلّين إلّا من قدّر عليه أن
يضلّ.
وروى أبو الأشهب
جعفر بن حيان عن الحسن قال : يا بني إبليس ما أنتم بمضلّين أحدا من الناس إلّا من
قدّر الله عليه أن يضلّ. قال أبو جعفر : ففي هذه الآية ردّ على القدرية من كتاب
الله جلّ وعزّ ، وفيها من المعاني أنّ الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلّا من
كتب الله جلّ وعزّ عليه أنه لا يهتدي ، ولو علم الله جلّ وعزّ أنّه يهتدي لحال
بينه وبينهم. وعلى هذا قوله جلّ وعزّ (وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) [الإسراء : ٦٤] أي
لست تصل منهم إلى شيء إلّا إلى ما في علمي. قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : فتنته ، وأهل نجد يقولون : أفتنته.
وعن الحسن أنه قرأ
(إِلَّا مَنْ هُوَ
صالِ الْجَحِيمِ) بضم اللام فجماعة من أهل العربية يقولون : لحن لأنه لا
يجوز : هذا قاض فاعلم. قال أبو جعفر : ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت من عليّ بن
سليمان يقول. هو محمول على المعنى لأن معنى «من» جماعة فالتقدير : فيه صالون ،
فحذفت النون للإضافة وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وفيهما قول آخر : أن يكون على
القلب فإذا قلب قيل : صايل ثم يحذف الياء فيقال :
صال كما يقال :
شاك.
فيه تقديران عند
أهل العربية : أحدهما وما منا إلّا من له وحذفت من وهذا مذهب الكوفيين ، وفيه ما
لا خفاء فيه من حذف الموصول ، والقول الآخر أنّ المعنى : وما منّا ملك إلّا لهم
مقام معلوم ، وهذا قول البصريين. فأما اتصال هذا بما قبله فإنه فيما يروى أن
الملائكة تبرّأت ممّن يعبدها ، وتعجبت من ذلك لاجتهادها فقال : وما منا إلّا له
مقام معلوم.
وفي الحديث عن
جابر بن سمرة قال : خرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونحن في المسجد فقال : «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند
ربهم. فقلنا يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربهم؟ قال : يتمّمون الصفوف
ويتراصون في الصفّ» .
__________________
لمّا خففت «إن»
دخلت على الفعل ولزمتها اللام فرقا بين النفي والإيجاب.
والكوفيون يقولون «إن»
بمعنى «ما» واللام بمعنى إلّا.
أي لو جاءنا ذكر
كما جاء الأولين لأخلصنا العبادة.
(فَكَفَرُوا) أي بالذكر ، والفراء يقدره على حذف أي فجاءهم محمد صلىاللهعليهوسلم بالقرآن فكفروا به. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) قال أبو إسحاق : أي فسوف يعلمون مغبّة كفرهم.
قال الفراء :
بالسعادة ، وقال غيره : التقدير : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين.
فلمّا دخلت اللام
كسرت «إن».
على المعنى ، ولو
كان على اللفظ لكان هو الغالب مثل قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) [ص : ١١]. وقال
الكسائي : جاء هاهنا على الجمع من أجل أنه رأس آية.
قال قتادة : أي
إلى الموت ، وقال أبو إسحاق : أي الوقت الذي أمهلوا إليه.
(فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ) أي العذاب ، قال أبو إسحاق : وكان عذاب هؤلاء بالقتل.
وساء بمعنى : بئس
، ورفع (صَباحُ) بها.
(سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ) على البدل قال أبو إسحاق : ويجوز النصب على المدح والرفع
بمعنى : هو رب العزة.
ولو كان في غير
القرآن لجاز النصب على المصدر.
__________________
٣٨
شرح إعراب سورة ص
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بإسكان الدال
لأنها حروف تهجّ ، والأجود عند سيبويه فيها الإسكان. ولا تعرب ؛ لأن حكمها الوقوف عليها وقراءة
الحسن صاد بكسر الدال بغير تنوين ولقراءته مذهبان : أحدهما أنه من
صادى يصادي إذا عارض ، ومنه (فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى) [عبس : ٦] فالمعنى
صادي القرآن بعملك أي قابلة به. وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسّر به قراءته
رواية صحيحة عنه أنّ المعنى : اتله وتعرّض لقراءته. والمذهب الآخر أن تكون الدال
مكسورة لالتقاء الساكنين. وقراءة عيسى بن عمر (صاد) بفتح الدال ، له فيها ثلاثة
مذاهب :
أحداهنّ أن يكون
بمعنى اتل صاد. والثاني أن يكون فتح لالتقاء الساكنين ، واختار الفتح للإتباع ،
الثالث أن يكون منصوبا على القسم بغير حروف. وقراءة ابن أبي إسحاق (صاد) بكسر
الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم. قال أبو جعفر :
وهذا بعيد وإن كان
سيبويه قد أجاز مثله ، ويجوز أن يكون مشبّها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها. وصاد
إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف كما أنك إذا سمّيت مؤنثا بمذكّر لم ينصرف وإن قلّت
حروفه. (وَالْقُرْآنِ) خفض بواو القسم بدل من الباء. (ذِي الذِّكْرِ) نعت وعلامة الخفض الياء ، وهو اسم معتل والأصل فيه ذوي على
فعل.
(بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا) في موضع رفع بالابتداء. (فِي عِزَّةٍ) خبره أي في تكبّر وامتناع من قبول الحقّ ، كما قال جلّ
وعزّ : (وَإِذا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) [البقرة :
٢٠٦]. (وَشِقاقٍ) من شاقّ يشاقّ إذا خالف ، واشتقاقه أنه صار في شقّ غير
الشقّ الآخر.
__________________
(كَمْ) في موضع نصب بأهلكنا. (فَنادَوْا) قال قتادة : فنادوا في غير نداء. قال أبو جعفر : ومعناه
على قوله في غير نداء ينجي ، كما قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين توبة ولا
ينفع العمل. وهذا تفسير من الحسن لقوله جلّ وعزّ (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ، قال ليس حين. فأما إسرائيل فيروى عن أبي إسحاق عن
التميمي عن ابن عباس (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) قال : ليس بحين نزو ولا فرار ، قال ضبط القوم جميعا. قال
أبو جعفر :
وأصله من ناص ينوص
إذا تأخّر ، ويقال : ناص ينوص إذا تقدّم. وأما «ولات حين» فقد تكلّم النحويون فيه
وفي الوقوف عليه ، وكثّر فيه أبو عبيد القاسم بن سلام في «كتاب القراءات» ، وكلّ
ما جاء به فيه إلّا يسيرا مردود. قال سيبويه : لات مشبّهة بليس ، والاسم فيها مضمر أي ليست أحياننا حين
مناص ، وحكي أنّ من العرب من يرفع بها فيقول (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ، وحكي أنّ الرفع قليل ، ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم
محذوفا في النصب أي ولات حين مناص لنا. والوقوف عليها عند سيبويه والفراء ، وهو قول أبي الحسن بن كيسان وأبي إسحاق ، ولات بالتاء ثم
تبتدئ حين مناص. قال أبو الحسن بن كيسان : والقول كما قال سيبويه ؛ لأنه شبّهها
بليس فكما تقول ليست تقول : لات. والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء ولاه ، وهو قول
محمد ابن يزيد ، كما حكى لنا عنه علي بن سليمان ، وحكي عنه أنّ الحجّة في ذلك أنها
«لا» دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة ، كما يقال : ثمّة وربّة. وأما أبو عبيد فقال
: اختلف العلماء فيها فقال بعضهم : لات ثم تبتدئ فتقول : حين. ثم لم يذكر عن
العلماء غير هذا القول وكلامه يوجب غير هذا ثم ذكر احتجاجهم بأنها في المصاحف
كلّها كذا ثم قال : وهذه حجّة لو لا أنّ ثمّ حججا تردّها ثم ذكر حججا لا يصحّ منها
شيء ، وسنذكرها إن شاء الله تعالى ، ونبين ما يردّها. قال : والوقوف عندي بغير تاء
ثم تبتدئ بحين مناص ثم ذكر الحجج فقال : إحداهنّ أنّا لم نجد في كلام العرب لات
إنما هي «لا». قال أبو جعفر : لو لم يكن في هذا من الردّ إلا اجتماع المصاحف على
ما أنكره فكيف وقد روي خلاف ما قال جميع النحويين المذكورين من البصريين والكوفيين
، فقال سيبويه : «لات» مشبهة بليس ، وقال الفراء عن الكسائي أحسبه أنه سأل أبا
السمّال فقال : كيف تقف على ولات؟ فوقف عليها بالهاء. قال أبو عبيد : والحجة
الثانية أنّ تفسير ابن عباس يدلّ على ذلك ؛ لأن ابن عباس قال : ليس حين نزو ولا
فرار. قال أبو جعفر : تفسير ابن عباس يدلّ على أن الصحيح غير قوله ، ولو كان على
قوله لقال ابن عباس ليس تحين مناص ، ولم يرو هذا أحد. قال أبو عبيد : والحجة
الثالثة أنّا لم نجد
__________________
العرب تزيد هذه
التاء إلا في حين وأوان والآن ، وأنشد لأبي وجزة السعدي : [الكامل]
٣٧٤ ـ العاطفون
تحين ما من عاطف
|
|
والمطعمون زمان
أين المطعم
|
وأنشد لأبي زبيد
الطائي : [الخفيف]
٣٧٥ ـ طلبوا
صلحنا ولات أوان
|
|
فأجبنا أن ليس
حين بقاء
|
وأنشد : [الخفيف]
٣٧٦ ـ نولّي قبل
يوم بيني جمانا
|
|
وصلينا كما زعمت
تلانا
|
قال أبو جعفر :
وإنشاد أهل اللغة جميعا على غير ما قال. قال الفراء : أنشدني المفضل :
٣٧٧ ـ تذكّر حبّ
ليلى لات حينا
|
|
وأضحى الشّيب قد
قطع القرينا
|
قال أبو جعفر :
فأما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فقرأه العلماء باللغة على أربعة أوجه كلّها
على خلاف ما أنشده ، وفي أحدها تقديران. رواه أبو العباس محمد بن يزيد «العاطفون
ولات ما من عاطف» ، والرواية الثانية «العاطفون ولات حين تعاطف» ، والرواية
الثالثة رواها أبو الحسن بن كيسان «العاطفونه حين ما من عاطف» جعلها هاء في الوقف
وتاء في الإدراج ، وزعم أنها لبيان الحركة شبّهت بهاء التأنيث ، والرواية الرابعة
هي «العاطفونه حين ما من عاطف». وفي هذه الرواية تقديران : أحدهما ، وهو مذهب
إسماعيل بن إسحاق ، أن الهاء في موضع نصب كما تقول : الضاربون زيدا ، فإذا كنّيت
قلت : الضاربوه ، وأجاز سيبويه الضاربونه في الشعر ، فجاء إسماعيل بالبيت
__________________
على مذهب سيبويه
في إجازته مثله. والتقدير الآخر «العاطفونه» على أن الهاء لبيان الحركة ، كما تقول
: مر بنا المسلمونه ، في الوقف ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف. كما قرأ أهل
المدينة (ما أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) [الحاقة : ٢٩].
وأما البيت الثاني
فلا حجّة له فيه لأنه يوقف عليه ولات أوان غير أنّ فيه شيئا مشكلا لأنه روي «ولات
أوان» بالخفض ، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا ومنصوبا ، وإن كان قد روي عن عيسى بن
عمر أنه قرأ ولات حين مناص بكسر التاء من «لات» والنون من «حين» فإن الثّبت عنه أنه
قرأ (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) فبنى لات على الكسر ونصب حين فأما «ولات أوان» ففيه
تقديران : قال الأخفش : فيه مضمر أي ولات حين أوان.
قال أبو جعفر :
وهذا القول بيّن الخطأ ، والتقدير الآخر عن أبي إسحاق ، قال تقديره :
ولات حين أواننا
فحذف المضاف إليه فوجب ألّا يعرب فكسره لالتقاء الساكنين ، وأنشد محمد بن يزيد «ولات
أوان» بالرفع.
وأما البيت فبيت
مولّد لا يعرف قائله ، ولا يصح به حجّة على أن محمد بن يزيد رواه «كما زعمت الآن»
وقال غيره : المعنى كما زعمت أنت الآن ، فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه
بحديث عبد الله بن عمر لما ذكر للرجل مناقب عثمان رضي الله عنه. قال : اذهب بها
تلان إلى أصحابك ، فلا حجّة فيه لأن المحدّث إنما يروي هذا على المعنى ، والدليل
على هذا أنّ مجاهدا روى عن عمرو بن عمر هذا الحديث ، وقال فيه : اذهب فاجهد جهدك ،
ورواه آخر اذهب بها الآن معك فأمّا احتجاجه بأنه وجدها في الإمام «تحين» فلا حجة
فيه لأن معنى الإمام أنه إمام للمصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها ، وفي
المصاحف كلّها ولات. فلو لم يكن في هذا إلّا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص
مناوص.
(وَعَجِبُوا أَنْ) في موضع نصب ، والمعنى من أن جاءهم.
(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً) مفعولان.
(وَانْطَلَقَ) في موضع نصب ، والمعنى : بأن امشوا. و (الْمَلَأُ) الأشراف ، وقد سمّوا ، في رواية محمد بن إسحاق ، أنهم أبو
جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأميّة بن خلف والعاصي بن وائل
وأبو معيط جاءوا إلى أبي طالب ، فقالوا
__________________
له : أنت سيدنا
فانصفنا في قومنا وأنفسنا فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه قد تركوا آلهتنا وطعنوا
في ديننا ، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له : إنّ قومك يدعونك إلى السواء والنصفة ، فقال صلىاللهعليهوسلم : إني أدعوهم إلى كلمة واحدة ، فقال أبو جهل : وعشرا ،
فقال : يقولون : لا إله إلّا الله فقاموا ، وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا الآيات.
قال أبو جعفر : وقيل المعنى : وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام (امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي على عبادة آلهتكم (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ) أي إن هذا الذي جاء به محمد عليهالسلام لشيء يراد به زوال نعم قوم وغير تنزل بهم.
أي تكذيب وابتداع.
يقال : خلق واختلق أي ابتدع ، وخلق الله الخلق من هذا أي ابتدعهم على غير مثال ،
ثم بيّن أنهم حساد لقولهم (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) وهو القرآن (بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ) والأصل إثبات الياء ، وجاز الحذف لأنه رأس آية.
قيل : أم لهم هذا
فيمنعوا محمدا صلىاللهعليهوسلم مما أنعم الله به عليه ، وكذا (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فإن ادعوا ذلك (فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبابِ) أي في أسباب السموات ، وقيل : في الأسباب التي ذكرت التي لا
تكون إلّا لله جلّ وعزّ. والأصل فليرتقوا ، حذفت الكسرة لثقلها ، يقال : رقي يرقى
، وارتقى يرتقي ، إذا صعد ، ورقّى يرقي رقيا رمى يرمي رميا ، من الرقية ثم وعد
الله نبيه النصر فقال جلّ ذكره : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) فهزم الله جلّ وعزّ الأحزاب كما وعده. و «ما» زائدة
للتوكيد ، وتأول الفراء معنى مهزوم أنه مغلوب على أن يصعد إلى السماء.
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ) أنّث «قوم» على معنى الجماعة ، ولو جاء مذكّرا لجاز على
معنى الجميع. وصرف نوح وإن كان أعجميا ، لأنه على ثلاثة أحرف فخفّ ، ومنع (فِرْعَوْنُ) من الصرف ؛ لأنه قد جاوز ثلاثة أحرف فلم يصرف لعجمته وأنّه
معرفة وزعم محمد بن إسحاق اسم فرعون الوليد بن مصعب ، قال : وقد قيل : إن اسمه
مصعب بن الربان ، وقال غيره : كان يسمّى من ملك مصر فرعون ، كما يسمّى من ملك
اليمن تبّعا ، وهم
التبابعة ، ومن ملك فارس كسرى ، وقال محمد بن يزيد : كسرى بفتح الكاف ، ومن ملك
الروم قيصر وهرقل و (ذُو الْأَوْتادِ) نعت.
(إِنْ كُلٌ) بمعنى ما كلّ (إِلَّا كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) الأصل إثبات الياء ، وحذفت لأنه رأس آية والكسرة دالّة
عليها.
(وَما يَنْظُرُ
هؤُلاءِ) بمعنى ما ينتظر ومنه (انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) قال عبد الله بن عمر : لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من
الله جلّ وعزّ على أهل الأرض. (ما لَها مِنْ فَواقٍ) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم ، ومن فواق
بضم القاف قراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وأصحّ ما قيل فيهما أنهما
لغتان بمعنى واحد ، وحكى ذلك الكسائي والفراء.
(وَقالُوا رَبَّنا
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) من أحسن ما قيل في معناه ما قاله سعيد بن جبير قال :
قالوا : ربّنا
عجّل لنا نصيبنا في الآخرة قبل يوم الحساب. وهو مشتقّ من قططت الشيء أي قطعته.
فالنصيب قطعة تقطع للإنسان ، وذلك معروف في كلام العرب أن يقال في النصيب : قطّ
ويقال للكتاب المكتوب بالجائزة قطّ كما قال الأعشى : [الطويل]
٣٧٨ ـ ولا الملك
النّعمان يوم لقيته
|
|
بإمّته يعطي
القطوط ويأفق
|
«بإمّته» أي بنعمته وحاله الجليلة ، و
«يافق» يصلح «القطوط» جمع قطّ وهو الكتاب بالجائزة ، ويقال في جمعه : قططة ، وفي
القليل أقطّ وأقطاط.
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) نعت. والأيد والآد كما يقال : العيب والعاب ، ومنه رجل
أيّد. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) قال الضحاك : أي ثواب ، وعن غيره أنه كان كلّما ذكر ذنبه
أو خطر على باله استغفر منه كما قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «إنّي لاستغفر في اليوم والليلة مائة
__________________
مرّة» ويقال : آب يؤوب إذا رجع ، كما قال : [مخلع البسيط]
٣٧٩ ـ وكلّ ذي
غيبة يؤوب
|
|
وغائب الموت لا
يؤوب
|
(إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) في موضع نصب على الحال. ويروى أنها كانت تجيبه بالتسبيح ،
وقيل : سخّرها الله جلّ وعزّ لتسير معه فذلك تسبيحها ؛ لأنها دالّة على تنزيه الله
جلّ وعزّ عن شبه المخلوقين. (بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْراقِ) من أشرقت الشمس إذا أضاءت وصفت. وعن ابن عباس قال : صلاة
الضحى مذكورة في كتاب الله جلّ وعزّ ، وقرأ «يسبّحن بالعشيّ والإشراق».
(إِنَّا سَخَّرْنَا) معطوف على الجبال. قال الفراء : ولو قرئ (والطّير محشورة) لجاز لأنه لم يظهر الفعل ،
وكذا لو قرئ (وشددنا ملكه) (وَآتَيْناهُ
الْحِكْمَةَ) فعولان (وَفَصْلَ الْخِطابِ) معطوف عليه.
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ) وبعده (إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرابَ) لأنّ الخصم يؤدّي عن الجمع وهو مصدر في الأصل من خصمته
خصما. وحقيقته في العربية إذا قلت : القوم خصم له ، معناه ذوو خصم ثم أقمت المضاف
إليه مقام المضاف ، وقد يقال : خصوم كما يقال : عدول.
(إِذْ دَخَلُوا عَلى
داوُدَ) فجاءت إذ مرتين لأنهما فعلان ، وزعم الفراء إحداهما بمعنى «لمّا». وقول آخر أن تكون الثانية وما بعدها
تبيينا لما قبلها. (قالُوا لا تَخَفْ) حذفت الضمة من الفاء للجزم ، وحذفت الألف المنقلبة من
الواو لئلا يلتقي ساكنان (خَصْمانِ) وقبل هذا (إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرابَ) لأن اثنين جمع. قال الخليل رحمهالله :
كما تقول : نحن
فعلنا ، إذا كنتما اثنين ، وقال الكسائي : جمع لما كان خبرا فلما انقضى
__________________
الخبر وجاءت
المخاطبة خبّر الاثنان عن أنفسهما فقالا «خصمان». قال أبو إسحاق : أي نحن خصمان ،
وقال غيره : القول محذوف أي يقول خصمان. قال أبو إسحاق : ولو كان بالنصب خصمين
لجاز أي أتيناك خصمين. (بَغى بَعْضُنا عَلى
بَعْضٍ) قال الكسائي : ولو كان بغى بعضهما على بعض لجاز ، وقال
غيره : بغى بعضنا يجوز أن يراد به داود صلىاللهعليهوسلم (فَاحْكُمْ بَيْنَنا
بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) وقرأ الحسن وأبو رجاء (وَلا تُشْطِطْ) بفتح التاء وضم الطاء الأولى ، وقال أبو حاتم لا يعرف هذا
في اللغة. قال أبو جعفر : يقال أشطّ يشطّ إذا جار في الحكم أو القول ، وشطّ يشطّ
ويشطّ إذا بعد فيشطط في الآية أبين ويشطط يجوز أي لا تبعد عن الحق ، كما قال : [المتقارب]
٣٨٠ ـ تشطّ غدا
دار جيراننا
|
|
وللدّار بعد غد
أبعد
|
وقرأ الحسن تسع
وتسعون نعجة بفتح التاء فيها ، وهي لغة شاذة وهي الصحيحة من قراءة
الحسن. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة. وعن عبد الله بن مسعود رحمهالله أنه قرأ وعازّني في الخطاب .
(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) فيقال : إن هذه خطيّة داودصلىاللهعليهوسلم لأنه قال : لقد ظلمك من غير تثبيت بيّنة ، ولا إقرار من
الخصم ولا سؤال لخصمه هل كان هذا كذا أم لم يكن؟ هذا قول ، فأما قول العلماء
المتقدّمين الذين لا يدفع قولهم ، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس رحمهماالله فإنهم قالوا : ما زاد داود صلىاللهعليهوسلم على أن قال للرجل : انزل عن امرأتك. قال أبو جعفر : فعاتبه
الله جلّ وعزّ على هذا ، ونبهه عليه. وليس هذا بكبير من المعاصي ، ومن يخطئ إلى
غير هذا ، فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم ويلحقه فيه الإثم العظيم. (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) إضافة على المجاز أي بسؤال نعجتك. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) جمع خليط ، وهو الشريك فهذا جمع ما لم يكن في واو ، ولا
يجوز في طويل طولاء لثقل الحركة في الواو (وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ) قال أبو عمر والفراء : ظنّ بمعنى
__________________
أيقن إلّا أن
الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاني أن يكون الظنّ بمعنى اليقين. وعن عمر بن
الخطاب أنه قرأ (أَنَّما فَتَنَّاهُ) بتشديد التاء والنون على التكثير ، وعن قتادة أنه قرأه.
إنما فتناه بتخفيفهما. (فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً) على الحال.
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) في موضع نصب بغفرنا ، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي الأمر
ذلك (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى). قال مجاهد عن عبيد بن عمر قال : الزلفى الدنو من الله جلّ
وعزّ يوم القيامة.
(يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي مكّنّاك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتخلف من كان
قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين. (إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بفتح الياء بلا اختلاف فيها ، وهو فعل لازم ولو ضممت الياء
كان متعدّيا (بِما نَسُوا يَوْمَ
الْحِسابِ) أي تركوا العمل. يقال : نسي الشيء إذا تركه.
وشرح هذا أنهم
كانوا يقولون : ليست ثمّ عقوبة ولا نار فالكافر والعاصي يسعدان باللذات وغصب
الأموال ، والمظلوم يشقى ، لأنهما يصيران إلى شيء واحد ، فرد الله جل وعز هذا
عليهم بأنه ما خلق السّماء والأرض وما بينهما باطلا ؛ لأن الذين ادعوه باطل وذلك
منهم ظنّ وبيّن ذلك جلّ وعزّ بقوله : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) فكان في هذا ردّ على المرجئة ؛ لأنهم يقولون : يجوز أن
يكون المفسد كالمصلح أو أرفع درجة منه ، وبعده أيضا (أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ) بمعنى هذا كتاب. (مُبارَكٌ) من نعته.
(نِعْمَ الْعَبْدُ) مرفوع بنعم.
__________________
(الْجِيادُ) جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر ، كما يقال للإنسان :
جواد إذا كان سريع العطيّة غزيرها غير أنه يقال : قوم أجواد وخيل جياد وقد قيل :
جياد جمع جائد. وقائل هذا يحتجّ بأنه لو كان جمع جواد لقيل جواد ، كطويل وطوال.
ويقال في جمع جواد : جوداء وأجوداء وجود بإسكان الواو وجوود بضمها.
(فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) الفراء يقدّره مفعولا أي آثرت حبّ الخيل ، وغيره يقدره مصدرا وهو
يقدّر الخيل بمعنى الخير ، وغيره يقول : معنى (أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ) أنه كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار
إليها بيده لأنه يصلّي حتّى توارت الخيل ، وسترها جدر الإصطبلات فلمّا فرغ من
صلاته قال : (رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً) أي فأقبل يمسحها مسحا. وفي معناه قولان : أحدهما أنه أقبل
يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها ، وليري أن الجليل لا يقبح به أن يفعل
مثل هذا بخيله.
وقال قائل هذا
القول : كيف يقتلها وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له؟ وقيل المسح هاهنا
القطع أذن له في قتلها. والسّوق جمع ساق مثل دار ودور ، وفي أقلّ العدد أسوق.
والساق مؤنّثة.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ) أي اختبرناه بما يثقل عليه (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قيل يعني به ولدا له ميّتا. وذلك أنه طاف على جواريه ، وقال
: أرجو أن تلد كلّ واحدة منهم ذكرا ، وفي الحديث أنه لم يقل إن شاء الله فلم تحمل
إلّا واحدة منهن ، ومات الولد وألقي على كرسيّه فتنة على محبّة الدّنيا ، والرغبة
فيها ، واستدعاء الولد ، وأنه لا ينبغي أن يكون كذا (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع عما كان عليه. وقد قيل : جسد شيطان.
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي) قيل : ليس في هذا دليل على أنّ ذلك الفعل منه ذنب ، لأنه
قد يكون له أن يستغفر مما عمله قبل النبوة أو يستغفر مما يعرض له.
__________________
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا
لَزُلْفى) أي قرين. (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجع.
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ) على البدل. (إِذْ نادى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) وقرأ عيسى ابن عمر (إنّي) بكسر الهمزة. قال الفراء : واجتمعت القراء على أن قرءوا «بنصب» بضم النون والتخفيف.
وهذا غلط ويعدّ مناقضة أيضا ، لأنه قال : اجتمعت القراء على هذا ، وحكي بعده أنهم
ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ (بنصب) بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر ، وإنّما قرأ أبو
جعفر (بنصب) بضم النون والصاد ، كذا حكاه أبو عبيد وغيره ، وهو يروى عن الحسن فأما
(بنصب) فهو قراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي وقد رويت هذه القراءة أيضا عن الحسن
، وقد حكي (بنصب). وهذا كلّه عند أكثر النحويين بمعنى النّصب. فنصب ونصب كحزن وحزن
، وقد يجوز أن يكون نصّب جمع نصب كوثن ووثن ، ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه
الضمة فأما (وَما ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ) [المائدة : ٣]
فقيل : إنه جمع نصاب ونصب على أصل المصدر. وقد قيل في معنى (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ
وَعَذابٍ) : أنه ما يلحقه من وسوسته لا غير ، والله أعلم.
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) قال الكسائي : أي قلنا ، وقال محمد بن يزيد : الرّكض
التحريك ولهذا قال الأصمعي : يقال ركضت الدابة ولا يقال : ركضت هي ، لأن الركض
إنما هو تحريك راكبها برجليه ولا فعل لها في ذلك ، وحكى سيبويه : ركضت الدابة
فركضت هي مثل جبرت العظم فجبر وحزنته فحزن.
(وَوَهَبْنا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) تأوّل هذا مجاهد على أن الله جلّ وعزّ ردّ عليه أهله
فأعطاه مثلهم في الآخرة فصار له أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة. فأما ما
يروى عن عبد الله بن مسعود لمّا بلغه أن مروان قال : إنّما أعطي عوضا من أهله ولم
يعطهم بأعيانهم فقال : ليس كما قال بل أعطي أهله ومثلهم معهم ، فتأول هذا القول
بعض العلماء على أن الله جلّ وعزّ ردّ عليه من غاب من أهله ، وولد له مثل من مات
وأعطي من نسلهم مثلهم (رَحْمَةً) بالنصب على المصدر. قال أبو إسحاق : هو مفعول له
__________________
(وَذِكْرى) معطوف على الرحمة. قال أبو إسحاق : معنى (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أنّ ذا العقل إذا ابتلي ذكر بلاء أيّوب صلىاللهعليهوسلم صبر.
(وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً) أي وقلنا له وخذ بيدك ضغثا. قال : وهي الحزمة من الحشيش
وما أشبه ذلك.
(وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) على البدل ، وقراءة ابن عباس واذكر عبدنا بإسناد صحيح ، رواها ابن عيينة عن عمر عن عطاء عنه ، وهي
قراءة ابن كثير. فعلى هذه القراءة يكون (إِبْراهِيمَ) بدلا من عبدنا ، وإسحاق ويعقوب على العطف. والقراءة بالجمع
أبين ، وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت : رأيت أصحابنا زيدا أبين ، وشرح هذا من
العربية أنك إذا قلت : رأيت أصحابنا زيدا وعمرا وخالدا ، فزيد وعمرو وخالد بدل
منهم ، فزيد وحده بدل ، وهو الصاحب ، وعمرو وخالد عطف على صاحبنا وليسا بداخلين في
المصاحبة إلّا بدليل غير هذا غير أنه قد علم أن قوله جلّ وعزّ «وإسحاق ويعقوب»
داخل في العبودية (أُولِي الْأَيْدِي
وَالْأَبْصارِ) فأما (وَالْأَبْصارِ) فمتّفق على تأويلها أنها البصائر في الدين ، وأما (الْأَيْدِي) فمختلف في تأويلها فأهل التفسير يقولون :
إنها القوة في
الدين ، وقوم يقولون : الأيدي جمع يد ، وهي النعمة أي هم أصحاب النعم أي الذين
أنعم الله عليهم ، وقيل : هم أصحاب النعم والإحسان لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا.
(ذِكْرَى) في موضع خفض إلّا أن فيها ألف التأنيث وخفضها بالإضافة
وقراءة الكوفيين (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى
الدَّارِ) على البدل. وهذا بدل المعرفة من النكرة (أَخْلَصْناهُمْ) جعلناهم مخلصين ومخلصين من الأدناس قد أخلصوا العمل لله
جلّ وعزّ يذكرون الدار ، وهي الآخرة ، ويذكرونها لا يريدون بذلك الدنيا ولا
التعمّل لأهلها.
أي من الذين
اصطفيناهم من الأدناس ومصطفين جمع مصطفى زدت على
__________________
مصطفى ياء ساكنة
ونونا ، والألف من مصطفى ساكنة حذفت الألف لالتقاء الساكنين وكانت أولى بالحذف لأن
قبلها فتحة. والأخيار جمع خيّر وكأنه جمع على حذف الزائد كأنك جمعت خيّرا ، كما
تقول : ميّت وأموات. ويقال : رجل خيّر وخير كما يقال :
هيّن وهين وليّن
ولين.
(هذا ذِكْرٌ) مبتدأ وخبره. والمعنى هذا ذكر جميل في الدنيا. (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع يوم القيامة
ثم بيّن بقوله جلّ وعزّ : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) والعدن في اللغة الإقامة يقال : عدن بالمكان إذا أقام به
غير أن عبد الله بن عمر قال : جنّة عدن : قصر في الجنّة ، له خمسة آلاف باب ، على
كل باب خمسة آلاف خيّرة لا يدخله إلّا نبيّ أو صديق أو شهيد (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) رفعت الأبواب لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله ، وأجاز الفراء «مفتحة
لهم الأبواب» على أن مفتّحة للجنات ، وأنشد هو وسيبويه : [الوافر]
٣٨١ ـ وما قومي
بثعلبة بن سعد
|
|
ولا بفزارة
الشّعر الرّقابا
|
قال الفراء : أي
مفتحة الأبواب ثم جئت بالتنوين ونصبت وأنشد سيبويه : [الوافر]
٣٨٢ ـ ونأخذ
بعده بذناب عيش
|
|
أجبّ الظهر ليس
له سنام
|
(مُتَّكِئِينَ
فِيها) نصب لأنه نعت للجنات.
نعت لقاصرات لأن قاصرات
نكرة وإن كان مضافا إلى معرفة ، والدليل على ذلك أن الألف واللام يدخلانه ، كما
قال الشاعر : [الطويل]
٣٨٣ ـ من
القاصرات الطّرف لو دبّ محول
|
|
من الذّرّ فوق
الإتب منها لأثّرا
|
وزعم الفراء أن المعنى مفتّحة لهم أبوابها وأنّ الألف واللام بدل من
الهاء
__________________
والألف ، وأجاز :
مررت برجل حسنة العين المعنى حسنة عينه. قال أبو إسحاق : ولا يجوز أن تكون الألف
واللام بدلا من الهاء واللام لأن الألف واللام محرف جاء لمعنى والهاء والألف اسم
ومحال أن يقوم أحدهما مقام صاحبه. وإنما المعنى : مفتّحة لهم الأبواب منها.
(هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ) والتقدير الأمر هذا (لَشَرَّ مَآبٍ) اسم إن.
(جَهَنَّمَ) بدل من شرّ.
(هذا) في موضع رفع بالابتداء وخبره حميم على التقديم والتأخير أي
هذا حميم وغسّاق فليذوقوه. ويجوز أن يكون «هذا» في موضع رفع بالابتداء وفليذوقوه
في موضع الخبر. ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا وحميم وغساق إذا لم تجعلهما خبرا
فرفعهما على معنى : هو حميم وغساق. والفراء يرفعهما بمعنى هو حميم وغساق ، وأنشد :
[البسيط]
٣٨٤ ـ حتّى إذا
ما أضاء الصّبح في غلس
|
|
وغودر البقل
ملويّ ومحصود
|
ويجوز أن يكون هذا
في موضع نصب بإضمار فعل ، كما تقول : زيدا أضربه ، والنصب في هذا أولى. (وَغَسَّاقٌ) بالتخفيف قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين.
فأما يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي فقرؤوا (وَغَسَّاقٌ) بالتشديد. فأما معناه فقال عبد الله بن عمر : وفيه هو قيح
غليظ لو وقع شيء منه بالمشرق لأنتنّ ممن في المغرب ، ولو وقع منه شيء بالمغرب
لأنتن من في المشرق.
قال مجاهد : غسّاق
بارد ، وعن غير مجاهد أنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره.
وقال قتادة : هو
ما يسيل من بين جلودهم ولحمهم. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : يقال :
غسقت عينه إذا سالت ، فغسّاق بالتشديد أولى ، كما تقول :
سيّال. قال أبو
جعفر : وقد خالف في هذا غيره من رؤساء النحويين لأنه إذا قال :
غسّاق جعله نعتا
لغير معروف بعينه ، وهذا بعيد في العربية فإذا قال : غسّاق فهو اسم ، وهو أولى من
أن يقام النعت مقام المنعوت ويحذف المنعوت.
__________________
(هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) ابتداء وخبره أي مقتحم معكم النار. والتقدير : يقال لهم :
هذا فوج يدخل معكم
النار فيقول الذين في النار (لا مَرْحَباً بِهِمْ) و «مرحبا» منصوب
على المصدر وبمعنى لا أصبت رحبا أي سعة. قال الفوج : (بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي دعوتمونا إلى العصيان. (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي استقرارنا.
(قالُوا رَبَّنا مَنْ
قَدَّمَ لَنا هذا) قال الفراء : أي من شرّع لنا هذا وسنّه ، وقال غيره :
أي من قدّم لنا
هذا العذاب بدعائه إيّانا إلى المعاصي. (فَزِدْهُ عَذاباً
ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي عذابا بكفره وعذابا بدعائه إيّانا فصار ذلك ضعفا.
(وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً) (ما) في موضع رفع و
(لا نَرى) في موضع نصب على الحال.
(أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا) بضم السين قراءة الحسن ومجاهد وأبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم
وابن عامر على الاستفهام وسقطت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها ، وقرأ ابن كثير
والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي اتّخذناهم على أنها ألف وصل في اتّخذناهم ، يكون
«اتخذناهم» نعتا للرجال ، وأبو عبيد وأبو حاتم يميلان إلى هذه القراءة واحتجّا
جميعا بأن الذين قالوا هذا قد علموا أنهم اتّخذوهم سخريّا فكيف يستفهمون فالا وقد
تقدم الاستفهام. قال أبو جعفر : هذا الاحتجاج لا يلزم ، ولو كان واجبا لوجب في
مالنا ، ولكن الاستفهام هاهنا على ما قاله الفراء فيه. قال : هو بمعنى التوبيخ والتعجب (الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً
حَيْثُ أَصابَ) إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية ، وإذا كانت بغير
استفهام فهي بمعنى أبل.
بمعنى هو تخاصم ،
ويجوز أن يكون بدلا من الحقّ ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، ويجوز أن يكون بدلا
من ذلك على الموضع.
__________________
(قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ) مبتدأ وخبره وكفّت «ما» «أن» عن العمل (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) «من» زائدة
للتوكيد. قال أبو إسحاق : ولو قرئ بالنصب (إِلَّا اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ) جاز على الاستثناء.
على النعت ، وأن
نصبت الأول نصبت ، ويجوز رفع الأول ونصب ما بعده على المدح.
أي القرآن خبر
جليل ، وقيل : المعنى عظيم المنفعة ، وقال أبو إسحاق : هذا الخبر نبأ عظيم.
أي لا تقبلونه.
قال أبو جعفر : قد
بينا معناه .
«أنّ» في موضع رفع
لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى إلّا لأنما.
(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) إذا تردّ الماضي إلى المستقبل لأنها تشبه حروف الشرط
وجوابها كجوابه (ساجِدِينَ) على الحال.
(أَسْتَكْبَرْتَ) على التوبيخ ، ومن وصل الألف جعله خبرا (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). قال ابن عباس : كان في علم الله من الكافرين.
__________________
(قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ) مبتدأ وخبره. قال الفراء : ومن العرب من يقول : أنا أخير
منه وأشرّ منه. وهذا هو الأصل إلّا أنه حذفت الألف منه لكثرة الاستعمال.
(قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها) قيل : يعني من الجنة. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مرجوم بالكواكب والشهب.
(قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وهو يوم القيامة فلم يجب إلى ذلك وأخّر (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو يوم يموت الخلق فيه فأخّر إليه تهاونا به وأنه لا يصل
إلّا لي الوسوسة ، ولا يفسد إلّا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه.
أي لاستدعينّهم
إلى المعاصي التي يغوون من أجلها أي يخيبون.
قال الحقّ والحقّ أقول هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي ،
وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة (قالَ فَالْحَقُ) (وَالْحَقَّ أَقُولُ) برفع الأول وفتح الثاني ، وأجاز الفراء «قال فالحقّ
والحقّ أقول» بخفض الأول ولا اختلاف في الثاني أنه منصوب بأقول ونصب الأول على
الإغراء أي فاتّبعوا الحق واستمعوا الحق. وقيل بمعنى أحقّ أي أفعله ، وأجاز الفراء
وأبو عبيد أن يكون الحقّ منصوبا بمعنى حقّا (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ) وذلك عند جماعة من النحويين خطأ لا يجوز : زيدا لأضربنّ
لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها. ومن رفع الحق رفعه بالابتداء أي فأنا الحقّ أو
والحقّ منّي ورويا جميعا عن مجاهد يجوز أن يكون التقدير : هذا الحق. وفي الخفض
قولان : أحدهما أنه على حذف حرف القسم ، هذا قول الفراء ، قال كما تقول :
__________________
الله لأفعلنّ ،
وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلّطه في أبو العباس ، ولم يجز إلّا النصب لأن حروف
الخفض لا تضمر ، والقول الآخر : أن تكون الفاء بدلا من القسم ، كما أنشدوا :
[الطويل]
٣٨٥ ـ فمثلك
حبلى قد طرقت ومرضع
|
|
فالهيتها عن ذي
تمائم محول
|
وروى مسروق عن عبد
الله بن مسعود قال : من سئل عمّا لا يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلّف فإنّ قوله لا
أعلم علم. وقد قال الله جلّ وعزّ لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعالَمِينَ).
(وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ) أي نبأ القرآن حق بعد حين. قال أبو إسحاق : أي بعد الموت.
وقال الفراء : بعد
الموت وقبله أي سيتبيّن ذلك.
__________________
فهرس المحتويات
شرح
إعراب سورة مريم............................................................ ٣
شرح إعراب سورة طه........................................................... ٢٢
شرح إعراب سورة الأنبياء........................................................ ٤٥
شرح إعراب سورة الحج.......................................................... ٦٠
شرح إعراب سورة المؤمنين........................................................ ٧٧
شرح إعراب سورة النور.......................................................... ٨٨
شرح إعراب سورة الفرقان...................................................... ١٠٥
شرح إعراب سورة الشعراء...................................................... ١١٩
شرح إعراب سورة النمل....................................................... ١٣٥
شرح إعراب سورة القصص..................................................... ١٥٥
شرح إعراب سورة العنكبوت.................................................... ١٦٨
شرح إعراب سورة الروم........................................................ ١٧٨
شرح إعراب سورة لقمان....................................................... ١٩٢
شرح إعراب سورة السجدة..................................................... ١٩٩
شرح إعراب سورة الأحزاب..................................................... ٢٠٦
شرح إعراب سورة سبأ......................................................... ٢٢٧
شرح إعراب سورة فاطر........................................................ ٢٤٤
شرح إعراب سورة يس......................................................... ٢٥٨
شرح إعراب سورة الصافات.................................................... ٢٧٧
شرح إعراب سورة ص......................................................... ٣٠٢
|