تقديم

يتفق الباحثون في ان الضرورات التاريخية ألحت على المسلمين في الانفتاح على البحث العقلي الكلامي ، والانتقال في مباحث العقيدة ، وطريقة التفكير الديني إلى مرحلة جديدة ، تمتاز باستحداث منهج جديد في الفكر لم يكن للمسلمين به عهد.

لقد كانت طلائع ذلك في أواخر القرن الأول للهجرة ، وبدايات القرن الثاني. ويمكننا إجمال تلك الضرورات بالنقاط التالية :

أولا ـ انفتاح المسلمين على حضارة اليونان ، الذي تمثل واضحا في حركة الترجمة السريعة لتراثهم العلمي ، لا سيما ما يختص منه بالفلسفة والمنطق والعقيدة.

ثانيا ـ بروز حركة الإلحاد والزندقة في الوسط الاسلامي ، وقد حرص زعماؤها على استغلال الطريقة العلمية المنطقية في دعم تشكيكاتهم ومقولاتهم.

ثالثا ـ تطور العقلية الاسلامية ، إثر الابتعاد عن عصر النصوص ، ومواجهة اسئلة عقائدية بدأت تتزايد طبيعيا ، وتنبثق باستمرار ، الأمر


الذي دفع إلى محاولة الإجابة الشاملة عن تلك الاسئلة.

كانت هذه الضرورات شاخصة امام رجال الفكر المسلمين ، تدعوهم إلى اتخاذ موقف.

فالطريقة المنطقية في البحث سيطرت على الأفق ، وأحدثت ضجة كبيرة في الوسط الاسلامي ، فكان لا بدّ من دعم المعتقد الديني وتعزيزه على أساس هذه الطريقة.

كما ان العناصر غير الاسلامية برعت في استغلال هذه الطريقة بعد استعارتها من المصادر اليونانية وغيرها ، مما زاد في حراجة موقف العلماء الاسلاميين.

وكان في آخر المطاف اتساع أفق التفكير في المجمع الإسلامي عقيب التطورات والتحولات الاجتماعية والسياسية التي مر بها.

أمام هذا النداء التاريخي ، ظهر اتجاهان لتحديد الموقف ، واشباع حاجة النداء : اتجاه تقليدي محافظ. واتجاه تحرري منفتح.

مثل الاتجاه الأول (السلف والمحدثون) كما اصطلح عليهم أخيرا.

ومثل الاتجاه الثاني (العدلية) كما اصطلح عليهم أيضا.

طبعا. كان كل من الاتجاهين يقصد الدفاع عن ساحة العقيدة ، واكتساب النصر لها ، وإنما اختلفوا في طريقة ذلك. فالمحدثون رأوا ان مهمة الدفاع عن العقيدة تقتضي الامساك بالزمام سريعا ، وسد الباب أمام موجة الانفتاح الفكري ، أمام كتب اليونان ، أمام العقلية المتفتقة الجديدة ، أمام شبهات الملحدين الموسومة بالطابع المنهجي.


والبقاء المطلق في القشر الظاهري للنصوص (قرآنا وسنة) دون أية محاولة لتطعيمها بالأداة العقلية في البحث.

ومن هنا أعلنوها حربا صريحة ضد الاتجاه الثاني ، حتى كان من قولهم «لا تجوز الصلاة خلف المتكلم ، وان تكلم بحق فهو مبتدع» (١).

أما (العدلية) ـ نسبة إلى قولهم بالعدل الإلهي ـ فقد رأوا ان المواجهة الصحيحة تقتضي الترحيب بالمنهج العلمي الجديد ، وهضمه جيدا ، وبالتالي الانطلاق منه ، وبنفس الطريقة ، لدعم المعتقد الديني. وهكذا كان.

مدرسة أهل البيت (ع):

وكان الأئمة من أهل البيت (ع) في قلب الساحة ، وعلى تفهم تام لأبعاد المشكلة ، وفي سائر الميادين كانوا هم المرجع العلمي. حتى نجد ان الحسن البصري الذي هو من أبرز العلماء والوعاظ في عصر التابعين ، يكتب إلى الامام الثاني من أهل البيت (ع) ـ الحسن بن علي يسأله عن رأيه في مسألة القضاء والقدر التي أغلقت عليه (٢) ، وحتى بحد عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة ، يستعلم من الامام السادس من أهل البيت (ع) ـ جعفر الصادق ـ عن عدد كبير من قضايا التفسير وغيره (٣)

__________________

(١) مفتاح السعادة / طاش كبرى زاده / ج ٢ / ٢٤.

(٢) تحف العقول ، / ١٦٢.

(٣) بحار الانوار / ج ٤٧ / ٢١٦ وغيرها.


وكان موقفهم في مواجهة المشكلة يعتمد على أساس الثقة بالمعتقد الديني ، والثقة في الوقت ذاته بالتفكير العقلي المنطقي ، ومعنى هذا أنهم انطلقوا من الرؤية القائلة بأن احكام العقل لا تصطدم مع المعتقد الديني ، بل هي دائما في صالح العقيدة.

ومن هنا فلا خطر من حركة الانفتاح العقلي ، ولا شيء يخاف منه على الدين.

إذن فالموقف الصحيح هو الترحيب بالمنهج العلمي ، والاستفادة منه في دعم قضايا العقيدة. وكان هذا هو موقف المعتزلة ، الذين انشقوا عن السلف والمحدثين من أهل السنه.

وعلى ذلك فقد أصبح كل من الشيعة والمعتزلة يمثل الموقف الايجابي تجاه البحث العقلي الكلامي ، وكان لقب (العدلية) هو اللقب الجامع لهما ، من حيث اشتراكهما في الايمان بالعدل الالهي.

وتاريخيا تحرك كل من الشيعة والمعتزلة للنهوض بأعباء المهمة العلمية ، مهمة الدفاع عن المعتقد الديني بما يناسب المرحلة ، بينما ظل الآخرون ممثلو الاتجاه الأول (السلبي ، التقليدي) في حالة شه انغلاق ، وهروب من المسئولية. ومن رجال الشيعة والمعتزلة تركبت فئة (المتكلمين) ، الذين واجهوا باصرار وجدارة حركة الالحاد والزندقة ، وأشبعوا العقلية الجديدة ، وحصنوا إطار العقيدة كله.

يبقي ان نلاحظ في هذا الصدد أمرين :

الأمر الأول : ان مدرسة أهل البيت في الوقت الذي تحركت في


المجال العقيدي وسعت لاشباع حاجة المرحلة ، لم تنس أنها ذات مهمة شمولية يدخل في دائرتها كل ما يرتبط بالدين ، سواء على المستوى الفكري ، أو الخلقي ، أو السياسي. وسواء في العقيدة ، أو الفقه.

وحاجة الأمة في هذه المرحلة لم تقتصر على جوانب العقيدة ، وضرورة تأطيرها وصياغتها بشكل أنسب. وإنما كانت الحاجة مماثلة في الفقه أيضا ، في الحلال والحرام.

فقد اتسع أفق الناس في علاقاتهم ، وطريقة معيشتهم ، وصنوف تعاملهم ، بينما هم يبتعدون بالتدريج عن عصر النصوص (القرآن وسنة الرسول) ، ولأجل ذلك كانت الضرورة ملحة أيضا في التوفر على هذا الجانب ، وخلق فئة (الفقهاء) لاشباع هذه الحاجة.

وهنا أيضا كان أهل البيت (ع) في قلب الساحة ، وعلى تفهم تام لمستوى الحاجة ، وبذلك اندفعت مدرستهم لملء هذا المجال ، كما اندفعت لملء المجال العقيدي.

وقد كانت العناية مهمة للغاية بمستوى اننا نلاحظ ظاهرة (التخصص) في تلاميذ هذه المدرسة. فهناك فئة تخصصوا للجانب الفقهي ، يدخل فيها زرارة ، ومحمد بن مسلم ، وأبو بصير ورجال آخرون ، وفئة تخصصوا للجانب العقيدي يدخل فيهم هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، ومؤمن الطاق ، وآخرون.

وبهذه الطريقة وفقت هذه المدرسة للإجابة العملية ـ لا فقط النظرية ـ عن مخاوف وشكوك الاتجاه التقليدي السلبي ، حيث خيل لأربابه ان


الانفتاح على البحث العقلي الكلامي يعني التقدم على حساب صالح الفقه ـ قرآنا وسنة ـ ففي تصورهم يوجد تقابل حدي بين الفقه والكلام ، يوضح ذلك الكلمة المنسوبة إلى أحد رجالهم.

«حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلام» (١).

هذا التصور اجابت عنه عمليا مدرسة الشيعة التي أخذت على عهدتها التفرغ لكل من المهمتين ، والتوفيق بين العقل والدين.

وبهذا يمكن أن نسجل نقطة امتياز للشيعة على المعتزلة الذين يقفون في نفس الخط.

فقد لوحظ ان الاهتمام الكلامي عند المعتزلة أحدث عندهم انحسارا عن المهمة الفقهية ، فتركوا الساحة لغيرهم ـ إلا ما ندر ـ وربما يكونوا قد عولوا في ذلك على تفرغ المحدثين لهذه المهمة.

الأمر الثاني : وبحكم صعوبة البحث الكلامي ، وجدته في الوقت نفسه ، وخطورة موضوعه ، كان اطلاق العنان لكل الناس في خوضه والامعان فيه شيئا غير صحيح.

ولعل هذه الخطورة هي التي حدت بالسلف والمحدثين إلى الوقوف بوجه البحث الكلامي واعتباره بدعة وضلالا.

وبلا شك ، كان الايغال في هذه المباحث سببا مساعدا على ظهور حركة الالحاد والزندقة التي سندت نفسها بطابع العلمية والمنهجية.

__________________

(١) مفتاح السعادة / ج ٢ / ٢٦.


وتحسبا لهذه العواقب ، وتحفظا منها ، كان الأئمة من أهل البيت يرقبون باهتمام المشتغلين بعلم الكلام ، فيجيزون بعضا وينهون آخرين.

فقد روي ان الامام الصادق نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به ، فقال له بعض أصحابه : جعلت فداك نهيت فلانا عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال : هذا أبصر بالحجج وأرفق منه» (١).

وهناك رواية أخرى عن عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : قلت لأبي عبد الله (الصادق) (ع) : ان الناس يعيبون عليّ بالكلام ، وأنا أكلم الناس. فقال : أما مثلك مثل من يقع ثم يطير فنعم ، وأما من يقع ثم لا يطير فلا» (٢).

وبهذا نستطيع أن نفسر بعض ما ورد عن أهل البيت في النهي عن الاشتغال بعلم الكلام. كما أن به نستطيع أن نفسر ما يحكيه ابن الراوندي : بأن كثيرا من الشيعة كانوا يكرهون الكلام. فيما نقله عنه الخياط المعتزلي (٣).

* * *

على ان هناك مسألة حظت باهتمام الباحثين عن تاريخ العقيدة ، وهي مسألة الصلة بين التشيع والاعتزال. وفي الاغلب لم يكن الدخول في بحث هذه المسألة موضوعيا مخلصا.

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد / ١٧٢.

(٢) رجال الكشي / ٢٧١.

(٣) الانتصار في الرد على ابن الراوندي / ١٣.


وقد وجد رأيان في تحديد هذه الصلة هما على طرفي النقيض ، رأي يرجع التشيع الى الاعتزال ورأي يرجع الاعتزال الى التشيع. ويستند هؤلاء إلى تتلمذ واصل بن عطاء على أبي هاشم بن محمد بن الحنفية ابن الإمام على ، وتتلمذه أيضا على زيد بن علي بن الحسين. والواقع ان هذه الحجة لا يمكن الاعتراف لها بالصحة ، فانه لم تكن التلمذة وحدها في يوم من الأيام دليلا على التبعية ، وعلى سلب كل الابتكارات والابداعات عن التلميذ ونسبتها إلى الاستاذ. كما انه لم يعرف ما هي مادة البحث بين التلميذ واستاذه ، ومن المظنون قويا أن تكون هي الفقه والحديث ، كما كان هو المتداول. على ان هناك من ينكر تلمذة واصل على زيد ، ويحسبها مجرد زمالة علمية.

أما الذاهبون إلى تبعية الشيعة للمعتزلة ، فالى حد كبير لم تكن دعواهم هذه مبرهنة ، وكأنهم قنعوا بالتاريخ المجيد للمعتزلة ، ومبادراتهم الكلامية ، دليلا على أصالتهم وأسبقيتهم.

وقد حاول الدكتور عرفان عبد الحميد أن يبرهن على هذه الدعوى معتمدا على النقاط التالية :

أولا ـ وضوح الاتجاه العقلي لدى علماء الشيعة في العهد البويهي.

الأمر الذي فسره جملة من المؤرخين على أنه تأثر الشيعة بطريقة المعتزلة. كما ذكر ذلك المقريزي والمقدسي وغيرهما.

ثانيا ـ تشيع عدد من مشايخ المعتزلة ومتكلميهم ، مما يقتضي طبعا تسرب الفكر المعتزلي إلى الشيعة عن طريق هؤلاء.


ثالثا ـ أن أسبق كتاب عقائدي للشيعة هو كتاب الصدوق ٣٨١ ه‍ (عقائد الشيعة الامامية) وهو يجري في هذا الكتاب على طريقه المحدثين ، وبعيدا عن المنهج العقلي ، مما يعني ان قبول الشيعة لهذا المنهج جاء في عهد متأخر عن هذا التاريخ.

وسوف نتناول هذه الملاحظات في حدود ما يتسع له هذا التقديم ، وفي ايجاز ملحوظ.

ويجب أن نؤكد مسبقا على أن قضية التأثر المتبادل بين الشيعة والمعتزلة غير قابلة للشك.

وربما كانت ملاحظات الدكتور صالحة للاستشهاد بهما على هذه الحقيقة ، إلا ان ما ندخل لمناقشته هو اعتبار الفكر الشيعي فرعا على الاعتزال واقتباسا منه.

فبصدد الملاحظة الأولى يمكن القول : ان بروز المنهج العقلي في دائرة متكلمي الشيعة خلال فترة الحكم البويهي يرجع الى قضيتين تاريخيتين.

فمن ناحية كان الحكام البويهيين على مذهب الشيعة ، وبالطبع أتاح ذلك لمتكلمي الشيعة قدرا أكبر من النشاط والحركة ، بعد الضغط والمطاردة في طول تاريخ التشيع قبل هذا الحين.

ومعلوم ان حياة القلق والقمع التي عاناها الشيعة قبل هذا التاريخ لم توفر لهم الفرصة لمواصلة النشاط العلمي كالذي أتيح للمعتزلة يوم خضع لهم السلطان ، وأصبحوا يديرون أمور الدولة. فترة وجيزة


جدا هي التي تنفس فيها علماء الشيعة شبه حرية ، وهي فترة الامام الباقر. والإمام الصادق من أهل البيت.

أما بعد هذا التاريخ فقد كانت السلطات شديدة على رجال الشيعة ، وعلى سبيل المثال نجد ان أبا يحيى الجرجاني ـ وهو من متكلمي الشيعة ، وله تصانيف في الرد على الحشوية ، وله كتبا في الاحتجاج كثيرة ـ هجم عليه محمد بن طاهر ، فأمر بقطع لسانه ويديه ورجليه ، ويضربه ألف سوط ، ويصلبه (١).

وبأثر هذا الضغط صدرت أوامر من أهل البيت لشيعتهم ، بالأقلاع والسكوت عن المحاججات الكلامية. فقد كتب الإمام الكاظم (ع) الى هشام بن الحكم ينهاه عن الكلام ، قال هشام : فأمسكت عن الكلام (٢).

ولم يتحسن حال الشيعة حتى حكم البويهيون ، فأطلق العنان لعلماء الشيعة في التحرك العلمي ، وبهذا مارسوا نشاطاتهم بحرية ، ولوحظ في تصانيفهم وكتبهم المنهج العقلي في البحث.

ومن ناحية ثانية كان المعتزلة قد طردوا من دوائر أهل السنة ، بعد ان انقلبت الدائرة عليهم ، وكان ذلك في بداية عهد الواثق بالله ، وبذلك أصبح الشيعة وحدهم ، رواد البحث العقلي. وهذا هو الذي ساعد على اقتناع جملة من المؤرخين بانتقال منهج المعتزلة إلى التشيع.

__________________

(١) رجال الكشي / ٤٤٧.

(٢) رجال الكشي / ٢٣٠.


أما حقيقة الحال فهي انتهاء المعتزلة بعد الضربة السياسية ، وتحرر الشيعة في العهد البويهي.

وأما قضية تشيع عدد من رجال المعتزلة فيمكن القول : ان أحدا لا يشك في تأثر الشيعة بنتاج المعتزلة الفكري ، وذلك أمر طبيعي في كل نشاط علمي يعيش منطقة واحدة ، واعتقد ان إنكار التأثير والتأثر المتبادل بين كل المدارس العلمية التي عاشت المرحلة أمر غير موضوعي. وعلى هذا فأن تشيع عدد من المعتزلة لا يشهد على أكثر من تلاقح فكري بين الشيعة والمعتزلة ، دون أن يكون له أية دلالة على ان الشيعة استوردوا فكرهم الكلامي من المعتزلة.

وبصدد الملاحظة الثالثة مما ذكره الدكتور يمكن التعليق باختصار يناسب هذا التقديم ، بالقول :

ان كتبا عديدة في مجال العقائد سبقت كتاب الصدوق ، وجملة كبيرة منها كانت لأصحاب الأئمة (ع) ، ومن عاصروا مشايخ المعتزلة الأوائل. ورغم ان هذه الكتب فقدت خلال عمليات الاحراق والمصادرة التي منيت بها مكتبات الشيعة ، فأن ذلك لا يبعث على الشك في وجودها ، وصحة نسبتها ، بعد ما دونت اسماؤها في كتب التراجم ، ونسبت إلى مؤلفيها بطرق موثوقة. ومن اليقين أن طريقة البحث في الكثير من تلك التصانيف كانت عقلية ، وعلى طريقة المتكلمين ، نعرف ذلك من خلال تصوراتنا عن مؤلفيها ، أمثال هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، اللذين تشهد كل المسائل والآراء والمناقشات الواردة عنهم على


أنهم سلكوا طريقة البحث العقلي ، ونعرف ذلك أيضا حين ندرك ان طريقة المحدثين في البحث تضيق عن تناول المسائل العقائدية بشكل مفصل ومسهب ، ومن هنا لم يكن للمحدثين دور يذكر في التضيف في هذه المسائل. بينما نظرة واحدة في عناوين تلك الكتب والرسائل لأصحاب الأئمة تكفينا للاقتناع بسعة البحث ، وطبيعته العقلية.

على ان الصدوق ينتمي إلى مدرسة (قم) ، وهي مدرسة عرفت بتطرفها ، تجاه العقليين ، حتى كانت تتهم بالغلو من يؤمن بعصمة النبي وأهل البيت ، وقد شمل هذا الاتهام عددا كبيرا من علماء الشيعة آنذاك. ومعنى هذا ان الصدوق لا يمثل إلا اتجاها واحدا سلكته مدرسة قم ، ولا يمكن أبدا تعميم هذا الاتجاه ، ونسبته إلى الشيعة كلهم ، فأن الذين شملهم اتهام الصدوق بالغلو ، كانوا من الشيعة ، وممن مارسوا الأدلة العقلية ، واعتمدوا عليها في القول بعصمة الأئمة والأنبياء.

على ان الشيخ المفيد الذي رد كتاب الصدوق ، ومارس الطريقة العقلية ، يشيد بذكر (بني نوبخت) وكانوا من أبرز متكلمي الشيعة ، وممن انفتح على البحث العقلي ، وحتى مطالب الفلسفة ، كما يظهر من آرائهم التي يستعرضها الشيخ في كتاب (أوائل المقالات).

ومن المفيد ان ننقل نص كلام ابن النديم عند ذكر (الحسن بن موسى النوبختي) ، فقد قال «متكلم فيلسوف ، كان يجتمع إليه جماعة من النقلة لكتب الفلسفة ، مثل أبي عثمان الدمشقي وإسحاق وثابت


وغيرهم» (١).

وقال أيضا عند ذكر (أبو سهل اسماعيل).

«وكان فاضلا متكلما ، وله مجلس يحضره جماعة من المتكلمين»

وبعد فانه لا ينبغي ان ننسى أثر الوضع التاريخي للشيعة على حركتهم وبروزهم العلمي ، ولا يصح لنا بحال ان نقرن بينهم وبين المعتزلة الذين عضدتهم السياسة ، ودعمت وجودهم ونشاطهم.

وعلى أي حال فأن المتتبع لتاريخ الشيعة يرى بوضوح كامل أن صفوة من رجالهم المعاصرين للأئمة (ع) ، قد اشتغلوا في علم الكلام ، بمنهجه العقلي.

يمكن أن نستشهد لذلك فعلا وبقدر يناسب التقديم بمجموعة نصوص تاريخية.

هناك نص يقول ان علي بن يونس سأل الإمام الرضا (ع) عن اختلاف الشيعة ، فقال (ع) : في أي شيء اختلفوا؟

قلت : جعلت فداك من ذلك ما اختلف فيه زرارة وهشام بن الحكم ، فقال زرارة ان المنفي ليس بشيء وليس بمخلوق ، وقال هشام ان المنفي شيء مخلوق.

فقال لي : قل في هذا بقول هشام ولا تقل بقول زرارة» (٢)

مسألة عقيلة ، وأدلتها مستندة إلى العقل ولا ترتبط بالنصوص في

__________________

(١) أنظر الفهرست / ابن النديم / ٢٥١.

(٢) رجال الكشي / ٢٢٩.


شيء ، ومع هذا فقد كانت محلا لدراسة هشام وزرارة ، ومحلا لاهتمام السائل.

هناك نص آخر عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله (الامام الصادق) بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام. فأقبلت أقول يقولون كذا وكذا. قال : فيقول لي قل كذا» (١).

ويبدو أن توغل بعض علماء الشيعة يوم ذاك في الأبحاث الكلامية العقلية بلغ إلى حد أثار تساؤل القطاع العام من الشيعة الذين لم يألفوا هذه الأبحاث.

يحدثنا جعفر بن عيسى انه قال للامام موسى بن جعفر :

يا سيدي نستعين بك على هذين الشيخين يونس وهشام وهما حاضران ، وهما أدبانا وعلمانا الكلام ، فان كنا يا سيدي على هدى فقرنا ، وإن كنا على ضلال فهذان أصلانا ، فمرنا بتركه ونتوب إلى الله منه يا سيدي ، فادعنا الى دين الله نتبعك.

فقال (ع) : ما أعلمكم إلا على هدى ، جزاكم الله خيرا على النصيحة القديمة والحديثة» (٢).

* * *

وعلى ضوء القرائن المتقدمة فالذي نميل إليه ـ وإن كنا نختلف بذلك حتى مع بعض كتاب الشيعة ـ هو الاعتراف بالاستقلالية في البحث

__________________

(١) رجال الكشي / ٢٣٣.

(٢) رجال الكشي / ٤٢٠.


والمنهج لكل من الشيعة والمعتزلة ، والاعتراف بالاصالة لهما معا. فلا جهد الشيعة كان ثانويا وتتميما ، ولا جهد المعتزلة كان ذلك.

والوحدة في النتائج ، والآراء الكلامية بين الشيعة والمعتزلة في الغالب ، جاءت بسبب وحدة المنهج الذي مارسه كل منهما. غير ان الانتصار السياسي الذي حازه المعتزلة ، واشغالهم للدوائر والمناصب الرسمية ، وفي المقابل التطويق السياسي المستمر الذي أحاق بالشيعة ، هما السبب في تألق نجم المعتزلة ، وضمور نجم الشيعة في هذا المجال.

حتى على مستوى الفقه كان ذلك واضحا ، فرغم ان أهل البيت باعتراف الجميع كانوا في القمة ، فان مذهبهم الفقهي لم يظفر بالاعتراف به فضلا عن تأييده والانتماء إليه.

اذن فالنفوذ إلى أعماق التاريخ ، وتجاوز السطح الظاهري له ، يؤكد لنا ما انتهينا إليه من رأي في تحديد الصلة بين الشيعة والمعتزلة ، والاعتراف بالاصالة لكل منهما.

وكانت طريقتي في ذلك إثبات الاقتران في البداية التاريخية لخوض المسائل الكلامية ، بين الشيعة والمعتزلة ، فقد كان هناك واصل وعمرو بن عبيد ، وكان هناك في خط الشيعة هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم وآخرون.

لقد كان هشام هو الناطق باسم مدرسة أهل البيت ، وكان متكلما ذائع الصيت ، وصاحب شخصية لامعة ، حتى أن عمرو بن عبيد ـ شيخ المعتزلة ـ لم يخطر على باله أحد يقوى على مناقشته وإفحامه


سوى هشام بن الحكم ، في المناقشة المعروفة التي جرت بينهما ، والتي كان هشام فيها متنكرا.

وقائمة مؤلفات هشام تذكر ان له كتاب (التوحيد) و (الرد على أصحاب الاثنين) و (الرد على أصحاب الطبائع) و (الجبر والقدر) و (المعرفة) و (الاستطاعة) (١). وكلها كتب كلامية عقلية.

* * *

وهناك (أبو سهل النوبختي) الذي تقدم ذكره ، وله كتاب (تثبيت الرسالة) و (الرد على أصحاب الصفات) و (الرد على من قال بالمخلوق) و (كتاب الصفات) (٢).

وعلى ذلك لا يبقى أي مجال للقول بأن الشيعة ورثوا المنهج العقلي من المعتزلة في وقت متأخر.

* * *

وفي ختام هذا البحث نود الاشارة إلى دعوى غريبة بصدد البرهنة على اصالة الفكر الشيعي ، وعدم اقتباسه من المعتزلة. ذلك ما ذكره الاستاذ هاشم معروف من ان الخلاف بين الشيعة والمعتزلة أكثر من الخلاف بينهم وبين الاشاعرة ، وعلى ذلك لا يصح أبدا القول باقتباس الشيعة من المعتزلة (٣).

__________________

(١ ـ ٢) انظر الفهرست / ابن النديم).

(٣) انظر (الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة) / ٢٨٣.


فالذي نراه أن اقتراب الشيعة من المعتزلة فكريا ، وفي الآراء الكلامية ، أمر غير قابل للتشكيك وهذا هو الذي ساعد على الوهم القائل بتبعية الشيعة للمعتزلة لقد استخدم الشيعة والمعتزلة منهجا واحدا ، ومشيا بخطى واحدة ، والعقلية التي يلمسها القارئ لأفكار المعتزلة يجدها نفسها في أفكار وكتابات الشيعة ، حتى إنه من الصعب تمييز الكاتب فيما إذا كان شيعيا أو معتزليا ـ لو قطع النظر عن مسألة الإمامة ـ.

ونحن في غنىّ عن هذا الجدل بعد أن اكتشفنا أصالة الفكر الشيعي عن طريق الالتفات إلى الاقتران التاريخي في البداية الكلامية.


طريقة تحقيق الكتاب :

اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ

الأولى ـ نسخة خطبة في مكتبة الامام الحكيم العامة ، في النجف الأشرف. وهي بخط الشيخ محمد طاهر السماوي وبتاريخ ١٣٣٦ ه‍. وتقع في ١١٨ ورقة. وبرقم ١٠٨٤.

وقد رمزنا لهذه النسخة بالحرف (أ).

الثانية ـ نسخة خطية في مكتبة سماحة الحجة الشيخ علي كاشف الغطاء في النجف الأشرف. وهي نسخة مجهولة الناسخ ، وتاريخ النسخ. كما إنها غير مشتملة على أكثر مباحث العبادات ، فالموجود منها ينتهي إلى كتاب الصلاة عدا أوراق منه.

وقد رمزنا لهذه النسخة بالحرف (ب).

الثالثة ـ نسخة مصورة عن أصل مصور أيضا موجود في المكتبة المركزية التابعة لجامعة طهران ، وتقع في ١٧٩ ورقة بخط عبد المجيد ابن مظفر التوبلي الكوري ، وبتاريخ ١٠٤٤ هجرية. شهر جمادى الأولى. وهي نسخة شاملة ، جيدة الخط. اعتمدنا عليها في تتميم كثير من نواقص النسختين السابقتين.

وقد رمزنا لهذه النسخة بالحرف (ج).

هذا وقد أغفلت الإشارة إلى كثير من الأغلاط الواضحة ، والمصححة


في نسخة أخرى ، كما أغفلت الإشارة إلى اختلاف النسخ في طريقة الترقيم ففي بعضها أحدها ، وفي أخرى رقم ١ وفي ثالثة الحرف (أ)

كما وأغفلت الإشارة إلى بعض الإضافات الساقطة من بعض النسخ والموجودة في أخرى. مثل كلمة (تعالى) بعد ذكر لفظ الجلالة» أو الصلاة على محمد وآله ، أو التعليق على المشيئة.

وقد كان عزمنا في البداية على التوسع في تحقيق هذا الكتاب ، على مستوى الشرح والتعليق ، لو لا اننا رأينا ذلك خارجا عن مهمة المحقق ، كما أن حجم الكتاب لا يساعد على ذلك ، فقد حرصنا على أن يكون بالحجم المناسب.

ومن هنا آثرنا الاقتصار على تحقيق النسخ الخطية ، والمقارنة بينها ، مع إضافة تعاليق مختصرة وقليلة.

هذا وقد عمدنا إلى تقسيم الكتاب إلى خمسة أقسام حسب مواضيعه :

القسم الأول : مباحث التوحيد.

القسم الثاني : مباحث الوعد والوعيد.

القسم الثالث : مباحث النبوة.

القسم الرابع : مباحث الإمامة.

القسم الخامس : مباحث العبادات.

وقد جاء هذا التقسيم شاملا ، عدا بعض الفصول التي لم تدخل تحت واحد من تلك الأقسام.

وعمدنا أيضا إلى عنونة فصول جديدة حسب ما يناسب موضوع


البحث ، ومن أجل التسهيل على القارئ. واشرنا إلى العناوين المضافة في محالها.

كما ان العناوين الجانبية الموضوعة في هذا الكتاب ليست في الأصل ، وإنما وضعناها تسهيلا. وفصول الكتاب جاءت في الأصل غير مرقمة ، ورأينا من الأحسن ترقيمها.

* * *

أما نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ الطوسي رحمه‌الله فهي قطعية. فقد ذكره الشيخ من جملة مؤلفاته في كتابه (الفهرست) ، كما إنه أحال فيه على مجموعة من كتبه كالنهاية ، وتلخيص الشافي ، والمفصح في الامامة ، وشرح الجمل ، وغيرها. كما ان النسخ التي اعتمدنا عليها في التحقيق متفقة على نسبته إليه.

النجف الأشرف

لجنة التحقيق

في جمعية منتدى النشر


بسم الله الرّحمن الرّحيم (١)

الحمد لله على سوابغ نعمه ، وتتابع مننه ، وترادف إنعامه ، وتوالي أفضاله ، وله الشكر الجزيل على جزيل فواضله ، وكريم مواهبه ، وصلى الله على سيد انبيائه ، وخاتم اصفيائه ، محمد النبي المنتجب ، من أشرف العناصر. وأكرم المناسب (٢) ، وعلى آله الطيبين ، الأئمة الراشدين ، النجوم الزاهرة ، والغرر الباهرة ، وسلم تسليما.

وبعد :

فاني ممتثل ما رسمه الشيخ الأجل (٣) أطال الله بقاه ، وعضد كافة أوليائه بطول أيامه ، وامتداد زمانه ، وجعل ما خوله من محبة العلم

__________________

(١) زاد في (ب) «وبه نستعين».

(٢) في (ه) المناصب.

(٣) لم نظفر في حدود تحقيقنا بالشيخ المقصود. وإذا كان هذا اللقب قد ينصرف ـ حين يطلقه الشيخ الطوسي ـ الى أشهر مشايخه وهو الشيخ المفيد ، فقد ثبت لدينا خلافة. ذلك ان الشيخ الطوسي قد ألف هذا الكتاب بعد وفاة السيد المرتضى وهي سنة ٤٣٦ ه‍ دلنا على ذلك عبارة المؤلف في فصل قادم من هذا الكتاب حيث قال «كان المرتضى علي بن الحسين الموسوي رحمة الله عليه يختار» وواضح أن هذا التعبير يناسب وفاة المحكي عنه. هذا من جهة ومن


وأهله ، وإيثار (١) الدين ، وصرف الهمة إليه ، وحبه (٢) لديه (٣) : مما يكسبه الجمال عاجلا ، ويثمر الخلاص أجلا ، من املاء مختصر يشتمل على بيان ما يجب اعتقاده ومعرفته ، ويلزم العمل به ، والمصير إليه ، مما لا يخلو منه مكلف في حال من الأحوال ، وأن أقرب ذلك بأدلة واضحة ، وبراهين نيرة ، لا أطول القول فيها فيمله ، ولا أقصر عن (٤) الاتيان على الغرض فيحصر دونه ، واتبع ذلك بما يجب العمل به من العبادات على وجه الاختصار ، مما لا يستغني عنه ، فأن الكتب المعمولة في الاصول والفروع كثيرة غير انها مبسوطة جدا ، أو مختصرة لا تأتي على الغرض. وأنا ممتثل ما رسمه ، ومجيب الى ما دعا إليه وآثره ، ومن الله تعالى (٥) أستمد المعونة ، وإياه اسأل التوفيق (٦)

__________________

جهة ثانية فان عبارة الشيخ الطوسي في هذه المقدمة صريحة في حياة الشيخ الأجل حين تأليف هذا الكتاب لدعائه له بطول البقاء. وبالجمع بين هاتين الملحوظتين يتأكد استحالة ان يكون هذا الشيخ هو الشيخ المفيد ، فأن وفاته كانت سنة ٤١٣ ه‍ ، والكتاب مؤلف بعد وفاة السيد المرتضى سنة ٤٣٦ ه‍ ، وفي الوقت نفسه يفترض حياة هذا الشيخ الأجل.

(١) في (أ) وإيثاره.

(٢) في (ب) وحببه.

(٣) في ح ل (ب) إليه. وجملة (وحبه لديه) ساقطة من ح.

(٤) في (ب) على وكذا في. (ح)

(٥) في ح الكريم.

(٦) في ح أضاف (لإتمامه). والاضافة الآتية ساقطة منه.


فهما المرجوان من جهته ، «والمسئولان من قبله» (١).

وقد رتبته على فصول (٢).

__________________

(١) ما بين القوسين بدله في ب «والمستمدان من جهته إن شاء الله».

(٢) الجملة ساقطة من أوب.


فصل (١)

فيما يلزم المكلف

الذي يلزم المكلف أمران : علم وعمل. فالعمل تابع للعلم ومبني عليه ، والذي يلزم العلم به أمران : التوحيد والعدل.

فالعلم بالتوحيد لا يتكامل إلا بمعرفة خمسة أشياء. احدها : معرفة ما يتوصل به إلى معرفة الله تعالى. والثاني : معرفة الله على جميع صفاته. والثالث : معرفة كيفية استحقاقه لتلك الصفات. والرابع : معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز. والخامس : معرفته بانه واحد لا ثاني له في القدم. والعدل لا يتم العلم به إلا بعد العلم بأن افعاله كلها حكمة وصواب ، وأنه ليس في أفعاله قبيح ، ولا اخلال بواجب.

ويتفرع من ذلك وجوب معرفة خمسة اشياء. احدها : معرفة حسن التكليف وبيان شروطه وما يتعلق به. والثاني : معرفة النبوة وبيان شروطها. والثالث : معرفة الوعد والوعيد وما يتعلق بهما. والرابع : معرفة الامامة وشروطها. والخامس : معرفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأنا ان شاء الله ابين فصلا فصلا من ذلك على أخصر ما يمكن وأوجزه ، واردف ذلك بما يجب العمل (١) به من الشرعيات على هذا المنهاج ان شاء الله ومن جهته التوفيق والتسديد.

__________________

(١) في (أ) العلم به. والصحيح ما كتبناه.


فصل (٢)

في ذكر بيان ما يتوصل به الى ما ذكرناه

لا طريق إلى معرفة هذه الأصول التي ذكرناها إلا بالنظر (١) في طرقها ، ولا يمكن الوصول إلى معرفتها من دون النظر. وإنما قلنا ذلك لأن الطرق إلى معرفة الأشياء أربعة لا خامس لها.

أولها : ان يعلم الشيء ضرورة لكونه مركوزا في العقول كالعلم بان الاثنين أكثر من واحد ، وان الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة ، وأن الجسمين لا يكونان في مكان واحد في حالة واحدة ، والشيء لا يخلو من ان يكون ثابتا أو منتفيا ، وغير ذلك مما هو مركوز في العقول.

والثاني : ان يعلم من جهة الإدراك إذا أدرك وارتفع اللبس ، كالعلم بالمشاهدات والمدركات لسائر (٢) الحواس.

والثالث : ان يعلم بالأخبار ، كالعلم بالبلدان والوقائع وأخبار الملوك وغير ذلك.

والرابع : ان يعلم بالنظر والاستدلال.

__________________

(١) سيتناول المصنف في فصل قادم من هذا الكتاب مبحث المعارف ، ويدرس مسألة وجوب النظر ، وتوليده للعلم ، ومسائل أخرى ، فراجع.

(٢) في ح بسائر.


والعلم بالله تعالى ليس بحاصل من الوجه الأول لأن ما يعلم ضرورة لا يختلف العقلاء فيه بل يتفقون عليه ، ولذلك لا يختلفون في ان الواحد لا يكون أكثر من اثنين ، وان الشبر لا يطابق الذراع والعلم بالله فيه خلاف بين العقلاء ، وكيف يجوز ان يكون ضروريا ، وليس الادراك أيضا طريقا الى العلم بمعرفة الله تعالى لأنه تعالى ليس بمدرك بشيء من الحواس على ما سنبينه فيما بعد (١) ، ولو كان مدركا محسوسا لأدركناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة.

والخبر أيضا لا يمكن ان يكون طريقا إلى معرفته لأن الخبر الذي يوجب العلم هو ما كان مستندا إلى مشاهدة وإدراك ، كالبلدان والوقائع وغير ذلك ، وقد بينا أنه ليس بمدرك ، والخبر الذي لا يستند إلى الادراك لا يوجب العلم ، ألا ترى ان جميع المسلمين يخبرون من خالفهم بصدق محمد (ص) فلا يحصل لمخالفهم العلم به لأن ذلك طريقه الدليل ، وكذلك جميع الموحدين يخبرون الملحدة بحدوث العالم فلا يحصل لهم العلم به لأن ذلك طريقه الدليل. فاذا بطل ان يكون طريق معرفته الضرورة أو المشاهدة أو الخبر لم يبق إلا ان يكون طريقه النظر (٢).

فان قيل : اين أنتم عن تقليد الآباء والمتقدمين؟

قلنا : التقليد إن أريد به قبول «قول» (٣) الغير من غير حجة

__________________

(١) في فصل (ما يجوز عليه وما لا يجوز).

(٢) في ح للنظر.

(٣) الكلمة ساقطة من (أ).


وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول لأن فيه إقداما على ما لا يأمن (١) كون ما يعتقده «عند التقليد» (٢) جهلا لتفرده (٣) من الدليل ، والاقدام على ذلك قبيح في العقول ، ولأنه ليس في العقول تقليد الموحّد أولى من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا ، ولا يجوز ان يتساوى الحق والباطل.

فان قيل : تقليد المحق دون المبطل.

قلنا : العلم بكونه محقا لا يمكن حصوله إلا بالنظر ، لأنا ان علمناه بتقليد آخر أدى إلى التسلسل ، وإن علمناه بدليل فالدليل الدال على وجوب القبول منه يخرجه من (٤) باب التقليد ، ولذلك «لا يكون» (٥) أحدنا مقلدا للنبي أو المعصوم فيما يقبله منه لقيام الدليل على صحة ما يقوله.

وليس يمكن ان يقال يقلد الأكثر ويرجع إليهم ، وذلك لأن الأكثر قد يكونون على ضلال. بل ذلك هو المعتاد المعروف ، ألا ترى ان الفرق المبطلة بالإضافة إلى الفرق المحقة جزء من كل وقليل من كثير. ولا يمكن ان يعتبر أيضا بالزهد والورع لأن في مثل ذلك يتفق في المبطلين ، فلذلك ترى رهبان النصارى على غاية العبادة

__________________

(١) في (أ) ما يأمن. والصحيح ما كتبناه.

(٢) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(٣) في ح لتعريه.

(٤) في أ(عن).

(٥) في ح لم يكن


ورفض الدنيا مع انهم على باطل ، فعلم بذلك اجمع فساد التقليد.

فان قيل : هذا القول يؤدي إلى تضليل أكثر الخلق وتكفيرهم لأن أكثر من تعنون من العقلاء لا يعرفون ما يقولونه «من» (١) الفقهاء والأدباء والرؤساء والتجار وجمهور العوام ولا يهتدون إلى ما يقولونه وإنما يختص بذلك طائفة يسيرة من المتكلمين وجميع من خالفهم ببدعهم في ذلك ، ويؤدي إلى تكفير الصحابة والتابعين وأهل الأمصار ، لأنه معلوم ان (٢) أحدا من الصحابة والتابعين لم يتكلم فيما تكلم فيه المتكلمون ولا سمع منه حرف واحد ، ولا نقل عنهم شيء منه ، فكيف يقال بمذهب يؤدي إلى تكفير أكثر الأمة وتضليلها وهذا باب ينبغي أن يزهد فيه ويرغب عنه.

قيل : هذا غلط فاحش ، وظن بعيد ، وسوء ظن بمن أوجب النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ، ولسنا نريد بالنظر المناظرة والمحاجة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون وتجري بينهم ، فان جميع ذلك صناعة فيها فضيلة ، وإن لم تكن واجبة ، وإنما أوجب النظر الذي هو الفكر في الأدلة الموصلة إلى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه (ص) وصحة ما جاء به ، وكيف يكون ذلك منهيا عنه أو غير واجب ، والنبي (ص) لم يوجب القبول منه على أحد إلا بعد. إظهار الاعلام المعجزة من القرآن وغيره ، ولم يقل لأحد أنه يجب

__________________

(١) في أساقطة.

(٢) في ح لان.


عليك القبول من غير آية ولا دلالة ، وكذلك تضمن القرآن من أوله الى آخره التنبيه على الأدلة ، ووجوب النظر. قال الله تعالى (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (١) وقال (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢) وقال (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣) وقال (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) (٤) الآية ، وقال (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ، ـ إلى قوله ـ (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٥) ، وقال (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) ـ إلى قوله ـ (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٦) وقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ـ إلى قوله ـ (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٧) ، وقال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٨)

__________________

(١) الاعراف : ١٨٥.

(٢) الغاشية : ١٩.

(٣) الذاريات : ٢١.

(٤) عبس : ١٨.

(٥) آل عمران : ١٩٤.

(٦) عبس : ٢٦.

(٧) المؤمنون : ١٢.

(٨) الزمر : ٤٢. وغيرها.


و (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١) و (لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢) و (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (٣) يعني عقل ، وغير ذلك من الآيات التي تعدادها يطول. وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الأدلة ، وينصبها ، ويدعو إلى النظر فيها ومع ذلك يحرمها؟ إن ذلك (٤) لا يتصوره إلا غبي جاهل.

فأما من أومي إليه من الصحابة والتابعين وأهل الأمصار من الفقهاء والفضلاء والتجار والعوام ، فأول ما فيه انه غير مسلم ، بل كلام الصحابة والتابعين مملوء من ذلك وهو شائع وذائع في خطب أمير المؤمنين (ع) في الاستدلال على الصانع ، والحث على النظر والفكر في إثبات الله تعالى معروف مشهود وكذلك كلام الأئمة (ع) من أولاده ، وعلماء المتكلمين في كل عصر معروفون مشهورون ، وكيف يجحد ذلك وينكر وجوده وقد (٥) روي عن النبي (ص) أنه قال «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه» (٦) ، وقال أمير المؤمنين (ع) في خطبته المعروفة «أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه لشهادة العقول ان من حلته الصفات

__________________

(١) البقرة : ١٤٦ وغيرها.

(٢) آل عمران : ١٩٠ وغيرها.

(٣) ق : ٣٧.

(٤) في ح : هذا.

(٥) في ح : وروي.

(٦) جامع الأخبار / ٥.


مخلوق (١) ، وشهادتها أنه خالق ليس بمخلوق» ثم قال «بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول يعتقد معرفته ، وبالنظر تثبت حجته ، معلوم بالدلالات ، مشهور بالبينات» (٢) إلى آخر الخطبة. وخطبه في هذا المعنى أكثر من أن تحصى ، وقال الحسن (ع) «والله ما يعبد الله إلا من عرفه ، فأما من (٣) لا يعرفه فإنما يعبده (٤) هكذا ضلالا وأشار بيده» ، وقال الصادق (ع) «وجدت علم الناس في أربع ، أولها ان تعرف ربك ، والثاني ان تعرف ما صنع بك. والثالث ان تعرف ما أراد منك ، والرابع ان تعرف ما يخرجك من ذنبك (٥)» (٦).

ثم انه يلزم مثل ذلك الفقهاء. وأنا نعلم «ان» (٧) ما فرعه الفقهاء من المسائل ودونوه في كتبهم ودارت بينهم من العلل والأقيسة

__________________

(١) في ح فهو مخلوق.

(٢) رواه بأكامله ابن شعبة الحراني في (تحف العقول) مع خلاف يسير في العبارة. وورد المقطع الأول منها في كل من كتاب (أصول الكافي) للشيخ الكليني ، ص ١٤٠ ، الجزء الأول ، وكتاب (نهج البلاغة). الخطبة الأولى.

(٣) في ح لم يعرفه.

(٤) في أفعبادته.

(٥) في ح دينك.

(٦) «الخصال» للشيخ الصدوق ، باب الأربعة.

(٧) ساقطة من أوب.


لم يخطر لأحد من الصحابة والتابعين ببال ، ولا نقل شيء منه عن واحد منهم ، فينبغي ان يكون ذلك كله باطلا «أو يقولوا» (١) ان الصحابة لم يكونوا عالمين عارفين بالشرع ، فأي شيء أجابوا عن ذلك في الفروع فهو جوابنا في الأصول بعينه ، وهو ان يقال إنهم كانوا عالمين «بأصول الشريعة» (٢) فلما حدثت حوادث في الشرع لم تكن استخرجوا أجوبتها من الأصول ، «قلنا مثل ذلك فانهم كانوا عارفين بالأصول من التوحيد والعدل مجملا فلما حدثت شبهات لم تسبهقم استخرجوا أجوبتها من الأصول» (٣). ولو سلمنا أنهم كانوا غير عارفين بما يعرفه المتكلمون لم يدل على ما قالوه ، لأنه «يجوز» (٤) ان يكونوا عالمين بالله تعالى على وجه الجملة ، وخرجوا بذلك من حد التقليد ، وتشاغلوا بالعبادة أو الفقه أو التجارة ، ولم ينقدح لهم فيما اعتقدوه شك ، ولا خطرت لهم شبهة يحتاجون إلى حلها فاقتنعوا بذلك ، وكانوا بذلك قد أدوا ما وجب عليهم. والمتكلمون لما أفرغوا وسعهم لعلم هذه الصناعة خطرت لهم شبهات ، ووردت عليهم خواطر ، لزمهم حل ذلك ، والتفتيش عنه حتى لا يعود ذلك بالنقض على ما علموه ، وكل من يجري مجراهم ممن تخطر له هذه الشبهات فإنه يلزمه حلها ، ولا يجوز له الاقتصار على علم الجملة فانه لا يسلم له

__________________

(١) في أاو ان يقولوا.

(٢) في (أ) بالشريعة.

(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(٤) في ح لا يجوز.


ذلك مع هذه الشبهة ، ومن لا يخطر له ذلك لبلادته أو لعدوله عنه أو لتشاغله (١) بعبادة أو فقه أو دنيا فانه لا يلزمه التغلغل فيه ، ولا البحث عن الشبهات حتى (٢) يلزمه التفتيش عنها والأجوبة عليها ، وإن فرضنا في آحاد الناس من لم يحصل له علم الجملة ولا علم التفصيل وإنما هو على تقليد محض «فانما هو» (٣) مخطئ ضال عن طريق الحق وليس يتميز لنا ذلك.

فان قالوا : أكثر من أومأتم إليه إذا سألتموه (٤) عن ذلك لا يحسن الجواب عنه.

قلنا : وذلك أيضا لا يلزم ، «لأنه لا يمتنع» (٥) ان يكون عارفا على الجملة وإن تعذرت عليه العبارة عما يعتقده ، وتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا ارتفاعه.

فان قيل : قد ذكرتم إنه يخرج الإنسان عن حد التقليد بعلم الجملة. ما حد ذلك؟ بينوه لنقف عليه.

قلنا : أحوال الناس تختلف في ذلك فمنهم من يكفيه الشيء اليسير ، ومنهم من يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره ، حتى يزيد بعضهم على بعض إلى حد لا يجوز له الاقتصار على علم الجملة.

__________________

(١) في ح تشاغله بحذف اللام.

(٢) في ح هكذا حتى يلهه يلزمه.

(٣) في ح فانه.

(٤) في ح مسألته.

(٥) ما بين القوسين ساقط من (أ).


بل يلزمه «علم» (١) التفصيل لكثرة خواطره ، وتواتر شبهاته ، وليس يمكن حصر ذلك بشيء لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه.

فان قيل : فعلى «كل» (٢) حال بينوا «لنا» (٣) مثالا على وجه التقريب.

قلنا : أما على وجه التقريب فأنا نقول : «ان» (٤) من فكر في نفسه فعلم انه لم يكن موجودا ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظما ثم جنينا في بطن أمه ميتا ثم صار حيا فبقي مدة ثم ولد صغيرا فتتقلب به الأحوال من صغر إلى كبر «ومن طفولة إلى رجولة» (٥) ، ومن عدم عقل إلى عقل كامل ، ثم الى الشيخوخة ، وإلى الهرم ، ثم «إلى» (٦) الموت ، وغير ذلك من أحواله ، علم ان هاهنا من يصرفه هذا التصريف ، ويفعل به هذا الفعل ، لأنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه ، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن فعل (٧) ذلك ، فعلم بذلك إنه لا بد من ان يكون هناك من هو قادر على ذلك ، مخالف له ، لأنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه ، ويعلم انه لا بدّ

__________________

(١) في ب وح على.

(٢) ساقطة من أون.

(٣) في (ب) و (ح) لذلك.

(٤) ساقطة من ح.

(٥) في أمن طفولية الى رجولية.

(٦) الحرف (الى) ساقط من ب وح.

(٧) في ب وح نيل ذلك.


ان يكون عالما ، من حيث ان ذلك في غاية الحكمة والاتساق مع علمه الحاصل بان بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم ، وبهذا القدر يكون عالما بالله على الجملة. وهكذا إذا نظر في بذر يبذر ، فينبت منه أنواع الزرع والغرس ، ويصعد إلى منتهاه ، فمنه ما يصير شجرا عظيما ، يخرج منه أنواع الفواكه ، والملاذ ، ومنه ما يصير زرعا يخرج منه أنواع الأقوات ، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة (١) ، ومنه ما يكون خشبة في غاية الطيب كالعود الرطب ، وغير ذلك ، وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء ، والعنبر الذي يخرج من البحر ، فيعلم بذلك ان مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك واتساقه ، «وعجزه» (٢) وعجز امثاله عن ذلك ، فيعلم بذلك إنه مخالف «لجميع» (٣) أمثاله فيكون عارفا بالله على الجملة.

وكذلك إذا نظر إلى السماء صاحية ، فتهب الرياح ، وينشأ السحاب ، ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق ثم ينزل منه من المياه البحار (٤) العظيمة التي تجري منها الأنهار العظيمة والأودية الوسيعة ، وربما كان فيه البرد (٥) مثل الجبال كل ذلك (٦)

__________________

(١) في ح اضاف (الروائح).

(٢) الكلمة ساقطة من (ب).

(٣) في (أ) عن جميع.

(٤) في ح والبحار.

(٥) البرد : بفتح الباء ، والراء ، وسكون الدال. ماء الغمام يتجمد في الهواء البارد ويسقط على الأرض.

(٦) في أوب كذلك.


في ساعة واحدة ثم يقشع السماء ، وتبدو الكواكب أو تطلع الشمس أو القمر ، كأن ما كان لم يكن ، من غير تراخ ، ولا زمان بعيد ، فيعلم ببديهته إنه لا بدا ان يكون من صح ذلك منه قادرا «عليه متمكنا منه» (١) ، وإنه مخالف له ولأمثاله ، فيكون عند ذلك عارفا بالله ، وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكرها ..

فمتى عرف الانسان هذه الجملة ، وفكر فيها هذا الفكر ، واعتقد هذا الاعتقاد ، فان مضى على ذلك ولم بشعبه (٢) خاطر ، ولا طرقته شبهه ، فهو ناج متخلص. واكثر من اشرتم إليه يجوز ان يكون هذه صفته. وإن بحث عن (٣) ذلك ، وعن علل ذلك ، فطرقته شبهات ، وخطرت له خطرات ، وادخل عليه قوم ملحدون ما حيره ، وبلبله ، فحينئذ يلزمه التفتيش ، ولا تكفيه هذه الجملة. ويجب عليه ان يتكلف البحث والنظر على ما سنبينه ليسلم (٤) من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل ، ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل كما (٥) وعدنا به ان شاء الله.

فان قيل : أصحاب الجمل (٦) على ما ذكرتم لا يمكنهم ان يعرفوا

__________________

(١) في ح هكذا (على كل ممكن فيه).

(٢) شعب الشيء : فرقه وقطعه.

(٣) في (ب) على.

(٤) في (ب) وليسلم. بوار العطف.

(٥) في ح على ما وعدنا به.

(٦) في (أ) أصحاب الجهل. والصحيح ما اثبتناه ، والمراد أصحاب علم الجملة.


صفات الله تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز منها على طريق الجملة ، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يمكنهم ان يعلموا ان افعاله كلها حكمه ، ولا حسن التكليف ، ولا النبوات ، ولا الشرعيات ، لأن معرفة هذه الاشياء لا يمكن إلا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل.

قلنا : يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة ، لأنه إذا علم بما قدمناه من الأفعال وجوب كونه قادرا عالما وعلم انه لا يجوز ان يكون قادرا بقدرة محدثه لأنها كانت «يجب ان تكون» (١) من فعله ، وقد تقرر (٢) ان المحدث لا بدّ له من محدث ، وفاعلها يجب ان يكون قادرا أولا ، فلو لا تقدم كونه قادرا قبل ذلك لما صح منه تعالى ، فيعلم انه لم يكن قادرا بقدرة محدثه ، وإنه كذلك لأمر «لأجله علم ما علمه» (٣) ، ولا اختصاص له بمقدور دون مقدور فيعلم انه يجب ان يكون قادرا على جميع الأجناس ، ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص.

وكذلك إذا علم «بالمحكم» (٤) من أفعاله كونه عالما علم ان ما لأجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم. إذ المخصص

__________________

(١) في (ب) و (ح) تجب أن يكون.

(٢) في ح (يقدر) وهو خطا.

(٣) العبارة بين القوسين ساقطة من ح. والموجود فيها هكذا «لأمر لا اختصاص له ..».

(٤) في ح فالمحكم.


هو العلم المحدث ، والعلم لا يقع إلا من عالم فلا بد ان يتقدم كونه عالما لا يعلم محدث ، وما لأجله علم لا اختصاص له بمعلوم (١) دون معلوم ، فيعلم انه عالم بما لا يتناهى ، وبكل ما يصح ان يكون معلوما لفقد الاختصاص ، فيعلم انه لا يشبه الأشياء. لأنه لو اشبهها لكان مثلها في كونها محدثه ، لأن المثلين لا يكون احدهما قديما والآخر محدثا. ويعلم انه غير محتاج لأن الحاجة من صفات الأجسام ، لأنها تكون الى جلب المنافع أو دفع المضار (٢) وهما من صفات الأجسام ، فيعلم عند ذلك انه غني.

ويعلم انه لا يجوز عليه الرؤية والإدراكات ، لأنه لا يصح ان يدرك إلا ما يكون هو أو محله في جهة ، وذلك «يقتضي كونه جسما أو حالا في جسم وهكذا» (٣) يقتضي حدوثه وقد علم انه قديم. واذا علم انه عالم بجميع المعلومات وعلم كونه غنيا علم ان جميع افعاله حكمة وصواب ، ولها وجه حسن ، وإن لم يعلمه مفصلا ، لأن القبيح لا يفعله إلا من هو جاهل بقبحه ، أو محتاج إليه ، وكلاهما منتفيان عنه ، فيقطع عند ذلك على حسن جميع افعاله من خلق الخلق ، والتكليف ، وفعل الآلام ، وخلق الموذيات ، من الهوام والسباع وغير ذلك.

__________________

(١) في أوب لمعلوم.

(٢) يأتي تفصيل هذا الاستدلال في فصل (كيفية استحقاقه للصفات) ، وكذا بقية الاستدلالات المذكور هاهنا.

(٣) العبارة بطولها ساقطة من أوب.


ويعلم أيضا عند ذلك صحة النبوات ، لأن النبي (ص) اذا ادعى النبوة ، وظهر على يده علم معجز ، يعجز عن فعله جميع المحدثين ، علم انه من فعل الله ، ولو لا صدقه لما فعله ، لأن تصديق الكذاب لا يحسن ، وقد أمن ذلك بكونه ، عالما غنيا ، فاذا علم صدق الأنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات ، لكونهم صادقين على الله ، وانه لا يتعبد الخلق إلا بما فيه مصلحتهم.

واذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة ، أو المعيشة ، ولم تخطر له شبهه ، ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ، ولا فكر هو في فروع ذلك ، لم يلزمه أكثر من ذلك. ومتى أورد عليه شبهه فان تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ، ليسلم له ما علمه ، وان لم يتصورها قادحة ، ولا اعتقد انها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها ، وهذه أحوال اكثر العوام ، وأصحاب المعايش ، والمترفين ، فانهم ليس يكادون يلتفتون الى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ، ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه ، بل ربما اعرضوا عنها ، واستغنوا (١) عن سماعها وايرادها ، وقالوا لا تفسد علينا ما علمناه ، وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم ، فبان بهذه الجملة ما أشرنا إليه من «أحوال» (٢) أصحاب الجمل. ونحن نبين في الفصل الذي يلي هذا ما يلزم من هو فوق هؤلاء ، ممن ينظر ويبحث وتطرقه الشبهات. وإن لم نبالغ في استيفاء ذلك «لنكون» (٣) قد ذكرنا أمر الفريقين وبينا أحوال الفئتين والله الموفق للصواب.

__________________

(١) في ح استغفوا.

(٢) الكلمة ساقطة من أوب.

(٣) في (ب) ليكون ذلك.


القسم الاول

مباحث

التوحيد



فصل ـ ١ ـ

في ذكر بيان ما يؤدي النظر فيه الى معرفة الله تعالى

لا يمكن الوصول الى معرفة الله إلا بالنظر في حدوث ما لا يدخل تحت مقدور المخلوقين. وهو الاجسام ، والاعراض المخصوصة ، كالألوان والطعوم والأراييح والقدرة والحياة والشهوة والنفار (١) ، وما جرى مجرى ذلك ، فأما ما يدخل جنسه تحت مقدور القدرة كالحركات والسكنات والاعتمادات والاصوات ، فلا يمكن بالنظر فيها الوصول الى معرفة الله ، والكلام في حدوث الأجسام اظهر ، لأنها معلومة ضرورة (٢) لا يحتاج في العلم بوجودها الى الدليل ، بل انما يحتاج الى الكلام في حدوثها ، ثم بيان ان لها محدثا يخالفها فيكون ذلك علما بالله ثم الكلام في صفته.

ولنا في الكلام في حدوث الاجسام طريقان :

احدهما : ان ندل على انها ليست قديمة ، فيعلم حينئذ انها محدثة لأنه لا واسطة بين القدم والحدوث :

__________________

(١) بكسر النون ، وفتح الفاء. بمعنى التباعد والاعراض ويأتي النفور.

(٢) يشير الى الخلاف في وجود الاعراض ، فقد وجد مذهب عرف أصحابه بلقب (نفاة الاعراض).


والطريق الثاني (١) : ان نبين إنها لم تسبق المعاني المحدثة ، فيعلم ان حكمها حكمها في الحدوث.

وبيان الطريق الأول :

هو ان الأجسام لو كانت قديمة لوجب ان تكون في الأزل في جهة من جهات العالم ، لأن ما هي عليه من الحجم والجثة يوجب ذلك. ثم لا يخلو كونها في تلك الجهة إما ان تكون للنفس ، أو لمعنى قديم ، أو لمعنى محدث ، أو بالفاعل ، فاذا بين فساد جميع ذلك ، علم انها لم تكن قديمة.

ولا يجوز ان تكون في الأزل في جهة بالفاعل لأن من شأن الفاعل ان يتقدم على فعله ، ولو تقدم فاعلها عليها لكانت محدثة ، لأن القديم لا يمكن ان يتقدم عليه غيره. والمعنى المحدث لا يوجب صفة في الأزل. وكونها في الجهة للنفس توجب استحالة انتقالها لأن صفات النفس لا يجوز تغيرها وزوالها ، والمعلوم ضرورة صحة انتقالها ، فبطل ان يكون كذلك للنفس (٢). ولا يجوز ان تكون كذلك لمعنى قديم لأنها لو كانت كذلك لوجب إذا انتقل الجسم ان يبطل ذلك المعنى ، لأن وجوده فيه (٣) على ما كان يوجب كونه في الجهتين وذلك محال ، والانتقال لا يجوز على المعنى لأنه من صفات الجسم ، فبطل (٤).

__________________

(١) في (أ) والثاني.

(٢) في أوب النفس.

(٣) في (أ) منه.

(٤) في ب وح فقد بطل.


جميع الاقسام ، وفي بطلان جميعها بطلان كونها قديمة وثبوت كونها محدثة ، لأنه لا واسطة بين الأمرين على ما بيناه.

وبيان الطريق الثاني :

ان نبين أربعة فصول : الأول (١) : ان في الأجسام معاني غيرها. الثاني : ان نبين ان تلك المعاني محدثة. الثالث : ان نبين ان الجسم لم يسبقها في الوجود. الرابع : ان ما لم يسبق المحدث يجب ان يكون محدثا.

والذي يدل على الفصل الأول : إنا نعلم ان الجسم يكون على صفات من اجتماع وحركة ، فيتغير الى ان يصير مفترقا وساكنا ، فلا بد من أمر غيره ، لأنه لو لم يكن أمر «غيره» (٢) لبقي على ما كان عليه ، ولا يجوز ان يكون ذلك الأمر نفس الجسم ، ولا ما يرجع إليه من وجود أو حدوث أو جسمية لأن جميع ذلك يكون حاصلا مع انتقاله من جهة إلى غيرها ، فكيف يكون هو المؤثر في تغير الصفات!؟ ولا يجوز ان يكون ذلك لعدم معنى ، لأن عدم معنى لا اختصاص له بجسم «دون جسم» (٣) ولا بجهة دون غيرها ، وكان يجب ان تتغير الأجسام كلها ، وننتقل (٤) الى جهة تغيرها ،

__________________

(١) في ب وح أحدها.

(٢) ساقط من ح.

(٣) ساقط من أوب.

(٤) في (ب) وتنتقل وفي ح وينتقل.


وذلك باطل ، ولا يجوز أن يكون كذلك بالفاعل ، لأنه ان أريد بذلك إنه فعل فيه معنى أوجب تغيره وانتقاله (١) فذلك وفاق وهو المطلوب ، وان أرادوا ان الفاعل جعله على هذه الصفات ، ولم يفعل معنى فذلك باطل ، لأن من شأن ما يتعلق بالفاعل من غير توسط معنى ان يكون القادر عليه قادرا على أحداث تلك الذات. الا ترى ان من قدر على إحداث كلامه قدر «على» (٢) ان يجعله على جميع أوصافه من أمر ، ونهي ، وخبر ، وغير ذلك ، وكلام الغير لما لم يكن قادرا على إحداثه لم يكن قادرا على جعله أمرا ونهيا وخبرا ، والواحد منا يقدر على ان يجعل الجسم متحركا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرقا ، ولا يقدر على إحداثه ، فدل ذلك على ان هذه الصفات غير متعلقة بالفاعل ، فلم يبق بعد ذلك شيء يعقل إلا انه صار كذلك لمعنى.

والذي يدل على حدوث ذلك المعنى : ان المجتمع اذا افترق ، والمتحرك (٣) اذا سكن لا يخلو ان يكون ذلك المعنى الذي كان «فيه» (٤) باقيا كما كان أو انتقل عنه ، أو عدم ، ولا يجوز ان يكون موجودا كما كان ، لأن ذلك يوجب كونه مجتمعا مفترقا ، متحركا ساكنا ، لوجود المعنيين معا فيه في حاله واحده وذلك محال. ولا يجوز أن يكون انتقل عنه لأن الانتقال من صفات الجسم دون العرض ، ولأنه

__________________

(١) في أهكذا : لغيره انتقاله.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) في (ب) وح أو المتحرك.

(٤) ساقط من (أ).


لو انتقل لم يخل ان يكون انتقل مع جواز أن لا ينتقل أو وجب انتقاله ، ولو كان انتقاله جائزا لاحتاج الى معنى الجسم ، وذلك يؤدي الى اثبات معان لا نهاية لها ، ولو وجب انتقاله لأدى إلى وجوب انتقال الجسم ، والمعلوم ان الجسم لا يحب انتقاله ان لم ينقله ناقل ، فلم يبق من الأقسام إلا انه عدم ، ولو كان قديما لما جاز عدمه ، لأنه قديم لنفسه ، وصفات النفس لا يجوز خروج الموصوف عنها. الا ترى ان السواد لا يجوز ان يكون بياضا ، ولا الجوهر عرضا ، ولا الحركة اعتمادا ، أو غير ذلك ، لأن هذه الأشياء على ما هي عليه لنفسها ، فلا يجوز عليها التغيير. فلما ثبت عدمها دل على انها لم تكن قديمة ، واذا لم تكن قديمة وجب كونها محدثة.

والذي يدل على الفصل الثالث (وهو ان الجسم لم يخل منها) هو : انه معلوم ضرورة ان الاجسام للعالم لا تخلو من ان تكون مجتمعة أو متفرقة أو متحركة أو ساكنة ، فثبت بذلك انها لا تخلو من الاجتماع والافتراق.

ومن قال : ان الاجسام كانت هيولى لا مجتمعة ولا مفترقة ربما (١) أشار بذلك الى انها كانت معدومة فسماها موجودة ، كما يقولون موجود بالقوة ، وموجود في العلم ، وذلك عندنا ليس بموجود في الحقيقة ، ومتى أرادوا (٢) ذلك كان خلافا في العبارة لا يعتد به.

__________________

(١) في (أ) وربما. عطفا بالواو.

(٢) في أ : أراد.


وأما الفصل الرابع : فالعلم به ضرورة ، لأن من المعلوم ان كل ذاتين وجدا معا ولم تسبق احداهما الأخرى فان حكمها حكم واحد في الوجود. الا ترى أنا اذا فرضنا ميلاد زيد وعمرو في وقت واحد فلا يجوز مع ذلك أن يكون احدهما أسن من الآخر ، لأن ذلك متناقض ، وكذلك اذا فرضنا (١). ان الجسم لم يسبق المحدث ، ولم يخل منه علمنا ان حكمه حكمه في الحدوث. وقول من قال ان فيها معاني لا نهاية لها شيئا قبل شيء لا الى أول باطل لأن وجود ما لا نهاية له محال ، لأنه كان يصير من شرط (٢) وجود كل واحد منها (٣) ان يتقدم قبله ما لا نهاية له ، فلا يصح وجود شيء منها البتة ، والمعلوم خلافه. على ان القائل بذلك قد ناقض ، لأنه اذا قال انها محدثة اقتضى ان لها أولا فاذا قال بعد ذلك لا أول لها اقتضى ذلك قدمها وذلك متناقض. وأيضا فاذا قال الجسم قديم أفاد ذلك وجوده في الآزال ، فاذا سلم انه لم يخل من معنى فقد أثبت فيه معنى في الأزل ، والمعنى الموجود في الأزل لا يكون قديما ، فيكون ذلك رجوعا عن كونها محدثة ، أو يقول فيما لم يكن فيها معنى ، فيكون فيه رجوع في ان الجسم لم يخل من معنى ، وذلك فاسد. فقد بان بهذه الجملة حدوث الأجسام ، ثم ندل (٤) فيما بعد

__________________

(١) في أعلمنا.

(٢) في ح شروط.

(٣) في (ب) منهما.

(٤) في (ب) يدل ، وفي ح تدل.


على ان لها صانعا يخالفها.

وأما الطريق الثاني (١) فهو ان نبين ان هاهنا معاني كالألوان والطعوم والقدرة والحياة والشهوة والنفار وكمال العقل ، ونبين ان احدا من المخلوقين لا يقدر على شيء منها فنعلم (٢) ان صانعها مخالف لنا ، وبيان ذلك ان الواحد منا قد يدعوه الداعي الى تبييض الأسود أو تسويد (٣) الأبيض ، أو يحيي ميتا ، أو يقدر عاجزا ، أو يكمل عقل من لا عقل له ، وهو قادر متصرف غير ممنوع ، والدواعي متوفرة ، ويبالغ في ذلك ، ويجتهد في تحصيله مع احتمال المحل لذلك فيعتذر ولا يحصل الا بوجه (٤) معقول ، الا انه ليس بمقدور له ، فنعلم (٥) عند ذلك أن صانعها مخالف لها ومباين لنا ، فيكون ذلك علما بالله على الجملة ، فاذا عرف بعد ذلك صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز حصل علمه به على طريق التفصيل.

__________________

(١) في (ب) و (ح) الطريقة الثانية. وهي اثبات ان للاجسام صانعا يخالفها.

(٢) أضاف في ح : عند ذلك.

(٣) في ت وح تسود.

(٤) في ب وح لوجه. باللام.

(٥) في ح فيعلم.


فصل ـ ٢ ـ

في اثبات صانع العالم وبيان صفاته

إذا (١) ثبت حدوث الأجسام بما قدمناه ، فالذي يدل على ان لها محدثا هو ما ثبت في الشاهد من ان الكتابة لا بد لها من كاتب ، والبناء لا بد له من بان ، والنساجة لا بد لها من ناسج ، وغير ذلك من الصنائع وإنما وجب ذلك فيها لحدوثها ، فيجب ان تكون الأجسام إذا شاركتها (٢) في الحدوث ان تكون محتاجة (٣) الى محدث.

فان قيل : كيف تدعون العلم بذلك (٤) ، وهاهنا من يخالف ذلك (٥) ويقول الكتابة لا تعلق لها بالكاتب ، ولا البناء بالباني ، ولا غير ذلك من الصنائع ، وهو الأشعري (٦) وأصحابه ، لأن عندهم ان هذه الصنائع لا كسب للعبد فيها ، وإنما هي من فعل الله وحده.

__________________

(١) في أوب : فاذا.

(٢) في ح : شاركها ،

(٣) في ح : يكون محتاجا.

(٤) في أ : في ذلك.

(٥) في ح : في ذلك.

(٦) هو أبو الحسن الأشعري ، المتوفي سنة ٣٢٤ ه‍ ، وإليه ينتسب الأشاعرة ، وملخص مقالته هاهنا ، انكار العلل الطبيعية ، ونسبة الأفعال والآثار ، جميعا الى الله مباشرة. وبهذا ينكر علاقة الوجوب


قلنا : الأشعري لم يدفع حاجة البناء إلى بان ، ولا الكتابة الى كاتب ، وإنما قال فاعلها هو الله دون العبد ، ونحن لم ندع العلم بحاجة هذه الافعال الى الفاعل المعين (١) ، بل ادعينا حاجتها الى صانع ما في الجملة ثم هل هو القديم أو الواحد منا ، موقوف على الدليل. ودليله هو انه يجب وقوع هذه الأفعال بحسب دواعينا وأحوالنا ، ويجب انتفاؤها بحسب صوارفنا ، وكراهتنا ، فلو كانت متصلة (٢) بغيرنا لما وجب ذلك ، كما لا يجب ذلك في طولنا وقصرنا وخلقنا ، وهيئاتنا ، لما لم تكن متعلقة بنا ، فالوجوب الذي اعتبرناه يبطل تعلقها بغيرنا.

فان قيل : ما أنكرتم ان يكون ذلك بالعادة ، دون ان يكون ذلك واجبا؟

قلنا : ذلك فاسد من وجهين :

احدهما : ان ذلك يبطل الفرق بين الواجب والمعتاد ، فيؤدي الى انه لا فرق بينهما ، وإن يقول قائل انتفاء «البياض بالسواد» (٣) بالعادة ، وحاجة العلم الى الحياة بالعادة ، وغير ذلك من الواجبات ، فبأي شيء تفرقون (٤) بينهما فهو فرقنا بين ان يكون ذلك واجبا

__________________

والضرورة بين الأمور الطبيعية ، كالنار الاحراق ، والتتابع انما هو بمحض جريان العادة والقانون الإلهي.

(١) في ح فاعل معين.

(٢) في ح : متعلقة.

(٣) في (ب) و (ح) (السواد بالبياض).

(٤) في (ب) وح فرقوا.


أو معتادا.

الثاني : إنه لو كان ذلك بالعادة لوجب ان يكون من لا يعرف العادات ، ولا نشأ بين أهلها «أن يجوز» (١) أن تبنى دار من قبل نفسها ، أو يكتب (٢) كتابة طويلة بلا كاتب ، أو تنسج نساجه عجيبة من غير ناسج. وغير ذلك. والمعلوم خلاف ذلك ، لأنه لا يجوز مثل ذلك إلا مئوف (٣) العقل ، فاسد التصور.

فان قيل : لو خلق الله تعالى عاقلا ابتداء فشاهد قصرا مبنيا ، وكتابة ، هل يعلم (٤) ان لها بانيا وكاتبا أم لا؟ فان قلتم يعلم قلنا وأي طريق له الى ذلك؟ وإن قلتم : لا يعلم بذلك فقد بطل ادعاؤكم العلم.

قلنا : من خلقه الله وحده ابتداء ، وشاهد الكتابة والقصر (٥) ، فهو لا يعلمهما محدثين ، فلذلك لا يعلم لها «كاتبا وبانيا» (٦) ، فيحتاج إلى ان يتأمل حالهما ، حتى يعلمهما محدثين ومتجددين ، فاذا علمهما متجددي (٧) الوجود علم تعلقهما بفاعل. ونظير ذلك ان من

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(٢) في ح : تنكتب.

(٣) اسم مفعول من الآفة. بمعنى العاهة.

(٤) في ب وح هل كان يعلم.

(٥) في ب وح أو القصر.

(٦) في ب وح بانيا وكاتبا.

(٧) في ب وح متجددة.


شاهد الأجسام قبل النظر في حدوثها فانه لا يعلم ان لها محدثا فاذا تأمل وعلم حدوثها علم عند ذلك ان لها محدثا.

وإنما قلنا : ان علة حاجة هذه الحوادث إلينا حدوثها لا غير ، لأمرين :

احدهما : ان الذي يتجدد عند دواعينا حدوث هذه الصنائع ، وينتفي عند صوارفنا حدوثها أيضا ، فعلمنا أن علة حاجتها إلينا حدوثها.

والثاني : ان هذه الأشياء لها ثلاثة أحوال. حال حدوث ، وحال بقاء. فهي لا تحتاج إلينا في حال عدمها لكونها معدومة في الأزل ، وهي تستغني عنا في حال بقائها ، وإنما تتعلق بنا ، وتحتاج إلينا في حال حدوثها ، فعلمنا بذلك ان علة حاجتها إلينا الحدوث ، فعند ذلك يحكم بحاجة الأجسام «إذا» (١) ثبت حاجة حدوثها إلى محدث للاشتراك في علة الحاجة إليها. وهذه الجملة كافية في هذا الباب ، فان استيفاء ذلك ذكرناه في شرح الجمل (٢) ، وفي هذا القدر كفاية إن

__________________

(١) في أوب : إلى ان ثبت ..

(٢) كتاب موسع في الأصول الاعتقادية ، لم يخرج الى الطباعة بعد. وهو شرح لكتاب السيد الشريف المرتضى (جمل العلم والعمل). وقد أرجع إليه المصنف في هذا الكتاب في موارد كثيرة. هذا وقد عرف الكتاب باسم (تمهيد الأصول). وذكره الشيخ الطوسي نفسه في جملة مؤلفاته. في كتابه (الفهرست). هذا وقد أرشد صاحب الذريعة الى وجود نسخة منه في خزانة الامام الرضا (ع) بخراسان.


شاء الله تعالى.

وأما ما يجب ان يكون عليه من الصفات :

فأول ذلك إنه يجب ان يكون قادرا ، لأن الفعل لا يصح ان يصدر إلا من قادر. إلا ترى أنا نجد فرقا بين من يصح منه الفعل وبين من يتعذر عليه ذلك ، فلا بد من ان يكون من صح منه الفعل مختصا بأمر ليس عليه من تعذر عليه ذلك ، وألا تساويا في الصحة أو التعذر «وقد علمنا خلافه» (١). وأهل اللغة من اختص بهذه المفارقة يسمونه (٢) قادرا ، «فأثبتنا المفارقة بمقتضى العقل» (٣) ، والتسمية لأجل اللغة. فاذا كان صانع العالم صح منه الفعل وجب ان يكون قادرا. على ان (٤) ما دللنا به على ان أفعالنا محتاجة إلينا دال على حاجتها إلى من له صفة المختارين فاستنادها (٥) إلى من ليس له صفة المختارين في البطلان كبطلان إسنادها إلى مؤثر وكلاهما فاسدان. على ان صانع العالم لا يخلو من أن يكون قادرا مختارا أو موجبا وهو (٦) علة أو سبب. ولا يجوز ان يكون علة أو سببا (٧) لانهما لا يخلوان (٨)

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(٢) ساقط من ح.

(٣) في ح هكذا : فانشاء المفارقة يقتضي العقل.

(٤) في أهكذا (على أنا انما دللنا ..) والصحيح ما اثبتناه.

(٥) في ح : فإسنادها.

(٦) في ح : هو بحذف الواو.

(٧) في ح : ولا سببا.

(٨) في ب وح (لا يخلو) للمفرد.


من أن يكونا قديمين ، أو محدثين. فلو كانا محدثين لاحتاجا إلى علة أخرى ، أو سبب آخر ، وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من العلل والأسباب ، وإن كانا قديمين وجب ان يكون العالم قديما ، لأن العلة توجب معلولها في الحال ، والسبب يوجب المسبب إما في الحال أو الثاني ، وكلاهما يوجبان قدم الأجسام ، وقد دللنا على حدوثها. فبطل بذلك ان يكون صانع العالم موجبا ، ولم يبق بعد ذلك إلا ان يكون مختارا له صفة القادرين.

وإذا ثبت كونه قادرا ، وجب ان يكون حيا موجودا ، لأن من المعلوم ان القادر لا يكون إلا كذلك. فثبت انه تعالى قادر حي موجود.

وأما الذي يدل على انه عالم : هو ان الاحكام ظاهر في أفعاله كخلق (١) الإنسان وغيره من الحيوان ، لأن ما فيه من بديع الصنعة ، ومنافع الاعضاء ، وتعديل الأمزجة ، وتركيبها على وجه يصح معه ان يكون حيا لا يقدر عليه إلا من (٢) هو عالم بما يريد فعله ، لأنه لو لم يكن عالما لما وقع على هذا الوجه من الاحكام والنظام ، ولاختلف في بعض الاحوال ولما كان ذلك واقعا على حد واحد ، ونظام واحد ، واتساق واحد ، دل على ان صانعه عالم. وكذلك خلقه الثمار في أوقات مخصوصة ، لا تختلف ، وفي كل شجر ما هو من

__________________

(١) في ح : لخلق.

(٢) في ب : لمن.


جنسه ، وفي كل حيوان من شكله ، دال على أن خالق ذلك عالم ، والا فكان يجوز ان يخلق الفواكه الصيفية في الشتاء ، والشتوية في الصيف ، ويخلق في البهيمة من جنس ابن آدم ، أو في ابن آدم (١) من جنس البهائم ، أو يخلق من النخل نبقا ، ومن الرمان تفاحا ، وغير ذلك. وفي علمنا بالمطابقة في هذا الباب دليل على أن صانعها عالم بما صنعه (٢). ألا ترى ان في الشاهد لا تقع الكتابة إلا ممن هو عالم بها ، ولا النساجة إلا ممن هو عالم بترتيبها ، وكيفية ايقاعها ، وغيره وان كان أقدر منه يتعذر عليه مثله لفقد علمه. والضعيف القليل القدر يصح منه ذلك لعلمه بكيفية ايقاعه. وإذا كان القدر اليسير من أفعالنا المحكمة لا تقع (٣) إلا من عالم فألا تقع الأفعال التي أشرنا إليها الزائدة على احكام كل محكم أولى وأحرى. فثبت بذلك ان صانع العالم عالم.

ولا يجوز أن يكون بصفة الظانين ، ولا المعتقدين ، لأن الصنائع المحكمة تحتاج الى من له (٤) صفة العالمين دون الظانين والمعتقدين لأنها تحتاج (٥) الى أمر يلزم كمال العقل ولا يخرج عنه من ثبوت عقله ،

__________________

(١) في أوب : أو في آدم.

(٢) في أوب : صنعها.

(٣) في أوب : فلا تقع.

(٤) ساقطة من (ب).

(٥) في (أ) لأنه يحتاج.


والظن والاعتقاد الذي ليس بعلم لا يوجب لزومه لكمال العقل. فوجب من ذلك ان يكون صانع العالم عالما ، دون ان يكون ظانا أو معتقدا.

ويجب أيضا أن يكون مدركا للمدركات ، سميعا بصيرا ، لأن الحى الذي لا آفة به متى وجدت المدركات ، وارتفعت الموانع واللبس وجب ان يكون مدركا لها. ألا ترى ان من كانت حواسه صحيحة ، ووجدت المرئيات وارتفعت الموانع واللبس وجب أن يكون رائيا لها ، وكذلك اذا وجدت الأصوات ، وسمعه صحيح وجب ان يدركها ، ويفصل بين حاله وهو مدرك لها ، وبين ألا يدركها.

وهذا الفرق لا يستند الى كونه حيا ، لأنه كان حيا قبل ذلك ، ولم يجد نفسه كذلك ، ولا الى كونه عالما لأنه يكون عالما بها قبل إدراكها وبعد انقضائها ولا (١) يجد نفسه على هذه الحال. ألا ترى ان الإنسان يعلم الصوت بعد (٢) تقضيه ، ويعلمه أيضا قبل وجوده ، ولا يجد نفسه على ما يجد عليه اذا أدركه. وكذلك النائم يدرك الآلام وان لم يعلمها. فثبت بذلك ان الإدراك غير العلم والحياة. واذا كان القديم حيا ، والآفات ، والموانع لا تجوز عليه لانه ليس يرى بحاسته ، ووجدت المدركات وجب ان يكون مدركا لها.

وليس لأحد ان يقول : الواحد (٣) منا يدرك بمعنى هو ادراك ،

__________________

(١) في أوب : لا يجد بحذف الواو.

(٢) في (أ) قبل ،

(٣) في ح : أن الواحد.


والمعنى لا يجوز عليه تعالى. وذلك لأن (١) الإدراك ليس بمعنى ، لأن (٢) الواحد منا يدرك لكونه حيا بدلالة انه لو كان معنى لجاز ان يكون حيا وحواسه صحيحة ، والموانع مرتفعة ، واللبس زائل ، وتوجد المدركات فلا يدركها ، بأن لا يفعل فيه الإدراك ، وذلك يؤدي الى السفسطة والشك في المشاهدات ، وأن لا يثق بشيء من المدركات ، وما أدى الى ذلك يجب ان يكون باطلا.

ويجب ان يكون سميعا بصيرا لأنه حي لا آفة به ، وفائدة السميع البصير انه على صفة يجب فيها أن يسمع المسموعات ، ويبصر المبصرات ، وذلك يرجع الى كونه حيا لا آفة به. وعلى هذا يوصف تعالى بذلك في الأزل ولو كان له بكونه سميعا بصيرا صفة زائدة على ما قلنا لجاز ان يكون الواحد منا حيا لا آفة به ، ولا يوصف بانه سميع بصير ، والمعلوم خلاف ذلك. وأما سامع مبصر فمعناهما انه مدرك للمسموعات والمبصرات ، وذلك يقتضي وجود المسموعات والمبصرات فلذلك لا يوصف بهما في الأزل. فأما شام وذائق فليس المراد بهما كونه مدركا ، بل المستفاد بالشام انه قرب الجسم المشموم الى حاسة شمه ، والذائق انه قرب الجسم المذوق الى حاسة ذوقه ، ولذلك «يقولون شممته فلم أجد له رائحة ، وذقته فلم أجد له طعما ولا» (٣) يقولون

__________________

(١) في ب وح أن.

(٢) في ح : وانما.

(٣) العبارة ساقط من أوب.


أدركته فلم أدركه لأنه مناقضه وجرى مجرى قوله اصغيت له فلم اسمعه فهما بان يكونا سبب الإدراك على وجه دون ان يكونا نفس الإدراك.

ويجب أيضا ان يكون تعالى مريدا وكارها لأنه ثبت أنه آمروناه ومخبر ، والأمر لا يقع إلا ممن هو مريد للمأمور به والنهي لا يقع (١) إلا مع (٢) كراهية المنهي عنه ، ولا يقع (٣) الخبر خبرا إلا بإرادة كونه خبرا ، بدلالة ان هذه الصيغ كلها توجد فيما ليس بأمر ولا نهي ولا خبر. إلا ترى ان قوله تعالى (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) (٤) وقوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٥) بصورة الأمر ، والمراد به التهديد. وقوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٦) صورته صورة الأمر والمراد به التحدي. وقوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (٧) والمراد به الإباحة ، ونظائر ذلك كثيرة جدا. فلا يمكن مع ذلك ان يكون أمرا لجنسه ولا لصيغته (٨) ، ولا لحدوثه ،

__________________

(١) في ب وح اضاف كلمة (نهيا).

(٢) في ح : من.

(٣) في ب وح هكذا (والخبر لا يقع خبرا).

(٤) سورة الأسراء : ٦٤.

(٥) سورة فصلت : ٤٠.

(٦) سورة البقرة : ٢٣.

(٧) سورة المائدة : ٢.

(٨) في ح : لصنعته.


لأن جميع ذلك يوجد فيما ليس بأمر ، فلم يبق إلا انه يكون أمرا لإرادة المأمور به ، والكلام في النهي والخبر مثل ذلك.

وأيضا فقد ثبت انه خلق الخلق ، ولا بد ان يكون فيه غرض (١) لأنه لو (٢) لم يكن له فيه غرض لكان (٣) عبثا وذلك لا يجوز عليه.

ولا يجوز أن يكون خلقهم لنفع نفسه ، لأن ذلك لا يجوز عليه لأنا سنبين استحالة المنافع عليه (٤) ، فلم يبق إلا انه خلق الخلق لمنافعهم ، ومعناه انه أراد نفعهم بذلك. فثبت (٥) انه مريد.

ويجب ان يكون تعالى قديما موجودا في الأزل ، لأنه لو كان محدثا لاحتاج الى محدث ، والكلام في محدثه كالكلام فيه ، فكان يؤدي الى محدثين ، ومحدثي المحدثين الى ما لا نهاية له ، وذلك فاسد.

وأيضا فانه فاعل الاجسام والإعراض المخصوصة ، «من الألوان والطعوم وغيرهما ، والمحدث لا يصح فيه فعل الجسم ولا هذه الأعراض المخصوصة» (٦) ، فوجب ان يكون من صحت منه قديما. وانما

__________________

(١) يأتي تفصيل الاستدلال على ذلك في فصل (الكلام في التكليف وجمل من أحكامه).

(٢) في ب وح : إن لم.

(٣) في ب وح : كان.

(٤) يأتي تحقيق ذلك في فصل (ما يجوز عليه وما لا يجوز.

(٥) في ح : اضاف بذلك.

(٦) ما بين القوسين ساقط من (أ).


كان كذلك لأن المحدث لا يكون قادرا إلا بقدره ، والقدرة لا يصح بها فعل الأجسام وإنما قلنا ان المحدث لا يصح ان يكون قادرا لنفسه ، لأنه لو جاز ان يكون الجسم قادرا لنفسه اوجب ان تكون الأجسام كلها قادره لنفسها ، لأنها متماثلة ، والمعلوم خلاف ذلك. وإنما قلنا ان القدرة لا يقع بها فعل جسم ، لأنا لو اجتهدنا كل الجهد أن نوجد جسما أو جوهرا لتعذر ذلك ، ولا وجه لتعذره إلا انه ليس بمقدور لنا ، وبذلك نفصل (١) بين ما هو مقدور لنا وبين ما ليس بمقدور لنا. فبان بذلك أن من صح منه الجسم لا يكون إلا قديما ولا يكون محدثا.

وهو تعالى متكلم والطريق الذي يعلم كونه (٢) متكلما السمع ، لأن العقل لا يدل عليه ، وانما يدل على انه قادر للكلام (٣) ، لأنه جنس من الافعال ، وهو قادر على جميع الأجناس. وقد اجمع المتكلمون (٤) على انه تعالى متكلم ، لا خلاف بينهم ، واجماعهم حجه. ومعلوم أيضا من دين النبي انه تعالى متكلم ، وان هذا القرآن كلام الله تعالى.

فان قيل. السمع يستند (٥) إلى قول النبي (ص) ، والنبي بأي (٦) شيء يعلم انه (٧) متكلم؟ فان قلتم : بسمع آخر أدى إلى ما لا

__________________

(١) في ح : يفصل.

(٢) كذا جاء ، والصحيح : الذي يعلم به كونه.

(٣) في ح على الكلام.

(٤) في أوح المسلمون.

(٥) في ح : مستند.

(٦) في (ب) فبأي.

(٧) في ب وح بأنه.


نهاية له من المسمعين (١) او ينتهي الى سمع علم عقلا انه متكلم ، وإلا فما الجواب؟

قيل : لا يمتنع ان يعلم النبي (ص) كونه متكلما بكلام يسمعه (٢) يتضمن بأنه كلام الله تعالى ، ويقترن بذلك علم معجز فيقطع على ذلك انه كلامه ، وانه متكلم. ويمكن أيضا ان يخلق الله تعالى «فيه العلم الضروري بأنه ليس بكلام أحد من المخلوقين ، وقد تقرر في عقله ان المحدث لا بد أن يكون له محدث ، فنعلم عند ذلك انه كلام القديم ، لأنه لا واسطه بين القديم والمحدث. فاذا (٣) بطل ان يكون كلام محدث ، ثبت انه كلام قديم.

فصل ـ ٣ ـ

في كيفية استحقاقه هذه (٤) الصفات

يجب ان يكون قادرا في الأزل ، لأنه لو تجدد كونه قادرا بعد ان لم يكن كذلك وجب ان يكون قادرا بقدره. لأن شرط صحة كونه قادرا عدم المقدور وهو حاصل في الأزل ، ولو كان قادرا بقدره

__________________

(١) في الأصل : المستمعين. والظاهر ما اثبتناه.

(٢) في ح : نسمعه.

(٣) في ح : واذا.

(٤) في ح : لهذه.


لوجب (١) ان تكون تلك القدرة محدثه ، لأنها لو كانت قديمة لوجب كونه قادرا في الأزل ، ولو كانت محدثه لوجب ان تكون من فعله ، إذ المحدث لا بد له من محدث ، ولو كانت من فعله لوجب ان يكون قادرا قبل إيجادها ، لأن الفعل لا يصدر إلا من قادر ، وعلى هذا المذهب هو تعالى لا يكون قادرا إلا بعد وجود القدرة ، فيتعلق كونه قادرا بوجود القدرة ، ووجود القدرة بكونه قادرا ، فلا يصح واحد من الأمرين ، وذلك باطل ، لأنا علمنا خلاف ذلك.

واذا ثبت كونه قادرا في الأزل وجب ان يكون قادرا لنفسه ، لأنه لا يمكن استناد (٢) ذلك الى الفاعل والقدرة المحدثة ، لأن ما يتعلق بالفاعل (٣) من شرطه تقدم الفاعل عليه ، وذلك لا يصح في الحاصل في الأزل ، والقدرة المحدثة لا توجب صفة في الازل ، لأن معلول العلة لا يتقدمها. ولا يجوز أن يكون قادرا بقدرة قديمة لأنه كان يجب أن تكون تلك القدرة مثلا له ، ومشاركه له في جميع صفاته ، وهو تعالى مشارك للقدرة في جميع صفاتها لاشتراكهما في القدم (٤) الذي هو صفة النفس ، والاشتراك في صفة النفس يوجب التماثل ، كما ان شارك السواد في كونه سوادا «كان سوادا» (٥) ، ومن (٦)

__________________

(١) في ح : وجب.

(٢) في ح : اسناد.

(٣) في أو ب : بالفعل.

(٤) في أالقدر ، وفي ح القدرة.

(٥) ساقط من أ.

(٦) في ح : وما.


شارك الجوهر في كونه جوهرا كان جوهرا ، وكان يجب من ذلك أن يكون تعالى يصفه القدرة ، والقدرة بصفة القادر ، وذلك باطل ، فلم يبق ألا انه قادر لنفسه. وبمثل ذلك يعلم كونه عالما لنفسه لأنه لو تجدد كونه عالما بعد ان لم يكن لوجب ان يكون عالما بعلم محدث ، اذ لا شرط يقف كونه عالما عليه ، لأن المعدوم يصح العلم به كما يصح بالوجود ، بدلالة أنا نعلم ما كان أمس ، ونعلم ما يكون في الغد ، وكل ذلك معدوم. ولو كان عالما بعلم محدث لوجب ان يكون من فعله اذ لا أحد «يقدر ان يفعل» (١) علما لا في محل لو صح وجود غيره ، ولو كان هو الفاعل له لوجب ان يتقدم أولا كونه عالما لأن العلم لا يقع إلا من عالم لأن جميع الوجوه التي يقع الاعتقاد عليها فيكون علما يتقدم أولا كون فاعله عالما ، وذلك يؤدي الى تعلق كونه عالما بوجود العلم ، ووجود العلم بكونه عالما. وإذا ثبت بذلك كونه قادرا عالما لنفسه ، وجب (٢) ان يكون قادرا على جميع الأجناس ، ومن كل جنس على ما لا يتناهى ، لأنه لا مخصص له بقدرة دون قدرة (٣). ويجب مثل ذلك في كونه عالما ان يكون عالما بجميع المعلومات ، اذ لا مخصص له ببعضها دون بعض ، فيجب من ذلك كونه عالما قادرا (٤) على ما لا يتناهى. واذا ثبت كونه

__________________

(١) في ب : ان يقدر يفعل.

(٢) في أوب : لوجب.

(٣) في ح : بقدر دون قدر.

(٤) في أوب : قادرا عالما.


قادرا عالما في الأزل وجب كونه حيا موجودا في الأزل ، اذ القادر العالم لا بد أن يكون حيا موجودا.

ويجب ان يكون موصوفا بانه سميع بصير في الازل ، لأنه يفيد كونه على صفة يجب ان يدرك المسموعات والمبصرات اذا وجدت ، وذلك يرجع الى كونه حيا ، لا آفة به ، ولا يوصف بأنه سامع مبصر في الازل «لأنهما يقتضيان (١) وجود للمسموعات والمبصرات في الازل» (٢) ، ووجودهما في الازل محال لانهما محدثان فلا يصح وجودهما في الازل.

فأما (٣) كونه مدركا فانه يتجدد له بعد أن لم يكن اذا وجدت المدركات ، والمقتضي له كونه حيا ، لان أحدا متى حصل كونه حيا ووجدت المدركات ، وارتفعت الموانع (٤) المعقولة ، وجب أن يكون مدركا ، ولو كان المقتضي غير كونه حيا لما وجب ذلك ، وقد علمنا وجوبه.

وأما (٥) كونه مريدا أو كارها فيجب أن يحصلا له بإرادة محدثه موجودة لا في محل ، لانه لا يخلو أن يكون مريدا بنفسه (٦) ، أو

__________________

(١) في ح : نقيضان ، وهو خطأ.

(٢) العبارة بطولها ساقطة من أوب.

(٣) في (ب) و (ح) وأما.

(٤) في أوب : المنافع.

(٥) في (ب) و (ح) فأما.

(٦) في ح : لنفسه.


بإرادة محدثه قديمة أو محدثه فيه أو في غيره من جماد أو حيوان أو موجودة لا في محل ولا يجوز أن يكون مريدا لنفسه لانه كان يؤدي الى أن يكون مريدا للشيء كارها له على وجه واحد في وقت واحد ، لوجوب شياع صفات النفس ، وما به علمنا كونه مريدا به علمنا كونه كارها ، واجتماع الصفتين محال لتضادهما ، ولانه كان يجب ان يكون مريدا لكل ما يصح حدوثه ، فيجب من ذلك ان يكون مريدا للقبائح ، وذلك صفة نقص تعالى الله عن ذلك. ولا يجوز ان يكون مريدا بإرادة قديمة لانه «كان» (١) يجب ان تكون تلك الإرادة مثلا له لمشاركتها له في القدم على ما بيناه في القدرة والعلم ، وقد بينا فساده. ولا يجوز ان يكون مريدا بإرادة قائمة (٢) به لانه ليس بمتحيز ، والمعاني لا تقوم إلا بالمتحيز ، ولو وجدت في حي لوجب ان تكون إرادة لذلك الحي فلم يبق إلا انه يجب ان يكون مريدا بإرادة توجد لا في محل.

وأما (٣) كونه متكلما : فلا يكون إلا بكلام محدث لان حقيقة المتكلم من وقع منه (٤) الكلام الذي هو هذا المعقول بحسب دواعيه ، وأحواله ، والكلام المعقول ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة التي هي ثمانية وعشرون حرفا اذا وقع ممن يصح منه

__________________

(١) ساقطة من (أ).

(٢) في (ب) قديمة بدل قائمة.

(٣) في ب و (ح) فأما.

(٤) في أعليه.


أو من قبيلة الإفادة. الدليل على ذلك انه اذا وجدت هذه الحروف على هذا الوجه سمي كلاما ، واذا اختل واحد من الشروط لا يسمى بذلك فعلمنا انه حقيقة الكلام. ومتى وقع ما سميناه كلاما بحسب دواعيه وأحواله سمي متكلما ، فعرفنا بذلك حقيقة المتكلم ، وإذا ثبت حقيقة الكلام والمتكلم ثبت ان كلامه محدث لان هذه الإضافة تقتضي ذلك.

وليس لاحد ان يقول لو لم يوصف تعالى فيما لم يزل بانه (١) متكلم لوصف بضده من الخرس والسكوت ، وذلك ان الخرس انما هو فساد آلة الكلام ، والسكوت هو تسكين آلة الكلام ، والله تعالى ليس بمتكلم بآلة فلا يوصف بشيء من ذلك. ثم ذلك ينتقض بالصايح والصارخ فانه لا يوصف لا بالخرس ولا بالسكوت ولا بالكلام فبطل ما قالوه.

وينبغي (٢) ان يوصف كلام الله بما سماه الله تعالى به من

__________________

(١) في ح فانه.

(٢) اثيرت حول القرآن. مخلوق أم لا؟ أعنف مشكلة شهدها تاريخ الاسلام. فقد أعلن المعتزلة قولهم بخلق القرآن ، واصر الفقهاء وأصحاب الحديث على التنكر والنفور من اطلاق هذه الكلمة ، لأنها تثير معنى الوضع والاختلاق. واستغل المعتزلة نفوذهم السياسي ، فحببوا قولهم للمأمون ، فأمر بامتحان الفقهاء والمحدثين فمن لم يوافق تضرب عنقه. ومن ناحية أخرى ظهر اتجاه متطرف يقول بقدم القرآن وجاء الأشاعرة فتبنوا هذا الرأي ، بعد ان ادعوا انهم يريدون الكلام النفسي. وكان موقف الشيعة تجاه المشكلة أنهم يعترفون بخلق القرآن بمعنى أنه مجعول من قبل الله تعالى ، لكن احجموا عن اطلاق هذه


كونه محدثا. قال الله تعالى (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ ..) (١).

والذكر هو القرآن بدلالة قوله (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) (٢) وقوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٣) ، ولا يجوز ان يكون المراد به الرسول لقوله «إلا استمعوه» والكلام هو الذي يصح استماعه دون الرسول.

ويصفه بأنه مجعول ، كما قال تعالى (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٤). وينعته بانه منزل ، قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) (٥) وقال (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) (٦). ويوصف بانه عربي ، كما قال (بِلِسانٍ

__________________

الكلمة لإثارتها معنى الاختلاق.

قال الشيخ المفيد م ٤١٣ ه‍ «وأقول أن القرآن كلام الله ووحيه ، وأنه محدث كما وصفه الله تعالى ، وامنع من اطلاق القول عليه بأنه مخلوق ، وبهذا جاءت الآثار عن الصادقين ، وعليه كانت الإمامية». أوائل المقالات القول في الصفات وقد وردت بهذا المضمون عدة روايات عن أهل البيت (ع) ، ذكرها الصدوق في التوحيد ، غير انه لا يسلم رجال سندها عن النقد ، والتوهين.

(١) سورة الأنبياء : ٢.

(٢) سورة النحل : ٤٤.

(٣) سورة الحجر : ٩.

(٤) سورة الزخرف : ٣.

(٥) سورة الحجر : ٩. في الأصل : نزلنا أليك الذكر ، وهو خطأ

(٦) سورة النمل : ٤٤.


عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١) والعربية محدثة.

ولا تصفه (٢) بانه مخلوق ، لانه يوهم بانه مكذوب ، أو مضاف الى غير قائله ، لانه المعتاد من هذه اللفظة ، قال الله تعالى (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٣) و (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٤) وقال (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٥) ، فلم يوصف الكلام بالخلق الا اذا أريد به الكذب أو الانتحال ، كما يقولون هذه قصيدة مخلوقة ومختلقة اذا كانت متنحلة مضافة الى غير قائلها. وهذه الجملة تكفي فيما قصدناه ، لان شرح جميعه بيناه في شرح الجمل ، وذكره يطول به ما قصدناه.

__________________

(١) سورة الشعراء : ١٩٥.

(٢) في ح : يوصف.

(٣) سورة ص : ٧.

(٤) سورة الشعراء : ١٣٧.

(٥) سورة العنكبوت : ١٧. في الاصل : يخلقون ، وهو خطأ.


فصل ـ ٤ ـ

فيما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز

لا يجوز أن يكون له تعالى ماهية ، على ما يذهب إليه ضرار بن عمرو الغبي (١) ، وأبو حنيفة ، لأن (٢) الطريق الى إثباته تعالى ، وإثبات صفاته ، افعاله. فلا يجوز أن يثبت على صفة لا يدل عليها الفعل إما بنفسه ، وأما بواسطة ، لأنا لو لم نراع هذا الأصل لزم ان تكون له كيفية وكمية ، وغير ذلك من الأقوال الفاسدة. وذلك

__________________

(١) ضرار بن عمرو الضبي : من الطبقة الأولى من مشايخ المعتزلة ، وإليه تنسب فرقة (الضرارية).

ومما ينسب إليه القول بان الله تعالى له ماهية ، يراها المؤمنون يوم القيامة بالحاسة السادسة.

(٢) استعرض صاحب (الأسفار) صدر المتألهين ، خمسة وجوه ، لإثبات ان لا ماهية له تعالى ، تغاير وجوده تغايرا مفهوميا عقليا نكتفي بارجاع القاري الى كتاب (الاسفار الاربعة) ج ١ ، ص ٩٦ ـ ١٠٨.

أما الاستدلال المذكور هنا ، فغاية ما يثبت انه لا يجوز نسبة الماهية إليه ، لعدم الدليل ، اما انه لا يجوز ان يكون له ماهية ، كما عبر المصنف. فهذا الاستدلال غير واف بذلك ، ومن هنا كانت العبارة لا تخلو من مسامحه.


باطل. والفعل بمجرده (١) يدل على كونه قادرا ، وبوقوعه محكما على كونه عالما ، وبوقوعه على وجه دون وجه على كونه مريدا وكارها ، وكونه قادرا عالما (٢) على كونه حيا موجودا ، وكونه حيا موجودا على كونه مدركا سميعا بصيرا. ووجوب هذه الصفات له في الأزل تدل على صفته الذاتية عند من أثبتها ، وليس في الفعل ما يدل على ان له مائية ، فوجب نفيها.

وقول الأمة (٣) : ان الله تعالى أعلم بنفسه منا ، معناه إنه يعلم من تفاصيل معلوماته ومقدوراته (٤) ما لا يعلمه أحد ، لأنه يعلم منها ما لا نهاية له ، والواحد منا يعلم ذلك على وجه الجملة ، فلا يجوز التوصل بذلك الى القول بالماهية.

ولا يجوز ان يكون تعالى بصفة الجسم أو الجوهر ، لأن ما دل على كون الجسم متحركا محدثا قائم في جميع الاجسام ، فلو كان تعالى

__________________

(١) في ب لمجرده.

(٢) العبارة في ب هكذا : وكونه قادرا عالما ، وحيا موجودا ، وكونه حيا ...

(٣) نسب إلى ضرار انه استدل بهذا القول على ان له ماهية حيث قال «أنه قد اتفقت الأمة على أنه تعالى أعلم بنفسه منا فلو لم تكن له إلا هذه الصفات التي عرفناها لما صح هذا الاجماع ، فيجب ان تكون هناك صفة أخرى غير هذه الصفات» المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار ص / ١٥٨.

(٤) في ح معلوماته ومقدوراته.


جسما لأدى الى كونه محدثا أو كون الاجسام قديمة ، وكلا الأمرين فاسد. وأيضا لو كان جسما لما صح منه فعل الأجسام كما لا يصح منا على ما مضى القول فيه ، والعلة في ذلك كونها اجساما ، وقد دللنا على انه فاعل الأجسام ، فبطل كونه جسما. ولا يجوز وصفه بأنه جسم مع انتفاء حقيقة الجسم عنه ، لأن ذلك نقض اللغة ، لأن أهل اللغة يسمون الجسم ما له طول وعرض وعمق ، بدلالة قولهم هذا أطول من هذا ، اذا زاد طولا ، وهذا أعرض من هذا إذا زاد عرضا ، وهذا أعمق من هذا إذا زاد عمقا ، وهذا أجسم من هذا إذا جمع الطول والعرض والعمق ، فعلم بذلك ان حقيقة الجسم ما قلناه ، وذلك يستحيل منه تعالى ، فلا يجوز وصفه بذلك.

وقولهم (١) إنه جسم لا كالأجسام مناقضه ، لأنه نفي لما اثبت بعينه ، لأن قولهم جسم يقتضي ان له طولا وعرضا وعمقا ، فاذا قيل بعد ذلك لا كالاجسام اقتضى نفي ذلك بعينه فيكون مناقضه (٢). وليس قولنا : شيء لا كالاشياء مناقضه ، لان قولنا شيء لا يقتضي أكثر من انه معلوم ، وليس فيه تجنيس ، فاذا قلنا لا كالاشياء المحدثة لم يكن في ذلك مناقضه.

وقوله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٣) معناه استولى عليه لما

__________________

(١) هذه مقولة الاشاعرة ، فانهم في الوقت الذي نفوا عنه تعالى التشبيه ، التزموا بأن له وجها لا كالوجوه ، ويدا لا كالأيدى ، حفاظا على ظاهر الآيات القرآنية التي وردت فيها هذه العناوين.

(٢) في ح : مناقض.

(٣) سورة طه : ٥.


خلقه كما قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وقوله (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (١) معناه انه تولى خلقه بنفسه ، كما يقول القائل هذا ما عملت يداك أي انت فعلته ، وقيل معناه لما خلقت لنعمتي الدينية والدنيوية ، وقوله (فِي جَنْبِ اللهِ) (٢) معناه : في ذات الله وفي طاعته.

وقوله (السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٣) ، أي بقدرته ، كما قال الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وقوله (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (٤) أي ونحن عالمون.

ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة شيء من الاعراض ، لانه قد ثبت حدوث الاعراض اجمع. فلو كان بصفة شيء منها لكان محدثا ، وقد بينا قدمه ، لأنه لو كان بصفة شيء (٥) من الإعراض لم يخل من أن يكون بصفة ما يحتاج إلى محل. أو بصفة ما لا يحتاج إلى المحل ، كالفناء ، وإرادة القديم تعالى وكراهته. فان كان بصفة القسم الاول أدى الى قدم المحال (٦) ، وقد بينا حدوثها ، ولو كان بصفة

__________________

(١) سورة ص : ٧٥.

(٢) سورة الزمر : ٥٦.

(٣) سورة الزمر : ٦٧.

(٤) سورة القمر : ١٤

(٥) في ح : نصفه بشيء.

(٦) في ح : المحل.


القسم الثاني لاستحال وجوده وقتين كاستحالة ذلك على هذه الاشياء. وأيضا لو كان بصفة الفناء لاستحال وجود الاجسام معه ، وذلك باطل.

ولا يجوز عليه تعالى الحلول ، لأنه لا يخلو ان يكون الحلول واجبا له ، أو جائزا ولو كان واجبا لوجب ذلك في الأزل ، وذلك يوجب وجود ما يحله في الأزل ، وفي ذلك قدم المحل ، وقد بينا فساده. ولو كان وجوده متجددا وهو واجب لوجوب (١) ان يكون له مقتضى ، فلا يخلو ان يكون مقتضية صفته الذاتية ، أو كونه حيا ، ولا يجوز أن تكون صفته الذاتية مقتضية لذلك ، لان صفته الذاتية لا تقتضي صفة أخرى بشرط منفصل ، ووجود المحل منفصل ، ولو كان كونه حيا مقتضيا لذلك لاقتضاه فينا ، كما انه لما اقتضى كونه مدركا اقتضاه فينا ، وذلك باطل. وإن كان حلوله جائزا احتاج الى معنى ، وذلك المعنى لا بدّ ان يختص به ، والاختصاص يكون أما بالحلول ، أو بالمجاورة (٢) ، وكلاهما يقتضيان كونه جوهرا ، وقد أفسدناه ، فبطل بجميع ذلك عليه الحلول.

ولا يجوز ان يكون تعالى في جهة من غير ان يكون شاغلا لها لانه ليس في الفعل ما يدل (٣) على انه في جهة لا بنفسه ولا بواسطة ، «وقد بينا انه لا يجوز وصفه بما لا يدل عليه الفعل لا بنفسه ولا

__________________

(١) في ح : أوجب.

(٢) في ب المجاورة.

(٣) في أوب : ليس في العقل ما لا يدل.


بواسطة» (١).

ولا يجوز عليه تعالى الحاجة لأن الحاجة لا تجوز إلا على من تجوز عليه المنافع والمضار ، والمنافع والمضار لا يجوز ان إلا على من تجوز عليه الشهوة والنفار ، وهما يستحيلان عليه تعالى. والذي يدل على انه يستحيل عليه الشهوة والنفار انه ليس في الفعل (٢) «ما يدل على كونه مشتهيا ولا نافرا وقد بينا (٣) انه لا يجوز اتيانه على صفة لا يقتضيها الفعل» (٤) لا بنفسه ولا بواسطة وأيضا فالشهوة والنفار لا يجوز ان إلا على الأجسام لأن الشهوة تجوز على من إذا أدرك المشتهى صلح عليه جسمه ، وإذا أدرك ما ينفر عنه فسد عليه جسمه ، وهما يقتضيان كون من وجدا فيه جسما ، وقد بينا انه ليس بجسم ، فيجب اذن نفي الشهوة والنفار عنه ، وإذا انتفيا عنه «انتفى عنه المنافع والمضار وإذا انتفيا عنه انتفت عنه الحاجة ، ووجب كونه غنيا ، لأن الغني هو (٥) الحي الذي ليس بمحتاج.

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية (٦) بالبصر ، لأن من شرط صحة

__________________

(١) العبارة ساقطة من أوب.

(٢) اضاف في ح : لا بنفسه ولا بواسطة.

(٣) في ح : وقدمنا.

(٤) ما بين القوسين بمجموعة ساقط من (أ).

(٥) الضمير (ه) ساقط من (أ).

(٦) مذهب الاشاعرة جواز الرؤية ، بل وقوعها في الآخرة. ومذهب الشيعة والمعتزلة استحالتها عليه تعالى. ومحل الخلاف هو الرؤية


الرؤية ان يكون المرئي نفسه أو محله مقابلا للرائي بحاسة ، أو في حكم المقابل ، والمقابلة تستحيل عليه «لأنه ليس بجسم ومقابلة محله أيضا فيستحيل عليه» (١) لأنه ليس بعرض على ما بيناه.

ولأنه (٢) لو كان مرثيا لرأيناه مع صحة حواسنا ، وارتفاع الموانع المعقولة ، ووجوده ، لأن المرئي إذا وجد وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن نراه ، وإنما لا نراه أما لبعد مفرط ، أو لقرب مفرط ، أو لحائل بيننا وبينه ، أو للطافة أو صغر وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى ، لأنه من صفات الأجسام والجواهر ، وبمثل ذلك بعينه يعلم انه لا يدرك بشيء من الحواس الباقية فلا وجه للتطويل بذكره. والحاسة السادسة غير معقولة ، ولو كانت معقولة لكان حكمها حكم هذه الحواس مع اختلافها واتفاقها في هذا الحكم.

وأيضا قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٣) دليل على استحالة رؤيته ، لأنه تمدح بنفي الإدراك عن نفسه ، وكل تمدح تعلق بنفي فإثباته لا يكون إلا نقصا ، كقوله تعالى (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (٤) ، وقوله تعالى (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) (٥) ،

__________________

بالحاسة ، أما الرؤية بمعنى الوضوح ، والجلاء التام ، فلا ينكره أحد من العدلية.

(١) العبارة ساقطة من أوب.

(٢) في ح : لأنه ، بحذف الواو.

(٣) سورة الانعام : ١٠٣.

(٤) سورة البقرة : ٢٥٥.

(٥) سورة المؤمنون : ١٩١.


وقوله تعالى (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) (١) وقوله تعالى (لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (٢) وغير ذلك مما تعلق المدح بالنفي ، فكان اثباته نقصا (٣). والآية فيها مدح بلا خلاف وان اختلفوا في جهة المدح. والإدراك في الآية بمعنى الرؤية لأنه نفى عن نفسه ما اثبته لنفسه بقوله (٤) (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ).

وقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٥) لا تعارض هذه الآية. لأن النظر المذكور في الآية معناه الانتظار ، فكأنه قال : لثواب ربها منتظرة (٦). ومثله قوله (٧) «وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة «بم يرجع» (٨) ..» أي منتظره. وليس النظر بمعنى الرؤية في شيء من كلام العرب ، ألا ترى انهم يقولون : نظرت الى الهلال فلم أره ، فيثبتون النظر وينفون الرؤية ، ولو كان معناه الرؤية لكان ذلك مناقضه ، ويقولون ما زلت أنظر إليه حتى رأيته ، ولا يقولون ما زلت أراه حتى رأيته ، ولو سلم ان النظر بمعنى الرؤية لجاز

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠١. وفي الأصل اضاف «ولا ولدا» ، وهو اشتباه. والوارد في سورة الجن «ما اتخذ صاحبه ولا ولدا».

(٢) سورة يونس : ٢٤.

(٣) في (أ) : نقضا ، وفي ب : نفيا. والصحيح ما اثبتناه.

(٤) في ب : وبقوله ـ بالعطف بالواو.

(٥) سورة القيامة : ٢٣.

(٦) في ب : مستنظرة.

(٧) سورة النمل : ٣٥.

(٨) ما بين القوسين ساقط من ب.


ان يكون معناه الى ثواب ربها رائية (١). وثواب الله تصح رؤيته. ويحتمل أن يكون الى في الآية واحد الآلاء (٢) ، لأنه يقال : إلى وإلى والى والى ، وإنما لم ينون لمكان الإضافة ، فيكون إلى في الآية اسما ، لا حرفا. فسقط (٣) بذلك شبهة المخالف.

وقول موسى (ع) (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٤) يحتمل ان يكون سائل الرؤية لقومه على ما حكاه الله تعالى في قوله (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (٥) فسأل الله تعالى ذلك ليرد الجواب من جهته فيكون أبلغ. ويحتمل أن يكون سأل العلم الضروري الذي تزول معه الخواطر والشبهات أو إظهار آية من آيات الساعة التي يحصل عندها العلم الذي لا شك فيه ، وللانبياء (٦) ان يسألوا تخفيف (٧) البلوى في التكليف ، كما سأل ابراهيم فقال (رَبِّ

__________________

(١) في الأصل أضاف قوله (منتظرة) قبل (رائيه). وهو اشتباه. وفي (أ) هكذا : منتظرة رؤية. والصحيح رائية.

(٢) حكى السيد الشريف المرتضى ان في (الى) أربع لغات :

(الا) مثل : قفا ، و (أليّ) مثل : رمي ، و (إلي) مثل : معي. و (الى) مثل : حني. أمالي المرتضى : ج ١ ، ص ٢٨.

(٣) في ح : فيسقط.

(٤) سورة الاعراف : ١٤٣.

(٥) سورة النساء : ١٥٣.

(٦) في ب : الأنبياء.

(٧) في ح : يبتلوا بخفيف.


أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ، قالَ بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١) وكل ذلك لا ينافي الآية التي ذكرناها.

فصل ـ ٥ ـ

في انه تعالى واحد لا ثاني له في القدم

لو كان مع الله تعالى قديم ثان لوجب ان يكون مشاركا له في جميع صفاته لمشاركته له في القدم ، التي هي صفة ذاته باين التي بها جميع الموجودات ، لأن جميع أوصافه من كونه قادرا وعالما وحيا وموجودا ومريدا وكارها ومدركا يشاركه غيره في المحدثات ، ولا يشاركه في القدم ، فبان انه بكونه قديما يخالف المحدثات ، والشيء إنما يخالف غيره بصفته الذاتية ، وبها يماثل (٢) ما يماثله ، كما ان (٣) ما شارك السواد في كونه سوادا ويخالف السواد من البياض والحموضة وغيرهما أيضا بكونه سوادا.

فعلم بذلك ان الاشتراك في صفة الذات يوجب التماثل.

وكان يجب من ذلك مشاركة القديمين في كونهما قادرين عالمين حيين وفي جميع صفاتهما ، ثم لا يخلو أن يكون مقدورهما واحدا أو متغايرا ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٠.

(٢) في أوب : يتماثل.

(٣) أضاف في أو ب كلمة اجمل علينا قراءتها ، وكأنها (سنخه)


فان كان واحدا جاز ان يدعو أحدهما الداعي الى ايجاد مقدوره ، والثاني يصرفه من (١) ايجاده فيؤدي ذلك الى وجوب وجوده لدعاء من دعاه الداعي الى ايجاده ، ووجوب انتفاءه لصارف من صرفه عن إيجاده ، وذلك محال. وإن كان مقدورهما متغايرا لم يمتنع أن يدعو أحدهما الداعي الى إيجاد فعل ويدعو الآخر الى ضده (٢) ، ثم لا يخلو ان يوجدا ، أو لا يوجدا ، أو يوجد أحدهما. فأن وجدا أدى الى اجتماع الضدين ، وذلك محال ، وإن لم يوجدا أدى الى ارتفاع الفعل عنهما لا لوجه «منع» (٣) معقول ، وإن وقع أحدهما أدى الى ارتفاع الفعل عن أحدهما لا لمنع معقول ، لأنه لا يمكن ان يقال (٤) لأحدهما (٥) اكثر مقدورا ، لأن كل واحد منهما يجب ان تكون مقدوراته غير متناهية. فاذا ثبت ذلك بطل إثبات قديمين ، وإذا بطل وجود قديمين بطل قول الثنوية القائلين بالنور والظلمة ، وبطل قول المجوس القائلين بالله والشيطان ، وبطل قول النصارى القائلين بالتثليث. على أن قول الثنوية يبطل من حيث دللنا على حدوث الأجسام ، والنور والظلمة جسمان. ولأنهم اثبتوهما من حيث اعتقدوا ان الخير يضاد الشر ولا يجوز أن يصدرا من فاعل واحد ، وذلك باطل ، من حيث ان الخير من جنس الشر ، لأن أخذ مال الغير غصبا هو ظلم

__________________

(١) في ح : عن.

(٢) في ح : ايجاد ضده.

(٣) الكلمة ساقطة من ح.

(٤) في ب : يقول.

(٥) في ح : أحدهما.


وشر ، وأخذه قضاء لدين حسن وعدل ، وهما من جنس «واحد» (١).

ولطمه اليتيم ظلما شر ، ولطمته تأديبا حسن ولو كانا ضدين لجازا ان يصدرا من فاعل واحد لان القادر «يقدر» (٢) على الشيء وعلى جنس ضده وهذا بعينه هو شبهه المجوس والكلام عليهم واحد.

على أن قولهم اجمع يبطل المدح والذم ، لأن المطبوع لا يستحق مدحا ، ولا ذما كالنار في الأحراق ، والثلج في التبريد ، ويؤدي الى قبح الاعتذار ، لأن الاعتذار حسن لا يقع عندهم من الظلمة وما يعتذر منه قبيح لا يقع عندهم من النور فيكون الاعتذار من غير فاعل الإساءة ، وذلك قبيح في العقول.

وأما النصارى. فمن خالف منهم في نبوة نبينا (ص) ، فالكلام معه (٣) في النبوة سيجيء. ومن قال بما يقوله النصارى من القول بالتثليث والاتحاد والنبوة ، فقولهم باطل. لأن قولهم ثلاثة أقانيم جوهر واحد متناقض. لأن في إثباته واحد نفيا لما زاد عليه ، وفي إثبات التثليث (٤) إثباتا لما نفي بعينه ، وذلك محال.

وقولهم بالاتحاد ، وإن الثلاثة صارت واحدا ، محال. وكذلك قولهم صار الناسوت إلها. والمحدث قديما كل ذلك محال ، ولو جاز

__________________

(١) الكلمة ساقطة من أوب.

(٢) ساقط من أوب.

(٣) في ب وح معهم.

(٤) في ح : الثلث.


لجاز ان يصير الواحد مائة. وإن يصير القديم محدثا ، وكل ذلك فاسد فبطل ما قالوه.

واما قولهم بالبنوة ، فحقيقة الابن من ولد على فراشه ، أو خلق من مائه ، وكلاهما يستحيلان عليه تعالى ، ومجاز ذلك يطلق فيمن يجوز أن يولد على فراشه ، أو يخلق من مائه. ألا ترى انهم يقولون : بنينا فلانا لفلان (١) إذا كان أصغر منه ، ولا يقولون بنى شاب شيخا ، ولا بنينا بهيمة ، لما لم يجز ان يكون مخلوقا من مائه. فمجاز هذه اللفظة تجوز على من تجوز عليه حقيقتها ، وحقيقتها مستحيلة في الله تعالي فمجازها مثل ذلك.

وقولهم ابن الله لمشاركته له في المشيئة ، يوجب ان يكون الأنبياء كلهم ابناء الله ، لأنهم يوافقونه (٢) في المشيئة ، وهم لا يقولونه. فبان بذلك فساد هذه المذاهب ، وثبت انه تعالى واحد لا يشاركه أحد في القدم.

فأما من عبد الاصنام أو الكواكب فقولهم باطل. لأن عبادة من لا يستحقها قبيحه في العقول ، والعبادة إنما تستحقّ بأصول النعم التي هي خلق الخلق ، وجعله حيا وقادرا وإكمال عقله ، وخلق الشهوة فيه التي بها ينتفع ، وينال الملاذ ، وخلق المشتهيات ، وغير ذلك ، وكل ذلك لا يقدر عليه غير الله ، فيجب أن تقبح عبادته. على ان

__________________

(١) في ح : منا فلان بفلان.

(٢) في ب وح يوافقونهم.


هذه الأشياء جمادات ، ومسخرات ، وكيف يصح منها فعل ما يستحق به العبادة.

وقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى (١) ، باطل. لأن التقرب الى الله بالقبائح قبيح في العقول ، وليس يجري ذلك مجرى تعظيمنا للبيت الحرام ، أو الحجر ، وسجودنا إليه ، وذلك أنا نسجد لله ونتقرب إليه لا الى البيت والحجر ، وانما تعبدنا الله تعالى بذلك ، ورغبنا فيه ، فنظير ذلك أن يثبت بشرع متطوع به التقرب الى الله ، والسجود له ، بالتوجه الى هذه الأشياء ، والقوم لا يذهبون إليه ، فبطل تشبيههم بما قلناه ، وبان الفرق بينهما.

__________________

(١) حكاه عنهم القرآن. الآية ٣ من سورة الزمر.


القسم الثّاني

مباحث

العدل

ولواحقه


فصل ـ ١ ـ (١)

الكلام في العدل

الغرض في الكلام (٢) في العدل كلام في تنزيه الله تعالى من فعل القبيح ، والاخلال بالواجب. فاذا حصل العلم بذلك حصل العلم بالعدل.

والطريق الموصل إلى ذلك «ان نبين انه تعالى قادر على القبيح» (٣) ، ثم نبين بعد ذلك انه لا يفعله ، بعد أن نبين تقدم معنى الفعل ، وأقسامه (٤) ، ثم نعود الى الغرض.

وحقيقة الفعل ما وجد بعد ان كان مقدورا. ولا يخلو الفعل من ان يكون له صفة زائدة على حدوثه أو لا تكون له صفة زائدة. فما «ليس» (٥) له صفة زائدة ، هو كلام الساهي ، والنائم ، وحركات اعضائه التي لا تتعداه ، وما له صفة زائدة على حدوثه إما ان يكون حسنا ، أو قبيحا. فالحسن هو كل فعل إذا فعله العالم به أو المتمكن

__________________

(١) ليس في الأصل.

(٢) في ح : بالكلام.

(٣) ساقط من ح.

(٤) في ب وح : انقسامه.

(٥) ساقط من أوب.


من العلم به مختارا لا يستحق عليه الذم ، وهو على ضربين : احدهما : له صفة زائدة على حسنه ، والآخر لا صفة له زائدة على حسنه. فما لا صفة له زائدة على حسنه «هو الموصوف بأنه مباح» إذا علم فعله ، أو دل عليه. وما له صفة زائدة على حسنه» (١) فهو كل فعل يستحق به المدح على بعض الوجوه.

وهو على ضربين : احدهما : إذا لم يفعله استحق الذم على بعض الوجوه ، والآخر : لا يستحق الذم إذا لم يفعله على حال.

فالأول (٢) موصوف بأنه واجب ، وهو على ثلاثة أقسام :

أحدها : واجب مضيق : كالصلاة المفروضة ، وكردّ عين الوديعة.

الثاني : يكون مخيرا فيه. كالكفارات الثلاث في اليمين.

والثالث : من فروض الكفايات إذا قام به بعض سقط عن الباقين ، كرر السلام ، والجهاد ، والصلاة على الأموات.

وما ندب على ضربين (٣) :

١ ـ ان يكون نفعا واصلا الى الغير ، فيوصف «بانه إنعام ، وإحسان» (٤) ، إذا قصد ذلك.

٢ ـ لا يتعداه. فلا يوصف بأكثر من أنه ندب ، وأمثلة ذلك

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من (أ).

(٢) في ح : والاول.

(٣) في (أ) هكذا : وموصوف بانه ندب ، وهو على قسمين.

(٤) في أ : بانعام والاحسان.


في أفعالنا : وأفعاله قد ذكرناها في شرح الجمل ، والمقدمة (١) ، وغير ذلك من كتبنا.

والقبيح هو كل فعل إذا وقع من عالم بقبحه ، أو متمكن من العلم بقبحه ، استحق الذم على بعض الوجوه. والعلم بقبح القبائح ، ووجوب الواجبات ، يكون عقليا وشرعيا. فالعقليات كالعلم بقبح الظلم (٢) ، والكذب العاري من نفع ، أو ضرر ، والعبث وغير ذلك.

والواجبات كالعلم بوجوب رد الوديعة ، والانصاف ، وقضاء الدين ، والعلم بحسن الإحسان ، وغير ذلك. «وأما ما يعلم» (٣) بالشرع فكل ما (٤) لا يمكن معرفته بالعقل ، كالعبادات الشرعية من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك ، وكقبح شرب الخمر ، والزنا ، وغير ذلك. فانه لا مجال للعقل في العلم بذلك.

والذي يدل على ما قلناه ، من العالم (٥) بما تقدم هو العقل دون الشرع : هو ان كل عاقل مفطور العقل ، يعلم بقبح (٦) الظلم ، وقبح

__________________

(١) هو كتاب (المقدمة في المدخل الى علم الكلام) ذكره الشيخ الطوسي من جملة كتبه وتصانيفه في (الفهرست) ، وما زال الكتاب خطيا.

(٢) زاد في ح : والجهل.

(٣) في أ : وما يعلم.

(٤) في ب : وكلما.

(٥) في الأصل : العلم. والصحيح ما اثبتناه.

(٦) في ب وح : قبح.


الجهل ، والكذب ، والعبث. فلو لا أن طريق ذلك العقل لما وجب شمول العلم لجميع العقلاء ، ولكان يقف على من علم صحة السمع. وفي علمنا باشتراك جميع العقلاء من موحد ، وملحد ، ومقر بالنبوات ، وجاحد لها في العلم بذلك ، دليل على أن طريق ذلك العقل.

وقولهم : أنهم علموا ذلك لمخالطتهم العقلاء من أهل الشرع ، باطل ، لأنه لو كان كذلك لعلموا قبح كل ما علمه أهل الشرع ، من قبح شرب الخمر ، والزنا ، وغير ذلك. وفي العلم بالفرق بينهما دليل على فساد ما قالوه.

ومتى قالوا : إن العقلاء لا يعملون ذلك ، أو يعتقدونه اعتقادا ليس بعلم ، لزمهم أن يقولوا لا يعلمون المشاهدات أيضا. لأن من الناس من قال طريق ذلك السمع ، ولزم عليه قول السوفسطائية ، وأصحاب العنود (١) ، في نفيهم العلم بشيء من الأشياء ، ونسبتهم ذلك كله إلى الظن والحدسيات (٢). وذلك باطل بالاتفاق.

فأما الذي (٣) يدل على انه تعالى قادر على القبيح ، فهو ما ثبت من كونه خالقا لكمال العقل ، والعلم بالمشاهدات ومن شأن القادر على

__________________

(١) أصحاب العنود : لقب يطلق على السوفسطائية المنكرين للواقع الخارجي الموضوعي ، المستقل عن ذاتنا ، والقائلين بان إدراكاتنا لا تستند الى واقع مستقل عنا ، وانما هي من عمل الذات. ومن عندنا.

(٢) في ح : الحسنات.

(٣) في أوب : فالذي.


الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده ، فيجب أن يكون قادرا على ضد هذه العلوم من الجهل ، والجهل قبيح.

وأيضا ، فالقبيح من جنس الحسن. بدلالة أن قعود الانسان في دار غيره غصبا من جنس قعوده فيها بأذن مالكها ، واحدهما قبيح ، والآخر حسن ، «فالقبيح من جنس الحسن» (١).

والقديم تعالى قادر على الأجناس كلها ، ومن كل جنس على ما لا نهاية له ، لأنه قادر لنفسه على ما مضى ، ولا اختصاص له بقدر دون قدر ، ولا بجنس دون جنس. وأيضا ، هو تعالى قادر على تعذيب الكفار بلا خلاف ، وهو حسن. فاذا أسلم الكافر قبح عقابه ، ولم يخرج إسلامه إياه تعالى عن كونه قادرا ، فبان (٢) بذلك أنه قادر على القبيح.

فاذا ثبت ذلك ، فالذي يدل على انه لا يفعله علمه بقبح القبائح ، وعلمه بانه غني عنه ، والعالم بقبح القبيح ، وبأنه غني عنه لا يجوز أن يختاره. ألا ترى ان من خير بين الصدق والكذب في باب الوصول الى غرضه ، وهو عالم بقبح الكذب ، وحسن الصدق لا يجوز ان يختار الكذب على الصدق مع تساويهما في باب الغرض ، ولا علة لذلك إلا كونه عالما بقبح الكذب ، وبأنه غني عنه بالصدق ، فيجب أن يكون

__________________

(١) العبارة ساقطة من ح. ومثبته في أوب بعد قوله واحدهما قبيح.

(٢) في أوب : والمراد بذلك.


تعالى لا يفعل القبيح «لثبوت الأمرين على إنه لو جازت عليه الحاجة لما جاز ان يفعل القبيح» (١) ، لأنه يقدر من جنسه من الحسن «على» (٢) ما لا يتناهى. إلا ترى أن المخير بين الصدق والكذب مع تساوي الغرض قد بينا انه لا يختار الكذب مع جواز الحاجة إليه لأنه يستغني عنه بالحسن الذي هو الصدق ، وكذلك القديم لا قبيح إلا وهو يقدر من جنسه من الحسن على ما لا يتناهى ، فلا يجوز أن يختاره مع علمه بقبحه.

والقديم تعالى لا يريد القبائح ، على وجه. لأنه لا يخلو أن يريده لنفسه ، أو بإرادة قديمة ، أو محدثه. وقد بينا انه ليس بمريد لنفسه ، ولا بإرادة قديمة فبطل ذلك. ولو أراده بإرادة محدثه لكان هو الفاعل لها ، لأنه لا يقدر أن يفعل إرادة (٣) لا في محل سواه. ولو كان هو الفاعل لها لكان فاعلا للقبيح ، لأن إرادة القبيح قبيحه. بدلالة أن من علمها إرادة القبيح علم قبحها ، ومن لم يعلمها كذلك لم يعلم قبحها ، وذلك يؤدي الى أن يكون فاعلا للقبيح ، وقد دللنا على انه لا يجوز ان يكون فاعلا للقبيح على حال.

وأيضا ، قد ثبت بلا خلاف أنه ناه عن القبيح ، وقد بينا (٤) أن النهي لا يكون نهيا إلا بكراهية المنهي عنه ، ولو كان مريدا

__________________

(١) العبارة ساقطة من أوب.

(٢) ساقطة من ب.

(٣) في أوب : إلا.

(٤) في فصل (اثبات صانع العالم وبيان صفاته).


للقبيح لأدى الى ان يكون مريدا للشيء ، كارها له ، «وذلك باطل» (١).

وأيضا ، فلو أراد القبيح لكان محبا له ، راضيا «به» (٢) لأن المحبة والرضا هي الإرادة اذا وقعت على وجه مخصوص ، وأجمعت الأمة على خطأ من أطلق ذلك على الله تعالى.

وقد قال الله تعالى (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣) (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (٤) و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٥) ومن أعظم العسر الكفر والقبائح المؤدية الى العقاب. وقد قال الله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٦) ومعناه أراد منهم العبادة. لأن هذه اللام لام الغرض ، لأنها لو كانت لام العاقبة لكان كذبا ، لوجودنا كثيرا من الجن والإنس غير عابدين لله تعالى.

وقوله (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) ـ الى قوله ـ (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (٧) واضح في انه لا يريد القبيح.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) سورة غافر : ٣١.

(٤) سورة آل عمران : ١٠٨.

(٥) سورة البقرة : ١٨٥.

(٦) سورة الذاريات : ٥٦.

(٧) سورة الأنعام : ١٤٨.


لأنه كذب من أضاف ذلك الى الله تعالى. ومن انه اتباع الظن دون العلم وآيات القرآن شاهده بذلك وهي أكثر من ان تحصى.

وقوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (١) اللام هاهنا لام العاقبة. كما قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) ولم يلتقطوه إلا ليكون قرة عين لهم. وقوله (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣) اخبار عن قدرته. انه قادر على ان يلجئ الخلق الى الهدى والايمان ، لكن لا يفعل ذلك لأنه ينافي التكليف ، وينتقض الغرض به. وجرى مجرى قوله (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) وكذلك كل آية يتعلقون بها ، فالوجه فيها ما قلناه في هذه الآية ، نحو قوله (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٥) وقوله (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) (٦).

وما يجري مجرى ذلك من الآيات فالوجه فيها ما ذكرناه ، فلا نطول بذكرها ، وقد بينا الوجه فيها جميعه في تفسير القرآن (٧) مستوفي

__________________

(١) سورة الاعراف : ١٧٩.

(٢) سورة القصص : ٨.

(٣) سورة السجدة : ١٣.

(٤) سورة الشعراء : ٤.

(٥) سورة يونس : ٩٩.

(٦) سورة الرعد : ٣١. في الاصل : ولو شاء.

(٧) (التبيان في تفسير القرآن) تفسير كبير ، يقع في عشرة


لا يحتمل ذكره هاهنا.

وقولهم : لو أراد من خلقه من الايمان والطاعة ما لا يقع للحقه بذلك وهن وضعف ونقص. لأن الملك اذا أراد من رعيته ما لا يقع دل على ضعفه ، لأن الأمر بخلاف ما قالوه في المشاهد. لأن السلطان متى أراد من رعيته ما يعود نفعه عليهم لا عليه فلم يقع أو وقع خلافه لا يلحقه ضعف ولا نقص ، وإنما يجوز ان يقال ذلك فيما يعود نفعه عليه من نصرته والدفاع عنه مما يستضر بقوته ، والقديم تعالى لا يريد إلا ما يكون نفعه للخلق ، دونه تعالى. لاستحالة النفع عليه (١). وكيف يشتبه الحال في ذلك ونحن نعلم ان سلطان الاسلام يكره من اليهودي الزمن المقعد الدخول في الكنيسة (٢) ، ويريد منه الاسلام والدخول في المساجد ، ومع ذلك فانما يقع منه دخول الكنيسة دون المسجد ، ولا عاقل يقول ان سلطان الاسلام ضعيف (٣) بذلك.

ثم يلزمهم انه إذا وقع من الكافر خلاف ما أمر الله به أن يلحقه ضعف. لأن الشاهد لا يفصل بين الموضعين. ولا خلاف ان الله أمر

__________________

مجلدات. طبع بالمطبعة العلمية في النجف. وهو أهم الكتب المعتمدة في التفسير. وقد تناول فيه المؤلف شتى المباحث الكلامية في مواضعها المناسبة. كما اهتم بالجانب اللغوي كثيرا.

(١) تقدم ذلك في فصل (ما يجوز عليه ولا يجوز) لدى البحث عن نفي الحاجة عنه.

(٢) في ح : الى الكنيسة.

(٣) في ح : ضعف.


أمر الكافر بالأيمان ، ومع ذلك فلم يقع ذلك (١) منهم (٢). فيجب على أصلهم ان يلحقه ضعف ، فبأي شيء فصلوا بين الأمرين فهو فصلنا في الإرادة. وأيضا ، فالمعلوم ضرورة ان النبي (ص) أراد من الكفار الايمان ولم يلحقه باستمرارهم على الكفر وهن ولا ضعف ، ويلزمهم على ذلك أن يكون الله أمرهم بأن يضعفوه ، ويوهنوه من حيث أمرهم بما لا يريده منهم على قولهم. وذلك باطل بالاتفاق.

وقولهم : لو فعل العبد ما كره الله تعالى لكان قد (٣) فعل ما أباه. وذلك لا يجوز ، باطل. لأن الإباء بكراهية ، لأن الإباء (٤) هو المنع والامتناع ، ولهذا «يقولون في التمدح» (٥) : فلان يأبى الضيم. أي يمتنع منه ، ولا مدحة في أن يكره الضيم ، لأن الضعيف أيضا يكرهه.

وتعلقهم بان المسلمين قالوا ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وذلك يمنع من أنه أراد الايمان من الكافر ، ولم يرد الكفر منه ، غير صحيح. لأن هذا الاطلاق غير مسلم. لأن جميع أهل العدل يمتنعون من إطلاقه. ثم ان المسلمين أيضا يقولون : لا مرد لأمر

__________________

(١) في أهذا.

(٢) في ح : منه.

(٣) سقط من أ.

(٤) في أ : اباء. بحذف الألف واللام.

(٥) في ب وح : يتمدحون بان يقولوا.


الله ، ولا محيص عنه ، وعلى قولهم الكافر رد (١) أمر الله. ومتى «منعوا» (٢) من ذلك منعنا مثله. وإن تأولوه تأولنا (٣).

ولو سلم ذلك لكان المعنى : ما شاء الله من فعل نفسه كان (٤) ، وما لم يشأ من فعل نفسه لم يكن. أو ما شاء الله من فعل غيره والجأ (٥) إليه كان.

ومتى قالوا : لو شاء جميع الطاعات لكان القائل اذا حلف انه يقضي دينه غدا إن شاء الله. إذا لم يقضه يحنث. واجمعوا على خلافه.

قيل : في الناس من قال يحنث وهو أبو علي. ومن قال لا يحنث قال المشيئة دخلت اتفاقا (٦) للكلام ، دون أن تكون شرطا ، ولاجل ذلك تدخل في الماضي وان كان الشرط لا يدخل في الماضي.

فان قيل : هل افعال العباد بقضاء الله وقدره أم لا؟

قلنا : القضاء في اللغة على أربعة أقسام.

أحدها : بمعنى الخلق والأحداث. (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٧). أي خلقهن وأحدثهن.

__________________

(١) في ح : قد رد.

(٢) الكلمة ساقطة من أ.

(٣) في ب وح : اولنا.

(٤) ساقط من الأصل.

(٥) في أوب : أو الجأ.

(٦) في ح : ايقافا.

(٧) سورة فصلت : ١٢.


والثاني : «أن يكون» (١) بمعنى الحكم. «كقوله» (٢) «(اللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ») (٣) ، ومنه اشتقاق القاضي.

والثالث : بمعنى الأمر «والالزام كقوله» (٤) (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٥) أي أمر وألزم.

والرابع : بمعنى الاعلام والاخبار كقوله. (٦) (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (٧) أي أعلمناهم واخبرناهم.

ولا يجوز أن يكون قضاء أفعال العباد بمعنى إحداثها. لأن فعل العبد لا يخلو أن يكون قبيحا ، أو حسنا فما هو قبيح «لا يجوز ان يكون فعلا له لانا قد بينا انه لا يفعل القبيح ، وما هو حسن» (٨) لا يجوز أيضا ان يفعله لأنه فعلنا والفعل الواحد لا يكون من فاعلين على ما نبينه ولا يجوز أن يكون قضاء (٩) أفعالهم بمعنى «الحكم أو الأمر أو الالزام» (١٠).

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) سورة غافر : ٢٠.

(٤) ساقط من أ.

(٥) سورة الاسراء : ٢٣.

(٦) ساقط من أوب.

(٧) سورة الاسراء : ٤.

(٨) العبارة بطولها ساقط من أوب.

(٩) في ح : قضى.

(١٠) في ح : حكم وأمر وألزم معنى واحد.


لأن أحدا من الأمة لا يقول ان الله أمرنا بالمعاصي أو حكم علينا بأن نفعلها. وأما القضاء بمعنى الاعلام والاخبار فانه يجوز أن يقال على ضرب من التقييد لأن الله أخبر وأعلم ما لنا في فعل الطاعة من الثواب ، وما علينا بفعل المعاصي من العقاب ، فجاز أن يضاف الى الله القضاء على هذا الوجه.

وأيضا ، فقد روي عن النبي (ص) انه قال «يقول الله تعالى : من لم يرض بقضائي ، ولم يشكر نعمائي ، ولم يصبر على بلائي ، فليتخذ ربا سوائي» (١) فلو كانت المعاصي بقضاء الله واحداثه لوجب الرضا بها ، وذلك خلاف الاجماع.

والقول في القدر على مثل ذلك. لأن القدر يستعمل بمعنى الخلق والأحداث. كما قال (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (٢). ولا يجوز (٣) ان تكون المعاصي بقدر الله لمثل ما قلناه في القضاء.

وقد يستعمل بمعنى التقدير. كما قال تعالى (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (٤).

فعلى هذا يجوز أن يقال : أفعالنا بقدر الله بمعنى انه قدر ما عليها من الثواب أو العقاب. فينبغي أن يقيد القول في ذلك ، ولا يطلق به.

فان قيل : مضى في الكلام أن الواحد منا محدث لأفعاله ، موجد

__________________

(١) بحار الانوار. ح ٥. باب القضاء والقدر حديث ١٨. وفيه (لنعمائى).

(٢) سورة فصلت : ١٠.

(٣) في ح : فعلى هذا لا يجوز.

(٤) سورة المرسلات :


لها. فما الذي يدل على ذلك.

قلنا : الدليل على ذلك وجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا وانتفائها بحسب صوارفنا وكراهيتنا. فلو لا (١) أنها فعلنا لما وجب ذلك كما لا يجب ذلك في طولنا وقصرنا وخلقنا وهيئاتنا. ولا يجب في أفعال غيرنا لما لم تكن متعلقة بنا. وإنما قلنا بوجوب وقوعها بحسب دواعينا واحوالنا ، لأن الواحد منا متى دعاه الداعي الى القيام والقعود ولا صارف له عن ذلك ، ولا مانع ، فانه لا بد أن يقع ما دعاه الداعي إليه. وليس كذلك ما لا تعلق (٢) به ، كطوله وقصره. ولا فرق بينهما إلا انها محدثه بنا ، ومتعلقه بجهتنا.

ومتى قيل : إن ذلك بالعادة «كان ذلك باطلا بالوجوب الذي اعتبرناه ، لأن ما يستند الى العادة» (٣) لا يجب وقوعه على كل حال ويلزم على ذلك ان يكون انتفاء السواد بالبياض ، وحاجة العلم الى حياة وما جرى مجراه من الواجبات كله بالعادة ، وذلك باطل بالاتفاق. على ان تعلق الفعل بالفاعل (٤) آكد من وجوب تعلقه بدواعيه وأحواله. وهذا حاصل معنا ، فينبغي أن يكون كافيا في تعلقه بنا ، وهو في غيرنا مجوز ، ولا يترك (٥) المعلوم الى المجوز على ذلك.

__________________

(١) في أ : فلو.

(٢) في ح : له به

(٣) العبارة ساقطة من أوب.

(٤) زاد في ح «لا بدّ ان يكون معقولا مثل إسناده الى فاعل معين ولا يعقل في تعلقه بالفاعل».

(٥) في ح : ينزل.


ومتى قيل : ان أفعالنا تحتاج إلينا في كونها كسبا دون الحدوث.

قلنا : ذلك باطل. لأن الذي يتجدد عند دواعينا وأحوالنا هو الحدوث لا غير دون شيء من صفاته ، فينبغي ان يكون هو من جهة الحاجة دون غيره هو الذي يتجدد عند وجود الحركة كونه متحركا ، وكان كونه متحركا هو المحوج الى الحركة دون غيره ، والكسب الذي يدعونه غير معقول ، فكيف تتعلق (١) الحاجة به ويترك الحدوث الذي هو أمر معقول معلوم ، والكسب ليس بمعقول ولا معلوم.

فان قيل : كيف لا يكون معقولا؟ والانسان (٢) يفصل بين ان يمشي مختارا وبين أن يسحب على وجهه.

قلنا : الفرق يرجع الى ما قلناه من ان مشيه مختارا متعلق به ، وبايثاره ، وإذا سحب على وجهه كانت الحركة فيه ضرورية ، فلذلك فرق بينهما.

فان قيل : تتجدد عند دواعينا صفات من حسن وقبح وحلول في محل وكونه عرضا (٣) وغير ذلك. فلم قلتم ان الذي يتعلق بنا الحدوث دون شيء من ذلك.

قلنا : أما الحسن والقبح فقد يخلو كثير من الأفعال منهما ، نحو كلام الساهي والنائم وحركة أعضائه التي لا تتعداه ، وحلوله في المحل

__________________

(١) في ب وح : تعلق.

(٢) في ح : الاكتساب.

(٣) في ح : غرضا.


ليس له به صفة ، وإنما يفيد انه من قبيل ما لا يجب بقاؤه كبقاء المحل. ثم كثير من الأفعال يخلو من محل ، كالجوهر والفناء وإرادة القديم وكراهته. ولا يخلو فعل من حدوث فينبغي أن تكون جهة الحاجة الأمر الشائع في سائر الأفعال ، وسائر القادرين ، واستقصاء ما يورد على هذا الدليل ، وشعبه (١) قد استوفيناه في شرح الجمل ، وفيما ذكرنا كفاية ان شاء الله.

وإنما قلنا ان ما هو مقدور لنا لا يجوز ان يكون مقدورا له ، لأن ذلك يؤدي إلى كونه موجودا معدوما. لأنا لو فرضنا الواحد (٢) منا دعته الدواعي إلى (٣) إيجاده وجب حدوثه من جهته ، وإذا لم يرده الله تعالى يجب ان لا يوجد ، فاجتمع (٤) في فعل واحد وجوب حدوثه ، ووجوب انتفائه. وذلك محال ، فوجب بطلانه على كل حال.

ومما يدل على ان الواحد محدث لأفعاله انه يحسن مدحنا على بعض الأفعال ، وذمنا على بعض. لأن من فعل الطاعة يحسن مدحه ، ومن فعل الظلم يحسن ذمه ، ولا يحسن مدحه ، ولا ذمه على طوله وقصره وحسنه وقبحه ، وإنما كان ذلك لأن الاول متعلق بنا ، والثاني غير متعلق بنا ، لا شيء سواه (٥).

__________________

(١) في أ : وتبعته. وفي ح : وسعته.

(٢) في ح : ان الواحد.

(٣) في أوب : على

(٤) فى الأصل : مجتمع ، مجتما.

(٥) في ح : لا بشيء سواه.


وأيضا ، فانه يحسن أن يأمر بعضنا بالقيام ، والقعود وينهاه عنه ، ولا يحسن أن يأمره بالطول ولا القصر ، ولا ينهاه عنهما ، وإنما كان كذلك لأن الاول مقدور له فيحسن أمره ، والثاني غير مقدور له فلا (١) يحسن أمره به ، ولا نهيه عنه. فبان بجميع ذلك أن الواحد فاعله.

والقرآن يؤكد ذلك. لأنه قال (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) (جَزاءً (٣) بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٤) (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٥)) (٦) (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٧) (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (٨) وغير ذلك من الآيات التي أضاف الفعل فيها إلينا ، فمن نفى الفعل عنا فقد خالف العقول (٩) والقرآن.

__________________

(١) فى ب و (ح) : فلم.

(٢) سورة الواقعة : ٢٤. وغيرها. وفي الاصل جاء «بما كنتم تعملون» ، وهو خطأ.

(٣) فى ب : عطفها بالواو.

(٤) سورة التوبة : ٩٥. وغيرها. وفي الاصل جاء (بما كنتم تكسبون) وهو خطأ.

(٥) سورة الزلزلة : ٧.

(٦) فى ب : وقال (ومن يعمل ..).

(٧) سورة النساء : ١٢٣.

(٨) سورة الفرقان : ١٩.

(٩) فى ب : القول.


ومتى قيل : أضافه إلينا من حيث كان كسبا لنا.

فقد قلنا ان الكسب ليس بمعقول ، فلا يجوز له أن يعول عليه. على (١) ان المتولدات (٢) لا كسب للعبد فيه عندهم ، والظلم لا كسب للعبد فيه لأنه متعد عن محل قدرته ، لأنه موجود (٣) في المظلوم ، وعندهم أن ما تعدى محل القدرة عليه لا كسب للعبد فيه. فكيف يمكنهم حمل الآية عليه.

ومتى قالوا : ان الكسب الذي هو الظلم ، في الظالم. كالقتل الذي ليس بمستحق «عليه» (٤) ، والضرب الذي ليس بمستحق عليه ، وإنه في القاتل والضارب ، دون المقتول والمضروب. كان ذلك مكابره للعقول ، ويلزم على ذلك ان يكون البناء في الباني دون المبنى ، والنساجة في الناسج دون المنسوج (٥) ، وذلك تجاهل من بلغ إليه لا يحسن كلامه.

__________________

(١) فى الاصل هكذا : على ان عندهم أن .. ، وهو زيادة.

(٢) الافعال المتولدة في اصطلاح المتكلمين : هي الافعال التي تتعلق بالفاعل بواسطة ، ويقابلها الافعال المباشرة أو المبتدأة وهي التي تتعلق بالفاعل بلا واسطة. ومثال الافعال المتولدة الاصابة الناتجة من الرمى. فان الصادر من الفاعل أولا وبالذات هو نفس الرمى.

(٣) فى ب : يوجد وكذا ح.

(٤) ساقطة من ح ، وكذا الآتية.

(٥) في ب وح : الثوب المنسوج.


وقوله (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١) المراد به الأجسام ، لأن الذي كانوا يعبدون الأصنام دون أفعالهم فيها ، فعنفهم الله تعالى بأن قال : أتعبدون ما تنحتون من الأجسام؟ والله خلقكم وما تعملون من الأجسام التي تنحتون منها الاصنام. وتقدير الكلام وما تعملون منه. على انه يضاف المعمول الى (٢) انه عمل الصانع ، يقال (٣) هذا الباب عمل النجار ، وهذا البناء عمل الباني ، وهذا الخاتم عمل فلان ، فيضيفون المعمول فيه الى العامل ، وذلك مجاز. فهذا القدر الذي ذكرناه فيه كفاية ، واستيفاؤه مذكور في الموضع الذي ذكرناه (٤).

__________________

(١) سورة الصافات : ٩٦.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) في ح : فيقال.

(٤) شرح الجمل.


فصل ـ ٢ ـ

في الكلام (١) في الاستطاعة وبيان أحكامها

الواحد منا قادر على الفعل بدلالة صحة الفعل منه ، وتعذره على غيره من الأحياء ، مع مساواتهما في جميع الصفات ، ولا بد أن يكون من صح منه الفعل مفارقا لمن تعذر عليه. وهذه المفارقة تستند إلى جملة الحى دون أخواتها (٢). لأن صحة الفعل راجعه إليها. فبطل بذلك قول من قال ان ذلك يرجع الى الصحة أو الطبع أو اعتدال الأمزجة على اختلاف أقوالهم. لأن جميع ذلك يرجع إلى المحل دون الجملة. وهذه الصفة تستند إلى معنى ، لأنها تتجدد مع جواز أن لا تتجدد مع تساوي الأحوال والشروط. وبهذه الطريقة أثبتنا المعاني.

فيجب من ذلك ان يكون الواحد منا «قادرا بقدرة ، وهذه القدرة تتعلق بالشيء ، وبمثله ، وبخلافه ، وبضده. بدلالة ان الواحد منا» (٣) متى كان قادرا ، صح أن يتصرف في جميع ذلك. ألا ترى ان من قدر على ان يتحرك يمنة قدر ان يتحرك يسرة ، والحركة في

__________________

(١) في ب وح : ذكر الكلام.

(٢) في ح : اجزائها وهو الظاهر.

(٣) العبارة بطولها ساقطة من أ.


الجهتين متضادة (١). «وكذلك من قدر على الحركة قدر على الاعتماد والصوت والتأليف وهذه الأشياء مختلفة» (٢). وكذلك من قدر على الاعتقادات قدر على سائر أجناسها ، وقدر على الإرادة والكراهة ، وهذه الأشياء مختلفة ومتضادة ، فدل ذلك على ان القدرة تتعلق بالشيء ، وبمثله ، وبخلافه ، وضده ، إذا كان له ضد. وأيضا لو لم تتعلق القدرة بالشيء وبضده وبخلافه لم يقع الفعل بحسب دواعيه وأحواله ، بل كان يجب أن يقع بحسب ما يوجد فيه من القدرة. فكان لا يمتنع ان من يدعوه الداعي إلى القيام يقع منه القعود ، ومن دعاه الداعي الى الحركة يقع منه الاعتماد ، والمعلوم خلاف ذلك. والقدرة ليست موجبه للفعل بل يختار الفاعل بها الفعل بدلالة ان مقدور القدر تابع لدواعيه واختياره ، فلو كانت موجبة لبطل ذلك.

والقدرة قبل الفعل دون أن تكون مصاحبه له. بدلالة أن القدرة يحتاج إليها ليخرج بها الفعل من العدم الى الوجود ، فلو وجد مقدورها لاستغنى عنها. وأيضا فالفعل في حال البقاء يستغني عن القدرة بلا شك ، ولا علة لذلك إلا وجوده فينبغي ان يستغني عنها في أول حال وجوده أيضا. وأيضا ، فقد دللنا على ان القدرة قدره على الضدين ، وذلك محال.

فاذا ثبت ذلك فالقادر على الكفر قادر على الإيمان «والقادر

__________________

(١) في ب وح : متضادين.

(٢) العبارة بطولها ساقطة من أوب.


على الطاعة قادر على المعصية ، وإنما يختار احدهما فأن اختار الكفر فبسوء اختياره ولو كان الكافر غير قادر على الايمان» (١) لما حسن تكليفه بالايمان لأن تكليف ما لا يطاق قبيح ، «واجمعت الأمة على انه مكلف بالايمان ، وإنما قلنا ان تكليف ما لا يطاق قبيح» (٢) لأنه مركوز في العقل قبح تكليف الأعمى نقط المصاحف ، والمقعد العدو ، والعاجز حمل الاجسام الثقال ونقلها. والعلم بقبح ذلك ضروري لاجتماع العقلاء على ذلك ، «ولا علة لذلك» (٣) إلا انه تكليف بما لا يطاق ، ومن أرتكب حسن ذلك لم تحسن منا مكالمته. وإنما ينبه على غلطه بضرب الامثال ، كما يضرب الامثال للسوفسطائية وأصحاب العنود الذين دفعوا العلم بالمشاهدات والضروريات ، وإلا فالاحتجاج لا يمكن معهم ، لأن الاحتجاج انما يصح فيما يغمض ليرد الى ما يتضح ، فمن دفع الضروريات لا يمكن احتجاجه بالرد الى ما هو أوضح منه ، لأنه لا شيء أوضح من الضروريات ، فمن دفعها سد الباب على نفسه.

والمراد بقولنا تكليف ما لا يطاق : هو كل ما يتعذر معه الفعل ، سواء كان ذلك لعدم القدرة ، أو عدم العلم ، أو عدم الآلة ، فان الكل يتساوى في قبح التكليف ، وإن اختلفت.

__________________

(١) العبارة بطولها ساقطة من أوب.

(٢) العبارة بطولها ساقطة من أوح.

(٣) ما بين القوسين ساقط من أ.


فصل ـ ٣ ـ

في الكلام في التكليف وجمل من أحكامه

التكليف عبارة عن إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة. ويقال في الأمر بما فيه كلفة ومشقة انه تكليف من حيث كان الأمر لا يكون أمرا إلا بإرادة المأمور به.

والرتبة معتبرة في التكليف كاعتبارها في الأمر.

يدل على ذلك أن من أراد من الغير ما يلحقه فيه مشقة سمي مكلفا له. ومتى أراد من الغير ما لا يلحقه فيه مشقة لم يسم بذلك. ولذلك لم يكن الواحد منا اذا أراد من الله تعالى الفعل مكلفا له.

وإذا أراد الله تعالى منا الفعل «الذي فيه مشقة كان مكلفا سواء كان» (١) ذلك الفعل واجبا أو ندبا. وإعلام المكلف بوجوب الفعل أو حسنه ، أو دلالته عليه ، شرط في حسن التكليف من الله ، لأنه من جملة إزاحة العلة فيما كلفه ، وليس نفس الاعلام هو التكليف ولهذا كان مكلفا له «وإن لم يكن معلما له وإنما لم يسم الواحد منا اذا إذا أراد من الغير الصوم أو الصلاة مكلفا له» (٢) ، لأنه سبق في ذلك تكليف الله وإرادته فلذلك لم يسموه بذلك.

__________________

(١) العبارة ساقطة من أوب.

(٢) العبارة بطولها ساقطة من أوب.


فاذا ثبت حقيقة التكليف فيحتاج العلم (١) بحسنه الى معرفة أشياء : أ ـ صفات المكلف (٢). ب ـ صفات المكلف. ج ـ صفات الفعل الذي يتناوله التكليف. د ـ ما الغرض في التكليف (٣). ونحن نبين جميع ذلك على أخصر الوجوه.

وقبل ذلك نبين أولا ما وجه الحسن في ابتداء الخلق ، وبيان ذلك أن نقول :

لا يخلو ان يكون في ابتداء الخلق غرض أولا غرض فيه. فان كان لا غرض فيه فهو عبث ، وذلك قبيح لا يجوز عليه تعالى ، وإن كان فيه غرض لا يخلو ان يكون فيه غرض قبيح أو حسن ، والقبيح هو أن يقصد بخلق الخلق الإضرار بهم ، وذلك قبيح ، لا يجوز على الحكيم. والغرض الحسن لا يكون إلا بحصول النفع فيه ، وذلك النفع لا يخلو أن يكون راجعا إليه تعالى أو الى غيره. فما يرجع إليه تعالى مستحيل. لاستحالة النفع عليه ، وما يرجع الى الغير هو وجه الحسن في ابتداء الخلق ، سواء كان ذلك النفع راجعا الى نفس المخلوق ، أو الى غيره ، أو إليهما. فان جميع ذلك وجه الحسن إذا تعرى من وجوه القبح.

فاذا ثبت ذلك فالمكلف منفوع بالتفضيل (٤) ، ومنفوع بالثواب ،

__________________

(١) في ح : في العلم.

(٢) في ح : صفات التكليف.

(٣) في ح : بالتكليف.

(٤) في ح : بالتفضل.


وإن كان المعلوم أنه يولم لمصلحته أو مصلحة غيره فهو منفوع أيضا بالعوض فتجتمع فيه الوجوه الثلاثة ، وغير ذلك المكلف منفوع بالتفضيل (١) قطعا ، وبالعوض ان كان في إيلامه مصلحة لغيره من المكلفين.

واذا كان وجه حسن الخلق ما فيه من النفع ، فينبغي أن يكون أول ما يخلقه الله تعالى حيا (٢) ، لأن النفع لا يصح إلا على الحي. ولا بد أن يخلق فيه شهوة لمدرك يدركه فيلتذ به سواء كان هو أو غيره. ويجوز أن يبتدئ الله تعالى بخلق الجماد ، اذا علم انه يخلق فيما بعد حيا مكلفا يكون من لطفه اختياره خلق الجماد قبله. فان لم يكن ذلك معلوما لم يحسن الابتداء بخلق الجماد. ونحن نعود الى ما وعدنا به من اعتبار شرائط حسن التكليف.

أما صفات المكلف : ـ

فيجب أن يكون حكيما ، مأمونا منه فعل القبيح ، والاخلال بالواجب. ليعلم انتفاء وجه القبح عن هذا التكليف ، وقد مضى بيان (٣) ذلك في باب العدل.

ويجب أن يكون قادرا على الثواب الذي عرض بالتكليف له ، وعالما بمبلغه ، وقد بينا انه قادر لنفسه وعالم لنفسه ، ولا بد أن يكون

__________________

(١) في ح : بالتفضل.

(٢) سقط من أوب.

(٣) ساقط من أ.


له فيه غرض في التكليف ، ويستدل على ذلك فيما بعد.

ويجب أن يكون منعما بما يجب له به العبادة ، ولا تستحق إلا بأصول النعم ، من خلق الحياة والشهوة والنفار (١) والقدرة ، وكمال العقل ، وخلق المشتهى ، وغير ذلك مما لا يدخل نعمه كل منعم في كونها نعمة (٢) إلا بعد تقدمها ، ولذلك لا يستحق بعضنا على بعض العبادة ، وإن استحق عليه الشكر لأنه (٣) لا يقدر على ما هو أصول النعم. ويختص الله تعالى بالقدرة على ذلك ، فلذلك اختص تعالى بالعبادة.

ويجب أيضا أن يكون عالما بتكامل شرائط التكليف في المكلف ، من اقداره ، وسائر ضروب التمكين.

حسن التكليف :

فاذا ثبت ذلك ، فالوجه في حسن التكليف أنه تعريض لمنزلة عظيمة لا يمكن الوصول إليها إلا بالتكليف ، والتعريض للشيء في حكم ايصاله. فعلى هذا ، اذا كان التكليف تعريضا للنفع ، يجب أن يكون نفعا ، لأن من حسن منه التوصل الى نفع حسن من الغير أن يعرضه له.

ومعنى التعريض تصيير المعروض بحيث يتمكن من الوصول الى ما عرض له مع إرادة المعرض للفعل الذي عرضه له ، وعرض للمستحق

__________________

(١) في ح : البقاء.

(٢) ساقط من أوب.

(٣) ساقط من أوب.


عليه أو التوصل (١) به إليه.

الا ترى ان الانسان إنما يكون معرضا لولده للعلم إذا أمكنه (٢) من التعلم ، وأزاح علته فيه ، وأراد منه التعلم ، ومتى لم يرد منه ذلك ، أو لم يزح علته لا يكون معرضا له.

ومن شرط المعرض ان يكون عالما أو ظانا بوصول (٣) المعرض الى ما عرضه له متى فعل ما هو وصلة إليه. ألا ترى ان الواحد منا لو عرض ولده للتجارة ، وأمره بالسفر ، وغلب على ظنه أنه متى فعل جميع ما رسمه لا يحصل شيء من الربح ، لا يكون الوالد معرضا له. فعلى هذا القديم تعالى عالم بأن المكلف متى فعل ما كلفه أنه يثيبه ويوصله الى مستحقه واعتبرنا الإرادة لأن بها يختص بما عرض له ، دون ما لم يعرض له ، والتمكين والاقدار يصلح للامرين.

ألا ترى أن من أعطى سيفا لغيره ليجاهد به ، إنما يكون معرضا له بأن يقتل به كافرا دون مؤمن ، إذا أراد قتل الكافر دون المؤمن ، وإلا فالسيف يصلح للامرين. فعلى هذا إذا أقدر القديم تعالى المكلف ، وكلفه وخلق فيه الشهوة ، ويمكنه أن ينال بها المشتهى ، كما يمكنه أن يجتنبه على وجه يشق عليه ، فانما يخصص (٤) بأحد الوجهين دون الآخر بالإرادة.

__________________

(١) في أ : للتوصل.

(٢) في ح : مكنه.

(٣) في ح : لوصول.

(٤) في ح : يتخصص.


وإنما قلنا في التكليف أنه تعريض للثواب ، لأنه لا يخلو أن يكون فيه غرض أو لا غرض فيه. فان لم يكن فيه غرض كان عبثا ، وذلك لا يجوز عليه تعالى. وإن كان فيه غرض لم يخل أن يكون الغرض نفعه أو مضرته ، ولا يجوز ان يكون الغرض مضرته لأن ذلك قبيح ، فلم يبق الا ان يكون غرضه نفعه.

وينبغي ان يكون ذلك النفع مما يستحق بالتكليف ، ولا يمكن الوصول إليه إلا بالأفعال التي يتناولها التكليف ، لان الابتداء بالثواب لا يحسن ، لانه يقارنه تعظيم وتبجيل ، والمعلوم ضرورة قبح ذلك لمن لا يستحقه. ولا يمكن استحقاق الثواب الا بما تناوله التكليف من واجب أو ندب. فعلى هذا متى حسن التكليف وجب ، لان المكلف متى تكاملت شروط تكليفه في وجوه جميع التمكين ، وجعل الفعل (١) شاقا عليه ، وكان متردد الدواعي وزال عنه الالجاء ، وجب تكليفه ، ومتى نقص بعض هذه الشروط قبح تكليفه ، لانه لو لم يكلفه لكان اما مغريا بالقبيح أو عابثا ، وكلاهما لا يجوز (٢) عليه.

بيان (٣) ذلك : انه اذا كان تعالى قادرا على اغنائه بالحسن عن القبيح ، فلم يفعل ، وأحوجه بالشهوات المخلوقة فيه ، والتخلية بينه وبينه ، فان لم يكن له غرض كان عابثا ، وان كان فيه غرض فلا

__________________

(١) في أوب : القول.

(٢) في ح : لا يجوزان.

(٣) في ب وح : يبين.


غرض فيه الا التكليف وأن يكون ملزما له بحسب (١) المشتهى ، وإن شق عليه ذلك ، للمنفعة العظيمة بالثواب ، وان لم يكن ذلك فالاغراء بتقوية الدواعي الى نيله حاصل (٢).

ولا يلزم أن تكون البهائم مغراة بالقبيح لأن ذلك يعتبر (٣) فيمن يتصور العواقب ، وذلك منتف في (٤) البهائم.

فأما (٥) الفعل الذي يتناوله التكليف : ـ

فلا بد أن يصح ايجاده من المكلف على الوجه الذي كلفه. لأن ذلك ممكن (٦) لا يحسن التكليف من دونه. ومن شروطه تقوية دواعيه بفعل اللطف ، مما لا ينافي التكليف.

ولا بد أن يكون ما تناوله التكليف مما يستحق به «المدح والثواب لأن وجه حسن التكليف إذا كان هو التعريض للثواب لم يجز أن يتناول إلا ما يستحق به» (٧) الثواب ، وما يستحق به الثواب هو أما واجب أو ندب. فلا يخرج التكليف عنهما. والمباح لا مدخل له في ذلك لأنه لا يستحق به مدح ولا ثواب. وإنما حسن تكليف الندب

__________________

(١) في ح : بحيث.

(٢) العبارة في الاصل مشوشة.

(٣) في ح : معتبر.

(٤) في ح : عن.

(٥) في ح : وأما.

(٦) ساقطة من ح.

(٧) العبارة بطولها ساقطة من أ.


من حيث كان الندب مسهلا (١) للواجب ومقويا له. فلا يصح أن يقتصر بالمكلف على تكليفه لأنه (٢) تابع لا يستقل بنفسه.

وأما صفات المكلف (٣) : ـ

فالكلام فيها فرع على العلم بالمكلف. لأن الكلام في صفات (٤) الذات فرع على العلم بالذات. فاذا ثبت ذلك فالمكلف هو الحي. لأن من ليس بحي لا يحسن تكليفه ، ويسمى الحي انسانا ، وفي الملائكة والجن اسماء (٥) أخر.

والفلاسفة تسميه نفسا. والحي هو هذه الجملة «المتناسبة» (٦) المشاهدة دون أبعاضها ، وبها يتعلق جميع الأحكام ، من الأمر والنهي ، والمدح والذم وقال معمر (٧) ، وابناء نوبخت (٨) ، وشيخنا أبو

__________________

(١) في ح : مستهلا.

(٢) في أوب : أنه.

(٣) في ب وح هكذا : فأما الكلام في صفات المكلف فانه فرع على العلم من المكلف ...

(٤) في ب وح : صفة الذات.

(٥) في ب وح : بأسماء.

(٦) ساقطة من ح.

(٧) هو معمر بن عباد السلمي ، ذكر الشهرستاني انه من أعظم القدرية مرتبة في تدقيق القول بنفي الصفات.

(٨) في ح : ابناء. بالجمع. وهم بيت من الشيعة عرفوا بالكلام ، وتضلعوا فيه. وقد تعرض الشيخ المفيد الى أقوالهم في كتابه (أوائل المقالات) ، وكان أشهرهم (اسماعيل بن علي النوبختي) و (الحسن بن موسى النوبختي).


عبد الله : (١) الحي هو غير هذه الجملة وهو ذات ليس بجوهر ولا عرض ولا حال في هذه الجملة. وقال ابن الراوندي ، وهشام الفوطي : هو جوهر في القلب. وقال الاسواري : هو ما في القلب من الروح. وقال النظام : هو الروح ، وهو الحياة المتداخلة بهذه الجملة. وقال ابن الإخشيد : هو جسم رقيق منساب في هذه الجملة.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه أولا : ـ ان الأحكام الراجعة الى الحي تظهر في هذه الجملة ، من المدح والذم ، والأمر والنهي ، وغير ذلك.

وأيضا ، فان الإدراك يقع بأعضائها ، والتألم والتلذذ تابع للإدراك ، ولو أنها هي الحية لما وقع الإدراك بأبعاضها.

وأيضا ، فالفعل المبتدأ يظهر في أطرافها ، كحركة أيدينا وأرجلنا ، وغير ذلك ، فلا بد من إسناد ذلك إليها ، وإلى ماله به (٢) تعلق معقول. فاذا أفسدنا جميع ما ادعى من وجوه التعلق لم يبق إلا ما ذكرناه.

ولا يجوز أن يكون الفاعل في هذه الجملة غيرها ، لأنه لو كان كذلك لاقتضى أن يخترع الأفعال في هذه الجملة ، فان (٣) القدرة

__________________

(١) عده من مشايخ المؤلف يحملون كنية (أبو عبد الله) ، لكن الذي تنصرف إليه هو الشيخ المفيد ٤١٣ ه‍.

(٢) في أ : ما به.

(٣) في ح : لان.


قائمة بذلك الغير على هذا القول. وهذا باطل (١) بما يعلم ضرورة من أحدنا إذا تعذر عليه حمل شيء بإحدى يديه ، إذا استعان باليد الأخرى يأني ذلك أو يسهل ، ولا وجه لهذا الحكم المعلوم مع القول بالاختراع وانما يصح ذلك على قول من يقول القدر في اليد اليمنى مقدار لا يتأنى بها حمل الثقيل ، فاذا إنضاف إليها القدر الذي في الشمال تأتي ذلك أو سهل. وإن الفعل لا يصح إلا باستعمال القدرة.

وبمثل ذلك يبطل قول من قال أنه جزء في القلب ، لأن اليدين على هذا القول ليستا بمحلين للقدرة اصلا ، لأنها تحل الجزء الذي في القلب. وأيضا لو كان الفعل يفعل في هذه الجملة اختراعا لم يكن بعض الجملة بذلك أولى من بعض ، وكان يجب أن يصح أن يفعل فيها كلها ، لفقد الاختصاص المعقول (٢).

ومما يدل أيضا على أن الفعال هذه الجملة أن (٣) الإدراك يقع بكل عضو منها ، فلو لم يكن في الاعضاء حياة لما أدرك بها ، كما لا يدرك بالشعر والظفر.

فأما من قال ، الانسان هو الروح ، فليس يخلو أن يريد بالروح الحياة التي هي عرض ، أو يريد الهواء المتردد.

والأول باطل من حيث ان الحياة يستحيل أن تكون حية قادرة.

__________________

(١) ساقطة من أوب.

(٢) في أوب : من المعقول.

(٣) في أوب : لان.


وإن أراد الثاني فذلك أيضا باطل ، لأنه لا يصح أن تحل الحياة الهواء ، ولا يدرك الألم واللذة وهو على صفته. وان أراد غيرهما فذلك غير معقول.

فأما مذهب ابن الاخشيد (١) ، فانه أيضا يبطل بمثل ما أبطلنا به مذهب النظام ، وذلك يجب (٢) أن لا تبطل الجملة بقطع وسطها ، وبقطع رأسها ، وإذا قال بالتقلص في قطع اليد أو الرجل ، فلم لا يتقلص في (٣) قطع الرأس والوسط ولم يتقلص بقطع اليد تارة فيبقى حيا ، وتارة لا يتقلص فيموت. وما الموجب لذلك الفرق. فأذن ثبت ان ذلك الحي هذه الجملة.

والصفات التي يجب أن يكون عليها المكلف أشياء : ـ أولها : أن يكون قادرا ليتمكن من فعل ما كلفه ، ولا يكون مكلفا لما لا يطيق ، وقد بينا فساده.

وثانيها : أن يكون عالما ، أن متمكنا من العلم به ، فيما يحتاج الى العلم به ، من جملة ما كلفه من أحكام الافعال ، وايقاعه على وجه مخصوص ، ليستحق به الثواب. ولا بدّ من العلم به. وكذلك يستحق الثواب على ترك القبيح إذا تركه لقبحه ، وذلك لا يتم إلا مع العلم بقبحه او التمكن من العلم به بنصب الأدلة عليه يقوم مقام خلق

__________________

(١) في ب وح : الاحشاذ.

(٢) كذا في أوب ، وفي ح : وكان يجب.

(٣) حرف الجر ساقط من أوب.


العلم الضروري في قلبه. وكذلك اذا قلنا (١) أن الكفار مكلفون بالشرائع لتمكينهم من العلم بها بالنظر في معجزات الأنبياء.

ولما كانت علومه لا يصح حصولها إلا مع كمال عقله ، وجب أن يخلق فيه العقل.

والعقل هو مجموع علوم إذا اجتمعت كان الحي عاقلا ، وإذا حصل بعضها ، أو لم يحصل شيء اصلا لم يكن عاقلا. والعلوم التي تسمى عقلا تنقسم الى ثلاثة أقسام :

أولها : العلم بأصول الأدلة. وثانيها : ما لا يتم العلم بهذه الأصول إلا معه. وثالثها : ما لا يتم الغرض المطلوب إلا معه.

فالأول : كالعلم بأحوال الأجسام التي تتغير من حركة وسكون ، والعلم باستحالة خلق الذات من النفي والإثبات المتقابلين ، والعلم بأحوال الفاعلين ، وغير ذلك. وليس يصح العلم إلا ممن يجب أن يكون عالما بالمدركات إذا ادركها ، وارتفع اللبس عنها ، وممن اذا مارس الصنائع يعلمها.

والعلم بالعادات من أصول الأدلة الشرعية ، فلا بد منه ، وهو نظير القسم الثاني.

وأما الثالث (٢) : فهو العلم بجهات المدح والذم ، والخوف وطرق المضار ، حتى يصح خوفه من اهمال النظر ، فيجب عليه النظر

__________________

(١) في ح : ولذلك قلنا. وهو الأنسب.

(٢) في ح وب : والثالث العلم.


والتوصل به الى العلم.

والذي يدل على أن ذلك هو العقل لا غير : انه متى تكاملت هذه العلوم كان عاقلا ، ولا يكون عاقلا إلا وهذه العلوم حاصلة. ولو كان العقل معنى آخر ، لجاز حصول هذه العلوم «ولا يحصل ذلك المعنى وان لم يكن له هذه العلوم» (١) والمعلوم خلاف ذلك وسميت عقلا لأن لمكانها (٢) يمتنع من كثير من المقبحات ، فشبهت بعقال الناقة التي يمنعها من السير. ولأن العلوم المكتسبة مرتبطة بها ، ولا يصح حصولها من دونه ، فسميت عقلا تشبيها أيضا بعقال الناقة ، ولذلك لا يجوز وصف الله تعالى بأنه عاقل ، وإن كان عالما بجميع المعلومات.

ويجب أن يكون المكلف متمكنا من الآلات التي يحتاج إليها في الافعال التي تتعلق بتكليفه. لأن فقد الآلة كفقد القدرة في قبح التكليف. والآلات على ضربين :

أ ـ لا يقدر على تحصيلها ، إلا الله تعالى. كاليد والرجل. فيجب ان يخلقها له في وقت الحاجة إليها.

ب ـ يتمكن المكلف من تحصيلها. كالقلم (٣) في الكتابة ، والقوس في الرمي ، وغير ذلك. فالتمكين (٤) من تحصيلها له ،

__________________

(١) العبارة ساقطة من أوب.

(٢) في أوب : مكانها.

(٣) في ب ، ح : كالعلم.

(٤) في أ ، ب : فالتمكن.


وايجاب تحصيلها عليه يقوم مقام خلقها.

ولا بدّ من تمكينه من الإرادة في كل فعل يقع على وجه بالارادة إذا كلف إيقاعه على ذلك الوجه نحو صيغة الأمر والنهي والخبر وارتفاع الفعل على وجه العبادة (١) وغير ذلك. وما يقع على وجه لا تؤثر فيه الإرادة جاز أن يكلف ذلك وإن لم يكن متمكنا من الإرادة وذلك نحو رد الوديعة ، ورد عين المغصوب.

ويجب أن يكون المكلف مشتهيا ونافرا ، لأن الغرض اذا كان التعريض للثواب. ولا يصح استحقاق الثواب إلا على ما تلحق فيه المشقة ، فلا يصح ذلك إلا بأن يكون نافرا بالطبع (٢) مما كلف فعله ، ومشتهيا لما كلف الامتناع منه. ولهذا نقول لا بدّ أن تكون على المكلف مشقة في نفس الفعل أو شبه (٣) أو أمر يتصل به. وأمثلة ذلك معروفة ، لا نطول بذكرها.

ويجب أن تكون الموانع مرتفعة ، لأن مع المنع يتعذر الفعل ، كتعذره مع فقد القدرة ، ولا فرق بين أن يكون المنع من جهته تعالى ، أو من جهة غيره في قبح تكليفه ، إذا لم يكن المكلف قادرا على إزالة المنع عن نفسه ، ولا يحسن أن يكلف تعالى بشرط ارتفاع الموانع لأن ذلك يحسن فيمن لا يعرف العواقب.

__________________

(١) في أ : العادة.

(٢) في ح ، ب : للطبع.

(٣) في ح : شبيه ، والصحيح : سببه.


ويجب أيضا أن لا يكون ملجأ فيما كلف. لأن الغرض بالتكليف استحقاق المدح والثواب. والالجاء لا يثبت معه استحقاق مدح. إلا ترى أن الإنسان لا يمدح على أن لا يقتل (١) نفسه وأولاده ، ولا يحرق ماله وداره ، فانه ملجأ الى ان لا يفعله مع زوال الشبهة واللبس ، لأن مع دخول الشبهة يجوز أن يفعل ذلك كما يفعل الهند من قتل نفوسهم ، وإحراقها لمن اعتقد (٢) ذلك أنه قربة الى الله تعالى.

والالجاء يكون بشيئين :

أ ـ ما يخلق الله فيه العلم الضروري بأنه متى دام فعلا منع منه.

ب ـ انه متى فعل تخلص من ضرر عظيم ، أو ينال منافعا عظيمة. كمن يعدو من السبع والنار وغير ذلك.

وليس من شرط التكليف أن يعلم المكلف أن مكلفا كلفه اذا علم وجوب الواجب عليه ، وقبح القبيح منه. ويتمكن من اداءه على الوجه الذي وجب عليه ، وإن لم يعلم مكلفه. وكذلك اشتراك العقلاء في العلم بوجوب رد الوديعة ، والامتناع من الظلم ، وإن اختلفوا في المكلف.

وليس من شرط المكلف أن يعلم قبل الفعل أنه مكلف (٣) لا محالة ، وأنه أوجب عليه قطعا ، لأنه لو كان كذلك لقطع على

__________________

(١) في أوب : أن يقتل.

(٢) في ب ، ح : اعتقدوا في ذلك من انه.

(٣) زاد في ح : للفعل.


بقاءه الى وقت الفعل ، وفي ذلك اغراؤه بالقبيح في ذلك الوقت؟

وأيضا فلا مكلف إلا وهو يجوز اخترامه في الثاني ، فكيف يكون مع ذلك قاطعا على بقاءه.

ولا يلزم أن يكون الأنبياء والمعصومون مغرين بالقبائح اذا قطعوا على بقائهم زمانا طويلا. لأن الأغراء لا يصح في المعصوم الموثق بانه لا يفعل قبيحا ، ولا يخل بواجب.

فعلى هذا لا يقطع على ان المكلف مكلف بالصلاة (١) إلا بعد أن يفعل الصلاة ، وقبل ذلك بتجويز الاخترام يجوز أن يكون غير مكلف بها (٢). وإنما تقول له يجب عليك التشاغل بالصلاة مع ضيق الوقت ، لأنك لا تأمن ان تبقى على ما أنت عليه ، فاذا خرج الوقت تبين انها كانت واجبة عليك ، وإنما يحصل التحرز بفعل الصلاة فلذلك يجب عليه فعلها.

حسن تكليف الكافر : ـ

وتكليف من علم الله انه يكفر ممكن (٣) حسن صحيح. ومن قال ان ذلك غير ممكن لأن التكليف هو الإرادة على بعض الوجوه وما علم انه لا يكون لا يصح أن يراد. فقوله باطل ، لأن الإرادة تتعلق بما يصح حدوثه في نفسه ، سواء علم أنه (٤) يحدث أولا (٥).

__________________

(١) في ح : للصلاة.

(٢) في ح : لها.

(٣) الكلمة ساقطة من أ.

(٤) ساقطة من الأصل.

(٥) في ح : لا يحدث.


إلا ترى أن الواحد منا يصح أن يريد من جميع الكفار الايمان ، وإن علم ان جميعهم لا يؤمن ، وأيضا ، فان النبي (ص) كان يريد من أبي لهب الايمان ، وإن كان الله تعالى أعلمه أنه لا يؤمن وأيضا ، فقد يريد الواحد منا من الغير تناول طعامه وإن غلب في ظنه انه لا يتناوله. وما يستحيل مع العلم يستحيل مع الظن على حد واحد. والمعلوم أن ذلك لا يستحيل مع الظن فيجب أن لا يستحيل مع العلم. فأما من قال أن ذلك ممكن. غير أنه لا يحسن ، فالذي (١) يدل على بطلان قوله ما قدمناه من ان التكليف تعريض لنفع لا ينال إلا به ، والتعريض للشيء في حكم إيصاله. وان كل من حسن منه التوصل الى أمر من الأمور حسن من غيره تعريضه له اذا انتفت عنه وجوه القبح. وعكسه كل شيء يقبح لنا التوصل (٢) له يقبح من غيرنا تعريضنا له أيضا. ونحن نعلم أنه يحسن من الواحد منا التعرض للثواب والتوصل إليه بفعل ما يستحق به ذلك ، فيجب أن يحسن منه تعالى تعريضه له. فاذا حسن منا التعرض (٣) لمنافع منقطعه من أرباح التجارات بتكليف المشاق والأسفار وحسن من غيرنا أن يعرضنا لها ، فيجب أن يحسن التعرض للمنافع الدائمة والتعريض لها.

والكافر إنما استضر في ذلك بفعل (٤) نفسه ، وسوء (٥) اختياره ،

__________________

(١) في ب : والذي.

(٢) في أ ، ب : التعريض.

(٣) ح : ان يتعرض.

(٤) أ ، ب : لذلك في فعل.

(٥) أ ، ب : وهو.


لأنه أقدم على ما يستحق به العقاب ، وقد نهاه الله تعالى وحذره وتوعّده عليه ، ورغبه في خلافه. فهو الذي ضر نصيبه دون الذي كلفه. بل مكلفه نفعه بغاية النفع من حيث عرضه لمنافع لا تنال إلا بفعل ما كلفه وحثه على ذلك ويدل على حسن ذلك أيضا انه قد ثبت حسن تكليف من علم الله انه يؤمن ، وقد فعل الله تعالى بالكافر جميع ما فعله بالمؤمن ، من إقداره ، وخلق الشهوة فيه والنفار ، ونصب الأدلة ، وخلق العلم والتمكين ، وغير ذلك من الشرائط التي تقدم ذكرها. فينبغي أن يكون تكليفهما جميعا حسنا أو قبيحا. فاذا حكمنا بحسن تكليف من علم الله انه يؤمن وجب مثل ذلك في تكليف من علم انه يكفر.

فأما (١) من منع حسن التكليف أصلا فلا يكلم في هذه المسألة ، بل يكلم فيما تقدم من الكلام في حسن التكليف والفرق بين التكليفين لا يرجع الى اختيار الله ، بل الى اختيار المؤمن الايمان (٢) فيحصل نفعه ، واختيار الكافر الكفر فاستضر به ، فأتي في ذلك من قبل نفسه.

ويدل أيضا على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر ويموت على كفره انه لو لم يحسن ذلك لوجب ان يكون للمكلف طريق الى العلم بقبح ذلك ، ولو علم قبحه لوجب ان يكون قاطعا على انه لا يخرج

__________________

(١) ح : واما.

(٢) ح : للايمان.


من دار الدنيا إلا وهو يستحق الثواب ، ولا يتم ذلك إلا بأمرين : احدهما : انه يعلم انه (١) متى رام القبيح منع منه ، وذلك إلجائنا في التكليف او يعلم انه سيتوب في المستقبل ، وذلك يؤدي الى الأغراء ، وكلاهما فاسدان. فاذن يجب أن يكون ممن يجوز الخروج من الدنيا وهو مستحق العقاب ، وهو ما أردناه. ومتى ادعى في ذلك وجه قبح (٢) فالكلام قد استوفيناه في شرح الجمل ، يرجع إليه ان شاء الله.

ويدل أيضا (٣) على حسن تكليف من علم الله انه يكفر انه قد (٤) ثبت انه تعالى كلف من هذه صورته ، لأنا نعلم أن كثيرا من العقلاء المكلفين يموتون على كفرهم ، ولو لم يكن إلا ما علمناه (٥) من حال فرعون وهامان وابي لهب وابي جهل (٦) ، وغيرهم لكفى. ولو كان ذلك قبيحا لما فعله الله تعالى. لأنا قد دللنا انه تعالى لا يفعل القبيح على حال.

ولا يلزم ذلك بعثة نبي يعلم انه لا يؤدي ما حمله. لأن بعثة نبي لا يؤدي إلينا ما لنا فيه مصلحة يمنع من إزاحة علتنا (٧) ، ويوجب

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) ب ، قبيح.

(٣) ب ، ح : ومما يدل على.

(٤) سقطت من ب ، ح.

(٥) ح : علمنا.

(٦) ح : تقديم وتأخير بين الشخصين.

(٧) ح : اضاف : في التكليف.


منع اللطف والتمكين. فلهذا لم يجز ، لا لأنه تكليف من علم الله انه يكفر.

ولسنا ننكر أيضا ان يعرض (١) في تكليف من علم الله انه يكفر وجه قبح يقبح (٢) تكليفه. بل لا ننكر ذلك في تكليف من علم الله (٣) انه «يؤمن (٤) لأنه» لو عرض فيه وجه المفسدة لقبح تكليفه وان آمن.

فاذا ثبت حسن التكليف لمن (٥) علم انه يؤمن ، ومن علم انه يكفر ، يجب ان يكون منقطعا ، لأن الغرض بالتكليف اذا كان هو الثواب «فلو لم يكن التكليف» (٦) منقطعا لانتقض (٧) الغرض بالتكليف ، لأن الثواب بالتكليف لا يمكن ان يكون مقترنا ، لأن من شأنه ان يكون خالصا صافيا من الشوب والتكدير حتى يحسن الزام المشاق وذلك لا يصح مع التكليف ، لأن التكليف لا يعرى من مشقة ، وذلك يؤدي الى حصول الثواب على خلاف الوجه المستحق ،

__________________

(١) أ : يفرض.

(٢) أ ، ب : لقبح.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) سقطت من أ.

(٥) ح : بمن.

(٦) العبارة مكانها فراغ في ح.

(٧) ب : لا ينتقص.


ويصرف (١) به العموم والمضار.

وأيضا لو اقترن الثواب بالتكليف لأدى الى ان يكون المكلف ملجأ. لأن المنافع العظيمة تلجئ الى فعل ما ضمنت عليه. ولذلك قلنا لا بدّ أن يكون بين زمان التكليف ، وبين حال الثواب زمان متراخ يخرج المكلف من حد الإلجاء. وانما كانت المنافع العظيمة العاجلة (٢) ملجئه ، لأنه يقتضي أن يفعل الطاعة لأجلها دون الوجوه التي يستحق عليها الثواب ، وذلك يخرجها من أن يستحق بها (٣) الثواب اصلا ، وذلك ينقض الغرض.

وأما القدر الذي يكون بين زمان التكليف وبين الثواب فليس بمحصور عقلا ، بل بحسب ما يعلمه الله. وانما يعلم على طريق الجملة انه لا بدّ من تراخ ومهلة. فاذا ثبت وجوب انقطاع التكليف فليس الوقت وقت انقطاعه بزمان بعينه ، بل نوجبه (٤) على سبيل الجملة. ولا يمتنع أن يحسن الشيء أو يقبح على طريق الجملة.

ولا يعلم عقلا انقطاع التكليف عن جميع المكلفين ، بل انما نعلم ذلك سمعا ، والإجماع حاصل على ذلك. وكان يجوز عقلا انقطاع التكليف (٥) عن بعضهم وبقاؤه على بعض ، لكن الإجماع مانع منه.

__________________

(١) أ ، ب : يضرب.

(٢) في الاصل : العاجل.

(٣) أ : لها.

(٤) أ : يوجبه.

(٥) سقطت من أ ، ب.


ومتى حصل انقطاع التكليف بفعل غير الله فقد حصل الغرض ، ومتى لم يحصل فانه تعالى يزيله. ويجوز انقطاع التكليف بازالة العقل والموت أو الفناء.

واما فناء الجواهر فليس في العقل ما يدل على جوازه ، ولا على احالته. والمرجع في ذلك الى السمع. فاذا علم بالسمع انه تفنى الجواهر ، ثم علمنا أن الباقي لا ينتفي إلا بضد يطرأ عليه ، علمنا أن في الفناء معنى نفس (١) الجواهر.

وما يسال (٢) على ذلك من الشبهات فقد بينا الجواب عنه في شرح الجمل.

والطريق الذي يعلم به فناء الجواهر السمع (٣) ، وقد اجمعوا على ان الله تعالى يفني الاجسام والجواهر ، ويعيدها فلا يعتد (٤) بخلاف من خالف فيه.

ويدل عليه أيضا قوله «هو الأول والآخر» فكما انه كان أولا ولا شيء معه موجود فكذلك (٥) يجب أن يكون أخرا ولا شيء معه موجود. وقد استدل بغير ذلك من الآيات ، وعليها اعتراضات ، والمعتمد ما ذكرناه.

__________________

(١) العبارة في ح هكذا : معني مغني.

(٢) ب ، ح : يسل.

(٣) ح : هو السمع.

(٤) ح : فلا نعتد.

(٥) ح : وكذلك.


فاذا ثبت أن الجواهر تفنى فالله يعيدها اجماعا. وأيضا فلو لم يعدها (١) لما أمكن (٢) ايصال المستحق لها من الثواب ، وقد علمنا وجوب ذلك ، فلا بد من إعادتها اذن (٣).

وكل من مات وله حق لم يستوفه في دار الدنيا فانه يجب إعادته على كل حال لأن الثواب دائم لا يمكن توفيره في دار الدنيا. وأما من يستحق العوض فانه يجوز أن يوفر عليه في الدنيا ، ولا تجب إعادته ، «لأن الغرض منقطع.

وأما من يستحق العقاب فلا يجب إعادته» (٤) لأن العقاب يحسن إسقاطه عقلا فاذا سقط لم يحسن استيفاؤه فيما بعد ، فلم يجب إعادته فاذا علما انه يعاقب الكافر لا محالة (٥) ، علمنا انه يعيد المستحق للعقاب. ومن كان عقابه منقطعا (٦) فلا يكون كذلك ألا وهو مستحق الثواب الدائم بطاعاته ، فاذا أعيد ربما استوفي عقابه ثم نقل الى الثواب ، وربما عفي عن عقابه ، (٧) وفعل به الثواب. وإعادته (٨) واجبه

__________________

(١) ب ، ح : يعيدها.

(٢) ح : لآمكن.

(٣) ب ، ح هكذا : فاذن لا بدّ .. من اعادتها.

(٤) العبارة بطولها ساقطة من أ ، ب.

(٥) أ ، ب : لافعاله.

(٦) أ : متقطعا.

(٧) أ : ثم فعل.

(٨) ح : قاعدته.


عقلا لما يرجع الى استحقاق الثواب دون العقاب ، وقد اجتمعت الأمة على ان الله يعيد اطفال المكلفين والمجانين وان كان ذلك غير واجب عقلا.

والقدر الذي تجب إعادته هو بنية الحياة التي متى انتقضت خرج الحي من كونه حيا ، ولا معتبر (١) بالأطراف واجزاء السمن ، لأن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا ألا ترى أن أحدنا قد يستحق المدح والذم ، ثم يسمن فلا تتغير حاله فيما يستحقه ، وكذلك يهزل واستحقاقه ، للمدح والذم (٢) كما كان. فعلم بذلك أنه لا اعتبار بهذه الاجزاء.

ومن قال : تجب اعادة الحياة دون الجواهر ، فقوله باطل. لأن المستحق للثواب والعقاب هي الجملة التي تركبت من الجواهر ، وكيف يجوز التبدل بها فيؤدي الى إيصال (٣) الثواب والعقاب الى غير المستحق. والصحيح ما قلناه أولا.

__________________

(١) أ : تعتبر.

(٢) ح : أو الذم.

(٣) أ ، ب : اتصال.


فصل ـ ٤ ـ (*)

الكلام في اللطف

فأما الكلام في اللطف فيحتاج إلى أن نبين أولا ما اللطف وما حقيقته.

معنى اللطف :

واللطف في عرف المتكلمين عبارة عما يدعو الى فعل واجب أو يصرف عن (١) قبيح ، وهو على ضربين :

احدهما : أن يقع عنده الواجب ولولاه لم يقع فيسمى توفيقا.

والآخر : ما يكون عنده أقرب الى فعل الواجب أو ترك القبيح وان لم يقع عنده الواجب ، ولا أن يقع القبيح. ولا (٢) يوصف بأكثر من أنه لطف لا غير.

وما (٣) كان المعلوم انه يرتفع عنده القبيح ، ولولاه لم يرتفع يسمى عصمة. وإن كان عنده أقرب الى ان لا يقع عنده القبيح يسمى (٤)

__________________

(*) ليس في الاصل.

(١) أ : تصرف غير.

(٢) ح : فلا.

(٣) ح : ومما.

(٤) ح : سمي.


لطفا لا غير.

واللطف منفصل عن التمكين ، ويوصف اللطف بأنه صلاح وأصلح فى الدين.

فأما (١) ما يدعو الى فعل قبيح ، أو يقع (٢) عنده القبيح (٣) ولولاه لم يقع فيسمى (٤) مفسدة واستفاد.

واللطف إن كان (٥) داعيا الى الفعل أو صارفا ، فلا بد ان يكون بينه وبين ما هو لطف فيه مناسبة ، ولا يلزم أن تكون تلك المناسبة معلومة تفصيلا.

ويجب ان يكون اللطف معلوما على الوجه الّذي هو لطف فيه. لأنه داع الى الفعل ، فهو كسائر الدواعي والمعتبر في الدواعي حال الداعي من علم أو ظن او اعتقاد. ولذلك قد يعتقد أن في ذلك الشيء نفعا فيكون ذلك داعيا له الى فعله وإن لم يكن فيه نفع. وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن يدعو الى الفعل ما ليس يدرك بعد أن يكون معلوما.

ويجب ان يكون اللطف متقدما للملطوف فيه (٦) ليصح أن يكون

__________________

(١) ح : واما.

(٢) ح : العبارة هكذا : فيقع عنده الصحيح قبيح.

(٣) ب : فيقع.

(٤) ب ، ح : يسمى.

(٥) ب : اذا كان.

(٦) أ : منه.


داعيا إليه وباعثا عليه ، والداعي لا يكون إلا متقدما ، وأقل ما يجب تقدمه وقت واحد ويجوز تقدمه بأوقات بعد ان لا يكون منسيا (١). وربما كان في تقديمه فضل مزية ، لأن رفق الوالد بولده في طلب العلم وحثه عليه بأوقات كثيرة ربما كان ادعى له الى التعلم.

أقسام اللطف : ـ

واللطف على ثلاثة أقسام.

أ ـ من فعل الله تعالى.

ب ـ من فعل من هو لطف له.

ج ـ من فعل غيرهما.

فما هو من فعل الله تعالى على ضربين :

احدهما : يقع بعد التكليف للفعل الذي هو لطف له ، فيوصف بأنه واجب.

والثاني : ما يقع معه التكليف للفعل الذي هو لطف فيه ، ولا يوصف بأنه واجب ، لأن التكليف ما أوجبه ، ولم يتقدم له سبب وجوب ، لكن لا بد أن يفعل به لأنه كالوجه في حسن التكليف.

وأما (٢) ما كان من فعل المكلف فهو تابع لما هو لطف فيه ، فان كان واجبا فاللطف واجب ، وإن كان لطفا في فعل نفل فهو نفل.

__________________

(١) أضاف في ح : قديما.

(٢) أ : وما كان.


وإذا كان اللطف من فعل غيرهما ، فلا بد أن يكون من حاله أن يفعل ذلك الفعل على الوجه الذي هو لطف ، في الوقت الذي هو لطف فيه ، ومتى لم يعلم ذلك لم يحسن التكليف الذي هذا الفعل لطف فيه.

هذا اذا لم يكن له (١) بدل من فعل الله يقوم مقامه. فان كان له بدل من فعل الله تعالى جاز التكليف لذلك الفعل ، إذ فعل الله ما يقوم مقامه ، ولا يجب على الغير أن يفعل ما هو لطف للغير إلا اذا كان له في ذلك لطف. كما نقول في الأنبياء انه يجب عليهم تحمل الرسالة لما لهم في ذلك من اللطف ، دون مجرد ما يرجع الى أممهم ، ولو لا ذلك لما وجب عليهم الاداء.

واللطف على ثلاثة أقسام : ـ

أحدها : ـ من فعل الله تعالى ، فيجوز أن يكون له بدل ، ولا يمنع منه (٢) ، فيكون مخيرا في ذلك.

والثاني : ـ أن يكون من فعل المكلف نفسه. فان كان له بدل وجب إعلامه ذلك فيكون من باب التخيير ، كالكفارات الثلاث ، ومتى لم يعلمه ذلك قطعنا على انه لا بدل له من فعله ، ولا من فعل الله تعالى. لأنه لو كان له بدل من فعل الله لما وجب عليه الفعل على كل حال.

والثالث : ـ ما كان من فعل غير الله ، وغير المكلف. فان كان

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) في ب : يمنعه منه وفي أ : منه يمنعه.


مع كونه لطفا لغيره لطفا له. جاز أن يكون واجبا أو ندبا. وإن لم يكن فيه لطف أصلا ، وانما هو لطف للغير كان مباحا. إلا انه لا يحسن تكليف هذا إلا أن يعلم انه فعله.

فعلى هذا ذبح البهائم التي ليست نسكا ولا نذرا ، وانما هو مباح ، فوجه حسنه أنه لطف لغير الذابح ، وقيل وجه حسنه ان فيه عوضا للمذبوح ، ونفعا لغيره بأكله. وكلاهما جائزان.

فعلى هذا الافعال الشرعية ما هو واجب منها فوجه وجوبها كونها مصالح في الواجبات العقلية (١) ويقبح تركها لأنها ترك الواجب (٢) ، وما هو قبيح فوجه قبحها كونها مفسدة في الواجبات العقلية (٣) أو داعية الى القبائح العقلية ويجب تركها ، لأنه (٤) ترك لقبيح (٥).

وما هو مباح فلأنها مصالح لغير فاعلها على ما مضى القول فيه.

ومتى كانت المفسدة من فعله تعالى لم يحسن فعلها ، وان كانت من فعل المكلف نفسه ويجب ان يعلمه ترك ما هو مفسدة له. وان كانت من فعل غيرهما ، لا يخلو المكلف من ان يكون قادرا على منعها أو لا يكون كذلك. فان كان قادرا جاز ان يوجب عليه المنع منها ،

__________________

(١) أ ، ب : الشرعية العقلية.

(٢) ح : لواجب.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) أ : لانها.

(٥) أ : القبيح.


وحسن تكليفه. وإن لم يكن في مقدوره المنع منها ، فأن (١) كان المعلوم ان ذلك الغير لا يختارها حسن أيضا تكليفه ، وإن لم يكن ذلك (٢) معلوما وجب عليه تعالى المنع منها ، أو إسقاط «تكليف» (٣) ما تلك المفسدة مفسدة فيه. وإلا أدى الى أن علة المكلف غير مزاحة.

فعلى هذا دعاء إبليس واغوائه الخلق هل هو مفسدة أم لا؟ قيل فيه وجهان (٤) :

١ ـ ان كل من فسد بدعاء إبليس كان يفسد وإن لم يدعه ، فلم يكن حد المفسدة قائما (٥) فيه.

٢ ـ ان التكليف مع دعاء إبليس أشق ، والتعريض للثواب أكثر ، فدخل ذلك في باب التمكين ، وخرج من باب المفسدة.

وكلاهما جائزان.

وجوب اللطف :

والذي يدل على وجوب فعل اللطف هو أن أحدنا لو دعا غيره الى طعامه ، وأحضر الطعام ، وغرضه نفع المدعو دون ما يعود إليه من مفسدة أو غيرها (٦) ، وعلم أو غلب (٧) على ظنه انه متى تبسم

__________________

(١) أ : وأن.

(٢) أ ، ب : كذلك.

(٣) سقطت من أ.

(٤) ب ، ح : شيئان.

(٥) ح : قائمة.

(٦) العبارة مجملة وفي ح هكذا «وغرضه نفع المدعو دون ما يدعوا يعود إليه من مسرة أو غيرهما».

(٧) أ ، ب : وغلب.


في وجهه أو كلمه بكلام لطيف ، أو كتب إليه رقعة ، أو أنفذ غلامه إليه ، وما اشبه ذلك مما لا مشقة عليه ، ولا حط له عن مرتبته ، حضر. ومتى لم يفعل ذلك لم يحضر. وجب عليه أن يفعل ذلك ما لم يتغير داعيه عن حضور طعامه. ومتى لم يفعله استحق الذم من العقلاء ، كما يستحق لو اغلق (١) بابه في وجهه ، فلهذا صار منع اللطف كمنع التمكين في القبح ، وهذا يقتضي وجوب فعل اللطف عليه تعالى. لأن العلة واحدة.

فان قيل : كيف يجب على من دعا غيره الى طعامه أن يلطف له ، وأصل دعائه له ليس بواجب ، وإنما هو تفضل؟

قيل : الأصل وإن كان تفضلا ، فهو سبب لوجوب التمكين ، ورفع الموانع كالأقدار والتمكين (٢) وغير ذلك.

وإذا كان سبب وجوب اللطف يختص بالداعي الى طعامه دون غيره ، فكذلك (٣) يجب أن يكون فعل المكلف يختص بالداعي الى طعامه «دون غيره» (٤) ، كما لا يجب على غير الداعي الى طعامه التبسم في وجهه ، ولا غير ذلك من الأفعال المقوية لداعيه (٥) ، كما لا يجب تمكينه وإقداره.

__________________

(١) ح : غلق.

(٢) أ ، التمكن.

(٣) أ ، ب : فلذلك.

(٤) ساقط من أ ، ب.

(٥) أ ، ب : الداعية.


وإنما شرطنا استمرار الإرادة ، لأنه يجوز على الواحد منا أن يبدو له عن (١) ذلك ، فيتغير داعيه ، والقديم تعالى لا يجوز عليه البداء على حال.

والعلم (٢) باستحقاق من منع اللطف الذم ضروري (٣) كالعلم باستحقاق من منع التمكين مثل ذلك.

فان قيل : ما قولكم في الداعي الى طعامه لو غلب في ظنه أنه لا يحضر طعامه إلا بعد أن يبذل له شطر ماله أو يقتل بعض أولاده ، وغير ذلك مما عليه فيه (٤) ضرر عظيم.

قلنا : هذا أولا لا يطعن (٥) على ما نريده من وجوب اللطف على الله تعالى. لأن جميع ذلك لا يليق به ، لان كل ما يفعله يجري مجرى ما لا مشقة عليه فيه من التبسم وغيره ، وإذا وجب التبسم وما جرى مجراه من فعلنا «وجب جميع الالطاف من فعله ، لانها جارية مجراه» (٦). لأنه لا مشقة عليه فيها.

__________________

(١) ب ، ح : من.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) أ : الضروري.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) أ ، ب : لا يعطى.

(٦) العبارة بطولها ساقطة من أوزاد في ب (من فعلنا) آخر العبارة.


ثم نقول : الواحد منا إذا كلف غيره حضور طعامه لا يخلو أن يكون غرضه نفع المدعو ، أو نفع نفسه وما يرجع إليه. فان كان الاول وجب عليه من اللطف ما لا مشقة عليه (١) فيه ، أو ما (٢) لا يعتد به من المشقة اليسيرة. ومتى كانت فيه مشقة عظيمة لم تجب المشاق (٣) المعتبرة في وجوب الفعل أو حسنة.

فان كان غرضه نفع نفسه وما يعود إليه وجب أن يقابل بين «الضرر الداخل عليه ، وبين الغرض فيما يفعله» (٤). لنفع ذلك الفعل. فيدفع (٥) الأكثر بالأقل.

وأما المفسدة : فهي (٦) ما يقع عندها الفساد ولولاه لم يقع أو يكون (٧) أقرب الى الفساد ولولاه لم يكن أقرب ، أو ينصرف عنده (٨) من الواجب أو يكون الى الانصراف أقرب. ولا يكون له حظ في التمكين. والعلم بقبح ما هذه صفته ضروري ، (٩) لا يلتفت

__________________

(١) ب : به.

(٢) ب : لو لا ما يعتد.

(٣) ح : والمشاق.

(٤) العبارة في ح هكذا : بين الضرر الداخل وبين الضرر عليه فيما يفعله. ومثلها في ب. مع اضافة عليه بعد كلمة الداخل.

(٥) ح : ويدفع. ب : يدفع.

(٦) أ ، ب : وهي.

(٧) أ ، ب : أو أن يكون.

(٨) أ : عنه.

(٩) أ : ولا.


الى خلاف من يخالف فيه. فأما من لا لطف له بأن يكون (١) المعلوم من حاله ان يطيع على كل حال أو يعصي ، فانه يحسن تكليفه لأنه (٢) متمكن من الفعل بسائر ضروب التمكينات ، وليس في المعلوم ما يقوى داعيه فيجب فعله به فينبغي ان يحسن تكليفه. غير انا علمنا وجوب (٣) المعرفة ووجوب الرئاسة لجميع الخلق ، انهما لطفان لجميعهم ، ولو لا السمع لكان يجوز ان يكون في المكلفين من يختار فعل الواجب والامتناع من القبيح ، وان لم تجب عليه المعرفة ، ولا نصب له رئيس لكن الاجماع مانع منه. وان تعلق لطفه بفعل قبيح في مقدوره تعالى فالصحيح (٤) انه لا يحسن تكليفه لأن هذا لطف تزاح به علته. وانما لم يحسن ان يفعله تعالى لأمر يرجع الى حكمه ، وفي الناس من اجازه وأجراه مجرى من لا لطف له. والصحيح الأول. ومتى تعلق لطفه (٥) بفعل قبيح من مقدور غير الله فلا يحسن تكليفه أيضا لأنه لا يحسن تكليف الغير ذلك الفعل لقبحه.

__________________

(١) أ : أو أن يكون.

(٢) أ : فأنه.

(٣) ح : بوجوب.

(٤) ب ، ح : والصحيح.

(٥) أ ، ب : لطف.


فصل ـ ٥ ـ (*)

الكلام في فعل الأصلح

وأما الأصلح في باب الدنيا فهو الأنفع الألذ الذي لا يتعلق به لطف ، فانه لا يجب على الله تعالى لأنه لو وجب ذلك لأدى وجوب فعل ما لا يتناهى وذلك محال. أو إلى ان لا ينفك القديم تعالى من الاخلال بالواجب وذلك فاسد. وانما قلنا ذلك (١) لأن النفع واللذة هو تعالى يقدر من جنسهما على ما لا يتناهى فلو كان ذلك واجبا (٢) لأدى الى ما قلناه ولو قلنا هربا من ذلك انه لا يقدر إلا على متناه أدى الى القول بتناهي مقدورات الله تعالى وذلك كفر. ولا يلزم على ذلك أن يكون اللطف في باب الدين مثل ذلك لأن اللطف في باب الدين بحسب المعلوم وليس يجب ان يكون المقدور منه ما لا نهاية له ، ولو فرضنا ذلك لقبح المكلف (٣) وان كان ذلك (٤) بعيدا. وليس كذلك اللذة والنفع لأنه يرجع الى جنس المقدور فيجب ان يكون

__________________

(*) ليس في الأصل.

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) سقطت من أ ، ب ،

(٣) كذا في الأصل.

(٤) سقطت من أ.


قادرا منه على ما لا نهاية له.

ويدل أيضا (١) على ان الأصلح في باب الدنيا غير واجب انه لو كان واجبا لما استحق تعالى الشكر بفعلها ، لأن من فعل واجبا كقضاء الدين ورد الوديعة لا يستحق الشكر وانما يستحق الشكر بالتفضل (٢) المحض. ولو لم يستحق الشكر لما استحق العبادة لأنها كيفية في الشكر وذلك خلاف الاجماع.

وهو تعالى وإن استحق الشكر على الثواب والعوض الواجبين فلأن سبب الثواب التكليف وهو تفضل وكذلك الآلام التي يستحق بها العوض تابعة للتكليف الذي هو تفضل.

فصل ـ ٦ ـ (*)

الكلام في الآلام

وأما الكلام في الآلام فيقع من وجوه :

أحدها : في اثباتها. والكلام في ذلك ظاهر لا يتشاغل به لأن المعلوم ضرورة الأمر الذي يتألم به الحي ويدركه مع نفار طبعه عنه فدفع ذلك مكابره. وانما الكلام يقع في حسنه أو قبحه لأن في الناس

__________________

(٨) ليس في الأصل.

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) أ : بالتفضل.


من قال (١) ان الآلام كلها قبيحة وهم الثنوية والمجوس. ومن قال ان فيها ما هو حسن اختلفوا فمنهم من قال لا وجه لحسنها إلا الاستحقاق وهم التناسخية والبكرية.

والصحيح ان في الآلام ما هو حسن وفيها ما هو قبيح. فما يقبح منها يقبح لوجوه ثلاثة :

احدها : لكونه ظلما.

وثانيها : ان يكون مفسدة.

وثالثها : ان يكون عبثا.

وما عداها (٢) يكون حسنا.

وإن شئت قلت : الآلام (٣) لا تحسن إلا لنفع يوفي عليها (٤) أو دفع ضرر اعظم منها (٥). أو الاستحقاق. أو يكون واقعا على وجه المدافعة فمتى خلا من ذلك اجمع كان قبيحا.

فأما الظلم فهو الضرر الذي لا نفع (٦) فيه يوفي عليه ، ولا دفع ضرر اعظم منه ، ولا يكون مستحقا ولا حاصلا على وجه المدافعة سواء كانت هذه الوجوه معلومة أو مظنونة.

__________________

(١) سقطت من ب ، ح.

(٢) ح : وما عداه.

(٣) ح : ب : لم.

(٤) ح : عليه.

(٥) ح : منه.

(٦) ح : لا يقع.


والذي يدل على ان الألم يحسن (١) إذا كان فيه نفع يوفي عليه ما نعلمه ضرورة من حسن اخراج ما نملكه من المتاع والعقار بعوض إذا غلب في ظنوننا ان النفع بالعوض أكثر منه ، وإنما حسن تفويت المنافع بما يخرجه لأن النفع الذي يحصل بالعوض لا يختلف العقلاء في حسن ذلك. ووجه حسن هذا الألم هو علمه بماله فيه من النفع أو ظنه دون حصول النفع فيه بدلالة انه لو كان فيه نفع ولم يعلم ان فيه نفعا ولا ظنه (٢) لما حسن منه تحمل هذا الألم. وإذا علم ذلك أو ظنه (٣) حسن فعلم ان وجه حسنه ما قلناه.

ولا يلزم ان يكون الظلم حسنا لما فيه من العوض لأنا نعتبر ان يكون النفع موفيا عليه ويكون مقصودا وما هو في مقابلة الظلم انما يفعله الله ويأخذه من الظالم على وجه الانتصاف لا يكون موفيا عليه. بل بحسب الألم. وأيضا فالظالم لم يقصد نفع المظلوم فلم يحصل القصد أيضا. والمعلوم (٤) ضرورة حسن تحمل ألم الاسفار طلبا للأرباح وتحمل المشاق في طلب العلم لمكان حصول العلم ، فعلم ان تحمل الألم بحسب النفع.

وأما الذي يدل على ان الألم يحسن لدفع ضرر أعظم منه ما يعلم ضرورة من حسن عدونا على الشوك هربا من السبع أو النار أو خوفا

__________________

(١) أ : لم يحسن.

(٢) زاد في أ ، ب : دون حصول.

(٣) زاد في أ ، ب : فيه.

(٤) ح : فالمعلوم.


من وقوع حائط وما اشبه ذلك. ويحسن منا شرب الدواء الكريه دفعا للأمراض والخلاص منها ، ويحسن الفصد وقطع الاعضاء خوفا من السراية الى النفس ووجه حسن جميع ذلك ظن دفع الضرر الموفي عليه لأن العلم باندفاع الضرر ليس يكاد يحصل في موضع لكن إذا حصل الحسن مع الظن فمع العلم أولى وأحسن.

وأما الذي يدل على ان الالم يحسن للاستحقاق فهو ما نعلمه ضرورة من حسن ذم المسيء على إساءته وان غمه ذلك وآلمه واستضر به ، والعلم بحسن ذلك مع تعريه من نفع أو دفع ضرر يوجب أنه حسن للاستحقاق لا غير. وقد قيل في ذلك أيضا انه يحسن المطالبة بقضاء الدين وإن أضر ذلك بمن عليه الدين وغمه ، وإنما حسن ذلك للاستحقاق.

ولقائل ان يجعل حسن ذلك ما تقدمه من الانتفاع بالدين فجرى ذلك مجرى تقدم الاجرة على الاعمال الشاقة. وأيضا لو (١) كان حسن الاستحقاق لما حسن ان يبتدى الانسان بإيصاله الى نفسه ، كما لا يحسن ان يعاقب نفسه. وأيضا فإنه خال من استخفاف (٢) واهانة وذلك واجب في العقاب. وإنما قلنا انه متى وقع على وجه المدافعة كان حسنا لانه معلوم ان من دافع غيره عن نفسه فوقع به من جهته ضرر لم يقصده بل قصد المدافعة فقط لا يستحق به عوضها على المؤلم ، ولا يكون بذلك ظلما. ولا يمكن ان يقال ان ذلك مستحق لان من قصد

__________________

(١) ح : فلو.

(٢) ح : الاستحقاق.


إيلام غيره ولم يؤلمه لا يستحق العقاب عليه. وأيضا فلو كان مستحقا لقارنه استخفاف وإهانة وجاز أن يقصده وكل ذلك يدل على انه لم يكن مستحقا. ولا يمكن ان يقال وجه حسنه ما فيه من العوض لانه تعالى لما حسن ذلك في عقولنا ضمن العوض كما ضمن لما أباح لنا ذبح البهائم بالشرع لأنه لو كان الأمر على ما قالوه لوجب ان يكون من لا يعرف ان (١) الله ضمن العوض لا يعرف حسن المدافعة كما ان من لا يعرف الشرع لم يعرف حسن ذبح البهائم. والمعلوم خلافه.

وأيضا كان يجب ان يحسن ان (٢) يقصد إيلامه ولا يقصد دفعه كما يجوز ان يقصد ذبح البهيمة وقد علمنا انه لا يحسن ان يقصده.

وإنما قلنا ان الألم يقبح لكونه عبثا لأن العبث ما لا غرض فيه أو لا غرض مثله فيه. والألم يكون عبثا إذا فعل لنفع يمكن الوصول إليه من دون الألم ولا غرض له فيه زائدا على ذلك. يدل (٣) على قبح ذلك انا نعلم انه يقبح من أحدنا ان يواطئ غيره ويوافقه على ان يضربه لعوض (٤) يدفعه إليه يرضى لمثله في تحمل الضرب (٥) لأنه بالعوض خرج من كونه ظلما وإنما قبح لانه (٦) لا غرض فيه حكمي.

__________________

(١) ساقطة من أ ، ب.

(٢) سقطت من أ.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) أ : لغرض.

(٥) ب : ذلك الضرب.

(٦) أ : لكونه.


وأما الألم إذا كان فيه مفسدة فمعلوم قبحه ضرورة ولا شبهة فيه. ولا يجوز ان يكون الألم قبيحا لكونه ألما على ما قالت الثنوية لما بيناه من ان هاهنا ألما حسنة للنفع ولدفع الضرر والاستحقاق فبطل قولهم. ولا يجوز ان يقبح الالم لكونه ضررا «لكونه لو كان كذلك لقبح العقاب لان فيه ضررا» (١) وقد علمنا حسنه لكونه مستحقا. ومن قال العقاب ليس بضرر كان مكابرا. والألم إذا كان فيه نفع يوفي عليه أو دفع ضرر أعظم منه لا يكون ضررا. ومن قال انه ضرر فقد اخطأ لأنه يلزم ان يكون من خدش جلد غيره بإخراجه من الغرق وتخليصه من الهلاك أن يكون مضرا به وهذا معلوم خلافه. ولو كان العقاب لا يسمى ضررا لما جاز ان يقال في الله تعالى انه ضار واجمع المسلمون على اطلاق ذلك. والقديم لا يحسن ان يفعل الألم إلا للنفع أو (٢) الاستحقاق لا غير فأما الدفع للضرر فلا يجوز. والظن لا يجوز عليه لأنه عالم لنفسه. وإنما قلنا ذلك لأن من شرط حسن الألم للدفع للضرر (٣) أن يكون ذلك الضرر لا يمكنه دفعه إلا بإدخال بعض الآلام عليه والقديم تعالى يقدر على دفع كل ضرر من غير ان يدخل عليه ألما فلم يحسن لذلك. والصحيح ان القديم تعالى لا يفعل ألما لا في المكلفين ولا في غيرهم في دار التكليف إلا إذا

__________________

(١) العبارة مكررة في أهكذا «لأنه لو كان ...»

(٢) أ ، ب : والاستحقاق عطفا بالواو.

(٣) ب : لدفع الضرر.


كان فيه غرض (١) يخرجه عن (٢) كونه ظلما أو عوض يخرجه عن كونه عبثا. ولا يجوز ان يفعل الألم لمجرد العوض لأن مثل العوض يحسن الابتداء به ولا يجوز ان يفعله لأجل العوض ، ويفارق ذلك الثواب لأن الثواب يستحق على وجه من التعظيم والإجلال ولا يحسن الابتداء بمثله. وليس كذلك العوض لأنه مجرد المنافع ولذلك لا يحسن منا ان نستأجر غيرنا لينقل الماء من نهر الى نهر ولا غرض (٣) لنا فيه غير إيصال الأجرة إليه. وكذلك لا يحسن ان يوافقه على ان يضربه «ويعطيه عوضا من ضربه» (٤) لا لغرض غير إيصال العوض إليه ومعلوم ضرورة قبح ذلك. وليس لأحد ان يقول الاستحقاق له مزية على التفضل في الشاهد فجاز ان يفعل ذلك الألم لأن الاستحقاق انما يكون له مزية في الشاهد لما يلحق المتفضل (٥) عليه من الأنفة وأن يميز المتفضل عليه بذلك أو يلحقه بعض الغضاضة (٦). ولذلك يختلف باختلاف أحوال المتفضل من جلاله وعظم قدره وكل ذلك مفقود مع الله تعالى فلا مزية للاستحقاق على التفضل من جهته.

فاما من قال الألم لا يحسن إلا للاستحقاق من البكرية والتناسخية حتى قالت البكرية ان الاطفال ...

والبهائم لا تتألم اصلا لما رأت انها غير مكلفة. وقالت التناسخية

__________________

(١) ح : عوض.

(٢) ح : من.

(٣) ب ، ح : عوض.

(٤) ما بين القوسين ساقط من ح.

(٥) أ ، ح : التفضل.

(٦) في الأصل : الفضاضة.


انه قد كان (١) لهم فيما مضى زمان تكليف ، فما (٢) ينالهم من الآلام في هذا الوقت فباستحقاقهم لما عصوا في ذلك الوقت.

والذي (٣) يدل على فساد قول الفريقين ما قدمناه من انه تحسن الآلام للمنافع الموفية عليها ولدفع ضرر اعظم منها وذلك يبطل قول الفريقين على كل حال. ويبطل قول البكرية أيضا ما نعلمه ضرورة إنا كنا نتألم في حال الطفولة بالأمراض والجراحات والدماميل التي لا يقدر عليها غير الله تعالى فمن دفع ذلك كان مكابرا. وأيضا فأنا نعلم ان البهيمة تجوع وتعطش فتتألم بذلك وذلك من فعل الله تعالى. على ان ما نعلمه ضرورة من هرب البهيمة من الآلام والضرب يبطل قول من قال انهم لا يألمون. ومما يبطل مذهب التناسخية ان من شرط ما يعلم من الآلام المستحقة ان يقارنها استخفاف واهانة ، ومعلوم قبح ذلك بالبهائم والاطفال ، ومن استحسن ذلك كان جاهلا مكابرا للعقول.

وأيضا فالأنبياء تتألم بالآلام ولا يجوز ان يكونوا مستحقين للعقاب لا قبل النبوة ولا بعدها لقيام الدليل على عصمتهم. وأيضا فلو كان ذلك مستحقا لوجب ان يذكر تلك الأحوال مع التذكر الشديد وانهم عصوا لأن العاقل لا يجوز ان ينسى مثل ذلك مع قوة التذكر وان نسي بعضه فلا يجوز ان ينسى جميعه. ولو جاز ان ينسى بعض العقلاء ذلك

__________________

(١) أ : كانت.

(٢) في الأصل : فيما.

(٣) أ : فالذي.


لم يجز ان ينساه جميعهم ، ولو جاز ان ينسى كذلك لجاز ان ينسى أحدنا انه ولي ولاية في بلد بعينه سنين كثيرة وكثر فيه أعوانه واتباعه ورزق فيه أولادا لكنه نسي ، وذلك تجاهل (١) ، وطول المدة كقصرها.

ولهذا نقول ان اهل الجنة لا بدّ ان يذكروا أحوال الدنيا أو اكثرها ، وما يتخلل بين ذلك من زوال العقل ليس بأكثر مما يتخلل بين (٢) ذلك بالنوم المزيل للعقل وأنواع الأمراض (٣) المزيلة للعقل. والزمان الطويل في هذا الباب كالزمان القصير. وليس لهم ان يقولوا كان زمان التكليف يسيرا. ألا ترى ان من دخل ساعة من النهار بلد الأفيلة ورأى أفيلة وخرج منها وطالت مدته لا يجوز ان ينسى ذلك ولا يذكره مع شدة تذكره. على ان هذا المذهب يؤدي الى قبح التكليف الذي يتقدمه تكليف آخر لا بد ان يكون فيه مشقة ، وإلا لم يصح التكليف فبأي شيء استحقت تلك المشقة فلا بد من المناقضة أو القول بتكليفات لا نهاية لها وكل ذلك باطل.

__________________

(١) ا ، ب : ذلك تجاهل.

(٢) أ ، ب : من.

(٣) أ ، ب : الاعراض.


فصل ـ ٧ ـ (*)

الكلام في العوض

فأما الكلام في العوض :

فأول ما نقول ان العوض هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وتبجيل. فبكونه نفعا يتميز مما ليس بنفع ، وبكونه مستحقا يتميز من التفضل (١) ، وبخلوه من تعظيم وتبجيل يتميز من الثواب. فاذا ثبت ذلك فكل (٢) ألم يفعله الله تعالى أو يفعل بأمره كالهدايا والاضاحي وغير ذلك أو فعل بإباحته كإباحة ذبح البهائم ، فان عوض ذلك اجمع على الله تعالى. لأنه لو لم يكن فيه عوض لكان ظلما. وذلك (٣) لا يجوز عليه تعالى. ولو كان على المؤلم منا لما حسن الألم لأن ما في مقابلته من الانتصاف لا يحسن (٤) الألم وإنما يحسنه المنافع العظيمة الموفية عليه. وفي علمنا بحسن ذلك اجمع دليل على أن عوضه عليه. وما يفعله الله

__________________

(*) ليس في الأصل.

(١) أ ، ب : التفضيل.

(٢) أ ، ب : وكل.

(٣) سقطت من أ.

(٤) سقطت من أ.


من الآلام أو يأمر به وجوبا أو ندبا فلا بد فيه من ذكر (١) الأعواض ، والاعتبار على ما بيناه.

فأما ما يبيحه فوجه حسنه انه لطف لغير الذابح ، «لأن الواحد منا لا يجب عليه لطف الغير على ما بيناه فاذا كان في ذلك لطف لغير الذابح» (٢) فان علم الله تعالى انه يفعل حصل الغرض ، وإن (٣) علم انه لا يفعل فعل ما هو من مقامه في باب اللطف. وقيل : وجه الحسن في ذلك ما فيه من العوض والانتفاع به بالأكل لأن الغرض (٤) الديني والدنياوي يخرج ذلك (٥) من كونه عبثا.

ومتى الجأ الله تعالى غيره الى الإضرار بحي فعوضه عليه تعالى لأن الإلجاء آكد من الأمر والإباحة فعلى هذا متى الجأ بالبرد الشديد الى العدو على الشوك طلبا للخلاص كان العوض عليه تعالى فيما يناله من الألم بالشوك. فأما إذا الجأ (٦) الى الهرب من السبع أو اللص (٧) أو العدو بالعدو على الشوك فالعوض على الملجئ دون الله تعالى ، لأنه فعل السبب الموجب للهرب دون علمه بوجوب الهرب لأن علمه

__________________

(١) سقطت من ح.

(٢) الجملة بطولها ساقطة من أ ، ب.

(٣) أ ، ب : فان.

(٤) أ ، ب : العوض.

(٥) أ ، ب : من ذلك كونه.

(٦) ب : الجأه.

(٧) سقطت من أ ، ب.


بوجوب ذلك كان حاصلا ، ولما الجأه علم (١) ان السبب الملجئ هو وقوف السبع أو اللص أو العدو دون الله تعالى الخالق للعلم بوجوب التحرز. وركوب البهائم والحمل عليها طريق حسنه السمع والعوض عليه تعالى لأنه هو المبيح لذلك ، وفي الناس من قال طريق حسن ذلك العقل لما في مقابلة ذلك من التكفل لمئونتها (٢) من العلف وغيره. ولا يلزم القديم تعالى العوض من حيث مكن من الألم لأنه لو لزمه للزمنا إذا دفعنا سيفا الى غيرنا ليجاهد به العدو متى قتل مؤمنا لأنه لو لا دفع السيف لما تمكن منه وكان يلزم الحدادين وصناع السيوف العوض وكل ذلك باطل.

وكان يجب ان يقبح منا استرجاع ما اغتصبه الغاصب لأن بالتمكن قد ضمن العوض وذلك باطل. والعوض على الواحد منا اذا فعله على وجه الظلم.

ويجب ان يكون المعلوم من حاله انه يستحق في الحال لمثل (٣) ما يستحق عليه ليمكن الانتصاف منه والانتصاف واجب وفي الناس من قال يجوز ان يتفضل الله عليه بذلك وينقل عنه وهذا غير صحيح لأن التفضل غير واجب والانتصاف واجب ، فكيف تعلق بما ليس بواجب.

__________________

(١) ب ، ح : فعلم.

(٢) ح : بمئونتها.

(٣) ح : كمثل.


وعلى هذا يجب ان يكون مستحقا في الحال لمثل ما يستحق عليه دون ان يكون المعلوم من حاله انه لا يخرج من دار الدنيا إلا وهو مستحق له على ما ذهب إليه أبو هاشم (١) بمثل (٢) ما قلناه من أن الانتصاف واجب والتبقية ليست واجبه.

وأما ما يفعله الواحد منا بنفسه من الآلام فانه لا يستحق عليها العوض لأن من شرط المستحق أن يكون غير المستحق عليه ، وذلك لا يصح فيما بين الانسان ونفسه غير انه يستحق ذما إن كان قبيحا ومدحا ان كان حسنا له مدخل في استحقاق المدح. وليس من شرط من يستحق عليه (٣) العوض ان يكون عاقلا لأن البهائم يستحق (٤) عليها الأعواض لانا قد (٥) بينا ان العوض على المؤلم دون المتمكن ، ومن الجأ الى الإضرار استحق (٦) عليه العوض سواء اضر بنفسه أو بغيره لأنه في حكم ما فعله الملجئ بنفسه ومن وضع طفلا تحت البرد حتى هلك فالعوض على الواضع دونه تعالى لانه بتعريضه للهلاك كأنه فعل نفس الهلاك ولذلك يذمه العقلاء على هلاك للصبي وإن كان بفعل الله لانه بتعريضه للهلاك كأنه فعل نفس الهلاك. وقد ورد الخبر بأن

__________________

(١) عبد السلام الجبائي. من الطبقة التاسعة من مشايخ المعتزلة.

(٢) ب : كمثل.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) ح : تستحق.

(٥) سقطت من ب ، ح.

(٦) أ ، ب : يستحق.


الله تعالى ينتصف للشاة الجماء من الشاة القرناء. فدل ذلك على ان العوض على المؤلم وإن لم يكن عاقلا.

والعوض يستحق منقطعا لأنه لو استحق دائما لما حسن تحمل ألم في الشاهد لمنافع منقطعة كما لا يحسن منا تحمله من غير عوض وقد علمنا حسنه فدل على ان ما يستحق من العوض منقطع.

ثم انه ينظر فان أمكن توقيته في دار الدنيا وقت عليه كما يؤقت على الكفار وان تأخر الى الآخرة فعل به مفترقا (١) على وجه اذا انقطع لا يحس بفقده فيغتم له. وأيضا فلو كان المستحق دائما لما صح فعله بالكفار والإحباط لا يدخل فيه عندنا وعند أكثرهم في العوض فدل على انه منقطع.

ويجوز ان يوصل العوض الى مستحقه وان لم يعلم انه مستحق لذلك بخلاف الثواب الذي من شرطه ان يعلم المستحق انه مستحق لذلك. وكل عوض يستحقه الواحد منا على غيره مما له المطالبة به في الدنيا ، وله استيفاؤه (٢) فانه متى أسقط بهبة أو إبراء فانه يسقط كسائر حقوقه.

فأما العوض الذي يستحق على الله تعالى أو بعضنا على بعض على

__________________

(١) ب ، ح : مفرقا.

(٢) ح : استبقاؤه.


وجه يتأخر استيفاؤه (١) الى الآخرة فليس يسقط بإسقاطه لأن الله تعالى هو المستوفي له وهو كالمحجور عليه ، فالإسقاط تابع للمطالبة فمن ليس له المطالبة ليس له الإسقاط ، فعلى هذا يؤثر التحليل والإبراء في الحقوق التي له المطالبة بها (٢) دون ما ليس له (٣) المطالبة به. ولما كان اللطف واجبا في التكليف على ما مضى القول فيه وكان من جملة الالطاف معرفة الله تعالى على صفاته وجب ان نبين (٤) الكلام في المعارف على وجه الاختصار ، وأنا أذكر من ذلك جملة مقنعة في هذا الباب.

فصل (*)

الكلام في المعرفة

اعلم (٥) ان المعرفة هي العلم بعينه والعلم هو ما اقتضى سكون النفس الى ما تناوله ولا يكون كذلك إلا وهو اعتقاد الشيء على ما هو به مع (٦) سكون النفس غير انه لا يجب ذكره في الحد كما لا يجب

__________________

(*) ليس في الأصل.

(١) ح : استبقاؤه.

(٢) سقطت من أ.

(٣) ب ، ح : لها.

(٤) في الأصل ، نبني.

(٥) ب ، ح : وأعلم.

(٦) أ ، ب : من.


ذكر كونه عرضا ومحدثا وحالا في محل وغير ذلك لأن الذي يتميز به سكون النفس فيجب أن يقتصر عليه.

والعلم على ضربين : ضروري ومكتسب. فالضروري (١) ما كان من فعل غيرنا فينا على وجه لا يمكننا دفعه عن نفوسنا. والعلم الضروري على ضربين : احدهما : يحصل في العاقل ابتداء. والثاني : يحصل عند سبب. فالأول (٢) كالعلم بأن الموجود لا يخلو من ان يكون له أول أو لا أول له. والمعلوم لا يخلو من أن يكون ثابتا أو منتفيا (٣) ، وما شاكل ذلك مما هو مركوز (٤) في أول العقل وقد بيناه.

وما يحصل عند السبب على ضربين احدهما : يحصل وجوبا كالعلم (٥) بالمشاهدات مع ارتفاع اللبس. والثاني : يحصل عند سبب (٦) بالعادة. «وهو عل ضربين» (٧) : احدهما : العادة فيه مستمرة غير مختلفة كالعلم بالبلدان والوقائع عند من قال هو ضروري. والثاني : العادة فيه مختلفة كالعلم بالصنائع عند الممارسة والعلم بالحفظ عند تكرار الدرس (٨) والمكتسب هو كل ما كان من فعلنا من العلوم وهو على

__________________

(١) أ ، ب : والضروري.

(٢) أ ، ب : والأول.

(٣) أ ، ب : منفيا.

(٤) ح : مذكور.

(٥) سقطت من أ ، ب.

(٦) ح : سببه.

(٧) الجملة ساقطة من أ.

(٨) ح : الدارس.


ضربين : احدهما : يحصل متولدا عن نظر. والآخر : يحصل من غير نظر. فما يحصل من (١) نظر فسنذكر أوصافه.

والثاني : نحو (٢) ما يفعله المنتبه من نومه وقد كان عالما بالله وصفاته فاذا انتبه (٣) وتذكر نظره فعل اعتقادا لما كان له معتقدا فيكون ذلك الاعتقاد علما ولا بد ان يفعل هذا الاعتقاد عند التذكر لأنه ملجأ الى فعله ولا يمكن ان يكون واقعا عن نظره ، لأنه لو كان كذلك لترتب (٤) ، فحسن ترتب النظر في زمان متراخ والمعلوم خلافه ، والعلوم الكسبية من فعلنا لوجوب وقوعها بحسب دواعينا وأحوالنا ففارقت بذلك العلوم الضرورية التي تحصل من فعل الله تعالى.

وسكون النفس الذي اعتبرناه هو ما يجده الانسان من نفسه عند العلم بالمشاهدات وإنه لا يضطرب عليه ولا يشك فيه ، وإن كان طريقه الاستدلال أمكنه حل كل شبهة تدخل عليه فأما ما يحكى عن السوفسطائية من الخلاف فيه فلا اعتبار به لأن المعلوم ضرورة خلاف قولهم. على أن القوم انما خالفوا في صفة العلم ، فظنوا ان ذلك ظن ، وحسبان. دون ان يكون ذلك علما ويقينا ، والعلم بالفرق بين العلم والظن طريقه

__________________

(١) ح : عن.

(٢) ح : فنحو.

(٣) أ : فانتبه.

(٤) ح : لترتبت.


الدليل ، وإن كان في العلوم (١) ما يقع عن نظر فيحتاج الى (٢) نبين حقيقة النظر.

والنظر هو الفكر ويجد الواحد منا نفسه كذلك ضرورة ، ويفصل بين كونه مفكرا وبين كونه مريدا وكارها. والفكر هو التأمل في الشيء (٣) المفكر فيه ، والتمثيل (٤) بينه وبين غيره ، وبهذا يتميز من سائر الاعراض من الإرادة والاعتقاد وليس في المتعلقات باعتبارها شيء يتعلق بكون الشيء (٥) على صفته (٦) ، وليس عليها غير النظر.

والناظر من كان على صفة مثل ما قلناه في كونه عالما ومريدا ، وليس الناظر من فعل النظر ، بدلالة انه يجد نفسه (٧) ناظرة ولا يجد نفسه فاعلة ، ومن شأن الناظر ان لا يكون ساهيا ويكون أما عالما أو ظانا ، أو معتقدا ومن شرط الناظر أن يجوز كون المنظور فيه على ما ظنه وانه ليس عليه وهذا التجويز يحصل مع الشك والظن واعتقاد

__________________

(١) ح : المعلوم.

(٢) ساقطة من ح.

(٣) أ ، ب : بالشيء.

(٤) أ ، ب : المتمثل.

(٥) أ ، ب : المشيء.

(٦) ح : صفة.

(٧) ح : بعينه.


ليس بعلم ، وإنما يرتفع مع (١) العلم أو الجهل الواقع عن شبهه لأن الجاهل (٢) يتصور نفسه تصور العالم ، فلا يجوز كون ما اعتقده على خلاف ما اعتقده ، وإن كان السكون لا يكون معه ، وإنما يكون مع العلم. ومن شأن النظر إذا كان مولدا للعلم ان يكون واقعا في دليل وإن كان مقتضيا للظن ان يكون واقعا في أمارة ومتعلقا بها. ومن حق النظر المولد للعلم ان يكون الناظر عالما بالدليل على الوجه الذي يدل ليصح ان يولد نظره العلم. ومتى كان معتقدا للدليل غير عالم به صح ان يقع منه النظر غير أنه لا يولد نظره العلم لأنه لو لم يكن عالما بالدليل لم يمتنع ان يكون عالما بأن زيدا قادر من حيث صح منه الفعل مع ظنه ان الفعل يصح منه وهو غير عالم ، ومع الظن تجويز (٣) كونه على خلاف ما ظنه فلا يصح ان يكون قاطعا على كونه قادرا مع تجويز ان يتعذر منه الفعل.

ومتى ولد النظر العلم فانما (٤) يولده في الثاني ولا يصح ان يولده في الحال لأنه لا يجوز ان يكون في حال كونه ناظرا عالما بالمدلول على ما بيناه فجرى مجرى الاعتماد سواء.

النظر يولد العلم :

والذي يدل على انه يولد العلم ما علمناه من انه متى نظر في الدليل

__________________

(١) أ ، ب : من.

(٢) ح : الجهل.

(٣) ب : نجوز ، أ : تجوز.

(٤) في الأصل : وانما.


من الوجه الذي يدل وتكاملت شروطه وجب حصول العلم فلو لم يكن مولدا له لما وجب ذلك وانما قلنا ان ذلك واجب لأنه محال أن ينظر في صحة الفعل من زيد وتعذره على عمرو ولا يعلم انه مفارق له ، وفي وجوب حصول ذلك دليل على إنه متولد. ويدل أيضا على انه مولد للعلم انه يقع العلم بحسبه لأن من نظر في حدوث الأجسام علم حدوثها دون الطب والهندسة ، وكذلك إذا نظر في صحة الفعل من زيد علمه قادرا دون ان يعلم ان عمرا بتلك الصفة. ولا يلزم على ذلك الإدراك وانه يحصل العلم بحسبه لأن الإدراك ليس معنى (١). وأيضا فلو كان معنى لحصل (٢) في البهيمة والعلم مرتفع ولو كان مولدا يحصل على كل حال. وأيضا فأنا نعلم ان العلم يكثر بكثرة النظر ويفل بقلته فجرى مجرى الضرب والألم فكما (٣) ان الضرب مولدا للألم ، فكذلك (٤) النظر.

فان قيل : لو ولد النظر العلم لولده لمخالفيكم مع أنهم ينظرون كنظركم.

قلنا : لو نظروا كنظرنا لولد لهم العلم فلما لم يحصل لهم العلم علمنا أنهم اخلوا بشرط من شرائطه ، ومتى فرضنا انهم لم يخلوا بشيء من ذلك فهم عالمون إلا أنهم يكابرون.

__________________

(١) أ ، ب : لمعنى.

(٢) ح : فانه يحصل.

(٣) أ : فكان الضرب.

(٤) في الأصل : وكذلك.


والنظر لا يولد الجهل ، لأنه لو ولده لقبح النظر كله ، لأن ما يؤدي إلى القبيح قبيح ، وقد علمنا حسن كثير من الانظار. وإنما قلنا يؤدي الى ذلك لأن الناظر لا يفصل بين النظر المؤدي الى العلم وبين النظر المؤدي الى الجهل ، وكان ينبغي ان يقبح ذلك كله.

والتقليد قبيح في العقول ، لأنه لو كان صحيحا لم يكن تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد مع ارتفاع النظر ، ولا يمكن ان يرجح قول الأكثر أو قول من يظهر الورع والزهد لأن جميع ذلك يتفق في المحق والمبطل وقد استوفينا ذلك في أول الكتاب.

وأيضا فلو حسن التقليد لقبح اظهار المعجزات على أيدي الأنبياء لأنها كانت تكون عبثا لأن التقليد على هذا المذهب جائز من دونها.

فان قيل : كيف يكلف الله المعرفة وهي تجري مجرى الحدس والتخمين لأن الناظر لا يدري ان نظره يولد علما أو غيره ، وإنما يعلم بذلك بعد حصول العلم.

قيل (١) : إذا علمنا حسن النظر ، بل وجوبه ، علمنا إنه لا يثمر جهلا فنأمن من (٢) عاقبته ان تكون غير محموده ، ولو قدح ذلك في وجوب المعرفة لقدح في كل نظير والمعلوم خلافه وبمثله نجيب من قال كيف يجب علينا ما لا نعرفه ولا نميزه بان نقول : تمييز السبب ومعرفته تغني عن تمييز المسبب على التفصيل ، والعاقل يميز النظر فكان

__________________

(١) أ ، ب : قيل له.

(٢) سقطت من أ ، ب.


يميز المعرفة.

ووجه وجوب النظر خوف المضرة من تركه ، وتأميل زوالها بفعله ، فيجب النظر تحرزا من الضرر كسائر الأفعال التي تجري هذا المجرى ولا فرق بين ان تكون المضرة معلومة أو مظنونة في وجوب التحرز منها لأن جميع المضار في الشاهد مظنونة ، ومع هذا يجب التحرز منها ، ولا يبلغ الخوف من ترك النظر إلى حد الإلجاء المسقط للوجوب لأن المضرة إنما تلجئ إذا كانت عاجلة وكثيرة ، والمضرة المخوفة بترك النظر دينية آجلة فلا تكون ملجئه ، فعلى هذا المحرك (١) على النظر ، والمخوف من تركه بينة على جهة الخوف وإمارته على ما سنذكره. فاذا خاف العقاب بتركه وأمل زواله بالنظر «وجب النظر وإن كثر وشق لأن الذي يأمل زواله بالنظر» (٢) اعظم وأغلظ ، والعلم بوجوب النظر عند الخوف بالخاطر وغيره ضروري عند (٣) العقلاء عام. وكل عاقل يعلم ذلك من نفسه. ولا يلزم على ذلك ما يقوله المقلدة وأصحاب المعارف (٤) من أنا لا نخاف من ترك النظر على ما يدعونه وذلك ان أول ما فيه أنا لا نعرف من أصحاب المعارف من لا يجوز على مثله ادعاء ما يعلم من نفسه خلافه.

__________________

(١) ح : المحول.

(٢) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.

(٣) ح : عام للعقلاء.

(٤) هم القائلون بان المعارف ضرورية لا كسبية.


فاما من ذهب إلى التقليد فانما ينكر المناظرة دون النظر والمناظرة غير النظر. ومع هذا ربما التجئوا الى المناظرة في كثير من الأحوال على أنا نقول العلم بوجوب النظر للفصل (١) في طريق المعرفة انما (٢) يحصل عند الخوف في ابتداء التكليف ، ويحصل لبعض (٣) العقلاء في حال لا يحصل فيها لجميعهم لاختلاف أحوالهم فلا يمتنع ان يدخل بعضهم على نفسه شبهة فيزول هذا الخوف فلا يعلم وجوب النظر عليه لأن العلم بوجوب هذا النظر انما هو علم بوجوب ما له صفة مخصوصة يجوز ان يعترض شبهة فيها وجرى ذلك (٤) مجرى إدخال الخوارج شبهة على أنفسهم (٥) في قتل مخالفهم الذي هو ظلم على الحقيقة ، حتى اعتقدوا حسنه لما جهلوا (٦) صفته المخصوصة.

وقيل أيضا : ان الخوف إذا كان معمورا ببعض الأمور فلا يجده الإنسان من نفسه كما ان من اشرف على الموت وعليه حقوق ومظالم لا بد ان يخاف من ترك الوصية وإهمالها ، ومع هذا ربما ذهب عنها لبعض ما يعمره (٧) من الأمراض ، فاذا ثبت ذلك فأول فعل يجب

__________________

(١) أ ، ب : الفضل.

(٢) أ : فانما.

(٣) أ : عند العقلاء.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) ح : نفوسهم.

(٦) أ : اعتقدوا.

(٧) ح : ما يغمره


على المكلف مما لا يخلو مع كمال عقله منه النظر في طريق معرفة الله.

وقلنا (١) أول ، لئلا يلزم ما يقدمه أو يقارنه ، وقلنا فعل ، تحرزا من الامتناع من القبائح لأن ذلك ليس بفعل ولا يحتاج إلى ان يقال مقصودا تحرزا من إرادة النظر لأن العاقل عند الخوف ملجأ الى فعل الإرادة. كما هو ملجأ الى الخوف عند التنبيه على الامارة ، وذلك خارج عن التكليف.

وقلنا مما لا يخلو مع كمال عقله ، لأن جميع (٢) الواجبات العقلية التي هي رد (٣) الوديعة ، والإنصاف ، وقضاء الدين ، وشكر النعمة ، قد يخلو العاقل من جميع ذلك ، وإن لم يخل من وجوب النظر. وأما الواجبات الشرعية فانها فرع على معرفة الله ومعرفة رسوله فهي متأخرة لا محالة.

والخوف الذي يقف وجوب النظر عليه يحصل باشياء :

أحدها : ان ينشأ بين العقلاء ويسمع اختلافهم وتخويف بعضهم لبعض فلا بد ان يخاف من ترك النظر في أقوالهم ، إذا ترك حب النشوء (٤) والتقليد ، وأنصف من نفسه وعمل بموجب عقله أو تنبه (٥) على ذلك من قبل نفسه إذا رأى أمارات لائحة وجهات الخوف

__________________

(١) ح : فقلنا.

(٢) زاد في ح : التكليف.

(٣) ح ، ح : وجوب رد الوديعة.

(٤) كذا في الاصل.

(٥) ح : يبينه.


معترضة فلا بد ان يخاف. وهذا يجوز ان يكون الحكم الذي خلقه الله وحده ، فان (١) لم يتفق ذلك أخطر الله ما يتضمن جهة الخوف وإمارته والتنبيه عليه أما بكلام يسمعه داخل اذنه ، أو يفعله في الهواء ، أو يبعث إليه من يخوفه ، وكل ذلك جائز. فاذا حصل الخوف وجب النظر.

والذي يتضمن الخاطر هو التخويف من إهمال النظر ، ولا بد ان ينبه على أمارة الخوف لأن الخوف الذي لا أمارة له لا حكم له غير انه يجب تنبيهه على جهة وجوب المعرفة ليعلم الحسن بهذا التخويف ، لأن من هدد غيره على أكل طعام غيره (٢) بعينه بالقتل يجب عليه الامتناع عن أكله ، ولا يعلم قبح الامتناع ولا حسنه. فاذا قال : لا تأكله فان فيه سما ونبه (٣) على جهة أمارة كون السم فيه علم حسن إيجاب الامتناع من الأكل ، فعلى هذا يجب ان يتضمن الخاطر انك تجد في نفسك آثار الصنعة فلا تأمن ان يكون لك صانع صنعك ودبرك أراد منك معرفته ليفعل الواجب عليك في عقلك ، وتنتهي (٤) عن القبيح. وأنت تجد في عقلك قبح أفعال لك فيها نفع عاجل ووجوب أفعال عليك فيها مشقة عاجلة ، وتعلم استحقاق الذم على القبيح (٥) ، فان الذم مما

__________________

(١) أ : فاذا.

(٢) سقطت من ح.

(٣) أ ، ب : ونبهه.

(٤) أ ، ب : وينهى.

(٥) أ ، ح : القبح.


يضرك ويغمك فلا تأمن من ان تستحق مع الذم زائدا على العقاب والألم ومعلوم ان استحقاب أحدهما أمارة لاستحقاق الآخر (١).

ثم نقول : متى لم يعرف الله بصفاته وأنه قادر على مجازاتك على القبح بالعقاب كنت الى فعل القبيح «أقرب ، ومن تركه أبعد ، وإذا عرفته تكون من فعل القبيح» (٢) ابعد وإلى فعل الواجب أقرب فيجب عليك حينئذ النظر مع هذا التنبيه على ما ذكرنا.

وكل خاطر يعارض هذا الخاطر ويؤثر ، فلا بد ان يمنع تعالى منه. وما لا يعارضه ولا يؤثر فيه لا يجب المنع منه لأن للعاقل طريقا إلى دفعه بعقله ، ومعرفة الله تعالى واجبة على كل مكلف لأن ما هو لطف للمكلف من العلم باستحقاق الثواب والعقاب لا يتم إلا بها وذلك عام في جميع المكلفين فيجب ان تكون معرفته واجبة على كل مكلف ، وانما قلنا ان اللطف في التكليف لا يتم إلا معها لأن من (٣) المعلوم ضرورة ان من علم استحقاق العقاب على المعاصي زائدا على استحقاق الذم كان ذلك صارفا له عن فعل القبيح ، وكذلك من علم استحقاق الثواب على الطاعة زائدا على المدح كان ذلك داعيا الى فعله وإذا كان العلم باستحقاق الثواب والعقاب لا يتم إلا بعد العلم بالله تعالى على صفاته من كونه قادرا عالما وجبت (٤) معرفته بهذه الصفات فيعلم كونه

__________________

(١) ح : الأجر.

(٢) العبارة بطولها ساقطة من أ ، ب.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) أ : وجب.


قادر ليعلم انه قادر على عقابه وثوابه ويعلم انه عالم ليعلم انه عالم بمبلغ المستحق ويعلمه حكيما ليعلم انه لا يخل بواجب من الثواب ، ولا يفعل القبيح من عقاب غير مستحق.

فاللطف (١) في الحقيقة هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب إلا انه لا يتم ذلك إلا بعد معرفته تعالى على صفاته فوجبت (٢) معرفته على صفاته ، ولما كانت معرفته لا يوصل إليها إلا النظر (٣) وجب النظر. والمعرفة الضرورية لا تقوم في ذلك مقام الكسبية لأنها لو قامت مقامها لفعلها في الكافر ، ونحن نعلم ان كثيرا من الكفار يموت على كفره ، فعلم ان الضرورية ليست لطفا. ومن ادعى ان الكفار عارفون كابر ، لأن المعلوم ضرورة موت كثير من الخلق كأبي جهل وأبي لهب على كفرهم. وأيضا كان يجب ان يفعل فينا ونحن نعلم من أنفسنا أنا لسنا مضطرين الى معرفة الله فبطل ان تكون الضرورية لطفا ، وقيل انها لو كانت لطفا لكانت الكسبية آكد ، لأن من تكلف مشقة ليبلغ بها غرضا لا يكون تمسكه بذلك الشيء إذا وصل إليه كتمسكه إذا حصل له الشيء من غير مشقة. وشبه ذلك من تكلف بناء دار وانفق عليها ماله وافنى زمانه لا يكون في تمسكه بها كمن وهبت له تلك الدار وكذلك من سافر في طلب العلم وتحمل المشاق لا يكون حكمه في التعلم حكم من تقصده العلماء ويقعدون قدامه والعلم بذلك ضروري ،

__________________

(١) أ ، ب : واللطف.

(٢) في الاصل : وجبت.

(٣) ب ، ح : بالنظر.


وإذا (١) كانت المكتسبة آكد وجبت دون الضرورية.

فان قيل : لو كانت المعرفة لطفا لما عصى أحد. قلنا : اللطف لا يوجب الفعل وإنما يدعو إليه ويقوي الداعي إليه ويسهله وربما وقع عنده الفعل ، وربما يكون معه أقرب وإن لم يقع ، والنوافل إنما لم نكن واجبه لأنها مسهلة للواجبات مؤكدة للدواعي ، وعندي انها انما (٢) لم تجب لأنها لطف في المندوبات العقلية فهي تابعة لما هي لطف فيه.

ويجب ان يبقي الله تعالى المكلف قدرا من الزمان يتمكن فيه من تحصيل كمال المعارف به وصفاته وتوحيده وعدله وبعده زمانا يمكنه فيه (٣) فعل الواجب وترك القبيح (٤) ، لأن الغرض بايجاب المعرفة كونها لطفا في الواجبات العقلية فلا بد من ذلك.

__________________

(١) أ ، ب : فاذا.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) سقطت من ح.

(٤) ب ، ح : فعل واجب ، وترك قبيح.


فصل

في الكلام في الآجال والارزاق والاسعار

الكلام في الأجل :

الأجل والوقت عبارة عن معنى واحد. والوقت هو الحادث ، «أو ما تقديره تقدير الحادث» (١) الذي تعلق حدوث غيره به ، لأنا نجعل (٢) طلوع الهلال وقتا لقدوم زيد ، إن (٣) كان عالما بطلوع الهلال وغير عالم بقدوم زيد ، فان كان عالما بقدوم زيد وغير عالم بطلوع الهلال جاز أن يؤقت طلوع الهلال بقدوم زيد. وما تقديره تقدير الحادث هو ان يقال : قدم زيد حين قضى عمرو نحبه ، لأن قضى نحبه أمر متجدد ، فجرى مجرى حادث وعلى هذا لا يجوز التوقيت بالقديم ، والباقيات لأنها لا حادثة ولا جارية مجرى الحادث.

فاذا ثبت ذلك فأجل (٤) الدين وقت حلوله واستحقاقه ، وأجل (٥)

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.

(٢) في أ ، ب : لا ما يجعل.

(٣) في الأصل : فان.

(٤) ح : وأجل.

(٥) في الاصل : وأخذ.


الإجازة عند انقضاء المدة المعقود عليها ، وأجل الموت هو وقت حصول الموت فيه ، وأجل القتل هو وقت حدوث القتل. فاذا كانت لا وقت لموته وقتله إلا واحدا ، وهو الذي حدث فيه موته أو قتله ، فكذلك (١) الأجل.

فعلى هذا اذا علم الله انه لو لم يقتل فيه لعاش إليه «لأن الموت أو القتل لم يقع فيه وبالتقدير» (٢) ، لا يسمى أجلا كما لا يسمى بالتقدير وقتا إذا لم يقع فيه الموت أو القتل. فعلى هذا لا يكون للإنسان أجلان وأكثر ، ولا يسمى بذلك إلا مجازا ، كما لا يسمى بالتقدير لشيء رزقا ولا ملكا اذا لم يرزق ولم يملك. ألا ترى انه إذا علم الله من حال زيد أنه لو أبقاه لرزقه أولادا وأموالا وولي (٣) ولايات ، لا يقال ان له أولادا وأموالا وولايات. وإن كان لو وصل إليها لوصف بذلك.

وقوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٤) لا يدل على اثبات أجلين لأنه تعالى لم يصرح بأنهما أجلان لأمر واحد ويحتمل ان يكون أراد بالأجل الأول أجل الموت في الدنيا والأجل الآخر حياتهم في الآخرة ، والحياة لها أجل كأجل الموت ، وهذا يكون عاما في جميع الخلق. وما قالوه لا يكون إلا خاصا لأنه

__________________

(١) في الاصل : وكذلك.

(٢) العبارة سقطت من أ ، ب.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) الانعام : ٢.


ليس كل أحد له (١) أجلان عند المخالف ، بل ذلك لبعضهم دون بعض.

وقوله تعالى (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢) وقوله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٣) لا حجة فيه لأنه لا يمتنع ان يسمى المقدور بأنه أجل مجازا ، وإنما منعنا منه حقيقة بدلالة ما قدمناه. فاما من قتل فالصحيح انه لو لم يقتل لكان يجوز ان يعيش ولا يقطع عل بقائه ، ولا على موته على ما يذهب إليه طائفتان مختلفتان ، وانما قلنا ذلك لأن الله تعالى قادر على احيائه وأماتته ، ولا دليل على القطع على أحدهما فيجب ان يجوز كلا الأمرين ويشك فيه لأنه لا يمتنع ان يتعلق المصلحة بكل واحد من الأمرين.

ويلزم من قال بوجوب الموت لو لم يقتل ان كل من مات بسبب من جهة الله من غرق أو هدم وما اشبههما أنه لو لم يكن ذلك لمات لا محالة ، ويلزم ان يكون من ذبح غنم غيره بغير إذنه محسنا إليه ولا يكون مسيئا لأنه يلزم بالذبح قد جعله بحيث ينتفع بها ولو لم يذبحها لماتت ولم ينتفع بها فكان ينبغي ان يمدحه ولا يذمه ، ولا يقبل العقلاء عذره إذا قال لو لم اذبحها لماتت فما اسأت إليه ، بل كلهم يذمونه ويقولون اسأت إليه.

__________________

(١) سقطت من ب ، ح.

(٢) المنافقون : ١٠.

(٣) نوح : ٤.


ولا يلزمنا اذا جوزنا موتها مثل ذلك لأن بالتجويز لا يخرج عن كونه مسيئا ، وانما بالقطع يخرج ويجري ذلك مجرى تجويزنا فيمن سلب مال غيره وغصبه إياه ان يكون الفقر أصلح له في دينه من الغنى ، ولا يقتضي تجويزنا ذلك حين سلب المال لأجل التجويز.

وكذلك لا ينبغي ان يقطع على انه لو لم يقتل لعاش لا محالة ، لأنه لا يمتنع انه لو لم يقتل لاقتضت المصلحة إماتته ، والشك (١) هو الغرض ، ولا يخرج هذا التجويز القاتل من كونه ظالما لأنه ادخل ضررا غير مستحق على غيره ، لا لدفع ضرر ، ولا لاجتلاب نفع ، وهذا حقيقة الظلم.

والقديم تعالى اذا أماته لا يقطع على انه أدخل عليه ألما ، ومتى أدخله عوضه عوضا يخرجه عن كونه ظلما ، وليس كذلك اذا قتلناه لأن ذلك الألم قبيح لا محالة ، والعوض الذي ينتصف الله منه في مقابلته بقدر لا يخرجه من كونه ظلما. فان قيل فمن قتل خلقا عظيما أو ذبح غنما كثيرة في حالة واحدة هل تجوزون (٢) موتهم في حالة واحدة أو بقائهم؟ فان أجزتم في حالة واحدة فالعادة بخلاف ذلك. وإن لم تجيزوا بطل قولكم في التجويز.

فلنا : لا يجوز ان يتفق قتل الخلق العظيم في وقت يعلم الله تعالى ان الصلاح اخترام جميعهم لو لا القتل ، وليس ذلك بمبطل (٣) لما

__________________

(١) ح : فالشك هو المعرض.

(٢) ح : فهل يجوزون.

(٣) أ ، ب : فبطل لما قلنا.


قلناه ، لأن الكلام في كل مقتول معين ، أن يجوز (١) بقاؤه وموته على حد واحد ، لأن الواحد ومن يجري مجراه يجوز ان يتفق مثله في وقت كان يجوز ان يقتضي المصلحة إماتته لو لا القتل كما يجوز اتفاق الصدق من الواحد والاثنين في حين بعينه ، وإن لم يكن ذلك في الجماعة جائزا.

الكلام في الرزق : ـ

وأما الرزق :

فهو ما صح الانتفاع به للمرزوق على وجه ليس لأحد منعه ، أو ما هو بالانتفاع به أولى.

والدليل على ذلك ان ما اختص بهذه الصفة سمي رزقا ، «وما لا يكون كذلك لا يسمى رزقا» (٢).

ولا يصح الرزق عليه تعالى لاستحالة المنافع عليه. والبهائم مرزوقة لجواز الانتفاع عليها ، وكل شيء ليس لنا منعها عنه فهو رزقها نحو شرب الماء من النهر الكبير ، أو ما تأخذ بفيها من الكلأ المباح. وقبل ذلك لا يسمى رزقا لها لأن لنا منعها منه بالسبق لها إليه. ومتى سمي الكلأ والماء قبل التناول بأنه رزق لإنسان أو بهيمة كان مجازا ، ومعناه انه يصير رزقا له اذا تناوله ، والملك والرزق متداخلان (٣) في الشاهد ولا ينفصلان.

__________________

(١) ب : أو يجوز. أ : ويجوز.

(٢) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.

(٣) ح : يتداخلان.


والقديم يوصف بانه مالك ولا يوصف بأنه مرزوق لما قلناه من استحالة المنافع عليه فصار من شرط تسميته رزقا صحة الانتفاع به ، وليس ذلك من شرط تسميته بالملك.

وفي الناس من قال الملك منفصل من الرزق لأنهم يقولون في الكلأ إنه رزق للبهائم ولا يسمونه بأنه ملك لها. والصحيح الأول. وإنما لا يسمى رزق البهيمة ملكا لأن من شرط تسميته بالملك ان يكون عاقلا أو في حكم العاقل من الأطفال والمجانين. وقالوا أيضا من أباح طعامه لغيره يوصف بانه رزق له ولا يقال بانه (١) ملكه قبل تناوله. قلنا : لا فرق بينهما لأن قبل تناوله فهو رزقه وملكه ، وليس له منعه منه كالكلإ والماء ، ويجوز تسمية الولد رزقا (٢) ، وكذلك العقل (لا يمتنع» (٣) أيضا تسميته بانه ملك والمعنى ان له الانتفاع بولده وبعقله فلا فرق بينهما.

وحقيقة الملك ان من يقدر على التصرف في شيء ليس للآخر منعه منه فهو مالك له ويسمى الله تعالى بانه مالك يوم الدين لهذا المعنى ، ولذلك (٤) يوصف الإنسان بانه يملك داره وعبده لأنه (٥) يقدر على التصرف فيهما ، «وليس لأحد منعه منه ولذلك لا يسمى دار غيره

__________________

(١) ب ، ح : انه.

(٢) ح : بانه رزق.

(٣) سقطت من أ.

(٤) أ : ولهذا.

(٥) في الأصل لا يقدر.


بأنها ملكة وإن كان قادرا على التصرف فيها» (١) لأن للغير منعه منها.

فاذا ثبت ذلك فالحرام ليس برزق لنا لأن الله تعالى منع منه (٢) بالحظر ، ويجب علينا المنع منه مع الإمكان ، ولو كان الحرام رزقا للزم ان تكون أموال الناس رزقا للغاصبين والظالمين.

ويلزم فيمن وطئ زوجة غيره ان يكون ذلك له رزقا كما انه إذا وطئ زوجة نفسه يكون كذلك ، وقد أمر الله تعالى بالإنفاق في الرزق في قوله (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) (٣) ومدح عليه بقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٤) ولا خلاف في انه ليس له ان ينفق من الحرام وإذا انفق لا يستحق المدح بل يستحق الذم ويصح ان يأكل الإنسان رزق غيره كما يصح ان يأكل مال غيره.

والرزق يضاف تارة إلى الله تعالى وأخرى (٥) الى العباد. فاذا أريد بالرزق الجسم الذي يصح الانتفاع به أو بطعمه أو رائحته فمعلوم ان ذلك من خلق الله تعالى فيضاف إليه لا محالة ، ومتى عبر به عن تصرفنا فيه على الوجه الذي ينتفع به فانه يضاف أيضا إليه تعالى لأنه لولاه لما صح منا التصرف والانتفاع به ، لأنه مكن منه بالقدر

__________________

(١) الجملة بطولها سقطت من أ.

(٢) ح : عنه.

(٣) المنافقون : ١٠.

(٤) البقرة : ٣.

(٥) أ ، ب : وتارة.


والآلات ، ولو لم يكن إلا خلق الحياة والشهوة لكفى لأنهما الأصل في المنافع فاضافته إليه تعالى من هذا الوجه واجبة.

وأما ما يضاف إلى الواحد منا فيجوز ان يهبه (١) له أو يوصى له وما يجري مجراه فانه يقال رزقه ومن ذلك قولهم «رزق (٢) السلطان جنده» ولا يقال فيما يملك بالمعاوضة بالبيع (٣) انه رزق من البائع لأنه قد أخذ عوضه ، ولا يقال في الميراث إنه رزق من الميت لأن سبب ذلك من غير جهته وبغير اختياره ، وكذلك لا يقال ان الغنائم رزق من الكفار لأنها بغير اختيارهم بل كل ذلك رزق من الله تعالى الذي حكم به.

الكلام في السعر :

وأما السعر : فانه عبارة عن تقدير البذل فيما يباع به الأشياء ولا يسمى نفس البذل بانه سعر فلا يقولون فيمن معه دراهم ودنانير ان معه أسعارا وإن كانت اثمانا (٤) للمبيعات.

ويوصف تقديرها بذلك فيقال : هذا المتاع بكذا وكذا درهما ، ولا يلزم على ذلك قيم المتلفات ان يسمى سعرا ، لأنا تحرزنا منه بقولنا «فيما يباع به الأشياء».

__________________

(١) أ ، ب : يهب.

(٢) ح ، ب : ان يرزق.

(٣) أ ، ب : في البيع.

(٤) أ ، ب : أسعارا.


وفي الناس من شرط في حد السعر ان يكون ذلك على جهة التراضي احترازا من قيم المتلفات. وذكر البيع على ما قلناه يغني (١) عن ذلك.

والسعر يكون غاليا ويكون رخيصا. فالرخص هو انحطاط السعر عما جرت به العادة في وقت ومكان مخصوص ، لأن انحطاط سعر الثلج في الجبال الباردة لا يسمى رخصا (٢) ، وكذلك في زمان الشتاء فلذلك اعتبرنا الوقت والمكان.

والغلاء هو زيادة السعر على ما جرت به العادة والوقت والمكان واحد لمثل ما قلناه في الرخص ، ويضاف الرخص والغلاء الى من فعل سببهما. فان كان سببهما من جهة الله تعالى اضفن إليه وإن كان سببهما من جهة العباد اضفن (٣) إليهم.

فما يكون سببه من الله تعالى من الرخص فهو بتكثير الحبوب وتقليل الناس وتنقيص شهواتهم للأقوات فيرخص عند ذلك فيضاف الى الله تعالى. وسبب الغلاء عكس ذلك ، من تقليل الحبوب وتكثير الناس وتقوية شهواتهم للأقوات فتغلوا فيضاف عند ذلك الى الله ، وما يكون سببه من العباد في الرخص فنحو جلب الغلات أو بيعها أو حمل الناس على ذلك والزامهم إياهم بنقصان من السعر ، وعكس ذلك الغلاء بان يحتكروا للغلات ويمنعوا من جلبها ويسعروها بأثمان غالية على العباد فينسب عند ذلك الغلاء والرخص الى العباد الذين سببوا ذلك.

__________________

(١) أ ، ب : يكفينا.

(٢) في الاصل : رخيصا.

(٣) ح : أضيفا.



القسم الثّالث

مباحث

الوعد والوعد


فصل ـ ١ ـ

في الكلام في الوعد والوعيد وما يتصل بهما (١)

الوعد : عبارة عن الأخبار بوصول نفع إلى المدعو له. والوعيد عبارة عن الأخبار بوصول ضرر إليه. والمستحق بالأفعال ستة اشياء : مدح ، وذم ، وثواب ، وعقاب ، وشكر ، وعوض.

فالمدح : عبارة عن القول المتضمن لعظم حال الممدوح ، ولا يصير مدحا إلا بثلاثة شروط :

أحدها : ان يقصد به التعظيم.

وثانيها : ان يكون اللفظ موضوعا للتعظيم في تلك اللغة.

وثالثها : ان يكون عالما بعظم حال الممدوح. والظن والاعتقاد لا يقوم مقام العلم في ذلك لأن المدح لا يكون إلا مستحقا ، ولا يصح ذلك إلا مع العلم بالأعظام إما بان يكون ثابتا نحو من يمدحه ويعلم من حاله ما يقتضي تعظيمه نحو الأنبياء والمعصومين ، أو يكون مشروطا كمدح من غاب عنا بشرط بقائه على الحال الموجبة لتعظيمه.

والفعل لا يسمى مدحا حقيقة ، «ويجوز ان يسمى بذلك مجازا. والتعظيم يدخل في القول والفعل» (٢) ، كقيام الإنسان لغيره مع

__________________

(١) ح : به.

(٢) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.


القصد الى تعظيمه أو تقبيل رأسه ، والمدح لا يكون خبرا يحتمل الصدق والكذب كقولك فلان عالم فاضل مع القصد إلى تعظيمه.

والذم هو القول المنبئ عن اتضاع حال المذموم. وشروط كونه ذما مثل شروط المدح سواء ، من القصد إلى ذلك ، والعلم بحاله وإن كان اللفظ موضوعا له ، وما يرجع إلى الفعل يسمى ذما مجازا.

والاستخفاف والإهانة يكونان بالقول والفعل لأن من لا يقوم لمن يجب ان يقام له يسمى مستخفا به.

والثواب : هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال. فبكونه نفعا يتميز مما ليس بنفع ، وبكونه مستحقا يتميز من التفضل ، وبمقارنة التعظيم والتبجيل يتميز من العوض.

والعقاب : هو الضرر المستحق ، ومن شرطه ان يقارنه استخفاف وإهانة. فبكونه ضررا يتميز من النفع ، وبكونه مستحقا يتميز من الألم الذي يفعل لمصلحة ، ويتميز أيضا بمقارنة الاستخفاف والإهانة له.

والشكر : هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم ، ولا يكون كذلك إلا بالقصد ، والشكر حقيقته ما يرجع الى اللسان ، وقد يسمى ما يرجع الى القلب من التفرقة بين المحسن والمسيء شكرا وهو مجاز.

والعوض : هو النفع المستحق الخالي من تعظيم وتبجيل ، فبكونه


نفعا يتميز من الألم وبكونه مستحقا يتميز (١) من النفع المتفضل به ، وبكونه خاليا من تعظيم وتبجيل يتميز من الثواب على ما بيناه.

ويستحق المدح بفعل الواجب والندب وبالامتناع من القبيح ، وباسقاط الحقوق المستحقة كإسقاط العقاب من الله تعالى ، وكذلك من أسقط دينه عن غيره استحق المدح ولا يستحق المدح إلا بهذه الأربعة اشياء ، لأن فعل المباح والقبيح لا مدخل له في استحقاق المدح ، ولا يستحق المدح بفعل الواجب إلا اذا فعل لوجه وجوبه ، أو لوجوبه ، لأنه لو فعله ساهيا لما استحق المدح ولو فعله اتباعا للشهوة لما استحق عليه المدح أيضا. والندب لا يستحق به المدح إلا اذا فعل لكونه ندبا ومتى فعل لنفع عاجل ، أو شهوة لم يستحق المدح. فعلى هذا لا يصح فعل الواجب والندب على (٢) الوجه الذي يستحق به المدح إلا ممن كان عالما بوجوبه أو وجه وجوبه ، وبكونه ندبا أو وجه كونه ندبا (٣).

والقبيح لا يستحق المدح بتركه إلا اذا تركه لكونه قبيحا ، ولا بد من أن يكون عالما بالقبيح أو وجه القبيح حتى يصح منه تركه لذلك ، وكل ما يستحق به المدح يستحق به الثواب بشرط حصول المشقة فيه ، أو في سببه أو ما يتصل به لأن الواطئ لزوجته يستحق المدح والثواب ، وان كان فعل لذة ، لكن قصر النفس عليه ، والزام النفقة والمئونة

__________________

(١) سقطت من الأصل.

(٢) أ : هو.

(٣) سقطت من أ ، ب.


عليه فيه مشقة ، ولو لا المشقة لجاز ان يستحق المدح والثواب على فعل اللذات والمنافع والمعلوم خلافه. وأيضا لو لم يعتبر حصول المشقة في استحقاق الثواب للزم ان يستحق القديم تعالى الثواب اذا فعل الواجب أو التفضل ، ولم يفعل القبيح ، وذلك باطل.

والدليل على ان الفعل الشاق من الواجب والندب يستحق به الثواب هو انه لا فرق في العقول بين الزام المشاق وبين ادخال المضار فلما كان الزام المضار لا يحسن إلا للنفع ولا بد في ذلك النفع من ان يكون عظيما وافرا حتى يحسن الزام المشاق لأجله ، ولا يجوز ان يكون ذلك النفع مدحا ولا عوضا لأن نفس المدح ليس بنفع ، وانما ينتفع بالسرور الذي يتبعه ، وما يتبعه من السرور لا يبلغ الحد الذي يقابل ما في فعل الواجب والامتناع من القبيح من المشاق العظيمة ، وذلك معلوم ضرورة على ان السرور هو اعتقاد وصول المنافع إليه في المستقبل سواء كان علما أو ظنا أو اعتقادا ، ومتى دفعنا (١) المنافع عن أوهامنا فلا سرور يعقل.

وأما العوض : فهو حال من تعظيم وتبجيل ويحسن الابتداء بمثله ، ومن حق ما يستحق على الطاعة ان يقارنه التعظيم على ان من حق العوض ان يستحق بفعله من يستحق عليه العوض. وهذا لا يصح هاهنا لأن الطاعة من فعلنا ، والثواب يستحق عليه تعالى ولا يجوز ان يكون المستحق عوضا ، واذا كان الملزم للواجب ، وجاعله شاقا

__________________

(١) ب ، ح : رفعنا.


هو الله تعالى وجب ان يستحق الثواب عليه دون غيره. واذا ثبت استحقاق الثواب فليس في العقل ما يدل على انه يستحق دائما وإنما يرجع في ذلك الى السمع واجمعت الأمة على ان الثواب يستحق دائما لا خلاف بينهم فيه ، وكل دليل يستدل به على دوام الثواب عقلا فهو معترض قد ذكرنا الاعتراض عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره هاهنا.

وجملته أنهم قالوا الثواب يستحق بما يستحق به المدح وإذا كان المدح يستحق دائما وجب في الثواب مثله وقوى ذلك بان قالوا ما أزال المدح ازال الثواب ، فدل على ان جهة الاستحقاق واحدة.

فاذا كان أحدهما دائما وجب ان يكون الآخر مثله ، وهذا غير صحيح. لأنا لا نسلم ان جهة الاستحقاقين واحدة ، ألا ترى ان القديم يستحق المدح بفعل الواجب ، والتفضل ، وإن لم يستحق الثواب. «ولو فعل أحدنا الواجب على وجه لا يشق عليه لاستحق المدح ، وإن لم يستحق الثواب» (١) ، لأن الثواب يستحق بالمشقة والمدح يستحق بوجه الوجوب ، فكيف يستحقان على وجه واحد.

ومتى قيل المشقة شرط ، والوجه كونه واجبا أو ندبا ، قيل بعكس ذلك. ولقائل ان يقول الوجه هو المشقة وكونه واجبا شرط (٢). ثم يقال : ولم إذا تساويا في الشرط والوجه وجب أن يتساويا في الدوام؟

__________________

(١) الجملة بطولها سقطت من أ ، ب.

(٢) سقطت من أ ، ب :


لأنه إذا جاز ان يتساويا في هذين مع اختلافهما في الجنس جاز ان يختلفا أيضا في الدوام والانقطاع ، وقولهم ما ازال احدهما ازال الآخر لا نسلمه ، لأن عندنا لا يزيل ما يستحق منها شيء على وجه ، على ما نبينه في بطلان التحابط. وهذا أقوى دليل استدلوا (١) به. وما عداه من أدلتهم ذكرناه حيث (٢) أومأنا إليه لا نطول بذكره هاهنا.

وأما الذم : فانه يستحق بفعل القبيح والاخلال بالواجب ، «لأن ما عدا ذلك من أفعال المكلف من الواجب» (٣) والندب والمباح لا يستحق به ذم على حال.

ولا يستحق فاعل القبيح والمخل بالواجب الذم إلا بعد ان يكون متمكنا من التحرز منه بان يكون عالما بقبح القبيح ، ووجوب الواجب أو متمكنا من العلم بقبحه. ومن الناس من قال لا يستحق الذم إلا على فعل وادعوا (٤) ان من أخل بواجب لا بد ان يكون فاعلا لترك قبيح يستحق به الذم لأنهم حدوا الواجب بأنه ماله ترك قبيح ، وهذا غير صحيح لأن حد الواجب هو ما يستحق (٥) بالاخلال به الذم على بعض الوجوه ، لأن قبح الترك تابع لوجوب الواجب (٦) ، فوجوب الواجب هو الأصل. وما ذكروه يؤدي الى ان يتعلق وجوبه بقبح

__________________

(١) أ : يستدل.

(٢) في الأصل بحيث.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) أ : واو عن.

(٥) أ ، ب : هو المستحق.

(٦) أ ، ب : وجوب الوجوب.


تركه ، وقبح تركه يتعلق بوجوبه ، وفي ذلك تعلق كل واحد منهما بصاحبه على ان في الواجبات ما لا ترك له أصلا ولا يدخل الترك أيضا في فعل الله تعالى ، وإن كان الوجوب يدخلها ، على أنه قد يعلم الواجب واجبا من لا يعلم ان له تركا قبيحا لأنا نعلم وجوب رد الوديعة على من طولب بها ، ومتى لم يردها استحق الذم مع التمكن ، وإن لم يعلم انه فعل تركا. وإن علمناه فاعل ترك علمناه بدليل ، وكان يجب ان من لا يعلم انه فعل الترك ان لا يذمه والمعلوم خلافه.

والترك والمتروك له شروط :

منها : ان يكون القادر عليهما واحدا ، والوقت الذي يفعلان فيه واحدا ، أو يكونا مفعولين بالقدرة ، ويكونا ضدين مبتدءين ، ولك ان تقول : حد الترك ما ابتدئ بالقدرة بدلا من ضد له يصح ابتداؤه على هذا الوجه فيكون قولنا بدلا من ضده مغنيا من ان نشترط (١) فيه كون الوقت واحدا لأن مع تغاير الوقت لا يوصف بالبدل لأن الفعل الواقع في وقت لا يمنع من وقوع فعل في وقت آخر ، وإن تضادا ، ومن شأن الترك والمتروك ان لا يدخلا في الوجود.

وقولنا : ما ابتدئ بالقدرة يغني عن شرط ان يكون مباشرا ، لأنه لا يبتدأ بالقدرة إلا المباشر.

وأغنانا عن ان نقول ما ابتدئ بالقدرة في محلها ، لأن القدرة لا يبدئ بها الفعل إلا في محلها ، واغنى ذلك عن ان نقول والمحل

__________________

(١) أ ، ب : يشترط.


واحد لأن قولنا بدلا لا يصح إلا والمحل واحد والجملة واحدة.

فما يتضاد على المحل فكالألوان والألوان وما يتضاد على الحسن فكالارادة والكراهة ، لأن أحدنا لو فعل إرادة في جزء من قلبه لكانت بدلا من ضدها من الكراهة ، وتركا لها وإن كانت في محل آخر من اجزاء القلب ، ولا اعتبار بان تكون القدرة واحدة على الترك ، والمتروك. لأنا قلنا ما ابتدئ بالقدرة ولم نقل بقدرة واحدة. لأن القدرة التي يفعل بها الإرادة في جزء من قلبه غير القدرة التي يفعل بها الكراهة في جزء آخر من القلب ، وإن كانت الإرادة تركا للكراهة.

وعلى هذا التقدير لا يدخل الترك في أفعال الله لأنا شرطنا فيه الابتداء بالقدرة ، ولا يدخل أيضا فيه المتولدات لأنا شرطنا في الترك والمتروك ان يكونا مبتدءين. ويدل أيضا على أن الاخلال بالواجب يستحق به الذم ان العقلاء يذمون من لم يفعل الواجب من التمكن وإن لم يعلموا أنه فعل تركا فيجب ان يكون ذلك كافيا في حسن الذم لأن العلم بحسن الشيء أو قبحه تابع للعلم بماله حسن أو قبح جملة أو تفصيلا. فلو لا أن كونه غير راد الوديعة جهة يستحق بها الذم لما حسن ذمه عند العلم بما ذكرنا (١) ، ولوجب ان نكون عالمين بحسن الذم وإن لم نعلم جهته ، وذلك باطل.

تبيين (٢) ذلك : انا إذا علمناه فاعلا لقبيح ، وجد وجه يستحق

__________________

(١) أ : ذكره.

(٢) ح : نبين.


به الذم ، وكذلك في كونه مخلا بواجب (١) سواء.

ويدل أيضا على انه يحسن من كل عاقل ان يعلق الذم بان القادر لم يفعل ما وجب عليه ، لأن (٢) من لم يرد الوديعة مع حصول شروط الوجوب (٣) يذمونه ويقولون إنه (٤) لم يرد الوديعة. فلو لا ان كونه غير راد لها جهة يستحق بها الذم لما قالوا ذلك كما لا يحسن ان يعلقوا الذم بوجه لا يستحق به ذلك من كونه عرضا وحالا في محل وغير ذلك.

ويدل أيضا على ذلك انا لو فرضنا ان القديم تعالى لو (٥) لم يفعل الواجب من الثواب والعوض واللطف لا يستحق الذم على ذلك (٦) ، ولا يجوز الترك عليه على ما مضى ، فيجب ان يكون الاخلال بواجب جهة يستحق بها الذم كفعل القبيح لأن جهات استحقاق القبيح لا تختلف باختلاف الفاعلين على ما يقوله المجبرة من نسبتهم القبائح إلى الله تعالى ، مع نفيهم عنه استحقاق الذم. ومتى لم يراع (٧) هذا الأصل أدى الى الفساد.

__________________

(١) أ ، ب : الواجب.

(٢) أ ، ب : بأن.

(٣) ب ، ح : وجوبها.

(٤) ح : لأنه.

(٥) أداة الشرط ساقطة في الأصل.

(٦) ب ، ح : يتعالى عن ذلك.

(٧) ح : لم نراع.


وأما العقاب : فيستحق بما يستحق به الذم من فعل القبيح والاخلال بالواجب بشرط ان يكون فاعل القبيح ، والمخل بالواجب اختاره على ما فيه منفعته ومصلحته من فعل الواجب أو الاخلال بالقبيح.

واعتبرنا هذا الشرط لئلا يلزم ان يستحق القديم تعالى العقاب ان فرضناه فاعلا للقبيح أو مخلا بالواجب يتعالى الله عن ذلك.

ومن شرط من يستحق منه العقاب ان يكون عالما بقبح القبيح ، ووجوب الواجب ، أو متمكنا من العلم بذلك. لأنه مع كل واحد من الأمرين يمكنه التحرز منه ، «والعقل لا يدل عندنا على استحقاق العقاب» (١) وإنما نعلم ذلك سمعا ، واجمع المسلمون على ان القبيح يستحق به العقاب وإن اختلفوا في دوامه وانقطاعه.

وقال أكثر أهل العدل ان العقل (٢) دال على استحقاق فاعل القبيح والمخل (٣) بالواجب العقاب. قالوا : لأن الله تعالى أوجب علينا الواجبات على وجه يشق علينا مع إمكان تعريه من المشقة.

وعرضنا للمشقة للثواب العظيم ، ومجرد النفع لا يحسن له إيجاب الفعل ، وإنما يؤثر في إيجابه حصول الضرر في الاخلال به فيجب من ذلك ان يكون فاعل القبيح والمخل (٤) بالواجب مستحقا لضرر عليه وهو العقاب.

__________________

(١) الجملة ساقطة من أ ، ب.

(٢) أ : العدل.

(٣) في الأصل : الاخلال.

(٤) في الأصل : الاخلال.


وانما قلنا ان مجرد النفع لا يكفي في إيجاب الفعل لأن النوافل لا يحسن إيجابها وإن كان في فعلها ثواب لأنه لم يكن في الاخلال بها ضرر ، وكذلك المكاسب والتجارات لا يحسن إيجابها لمجرد النفع ويحسن ذلك إذا كان في تركها ضرر.

وهذا ليس بجيد ، لأن لقائل ان يقول : إنه يكفي في حسن الايجاب وجه وجوب الأفعال ، لأنه تعالى بالايجاب علمنا (١) وجوب الأفعال علينا ، وإنما تجب علينا لوجه وجوبها فالايجاب إنما حسن لهذه الوجوه بأعيانها فأما جعل الفعل (٢) شاقا فبازائه الثواب. والإيجاب إنما حسن لوجه الوجوب والنوافل إنما لم يحسن إيجابها لأنه ليس لها وجه وجوب كما ان للواجبات وجه وجوب معقول يجب لأجلها نحو كونها ردا للوديعة وقضاء للدين ، وما أشبه ذلك ، والتجارات مثل النوافل لا وجه لوجوبها فلذلك لم يحسن ايجابها ، والواحد منا وإن أوجب على غيره ما ليس له وجه وجوب نحو ان يهدده بالقتل إن لم يدفع ماله إليه فيجب عليه الدفع وإن لم يكن له وجه وجوب إنما كان كذلك لأنه لم تثبت حكمته ، والحكيم تعالى لا يحسن منه إيجاب ما ليس له وجه وجوب ، فبان الفرق بينهما.

فان قيل : لو لم يستحق العقاب لكان مغرى بالقبيح مع حصول شهوته وإنما ينزجر لمكان العقاب ، والذم لا ينزجر به العقلاء حتى

__________________

(١) ب ، ح : فعلمنا.

(٢) أ : الواجب.


يتركوا له المشتهيات العاجلة.

قلنا : يخرج من الاغراء بتجويزه استحقاق العقاب على فعل القبيح والاخلال بالواجب دون القطع عليه ، كما يخرج بالتجويز عن الاغراء في زمان مهلة النظر. لأنه لا طريق له هناك (١) إلى القطع على استحقاق العقاب.

وقيل أيضا : إنه يخرج عن الاغراء بفوت المنافع إذا فعل القبيح لأنه يعلم انه يفوته الثواب بفعل القبيح والاخلال بالواجب وفوت المنافع يجري مجرى حصول المضار في باب الزجر.

والمستحق للعقاب هو الله تعالى دون العباد ، لإجماع الأمة على ان الله هو المستحق ، مع انا بينا أن نفس استحقاق العقاب لا يعلم عقلا ، وكيف يعلم من المستحق له؟

ولو استحق بعضنا على بعض العقاب لكان ذلك عاما في العقلاء وكان يجب ان يستحق عقاب فاعل القبيح جميع العقلاء ، وكل من يمكن خلقه حتى لا يستقر على قدر ، وليس لأحد أن يقول : يختصر الاستحقاق بالمساء إليه وذلك ان العقاب إنما يستحق لكونه قبيحا كما يستحق الذم لذلك ، وإذا كان استحقاق الذم شائعا وجب ان يكون استحقاق العقاب شائعا وقد بينا فساده. على ان العقاب يستحق بما ليس بإساءة من القبائح كالجهل والعبث والكذب وغير ذلك فلا يمكن في ذلك الاختصاص.

__________________

(١) ح : الى هناك.


واعتماد المخالف في ذلك على ان ولى الدم يستحق القود وهو عقاب باطل ، لأن طريق ذلك الشرع ، واستيفاء الولي بمنزلة استيفاء الامام ، وإن لم يكن الامام مستحقا لعقابه بلا خلاف. ثم كيف يستحق الولي العقاب والجناية الى غيره؟ واسقاط ولي الدم حقه من القود لا يدل على أنه حقه ، لأن طريق ذلك أيضا السمع. وإذا قلنا ان استحقاق العقاب لا يعلم عقلا ، فأن لا يعلم دوامه أولى وأحرى. لان الدوام كيفية وإذا كان نفس الاستحقاق لا يعلم عقلا ، فكيفيته أولى بذلك.

ومتى حملوا العقاب على الذم في دوامه فالكلام عليه مثل الكلام على دوام الثواب حين حملوه على استحقاق المدح سواء وقد تكلمنا عليه والطريقة (١) واحدة.

ومتى قالوا : لو جاز انقطاع العقاب للحق المعاقب راحه إذا تصور ذلك كما (٢) قيل (٣) في الثواب إنه يتبعض على المثاب إذا تصور انقطاعه ، فانا (٤) نتكلم عليه عند الكلام في الاحباط إن شاء الله.

والمعاصي على ضربين : كفر وغير كفر. فالكفر يستحق به العقاب الدائم اجماعا لا خلاف بين الأمة فيه وما ليس بكفر ليس على دوامه دليل بل دل الدليل على انقطاعه على ما سنبينه إن شاء الله.

__________________

(١) ح : فالطريقة واحد.

(٢) سقطت من الأصل.

(٣) في ب ، ح : قالوا.

(٤) ح : وأنا.


فصل ـ ٢ ـ

الكلام في الاحباط (*)

ولا تحابط عندنا بين الطاعة والمعصية ، ولا بين المستحق عليهما من ثواب وعقاب. ومتى ثبت استحقاق الثواب فانه لا يزيله شيء من من الأشياء. والعقاب إذا ثبت استحقاقه فلا يزيله شيء من الأشياء عندنا إلا التفضل. ومن خالفنا يقول الثواب يزول بالندم على الطاعة ، وبعقوبة (١) كثيرة (٢) توفي على الثواب والعقاب يزول بالتفضل وبالندم الذي هو التوبة ، وبكبر (٣) الطاعة إذا زاد ثوابها على العقاب الحاصل.

والذي يدل على بطلان التحابط : إنه لا تنافي بين الطاعة والمعصية ، ولا بين المستحق عليهما من الثواب والعقاب ، ولا ما يجري مجرى (٤) التنافي ، والشيء ينافي غيره لتضاد بينهما أو ما يجري مجرى التضاد (٥).

__________________

(*) ليس في الأصل.

(١) في الأصل : بعقاب.

(٢) أ : كبيرة.

(٣) في الأصل : تكبر ، تكثر ، الصحيح ما اثبتناه.

(٤) في الأصل : مجراه.

(٥) أ : مجراه.


وإنما قلنا لا تضاد بين الطاعة والمعصية لأنهما من جنس واحد ، بل نفس ما يقع طاعة كان يجوز ان يقع معصية ، ألا ترى ان قعود الانسان في دار غيره غصبا معصية وهو من جنس قعوده فيها بإذنه ، وهو حسن مباح ، وهما جنس واحد. وكذلك لا تضاد بين المستحق عليهما لمثل ذلك بعينه ، لأن الثواب من جنس العقاب ، بل نفس ما يقع ثوابا كان يجوز ان يقع عقابا ، لأن الثواب هو النفع الواقع على بعض الوجوه ، ولا شيء يقع نفعا إلا وكان يجوز ان يقع ضررا وعقابا بأن يصادف نفارا ، ولو كان بينهما تضاد على تسليمه لما تنافى الثواب والعقاب وهما معدومان لأن الضد الحقيقي لا ينافي ضده في حال عدمه ، لأن السواد والبياض قد يجتمعان في العدم.

والتحابط عندهم في المستحقين من الثواب والعقاب ، وهما لا يكونان إلا وهما معدومان لأنهما إذا وجدا خرجا عن كونهما مستحقين. وإن شئت قلت : قد ثبت استحقاق الثواب على الطاعة فلا وجه يقتضي إزالته فيجب ان يكون ثابتا (١) على ما كان ، فان ادعوا ان بينهما تنافيا تكلمنا عليه فيما بعد. وأيضا فالقول بالإحباط يؤدي إلى ان من جمع بين الاحسان والإساءة ان يكون عند العقلاء بمنزلة من لم يحسن ولم يسيء إذا تساوى المستحقان من المدح والذم ، أو يكون بمنزلة من لم يحسن إن كان المستحق على الإساءة أكثر ، أو بمنزلة من لم يسيء إن كان المستحق على الطاعة أكثر والمعلوم خلافة.

__________________

(١) أ : باقيا. ب : بانيا.


وقولهم : ان من شأن الثواب ان يقارنه تعظيم وإجلال ومن شأن العقاب ان يقارنه استخفاف واهانة ومعلوم ضرورة استحالة تعظيم أحدنا لغيره مع استخفافه (١) به في حالة واحدة. وإذا كان الذم والمدح (٢) واحدا ، والمذموم والممدوح واحدا ، والوقت واحدا ، فاذا (٣) تعذر فعله تعذر استحقاقه ، لأن الاستحقاق تابع لصحة الفعل ، باطل. لأنا نخالف في استحالة ذلك فلا يمكن ادعاء الضرورة فيه. وإن ادعوا إنه معلوم بدليل فينبغي ان يذكروه.

ثم لا يخلو ما أدعوا تنافيه من المدح والذم ، والتعظيم والاستخفاف إما ان يريدوا ما يرجع إلى اللسان أو ما يعتقد بالقلب ، فان كان الأول فمعلوم إنه جائر لأنه لا يمتنع ان يمدح أحدنا غيره بلسانه على فعل ويذمه على فعل آخر بما يكتب بيده ، ولو خلق له لسانان لتأتى له ان يمدح بأحدهما ويذم بالآخر. فعلم إنه متى تعذر فلفقد آلة الكلام ، ولذلك لا يصح ان يمدح زيدا ويذم عمرا في حالة واحدة ، وإن جاز اجتماع ذلك في الاستحقاق لما قلنا من فقد الآلة.

وإن أرادوا ما يرجع إلى القلب (٤) ففيه الخلاف ، والمعلوم عندنا خلافة ، لأنا نجد من نفوسنا صحة اجتماع اعتقاد المدح على فعل مع استحقاقه الذم على فعل آخر ، ولا تعذر في ذلك. اللهم إلا ان يريدوا

__________________

(١) في الأصل : استحقاقه.

(٢) ح : المادح.

(٣) ح : وإذا.

(٤) أ : وان كان الثاني.


أنه لا يصح اجتماع لاستحقاقين على فعل واحد ووجه (١) واحد ، فيكون ذلك صحيحا ، لكنا لا نقول ذلك. وكلما يسأل على هذا ويفرع عليه ، فقد استوفيناه في شرح الجمل وهو مستقصى أيضا في مسئلة الوعيد (٢) للمرتضى رحمة الله عليه.

واعتمادهم أيضا على ان من حق الثواب والعقاب ان يكونا صافيين من كل شوب فلو استحقا في حالة واحدة وفعلا في حالة واحدة خرجا عن الصفة اللازمة لهما. وإن فعلا على البدل فمثل ذلك ، لأن ايهما قدم على الآخر فالمفعول (٣) به منتظر لوقوع الآخر وذلك يوجب نفي الخلوص ويقتضي الشوب.

لأنه ان كان في عقاب وعلم انقطاعه استراح إلى ذلك ، وإن كان في ثواب وتصور انقطاعه يتبعض عليه ، وإذا امتنع فعلهما امتنع استحقاقهما أيضا ، لأن أول (٤) ما نقوله أنا لا نعلم بالعقل ان من شرط الثواب أو العقاب ان يكون خالصا صافيا وإنما علمنا ذلك بالسمع ، وقد علمنا بالإجماع «انه لا يمتزج الثواب والعقاب ، وعلمنا بالإجماع» (٥) ان الثواب لا يتعقبه عقاب فأما العقاب فلا دلالة على انه لا يتلوه ثواب إلا في الكفار فانهم اجمعوا على أنه لا يتلو عقابهم ثواب وأما فساق

__________________

(١) ح : بوجه.

(٢) ..

(٣) أ ، ب : فالقول به.

(٤) أ ، ب : لأن ما يقول.

(٥) الجملة ساقطة من أ ، ب.


أهل الصلاة فليس على ذلك دلالة.

ثم ليس الأمر على ما قالوه من أنه اذا تلا العقاب الثواب يلزم (١) ان يلحقه راحة لأنه يجوز أن يلهيه الله عن ذلك ، ويشغله عن الفكر فيه لأن ما هو فيه من أليم العقاب وعظيم موقعه يشغل بعضه عن الفكر في العافية (٢) ، ولو علم انقطاعه لما اعتد بذلك مع ما هو فيه (٣) من أنواع العقاب وجرى ذلك مجرى ما يقوله من ان (٤) أهل النار يعرفون الله ضرورة ويسقط عنهم مشاق النظر لكن لا يعتد به ، وكذلك يعلمون حصول (٥) أولادهم وأعزائهم في الثواب وحصول اعدائهم في النار ومع ذلك لا يعتد بسرورهم في ذلك وكل شيء يقولون في ذلك فهو قولنا فيما قالوا بعينه. وقولهم : ما استحال فعله استحال استحقاقه ان أرادوا استحال استحقاقه على الوجه الذي يستحيل فعله كان صحيحا ، وانما يستحيل فعل الثواب والعقاب على وجه الجمع ، ونحن لا نقول ذلك ولا يستحقان كذلك وإن أرادوا ان ما يصح فعله على البدل يستحيل استحقاقه على الجمع فباطل ، لأنه يصح ان يكون القادر قادرا على الضدين وإن كان يستحيل فعلهما على الجمع وانما يصح فعل كل واحد منهما بدلا من صاحبه.

__________________

(١) ليس في الأصل.

(٢) ح : العاقبة.

(٣) ح : مع ما فيه.

(٤) سقطت من أ.

(٥) ليس في الأصل.


وليس لهم ان يقولوا كيف يكون معاقبا في حال هو فيها يستحق الثواب ، لأن ذلك ليس بأبعد من ان يكون مستحقا للثواب في حال هو مكلف وميت وتراب وفي القبر والى أن يحييه الله لأن الثواب يستحق عقيب الطاعة وإن تأخر إلى زمان الفعل بأوقات كثيرة.

وقولهم إنه معلوم ضرورة قبح الذم على الاساءة الصغيرة نحو كسر قلم لمن له احسان عظيم وانعام جليل نحو تخليص النفس من الهلاك والاغناء بعد الفقر والإعزاز بعد الذل ، ولم يقبح ذلك إلا لبطلانهما في جنب ذلك الإحسان بدلالة إنها لو انفردت عنه لحسن ذمه على كسر القلم وإذا ثبت ذلك في المدح والذم ثبت مثله في الثواب والعقاب غير مسلم لأن عندنا يجوز أن يذم بالإساءة الصغيرة وإن استحق المدح بالإحسان الكثير ، ألا ترى أنه لو يذم هذا المسيء بالإساءة الصغيرة على إحسانه الكثير لحسن ذمه على الإساءة الصغيرة ، فلو كان أحبط (١) لما حسن ذلك لأن ما انحبط (٢) لا يرجع عند المخالف. وإذا قالوا معلوم ضرورة ان حال هذا المسيء منفردا من الإحسان بخلاف حاله إذا قارنه الإحسان العظيم ، قلنا ذلك صحيح لأنه إذا انفرد بالإساءة استحق الذم لا غير وإذا جمع بينهما استحق المدح والذم فافترق الحالتان. على أنه يحسن ممن احسن إليه بعض الناس واساء إليه باساءة لا يظهر مزية احدهما على الأخرى ان يمدحه على احدهما ويذمه على الأخرى ، بان يقول احسنت إلى بكذا وكذا ويمدحه ويشكره ، ثم يقول لكنك

__________________

(١) ح : الحبط.

(٢) أ ، ب : ما احبط.


اسأت الي بكذا وكذا ويعنفه وينكته (١) وذلك يدل على اجتماع الاستحقاقين وإذا اجتمعا في بعض المواضع علم فساد القول بالإحباط وحمل عليه المواضع المشتبهة. على انا نعلم إنه يحسن فعل الثواب عقيب الطاعة ، ولا يدل ذلك على سقوطه ومتى قالوا ان ذلك لم يحسن لما قلنا ، وكذلك كثير استحقاق المدح مانع من استيفاء القليل من الذم وإن لم يسقطه ، وكذلك نعلم ان من كان (٢) له على غيره مائة الف دينار وله عليه ربع شعير (٣) لم يحسن منه ان يطالبه بالربع من الشعير مع كون المال العظيم عليه ولا أحد يقول ان ذلك يسقط. إلا ترى أنه لو وفاه ماله حسن منه ان يطالبه بالربع من الشعير ، فعلم إنه ثابت ، وكذلك لو كافاه (٤) هذا المحسن على احسانه وقام بشكره حق القيام حسن ان يذمه على كسر قلمه. فدل على انه لم يسقط.

وتعلقهم بالظواهر نحو قوله (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٥) وقوله (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٦) وقوله (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ

__________________

(١) أ : وينكسه.

(٢) أ : كانت.

(٣) أ ، ب : شعيرة ، وكذا الآتي.

(٤) أ ، ب : كافأ.

(٥) هود : ١١٤.

(٦) البقرة : ٢٦٤.


أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) (١) وقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢) ، لا يصح لأن الظواهر يجب ان تبنى على أدلة العقول ، وقد بينا بطلان التحابط فلو كانت لهذه الآيات ظواهر لوجب حملها على ما يطابق ذلك ، فكيف (٣) ولا ظاهر لشيء منها ، بل هي شاهدة لمذهبنا ، لأن الإحباط والبطلان في جميعها يتعلق بالأعمال دون المستحق عليها ، والمخالف يقول التحابط بين المستحق عليها.

ونحن يمكننا حملها على ظاهرها لأن معنى قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ان من استكثر من الحسنات دعاه ذلك إلى الامتناع من القبائح ، وكانت لطفا له وهذا يوافق الظاهر ، لا يحتاج معه إلى تقدير الجزاء فيه. وأما باقي الآيات فالوجه فيها ان نقول ابطال العمل واحباطه عبارة عن إيقاعه على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب ، ألا ترى ان أحدنا لو ضمن لغيره عوضا على نقل شيء من موضع إلى موضع بعينه (٤) فنقله إلى موضع غيره فانه لا يستحق الأجرة ، وجاز ان يقال أحبطت عملك وأبطلته لأنك أوقعته على خلاف الوجه المأمور به ولم توقعه على الوجه الذي تستحق عليه الأجرة وليس لأحد ان يقول : إنه (٥) يستحق أجرة فأبطلها ، بل المراد ما ذكرناه.

__________________

(١) الحجرات : ٢.

(٢) الزمر : ٦٥.

(٣) ح : وكيف.

(٤) أ ، ب : معين.

(٥) سقطت من أ ، ح.


ولما كانت الصدقة متى قصد بها وجه الله استحق بها الثواب ، ومتى فعلها لوجه المن والأذى لم يستحق جاز ان يقال إنه أبطلها ، وكذلك من رفع صوته اجابة للنبي (ص) ومسارعة إلى أجابته استحق به الثواب ، ومتى رفعه استخفافا به وغضاضة جاز ان يقال انك أبطلته وكذلك من عبد الله مخلصا استحق الثواب فمتى أضاف الى ذلك عبادة غيره جاز ان يقال أبطلت عملك ، فبان بجميع ذلك إنه لا متعلق للقوم في الآيات في صحة التحابط.

والعقاب متى استحق فانه يحسن التفضل (١) باسقاطه من غير توبة يدل على ذلك أنه قد ثبت تأويل العقول حسن الإحسان وإيصال المنافع إلى الغير ومن أحسن الاحسان إسقاط المضار المستحقة بل ربما كان إسقاط المضرة أعظم من إيصال المنفعة فدفع (٢) حسن أحدهما كدفع الآخر.

وأيضا : فقد ثبت ان العقاب حق لله تعالى إليه قبضه واستيفاؤه ، لا يتعلق باسقاطه إسقاط حق لغيره منفصل عنه ، فوجب ان يسقط باسقاطه كالدين ، فانه يسقط باسقاط صاحبه لاختصاصه بهذه الأوصاف. وإنما قلنا حق الله لئلا يلزم حق عليه من الثواب والعوض ، وقلنا إليه قبضه واستيفاؤه لأن كل حق ليس لصاحبه قبضه ليس له إسقاطه كالطفل والمجنون لما لم يكن لهما استيفاؤه لم يكن لهما إسقاطه. والواحد

__________________

(١) ح : الفضل.

(٢) في الأصل : فدافع.


منا لما لم يكن له استيفاء ثوابه وعوضه في الآخرة لم يسقطا (١) باسقاطه فعلم بذلك ان الإسقاط تابع للاستيفاء فمن لم يملك أحدهما لم يملك الآخر.

وقلنا لا يتعلق باسقاطه إسقاط حق لغيره منفصل عنه (٢) احترازا من سقوط الذم المستحق على القبيح (٣) لقبحه باسقاطنا (٤) ، لأن هذا الذم تابع للعقاب فلا يجوز زواله مع ثبوت (٥) العقاب ، فلو سقط باسقاطنا لسقط العقاب وهو حق لغيرنا. وراعينا الانفصال لأن الذم يسقط باسقاط العقاب لأنه تابع له فهو كالحقوق المتعلقة بالدين من (٦) الأجل والخيار وغيرهما عند سقوط الدين.

ولا يسقط العقاب باسقاط الذم لأن العقاب ليس بتابع للذم. على ان الذم ليس بحق خالص لنا بل هو حق علينا لما فيه من المصلحة في الدين ونحن متعبدون به ، ولأنه يردع المفعول به عن القبيح فكأنه حق له فلم يخلص كونه حقا لنا. وإن (٧) اختصرت ذلك فقلت العقاب حق لله إليه قبضه واستيفاؤه يتعلق (٨) باستيفائه ضرر فوجب ان يسقط باسقاطه

__________________

(١) أ ، ب : يسقط.

(٢) ح : منه.

(٣) ح : القبح.

(٤) أ ، ب : لإسقاطنا.

(٥) ح : شوب.

(٦) أ ، ب : مع.

(٧) ح : فان.

(٨) كذا في الأصل. والصحيح ولا يتعلق.


كالدين ولا يلزم على ذلك الثواب والعوض والمدح والشكر لأنه لا ضرر في جميع ذلك باستيفائه ، ولا يلزم الذم (١) لأنه ليس بضرر حقيقي ولأنه حق للفاعل والمفعول به على ما مضى بيانه. فان قيل : لم لا يجوز ان يكون فيه وجه من وجوه القبح فلا يحسن باسقاطه؟ قلنا : وجوه القبح معقولة ، أما (٢) الظلم أو الكذب أو العبث أو المفسدة أو الأغراء بالقبيح ، وكل ذلك منتف هاهنا فوجب ان يكون حسنا.

وإنما قلنا إنه ليس بمفسدة ولا اغراء بقبيح لأن العفو إنما يقع في الآخرة ولا تكليف هناك ولا مفسدة فيه. وليس لأحد ان يقول في الأطماع به اغراء وذلك إن هذا باطل لأن في المكلفين من إذا ارتفع طمعه في العفو كان أقرب الى ارتكاب القبائح وفيهم من يكون بخلافه والأحوال مختلفة ومتى قالوا إنه متى طمع خرج من كونه مزجورا قيل : هذا لا يجوز لأن الزجر حاصل بتجويز عقابه ، وكيف (٣) لا يكون مزجورا ولو أخرجه ذلك عن كونه مزجورا لكان في زمان مهلة النظر وتجويزه أن لا يستحق العقاب أصلا مغرى بالقبيح (٤) ، ولا يكون مزجورا والمعلوم خلافه.

ويلزم ان يكون غير (٥) مزجور إذا طمع في العفو بالتوبة (٦)

__________________

(١) سقطت من ح.

(٢) أ ، ب : كالظلم ، والكذب والعبث والمفسدة.

(٣) أ ، ب : فكيف.

(٤) ب ، ح : بالقبائح.

(٥) سقطت من أ ، ب.

(٦) ح : الى التوبة.


وكل ذلك باطل.

فاذا ثبت ان العقاب يسقط بالعفو ، فالعفو ان يقول : قد (١) اسقطت عقاب زيد وسمحت بعقابه. فيسقط ، وتقبح مؤاخذته بعد ذلك ويجرى مجرى المطالبة بالدين بعد الابراء والاسقاط.

فأما التوبة فانها يسقط العقاب عندها تفضلا من الله تعالى واجمع المسلمون على سقوط العقاب عند التوبة ، ولو لا السمع لما علمنا ذلك.

وإنما يعلم بالعقل ان التوبة يستحق بها الثواب. «لأنها طاعة والطاعة يستحق بها الثواب» (٢).

وإنما قلنا إنها لا تسقط العقاب عقلا لأنها لو اسقطت لم يخل ان يسقط لكثرة (٣) المستحق عليها من الثواب أو لوجه آخر ، فان كان الأول فقد افسدناه من حيث أفسدنا القول بالإحباط وإن كان إسقاطها من حيث كانت بذلا (٤) للمجهود على ما يقولونه فما الدليل على ذلك لأنا لا نسلم.

ومتى حملوا التوبة على الاعتذار وأن الاعتذار يقبح معه المؤاخذة ، فنحن نخالف في الاعتذار كما نخالف في التوبة.

ومتى قيل لو لم يسقط العقاب لقبح تكليف الفاسق المستحق للعقاب لأن التكليف إنما يحسن تعريضنا ، والفاسق مع استحقاقه للعقاب

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.

(٣) ب ، ح : بكثرة.

(٤) ب ، ح : بدلا.


لا يجوز ان يستحق الثواب ، فيجب (١) ان يكون له طريق إلى إسقاط عقابه لينتفع بالثواب الذي عرض له ، وليس ذلك إلا التوبة. وإذا فعلها اجتمع له الاستحقاقان معا ، والعقل غير مانع منه ، وقد بيناه فيما مضى ، ولو صح لكم أنهما لا يجتمعان لصح ما قلتم. ولو صح لكم في التوبة فلا ينبغي ان يبنى الشيء على نفسه. ولو سلمنا إنه لا بد ان يكون له طريق إلى الانتفاع بما كلف فعله فقد فعل الله له ذلك بان بين بالسمع أنه يعفو عند التوبة فمن أين ان ذلك بحكم العقل.

ولو خلينا والعقل لما أوجبنا التوبة لكن لما اجتمعت الأمة على وجوب التوبة قلنا بوجوبها ، وعلمنا ان لنا فيها مصلحة ، ولو لا السمع لما علمناه.

فاذا ثبت ان بالسمع يعلم زوال العقاب عند التوبة فيجب ان نقول التوبة التي يسقط العقاب (٢) بها ما اجمعت (٣) الأمة على سقوط العقاب عندها دون المختلف فيه ، والذي اجمعت عليه هو انه إذا ندم على القبيح لكونه قبيحا وعزم على ان لا يعود إلى مثله في القبح فانه لا خلاف بين الأمة ان هذه التوبة تسقط العقاب عندها وأما غيرها ففيه الخلاف لأن التوبة من القبيح لوجه (٤) القبح أو عظيم (٥)

__________________

(١) في الأصل : فيجب له.

(٢) أ ، ب : بها العقاب.

(٣) ب : اجتمعت.

(٤) أ ، ب : لوجوه.

(٥) ح : عظم.


المستحق عليه من العقاب فيه خلاف بين الأمة والخلاف في ذلك فرع على وجوب سقوط العقاب عنها عقلا وقد بينا ما في ذلك. فأما من جمع بين الايمان والفسق فأنا لا نقطع على عقابه بل يجوز العفو عنه وإن يسقط الله عقابه تفضلا ، وإنما فلنا ذلك لأنا دللنا على حسن العفو عنه من حيث عدمنا الدليل المانع منه وليس في السمع ما يمنع أيضا منه لأنا سبرنا أدلة السمع أيضا فلم نجد فيها ما يمنع منه فيجب ان يكون التجويز (١) باقيا على ما علمناه بالعقل.

ولا يلزم على ذلك الشك في عقاب الكفار لأن السمع منع منه ، والمسلمون أجمعوا على ان الكفار معاقبون لا محالة ومعلوم ذلك من دينه (ص) فلذلك قلنا به.

فصل ـ ٣ ـ (*)

الكلام في الشفاعة

وأيضا فلا خلاف بين الأمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة وإنه يشفع والشفاعة حقيقتها في إسقاط المضار المستحقة فوجب من ذلك القطع على جواز العفو عن مستحق العقاب من أهل الضلالة (٣) ، بل على وقوع ذلك بجماعة غير معينين ، من حيث علمنا وقوع شفاعته وإنها حقيقة في اسقاط المضار دون زيادة المنافع.

__________________

(*) ليس في الأصل.

(١) أ ، ب : التجوز.

(٢) ح : الصلاة.


والذي يدل على أن (١) حقيقتها ما قلناه ، أنها لو كانت حقيقة في زيادة المنافع لكان الواحد منا إذا سأل الله تعالى أن يزيد في كرامات (٢) النبي (ص) ورفع درجاته ان يكون شافعا فيه واحد من المسلمين لا يطلق ذلك لا لفظا ولا معنى.

وليس لأحد ان يقول إنما لم يطلق ذلك لأن الشفاعة يراعى فيها الرتبة كما يعتبر في الأمر والنهي وذلك ان الخطاب على ضربين : أحدهما : تعتبر فيه الرتبة والآخر لا تعتبر فيه. فما تعتبر فيه الرتبة بين (٣) المخاطب والمخاطب دون ما يتعلق به الخطاب لأن الواحد منا يقول لغلامه الق الأمير والق الحارس ، ويكون آمرا في الحالين. وإن كان من يتعلق به الأمر أحدهما عالي الرتبة والآخر دني الرتبة.

وكذلك لو اعتبر في الشفاعة الرتبة لوجب اعتبارها بين السائل والمسئول دون من تناوله الشفاعة.

وليس لهم أيضا ان يقولوا إنما لم يطلق ذلك لأنا لا نعلم ان سؤالنا فيه مجاب على كل حال وذلك ان هذا باطل. لقولهم (٤) شفاعة مقبولة وشفاعة مردودة فيسمونها شفاعة سواء قبلت أو ردت. وأيضا فكل خطاب تعتبر فيه الرتبة لا يدخل بين الإنسان وبين نفسه ، كالأمر والنهي ، ويصح ان يكون الإنسان شافعا لنفسه كما قال الشاعر :

__________________

(١) ليس في الأصل.

(٢) ح : كمالات.

(٣) ب ، أ : تعتبر بين.

(٤) ب ، ح : بقولهم.


«فهلا نفس ليلى شفيعها»

وإنما يدخل بين الإنسان وبين نفسه ما لا تعتبر فيه الرتبة أصلا. ولذلك قال النبي (ص) حين قال لبريرة : «صالحي زوجك وارجعي إليه. فقالت له أتأمرني يا رسول الله فقال لا وانما أنا شافع». فبين أنه شافع الى بريرة وإن كانت دونه فدل على ان الشفاعة لا تعتبر فيها الرتبة أصلا.

وأما تناولها لإسقاط المضار فلا خلاف إنها حقيقة في ذلك ، ولو سلمنا انها حقيقة من الأمرين لخصصناها باسقاط الضرر ، لقوله (ص) «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وفي خبر آخر «أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وهذا خبر تلقته الأمة فلا يمكن ان يقال أنه خبن واحد.

وليس لهم ان يحملوا الخبر على زيادة المنافع لمن (١) تاب لأمرين أحدهما : إنا بينا ان حقيقة الشفاعة في اسقاط المضار. الثاني : إنه لا يخلو ان يشفع فيهم قبل (٢) التوبة فلا يمكن الانتفاع بالمنافع مع انهم في النار ، وإن كان بعد التوبة فلا يسمون أهل الكبائر كما لا يسمى من تاب من كفره كافرا ، فعلم ان المراد ما قلناه من (٣) اسقاط الضرر.

__________________

(١) أ : إن تاب.

(٢) في الأصل : بعد التوبة.

(٣) ب ، ح : في.


ولا يعارض ذلك قوله (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١) وقوله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٢) وقوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٣) وقوله (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٤). من وجوه :

أحدها : ان العموم لا صيغة له على مذهب كثير من أصحابنا فمن أين انه أراد العموم دون الخصوص والكلام في ذلك مذكور في مواضع كثيرة لا نطول بذكره هاهنا.

فعلى هذا تكون الآيات مختصة بالكفار ، وقد سمى الله تعالى للشرك ظلما بقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٥) على إنه نفى في الآية الأولى شفيعا مطاعا ، ونحن لا نقول بذلك ، ولم ينف شفيعا مجازا ولا يمكن الوقف (٦) على قوله (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) لأن ذلك خلاف جميع القراء.

ثم لا يمكن الابتداء (٧) بقوله «يطاع» لأن الفعل لا يدخل على الفعل ، وبعده قوله يعلم ، وإن قدر يطاع الذي يعلم كان ذلك تركا للظاهر ، وعلى ما قلناه لا نحتاج إلى تقدير (٨).

__________________

(١) غافر : ١٨.

(٢) البقرة : ٢٧٠.

(٣) الأنبياء : ٢٨.

(٤) البقرة : ٢٨.

(٥) لقمان : ١٣.

(٦) ب : التوقف.

(٧) ب ، ح : البدأة.

(٨) ب ، ح : تقديره.


والآية الثانية إنما نفى فيها ان يكون للظالمين أنصار ، والنصرة غير الشفاعة. لأن النصرة هي الدفع عن غيره على وجه الغلبة والشفاعة هي مسئلة (١) يقترن بها خضوع وخشوع.

وقوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) فمعناه ارتضى ان يشفع فيه. ونظيره قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢). وقوله (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٣) وليس هذا تركا للظاهر لأن المرتضى محذوف بلا خلاف. فهم يقدرون إلا لمن ارتضى أفعاله ، ونحن نقدر إلا لمن ارتضى ان يشفع فيه ، فاستوى التقديران. وسقطت المعارضة بها. على ان الفاسق الملي (٤) يجوز ان يكون مرتضى (٥) بمعنى ارتضى إيمانه ، وكثيرا من طاعاته ، كما يقال هذا البناء مرتضى عندي. يريدون في البناء دون غيره من أفعاله.

وقوله (لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) متروك الظاهر ، لأن عند الجميع هاهنا شفاعة نافعة مقبولة ، فان منعوا من نفعها في اسقاط الضرر منعنا من نفعها في زيادة المنافع. أو نقول لا تقبل الشفاعة ، ولا تنفع الشفاعة للنفس الكافرة. فأما حسن رغبتنا في ان يجعلنا الله تعالى من أهل

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) البقرة : ٥٥.

(٣) النجم : ٢٦.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) سقطت من أ ، ب.


شفاعة النبي (ص) فهو كرغبتنا في ان يجعلنا من التوابين والمستغفرين ، فكما لا تكون الرغبة في التوبة والاستغفار رغبة في الكبائر فكذلك الرغبة في الشفاعة لا تكون رغبه في الكبائر ولا فرق بينهما. والوجه (١) في الأمرين هو الرغبة في الشفاعة والتوبة والاستغفار ، ان اتفق منا أو وقع ما يحتاج معه إلى التوبة والشفاعة وذلك جائز مشروط.

ومتى قالوا السمع منع من جواز العفو في آي كثير من القرآن نحو قوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٢) وقوله (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (٣) وقوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٤) وقوله (إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (٥) وما أشبه ذلك من الآيات.

وقلنا : في ذلك ثلاثة أوجه من الكلام.

أحدها : ان نبين ان العموم لا صيغة له ، بل الظاهر إنه (٦) يحتمل الخصوص والعموم. فاذا احتمل ذلك جاز ان يراد بها الكفار دون فساق أهل الصلاة ، والكلام في ذلك ذكرناه في شرح الجمل وغير ذلك ، فلا نطول بذكره هاهنا.

__________________

(١) أ ، ب : والفرق.

(٢) النساء : ١٤.

(٣) الفرقان : ١٩.

(٤) النساء : ١٢٣.

(٥) الانفطار : ١٤.

(٦) سقطت من ح.


والثاني : ان تعارض هذه الآيات بآيات مثلها ، تتضمن القطع على الغفران. كقوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٢) وقوله (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣) وغير ذلك.

وثالثها : ان نبين أن الآيات متروكة الظاهر. وإنهم «شرطوا فيها كثر المعصية وعدم التوبة ، فاذا» (٤) شرطوا هذين الشرطين شرطنا ثالثا (٥). وهو من لا يعفو عنه ابتداء أو بالشفاعة ويسلم باقي عمومها. ووجه المعارضة بقوله «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك» أنه تعالى لم ينف غفران الشرك على كل حال ، بل نفي ان يغفره تفضلا ، فكأنه قال لا يغفر ان يشرك به تفضلا بل استحقاقا ، فيجب ان يكون المراد بقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، أي يغفره بغير استحقاق بل تفضلا ، لأن موقع الكلام الذي يدخله النفي والاثبات وينضم (٦) إليه التعظيم والدون ان يخالف الثاني الأول. ألا ترى انه لا يحسن ان يقول القائل أنا لا أركب إلى الأمير

__________________

(١) النساء : ٤٨.

(٢) الرعد : ٦.

(٣) الزمر : ٥٣.

(٤) الجملة ساقطة من أ ، ب.

(٥) ب : شرطا ثالثا.

(٦) ح : ويتضمن.


إلا اذا ركب إلى (١). وأركب الى من دونه وإن لم يركب الي. وكذلك إذا قال : لا اتفضل بالكثير من مالي واعطي اليسير اذا استحق عليّ ، وانما يحسن ان يقول واعطي اليسير تفضلا من غير استحقاق.

على ان قوله : ويغفر ما دون ذلك يقتضي عمومه انه يغفر كل ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا تاب منه أو لم يتب لأن عموم «ما» يقتضي ذلك على مذهبهم. وليس لهم أن يخصوا عموم هذه الآية لتسلم عموم آياتهم ، لأنا نعكس ذلك فنخص عموم آيات الوعيد بالكفار لتسلم آيات العفو.

والمشيئة إنما دخلت في الآية في اعيان المغفور لهم دون الغفران ، وإنما كانت تكون في الغفران لو قال : يغفر ما دون ذلك ان شاء والأمر بخلافه. ونحن لا نقطع على انه يغفر لكل أحد بل ذلك متعلق (٢) بمشيئته. على انه تعالى علق الغفران في الآية بالمشيئة وظاهر ذلك انه تفضلا لأن الواجب لا يتعلق بالمشيئة لأنه لا يجوز ان يقول القائل أنا أرد الوديعة ان شئت ويجوز ان يقول أنا اتفضل إن شئت.

والآية الثانية الوجه فيها إنه تعالى أخبر أنه يغفر الذنوب على ظلمهم ومعناه في حال كونهم ظالمين ويجري ذلك مجرى قولهم لقيت فلانا على أكله وأوده على عذره (٣). ومتى شرطوا فيها التوبة كان ذلك

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) أ ، ب : يتعلق.

(٣) في ألعلها : غدره.


تركا للظاهر.

والآية الثالثة تقتضي أنه يغفر جميع الذنوب إلا ما أخرجه الدليل من الكفر ، والتوبة ليس لها ذكر في الآية فمن شرطها فقد ترك الظاهر.

وقوله (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (١) كلام مستأنف لا يجب ان يشرط ذلك في الآية الأولى لأن عطف المشروط على المطلق لا يقتضي أن يصير مشروطا.

وأما الطريقة الثانية : فهي ان يقال : انما شرطتم التوبة وكبر المعصية لأن التوبة تسقط العقاب.

وعظيم (٢) الطاعة أيضا يسقط صغير المعصية ، فما اقتضى هذين الشرطين اقتضى شرط العفو ، وكلامنا مع من يحسن العفو عقلا. فأما من منع منه وقال لا يحسن العفو عقلا ، فقد مضى الكلام عليه.

وإذا كان العفو جائزا عقلا مسقطا للعقاب وجب ان يشرط (٣) أيضا كما شرطنا (٤) الشرطين الآخرين.

وليس لهم ان يقولوا : العقل يقتضي إسقاط العقاب بالتوبة وزيادة الثواب وليس في العقل ما يدل على حصول العفو وذلك ان العقل كما اقتضى سقوط العقاب بالثواب وزيادة الثواب كذلك يقتضي سقوطه

__________________

(١) الزمر : ٥٤.

(٢) ح : عظم.

(٣) ب : يشترط. وفي أ : يشترط فيه.

(٤) أ : شرطنا في.


عند العفو ، وكما يجوز أن يعفو مالك العقاب ويجوز «ان لا يعفو فكذلك يجوز أن يختار العاصي التوبة ويجوز» (١) ان لا يختارها ، وكذلك القول في عظم الطاعة ، فينبغي ان يقابل بين وقوع التوبة ووقوع العفو وبين الجواب في حصولها وحصول العفو فانهما سواء لا ترجيح لأحدهما على الآخر.

ومتى قالوا : عموم الآيات (٢) تدل على انه تعالى لا يختار العفو. قلنا : هلا منع ذلك من اختيار العاصي التوبة المسقطة للعقاب أو عظيم الطاعة. لأنكم إنما تمنعون بالظاهر اختيار العفو ليسلم وقوع العقاب ، وهذا بعينه قائم في التوبة وزيادة الثواب فينبغي ان يقولوا الظواهر تمنع من وقوعها ، وقد فرغنا مما يسأل (٣) على ذلك في شرح الجمل ، وفيما قلناه هاهنا كفاية إنشاء الله.

فان قيل : القول بجواز العفو يؤدي إلى ان لا يقام حد لا في السرقة ولا في الزنا على أحد على (٤) وجه العقوبة ، وذلك ينافي قوله (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) (٥) وقوله (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦) فبين أنه عذاب ونكال ، ولو كان عقابا

__________________

(١) الجملة ساقطة من ح.

(٢) ب ، ح : آيات.

(٣) ب ، ح : يسل.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) المائدة : ٣٨.

(٦) النور : ٣٨.


لبطل ذلك.

قلنا : لا يقطع أحد من السراق نكالا على وجه القطع والثبات ، بل إنما نقطعه شرط كونه مستحقا للعقاب ، ومتى فرضنا العفو عنه قطعناه امتحانا. ولا بد لكل أحد من ذلك لأن شروط استحقاق العقاب ليست معلومة بالظاهر لأنه يحتاج ان يكون السارق عاقلا والشبهة مرتفعة ، وأن (١) يكون ثابتا فيما بينه وبين الله تعالى ، وان يكون الشهود صادقين ، أو اقراره صحيحا لأنه متى لم يحصل له ذلك أو بعضه فانما يقطعه امتحانا. وكذلك إذا فرضنا (٢) حصول العفو فانما نقطعه امتحانا.

ومتى فرضنا حصول جميع الشرائط وارتفاع العفو قطعناه عقوبة فلا بد من الشرط. ولا يمكن القطع على اقامة الحد عقوبة على القطع والثبات إلا في الكفار ، وعلى ما بيناه من بطلان التحابط من كفر (٣) بعد إيمانه فانه يدل على ان ما كان اظهره لم يكن ايمانا لأنه لو كان إيمانا لاستحق (٤) عليه الثواب الدائم ، وإذا كفر استحق على كفره العقاب الدائم بالإجماع ، وكان يجتمع الاستحقاقان وذلك خلاف الإجماع.

فاذن (٥) علم بذلك ان ما أظهره لم يكن ايمانا.

__________________

(١) ب ، ح : ولا أن. وفي أ : ولان.

(٢) زاد في أ ، ب : كون.

(٣) في الأصل : كفره.

(٤) ب ، ح : لا يستحق.

(٥) في الأصل : فاذا.


ولا يمكن ان يقال : لم لا يجوز ان يقال ان ما اظهره من الكفر لم يكن كفرا ليسلم له الإيمان لأن اظهار الإيمان ليس بايمان بلا خلاف. وفي أصحابنا من أجاز ان يكفر المؤمن كفرا لا يوافى به ، وهذا ليس بصحيح لأن هذا يؤدي الى تجويز ان يكون من الكفار المرتدين من يستحق نهاية التعظيم والتبجيل بما كان اظهره من الإيمان وذلك خلاف الاجماع.

فاذن الصحيح ان المؤمن لا يكفر أصلا لا كفرا يوافى به ولا كفرا لا يوافى به فأما الكافر فأنه يجوز أن يؤمن لأن الايمان يسقط عقاب الكفر اجماعا سواء قلنا انه دائم أو منقطع. ولا يحتاج ان يقسم بان يقول الكفر الذي يوافى به يستحق عليه العقاب المنقطع (١) لأن مع حصول الإجماع على سقوط عقابه بالايمان والتوبة من الكفر لا يحتاج إلى ذلك.

فاذا ثبت ذلك فقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) (٢) معناه : ان الذين اظهروا الإيمان ثم كفروا ، وجاز ان يسمى من أظهر الإيمان مؤمنا كما قال (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) (٣) يعني من أظهر الايمان منهن ، وقوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (٤) يعني على الظاهر. فعلى هذا من أظهر «الكفر أو الفسق مختارا بلا تقية ولا أمر يحتمل التأويل

__________________

(١) ح : الدائم المنقطع.

(٢) النساء : ١٣٧ ،

(٣) الممتحنة : ١٠.

(٤) النساء : ٩٢.


قطعنا على كونه كافرا فاسقا ، وليس كذلك من أظهر» (١) الايمان أو الطاعة لأنه (٢) يجوز ان يكون باطنه (٣) بخلافه.

وإذا ثبت ذلك فكل من كان مظهرا للكفر قطعنا على ثبوت عقابه وإن كان فاسقا مصرا قطعنا على ارتفاع التوبة عنه وجوزنا ان يكون الله تعالى أسقط عقابه تفضلا وإن لم نقطع به ونذمه عليه بشرط عدم العفو. ومتى غاب عنا من قطعنا على عقابه وذمه من الكفار فأنا نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو. «ومن غاب من الفساق نذمه بشرط عدم التوبة وعدم العفو» (٤).

ونشترط (٥) الأمرين في خبره. وليس هاهنا من يقطع على ثبوت ثوابه بإظهار الايمان والطاعة إلا من دل الدليل على عصمته وآمنا فعل القبيح والاخلال بالواجب من جهته.

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.

(٢) أ : أنه.

(٣) ب ، ح : في باطنه.

(٤) الجملة بطولها سقطت من أ ، ب.

(٥) أ ، ب : وبشرط.


فصل ـ ٤ ـ

في ذكر احكام المكلف (١) في القبر والموقف والحساب

وغير ذلك مما يتعلق بالوعيد

اجمعت الأمة على عذاب القبر لا يختلفون فيه. وما يحكى عن ضرار ابن عمرو (٢) من الخلاف فيه لا يعتد به ، لأنه سبقه (٣) الاجماع وقد تأخر عنه.

واختلفوا (٤) في وقت عذاب القبر ، فقال جمهور الأمة من أصحاب الحديث انه حين الدفن ، وقال قوم يجوز ان يكون قرب قيام الساعة. والظواهر لا يمكن الاستدلال بها على ثبوت عذاب القبر لأنها محتملة (٥). نحو قوله (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٦) وغير ذلك. وقد بينا القول فيها في شرح الجمل.

وأنكر قدم عذاب القبر ، فقالوا هو محال. ومنهم من قال هو

__________________

(١) أ ، ب : المكلفين.

(٢) من الطبقة الأولى من مشايخ المعتزلة وإليه تنسب فرقة الضرارية.

(٣) أ : ينفيه.

(٤) ب : وان اختلفوا.

(٥) كذا في الاصل ولعلها : بجملة.

(٦) غافر : ١١.


قبيح. وقولهما يبطل بحصول الاجماع على ثبوته ، وانه واقع وذلك يدل على جوازه وحسنه.

وأيضا فالميت إذا أعيد حيا جاز ان يعاقب فلا وجه لأحالته. فأما من أحاله فربما (١) طن انه يعاقب وهو ميت وهذا لا يقوله أحد.

وأما ضيق القبر عن العقاب فانه يجوز ان يوسعه الله تعالى حتى يمكن ذلك وإن كان المتولي لذلك الملائكة فلا يحتاجون الى سعة موضع. وإذا كان العقاب مستحقا فانه يجوز أن يكون في تقديم بعضه مصلحة للمكلفين من البشر والملائكة فتقدم منه بعضه في الدنيا كالحدود وبعضه في القبر لما في الأخبار به من المصلحة في دار التكليف.

ومتى قالوا : لا حال ينبش فيها الميت إلا ويوجد على ما هو عليه. فأما (٢) من قال ليس لعذاب القبر وقت فلا يلزمه ذلك. ومن قال هو عقيب الدفن يقول : لا يمتنع ان لا يعقل إذا أرنا نبش القبر لما فيه من المصلحة.

ومتى قيل : لو عوقب لوجب ان يكون عاقلا قادرا على الكلام فكان يسمع كلامه.

قلنا : كمال العقل لا بد منه ، ولا (٣) يجب ان يكون قادرا على الكلام أما بأن لا يكون فيه قدره أصلا أو يكون ممنوعا منه.

__________________

(١) ح : ربما.

(٢) في الأصل : وأما. والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : فلا يجب.


وأما الملكان النازلان عليه فانما سميا منكرا ونكيرا اشتقاقا من استنكار المعاقب لفعلهما أو نفوره عنهما وليس بمشتق من الإنكار. وأما المحاسبة والمسائلة في الموقف ، وان كان الله عالما بأحوالهم لأنه عالم لنفسه ، لا يمتنع ان يكون في تقديمه غرض. لأن بالمحاسبة والمسائلة وشهادة الجوارح ظهور الفرق بين أهل الجنة والنار ، وتمييز بعضهم عن (١) بعض. فيبشر بذلك اهل الجنة ، ويكثر بذلك نفعهم ، ويكون لنا في (٢) العلم به مصلحة في دار التكليف. والاجماع حاصل على المحاسبة. والقرآن يشهد به لقوله (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٣) وكذلك شهادة الجوارح ونشر الصحف مجمع عليه ، والقرآن شاهد ، لكن المسائلة وان كانت عامة فهي على المؤمنين سهلة وعلى الكافرين صعبة لما فيها من التبكيت (٤) والمناقشة.

وأما كيفية شهادة الجوارح : فقال قوم ينشئها الله بينة حتى تشهد (٥). وقيل ان الله تعالى يفعل فيها الشهادة. واضافتها (٦) الى الجوارح مجازا. وكلا الأمرين مجاز. وقيل : ان الشاهد هو العاصي نفسه يشهد على نفسه بما فعله ويقر به ويكون ذلك حقيقة.

__________________

(١) ح : من.

(٢) أ ، ب : بالعلم.

(٣) الأنبياء : ٤٧.

(٤) الكلمة في الأصل مشوشة.

(٥) ح : هي ويشهد.

(٦) ح : وأضافها.


وقيل انه تظهر منها (١) أمارة تدل على الفرق بين العاصي والمطيع وكل ذلك جائز.

وأما (٢) الميزان : فقال قوم انه عبارة عن العدل والتسوية والقسمة الصحيحة كما يقولون كلام فلان موزون وأفعاله موزونة. وهذا وجه حسن يليق بفصاحة الكلام. وقال قوم المراد به الميزان ذو الكفتين وإن الأعمال وإن لم يصح وزنها فالصحف التي فيها هذه الأعمال يصح وزنها وقيل إنه يجعل النور في إحدى الكفتين والظلمة في الأخرى ويكون لنا في الأخبار عن ذلك مصلحة في التكليف.

وأما الصراط : فقال قوم انه طريق أهل الجنة والنار. وانه يتسع (٣) لأهل الجنة ، ويتسهل لهم سلوكه ويضيق على أهل النار ويشق عليهم سلوكه. وقال آخرون المراد به الحجج والأدلة المفرقة بين أهل الجنة والنار المميزة بينهم.

فأما أهل الآخرة فالتكليف عن جميعهم زائل مثابين كانوا أو معاقبين ، وإنما كان كذلك لأنهم لو كانوا مكلفين لجاز منهم وقوع التوبة فيسقط عقابهم وذلك يمنع منه الإجماع ويمنع أيضا من استحقاق ثواب أو عقاب لإجماعهم على إنه ليس بدار استحقاق ولأن من شأن الثواب أن يكون خالصا صافيا من أنواع الشوب والكدر ، والتكليف ينافي ذلك.

__________________

(١) ح : فيها.

(٢) ح : فاما.

(٣) ب ، ح : يتسهل.


فعلى هذا قوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا) صورته صورة الأمر والمراد به الإباحة المحضة. وقال قوم إنه أمر لا يزيد (١) في سرورهم إذا علموا ان الله يريد منهم ذلك إلا انهم لا يختلفون ان ذلك ليس على وجه التكليف ، وإنه لا مشقة عليهم في ذلك. وأما شكرهم لنعم الله تعالى فما (٢) يرجع إلى الاعتقاد فهم مضطرون إليه ، لأن معارفهم ضرورية فهي خارجة عن التكليف. وما يرجع إلى اللسان فيجوز أن يكون لأهل الجنة فيه سرور.

ومعارف أهل الآخرة ضرورة. وهم ملجئون إلى ان لا يفعلوا القبيح. ولا بدّ ان يعرفوا الله تعالى لأن المثاب لا بدّ ان يعلم ان الثواب واصل إليه على الوجه الذي يستحقه ، ولا يصح ذلك إلا مع كمال العقل والمعرفة بالله تعالى وحكمته ليعلم ان ما فعله به هو الذي استحقه. والقول في المعاقب مثله. لأن من شرط الثواب ان يصل الى مستحقه مع الأعظام والإكرام من فاعل الثواب ، لأن الأعظام من غير فاعل الثواب لا يؤثر فيه ، والأعظام لا يعلم إلا مع القصد الى التعظيم ، ولا يجوز ان يعلم قصده من لا يعلمه. وكذلك القول في العقاب ، ووصوله على سبيل الاستخفاف والاهانة.

ولأن المثاب يجب ان يعلم ان ما فعل به يستحقه ومتى لم يعلم ذلك

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) في الأصل : مما.


جوز (١) ان يكون تفضلا فيعتقده فيكون معرضا للجهل (٢). وكذلك لا يتم إلا بعد معرفة الله وكذلك أهل النار متى لم يعلموا أن ما يصل إليهم يستحقونه جوزوا أن يكون ظلما فربما اعتقدوه كذلك (٣) فيكونون معرضين للجهل وذلك لا يجوز.

ولقائل ان يقول : العاقل يعلم قبح اعتقاد لا يأمن كونه جهلا فهو اذا لم يعلم الثواب مستحقا أو العقاب وجب عليه التوقف ولا يقدم. فاذا وجبت معرفة الله تعالى فلا يخلو أن يعرفه ضرورة ، أو يكون عن نظر مختارا ، أو ملجأ الى فعله ، أو تذكر نظر ، أو بأن يلجأ الفاعل الى نفس المعرفة من غير تقدم نظر. ولا يجوز ان تكون واقعة عن نظر مبتدأ لأن ذلك تكليف ومشقة وقد بينا انه ليس هناك تكليف. ولا يجوز ان يكونوا ملجئين الى النظر ، لأن الإلجاء الى النظر مع امكان الإلجاء الى المعرفة عبث. ولأن ذلك أيضا فيه مشقة. وما يمنع من الإلجاء الى نفس المعرفة يمنع من الالجاء الى سبب المعرفة. ولا يجوز ان يقع عن تذكر نظر لأن المتذكر (٤) يجوز ان تدخل عليه شبهة فيلزمه حلها وفي ذلك رجوع الى التكليف الذي بينا فساده. وليس لأحد ان يقول : ان الشبهات لا تعترض في الآخرة (٥) مع

__________________

(١) أ ، ب : جاز.

(٢) ح : لجهل.

(٣) أ ، ب : ذلك.

(٤) ح : التذكر.

(٥) في ح هكذا «لا تعترض الشبهات في الآخرة»


مشاهدة تلك الآيات والأحوال ، وذلك ان جميع ذلك لا يمنع من (١) دخول الشبهة. وأن تكون المعرفة مكتسبة. كما أن من شاهد المعجزات لم يمنع من ذلك في دار الدنيا ، ولا يجوز ان يقع الالجاء الى نفس المعرفة لأن الالجاء الى أفعال القلوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى لا يجوز ان يقع إلا من الله وإذا وجب ان يكون الملجأ الى العلم عارفا بالله فقد استغنى (٢) بتقدم المعرفة عن الالجاء (٣) إليها.

وقد قيل ان الالجاء الى العلم انما يكون بأن يعلم انه متى خاف اعتقادا غيره منع منه فإقدامه على الاعتقاد الذي وصفنا حاله لا يكون لأجله الاعتقاد علما ، فلم يبق من الأقسام إلا ان تكون المعرفة ضرورية.

ولا يجوز ان يكون أهل الآخرة مضطرين الى أفعالهم على ما يحكى عن أبي الهذيل (٤) لأن الاضطرار الى الافعال ينقص من لذتها لأن التخيير (٥) في الأفعال أبلغ في اللذة والسرور.

وأيضا فان الترغيب في الثواب «هو (٦) على الوجه المألوف ،

__________________

(١) الحرف من سقط من أ ، ب.

(٢) ح : استقصي.

(٣) ح : بلجاء.

(٤) حمدان بن أبي الهذيل العلاف. شيخ المعتزلة ، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء الملل والنحل. الشهرستاني.

(٥) ح : التحير.

(٦) الضمير هو ساقط من ب.


وذلك يكون معه التخير (١) في الأفعال ، وإذا ثبت ذلك في المثاب» (٢) وجب مثله في المعاقب لأن أحدا لا يفرق بينهما.

على ان الله تعالى أخبر بانهم يأكلون ويشربون ويفعلون. فأضاف الفعل إليهم وذلك يوجب اختيارهم (٣). وقال (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) (٤) وذلك صريح بما قلناه.

فاذا ثبت انهم مخيرون ولم يجز أن يكونوا مكلفين كما مضى فهم ملجئون الى ترك القبيح بأن يخلق الله فيهم العلم بأنهم متى راموا القبيح منعوا منه. ويمكن ان يقع الالجاء بأن يعلمهم الله بأنهم (٥) مستغنون بالحسن عن القبيح (٦) ، فلا يكون لهم داع الى فعل القبيح ملجئ. وذلك لأن (٧) الالجاء لا يجوز إلا على من تجوز عليه المنافع والمضار ، واذا لم يجز على القديم لم يصح منه (٨) معنى الالجاء.

__________________

(١) ح : التحير.

(٢) ما بين القوسين ساقط من أ.

(٣) أ ، ب : اختياره.

(٤) الواقعة : ٢٠.

(٥) أ : انهم.

(٦) أ ، ب : القبح.

(٧) ح : أن.

(٨) ح : فيه.


فصل ـ ٥ ـ

في الايمان والأحكام

الايمان : هو التصديق بالقلب. ولا اعتبار بما يجري على اللسان.

وكل من كان عارفا بالله تعالى ونبيه (ص) وبما (١) أوجب الله عليه معرفته مقرا بذلك مصدقا به فهو مؤمن.

والكفر نقيض ذلك وهو الجحود بالقلب دون اللسان بما أوجب الله تعالى عليه المعرفة به. ويعلم بدليل شرعي أنه يستحق العقاب الدائم الكثير.

وفي المرجئة (٢) من قال : الايمان هو التصديق باللسان خاصة ، وكذلك الكفر هو الجحود باللسان. والفسق هو كل ما خرج به عن طاعة الله تعالى الى معصيته سواء كان صغيرا أو كبيرا.

ومنهم من ذهب الى ان الايمان هو التصديق بالقلب واللسان «معا. والكفر هو الجحود بهما ، وفي أصحابنا من قال : الايمان هو التصديق بالقلب واللسان» (٣) والعمل بالجوارح ، وعليه دلت كثير من

__________________

(١) ح : بكل ما أوجب.

(٢) وهم القائلون بتأخر حكم صاحب الكبيرة الى القيامة ، فلا يحكم عليه في الدنيا بأنه من أهل الجنة وأهل النار.

(٣) العبارة بطولها ساقطة من أ.


اخبارنا (١) المروية عن الأئمة عليهم‌السلام.

وقالت المعتزلة : الايمان اسم للطاعات. ومنهم من جعل النوافل وللفرائض من الايمان. ومنهم من قال : النوافل خارجة عن الايمان. والاسلام والدين عندهم شيء واحد.

والفسق عندهم عبارة عن كل معصية يستحق بها العقاب. والصغائر التى تقع عندهم مكفرة لا تسمى فسقا ، والكفر عندهم هو ما يستحق به عقاب عظيم وأجريت على فاعله احكام مخصوصة. فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فاسق.

وقالت الخوارج بقريب من قول المعتزلة ، إلا انهم يسمون الكبائر كلها كفرا. ومنهم (٢) من يسميها شركا. والفضيلية منهم تسمي كل معصية كفرا صغيرة كانت أو كبيرة. والزيدية من كان منهم على مذهب الناصر يسمون الكبائر كفر نعمة ، والباقون يذهبون مذهب المعتزلة والذي يدل على ما قلناه أولا :

هو ان الايمان في اللغة هو التصديق ، ولا يسمون أفعال الجوارح ايمانا ، ولا خلاف بينهم فيه ، ويدل عليه أيضا قولهم فلان يؤمن بكذا «وكذا ، وفلان لا يؤمن بكذا» (٣) ، وقال تعالى (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) (٤) وقال (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (٥) أي

__________________

(١) تجدها في كتاب الايمان والكفر من (أصول الكافي).

(٢) ح : وفيهم.

(٣) ما بين القوسين ساقط من أ.

(٤) النساء : ٥١.

(٥) يوسف : ١٧.


مصدق لنا. وإذا كان فائدة هذه اللفظة في اللغة ما قلناه وجب اطلاق ذلك عليها إلا ان يمنع مانع. ومن ادعى الانتقال فعليه الدلالة ، وقد قال الله تعالى (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) وقال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وقال (أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، وكل ذلك يقتضي حمل هذه اللفظة على مقتضى اللغة.

وليس إذا كان هاهنا الفاظ منتقلة (١) وجب ان يحكم في جميع الألفاظ بذلك وإنما ينتقل عما ينتقل عنه (٢) بدليل يوجب ذلك. وإن كان في المرجئة من قال ليس هاهنا لفظ منتقل ، ولا يحتاج إلى ذلك.

ولا يلزمنا ان نسمي كل مصدق مؤمنا لأنا إنما نطلق ذلك على من صدق بجميع ما أوجبه الله عليه والاجماع مانع من تسمية من صدق بالجبت والطاغوت مؤمنا. فمنعنا ذلك بالدليل.

وخصصنا موجب اللغة ، وجرى ذلك مجرى تخصيص العرف لفظ الدابة ببهيمة مخصوصة. وإن كان موجب اللغة يقتضي تسمية كل ما دب دابة ، ويكون ذلك تخصيصا لا نقلا.

فعلى موجب هذا يلزم من ادعى انتقال هذه اللفظة الى أفعال الجوارح ان يدل عليه.

وليس لأحد ان يقول ان العرف لا يعرف التصديق فيه إلا بالقول ، فكيف حملتموه على ما يخص (٣) القلب؟ قلنا العرف يعرف بالتصديق

__________________

(١) ح : مستقلة.

(٢) ليس في الأصل.

(٣) ح : يختص.


واللسان والقلب لأنهم يصفون الأخرس بأنه مؤمن ، وكذلك الساكت. ويقولون : فلان يصدق بكذا وفلان لا يصدق ، ويريدون ما يرجع إلى القلب فلم نخرج بما قلناه عن موجب اللغة.

وإنما منعنا (١) اطلاقه في المصدق باللسان أنه لو جاز ذلك لوجب تسميته بالإيمان وإن علم جحوده بالقلب والاجماع مانع من ذلك.

فأما السجود للشمس فعندنا أنه (٢) وإن لم يكن كفرا (٣) ، فهو دلالة على الكفر وأن فاعله ليس بمصدق في القلب. لحصول (٤) الاجماع على ان فاعله كافر ، ولم يجمعوا على أن (٥) نفس السجود كفر (٦) ، لأن فيه الخلاف. وكلما يسأل من نظائر ذلك فالجواب عنه ما قلناه.

واستدلت المرجئة على ان الطاعات ليست إيمانا «أنها لو كانت (٧) ايمانا» (٨) لكانت كل معصية كفرا أو بعض كفر ، ولو جاز ان يكون في الايمان ما ليس تركه كفرا ، جاز ان يكون في الكفر (٩)

__________________

(١) أ : تبعنا.

(٢) سقطت من ح.

(٣) في الأصل : وإن لم يكفر. وفي ح : لم كفر.

(٤) ب ، ح : بحصول.

(٥) سقطت من أ ، ب.

(٦) أ : انه كفر.

(٧) زاد في ح : طاعة.

(٨) ما بين القوسين ساقط من ب.

(٩) زاد في ح : الايمان الكفر.


ما ليس تركه إيمانا ، وأيضا لو كانت كل طاعة ايمانا لم يكن أحد كامل الإيمان لا الأنبياء ولا غيرهم لأنهم يتركون كثيرا من النوافل بلا خلاف ، وعندهم يتركون من الواجبات (١) أيضا ما يكون صغيرا. وأيضا قال الله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٢) وقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٣) وقال (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) (٤) وذلك يدل على أنه يكون مؤمنا وإن لم يعمل الصالحات من أفعال الجوارح ، والمعتمد ما قدمناه. وما يتعلق به المخالف قد بيناه في شرح الجمل فلا نطول بذكره هاهنا.

وأما الكفر فقد قلنا أنه عند المرجئة من أفعال القلوب ، وهو جحد ما أوجب الله معرفته مما عليه دليل قاطع كالتوحيد والعدل والنبوة وغير ذلك. وأما في اللغة فهو الستر أو الجحود. وفي الشرع عبارة عما يستحق به العقاب الدائم الكثير ويلحق بفاعله (٥) احكام شرعية كمنع التوارث والتناكح.

والعلم بكون المعصية كفرا طريقه السمع لا مجال للعقل فيه لأن مقادير العقاب لا تعلم عقلا. وقد أجمعت الأمة على أن الإخلال بمعرفة

__________________

(١) ب ، ح : الواجب.

(٢) الانعام : ٨٢.

(٣) الانفال : ٧٢.

(٤) طه : ٧٥.

(٥) ب : لفاعله.


الله وتوحيده وعدله وجحد نبوة رسله كفرا ، لا يخالف فيه إلا اصحاب المعارف الذين بينا فساد قولهم.

ولا فرق بين ان يكون شاكا في هذه الأشياء أو يكون معتقدا لما يقدح في حصولها. لأن الإخلال بالواجب يعم الكل. فعلى هذا المجبرة والمشبهة كفار ، وكذلك من قال بالصفات القديمة لأن اعتقادهم الفاسد في هذه الأشياء ينافي الاعتقاد الصحيح من المعرفة بالله وعدله وحكمته.

وأما الفسق فهو في اللغة عبارة عن خروج الشيء إلى غيره ، ولذلك يقولون فسقت الرطوبة إذا خرجت عن قشرها ، وسميت الفأرة فويسقة من ذلك ، لخروجها من «جحرها» إلا إنه بالعرف صار متخصصا بالخروج من حسن إلى قبح.

وأما في عرف الشرع : فهو عندنا عبارة عن كل معصية سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، لأن (١) معاصي الله كلها كبائر وإنما نسميها صغائر بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، وهي كبيرة بالإضافة إلى ما هو أصغر منها. وشبهة المعتزلة في ان المؤمن لا يسمى به المصدق ان قالوا أنه كان ينبغي ان لا (٢) يسمى بعد إيمانه بزمان إنه مؤمن كما لا يسمى بأنه ضارب لما (٣) تقدم من الضرب لأن الأسماء المشتقة إنما

__________________

(١) ح : ولأن.

(٢) اداة النفي ساقطة من ح.

(٣) ح : بما. ب : كما.


تطلق في حال وقوع ما اشتقت منه ، باطلة (١). لأنا نقول : ان الاعتقاد بالقلب الذي هو الإيمان يتجدد حالا فحالا لأنه لا يبقى فما خرجنا عن طريقة الاشتقاق. وقولهم : إنه لو كان كذلك لوجب ان لا يسمى من هو في مهلة النظر بانه مؤمن لأنه ما صدق بالله ولا بصفاته ، فاسد.

لأن من هو في مهلة النظر قد صدق بجميع ما يجب (٢) عليه في تلك الحال فلذلك يسمى مؤمنا.

ومتى قالوا يلزم ان كل (٣) من صدق ما قلتموه يسمى مؤمنا وإن لم يترك شيئا من القبائح إلا ارتكبه ولا شيئا من الواجبات ألا تركه وهذا شنيع من المقال.

قلنا : ذلك كقول المرجئة ، غير أن الذي نختاره أن يقيد (٤) ذلك لئلا يوهم. فنقول هو مؤمن بتصديقه بجميع ما وجب عليه ، فاسق بتركه ما يجب عليه من أفعال الجوارح ، فيقيد (٥) له الأمرين لئلا يوهم ارتفاع أحدهما إذا أطلقنا الآخر. وما يتعلقون به من الظواهر تكلمنا عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره هاهنا.

وقول من قال من الزيدية إنه كافر نعمة ، باطل. لأنه معترف

__________________

(١) أ : فباطله.

(٢) أ ، ب : وجب.

(٣) في الأصل : يلزم كل.

(٤) في الأصل : يعتد.

(٥) الكلمة في الأصل مشوشة.


بنعمة الله معتقد بها ، فكيف يكون جاحدا.

وأما قول الحسن إنه منافق ، باطل. لأن المنافق هو من أظهر خلاف ما في باطنه ومن كان مظهرا للمعصية التي يستحق بها العقاب لا يكون منافقا.

وقول الخوارج واحتجاجهم على ان مرتكب الكبيرة كافر بقوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١) مبني على القوم بالعموم ، الذي (٢) بينا فساده. ولنا ان نخص ذلك بما تقدم من الأدلة الموثقة. وقوله (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى ، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى ، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٣) يفيد نارا مخصوصة ، ولذلك خص بها الذي كذب وتولى وهم المرتدون وأما (٤) من كان كافرا ابتداء فلا يدخل فيها.

وقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) ـ إلى قوله ـ (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (٥) لا يمنع ان يكون هناك قسم ثالث. وإن لم يكن منطوقا به ، ويكون عليها (٦) سمة أخرى» وقوله (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ

__________________

(١) المائدة : ٤٤.

(٢) ح : والذي.

(٣) الليل : ١٦.

(٤) ح : فأما.

(٥) عبس : ٣٨.

(٦) في أ ، ب : عليها غيره.


وُجُوهٌ) (١) لا يمنع من ان يكون وجوه أخر لا سودا خالصة ، ولا بيضا خالصة ، على أن هذه الآية (٢) مختصّة بالمرتدين ، لقوله (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) (٣) وقوله (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤) لا يمنع (٥) من «ان يكون» (٦) إحاطتها بالفساق كما لا يمنع من إحاطتها بالزبانية وخزنة النيران. وقوله (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٧) لو حمل على عمومه لوجب اثبات (٨) المؤمن بحال على ذلك مخصوص بعقاب الاستئصال في دار الدنيا ، وذلك مختص بالكفار بدلالة أول الآية وسياقها الى آخرها. واستقصاء القول في ذلك موكول حيث أشرنا إليه ، وفي (٩) مسئلة الوعيد للمرتضى رحمة الله عليه.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٦.

(٢) أ ، ب : الاشياء.

(٣) آل عمران : ١٠٦.

(٤) التوبة : ٤٩.

(٥) ح : لا يمتنع وكذا الآتي.

(٦) ساقطة من ح.

(٧) سبأ : ١٧.

(٨) ح : ألا يثاب.

(٩) أ ، ب : وهي.


فصل ـ ٦ ـ

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف عند (١) الأمة. وإنما اختلفوا هل يجبان عقلا أو سمعا. فقال الجمهور من المتكلمين والفقهاء وغيرهم إنهما يجبان سمعا. وانه (٢) ليس في العقل ما يدل على وجوبهما ، وإنما علمناه بدليل الاجماع من الأمة وبآي من القرآن ، وكثير من الأخبار المتواترة ، وهو الصحيح. وقيل طريق وجوبهما هو العقل.

والذي يدل على الأول انه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما ، وقد سبرنا أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما. ولا يمكن ادعاء العلم الضروري في ذلك لوجود الخلاف.

فأما (٣) ما يقع منه على وجه المدافعة فانه يعلم وجوبه عقلا (٤) لما علمنا بالعقل وجوب دفع المضار عن النفس ، وذلك لا خلاف فيه ، وانما الخلاف فيما عداه.

__________________

(١) ح : بقول الأمة.

(٢) أ ، ب : فانه.

(٣) ح : وأما.

(٤) أ : كما.


وكل وجه يدعى في وجوبه عقلا قد بينا فساده في شرح الجمل وفيما ذكرناه كفاية.

ويقوى في نفسي أنهما يجبان عقلا (١) لما فيهما من اللطف. ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنا متى قلنا ذلك لزمنا ان تكون الإمامة ليست واجبة (٢). بأن يقال يكفي العلم (٣) باستحقاق الثواب وللعقاب ، وما زاد عليه في حكم الندب وليس بواجب ، فالأليق بذلك انه واجب.

واختلفوا في كيفية الوجوب (٤) : فقال الأكثر انهما من فروض الكفايات إذا قام به البعض (٥) سقط عن الباقين وقال قوم : هما من فروض الأعيان ، وهو الأقوى عندي لعموم آي القرآن ، والأخبار. كقوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٦) وقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٧) وقوله في لقمان (أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٨) في حكاية عن لقمان حين أوصى ابنه.

__________________

(١) في ب ، ح بين قوسين (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر)

(٢) أ : بواجبه.

(٣) ب ، ح : يكفي في العلم.

(٤) ب ، ح : وجوبه.

(٥) أ ، ب : بعض.

(٦) آل عمران : ١٠٤.

(٧) آل عمران : ١١٠. وقد سقطت من أ.

(٨) لقمان : ١٧.


والأخبار أكثر من ان تحصى ، ونطول بها (١) الكتاب.

والمعروف على ضربين : واجب وندب ، والأمر (٢) بالواجب منه واجب ، وبالمندوب مندوب ، لأن الأمر (٣) لا يزيد على المأمور به نفسه.

والمنكر لا ينقسم. بل كله قبيح. فالنهي عنه كله واجب.

والنهي عن المنكر له شروط ستة : أحدها : ان يعلمه منكرا ، والثاني : ان يكون هناك إمارة الاستمرار عليه ، والثالث : ان يظن ان إنكاره مؤثرا أو يجوزه. والرابع : ان لا يخاف على نفسه ، والخامس : ان لا يخاف على ماله ، والسادس : ان لا تكون فيه مفسدة.

وإن اقتصرت على أربع شروط كان كافيا ، لأنك إذا قلت لا تكون فيه مفسدة دخل فيه الخوف على النفس والمال لأن ذلك مفسدة. وانما اعتبرنا العلم بكونه منكرا لأنه ان لم يعلمه جوز ان يكون غير منكر ، فيكون إنكاره قبيحا ، فجرى مجرى الخبر في انه لا يحسن «ألا مع العلم بالخبر ، ومتى لم يعلم المخبر جوز ان يكون خبره كذبا فلا يحسن» (٤) منه الأخبار بذلك. وكذلك انكار المنكر.

واعتبرنا الشرط الثاني لأن الغرض بانكار المنكر ان لا يقع في

__________________

(١) ح : بذكره. ب : به.

(٢) ح : فالأمر.

(٣) زاد في ح : الأمر به.

(٤) الجملة بطولها سقطت من أ.


المستقل ، فلا يجوز ان يتناول الماضي الذي وقع لأن ذلك لا يصح ارتفاعه بعد وقوعه ، وإنما يصح ان يمنع مما لم يقع فلا بد من أمارة على استمراره على فعل المنكر يغلب على ظنه معها وقوعه وأقدامه عليه ، فيحصل الإنكار للمنع من وقوعه ، وأمارات الاستمرار معروفة بالعادة. ولا يجوز الانكار لتجويز وقوعه بلا أمارة ، لأن ذلك يؤدي الى تجويز الانكار على كل قادر والمعلوم خلافة.

واعتبرنا الشرط الثالث من تجويز تأثير (١) انكاره لأن المنكر له ثلاثة أحوال. حال يكون ظنه فيها بأن إنكاره يؤثر ، فانه يجب عليه إنكاره بلا خلاف. وحال (٢) يغلب على ظنه ان لا يؤثر انكاره ، وحال (٣) يتساوى ظنه في وقوعه وارتفاعه. فعند هذين قام قوم يرتفع وجوبه ، وقال قوم لا يسقط وجوبه. وهو الذي اختاره المرتضى وهو الأقوى. لأن عموم الآيات والأخبار الدالة على وجوبه لم يخصه بحال دون حال. فأما اذا خاف على نفسه أو ماله أو كان فيه مفسدة له أو لغيره فهو قبيح لأن المفسدة قبيحة ، وفي الناس من قال مع الخوف على النفس إنما يسقط الوجوب ، ولا يخرج عن الحسن اذا كان فيه اعزازا للدين وهذا غير صحيح لما قلناه من انه مفسدة فالخوف على المال يسقط أيضا الوجوب والحسن لما قلناه من كونه مفسدة.

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) ح : والثاني يغلب.

(٣) ح : والثالث يتساوى.


وفي الناس من قال هو مندوب إليه ، وقد بينا فساده. وجملته انه متى غلب على ظنه ان انكاره يؤدي الى وقوع قبيح لولاه لم يقع فانه يقبح لأنه (١) مفسدة. سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير فان الكل مفسدة.

ولا يلزم على ذلك سقوط فرض الصلاة والصوم عند الخوف على المال كما يسقط عند الخوف على النفس لأن الله تعالى لو علم أن في العبادات الشرعية مفسدة في بعض الأحوال لأسقطها عنا ، ولما علمنا وجوبها على كل حال علمنا ان المفسدة لا تحصل في فعلها على حال. ولا يلزم مثل ذلك بإنكار المنكرة لأنه لا خلاف أن وجوبه مشروط بأن لا تكون فيه مفسدة ، وليس كذلك العبادات الشرعية لأن الأمة مجمعة (٢) على وجوبها في غير شرط.

وأما المفسدة : فانما اعتبرت لأن كونه مفسدة وجه قبح (٣) ، فلا يجوز ان يثبت معه وجوب ولا حسن بلا خلاف.

والغرض بإنكار المنكر ان لا يقع فاذا أثر القول والوعظ في ارتفاعه اقتصر عليه ، وان لم يؤثر جاز أن يغلظ من القول ، ويشدد فان (٤) أثر اقتصر عليه ، وان لم يؤثر وجب أن يمنع منه ، ويدفع عنه.

__________________

(١) ح : لا لأنه ..

(٢) ب ، ح : مجتمعة.

(٣) أ : قبيح.

(٤) أ ، ب : فاذا.


وإن أدى ذلك الى إيلام المنكر عليه (١) ، والإضرار به ، واتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر ، بان (٢) لا يقع من فاعله ، ولا يقصد إيقاع (٣) الضرر به. ويجري ذلك مجرى دفع الضرر عن النفس في انه يحسن وان أدى الى الإضرار بغيره. غير ان الظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية رفع الله درجاتهم ان هذا الضرب من الإنكار لا يكون إلا للأئمة (ع) أو لمن يأذن له الإمام (ع). وكان المرتضى رضي الله عنه يخالف في ذلك ويجوز فعل ذلك بغير اذنه. لأن ما يفعل باذنهم يكون مقصودا ، وهذا يخالف ذلك لأنه غير مقصود. «وانما القصد المدافعة والمخالفة فان وقع ضرر فهو غير مقصود» (٤).

ويمكن ان ينصر الأول بان يقال اذا كان طريق حسن المدافعة بالألم السمع ، فينبغي ان يدفعه على الوجه الذي قرره الشرع ، وهو أن يقصد المدافعة دون نفس إيقاع الألم ، والقصد الى إيقاع الألم باذن الشرع فيه ، فلا يجيء منه ما قاله.

ومن قال ان انكار المنكر غير متعين قال يتعين في بعض الأحوال ، لأن (٥) المقصود ان (٦) لا يقع هذا المنكر فاذا تساوى الكل في حكم

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) في الأصل : ان لا ...

(٣) أ ، ب : ارتفاعه.

(٤) الجملة ساقطة من أ ، ب.

(٥) ح : فان.

(٦) سقطت من ب ، ح.


هذا الإنكار فلا يكون للوجوب عاما لهم فاذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. هذا اذا كان التمكن عاما في الجميع ، فان تعين الانكار في جماعة أو شخص تعين على (١) الوجوب. وعلى ما قلناه لا يحتاج الى هذا التفصيل ، غير ان من (٢) لا يتمكن يسقط (٣) عنه الوجوب.

__________________

(١) ح : عليه.

(٢) سقطت من ب ، ح.

(٣) ح : سقط.


القسم الرّابع

مباحث النبوة


فصل ـ ١ ـ

الكلام (١) في النبوة

النبي في العرف هو المؤدي عن الله تعالى بلا واسطة من البشر.

ومعنى النبي في اللغة يحتمل أمرين. احدهما : المخبر واشتقاقه يكون من الأنباء الذي هو الأخبار ، ويكون على هذا مهموزا. والثاني : ان يكون مفيدا للرفعة وعلو المنزلة واشتقاقه يكون من النباوة التي هي الارتفاع. ومتى أريد بهذا اللفظ علو المنزلة فلا يجوز إلا بالتشديد بلا همز وعلى هذا يحمل ما روي عنه (ص) انه قال «لا تنبزوا باسمي» أي لا تهمزوه. لأنه أراد علو المنزلة.

ولا يلزم ان يكون كل عالي المنزلة نبيا ، لأن بالعرف صارت هذه اللفظة مختصة بمن علت منزلته لتحمل اعباء الرسالة والقيام بادائها ، اذا كان من البشر ، ولذلك لا توصف الملائكة بانهم انبياء وان كان فيهم رسل من قبل الله تعالى. ولا يمتنع ان يقال أيضا بالهمز ويراد (٢) به الأخبار إلا انه مكروه لما ورد (٣) من الخبر. وقولنا رسول

__________________

(١) ب ، ح : في الكلام.

(٢) ب ، ح : يراد بحذف واو العطف.

(٣) أ ، ب : ورد به الخبر.


يفيد (١) في أصل اللغة ان مرسلا أرسله ، بشرط تحمل الرسالة لأنه لا يسمى بذلك من لا يعلم منه القبول لذلك. والعرف خصص هذا اللفظ فيمن كان رسولا من قبل الله تعالى ، ولذلك اذا قيل قال الرسول لا يفهم إلا رسول الله (ص). وفي غيره يكون مقيدا بان يقال رسول فلان.

والمخالف في بعثة الرسول طوائف. منهم البراهمة الذين خالفوا في حسن بعثة الرسل. ومنهم اليهود وهم فرق. منهم من خالف في في جواز (٢) النسخ عقلا ومنهم من خالف في النسخ سمعا ، ومنهم من أجاز النسخ وخالف في نبوة نبينا (ص). ولنا في الكلام على هؤلاء طريقان.

الطريق الأول : ان ندل على ان الله تعالى بعث انبياء وصحت نبوتهم ، فلو لا انه (٣) كان حسنا لما ثبت ذلك لأنه تعالى لا يفعل القبيح ، ومتى تكلمنا على هذا الفصل فينبغي. ان نتكلم في صحة نبوة نبينا (ص) لأنه (٤) المهم الذي نحتاج إليه ، لتعلق مصالحنا بشرعه دون من تعدوا (٥) من الرسل الذين نسخ شرعهم ومتى ثبتت لنا نبوته بطلت جميع الأقوال. قول من خالف في حسن بعثه ، أو

__________________

(١) أ : يقتضي.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) أ : أن.

(٤) ب ، ح : لأن.

(٥) أ : بعدرا.


خالف في جواز للنسخ عقلا أو شرعا أو خالف في نبوة نبينا (ص) فصار الكلام في ذلك أولى من غيره.

والطريق الثاني : ان نتكلم على فرقة فرقة بكلام يخصهم ، فنتكلم أولا في حسن البعثة لنبطل مذهب البراهمة ثم نتكلم في نبوة نبينا (ص).

والذي يدل على الفصل الأول من هذه الأقسام وهو الكلام في حسن البعثة هو انهم يؤدون إلينا ما هو مصلحة لنا في التكليف العقلي ، ولا يمكننا معرفة ذلك بالعقل ، ولا يمتنع ان يعلم الله ان في افعال المكلف ما اذا فعله دعاه الى فعل الواجب العقلي أو صرفه عن القبيح العقلي ، أو ما اذا فعله دعاه الى فعل (١) القبيح أو الاخلال بالواجب فيجب ان يعلمنا ذلك لأن الأول لطف لنا والثاني مفسدة ويجب عليه تعالى إزاحة العلة (٢) من المكلف في فعل اللطف على ما مضى بيانه (٣). ولا يمكن اعلام ذلك إلا ببعثة الرسل الذين يعلمونا ذلك لأنه لا يمكننا الوصول إليه بضرورة العقل ولا باستدلال ولا يحسن خلق العلم الضروري بذلك لأنه ينافي التكليف فلم يبق بعد ذلك إلا بعثة الرسل ليعرفونا ذلك. وعلى هذا الوجه متى حسنت البعثة وجبت ولا ينفصل الحسن من الوجوب.

وانما قلنا لا يحسن خلق العلم الضروري بذلك لأنا بينا ان معرفة الله تعالى انما تكون لطفا اذا كانت كسبية والعلم بالشرائع فرع على

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) ح : عدة المكلف.

(٣) ح : القول فيه.


العلم بالله ولا يجوز ان يكون الفرع ضروريا والأصل كسبيا فيكون الفرع أقوى من الأصل. ويجوز ان يبعث الله تعالى نبيا ليؤكد ما في العقول وان لم يكن معه شرع ولا يكون ذلك عبثا لأنه لا يمتنع ان تكون نفس بعثته لطفا للمكلفين. فعلى هذا يجب اظهار المعجزات على يده لأنا فرضنا ان في بعثته لطفا ولو لم يكن في بعثته لطف لما كان أيضا عبثا كما لا يكون نصب أدلة كثيرة على شيء واحد عبثا وان كان الدليل الواحد كافيا في هذا الباب.

وأما النظر في المعجزة فان كان معه شرع أو كان نفس بعثته لطفا فانه يجب علينا وان لم يكن كذلك بل بمجرد ما في العقل فانه يحسن النظر في معجزه وان لم يجب ومتى الزمنا على ذلك جواز اظهار المعجزات على يد الأئمة والصالحين فانا نلتزمه وسنتكلم عليه فيما بعد ان شاء الله. وتحسن بعثة الأنبياء لأمور أخر. نحو (١) تعريفنا للقطع على عذاب (٢) الكفار ، وليعرفونا بعض اللغات ، وليعرفونا الفرق بين السموم القاتلة والأغذية وكثيرا من مصالح الدنيا على ما بيناه (٣) في شرح الجمل. وان لم يكن جميع ذلك واجبا لإمكان الوصول الى هذه الأشياء من غير جهة الأنبياء على ما بيناه في الشرح.

وقول البراهمة ان النبي لا يخلو ان يأتي بما يوافق العقل أو بما يخالفه

__________________

(١) أ : ويجوز.

(٢) ب : عقاب.

(٣) زاد في ح : وفرعناه.


فان اتى بما يوافق (١) العقل ففيه كفاية ، وان اتى بما يخالف العقل لا يلتفت إليه لأنه قبيح بالاتفاق ، باطل.

لأنا نقول : الشرع لا يأتي الا بما يوافق العقل على طريق الجملة لا على طريق التفصيل وتفصيله لا يمكن معرفته بالعقل فيبعث الله تعالى نبيا ليعرفنا تفصيل ذلك. وأما (٢) ما يعلم مفصلا بالعقل فلا يحتاج الى بعثة الأنبياء فيه ، وانما قلنا ذلك لأن العقل دال على وجه الجملة على ان ما دعا الى فعل واجب مثله ، وما صرف عن قبيح يجب فعله وما يدعو الى قبيح أو اخلال بواجب يجب تجنبه. واذا كان هذا معلوما جملة ويحصل ذلك في بعض الأفعال التي لا يعلم بالعقل كونه كذلك ويجب إعلامنا ذلك ولا يتم ذلك إلا ببعثة رسول على ما بيناه.

وانما كان يكون منافيا لما في العقل لو (٣) نفى السمع ما أثبته العقل أو اثبت ما نفاه والأمر بخلافه. ومثل ذلك ما نعلمه عقلا من (٤) وجوب دفع المضار عن النفس وقبح الظلم (٥) على طريق الجملة ثم يرجع في حصول بعض المضار في كثير من الأفعال إلى التجربة والعادات أو الى الخبر فلا تكون بذلك مخالفين لما في العقل وكذلك القول في السمع.

__________________

(١) ح : بما يوافقه فالعقل فيه كفاية.

(٢) ح : فأما.

(٣) ح : أو.

(٤) سقطت من الأصل.

(٥) أ ، ب : قبح القبيح.


وقولهم ان الصلاة والصوم والطواف قبائح في العقل ولا يجوز ان يتغير «كما لا يجوز ان يتغير» (١) قبح الظلم والكذب وغير ذلك باطل ، لأن القبائح في العقل على ضربين أحدهما لا يجوز تغيره كالظلم والكذب والمفسدة والجهل وغير ذلك ، ولا يجوز ان يرد السمع بخلافه. والثاني ما يجوز ان يتغير من حسن الى قبح ومن قبح الى حسن كالضرر الذي متى عرى من استحقاق نفع أو دفع ضرر كان قبيحا ومتى حصل بعض هذه الأمور كان حسنا والصلاة والصوم وجميع العبادات انما تقبح في العقل متى خلت من فائدة ومنفعة وغرض فاذا عرض فيها نفع أو غرض (٢) صحيح فانما تخرج من القبح الى الحسن. واذا كان السمع ورد بأن لنا في هذه العبادات منافع وجب ان يحسن لأنا لو علمنا ذلك بالعقل (٣) لعلمنا حسنه.

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.

(٢) ح : وعرض.

(٣) سقطت من أ ، ب.


فصل ـ ٢ ـ

الكلام في المعجز (١)

ولا طريق الى معرفة النبي إلا بالمعجز والمعجز في اللغة عبارة عمن جعل غيره عاجزا مثل المقدر الذي يجعل غيره قادرا إلا (٢) انه صار بالعرف عبارة عما يدل على صدق من ظهر على يده واختص به. والمعتمد على ما في العرف دون مجرد اللغة.

والمعجز يدل على ما قلناه بشروط :

١ ـ ان يكون خارقا للعادة.

٢ ـ ان يكون من فعل الله أو جاريا مجرى فعله.

٣ ـ ان يتعذر على الخلق جنسه (٣) أو صفته المخصوصة.

٤ ـ ان يتعلق بالمدعى على وجه التصديق لدعواه.

وانما اعتبرنا كونه خارقا للعادة لأنه لو لم يكن كذلك لم يعلم انه فعل للتصديق دون ان يكون فعل بمجرى العادة ، ألا ترى انه لا يمكن ان يستدل بطلوع الشمس من مشرقها على صدق الصادق ويمكن بطلوعها من مغربها وذلك لما فيه من خرق العادة.

__________________

(١) ليس في الأصل.

(٢) ح : لأنه.

(٣) أ ، ب : حقيقته. وكذا في ما يأتي.


واعتبرنا كونه من فعل الله لأن المدعي إذا ادعى ان الله يصدقه بما يفعله فيجب ان يكون الفعل الذي قام مقام التصديق من فعل من طلب منه التصديق وإلا لم يكن دالا عليه وفعل المدعي كفعل غيره من العباد لأنه لا يدل على التصديق وانما يدل فعل من ادعي عليه التصديق.

فان قالوا : أليس لو كان القرآن من فعل (١) النبي (ص) لدل على صدقه وكذلك نقل الجبال وطفر البحار يكون معجزا وان كان جميع ذلك من فعل المدعي للنبوة.

قلنا : لو كان القرآن من فعله وخرق العادة بفصاحته ، لكان المعجز في الحقيقة اختصاصه بالعلوم التي تأتى منه بها هذه الفصاحة وتلك العلوم من فعل الله تعالى. وكذلك طفر البحر ونقل الجبل انما يكون المعجز اختصاصه بالقدر التي خلقها الله تعالى فيه التي يتمكن (٢) بها من ذلك ، وتلك من فعله ، فلم يخرج عما قلناه. هذا على مذهب من يقول بالصرفة ، فأما من يعتبر مجرد (٣) خرق العادة فقط فانه يقول ان ذلك الكلام الخارق للعادة أو حمل الجبال هو المعجز لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن (٤) الله تعالى منه.

وإنما اعتبرنا ان يكون متعذرا في جنسه أو صفته لأنا متى لم نعلمه

__________________

(١) أ ، ب : من قبل.

(٢) ح : يمكن.

(٣) سقطت من أ.

(٤) ب ، ح : مكن.


كذلك لم نأمن ان يكون من فعل غير الله وقد بينا انه لا بد ان يكون من فعله. وسوينا بين تعذره في جنسه وصفته لأن تعذر (١) الجنس انما دل من حيث كان ناقضا للعادة لا من حيث كان مختصا به تعالى ، وكذلك إذا كان متعذرا وإن كان جنسه (٢) مقدورا تصديقا لهذا المدعي.

وانما يعلم كونه خارقا للعادة بالرجوع الى العادات المستقرة المستمرة وذلك معلوم عند العقلاء فاذا انتقضت بذلك لم يخف (٣) على أحد. ألا ترى ان أحدنا لا يشك في طلوع الشمس من مشرقها ، ولا يعرفون خلقا ولد إلا من وطئ ، فاذا شاهدوا طلوعها من مغربها أو خلق حي من غير وطئ (٤) ذكرا أو انثى علموا انه خارق للعادة. وعلى هذا افتتاح العادات لا يكون عادة (٥).

ومتى خلق الله تعالى خلقا ابتداء من مصلحته معرفة الشرائع ولم يعرف العادات لم يحسن ان يكلف حتى يبقيه غير مكلف زمانا يعتبر فيه العادات فاذا عرفها حينئذ كلفه وبعث إليه من يمكنه ان يستدل على صدقه بانتقاض ما عرف من العادات قبل تكليفه.

والعادة قد تكون عامة ، وقد تكون خاصة ، وقد تكون في بعض البلاد دون بعض.

__________________

(١) أ ، ب : تقدير.

(٢) كذلك في أ ، ب.

(٣) ح : يجب.

(٤) سقطت من ب ، ح.

(٥) كذا في الأصل ، ولعله (خرق عادة).


فعلى هذا لا اعتبار بانتقاض من (١) تلك العادة عادة (٢) له ، وانما يعلم انه من فعله اذا عرفنا تعذره علينا على كل حال مع ارتفاع الموانع المعقولة ، كالحياة والقدرة وخلق الجسم. أو (٣) يقع على وجه مخصوص لا يقدر عليه أحد من الخلق كنقل الجبل وفلق البحر والكلام الخارق للعادة بفصاحته (٤).

وانما يعلم اختصاصه بالمدعي (٥) بأن يعلمه مطابقا لدعواه ، فان ادعى الدلالة على تصديقه طلوع الشمس من مغربها فطلعت فذلك غاية المطابقة ويجري مجرى ان يصدقه بكلام يتضمن تصديقه ، فعلم انه كلامه لأنه لا فرق في الشاهد فيمن ادعى على غيره انه رسوله بين ان يقول ذلك الغير صدقت وبين ان يقول المدعى الدليل على صدقي انه يفعل فعلا من الأفعال لم تجر عادته بذلك ثم يفعل ذلك الغير ما اقترحه ، فأنا نعلم انه صدقه. وليس لأحد ان يقول بالتصديق بالقول مواضعه متقدمة وهو صريح في التصديق وليس في الفعل الذي التمسه مواضعه فكيف يعلم انه قصد التصديق. وذلك ان الكلام وإن كان (٦) مواضعه متقدمة ففي الفعل ما يجري مجرى المواضعة وهو طلب شيء

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) أ : بعادة له.

(٣) أ ، ب : أو.

(٤) أ ، ب : لفصاحته.

(٥) سقطت من أ ، ب.

(٦) سقطت من ح.


مخصوص فهذا يجري مجرى مواضعه متقدمة في ذلك على التصديق. لأنا قد بينا انه لا يكون (١) دالا لمساواته في كونه خارقا للعادة.

وانما قلنا أنه لا بد أن يختص بالمدعي ، لأنا لو لم (٢) نراع ذلك لم نعلم اختصاصه به ولا تعلقه ، وجوزنا مع هذه المطابقة (٣) ان لا يكون فرقا (٤) بين التصديق بالقول وبين فعل ما يلتمسه المدعي ، اذا لم تجر به عادة ، والعقلاء (٥) لا يفرقون بينهما.

ومتى قيل ان أحدنا يعلم قصده ضرورة بفعله فيعلم انه صدقه اذا فعل عقيب الدعوى وليس كذلك القديم تعالى لأنه لا يعلم قصده ضرورة.

قلنا : لا يعلم فيما (٦) قصد أحدنا ضرورة بالتصديق بفعل ما يطابق الدعوى من تصديق بكلام أو فعل ملتمس به على وجه مخصوص ومع هذا يعلم انه صدقه ولو لم يكن صدقه لكان قبيحا فقد ساوى القديم في هذا الباب.

فان قيل : لم لا يجوز ان يفعل ما يخرق العادة للمصلحة دون التصديق فلا يمكنهم ان يعلموا انه فعل للتصديق (٧). قلنا : لا يجوز

__________________

(١) كذا في الأصل ، والعبارة لا تخلو من غموض.

(٢) ح : إن لم.

(٣) أ : المطالب. ب : المطالبة.

(٤) في أ : فرق بالرفع.

(٥) أ ، ب : والعادة.

(٦) ح : قلت ألا نعلم.

(٧) ب ، ح : التصديق.


ان يفعل الله تعالى ما يخرق العادة إلا للتصديق كما لا يجوز ان نقول قولا (١) يتضمن التصديق ولا نقصد التصديق بل نفعله للمصلحة. ولا فرق بين الفعل والقول في ذلك. ولذلك لو قال الواحد منا لمن ادعى عليه أنه أرسله صدقت ولا يقصد تصديقه كان قبيحا ، وإن قصد إلى وجه آخر. ألا ترى أنه لو قال عقيب ذلك أردت بذلك تصديق الله لم يعذره (٢) العقلاء في ذلك بل يستقبحون منه ما فعله ويذمونه عليه.

ولا يجب في مدعي النبوة أن يعين ما التمسه (٣) من المعجز ، وان كان لو عين لكان أبلغ بل يكفي أن يلتمس ما يدل على صدقه «على الجملة. فاذا فعل الله تعالى عقيب ذلك ما يكون خارقا للعادة دل على صدقه» (٤) «كدلالة ما عينه لأن المعين إنما دل على صدقه» (٥) من حيث كان خارقا للعادة ومطابقا للدعوى ومختصا به ، ومفعولا عقيب الدعوى وكل ذلك حاصل فيما ليس بمعين فيجب ان يكون دالا على صدقه.

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) ح : تقدره.

(٣) ح : ما يلمسه.

(٤) سقطت من ح. ولكن في هامشها جملة طويلة لم تظهر واضحة في النسخة المصورة.

(٥) الجملة سقطت من أ ، ب.


ولا يلزم مدعي (١) النبوة ان يطلب المعجز بلسانه لأن ادعاه النبوة يتضمن وجوب تصديقه بالمعجز على مجرى العادة ، فان ادعى لفظا جاز كما لو عين معجزا (٢) جاز ، وإن لم يكن ذلك واجبا على ما بينا. فاذا كان فائدة المعجز تصديق من ظهر على يده فيجب جواز ظهوره على يد (٣) بعض الأئمة والصالحين إذا أدعوا الإمامة والصلاح وكانوا صادقين ، فانه إذا كان مقتضاه تصديق من ظهر على يده فان كان ذلك مدعيا للنبوة علمنا نبوته وإن كان مدعيا للإمامة علمنا بها صدقه وإن ادعى صلاحا فمثل ذلك لأنه لا بد من دعوى يقترن بها.

وأيضا فلا وجه لقبح ظهور المعجز على يدي من ليس بنبي إذا كان صادقا ، من كونه كذبا (٤) ، أو ظلما ، أو عبثا ، أو مفسدة ، وهذه هي وجوه القبح المعقولة في العقل. فان أدعوا وجها غير ذلك فليبينوه لنتكلم عليه.

وليس يمتنع أيضا ان يعترض في ظهور المعجز على يدي (٥) من ليس بنبي وجه من وجوه المصلحة واللطف فيجب اظهار ذلك. ومتى قيل ان المعجز يدل على النبوة على طريق الإبانة بخلاف سائر الأدلة. قلنا : المعجز يدل على ابانة الصادق ممن ليس بصادق. فان كان مدعيا

__________________

(١) ح : في مدعي.

(٢) ح : بالمعجز.

(٣) سقطت من ح.

(٤) أ ، ب : كاذبا.

(٥) أ ، ب : يد.


للنبوة علمناه نبيا. وإن ادعى إمامة (١) أو صلاحا علمنا صدقه فيه ، وعلمناه كذلك.

هذا إذا سلمنا أنه يدل من جهة الإبانة. وقد بينا في شرح الجمل بانه (٢) ليس كذلك وأجبنا عن كل ما يسأل عن ذلك يسأل عن فلا نطول بذكره الكلام (٣).

ويجوز من إظهار المعجزات ما لا يؤدي إلى كونها معتادة فينتقض وجه دلالتها ، فلا يلزم على كل صالح ، وكل صادق ، ولا يلزم ان نقول فيمن لم تظهر على يده معجزة انه ليس بإمام ولا صالح كما يجب ان يقطع على انه ليس بنبي لأن المعجز انما يبين مدعيا صادقا من مدع غير صادق ، والامام اذا لم (٤) يدع الإمامة ، والصالح اذا لم يدع الصلاح لا يجب إظهار المعجز على يده ، واذا لم يظهر لا يجب نفي الصلاح عنه ولا نفي الإمامة (٥) ، بل لا يمتنع ان نعلمه إماما أو صالحا بغير المعجز. «وليس كذلك النبي لأنه لا طريق لنا الى معرفته إلا بالمعجز» (٦)

فاذا لم يظهر على يده المعجز قطعنا على كذبه ان كان مدعيا ،

__________________

(١) ح : امانة.

(٢) ب ، ح : لأنه.

(٣) ح : الكتاب.

(٤) سقطت من ح.

(٥) ح : الامانة.

(٦) ما بين القوسين ساقط من أ ، ب.


وإن لم يدع علمنا (١) انه ليس بنبي لأنه لو كان نبيا لوجب بعثه ووجب عليه ادعاؤه ، ولوجب ظهور المعجز عليه. فبان الفرق بين النبي والامام والصالح.

فعلى هذا لا يلزم ان يظهر الله على يد كل امام معجزا لأنه يجوز ان نعلم إمامته بنص أو طريق آخر ومتى فرضنا انه لا طريق الى معرفة امامه إلا المعجز وجب اظهار ذلك عليه وجرى مجرى النبي سواء ، لأنه لا بد لنا من معرفته كما لا بد لنا من معرفة النبي المتحمل لمصالحنا. ولو فرضنا في نبي علمنا نبوته بالمعجز أنه نص على نبي آخر لأغنى ذلك عن ظهور المعجز على يد النبي الثاني.

بأن يقول النبي الأول : اعلموا (٢) أنه نبي. كما يعلم بنص امام على امام بإمامته (٣) ، ولا يحتاج إلى معجز.

وليس لأحد ان يقول : تجويز إظهار المعجز على يد من ليس بنبي ينفر عن النظر في معجز النبي ، وذلك ان المعجز لا يكون إلا عقيب الدعوى فان كانت الدعوى للنبوة وجب النظر فيما يدعيه من المعجز فان كان صحيحا قطعنا على «صدقه وإن لم يكن صحيحا قطعنا على» (٤) كذبه ولا يجوز ان يكون نبيا ولا إماما إذا ادعى الامامة

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) ب ، ح : أعلمنا.

(٣) ح : إمامته.

(٤) الجملة سقطت من أ ، ب.


بمثل ذلك. وليس هنا (١) موضع يظهر المعجز مع ادعائه (٢) النبوة ، ويجوز كونه إماما يكون فيه تنفير على ان تجويزنا كونه إماما ليس باكثر من تجويزنا كونه ممخرقا كذابا. ومع ذلك يلزمنا النظر في معجزه فكيف يقال ان ذلك منفرا عنه. فأما وجوب النظر في معجزه فان كان مدعيا للنبوة فانه يلزمنا ذلك لأنا لا نأمن كونه صادقا وكذلك إذا (٣) ادعى كونه إماما ، يلزمنا (٤) مثل ذلك لأن لنا في معرفة الامام مصالح وربما لا يعلم كثير من الشريعة إلا بقوله. وإن كان مدعيا للصلاح لا يجب علينا النظر في معجزه ، وإن كان يحسن (٥) ذلك ، لأنه لا وجه لوجوب النظر في معجزه ، ولأنه لا يلزمنا معرفة كونه صالحا.

ولا يلزمنا جواز اظهار المعجز على يد الفساق المتهتكين والكفار إذا كانوا صادقين لأن المعجز عند أكثر أصحابنا يدل على عصمة من ظهر على يده. ومن لم يعتبر العصمة جوز اظهاره على مؤمن يستحق الثواب بأيمانه وإن كان فاسقا بجوارحه بعد ان لا يكون سخيف المنزلة دني الرتبة من حيث ان المعجز يقتضي علو المنزلة ، وعظم (٦) الرتبة ، وذلك لا يوجد في هؤلاء وان كانوا مؤمنين.

__________________

(١) ب ، ح : هاهنا.

(٢) ح : ادعاء.

(٣) ب : إن.

(٤) أ : لا يلزمنا.

(٥) في الأصل : لا يحسن.

(٦) أ : عظيم.


فصل ـ ٣ ـ

الكلام في العصمة (١)

ويجب ان يكون النبي معصوما من القبائح صغيرها وكبيرها قبل النبوة وبعدها على طريق العمد والنسيان وعلى كل حال.

يدل على ذلك ان القبيح لا يخلو ان يكون كذبا فيما يؤديه عن الله أو غيره من أنواع القبائح. فان كان الأول فلا يجوز عليه لأن المعجز يمنع من ذلك لأنه ادعى النبوة «على الله» (٢) وصدقه بالعلم المعجز (٣) ، فجرى ذلك (٤) مجرى ان يقول له صدقت فلو لم يكن صادقا لكان قبيحا لأن تصديق الكذاب قبيح لا يجوز عليه تعالى.

وأما الكذب في غير ما يؤدونه (٥) وجميع القبائح الأخر ، فانما ننزههم عنها لأن تجويز ذلك ينفر عن قبول قولهم ، ولا يجوز على الله ان يبعث نبيا ، ويوجب علينا اتباعه وهو على صفة تنفر عنه ، ولهذا جنب الله تعالى الأنبياء الفظاظة والخلق المشينة ، والأمراض المنفرة ،

__________________

(١) ليس في الأصل.

(٢) سقط من أ ، ب.

(٣) قبله في أ : واظهر الله المعجز على يده.

(٤) سقطت من أ.

(٥) ح : يؤذبه.


لما كانت هذه الأشياء منفرة في العادة.

ومرادنا بالتنفير هو ان يكون معه أقرب الى ان لا يقع منه القبول ، ويصرف عنه وإن جاز ان يقع على بعض الأحوال كما ان ما يدعو الى الفعل قد لا يقع معه الفعل. ألا ترى ان التبشير الى وجه الضيف داع الى حضور طعامه وربما لم يقع معه (١) الحظور. والعبوس ينفر وربما وقع معه (٢) الحضور وان كان ذلك لا يقدح في كون أحدهما داعيا والآخر صارفا. ولا يقع (٣) القبول من الواعظ الزاهد ويقع من الماجن السخيف ، ولا يخرج ذلك السخف من كونه صارفا والزهد من كونه داعيا. ودليل التنفير يقتضي نفي جميع القبائح عنهم صغيرها وكبيرها والفرق بينهما مناقضة.

وقولهم حبط (٤) الصغائر تنقيص الثواب ، ليس بصحيح إذا سلمنا الإحباط. لأنها وإن نقصت الثواب فهي فعل قبيح وإقدام عليه ، ومع ذلك تزيل ثوابا حاصلا ، وفي ذلك نقل (٥) من مرتبة عالية الى ما دونها ، وذلك لا يجوز على الأنبياء. كما لا يجوز ان يعزلوا عن النبوة بعد حصولها ، ولا يلزم (٦) تجويز الكبائر قبل النبوة

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) في الأصل : منه.

(٣) أ : ولا يقدح.

(٤) ب ، ح : حظ.

(٥) سقطت من ح.

(٦) ح : ثم يلزم.


لأن حبطها (١) نقصان الثواب لأن عقابها قد زال بالتوبة والنبوة ، وذلك لا يقوله أكثر من خالفنا.

وأما ما (٢) يستدل به من الظواهر التي (٣) يقتضي ظاهرها وقوع المعصية من الأنبياء نحو قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٤) فقد بينا الوجه فيه في التفسير واستوفاه المرتضى في التنزيه فلا يحتمل ذكر ذلك هاهنا. بل نقول الظواهر تبنى على أدلة العقول «ولا يبنى أدلة العقول» (٥) على الظواهر ، وإذا علمنا بدليل العقل ان القبيح لا يجوز عليهم تأولنا الآيات ان كان لها ظواهر وإن كان اكثرها لا ظاهر له على ما بين (٦) هناك. واما الذي به يعلم انه لا يجوز عليه الكتمان مما بعث لا دائه فهو أنا لو جوزنا ذلك لأدى (٧) الى نقض الغرض في ارساله فنؤل (٨) ما حمله وكلف ادائه الى من هو مصلحة لهم حتى يكون مزيحا لعلتهم فاذا علم انه لا يؤدي انتقض الغرض ولم تحصل إزاحة العلة في معرفة

__________________

(١) ب : حظها.

(٢) ح : وأما من يسأل من الظواهر.

(٣) أ : الذي.

(٤) طه : ٢١.

(٥) سقط من أ ، ب.

(٦) ب : يتبين.

(٧) ب ، ح : أدى بحذف اللام.

(٨) كذا في ح : وفي أ : فيول.


المكلفين. وليس ذلك بمنزلة تكليف من علم الله انه يكفر لأن الغرض بتكليفه لا يتعداه. ثم الغرض تعريضه لمنافع الثواب فاذا لم يفعل اتى من قبل نفسه وتكليف النبوة الغرض فيه متعلق بغير النبي وإن كان فيه غرض يرجع إليه فعلى وجه التبع ، فلا يجوز ان يكون الأمر على هذا ومع هذا فلا يؤديه لأن ذلك (١) يخل بازاحة علة المكلفين في تكليفهم وذلك لا يجوز.

فصل ـ ٤ ـ (*)

في النسخ

قد حكينا ان الخلاف مشهور (٢) فيه مع اليهود الذين منعوا النسخ. وهم ثلاث فرق :

منهم من منع النسخ عقلا ومنهم من منعه سمعا ، ومنهم من أجازه ومنع من صحة نبوة نبينا (ع) ونحن نتكلم عليهم واحدا واحدا بعد ان نبين حقيقة النسخ.

والنسخ في الشريعة عبارة عن كل دليل شرعي دل على ان مثل الحكم الثابت بالنص الأول زائل في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا

__________________

(١) أ ، ب : من ذلك.

(*) ح : وأما الكلام في النسخ فقد ...

(٢) ح : المشهور.


بالنص الأول مع تراخيه عنه. وذكرنا المثل دون العين لأنه لو نهاه عن نفس ما أمره به لكان ذلك قبيحا ، أما ان (١) يكون بداء أو فيه وجه آخر من وجوه القبح. وخصصنا أدلة الشرع بذلك لأن ما يزيل وجوب الفعل في المستقبل من العجز أو فقد الآلة أو ما يجري مجرى (٢) ذلك لا يوصف بأنه نسخ ، وإن كان مزيلا لوجوب الفعل من حيث اختص بهذا الوجه بأدلة الشرع. وشرطنا التراخي لأن ما يقترن باللفظ من ذكر الغاية الدالة على زوال الوجوب عندها لا يوصف بأنه ناسخ ألا ترى ان قوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (٣) لا يقال إلى الليل ناسخ لصوم النهار ، وكذلك لو قال ألزموا السبت إلى وقت كذا لم يكن ما بعد ذلك الوقت ناسخا لما قبله وإن سقط الغرض فيه ، ولو قال ذلك مطلقا ثم ذكر (٤) بعد ذلك «ما دل» (٥) على سقوط لزومه سمى ذلك نسخا للتراخي الذي قدمناه.

فاذا ثبت حقيقة النسخ في الشرع «فالدليل على جوازه هو ان كل دليل على حسن التعبد بالشرع» (٦) فهو بعينه دال على جواز النسخ لأن ما دل على جواز التعبد بالشرع ما قدمناه من المصلحة المتعلقة

__________________

(١) ب : بأن.

(٢) أ : مجراه. بحذف (ذلك).

(٣) البقرة : ١٨٧.

(٤) ح : دل.

(٥) لا يوجد في ح ، ب.

(٦) الجملة بطولها سقطت من أ ، ب.


بالعبادة ، واللطف فيها ، وهذا (١) بعينه قائم في النسخ لأنه لا يمتنع أن يصير ما كان مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر ، وما هو مفسدة في وقت يصير مصلحة في غيره وما هو مصلحة لزيد يصير (٢) مفسدة لعمرو ، «وما يكون مصلحة لعمرو يصير مفسدة لزيد» (٣) ، فاذا كان ذلك غير ممتنع فلو فرضنا حصوله لمن هو عالم بالعواقب وجب ان يعلمنا ذلك وينسخ عنا ما تغير الحال فيه كما وجب (٤) ان يعلمنا في ابتداء العبادة. وأي فرق بين ان يقول افعلوا هذه العبادة إلى وقت كذا واتركوها بعده (٥) ، وبين ان يقول افعلوا مطلقا ثم يعلمنا بعد ذلك الوقت الذي تنقلب (٦) المصلحة فيه ، وهل تجويز احدهما إلا كتجويز الآخر؟

ومتى قالوا ان ذلك يؤدي إلى البداء ، قلنا ليس ذلك بداء لأن البداء ما جمع شروطا أربعة :

١ ـ ان يكون المأمور به هو المنهي عنه بعينه.

٢ ـ ان يكون الوجه واحدا.

__________________

(١) سقطت من ب ، ح.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) ما بين القوسين سقط من أ ، ب. وفي ح : مصلحة لزيد بدل مفسدة.

(٤) ح : يجب.

(٥) ب ، ح : واتركوا بعدها.

(٦) ب : تغرب. ويقاربه في ح.


٣ ـ ان يكون الوقت واحدا.

٤ ـ ان يكون المكلف واحدا.

والنسخ بخلاف ذلك لأن الفعل المأمور به غير المنهي (١) عنه ، لأن إمساك السبت «في زمن موسى هو غير ما تناوله النهي عن إمساكه» (٢) في زمن نبينا (ص) وإذا تغاير الفعلان لم يتكامل شروط البداء. كذلك إذا كان الوقتان متغايرين ، ولو كان ذلك بداء لوجب ان يكون إماتة الخلق «بعد احيائهم واغنائهم بعد فقرهم ، وصحتهم بعد مرضهم» (٣) بداء ، فاذا لم يكن كذلك لتغير المصلحة فيه فالنسخ مثله. ويلزم عليه أيضا ان لا تختلف شرائع الأنبياء. وقد علمنا اختلافها وذلك لم يكن بداء لأنه كان في شرع آدم وحواء (٤) جواز (٥) تزويج الأخت من الأخ ، وفي شرع ابراهيم إباحة تأخير الختان إلى وقت الكبر وفي شريعة اسرائيل جواز الجمع بين الأختين وكل ذلك مخالف لشرع موسى (ع). وقولهم ان ذلك يؤدي إلى كون الشيء حسنا قبيحا ليس بصحيح لأنه إنما يقتضي «ان يكون» (٦) مثل الحسن قبيحا ، ولا يمتنع في المثلين ذلك. وذلك أكثر من ان يحصى.

__________________

(١) أ : منهي عنه.

(٢) الجملة سقطت من أ ، ب.

(٣) الجملة سقطت من أ ، ب.

(٤) سقطت من ح.

(٥) سقطت من ب.

(٦) ليس في الاصل.


وأما من أجاز النسخ عقلا ومنع منه سمعا فالكلام عليه من وجهين :

احدهما : ان نقول ما الذي يدل على صحة هذه الدعوى ، وإن موسى (ع) قال : شريعتي لا تنسخ. فان رجعوا إلى نقلهم الذي هو خبر الآحاد فان ذلك لا يقبل فيه خبر واحد. وإن ادعوا التواتر ، والتواتر يوجب العلم الضروري ، فكان ينبغي ان يعلم مع اختلاطنا بهم (١) ان موسى (ع) قال. كما انا لما نقلنا عن نبينا (ص) ان شريعته لا تنسخ علم ذلك المخالف والمؤالف (٢) فان اليهود لا يدفعون ان من دين محمد (ص) ان شرعه لا ينسخ وإنما خالفوا في صدق قوله.

على أنه ذكر الشيوخ ان نقل اليهود غير متصل بموسى (ع) لأنهم انقرضوا وقتلهم «بخت نصر» حتى لم يبق منهم إلا نفر لا ينقطع بنقلهم العدد ، ولا يؤمن عليهم الكذب ، ولو سلمنا ان موسى (ع) قال : ان شريعتي لا تنسخ ، لا بدّ ان يكون ذلك مشروطا ، إذا لم تتغير المصلحة أو ينسخها من تثبت نبوته. وأما مع تغير المصلحة وثبوت نبوته ، فهو صادق ولا بد من نسخها.

وثانيهما (٣) : ان ندل على نبوة نبينا (ص) فاذا ثبت نبوته علمنا بطلان دعواهم ان موسى قال ان (٤) شرعي لا ينسخ ، لأنه

__________________

(١) سقطت من أ ، ب

(٢) ح ، ب : والموافق.

(٣) ح : والطريقة الثانية.

(٤) سقطت من ح


لو كان صحيحا لما ثبت نبوة من ينسخها. فان قيل : لم صرتم بأن تدلوا على نبوة نبيكم فتعلموا بطلان دعوانا ، أولى منا إذا دللنا على صحة خبرنا فنعلم بطلان دعواكم في صحة نبوة نبيكم؟

قلنا : نحو أولى بذلك لأن النظر في معجز النبي (ص) يبنى على أمور عقلية لا يدخلها الاحتمال والاشتباه لأنه مبني على ظهور القرآن وتحدي العرب وأنهم لم يعارضوه وذلك كله معلوم ضرورة ، والعلم بأن ما هذه صورته يكون معجزا ودالا على النبوة طريقه اعتبار العقل الذي لا يدخله الاحتمال ، وليس كذلك الكلام في الخبر لأن الخبر كلام ، والكلام تدخله الحقيقة والمجاز والعمل (١) بظاهره وتركه ، والخبر الذي يدعونه مبني على صحته ، وصحته لا تعلم إلا بعد العلم بأن صفة التواتر ثابتة في جميع أسلاف اليهود ، في (٢) كل زمان. ثم إذا ثبت فهو كلام تدخله الحقيقة والمجاز والخصوص والعموم والشروط والعدول على ظاهره ، فعلم بذلك ان النظر في معجز النبي (ص) أولى.

لأن في العلم بصحته بطلان ما سواه ، وإن لم يعلم بصحته (٣) تكلف النظر في تصحيح خبرهم.

__________________

(١) أ ، ب : والعلم.

(٢) ب ، ح : وكل زمان.

(٣) ب ، ب : صحته بحذف الباء.


فصل ـ ٥ ـ

الكلام في نبوة محمد (ص) (*)

وأما من أجاز النسخ عقلا وشرعا ومنع من صحة نبوة نبينا (ص) فالوجه فيه :

ان ندل على صحة نبوة نبينا (ص) لنبطل قوله. ولنا في الكلام على نبوته (١) طريقان : أحدهما الاستدلال بالقرآن على صحة نبوته ، والآخر الاستدلال بباقي معجزاته.

إعجاز القرآن :

والاستدلال بالقرآن لا يتم إلا بعد بيان خمسة أمور (٢) :

احدها : ظهوره بمكة وادعاؤه النبوة.

وثانيها : تحديه العرب بهذا القرآن وادعاؤه ان الله أنزله عليه وخصه به.

وثالثها : أنه لم يعارضوه في وقت من الأوقات.

ورابعها : إنهم لم يعارضوه للعجز.

وخامسها : ان هذا التعذر خرق العادة. فاذا ثبت ذلك دل على ان القرآن معجز ، سواء كان معجزا خارقا للعادة بفصاحته فلذلك لم

__________________

(*) ليس في الأصل.

(١) ح : في نبوته.

(٢) ح : أشياء.


يعارضوه أو لأن الله صرفهم عن معارضته ، ولو لا الصرف لعارضوا. وأي الأمرين ثبت صحت نبوته ، لأن الله (١) لا يصدق كذابا ، ولا. يخرق العادة لمبطل.

فالذي يدل على (٢) ظهوره بمكة وادعائه النبوة فالعلم الضروري الذي لا ينكره (٣) عاقل سمع الأخبار ، وظهور هذا القرآن على يده أيضا «مثل ذلك ضروري» (٤) ، فالشك في احدهما كالشك في الآخر.

وأما الذي يدل على انه تحدى بهذا القرآن فهو ان معنى التحدي إنه (ص) كان يدعي ان الله تعالى خصه بهذا القرآن ، وأبانه ، وان جبرئيل (ع) كان يهبط عليه فيه ، وذلك معلوم ضرورة ولا يمكن أحد دفعه ، وهذا غاية التحدي في المعني والبعث على إظهار معارضته إن كان مقدورا ، وأيضا فمعلوم انه (ع) ادعى النبوة ، ودعا الناس كافة إلى الإقرار بنبوته والعمل بشرعه ، ومن ادعى هذه المنزلة لا بد ان يحتج بأمر يجعله حجه على دعواه صحيحا كان أو فاسدا. لأنه لو عرى دعواه من حجه أو شبهه لسارع الناس إلى تكذيبه وطالبوه بما يدل على صدق قوله ، فلما (٥) لم يكن ذلك منهم دل

__________________

(١) ب ، ح : لأنه تعالى.

(٢) في ح هكذا «فأما الفصل الأول وهو ظهوره ...» وفي ب : قلنا الفصل ...

(٣) ب ، ح : فمعلوم ضرورة لا ينكره ...

(٤) ب ، ح : معلوم مثل ذلك ضرورة.

(٥) ح : ولما.


على انه احتج بهذا القرآن أو بما هذا القرآن أظهر منه. وأيضا فآيات التحدي في القرآن ظاهره نحو قوله «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات» وقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وفي موضع آخر «بسورة مثله» وقوله (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وهذا صريح بالتحدي.

وأما الذي به يعلم أنه لم يعارض فهو انه لو كان عورض لوجب ان ينقل ولو نقل لعلم كما علم نفس القرآن فلما لم يعلم دل على انها لم تكن. وإنما قلنا ذلك لأن كل أمر لو كان لوجب ان ينقل فاذا لم ينقل قطعنا على (١) انه لم يكن ، وبهذا يعلم انه ليس بين بغداد والبصرة بلد أكبر منهما وانه ليس في الشريعة صلاة سادسة ، ولا حج إلى بيت بخراسان ، لأنها لو كانت لوجب نقلها مع سلامة الأحوال ، وانما قلنا كان يجب نقل المعارضة لو كانت لأن الدواعي كانت تتوفر إلى نقلها ، لأنها كانت تكون هي الحجة دون القرآن ، ونقل الحجة أولى من نقل الشبهة. على ان الذي دعا الى المعارضة داع إلى نقلها وإظهارها والداعي لهم الى ذلك طلب التخليص مما ألزموه من ترك أديانهم ومفارقة عاداتهم ، وبطلان الرئاسة التي ألفوها ، ولذلك نقلوا كلام مسيلمة والأسود العنسي ، وطليحة مع ركاكته وسخافته وبعده عن دخول الشبهة فيه ، فكيف لم ينقل ما هو حجه في نفسه اذ فيه شبهة قوية.

__________________

(١) سقطت من ح.


ولا يمكن ان يدعى فيه الخوف من أنصاره واتباعه ، فمنع ذلك من معارضته لأن الخوف لا يقتضي انقطاع النقل بالكلية وإنما يمنع من المظاهرة به ، والمجاهرة ، فكان يجب ان ينقل على وجه الاستسرار كما نقل (١) ما نحن ندعيه من النص الجلي وغيره. على ان كثرة المسلمين وكثرة أنصاره كانوا بعد الهجرة فهلا عارضوه قبل ذلك بمكة ، ثم لم لم يعارضوه (٢) ويظهروه في بلاد الكفر كالروم وبلاد الفرس والهند وغيرها. فان «أصل الفرس الكفر» (٣) فيها إلى يومنا هذا ، وكيف لم يمنع الخوف من نقل هجائه وسبه ، مع نقل معارضته ، والكلام في ذلك استوفيناه في شرح الجمل.

ولا يمكن ان يدعى وقوع المعارضة من واحد أو اثنين وإنه قيل فلم يسمع ، وذلك أنه اذا كانت المعارضة متعذرة على الفصحاء والمعروفين والشعراء والخطباء المبرزين كفى ذلك في باب خرق العادة ، وثبوت كونه معجزا ، أما بأن (٤) يكونوا مصروفين على مذهب من قال بالصرفة ، أو لأن القرآن فقط فصاحته خرق العادة. وأيهما كان وجب تساوي الكل فيه وان أحدا لم يتمكن من المعارضة ، وذلك يمنع من التجويز الذي سألوه عنه.

__________________

(١) أ : تقدم.

(٢) في الاصل : ثم لم يعارضوه.

(٣) الجملة سقطت من ح.

(٤) أ ، ب : أن يحذف الباء.


وإذا ثبت انهم لم يعارضوه فإنما يعلم انهم لم يعارضوه للعجز لأن كل فعل لم يقع مع توفر الدواعي لفاعله وشدة براعته عليه (١) قطعنا على انه إنما لم يقع للتعذر .. ولذلك قطعنا على ان الجواهر والألوان ليست في مقدورنا مع علمنا بتوفر الدواعي إلى فعلها وانتفاء الموانع المعقولة. فيخرج من (٢) هذا ان يقطع على ان جهة ارتفاع ذلك للتعذر لا غير.

لأنا علمنا ان العرب تحدوا بالقرآن وتوفرت دواعيهم إلى معارضته ولم يكن هناك مانع فوجب القطع على ان ذلك للتعذر لا غير فكيف وقد علمناهم تكلفوا المشاق من بذل النفوس والأموال والحروب العظيمة التي أفنتهم طلبا لا بطال أمره ، فلو كانت المعارضة مباينة (٣) لما تكلفوا ذلك ، لأن العاقل لا يترك الأمر السهل الذي يبلغ به الغرض ، ويفعل الأمر الشاق الذي لا يبلغ معه الغرض ، ومتى فعل ذلك دل على إنه مختل العقل سفيه الرأي ، والقوم لم يكونوا بهذه الصفة.

وليس لأحد ان يقول : إنهم اعتقدوا ان الحرب أنجع من المعارضة فلذلك عدلوا إليها. وذلك ان النبي (ص) لم يدع النبوة (٤) فيهم بالغلبة والقهر ، وإنما ادعى أن (٥) معارضة مثل القرآن متعذر (٦)

__________________

(١) أ ، ب : علينا.

(٢) ح : مع.

(٣) كذا في ح. وهو ساقط من أ ، ب.

(٤) ح : التسوية.

(٥) ليس في الأصل.

(٦) ب ، ح : يتعذر.


عليهم ، وأنه المختص بذلك ، ولا ينفع مع ذلك الحرب لو غلبوا فكيف وهم كانوا أكثر الأوقات مغلوبين مقتولين ، وكان يجب مع هذا أن يقدموا المعارضة ، فان أنجعت وألا عدلوا إلى الحرب. أو كان يجب ان يجمعوا (١) بينهما فيكون أبلغ وأنجع. وفي عدو لهم عنها دليل على انهم كانوا عاجزين.

وليس لهم أيضا أن يدعوا : أنهم التبس عليهم الحال ، فلم يعرفوا ما أراد (٢) بالتحدي من المعارضة بالمثلية ، وذلك أنه لو كان كذلك لاستفهموه وقالوا له ما الذي تريد بذلك ، فكيف وهم كانوا عارفين في تحدي بعضهم بعضا بالشعر والخطب ، وكيف التبس عليهم الأمر هاهنا.

فان قالوا : خافوا ان يلتبس الأمر فيظن قوم إنه ليس مثله. قيل : هذا هو المطلوب أن يختلف العقلاء فيه ، فطائفة (٣) يقولون انه مثله ، وطائفة يقولون إنه ليس مثله فيحصل الخلاف وتقع الشبهة ، وذلك أولى من ترك المعارضة التي تقوى معها الشبهة بالعجز. وليس لهم ان يقولوا انه لم تتوفر دواعيهم الى ذلك ، وذلك ان هذا باطل ، وكيف لم تتوفر دواعيهم وهم تكلفوا من المشاق العظيمة من القتال وإنفاق الأموال ما هو معروف ، والعاقل لا يتكلف ذلك فيما لا يتوفر دواعيه إلى إبطاله.

__________________

(١) ب ، ح : يجمع.

(٢) في الأصل : ما أرادوا.

(٣) ب ، ح : وطائفه.


فان قالوا : إنما لم يعارضوه لأن في كلامهم ما هو مثله أو مقاربه. قلنا : هذا غير مسلم ، ولو سلم لما نفع لأن التحدي إنما وقع لعجزهم عن معارضته في المثل (١) ، لا بأنه ليس في كلامهم مثله ، ولو كان في كلامهم مثله لكان ترك المعارضة بالمثل (٢) أبلغ وأعظم في باب العجز.

فان قيل : واطأه قوم من الفصحاء. قلنا : هذا باطل ، لأنه كان ينبغي ان يعارضه من لم يواطئه فأنهم وإن كانوا أدون منهم في الفصاحة ، كانوا يقدرون على ما يقاربه ، فان (٣) التفاوت بين الفصحاء لا ينتهي إلى حد يخرق العادة. على ان الفصحاء المعروفين ، والبلغاء المستمرين في وقته كلهم كانوا منحرفين عنه ، كالأعشى الكبير ، الذي هو في (٤) الطبقة الأولى ، ومن أشبهه مات على كفره. وكعب بن زهير أسلم في آخر الأمر وهو في الطبقة الثانية ، وكان من اعدى الناس له (ص) ، ولبيد بن ربيعة ، والنابغة الجعدي من الطبقة الثالثة أسلما بعد زمان طويل ، ومع هذا لم يخطيا في الاسلام بطائل. على أنه لو كان ينبغي ان يوافقوه على ذلك ويقولون له (٥) الفصحاء المبرزون واطئوك ووافقوك فان الفصحاء في كل وقت لا يخفون على

__________________

(١) ب ، ح : المستقبل.

(٢) ب ، ح : في المستقبل.

(٣) ح : لأن.

(٤) سقطت من ح.

(٥) سقطت من أ.


أهل الصناعة.

فان قيل : لم لا يكون النبي (ص) أفصح العرب ، فلذلك تأتى منه القرآن ، وتعذر على غيره أو تعمل ذلك في زمان طويل فلم يتمكنوا من معارضته في زمان قصير.

قيل : هذا لا يتوجه على من يقول بالصرفة لأن القائلين بها يقولون : ان مثل ذلك كان في كلامهم وخطبهم وإنما صرفوا عن معارضته في المثل (١). فلا معنى لكونه أفصح. ومن قال جهة الإعجاز الفصاحة يقول : كونه أفصح لا يمنع من أن يقاربوه (٢) ويدانوه ، وذلك هو المطلوب المعتاد عندهم (٣) في المعارضة. فان جعلوه أفصح «وانه خرق العادة بفصاحته كفى ذلك لأهل الإعجاز ، على ان كونه أفصح» (٤) لا يمنع من مساواته ومقاربته في قليل من الكلام الذي يتأتى به سورة قصيرة ، بذلك جرت العادة. ألا ترى ان المتقدمين من الشعراء وإن كانوا أفصح من المتأخرين لا يمنع ان يقع منهم البيت والبيتان مثل فصاحة أولئك. ثم لو كان الأمر على ما قالوه لوافقوه على ذلك وقالوا له أنت افصحنا فلذلك يأتي منك ما تعذر علينا فيكون «في ذلك» (٥) إبطال أمره

__________________

(١) ح : المستقبل.

(٢) أ : يقارنوه.

(٣) ح : بينهم.

(٤) الجملة بطولها سقطت من أ ، ب.

(٥) سقطت من أ ، ب.


وإن كان فيه اعتراف بقصد لا يضرهم وإنما يضرهم السكوت عنه. وقولهم (١) انه تعمل (٢) باطل ، لأنه كان يجب أن يتعملوا (٣) مثله ، وإنما بقي ثلاثا وعشرين سنة بينهم يتحداهم وفي دون ذلك بكثير يمكن التعمل.

وإذا ثبت بهذه الجملة ان القرآن معجز لم يضرنا ان لا (٤) نعلم من أي جهة كان معجزا لأنا إذا علمناه معجزا خارقا للعادة علمنا ثبوته ، ولو شككنا في جهة اعجازه لم يضرنا ذلك. غير انا نومي إلى جملة من الكلام فيه.

كان المرتضى علي بن الحسين الموسوي رحمة الله عليه يختار ان جهة اعجازه الصرفة ، وهي ان الله تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى معها لهم (٥) الفصاحة التي هي مثل القرآن ، متى راموا المعارضة ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم. وبذلك قال النظام ، وأبو اسحاق النصيبي أخيرا.

وقال قوم : جهة الإعجاز الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة من غير اعتبار النظم. ومنهم من اعتبر النظم والأسلوب مع الفصاحة وهو الأقوى.

__________________

(١) ب : وقوله.

(٢) في الأصل : يعمل.

(٣) أ : يعملوا.

(٤) أداة النفي سقطت من أ ،

(٥) ح : فهم بها.


قال الفريقان إذا ثبت أنه خارق للعادة بفصاحته ، دل على نبوته ، لأنه إن كان من فعل الله فهو دال على نبوته ، وإن كان من فعل النبي (ص) فالنبي لم يتمكن من ذلك إلا بعلوم فيه خارقة للعادة تدل على نبوته. فاذا قال إنه من فعل الله دون فعلي قطعنا على انه من فعل الله لثبوت صدقه. وقال قوم هو معجز لاختصاصه بأسلوب مخصوص ليس في شيء من كلام العرب. وقال قوم : تأليف القرآن ونظمه مستحيل من العباد كاستحالة الجواهر والألوان. وقال قوم كان معجزا لما فيه من العلم بالغائبات. وقال آخرون : كان معجزا لارتفاع الخلاف والتناقض فيه مع جريان العادة (١) بأنه لا يخلو كلام طويل من ذلك. وأقوى الأقوال عندي قول من قال انما كان معجزا خارقا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص دون الفصاحة بانفرادها ، ودون النظم بانفراده ودون الصرفة ، وإن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصرفة على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه‌الله من حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه.

والذي يدل على ما قلناه واخترناه أن التحدي معروف بين العرب بعضهم بعضا ، معتاد ويعتبرون (٢) في التحدي معارضة الكلام بمثله في نظمه ووصفه لأنهم لا يعارضون الخطب بالشعر ولا الشعر بالخطب. والشعر لا يعارض إلا بما كان يوافقه في الوزن والروي والقافية ، فلا

__________________

(١) سقطت من أ ، ب :

(٢) أ ، ح : يعترفون.


يعارضون الطويل بالرجز ، ولا الرجز بالكامل ، ولا الربع بالمتقارب ، وانما يعارضون جميع أوصافه ، واذا كان كذلك فقد (١) ثبت ان القرآن جمع (٢) الفصاحة المفرطة والنظم الذي ليس في كلام العرب مثله. فاذا عجزوا عن معارضته فيجب ان يكون الاعتبار بهما. فأما الذي يدل على اختصاصه بالفصاحة المفرطة فهو ان كل عاقل عرف شيئا من الفصاحة يعلم ذلك ، وان ما في القرآن من الفصاحة يزيد على كل فصيح.

وكيف لا يكون كذلك وقد وجدنا الطبقة الأولى قد شهدوا بذلك ، وطربوا له. كالوليد بن المغيرة ، والأعشى الكبير ، وكعب بن زهير ، ولبيد بن ربيعة ، والنابغة الجعدي ، ودخل كثير منهم في الإسلام ككعب والنابغة ولبيد. وهم الأعشى بالدخول في الإسلام فمنعه أبو جهل من وذلك وفزعه (٣) ، وقال له انه يحرم عليك الأطيبين الزنا والخمر. فقال أما الزنا فلا حاجة لي فيه لأني كبرت وأما الخمر فلا صبر لي عنه ، فانتظر (٤) وأتته المنية واخترمته (٥) دون الإسلام.

والوليد بن المغيرة تحير حين سمعه فقال سمعت الشعر وليس بشعر ، والرجز وليس برجز والخطب وليس بخطب ، وليس له اختلاج

__________________

(١) ح : وقد.

(٢) أ ، ب : مع.

(٣) أ ، ب : وفرقه.

(٤) ب ، ح : وأنظر.

(٥) ب ، ح : واخترم.


الكهنة. فقالوا له أنت شيخنا فاذا قلت هذا ضعفت (١) قلوبنا ففكر فقال : قولوا هو سحر. معاندة وحسدا للنبي (ص) ، فانزل الله تعالى هذه الآيات (٢) (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) ـ إلى قوله ـ (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٣) فمن دفع فصاحة القرآن لم يكن في حيز من تكلم. وأما اختصاصه بالنظم فمعلوم ضرورة لأنه مدرك مسموع (٤) وليس في كلام (٥) العرب ما يشبه نظمه من خطب ولا شعر على اختلاف أنواعه وصفاته ، فاجتماع الأمرين فيه (٦) لا يمكن دفعهما.

فان قيل : لو كان القرآن خارقا للعادة بفصاحته لوجدنا الفرق بين كلام (٧) أفصح العرب وبينه كما وجدنا الفرق بين (٨) شعر المتقدمين وبين شعر المحدثين الركيك وهما معتادان ، وكان ذلك أولى من حيث كان أحدهما معتادا والآخر خارقا للعادة وإذا لم نجد ذلك دل على انه ليس بخارق للعادة بفصاحته.

قلنا : هذا السؤال انما يلزم من ادعى انه خرق العادة بفصاحته

__________________

(١) ح : ضعف.

(٢) ب : الآية.

(٣) المدثر : ٢٤.

(٤) أهكذا : ليس بمدرك ولا بمسموع.

(٥) أ ، ب : شيء من كلام العرب.

(٦) ب ، ح : منه.

(٧) ليس في الأصل.

(٨) زاد في ح : بعدها كلام.


فقط دون من اعتبر الفصاحة والنظم وليس يمكن اجتماعهما في شيء من كلام العرب فيعلم كيفية الفصاحة والفرق بينهما.

فان قيل : النظم مقدور لكل أحد وانما الفصاحة هي المعتبرة. قلنا (١) : أول ما نقول ان النظم أيضا يحتاج الى علم مخصوص ، ولذلك (٢) تختلف الأحوال فيه فيأتى من بعضهم الخطب ولا يتأتى منه الشعر ، وآخرون (٣) يتأتى منهم (٤) الشعر ولا يتأتى منه الخطب ، فلا (٥) يكفي في النظم مجرد القدرة ، ولم نجدهم نظموا شيئا مثل القرآن (٦) ، فمن اين لنا انه كان يتأتى منهم. على انه لو كان النظم مقدورا لم يمنع ان يكونوا متى أرادوا الفصاحة المفرطة في هذا النظم لم يتأت منهم ، وان تأت منهم في الشعر والخطب ، ألا ترى ان في الناس من يكون اخطب الناس وأبلغهم فيها ، فاذا نظم الشعر كان ركيكا. وكذلك من قال الشعر البليغ للغاية (٧) لا يحسن ان يكتب كتابا ، فاذا تكلفه رك كلامه. وكذلك تفاضل الشعراء في أوزان الشعر فمنهم من يقوى على الطويل دون الرجز ومنهم من لا يتأتى

__________________

(١) أ : قيل. ب : أقول :

(٢) أ ، ب : فلذلك.

(٣) أ : وآخره.

(٤) أ ، ح : منه.

(٥) أ ، ب : ولا.

(٦) ب ، ح : مثل هذا القرآن.

(٧) ح : الذي فيه الغاية.


منه غير الرجز ، ولو تكلف الطويل لرك كلامه ، والرجال المفرطون في الفصاحة معروفون ، كالعجاج ورؤبة وغيرهما ، فانه لم يكن لهما (١) قصيد ، وان كان فلم يشبه الرجز ولا قاربه.

فاذا ثبت ذلك فليس في وجود كلام كثير من العرب ما يدل على انهم لو تكلفوه بهذا (٢) النظم لكان (٣) مثله ، ولما عدلوا عن المعارضة ، وتعذرت عليهم ، وإما لفقد علمهم بالنظم وإن كان فصيحا ، أو لعلمهم بأنهم لو تكلفوا ذلك لوقفوا (٤) دونه ، دل ذلك على ان القرآن خارق للعادة بمجموع الأمرين.

على ان اشتباه كثير من كلام العرب على الفصحاء لا يدل على انه مثله لأنه قد يشتبه الشيئان على أصحاب الصنائع وإن كان بينهما بون بعيد كاللؤلؤتين الغاليتين في الثمن والمشبهين المبهرجين (٥) ، حتى انه تدخل الشبهة بينهما ويتم الأغلاط ، وإن كانت لا تشتبه عندهم لؤلؤة حقيرة مع مخلبه.

ومن الناس من قال ان المطبوعين على الفصاحة الذين هم في الطبقة الأولى وجدوا الفرق بين فصيح كلام العرب وبين القرآن وانما كابروا في ذلك ، وكل من يجري مجراهم فهو مثلهم ، فأما من لم يبلغ تلك المنزلة

__________________

(١) أ : فيهما.

(٢) أ ، ب : كهذا.

(٣) أ : لم يكن.

(٤) في الاصل : لوقعوا.

(٥) ح : المتهرجين.


فهو لا يعلم الفرق فربما قلد ، أو (١) أحسن النظر ، أو اعتقد اعتقادا ليس بعلم فلا يمكن ادعاء العلم الضروري في ذلك. فعلم (٢) إنه لو كان وجه الإعجاز سلب العلوم لكانت العرب إذ سلبوا هذه العلوم خرجوا عن كمال العقل. وبهذا أجبنا من قال لم لا يجوز ان يكون من يأتي منه الفعل المحكم معتقدا أو ظانا دون ان يكون عالما بأن قلنا ما لأجله يتأتى الفعل المحكم هو أمر يلزم مع كمال العقل ، فلا يخرج عنه إلا باختلال عقله ، والعلم بالفصاحة من هذا الباب ، فلو سلبهم الله هذه العلوم لكانوا خرجوا من كمال العقل ، ولو كان كذلك لظهر واشتهر وكان يكون أبلغ في باب الإعجاز من غيره ، ولما لم يعلم كونهم كذلك وان العرب لم تتغير حالهم في حال من الأحوال دل ذلك على انهم لم يسلبوا العلوم ، واذا لم يسلبوها وهم متمكنون من مثل هذا القرآن كان يجب ان يعارضوا وقد بينا ان ذلك كان متعذرا منهم فبطل هذا القول.

فان قيل : هلا جعل القرآن في غاية الفصاحة التي لا تشتبه على أحد ممن سمع؟ قلنا : المصلحة معتبرة في ذلك ، ولو لزم ذلك للزم ان يقال : «ان كان» (٣) المعتبر هو الصرف ، فلم لم يجعل القرآن «في غاية الركاكة وقلة الفصاحة» (٤) فكان يكون أبلغ في باب

__________________

(١) أ : وأحسن عطفا بالواو وكذا ما بعده.

(٢) ب ، ح : علم.

(٣) سقط من ب ، ح.

(٤) في ب ، ح هكذا : من أرك الكلام وأقله فصاحة.


الإعجاز ، وليس يلزم في المعجز أن يبلغ الغاية القصوى ، ألا ترى ان الله تعالى لم (١) يجب قريشا إلى جعل الصفا ذهبا ، وإلى احياء عبد المطلب ، ونفل جبال تهامة من مواضعها ، وإلى تفجير الأرض لهم ينبوعا ، لأن المصلحة معتبرة مع كونها خارقة للعادة ، وليس تكون المعجزات على قدر الأماني والشهوات.

فان قيل : لم لا يجوز ان يكون القرآن من فعل بعض الجن ، ألقوه إلى النبي (ص) ليضل به الخلق ، ولا يمكنهم ان يدعوا ان فصاحة الجن مثل فصاحة العرب ولا انه ليس لهم علم بكيفية هذا النظم المخصوص لأنه لا طريق لهم (٢) الى ذلك ، بل يكفي التجويز في هذا الباب ، لأنه معه لا يمكن القطع على إنه من فعل الله. وأيضا فان النبي (ص) يدعي ان ملكا نزل عليه بهذا القرآن ، أفلا (٣) يجوز ان يكون ذلك الملك كاذبا ، ولا يمكنهم ادعاء عصمة الملائكة لأن ذلك معلوم بالسمع الذي لم تثبت بعد صحته ، وعادة الملائكة أيضا في الفصاحة غير معلومة.

قلنا : الجواب عن (٤) هذا السؤال من وجوه :

أحدها : انه لو طعن هذا السؤال في اعجاز القرآن لطعن في سائر

__________________

(١) سقطت من ح.

(٢) ب ، ح : لكم.

(٣) فلا.

(٤) ح : على.


المعجزات ، ولا يكون لنا طريق إلى العلم بصدق الصادق ، لأنا (١) متى قلنا ان ما يختص القديم بالقدرة عليه متى فعله على (٢) وجه يخرق العادة يكون دالا ، كان لقائل ان يقول : لم لا يكون في عادة الجن انه اذا قرب جسم (٣) من جسم ميت عاش ، كما أجرى العادة في الناس اذا قربنا حجر المغناطيس من (٤) الحديد جذبه. ومتى جوزنا ذلك لم يكن في إحياء الميت على مدعي (٥) النبوة دليل على صدقه. لأنا لا نأمن ان يكون بعض الجن نقل إليه ذلك الجسم ، واحيى الله تعالى ذلك لمكان عادتهم.

فان قيل : احياء الله تعالى الميت عند تقريب الجسم بيننا وفي عادتنا خرق منه لعادتنا ، فجرى مجرى تصديق الكذاب ، وذلك لا يجوز عليه ، وليس إذا جاز ان يفعل ذلك في عادة الجن بحيث لا نعلمه جاز ان يفعله في عادتنا ، لأن فعله في عادتهم لا وجه لقبحه ، وفعله في عادتنا فيه وجه قبح ، لأنه استفساد ، وليس كذلك نقل الكلام ، لأن الجني إذا نقل الكلام الذي لم تجر عادتنا بمثل فصاحته فنفس نقله خرق عادتنا ، وليس له تعالى في ذلك صنع ، واذا نقل الجسم المشار إليه فنفس نقله للجسم لم يخرق عادتنا ، وانما الخارق لها احياء الميت

__________________

(١) أ ، ب : لأنه.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) سقطت من أ.

(٤) ب ، ح : الى.

(٥) أ ، ب : مدح.


عند تقريب الجسم ، فالفرق بين الأمرين واضح.

قبل : السؤال لا يلزم من وجهين ، وهذا الانفصال ليس بصحيح.

احدهما : ان الجني إذا أحضر الجسم الذي أجرى الله عادتهم باحياء الميت عنده فلا يخلو ان يحيي الميت عنده (١) أو لا يحييه.

فان احياه فهذا تجويز كونه كاذبا ، وانه انما احياه لمكان (٢) عادتهم. وإن لم يحيه كان في ذلك خرق عادة الجن (٣) بفعل معجز خرق عادتهم في رفع الأحياء عند هذا الجسم الذي كان يحييه عندهم بمجرى عادتهم ، وفي ذلك تصديق الكذاب ، ولا جواب عن ذلك ألا بان يقال انه استفساد يجب المنع منه كما نقوله في الجواب الآخر.

والوجه الثاني : ان القرآن إذا كان خارقا للعادة بفصاحته ، فانما تأتى (٤) من الجني ذلك بان يجدد الله تعالى له (٥) آلة العلوم بالفصاحة حالا بعد حال ، لأن العلوم لا تبقى فيصير خلق هذه العلوم هو الخارق للعادة ، وجرى ذلك مجرى ما يقول صاحب الصرفة في مواضع ، ان ثبت (٦) لو ادعى النبوة وجعل معجزه نقل الجبال أو طفر البحار لكان خلق القدر الذي يتمكن من ذلك هو الخارق للعادة ، وهو المعجز ،

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) ح : لما كان.

(٣) أ : خرق العادة في الجن.

(٤) أ ، ب : وانما يأتى.

(٥) سقطت من ب.

(٦) أ ، ب : يثبت.


لا نفس النقل ، لأن فعلنا لا يكون دليلا على التصديق وانما يدل على التصديق ما يختص تعالى بالقدرة عليه ، ومتى رجع الى ان قال لم يخرق العادة بفصاحته سقطت معارضته بسؤال الجن ، وصار الكلام في هل هو خارق (١) للعادة أو ليس بخارق لها؟

وقد مضى الكلام على صحة ذلك.

والجواب الثاني (٢) عن سؤال الجن انه لو كان القرآن من فعل الجن لمنع الله تعالى منه لأن ذلك مفسدة ولا يجوز التمكين من ذلك على الله تعالى. فان قيل : انما لا يجوز عليه ان يفعل نفس الاستفساد وأما (٣) المنع من الاستفساد «فلا يجب ، ولو وجب ذلك لوجب ان يمنع تعالى كل شبهة من المنحرفين والمشعبذين من كل ما يدخل فيه شبهة على الخلق فالمنع من الشبهات وفعل القبائح مع التكليف لا يجب ، وليس إذا لم يجز عليه تعالى الاستفساد» (٤) لم يجز عليه التمكين منه ، كما اذا لم يجز عليه القبيح لم يجب عليه المنع منه (٥) ، وكان يلزم ان يمنع الله تعالى زرادشت ، وماني ، والحلاج وغيرهم من الممخرقين الذين فسد بهم خلق من الناس ، ولولاهم لما فسدوا ان وجب المنع من الاستفساد.

__________________

(١) ح : خرق.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) أ ، ب : وأما.

(٤) ما بين القوسين سقط من أ ، ب.

(٥) سقطت من أ ، ب.


قلنا : «الجواب عن ذلك من وجهين. احدهما» : (١) ان تمكين هؤلاء المذكورين من الفساد ليس باستفساد ، لأنه تمكين وتعريض لثواب (٢) اعظم من الثواب الذي عرضوا له مع عدم هؤلاء فصار خلق هؤلاء وتمكينهم من الشبهات تمكينا من تكليف أشق وتعريضا لثواب أعظم فخرج بذلك من الاستفساد ، لأن حد الاستفساد ما يقع عنده الفساد ولولاه لم يقع من غير ان يكون تمكينا وهذا تمكين فخرج من الاستفساد. وليس لأحد ان يقول تمكين الجن من القاء القرآن إلينا تمكين وليس باستفساد ، لأنا بينا ان ذلك يسد علينا (٣) الباب الموصل إلى الفرق بين الصادق والكاذب وذلك باطل بالاتفاق.

والثاني : ان كل من فسد بدعاء ابليس وهؤلاء الممخرقين كان يفسد وإن لم يكن ابليس ولا أحد من هؤلاء فلم يكن ذلك استفسادا كما نقول فيمن بطل عنده متشابه القرآن ، وخلق ابليس وغيره ، ولا يمكن ادعاء العلم الضروري في خلافه لأن ذلك غير معلوم ، ولا يمكن مثل ذلك في القاء الجن القرآن لما بيناه من ان ذلك يؤدي الى سد الطريق في الفرق بين الصادق والكاذب وهذا القدر كاف هاهنا فان استيفائه يطول به الكتاب وقد أجبت عن سؤال الجن.

__________________

(١) الجملة بين القوسين سقطت من أ ، ب.

(٢) في الاصل : للثواب.

(٣) ح : عليه.


فان قلت (١) : بان ذلك يؤدي إلى ان انشقاق القمر وطلوع الشمس من مغربها وقلع الجبال من أماكنها وطفر البحار العظام وفلق البحر لا يكون شيء من ذلك (٢) معجزا لأن جنسه داخل تحت مقدور القدر ، ولا يمتنع ان يكون جميع ذلك من فعل بعض الجن ، ومن ارتكب فقال جميع ذلك لا يدل على النبوة كفاه ما فيه من الشناعة ، ومتى قالوا حمل الأجسام العظيمة وقلع الجبال يحتاج الى ان يكون من حمل ذلك على بنية كثيفة تحتمل القدر الكثيرة ، لأن الأجسام المتخلخلة لا تحتملها (٣) مثل قدر الفيل ، ولا تحتمل (٤) النملة من القدر مثل ما تحتمل (٥) الجبال ، ولو حصل من له بنية كثيفة لوجب ان يرى ، ولو رأى لعلم انه ليس فعل الله فلا يكون دلالة.

قيل : هذا أصل فيه نزاع. فمن الناس من قال يكفي في احتمال المحل القدرة ان تكون محل الحياة فقط ، ومتى حصلت بنية الحياة جاز (٦) ان يوجد (٧) في البنية القدر العظيمة ، وليس ذلك بأبعد من جواز حلول الاعتمادات بقدر ما يوازي الجبال في الذرة. فان

__________________

(١) ح : بأن قلت.

(٢) أ ، ب هكذا : من ذلك شيئا.

(٣) ح : لا يحلها. والصواب : لا تحتل

(٤) ح : لا تحل.

(٥) ح : تحمل.

(٦) سقطت من ج.

(٧) أ : يؤخذ.


استبعاد أحدهما كاستبعاد الآخر ، ولذلك يقلع الريح مع تخلخله الأجسام الثقال ، ويقصم الأشجار الصلبة ، وقد أهلك الله الأمم بالريح فاذا جاز ذلك في الاعتمادات لم لا يجوز مثله في القدر ، وإذا كان ذلك جائزا فسؤال الجن متوجه في هذه الأشياء ، ولا مخلص من ذلك إلا بأن يقال ان (١) ذلك استفساد والله تعالى لا يمكن منه فأما من قال ان القرآن جنسه ليس بمقدور كالجواهر والألوان فقوله باطل. لأن جنس القرآن الحروف والأصوات وذلك من مقدورنا ، والكلام يكون بأن يوجد بعضها في أثر بعض ، فالجنس مقدور ، وانما يتعذر لفقد العلم في بعض المواضع.

فأما من قال مجرد النظم هو المعجز فقوله باطل لأنا لو فرضنا وقوع مثل هذا الأسلوب وهو في غاية السخف والركاكة لما كان ذلك معارضه عند أحد من العقلاء. والسبق إلى الأسلوب أيضا لا يكون معجزا كما لا يكون السبق إلى نظم الشعر ، وقول الخطب وغير ذلك من العلوم معجزا.

ومن قال جهة اعجازه ما تضمنه من الأخبار «بالغائبات ليس بصحيح ، لأن التحدي وقع بسورة غير معينة وأكثر السور وخاصة القصار ليس فيها إخبار» (٢) بالغائبات (٣) فلو كان ذلك مراعى

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) أ ، ب : المغيبات.


لعارضوا فيما ليس فيها (١) ذلك ، وكانوا معارضين وذلك باطل. ومن قال جهة الإعجاز ارتفاع الاختلاف والتناقض فبعيد لأن لقائل ان يقول ان العاقل إذا تحفظ وتيقظ حتى لا يقع في كلامه تناقض لم يقع فمن أن انه خارق للعادة ولو جعل ذلك من فضائل القرآن ومرتبته لكان جيدا.

فأما معجزاته التي هي سوى القرآن كمجيء الشجر ، حين قال لها اقبلي فأقبلت نخد الأرض خدا ، ثم قال لها ارجعي فرجعت ومثل الميضاة وانه وضع يده (ص) في الإناء ففار الماء من بين أصابعه حتى شربوا ورووا. ومثل إطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير ، ومثل حنين الجدع الذي كان يستند (ص) إليه إذا خطب لما تحول إلى المنبر فلما جاء إليه والتزمه سكن ، ومثل (٢) تسبيح الحصا في كفه (ص) ، وكلام الذراع ، وقولها لا تأكلني فأنا مسمومة ، ومثل انه (ص) لما استسقى فجاء المطر فشكوا إليه تهدم المنازل فقال (ص) حوالينا ولا علينا ، وأشار (ص) الى السحاب فصار كالإكليل حول المدينة ، والشمس طالعة في المدينة. ومثل انشقاق القمر وقد نطق القرآن به ، ومثل شكوى البعير ، ومثل قوله (ص) لأمير المؤمنين (ع) تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقوله له انك تقتل ذا الثدية ، وقوله (ص) لعمار تقتلك الفئة الباغية وغير ذلك من الآيات الباهرات

__________________

(١) أ : فيه.

(٢) ب : ومنها وكذا الآتي.


التي هي معروفة مذكورة.

وليس يمكن ان يقال هذه اخبار احاد لا يعول على مثلها لأن المسلمين تواتروها واجمعوا على صحتها ، ونحن وان قلنا انها لا تعلم ضرورة فهي معلومة بالاستدلال بالتواتر على ما نذهب إليه.

ولا يمكن أيضا ادعاء الحيل في ذلك لأن كثيرا منها يستحيل فيه كانشقاق القمر ، والاستسقاء ، واطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير وخروج الماء من بين أصابعه وإخباره بالغائبات (١) ومجىء الشجرة إليه ورجوعها عنه لأن جميع ذلك لا تتم فيه الحيلة ، وانما تمكن الحيلة في الأجسام الخفيفة التي تحدث بالناقل ولا يتم في الشجرة العظيمة. وحنين الجذع لا يمكن ان يدعى انه كان لتجويف فيه فدخله الريح لأن مثل ذلك لا يجيء (٢) ، وكان لا يسكن لمجيء (٣) النبي إليه ، ويحن إذا فارقه بل كان يكون ذلك بحسب الريح ، فأما كلام الذراع فقيل فيه وجهان أحدهما : ان الله تعالى بناها بنية الحي وجعل لها آلة النطق ، فتكلم بما سمع ، وكان ذلك خارقا للعادة. والآخر ان الله تعالى فعل فيه الكلام وأضافه الى الذراع مجازا. ومن قال لو انشق القمر لرآه جميع الخلق ليس بصحيح لأنه لا يمتنع ان يكون الناس

__________________

(١) أ ، ب : المغنّيات.

(٢) ح : لا يخفى.

(٣) ح : بمجيء.


في تلك الحال مشاغيل بالنوم وغيره فانه كان بالليل فلم يتفق (١) لهم مراعاته ، فانه بقي ساعة ثم التأم. وأيضا فلا يمتنع ان يكون هناك غيم حال بينه وبين جميع من لم يره ولا شاهده فلذلك لم يره الجميع والله أعلم (٢).

__________________

(١) أ : فلم يبق.

(٢) ح : أعلم بذلك.



القسم الخامس

مباحث

الامامة


«الكلام في الامامة» (١)

الكلام في الإمامة في خمسة فصول :

أ ـ في (٢) وجوب الإمامة.

ب ـ في صفات الإمام.

ج ـ في اعيان الأئمة.

د ـ في أحكام البغاة.

ه ـ في الغيبة.

ونحن نبين فصلا فصلا من ذلك على وجه الإيجاز إن شاء الله.

فصل ـ ١ ـ

الكلام (٣) في وجوب الامامة

المخالف في وجوب الإمامة طائفتان أحدهما يخالف في وجوبها عقلا ، والآخر يخالف في وجوبها سمعا ، والمخالف في وجوبها سمعا شاذ لا يعتد به لشذوذه ، لأنه لا يعرف قائل به ، وعلماء الأمة

__________________

(١) سقط من أ ، ب.

(٢) ب ، ح : الكلام في. وكذا الباقي.

(٣) ح : في الكلام في ...


المعروفون مجمعون (١) على وجوب الإمامة سمعا والخلاف القوي في وجوب الإمامة عقلا. فانه لا يقول بوجوبها عقلا غير الإمامية والبغداديين من المعتزلة. وجماعة من المتأخرين والباقون يخالفون في ذلك ويقولون المرجع فيه إلى السمع.

ولنا في الكلام بوجوب الامامة عقلا طريقان.

أحدهما : ان نبين وجوبها عقلا سواء كان هناك شرع (٢) أو لم يكن.

وثانيها : ان نبين ان مع وجود الشرع لا بدّ من امام له صفة مخصوصة لحفظ الشرع باعتبار عقلي.

والذي يدل على الطريقة الأولى انه قد ثبت ان الناس متى كانوا غير معصومين ويجوز منهم الخطأ ، وترك الواجب إذا كان لهم رئيس مطاع منبسط اليد ، يردع المعاند ويؤدب الجاني ويأخذ على يد السفيه والجاهل وينتصف للمظلوم من الظالم كانوا إلى وقوع الصلاح وقلة الفساد أقرب ومتى خلوا من رئيس على ما وصفناه وقع الفساد وقل الصلاح ووقع الهرج والمرج وفسدت المعايش ، بهذا جرت العادة وحكم الاعتبار ومن خالف في ذلك لا تحسن مكالمته لكونه مركوزا في أوائل العقول بل المعلوم ان مع وجود الرؤساء وانقباض أيديهم وضعف سلطانهم يكثر الفساد ويقل الصلاح فكيف يمكن الخلاف فيه. وليس لأحد ان يقول ان ما يحصل من الصلاح عند الرؤساء أمور دنياوية ولا يجب

__________________

(١) ح : مجتمعون.

(٢) في الأصل : سمع.


«اللطف لأجلها» (١) وليس فيها أمر ديني يجب اللطف لأجله ، وذلك ان ما يحصل عند الرؤساء أمر ديني وهو قلة الظلم ووقوع الفساد من تغلب القوي على الضعيف ، وهذه أمور دينية يجب اللطف لأجلها وإن حصل فيها أمر دنياوي فعلى وجه التبع ، ولا يبلغ الخوف من الرؤساء الى حد الإلجاء لأنه لو بلغ حد الإلجاء لما وقع شيء من الفساد لأن مع الإلجاء لا يقع فعل ما ألجئ إليه وكان يجب ان لا يستحق تارك القبيح وفاعل الواجب مدحا لأن ما يقع على وجه الإلجاء لا يستحق به مدحا ، والمعلوم ان العقلاء يستحقون المدح بفعل الواجب وترك القبيح مع وجود الرؤساء ولا يقدح فيما قلنا وقوع كثير (٢) من الفساد عند نصب رئيس بعينه لأنه إنما (٣) يقع الفساد لكراهتهم رئيسا بعينه ولو نصب لهم من يؤثرونه ويميلون إليه لرضوا به وانقادوا له ، وذلك (٤) لا يقدح في وجوب جنس الرئاسة ولا يلزم أيضا نصب جماعة رؤساء (٥) ، لأن بهذه الطريقة إنما يعلم وجوب جنس الرئاسة فأما عددهم وصفاتهم فأنا نرجع الى طريقة أخرى غير اعتبار وجوب الرئاسة في الجملة والعقل كان يجوز نصب أئمة كثيرين في كل زمان ، وإنما منع السمع والاجماع من انه لا ينصب من يسمى إماما في كل زمان

__________________

(١) سقطت من ح.

(٢) أ ، ب : الكثير.

(٣) سقطت من أ.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) ب ، ح هكذا. رؤساء جماعة.


إلا واحدا ، ويكون باقي الرؤساء من قبله والذي يقطع به ان الرئاسة لطف فيه أفعال الجوارح التي يظهر قلتها بوجود الرؤساء وكثرتها بعدمهم ، وأما أفعال القلوب فلا طريق لنا الى كون الرئيس لطفا فيها. ولا يلزم إذا كان الإمام لطفا في بعض التكاليف ان لا يكون لطفا أصلا لأن احكام الألطاف تختلف فبعضها عام من كل وجه وبعضها خاص وبعضها عام من وجه وخاص من وجه فلا ينبغي ان يقاس بعضها على بعض. ألا ترى ان المعرفة عامة في جميع التكاليف إلا ما تقدمها من زمان مهلة النظر ، وأما العبادات الشرعية فليس يخفى الاختصاص فيها لأن الصلاة تجب على قوم دون قوم فان الحائض لا تجب عليها الصلاة (١). والزكاة لا تجب على من لا يملك النصاب والصوم لا يجب إلا على من يطيقه. فأما (٢) من به عطاش أو قلة صبر عن الطعام لفساد مزاج فلا يجب عليه وكذلك جميع العبادات فلا يجب قياس بعضها على بعض فاما خلق الأولاد والصحة والسقم والغنى والفقر فالأمر في اختصاصه ظاهر. ومن هو معصوم مأمون منه القبيح وترك الواجب لا يحتاج إلى امام يكون لطفا له في ذلك وإن احتاج إليه من وجوه أخر نحو أخذ معالم الدين عنه وغير ذلك. واللطف في الحقيقة هو تصرف الامام وأمره ونهيه وتأديبه فان حصل انزاحت به العلة وحسن التكليف وإن لم يحصل بأمر (٣) يرجع

__________________

(١) سقطت من ب ، ح.

(٢) ح : وأما.

(٣) أ ، ب : الأمر.


الى المكلفين لا يجب سقوط التكليف عنهم لأنهم يؤتون في ذلك من قبل نفوسهم لا من قبل خالقهم. وإنما يجب على الله خلق الامام وإيجابه علينا طاعته ليتمكن من التصرف ، فاذا لم يمكنه لم (١) يجب سقوط التكليف عنا لأنا نكون أتينا من قبل نفوسنا. فاذا ثبتت هذه الجملة فلا يلزم اذا كان الامام غائبا ان يسقط التكليف عنا لأنا أتينا من قبل نفوسنا بأن أخفناه وأحوجناه إلى الاستتار ولو أطعناه ومكناه لظهر وتصرف فحصل اللطف. وكل من لم يظهر له الامام فلا بد ان تكون العلة ترجع إليه لأنه لو رجع الى غيره لأسقط الله تكليفه وفي بقاء التكليف عليه دليل على ان الله تعالى أزاح علته وبين له ما هو لطف له ، فعل هو أم لم يفعل ، كما نقول ان الصلاة لطف لكل مكلف ، فمن لم يصل لم يجب سقوط تكليفه لأنه أتي من قبل نفسه وكذلك هاهنا.

ولا يلزم على جواز الغيبة جواز عدمه لأنه لو كان معدوما لما أمكننا طاعته ولا تمكينه فلا يكون علتنا ، مزاحة ، وإذا كان موجودا أمكننا ذلك فاذا لم يظهر تكون الحجة علينا ، وإذا كان معدوما تكون الحجة على الله تعالى. فبان الفرق بين وجوده غائبا وبين عدمه ، فالوجود (٢) أصل لتمكيننا إياه ولا يمكن حصول الفرع بلا حصول الأصل. وأولياء الامام ومن يعتقد طاعته فاللطف بمكانه حاصل لهم في كل وقت عند كثير من أصحابنا لأنهم يرتدعون لوجوده من كثير

__________________

(١) اداة النفي سقطت من أ.

(٢) أ ، ب : فالوجوب.


من القبائح ولأنهم لا يأمنون كل ساعة من ظهوره وتمكينه فيخالفون تأديبه كما يخافونه وإن لم يكن معهم في بلدهم ، وكان (١) بينه وبينهم بعد ، بل ربما كانت الغيبة أبلغ لأن معها يجوز ان يكون حاضرا فيهم (٢) مشاهدا لهم وإن لم (٣) يعرفوه بعينه ، وفيهم من قال انه إذا لم يظهر لهم فالتقصير يرجع إليهم أولا (٤) ، لما يعلم الله من حالهم انه لو ظهر إليهم (٥) لا شاعوا خبره أو شكوا في معجزه لشبهة تدخل عليهم فيكفرون به فلذلك لم يظهره (٦) لهم.

ولا يجوز ان يكون للإمامة (٧) بدل يقوم مقامها في باب اللطف كما لا يجوز مثله في المعرفة وإن جاز في كثير من الألطاف ان يكون له بدل. وإنما قلنا ذلك لأنه لو كان لها بدل لم يمتنع ان يفعل الله ذلك البدل فيمن ليس بمعصوم فيكون حاله مع فقد الرئيس كحاله مع وجوده في باب الانزجار عن القبيح والتوفر على فعل الواجب والمعلوم ضرورة خلافه على ما بيناه. والكلام في تفريع هذا الباب استوفيناه في تلخيص الشافي وشرح الجمل وفيما ذكرناه هاهنا كفاية.

__________________

(١) ليس في الأصل.

(٢) سقطت من ب ، أ.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) ح : أو لما يعلم ...

(٥) أ ، ب : لهم.

(٦) ح : يظهر.

(٧) ب ، ح : الامامة بحذف اللام.


وأما الطريقة الثانية : (١) وهو أنه لا بد من إمام بعد ورود الشرع ، إنه اذا ثبت ان شريعة نبينا (ع) مؤبدة إلى يوم القيامة وان من يأتي فيما بعد يلزمه العمل بها (٢) كما لزم من كان في عصر النبي (ص) فلا بد من ان تكون علتهم مزاحة كما كانت علة من شاهد النبي (ص) مزاحه. ولا (٣) تكون العلة مزاحة إلا بأن تكون الشريعة محفوظة. «فلا تخلو من ان تكون محفوظة» (٤) بالتواتر أو الاجماع أو الرجوع الى أخبار الآحاد أو القياس أو بوجود معصوم عالم بجميع الأحكام في كل عصر يجري قوله مثل قول النبي (ص) فاذا أفسدنا الأقسام كلها إلا وجود معصوم ثبت انه لا بدّ من وجوده في كل وقت. ولا يجوز ان تكون محفوظة بالتواتر لأنه ليس جميع الشريعة متواترا بها بل التواتر موجود في مسائل قليلة نزره فكيف يعمل بها في باقي الشريعة على ان ما هو متواتر يجوز ان يصير غير متواتر بأن يترك في كل وقت جماعة من الناقلين نقله الى ان يصير آحادا أما لشبهه تدخل عليهم ، أو اشتغال بمعاش وغير ذلك من القواطع ولا مانع يمنع من ذلك أو يتعمدوا تركه لأنهم ليسوا معصومين لا يجوز عليهم ذلك. ولا يجوز ان تكون محفوظة بالاجماع لأن الاجماع ليس بحاصل في أكثر الأحكام

__________________

(١) أ ، ب : والذي يدل على الطريقة الثانية.

(٢) سقط من أ.

(٣) اداة النفي سقطت من ح.

(٤) الجملة سقطت من أ.


بل هو حاصل في مسائل قليلة والباقي كله فيه خلاف ، فكيف يعول عليه. على ان الاجماع ان فرضنا انه ليس فيهم معصوم على ما يقولونه فليس بحجة لأن حكم اجتماعهم حكم انفرادهم فاذا كان كل واحد منهم ليس معصوما (١) فكيف يصيرون باجتماعهم معصومين ولو جاز ذلك جاز ان يكون كل واحد منهم لا يكون مؤمنا فاذا اجتمعوا صاروا مؤمنين ، أو يكون كل واحد منهم يهوديا فاذا اجتمعوا صاروا مسلمين وذلك باطل.

ومتى قيل : في العقل وإن (٢) كان الأمر على ما قلتموه فان أدلة الشرع أمنتنا من جواز اجتماعهم على خطأ من آيات واخبار قلنا لا دلالة في شيء من الآيات والأخبار على ما يدعونه وبيننا وبينكم السبر والاعتبار وقد استوفينا الكلام في ذلك في أصول الفقه (٣) وتلخيص الشافي وشرح الجمل ، فلا نطول بذكره هاهنا.

فأما اخبار الآحاد والقياس فلا يجوز ان يعول عليهما عندنا (٤) وقد بينا ذلك في أصول الفقه وغيره من كتبنا فلم يبق من الاقسام إلا وجود معصوم يجري قوله كقول النبي (ص).

فان قيل : يلزم على هذا ان يكون من لا يعرف الامام لا يعرف

__________________

(١) ب ، ح : بمعصوم.

(٢) أ : إن. بحذف الواو.

(٣) كتاب (عدة الاصول) وهو مؤلف من قسمين الاول في أصول الدين والثاني في أصول الفقه.

(٤) سقطت من أ ، ب.


احكام الشرع والمعلوم خلافه.

قلنا : من لا يعرف الامام لا يجوز ان يعرف من الشريعة إلا (١) ما تواتر النقل به أو دل دليل قاطع عليه من ظاهر قرآن أو اجتمعت الأمة عليه ، فأما ما عدا ذلك فانه لا يعلمه وان اعتقده فانما يعتقده اعتقادا ليس بعلم. فلم يخرج من موجب الدلالة. والشرع يصل الى من هو في البلاد البعيدة وفي زمن النبي أو الامام بالنقل المتواتر الذي من ورائه حافظ معصوم ومتى انقطع دونهم أو وقع فيه تفريط تلافاه حتى يصل إليهم وينقطع عذرهم. فاما إذا فرضنا النقل بلا حافظ معصوم من وراء الناقلين فأنا لا نثق بأنه وصل جميعه ، وجوزنا ان يكون وقع فيه تقصير أو كتمان لشبهة أو تعمد ، وإنما نأمن من وقوع شيء منه لعلمنا ان من ورائه معصوما متى وقع خلل تلافاه ، وهذه حالنا في زمن الغيبة فأنا متى علمنا بقاء التكليف وعلمنا استمرار الغيبة علمنا ان عذرنا منقطع ولطفنا حاصل لأنه لو لم يكن حاصلا لسقط التكليف أو اظهر الله الامام ليبين لنا ما وقع فيه من الخلل فلا يمكن التسوية بين نقل من ورائه معصوم وبين نقل ليس من ورائه ذلك فسقط الاعتراض.

__________________

(١) سقطت من الاصل.


فصل ـ ٢ ـ

في صفات الإمام

العصمة : ـ

يجب (١) ان يكون الإمام معصوما (٢) من القبائح والاخلال بالواجبات ، لأنه لو لم يكن كذلك لكانت علة الحاجة قائمة فيه إلى آخر لأن الناس إنما احتاجوا إلى الامام لكونهم غير معصومين ، ومحال أن تكون العلة حاصلة والحاجة مرتفعة لأن ذلك نقض للعلة (٣) ، ومتى (٤) احتاج إلى امام لكان الكلام فيه كالكلام في الامام الأول ، وذلك يؤدي الى وجود أئمة لا نهاية لهم ، أو الانتهاء إلى امام معصوم ليس من ورائه امام وهو المطلوب.

وإنما قلنا ان علة الحاجة هي ارتفاع العصمة لأن الذي دلنا على الحاجة دلنا على جهة الحاجة ألا ترى ان دليلنا في وجوب الرئاسة هو ان الفساد يقل عند وجوده وانبساط سلطانه ويكثر الصلاح وذلك لا يكون

__________________

(١) ب ، ح : ويجب.

(٢) زاد في أبعدها : معه.

(٣) ب ، ح : نقص العلة.

(٤) ب ، ح : ولو احتاج.


إلا ممن ليس بمعصوم لأنهم لو كانوا معصومين لكان الصلاح شاملا أبدا ، والفساد مرتفعا فلم يحتج إلى رئيس يقلل (١) ذلك ، فبان ان علة الحاجة هي ارتفاع العصمة. ويجب ان تكون مرتفعة عن الامام وإلا أدى إلى ما بينا فساده.

وليس يلزم على ذلك عصمة الأمراء والحكام وإن كانوا رؤساء لأنهم إذا لم يكونوا معصومين فلهم رئيس معصوم وقد أشرنا إليه فلم ينتقض علينا ، والامام لا امام له ولا رئيس فوق رئاسته فلذلك وجب ان يكون معصوما. فان قالوا : الأمة أيضا من وراء الامام ، متى اخطأ عزلته وأقامت غيره مقامه (٢). قلنا : هذا باطل لأن علة الحاجة الى الرئيس ليست هي وقوع الخطأ بل هي جواز الخطأ عليهم ، ولو كان العلة (٣) وقوع الخطأ لكان من لم يقع منه الخطأ لا يحتاج إلى امام ، وذلك خلاف الاجماع.

ثم على ما قالوه كان يجب ان تكون الأمة امام الامام وذلك خلاف الاجماع. ومع هذا فلا يجوز ان يكون الشيء (٤) يحتاج إلى غيره في وقت يحتاج ذلك الغير إليه بعينه لأن ذلك يؤدي إلى حاجة الشيء إلى نفسه ، وذلك لا يجوز ، وكل علة تدعى في الحاجة إلى الامام من قيامه

__________________

(١) ح : يعلل.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) أ : العمل.

(٤) أ : النبي.


بأمر الأمة ، وتوليه (١) الأمر والقضاء (٢) والجهاد وقبض الأخماس والزكوات وغير ذلك تابع للشرع وكان يجوز ان يخلو التكليف العقلي من جميع ذلك مع ثبوت الحاجة إلى امام للعلة التي قدمناها.

فان قيل : لو كان علة الحاجة ارتفاع العصمة وجب ان يكون من هو معصوم لا يحتاج إلى امام يكون لطفا له في ارتفاع القبيح من جهته ، وإن احتاج إليه لعلة أخرى غيرها من أخذ معالم الدين عنه وغير ذلك كما نقوله فيمن هو أهل (٣) للإمامة في زمن امام.

قلنا (٤) : انه يجب ان يكون معصوما وله امام لما قلناه من العلة ، لا لتقليل (٥) القبيح وارتفاعه من جهته.

الأفضلية : ـ

ويجب ان يكون أفضل من كل واحد من رعيته في كونه (٦) أكثر ثوابا عند الله ، وفي الفضل الظاهر.

فالذي (٧) يدل على كونه أكثر ثوابا ما بيناه من وجوب عصمته ،

__________________

(١) أ ، ب : توليته.

(٢) ح : الأمراء والقضاة.

(٣) ب ، ح : مؤهل.

(٤) ح : قبله.

(٥) ح : لا لتقليد.

(٦) أ : وكونه ، بدل في كونه.

(٧) سقط من ب ، ح.


«واذا ثبتت عصمته» (١) فكل من أوجب (٢) له العصمة قطع على انه (٣) أكثر ثوابا لأن (٤) أحدا لا يفرق بين المسألتين.

وأيضا فالإمام يستحق من التعظيم والتبجيل وعلو المنزلة في الدين ما لا يستحقه أحد من رعيته.

وهذا الضرب من التعظيم لا يجوز ان يكون (٥) تفضلا بدلالة انه لا يجوز (٦) فعله بالبهائم والأطفال وإذا وجب ان يكون مستحقا دل على انه أكثر ثوابا لأن التعظيم ينبئ عنه فاذا ثبت عصمته على ما قدمناه قطعنا على حصول هذه المنزلة عند الله من غير شرط بخلاف ما شرط في تعظيم بعضنا (٧) لبعض.

وأيضا فقد دللنا على ان الامام حجة في الشرع فوجب ان يكون أكثر رعيته ثوابا كالنبي (ص) فانه إنما وجب ذلك فيه لكونه حجة في الشرع.

والذي (٨) يدل على إنه يجب ان يكون أفضل في الظاهر ما نعلمه

__________________

(١) الجملة بين القوسين سقطت من ب ، أ.

(٢) أ ، ب : أوجبت.

(٣) ح : كونه.

(٤) أ ، ب : فان.

(٥) سقطت من ح.

(٦) أ : لا يفعله.

(٧) في الاصل : بعضها.

(٨) ح : واما الذي.


ضرورة من قبح تقديم المفضول على الفاضل ألا ترى إنه يقبح من ملك حكيم ان يجعل رئيسا في الخط على مثل ابن مقلة ونظرائه من يكتب خطوط الصبيان والبقالين (١) ، ويجعل رئيسا في الفقه على مثل أبي حنيفة والشافعي وغيرهما.

والعلم بقبح ذلك ضروري لا يختلف العقلاء فيه ولا علة لذلك إلا انه تقديم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه ، وإذا كان الله تعالى هو الناصب للإمام يجب ان لا ينصب إلا من هو أفضل في ظننا وعلمنا. وإنما قلنا يجب (٢) ان يكون أفضل فيما هو امام فيه لأنه يجوز ان يكون في رعيته من هو أفضل منه فيما ليس هو امام فيه ، ككثير من الصنائع (٣) وغير ذلك. والمعتبر كونه أفضل (٤) فيما هو امام فيه. وبذلك نجيب من قال ان النبي (ص) قدم عمرو بن العاص على فضلاء الصحابة وقدم زيدا على جعفر ، وهو أفضل منه ، وقدم خالدا أيضا على جعفر. وذلك ان كل هؤلاء إنما قدموا في سياسة الحرب وتدبير الجيوش وهم في ذلك أفضل ممن قدموا عليه ، وإن كانوا (٥) أولئك أفضل في خصال أخر دينية أو دنياوية ، فسقط الاعتراض.

__________________

(١) ح : النقالين. بالنون.

(٢) ب : أنه يجب.

(٣) زاد في ب ، ح : واطهر.

(٤) أ ، بدلها : أظهر.

(٥) أ ، ب : كان.


ولا يجوز تقديم المفضول على الفاضل لعلة وعارض لأن تقديمه عليه وجه قبح ومع حصول وجه القبح لا يحسن ذلك كما لا يحسن الظلم ، وإن عرض فيه وجه من وجوه الحسن ككونه ، نفعا للغير لأن مع كونه ظلما وهو وجه القبح لا يحسن على حال ، ولو جاز ان يحسن ذلك لجاز ان يحسن تقديم الفاسق المتهتك على أهل الستر والصلاح وتقديم الكافر على المؤمن بمثل (١) ما قالوه وذلك باطل.

العلم : ـ

ويجب أيضا (٢) ان يكون الامام عالما بتدبير ما هو امام فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل.

ويجب أيضا ان يكون بعد الشرع عالما بجميع الشريعة لكونه حاكما في جميعها. يدل على ذلك انه لا يحسن من حكيم من حكماء الملوك ان يولى وزرائه والنظر في مملكته من لا يحسنها أو لا يحسن أكثر من ذلك ، ومتى فعل ذلك كان مضيعا لمملكته واستحق الذم من العقلاء وكذلك لا يحسن من أحدنا ان يوكل إنسانا (٣) على النظر في أمر ضيعته وأهله وولده وتدبير أمورهم من لا يحسن شيئا منها أو أكثرها ، ومتى فعل ذلك ذمه العقلاء. وقالوا (٤) ضيعت أمر أهلك وضيعتك

__________________

(١) ب ، ح : لمثل.

(٢) سقطت من ب ، ح.

(٣) كذا في الاصل وهي زيادة.

(٤) زاد به : له.


والتولية في هذا الباب بخلاف التكليف لأن أحدا يحسن منه ان يعرض ولده لتعلم العلوم وإن لم يحسنها ولا يحسن منه ان يجعله رئيسا فيها وهو لا يحسنها فبان الفرق بينهما.

ولا يلزم إذا قلنا انه يجب ان يكون عالما بما أسند إليه ان يكون عالما بما ليس هو إماما فيه كالصنائع وغير ذلك ، لأنه ليس هو رئيسا فيها ومتى وقع فيها تنازع من أهلها ففرضه (١) الرجوع إلى أهل الخبرة ، والحكم بما يقولونه ، وكل من ولي ولاية صغرت أو كبرت كالقضاء والإمارة والجباية وغير ذلك فانه يجب ان يكون عالما «بما أسند إليه ولا يجب ان يكون عالما» (٢) بما ليس بمستند إليه لأن من ولي القضاء لا يلزم ان يكون عالما بسياسة الجند ، ومن ولي الامارة لا يلزم ان يكون عالما بالأحكام وهكذا جميع الولايات ، ولا يلزم أيضا ان يكون عالما بصدق الشهود والمقرين على أنفسهم لأنه إنما جعل إماما في الحكم بالظاهر دون الباطن ، وإنما يجب ان يكون عالما «بما أسند إليه في حال كونه إماما. فأما قبل ذلك فلا يجب ان يكون عالما» (٣). ولا يلزم ان يكون أمير المؤمنين (ع) عالما بجميع الشرع في حياة النبي (ص) ، أو الحسن والحسين عالمين بجميع ذلك في حياة ابيهما ، بل انما يأخذ المؤهل للإمامة العلم ممن قبله شيئا بعد شيء ليتكامل عند آخر نفس من الامام المتقدم عليه بما أسند إليه.

__________________

(١) ح : ونفرضه.

(٢) الجملة سقطت من أ ، ب.

(٣) الجملة سقطت من أ ، ب.


ولو جاز أن يعلم الامام كثيرا من الأحكام ويستفتي العلماء «لجاز ان لا يعلم شيئا منها» (١) ويستفتيهم وإلا فما الفرق ، والمخالف يعتبر كونه من أهل الاجتهاد.

ويدل (٢) على كونه عالما بجميع الشرع أنا قد دللنا على كونه حافظا للشرع فلو لم يكن عالما بجميعه لجوزنا أن يكون وقع فيه خلل من الناقلين أو تركوا بعض ما ليس الامام عالما به فيؤدي الى ان لا يتصل بنا ما هو مصلحة لنا ، ولا تنزاح علتنا في التكليف لذلك وذلك باطل بالاتفاق.

ويجب ان يكون الامام أشجع رعيته لأنه فيهم المنظور (٣) إليه ، فلو لم يكن أشجع لجاز ان ينهزم فينهزم بانهزامه المسلمون فيكون فيه بوار المسلمين والاسلام فأذن يجب ان يكون أشجعهم وأربطهم جأشا وأثبتهم قلبا غير ان هذا يجب مع فرض التعبد (٤) بالجهاد. فأما ان لم يكن متعبدا بالجهاد فلا يجب مع فرض ذلك.

حسن الرأي : ـ

ويجب ان يكون الامام أعقل رعيته والمراد بالأعقل أجودهم رأيا وأعلمهم بالسياسة.

__________________

(١) الجملة سقطت من أ ، ب.

(٢) زاد في ب : أيضا.

(٣) ح : والمنظور. عطفا بالواو.

(٤) في الاصل : العباد بالجهاد.


ويجب ان يكون على صورة غير منفردة ولا مشينة ولا يلزم ان يكون أحسن الناس وجها.

وجوب النص : ـ

ويجب ان يكون منصوصا عليه لما قدمناه من وجوب عصمته ، ولما كانت العصمة لا تدرك حسا ولا مشاهدة ولا استدلالا ولا تجربة ولا يعلمها إلا الله تعالى وجب ان ينص عليه ويبينه من غيره على لسان نبي إذ المعجز (١) لا بدّ ان يستند (٢) الى نص متقدم لأن الإمام لا يعلم انه امام الا بنص نبي فاذا نص عليه النبي ، أو ادعى هو الامامة جاز ان يظهر الله على يده علما معجزا كما نقوله في صاحب الزمان إذا ظهر فصار النص هو الأصل.

فان قيل : هلا جاز ان يكلف الله تعالى الأمة اختيار الامام ، إذا علم (٣) ان اختيارهم لا يقع إلا على معصوم فيحسن تكليفهم ذلك.

قلنا : لا معتبر في العلم بذلك (٤) لأن علمه تعالى بأنهم لا يختارون إلا المعصوم لا يكفي في حسن التكليف لأنه إذا لم يكن طريقا الى الفرق

__________________

(١) زاد في ح الجملة التالية «لا بدّ أن يظهر على يده علما معجزا عليه سنة من غيره».

(٢) زاد في ح : بسببه.

(٣) زاد في ب ، ح : الله تعالى.

(٤) في ح هكذا «بالعلم في ذلك».


بين المعصوم وغيره وكلفوه اختيار المعصوم كان في ذلك تكليف لما لا دليل عليه وهو تكليف لما (١) لا يطاق وهو الذي بينا أنه قبيح (٢) ، ويلزم على ذلك اختيار الأنبياء واختيار الشرائع إذا علم الله أنه لا يقع اختيارهم إلا على نبي وعلى ما هو مصلحة لهم ويلزم حسن تكليف الأخبار عن الغائبات (٣) إذا علم انهم يخبرون بالصدق وذلك باطل. ومن أرتكب حسن ذلك كموسى بن عمران (٤) قيل له لم (٥) لا يكلف الله اعتقاد معرفته ولم ينصب عليه دليلا ، إذا علم انه يتفق لهم معرفته من غير دليل. ويلزم حسن تكليف الاخبار عن المستقبل وإن لم يتعلق بالشرائع ومعلوم قبح ذلك ضرورة.

فان قيل : لو نص الله تعالى على صفة وقال من كان عليها فأعلموا (٦) إنه معصوم لكان يجوز ان يكلف الاختيار لمن له تلك الصفة. قلنا يجوز ذلك إن كان هناك طريق إلى معرفة تلك الصفة لأن هذا نص على الجملة ، والنص على الصفة يجري مجرى النص على العين ولأجل هذا نص الله في الشرعيات على صفات الأفعال دون اعيان

__________________

(١) ح : ما.

(٢) ح : قبحه.

(٣) أ : الفلكيات.

(٤) كذا في الاصل ، وفي الشافي للمرتضى (يونس بن عمران) ولعله الأصح.

(٥) سقطت من أ ، ب.

(٦) ب ، ح : واعلموا.


الأفعال وكان ذلك جائزا لأن العلة تنزاح به فعلى هذا لو كلف الله تعالى الأمة ان يختاروا من ظاهره العدالة ، ثم قال لهم ان من كان ظاهره (١) كذلك كان معصوما والأمارات على العدالة ظاهرة منصوبة معلومة بالعادة ، فان ذلك جائز ، كما جاز تكليفنا تنفيذ الحكم عند شهادة الشاهدين إذا ظننا عدالتهم. ويكون تنفيذ الحكم معلوما وإن كانت العدالة مظنونة وكذلك كون المختار معصوما يكون معلوما إذا اخترنا من ظاهره العدالة وذلك لا ينافي النص والمعجز ويمكن مثل هذا الترتيب في اعتبار كثرة الثواب وكونه أفضل عند الله لأنه لا يعلم ذلك إلا الله كالعصمة فلا بد ان ينص عليه أو يظهر معجزا. ويمكن ان يعرف أعيان الأئمة بضرب من التقسيم بأن نقول : إذا ثبت وجوب الامامة والأمة في ذلك بين أقوال ثلاثة مثلا فنفسد القسمين منها فنعلم صحة القسم الآخر على ما سنبينه في أمير المؤمنين (ع) والأئمة من بعده ، ولا يحتاج مع ذلك الى نص ولا معجز غير ان هذا انما اذا كانت الأحوال على ما هي عليه في شرعنا. ويمكن ان يقال قول من قال بأمامة من ثبتت إمامته لا بدّ ان يستند الى دليل لأنه لا بدّ ان يكون صادرا عن دليل فهو أما ان يكون نصا أو معجزا فقد عاد الأمر الى ما قلناه.

فان قيل : كيف تدعون وجوب النص أو المعجز ومعلوم ان الصحابة لما حاجوا في الامامة فكل طلبها من جهة الاختيار ، ولم يقل

__________________

(١) سقطت من ح.


انه لا تثبت الامامة ألا بالنص أو المعجز. قيل لا (١) نسلم ذلك ، بل نحن نبين انهم اختلفوا في نفس الاختيار أيضا فيما بعد ، ولو سلمنا لكان إنكارهم واختلافهم في غير المختار فيحتمل (٢) ان يكون انكارا لنفس الاختيار ، ويحتمل ان يكون لغيره ، واذا (٣) احتمل الأمران (٤) سقط السؤال.

فصل ـ ٣ ـ (*)

الكلام في ذكر أعيان الأئمة

الامام بعد النبي (ص) بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام. يدل على ذلك انه إذا ثبت بما قدمناه من الدلالة ان من شرط الامام ان يكون مقطوعا على عصمته فالأمة بين قائلين ، فكل من شرط في الامام العصمة (٥) قطع على ان الامام بعد النبي علي (ع) ، ومن خالف في إمامته خالف في ان من شرط الامام

__________________

(١) ب ، ح : أن نسلم.

(٢) ب : ويحتمل.

(٣) أ : فاذا.

(٤) ب ، ح : أمرين.

(*) ليس في الأصل.

(٥) في ب ، ح هكذا : فكل من قال شرط الامام العصمة.


ان يكون معصوما ، وليس فيهم من قال ان (١) الامام يجب ان يكون معصوما وقال الامام غيره. فالقول بذلك خروج عن الإجماع. ومتى نازعوا في ان من شرط الامام العصمة كلموا بما تقدم.

فان قيل ومن أين تعلمون أن عليا (ع) معصوم؟ قلنا : اذا ثبت انه الامام بالاعتبار الذي ذكرناه قطعنا على عصمته لما ثبت من أن الامام يجب ان يكون معصوما. فان قيل : فقد صرتم لا تعلمون عصمته إلا بعد ان تعلموا إمامته ولا تعلموا إمامته إلا بعد ان تعلموا عصمته ، فقد بنيتهم كل واحد منهما (٢) على صاحبه فلا يصح ان تعلموا واحدا منهما. قلنا : ليس الأمر على ذلك لأنا علمنا إمامته بطريقة القسمة اذ بنينا على ان من شرط الامام ان يكون معصوما على الجملة ، أي امام كان ولم نعينه ، فاذا علمنا إمامته علمنا عصمته على التعيين ، والكلام في الجملة غير الكلام في التعيين ، ومثل ذلك اذا علمنا ان من شرط النبي ان يكون معصوما في الجملة ، ثم علمنا نبوة نبي بعينه ، قطعنا على عصمته.

ولك ان ترتب على وجه آخر فتقول : اذا ثبت ان من شرط الامام ان يكون معصوما ووجدنا الأمة بعد النبي (ص) بين ثلاثة أقوال : قائل يقول بأمامة أبي بكر ، وقائل يقول بأمامة العباس ، وقائل يقول بأمامة علي (ع) ، ولا قول رابع للأمة يعرف ، وكل

__________________

(١) سقطت من ب ، ب.

(٢) سقطت من ب.


من قال بأمامة أبي بكر أو بأمامة العباس لم يجعل من شرط الامامة العصمة فينبغي ان يسقط قول الفريقين ويبقى قول القائلين بامامة علي (ع). وإلا خرج الحق عن الأمة وذلك لا يجوز. ولك ان ترتب مثل هذا في كونه أكثر ثوابا عند الله تعالى ولا أحد من الأمة يقطع على ان أبا بكر والعباس أكثر ثوابا عند الله لأن القائلين بكون أبي بكر أفضل يقولون انه (١) أفضل في الظاهر وعلى غالب الظن فأما على القطع والثبات (٢) عند الله فليس يقوله أحد (٣). ومتى نازع فيه منازع دللنا على ان عليا (ع) أفضل الصحابة ليسقط خلافه. ولك ان ترتب مثل هذا (٤) في كونه أعلم الأمة بالشرع فنقول : اذا ثبت ان من شرط الامام العلم بجميع احكام الشريعة فليس في الأمة من يذهب الى إمامة من هو أعلم الأمة وأنه عالم بجميع أحكام الشرع إلا القائلون بأمامة علي (ع) لأن القائلين بأمامة أبي بكر لا يدعون فيه ذلك وانما يقولون هو من أهل الاجتهاد ، وكذلك القائلون بأمامة العباس بل ليس عندهم من شرط الامام ان يكون أعلم الأمة ، وهذه طرق عقلية اعتبارية لا يمكن افسادها إلا بالمنازعة في الأصل الذي بني عليه ، والخلاف في ذلك يكون. كلاما في مسئلة أخرى.

دليل آخر (٥) من القرآن على إمامته (ع):

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) ح : والبيان.

(٣) ب ، ح : يقول لأحد.

(٤) ب ، ح : ذلك.

(٥) كلمة آخر سقطت من ح.


ويدل أيضا على ان الامام بعد النبي (ص) علي (١) (ع) قوله تعالى «انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» (٢) ووجه الاستدلال في (٣) الآية ان معنى وليكم في الآية من كان مستحقا للأمر وأولى بالقيام به وتجب طاعته ، ويثبت (٤) أيضا ان المراد بالذين آمنوا أمير المؤمنين (ع) واذا ثبت الأمران ثبتت (٥) إمامته (ع). وهذه الجملة تحتاج الى بيان اشياء :

أولها : ان لفظة (ولي) تفيد الأولى في اللغة.

وثانيها : ان المراد بها في الآية ذلك.

وثالثها : ان المراد بالذين آمنوا أمير المؤمنين (ع) (٦).

والدليل على الأول : استعمال هذه اللفظة في اللغة لأنهم يقولون فلان ولي المرأة اذا كان أولى بالعقد عليها ، وفلان ولي الدم اذا كان له المطالبة بالقود والدية والعفو ، ويقولون ولي عهد المسلمين للمرشح (٧) للخلافة.

__________________

(١) سقطت من ح.

(٢) المائدة : ٥٥.

(٣) في الأصل : من الآية.

(٤) ح : وثبت.

(٥) ح : تثبت.

(٦) زاد في ب : دون غيره.

(٧) ح : المرشح. بحذف اللام.


وقال الكميت :

ونعم ولي الأمر بعد وليه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدب (١)

يعني بالولي الأولى بالقيام بالأمر وتدبيره. وقال المبرد : الولي هو الأحق ، والمولى والأولى عبارة عن معنى (٢) واحد (٣).

والدليل على ان المراد في الآية (٤) ذلك : انه اذا ثبت ان المراد بالذين آمنوا من كان مؤتيا للزكاة في حال الركوع لأنه لما وصفه تعالى بالإيمان ووصفه بإيتاء الزكاة في حال الركوع فيجب (٥) ان يراعى ثبوت الصفتين ، وقد علمنا ان أحدا لم يعط الزكاة في حال الركوع غير علي (ع) فوجب ان يكون هو المعني بها دون غيره وأيضا فانه تعالى نفى ان يكون وليا غير الله ورسوله والذين آمنوا بلفظة انما وهي تفيد تحقيق ما ذكر ونفي الصفة عمن لم يذكر بدلالة قولهم انما لك عندي درهم يريدون ليس لك إلا درهم ويقولون انما النحويون المدققون البصريون يريدون نفي التدقيق عن غيرهم ، ويقولون انما الفصاحة في الجاهلية يريدون نفي الفصاحة عن غيرهم.

وقال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وانما العزة للكاثر

__________________

(١) ...

(٢) ح : شيء.

(٣) ...

(٤) أ : بالآية.

(٥) أ : يجب.


أراد (١) نفي العزة عمن ليس بكاثر. وإذا ثبت «ان المراد بالولاية التخصيص» (٢) ثبت ما أردناه من معنى الامامة ، والتحقيق بالأمر لأن ولاية (٣) المحبة والموالاة الدينية عامة في جميع الأمة للإجماع عليه ، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.

والذي يدل على ان المراد بالذين آمنوا علي (ع) أمران :

احدهما : انه اذا ثبت ان المراد بالولي الأولى والأحق فكل من قال بذلك قال هي متوجهة إليه ، لأن من خالف في ذلك حملها على الموالاة في الدين لجميع المؤمنين.

والثاني : انه ورد (٤) الخبر من طريق العام والخاص بنزول الآية (٥) عند تصدقه بخاتمه (٦) في حال ركوعه (٧) ، والقصة في ذلك مشهورة. واذا ثبت إنه المختص بالآية ثبتت إمامته دون غيره لأن كل من قال بأن الآية تفيد الامامة قال هو المخصوص بها دون غيره.

ومن قال نزلت في عبادة بن الصامت فالكلام عليه من وجهين :

أحدهما : ان هذه رواية شاذة أكثر الأمة يدفعها ، وما قلناه في

__________________

(١) ب ، ح : وانما.

(٢) الجملة سقطت من أ ، ب.

(٣) أ : ثبت أن.

(٤) ح : أنه قد ورد.

(٥) زاد في ب ، ح : فيه (ع).

(٦) سقطت من أ ، ب.

(٧) ح : الركوع.


نزولها فيه عليه‌السلام مجمع (١) عليه.

والثاني : انه روي ان عبادة كان محالفا لليهود فلما أسلم قطعت اليهود محالفته وأشتد (٢) ذلك عليه فأنزل الله تعالى فيه الآية تسلية له وتقوية لقلته ،

ومن قال إن الآية نزلت في أقوام كانوا في الصلاة في الركوع وأرادهم (٣) راكعون في الحال لأنهم أتوا الزكاة في حال الركوع ، وانما أراد ان ذلك طريقتهم ، وهم في الحال راكعون. فقوله باطل : لأن ذلك مخالف للعربية ، ووجه الكلام. لأن المفهوم من قول القائل يستحق المدح من جاد بماله وهو ضاحك ، وفلان يغشى إخوانه (٤) «وهو راكب ، معنى الحال. وكذلك لو قال لقيت فلانا» (٥) وهو يأكل لم يعقل فيه إلا لقائه في حال الأكل. على انه لو حمل على ما قالوه كان ذلك تكرارا لأن قوله يقيمون الصلاة دخل فيه الركوع «ولا معنى» (٦) لتكرير قوله وهم راكعون لأنه عبث. على ان هذا القول لم يقله أحد غير الجبائي (٧) ولا ذكره أحد من

__________________

(١) ب : مجتمع.

(٢) ح : فاشتد.

(٣) في الأصل : وأرادوهم. بالجمع.

(٤) ح : لإخوانه.

(٥) الجملة سقطت من أ ، ب.

(٦) سقطت من أ ، ب.

(٧)


أصحاب الأخبار لأن الآية لو كانت في قوم معينين لقيل وسطر وفي تعرى الأخبار من ذلك دليل على ان ذلك لا اصل له.

فان قيل : حمل لفظ الذين (١) على الواحد مجاز ، وحمل قوله ويؤتون الزكاة في الحال مجاز آخر ، لأن حقيقتها الاستقبال ، فلم لا يجوز ان يحمل على مجاز واحد ، فنقول المراد ان من صفتهم إيتاء الزكاة ، ومن صفتهم انهم راكعون ، ولا يجعل أحدى الصفتين حالا للأخرى. قلت (٢) : أما لفظ الذين وان كان لفظ جمع فقد صار يعرف الاستعمال يعبر به عن واحد معظم ، ولذلك نظائر كقوله «أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون» وقوله «إنا أرسلنا» وقوله «ولقد أرسلنا» وغير ذلك من الألفاظ. وقال أهل التفسير «ان قوله» (٣) «الذين قال لهم الناس» (٤) المراد به واحد معروف. وأما لفظ يؤتون فمشتركة (٥) بين الحال والاستقبال ونما يختص بالاستقبال بدخول السين أو سوف عليه ، وهي بالحال أشبه. لأنهم يقولون مررت برجل قائم ، ولو تساويا لكان الحمل على كل واحد منهما حقيقة ، ولم يكن مجازا. على ان من (٦) مذهب من خالفنا من أهل العدل إن الله كان ولا شيء

__________________

(١) في أهكذا : اللفظ من الذين.

(٢) سقطت من ب ، وترك محلها فارغا.

(٣) سقط من أ.

(٤) آل عمران : ١٧٣ ،

(٥) سقطت من أ.

(٦) سقطت من أ ، ب.


ثم أحدث الذكر ، فعلى هذا حمل الآية على الاستقبال حقيقة.

على انه مجازنا له شاهد في الاستعمال ومجازهم لا شاهد له في عرف ولا لغة ، فيؤدي (١) أيضا إلى ان لا نستفيد بالآية شيئا لأن الموالاة الدينية معلومة بغيرها على ان الخصوص في قوله تعالى «والذين آمنوا» لا بد منه ، لأنه لو حمل على العموم لأدى الى ان يكون كل واحد (٢) من المؤمنين ولى نفسه فاذن لا بد ان يكون المراد بقوله تعالى «وليكم» غير المراد بقوله «والذين آمنوا» ليستقيم الكلام. وإذا وجب تخصيص الآية فكل من خصصها حملها (٣) على ما قلناه دون غيره.

وليس لأحد ان يقول : المراد بالركوع في الآية الخشوع والخضوع دون الركوع في الصلاة ، وذلك ان المعروف في اللغة من معنى الركوع هو التطأطؤ المخصوص ، وشبه به الخضوع والخشوع ، وقد نص على ذلك أهل اللغة. أنشد صاحب كتاب العين (لبيد) :

اخبر اخبار القرون التي مضت

أدب كاني كلما قمت راكع

وقال صاحب الجمهرة : الراكع الذي يكبو وجهه ومنه الركوع في الصلاة ، فاذا كانت الحقيقة ما قلنا فلا يجوز حملها على المجاز ، وليس اعطاء الخاتم في الصلاة فعلا مفسدا للصلاة (٤) ، لأنه لا خلاف ان الفعل اليسير مباح ، وأيضا فقد مدحه الله تعالى والنبي (ص) على

__________________

(١) ب ، ح : يؤدي.

(٢) سقطت من أ.

(٣) أ : يحملها.

(٤) ب ، ح : يفسد الصلاة.


ذلك فلو كان نقصا لما مدحاه بذلك. وقول من قال : ان أمير المؤمنين (ع) لم تجب عليه الزكاة لقلة ذات يده فكيف يحمل على ذلك باطل. لأنه لا يمتنع ان يملك (ع) أول نصاب من المال نحو مأتي درهم لأن من ملك ذلك لا يسمى غنيا فلا وجه لاستعباد ذلك. ويجوز ان يكون المراد (١) زكاة التطوع وليس في الآية انه زكاة فرض دون تطوع (٢). والنية بدفع الزكاة لا بدّ منها وهي لا تنافي الصلاة لأنها من أفعال القلوب لا تؤثر في الصلاة. وليس لأحد ان يقول لو اقتضت الآية الامامة لوجب ان يكون إماما في الحال وذلك أنا قد بينا ان المراد بالآية فرض الطاعة وقد كان له ذلك في الحال فلا يمكن دعاء الإجماع على خلافه ولو اقتضى الامامة في الحال لاقتضاها فيما بعد الى حين وفاته ، فاذا قام الدليل على انه لم يكن إماما في الحال ثبت ما بعد النبي ، وليس لأحد ان يقول : هلا حملتموها على ما بعد (٣) عثمان وذلك ان هذا يسقط بالاجماع لأن أحدا لم يثبت له الإمامة بعد عثمان ، من دون ما قبلها (٤) بالآية ، بل اثبتوا إمامته بالاختيار. ومن اثبت إمامته في تلك الحال بالنص بالآية وغيرها اثبتها له أيضا بعد النبي (ص) بلا فصل والفرق بين الأمرين خلاف الإجماع.

دليل آخر على إمامته : ومما يدل على إمامته (ع) بعد النبي (ص)

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) ب ، ح : التطوع.

(٣) ب ، ح : على بعد.

(٤) ح : قبله.


بلا فصل ما تواترت به الشيعة ونقلته مع كثرتها وانتشارها في البلاد ، واختلاف آرائها ومذاهبها وتباعد ديارها واختلاف هممها خلفا عن سلف إلى ان تصل بالنبي (ص) انه قال «علي إمامكم» و «خليفتي عليكم من بعدي» و «سلموا عليه بإمرة المؤمنين» (١) وغير ذلك من الألفاظ الصريحة التي لا تحتمل التأويل ، وانهم علموا من قصده ضرورة انه أراد استخلافه من بعده بلا فصل. فلا يخلو أن يكونوا صادقين «أو كاذبين ، فان كانوا صادقين» (٢) فقد ثبتت إمامته على ما قلناه ، وإن كانوا كاذبين لم يخل كذبهم من أمور : أما ان يكون اتفق لهم الكذب فوضعوه وتواطئوا عليه ، اما باجتماع أو بموافقة أو بمكاتبة ومراسلة ، أو حصل فيه ما يجري مجرى التواطؤ أو حصل أحد هذه الأسباب «في الوسائط» (٣) التي بيننا وبين النبي (ص) أو كان القائل به والأصل واحدا ثم انتشر القول ، وكثر معتقدوه ، فاذا أفسدنا جميع ذلك دل على ان الخبر متصل. فلا (٤) يجوز ان يكون اتفق لهم الكذب فوضعوه. لأن ما هم عليه من الكثرة يمنع (٥) من جواز ذلك عليهم لأن العلم باستحالة خبر واحد عن شيء واحد من

__________________

(١) تجد مجموع هذه الأحاديث في كتاب (غاية المرام) و (اثبات الهداة) و (احقاق الحق).

(٢) الجملة بين القوسين سقطت من ح.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) ب ، ح : ولا.

(٥) أ ، ب : يبلغ ، وهو غلط.


الخلق الكثير على وجه واحد من غير تواطؤ ، مستحيل في العادة.

ألا ترى انه يستحيل من جماعة من (١) الشعراء ان يتواردوا في قصيد واحد في معنى واحد وغرض واحد وقافية واحدة ، وروي واحد ، ويجري ذلك مجرى استحالة اجتماعهم على طعام واحد ، وزي واحد.

وإذا كان ذلك مستحيلا في العادة وجب المنع منه. وليس الكذب في هذا الباب يجري مجرى الصدق لأن الصدق يجوز ان يتفق من الخلق الكثير من غير تواطؤ لأن العلم بكونه صدقا داع الى نقله وليس كذلك الكذب لأن العلم بكونه كذبا صارف عن نقله فيحتاج الى داع غير ذلك يحمل على نقله ، ولا يجوز ان يكون تواطئوا عليه لأن ذلك مستحيل منهم لتباعد ديارهم وانتشارهم في الأرض ولو تواطئوا بالاجتماع لما خفي ، ولعلم (٢) في أوجز مده (٣). وكذلك يستحيل منهم المراسلة والمكاتبة لأن أكثرهم لا يتعارفون ، «وصحة المراسلة فرع على التعارف ، وإذا كانوا لا يتعارفون» (٤) فكيف يصح منهم المكاتبة ولو صح أيضا لكان يجب ان يظهر في أوجز مدة. بذلك قضت العادات وحكم الاعتبار ، ولو ظهر لعلم ، وأما ما يجري مجرى التواطؤ ، فهو (٥) أما رغبه في

__________________

(١) سقطت من أ

(٢) أ ، ب : يعلم.

(٣) أ : اوحى. وكذا الآتي.

(٤) الجملة بين القوسين سقطت من أ ، ب.

(٥) أ ، ب : فاما.


الدنيا أو رهبه ، وكلاهما منتفيان عمن أدعي له النص ، لأنه لم تكن له دنيا فيطمع فيها فيكذب له بالنص ولم تنبسط (١) يده فيخاف منه فيدعوا ذلك الى وضع النص بل الدواعي كلها الى كتمانه وجحده والصوارف عن نقله واظهاره فكيف يكون هناك ما يجري مجرى التواطؤ ولو كان ذلك ممكنا لما دعاهم الى وضع فضيلة بعينها بل كان يدعو الناس الى وضع فضيلة (٢) غير الذي يدعو إليها (٣) الآخر ، لأن الاتفاق في مثل ذلك مستحيل في العادة على ما بيناه ، ولو كان أحد هذه الأشياء حصل في الوسائط الذي بيننا وبين النبي (ص) لعلم ذلك كما لو كان في الطرف الذي بيننا لعلم ولو كان الأصل فيهم واحدا ثم انتشر لعلم الوقت الذي حدث فيه ومن المحدث له ، وما الذي دعاه إليه كما علم سائر المذاهب الحادثة بعد استقرار الشرع كمذهب الخوارج والمعتزلة والجهمية والكلابية والنجارية وغير ذلك من الفرق وكما علم فقه أبي حنيفة والشافعي ومالك وانه لم يتقدمهم أحد قال به (٤) على ما ذهبوا إليه وجمعوه فكان يجب ان يعلم النص مثل ذلك ومن القائل به واذا لم يعلم ذلك دل على انه متصل.

وقولهم انه علم ذلك وانه وضعه هشام بن الحكم وابن الراوندي باطل. لأن القائلين بالنص كانوا قبل هشام وكتبهم معروفة في ذلك ،

__________________

(١) ح : يبسط.

(٢) زاد في ب : بعينها.

(٣) ب ، ح : عليها.

(٤) سقط من أ ، ب.


وأما ابن الراوندي فهو متأخر كثيرا وشيوخ الامامية قبله معروفون ولو كان الأمر على ما قالوه لما حسن مكالمتهم كما لا (١) تحسن مكالمة من يحدث مقالة فيقول بأمامة ابن مسعود وأبي هريرة وغير ذلك ، لأن الإجماع سبقهم فلا يلتفت إليهم (٢) ، وفي حسن مكالمتهم لنا ووضعهم الكتب علينا دليل على فساد قولهم هذا.

فان قيل : لو كان هذا النص صحيحا لعلم صحته ضرورة كما علمت هجرة النبي (ص) الى المدينة وكما علم ان في الدنيا مكة وبلد الروم وغير ذلك من أخبار البلدان.

قلنا : ليس العلم بمجرد الأخبار عندنا ضرورة بل هو مكتسب عند أكثر أصحابنا وعند قوم انه مشكوك فيه فأما العلم بالنص فمستدل عليه قطعا ويجري العلم به ، كالعلم بمعجزات النبي (ص) التي هي سوى القرآن وليس إذا لم يعلم باقي المعجزات كما علمنا البلدان والوقائع وجب القطع على بطلانها لكونها معلومة بالاستدلال وكذلك النص إذا لم يكن معلوما بالضرورة ولو كان (٣) معلوما بالاستدلال لم يجب القطع على بطلانه. على ان العلم بالبلدان والوقائع لم يمتنع ان يكون حصل لما لم يقابل ما أتوا (٤) به بالتكذيب ، ولم يعرض فيه ما عرض في النص

__________________

(١) أداة النفي سقطت من ب.

(٢) ح : إليه.

(٣) ب ، ح : وكان.

(٤) العبارة في الأصل مشوشة.


فسلم نقله فحصل العلم به ، والنص بخلاف ذلك لأنه عرض في نقله واشتهاره موانع ولقي رواية بالتكذيب واعتقد ضلاله وخطأه ويدعي في روايته. فكيف يحصل العلم مع هذه الموانع ، وهكذا الجواب إذا قالوا لم لا نعلم النص كما علمنا الصلوات الخمس والحج إلى الكعبة وصوم شهر رمضان وغير ذلك من أركان الشرائع لأن الأسباب التي عرضت في الإمامة لم تعرض في شيء من العبادات فسلم نقله فحصل العلم به ، ولما عرض ما قلناه في النص غمض طريق العلم به. وليس لأحد ان يقول قد ادعيتم حصول موانع من نقل النص فما دليلكم عليها فنقول (١) : لا خلاف ان النص عقد الأمر على خلاف متضمنه وان اعتقد في ناقلة انه ضال مبدع ولقوا بالتكذيب. ونزيد (٢) المخالف على ذلك ونقول هذا هو الواجب فكيف يمكن ان يدعى انه لم يكن (٣) هناك صارف.

على ان هاهنا أمورا كثيرة في الشرع منصوصا عليها ، وليس العلم بها كالعلم بما ذكروه من العبادات.

ألا ترى ان صفات الامام وعدد العاقدين (٤) وكونه من قريش كل ذلك طريقه النص ، ومع هذا ليس العلم به كالعلم بما قالوه وكذلك

__________________

(١) ح : قلنا.

(٢) ب ، ح : ويريد.

(٣) أ : ليس هناك.

(٤) أ ، ب : القائمين.


العلم (١) بمعجزات النبي (ص) التي هي سوى القرآن ليست مثل العلم بالقرآن ، وبأصول الشريعة فكيف يسوى بين المنصوصات عليها في الشرع على اختلاف طرقها وغموض بعضها وظهور بعض وهل يكون من سوى بين الكل في كيفية العلم إلا غير منصف متحامل متعصب وذلك لا يليق بالعلماء.

فان قيل : يلزم على هذه الطريقة قول البكرية والعباسية إذا ادعوا النص لأصحابهما وادعوا مثل ما ادعيتم بعينه وإلا فما الفرق «بيننا وبين هؤلاء» (٢).

قلنا : «الفرق بيننا وبين هؤلاء» (٣) ان الشيعة معروفون وعلماؤهم كثيرون ولهم كتب مصنفة ومقالات ظاهرة وليس كذلك البكرية لأنا لم نشاهد بكريا قط ولا عباسيا ولسنا نعني بالبكرية من ذهب إلى إمامة أبي بكر بل نريد من ادعى النص عليه ، وأيضا هذه حكاية عن بعض من تقدم يعرف ببكرين أخت عبد الواحد فنسبوا إليه ولم ينسبوا إلى أبي بكر والقائلون بامامة أبى بكر من علماء الأمة يذهبون إلى إمامته بالاختيار والاجماع الذي يدعونه وليس منهم من يقول كان منصوصا عليه كما تقوله الشيعة في علي (ع). وأما القائلون بأمامة العباس فلم (٤) نعرف واحدا منهم

__________________

(١) سقطت من أ ، ب.

(٢) ما بين القوسين ساقط من ب ، ح.

(٣) الجملة ساقطة من أ.

(٤) ح : فلا.


أصلا ولو لا ان الجاحظ حكى هذه المقالة وصنف فيهم كتابا لما كان (١) يعرف هذا القول لا قبله ولا بعده. على ان ما دللنا به على ان من شرط الامام ان يكون مقطوعا على عصمته يبطل هذين القولين لأنها لا يدعيان ذلك لأصحابهما على ما بيناه على انه قد ظهر منهما ومن غيرهما من الصحابة ما يدل على انهما لم يكونا منصوص عليهما.

فروي عن أبي بكر انه لما احتج على الأنصار يوم السقيفة قال الأئمة من قريش ولو كان منصوصا عليه لقال أنا منصوص علي فأين يذهب بكم؟ ولا يلزمنا مثله في أمير المؤمنين (ع) لأنه (٢) لم يحظر الموضع فيحتج ولأن (٣) الفريقين قصدوا إزالة (٤) الأمر عنه فكيف يحتج عليهم وربما أدعوا نسخ الخبر أو جحدوه وكان (٥) تكون البلية العظمى. وليس يدعي المخالف مثل ذلك ، لأنهم يقولون كان الموضع موضع بحث واحتجاج فعلى قولهم كان يجب ان يذكر النص على نفسه.

وروي (٦) انه قال للأنصار بايعوا أحد هذين شئتم يعني أبا عبيدة ابن الجراح ، وعمر. ولو كان منصوصا عليه لما جاز ذلك. ومنها

__________________

(١) ب ، ح : والا ما كان.

(٢) زاد في ب ، ح بعدها : أولا ...

(٣) ح : وثانيها أن.

(٤) ب ، ح : الى أن.

(٥) ح : وكانت.

(٦) ح : ومنها أنه قال.


قوله أقيلوني فلست إلخ. ولو كان منصوصا عليه لما جاز استقالته (١) منهم.

ومنها ما روي انه قال عند (٢) موته ليتني سألت رسول الله (ص) هل للأنصار في هذا الأمر (٣) نصيب فكنا لا ننازعهم ، ولا يتمنى مثل هذا من يعلم انه منصوص عليه. ومنها قول عمر لأبي عبيدة امدد يدك أبايعك ، ولو كان أبو بكر (٤) منصوصا عليه لما قال ذلك. ومنها قوله «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها ، فمن دعا (٥) إلى مثلها فاقتلوه». ومنها قوله حين قيل له استخلف (٦) «إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر ، وإن اترك فقد نرك من هو خير مني يعني رسول الله (ص) ، على (٧) ان جميع ما يدعى من النص عليه لا دلالة فيه لكونه خبر واحد وانه ليس في تصريحه ولا في فحواه دلالة النص. وقد ذكرنا الوجه في جميع ذلك في تلخيص الشافي ، وشرح الجمل لا نطول بذكره هاهنا.

وكذلك (٨) ما يتعلق به العباسية قد بينا الوجه فيه. على ان العباس

__________________

(١) ب ، ح : استقالتهم.

(٢) سقط من ب.

(٣) سقطت من أ ، ب.

(٤) سقط من أ ، ب.

(٥) ح : عاد.

(٦) زاد في ح : قال ..

(٧) ب ، ح : ومنها. بدل على.

(٨) ب : ولذلك.


دعا أمير المؤمنين إلى مبايعته وقال له امدد يدك أبايعك فيقول الناس بايع عم رسول الله (ص) ابن عمه (١) فلا يختلف عليك اثنان ولو كان منصوصا عليه لما قال ذلك. فان قيل : إذا كان هو عالما بأن عليا (ع) منصوصا عليه فلم أراد مبايعته؟ قلنا : أراد ان يحتج عليهم من الطريق الذي سلكوه لأنهم طلبوا الامامة من جهة الاختيار والبيعة دون النص فأراد ان يحتج عليهم بما أقروا به وعلموه دون ما لم يذكروه. ومتى قال إنه أولى بالمقام لأنه عمه والعم وارث فهو (٢) باطل ، لأن الإمامة ليست موروثة فلا خلاف لأنها تابعة للمصالح كما ان البيعة مثل ذلك.

فان قيل : لو كان أمير المؤمنين (ع) منصوصا عليه لوجب ان يحتج به ، وينكر على من دفعه بيده ولسانه ولما جاز ان يصلي معهم ، «ولا ان ينكح سبيهم ، ولا يأخذ فيئهم ، ولا يجاهد معهم» (٣) ، وفي ثبوت جميع ذلك دليل على بطلان ما قلتموه.

قلنا : المانع لأمير المؤمنين (ع) من الاحتجاج بالنص عليه الخوف. بما ظهر له من الأمارات التي بانت له من إقدام القوم على طلب الأمر والاستبداد به واطراح عهد الرسول مع قرب عهدهم وعزمهم على إخراج الأمر عن مستحقه فآيسه ذلك من الانتفاع بالحجة ، وخاف ان يدعوا النسخ لوقوع النص فيكون البلية به أعظم والمحنة أشد ولا

__________________

(١) أ : ابن أخيه.

(٢) سقط من ب ، ح.

(٣) الجميع ساقط من أ ، ب.


يتبين لكل أحد ان نسخ الشيء قبل فعله لا يجوز ، وربما أدعوا أيضا ان ما يذكره من النص لا أصل له فتعظم البلية ، لأن النص الجلي لم يكن بمحضر الجمهور بل كان بمحضر جماعة لو نقلوه لانقطع بنقلهم الحجة ، ولو (١) جحدوا لوقعت (٢) الشبهة ، ودخلت (٣) على الباقين.

وأما ترك النكير عليهم باليد فلأنه لم يجد ناصرا ولا معينا ولو تولاه بنفسه وخواصه لربما أدى الى قتله وقتل أهله وخاصته فلذلك عدل عنه وقد بين (ع) ذلك بقوله «أما والله لو وجدت أعوانا لقاتلتهم» وقوله بعد بيعة الناس له ونكث أهل البصرة بيعته «والله لو لا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أوليائه ان لا يقروا على كظة ظالم أو متعقب مظلوم لا لقيت حبلها على غاربها ولقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز» فبين لأصحابه (٤) انه قاتل من قاتل (٥) من أهل البصرة وغيرهم لقيام الحجة عليه بحضور الناس وكان في ذلك بيان إنه لم يقاتل الأولين لعدم الناصر. وأيضا فلو قاتلهم لربما أدى إلى ارتداد أكثر هم وفي ذلك بوار الإسلام وقد بين ذلك في خطبته بقوله «لو لا قرب عهد الناس بالكفر لقاتلتهم»

__________________

(١) ب ، ح : فلو.

(٢) ب ، ح : لدخلت.

(٣) سقطت من ب ، ح.

(٤) في الأصل : اصحابه. بحذف اللام.

(٥) ب ، ح : قائل من قائل.


وأما الإنكار باللسان فقد أنكره في مقام بعد مقام بحسب الحال من القوة والضعف نحو قوله «لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله (ص). وقوله «اللهم اني أستعديك على قريش فأنهم ظلموني حقي ومنعونى إرثي» وقوله «اللهم اني استعديك على قريش فقد ظلموني الحجر والمدر» وقوله «والله لقد تقمصها ابن أبى قحافة ، وانه ليعلم (١) ان محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى الي الطير» إلى آخر الخطبة (٢). وذلك صريح بالانكار والتظلم على من منعه حقه.

وأما (٣) الصلاة خلفهم فانه (ع) كان يصلي معهم في مسجد رسول الله (ص) لا يقتدي (٤) بهم بل لنفسه يركع (٥) بركوعهم ويسجد بسجودهم وذلك ليس بدليل الاقتداء بلا خلاف.

وأما (٦) الجهاد مع القوم فلا يمكن أحد ان يدعي انه جاهد معهم أو سار تحت رايتهم. وما روي انه قاتل أهل الردة فكان (٧) دفاعا عن المدينة وعن حرم رسول الله (ص) لما دفعوا منها

__________________

(١) ب : يعلم.

(٢) تجدها في النهج بعنوان (الخطبة الشقشقية).

(٣) ح : فاما.

(٤) ح : لا متعديا.

(٥) ب ، ح : وان كان يركع ..

(٦) ح : فأما.

(٧) سقط من ب ، ح.


وإن كان ذلك شاذا لا يعرف في السير ، ولو صح لكان ذلك واجبا عليه ، وعلى كل أحد بحكم العقل والشرع (١).

فأما «أخذه من» (٢) فيئهم فانما (٣) كان يأخذ بعض حقه ، ومن له حق فله ان يتوصل الى أخذه بجميع الوجوه. ولم يأخذ (٤) من أموالهم ولا من أموال المسلمين.

وأما نكاح سبيهم ، فقد اختلف في ذلك ، فروى قوم ان النبي (ص) كان وهب له الحنفية فاستحل فرجها بقوله. وقال آخرون أسلمت فتزوجها أمير المؤمنين (ع) وقال قوم اشتراها فأعتقها ثم تزوجها ، وكل (٥) ذلك ممكن. على ان سبي أهل الضلال يجوز ان يشتري ويحل وطئ الفرج بذلك ، لأن المراعى استحقاق السبي بالمسبي ولا اعتبار بالسابى ولذلك يجوز شراء ما تسبيه الكفار من دار الحرب وإن اغار بعضهم على بعض ، أو يسرقونه وهذا يسقط السؤال.

فان قيل : لو كان النص عليه صحيحا لما جاز له الدخول في للشورى ولا الرضا به لأنها باطلة على مذهبكم. قيل : لأصحابنا في ذلك أجوبة :

أحدها : انه إنما دخل فيها تقيه وخوفا ولو لم يدخلها لقيل انما

__________________

(١) زاد في ب ، ح : وأن لم يكن هناك ممن يقتدي به.

(٢) سقط من أ ، ب.

(٣) أ : فانه.

(٤) سقطت من أ.

(٥) ح : فكل.


امتنع (١) من ذلك لتوهم ان الحق له (٢) ، فحمله على الدخول فيها ما حمله على البيعة للمتقدمين.

والثاني : إنه إنما دخلها ليتمكن من إيراد حججه وفضائله ونصوصه لأنه أورد في ذلك اليوم جمل مناقبه ، ولو لم يدخلها لما أمكنه ذلك فدخلها ليؤكد الحجة عليهم.

والثالث : إنما دخلها تجويزا لأن يختاروه فيتمكن من القيام بالأمر ومن له حق له ان يتوصل إليه بجميع الوجوه.

فان قيل : لو كان منصوصا عليه لكان دافعه ضالا مخطئا وفي تضليل أكثر الأمة ونسبتهم (٣) إلى معاندة الرسول واطراح أمره ، وذلك منفي عن الصحابة.

قلنا : لا نقول ان جميع الصحابة دفعوا النص مع علمهم بذلك وإنما كانوا بين طبقات منهم من دفعه حسدا وطلبا للأمر ، ومنهم من دخلت عليه الشبهة فظن ان الذين دفعوه لا يدفعونه (٤) إلا بعهد من (٥) الرسول وأمر عرفوه ، أو انه (٦) لما روي لهم الأئمة من قريش ظنوا ان الأخذ باللفظ العام أولى من الخاص فتركوا الخاص وعملوا

__________________

(١) ب ، ح : يمتنع.

(٢) ح : لك.

(٣) ح : ونسبهم.

(٤) ح : لم يدفعوه.

(٥) بدلها في ب ، ح : عهد الرسول.

(٦) ب ، ح : ومنها أنه لما ..


بالعام وبقي قوم على الحق متمسكين بما هم عليه فلم يمكنهم مخاصمة الجمهور ولا مخالفة الكل فبقوا متمسكين بالحق (١) قصاراهم ان ينقلوا ما علموه الى اخلافهم. فلا يجب من ذلك نسبة الأكثر الى الضلال. على ان الله اخبر عن أمة موسى وهم أضعاف أضعاف أمة النبي (ص) إنهم ارتدوا حين مضى موسى إلى ميقات ربه ، وعبدوا العجل مع مشاهدتهم لفلق البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات الباهرات. وما غاب موسى عنهم إلا أياما قلائل فكيف يتعجب من طائفة قليلة تدخل عليهم الشبهة ، ويندفع قوم منهم لدفع الحق ، وقد قال الله تعالى (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٢) وقال (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣) وقال (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٤) وقال (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٥) فلم يذكر الكثير ألا ذمه ، ولم يذكر القليل إلا مدحه.

واين (٦) التعجب من ذلك وقد قال الله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٧)

__________________

(١) ب ، ح : بما هم عليه.

(٢) هود : ٤٠.

(٣) الانعام : ٣٧.

(٤) الزخرف : ٧٨.

(٥) سبأ : ١٣.

(٦) ب : فان.

(٧) آل عمران : ١٤٤.


وقال النبي (ص) «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، حتى إنه لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه ، فقالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ فقال (ص) فمن اذن؟» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله «بينا أنا على الحوض عرضه ما بين بصرى إلى عدن إذ يجاء بقوم من أصحابي فيجلون دوني فأقول يا رب أصحابي فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لا يزالون على أعقابهم القهقرى» والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى فأين التعجب من وقوع الخطأ من القوم. وقال (ص) «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار». فأن قيل لو كان الأمر على ما ذكرتموه من النص لما زوج أمير المؤمنين (ع) أبنته من عمر ، وفي تزويجه إياها دليل على ان الحال بينهم كانت عامرة بخلاف ما تدعونه ويدعي كثير منكم ان دافعه كافر. قلنا : في أصحابنا من أنكر هذا التزويج ومنهم (١) من أجازه. وقال فعل ذلك لعلمه بأنه يقتل دونها والصحيح غير ذلك وإنه زوجها منه تقيه (٢) ، لأنه جرت ممانعة إلى أن لقي عمر العباس وقال له ما هو معروف فجاء العباس إلى أمير المؤمنين وقال ترد أمرها إلى ففعل فزوجها منه حين ظهر له ان الأمر يؤول إلى الوحشة. وروي عن الصادق (ع) ما هو معروف. على إنه من أظهر الشهادتين وتمسك بظاهر الإسلام يجوز مناكحته ، وهاهنا أمور متعلقة في الشرع باظهار كلمة الإسلام كالمناكحة والموارثة

__________________

(١) ح : وفيهم.

(٢) ب ، ح : للتقية.


والمدافنة والصلاة على الأموات وغير ذلك من احكام أخر ، فعلى هذا يسقط السؤال.

فان قيل : كيف يكون النص صحيحا ويقول العباس له (ع) تعالى نسأل النبي (ص) عن هذا الأمر فأن كان فينا عرفناه وإن كان في غيرنا أوصى بنا» ويقول له دفعة أخرى «امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان» ولو كان منصوصا عليه لما احتاج إلى ذلك وكان لا يخفى على العباس.

قلنا «أما رغبته إلى سؤال النبي (ص) فلم يكن لشك في مستحق الأمر ، وإنما قال ذلك ليعلم هل يثبت ذلك فيهم ويسلم لهم أم لا. فلذلك أراد مسألته لا عن موضع.

وأما مبايعته (١) فقد بينا إنه إنما طلب ذلك لما رأى ان القوم يتجاذبون (٢) الأمر من جهة الاختيار وتركوا النص ودخلت إليه شبهة بين الأكثر ، أراد ان يحتج عليهم بمثل ما هم يطلبون فلم يجبه أمير المؤمنين (ع) لما رأى (٣). لعلمه من جهة النبي (ص) فيما (٤) يؤول الأمر إليه ، فلذلك لم يجب العباس الى ما دعاء إليه.

فان قيل (٥) : كيف يكون منصوصا عليه وهو يفتيهم في كثير

__________________

(١) ح : متابعته.

(٢) ح : يتحادثون.

(٣) ح : لما علمه من جهة.

(٤) ب ، ح : وما.

(٥) ب ، ح : قالوا.


من الأحكام مستفهما ومستفتيا وكان (١) يجب ان ينقض أحكامهم لما افضى الأمر إليه ، وكان ينبغي ان يسترد فدكا إلى أربابها وفي عدوله عن ذلك دليل على بطلان ما يدعونه. قلنا : أما فتياه لهم فمما لا يسوغ له الامتناع منه لأن عليه إظهار الحق والفتوى إذا لم يخف وأمن (٢) الضرر ولا سؤال على من أظهر الحق وإنما السؤال فيمن أبطن.

وأما إقرار احكام القوم فانه لم يمكن خلاف ذلك وإنما افضى الأمر إليه بالاسم دون المعنى وأكثر من تابعه (٣) كان يعتقد (٤) الإمامة للقوم (٥) ، فكيف يتمكن من نقض أحكامهم. ولذلك قال لقضاته وقد سألوه بم نحكم؟ فقال : أقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابى يعني من مات من شيعته وخالف في مسائل علم بشاهد (٦) الحال ان (٧) الخلاف فيها لا يوحش وأمسك عما يورث الوحشة.

وأما فدك فإنما لم يردها لما قلنا من التقية. وإن ردها يؤدي إلى تظلم القوم وتخطئتهم فعدل عن ذلك ، على ان فدكا كانت حقا له ولمن

__________________

(١) ح : فكان.

(٢) أ : من الضرر.

(٣) ح : بايعه.

(٤) ب ، ح : معتقدا.

(٥) ح : لامامة القوم.

(٦) ح : مشاهد.

(٧) ح : لان.


له عليه ولاية ، ومن له حق له ان يترك المطالبة به لبعض الأغراض.

وفي أصحابنا من قال الخصم في فدك كانت فاطمة (ع) وأوصت إليه (١) بأن لا يتكلم فيها لتكون هي المخاصمة لهم يوم القيامة لما جرى بينها وبين من دفعها من الكلام المعروف حتى قالت له «سيجمعني وإياك يوم يكون فيه فصل الخطاب».

فأما الكلام في استحقاق فاطمة فدكا بالنحلة أو الميراث فقد استوفيناه في تلخيص الشافي وطرف منه في شرح الجمل لا نطول بذكره هاهنا.

وأما ما يعارضون به ويذكرونه من الآيات نحو قوله (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢).

وقوله (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (٣) وغير ذلك من الآيات ، وأن ذلك يمنع من وقوع خطأ منهم بدفع (٤) النص فقد بينا الوجه فيه مستوفى في تلخيص الشافي وطرف منه في شرح الجمل والمفصح في الإمامة وغير ذلك من كتبنا فلا نطول بذكره هاهنا ، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.

دليل آخر على إمامته (ع):

ومما يدل على إمامته (ع) الخبر المعروف الذي لم يدفعه أحد من

__________________

(١) أ ، ب : له.

(٢) التوبة : ١٠٠.

(٣) الفتح : ١٨.

(٤) ح : يدفع.


أهل العلم يعتد به ، ان النبي (ص) حين انصرف من حجة الوداع وبلغ الموضع المعروف بغدير خم نزل ونادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس ، فلما رآهم رقى الرحال وخطب خطبة معروفة ثم أقبل على الناس فقال «ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى يا رسول الله. فقال عاطفا على ذلك فمن كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره وأخذل من خذله» (١) فأتى بلفظ أولى وقررهم بها على طاعته (٢) ثم عطف بجملة أخرى عليها محتملة لها ولغيرها فوجب حملها على مقدمتها بموجب استعمال أهل اللغة فوجب بذلك ان يكون أمير المؤمنين (ع) مفترض الطاعة كما كان النبي (ص) كذلك. وفرض الطاعة يفيد الإمامة فوجب ان يكون إماما. وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء :

أحدها : ان نبين صحة الخبر.

والثاني : ان نبين ان لفظة مولى تفيد أولى في اللغة. ثم نبين انه (ص) أراد ذلك في الخبر دون غيره من الأقسام.

فالذي يدل على صحة الخبر تواتر الشيعة خلفا عن سلف على ما بيناه في التواتر بالنص الجلي. وكلما يسأل عنه من الأسئلة فالجواب عنه ما (٣) تقدم.

وأيضا فقد رواه أصحاب الحديث من طرق كثيرة لم يرو في

__________________

(١) انظر طرق هذا الحديث مجموعه في كتاب (الغدير) للعلامة الأميني

(٢) ب ، ح : فرض طاعته.

(٣) أ ، ب : كما تقدم.


الشريعة خبر متواتر أكثر طرقا منه.

فانه روى الطبري من نيف وسبعين طريقا ، وابن عقدة من مائة «وخمس طرق وغيره من مائة» (١) وخمسة وعشرين طريقا فان لم تثبت بذلك صحته فليس في الشرع خبر صحيح (٢).

وأيضا فأمير المؤمنين (ع) احتج به يوم الشورى فلم ينكره أحد ولا دفعه فدل على صحته.

وأيضا فقد اجتمعت الأمة على صحته وإن اختلفوا في معناه. وما يحكى عن أبى داود (٣) من جحده له فليس بصحيح لأنه إنما أنكر المسجد المعروف بغدير خم ولم يجحد نفس الخير ، وخلافه أيضا لا يعتد به لأنه سبقه الإجماع وتأخر عنه. وإذا ثبت ان (٤) مقتضاه الإمامة (٥) ثبتت صحته لأن الأمة بين قائلين قائل يقول مقتضاه الإمامة فهو يقطع على صحته ، وقائل يقول ليس مقتضاه الإمامة فقوله هو خبر واحد.

وأما الذي يدل على ان مولى يفيد الأولى فقول (٦) أهل اللغة ، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى «النار مولى لهم» قال : معناه أولى لهم (٧) ، واستشهد ببيت لبيد :

__________________

(١) الجملة سقطت من ح.

(٢) ب ، ح : يصح.

(٣) ب : ابن أبي داود.

(٤) أهكذا : وأيضا فان مقتضاه.

(٥) زاد في ح : على ما يثبت ، أما في أ ، ب فهكذا على ما ثبتت صحته

(٦) ب ، ح : قول.

(٧) ح : بهم.


فعدت على الفرجين تحسب انه

مولى المخافة خلفها وأمامها

وقول أبي عبيدة حجة في اللغة. وقال الأخطل يمدح عبد الملك ابن مروان :

فأصبحت مولاها من الناس كلهم

وأحرى قريش ان تهاب وتحمدا

أي أولى الناس بها ، وروي عن النبي (ص) إنه قال «أيما امرأة نكحت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل» وفي خبر آخر بغير اذن وليها ، وأراد بذلك من هو أولى بالعقد عليها ، وقد حكينا عن المبرد انه قال : مولى (١) وولى وأولى وأحق بمعنى واحد ، فمن عرف عادة أهل اللغة عرف صحة ما قلناه. وإذا ثبت ذلك فالذي يدل على ان المراد به في الخبر الأول ما قلناه من ان النبي (ص) قدم جملة ثم عطف عليها بأخرى محتملة لها ولغيرها ، فوجب حملها على مقدمها ، وإلا أدى إلى ان يكون (ص) ملغوا في كلامه واضعا له في غير موضعه ، ولذلك لا يليق به (ص) ألا ترى ان العاقل إذا أقبل على جماعة فقال ألستم تعرفون عبدي سالما فاذا قالوا بلى ، قال : فأشهدوا ان عبدي حر ، لم يفهم من كلامه إلا عتق العبد الذي تقدم تقريرهم على (٢) معرفته ، ولو أراد غيره لكان ملغوا ، وإذا قال لهم ألستم تعرفوا لي ضيعني الفلانية فاذا قالوا بلى ، قال لهم بعد ذلك : فأشهدوا ان ضيعتي

__________________

(١) ح : المولى.

(٢) أ : عليه.


«وقف لم يحمل ذلك إلا على الضيعة الذي قررهم على معرفتها ، هذا هو المعهود من الكلام الفصيح ، وليس لاحد ان يقول أليس لو قال مصرحا بعد تقريرهم على فرض طاعته ، فمن يجب عليه طاعتي فليحب عليا. كان جائزا ، فهلا جاز ذلك في غير المصرح ، وذلك إنه ليس كلما حسن في التصريح حسن في الاحتمال. ألا ترى إنه لو قال : ألستم تعرفون ضيعتي الفلانية فاذا قالوا بلى قال بعد ذلك فأشهدوا ان ضيعتي» (١) التي بجنبها وقف مصرحا بها كان ذلك جائزا مفيدا ، ولا يجوز مثل ذلك إذا قال كلاما محتملا على ما مضى بيانه. والفرق بين المصرح به والمكنى عنه واضح.

والذي يدل على ان لفظه مولى (٢) تفيد الامامة وفرض الطاعة استعمال أهل اللغة لأنهم يقولون السلطان (٣) أولى بتدبير رعيته من غيره وولد الميت أولى بميراثه من غيره ممن ليس بولد ، والمولى أولى (٤) بعبده من غيره ، يعني فرض طاعته (٥) عليه. ولا خلاف بين المفسرين ان قول النبي (ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم المراد به ومعناه أولى بتدبيرهم وفرض طاعتهم ، ولا يكون أحد أولى بتدبير

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من أ ، ب.

(٢) ح : أولى.

(٣) سقطت من أ.

(٤) سقطت من أ.

(٥) أ ، ب : الطاعة.


الأمة إلا من كان نبيا أو إماما ، فاذا (١) لم يكن نبيا وجب ان يكون إماما.

وأيضا : فلا خلاف ان النبي (ص) كان أولى بنا من حيث فرض الطاعة ، وإذا حصل له هذه المنزلة وجب ان يكون مفترض الطاعة علينا. وانما يعلم وجوب فرض طاعته (٢) على جميع الأمة وفي جميع الأشياء من حيث ان النبي (ص) كان كذلك وقد جعله بمنزلته فوجب ان يثبت له ذلك.

وأيضا : فكل من أوجب لأمير المؤمنين بهذا الخبر فرض الطاعة في شيء من الأشياء أثبته في جميع الأشياء ، فالتفرقة (٣) بينهما خلاف الاجماع.

وليس لأحد ان يقول : كيف يكون المراد به (٤) الامامة ، وهي لم تثبت في الحال ، والخبر يوجب ثبوت المنزلة في الحال ، فلا دلالة لكم (٥) في الخبر. وذلك أنا إذا قلنا ان المراد به فرص الطاعة واستحقاقه لها فذلك كان حاصلا له في الحال ، فسقط السؤال. فاذا قلنا المراد (٦) به الامامة فانه وإن اقتضاها في الحال فهو يقتضيها في الحال

__________________

(١) أ : فان لم.

(٢) أ ، ب : الطاعة.

(٣) أ : والتفرقة.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) أ ، ب : لهم.

(٦) أ : ان المراد.


وفيما بعده إلى وقت خروجه من الدنيا ، فاذا علمنا إنه لم يكن مع النبي (ص) في حال حياته إماما بالإجماع بقي ما بعده على جملته ، ولا يمكن حمله على ما بعد عثمان ، لأن أحدا لم يثبت له الإمامة بعد عثمان بهذا الخبر إلا واثبتها قبله بعد النبي (ص) ومن خصصه بعد عثمان اثبت إمامته بالاختيار لا بهذا الخبر ، واستحقاقه الامامة بهذا الخبر مثل استحقاق الوصي الوصية بقول الموصي : فلان وصيي. فانه يثبت له الوصية في الحال ، وإن كان التصرف ليس له إلا بعد الوفاة ، وكذلك استحقاق الامامة كان حاصلا في الحال وإن وقف التصرف على بعد الوفاة ، فأن (١) وجود النبي كالمانع (٢) من (٣) التصرف في حال وجوده ، ومثله قول المستخلف : فلان ولي عهدي فانه يثبت استحقاقه في الحال وإن كان التصرف واقفا على بعد الوفاة.

طريقة أخرى :

وهي ان نقول : إذا بينا أقسام مولى كلها ، وأفسدناها عدى الأولى ، دل على انه المراد وإلا بطلت فائدة الخبر ، وذلك لا يجوز.

فمن (٤) أقسامه المعتق (٥) ، والحليف ، والجار ، والصهر ، والامام (٦) ،

__________________

(١) ح : لأن.

(٢) ب ، ح : كالشافع.

(٣) ح : في.

(٤) ب ، ح : ومن.

(٥) زاد في ح : والمعتق.

(٦) زاد في ب : والحليف. وفي ح : والحلف.


وهذا كله معلوم بطلانه فلا يحتاج إلى إفساده. ومن أقسامه ابن العم ، ولا يجوز ان يكون ذلك مرادا (١).

لأنه معلوم ضرورة أنه ابن عمه ولا فائدة في ذلك. ومن أقسامه الموالاة في الدين ولا يجوز ان يكون ذلك مرادا لأنه ليس فيه تخصيص له لأنها واجبه لجميع المؤمنين بالإجماع. وبقوله «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» ومن أقسامه ولاء العتق ، ولا (٢) يجوز ان مرادا لأن ذلك معلوم من دينه وكان قبل الشرع أيضا معلوما ان ولاء العتق يستحقه ابن العم وبذلك ورد الشرع ، ولا يليق ذلك بمثل ذلك الوقت والمكان. وقول عمر «بخ. بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة» ولا يليق شيء من ذلك به. وليس لأحد ان يقول احملوه على الموالاة ظاهرا وباطنا ، وذلك ان هذا ليس بمستعمل في اللغة (٣) ، ولا يفهم من كلامهم. ولا يجوز ان يحمل اللفظ على ما لم يوضع له في اللغة. ومتى قيل يحمل على ذلك لأنه اثبت الموالاة كما اثبتها لنفسه ، قيل إنما وجب الموالاة للنبي (ص) ظاهرا وباطنا من حيث كان نبيا ، وإذا كانت النبوة مرتفعة عنه لم تجب الموالاة له باطنا. على إنه إنما يجب حمله على ما قالوه إذا لم يمكن حمله على ما تقتضيه اللغة ، وقد بينا إنه إذا حمل على أنه مفترض الطاعة وأولى

__________________

(١) أ ، ب هكذا : المراد به ذلك.

(٢) ح : فلا.

(٣) أ ، ب هكذا : ان أهل اللغة ليس تستعمله.


بتدبير الأمة كان محمولا على ما تشهد به (١) اللغة ، ولا يحتاج إلى هذا التحمل فاذا فسدت الأقسام كلها لم يبق إلا أنه أراد فرض الطاعة والاستحقاق للإمامة ، وقد قيل إنه إذا كان من أقسامه فرض الطاعة والأولى بتدبير الأمة وجب حمل ذلك على جميعه إلا ما أخرجه الدليل.

وأيضا : فقد روي عن جماعة من الصحابة انهم فهموا من الخبر فرض الطاعة والإمامة. منها قول عمر الذي قدمناه ، وذلك لا يليق إلا بما قلناه ، ومنها قول حسان بن ثابت الأنصاري :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

نجم وأسمع بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكم ووليكم

فقالوا ولم يبدو هناك التعاديا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ولم تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فانني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم والي وليه

وكن للذي عادى عليا معاديا

وقال قيس بن سعد بن عبادة :

قلت لما بغى العدو علينا

حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البصرة

بالأمس والحديث طويل

وعلي إمامنا وامام ل

من سوانا اتى به التنزيل

يوم قال النبي من كنت مولاه

فهذا مولاه خطب جليل

وقول حسان كان بمرئى من النبي (ص) ومستمع منه فلو لم يرد

__________________

(١) ب ، ح : له


به الإمامة لأنكر عليه وقال له غلطت ما أردت ذلك وأردت كيت وكيت. فلما لم ينكر ذلك دل على ما قلناه.

واستقصاء الكلام على هذا الخبر ذكرناه في كتاب تلخيص الشافي وشرح الجمل وغير ذلك فلا نطول بذكره (١) هاهنا.

دليل آخر على إمامته :

ـ ومما يدل على إمامته (ع) ما روي عن النبي (ص) إنه قال (٢) «أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا بني بعدي» «فأثبت له جميع منازل هارون من موسى إلا» (٣) ما استثناه لفظا من النبوة. وعرفنا بالعرف أنه لم يكن أخاه لأبيه وأمه ، وقد علمنا ان من منازل هارون من موسى أنه كان مفترض الطاعة على قومه وأفضل رعيته ، ومن (٤) شد الله به أزره ،» فيجب ان تكون هذه المنازل ثابتة له ، وفي ثبوت فرض طاعته ثبوت إمامته ، وقد نطق القرآن ببعض منازل هارون من موسى ، قال الله تعالى في حكايته عن موسى انه سأله فقال «اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري» (٥) وفي آية أخرى «أخلفني في قومي

__________________

(١) ح : به.

(٢) ح : من قوله.

(٣) سقط من أ ، ب.

(٤) ب ، ح : ممن.

(٥) طه : ٢٩.


وأصلح» (١) وقال الله تعالى «قد أوتيت سؤلك يا موسى» (٢) فوجب بذلك (٣) ثبوت هذه المنازل لأمير المؤمنين (ع). والطريق الذي به صح هذا الخبر هو ما قدمناه في خبر الغدير من تواتر الشيعة به (٤) ونقل المخالفين له على وجه التواتر والإجماع على نقله ، «وإن اختلفوا في تأويله واحتجاجه به في يوم (٥) الدار» (٦) ، وكل ذلك موجود هنا. وأيضا فقد ذكره البخاري ومسلم في صحيحهما ، والطريق إلى تصحيح (٧) الأخبار هو ما قلناه.

وأيضا : فاذا ثبت ان مقتضاه ما قلناه قطع على صحته ومن لم يقطع لم يقل (٨) ان مقتضاه فرض الطاعة والفرق بين القولين خروج عن الاجماع. وهارون وان مات في حياة موسى ، كان (٩) ممن لو عاش لبقي على ما كان عليه من استحقاق فرض الطاعة على قومه. وإذا جعل النبي (ص) منزلة علي مثل منزلته سواء ، وبقي (١٠) (ع)

__________________

(١) الأعراف : ١٢٤.

(٢) طه : ٣٦.

(٣) ح : بتلك.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) ب : الغدير الدار.

(٦) الجملة بين القوسين سقطت من أ.

(٧) أ ، ب : والنظر في الصحيح.

(٨) ح : ينقل.

(٩) ح : فكان.

(١٠) في الأصل : بقي.


إلى بعد وفاته وجب ان تثبت له هذه المنزلة ، وليس لأحد ان يقول لو بقي هارون إلى بعد وفاته لكان مفترض الطاعة لمكان نبوته لا بهذا القول ، وإذا كان علي (ع) لم يكن نبيا فكيف ثبت له فرض الطاعة؟ وذلك ان فرض الطاعة ثبت في النبي والامام وهي منفصلة من النبوة فلا يجب بانتفاء النبوة انتفاؤها ، بل لا يمتنع ان تنتفي (١) النبوة ويبقى فرض الطاعة. وإذا كان النبي قد أثبت (٢) له هذه المنزلة وانتفت النبوة لم يجب انتفاء فرض الطاعة ألا ترى ان العاقل (٣) لو قال لو كيله أعط فلانا كذا لأنه استحقه عليّ من ثمن المبيع (٤) ثم قال : وأنزل فلانا (٥) بمنزلته فانه يجب ان يعطيه مثل ذلك وإن لم يكن استحقه من ثمن المبيع بان يكون استحقه عليه من وجه آخر أو ابتداء هبة منه وليس للوكيل منعه ، وان يقول ذلك استحقه من ثمن المبيع ، وأنت ما بعته (٦) شيئا فلا تستحق. لأن العقلاء يوجبون على الوكيل العطية ولا يلتفتون إلى هذا الاعتذار ولا هذا القول.

فأن قيل : تقديره أن هارون لو بقي لأستحق فرض الطاعة والخلافة منزلة مفردة لا توصف بأنها منزلة كما لا توصف (٧) صلاة سادسة بأنها

__________________

(١) أ : تبقى.

(٢) ح : ويثبت.

(٣) ح : القائل.

(٤) ح : مبيع وكذا الآتي.

(٥) زاد في ح : آخر. وفي أ : لآخر.

(٦) ح : فما بعته.

(٧) ح : لا تصف.


من الشرع على تقدير انه لو تعبدنا بها لكانت من الشرع.

قلنا : المقدر إن (١) كان له سبب استحقاق يوصف بأنه منزلة. ألا ترى أن الدين المؤجل يوصف بأنه يستحق كما يوصف الدين الحال بذلك ، ولا توصف الصلاة السادسة بأنها من الشرع ، لأن ليس لها سبب وجوب. ولو قال إذا كان بعد سنة فصلوا (٢) صلاة سادسة لوصفت بأنها من الشرع ، وفرض الطاعة بعد الوفاة له سبب وجوب في الحال فجاز بأن يوصف بأنه منزلة ، ونظير ذلك ان يستخلف الخليفة ولي عهده بعده جاز ان يوصف بأن ذلك منزلة لولي العهد. وكذلك من أوصى إلى غيره جاز ان يوصف بأنه يستحق الوصية وإن كان التصرف واقفا إلى بعد الوفاة. وأيضا فان النبي (ص) جعل هذه المنازل لأمير المؤمنين (ع) بعده بقوله إنه (٣) لا نبي بعدي ، وكما ان من حق الاستثناء ان يخرج من الكلام ما لولاه لكان ثابتا ، ألا ترى ان القائل لو (٤) قال ضربت غلماني كلهم إلا زيدا في الدار أفاد ضرب من ضربه في الدار وترك من تركه مثل ذلك ، وإذا كان النبي (ص) جعل استثناء هذه المنازل بعده فيجب ان يثبت له ما عدا الاستثناء بعده. والمعتاد من لفظة بعدي في العرف بعد الموت كما يقولون هذا وصيي بعدي وولي عهدي بعدي وانت حر بعدي فليس

__________________

(١) ح : اذا.

(٢) أ ، ب : صلوا.

(٣) ح : له.

(٤) ح : اذا.


لأحد ان يقول ان المراد (١) ببعدي بعد نبوتي (٢) ، لأنا (٣) لو سلمنا إنه أراد بعد نبوته لدخل فيه الأحوال كلها ومن جملتها بعد وفاته.

فان قيل : يلزم ان يكون مفترض الطاعة في الحال ، وأن يكون إماما. قلنا : أما فرض الطاعة فقد كان حاصلا له في الحال. وإنما لم يأمر لوجود النبي (ص) ، وكونه إماما وإن اقتضاه في الحال فانه فانه يقتضيه أيضا بعد الوفاة ، فأخرجنا حال الحياة منها لمكان الاجماع على انه لم يكن مع النبي امام وبقي الباقي على عمومه. وليس لأحد ان يحمله عليه (٤) بعد عثمان ، لأن ذلك خلاف الإجماع.

فان أحدا من الأمة لم يثبت إمامته بهذا الخبر بعد عثمان دون ما قبله ، ومن اثبت ذلك اثبته بالاختيار ، ومن اثبت إمامته بهذا الخبر أثبتها بعد النبي (ص) إلى آخر عمره. فالفرق بين الأمرين خلاف الإجماع.

وليس لأحد ان يقول : أنت مني بمنزلة هارون من موسى يقتضي اثبات منزلة واحدة. لأنه لو أراد أكثر من ذلك لقال أنت مني بمنازل.

وذلك ان هذا يفسد من وجهين :

__________________

(١) ح : ان يقال ان المراد.

(٢) ب : موتي.

(٣) ب ، ح : لما.

(٤) ب ، ح : على.


أحدهما : انه لو أراد منزلة واحدة فدخول الاستثناء عليه دليل على إنه أراد أكثر من منزلة واحدة.

والثاني : ان الأمة بين قائلين قائل يقول ان الخير خرج على (١) سبب فهو يقصره عليه ، وقائل يقول المراد جميع المنازل ، وإذا بينا فساد خروج الخبر على سبب ثبت القول الآخر. والذي يدل على فساد ذلك ان رواية ما يذكر من السبب طريقه الآحاد ، والخبر معلوم ، ولو صح (٢) السبب لما وجب قصر الخبر على سببه عند أكثر المحققين.

وأيضا : فقد روي هذا الخبر ، وان النبي قاله (٣) في مقام بعد مقام وفي أوقات لم يكن فيها السبب المدعى.

فان قيل : لو أراد الخلافة لقال أنت مني بمنزلة يوشع بن نون. لأن هذه المنزلة كانت حاصلة ليوشع من موسى بعد وفاته. قلنا : هذا فاسد من وجوه :

منها : انه إذا كان الخبر دالا على ما قلناه من (٤) المراد فتمني ان يكون على وجه آخر اقتراح في الأدلة ، وذلك لا يجوز. وكان ذلك يلزم في أكثر الأدلة ، وأكثر الظواهر وذلك باطل بالاتفاق.

ومنها : ان خلافة يوشع ليست معلومة ، وانما يذكرها قوم من اليهود ، وخلافة هارون من موسى نطق بها القرآن. وقيل ان يوشع

__________________

(١) ح : عن.

(٢) أ : واضح.

(٣) سقط من أ ، ب.

(٤) ح : على.


كان نبيا يوحى إليه ، لم يتصرف بعد موسى (١) بخلافته ، بل بالوحي. والخلافة كانت في ولد هارون.

ومنها : ان النبي (ص) جمع له المنازل (٢) زيادة على الاستخلاف ، فلم يجز ان يشتبه ذلك بيوشع ، وقد تكلمنا على ما يتفرع على هذه الجملة في هذا الخبر والذي قبله في تلخيص الشافي وشرح الجمل فلا نطول بذكره هاهنا. لأن فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.

فصل ـ ٤ ـ

في احكام البغاة على أمير المؤمنين (ع)

ظاهر مذهب الامامية ان الخارج على أمير المؤمنين (ع) والمقاتل له كافر بدليل إجماع الفرقة المحقة على ذلك ، وإجماعهم حجه لكون المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ داخلا فيهم ، وأن المحاربين له كانوا منكرين لامامته ودافعين النص عليها (٣) ، ودفع الامامة (٤) وجحدها كدفع النبوة وجحدها سواء ، بدلالة قوله (ص) «من مات وهو لا يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية».

__________________

(١) في الأصل هكذا «لم يتصرف موسى بعد بخلافته بالوحي».

(٢) سقط من أ.

(٣) ح : ودافعين لها.

(٤) زاد في ح : عندهم.


وروي عنه (ص) إنه قال لعلي (ع) «حربك يا علي حربي وسلمك سلمي» وحرب النبي (ص) كفر بلا خلاف ، فينبغي ان يكون حرب علي (ع) مثله ، لأنه (ص) أراد حكم حربك حكم حربي ، وإلا فمحال ان يريد : نفس حربك حربي ، لأن المعلوم خلافه.

فان قيل : لو كان ذلك كفرا لا جرى عليهم احكام الكفر من منع الموارثة والمدافنة والصلاة عليهم وأخذ الغنيمة واتباع المدبر والإجازة على الخروج. والمعلوم انه (ع) لم يجر ذلك عليهم فكيف يكون كفرا.

قلنا : احكام الكفر مختلفة كحكم الحربي والمعاهد والذمي والوثني ، فمنهم من تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم ، ومنهم من لا تقبل منهم ، ومنهم من يناكح وتؤكل ذبيحته ، ومنهم من لا تؤكل عند المخالف. ولا يمتنع ان يكون متظاهرا بالشهادتين وان حكم حكمه مخالف لأحكام الكفار كما تقول (١) المعتزلة في (٢) المجبرة والمشبهة وغيرهم من الفرق الذين يحكمون بكفرهم وإن لم تجر هذه الأحكام عليهم فبطل ما قالوه.

فأما من خالف الإمامية (٣) فمنهم (٤) من يحكم عليهم بالفسق

__________________

(١) ح : نقول.

(٢) أ ، ب : والمجبرة بالعطف.

(٣) في الأصل : الامامة.

(٤) ففيهم.


ومتهم من يقول هو خطأ مغفور ومنهم من يقول انهم مجتهدون وكل مجتهد مصيب.

فمن حكم بفسقهم من المعتزلة وغيرهم ممن (١) يدعي توبة للقوم ورجوعهم فنحن (٢) نبين قولهم.

والذي يدل على بطلان ما يدعونه من التوبة ان الفسق معلوم ضرورة وما يدعونه من التوبة طريقه الآحاد ولا يرجع عن المعلوم إلى المظنون. وأيضا فكتاب أمير المؤمنين (ع) إلى أهل الكوفة والمدينة بالفتح يتضمن فسق القوم وأنهم قتلوا على خطاياهم ، وأنهم قتلوا على النكث والبغي. ومن مات تائبا لا يوصف بذلك. والكتب معروفة في كتب السيرة. وروي انه لما جاءه ابن جرموز برأس الزبير وسيفه. تناول سيفه وقال (ع) سيف طالما جلا به الكرب عن وجه رسول الله (ص) ولكن الحين (٣) ومصارع السوء. ومن كان تائبا لا يوصف مصرعه بأنه مصرع سوء.

وروى حبة العرني قال سمعت عليا (ع) يقول : والله لقد علمت صاحبة الهودج ان أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي وقد خاب من افترى.

وروى البلاذري بأسناده إلى جويرية بن أسماء قال «بلغني ان الزبير

__________________

(١) ح : من.

(٢) ب ، ح : ونحن.

(٣) أ ، ب : الحيرة.


لما ولى اعترضه عمار بن ياسر ، وقال : أين أبا عبد الله فو الله ما أنت بجبان ، ولكني أحسبك شككت فقال : هو ذاك. والشك خلاف التوبة لأنه لو كان تائبا لقال : تحققت ان صاحبك على الحق وأنا على الباطل ، وأي توبة لشاك.

وأما طلحة فقتل بين الصفين فمتى تاب. وكتاب أمير المؤمنين (ع) يدل على إصراره.

وروي عنه انه قال حين جاد (١) بنفسه «ما رأيت مصرع شيخ قط أضيع من مصرعي» وذلك دليل الإصرار. وروي عن علي (ع) انه مر عليه وهو مقتول فقال : أقعدوه فأقعد فقال كانت سابقة لكن الشيطان دخل منخرك فأوردك النار.

وأما إصرار عائشة فكتاب أمير المؤمنين (ع) وما روي من المحاورة بين عبد الله بن عباس وامتناعها من تسميته بأمره المؤمنين دليل واضح على الإصرار.

وروى الواقدي ان عمارا دخل عليها فقال : كيف رأيت ضرب بنيك على الحق؟ فقالت : استبصرت من أجل انك غلبت : فقال : أنا أشد استبصارا من ذلك. والله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا انا على الحق وإنكم على الباطل.

فقالت عائشة : هكذا يخيل أليك ، اتق الله يا عمار ، أذهبت دينك لابن أبى طالب.

__________________

(١) ب ، ح : يجود.


وروي الطبري في تاريخه انه لما انتهى قتل أمير المؤمنين (ع) إلى عائشة قالت :

فألقت عصاها واستقرت بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

ثم قالت : من قتله؟ فقيل : رجل من مراد. فقالت :

فان يك تائبا فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

وهذا كله صريح في الإصرار وفقد التوبة.

وروي عن ابن عباس انه قال لأمير المؤمنين (ع) حين أبت عائشة الرجوع الى المدنية : دعها في البصرة ولا ترحلها. فقال (ع) : إنها لا تألوا شرا ، ولكني أردها إلى بيتها.

وروى محمد بن إسحاق : انها وصلت الى المدينة راجعة من البصرة لم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين (ع) ، وكتبت إلى معاوية وأهل الشام مع الأسود بن البختري (١) تحرضهم عليه. ونظائر ذلك كثيرة ، ذكرنا منها في كتاب تلخيص الشافي لا نطول بذكره هاهنا ، فأي توبة مع ما ذكرناه.

وأما من نفى عنهم الفسق فما قدمناه من الأدلة يفسد قولهم. وما يدعيه المعتزلة من الأخبار في توبة طلحة والزبير وعائشة فهي كلها أخبار آحاد لا يلتفت إليها. وليس أيضا فيها (٢) تصريح بالتوبة ، وأدل دليل على عدم التوبة أنهم لو تابوا لسارعوا الى أمير المؤمنين (ع) ،

__________________

(١) ح : البحتري.

(٢) سقط من أ ، ب.


والدخول في عسكره ، والجهاد معه.

فمما تعلقوا به رجوع الزبير عن الحرب ، ونفس الرجوع ليس بدليل التوبة ، لأنه يحتمل غير التوبة.

وقد قيل : انها لما لاحت له أمارات الظفر لأمير المؤمنين (ع) وآيس من الظفر به رجع.

وقال قوم : انه رجع ليتوجه الى معاوية. وقيل : انه لما انصرف وبخه ابنه فقال : حلفت ان لا أقاتله. فقال : كفر عن يمينك فاعتق مملوكا له ورجع الى القتال.

وما روي من قوله : ما كان أمر قط إلا عرفت أين أضع قدمي فيه إلا هذا الأمر فأنى لا أدري أمقبل أنا أم مدبر ، فليس فيه دليل التوبة ، بل هو صريح في الشك المنافي للتوبة.

وما روي عن أمير المؤمنين (ع) انه قال : بشر قاتل ابن صفية بالنار. لا يدل على توبته أيضا ، لأنه يجوز أن يستحق قاتله النار لأمر سوى قتله ، كما قال النبي (ص) لقزمان رجل قاتل الكفار يوم أحد وأبلى معه. «قزمان رجل من أهل النار» لعلة أخرى. وقيل السبب في ذلك أن ابن جرموز حرج مع الخوارج يوم النهروان فقتل في جملتهم.

وما روي عن طلحة انه قال حين أصابه السهم :

لدمت ندامة الكسعى لما

رأت عيناه ما فعلت يداه

فلا يدل أيضا على التوبة ، بل يدل على عدمها لأنه جعل ندامته


غير (١) نافعة له ، كما ان ندامة الكسعى لم تنفعه. وقصته في ذلك مشهورة. وقوله وهو (٢) يجود بنفسه «اللهم خذ لعثمان منى حتى ترضى» دليل الإصرار أيضا. لأنه أقر بانه سبب قتل عثمان ، «وكان ينسبه» (٣) إلى علي.

وذلك خلاف ما أقر به على نفسه.

وما يروى من حديث البشارة ان النبي (ص) قال : عشرة من أصحابي في الجنة وطلحة والزبير منهم لا يدل على توبتهم أيضا ، لأنه خبر واحد ضعيف مقدوح في سنده (٤). وأدل دليل على فساده ان النبي (ص) لا يجوز ان يقول لمن ليس بمعصوم أنت في الجنة لا محالة لأن في ذلك اغراء له بالقبيح. وقيل : ان (٥) راويه سعيد (٦) ، وهو أحد العشرة فلا يقبل خبره لأنه يشهد لنفسه.

فأما ما روي من بكاء عائشة وتلهفها وتمنيها انها كانت مدرة أو سخرة. وقولها : لئن لا اكون شهدت ذلك اليوم أحب الي من ان يكون لي من رسول الله (ص) عشرة أولاد كعبد الرحمن بن الحرث ابن هشام ، لا يدل على التوبة. لأن مثل ذلك قد يقوله من ليس

__________________

(١) سقطت من ب.

(٢) ب ، ح : حين.

(٣) سقط من أ ، ب.

(٤) أ : روايته وسنده.

(٥) أ ، ب : انه.

(٦) ح : بن زيد. ب : بن زبير.


بتائب كما حكى الله (١) عن مريم «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا» (٢) وقد يقول مثل هذا من أراد أمرا لم يبلغه ، وفاته غرضه ، فيتحسر عليه ، ويتمنى (٣) الموت عند ذلك ، ويود انه لم يتعرض له ، لئلا يشمت به ، ولا يدل جميع ذلك على التوبة. واستيفاء ذلك ذكرناه في غير موضع.

فصل ـ ٥ ـ

في تثبيت إمامة الاثنى عشر عليهم‌السلام

إذا ثبت بما قدمناه ان الزمان لا يخلو من إمام من شرطه ان يكون مقطوعا على عصمته ، ويكون (٤) أكثر ثوابا عند الله تعالى ، وأعلمهم بجميع أحكام الشريعة سهل الكلام على إمامة امام بعد أمير المؤمنين (ع).

لأنه يعتبر أقوال الأمة في كل (٥) عصر ، فنجدها بين أقوال : قائل يقول (٦) لا امام. وما دللنا به من أن الزمان لا يخلو من إمام يفسد قوله.

__________________

(١) اسم الجلالة سقط من أ ، ب.

(٢) مريم : ٢٣.

(٣) ب ، ح : فيتمنى.

(٤) في الأصل : أو يكون. وكذا الآتي.

(٥) سقطت من ح.

(٦) سقط من أ ، ب.


وقائل يقول بامامة من لا يقطع على عصمته بل لا يجعلها من شرط الامام. وذلك يبطل بما قدمناه من وجوب القطع على عصمة الامام. وقائل يقول بامامة من يدعي عصمته لكنه يذهب الى إمامة من لا يدعي النص عليه ولا المعجز ، وقد بينا إنه لا طريق الى معرفة المعصوم إلا بأحد هذين فقوله يفسد أيضا بذلك. ومن ادعى النص. أما صريحا وأما محتملا فانه يذهب الى إمامة من علمنا موته كالكيسانية القائلين بامامة ابن الحنفية. والناووسية والواقفية (١) على جعفر بن محمد (ع).

والفطحية القائلين بامامة «عبد الله بن جعفر الصادق (ع) ، وكالواقفة القائلين» (٢) بامامة موسى بن جعفر وانه (٣) لم يمت. وأقوال هؤلاء تبطل بما علمنا من (٤) موت هؤلاء ظاهرا مكشوفا ، وأيضا فأدل دليل على فساد هذه الفرق انقراضهم ، وانهم لم يبق لهم باقية ، ولو كانوا على حق لما انقرضوا ، وهذه الجملة إذا اعتبرتها في إمام إمام من عهد الحسين بن علي ، وإلى عهد القائم بن الحسن عليهم‌السلام وجدتها صحيحة لا يمكن الطعن عليها إلا بالمنازعة في بعض الأصول التي ذكرناها ، ومتى نازعوا في شيء من ذلك كان الكلام في تصحيح ذلك الأصل أولا ثم في فرعه (٥). والكلام على الزيدية داخل

__________________

(١) أ ، ب : الواقفة.

(٢) ما بين القوسين سقط من أ ، ب.

(٣) زاد في ب ، ح : حي لم يمت.

(٤) سقطت من أ.

(٥) أ : فروعه.


في جملة ذلك لأنهم لا يقطعون على عصمة زيد ، ولا يدعون ان من شرط الامام ان يكون مقطوعا على عصمته ، ومن حمل نفسه على ذلك أخيرا يخالف الإجماع. ومع ذلك يفسد قوله ، لأنه لا يدعي نصا عليه ولا ظهور معجز وشرح هذه الجملة والكلام على فريق بيناه في تلخيص الشافي ، وجملته على (١) ما قلناه ، فلا نطول بذكره الكتاب.

فصل ـ ٦ ـ

الكلام في الغيبة (٢)

فأما (٣) الكلام في الغيبة وسببها فانه إذا ثبتت هذه الأصول التي قدمناها ، وان كل زمان لا يخلو من امام ، وان من شرطه القطع على عصمته ، ووجود النص عليه ، فوجب إمامة من يدعي إمامته لأن الناس في عصرنا بين أقوال منهم من يدعي إمامة من لا يدعي القطع على عصمته فقوله يبطل بما قدمناه. ولم (٤) يبق بعد ذلك ألا القول بإمامته وإلا خرج الحق عن الأمة. فاذا ثبتت إمامته ووجدناه لم يظهر علمنا ان لاستتاره سببا مبيحا له ذلك ولولاه لم يجز له الاستتار لكونه

__________________

(١) سقطت من ح.

(٢) ليس في الأصل.

(٣) ب : وأما.

(٤) ح : فلم.


معصوما ، ولا يلزم ان يعلم ذلك السبب مفصلا كما نقول لمن طعن في اثبات الصانع بخلق المؤذيات وفعل الآلام وغير ذلك. بأن نقول : اذا ثبتت حكمته تعالى علمنا ان هذه الأشياء لها وجه حكمه وإن نعلمه مفصلا. وبذلك نجيب من (١) طعن في متشابه القرآن.

وان تكلفنا الكلام في تفصيل ذلك فللاستظهار والقوة ، وإلا فالقدر الذي ذكرناه كاف في الحجة. واذا ثبتت ووجدنا التكليف قائما على المكلف كما كان علمنا ان استتاره لشيء يرجع إليهم ، لأنه لو لم يرجع إليهم لما حسن تكليفهم ، ولا يلزمنا ان نعلم ذلك الأمر مفصلا.

كما نقول لمن أخل بشرط من شروط النظر فلم يحصل له العلم بالله ، انك قد أخللت بشرط من شروط النظر. فيحتاج الى ان تراجع وتعود فيه أبدا حتى يحصل لك العلم.

وكذلك من لم يظهر له الإمام ينبغي ان يراجع نفسه ويصلح سيرته فاذا علم الله تعالى منه صدق النية في نصرة الإمام وانه لا يتغير عن ذلك ظهر له الإمام.

وقيل في ذلك انه لا يمتنع ان يكون من لم يظهر له الإمام المعلوم من حاله انه اذا ظهر له سيره (٢) والقى خبره إلى غيره من أوليائه واخوانه فربما انتهى الى شياع خبره وفساد أمره.

وقيل أيضا انه لا يمتنع انه اذا ظهر وظهر على يده علم معجز فانه

__________________

(١) أ ، ب : فيجيب لمن.

(٢) ب ، ح هكذا : سرية. وفي أ : سره.


لا بد من ذلك فان (١) غيبته غير معلومة ، واذا كان كذلك دخلت عليه شبهة ، فيعتقد انه مدع لما لا أصل له ، فيشيع خبره ويؤدي الى اغرائه ، وغير ذلك من العلل ، وهذه (٢) العلة يبطلها ممن لم يظهر له من شيعته وان كانت علته مزاحه من حيث ان لطفه حاصل لأنه يعتقد وجوده ويجوز تمكينه في كل حال فهو يخافه. واللطف به حاصل (٣) وبمكانه أيضا يثق بوصول جميع (٤) الشرع إليه ، لأنه لو لم يصل إليه ذلك لما ساغ له الاستتار إلا بسقوط التكليف عنهم. فاذا وجدنا التكليف باقيا والغيبة مستمرة علمنا ان جميع الشرع واصل إليه ، فأما المخالف فسبب استتاره عنه اعتقاده بطلان إمامته ، وان من ادعى هذا المنصب ممن أشرنا إليه «صار مضلا» (٥). ولا يحتاج ان يخرج علة في الاستتار عنه.

والفرق بين استتارة (٦) وظهور آبائه (ع) انه (٧) لم يكن المعلوم من حالهم انهم (٨) يقومون بالأمر ويزيلون الدول ، ويظهرون بالسيف

__________________

(١) ب ، ح : لأن.

(٢) ح : فهذه.

(٣) زاد في ب : له.

(٤) سقطت من أ ، ب.

(٥) بدلها في ح : ضال مضل.

(٦) ب ، ح : الاستتار.

(٧) سقطت من ح.

(٨) أ : انه.


ويقومون بالعدل ، ويميتون الجور ، وصاحب الزمان (ع) بالعكس من ذلك ، ولهذا يكون مطلوبا مرموقا. والأولون ليسوا كذلك.

على ان آبائه (ع) ظهروا لأنه كان المعلوم انهم لو قتلوا لكان هناك من يقوم مقامهم ويسد مسدهم وليس كذلك صاحب الزمان ، لأن المعلوم انه لو هلك «لم يكن هناك من يقوم مقامه» (١) ، ولا يسد مسده. فبان الفرق بينهما.

وطول غيبة الإمام (ع) كقصرها ، فانه ما دامت العلة الموجبة حاصلة فانه مستتر الى ان يعلم الله تعالى زوال العلة ، فيعلم ذلك بما وقفه عليه آباؤه من الوقت المعلوم وبالامارات اللائحة للنصر. وغلبة الظن يقوم مقام العلم في ذلك. وخاصة اذا قيل لك ظهرت أمارات النصر فأعلم انه وقت الخروج ، وكل ذلك جائز (٢) وطول عمر صاحب الزمان (٣) وان كان خارقا للعادة فالله تعالى قادر عليه بلا خلاف بيننا وبين من خالفنا من الأمة.

وخرق العادات على من ليس بيني قد بينا جواز فلا وجه لاستبعاد (٤) ذلك.

وقد رأينا (٥) استتر النبي (ص) في الشعب تارة ، وفي الغار

__________________

(١) بدلها في أ : لم يقم هناك مقامه.

(٢) سقطت من أ ، ب.

(٣) ح : الأمر.

(٤) أ : لاعادة.

(٥) سقطت من ح.


أخرى. فلا ينبغي أن يتعجب من ذلك. وليس لهم ان يقولوا إن استتار النبي (ص) كان مدة يسيرة ، وذلك ان استتاره في الشعب كان ثلاث سنين ، واذا جاز الاستتار ولو يوما واحدا لعلة جاز الاستتار الطويل مع استمرار العلة فلا فرق بين الطول والقصر ، بل المراعى (١) حصول العلة وزوالها.

وليس لهم ان يقولوا ان النبي (ص) استتر بعد اداء الشرع. وذلك ان وقت استتاره في الشعب لم يكن أدى جل الشريعة لأن معظم الشريعة نزل بالمدينة. على ان في كون النبي (ص) بين الخلق لطفا ومصلحة ، فأي شيء قالوه في ذلك فهو قولنا بعينه .. والحدود المستحقة في حال الغيبة في جور (٢) أصحابها والدم لاحق بمن أحوج الإمام الى الغيبة.

ومثل ذلك يلزم المعتزلة الذين يقولون : أهل الحل والعقد ممنوعون من اختيار الإمام ، فما لهم إلا مثل ما عليهم.

ويدل على إمامة الاثنى عشر على ما نذهب إليه ما تواترت به الشيعة من نص النبي (ص) على الاثنى عشر في الجملة ، ورووه أيضا عن امام امام على من يقوم مقامه ، وترتيب ذلك كترتيب النص على أمير المؤمنين (ع) والأسئلة على ذلك قد مضى الجواب عنها أيضا (٣).

وقد روى المخالفون عن النبي (ص) أخبارا كثيرة ذكرناها في

__________________

(١) ح : الداعي.

(٢) ح : جواب.

(٣) في ح هكذا : وأيضا قد روي.


المفصح وغيره من كتبنا ، بأن (١) الأئمة من بعده اثنا عشر ، فاذا ثبت العدد فالأمة بين قائلين قائل يقول بالاثنى عشر فهو (٢) يقطع على انهم هؤلاء بأعيانهم ، ومن لم يقل بإمامتهم لم يقصرها على عدد مخصوص فاذا ثبت العدد بما رووه ثبت الأعيان بهذا الاعتبار.

والكلام في فروع الغيبة واسئلتها (٣) استوفيناه في تلخيص الشافي لا نطول بذكره هاهنا. وهذا القدر كاف هاهنا ان شاء الله.

قد امتثلت ما رسم الشيخ الأجل أطال الله بقاه ، وسلكت الطريق الذي طلبه من الاختصار والإيجاز وأرجو ان يكون موافقا لغرضه ملائما لإرادته وأنا الآن أذكر جملة من العبادات لا يستغني عنها. واجري على هذا المنهاج في الاختصار والإيجاز ان شاء الله «تعالى وبيده أزمة الأمور سبحانه» (٤).

__________________

(١) ب ، ح : أن.

(٢) أ ، ب : وهو.

(٣) أ : واصولها.

(٤) سقطت من ب ، ح.


القسم السّادس

الكلام في العبادات الشرعية


عبادات الشرع خمس. الصلاة والزكاة والصوم والحج الجهاد ، وآكدها وأعمها فرض الصلاة ، لأنها لا تسقط في حال من الأحوال ، مع ثبات العقل وان تغيرت أوصافها من قيام إلى قعود الى غير ذلك ، وباقي العبادات قد تسقط على بعض الوجوه عن قوم دون قوم ، فلذلك نبدأ بها في أول كتب العبادات ثم نعقبه بباقي العبادات. ونحن نذكر واحدا واحدا منها على وجه الاختصار ، فان استيفاء ما يتعلق بكل واحد منها قد بسطناه في النهاية والمبسوط. والغرض هاهنا ذكر ما لا بد منه على كل حال. والله الموفق للصواب.

فصل ـ ١ ـ

في ذكر افعال الصلاة

أفعال الصلاة على ضربين : أحدهما يتقدم الصلاة. والثاني يقارنها. فما يتقدمها على ضربين ، مفروض ومسنون. فالمفروض الطهارة والوقت والقبلة ومعرفة اعداد الصلاة وستر العورة ومعرفة ما تجوز الصلاة فيه «من اللباس والمكان ومعرفة ما يجوز السجود عليه» (١). وما لا يجوز وتطهير الثياب والمكان من النجاسات ، والمسنون الأذان والإقامة. ونحن نذكر (٢) لكل ذلك فصلا فصلا (٣) إن شاء الله.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ح : نقسم.

(٣) في ح : غير مكرر.


فصل ـ ٢ ـ

في ذكر حقيقة الطهارة وبيان أفعالها

الطهارة في الشرع عبارة عن إيقاع أفعال مخصوصة على وجه مخصوص في البدن يستباح به الدخول في الصلاة ، وهو على ضربين : طهارة بالماء ، وطهارة بالتراب.

فالطهارة بالماء هي الأصل ، وانما يعدل الى التراب عند عدم الماء ، أو تعذر استعماله. وهي على ضربين : احدهما وضوء والآخر الغسل. ونحن نبين كل واحد منهما على حدته ، ونذكر ما ينبغي أن يعمل فيه إن شاء الله.

فصل ـ ٣ ـ

في ذكر الوضوء واحكامه

الوضوء عبارة عن إيقاع أفعال في أعضاء مخصوصة من البدن على وجه مخصوص يستباح به الدخول في الصلاة ، وله مقدمات مفروضة ومسنونة.


فمقدماته : اذا أراد الإنسان قضاء حاجته فينبغي (١) أن يتخلى بحيث لا يراه أحد فيطلع على سوأته ، فاذا أراد الدخول الى الموضع الذي يتخلى فيه فليغط رأسه ، ويدخل رجله اليسرى قبل اليمنى ، ويقول بسم الله وبالله أعوذ (٢) بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم.

فاذا قعد لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول أو غائط ، الا أن يكون الموضع مبنيا على وجه لا يتمكن فيه من الانحراف ، وهذا واجب. ولا يستقبل الشمس ولا الربح ولا القمر بالبول ، ولا يحدث في الماء الجاري ولا الراكد ولا الشارع (٣) ولا تحت الأشجار المثمرة ، ولا في النزال ولا في (٤) أفنية الدور ولا المشارع ، ولا المواضع الذي يتأذى المسلمون بحصول نجاسة فيها ولا يبولن في حجرة الحيوان ، ولا يطمح ببوله في الهواء ، ولا يبولن في الأرض الصلبة. ولا يتكلم في حال الخلاء ، ولا يستاك ولا يأكل ولا يشرب ، فاذا فرغ من حاجته فليستنج.

والاستنجاء فرض ويجوز بالاحجار والماء والجمع بينهما أفضل ، والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الحجارة والاقتصار على

__________________

(١) ح : قضاء حاجة ينبغي.

(٢) ح : واعوذ.

(٣) ح : الشوارع.

(٤) سقطت من ح.


الحجارة يجزي (١) أيضا ، ولا يستنج بأقل من ثلاثة احجار. فان نقي بواحدة استعمل الثلاثة سنة مؤكدة. ولا يستنج بالعظم ولا بالروث ويجوز أن يستنجي بالخرق والمدر وغير ذلك. ولا يستنجي باليمين إلا عند الضرورة ولا يستنجي وفي يده خاتم عليه اسم من اسماء الله مكتوب ، بل يحوله ، واذا استنجى قال : اللهم حصن فرجي واستر عورتي ووفقني لما يرضيك عني ، يا ذا الجلال والإكرام ، فاذا فرع من الاستنجاء قام من موضعه ومسح على بطنه وقال : الحمد لله الذي أماط عني الأذى ، وهنأني طعامي وعافاني من البلوى ، فاذا أراد الخروج أخرج رجله اليمنى ، وقال الحمد لله الذي عرفني لذته وأبقى في جسدي قوته ، وأخرج عني أذاه. يا لها نعمة ، يا لها نعمة ، يا لها نعمة.

ثم يقعد في موضع يطيب (٢) للوضوء ، ويجعل الاناء على يمينه. ويقول اذا أراد الوضوء : الحمد لله الذي جعل الماء طهورا ، ولم يجعله نجسا. ثم يغسل يديه (٣) من البول أو النوم من (٤) قبل إدخالها الإناء ، مرة (٥) ومن الغائط مرتين ، ومن الجنابة ثلاث مرات اذا كانت نظيفة. فان كانت نجسة وجب غسلها ، والا فسد الماء. ثم يأخذ كفا من الماء فيتمضمض به ثلاثا سنة. ثم يقول اللهم لقني

__________________

(١) ح : مجز.

(٢) ح : نظيف.

(٣) ح : يده ، بالمفرد.

(٤) ح : مره. بدل من.

(٥) ح : سنه.


حجتى يوم ألقاك ، واطلق لساني بذكراك ، ويستنشق ثلاثا ، ويقول اللهم لا تحرمنى طيبات الجنان واجعلني ممن يشم ريح الجنة وروحها وريحانها ، ثم يأخذ كفا من الماء فيغسل به وجهه من قصاص الشعر في الرأس (١) الى محاذي شعر ذقنه طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا دفعة واحدة فريضة ، ودفعتين سنة ، وفضيلة ، ولا تجوز الثالثة مع الاختيار.

ويقول اذا غسل وجهه اللهم بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه ، ولا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه. ثم يأخذ كفا من الماء فيديره الى يساره ويغسل به يده اليمنى من المرفق الى أطراف الأصابع مرة فريضة ، ومرتين (٢) فضيلة ، ولا تجوز الثالثة. ويقول اللهم اعطنى كتابي بيميني والخلد في الجنان بشمالي وحاسبنى حسابا يسيرا. ثم يغسل يده اليسرى مثل ذلك من المرفق إلى أطراف الأصابع «مرة فريضة ومرتين سنة ، ولا يستقبل الشعر في غسل اليدين بل يبتدئ من المرافق إلى أطراف الأصابع» (٣). ويقول اذا غسل يده اليسرى : اللهم لا تعطنى كتابي بشمالي ولا تجعل يدى (٤) مغلولة الى عنقي.

ثم يمسح بما يبقى في يده من النداوة رأسه من مقدمة الرأس مقدار ثلاث أصابع مضمومة. ويقول اللهم غشنى برحمتك وبركاتك ولا يستقبل

__________________

(١) ح : شعر الرأس.

(٢) ح : ودفعتين.

(٣) ما بين القوسين ساقط من أ.

(٤) ح : ولا تجعلها.


بشعر الرأس أيضا في المسح عليه. ثم يمسح بما بقي في يديه من النداوة رجليه من رءوس الأصابع الى الكعبين وهما الناتئان في وسط القدم. ويقول : اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام. فاذا فرغ من ذلك قال : الحمد لله رب العالمين.

والنية في الطهارة فرض اذا أراد الشروع في غسل الأعضاء وهي بالقلب ينوي القربة الى الله واستباحة الصلاة.

والترتيب واجب أيضا في الوضوء يبدأ بها أولا يغسل وجهه ثم يده اليمنى ثم اليسرى ثم يمسح برأسه ثم برجليه ، فان خالف لم يجزه. والموالاة أيضا واجبه فيه لا ينقضها (١) إلا لعذر فان أتى (٢) لانقطاع الماء ينظر فان نشف ما تقدم غسله أعاد ، وان كانت فيه نداوة بنى عليه.

فصل ـ ٤ ـ

في ذكر نواقض الوضوء

نواقض الوضوء على ثلاثة أقسام :

أحدها : يوجب الإعادة.

وثانيها : يوجب الغسل.

__________________

(١) ح : يبعضها.

(٢) في ح : فان بعضها لعذر أو لانقطاع الماء ..


وثالثها : تارة يوجب الوضوء وأخرى يوجب الغسل فالذي يوجب الوضوء البول والغائط والريح والنوم الغالب على السمع والبصر ، وكلما يزيل العقل من إغماء أو جنون أو سكر. وما يوجب الغسل الجنابة والحيض ومس الأموات من الناس بعد بردهم بالموت ، وقبل تطهيرهم. فان هذه الأشياء توجب الغسل على كل حال. وما يوجب الوضوء تارة والغسل أخرى الاستحاضة فانها إذا كانت قليلة أوجب الوضوء ، وإن كانت كثيرة أوجب الغسل على ما بينا ان شاء الله

فصل ـ ٥ ـ

في ذكر الجنابة

الجنابة تكون بشيئين أحدهما إنزال الماء الدافق الذي هو المني على كل حال سواء كان بجماع أو غيره أو احتلام ، وسواء كان بشهوة او غير شهوة على كل حال. والآخر : بالتقاء الختانين ، أنزل أو لم ينزل.

فاذا صار جنبا فلا يدخل شيئا من المساجد إلا عابر سبيل ، إلا عند الضرورة ، ولا يصنع فيها شيئا ، ولا يقرأ من القرآن سور العزائم ، ويجوز قراءة ما سواها ، ولا يمس كتابة المصحف ، ولا بأس أن يمس اطراف الأوراق ، ولا يمس أيضا شيئا فيه اسم من اسماء الله تعالى ، مكتوب في لوح ، أو فضة ، أو قرطاس ، ويكره له الأكل


والشرب إلا عند الضرورة. فاذا أرادهما تمضمض واستنشق ويكره له النوم والخضاب. فاذا أراد الاغتسال فليستبرأ نفسه بالبول ، فان لم يفعل ورأى بعد الغسل بللا أعاد الغسل. وأن يغسل جميع جسده ابتداء أولا ، يغسل رأسه ثم جانبه الأيمن ثم الأيسر بترتيب هكذا. فان خالف لم يجزه ويوصل (١) الماء إلى جميع بدنه وإلى أصول شعره. ويميز الشعر بأنامله ، وأن ارتمس بالماء ارتماسة ، أو وقف تحت الميزاب أو النزال أو المطر أجزأه.

والنية لا بد منها بالغسل لاستباحة الصلاة ، وما لا يجوز للجنب من «دخول المساجد» (٢) وقراءة العزائم ، ومس كتابة المصحف ، وغير ذلك ، والمضمضة والاستنشاق سنتان فيه ، وليسا بفرضين. ويقول إذا أراد الاغتسال ، اللهم طهرني وطهر قلبي ، واشرح لي صدري ، وأجر الخير على لساني ، يا ذا الجلال والاكرام يا أرحم الراحمين.

فصل ـ ٦ ـ

في ذكر الحيض والنفاس والاستحاضة

الحيض عبارة عن الدم الخارج من فرج المرأة بحرارة على وجه يتعلق به احكام مخصوصة ، ولقليله حد. فاذا رأت هذا الدم حرم

__________________

(١) أ : ويفاضل.

(٢) سقط من أ.


عليها جميع ما يحرم على الجنب ، ويحل لها ما يحل له سواء ، ويحرم عليه وطؤها في الفرج ومتى وطئها فعليه (١) التعزير. ولزم الكفارة دينارا إن كان في أوله ، وإن كان في وسطه نصف دينار ، وإن كان في آخره ربع دينار. ويسقط عنها فرض الصلاة ، ولا يصح منها الصوم ، ويلزمها قضاء الصوم دون الصلاة ، ولا يصح طلاقها ولا اعتكافها.

وأقل الحيض ثلاثة أيام ، واكثره عشرة أيام ، وفيما بين ذلك بحسب العادة ، فاذا انقطع عنها ورأت نقاء صحيحا وجب عليها الغسل.

وكيفيته مثل كيفية غسل الجنابة. إلا ان غسل الجنابة يسقط فيه الوضوء ، وهذه لا بدّ لها من وضوء ، إذا أرادت الصلاة.

وينبغي أن تستبرئ نفسها قبل الغسل ، فان رأت دما يسيرا فليست بطاهرة. هذا إذا كان انقطاع الدم دون العشرة ، فان استوفت العشرة فما زاد يكون دم استحاضة على كل حال والمستحاضة هي التي ترى الدم الأصفر البارد ، ولا تحس بخروجه منها «أو تراه بعد عشرة أيام من الحيض أو النفاس ، فانه يكون أيضا دم استحاضة على أي وصف كان.

وحكم المستحاضة حكم الطاهر ، ولا يحرم عليها شيء مما يحرم على الحائض ، ويصح منها الصوم والصلاة ، ويحل لزوجها وطؤها إذا فعلت ما تفعله المستحاضة.

ولها ثلاثة أحوال :

__________________

(١) ح : وجب عليه.


١ ـ ان ترى الدم القليل ، فعليها تجديد الوضوء عند كل صلاة ، وتغيير الخرقة والقطنة ، وحد القليل إذا لم يظهر على القطنة.

٢ ـ «ان يظهر على القطنة» (١) ولا يسيل. فعليها غسل لصلاة الفجر ، وتجديد الوضوء لباقي الصلوات مع تغيير القطنة والخرقة.

٣ ـ أن ترى الدم أكثر من ذلك ، وهو أن يظهر ويسيل فعليها ثلاثة اغسال في اليوم ، والليلة. غسل لصلاة الظهر والعصر وغسل للمغرب والعشاء الآخرة وغسل لصلاة الفجر.

ولا تخلو المستحاضة من أن تكون مبتدأة أو ذات عادة. فان كانت ذات عادة فلترجع الى عادتها وتعمل عليها فان تغيرت عادتها فاضطربت رجعت الى صفة الدم ، فاذا رأته بصفة دم «الحيض كانت حائضا واذا رأته بصفة دم» (٢) الاستحاضة كان استحاضة ، فان لم يتميز لها الدم تركت الصلاة والصوم في كل شهر سبعة أيام ، أو تترك في الشهر الأول أكثر أيام الحيض عشرة أيام ، وفي الثانى ثلاثة أيام اقل أيام الحيض الى أن يزول عنها ذلك. وإن كانت مبتدأة رجعت (٣) إلى صفة الدم ، فان لم يتميز لها بالصفة رجعت الى نساء أهلها ، فان لم يكن لها نساء رجعت الى أقرانها ، فان لم يكن لها هناك نساء ، أو كن مختلفات تركت الصلاة والصوم في كل شهر سبعة مثل الأول سواء.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ما بين القوسين سقط من أ.

(٣) سقطت من ح.


والنفساء : هي التي ترى الدم عند الولادة ، فاذا كانت كذلك فحكمها حكم الحائض سواء ، في جميع الأحكام في أكثر أيام النفاس وغيره من الأحكام ، وتفارقها في أقل النفاس فانه ليس لقليله حد. ويجوز أن يكون ساعة واحدة.

فصل ـ ٧ ـ

في ذكر غسل الأموات

غسل الأموات فرض واجب ، وهو فرض على الكفاية. فينبغي اذا حضر الانسان الوفاة أن يوجه الى القبلة ، ويلقن الشهادتين ، والاقرار بالنبى والائمة. ويلقن أيضا كلمات الفرج. لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله العلي العظيم ، سبحان الله رب السماوات السبع ، ورب الأرضين السبع ، وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين. فاذا قضى نحبه غمض عيناه ، وأطبق فوه ، ومد يداه ورجلاه ، ويكون عنده من يذكر الله تعالى ، ويقرأ القرآن ، ويؤخذ في أمره. فيحصل أولا الكفن. والمفروض فيه ثلاثة اثواب : مئزر ، وقميص ، وإزار. والمسنون خمسة يزاد لفافة اخرى أما حبره او ما يقوم مقامها ، وخرقة يشد بها فخذاه ، ويستحب أيضا أن يزاد عمامة فان كان امرأة زيدت لفافة أخرى


«ورداء أو غطاء» (١).

ويحصل الكافور وزن ثلاثة عشر درهما مما لم تمسه النار ، فان لم يتمكن فأربعة مثا قيل ، فان لم يتمكن فمثقال أو ما يتمكن منه.

ويحصل أيضا شيء من السدر للغسلة الأولى ، وقليل من الكافور للغسلة الثانية ، وشيء من القطن ليحشى به دبره والمواضع التى يخاف خروج شيء منها ، وشيء من الذريرة المعروفة بالقمحة «فينثر بين الاكفان» (٢). ويكتب على الاكفان فلان يشهد ان لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإن عليا أمير المؤمنين ، والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ويذكر الائمة الى آخرهم ، أئمة الهدى الأبرار ، بتربة الحسين او بالاصبع ولا يكتب بالسواد ، ويستحب أن يكون الكفن قطنا محضا ، والكتان مكروه. والإبريسم او ما خالطه إبريسم لا يجوز ، واذا أريد غسله ترك على سرير متوجها الى القبلة ، فيغسله ثلاث غسلات. الأولى بماء السدر والثانية بماء خلال الكافور والثالثة بالماء القراح.

وكيفية غسله مثل غسل الجنابة سواء. يغسل الغاسل يدي الميت ثلاث مرات ، ثم ينجيه بقليل أشنان والآخر يقلب عليه الماء. فاذا أنجاه بدأ فغسل رأسه ولحيته ثلاث مرات ثم يغسل جانبه الأيمن ثلاث مرات ، ثم الأيسر ثلاث مرات ، والآخر يقلب عليه الماء ، ثم يقلب بقية ماء (٣) السدر ، ويغسل الأواني ويطرح ماء آخر فيطرح القليل

__________________

(١) بدلها في ح : وروي أيضا نمط.

(٢) سقط من أ.

(٣) أ : ما لقيه السدر.


من الكافور فيضربه ، ثم يغسله الغسلة الثانية «مثل ذلك» (١) ثم يقلب بقية ماء (٢) الكافور ، ويغسل الأواني ، ويطرح فيها ماء القراح ، فيغسله الغسلة الثالثة مثل ذلك بالماء القراح ويمسح الغاسل يده على بطنه في الغسلتين الأوليتين ، ولا يمسح في الغسلة الثالثة. فكلما قلبه استغفر الله ، وسأله العفو ، ثم ينشفه بثوب نظيف ، ويغتسل الغاسل فرضا واجبا ، إما في الحال ، او فيما بعد. ثم يكفنه فيأخذ الخرقة التي هي الخاصة (٣) ، ويترك عليها شيئا من الحنوط (٤) ، وينشر عليه شيئا من الذريرة ويشد بها فخذيه ويضمهما ضما شديدا ، ويحشو القطن في دبره ، ويستوثق من الخرقة ثم يوزره ويلبسه القميص والازار ، ويترك معه جريدتين إما من النخل أو شجر رطب ، ويكتب عليهما ما يكتب على الأكفان ، ويضع إحداهما عند حقوه من الجانب الأيمن ، ويلصقها بجلده ، والاخرى من الجانب الأيسر بين القميص والإزار ويضع الكافور على مساجد جبهته ويديه وعيني ركبتيه وطرف اصابع الرجلين ، فان فضل منه شيء تركه على صدره ، ولا يجعل في عينيه ولا في أنفه شيئا من الكافور. ثم يحمل الى المصلى ، فيصلى عليه على ما نذكره في كتاب الصلاة.

وأفضل ما يمشي المشيع للجنازة خلفها وعن جنبيها ولا يتقدمها مع

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) أ : ما لقيه الكافور.

(٣) ح : الخامسة.

(٤) بدلها في ح : القطن.


الاختيار ، فاذا صلى عليه حمل الى قبره فينزل عند رجلي القبر ان كان رجلا «وقدام القبر ان كان امرأة» (١) ثم ينزل الى القبر من يأمره الولي بحسب الحاجة ، فيؤخذ الميت من عند رجلي القبر ، والمرأة من قدامه فيسل سلا. ويوضع في لحده ، ويحل عنه عقدة كفنه ، ويلقنه الذي يدفنه الشهادتين ، والإقرار بالنبي والأئمة عليهم‌السلام ثلاث مرات ، ثم يضع معه شيئا من تربة الحسين (ع) في وجهه ، ويضع خده على التراب ، ثم يشرح اللبن عليه ، ويخرج من عند رجلي القبر ، ويطم القبر ، ويرفع عن الأرض مقدار أربع اصابع مفرجات ، ولا يعلى اكثر من ذلك ، ولا يطرح فيه من غير ترابه.

ويستحب لمن حضره أن يطرح بظهر كفه ثلاث مرات من التراب ، ويترحم عليه فاذا فرغ من تسوية القبر رش الماء على القبر من أربع جوانبه ، ويترحم عليه من حضر وينصرف ويتأخر الولي او من يأمره الولي فيعيد عليه التلقين فانه يكفي مسئلة القبر إن شاء الله.

فصل ـ ٨ ـ

في ذكر الاغسال المسنونة

المسنونات من الأغسال : غسل يوم الجمعة ، وليلة النصف من رجب ، ويوم السابع والعشرين منه ، وليلة النصف من شعبان ، وأول

__________________

(١) سقط من أ.


ليلة من شهر رمضان ، وليلة النصف ، وليله سبع عشرة ، وليلة تسع عشرة ، وليله احدى وعشرين ، وليله ثلاث وعشرين ، وليلة الفطر ، ويوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وغسل الاحرام ، وعند دخول مسجد النبي (ص) ، وعند زيارة النبي (ص) ، وعند زيارة الأئمة (ع) ، ويوم الغدير ، ويوم المباهلة «وغسل التوبة» (١) ، وغسل المولود ، وغسل قاضي صلاة الكسوف إذا احترق القرص كله ، وتركها متعمدا وعند صلاة الحاجة ، وعند صلاة الاستخارة.

فصل ـ ٩ ـ

في ذكر التيمم واحكامه

التيمم طهارة ضرورة ، ولا يجوز فعله إلا عند عدم الماء ، أو عدم ما يتوصل به الى الماء من آلة ذلك أو ثمنه ، أو المرض المانع من استعماله ، أو عند الخوف من استعماله من البرد أو العدو. وأما على النفس أو المال. فاذا حصل شيء من هذه الأشياء جاز التيمم ، غير انه لا يجوز التيمم قبل دخول الوقت ولا بعد «دخول الوقت» (٢) إلا في آخر الوقت ، وحين الخوف من فوت الصلاة ، ولا بد من طلب الماء يمينا وشمالا حيث يغلب «في الظن» (٣) وجود الماء فيه ، مع

__________________

(١) سقط من أ.

(٢ ـ ٣) سقط من (أ).


زوال الخوف ، ويصح التمكن.

ولا يصح التيمم إلا بما يسمى أرضا بالإطلاق ، من الحجر والمدر والتراب. واذا أراد التيمم فليضرب بيديه جميعا سواء كان عليها تراب او لم يكن ، مفرجا اصابعه ، وينفضها ، ويمسح بهما وجهه من قصاص شعر الرأس إلى طرف أنفه ، ويمسح باطن كفه اليسرى بظهر كفه اليمنى من الزند الى اطراف الأصابع ، هذا إذا كان عليه وضوء وان كان عليه غسل فليضرب يديه دفعتين ، دفعة يمسح بهما وجهه على ما قلناه ، وثانية يمسح بهما يديه على ما وصفناه.

والترتيب واجب فيه أيضا ، وكذلك النية ، غير انه لا ينوي رفع الحدث فان الحدث باق ، وإنما ينوي استباحة الدخول في الصلاة ، ويستبيح بالتيمم ما يستبيح بالوضوء والغسل من صلاة الليل والنهار ما لم يحدث. وكلما ينقض الوضوء ينقض التيمم ، وينقضه زائدا عليه التمكن من استعمال الماء.

فصل ـ ١٠ ـ

في ذكر المياه واحكامها

الماء على ضربين مطلق ومضاف. والمضاف كلما استخرج من جسم ، وإن كان مرقه نحو ماء الباقلاء ، وماء الأس وماء الخلاف وغير ذلك. وما كان مرقه نحو ماء الباقلاء.


فالمضاف لا يجوز استعماله في إزالة نجاسة ، ويجوز استعماله فيما عدا ذلك ما لم ينجس فاذا نجس فلا يجوز استعماله قليلا كان او كثيرا. والمطلق هو ما يسمى ماء بالإطلاق ، سواء كان عذبا او ملحا. وهو «وعلى كل حال» (١). على ضربين جار وراكد. فالجاري بنفسه طاهر مطهر. ولا ينجسه شيء إلا نجاسة تغير لونه او طعمه او رائحته. فاذا تغير شيء من ذلك فلا يجوز استعماله ، والواقف على ضربين ماء البئر النابعة (٢) ، وماء غير البئر. فماء غير البثر على ضربين قليل وكثير ، فالقليل ما نقص عن كر. والكثير ما بلغه أو زاد عليه ، والقليل ينجس بأي نجاسة محصل فيه ، ولا يجوز استعماله بحال سواء تغير احد اوصافه او لم يتغير. والكثير لا ينجس بنجاسة تحصل فيه إلا اذا غيرت أحد اوصافه ، فاذا تغير احد اوصافه فلا يجوز استعماله بحال.

والكر الف ومائتا رطل بالعراقي ، او ما كان قدره ثلاثة اشبار ونصفا طولا في عرض وعمق. ومن اصحابنا من اعتبر أرطال المدينة ، وبالأول تشهد الروايات. وماء البئر النابعة فانما ينجس بما يحصل من النجاسة فيها تغير ماؤها او لم يتغير ، غير أنه يمكن تطهيره بنزح بعضها. وما يقع فيها على ضربين : احدهما يوجب نزح جميعها نحو الخمر وكل شراب مسكر ، بل الفقاع والمني ودم الحيض والاستحاضة

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ح : البئر المعينة ، وكذا الآتي.


والنفاس والبعير اذا مات فيه.

وكل نجاسة إذا تغير أحد اوصافه. والآخر ما يوجب نزح بعضه ، وكل شيء له مقدار معين قد ذكرناه في النهاية وغير ذلك من كتبنا ، لا نطول بذكره هاهنا.

فصل ـ ١١ ـ

في ذكر النجاسات ووجوب ازالتها من الثياب والهدن

النجاسة على ثلاثة أضرب :

احدها : يجب إزالة قليلها وكثيرها.

والثاني : لا يجب إزالة قليلها ولا كثيرها.

والثالث : يجب إزالتها على وجه دون وجه. فما يجب إزالة القليل والكثير ، فالبول والغائط والمني من كل حيوان وكل شراب مسكر خمرا كان أو نبيذا ، والفقاع ودم الحيض والنفاس والاستحاضة ، وما لا يجب إزالة قليله ولا كثيره نحو دم السمك ودم البق والبراغيث ودم القروح الدامية والجراح اللازمة.

وما يجب إزالته على وجه دون وجه هو باقي الدماء من الرعاف والفصد وسائر دماء الحيوان ، وكل ما لا يؤكل لحمه ، وما اكل لحمه من البهائم والطيور لا بأس ببوله وذرقه إلا ذرق الدجاج خاصة ، فانه يجب إزالته ويجب غسل الاناء من سائر النجاسات ثلاث مرات ،


ومن ولوغ الكلب مثل ذلك غير ان احداهما وهي الأولى بالتراب ، وتغسل اواني الخمر سبع مرات ، وروي مثل ذلك في الفأرة إذا ماتت في الإناء. واما ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء اذا مات فيه. والحيوان على ضربين : ابن آدم وغير ابن آدم. فأين آدم طاهر السؤر إلا من كان محكوما بكفره ، فانه نجس السؤر ، سواء كان كافر اصل ، او كافر ملة. وغير ابن آدم على ضربين : طير وغير طير. فسؤر الطير كله طاهر إلا ما أكل الجيف ، او كان في منقاره اثر دم. وغير الطير على ضربين : نجس العين ونجس الحكم. فنجس العين هو الكلب والخنزير ، فانه نجس العين ، نجس السؤر ، نجس اللعاب ، وما عداه على ضربين : مأكول وغير مأكول. فما ليس بمأكول كالسباع وغيرها من المسوخات مباح السؤر (١). وهو نجس الحكم. وما هو مباح الأكل فهو طاهر مباح السؤر ، مباح اللعاب ، طاهر الروث والبول ، وما هو مكروه الأكل فهو مكروه السؤر ، مكروه البول ، مكروه الروث. وتفصيل ذلك ذكرناه في كتبنا.

__________________

(١) كلمة سؤر سقطت من أ.


كتاب الصّلاة

فصل ـ ١ ـ

في ذكر اعداد الصلاة

الصلوات المفروضات في اليوم والليلة خمس صلوات. سبع عشرة ركعة في الحضر ، وفي السفر احدى عشر ركعة. الظهر اربع ركعات بتشهدين وتسليمة في الرابعة ، وفي السفر ركعتان بتشهد وتسليم بعده. وكذلك العصر والعشاء الآخرة. والمغرب ثلاث ركعات بتشهدين وتسليم في الثالثة والغداة ركعتان بتشهد وتسليم بعده في السفر والحضر لا يقصر (١) على حال.

والنوافل في الحضر اربع وثلاثون ركعة ، وفي السفر سبع عشرة ركعة ، فنوافل الظهر والعصر ست عشرة ركعة ثمان قبل الفرض ، وثمان بعد الفرض ، وكل ركعتين بتشهد وتسليم بعده ، ويسقط جميعه في السفر ونوافل المغرب اربع ركعات بتشهدين بعده في السفر والحضر

__________________

(١) أ : لا يقصران.


وركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة ، يعدان بركعة ، ويسقطان في السفر ، واحدى عشر ركعة صلاة الليل كل ركعتين بتشهد وتسليم بعده ، والمفروض من الوتر بتشهد وتسليم بعده ، وركعتان لنافلة (١) الفجر ، ويثبت جميع ذلك في الحضر والسفر.

فصل ـ ٢ ـ

في ذكر المواقيت

لكل صلاة من الفرائض الخمس وقتان أول وآخر. فأول الوقت هو الأفضل وهو وقت من لا عذر له ، والآخر وقت من له عذر. فأول وقت الظهر اذا زالت الشمس وآخره اذا زاد الفيء أربعة اسباع الشخص ، أو يصير (٢) ظل كل شيء مثله. واوّل وقت العصر عند الفراغ من فريضة الظهر ، وآخره اذا صار ظل كل شيء مثليه ، وعند العذر الى أن يبقى من النهار مقدار ما يصلي اربع ركعات ، وأول وقت المغرب اذا غابت الشمس وعلامة غروبها اذا زالت الحمرة من ناحية المشرق وآخره اذا غاب الشفق وهو زوال الحمرة من المغرب وعند الضرورة الى ربع الليل. واوّل وقت العشاء الآخرة ذهاب الشفق الذي وصفناه ، وآخره ثلث الليل وروي نصف الليل.

__________________

(١) ح : نوافل الفجر.

(٢) سقطت من ح.


واوّل وقت فريضة الغداة عند طلوع الفجر الثاني ، وآخره طلوع الشمس. خمس صلوات تصلى على كل حال ما لم يتضيق وقت فريضة حاضرة. ومن فاتته صلاة فريضة (١) فوقتها حسين يذكرها ما لم يدخل وقت فريضة. وصلاة الكسوف وصلاة الجنازة وركعتا الإحرام وركعتا الطواف. ويكره ابتداء النافلة في خمس اوقات بعد فريضة الغداة وعند طلوع الشمس وعند وقوف الشمس في وسط السماء ، إلا يوم الجمعة ، وبعد العصر وعند غروب الشمس. فاما الصلاة ذات السبب كتحية المسجد او زيارة مسجد ، او قضاء نافلة فلا بأس بها في هذه الأوقات.

فصل ـ ٣ ـ

في ذكر القبلة واحكامها

الكعبة قبلة من كان في المسجد الحرام. والمسجد قبلة من كان في الآفاق.

فأهل العراق ومن يصلي بقبلتهم يتوجهون الى الركن العراقي وعليهم التياسر قليلا. وليس على من يتوجه الى غير هذا الركن كذلك. فان أهل اليمن يتوجهون الى الركن اليماني ، واهل المغرب (٢) الى

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) ح : الغرب.


الغربي ، وأهل الشام إلى الركن (١) الشامي. ويمكن أهل العراق أن يعرفوا قبلتهم بكون الجدي خلف منكبهم الأيمن ، أو كون الشفق محاذيا للمنكب الأيمن أو الفجر محاذيا للمنكب الأيسر ، أو عين الشمس عند الزوال بلا فصل على حاجبه الأيمن. فاذا فقدت هذه الامارات صلى صلاة واحدة أربع مرات الى أربع جهات ، فان لم يقدر صلى إلى أي جهة شاء ، ومن صلى على الراحلة نافلة استقبل بتكبيرة الإحرام القبلة ثم يصلي الى رأس الراحلة ومن صلى في السفينة ودارت صلى مثل ذلك ومن صلى صلاة شدة الخوف صلى مثل ذلك.

فصل ـ ٤ ـ

في ستر للعورة

العورة عورتان مغلظة ومخففة ، فالمغلظة السوءتان ، فمن شرط صحة الصلاة سترها على الرجال ، والمخففة ما بين السرة الى الركبة فانه يستحب ستر جميع ذلك. فأما المرأة الحرة فان جميع بدنها عورة يجب عليها ستره في الصلاة ولا يكشف غير الوجه فقط. فان كانت مملوكة جاز ان تصلي مكشوفة الرأس وان صلى الرجل في ثوب صفيق فهو أفضل.

__________________

(١) سقطت من أ.


فصل ـ ٥ ـ

في ذكر ما تجوز للصلاة فيه من المكان واللباس

الأرض كلها مسجد يجوز الصلاة فيها إلا ما كان مغصوبا أو نجسا فان كان موضع السجود طاهرا جازت الصلاة فيها (١) ما لم تتعد النجاسة الى بدنه لكونها رطبة وتكره الصلاة بين المقابر وفي أرض الرمل ، والسبخة ، ومعاطن الإبل ، وقرى النمل ، وجوف الوادي ، وجواد الطرق ، والحمامات ، وفي مكة بوادي ضجنان ، ووادي الشقرة والبيداء ، وذات الصلاصل ويكره الفريضة جوف الكعبة والنوافل تستحب فيها.

وينبغي أن يجعل الانسان بينه وبين ما يمر به ساترا ولو عنزه. ولا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما انبتته الأرض مما ليس بمأكول ولا ملبوس لبني آدم بمجرى العادة. ومن شرطه أن يكون مباح التصرف فيه ، وان يكون خاليا من نجاسة. وتجوز الصلاة في اللباس ما كان قطنيا أو كتانا ، وجميع ما ينبت في الأرض وفي الخز الخالص وفي الصوف وفي الشعر والوبر مما يؤكل لحمه «وفي جلد ما يؤكل لحمه» (٢) إذا كان مذكى. واذا كان ميتا فلا يجوز وان دبغ ، فانه لا يطهر

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) سقط من أ.


بالدباغ. وينبغي ان يكون ملكا أو في حكم الملك ويكون خاليا من نجاسة مانعة من الصلاة فيها مما قدمنا ذكره ، وما لا يتم الصلاة فيه منفردا كالتكة والجورب والقلنسوة والخف جاز ان يكون فيها نجاسة ، والتنزه عن ذلك أفضل.

فصل ـ ٦ ـ

في الأذان والإقامة

هما مسنوان مؤكدان في الصلوات الخمس ، واجبان في صلاة الجماعة. ولا تنعقد الجماعة. إلا بهما ، ولا يفعلان لشيء من النوافل ، وهما خمسة وثلاثون فصلا. الأذان ثمانية عشر فصلا والإقامة سبعة عشر فصلا. فالأذان أربع تكبيرات في أوله والإقرار بالتوحيد مرتين والإقرار بالنبي مرتين ، والدعاة الى الصلاة مرتين والى الفلاح مرتين وإلى خير العمل مرتين وتكبيرتان في آخره ، والتهليل مرتين والإقامة مثل ذلك ويسقط تكبيرتان من أوله ، ويروى (١) بدلهما قد قامت الصلاة مرتين ، ويسقط التهليل مرة.

والترتيب فيهما واجب. ويستحب ان يكون المؤذن على طهارة ، ويستقبل القبلة ولا يتكلم في خلاله مع الاختيار ، ولا يكون ماشيا ولا

__________________

(١) ح : ويرد.


راكبا ويرتل الأذان وينحدر (١) فى الإقامة ، ولا يعرب أواخر الفصول ويفصل بين الأذان والإقامة بجلسة أو سجدة أو خطوة وكل هذه سنه غير واجبة وأشدها تأكيدا في الإقامة ، ومن شروط صحتها دخول الوقت.

فصل ـ ٧ ـ

في ذكر ما يقارن حال الصلاة

أول ما يجب من أفعال الصلاة المقارنة لها النية ووقتها حين يريد افتتاح الصلاة. وكيفيتها أن ينوي الصلاة التي يريد أن يصليها فرضا كان او نفلا ، وبعين الفرض أيضا فرض الوقت أو القضاء. مثاله أن يريد صلاة الظهر فينبغي أن ينوي صلاة الظهر على وجه الاداء دون القضاء متقربا بها الى الله تعالى ، وكذلك باقي الصلوات. وينبغي أن يستديم حكم هذه النية الى وقت الفراغ من الصلاة. «ولا يعقد في خلال الصلاة نية تخالفها فانه يفسد ذلك صلاته ويستفتح الصلاة» (٢) بقوله (٣) الله اكبر. ولا تنعقد الصلاة إلا بهذا اللفظ المخصوص ولا تنعقد بغيره من الألفاظ وان كان في معناه وتكبيرة الاحرام فريضة

__________________

(١) ح : يحدر.

(٢) ما بين القوسين سقط من أ.

(٣) أ : يقول.


بها تنعقد الصلاة. فان أراد السنه في الفضيلة كبر ثلاث مرات ، ويرفع في كل تكبيرة يديه الى حذاء شحمتي اذنيه. ويقول بعد الثلاث تكبيرات : اللهم انت الملك الحق لا إله إلا انت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي انه لا يغفر الذنوب إلا انت. ثم يكبر تكبيرتين آخرتين مثل ما قلناه ويقول : لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس أليك لا ملجا ولا منجى ولا مفر إلا أليك. سبحانك وحنانيك. سبحانك رب البيت. ثم يكبر تكبيرتين آخرتين ويقول بعدهما : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا (١) على ملة ابراهيم ودين محمد وولاية علي أمير المؤمنين وما انا من المشركين. (٢) ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له بذلك أمرت وأنا من المسلمين. والفرض من ذلك تكبيرة واحدة وهي التي ينوي بها الدخول في الصلاة.

والأولى ان تكون الأخيرة. ثم يتعوذ فيقول : اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم يستفتح فيقول : بسم الله الرحمن الرحيم يرفع بها صوته سواء كانت الصلاة يجهر فيها أو لم يجهر فان ثلاث صلوات يجب فيها الجهر بالقراءة المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة ، وصلاتان لا يجهر فيهما بالقراءة وهما الظهر والعصر. وفيما يجهر فيها وجوبا يجب الجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم. وما لا يجهر يستحب فيها ذلك. ثم يقرأ الحمد. لا بد منها في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا ، لا تصح

__________________

(١) سقطت من ح.

(٢) سقطت من ح.


الصلاة إلا بقراءتها وفي الفرض تجب قراءة الحمد وسورة لا أقل منها ، ولا اكثر في الركعتين الأوليين والأخريين والثالثة من المغرب هو مخير بين قراءة الحمد وبين قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ثلاث مرات ، ايها فعل فقد اجزأه. والسورة التي يقرأها مع الحمد ليست معينة بل يقول ما شاء من السور إلا أربع سور وهي الم تنزيل وحم سجدة والنجم واقرأ باسم ربك. فان فيها سجودا فرضا لا يزال (١) في الفرائض. ولا يقرأ أيضا سورة طويلة يخرج الوقت بقراءتها. بل يقرأ سورة وسطا من المفصل.

وافضل ما يقرأ الحمد ، وانا انزلناه ، وفي الثانية (٢) قل هو الله احد. وخص غداة يوم الاثنين والخميس بهل اتى على الانسان وفي ليلة الجمعة في المغرب بسورة الجمعة وقل هو الله احد ، وفي العشاء الآخرة الحمد وسورة الأعلى وفي غداة يوم الجمعة قل هو الله احد وفي الظهر والعصر بالجمعة والمنافقين. وفي باقي الصلوات ما شاء من السور ، إلا ان يكون في صلاة الغداة وفي العشاء الاخيرة أدون منها في المغرب سورة خفيفة ومثل ذلك في الظهر والعصر (٣) وللغداة والقراءة (٤) فرض في الصلاة لا يصح إلا معها مع الاختيار والامكان. وينبغي ان يكون في حال قيامه ناظرا الى موضع سجوده ولا

__________________

(١) أهكذا : لا يبدان.

(٢) سقطت من أ.

(٣) سقطت في أ.

(٤) سقطت في ح.


يلتفت يمينا ولا شمالا فان ذلك نقصان في الصلاة ، ولا يلتفت الى ما وراه فانه يفسدها ، ولا يتمط في صلاته ولا يتثأب ولا يفرقع اصابعه ، ولا يعبث بلحيته ولا بشيء من جوارحه ولا يفعل فعلا كثيرا ينافي الصلاة. فاذا فرغ من القراءة فليركع بالتكبير والركوع ركن في الصلاة ، ويطأطئ رأسه ، ويسوى ظهره ، ويمد عنقه ، ويكون نظره الى ما بين رجليه ويسبح ويقول : سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاث مرات. وان قالها خمسا أو سبعا كان أفضل وواحدة تجزي لا يجوز تركها ومن لم يذكر شيئا اصلا مع الإمكان فسدت صلاته. ثم يرفع رأسه ويقول : سمع الله لمن حمده وينتصب قائما ويقول الحمد لله رب العالمين ، ثم يرفع يده بالتكبير ويهوي بها الى السجود ويتلقى الأرض بيديه مع الاختيار ، ويسجد على سبعة أعظم فريضة : الجبهة واليدين والركبتين وأطراف الأصابع (١) من رجليه. ويرغم بانفه سنة. ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاث مرات أو خمسا أو سبعا وواحدة تجزي وان لم يقل شيئا فسدت صلاته. وان جمع بين دعائي الركوع والسجود في الركوع والسجود وبين التسبيح كان أفضل. ثم يرفع رأسه بالتكبير ويستوي جالسا ويقول : اللهم اغفر لي وارحمني وأجرني واهدني وارزقني فانى لما أنزلت الي من خير فقير ثم يرفع يديه بالتكبير ويعود الى السجدة الثانية ويفعل فيها ما فعل في الأولى سواء ثم يرفع رأسه بالتكبير ويجلس ثم يقوم. وان قام من السجود الى الركعة

__________________

(١) ح : اصابع رجليه.


الثانية كان جائزا واذا استوى قائما قرأ الحمد وسورة ثم يرفع يده بالتكبير للقنوت ويدعو بما أراد في قنوته وافضل ما يقول فيه كلمات الفرج وهي : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله العلي العظيم ، سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ، وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ورب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين. وان قال غير ذلك كان جائزا ثم يكبر للركوع ويصلي الركعة الثانية كما وصفناه للركعة الأولى ثم يجلس للتشهد وينبغي ان يكون جلوسه متوركا على وركه الأيسر ويجعل ظاهر قدم رجله اليمنى على باطن رجله اليسرى. ثم يتشهد والتشهد فرض الأول والثانى. وأقل ما تجزي فيه الشهادتان والصلاة على النبي وآله عليهم‌السلام. وان قال بسم الله وبالله والأسماء الحسنى كلها لله ، اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلى على محمد وآل محمد وتقبل شفاعته في أمته وأرفع درجته كان أفضل. ثم يسلم ان كانت الصلاة ثنائية كالغداة وإن كانت ثلاثية كالمغرب أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء الآخرة قام إليها فيتم صلاته فاذا جلس في التشهد الثانى قال ما ذكرناه ، وان زاد فيه التحيات كان أفضل. ثم يسلم ان كان إماما تسليمة واحدة تجاه القبلة ويومي بطرف أنفه الى يمينه وإن كان منفردا مثل ذلك وان كان مأموما سلم يمينا وشمالا إن كان على يساره انسان ، فان لم يكن على يساره احد اجزأه التسليم عن يمينه. وان كانت الصلاة نافلة يسلم في كل ركعتين ولا يصلي اكثر منهما بتشهد ولا بتسليم على حال فاذا سلم في الفرائض عقب بعد التسليم بما أراد من الدعاء لنفسه واخوانه


ولدينه ولدنياه. ولا يترك تسبيح الزهراء وهو أربع وثلاثون تكبيرة وثلاث وثلاثون تسبيحة ، وثلاث وثلاثون تحميدة. تمام المائة. فاذا فرغ من التعقيب سجد سجدتي الشكر ، ويقول فيهما ثلاث مرات شكرا لله شكرا لله شكرا لله. فان قال مائة مرة كان افضل. وعلى هذا الشرح يصلي الخمس صلوات فرائض ونوافلها ، لا نطول بذكره صلاة صلاة فان فيما ذكرناه كفاية ان شاء الله.

فصل ـ ٨ ـ

في ذكر قواطع الصلاة

كل شيء ينقض الوضوء متى عرض في خلال الصلاة فانه يقطعها ويجب معه استئنافها ، وقد قدمنا ذكر ما ينقض الطهارة فلا وجه لإعادته. ويقطع الصلاة الكلام متعمدا والفعل الكثير الذي ليس من افعال الصلاة والتكتف يقطع الصلاة من غير تقية ولا خوف وهو وضع اليمين على الشمال. وقول آمين آخر الحمد مثل ذلك. والالتفات بالكلية مثل ذلك. والقهقهة مثل ذلك. والتأفف والأنين مثل ذلك كل هذه الأشياء تفسد الصلاة. وأما الالتفات يمينا وشمالا والتثاؤب والتمطي والعبث باللحية أو بشيء من جوارحه وفرقعة الأصابع والاقعاء بين السجدتين والبصق والتنخم ونفخ موضع السجود ومدافعة الأخبثين ، فان جميع ذلك نقصان في الصلاة وان لم يفسدها.


فصل ـ ٩ ـ

في حكم السهو

غلبة الظن بتفصيل الصلاة تقوم مقام العلم فيبني عليه ولا حكم للسهو عليه معه ، ويكون للسهو حكم مع تساوي الظن أو الشك المحض وعند ذلك فهو على خمسة اقسام :

أ ـ يوجب الإعادة.

ب ـ يوجب التلافي.

ج ـ لا حكم له.

د ـ يوجب الاحتياط.

ه ـ يوجب سجدتي السهو.

فالذي يوجب الاعادة على كل حال من صلى بغير طهارة أو صلى قبل دخول الوقت أو صلى مستدبر القبلة أو صلى إلى يمينها أو شمالها مع بقاء الوقت ومن صلى في مكان مغصوب مع العلم به مختارا ومن صلى في ثوب نجس مع تقدم علمه بذلك ومن ترك النية أو تكبيرة الإحرام أو ترك الركوع حتى يسجد ومن ترك سجدتين في ركعة حتى يركع فيما بعدهما في الأوليين ، ومن زاد ركوعا ، أو زاد سجدتين في الأولتين. ومن زاد ركعة. ومن شك في الأولتين من الرباعية فلا يدري كم صلى أو شك في الغداة أو المغرب أو صلاة السفر أو


صلاة الجمعة مثل ذلك ومن نقص ركعة فصاعدا حتى يتكلم أو استدبر القبلة ومن شك فلا يدري كم صلى فهؤلاء يجب عليهم الاستئناف.

والذي يوجب التلافي أما في الحال أو فيما بعد من سها عن قراءة الحمد حتى قرأ سورة أخرى قرأ الحمد وأعاد سورة. ومن سها عن قراءة سورة بعد الحمد قبل أن يركع قرأ ثم ركع ومن شك في القراءة وهو قائم قرأ ومن سها عن تسبيح الركوع وهو راكع سبح ومن شك في الركوع وهو قائم ركع فان ذكر انه كان ركع أرسل نفسه ولا يرفع رأسه (١) ومن شك في السجدتين أو واحدة منها قبل أن يقوم سجدهما أو واحدة ومن ترك التشهد الأول وذكر وهو قائم رجع فتشهد فان لم يذكر حتى يركع مضى في صلاته ثم قضاه بعد التسليم ومن نسي التشهد الأخير حتى يسلم قضاه بعد التسليم. والذي لا حكم له يبنى على ما شاء. والبناء على الأقل أفضل. ومن سها في سهو فلا حكم له. ومن سها في صلاة خلف امام يقتدى به لا سهو عليه. وكذلك لا سهو على الامام اذا حفظ عليه من خلفه ، ومن شك في شيء وقد انتقل الى غيره فلا حكم له نحو من شك في تكبيرة الاحرام في حال القراءة او في القراءة (٢) في حال الركوع او في الركوع في (٣) حال السجود وقد قام إلى الثانية أو شك في تسبيح الركوع والسجود وقد رفع رأسه منهما او شك في التشهد الأول وقد قام الى

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) زاد في ح قوله : في حال القراءة أ ، في القراءة.

(٣) ح : أو في.


الثالثة ومن سها عن ركوع في الأخيرتين وسجد بعده ثم ذكر حذف السجود واعاد الركوع وكذلك من ترك السجدتين في واحدة منهما بنى على الركوع في الأولى وسجد سجدتين.

والذي يوجب الاحتياط فمثل من شك فلا يدري صلى ركعتين أو اربعا بنى على الأربع وسلم ، ثم صلى ركعتين من قيام ان كان صلى اربعا كانت هاتان نافلة وان كان صلى اثنين كانت هاتان تمام الصلاة. وكذلك إن شك بين الثلاث والأربع أو بين الثنتين والثلاث بنى على الأكثر فاذا سلم قام فصلى ركعة من قيام أو ركعتين من جلوس بمثل ما ذكرنا وان شك بين الثنتين والثلاث والأربع بنى على الأربع وصلى ركعتين من قيام وركعتين من جلوس بمثل ما قلنا.

والذي يوجب سجدتي السهو فمثل من تكلم في الصلاة ساهيا أو سلم في التشهد الأول من الرباعيات أو المغرب. ومن ترك واحده من السجدتين حتى يركع فيما بعد قضاها بعد التسليم وسجد سجدتي السهو ومن شك بين الأربع والخمس بنى على الأربع وسجد سجدتى السهو في هذه المواضع. وموضع سجدتي السهو بعد التسليم. ويقول فيهما بسم الله وبالله السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته. ويتشهد بعدهما تشهدا خفيفا ، يقتصر على الشهادتين والصلاة على النبي وآله ، ويسلم ومن اصحابنا من يقول سجدتا السهو (١) في كل زيادة ونقصان على وجه السهو.

__________________

(١) سقطت من ح.


فصل ـ ١٠ ـ

في حكم الجمعة

صلاة الجمعة فريضة بلا خلاف. إلا ان لها شروطا منها حضور السلطان العادل أو من نصبه السلطان العادل للصلاة بالناس ، ويجتمع العدد سبعة وجوبا او خمسه ندبا. وأن يكون بين الجمعتين ثلاثة اميال فصاعدا وان يخطب به خطبتين ، واقل ما يخطب به أربعة اشياء : الحمد لله والصلاة على النبي وآله (ع) والوعظ وقراءة سورة خفيفة من القرآن بين الخطبتين ويسقط فرض الجمعة عن المرأة. ومن ليس بكامل العقل من الصبيان والمجانين وعن المملوك وعن المريض وعن الأعمى والأعرج الذي لا يقدر على المشي وعن الشيخ الكبير الذي لا يقدر على الحضور وعن المسافر وعمن بينه وبين الموضع أكثر من فرسخين.

فصل ـ ١١ ـ

في ذكر الجماعة

صلاة الجماعة فيها فضل كثير وثواب جزيل. وروي انها تفضل على صلاة المنفرد بخمس وعشرين صلاة. الا انها ليست فريضة بلا


خلاف إلا في الجمعة على ما قلناه (١). ولا تنعقد الجماعة إلا بشرطين :

١ ـ الأذان والإقامة.

٢ ـ ان يكونا اثنين فصاعدا.

فاذا أرادوا صلاة الجماعة فليس يخلو ان يكونا اثنين أو ما زاد عليهما. فان كانا اثنين لم يخل ان يكونا رجلين أو امرأتين او امرأة ورجلا. فان كان (٢) رجلين مستوري العورة قام المأموم عن يمين الامام «وان كان رجلا وامرأة قامت المرأة خلف الامام» (٣) وان كانا امرأتين قامت المأمومة عن يمين الامامة. وان كانوا جماعة ليس يخلو ان يكونوا رجالا بلا نساء. او نساء بلا رجال او رجالا ونساء. فان كانوا رجالا بلا نساء لا يخلو ان يكونوا عراة او مستوري العورة «فان كانوا مستوري العورة» (٤) او فيهم من هو مستور العورة تقدم وصلى بهم وصلى الباقون خلفه من جلوس إن كان يصلح للإمامة. وإن كانوا كلهم عراة صلوا من جلوس ووقف الامام وسطهم ويبرز عنهم بمقدار ركبتيه ويصلون كلهم من جلوس. ويركعون ويؤمون الى السجود. وإن كانوا رجالا ونساء قام النساء خلف الرجال. وان كن نساء بلا رجال قامت الإمامة في الوسط ولا تتقدمهن بحال.

وينبغي ان يكون الامام مؤمنا عدلا مرضيا اقرأ الجماعة فان كانوا

__________________

(١) ح : ما بيناه.

(٢) ح هكذا : فان كان رجلا أو امرأة ، فان كان رجلين.

(٣) ما بين القوسين سقط من أ.

(٤) ما بين القوسين سقط من أ.


سواء في القراءة فأفقههم فان كانوا في الفقه سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا (١) سواء فأسنهم فان كانوا (٢) سواء فاصبحهم وجها ولا يؤم بالناس ولد الزنا ولا المحدود ولا المفلوج بالأصحاء. ولا المقيد بالمطلقين ، ولا القاعد بالقيام ولا المجذوم بالاصحاء (٣) ولا الأبرص بمن ليس بذلك (٤). ولا الأعرابي بالمهاجرين ولا المتيمم بالمتوضئين ولا المسافر بالحاضرين.

فصل ـ ١٢ ـ

في صلاة الخوف

صلاة الخوف على ضربين :

١ ـ صلاة شدة الخوف.

٢ ـ صلاة الخوف.

وصلاة شدة الخوف هو اذا كان في المسلمين قلة لا يمكنهم أن ينقسموا قسمين فعند ذلك يصلون فرادى وايماء. ويكون سجودهم على قربوس سرجهم. فاذا لم يتمكنوا من ذلك ركعوا وسجدوا بالإيماء

__________________

(١) زاد في ح : فقهاء سواء.

(٢) في ح : في السن سواء.

(٣) سقط من أ.

(٤) ح : بابرص.


ويكون سجودهم اخفض من ركوعهم فان زاد الأمر على ذلك أجزأهم عن كل ركعة تسبيحة واحدة. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وإن لم يبلغ الخوف الى ذلك الحد وأرادوا ان يصلوا فرادى صلى كل واحد منهم صلاة تامة الركوع والسجود وان أرادوا ان يصلوا جماعة نظروا فان كان العدو في جهة القبلة أمكنهم ان يصلوا موضعا واحدا عليهم اسلحتهم فاذا ركع الامام بقوم وقف قوم (١) وإذا سجد بقوم وقفت طائفة فاذا قاموا من السجود سجد من خلفهم ولحقوهم ويصلي بهم الامام صلاة واحدة على هذا الوصف. وان كان العدو في خلاف وجه القبلة فان كان في المسلمين كثرة يمكنهم أن ينقسموا قسمين (٢) انقسموا كذلك على كل فرقة سلاحهم فتقف فرقة بإزاء العدو والأخرى خلف الامام فيستفتح بهم اذا قام ويصلي ركعة فاذا قام الى الثانية طول في قراءته وخفف من خلفه الركعة الثانية ويتشهدوا ويسلموا وقاموا الى موقف أصحابهم ويجيء أولئك فيستفتحون الصلاة فيصلى بهم الامام الركعة الثانية له وهي أولى لهم فاذا جلس للتشهد طول وقام من خلفه وصلوا ركعة أخرى فاذا جلسوا سلم بهم الامام فتكون للفرقة الأولى تكبيرة الاحرام وركعة وللأخرى للركعة الثانية مع التسليم. هذا إذا كانت الصلاة رباعية فانها تقصر بنفس الخوف من غير سفر وكذلك صلاة الغداة وان كانت صلاة المغرب صلى بالفرقة الأولى ركعة وبالأخرى ركعتين ولو صلى بالفرقة

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) سقط من ح.


الثانية ركعة كان جائزا. والأول احوط. وان كان فيهم قلة صلى كل واحد منهم على الانفراد.

فصل ـ ١٣ ـ

في ذكر صلاة العيد والاستسقاء

صلاة العيد عندنا واجبة عند تكامل شروطها. وشروطها شروط الجمعة سواء. وكل موضع تجب فيه الجمعة تجب صلاة العيد. وكل موضع تسقط الجمعة تسقط صلاة العيد لا فرق بينهما وهي مستحبة على الانفراد. وإذا كان قضاها (١) ولا بدل لها. ووقتها من انبساط الشمس الى زوال الشمس فاذا زالت فقد فات وقتها. وليس لها أذان ولا اقامة بل يقول المؤذن ثلاث مرات الصلاة الصلاة وهما ركعتان باثنتي عشر تكبيرة سبع في الأول منها تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع. وفي الثانية خمس منها تكبيرة الركوع يستفتح الصلاة بتكبيرة الاحرام ، ويقرأ الحمد وسورة الأعلى أو غيرها من السور ثم يكبر ويقنت بعدها بما شاء ثم يكبر ثانية وثالثة ورابعة وخامسة مثل ذلك ثم يكبر تمام السابعة ويركع بها فاذا قام الى الثانية قرأ الحمد والشمس وضحاها أو غيرها ثم يكبر أربع تكبيرات يقنت بعد كل تكبيرة ويكبر الخامسة ويركع بعدها. والخطبتان فيها بعد الفراغ من الصلاة ، ويستحب

__________________

(١) كذا في الأصل.


استماعها وإن لم يكن ذلك واجبا وهي مثل خطبة الجمعة سواء. ويصلى هذه الصلاة في الصحراء في سائر البلاد إلا بمكة فانها تصلي في المسجد الحرام.

وصلاة الاستسقاء سنه مؤكدة وهي مثل صلاة العيد في العدد والصفة والكيفية سواء. والخطبة فيها أيضا بعد الصلاة فاذا سلم كبر مائة مرة تجاه القبلة وحمده مائة مرة عن يمينه وسبح الله مائة مرة عن يساره ثم يستقبل الناس. ويهلل الله مائة مرة ويفعل ذلك معه كل من حضر ثم يخطب حيثما قدمناه.

ويستحب أن يخرج الصبيان والبله والشيوخ الكبار والبهائم فيستقي بهم ولا يخرج اليهود والنصارى فانه مسخوط عليهم ، وكتابهم منسوخ بالقرآن.

فصل ـ ١٤ ـ

في ذكر صلاة الكسوف

صلاة الكسوف واجبة عند كسوف الشمس وخسوف القمر والزلزال المتواترة والظلمة الشديدة ومتى احترق القرص كله فمن تركها متعمدا كان عليه القضاء مع الغسل وان تركها ناسيا أعادها بلا غسل وإن تركها ناسيا (١) لا يجب عليه قضاؤها.

__________________

(١) كذا في الأصل.


ووقت هذه الصلاة اذا ابتدأ في الاحتراق وآخر الوقت إذا ابتدأ في الانجلاء وينبغي ان يكون مقدار زمان الكسوف فاذا فرغ منها قبل الانجلاء أعادها استحبابا وإلا جلس في موضعه يحمد الله ويسبحه. وهي عشر ركعات بأربع سجدات يستفتح الصلاة بتكبيرة الأحرام ويقرأ الحمد وسورة ويستحب ان يكون من السور الكبار كالأنعام والكهف والأنبياء فاذا ركع طول ركوعه بقدر قراءته ثم يرفع رأسه بتكبيرة ويعود الى القراءة وان كان ختم السورة قرأ الحمد وسورة أخرى وإن لم يختمها قرأ من الموضع الذي انتهى إليه وهكذا الخمس ركعات ويقول في الخامسة سمع الله لمن حمده ، ثم يسجد سجدتين ثم يقوم الى الأخرى فيصلي خمس ركعات مثل ذلك يقول في العاشرة سمع الله لمن حمده ويقنت في كل ركعتين بعد القراءة وقبل الركوع مثل سائر الصلوات.

فصل ـ ١٥ ـ

في ذكر نوافل شهر رمضان وجملة من الصلوات المرغب فيها

يستحب ان يزاد في شهر رمضان زيادة عن نوافل (١) سائر الشهور ألف ركعة. يصلي من أول ليلة الى عشرين ليلة كل ليلة عشرين ركعة ثمان بعد الفراغ من فريضة المغرب ونافلتها كل ركعتين بتشهد وتسليم.

__________________

(١) سقطت من ح.


واثنتي عشر ركعة بعد العشاء الآخرة ، ويزيد في ليلة تسع عشر مائة ركعة بعد الفراغ من جميع صلواته.

ويختم صلاته بركعتين من جلوس ويصلي في العشر الأواخر كل ليلة ثلاثين ركعة ثمانيا بعد المغرب واثنتين وعشرين ركعة بعد العشاء الآخرة ، ويصلي في ليلة احدى وعشرين وثلاث وعشرين زيادة على ما فيها مائة ركعة كل ليلة فيكون تمام الألف ركعة. ويستحب ان يزيد في ليلة النصف مائة ركعة زيادة على الألف. ويصلي ليلة الفطر بعد الفراغ من صلاته كلها ركعتين يقرأ في الأولى الحمد مرة وقل هو الله أحد الف مرة وفي الثانية الحمد مرة ومرة واحدة قل هو الله أحد. ويستحب «أن يصلي» (١) في الجمعات أوقات النشاط صلاة أمير المؤمنين (ع). وهي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد خمسين مرة ويستحب أيضا صلاة فاطمة عليها‌السلام وهي ركعتان يقرأ في الأولى منها الحمد مرة ومائة مرة إنا أنزلناه وفي الثانية الحمد مرة ومائة مرة قل هو الله أحد.

ويستحب صلاة التسبيح وهي صلاة جعفر بن أبي طالب (ع) وهي أربع ركعات بثلاثمائة مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وترتيبها أن يستفتح الصلاة ويقرأ الحمد وإذا زلزلت ويقول ذلك خمس عشرة مرة ثم يركع فيقول عشر مرات ويرفع رأسه ويقول عشر مرات ويسجد فيقول عشر مرات ويرفع رأسه ويقول عشر مرات

__________________

(١) سقط من ح


«ثم يسجد ثانيا فيقول عشر مرات ويرفع رأسه فيقول عشر مرات» (١) فذلك خمس وسبعون مرة في هذه الركعة ثم يقوم فيصلي تمام (٢) أربع ركعات بتشهدين وتسليمين على هذا الترتيب ويقرأ في الثانية والعاديات بعد الحمد وفي الثالثة اذا جاء نصر الله وفي الرابعة الحمد وقل هو الله أحد بعد الحمد.

ويستحب ان يصلي ليلة النصف من شعبان أربع ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد مرة ، ومائة مرة قل هو الله أحد. وإذا أراد أمرا من الأمور لدينه ودنياه ينبغي أن يستخبر الله فيغتسل ويصلي ركعتين يقرأ فيهما ما شاء فاذا فرغ دعا الله وسأله أن يخبر له فيما يريده ويسجد فيقول في سجوده مائة مرة استخير الله في جميع أموري خيرة (٣) في عافية ثم يفعل ما يقع في قلبه.

وإذا كان ليلة المبعث أو يومه وهو يوم السابع والعشرين من رجب يوم بعث النبي (ص) صلّى على ضحوه اثنتي عشر ركعة فاذا فرغ عقب بما أراد وقرأ سبع مرات المعوذتين والإخلاص وقل يا أيها الكافرون وإنا أنزلناه وآية الكرسي ثم يقول الله الله ربي لا اشرك به شيئا ويسأله ما أراد. وإذا كان يوم الغدير وهو يوم الثامن عشر من ذي الحجة وبقي بينه وبين الزوال نصف ساعة اغتسل وصلى ركعتين يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وعشر مرات قل هو الله أحد وعشر

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من ح ـ

(٢) سقطت من ح ـ

(٣) سقطت من ح ـ


مرات إنا أنزلناه وعشر مرات آية الكرسي فاذا سلم عقب ودعا بدعاء يوم الغدير.

وإذا كانت له حاجة الى الله تعالى صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة ثم يغتسل يوم الجمعة ويخرج الى موضع خال ويصلي ركعتين على ترتيب صلاة التسبيح غير انه يجعل بدل التسبيح (١) قراءة قل هو الله أحد خمس عشرة مرة في حال القيام والركوع ، ورفع الرأس ، والسجود ، وفي جميع الأحوال فاذا سلم سأل الله حاجته فاذا قضيت حاجته صلى ركعتين لله شكرا على ما أنعم به عليه. والصلاة المرغب فيها كثيرة جدا ذكرناها في مصباح المتهجد في عمل السنه. «وفيما ذكرناه هاهنا كفاية ان شاء الله» (٢).

فصل ـ ١٦ ـ

في ذكر للصلاة على الأموات

كل ميت مسلم أو بحكم الإسلام فمن كان له ست سنين فصاعدا وجبت الصلاة عليه ولا يترك بدون صلاة وهي فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين ، وأقل ما يسقط به الفرض واحد فصاعدا. ومن لم يبلغ ست سنين صلى عليه استحبابا.

__________________

(١) أ : قراءة التسبيح.

(٢) ما بين القوسين ساقط من أ.


وأحق الناس بالصلاة على الميت أولاهم بميراثه من الرجال ومن يقدمه الولي والزوج أحق بالصلاة على المرأة من جميع قرابتها عصبة كانوا أو غير ذلك. وإذا حضر رجل من بني هاشم كان أولى بالتقدم وعلى الولي تقديمه فان لم يفعل كان الولي أحق. ولا يجوز التقدم على الولي العادل. ويقف الإمام من الجنازة إن كانت لامرأة عند صدرها وإن كانت لرجل في وسطه وان كان عليه حذاء نزعه ، وإن كان له خف أو شمشك صلى فيه. ويكبر على الميت خمس تكبيرات بعدد الخمس صلوات يكبر أولا ويشهد ان لا إله إلا الله ثم يكبر ثانيا ويصلي على النبي ثم يكبر ثالثا ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ويكبر الرابعة فيدعو بعدها للميت إن كان مؤمنا وعليه إن كان منافقا ، وإن كان طفلا سأل الله ان يجعله لابويه فرطا فان كان مستضعفا دعا له بدعاء المستضعفين. يقول : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان الى آخره. وان كان لا يعرفه سأل الله ان يحشره مع من كان يتولاه ويستحب ان يكون على طهارة. وان فاجأته تيمم وصلى عليها ، وليس في هذه الصلاة قراءة ولا تسليم بل هي دعاء على ما قدمناه.


كتاب الزكاة

الزكاة المفروضة في شرع الإسلام في تسعة اشياء في الدراهم والدنانير والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب. ولا تجب الزكاة في شيء سوى هذه الأجناس (١) ، ولا تجب الزكاة في هذه الأجناس سوى الغلات اذا حال عليها الحول في الملك ويكون نصابا كاملا من أول الحول إلى آخره. وأما الغلاة فانه تجب الزكاة فيها حين حصولها ولا يراعى فيها الحول ولا يجب في شيء من الغلات سوى هذه الأجناس الأربعة التي ذكرناها زكاة وجوبا. وتستحب إخراج الزكاة في جميع ما يدخل تحت الكيل ولا يجب في شيء من الحيوان سوى الاجناس الثلاثة المتقدم ذكرها. وانما تستحب الزكاة في الخيل «في كل سنة» (٢) في العتاق منها دينار ان إذا كانت انثى مرسلة للنتاج وفي البراذين دينار واحد مثل ذلك.

وليس ذلك بواجب فأما الأموال فكل ما لم يكن دراهم ودنانير

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) ما بين القوسين سقط من أ.


فلا تجب فيها زكاة وجوبا وان كان ذلك فيها ندبا واستحبابا. فمال التجارة على هذا اذا حال عليه الحول أخرجت الزكاة عن قيمتها دراهم او دنانير.

والذهب والفضة إذا كان مصوغا أو حليا لا زكاة فيها إلا إذا فر بها من الزكاة. وإنما تجب الزكاة فيما كان دنانير أو دراهم مضروبة أو منقوشة. وما كان بخلاف ذلك استحب فيها الزكاة والزكاة من الدراهم والدنانير تجب على كل حر مالك للنصاب إذا كان كامل العقل ، فأما من ليس بكامل العقل من الأطفال والمجانين فلا يجب في ما لهم الصامت زكاة ما عدا (١) الغلات والمواشي فتجب على كل مالك. فان كان عاقلا وجب عليه إخراجها وإن لم يكن عاقلا كان على وليه الإخراج عن ماله.

ومال الدين والقرض إن كان على «ملى باذل» (٢) أي وقت طلب منه فان فيه زكاة وإن كان على ملى مطول أو غير ملى لا تجب فيه الزكاة حتى يرجع إلى ملكه فان عاد إليه وحال عليه الحول وجب عليه فيه الزكاة.

ومتى وجبت الزكاة في المال وجب إخراجها على الفور فان أخره مع وجود المستحق كان ضامنا ان هلك المال سواء كان من وجب عليه من ماله أو وليا يجب عليه الإخراج من مال من له عليه ولاية الباب واحد.

__________________

(١) في ح : وما عداهما من الغلات.

(٢) سقط من ح.


فصل ـ ١ ـ

في ذكر زكاة الذهب والفضة

إذا ملك الحر العاقل عشرين دينارا مضروبه منقوشة وحال عليها الحول بكمالها وجب عليه فيها نصف دينار. وليس فيما زاد على العشرين شيء حتى يصير أربعة دنانير فاذا زادت أربعة دنانير كان فيها عشر دينار «ثم على هذا الحساب كلما زادت أربعة كان فيها عشر دينار» (١) بالغا ... ما بلغ وما بين النصابين عفو لا بتعلق به شيء. وأما الدراهم فاذا ملك مأتي درهم وجب فيها خمسة دراهم ثم ليس فيها شيء حتى تزيد أربعين درهما فاذا زادت ذلك وجب فيها درهم آخر ثم هكذا كلما زاد أربعون درهما كان فيها زيادة درهم بالغا ما بلغ. وما بين النصابين عفو.

وإذا رأى هلال الثاني عشر وجب في المال الزكاة وان قدم على ذلك لمستحق جعله قرضا عليه يحتسب به من الزكاة إذا تكامل الحول والمعطي على حال يجب معها عليه الزكاة. ومن أعطاه على صفة يجوز أخذ الزكاة فان تغير احدهما عن ذلك لم يجز ذلك عن الزكاة. وإن أخر لانتظار المستحق لم يكن عليه ضمان.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من أ


وإن كان المستحق حاضرا وأخره في ذمته الى ان يخرج عنه وحمل الزكاة من بلد إلى بلد مع وجود المستحق يجوز بشرط الضمان ومع عدم المستحق يجوز على كل حال.

فصل ـ ٢ ـ

في زكاة الإبل والبقر والغنم

لا زكاة في شيء من هذه الأجناس حتى يملكها الانسان نصابا كاملا ويحول عليها الحول وهي مرسلة سائمة.

وأما المعلوف منها فلا تتعلق بها الزكاة. وما لم يحل عليها الحول لا يعد فيما يجب فيه الزكاة ولا بانفرادها ولا مع أمهاتها. فأول نصاب في الإبل خمس تجب فيها شاة وليس فيها بعد ذلك شيء حتى تصير عشرا ففيها شاتان إلى خمس عشرة ففيها ثلاث شياه إلى عشرين ففيها أربع شياه الى خمس وعشرين ففيها خمس شياه فاذا صارت ستا وعشرين صارت (١) فيها بنت مخاض وهي التي حملت أمها بالبطن الثاني وضربها الطلق أو ابن لبون ذكر وهو الذي ولدت أمه وصار بها لبن. ثم ليس فيها شيء الى ست وثلاثين ففيها بنت لبون «ذكر وهو الذي ولدت أمه وصار بها لبن» (٢). ثم ليس فيها شيء حتى يصير

__________________

(١) ح : كان.

(٢) ما بين القوسين سقط من أ.


ستا وأربعين ففيها حقه وهي التي دخلت في السنة الرابعة فاستحقت الركوب أو ان يطرقها الفحل. وليس فيها بعد ذلك شيء حتى تصير احدى وستين ففيها جذعه وهي التي دخلت في السادسة الى ست وسبعين ففيها بنتا لبون الى احدى وتسعين ففيها حقتان الى مائة واحدى وعشرين فيسقط هذا الاعتبار. ويخرج من كل اربعين بنت لبون ، ومن كل خمسين حقه بالغا ما بلغت. فاذا وجب بنت مخاض وعنده بنت لبون أخذت منه وردّ عليه شاتان او عشرون درهما. وان وجب عليه بنت لبون وعنده بنت مخاض اخذ منه أيضا عشرون درهما او شاتان. وما بين بنت لبون وألحقه مثل ذلك. وبين الحقة والجذعة مثل ذلك. وأما غير ذلك من الأسنان فليس بمنصوص عليه. ويجوز ان يكون يؤخذ بالقيمة ، لأن القيمة يجوز اخذها في سائر اجناس عندنا.

وأما البقر فليس فيها زكاة حتى تصير ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعه وهو الذي تم له سنة ، ويتبع أمه بعد الى ان تصير أربعين ففيها مسنه وهي التي دخلت في السنة الثانية ، وعلى هذا الحساب في كل أربعين مسنه بالغا ما بلغ. وفي كل ثلاثين تبيع أو تبيعه وما بين النصابين عفو.

وأما الغنم فليس فيها زكاة حتى تصير أربعين ففيها شاة إلى مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان الى مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه الى ثلاثمائة وواحدة ففيها أربع شياه الى أربعمائة فيسقط هذا الاعتبار واخرج من كل مائة شاة بالغا ما بلغ. وما نقص عن النصاب وما


بين النصابين كله عفو.

ولا يعد في الزكاة إلا ما حال عليه الحول بانفراده ولا ما مع الأمهات ، ولا يؤخذ في الزكاة ذات عوار ولا المهزولة ولا السمينة في الغاية بل وسطا من جميع الأجناس. والمال وان كان نصابا إذا كان من خليطين لا يجب فيه الزكاة حتى يكون لكل واحد نصاب «ولو كان في ملك واحد نصاب» (١) في مواضع متفرقة كان عليه زكاة على كل حال.

فصل ـ ٣ ـ

في زكاة الغلاة

قد بينا إنه لا زكاة واجبة في الغلات إلا في الأجناس الأربعة التي قدمنا ذكرها. وليس فيها زكاة حتى تبلغ نصابا وهو خمسة أوسق. والوسق ستون صاعا ، والصاع تسعة أرطال بالعراقي بعد إخراج المؤن كلها من الخراج وحق الأكره والثلث وغيره. فاذا فضل بعد ذلك القدر الذي ذكره إخراج منه الزكاة.

وفيما زاد على الخمسة يخرج منه الزكاة قليلا كان أو كثيرا لأنه ليس يراعى نصاب آخر بعد النصاب الأول. ثم ينظر في صفة الأرض فان كانت تسقى سيحا أو كان عذبا أو كان الشجر بعلا يشرب

__________________

(١) سقط من أ.


بعرقه فلا يلزم على شيء من ذلك مئونة مجحفة كان فيه العشر وان كانت تسقى بالدوالي والنواضح والدواليب والقيم ، وما يلزم عليه المؤن الثقيلة ففيه نصف العشر وما عدا الأجناس الأربعة من المكيلات فالزكاة فيها مستحبة على هذا الحساب. وما نقص عن الخمسة أوسق لا يتعلق به فيه الزكاة (١) إلا إذا قصد بذلك الفرار من الزكاة ففرقه لذلك فحينئذ تلزم الزكاة.

فصل ـ ٤ ـ

في مستحق للزكاة ومقدار ما يعطى منه

مستحق الزكاة هم الثمانية الأصناف الذين ذكرهم الله تعالى في آية الزكاة في قوله «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل». فالفقير هو الذي لا شيء له. والمسكين هو الذي بلغه من العيش لا يكفيه «وقيل» (٢) بالعكس من ذلك. غير انهما يستحقان جميعا. «سهما من الزكاة» (٣) والعاملون عليها هم «السعاة الذين يجمعون الزكاة» (٤)

__________________

(١) زاد في ح «اذا كان كل جنس بحالة نصاب كامل ، وان كان لو جمع كان نصابا واكثر» إلا إذا ....

(٢) سقط من أ.

(٣ ـ ٤) سقط من أ.


ويجبونها. والمؤلفة قلوبهم قوم كفار بهم جميل في الإسلام يستعان بهم على قتال أهل الحرب ويعطون سهما من الصدقة والرقاب هم المكاتبون وعندنا يدخل فيه المملوك الذي يكون في شده (١) يشترى من مال الزكاة ويعتق ويكون ولاؤه لأرباب الزكاة لأنه اشتري بمالهم والغارمون هم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا سرف. وفي سبيل الله هو الجهاد ويدخل فيه جميع مصالح المسلمين. وابن السبيل هو المنقطع به وإن كان في بلده ذا يسار.

ويراعى فيهم اجمع «إلا المؤلفة» (٢) الإيمان والعدالة ولا يكونون من بني هاشم في حال تمكنهم «من الخمس» (٣) ولا يكون ممن تلزمه نفقته من ولد أو والدين نزلا أو صعدا ، ولا زوجة ولا مملوك. ويجوز وضع الزكاة في فرق من هذه الفرق وان كان الأفضل أن يجعل لكل صنف منهم جزء ولو قليلا. ويجوز أيضا ان يفضل بعضهم على بعض وأقل ما يعطى الفقير ما يجب في نصاب من الدراهم خمسة دراهم وبعد ذلك عشر دينار ، وليس لكثيره حد ، بل يجوز أن يعطى زكاة ماله كله لواحد بعينه.

__________________

(١) ح : سنه.

(٢) سقط من أ.

(٣) سقط من أ.


فصل ـ ٥ ـ

في ذكر ما يجب فيه الخمس وبيان مستحقه وقسمته

يجب الخمس في الغنائم الني تؤخذ من دار الحرب وفي المعادن كلها الذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس والرصاص والزئبق والكحل والزرنيخ والنفط والقير والكبريت والموميا والغوص والياقوت والزبرجد والبلخش والفيروزج والعقيق والعنبر والكنوز من الذهب والفضة وغير ذلك من أرباح التجارة والمكاسب وفيما يفضل من الغلات من قوت السنة لصاحبه ولعياله وفي المال الذي يختلط حلاله بحرامه ولم يتميز وفي أرض الذمي الذي اشتراها من مسلم ، ويجب الخمس في هذه الأجناس عند حصولها. ولا يراعى فيها نصاب إلا الكنوز فانه يراعى فيها نصاب زكاة المال والغوص يراعى فيه مقدار دينار وما عدا ذلك يخرج من قليله وكثيره.

والمستحق له من ذكر الله تعالى في قوله «وأعلموا إنما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل».

فسهم الله لرسوله إذا كان باقيا وإذا مضى رسول الله (ص) فهذان السهمان مع سهم ذوي القربى لمن قام مقام الرسول من الأئمة يصرف في مئونته ومئونة من تلزمه نفقته. وسهم اليتامى والمساكين


وابن السبيل مصروف إلى من كان بهذه الصفات من أهل بيت رسول الله خاصة دون سائر الناس فان لأولئك الزكاة التي تحرم على هؤلاء على ما بيناه.

فصل ـ ٦ ـ

في ذكر الأنفال

الأنفال كانت لرسول الله (ص) وهي لمن قام مقامه من الأئمة وهي كل أرض خربة باد أهلها وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وكل أرض أسلمها اهلها طوعا ورءوس الجبال وبطون الأودية والموات التي لا مالك لها والآجام ، وصوافي الملوك وقطائعهم اذا لم تكن غصبا وميراث من لا وارث له ، ومن الغنائم الجارية الحسناء والفرس الغادة والثوب المرتفع وما لا نظير له من رقيق أو متاع ما لم يستغرق في القيمة ويجحف بالغانمين ، ومتى قاتل قوم أهل حرب من غير اذن الامام فغنموا فكل ذلك للامام خاصة.


فصل ـ ٧ ـ

في ذكر زكاة الفطرة

تجب زكاة الفطرة على كل حر بالغ مالك للنصاب الذي تجب فيه الزكاة يخرجه عن نفسه وجميع من يعوله من والد وولد وزوجة ومملوك مسلما كان أو كافرا ، ومن لا يملك النصاب لا تجب عليه وان كان مستحقا له حتى لو أخذ زكاة الفطرة لفقره استحب له إخراجه عن نفسه وعن جميع من يعوله.

ووقت وجوب هذه الزكاة إذا طلع هلال شوال وآخرها عند صلاة العيد. فان قدم في أول الشهر على ما قلناه في تقديم زكاة المال كان أيضا جائزا وإن أخره كان قضاء. والقدر الذي يجب صاع وهو تسعة أرطال بالعراقي من حنطة أو شعير أو تمر أو زبيب أو أرز أو أقط أو لبن ، غير انه ينبغي ان يخرج كل أحد مما يغلب على قوته وأفضله التمر أو للبن أربعة أرطال بالمدني وستة بالعراقي. ويجوز ان يخرج قيمة ما يريد إخراجه بسعر الوقت.

ومستحق الزكاة في الفطرة هو مستحقها في المال من المؤمنين الفقراء العدول وأطفالهم ومن كان بحكم المؤمنين من البله والمجانين. ومن لا يجوز أن يعطى زكاة المال لا يجوز ان يعطى زكاة الفطرة ممن تجب عليه نفقته أو كان من بني هاشم ، ولا يعطى الفقير أقل من صاع ويجوز أن يعطى أصواعا.


كتاب الصوم

الصوم في اللغة عبارة عن الإمساك والوقوف. وفي الشريعة عبارة عن الإمساك عن اشياء مخصوصة في زمان مخصوص على وجه مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة.

ولا ينعقد إلا بالنية. والصوم على ضربين : شهر رمضان وغيره. وصوم شهر رمضان لا بد فيه من نية القربة وإن انضم إليها نية التعيين كان أفضل. ووقت النية ليلة الصوم من أولها إلى طلوع الفجر فأي وقت نوى الصوم «فقد انعقد صومه ومتى لم ينو متعمدا مع العلم بانه شهر رمضان حتى يصبح فقد» (١) فسد صومه وعليه القضاء وإن لم يعلم إنه شهر رمضان لعدم رؤيته أو لشبهه ثم علم بعد أن اصبح جاز له ان يجدد النية إلى الزوال وصح صومه ولا اعادة عليه. وإن فاتت إلى بعد الزوال أمسك بقية النهار وكان عليه القضاء. وإن صام عند الشبهة أو الشك فيه للتطوع ثم انكشف إنه من شهر رمضان فقد أجزأ عنه ولا قضاء عليه. ويكفي الشهر كله نية واحدة وإن جدد النية كل ليلة كان أفضل. وأما صوم شهر غير رمضان فلا بد فيه من

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من أ.


نية التعيين ونية القربة معا سواء كان فرضا كالنذر والقضاء وغير ذلك من أنواع الواجبات أم نفلا كصوم التطوع على اختلاف أنواعه ومتى فاتت النية جاز تجديدها إلى عند الزوال فاذا زالت الشمس فقد فاتت النية.

فصل ـ ١ ـ

فيما يجب على الصائم اجتنابه

ما يجب على الصائم اجتنابه على ضربين : أحدهما فعله يفسده. والآخر ينقصه. فما يفسده على ضربين احدهما يوجب القضاء والكفارة (١) والآخر يوجب القضاء بلا كفارة. فالأول وهو الذي يجب القضاء والكفارة فيه الأكل والشرب والجماع في الفرج وإنزال الماء الدافق عامدا والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة متعمدا مع العلم بأنه كذب ، والارتماس في الماء وإيصال الغبار الغليظ الى الحلق مثل غبار النقض وما جرى مجراه ، والمقام على الجنابة متعمدا مع امكان الغسل ، وعدم المشقة حتى يطلع الفجر. فمتى صادف شيئا مما ذكرناه فسد الصوم ووجب منه القضاء والكفارة.

والكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين أو اطعام ستين مسكينا مخيرا في ذلك. وفي أصحابنا من قال هو مرتب كصوم الظهار.

__________________

(١) زاد في ح «اذا كان صوم شهر رمضان أو نذر معين».


وما يوجب القضاء دون الكفارة كالإقدام على الأكل والشرب والجماع قبل أن يرصد الفجر مع القدرة عليه ويكون طالعا وترك القبول عمن قال قد طلع الفجر والإقدام على ما يفطر ويكون قد طلع. وتقليد الغير «في ان الفجر لم يطلع مع تمكنه من مراعاته ويكون قد طلع وتقليد الغير» (١) في دخول الليل مع تمكنه من مراعاته والإقدام على الإفطار ، ولا يكون قد دخل. وكذلك الإقدام على الإفطار لعارض يعرض في السماء من ظلمه وريح ثم يتبين ان الليل ما كان دخل ومعاودة النوم بعد انتباهة واحدة قبل الغسل من الجنابة ولم ينتبه الى ان يطلع الفجر ودخول الماء في الحلق لمن تبرد بالماء ، أو تمضمض لغير الصلاة. والحقنة بالمائعات ، ومتى صادف شيئا مما ذكرناه ما لا يتعين صومه فسد صومه وصام بدله يوما (٢).

وأما ما يجب اجتنابه وإن لم يفسد الصوم فكل القبائح. فانه يجب تجنبها على كل حال وتركها لمكان الصوم.

ويستحب اجتناب اشياء وإن لم يكن واجبا كالسعوط والكحل الذي فيه شيء من الصبر أو المسك وإخراج الدم على وجه يضعفه مع الاختيار ، ودخول الحمام المضعف ، وشم النرجس والرياحين واستدخال الأشياف الجامدة وتقطير الدهن في الأذن ، وبلّ الثوب على الجسد والقبلة وملاعبة النساء ومباشرتهن فان جميع ذلك مكروه وإن لم يفسد الصوم بفعله (٣).

__________________

(١) العبارة بطولها سقطت من أ.

(٢) سقطت من ح.

(٣) سقطت من أ.


فصل ـ ٢ ـ

في ذكر اقسام الصوم

الصوم على خمسة أقسام : واجب وندب وقبيح وصوم تأديب وصوم اذن.

فالواجب على ضربين : مطلق من غير سبب يوجبه والآخر ما يجب عند سبب يوجبه. فالمطلق من غير سبب صوم شهر رمضان. ولوجوبه ستة شروط : البلوغ وكمال العقل والصحة من المرض وأن لا يكون مسافرا سفرا يوجب الإفطار بان كان حكمه حكم المقيمين من المسافرين ، وإن كانت امرأة بان تكون طاهرا من الحيض. فهذه شروط الأداء. وأما إذا فات الصوم فلوجوب القضاء ثلاثة شروط الاسلام ، لأن من كان كافرا وإن وجب عليه الصوم ، فاذا لم يصمه وأسلم لم يلزمه القضاء. والثاني : البلوغ. والثالث : كمال العقل. وأما من كان حكمه حكم الحاضرين من المسافرين ويجب عليهم الصوم فهم عشرة :

أ ـ من نقص سفره عن ثمانية فراسخ.

ب ـ ومن كان سفره معصية لله.

ج ـ ومن كان سفره للصيد لهوا وبطرا.

د ـ ومن كان سفره أكثر من حضره ، وحده ان لا يقيم في بلده


عشرة أيام.

ه ـ والمكاري.

و ـ والملاح.

ز ـ والراعي.

ح ـ والبدوي.

ط ـ والذي يدور من إمارته «والذي يدور في تجارته» (١) من سوق الى سوق.

ي ـ والبريد.

فهؤلاء كلهم يجب عليهم الصوم في السفر ، ولا يجوز عليهم الإفطار.

والواجب عند سببه أحد عشر قسما :

١ ـ قضاء ما يفوت من شهر رمضان لعذر من مرض أو سفر أو غيره. قال الله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

٢ ـ وصوم النذر لإجماع الأمة على ذلك. ولقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

٣ ـ وصوم كفارة قتل الخطأ إذا لم يقدر على العتق. قال الله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) ـ إلى قوله ـ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ).

__________________

(١) سقط من أ.


٤ ـ وصوم كفارة الظهار لمن لا يقدر على العتق والإطعام والكسوة. قال الله تعالى (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ).

٥ ـ وصوم كفارة أذى حلق الرأس إن لم يجد النسك والصدقة قال الله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.)

٦ ـ وصوم جزاء الصيد يجب جزاؤه. قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً).

٧ ـ وصوم دم المتعة إذا لم يقدر على الهدي قال الله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ).

٨ ـ وصوم كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا من غير عذر لقول النبي (ص) «من أفطر يوما من شهر رمضان فعليه ما على المظاهر».

٩ ـ وصوم كفارة من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال إذا لم يطعم ولم يكس فان أطعم كان ذلك لعشرة مساكين أو


كسوتهم.

١٠ ـ وصوم الاعتكاف لما روي عنه (ص) إنه قال «لا اعتكاف إلا بصوم».

١١ ـ وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان.

وتنقسم الواجبات قسمين :

احدهما : يراعى فيه التتابع ، والآخر لا يراعى فيه التتابع. وما يراعى فيه التتابع على ضربين : احدهما : متى أفطر فيه استأنف. والآخر لا يوجب ذلك. فما يوجب الاستئناف على كل حال صوم كفارة اليمين وصوم الاعتكاف وصوم كفارة من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال. وما لا يوجب الاستئناف على كل حال على ضربين : احدهما : يوجب البناء. والآخر يوجب الاستئناف. فما يوجب البناء فكل من وجب عليه صوم شهرين متتابعين. أما في قتل خطأ أو كفارة ظهار أو كفارة افطار يوم من شهر رمضان أو وجب عليه صوم شهرين متتابعين بنذر فمتى صام شهرا ومن الثاني شيئا فأنه يبني وإن كان قد ترك الأفضل. وان لم يكن صام شهرا ولم يزد عليه فانه يستأنف على كل حال ، وكذلك من وجب عليه صوم شهر متتابع أما بالنذر أو يكون مملوكا ولزمه ذلك في قتل الخطأ أو غير ذلك ، فانه ان صام خمسة عشر يوما ثم أفطر بنى وإن كان دون ذلك استأنف. إلا ان يكون لمرض أو حيض وصوم ثلاثة أيام في دم المتعة إن صام يوما ثم أفطر بنى وإن صام يوما واحدا استأنف ،


هذا إذا أفطر من غير عذر. فأما ان أفطر لمرض أو حيض فانه يبني على كل حال.

وما لا يراعى فيه التتابع فمثل قضاء رمضان وصوم جزاء الصيد وصوم النذر إذا لم يشترط التتابع وصوم السبعة أيام في دم المتعة.

وفي الصوم ما يجب بإفطاره متعمدا من غير عذر قضاء وكفارة ، ومنه ما لا يجب فيه. فالأول صوم شهر رمضان إذا أفطر بعد الزوال وصوم الاعتكاف. وما عدا ذلك من الانواع متى أفطر لا يلزمه الكفارة.

وينقسم صوم الواجب ثلاثة أقسام :

أحدها : مرتب.

والآخر : مخير.

والثالث : مضيق.

فالمرتب كفّارة اليمين لأنه لا يجوز إلا بعد العجز عن العتق والاطعام والكسوة. وصوم كفّارة قتل الخطأ والظهار فانه لا يجوز إلا بعد العجز عن العتق وصوم دم الهدي فانه لا يجوز إلا بعد العجز عن الهدي.

والمخير كفارة أذى حلق الرأس فانه مخير بين النسك والصدقة والصوم ، وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان بلا عذر على خلاف بين الطائفة في تخييره ، وصوم كفّارة من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال ، وكذلك صوم جزاء الصيد فانه مخير في جميع ذلك.


والمضيق صوم شهر رمضان وصوم قضاء شهر رمضان وصوم النذر وصوم الاعتكاف.

وأما المندوب من الصوم فجميع أيام السنة إلا العيدين وأيام التشريق لمن كان بمنى إلا أن بعضه أفضل من بعض. منها : صوم الثلاثة ايام في كل شهر ، أول خميس في العشر الأول ، وأول اربعاء في العشر الثاني وآخر خميس في العشر الأخير. وصوم أربعة أيام في السنة مثل يوم الغدير وهو الثامن عشر من ذي الحجة ويوم السابع عشر من شهر ربيع الأول ، فيه مولد النبي (ص). ويوم السابع والعشرين من رجب فيه مبعث النبي (ص) ، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة فيه دحيت الارض من تحت الكعبة (١) ، وأول يوم من رجب ، ورجب كله ، وشعبان ، وأيام البيض من كل شهر وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ، وصوم يوم عرفه لمن لا يضعفه عن الدعاء. وصوم يوم عاشوراء على وجه الحزن والمصيبة لأجل أهل بيت الرسول عليهم‌السلام.

وأما الصوم القبيح فيوم العيدين ويوم الشك على انه من شهر رمضان وأيام التشريق لمن كان بمنى ومن كان في الأمصار جاز له صومها وصوم الصمت وهو ان لا يتكلم وصوم الوصال كذلك يجعل عشائه سحوره أو يطوي يومين وصوم نذر المعصية وصوم الدهر لأنه يدخل فيه العيدان.

__________________

(١) سقطت من ح.


وأما صوم التأديب فمثل المسافر إذا قدم على أهله في بعض النهار أمسك بقية نهاره تأديبا ، وكذلك الحائض إذا طهرت في وسط النهار والمريض إذا برأ والصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم فان هؤلاء كلهم يمسكون بقية نهارهم تأديبا وكان عليهم القضاء لذلك اليوم.

وأما صوم الأذن فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا بأذن زوجها وكذلك المملوك لا يصوم تطوعا إلا باذن سيده ، وكذلك الضيف «لا يصوم تطوعا» (١) إلا بأذن مضيفه.

فصل ـ ٣ ـ

في حكم المريض والعاجز عن الصيام

كل مرض يغلب معه الظن انه إذا صام ادى إلى تلف النفس أو زاد في المرض زيادة بينه فلا يجوز معه الصوم. وإن صامه لم يجزه وكان عليه القضاء. والمريض لا يخلو من ثلاثة أحوال : إما ان يموت في مرضه أو يبرأ أو يستمر معه المرض إلى رمضان آخر. فان مات في مرضه ذلك استحب لوليه القضاء عنه وليس ذلك بواجب. وإن برأ وجب عليه القضاء بنفسه فان لم يقض ومات وجب على وليه القضاء عنه. والولي هو أكبر أولاده الذكور دون الإناث فان كانوا جماعة في سن واحد كان عليهم القضاء بالحصص أو يكفل به بعضهم

__________________

(١) سقط من ح.


ويقوم به فيسقط عن الباقين ، وإن لم يمت وكان في عزمه القضاء من من غير توان ولحقه رمضان آخر صام الثاني وقضى الأول ولا كفارة عليه وإن أخره توانيا صام الحاضر وقضى الأول وتصدق عن كل يوم بمدين من طعام فان لم يقدر فبمد واحد وإن لم يبرأ حتى لحقه رمضان آخر صام الحاضر وتصدق عن الأول ولا قضاء عليه ، وحكم ما زاد على رمضانين حكمهما سواء. وكل صوم وجب عليه وتوانى عنه ومات تصدق عنه وليه ويصوم (١) عنه كذلك.

والعاجز عن الصيام نوعان : احدهما يكفر ويقضي والآخر يكفر بلا قضاء. فالاول : الحامل المقرب التي تخاف على الولد والمرضعة القليلة اللبن مثل ذلك ومن به عطاش يرجى زواله. فهؤلاء يكفرون ويفطرون وعليهم القضاء. والثاني الشيخ الكبير «والمرأة الكبيرة» (٢) ومن به عطاش لا يرجى زواله فهؤلاء عليهم كفارة بلا قضاء.

فصل ـ ٤ ـ

في حكم المسافر في الصوم والصلاة

قد بينا ان فرض المسافر بخلاف فرض الحاضر في الصلاة. فأما في الصوم فلا يجوز له أيضا في السفر ، ومن صام لم يجزه وكان عليه

__________________

(١) ح : أو يصوم.

(٢) سقط من أ.


القضاء سواء كان الصوم شهر رمضان أو واجبا آخر بأحد الأسباب الموجبة لذلك على ما مضى إلا ما يكون نذر أن يصوم فيه مسافرا كان أو حاضرا فانه يلزمه الوفاء. وصوم الثلاثة أيام لدم المتعة ، لأنها تصام في ذي الحجة. وما عدا ذلك من أنواع الصوم فلا يجوز في السفر ، وإن صامه كان عليه القضاء. هذا إذا جمع السفر شروطا ثلاثة :

أ ـ ان لا يكون قبيحا. ب ـ ان يكون يزيد عن ثمانية فراسخ أربعة وعشرين ميلا. ج ـ ان لا يكون ممن ذكر انه يجب عليه الصوم والتمام في السفر. ومن شرط الإفطار تبييت النية للسفر من الليل فان لم يبيتها وحدث له رأي في السفر صام ذلك اليوم ، ولا قضاء عليه. وإن لم يبيت النية من الليل ولم يتفق له الخروج الى بعد الزوال تمم وقضى ذلك اليوم ومن خرج الى السفر لا يفطر حتى يتوارى عنه جدران بلده ، أو يخفى عليه أذان مصره.

فصل ـ ٥ ـ

في حكم الاعتكاف

الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في مكان مخصوص للعبادة ، والمواضع التي يصح الاعتكاف فيها أربعة. المسجد الحرام ومسجد النبي (ص) ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة. ولا يصح الاعتكاف إلا بصوم ولا يكون أقل من ثلاثة أيام فاذا اعتكف فلا يجوز له ان


يقرب النساء بجماع أو قبلة أو مباشرة بشهوة ويجتنب الطيب والجدل والمماراة ويجتنب البيع والشراء ولا يخرج من المسجد إلا لضرورة ولا يمشي تحت الظلال مختارا ولا يتعدى (١) غير المسجد الذي اعتكف فيه «إلا بمكة» (٢) فانه يصلي أي موضع شاء منها. وإذا مرض المعتكف أو حاضت المرأة خرجا من المسجد الذي اعتكفا فيه فاذا برأ أعاد الاعتكاف والصوم.

ومتى جامع المعتكف نهارا لزمته كفارتان مثل ما يلزم المفطر في شهر رمضان. احداهما لأجل الصوم والثانية لأجل الاعتكاف ، وإن وطأ ليلا كان عليه كفارة واحدة لحرمة الاعتكاف.

__________________

(١) ح : ولا يقعد في ..

(٢) سقط من أ.


كتاب الحج

الحج في الشريعة عبارة عن قصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن كان على صفة مخصوصة. وهو على ضربين مفروض ومسنون. فالمفروض على ضربين احدهما : يجب بأصل الشرع وهي حجة الإسلام وهي واجبة على كل حر بالغ كامل العقل صحيح الجسم متمكن من الاستمساك على الراحلة مخلى السرب من الموانع يمكنه المسير واجد الزاد والراحلة ، ولما يتركه من نفقة من تجب عليه نفقته على الاقتصاد. ولما ينفقه على نفسه ذاهبا وجائيا بالاقتصاد. ويبقى بعد ذلك معه ما يرجع إلى كفاية في معيشته أو صناعة أو حرفة يرجع إليها. ومتى أختل شيء من هذه الشروط فانه لا يجب عليه الحج وإن كان مستحبا له تكلفه والقيام به غير انه إذا فعله ثم تكاملت له شروط وجوبه فلا بد له من اعادة الحج. ومن شرط صحة الأداء الاسلام وكمال العقل ومتى تكاملت هذه الشروط وجب في العمر مرة واحدة. وما زاد عليها فمستحب مندوب إليه وعند تكامل شرائط الوجوب يجب على الفور والبدار دون التراخي غير انه متى أخره ثم فعله كان مؤديا وان فرط في التأخير.


وما يجب في النذر أو العهد فهو بحسبهما ان كان واحدا فواحد وان كان أكثر كان مثل ذلك.

وإذا اجتمعت حجة الإسلام وحجة النذر فلا تجزي إحداهما عن الأخرى إذا نذر (١) حجه زائدة على حجة الإسلام. وإن نذر مطلقا مطلقا اجزا عنهما حجة واحدة. ولا تراعى في حجة النذر الشروط التي راعيناها في حجة الاسلام ، وإنما تراعى الحرية وكمال العقل وما عداها فبحسب شروطه.

فصل ـ ١ ـ

في ذكر اقسام الحج

الحج على ثلاثة أقسام : تمتع بالعمرة الى الحج ، وقران وإفراد. والتمتع هو فرض من نأى عن المسجد الحرام وحده من كان بينه من كل جانب اثنا عشر ميلا فلا يجوز لهؤلاء التمتع مع الإمكان فاذا لم يمكنهم التمتع اجزأهم الحجة المفردة أو المقارنة ومن كان من أهل حاضري المسجد الحرام وهو من كان بينه وبين المسجد أقل من اثني عشر ميلا من أربع جوانبه. ففرضه القران أو الافراد ، ولا يجزيه التمتع بحال.

فسياقة أفعال التمتع الإحرام من الميقات مع الحج والتلبيات الأربع

__________________

(١) أ : ثبت.


ويكون على تلبيته حتى يشاهد بيوت مكة فاذا شاهدها قطع التلبية ودخل إليها ودخل المسجد الحرام وطاف بالبيت سبعا وصلّى عند المقام ركعتين ، ثم يخرج الى الصفا فيسعى بينهما سبعة أشواط ثم يقصر من شعر رأسه وقد أحل من كل شيء أحرم منه. ثم ينشئ إحراما آخر بالحج يوم التروية ويمضي إلى منى فيبيت بها ليلة عرفة ويغدو منها إلى عرفات فيقف هناك إلى غروب الشمس فيفيض منها الى المشعر الحرام فيصلي بها المغرب والعشاء الآخرة ويبيت بها الى طلوع الشمس أو الفجر ويتوجه إلى منى فيقضي مناسكه يوم النحر بها على ما بينته ويمضي الى مكة فيطوف بالبيت طواف الزيارة ويصلي عند المقام ركعتين ، ويسعى بين الصفا والمروة ثم يطوف طواف النساء وقد أحل من كل شيء أحرم منه وقد قضى مناسكه ، كلها للعمرة والحج وكان متمتعا ثم يعود الى منى فيقضي بقية مناسكه من الرمي وغير ذلك.

وأما القارن فهو الذي يحرم من الميقات ويقرن باحرامه سياق الهدى ويمضي الى عرفات ويقف بها ويعود إلى المشعر فيقف «بها ويجيء منها يوم النحر فيقضي مناسكه» (١) ثم يجيء الى مكة فيطوف بالبيت ويصلي عند المقام ويسعى بين الصفا والمروة ويطوف طواف النساء ، فقد قضى مناسكه كلها من الحج فحسب دون العمرة. والمفردة مثل ذلك إلا انه لا يقرن باحرامه سياق الهدي وباقي المناسك فيهما سواء ويجددان التلبية عند كل طواف ثم يخرج الى التنعيم أو أحد المواضع

__________________

(١) العبارة سقطت من أ.


التي يحرم ها فيحرم من هناك بالعمرة ويرجع الى مكة فيطوف بالبيت ويصلي عند المقام ويسعى بين الصفا والمروة ثم يطوف طواف النساء ويقصر من شعر رأسه ، وقد ادى عمرته فتكون عمرته مفردة. ونحن نبين فصلا فصلا من ذلك ان شاء الله تعالى.

فصل ـ ٢ ـ

في ذكر المواقيت

المواقيت التي يحرم منها ثلاثة منها لأهل العراق يجمعها اسم العقيق. أولها المسلخ واوسطها غمره ، وآخرها ذات عرق. وأفضلها الأول ودونه الأوسط وأدونها الأخير ، «ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما فان تجاوز متعمدا لزمه الرجوع إليها فان لم يمكنه بطل حجه» (١) وإن تجاوزه ناسيا أو لعذر رجع مع الإمكان فان لم يمكنه أحرم من موضعه وقد اجزأه.

وميقات أهل المدينة ذو الحليفة وهو مسجد الشجرة وعند الضرورة الجحفة. ولأهل الشام الجحفة وهي المهيعة ولأهل الطائف قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم. ومن كان منزله وراء الميقات فميقاته منزله. ولا يجوز الإحرام قبل الميقات فان احرم قبله لم ينعقد إحرامه.

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من أ.


فصل ـ ٣ ـ

في الاحرام وكيفيته وشروطه

الإحرام شرط في صحة الحج على ما قلناه ومن تركه متعمدا لا حج له. ولا يصح الإحرام بالحج على اختلاف أنواعه إلا في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة. وأما الإحرام بالعمرة المفردة فيصح في سائر السنة أي وقت شاء. والاحرام لا ينعقد إلا بنيته أولا والاستمرار عليها حكما. ويستحب الغسل عند الإحرام وإزالة الشعر والوسخ من بدنه الا شعر رأسه فانه لا يمسه من أول ذي القعدة. ثم يصلي ويلبس ثوبي إحرامه يتزود بأحدهما ويرتدي بالآخر. ويصلي ركعتي الاحرام. فان صلّى ست ركعات كان افضل وإن كان عقيب فريضة كان أفضل. ثم يحرم عقيب الصلاة فيقول : اللهم اني أريد ما أمرت به من التمتع بالعمرة الى الحج على لسان نبيك. وإن كان مفردا أو قارنا ذكر ذلك في دعائه. أحرم لك شعري وبشري وجلدي وعظمي من النساء والطيب وجميع ما نهيتني عنه في حال الاحرام ابتغي بذلك وجهك والدار الآخرة. اللهم ان لم تكن حجة فعمرة. وإن اضاف الى ذلك غيره من الدعاء كان أفضل. ثم يلبي فرضا واجبا فيقول : لبيك اللهم لبيك ان الحمد والنعمة والملك لك لبيك لحجة وعمرة او حجة مفردة تمامها عليك لبيك.


وان أضاف الى ذلك الفاظا مقرونة (١) به من التلبية كان أفضل والتلبية بها ينعقد الاحرام ويقوم مقامها اشعار الهدي. وتقليدها لمن كان معه هدي وهو ان يشعر سنامها ويلطخه بالدم ويعلق في رقبتها فعلا كان يصلي فيه. والأخرس فينعقد إحرامه بالايماء فاذا عقد احرامه ومشى خطوات رفع صوته بالتلبية ويكون على التلبية في كل وقت الى ان يشاهد بيوت مكة ان كان متمتعا فعند ذلك يقطع التلبية وان كان معتمرا عمره مفردة فحين تضع الإبل اخفافها في الحرم.

وينبغي ان يتجنب في احرامه الطيب كله واكل طعام يكون فيه طيب ولا يلبس مخيطا وان يكشف رأسه ومحمله ولا يتزين بزينة ولا يصيد ولا يأكل لحم صيد ولا يقتل صيدا ولا يدل على صيد ولا يدهن بشيء من الأدهان طيبا وغير طيب ولا يزوج ولا يجامع ولا يباشر النساء بشهوة ولا يلمسهن ولا يقبلهن وتكون ثيابه مما تجوز الصلاة فيها وأفضلها القطن المحض. ولا يقتل الجراد ولا يرتمس في الماء. والمرأة تسفر عن وجهها ويجوز لها لبس المخيط. ولا يقطع شجرا بنت في اثرم الأشجر الفواكه ولا تكسر بيض صيد ولا يأكل لبه ولا يذبح فرخا ولا يلبس الخفين ولا يستر القدم. ويجتنب الفسوق وهو الكذب والجدال وهو قول لا والله وبلى والله والرفث وهو الجماع ولا ينحى عن نفسه شيئا من «القمل ولا يقبض على انفه من رائحة كريهة ولا يقص شيئا من» ٢ شعره ولا اظفاره ولا يلبس سلاحا

__________________

(١) ح : مروبة.


إلا عند الضرورة ويكره له لبس الثياب المصبوغة والنوم عليها ولبس الثياب المعلمة ولبس حلى لم تجر عادته بلبسه ولا يجوز للمرأة لبسه ويكره استعمال الحلى والكحل ولا تلتفت المرأة ولا تنظر في المرآة ، ولا يحك جسمه حكا يدميه ويكره له دخول الحمام وما تلزم من الكفارات لمخالفة ذلك قد بيناه في النهاية وغيرها من كتبنا فلا نطول بذكره.

فما يلزمه من الكفارات في احرامه بالحج على اختلاف ضروبه فلا ينحره إلا بمنى. وما يلزمه في احرام العمرة المفردة (١) لا ينحره إلا بمكة قبالة البيت بالحرورة فيلزم المحل بالحرم القيمة والمحرم في الحل الجزاء والمحرم في الحرم الجزاء والقيمة حسبما بيناه في النهاية.

والجماع ان كان بالفرج قبل الوقوف بالمشعر فانه يفسد الحج ووجب عليه اتمامه والحج من قابل وإن كان بعد الوقوف بالمشعر أو كان فيما دون الفرج كان عليه الكفارة ولم يلزمه الحج من قابل ومن فعل ذلك في العمرة المفردة تممها وكان عليه قضاؤها من الشهر الداخل.

فصل ـ ٤ ـ

في دخول مكة والطواف بالبيت (٢)

يستحب الغسل عند دخول الحرم. وتطييب الفم بمضغ شيء من

__________________

(١) ح : بيان.

(٢) ما بين القوسين سقط من أ.


الإذخر أو غيره. وإذا أراد دخول مكة اغتسل أيضا منه ويكون دخوله من اعلاها ويمشي حافيا على سكينة ووقار. ويستحب أيضا الغسل عند دخول المسجد الحرام وأن يدخل من باب بني شيبة ويصلي على النبي وآله عليهم‌السلام. ويسلم عليه عند الباب ويدعو بما أراد وان دعا بما روى فيه كان أفضل ويكون حافيا وإذا أراد الطواف فينبغي ان يبتدأ أولا بالحجر الأسود ويطوف سبعة أشواط ويكون على طهر ويستحب ان يستلم الحجر في كل شوط ويقبله ان أمكنه وإلا مسه بيده وقبل يده وإن لم يمكنه أومى بيده إليه. ويدعو عند الاستلام ويدعو عند الطواف وان يقرأ القرآن ويلزم المستجار ويضع خده وبطنه عليه ويدعو عنده. ويستحب أيضا استلام الأركان كلها خاصة الركن اليماني ومتى فرغ من الطواف على ما قدمناه يصلي بالمقام ركعتين أو حيث بقرب منه ومن زاد في طواف الفريضة عامدا اعاده واذا شك فلا يدري كم طاف اعاد وان شك بين الستة والسبعة والثمانية اعاد ومن نقص طوافه ثم ذكر اتمه ولا شيء عليه فان رجع الى بلده أمر من يطوف منه ذلك. ومن شك بين السبعة والثمانية قطع الطواف ولا شيء عليه ومن شك فيما دون السبعة (١) بنى على الأقل ومن زاد في الناقلة تمم اسبوعين. ويكره الجمع بين الطوافين في الفريضة. ويجوز ذلك في النوافل والافضل كلما طاف سبعا ان يصلي عند المقام ركعتين ثم يطوف كذلك ما شاء على هذا الترتيب فاذا فرغ من طوافه ينبغي.

__________________

(١) سقط من ح.


فصل ـ ٥ ـ

في السعي واحكامه (١)

ان يخرج الى الصفا فاذا أراد الخروج الى السعي بين الصفا والمروة فينبغي أولا ان يستلم الحجر ويقبله وينصرف فيأتي زمزم ويشرب من مائه ويصب شيئا منه على بدنه. ويجتهد ان يكون ذلك من الدلو المقابل للحجر «وليخرج من الباب المقابل الحجر» (٢). ثم ليصعد الى الصفا ويستقبل القبلة ويقول لا إله إلا الله وحدة لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ويدعو الله ويحمده ويصلي على النبي (ص) ثم ليطف بين الصفا والمروة سبع مرات يبدأ بالصفا ويختم بالمروة فاذا بلغ الى المسعى فليسع فيه مهرولا راكبا كان أو ماشيا وذلك على الرجال دون النساء. والمشي أفضل من الركوب. وكلما جاء الى المروة وقف عندها ويدعو الله وكذلك اذا جاء الى الصفا مثل ذلك ويدعو ما بينهما ويقرأ القرآن. والأفضل ان يكون على طهر وليس ذلك من شرطه ومن زاد في السعي شوطا متعمدا اعاد ومن سعى ثماني مرات ناسيا

__________________

(١) سقط من أ ، وترك محله فارغا.

(٢) زاد في ح : في النافلة.


وهو عند المروة أعاد لأنه بدأ بالمروة «وهو لا يدري» (١) ومن لم يدر كم سعى أعاد. ومن زاد شوطا (٢) وقد بدأ بالصفا طرح الزيادة وإن تمم أسبوعين كان جائزا ومن سعى تسع مرات وهو عند المروة لم يعد. ومن نقص شوطا أو ما زاد عليه ثم ذكر تمم ولم يعد فاذا فرغ من السعي قصر من شعر رأسه ولحيته وقص (٣) من أظافره. ولا يحلق رأسه في هذه الأحوال فان حلقه كان عليه (٤) ويمر الموسي على رأسة يوم النحر وإن نسي التقصير حتى يحرم بالحج كان عليه دم.

فاذا فعل ذلك فقد أحل من كل شيء احرم منه إلا الصيد لكونه في الحرم ويستحب له ان يتشبه بالمحرمين ولا يلبس المخيط.

فصل ـ ٦ ـ

في ذكر الاحرام بالحج

إذا أراد الاحرام بالحج فينبغي ان يكون ذلك يوم التروية عند الزوال فان لم يمكنه أحرم في الوقت الذي يعلم انه يلحق الوقوف بعرفات. وكيفية الاحرام وشروطه وأفعاله مثل ما قدمناه في احرام

__________________

(١) سقط من (ح).

(٢) في ح بدلها : ناسيا.

(٣) ح : أو يقص.

(٤) سقط من الاصل كلمة : دم.


العمرة سواء. غير انه يذكر في دعائه الحج فقط فان العمرة قد انقضت (١) ويقطع التلبية يوم عرفه عند الزوال فان سها (٢) أحرم بالعمرة اجزأه ذلك بالنية إذا أتى بأفعال الحج فان نسي الإحرام حتى يحصل بعرفات أحرم بها فان لم يذكر حتى يقضي مناسكه كلها لم يكن عليه شيء.

فصل ـ ٧ ـ

«في نزول منى» (٣)

يستحب للإمام ان يصلي الظهر والعصر يوم التروية بمنى ومن عداه لا يخرج من مكة حتى يصلي الظهر والعصر بها وينبغي للإمام ان لا يخرج من منى إلا بعد طلوع الشمس من يوم عرفه وغير الامام يجوز له الخروج بعد (٤) طلوع الفجر ويجوز للعليل والكبير الخروج قبل ذلك. ويستحب الدعاء في طريق عرفات وينبغي ان يصلي الظهر والعصر بعرفات يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين. ويقف إلى غروب الشمس يدعو الله ويثني عليه. ويصلي على النبي (ص) ويدعو لنفسه ولإخوانه

__________________

(١) ح : مضت.

(٢) سقطت من أ.

(٣) سقط من أ.

(٤) في أ : قبل.


المؤمنين. وينبغي ان يكون نزوله ببطن عرفه ولا يقف تحت الاراك فاذا غربت الشمس أفاض منها الى المشعر فان أفاض قبل ذلك متعمدا لزمه دم بدنه. ولا يصلي المغرب والعشاء الآخرة إلا بالمشعر الحرام. ويبيت بها تلك الليلة في الدعاء وقراءة القرآن. ويستحب للضرورة ان يطأ المشعر ولا يجوز للامام ان يخرج من المشعر الحرام إلا بعد طلوع الشمس وغير الامام يجوز له بعد طلوع الفجر غير انه لا يجوز وادي محسر إلا بعد طلوع الشمس. ومن خرج قبل طلوع الفجر مختارا لزمه دم شاة ورخص في ذلك المرأة والخائف والمضطر الخروج قيل طلوع الفجر ، ويستحب السعي في وادي محسر.

فصل ـ ٨ ـ

«في نزول منى والمناسك بها» (١)

أول ما يبتدئ الحاج بمنى يوم النحر أن يرمي جمرة العقبة (٢) سبع حصيات يرميهن حذقا. يضع كل حصاة على باطن إبهامه ويدفعها بظفر سبابته. وينبغي ان يلتقط الحصا ولا يكسرها. ويستحب ان تكون برشا ولا يرمي بغير حصاة. وإن كان على طهارة فهو أفضل. ويجوز الرمي على غير وضوء ويرمي الجمرة (٣) من قبل وجهها.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ح : العظما. كذا.

(٣) سقطت من أ.


وينبغي ان يكون بينه وبين الجمرة عشرة أذرع إلى خمسة عشر ذراعا ويدعو عند الرمي فيقول اللهم هذه حصياتي فاحصهن لي وزدهن في عملي. ولا يجوز أقل من سبع فاذا فرغ من ذبح الهدي «إن كان متمتعا وهو واجب عليه وإن كان قارنا أو مفردا أيستحب له ان يضحي ومن شرط الهدي» (١) إن كان من البدن ان يكون اناثا ويكون ثنيا فما فوقه وهو ما تم له خمس سنين ودخل في السادسة وإن كان من البقر يكون أنثى ويكون ثنيا وهو الذي دخل في السنة الثانية وإن كان من الغنم يكون فحلا من الضأن يمشي في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد. فان لم يجد من الضأن جاز التيس من المعز. ولا ولا يجوز ناقص الخلقة ومع الاختيار لا يجزي واحد إلا عن واحد. ومن الضرورة يجزي واحد عن خمسه وعن سبعة وعن سبعين. وينبغي ان يكون مما قد عرفت (٢). ولا يجوز ذبحه إلا بمنى ويستحب ان يتولى ذبحه بيده وإلا جعل يده مع يد الذابح. ويقول : وجهت وجهي للذي فطر السماوات إلى آخر الآية ، ويقسمه ثلاثة أقسام : قسم يأكله وقسم يهديه وقسم يتصدق به. وإن كان نائبا عن غيره ذكره (٣) عند الذبح وإن نوى عنه ولم يذكره أجزأه. وإن لم يجد الهدى ووجد ثمنه خلف ثمنه عند الثقة ليشتريه ويذبح عنه في بقية ذي الحجة.

__________________

(١) العبارة بطولها سقطت من أ. والوارد فيه : ويستحب ان كان من البدن ..

(٢) ح : عرفت به.

(٣) سقطت من.


ومتى عجز عن ثمنه صام بدله «ثلاثة أيام في الحج يوم التروية ويوم عرفه فان فاته صام» (١) ثلاثة أيام بعد انقضاء أيام التشريق وإن خرج من مكة صام ثلاثة أيام في الطريق (٢) في ذي الحجة والسبعة إذا وصل إلى أهله. فان اقام بمكة صبر شهرا ثم صام السبعة أيام. والاضحية قد بينا انها مسنونة شديدة الاستحباب وشروطها شروط الهدي سواء. ويجوز ذبح الهدي طول ذي الحجة والأضحية يجوز ذبحها بمنى يوم النحر «وثلاثة أيام بعده فاذا مضت فقد فات وقت الأضحية وفي الأمصار يوم النحر» (٣) ويومان بعده فاذا خرجت فقد فات وقتها. وإن كان وجب عليه هدي في كفارة أو نذر وكان حاجا ذبحه بمنى وإن كان معتمرا ذبح بمكة ولا يأكل من هدى الكفارة ولا يخرجه من مكة ولا يذخره إلا ان يقيم عوضه فيتصدق به. ويجوز ذلك في هدي التمتع والأضحية فاذا فرغ من الذبح حلق رأسه وان كان صرورة ولا يجوز غير الحلق وغير الصرورة يجزيه التقصير والحلق أفضل. وان نسي حتى خرج من منى ، رجع إليها وحلق بها فان لم يمكنه حلق موضعه وبعث شعره الى منى ليدفن هناك وان لم يمكنه دفنه مكانه.

وليس على النساء حلق ويجزيهن التقصير ويأمر الحلاق بناصيته فيحلق رأسه إلى الأذنين. ويدعو عند الحلق فيقول : اللهم اعطنى

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) زاد في ح : لأنها.

(٣) سقط من أ.


بكل شعره نورا يوم القيامة فاذا فرغ من الحلق مضى من يومه إلى مكة لزيارة البيت وطواف الحج فان لم يفعل مضى من الغد. ولا يؤخر أكثر من ذلك مع الاختيار فان كان مفردا أو قارنا جاز له تأخيره إلى بعد انقضاء أيام التشريق فاذا جاء الى مكة فعل عند دخول المسجد والطواف مثل ما فعله يوم قدم مكة سواء ويطوف أسبوعا ويصلي ركعتين عند المقام ثم يخرج الى الصفا فيسعى بينه وبين المروة سبع مرات كما فعل أول سواء. فاذا فعل ذلك فقد حل من كل شيء احرم منه إلا النساء ثم يطوف طواف النساء أسبوعا آخر ويصلي ركعتين عند المقام. وقد حلت له أيضا النساء.

فاذا فرغ من ذلك عاد الى منى وقام بها أيام للتشريق ولا يبيت ليالي منى إلا بها فان بات بغيرها كان عليه لكل ليلة شاة ويرمي كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بإحدى وعشرين حصاة كل جمرة سبع حصيات على ما وصفناه سواء يبدأ بالجمرة الأولى ويرميها عن يسارها ويكبر ويدعو عندها ثم الجمرة الثانية «ثم الثالثة» (١) مثل ذلك (٢) ولا يقف عندها. ويجوز ان ينفر في النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق فاذا أراد ذلك دفن حصاة يوم الثالث ومن فاته رمي قضاه من غد ذلك (٣) اليوم عند الزوال ومن نسي رمي الجمار حتى جاء الى مكة عاد الى منى ورماها. فان لم يذكر فلا شيء عليه وينبغي

__________________

(١) سقط من ح.

(٢) زاد في ح : سواء.

(٣) في ح هكذا : من الغد بكرة ويرمي ما لذلك اليوم.


ان يرتب الرمي يبدأ بالجمرة القصوى (١) أولا ثم بالوسطى ثم بجمرة العقبة فان رماها منكوسة أعاد ويجوز الرمي عن العليل وعن المغمى عليه وعن الصبي. وينبغي ان يكبر عقيب خمس عشرة صلاة بمنى. أولها صلاة الظهر يوم النحر وآخرها الفجر من «الثالث من أيام التشريق ، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات أولها الظهر من يوم النحر وآخرها صلاة الفجر من يوم» (٢) الثاني من التشريق ، ولا ينفر في النفر الأول «إلا بعد الزوال. وفي الثاني يجوز قبل الزوال ولا يجوز للإمام ان ينفر في النفر الأول» (٣) ويستحب ان يعود الى مكة لوداع البيت وطواف الوداع. ويدخل في طريقه مسجد الحصبة ويستلقي فيه على قفاه ويصلي فيه وكذلك مسجد الخيف وهو مسجد منى ويستحب للصرورة دخول الكعبة والصلاة في أربع زواياها وبين الأسطوانتين وعلى الرخامة الحمراء وغير الصرورة يجوز له ان لا يدخلها ولا يبصق ولا يمتخط إذا دخلها فاذا أراد الخروج من مكة ودع البيت وخرج من باب الخياطين ويسجد في باب المسجد ويدعو مستقبل الكعبة وينبغي ان يشتري له بدرهم تمرا يتصدق به ليكون جبرانا (٤) لما لعله دخل عليه من تقصير من إحرامه.

__________________

(١) ح : العظمى.

(٢ ـ ٣) ما بين القوسين سقط من أ.

(٤) أ : له خيرات.


فصل ـ ٩ ـ

«في العمرة المفردة» (١)

العمرة فريضة مثل الحج وشرائط وجوبها شرائط وجوب الحج وعمرة الاسلام مرة واحدة وما يجب بالنذر والعهد فبحسبها ومتى تمتع بالحج سقط عنه وجوبها وفرضها وان حج قارنا أو منفردا اتى بالمفردة (٢) بعد الفراغ من مناسك الحج الى التنعيم أو مسجد علي ابن الحسين عليهما‌السلام أو مسجد عائشة يحرم من هناك ويعود إلى مكة فيطوف بالبيت ويصلى عند المقام ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر شعر رأسه ثم يطوف طواف النساء وقد أحل من كل شيء احرم منه ويجوز العمرة في كل شهر واقله في كل عشرة ايام.

فصل ـ ١٠ ـ

«في ذكر مناسك النساء» (٣)

الحج واجب على النساء كوجوبه على الرجال. وشروط وجوبه

__________________

(١) العنوان سقط من أ.

(٢) ح : بالعمرة.

(٣) العنوان سقط من أ.


عليهن مثل شروط وجوبه على الرجال سواء بلا زيادة ولا نقصان وليس من شرط وجوبه عليهن وجود محرم ولا طاعة للزوج على المرأة في حجة الإسلام ، ويجوز لها خلافه ولا يجوز لها حج التطوع إلا باذنه وكلما يلزم الرجال بالنذر من الحج والعمرة يلزم مثله النساء ويستحب ان لا تخرج إلا مع محرم أو زوج فان لم تجد خرجت مع ثقات المؤمنين وان حاضت وقت الإحرام فعلت ما يفعله المحرم وتؤخر الصلاة والغسل ومتى حاضت قبل طواف العمرة وفاتها ذلك بطلت متعتها وجعلت حجة مفردة وتقضى العمرة فيما بعد فان حاضت في خلال الطواف وكانت طافت أربعة أشواط تركت بقية الطواف وقضتها بعد ذلك وتسعى وتقصر وقد تممت متعتها وإن طافت ثلاثة أشواط أو أقل فقد بطلت متعتها وتجعلها حجة مفردة. ومتى طهرت من الحيض عند عودها جاز لها تقديم طواف الحج وطواف النساء قبل الخروج الى عرفات والمستحاضة يجوز لها الطواف بالبيت إذا فعلت ما نفعله المستحاضة وتصلي عند المقام والحائض اذا أرادت وداع البيت ودعت من باب المسجد ولا تدخل على حال.


كتاب الجهاد

جهاد الكفار فرض في شرع الإسلام. وهو فرض على الكفاية إذا قام من في قيامه كفاية سقط عن الباقين ولوجوبه شروط أولها وجود امام عادل أو من نصبه امام عادل للجهاد ويكون من وجب عليه ذكرا بالغا كاملا صحيحا جسما حرا ولا يجوز ان يكون شيخا ليس به نهضة ولا له قدرة للجهاد.

ومتى اختل شرط من ذلك سقط فرضه إلا ما كان على وجه دفع العدو عن النفس والإسلام.

والمرابطة مستحبة وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما فاذا زاد على ذلك كان جهادا وتصير المرابطة واجبة بالنذر.

فصل ـ ١ ـ

«فيمن يجاهد من الكفار» (١)

كل من خالف الاسلام وانكر الشهادتين وجب جهاده وقتاله ثم هم ينقسمون قسمين أحدهما لا يرجع عنهم إلا ان يسلموا أو يقبلوا

__________________

(١) العنوان سقط من أ.


الجزية ويلزموا شرائط الذمة وهم اليهود والنصارى والمجوس وإذا قبلوا الجزية وضعها عليهم حسبما يراه مصلحة في الحال ويراه أيضا في حالهم من الغنى والفقر وليس لها حد محدود.

ولا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه وهو مخير أن يضعها على رءوسهم أو على أراضيهم فان وضعها على رءوسهم «لم يتعرض لأراضيهم ، وإن وضعها على أراضيهم لم يتعرض لرءوسهم إلا أن يقع الشرط ان يضع على أرضهم وبعضها على رءوسهم» (١) ومتى وضعها على أراضيهم فاسلموا سقطت عنهم الجزية وكانوا مثل المسلمين لزمهم العشر أو نصف العشر وتكون أملاكا في أيديهم. ومن وجب عليه الجزية فأسلم سقطت عنه ولا يؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين والبله والنساء وتؤخذ من الباقين وشرائط الذمة قبول الجزية وترك التظاهر بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر والزنا ونكاح المحرمات ومتى خالفوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من الذمة. ومن عدا الثلاث فرق يجب قتالهم الى ان يسلموا أو يقتلوا ونسبى ذراريهم وتؤخذ أموالهم ولا يؤخذ منهم الجزية بحال ولا يبدأ الكفار بالقتال حتى يدعوا الى الاسلام من التوحيد والعدل وإظهار الشهادتين والقيام بأركان الشريعة فان أبو ذلك كله أو بعضه وجب قتالهم وينبغي ان يكون الداعي الامام أو من يأمره الامام (ع) ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتال إلا القاء السم في بلادهم فان ذلك مكروه فان فيه هلاك من

__________________

(١) سقط من أ.


لا يجوز قتله من الصبيان والنساء والمجانين (١). ومن أسلم في دار الحرب كان اسلامه حقنا لذمته وجميع ماله الذي يمكن نقله الى دار الاسلام فأما ما لا يمكن نقله إلى دار الاسلام من العقارات والأرضين ففيء للمسلمين ويحكم على أولاده الصغار بالاسلام ولا يسترقون فأما البالغون منهم فلهم حكم نفوسهم.

فصل ـ ٢ ـ

في ذكر قسمة الغنيمة والفيء وكيفيتها وحكم الأسرى

كل ما يؤخذ في دار الحرب يخرج منه الخمس فيكون لأربابه والباقي على ضربين : ما يمكن نقله الى دار الاسلام فهو للقائم (ع) خاصة. وما لا يمكن نقله فهو لجميع المسلمين والذراري والسبايا للمقاتلة أيضا خاصة ويلحق بالذراري من لم ينبت ومن أنبت أو علم بلوغه ألحق بالرجال والأربعة اخماس بين المقاتلة.

وكل من حضر القتال وقاتل أو لم يقاتل يقسم (٢) الصبيان معه (٣). ومن يولد في تلك الحال قبل القسمة ومن لحق بهم معينا لهم (قسم لهم) (٤)

__________________

(١) سقطت من أ.

(٢) ح : ويقسم.

(٣) ح : معهم.

(٤) سقط من ح.


فان لحقوهم بعد القسمة فلا شيء لهم وليس للاعراب والعبيد شيء من الغنيمة.

وتقسم الغنيمة بين المقاتلة بالسوية لا يفضل بعضهم على بعض للشرف أو العلم أو الزهد إلا الفارس على الراجل فان للفارس سهمين وللراجل سهما فلو كان معه أفراس جماعة لم يسهم إلا لفرسين فقط وما يغنم منهم في المراكب قسم أيضا مثل ذلك للفارس سهمان وللراجل سهم.

فصل ـ ٣ ـ

«في الاسراء» (١)

الأسراء على ضربين : احدهما يؤخذ والحرب قائمة فهؤلاء الامام مخير فيهم بين ان يضرب رقابهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم ويتركوا حتى ينزفوا. والقسم الثاني : يؤخذون بعد تقضي القتال فالامام مخير فيهم بين أن يمن عليهم فيطلقهم أو يفاديهم ، أما بمال او نفس او يستعبدهم ومن أسلم من الفريقين كان حكمه حكم المسلمين غير أن من استرق منهم لا يصير حرا.

__________________

(١) العنوان سقط من ح.


فصل ـ ٤ ـ

الباغي هو كل من خرج على امام عادل وشق عصاه. فان على الامام ان يقاتلهم. ويجب على كل من يستنهضه الامام ان ينهض معه ويعاونه على قتالهم. ولا يجوز لغير الامام مقاتلتهم بغير اذنه. فاذا قوتلوا لا يرجع إلا ان يفيئوا الى الحق أو يقتلوا ولا يقبل منهم عوضا ولا جزيه.

والبغاة على ضربين : احدهما من له رئيس يرجعون إليه فهؤلاء يجوز ان يجهز على جرحاهم (١) ويتبع مدبرهم (٢) ويقتل اسيرهم. والآخر لا رئيس لهم فهؤلاء لا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يجوز سبي ذراري الفريقين ويغنم من أموالهم ما حواه العسكر وما لم يحوه فلا يتعرض له بحال.

والمحارب كل من أظهر السلاح واخاف الناس سواء كانوا في بر أو بحر أو سفر أو حضر فهؤلاء يجب قتالهم على وجه الدفع عن النفس والمال فان أدى إلى قتلهم لم يكن على القاتل شيء. واللص محارب وتفصيل ذلك بيناه في النهاية والمبسوط لا نطول بذكره هنا.

وقد امتثلت ما رسمه الشيخ الأجل أطال الله بقائه من ذكر جمل

__________________

(١) في ح : يجار على جراحاتهم.

(٢) سقطت من أ.


في كل باب. ولم اطول القول مملا (١) فيشق عليه ولا قصرت بالإتيان فيما يجب معرفته. وذكرت جملا من العبادات لا بد من معرفتها ليقع العمل بحسبها. ولم اطنب القول فيه فان كتبي في الفقه مشروحة كالنهاية وغيرها ومتى وقع نشاط لما زاد على القدر رجع إليها. وارجو ان يكون ذلك موافقا لغرضه ، ملائما لإيثاره. والله تعالى المشكور على توفيق (٢) خدمته والمسارعة الى امتثال مرسومه. وهو حسبي ونعم الوكيل. والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

__________________

(١) ح هكذا : القول فيه فيمله ويشق ...

(٢) ح : ما وفق من خدمته.

الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد

المؤلف:
الصفحات: 466