


بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين. والصلاة والسلام وعلى خاتم النبيين محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين
لهم بخير الى يوم الدين.
أما بعد
فهذا هو كتاب «الاربعين
فى أصول الدين» للامام فخر الدين الرازى. شيخ الاسلام محمد بن عمر بن الحسين ـ رضى
الله عنه ـ المتوفى فى مدينة «هراة» سنة ست وستمائة من الهجرة ، والمؤلف كان شافعى
المذهب ، أشعرى العقيدة. وكان مبدأ اشتغاله بالعلم على والده. الشيخ «عمر» الملقب
بضياء الدين ، وخطيب «الرى».
وقد ولد فى سنة
أربع وأربعين وخمسمائة فى مدينة «الرى».
وفى مخطوطة فى
مكتبة «طوبقابى» فى تركيا. رقم ١٣٦١ (١٣٧ ـ ١ ـ ١٣٧ ب) تنسب الى الشيخ نصير الدين
الطوسى عد المؤلف كتب الامام فخر الدين كما يلى :
١ ـ نهاية العقول
فى دراية الأصول ٢ ـ شرح الاشارات ٣ ـ المباحث المشرقية ٤ ـ الملخص ٥ ـ البراهين
البهائية ٦ ـ الأربعين فى أصول الدين ٧ ـ المحصول فى علم أصول الفقه ٨ ـ أحكام القياس الشرعى
__________________
٩ ـ الرسالة
الكمالية ١٠ ـ تعجيز الفلاسفة ١١ ـ السر المكتوم ١٢ ـ الخلق والبعث ١٣ ـ معالم
أصول الدين ١٤ ـ المسائل الخمسين ١٥ ـ تأسيس التقديس ١٦ ـ الجوهر الفرد ١٧ ـ الطب
الكبير ١٨ ـ شرح كليات القانون ١٩ ـ التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب ٢٠ ـ اسرار
التنزيل وانوار التأويل ٢١ ـ الخلافيات الصغيرة ٢٢ ـ الخلافيات الكبيرة ٢٣ ـ شرح
الوجيز ٢٤ ـ لباب الاشارات ٢٥ ـ المحصل فى علم الأصول ٢٦ ـ الرياض المؤنقة ٢٧ ـ المحرر
فى حقائق النحو ٢٨ ـ الاختيارات العلائية ٢٩ ـ اشارات النظام ٣٠ ـ مختصر الأخلاق
٣١ ـ أقليدس ٣٢ ـ الهيئة ٣٣ ـ عصمة الأنبياء ٣٤ ـ نهاية الايجاز ٣٥ ـ رسالة فى نفى
الجهة ٣٦ ـ مناقب الشافعى ٣٧ ـ تعزيز التقدير ٣٨ ـ لوامع البينات ٣٩ ـ رسالة فى
الهيولى ٤٠ ـ اللطائف الغياثية فى المباحث الالهية ٤١ ـ كتاب فى الحيز والأزل ٤٢ ـ
شرح سقط الزند ٤٣ ـ الآيات والبينات ٤٤ ـ شرح المصادرات لأقليدس ٤٥ ـ المنطق
الكبير ٤٦ ـ تتمة الأربعين ٤٧ ـ الجامع الكبير ٤٨ ـ الجامع الصغير ٤٩ ـ شرح النجاة
٥٠ ـ شرح الارشاد ٥١ ـ شرح عيون الحكمة ٥٢ ـ المطالب العالية من العلم الإلهي ٥٣ ـ
كتاب فى الرمل ٥٤ ـ كتاب الفراسة ـ ٥٥ ـ جامع العلوم ٥٦ ـ البراهين المحدثة ٥٧ ـ رسالة
فى اثبات المعراج الجسمانى.
بين الرازى وابن تيمية
وقد تعقب الامام ابن
تيمية ٨٢٧ ه ـ ١٣٢٦ م أهم كتب الامام فخر الدين العقائدية بالبيان والنقد. وذكر
فى صفحة ٢٢ من درء تعارض العقل والنقل أنه نقد محصل أفكار المتقدمين فى كتاب مفرد.
ويقال فى مجالس العلم : ان ابن زكنون الحنبلى وهو يشرح البخارى ، وضع نقد المحصل
لابن تيمية فى ثنايا شرحه ، خوفا من خصومه على الكتاب. وكتاب ابن زكنون يسمى
الكواكب الدرارى وهو فى المكتبة
الظاهرية بدمشق.
ونقد تأسيس التقديس فى كتاب مفرد ، ونقد مسائل من «شرح عيون الحكمة» فى «الرد على
المنطقيين»
وكتاب «الأربعين
فى أصول الدين» من الكتب القيمة فى علم الكلام وقد انتفع بما فيه كثيرون من أهل
العلم. منهم الشيخ «ابن تيمية» فقد جاء فى سيرته أنه كان يدرس «الاربعين» لطلاب
العلم. وقد جاء فى بعض كتبه عبارات منه للاستشهاد والنقد.
يقول عنه «ابن رجب»
فى ص ١٤ فى «العقود الدرية» : «ولازم الشيخ تقى الدين بن تيمية مدة
، وقرأ عليه قطعة من «الأربعين فى أصول الدين» للرازى» ا. ه
ومنهم الشيخ «ابن
الوزير» المتوفى سنة ٨٤٠ ه فى كتابه ايثار الحق على الخلق. يقول فى ص ٦٩ ـ ٧٠ ما
نصه : «ثم انه ظهر لنا فى حق نبينا صلىاللهعليهوسلم أمور كثيرة تميزه عن السحرة والمحتالين منها : ورود
البشارة به فى التوراة والإنجيل قال : «الرازى» فى كتابه «الأربعين» : والدليل على
ذلك : أنه ادعى أن ذكره موجود فيهما قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) وقال حكاية عن عيسى المسيح : (وَمُبَشِّراً
بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) وقال : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ومعلوم : أنه لو لم يكن صادقا فى ذلك ، لكان هذا من أعظم
المنفرات عنه لليهود والنصارى. ولا يمكن أن يقدم العاقل على فعل يمنعه من مطلوبه ،
ويبطل عليه مقصوده. ولا نزاع بين العقلاء أنه كان أعقل الناس وأحلمهم» ا. ه
وهذا الكتاب يذكر
مسائل فى أصول الدين قد اختلف فيها المسلمون الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة ،
وأهل السنة السلف منهم والخلف ، وغيرهم. وأدى اختلاف المسلمين الى ضعفهم بعد طول
زمان. كما يقول شوقى الشاعر :
اذا زرت ـ يا
مولاى ـ قبر محمد
|
|
وقبلت مثوى
الأعظم العطرات
|
وفاضت مع الدمع
العيون مهابة
|
|
لأحمد بين الستر
والحجرات
|
وأشرق نور تحت
كل ثنية
|
|
وضاع أريج تحت
كل حصاة
|
لمظهر دين الله
فوق تنوفة
|
|
وبانى صريح
المجد فوق فلاة
|
فقل لرسول الله
: يا خير مرسل
|
|
أبثك ما تدرى من
الحسرات
|
شعوبك فى شرق
البلاد وغربها
|
|
كأصحاب كهف فى
عميق سبات
|
بأيمانهم نوران
ذكر وسنة
|
|
فما ضرهم لو
يعملون لآتى؟
|
وذلك ماضى مجدهم
وفخارهم
|
|
فما بالهم فى
حالك الظلمات؟
|
وهذا زمان أرضه
وسماؤه
|
|
مجال لمقدام
كبير حياة
|
مشى فيه قوم فى
السماء وأنشئوا
|
|
بوارج فى
الأبراج ممتنعات
|
فقل : رب وفق
للعظائم أمتى
|
|
وزين لها
الأفعال والعزمات
|
وان أذكر أمثلة
على جدل عنيف بين المسلمين بسببه قطعت أرزاق وسفكت دماء. أذكر ما يلى :
نقد شيخ الاسلام
ابن تيمية يرحمهالله مؤلف هذا الكتاب فى أمرين :
أولهما : أن
المؤلف نصر المتصوفة
وثانيهما : أن
المؤلف أول يد الله بقدرته ، وغضبه واستحيائه ومكره بأنها صفات نسبها الله الى
نفسه ليقرب بها ذاته الى عقول الناس. وليس من يد جارحة ولا جسم ، وليس من مكان
لذات الله تعالى. بل الله فى كل مكان بعلمه. لا بذاته.
وشيخ الاسلام ابن
تيمية رد عليه بأن الدين عند الله الاسلام وليس التصوف. والّذي يأتى للمريد ويقول
له : أنا شيخك. ليس هو «الشيخ» وانما هو «شيطان» تمثل به. والأحلام لا تدل على «الشيخ»
حقيقة ، فانها صور تتراءى. وحقائق الأشياء فى مكانها
ثابتة لا تنتقل.
فمن يرى نهرا أو شجرا أو أسدا فى حلم الليل لم ير النهر الحقيقى أو الشجر أو الأسد
، وانما رأى صورا. وكذلك «الشيخ» مع مريديه ، لم يكن معهم حقيقة فى حلم الليل ،
حتى يدعوا أنهم وصلوا ، وصارت لهم مقامات ودرجات عاليات.
ورد عليه فى صفات
الله تعالى بأن الله ليس كمثله شيء. ولا نقول هو جسم. وانما نقول : هو إله واحد ،
فوق عرشه مستوى. وله يد ـ كما قال ـ لا نعلم كيفيتها. وكل صفة أوردها عن نفسه فى
القرآن ، نقر بها ـ كما نطق بها ـ بلا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل.
هذا هو الفرق بين
الشيخين العظيمين الجليلين. وهما مسبوقان بما قالا. فابن تيمية أخذ من «ابن خزيمة»
وغيره. والرازى أخذ عن ائمة معروفين ، منهم الأشعرى والشيعى والمعتزلى والسلفى
المتأخر. الّذي يقال عنه انه من أهل الخلف.
وقد قال الشيخ
محمد أبو زهرة عن مذهب الشيخ ابن تيمية فى صفات الله تعالى : ان مذهبه محير.
والشيخ محمد لم يقل حقا. فان مذهبه واضح ، وله أتباع يفسرونه ويقنعون به. انه يقول
: ان الله تعالى كلم موسى عليهالسلام فى جبل طور سيناء. والمتكلم هو الّذي يفعل الكلام. والّذي
يفعل الكلام ذات. وقد تجلت حقيقة لجبل طور سيناء ولما تجلت الذات صار الجبل دكا من
هيبتها. فهو أثبت ذاتا ، وأثبت لها تجليا ، وأثبت لها كلاما. وأكد أن الذات تتجلى
من قوله تعالى : («هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ)؟ فقد منع التأويل بمجيء أمره ، من التنويع المذكور ، فان
الملائكة قد تأتى بالأمر.
وأكد الشيخ ابن
تيمية مذهبه بقوله : ان آيات الصفات فى القرآن تؤخذ على ظاهرها بدون تأويل. فاليد
فى قوله (يُرِيدُ اللهُ) هى يد ، وكيفيتها مجهولة. لقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ») هذا هو مذهب الشيخ
ابن تيمية وهو
واضح. ولو أن أصحاب المذهب صرحوا بالمجاز فى لغة العرب ، لما وجد هذا المذهب من
يعارضه. بشدة وهو ليس بمحير فى فهمه. وان كان غير مستقيم حين يتحتم التأويل ولا
يكون منه مفر.
فقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ
إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) نص فى ظاهره على صحة المذهب ، وقوله تعالى : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) يلزمه تأويل المعية بالنصر والتأييد.
وغيره من الكرامية
قالوا : ان المتكلم ذات. ولا بد للمتكلم من مكان يتكلم منه. فنحن نثبت لله جسما
لأنه متكلم ، ونثبت له مكانا هو فوق العرش. لأنه هو اللائق به. ولأنه قال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ؟) ولكن نؤول «يد الله» بقدرته. ونسيانه باهماله المنافقين. وعينه : بعلمه.
وهكذا ، لأن لغة العرب التى نزل بها القرآن فيها الحقيقة وفيها المجاز ، والعقل لا
يصدق أن سفينة نوح عليهالسلام قد جرت بعينيه ، ولا أن الله كان بجسمه فى الغار مع النبي صلىاللهعليهوسلم وأبى بكر رضى الله عنه.
والامام فخر الدين
الرازى وافق «الكرامية» على التأويل ، ولم يوافقهم على قولهم بأن الله جسم وهو فى
السماء. وقال : ان الله ليس جسما وليس له مكان. ولذلك قتلوه بالسم ـ كما جاء فى
بعض الروايات ـ
والمعتزلة لما
قالوا : ان الله ليس جسما وليس له مكان ، نفوا رؤية الله بالأدلة العقلية. ونفوها
بالأدلة القرآنية على طريقة المحكم والمتشابه. اما الرازى فقال : أنا غير قادر على
اثبات رؤية الله بالعقل. وذلك لانه يثبت الرؤية وفى الوقت ذاته ينفى الجسمية بكيف أو
بلا كيف. وقال : ان الرؤية لا تثبت الا بأدلة القرآن.
والخطا ليس فى
اختلاف الرأى. بل فى تفرق المسلمين الى أحزاب متعادية وفرق متناحرة ، بسبب اختلاف
الرأى. وقد تفرقوا وسب بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا. مع أنهم قد سمعوا قول الله
تعالى : (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) وسمعوا قول الله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) وزاد عليه بعضهم سفاهة : والنفس بالمخالفة فى الرأى. وهذا
لا يليق بأهل الاسلام. الذين هم خير أمة أخرجت للناس. ورسولها ليس رحمة لهم وحدهم
، بل لهم وللعالمين جميعا.
ولذلك. أرى اعادة
النظر فى «مناهج الأدلة» وذلك ليسهل على المسلمين أن يتحدوا وأن يتعاونوا. فأهل
التصوف طرائق قددا ، مثل الجن. وكل طريقة تدعى أنها هى الواصلة بالسلسلة الذهبية
الى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويحتقر بعضهم عبادة بعض. وهم وان اجتهدوا لن يعبدوا الله
مثل الملائكة ، الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وأدلتهم : اما احاديث آحاد ،
أو أقوال شيوخ ، أو رؤى منام.
كان النحس حين جرى عليهم
|
|
أطار بكل مملكة
غرابا
|
ولو حفظوا سبيلك
كان نورا
|
|
وكان من النحوس
لهم حجابا
|
بنيت لهم من
الاخلاق ركنا
|
|
فخانوا الركن
فانهدم اضطرابا
|
وأهل التشيع هم
والمتصوفون اخوة بعضهم أولياء بعض ، يقدسون أضرحة الموتى ويستغيثون بهم ، وهم فرق
لا يحدها حد ، ولا يحيط بها عد. وكل فرقة تقتدى بشيخ حي. واذا مات زينت قبره وعظمت
قدره. وأدلتهم : من مشايخهم أحيانا ، وأحيانا من أحاديث نبوية ، قالوا : انها
مروية عن آل البيت رضوان الله عليهم.
__________________
فلو أننا أعدنا
النظر فى «مناهج الأدلة» واكتفينا بالقرآن الكريم ، وبالسنة النبوية المفسرة
للقرآن الكريم. أما القرآن فلأن الله قال فيه : (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) والرسول قد آتى بالقرآن ، وأتى بالسنة المفسرة ، لقوله
تعالى فى القرآن : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ ، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) لو أننا اكتفينا بهذين الأصلين العظيمين ، لسهلنا على
المسلمين أن يتحدوا وأن يتعاونوا ، ولقللنا من عدد الفرق ، والأحزاب ، ولسهلنا على
غير المسلمين الدخول فى دين الاسلام. واذا قل الخلاف وقل الكلام ، كثر العمل ،
وعمرت الدنيا ونعم المسلمون بالخير.
وقد ارتد نصرانى من أهل خراسان عن نصرانيته الى الاسلام ، ثم رجع الى دينه
، فحمل الى الخليفة «المأمون» حتى وافاه ـ «العراق» وسأله عن رجوعه الى النصرانية.
فقال له : أوحشنى ما رأيت من الاختلاف فيكم. فقال له المأمون : لنا اختلافان :
أحدهما. كالاختلاف
فى الأذان وتكبير الجنائز والاختلاف فى التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه
الفتيا ، وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف انما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة.
فمن أذن مثنى وأقام مثنى ، لم يؤثم. ومن أذن مثنى وأقام فرادى ، لم يحوب. لا
يتعايرون ولا يتعايبون. أنت ترى ذلك عيانا. وتشهد عليه تبيانا.
والاختلاف الآخر :
كنحو اختلافنا فى تأويل الآية من كتابنا وتأويل الحديث عن نبينا ، مع اجماعنا على
أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر.
فان كان الّذي
أوحشك هو هذا ، حتى أنكرت من أجله هذا
__________________
الكتاب ، فقد
ينبغى أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقا على تأويله ، كما يكون متفقا
على تنزيله ، ولا يكون بين جميع النصارى واليهود اختلاف فى شيء من التأويلات.
وينبغى لك ألا ترجع الا الى لغة ، لا اختلاف فى تأويل ألفاظها. ولو شاء الله أن
ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج الى تفسير ، لفعل. ولكنا لم نر
شيئا من الدين والدنيا ، دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى
والمحنة ، وذهبت المسابقة والمنافسة ، ولم يكن تفاضل. وليس على هذا بنى الله
الدنيا.
فقال النصرانى :
أشهد أن الله واحد. لا ند له ولا ولد ، وأن المسيح عبده ، وأن محمدا صادق ، وأنك
أمير المؤمنين حقا». ا ه
هذا شيء ذكرته
كدليل على نظرة غير المسلمين الى دين الاسلام.
وفى زمان المأمون
أمير المؤمنين ظهرت جماعة فى المسلمين تقول : ان القرآن كان مع الله فى الأزل وانه
لقديم قدم الله. اذ هو كلامه. وظهرت جماعة تقول : انه مخلوق محدث. ولو كان خلافهم
كالخلاف فى «القرء» هل هو الحيض أو الطهر ، لكان خلافا هينا بسيطا ، كما قال
المأمون أمير المؤمنين رضى الله عنه للنصرانى المرتد. وانما كان خلافهم ضد معانى
آيات محكمات فى القرآن هى فى نظره واضحة الدلالة على المعنى المراد فى نظر العامى
والعالم. فلذلك عد القائلين يقدمه فى عداد المشاغبين والمرجفين فى المدينة.
«واحتج عليهم : بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) «وكل ما جعله الله
فقد خلقه.» وقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
__________________
وَالْأَرْضَ
، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وقال عزوجل : (كَذلِكَ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها ، وتلا به متقدمها. وقال
سبحانه : (الر. كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ. ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وكل محكم مفصل ، دخله محكم مفصل. والله محكم كتبه ومفصله ،
فهو خالقه ومبتدعة. وقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) فدل ذلك على احاطة اللوح بالقرآن ، ولا يحاط الا بمخلوق.
وقال لنبيهصلىاللهعليهوسلم : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وقال جل شأنه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) وقال تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم أنهم قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ) ثم أكذبهم على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم فقال لرسوله : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) وقال : (وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) فسمى الله تعالى القرآن ذكرا وايمانا ونورا وهدى ومباركا
وعربيا وجعل فيه قصصا ، فقال : (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) وقال جل وجلاله : (قُلْ : لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ،
لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) وقال تعالى : (قُلْ : فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) وقال سبحانه : (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) فجعل له أولا وآخرا ، ودل عليه أنه محدود مخلوق» ا. ه
هذا ما احتج به المأمون رضى الله عنه
على القول بأن القرآن مخلوق. فى الخطاب الّذي وجهه الى نائبه إسحاق بن ابراهيم فى
شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين.
ومنه يتبين أن
الرئيس الأعلى على المسلمين يجب أن يكون حافظا للقرآن وملما بمعانيه وحاثا على
العمل به. ومنه يتبين أن الخلافات المذهبية كانت فى المسلمين وكانت لهم سبب محنة.
ولذلك نرى اعادة
النظر فى «مناهج الأدلة» لتوحيد المسلمين ، فقد أخذوا دروسا من الماضى.
والله نسأل أن
يوفقنا لخدمة العلم والدين.
|
ا. د / أحمد حجازى أحمد السقا
درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر
فى موضوع : «البشارة بنبي الاسلام فى التوراة والإنجيل»
|
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[اللهم انفعنا بما علمتنا ، وعلمنا ما ينفعنا]
قال الامام حجة الاسلام ، فخر الدين أبو عبد الله : محمد ابن
عمر الرازى ـ برد الله مضجعه ـ :
سبحان المتفرد فى
قيوميته بوجوب الأزلية والبقاء ، المتوحد فى ديمومية ألوهيته بامتناع التغير
والفناء ، المتعالى بجلال هوية صمديته عن التركيب من الابعاض والاجزاء ، المنزه
بسمو سر مديته عن مشاكلة الأشباه ومماثلة الأشياء ، والعالم الّذي لا يعزب عن علمه
مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.
المحسن الّذي لا
تنقطع موائد كرمه عن عبيده فى طورى السراء والضراء ، وحالتى الشدة والرخاء ،
الجليل الّذي غرقت فى بحار جلاله غايات عقول العقلاء ، العظيم الّذي تضاءلت فى
سرادقات كما له نهايات علوم العلماء ، الكريم الّذي تجاوزت أنواع آلائه ونعمائه عن
التحديد والاحصاء ، الحكيم الّذي تحيرت فى كيفية حكمته فى خلقة أصغر ذرة من ذرات
مبدعاته ومكوناته : ألباب الألباء ، وحكمة الحكماء.
أحمده على ما أعطى
من النعماء ، ورفع من البلاء.
__________________
وأشهد أن لا إله
الا الله ، وحده لا شريك له شهادة أتوسل بها الى رحمته يوم اللقاء فى دار البقاء ،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء ، وسيد الأصفياء والأتقياء. صلىاللهعليهوسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد
فان الله تعالى
لما وفقنى ، حتى صنفت فى أكثر العلوم الدينية ، والمباحث اليقينية : كتبا مشتملة على تقرير الدلائل والبينات ، والأجوبة عن الشكوك والشبهات
، أردت أن اكتب هذا الكتاب ، لأجل أكبر أولادى ، وأعزهم على «محمد» ـ رزقه الله
الوصول الى أسرار المعالم الحكمية والحكمية ، والاطلاع على حقائق المباحث العقلية
والنقلية أشرح فيه المسائل الالهية ، وأنبه على الغوامض العقلية. ليكون هذا الكتاب
دستورا له. يرجع في المضائق إليه ، ويعول عليه. وسميته : ب «الأربعين فى أصول
الدين».
والله سبحانه
وتعالى يوفقنا للصدق والصواب ، ويصون عقولنا عن الزيغ والارتياب. وبالله التوفيق.
__________________
المسألة الأولى
فى
حدوث العالم
اعلم : أنا اذا
ادعينا أن العالم محدث ، فلا بد وأن نعلم أن العالم ما هو؟ وأن المحدث ما هو؟ وأن
نعرف مذاهب الناس فى هذه المسألة ، حتى يمكننا أن نشرع بعد ذلك فى تقرير الدلائل.
فلا جرم وجب علينا قبل الخوض فى تقرير الدلائل ، تقديم ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى :
فى حقيقة العالم
قال المتكلمون :
العالم كل موجود سوى الله تعالى. وتحقيق الكلام فى هذا الباب : أن نقول : الموجود
على قسمين. وذلك لأن الموجود ، اما أن يكون من حيث هو هو غير قابل للعدم البتة ،
واما أن يكون من حيث هو هو قابلا للعدم. فالموجود الّذي تكون حقيقته من حيث هى هى غير
قابلة للعدم البتة ، فهو المسمى بواجب الوجود لذاته. وهو الله سبحانه وتعالى. وأما
الموجود الّذي تكون حقيقته من حيث هى هى قابلة للعدم ، فهو المسمى بممكن الوجود
لذاته وهو بحسب القسمة العقلية على ثلاثة أقسام : المتحيز ، والحال فى المتحيز ،
والّذي لا يكون متحيزا ولا حالا فى المتحيز.
أما القسم الأول وهو المتحيز. فاعلم أن المراد من المتحيز الّذي يمكن أن يشار إليه ،
اشارة حسية بأنه هاهنا أو هناك.
واذا عرفت حقيقة
المتحيز. فنقول : المتحيز اما أن يكون قابلا للقسمة ، واما أن لا يكون. فالمتحيز
الّذي يكون قابلا للقسمة هو المسمى
بالجسم. فعلى هذا
: الجسم ما يكون مؤلفا من جزءين فصاعدا. والمعتزلة يقولون : الجسم هو الّذي يكون
طويلا عريضا عميقا واقل الجسم انما يحصل من ثمانية أجزاء. وهذا النزاع لغوى لا
عقلى. وأما المتحيز الّذي لا يكون منقسما. فهو المسمى بالجواهر الفرد. والناس قد
اختلفوا فى اثباته. وسنذكر هذه المسألة على الاستقصاء. ان شاء الله تعالى.
وأما القسم الثانى من اقسام الممكن. وهو الّذي يكون حالا فى المتحيز. وتفسير الحلول هو : أن
الشيئين اذا اختص أحدهما بالآخر ، فقد يكونان بحيث تكون الاشارة الى أحدهما غير
الاشارة الى الآخر. مثل : كون الماء فى الكوز ، فان ذات الماء مباينة لذات الكوز ،
فى الاشارة الحسية ، الا أنهما متماسان بسطحيهما. وقد يكونان بحيث تكون الاشارة
الى أحدهما ، اشارة الى الآخر ، تحقيقا أو تقديرا. وهو مثل كون اللون فى المتلون.
فان اللون ليس له ذات مباينة عن ذات المتلون فى الاشارة الحسية ، بل الاشارة الى اللون نفس
الاشارة الى المتلون.
اذا عرفت هذا ،
فنقول : الشيئان اذا اختص أحدهما بالآخر على القسم الثانى ثم يكون احدهما محتاجا
فى وجوده الى الآخر ، ويكون الآخر غنيا فى وجوده عن الأول : يسمى المحتاج حالا ، والغنى
محلا. فان الجسم غنى فى وجوده عن اللون واللون محتاج فى وجوده الى الجسم. فلا جرم
قلنا : ان اللون حال فى الجسم ، والجسم محل اللون.
اذا عرفت معنى
الحلول. فنقول : كل ما كان حالا فى المتحيز ، فذلك الحال يسمى بالعرض. ثم نقول :
العرض قسمان : أحدهما الّذي
__________________
يمكن قيامة بغير
الحى. والثانى : الّذي لا يمكن قيامة بغير الحى. ويتدرج تحت كل واحد من هذين
القسمين : أنواع كثيرة ، لا يمكن استقصاء القول فيها فى هذا المختصر.
ويجب أن تعلم أن
أحد أنواع العرض ، الّذي يمكن قيامه بغير الحى : الأكوان. والكون : عبارة عن حصول
الجوهر فى الحيز. ويندرج تحت الكون : أربعة أشياء : الحركة. وهى عبارة عن الحصول
فى حيز ، بعد أن كان فى حيز آخر. والكون. وهو عبارة عن حصول الجسم الواحد ، فى حيز
واحد ، أكثر من زمان واحد. والاجتماع. وهو عبارة عن حصول المتحيزين فى حيزين ،
بحيث لا يمكن أن يتوسط بينهما ثالث. والافتراق. وهو عبارة عن حصول المتحيزين فى
حيزين يمكن أن يتوسط بينهما ثالث.
واعلم : أن
المشهور عند (جمهور المتأخرين) أن حصول الجوهر فى الحيز ، صفة معللة ، بمعنى قائم
فى الجوهر. وذلك المعنى يوجد ، كونه حاصلا فى ذلك الحيز. ثم انهم سموا حصول الجوهر
فى الحيز بالكائنية. وسموا المعنى الموجب للكائنية بالكون. وقالوا : هذا الكون علة
للكائنية.
وهذا القول عندنا
باطل. (وذلك لأن المعنى الّذي يوجب حصول الجوهر فى حيز معين. اما أن يتوقف صحة
قيامه بالجوهر ، على كون ذلك الجوهر حاصلا فى ذلك الحيز ، وأما أن لا يتوقف عليه. والأول
باطل. لأنا اذا عللنا حصول ذلك الجوهر فى ذلك الحيز بذلك المعنى ، كان حصول ذلك
الجوهر فى ذلك الحيز ، محتاجا الى قيام ذلك المعنى به. وقيام ذلك المعنى به. يكون
محتاجا الى حصول ذلك الجوهر فى ذلك الحيز. فيلتزم الدور. وهو محال.
والثانى أيضا
باطل. لأن على هذا التقدير ، يجوز حصول ذلك المعنى ، وعند ما لا يكون ذلك الجوهر
حاصلا فى ذلك الحيز. وذلك يقتضي جواز حصول العلة منفكة عن معلولها. وهو محال.
فتعين أن تعليل الكائنية بالمعنى ، يفضى الى أحد هذين الباطلين. والدليل عليه أنا بينا أن كون العرض قائما بالجوهر ، معناه حصول ذلك
العرض فى ذلك الحيز تبعا لحصول محله فيه. فلو كان حصول الجوهر فى ذلك الحيز معللا
بمعنى قائم به ، لكان حصول ذلك الجوهر ، فى ذلك الحيز ، تبعا لقيام ذلك المعنى ،
من حيث ان معلول تبع للعلة. فيلزمه كون كل واحد منهما تبعا للآخر. وهو محال (ولقائل
أن يقول : ان عنيت بالتوقف آخر الموقوف عليه : لا يلزم وهذه الحجة فيها بحث.
القسم الثالث من أقسام الممكنات : الشيء الّذي لا يكون متحيزا ، ولا يكون قائما بالمتحيز.
واعلم : أن جمهور الفلاسفة يثبتون هذا القسم. وجمهور المتكلمين ينكرونه. وأقوى
دلائل المنكرين : أن قالوا : لو حصل موجود سوى الله تعالى بهذه الصفة ، لكان ذلك
الموجود مساويا لذات الله تعالى ، فى أنه ليس بمتحيز ، ولا قائم بالمتحيز. ولو
حصلت المساواة فى هذه الصفة لحصلت المساواة فى تمام الماهية ولو حصلت المساواة فى
تمام الماهية ، لزم القول بأنه اما يكون الواجب ممكنا أو يكون الممكن واجبا. وكل
ذلك محال.
واعلم : أن هذه
الحجة ضعيفة. وذلك لأن الاستواء فى كونه ليس بمتحيز ولا حال فى المتحيز ، استواء
فى مفهوم سلبى. والاستواء فى المسلوب ، لا يوجب الاستواء فى الماهية. لأن كل
ماهيتين مختلفتين فلا بد وأن يتشاركا فى سلب كل ما عداهما عنهما واذا بطلت هذه
المقدمة ، سقطت هذه الحجة.
__________________
بل نقول :
الاستواء فى الصفات الثبوتية ، لا يوجب الاستواء فى الماهية. لأن المختلفين لا بدّ
وأن يتشاركا فى كون كل واحد منهما مخالفا للآخر. والضدان لا بد وأن يتشاركا فى كون
كل واحد منهما ضدا للآخر.
واذا عرفت ما
قلناه ، ظهر أنه لا يلزم من اثبات حدوث الأجسام والاعراض ، حدوث كل ما سوى الله
تعالى. وقد كان الأولون والآخرون من المتكلمين ، يكتفون فى هذا المطلوب بهذا
القدر. وبالله التوفيق.
المقدمة الثانية
فى حقيقة المحدث
وفيه بحثان غامضان
:
البحث
الأول : اعلم أن العبارات
، وان كثرت فى تفسير المحدث ، الا أن حاصلها يرجع الى نوعين من التعريف.
أحدهما : أن المحدث هو الّذي يكون مسبوقا بالعدم.
والثانى : أن المحدث هو الّذي يكون مسبوقا بالغير.
وللفلاسفة على كل
واحدة من هاتين العبارتين اشكال . أما العبارة الأولى فقالوا : التقدم والسبق والقبلية الى
غيرها من العبارات ، له خمسة أقسام :
أولها : تقدم العلة على المعلول. كتقدم المضىء على الضوء. وهذا التقدم ليس بالزمان. لأن جرم
الشمس لم ينفك قط عن النور. فههنا التقدم بالزمان ، منفى. مع أن العقل يقضى بأن
النور من الشمس ، وأن الشمس ليست من النور. وأيضا : العقل يقضى بأن حركة الخاتم
متفرعة على حركة الاصبع وليست حركة الاصبع متفرعة على حركة
__________________
الخاتم. وهذا
الترتيب مما يشهد العقل بثبوته ، ولا يمكن أن يكون ذلك الترتيب بالزمان. وذلك لأن
سطح الاصبع اذا كان مماسا لسطح الخاتم ، فاذا تحرك جسم الاصبع الى ذلك الجانب ،
ففى عين ذلك الزمان لا بد وأن يتحرك الخاتم. اذ لو بقى جسم الخاتم فى ذلك الحيز ،
لزم تداخل الجسمين. وهو محال. وهذا مما قضى العقل بأن لحركة الاصبع تقدما على حركة
الخاتم ، وقضى بأن ذلك التقدم ، يمتنع أن يكون بالزمان. فاذا حصل هاهنا نوع من
التقدم ، سوى التقدم بالزمان ، فنحن سميناه بالتقدم بالعلية.
والقسم الثانى من أقسام التقدم : ما
نسميه بالتقدم بالذات. ومثاله ماهية
الاثنين مفتقرة الى حصول الواحد ، فأما حصول الواحد فهو غنى عن حصول الاثنين.
والفرق بين هذا القسم وبين القسم الأول : أن هاهنا المتقدم ليس علة لوجود المتأخر
، وفى القسم الأول كان المتقدم علة للمتأخر.
والقسم الثالث : للتقدم بالشرف
والفضيلة. كتقدم «أبى بكر»
على «عمر» ـ رضى الله عنهما ـ
والقسم الرابع : التقدم بالرتبة. اما بالرتبة الحسية. كتقدم الامام على المأموم ، أو
بالرتبة العقلية. كتقدم الجنس على النوع. اذا جعلنا المبدا هو الجنس الأعلى.
والقسم الخامس : التقدم بالزمان. وحاصله : أن فى الماضى كل ما كان أبعد عن الآن ، كان
متقدما على ما هو الأقرب الى الآن. وفى المستقبل على العكس من ذلك. ومثاله : تقدم
الأب على الابن. وحقيقة هذا التقدم : ترجع الى أنه كان قد حصل زمان ، حصل فيه
الأب. ثم
انقضى ذلك الزمان
، وحصل بعده زمان آخر ، حصل فيه الابن. فاذن التقدم الزمانى ، لا يعقل حصوله الا
عند حصول الزمان.
واذا تلخصت هذه
المقدمة ، فعند ذلك قالت الفلاسفة ما المراد من قولكم : عدم العالم متقدم على
وجوده؟ لا جائز أن يكون المراد منه التقدم بالعلية والتأثير. لأن العدم لا يكون
علة للوجود ، ولأن العلة يجب أن تكون حاصلة مع المعلول. فلو كان عدم العالم علة
لوجوده ، لزم أن يحصل عدمه ووجوده معا. وهذا محال.
وأما ان كان
المراد منه التقدم بالذات. فهذا متفق عليه. وذلك لأن العالم ممكن لذاته. والممكن
لذاته يستحق لذاته أن لا يستحق الوجود وصيرورته مستحقا للوجود ، انما يكون من
غيره. وما بالذات قبل ما بالغير. فاذن عدمه قبل وجوده : قبلية بالذات بالانفاق.
ولا جائز أن يكون المراد منه التقدم بالشرف ، ولا بالمكان. وهو ظاهر.
بقى أن يكون تقدم
عدمه على وجوده ، تقدما بالزمان. ولكنا بينا : أن التقدم بالزمان لا يتقرر. الا
عند حصول الزمان. فلو كان عدم العالم متقدما على وجوده بالزمان ، تقدما من الأزل
الى الأبد. لزم أن يكون الزمان موجودا من الأزل الى الأبد. لكن الزمان من لواحق
الحركة ، التى هى من لواحق الجسم ، فيلزم من تفسير المحدث بما ذكرتم ، القول بقدم
الزمان والحركة والجسم. وذلك نقيض مطلوبكم ، وضد غرضكم. فثبت : أن القول بتفسير
كون العالم محدثا بما ذكرتم ، يفضى ثبوته الى نفيه. فوجب أن يكون هذا التفسير
باطلا.
وأما التفسير
الثانى. وهو أن يقال : المحدث ما يكون مسبوقا بالغير. فنقول : اما ان يكون المراد
بهذا السبق : السبق بالعلية. فذاك متفق عليه. لأن مذهبنا : أن العالم ممكن لذاته ،
واجب لوجوب
علته. لكن هذا لا يقتضي أن يكون للحوادث بداية ، لأنه لا يمتنع
فى العقل دوام المعلول بدوام علته. وان كان المراد بهذا السبق هو السبق بالذات أو
بالشرف ، فهو أيضا متفق عليه. وأما السبق بالمكان فهو منفى بالاتفاق وعلى تقدير
ثبوته ، فذلك لا يوجب أن يكون للحوادث بداية ، اذ لا يمتنع فى بداهة العقول ، وجود
موجود فوق العالم ، ويكونان موجودين أزلا وأبدا. فلم يبق هاهنا الا أن يفسر ذلك
السبق بالسبق الزمانى. وهذا محال. وبتقدير الصحة فهو متناقض.
أما انه محال.
فلوجهين.
أحدهما : أنه يلزم
منه كون الله تعالى زمانيا. وذلك محال.
وأما ثانيا :
فيلزم منه كون الزمان زمانيا. وذلك أيضا محال.
وأما بتقدير الصحة
، فهو متناقض. وذلك لأنه اذا كان الله تعالى ، متقدما على العالم تقدما ، لا أول
له. وذلك التقدم تقدم زمانى ، لزم اثبات زمان لا أول له. وحينئذ يعود الكلام الى
أنه يلزم قدم الزمان والحركة والجسم. فهذا تمام تقرير هذا الاشكال. والجواب : انا
نثبت نوعا آخر من التقدم. وراء هذه الأقسام الخمسة التى ذكرتموها. والدليل عليه :
انا ببداهة العقل نعلم : أن الأمس متقدم على اليوم. فنقول : تقدم الأمس على اليوم
ليس تقدما بالعلية. وذلك لأن المتقدم بالعلية ، يوجد مع المتأخر بالمعلولية والأمس واليوم لا يوجدان معا البتة. وأيضا : ان أجزاء
الزمان متشابهة. فيمتنع أن يكون بعضها علة للبعض.
وبهذا الطريق ظهر
أنه ليس تقدما بالذات ، ولا بالشرف ،
__________________
ولا بالمكان.
وأيضا : لا يمكن أن يكون ذلك التقدم تقدما بالزمان. والالزام أن يكون ذلك الزمان
حاصلا فى زمان آخر ، ثم يعود الكلام فى ذلك الزمان ، كما فى الأول. فيفضى الى أن
تحصل أزمنة ، لا نهاية لها دفعة واحدة. ويكون كل واحد منها ظرفا للآخر. وذلك مجال.
لأن مجموع تلك الأزمنة التى لا نهاية لها ، يكون أمسها متقدما على يومها. فيلزم
افتقار ذلك المجموع الى زمان آخر ، يحيط به. وذلك محال. لأن الزمان المحيط بذلك
المجموع ، يجب أن يكون خارجا عنه. لأن الظرف مغاير للمظروف. ويجب أن لا يكون خارجا
عنه. لأن مجموع الأزمنة لا بد وأن يدخل فيه كل واحد من آحاد الأزمنة. فيلزم أن
يكون ذلك الزمان خارجا عن ذلك المجموع ، وغير خارج عنه. وهو محال فثبت : أن تقدم
الأمس على اليوم ، تقدم خارج عن الأقسام الخمسة ، التى ذكرتموها. فلم لا يجوز أن
يكون تقدم عدم العالم على وجوده ، وتقدم وجود الله تعالى على وجود العالم ، على
هذا الوجه؟ وحينئذ يزول الاشكال المذكور.
البحث الثانى فى تفسير المحدث : وهو ان صحة حدوث الحوادث. اما أن تكون لها بداية ، أو لا
تكون.
والقسم الأول باطل. لوجوه :
أحدها : انه لو كان للصحة أول لما كانت الصحة الذاتية حاصلة قبل ذلك
المبدأ. واذا لم تكن الصحة الذاتية حاصلة قبل ذلك المبدأ ، فالحاصل قبل ذلك المبدأ
اما الوجوب الذاتى ، أو الامتناع الذاتى. فان كان الأول كان القول بقدم العالم :
ألزم. وان كان الثانى فالعالم قبل ذلك المبدأ : كان ممتنعا لذاته ، ثم انقلب ممكنا
لذاته. وهذا محال. لأن الأمور الذاتية لا تتقلب البتة. ولو جوزنا ذلك ، فحينئذ لا
يبقى الوثوق بحكم العقل فى جواز الجائزات ووجوب الواجبات ، وامتناع الممتنعات.
ولعن سائر الممتنعات لذواتها تنقلب واجبة لذواتها ، أو بالضد. وكل ذلك باطل.
وثانيها : وهو أنا لو قلنا بأنه كان ممتنعا لذاته ، ثم انقلب ممكنا. فحدوث
ذلك الامكان اما أن يكون لأمر ، أو لا لأمر ، فان كان لأمر فحدوث ذلك الامكان يكون
ممكنا لذاته والكلام فى الامكان الثانى ، كما فى الأول. فيلزم التسلسل. وان كان لا
لأمر ، فقد جوزتم أن ما كان ممتنعا لذاته ، انقلب ممكنا لذاته ، لا لأمر. والامكان
للممكن واجب. فحصول ذلك الامكان كان ممتنعا لذاته ، قبل ذلك المبدأ ، ثم صار واجبا
لذاته. واذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز فى وجود المحدثات ، أن يقال : انه كان ممتنعا
لذاته ، ثم انقلب واجبا لذاته؟ وحينئذ يلزم نفى الصانع. وهو محال.
وثالثها : ان حدوث ذلك الامكان. اما أن يقال : انه كان موقوفا على
حدوث أمر ما ، بأن يوجد شيء بعد عدمه ، أو بأن يعدم شيء بعد وجوده ، أو لم يكن
موقوفا على ذلك. فان كل الأول كان الكلام فى اختصاص ذلك الوقت بحدوث ذلك الأمر ،
كما فى الأول فيلزم التسلسل. وان كان الثانى لم يكن اختصاص حدوث ذلك الا مكان بذلك
الوقت أولى من اختصاصه بسائر الأوقات.
فثبت بهذه الوجوه
: أنه لا يمكن أن يقال : ان لصحة حدوث الحوادث بداية.
وكذلك القول فى
بيان أنه لا بداية لصحة تأثير المؤثر فى احداث المحدثات. واذا ثبت ذلك ، كان كون
العالم موجود فى الأزل غير ممتنع. وكذلك أيضا يكون تأثير المؤثر فى وجود العالم
أزلا غير ممتنع. واذا ثبت هذا ، كان القول بأنه يمتنع كون العالم أزليا ، ويمتنع
تأثير قدرة الله تعالى فى ايجاد العالم فى الأزل : جمعا بين الحكم بحصول الامتناع
فى الأزل ، وبحصول الجواز فى الأزل. وذلك جمع بين النقيضين. وهو محال. وهذا تمام
الاشكال.
والجواب عنه : انه
لا يلزم من قولنا : انه لا بداية لصحة حدوث الحوادث : أن يحكم بجواز كون العالم
أزليا. والدليل عليه : انا اذا أخذنا هذا الحادث المعين بشرط كونه مسبوقا بالغير.
فهذا الحادث المأخوذ مع هذا الشرط ، اما أن تكون لصحة حدوثه بداية. وأما أن لا
تكون لها بداية. والأول باطل ، لجميع الدلائل التى ذكرتموها. فبقى أنه لا بداية
لصحة حدوث هذا الحادث المأخوذ مع هذا الشرط. ثم انا نعلم قطعا امتناع كون هذا الحادث
أزليا. لأن الأزل عبارة عن عدم المسبوقية بالغير ، وهذا الحادث مأخوذ بشرط كونه
مسبوقا بالغير ، والجمع بينهما محال. فثبت : أن القول بأنه لا مبدأ لصحة حدوث
الحوادث ، لا يقتضي القول بجواز كون ذلك الشيء أزليا.
المقدمة الثالثة
فى شرح مذاهب الناس فى هذه المسألة :
المذاهب الممكنة
فى هذه المسألة لا تزيد على خمسة لأنه اما أن يقال : الأجسام محدثة بذواتها
وصفاتها. أو يقال : انها قديمة بذواتها وصفاتها. أو يقال : انها قديمة بذواتها
محدثة بصفاتها. أو يقال انها بصفاتها محدثة بذواتها. أو يتوقف فى كل واحد من هذه
الأقسام
أما الاحتمال الأول : وهو القول بأن هذه الأجسام محدثة بذواتها وصفاتها. فهو قول
الأكثرين من أرباب المال. وهم المسلمون ، واليهود ، والنصارى ، والمجوس.
وأما
الاحتمال الثانى : وهو القول بأن الأجسام قديمة بذواتها وصفاتها. فهو قول بعض الفلاسفة وتفصيل
مذاهبهم : أن الأجسام الفلكية قديمة بذواتها وقديمة بصفاتها المعينة. الا حركاتها.
فان كل واحدة من حركاتها مسبوقة بحركة أخرى ، لا الى بداية. وأما الأجسام
العنصرية. فان هيولاها قديمة ، وأما صورها وأعراضها فكل واحد منها
__________________
مسبوق بآخر ، لا
الى بداية. وهذا مذهب «أرسطاطاليس» وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين.
وأما الاحتمال الثالث : وهو أن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها. فهذا اقول
أكثر الفلاسفة الذين كنوا قبل «أرسطاطاليس» ثم هؤلاء فريقان :
الفريق الأول : الذين قالوا : الذوات القديمة كانت أجساما. وهؤلاء منهم من
قال : أصل الأشياء هو التراب. وكون العناصر الثلاثة الباقية عنه بالتلطف.
ومنهم من عكس ،
وقال : أصل الأشياء هو النار ، وكون العناصر الثلاثة الباقية عنها بالتكاثف.
(ومنهم من قال :
أصل الأشياء هو الهواء. وكون العنصر اللطيف عنه : بالتلطف ، وكون العنصرين
الكثيفين عنه : بالتكاثف) .
ومنهم من قال :
أصل الأشياء هو البخار. وكون العنصرين اللطيفين عنه : بالتلطف وكون العنصرين
الكثيفين عنه : بالتكاثف.
ومنهم من قال :
أصل الأشياء هو الماء. ثم ان الماء تحرك ، فاوجبت حركته سخونة ، فتصاعد على وجه
الماء من تلك السخونة : زبد وارتفع منه دخان فتكونت الأرض من ذلك الزبد ، والسماء
من ذلك الدخان.
ومنهم من قال :
أصل العالم أجزاء جسمانية كرية صلبة. ولما كانت أجزاء الخلاء متشابهة ، لم يكن
بقاء كل واحد من تلك الأجزاء
__________________
فى حيز معين ، من
ذلك الخلاء أولى من حصوله فى حيز آخر ، فلا جرم وجب فيها أن تكون متحركة من الأزل
الى الأبد. ثم اتفق لتلك الأجزاء أن تصادمت على شكل خاص ، فتمانعت بسبب حركاتها
المتدافعة ، فتكونت السماوات بهذا الطريق ، ثم انها لما استدارت وكان باطنها
مملوءا من الأجسام عرض لما كان فى غاية القرب من السموات ، أن تسخن جدا ـ وهو
النار ـ وعرض لما كان فى غاية البعد من السموات ، أن تكاثف وبرد جدا ـ وهو الأرض ـ
والّذي كان قريبا من النار ، هو الهواء. والّذي كان أبعد منه هو الماء. لأن الهواء
الطف وأسخن من الماء ، ثم اختلطت هذه العناصر الأربعة ، بسبب حركات الأجرام
الفلكية ، وتولدت المركبات من المعادن والنبات والحيوان.
والفريق الثانى : الذين قالوا : الذوات القديمة ما كانت أجساما فهؤلاء ثلاث
طوائف.
الطائفة الأولى : الذين قالوا : الأجسام مركبة من الهيولى والصورة. فالهيولى
كانت قديمة ، وكانت خالية عن الجسم ، ثم حدثت الصورة الجسمية فيها ، فحدثت
الأجسام.
والطائفة الثانية : الذين قالوا : العالم انما تولد من امتزاج النور بالظلمة ،
وأما الأنوار والظلمات ، فانها قديمة. وهذا قول الثنوية.
والطائفة الثالثة : الذين قالوا : أصل الأجسام : الوحدات. وذلك لأن الوحدة اذا
كانت مجردة عن الوضع والاشارة ، كانت مجرد وحدات. واذا كانت الوحدة مشارا إليها ،
صارت نقطة. فاذا تركبت نقطتان ، صار خطا. واذا تركب خطان ، صار سطحا. واذا تركب
سطحان ، صار جسما. فأصل الأجسام : الوحدات. وهى أمور قديمة قائمة بذواتها. فهذا شرح
هذه الأقوال على الاختصار.
الاحتمال الرابع : بأن يقال : العالم قديم الصفات ، محدث الذات. وهذا معلوم
البطلان بالبداهة. فلا جرم لم يقبل به قائل.
الاحتمال الخامس : التوقف فى هذه الأقسام وعدم القطع بواحد منها. وهو قول «جالينوس».
وهذا آخر الكلام
فى شرح هذه المقدمات ، التى يجب تقديمها على الشروع فى البراهين :
البرهان الأول : فى اثبات حدوث الأجسام.
وهو أنا نقول : الأجسام
لو كانت أزلية لكانت فى الأزل ، اما أن تكون متحركة ، أو ساكنة. والقسمان باطلان ،
فالقول بكونها أزلية باطل. فنفتقر فى تقرير هذا البرهان الى اثبات مقدمات ثلاث :
المقدمة الأولى فى اقامة الدليل على
الحصر : فنقول : الدليل
عليه : أن كل ما كان متحيزا فلا بد وأن يكون مختصا بحيز معين. والمراد منه : أنه
لا بد وأن يكون بحيث يصح أن يشار إليه بأنه هاهنا أو هناك.
اذا عرفت هذا ،
فنقول : انه فى الأزل اما أن يكون باقيا فى حيز واحدا ، أو لا يكون كذلك ، بل يكون
منتقلا من حيز الى حيز ، والأول هو الساكن ، والثانى هو المتحرك. فثبت : أن الجسم
لو كان أزليا ، لكان فى الأزل اما أن بكون متحركا ، أو ساكنا.
المقدمة الثانية : فى اقامة الدلالة على
أنه يمتنع كون الأجسام فى الأزل متحركة : ويدل عليه وجوه :
الأول : ان الحركة ماهيتها وحقيقتها ، أنها انتقال من حالة الى
حالة. والانتقال من حالة الى حالة ، لا بد وأن يكون مسبوقا بحصون
الحالة المنتقل
عنها. فاذن حقيقة الحركة من حيث انها تلك الحقيقة ، تقتضى المسبوقية بالغير.
وحقيقة الأزل من حيث انها هذه الحقيقة تنافى المسبوقية بالغير ، فوجب أن يكون
الجمع بين الحركة والأزل محالا ممتنعا لذاته.
البرهان
الثانى : أنا اذا فرضنا أن
كل دورة من دورات الفلك ، كانت مسبوقة بدورة أخرى ، لا الى أول. فحينئذ يكون كل
واحدة من تلك الدورات مسبوقة بعدم لا أول له ، فتكون العدمات بأسرها مجتمعة فى
الأزل. وانما الترتيب فى الوجودات ، لا فى العدمات. فاذن جميع العدمات السابقة على
كل واحدة من هذه الوجودات ، كانت مجتمعة فى الأزل. فاما أن يحصل مع مجموع تلك
العدمات الحاصلة فى الأزل شيء من الوجودات ، أو لم يحصل. والأول باطل. والا لزم أن
يكون السابق مقارنا للمسبوق. وهو محال. واذا بطل القسم الأول تعين القسم الثانى ،
وهو أنه لم يحصل فى الأزل شيء من الوجودات. وذلك يقتضي أن يكون لمجموع الوجودات
بداية وأول. وهو المطلوب.
البرهان الثالث : وهو أنه اما أن يقال : حصل فى الأزل شيء من هذه الحركات ،
او لم يحصل. فان لم يحصل فى الأزل شيء من هذه الحركات والحوادث ، وجب أن تكون
لمجموع هذه الحركات والحوادث بداية وأول. وهو المطلوب. وان حصل فى الأزل شيء من
هذه الحركات ، فتلك الحركة الحاصلة فى الأزل. ان لم تكن مسبوقة بغيرها كانت تلك
الحركة أول الحركات. وهو المطلوب. وان كانت مسبوقة بغيرها ، لزم أن يكون الأزل
مسبوقا بغيره. وهو محال.
البرهان
الرابع : ان فى مدة دورة
واحدة من أدوار «زحل» تتحرك الشمس ثلاثين دورة. فاذن عدد دورات «زحل» تكون أقل من
دورات «الشمس» وكل ما كان أقل من غيره ، فهو متناه. فاذن
عدد دوراته متناه
، فلحركة «زحل» بداية. واذا كان كذلك ، وجب أن يكون أيضا لجميع الحركات بداية. لأن
ضعف المتناهى مرارا متناهية ، يكون متناهيا.
البرهان الخامس : اذا فرضنا الحوادث الماضية من اليوم الى الأزل جملة ، ومن
زمان الطوفان الى الأزل جملة أخرى. فلا شك أن الجملة الأولى أزيد من الجملة
الثانية ، بما بين زمان الطوفان الى هذا اليوم. فاذا طبقنا فى الوهم الطرف
المتناهى من الجملة الزائدة ، على الطرف المتناهى من الجملة الناقصة ، حتى يقابل
كل فرد من أفراد احدى الجملتين بما يشابهه فى المرتبة من الجملة الأخرى. فان لم
تنقص الجملة الناقصة عن الزائدة فى الطرف الآخر ، كان الشيء مع غيره ، كهو ، لا مع
غيره. وهذا محال. وان انقطعت الجملة الناقصة من ذلك الطرف ، كانت متناهية من ذلك
الطرف ، وكانت متناهية من جانب الأزل. والزائد زاد عليها بمقدار متناه ، والزائد
على المتناهى بمقدار متناه يكون متناهيا. فالكل متناه فى جانب الأزل.
البرهان
السادس : لو كانت الأدوار
الماضية غير متناهية ، لكان حدوث اليوم موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له ،
وانقضاء ما لا نهاية له محال فيلزم أن يكون حدوث اليوم موقوفا على شرط محال ،
والموقوف على الشرط المحال ، لا يوجد. فكان يلزم أن لا يوجد اليوم. وحيث وجد ،
علمنا : أن الأمور المنقضية قبل هذا اليوم ، متناهية فثبت بهذه البراهين : أن
القول بكون الأجسام متحركة فى الأزل محال.
المقدمة الثالثة :
فى بيان أنه يمتنع كون الأجسام ساكنة فى الأزل
واعلم أنا نحتاج
فى هذا المقام الى اقامة الدلالة على أن السكون أمر وجودى. والفلاسفة يزعمون : أنه
عبارة عن عدم الحركة ، عما من شأنه أن يتحرك. وانما افتقرنا الى اثبات هذه
المقدمة. لأن دليلنا على
أن السكون يمتنع
أن يكون أزليا : هو أن نقول : لو كان السكون أزليا ، لما جاز ، زواله. وقد جاز ، زواله.
فوجب أن لا يكون أزليا. ولو كان السكون أمرا عدميا ، لما صح هذا الكلام. لأن زوال
العدم فى الأزل جائز بالاتفاق. اذ لو لم يجز ذلك ، لبطل القول بحدوث العالم. فان
للمسائل أن يقول : لو كان العالم محدثا ، لكان عدمه أزليا. ولو كان عدمه أزليا ،
لما زال بسبب طريان الوجود. وحيث وجد العالم ، علمنا : أن عدم العالم ما كان
أزليا. فان لم يكن عدمه أزليا ، كان وجوده أزليا ، فكان العالم قديما. فثبت : أنه
لا يمكننا أن نقول : كل ما كان أزليا ، امتنع زواله بل يجب تخصيص هذه الدعوى
بالأمور الوجودية. فيقال : كل ما كان موجودا فى الأزل ، امتنع زواله. فاذا كان
كذلك ، فحينئذ نفتقر الى اثبات كون السكون أمرا وجوديا ، حتى يستقيم الكلام.
اذا عرفت ذلك ،
فنقول : الدليل على أن السكون أمر وجودى : أنا نرى الجسم الواحد يصير ساكنا ، بعد
أن كان متحركا. وبالعكس. فتبدل هاتين الحالتين. مع بقاء الذات فى الحالتين ، يقتضي
كون احدى هاتين الحالتين أمرا وجوديا. واذا ثبت ذلك ، لزم كون كل واحد منهما أمرا
وجوديا. وذلك لأن الحركة عبارة عن الحصول فى الحيز ، بعد أن كانت فى حيز آخر ،
والسكون عبارة عن الحصول فى الحيز ، بعد أن كان فى نفس ذلك الحيز. فالحركة والسكون
متساويان فى تمام الماهية ، وانما الاختلاف بينهما فى كون الحركة مسبوقة بحالة
أخرى ، وكون السكون ليس كذلك. وكون الشيء مسبوقا بغيره ، وصف عرضى. والأوصاف
العرضية لا تقدح فى اتحاد الماهية. فثبت : أن الحركة والسكون متساويان فى تمام
الماهية والحقيقية. فاذا كان أحدهما وصفا ثبوتيا ، لزم كون الآخر ثبوتيا قطعا.
فثبت بما ذكرنا : أن السكون وصف ثبوتى.
واذا قامت الحجة
على صحة هذه المقدمة ، فلنرجع الى المطلوب. فنقول : لو كان السكون أزليا ، لامتنع
زواله ، ولا يمتنع زواله. فوجب أن لا يكون أزليا ، بيان الشرطية : انه بتقدير أن
يكون أزليا ، فاما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فان كان واجبا لذاته ،
ظهر أنه يجب أن لا يزول اصلا. وان كان ممكنا لذاته فالمؤثر فيه اما أن يكون فاعلا
بالاختيار ، أو موجبا بالذات. والأول محال. لأن الفاعل بالاختيار انما يفعل بواسطة القصد والاختيار. والقصد الى
تكوين الشيء ، لا يتحقق الا عند عدمه ، أو حال حدوثه وعلى التقديرين فكل ما يقع
بالفاعل المختار ، كان محدثا. والقديم لا يكون محدثا ، فيمتنع أن يكون المؤثر فى
وجود القديم فاعلا مختارا. فثبت : أنه لو كان له مؤثر لكان ذلك المؤثر لا بدّ وأن
يكون موجبا بالذات. ثم ذلك الموجب ان كان ممكنا عاد الكلام فيه ، وان كان واجبا
فان لم يتوقف تأثيره فى وجود ذلك القديم على شرط أصلا ، لزم من وجوب وجود تلك
العلة ، وجوب وجود المعلول. فيلزم امتناع العدم على ذلك القديم. وان توقف تأثيره
على شرط ، فذلك الشرط لا بدّ وأن يكون المؤثر فيه موجبا بالذات ، وواجبا بالذات ،
وإلا عاد المحال المذكور. وحينئذ يلزم من امتناع التغير على العلة ، وعلى شرط
العلة ، امتناع التغير على المعلول. فثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان موجودا فى
الأزل ، فانه يمتنع زواله. وانما قلنا : ان الزوال على السكون جائز. وذلك لأن كل
متحيز ، فانه يمكن خروجه عن حيزه ، وبتقدير خروجه عن حيزه ، فانه يبطل ذلك السكون.
بيان المقام الأول من
وجهين :
الأول : ان كل متحيز يفرض. فانه اما أن
يكون مركبا أو بسيطا. فان كان مركبا
فانه لا بدّ وأن يحصل فيه بسائط. فاذا أخذنا بسيطا
__________________
واحدا من تلك
البسائط ، فلا شك أنه يفرض فيه جانبان. وطبيعة كل واحد من ذينك الجانبين مساوية
لطبيعة الجانب الآخر ، والا لكان ذلك الجزء مركبا. وقد فرضناه بسيطا. هذا خلف. وان
كانت طبيعة كل واحد من ذينك الجانبين مساوية لطبيعة الجانب الآخر ، وكل شيئين
متساويين ، وجب أن يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر ، فاذن الجانب الّذي
يلاقيه أو يحاذيه بيمينه ، يصح أن يلاقيه أو يحاذيه بيساره ، ولا يمكن ذلك الا اذا
انقلب فى حيزه ، حتى يصير يمينه يسارا ، أو يساره يمينا. فثبت : أن كل جزء يفرض ،
فانه يصح عليه الحركة. واذا تحرك ، فقد بطل ذلك السكون. لأنه لا معنى للسكون ، الا
ذلك الحصول. واذا بطل ذلك الحصول ، فقد بطل ذلك السكون.
الوجه الثانى : انا نكتفى هنا بإلزام الخصم. وذلك لأن الأجسام عندهم اما فلكية أو
عنصرية ، أما الفلكيات فانها عندهم متحركة على سبيل الوجوب. وأما العنصريات فكل
واحد من أجزائها جائز الحركة. وعلى كلا التقديرين يثبت أن زوال السكون جائز. فثبت
بما ذكرنا : أن السكون لو كان أزليا ، لما جاز زواله. وثبت أنه يجوز زواله ، فيلزم
أن لا يكون السكون أزليا. ولما ثبت أنه يمتنع أن يكون الجسم فى الأزل ساكنا ،
ويمتنع أن يكون فى الأزل متحركا ، وثبت أنه لو كان أزليا ، لكان اما ساكنا واما
متحركا. ثبت : أن الجسم يمتنع أن يكون أزليا. وهو المطلوب.
وهذا تمام هذا
القول فى تحرير هذا الدليل. وبالله التوفيق.
فان قيل : لا نسلم
أن الجسم لو كان أزليا ، لكان اما متحركا ، واما ساكنا. قوله : «والدليل عليه :
وهو أن كل جسم ، فانه لا بد وأن
__________________
يكون حاصلا فى حيز
، واذا كان كذلك ، فان بقى مستقرا فيه ، فهو الساكن ، وان لم يبق مستقرا فيه ، فهو
المتحرك».
قلنا : هذا
التقسيم بناء على قولكم : ان كل جسم ، فانه لا بد وأن يكون حاصلا فى الحيز ، فما
المراد من الحيز الّذي جعلتموه ظرفا للجسم : وتقريره : أن المسمى بالحيز. اما أن
يكون معدوما أو موجودا فان كان معدوما ، كان نفيا محضا ، وعدما صرفا. والقول بكون
الجسم حاصلا فى العدم المحض ، والنفى الصرف ، غير معقول. وأما ان كان المسمى
بالحيز أمرا موجودا ، فذلك الموجود اما أن لا يمكن أن يشار إليه اشارة حسية ، أو
يمكن. فان لم يمكن استحال حصول الجسم فيه. لأن الجسم الموجود يجب أن يكون ، بحيث
يمكن أن يشار إليه شارة حسية. فاذا كان المسمى بالحيز موجودا ، ويمتنع أن يشار
إليه اشارة حسية ، كان القول يجعل الحيز ظرفا للجسم : جمعا بين النقيضين. وهو
محال. وأما ان كان المسمى بالحيز ، أمرا يشار إليه اشارة حسية ، فكونه كذلك ، اما
أن يكون بالاستقلال ، أو بالتبعية. فان كان بالاستقلال كان المسمى بالحيز جسما.
والقول بكون الجسم حاصلا فى الحيز ، يرجع حاصله الى كون الجسم حاصلا. فى الجسم. ثم
المراد من هذه الظرفية : وان كان هو الحلول ، كان ذلك قولا بتداخل الأجسام. وهو
محال. وان كان المراد منه هو المماسة ، لزم أن يكون جسم مموس جسم آخر. وذلك يوجب
القول بوجود أجسام لا نهاية لها. وأنتم تنكرون ذلك. وأما ان كان المسمى بالحيز
أمرا مشارا إليه اشارة حسية ، على سبيل التبعية. فذلك هو العرض.
فيرجع حاصل قولنا
الجسم فى الحيز : أن الجسم حاصل فى العرض ، الا أن ذلك أيضا باطل من وجهين :
أحدهما : أن العرض حاصل فى الجسم ، فلو كان الجسم حاصلا فى العرض لزم
الدور. والثانى : أنكم تقولون : الجسم انتقل من هذا الحيز الى حيز آخر. فلو كان
المراد من الحيز هو العرض ، لزم أن يكون المراد من قولنا : انتقل الجسم من حيز الى
حيز ، هو انه انتقل الجسم من عرض الى عرض. وكل ذلك محال. فثبت : أن القول بكون
الجسم حاصلا فى الحيز ، أمر باطل محال. فكان التقسيم الّذي فرعتموه عليه أولى
بالاستحالة والفساد. ثم انا نترك الاستدلال على فساد هذا المذهب ، ونطالبهم بتفسير
الحيز ، وبتفسير كون الجسم مظروف الحيز. فان بمجرد المطالبة بهذا التفسير ، يصعب
الكلام على المستدل.
لا يقال : الحيز
له تفسيران :
أحدهما : ما اتفق عليه جمهور المتكلمين. وهو أنه ليس أمرا وجوديا بل
هو أمر يفرضه الذهن ، ويقدره العقل ، ويحكم بكون الجسم حاصلا فيه.
والثانى
: ما ذكره قدماء
الفلاسفة. وهم القائلون بأن المكان هو البعد ، وهو مجرد الطول والعرض والعمق ،
الّذي لا يكون حالا فى مادة والجسم عبارة عن الطول والعرض والعمق مع المادة. فاذا
حصل الجسم فى المكان ، فالمعنى أنه نفذ بعد الجسم فى ذلك البعد المجرد عن المادة ،
المسمى بالمكان.
قالوا : والّذي
يدل على وجود هذا البعد المسمى بالمكان وجوه :
احدها : انه لا شك أن بين طرفى الطاس مقدارا من البعد. فالطاس
المملوء من الماء اذا قدرنا أن الماء خرج منه ولم يدخل الهواء فيه ، فمع هذا الفرض
لا بد وأن يبقى بين طرفى الطاس مقدار من البعد والامتداد. وذلك البعد قد فرضناه
خاليا عن الأجسام. فثبت : أن المكان هو البعد.
وثانيها : انا لو قدرنا حجرا واقفا فى ماء جار ، فالشيء الساكن لا
معنى لسكونه ، الا أنه بقى فى مكانه أكثر من زمان واحد. ولا يمكن أن يكون المكان
مفسرا بالسطح المحيط ، لأن الماء اذا كان جاريا على ذلك الحجر ، لم يبق ذلك الحجر
ملاقيا لسطح واحد ، أزمنة كثيرة. فلو كان المكان عبارة عن السطح ، لوجب أن لا يكون
ذلك الحجر واقفا. ولما دلت المشاهدة على أنه واقف ساكن ، علمنا : أنه لا بد وأن
يكون المكان أمرا آخر ، مغايرا للسطح المحيط. وما ذلك الا ذلك البعد الّذي نفذ بعد
الجسم الواقف فيه.
وثالثها : ان كل أحد يعلم بالضرورة أن بين طرفى الآنية مقدارا من البعد.
وذلك المقدار من البعد ، ليس هو الجسم. والا لزم القول بكون العالم ملاء. وذلك
محال. والا لكانت الحركة ممتنعة على الأجسام. فثبت : أن البعد المفترض بين طرفى
الآنية ليس بجسم. ولا شك أن الجسم ينفذ فيه وينطبق بعده عليه. فثبت : أن المكان
بعد.
لأنا نقول :
اما التفسير الأول : فهو باطل قطعا. وذلك لأن المسمى بالحيز ، أما أن لا يكون له وجود فى
الخارج ، واما أن يكون له وجود فى الخارج. فان لم يكن له وجود فى الخارج ، امتنع
أن يكون الجسم الموجود فى الخارج حاصلا فيه. لأن ما لا يكون موجودا فى الخارج ،
امتنع حصول الجسم فيه فى الخارج ، وأما ان كان له وجود فى الخارج ، فحينئذ يرجع
التقسيم المذكور بتمامه.
واما التفسير الثانى : وهو أن القول بأن المكان عبارة عن البعد المجرد. فنقول : هذا
باطل قطعا. ويدل عليه وجوه ثلاثة :
أحدها : ان طبيعة البعد اما أن تكون قابلة للحركة ، واما أن لا تكون
قابلة لها. فان كانت قابلة للحركة ، فاذا كان المكان هو بعدا ،
كانت الحركة على
المكان جائزة لكن الحركة انما تكون من مكان الى مكان ، فيلزم أن يكون للمكان مكان
آخر ، ويلزم التسلسل. وهو محال. وان لم تكن قابلة للحركة. فالبعد القائم بالجسم ،
لا يكون قابلا للحركة. فاذن الجسم قارنه ما يمنع من الحركة ، فوجب أن لا تصح
الحركة على الجسم. وذلك محال :
لا يقال : لم لا
يجوز بأن يقال كون البعد قابلا للحركة ، مشروط بكون البعد حالا فى المادة. فاذا
كان مجردا كان شرط صحة الحركة زائلا ، فكانت صحة الحركة غير حاصلة.
لأنا نقول :
المادة اما أن يكون لها فى حقيقة ذاتها ، وخصوصية ماهيتها بعد وامتداد. واما أن لا
يكون. فان كان لها فى حقيقة ذاتها بعد وامتداد ، فتكون المادة لذاتها ، لا لصفة
مغايرة لها ، ممتدة فى الجهات. وعلى هذا التقدير يمتنع كون الامتداد أمرا حالا فى
المادة ، وان لم يكن للمادة فى خصوصية ذاتها بعد وامتداد ، كانت الحركة على مثل
هذا الشيء ممتنعة لذاتها. واذا كان كذلك ، امتنع أن يكون ذلك شرطا فى صحة الحركة
على البعد والامتداد.
والوجه الثانى فى بيان أنه يمتنع كون
المكان بعدا :
أن البعد كان من
حيث انه هو هو غنيا عن المادة ، امتنع حلوله فى المادة. فكان يجب أن لا يحل البعد
فى المادة أصلا. وان كان مفتقرا الى المادة ، امتنع كونه مجردا عن المادة.
الوجه الثالث : هو أن المكان لو كان عبارة عن البعد ، والمتمكن له بعد آخر
، يلزم منه تداخل البعدين. وهو محال. أما أولا : فلأنه يقتضي الجمع بين المثلين.
وهو محال. وأما ثانيا : فلأن البعدين طرفى الاناء ، اذا كان ذراعا واحدا ، فلو كان
هناك بعد ان أحدهما بعد المكان ، والثانى بعد المتمكن ، لزم القول بكون الذراع
الواحد :
ذراعين. وذلك
محال. فثبت بهذه الوجوه : فساد القول بأن المكان هو البعد.
سلمنا : أن القول
بالحيز : معقول. فلم قلتم : ان الجسم لا بد وأن يكون اما ساكنا فى الحيز ، واما
متحركا؟
بيانه : ان
المتحرك هو الّذي حصل فى الحيز ، بعد أن كان فى حيز آخر ، والساكن هو الّذي حصل فى
الحيز ، بعد أن كان فى نفس ذلك الحيز. فاذن كونه ساكنا متحركا ، مشروط بكونه
موجودا قبل ذلك. فاذن الجسم فى أول زمان حدوثه ، يجب أن لا يكون ساكنا ولا متحركا
، واذا ثبت هذا ، بطل قولكم : انه لا واسطة بين كون الجسم ساكنا أو متحركا.
سلمنا : أن الجسم
لو كان أزليا ، لكان اما أن يكون ساكنا واما أن يكون متحركا. فلم قلتم : انه يمتنع
كون الجسم فى الأزل متحركا؟ والدلائل الستة التى عولتم عليها فى بيان امتناع كون
الجسم متحركا فى الأزل : هى بأسرها معارضة بوجه واحد. وهو أن وجود الحركة وتأثير
المؤثر فى ايجاد الحركة فى الأزل ، اما أن يكون ممتنعا لعينه ولذاته ، واما أن لا
يكون ممتنعا لعينه ولذاته. فان كان ممتنعا لذاته ، وجب أن لا يزول ذلك الامتناع
قط. لأن ما بالذات لا يزول فوجب أن لا توجد الحركة أصلا. وأما ان كان وجود الحركة
الأزلية وايجاد الحركة فى الأزل ليس ممتنعا لذاته. فاما أن يكون ممتنعا لغيره ، أو
لا يكون كذلك.
فان كان ممتنعا
لغيره ، فذلك المانع ان كان واجبا لذاته ، امتنع زواله. وكان يجب امتناع زوال ذلك
الامتناع وان كان واجبا أيضا لغيره ، كان الكلام فيه كما فى الأول. فيلزم التسلسل.
وأما ان كان وجود
الحركة الأزلية
غير ممتنعة لذاتها ، ولا لغيرها ، امتنع الحكم عليها بالامتناع ودلائلكم عليها تقضى
بالامتناع. فكانت باطلة.
لا يقال : المانع من حصول الحركة هو تحقق مسمى الأزل. لأن الحركة
تقتضى المسبوقية بالغير ، والأزل ينافى المسبوقية بالغير. فالجمع بينهما محال.
لأنا نقول : مسمى الأزل حيث ثبت وتحقق ، ان كان واجب الثبوت لذاته ،
امتنع زواله قط ، فكان يجب أن لا يزول ذلك الامتناع أبدا ، وان لم يكن واجب الثبوت
لذاته ، كان ثبوته لأجل شيء آخر. والكلام فى ذلك الثانى ، كما فى الأول. ولا
يتسلسل ، بل ينتهى بالآخرة الى واجب الوجود لذاته. وحينئذ يلزم من امتناع زوال
الواجب لذاته ، امتناع زوال مسمى الأزل ، ويلزم من امتناع زواله أن لا يزول قط
امتناع حدوث الحركة. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا : أن الحركة لا يمتنع حصولها فى
الأزل.
سلمنا : أن الجسم
يمتنع أن يكون متحركا فى الأزل. فلم لا يجوز أن يكون ساكنا؟ قوله : «لأن السكون
أمر ثبوتى ، والثابت الأزلى يمتنع زواله» قلنا : لا نسلم أن السكون أمر ثبوتى.
وقوله : «الدليل
عليه : أن الجسم يتحرك بعد أن كان ساكنا ، وبالعكس. وذلك يوجب كون أحدى الحالتين
أمرا ثبوتيا».
نقول : لا نسلم أن
تبدل احدى الحالتين بالأخرى ، يوجب كون احدى الحالتين ثبوتية. والّذي يدل عليه
وجوه :
أحدها : أن الحوادث عندكم ممتنعة الحدوث فى الأزل ، ثم انقلبت جائزة
الحدوث فيما لا يزال. فههنا تبدل الامتناع بالصحة ، مع أنه
لا يصح أن يكون الامتناع أمرا ثبوتيا. وتكون الصحة أمر ثبوتيا.
أما أن الامتناع
لا يكون أمرا ثبوتيا ، فلأن الامتناع لو كان أمرا ثبوتيا ، لكان الموصوف به ثبوتيا
، فيلزم أن يكون ممتنع الثبوت ثابتا. وهو محال. وأما أن الامكان لا يمكن أن يكون
أمرا ثبوتيا. فذلك لأنه لو كان أمرا ثبوتيا ، لامتنع كونه واجبا لذاته ، بل يكون
ممكنا لذاته. فيكون امكانه زائدا عليه. ويلزم التسلسل.
والوجه الثانى. فى بيان أن تبدل احدى الحالتين بالأخرى ، لا يقتضي كون
احدى الحالتين أمرا ثبوتيا ، ولا تجدد أمر فى المحل : ذلك لأنه قبل حصول الحادث
المعين ، لا يصدق أن الله تعالى عالم بحصوله فى هذا الوقت ، لأنه لو صدق عليه أنه
عالم بحصوله فى ذلك الوقت ، مع أنه غير حاصل فى ذلك الوقت ، لكان ذلك جهلا. وهو
على الله تعالى محال. ثم انه اذا حصل ذلك الحادث ، فانه يصدق على الله تعالى أنه
عالم بحصوله فى ذلك الوقت. فاذن صدق على الله تعالى أنه ما كان عالما بحصوله فى
ذلك الوقت ، ثم صار عالما بحصوله فى ذلك الوقت. فلو اقتضى صدق هذه القضية ، حدوث
أمر وتجدد وصف لزم حدوث شيء فى ذات الله. وذلك عندكم محال.
الوجه الثالث : ان الجسم قبل حدوث العرض المعين فيه ، ما كان محلا لذلك
العرض ، ثم اذا حصل ذلك العرض ، فقد صار محلا لذلك العرض. فيلزم أن يكون كونه محلا
لذلك العرض عرضا آخر ، ثم انه على هذا التقدير ، يصير محلا لذلك العرض الآخر ، بعد
أنه ما كان كذلك. فيلزم : أن يكون كونه محلا لتلك المحلية ، عرضا آخر. ويلزم
التسلسل.
__________________
لا يقال : أنه لا
معنى لكونه محلا لذلك العرض ، وكون ذلك العرض حالا ، الا مجرد حصول ذلك العرض فيه.
لأنا نقول : ليس
كون الجسم محلا لذلك العرض ، وكون ذلك العرض حالا فى ذلك الجسم ، هو نفس ذلك العرض
ولذاته. لأنه يمكن العلم بذات ذلك العرض ، وذات ذلك الجسم ، مع الشك فى كون ذلك
العرض حالا فى ذلك الجسم ، وكون ذلك الجسم محلا لذلك العرض. والمعلوم مغاير لما
ليس بمعلوم. فعلمنا : أن المحلية والحالية صفتان مغايرتان لذات ذلك العرض ، ولذات
ذلك الجسم.
سلمنا : أن صدق
قولنا : لم يكن ثم كان : يقتضي كون احدى الحالتين أمرا ثبوتيا. فلم لا يجوز أن تكون الحركة أمرا ثبوتيا ، وأن يكون
السكون عبارة عن عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك؟
قوله : «الحركة والسكون
كل واحد منهما عبارة عن الحصول فى الحيز. ولا تفاوت بينهما الا فى وصف عرضى».
قلنا : لا نسلم أن
الحركة عبارة عن الحصول فى الحيز الثانى. والدليل عليه : أنه متى حصل فى الحيز
الثانى ، فقد انقطعت الحركة وانتهت. ونهاية الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء ، بل
الحركة عبارة عن كونه منتقلا عن الحيز الأول الى الحيز الثانى. وذلك الانتقال أمر
متقدم على الحصول فى الحيز الثانى.
سلمنا : أن السكون
أمر ثبوتى. فلم قلتم : ان الثابت الأزلى لا يزول؟ قوله : «لأن ذلك الأزلى اما أن
يكون واجبا لذاته ، واما أن يكون معلولا لما يكون واجبا لذاته. وعلى التقديرين ،
فانه يلزم امتناع العدم عليه.
__________________
قلنا : أنتم سلمتم
أن العدم الأزلى جائز الزوال. ولا يمتنع أيضا أن يكون تأثير العلة فى معلولها :
موقوفا على شرط عدمى أزلى.
اذا ثبت هذا ،
فنقول : لم لا يجوز أن يكون الواجب لذاته : علة لوجود ذلك الأزلى ، الا أن تأثيره
فى ايجابه كان موقوفا على شرط عدمى أزلى ، ثم ان ذلك الشرط العدمى الأزلى زال.
ولما زال شرط التأثير ، لا جرم زال الأثر. وهذا سؤال قوى.
ثم نقول : قولكم «الأزلى
لا يزول» منقوض بأمور :
أحدها : أنه تعالى كان عالما فى الأزل بأن العالم سيوجد ، فاذا
أوجده لم يبق علمه بأن العالم سيوجد ، والا كان ذلك جهلا. فاذن علمه بأن العالم
سيوجد أزلى ، مع أنه قد زال.
وثانيها : ان الله تعالى كان موصوفا فى الأزل بأنه يصح منه ايجاد
العالم فى لا يزال ابتداء. ثم اذا أوجد الله تعالى العالم ، استحال بعد ذلك أن يصح
منه ايجاد العالم ابتداء. والا لكان ذلك ايجاد الموجود. وانه محال. فتلك الصحة :
حكم أزلى. وقد زال.
وثالثها : ان النسخ عندكم عبارة عن رفع الحكم. وذلك الحكم المرفوع اما
أن يقال : انه كان حدثا ، أو كان قديما. والأول محال والالزام كون ذات الله تعالى
محلا للحوادث. فبقى القسم الثانى وهو أن ذلك الحكم المرفوع كان اذن قديما.
فارتفاعه يكون زوالا للقديم.
سلمنا : أن الثابت
الأزلى لا يزول. فلم قلتم بأن كل سكون ، فانه ممكن الزوال؟ وهذا باطل. لأنا نشاهد
بعض الأجسام متحركة. ولكن لم لا يجوز أن يكون بعض الأجسام مختصا بأحياز معينة ،
على سبيل الوجوب ، بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز؟ فانكم ما لم تبطلوا هذا
الاحتمال ، لا يتم لكم اثبات أن كل جسم محدث.
قوله : «كل متحيز
فانه لا بد وأن يفترض فيه جانبان متساويان فى تمام الماهية. وكل شيئين متساويين فى
تمام الماهية ، فانه يصح على كل واحد منهما ما يصح على الآخر وذلك يقتضي صحة
الحركة على ذلك المتحيز».
قلنا : لو افترض
فى كل متحيز جانبان لزم كون الجسم قابلا لانقسامات لا نهاية لها. وذلك محال
بالدلائل الدالة على اثبات الجوهر الفرد. ولما بطل ذلك ، فسدت هذه المقدمة. وبالله
التوفيق.
الجواب : أما
الاستفسار عن الحيز. فنقول : ان كل أحد يعلم بالضرورة : أن كل متحيز فانه يصح أن
يشار إليه بالحس ، بأنه هنا أو هناك. وهذا القدر معلوم بالضرورة. ويكفينا بناء
الفرض على هذا المقدار وذلك لأن كونه هنا أو هناك ، اما أن يبقى مستمرا ، أو لا
يبقى. فان بقى مستمرا فهو الساكن ، وان لم يبقى فهو المتحرك. وهذا القدر واف
بتقرير هذه المقدمة.
وأما الخوض فى
بيان أن حقيقة المكان ما هى؟ فلا حاجة بنا فى المسألة إليه.
قوله : «الجسم فى
أول حدوثه ليس بمتحرك ولا ساكن» قلنا : كلامنا فى الجسم الباقى ولا شك أن الجسم
حال بقائه لا بد وأن يكون اما متحركا واما ساكنا. ثم أنا ذكرنا الدلائل الستة على
أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا فى الأزل.
قوله : «انه لا
بداية لصحة وجود الحركة ، فيلزم صحة كون الحركة أزلية» قلنا : قد ذكرنا : أن الشيء
اذا أخذ بشرط كونه مسبوقا بالعدم ، فهو مع هذا الشرط لا أول لصحته. ثم انه لم يلزم
منه صحة كون هذا الشيء بهذا الشرط أزليا. فكذا هاهنا.
قوله : «لم قلتم
بانه لما صدق على الشيء ، أنه لم يكن كذا ، ثم صار كذا ، فانه يقتضي كون احدى
الحالتين أمرا ثبوتيا».
قلنا : احدى
الحالتين ان كانت ثبوتية فهو المقصود. وان كانت عدمية فالحالة الثابتة رافعة لها.
ورافع العدم ثبوت. فالحالة الثابتة يجب أن تكون ثبوتية.
وأما النقوض التى
ذكرتموها ، فهى نقوض على مقدمة بديهية. فلا تستحق الجواب.
قوله : «الحركة
ليست عبارة عن حصول الجوهر فى الحيز الثانى ، بل عن حالة متقدمة على هذا الحصول.
وهو انتقاله من الحيز الأول الى الحيز الثانى».
قلنا : ان الحصول
فى الحيز الأول لما عدم ، بقى «الآن» الّذي هو أول زمان ذلك العدم. ولا بد وأن
يكون الجسم قد حصل فى حد آخر ، من حدود المسافة. فاذن لا معنى للحركة الا حصول
المماسة الثانية فى «الآن» هو أول زمان عدم المماسة الأولى.
قوله : «لم لا
يجوز أن يكون تأثير العلة الواجبة لذاتها ، فى وجود ذلك المعلول الأزلى ، كان
موقوفا على شرط عدمى أزلى ، فلما زال ذلك الشرط الأزلى ، زال ذلك المعلول الأزلى»؟.
قلنا : شرط
التأثير لا يمكن أن يكون عدميا ، لأن قبل حصول ذلك الشرط. ان بقيت العلة مؤثرة ،
لم يكن ذلك الّذي فرضناه شرطا لذلك التأثير : شرطا له. وان لم تبق العلة مؤثرة ،
فحينئذ تكون مؤثرية تلك العلة فى ذلك المعلول : معلولة بذلك العدم ، فيكون العدم
__________________
علة لتلك المؤثرية
، فيكون العدم علة للأمر الوجودى. وهو محال. وأما النقوض التى ذكرتموها على قولنا
: «الأزلى لا يزول» فهى غير واردة. وذلك لأن الّذي وقع فيه التغير ، هو النسب
والاضافات. والنسب والاضافات لا وجود لها فى الأعيان.
قوله : «لو افترض
فى كل متحيز جانبان ، للزم أن يكون كل متحيز قابلا للقسمة ، لا الى نهاية».
قلنا : ان من
المعلوم بالضرورة : أن كل متحيز ، فان الجانب الّذي منه يلى السماء ، غير الجانب
الّذي منه يلى الأرض. وما كان معلوم الثبوت بالضرورة ، لا يمكن انكاره. وبالله
التوفيق.
البرهان الثانى : فى اثبات حدوث الأجسام
: فنقول الأجسام
متناهية فى المقدار. وكل ما كان متناهيا فى المقدار ، فهو محدث. فالأجسام محدثة.
والّذي يدل على أن
الأجسام متناهية فى المقدار وجهان :
الوجه الأول : الأجسام لو كانت غير
متناهية ، أمكن أن يفرض
فيها خطان متوازيان : أحدهما غير متناه. والآخر متناه. فاذا زال الخط المتناهى عن
الموازاة الى المسامتة. فلا بد وأن يحدث فى الخط الّذي هو غير متناه ، نقطة. هى
أول نقطة المسامتة لكن ذلك محال فى الخط الّذي هو غير متناه. لأن كل نقطة فرضناها
فيه ، وجعلناها أول نقطة المسامتة ، كانت المسامتة مع النقطة التى فوقها ، حاصلة
قبل المسامتة معها. فاذن يلزم أن يحصل فى الخط الغير المتناهى ، نقطة هى أول نقطة
المسامتة. وأن لا يحصل. وهو محال. وهذا المحال انما يلزم من فرضنا ذلك الخط غير
متناه ، واذا فرض الخط غير متناه ، وجب أن يكون محالا باطلا.
والوجه الثانى فى بيان أن الأجسام يجب
أن تكون متناهية : لو كانت الأجسام
غير متناهية. أمكننا أن نفرض فيها خطا غير متناه. وليكن ذلك الخط : خط (أب)
ويمكننا أن نفرض فى وسط هذا الخط نقطتين : إحداهما نقطة (ج) والأخرى نقطة (د)
فنقول : خط (ج ا من جانب (ج) متناه ، ومن جانب (ا) غير متناه. وخط (دا) أيضا كذلك.
لكن خط (ج ا) أقل من خط (دا) بمقدار خط (ج د) وليكن ذلك المقدار شبرا واحدا.
واذا تلخص هذا ،
فنقول : عدد الأشبار الموجودة فى الخط الناقص ، ان كانت مساوية لعدد الأشبار
الموجودة فى الخط الزائد ، كان الشيء مع غيره ، كهو لا مع غيره. وهذا محال. وان
كانت أنقص منه ، فذلك التفاوت اما أن يظهر من الجانب المتناهى ، أو من الجانب
الغير المتناهى والأول محال. لأنا فرضنا التطبيق بحسب مراتب الأعداد فى هذا الجانب
المتناهى ، فوجب أن يظهر التفاوت من الجانب الآخر.
ومعنى فرض التطبيق
بحسب مراتب الأعداد : أن الشبر الأول من هذه الجملة مقابل بالشبر الأول من تلك
الجملة الثانية. والشبر الثانى من هذه الجملة مقابل بالشبر الثانى من تلك الجملة
ولتكن هذه الدقيقة معلومة ، حتى يتم البرهان فاذا حصل التطابق من هذا الجانب ، وجب
أن لا يظهر التفاضل الا من الجانب الآخر ، وحينئذ تنقطع الجملة الناقصة من ذلك
الجانب. والزائد زاد عليه بشبر واحد ، فتكون الجملة الزائدة أيضا متناهية. وهو
المقصود.
فثبت بهذين
البرهانين : أن كل جسم فهو متناه فى المقدار.
وأما المقدمة الثانية. وهى فى بيان أن كل ما كان متناهيا فى المقدار ، فهو محدث.
والدليل عليه : أن كل ما كان متناهيا فى
المقدار ، فانه لا
يمتنع فى العقل فرض وجوده أزيد من ذلك المقدار بذرة ، أو أنقص منه بذرة. والعلم
بجواز ذلك ضرورى. واذا استوت المقادير الثلاثة أعنى : حصول ذلك المقدار ، وحصول
ذلك الأزيد منه ، وحصول الأنقص منه استحال رجحان ذلك القدر ، على ما هو أزيد منه
أو أنقص منه. الا بتخصيص مخصص ، وايجاد قادر. والا فقد ترجح أحد طرفى الممكن على
الآخر من غير مرجح. وهو محال.
وقد بينا فى
البرهان الأول : أن كل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث. فاذن قد ثبت أن كل جسم
فهو متناه فى المقدار ، وثبت : ان كل ما كان متناهيا فى المقدار فهو محتاج فى
وجوده الى الفاعل المختار ، وثبت أن كل ما كان محتاجا فى وجوده الى الفاعل المختار
، فهو محدث فيلزم الجزم بأن كل جسم محدث.
البرهان الثالث : فى حدوث الأجسام : أن الجسم لو كان أزليا ، لكان فى الأزل حاصلا فى حيز معين.
ولو كان فى الأزل حاصلا فى حيز معين ، لامتنع خروجه عنه. فكان يلزم أن يمتنع على
كل واحد من أفراد الأجسام ، كونه متحركا. ولما كان هذا الثانى باطلا ، كان القول
بكون الجسم أزليا باطلا.
أما المقدمة الأولى : وهى قولنا : ان الجسم لو كان أزليا ، لكان فى الأزل حاصلا
فى حيز معين. فهى مقدمة بديهية. لأنا قد ذكرنا : أن المراد من المتحيز ما يمكن أن
يشار إليه اشارة حسية ، بأنه هنا أو هناك وكل موجود هذا شأنه وصفته ، فانه لا بد
وأن يكون مختصا بجهة معينة ومكان معين. فثبت : أن الجسم لو كان أزليا ، لكان فى
الأزل حاصلا فى حيز معين. ولو كان كذلك ، لكان حصوله فى ذلك الحيز المعين : أزليا.
وقد بينا فى البرهان الأول أن الأزلى لا يزول. فكان يمتنع عقلا زوال ذلك الحصول.
واذا امتنع زواله ، امتنعت الحركة عليه. فثبت :
أن الجسم لو كان
أزليا ، لكانت الحركة ممتنعة عليه. لكن الحركة غير ممتنعة عليه. أما فى الاجسام
المشاهدة ، فالحس دال على جواز الحركة عليها. وأما فى الأجسام الغائبة. فالبرهان
عليه هو الّذي ذكرناه فى البرهان الأول. فظهر أن الجسم يمتنع أن يكون أزليا.
البرهان الرابع فى حدوث ما سوى الله
تعالى : فنقول : كل ما سوى
الواجب الوجود الواحد ، فانه ممكن لذاته. وكل ممكن لذاته ، فهو محدث. فاذن كل ما
سوى ، الموجود الواحد ، فانه محدث.
بيان المقدمة الأولى : وهى قولنا كل ما سوى الموجود الواحد فهو ممكن لذاته. فنقول
الدليل عليه : أنا لو فرضنا موجودين ، يكون كل واحد منهما واجبا لذاته. فلا بد وأن
يكونا متشاركين فى الوجوب الذاتى ، ولا بد وأن يكونا غير متشاركين فى التعين. وما
به الاشتراك غير ما به الامتياز. فاذن يكون كل واحد منهما مركبا من الوجوب الذاتى
، الّذي حصلت به المشاركة ، ومن التعين الّذي به حصلت المباينة. لكن كل مركب فانه
مفتقر فى ماهيته وفى تحققه الى كل واحد من مفرديه ، وكل واحد من مفرديه مغاير له ،
لأن الكل مغاير لكل واحد من أجزائه. فاذن كل مركب ، فانه مفتقر فى تحققه الى غيره
، وكل مفتقر فى تحققه الى غيره ، فهو ممكن لذاته. فاذن كل مركب فهو ممكن لذاته.
فاذن لو فرضنا موجودين واجبى الوجود ، لكان كل واحد منهما ممكنا لذاته. والثانى محال.
فاذن فرض موجودين واجبى الوجود : يجب أن يكون محالا. فثبت : أن كل ما سوى الموجود
الواحد ، يجب أن يكون ممكنا لذاته.
وأما المقدمة الثانية : وهى أن كل ما كان ممكنا لذاته ، فانه يجب أن يكون محدثا.
فالبرهان على صحته : ان كل ما كان ممكنا لذاته ، فانه مفتقر فى رجحان وجوده على
عدمه الى المؤثر. وكل ما كان مفتقرا فى وجوده الى المؤثر ، فانه يجب أن يكون
محدثا.
بيان المقدمة
الأولى : أن الممكن ما تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود ، على البدل. وما كان كذلك
، امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر ، الا لمؤثر منفصل.
بيان المقدمة الثانية : أن نقول : الافتقار الى المؤثر ، اما أن يحصل حال الوجود ،
أو حال العدم. فان حصل حال الوجود ، فاما أن يحصل حال البقاء ، أو محال الحدوث. لا
جائز أن يحصل حال البقاء. والالزام أن يكون الشيء حال بقائه مفتقرا الى موجد
يوجده. والى مكون يكونه ، وذلك محال. لأن ايجاد الموجود ، وتحصيل الحاصل محال فى
بداهة العقول. فلم يبق الا أن يكون افتقار الأثر الى المؤثر. اما حاصلا حال الحدوث
، أو حال العدم. وعلى التقديرين فانه يلزم أن يكون كل مفتقر فى وجوده الى المؤثر ،
فانه يكون محدثا. فثبت : أن كل ما سوى الواحد ممكن لذاته. وثبت : أن كل ما كان
ممكنا لذاته ، فهو مفتقر فى وجوده الى المؤثر. وثبت أن كل ما كان مفتقرا فى وجوده
الى المؤثر : فاذن يلزم من هذا البرهان : أن كل ما سوى الواحد ، لا بد وأن يكون
محدثا. وهذا البرهان يفيد حدوث الاجسام والأعراض والعقول والنفوس والهيولى. ويفيد
أن واجب الوجود واحد. وهو الله جل جلاله ـ وبالجملة : فهو برهان عظيم واف باثبات
أكثر المباحث الشريفة الالهية.
فان قيل : لا نسلم أن ما سوى الواحد ممكن لذاته. قوله : «لو فرضنا
موجودين يكون كل واحد منهما واجبا لذاته ، لكانا متشاركين فى الواجب الذاتى ، ومتباينين
فى التعين ، فحينئذ يكون كل واحد منهما مركبا ، وكل مركب ممكن ، فحينئذ يكون
الواجب لذاته ، ممكنا لذاته» قلنا
: لا نسلم أنه يلزم
من فرض كون كل واحد منهما واجبا لذاته ، وقوع التركيب. وبيانه من وجوه :
أحدها ان بتقدير
أن يكون وجوب الوجود وصفا سلبيا ، يكون كل واحد منهما مشاركا للآخر ، فى وصف سلبى
، ويكون كل واحد منهما مباينا للآخر ، فى تمام الماهية.
فالاشتراك فى وصف
السلبى لا يوجب وقوع التركيب فى الماهية. بدليل : أن كل ماهيتين بسيطتين : فلا بد
وأن يشتركا فى سلب ما عداهما عنهما. فلو كان الاشتراك فى السلوب ، يوجب وقوع
الكثرة فى الماهية ، لزم أن يكون كل بسيط مركبا. وذلك محال. فعلمنا : أن بتقدير أن
يكون وجوب الوجود وصفا سلبيا ، لا يلزم وقوع الكثرة. فما الدليل على أن الوجوب ليس
وصفا سلبيا؟ ثم الّذي يدل على أن الوجوب وصف سلبى وجوه :
أحدها : ان الوجوب لو كان وصفا ثبوتيا ، لكان مساويا لسائر
الموجودات فى الوجود ، ومخالفا لها فى ماهياتها المخصوصة. وما به المشاركة ، مغاير
لما به المباينة. فالوجوب بالذات ، لو كان أمرا ثبوتيا لكاتب ماهيته مغايرة لوجوده
، فاتصاف ماهيته بوجوده اما أن يكون واجبا ، واما أن لا يكون. فان لم يكن واجبا ،
كان الوجوب الذاتى ممكن الوجود لذاته ، فكان الواجب لذاته أولى أن يكون ممكنا
لذاته. وذلك محال. وان كان واجبا. فهذا الوجوب صفة لا تصاف تلك الماهية بذلك
الوجود ، فيكون وجوب ذلك الوجود مغايرا له ، ويكون الكلام فيه كما فى الأول. فيلزم
التسلسل. وهو محال.
وثانيها : ان الوجوب لو كان وصفا ثبوتيا ، لكان اما أن يكون عبارة عن
تمام تلك الحقيقة المحكوم عليها بالوجوب ، واما أن يكون جزءا من تلك الحقيقة ،
واما أن يكون أمرا خارجا عن تلك الحقيقة. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بكون
الوجوب أمرا ثبوتيا باطل. وانما قلنا : انه يمتنع أن يكون الوجوب تمام تلك الحقيقة
والماهية.
وذلك لأن تلك
الماهية محكوم عليها بأنها واجبة ، والموضوع يمتنع أن يكون عين المحمول. ولأن
ماهية واجب الوجود غير معلومة. والمعلوم ليس هو نفس ما هو غير معلوم.
وانما قلنا : انه
يمتنع كون الوجوب جزءا من تلك الحقيقة ، لأن على هذا التقدير تكون تلك الحقيقة
مركبة. وقد بينتم : أن كل مركب ممكن. فاذن يلزم أن يكون الواجب لذاته ، ممكنا
لذاته وانما قلنا : انه يمتنع كون الوجوب صفة خارجة عن الحقيقة ، لأن كل ما كان
صفة خارجة عن الحقيقة مفتقرا إليها ، كان تحققه متوقفا على تحقق تلك الحقيقة. وكل
ما كان كذلك ، كان ممكنا لذاته. فذلك الوجوب بالذات ممكن لذاته. واذا كان الوجوب
ممكنا بالذات ، كان الواجب بالذات أولى بأن يكون ممكنا بالذات. فثبت : أن الأقسام
الثلاثة باطلة ، فكان القول بكون الوجوب أمرا ثبوتيا باطلا.
ثالثها : ان الوجوب محمول على العدم ، والمحمول على العدم ، يمتنع أن
يكون ثابتا. فالوجوب يمتنع أن يكون ثابتا. وانما قلنا : ان الوجوب محمول على العدم
: لأن كل ما يصدق عليه أنه يمتنع أن يوجد ، يصدق عليه أنه يجب أن لا يوجد. فالوجوب
محمول على لا وجود. فثبت : أن مفهوم الوجوب ، محمول على العدم. وانما قلنا : ان
المحمول على العدم ، يمتنع أن يكون ثابتا. لأنه ثبت فى بداهة العقول : أن قيام
الصفة الموجودة بالنفى. المحض محال. فثبت بهذه البراهين الثلاثة : ان الوجوب صفة
عدمية. وثبت أن الاشتراك فى الصفة العدمية ، لا يوجب وقوع الكثرة فى الماهية. فثبت
: أنه لا يلزم من اشتراك الشيئين فى الوجوب ، وقوع التركيب فى ماهيتهما.
السؤال الثانى : سلمنا أن الوجوب صفة ثبوتية ، لكن لا نسلم أن التعين أمر
ثبوتى. بل نقول : التعين ليس بأمر ثبوتى. واذا كان
كذلك ، لا يلزم من
حصول المباينة فى التعين ، وقوع التركيب فى الماهية.
والّذي يدل على أن
التعين ليس أمرا ثبوتيا وجوه :
أحدها : ان تعين كل شيء متعين ، غير تعين المتعين الآخر ، والا لكان
تعين كل شيء ، عين تعين غيره. وعلى هذا التقدير. يلزم أن تكون الأشياء كلها متعينة
بتعين واحد. وهو محال. واذا ثبت هذا فنقول : أفراد التعينات متساوية فى ماهية
كونها تعينا ، وكل واحد من تلك الأفراد يباين الآخر بتعينه ، فيلزم أن يكون تعين
المتعين زائدا عليه ، ثم الكلام فى الثانى كما فى الأول ، فيلزم التسلسل وهو محال.
وثانيها : وهو أن التعين لو كان زائدا على الذات ، لكان اختصاص ذلك
الزائد المسمى بالتعين بهذه الذات ، دون تلك الذات ، يتوقف على امتياز هذه الذات
عن تلك الذات. ولكن امتياز هذه الذات عن تلك الذات ، يتوقف على تعين هذه الذات ،
وتلك الذات ، فلو كان تعين هذه الذات ، وتعين. تلك الذات ، معللا بذلك الزائد : وقع
الدور. وانه محال.
وثالثها : لو كان التعين وصفا زائدا على الذات ، لكان المتعين لم يكن
فى نفسه شيئا واحدا ، بل كان شيئين : أحدهما : تلك الذات. والثانى : الصفة المسماة
بالتعين ، القائمة بالذات. واذا كانا شيئين ، ولكل واحد منهما تعين ، فلا يكون ذلك
الشيء اثنين ، بل أربعة ، ثم لكل واحد من تلك الأربعة تعين آخر ، فلا يكون ذلك
أربعة ، بل ثمانية. وهلم جرا. فيلزم من ذلك أن الشيء الّذي حكمنا عليه بأنه واحد ،
ليس بواحد ، بل أعداد غير متناهية. وذلك محال. لأن الواحد لا يكون عددا. وأيضا :
فان الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات.
فلا بد هناك من
وحدة ، لكن تلك الوحدة لها تعين ، فلا تكون الوحدة وحدة. هذا خلف.
ورابعها : ان التعين عبارة عن أنه ليس هو ذلك الآخر ، ومفهوم أنه ليس
هو الآخر: مفهوم سلبى لا ثبوتى.
فثبت بهذه الدلائل
: أن التعين يمتنع أن يكون أمرا ثبوتيا.
واذا ثبت هذا ،
فنقول : لم لا يجوز أن يقال : الشيئان اللذان يكون كل واحد منهما واجبا لذاته ،
أنهما يتشاركان فى تمام الماهية ـ وهى الوجوب ـ ويتباينان بالتعين ، الا أن التعين
أمر عدمى. وعلى هذا التقدير لا يلزم وقوع التركيب فى الماهية؟
السؤال الثالث : سلمنا أنه يلزم من حصول الاشتراك فى الوجوب ، وحصول التباين
فى التعين : وقوع الكثرة فى الماهية. لكن هذه الكثرة لازمة. سواء قلنا بأن واجب
الوجود واحدا ، أو لم نقل به. وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه لا شك أن هنا لوازم وملزومات. فان الثلاثة مستلزمة
لذاتها لمعنى الفردية والاربعة مستلزمة لمعنى الزوجية ، والسواد لذاته مناف
للبياض. فهذه الاستلزامات الذاتية : وجوبات ذاتية. وهى أنواع كثيرة. فاذن واجب
الوجود لذاته ، أكثر من واحد.
وثانيها : هب أن واجب الوجود لذاته ، ليس الا الواحد ، لكن الواجب
بغيره. فيه كثرة. ثم الواجب لذاته يشارك الواجب بغيره فى مسمى كونه واجبا ، ويمتاز
عنه بخصوص كونه واجبا لذاته. وما به المشاركة مغاير لما به المباينة. فالوجوب
بالذات مركب فى ماهيته. وحينئذ تعود المحالات المذكورة.
وثالثها : ان واجب الوجود لذاته ، يساوى فى كونه موجودا سائر الوجودات
، ويباينها بتعينه. وذلك التعين اما أن يكون سلبيا ، أو ثبوتيا. فان كان ذلك
التعين سلبيا يكون هو ، من حيث انه هو عدما لا وجودا. وذلك محال. فاذن ذلك التعين
الّذي به باين غيره ، أمر ثبوتى. فاذن هو مركب عن الوجود الّذي به يشارك غيره ،
وعن التعين الّذي به امتاز عن غيره. فيلزم وقوع الكثرة فى ذاته.
السؤال الرابع : هب أنه يلزم من ذلك وقوع الكثرة فى ذات كل واحد منهما. لكن
لم لا يجوز أن يقال : كل واحد من جزئى ذاته واجب لذاته. وذلك المجموع يجب لوجوب
جزئيه معا. وعلى هذا التقدير لا يلزم منه محذور أصلا؟ سلمنا : أن كل ما سوى الواحد
ممكن لذاته ، فلم قلتم : ان كل ممكن لذاته محدث؟ قوله لأن كل ما كان ممكنا لذاته ،
فانه محتاج الى المؤثر ، وكل محتاج الى المؤثر فهو محدث» قلنا : أما المقدمة الأولى. وهى أن كل ما كان ممكنا لذاته ، فانه محتاج الى أؤثر ،
فسيجيء البحث عليها فى مسألة اثبات الصانع. ان شاء الله تعالى. وأما
المقدمة الثانية. وهى قوله : «ان
كل ما كان محتاجا الى المؤثر فهو محدث» فهذا ممنوع ، وقوله : «حاجة الأثر الى
المؤثر ، اما أن تحصل حال البقاء أو حال الحدوث ، أو حال العدم» قلنا : الكلام
عليه من وجهين :
الأول : انه منقوض بالمعلول ، فانه يبقى مفتقر الى العلة ، حال
بقائه. وكذلك المشروط يبقى مفتقرا الى الشرط حال بقائه. وكذلك عالمية الله تعالى
معللة بعلمه ، مع كون كل واحد منهما أزليا.
ومن النقوض اللازمة : ان أريد بقاء الشيء. اما على وجودة أو على عدمه ، فبقاء
الشيء على وجوده ، يمتنع أن يكون صفة زائدة على ذاته. لأنه لا معنى للبقاء الا نفس
حصوله فى الزمان الثانى. وحصول الشيء فى الزمان الثانى لو كان زائدا عليه ، لكان
ذلك الزائد
حاصلا فى ذلك
الزمان. ويلزم التسلسل وهو محال. وأما بقاء الشيء على عدمه ، فيمتنع أن يكون وصفا
ثبوتيا زائدا عليه. والالزام قيام الموجود بالمعدوم. فلما ثبت أن الانسان قد يريد
بقاء الشيء ، وثبت أن بقاء الشيء نفس ذات الشيء ، ثبت : أن الإرادة قد تتعلق
بالشيء حال بقاء الشيء.
الوجه الثانى من الكلام على ذلك الدليل
:
انا نعارضه بوجوه
أخر من الدلائل :
الوجه الأول : ان عدم الفعل ينافى وجوده ، وعدم الفاعلية ينافى حصولها.
ومنافى الشيء يمتنع أن يكون شرطا له. فالعدم السابق يمتنع أن يكون شرطا لكون الفعل
فعلا ، ولكون الفاعل فاعلا. فاذن كون الفعل فعلا ، وكون الفاعل فاعلا ، ممكن
التحقق بدون العدم السابق ، وذلك هو المطلوب.
الوجه الثانى : ان الأثر. حال بقائه ممكن الوجود ، فلا بد له من مؤثر. فالشيء
حال بقائه مفتقر الى المؤثر. انما قلنا : ان الأثر حال بقائه ممكن الوجود ، لأن
المراد من الا مكان كون تلك الماهية فى نفسها قابلة للعدم والوجود ، وكونها فى
نفسها غير متأبية من الأمرين فتلك الماهية من حيث هى. هى ، ان كانت متأبية من قبول
العدم ، وجب أن تكون كذلك أبدا. وان كنت هويتها من حيث هى هى ، لا تتأبى عن قبول
العدم ، كانت هذه الحالة حاصلة أبدا. فكانت ممكنة أبدا. وأما أن الممكن لا بد له
من مؤثر. فهو ظاهر.
واذا ظهرت
المقدمتان ، ثبت ان الممكن حال بقائه مفتقر الى المؤثر. وذلك يقدح فى أن الافتقار
الى المؤثر ، لا يحصل الا حال الحدوث.
الوجه الثالث : ان الحدوث عبارة عن كون وجود الشيء مسبوقا بعدمه. وهذه
المسبوقية صفة من صفات الشيء ، ونعت من نعوته.
وصفة الشيء مفتقرة
الثبوت الى تحقق الموصوف. فحدوث الشيء مفتقر الى وجوده ثم ان وجوده مفتقر الى
تأثير المؤثّر فيه ، الّذي هو مفتقر الى احتياج الأثر الى المؤثر ، الّذي هو مفتقر
الى علة ذلك الاحتياج ، والى جزء تلك العلة ، والى شرط تلك العلة. فلو كان الحدوث
علة للحاجة ، أو جزءا من تلك العلة ، أو شرطا لتلك العلة ، لزم تأخر الشيء عن نفسه
بمراتب وهو محال. فعلمنا : أنه لا عبرة بالحدوث فى حصول احتياج الأثر الى المؤثر.
الوجه الرابع : وهو أن الممكن الخاص هو الّذي يصدق عليه أنه يمكن وجوده ،
ويمكن عدمه. واذا ثبت هذا ، فنقول : كون العدم ممكنا اما أن يكون محوجا الى المؤثر
، ولا يكون كذلك. فان كان الأول كان العدم الممكن المستمر من الأزل الى الآن
محتاجا الى المرجح. فثبت : أن الشيء حال استمراره ، قد يفتقر الى المؤثر. وان كان
الثانى فهو باطل ، لأن ماهية الامكان الخاص واحدة فى جانبى الوجود والعدم. فان لم
يكن فى جانب العدم محوجا الى المرجح ، فكذا فى جانب الوجود ، وجب أن لا يحوج الى
المؤثر. وحينئذ يلزم استغناء الممكن عن المؤثر. وهو محال.
الوجه الخامس : ان الممكنات لا بد من انتهائها فى سلسلة الحاجة الى واجب
الوجود. فنقول : واجب الوجود اما أن يكون مستجمعا لجميع تلك الأمور المعتبرة فى
المؤثرية فى الأزل ، أو ما كان مستجمعا لتلك الأمور فى الأزل. فان كان الأول لزم
من دوامه مع دوام جميع ذلك الأمور المعتبرة فى المؤثرية ، دوام آثاره. وعلى هذا
التقدير ، ثبت : أن استناد الأثر الى المؤثر ، لا يتوقف على كون الأثر حادثا. وأما
ان قلنا بأنه تعالى ما كان مستجمعا فى الأزل لجميع الأمور المعتبرة فى المؤثرية ،
فحينئذ يكون حصول تلك الأمور المعتبرة فى المؤثرية حادثا. ثم الكلام فى كيفية
حدوثها كما فى الأول. ويلزم التسلسل. وهو محال.
الوجه السادس : انا لو تصورنا محدثا حدث مع وجوب أن يحدث لذاته ، قطعنا
بأنه لا حاجة به فى حدوثه الى المرجح ، لأنه لما كان مترجحا لذاته ، فالمترجح
لذاته وبذاته ، يمتنع استناده الى المؤثر ، المرجح الخارجى. وأما اذا تصورنا
موجودا باقيا واعتقدنا أن الوجود بالنسبة إليه كالعدم ، قطعنا بأنه لا بد له من
المرجح. وهذا يدل على أن علة الحاجة هى الامكان لا الحدوث.
الوجه السابع : ان المحدث له أمور ثلاثة : الوجود الحاصل فى الحال ، والعدم
السابق ، وكون هذا الوجود مسبوقا بذلك العدم. فنقول : المحتاج الى المؤثر ليس هو
العدم السابق فانه نفى محض. وهو مناقض لحصول التأثير. وليس هو أيضا كون ذلك الوجود
مسبوقا بالعدم ، فان كون هذا الوجود مسبوقا بالعدم ، أمر واجب لذاته ، ممتنع
التغير. والواجب لذاته لا يحتاج الى المؤثر. فلم يبق الا أن يقال : المحتاج الى
المؤثر ، هو الوجود الحاصل فى الحال. فنقول : لا جائز أن يكون المحتاج الى المؤثر
مطلق الوجود ، والا لكان الواجب لذاته ، مفتقرا الى المؤثر. وهو محال. ولما بطل
هذا القسم ، لم يبق الا أن يقال : المحتاج الى المؤثر ، هو الوجود الممكن. فان
الحدوث ساقط عن درجة الاعتبار بالكلية.
الوجه الثامن : ان الصفات الخارجة اللازمة للماهية ، كالزوجية للأربعة ،
والفردية للخمسة. لا بد وأن تكون ممكنة فى نفسها ، لأنه لا يعقل وجود هذه الصفات
على سبيل الانفراد والاستقلال. بل لا يعقل ثبوتها الا عارضة لهذه الماهيات ، وكل
ما لا يكون مستقلا بنفسه ، ولا منفردا بذاته. فانه لا بد وأن يكون ممكنا لذاته ،
واجبا لغيره. فاذن هذه اللوازم معلولة بتلك الماهيات ، ثم ان تلك الماهيات قط ، ما
كانت خالية عن تلك اللوازم. فان الأربعة لا يعقل أن تكون منفكة عن الزوجية ،
والخمسة لا تكون منفكة عن الفردية. فقد ثبت فى هذه الصور : استناد الشيء الى غيره
، مع كون الأثر دائما بدوام المؤثر.
فهذه الدلائل
الثمانية : دالة على أنه لا يلزم من افتقار الشيء فى وجوده الى غيره كون الأثر
حادثا. وبالله التوفيق.
ثم نقول : ما ذكرتم من الدلالة منقوض بكون الله تعالى عالما بالعلم ،
قادرا بالقدرة فان علم الله تعالى ان كان واجبا لذاته ، وذاته أيضا واجبة لذاتها.
فقد حصل موجودان كل واحد منهما واجب لذاته. وذلك يبطل المقدمة الأولى من مقدمات
دليلكم. وان كان علم الله تعالى ليس واجبا لذاته ، بل ممكنا لذاته ، واجبا بوجوب
ذاته ، مع أن علمه قديم ، كان ذلك اعترافا بكون الأثر والمؤثر دائمين. وذلك يبطل
المقدمة الثانية من مقدمات دليلكم. وبالله التوفيق.
والجواب : قوله : «ما الدليل على أن
الوجوب أمر ثبوتى؟»
قلنا : يدل عليه
وجهان.
الأول : ان الوجوب تأكيد الوجود. فلو كان الوجوب عدميا ، لكان أحد
النقيضين سببا لتأكد الآخر. وانه محال.
الثانى
: ان الوجوب يناقض
اللاوجوب ، والداخل تحت اللاوجوب اما الممتنع وأما الممكن الخاص. والممتنع معدوم.
والممكن الخاص يجوز أن يكون معدوما. فاذن اللاوجوب محمول على المعدوم ، فيكون
معدوما. وان كان اللاوجوب معدوما ، كان الوجوب موجودا. ضرورة أن أحد النقيضين ، لا
بد وأن يكون موجودا.
وأما المعارضات
فانها بأسرها معارضة بوجه واحد. وهو أن الوجوب لو كان عدميا محضا فى الخارج ، لم
يكن الشيء فى الخارج موصوفا بأنه واجب. فهذا يقتضي نفى واجب الوجود لذاته. وانه
محال.
قوله : «ما الدليل
على أن التعين أمر ثبوتى»؟ قلنا : الدليل عليه : أن هذا الانسان يساوى ذلك الانسان
فى كونه انسانا ، ولا يساويه فى كونه هذا أو ذلك. وما به المشاركة غير ما به
المباينة. فلتعين أمر زائد على الماهية. ثم ذلك الزائد لا يجوز أن يكون عدميا.
ويدل عليه وجهان :
الأول : ان التعين جزء من ماهية المعين ، والمعين من حيث انه ذلك
المعين موجود ، وجزء الموجود موجود. فالتعين أمر موجود.
الثانى : ان التعين لو كان عدما ، لم يكن عدم أى تعين اتفق. بل كان عبارة عن كون هذا الشيء ، ليس هو ذلك الشيء. فاذا
فسرنا تعين هذا بعدم تعين ذاك ، فتعين ذاك ان كان عدما ، كان تعين هذا عدما للعدم.
وعدم العدم وجود. فتعين هذا أمر موجود. وان كان تعين ذاك امرا وجوديا ، كان ذلك
التعين أمرا موجودا. فثبت : أن أحد التعينين أمر موجود. واذا كان كذلك ، وجب أن
يكون كل تعين أمرا موجودا. لأن حقيقة التعين حقيقة واحدة لا تختلف بصورة وصورة.
وأما المعارضة
الأولى : فجوابها : ان الماهية والتعين اذا اجتمعنا ، فبانضياف التعين الى الماهية
، صارت الماهية متعينة ، وبانضياف الماهية الى التعين ، صار التعين متعينا. وبهذا
الطريق ينقطع التسلسل.
لا يقال : انه لم
يلزم التسلسل. لكنه يلزم الدور. لأنا نقول : الدور انما يلزم لو كانت ماهية كل
واحد منهما سببا لماهية الآخر ، لكننا لا نقول كذلك ، بل نقول : ماهية كل واحد
منهما سبب لتعين
__________________
الآخر ، وذلك لا
يوجب الدور. وبهذا الطريق نجيب عن بقية المعارضات وبالله التوفيق.
قوله : «كون
الثلاثة فردا ، والأربعة زوجا : أمور واجبة لذواتها. فاذن واجب الوجود أكثر من
واحد». قلنا : مرادنا من قولنا واجب الوجود لذاته : الموجود الّذي يكون مستقلا
ومستبدا بذاته وتحققه. وهذه صفات تكون لا حقة للماهيات ، فلا تكون واجبة لذواتها.
قوله : «الواجب
لذاته ، يشارك الواجب لغيره فى مسمى الوجوب» قلنا : لكنه يمتاز عنه بقيد سلبى.
وعلى هذا التقدير لا تلزم الكثرة.
قوله : «الواجب
لذاته يشارك الممكن لذاته فى مسمى الموجودية ، ويخالفه فى التعين فتلزم الكثرة».
قلنا : مذهبنا أن الوجود الّذي به المشاركة ، مغاير للماهية المخصوصة التى بها
المخالفة ، لكن لم لا يجوز أن تكون تلك الماهية ، مستلزمة لذلك الوجود؟ الا أنه
يبقى هاهنا اشكال. وهو أنكم لما جعلتم تلك الماهية علة لذلك الوجود ، مع كون الماهية
والوجود دائمين. فقد اعترفتم بأن استناد الأثر الى المؤثر ، لا يتوقف على الحدوث.
وهذا الاشكال مما نستخير الله تعالى فيه.
قوله : «لم لا
يجوز أن كل واحد من الموجودين الواجبين يكون مركبا من الوجود الّذي به المشاركة ،
ومن التعين الّذي به المباينة. الا ان كل واحد من هذين الجزءين يكون واجبا لذاته.
وحينئذ يكون المركب واجبا لوجوب كل واحد من جزئيه؟» قلنا : هذا باطل من وجهين :
الأول
: هو أنا لو فرضنا
موجودين يكون كل واحد منهما واجبا لذاته ، لزم كون كل واحد منهما مركبا. وكل مركب
ممكن. فيلزم
أن يكون الواجب
لذاته غير واجب لذاته. وذلك محال. واذا لزم المحال من هذا القدر ، كفانا هذا القدر
فى تقرير المطلوب.
الوجه الثانى : وهو أنا لو فرضنا كل واحد من ذينك الجزءين واجبا ، فحينئذ
يشتركان فى الوجوب ، ويتباينان فى الخصوصية. فيلزم كون كل واحد من ذينك الجزءين ،
مركبا من أجزاء لا نهاية لها.
وأما الوجوه التى
ذكرتموها فى بيان أن الافتقار قد يحصل حال البقاء. فنقول : ان دليلنا أقوى من
الوجوه التى ذكرتموها. وذلك لأنا اذا أسندنا الباقى حال بقائه الى المؤثر ، فذلك
المؤثر اما أن يقال : أنه لم يصدر عنه أثر ، أو يقال : صدر عنه أثر. فان لم يصدر
عنه أثر ، لم يكن مؤثرا. وان صدر عنه أثر ، فذلك الأثر. اما أن يصدق عليه أنه كان
حاصلا قبل ذلك ، أو يصدق عليه أنه ما كان حاصلا قبل ذلك فان صدق عليه أنه كان
حاصلا قبل ذلك ، فحينئذ يلزم أن يقال : المؤثر حصل فى هذا الوقت شيئا ، كان ذلك
الشيء حاصلا قبل ذلك. وهذا غير معقول. واما أن يصدق عليه أنه ما كان حاصلا قبل هذا
الوقت. فهذا الأثر يكون حادثا لا باقيا. فكان المفتقر الى المؤثر هو الحادث ، لا
الباقى فهذه نكتة جليلة قوية فى بيان أن اسناد الأثر الى المؤثر لا يحصل الا حال
الحدوث.
وأما الجواب عن
تلك الوجوه على سبيل التفصيل. فمذكور فى المطولات.
قوله : «هذا منقوض
بكونه تعالى عالما بالعلم ، قادرا بالقدرة» قلنا : هذا السؤال صعب. وهو مما
نستخير الله تعالى فيه.
البرهان الخامس فى حدوث الأجسام : لو كان الجسم قديما ، لكان قدمه اما أن يكون عين كونه جسما
، واما أن يكون مغايرا لكونه
__________________
جسما. والقسمان
باطلان ، فبطل القول بكون الجسم قديما. انما قلنا : انه لا يجوز أن يكون قدم الجسم
عين كونه جسما ، لأنه لو كان كذلك ، لكان العلم بكونه جسما ، علما بكونه قديما.
فكما أن العلم بكونه جسما ضرورى. لزم أن يكون العلم بكونه قديما ضروريا. ولما بطل
هذا ، فسد هذا القسم. وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون قدم الجسم زائدا على كونه
جسما ، لأن ذلك الزائد ان كان قديما لزم أن يكون قدمه زائدا عليه. ولزم التسلسل.
وان كان حادثا ، فكل حادث فله أول وكل قديم فلا أول له. فلو كان قدم القديم عبارة
عن ذلك الحادث ، لزم أن يكون ذلك الشيء له أول ، وأن لا يكون له أول. وهو محال.
فان عارضونا بكونه
حادثا. قلنا : الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل فى الحال ، والعدم السابق. ولا
يبعد حصول العلم. بالوجود ، الحاصل مع الجهل بالعدم السابق. بخلاف القديم فانه لا
معنى له الا نفس وجوده. فظهر الفرق. وهذا وجه جليل وفيه مباحث دقيقة.
وليكن هذا آخر
كلامنا فى شرح دلائل حدوث الأجسام والله أعلم.
واحتج القائلون
بالقدم بوجوه :
أولها : لا شك أن الممكنات تنتهى فى سلسلة الحاجة الى واجب الوجود.
فنقول : كل ما لا بد منه فى كونه تعالى مؤثرا فى آثاره. اما أن يقال : انه كان
حاصلا فى الأزل أو ما كان حاصلا فى الأزل. فان كان كل ما لا بد منه فى المؤثرية
حاصلا فى الأزل ، فاما أن يجب مع
__________________
حصولها حصول الأثر
، أو لا يجب. فان وجب لزم من دوامه دوام الأثر ، وان لم يجب كان وجوده مع عدم تلك
الآثار جائزا.
فلنفرض ذاته مع
مجموع الأمور المعتبرة فى المؤثرية. تارة مع وجود تلك الآثار ، وأخرى مع عدمها.
فاختصاص ذلك الوقت بالوجود دون الوقت الآخر ، اما أن يتوقف على اختصاصه بأمر ما
لأجله كان هو أولى بوجود ذلك الأثر ، واما أن لا يكون كذلك. فان كان الأول كان ذلك
المخصص معتبرا فى المؤثرية. وهو ما كان حاصلا قبل ذلك الوقت. فاذن كان ما لا بد
منه فى المؤثرية ، ما كان حاصلا فى الأزل. وكنا قد فرضناه حاصلا. هذا خلف. وان كان
الثانى ، كان ذلك ترجيحا لأحد طرفى الممكن المتساوى على الآخر ، من غير مرجح أصلا.
وهو محال. هذا اذا قلنا بأن كل ما لا بد منه فى المؤثرية كان حاصلا فى الأزل. أما
اذا قلنا بأن كل ما كان حاصلا فى الأزل ، فحدوثه فى لا يزال ، بعد أن لم يكن ، اما
أن يفتقر الى مؤثر ، أو لا يفتقر. فان لم يفتقر ، فقد حدث الممكن لا عن مرجح ، وان
افتقر نقلنا الكلام الى كيفية احداث تلك الأمور. ويلزم التسلسل. وهو محال.
هذا هو العمدة
الكبرى للقوم.
أجاب المتكلمون
عنه فى وجوه :
أحدها : انه لم لا يجوز أن يقال : العالم انما حدث فى الوقت المعين
، لأن إرادة الله تعالى تعلقت بايجاده فى ذلك الوقت ، دون سائر الأوقات. وليس لأحد
أن يقول : لم تعلقت الإرادة باحداث العالم فى ذلك الوقت ، ولم تتعلق ارادته
باحداثه فى سائر الأوقات؟ وذلك لأن تلك الإرادة بعينها وماهيتها المخصوصة ، اقتضت
التعلق باحداث العالم فى ذلك الوقت والماهيات لا تعلل.
وثانيهما : انه تعالى عالم بجميع الجزئيات. فكان علمه القديم متعلقا
بأن العالم فى أى الأوقات يوجد ، وفى أيها لا يوجد. والإرادة
لا تتعلق بالشيء ،
الا على وفق العلم. فلهذا السبب تعلقت إرادة الله باحداث العالم فى الوقت الّذي
علم وقوعه فيه ، ولم تتعلق باحداثه فى سائر الأوقات.
وثالثها : لم لا يجوز أن يقال : ان ذلك الوقت اختص بحكمة خفية ،
لأجلها خصص الله تعالى احداث العالم بذلك الوقت ، دون سائر الأوقات؟ واذا كان هذا
الاحتمال قائما ، سقطت هذه المطالبة.
ورابعها : ان احداث العلم فى الأزل محال. لأن الاحداث عبارة عن جعله
موجودا بعد ان كان معدوما. وذلك يستدعى سبق العدم. والأزل عبارة عن نفى المسبوقية
بالغير ، فكان الجمع بينهما محالا.
وخامسها : ان العالم قبل ذلك الوقت ، ما كان ممكنا ، بل كان ممتنعا ،
ثم انقلب ممكنا فى ذلك الوقت.
وسادسها : ان القادر المختار يمكنه أن يرجح أحد المقدورين على الآخر ،
من غير مرجح. كما أن الهارب من السبع اذا عن له طريقان متساويان من جميع الوجوه ، فانه يختار أحدهما
على الآخر من غير مرجح ، والعطشان اذا خير بين قدحين متساويين ، فانه يختار أحدهما
على الآخر من غير مرجح.
قالت الفلاسفة : لو تأملتم حق التأمل فى الحجة التى ذكرتموها لما أوردتم هذه
الأجوبة. وذلك لأن حاصل هذه الأجوبة يرجع الى حرف واحد. وهو : أن كل ما لا بد منه
فى ايجاد العالم ما كان حاصلا فى الأزل.
__________________
وأما الجواب الأول : فلأنكم قلتم بان إرادة الله تعالى تعلقت بايجاد العالم ، فى
ذلك الوقت المعين. وذلك الوقت المعين ما كان حاصلا فى الأزل. فاذن العالم انما لم
يوجد فى الأزل ، لأن حصول ذلك الوقت المعين : شرط. وذلك الوقت ما كان حاصلا فى
الأزل ، ففات الايجاد لفوات شرطه.
وأما الجواب الثانى : فهو أن الوقت الّذي علم الله تعالى أن العالم يوجد فيه ، شرط
لوجود العالم. وذلك الوقت ما كان حاضرا فى الأزل. والعالم لا يوجد ، لأن شرطه ما
كان حاضرا فى الأزل.
وأما الجواب الثالث : فهو أن شرط دخول العالم فى الوجود ، حضور ذلك الوقت المشتمل
على تلك المصلحة. وذلك الوقت ما كان حاضرا فى الأزل. فالعالم لم يحصل لان شرط
حصوله كان فائتا.
وأما الجواب الرابع : فهو أن انقضاء الأزل شرط الايجاد. وهذا الشرط ما كان حاصلا
فى الأزل ، ففات الايجاد لقوات شرطه.
وأما الجواب الخامس : فهو ان حضور الوقت الّذي حدث فيه امكان العالم : شرط الايجاد.
وهذا الشرط ما كان حاصلا فى الأزل ، ففات الايجاد لفوات شرطه.
وأما الجواب السادس : وهو أن القادر يرجح أحد مقدورية على الآخر ، لا لمرجح. فمعناه
أن دخول العالم فى الوجود ، يتوقف على ذلك الترجيح. ثم ان ذلك الترجيح ما كان
حاصلا فى الأزل ، ففات الايجاد لفوات شرطه.
فثبت : أن هذه
الأجوبة الستة كلها راجعة الى حرف واحد. وهو اختيار أحد القسمين المذكورين فى تلك
الحجة. وهو أن كل ما لا بد منه فى المؤثرية ، ما كان حاصلا فى الأزل. لكنا ذكرنا
هذا القسم ، وابطلناه بأن تلك الأمور لما لم تكن حاصلة فى الأزل ،
ثم حدثت. فان كان
حدوثها غنيا عن المرجح ، لزم نفى الصانع. وان افتقر الى المرجح ، عاد التقسيم
الأول فيه. ولزم التسلسل. فهذه الوجوه ليست أجوبة عن تلك الحجة البتة أصلا.
ثم انا بعد هذا ،
نبطل كل واحد من تلك الأجوبة على سبيل التفصيل :
أما
الجواب الأول : فهو ضعيف من وجهين :
الأول : ان الإرادة القديمة المتعلقة بايجاد العالم فى الوقت المعين
، اما أن تكون صالحة التعلق بايجاد العالم فى وقت آخر ، وأما أن لا تكون صالحة
لذلك. فان كان الحق هو الأول ، كانت الإرادة صالحة لايجاد العالم فى هذا الوقت ،
وصالحة للتعلق بايجاد العالم فى سائر الأوقات. فترجيح بعض التعلقات على ما سواه.
ان لم يفتقر الى المرجح فقد ترجح الممكن لا عن مرجح ، وان افتقر الى المرجح كان
الكلام فيه كما فى الأول. ويلزم التسلسل. وان كان الحق هو القسم الثانى. وهو أن
تلك الإرادة المتعلقة بايجاد العالم فى ذلك الوقت ، ما كانت صالحة للتعلق بايجاد
العلم فى وقت آخر ، فحينئذ لا يكون هذا المؤثر فاعلا مختارا ، بل مؤثرا موجبا
بالذات. واذا كان موجبا امتنع تخلف المعلول عنه. فهذا يقتضي القول بقدم العالم لا
بحدوثه.
والوجه الثانى : ان تعلق إرادة الله بايجاد العالم ، اما أن لا يكون مشروطا
بوقت معين ، واما أن يكون مشروطا بوقت معين. فان لم يكن مشروطا بوقت معين ، فهذا
معناه أنه تعالى فى الأزل ، أراد ايجاد العالم من غير أن تكون تلك الإرادة مختصة
بوقت معين. واذا كانت الإرادة غير مقيدة بوقت معين البتة. وما كانت مشروطة بشرط
فائت البتة. وجب حصول المراد مع هذه الإرادة. فكان التقدم لازما.
وأما ان كانت
الإرادة مشروطة بوقت معين. مثل أن يقال : انه تعالى أراد ايجاد العالم فى وقت معين
، فذلك الوقت ان كان حاضرا فى الأزل لزم حصول ذلك المراد ، فى الأزل. وان لم يكن
حاضرا فى الأزل كان حادثا. فحينئذ ينتقل الكلام الى كيفية ارادته لاحداث ذلك
الوقت. فان كانت تلك الإرادة مشروطة بوقت آخر ، لزم التسلسل. وهو محال.
وأما الجواب الثانى :
فهو أيضا ضعيف من وجهين :
الأول : ان العلم
بحدوث العالم فى ذلك الوقت ، تبع لحدوث العالم فى ذلك الوقت. لان العلم تبع
للمعلوم. وحدوث العالم فى ذلك الوقت ، تبع لارادة احداثه فى ذلك الوقت. فلو جعلنا
إرادة احداثه فى ذلك الوقت ، تبعا لعلمه بوقوع العالم فى ذلك الوقت : لزم الدور.
الثانى : ان علم الله تعالى لما تعلق بحدوث العالم فى وقت معين ، وبعدم
حدوثه فى وقت آخر. تغير المعلوم. وتغير المعلوم محال. فحينئذ يمتنع عقلا أن لا
يحدثه فى ذلك الوقت الّذي علم حدوثه فيه ، ويمتنع عقلا أن يحدثه فى الوقت الّذي
علم أنه لا يحدثه فيه. فهذا المؤثر لا يكون فاعلا مختارا ، بل يكون موجبا بالذات.
وأما الجواب الثالث : وهو أن حدوث العالم انما اختص بذلك الوقت لاختصاص ذلك الوقت
بمصلحة لا توجد فى سائر الأوقات. فهو أيضا ضعيف من وجهين :
الأول : ان حدوث العالم لما توقف على حضور ذلك الوقت المختص بتلك
المصلحة. فحدوث ذلك الوقت ان كان لا لمحدث ، فهو نفى الصانع. وان كان لمحدث ،
فالسؤال عائد فى أنه لم لم يحدث قبل ذلك الوقت أو بعده؟ ويلزم التسلسل. وأيضا :
فالمصلحة الحاصلة فى ذلك الوقت
ان كانت حاصلة قبل
ذلك الوقت ، فما لأجله حدث العالم كان حاصلا قبل ذلك الوقت ، فيلزم أن يحدث العالم
قبل أن حدث. وانه محال. وان قلنا : ان تلك المصلحة ما كانت حاصلة قبل ذلك الوقت ،
وانما حصلت فى ذلك الوقت. فاما أن يقال : انه حدثت تلك المصلحة فى ذلك الوقت ، مع
وجوب أن تحدث ، أو مع جواز أن تحدث. فان كان الأول فقد جوزتم أن يحدث الشيء لذاته.
واذا جاز ذلك فى بعض الأمور ، جاز مثله فى كلها ويلزم نفى الصانع. وهو محال. وان
كان الثانى ، افتقر اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة ، الى مخصص آخر. والكلام فيه
كما فى الأول ويلزم التسلسل. وهو محال أيضا.
والثانى : وهو ان مع العلم باشتمال ذلك الوقت على تلك المصلحة ، اما
أن يكون الترك ممكنا أو لا يكون. فان لم يكن ممكنا كان المؤثر موجبا بالذات ، لا
فاعلا بالاختيار. وان كان الترك ممكنا ، فلما كان الترك والفعل ممكنين مع ذلك
الداعى. فان توقف على مرجح آخر كان الكلام فيه كما فى الأول ويلزم التسلسل. وان لم
يتوقف كان الممكن واقعا لا عن مرجح.
لا يقال : الفعل
مع هذا الداعى يصير أولى بالوقوع. ولا تنتهى الأولوية الى حد الوجوب. لأنا نقول :
القول بهذه الأولوية سيأتى ابطاله ان شاء الله تعالى فى مسألة خلق الأفعال .
وأما الجواب الرابع : وهو ان حضور الأزل
كان مانعا من الايجاد. فهو أيضا ضعيف من
وجهين :
الأول : ان مسمى الأزل الّذي جعلتموه مانعا من الايجاد ، اما أن
يكون واجبا لذاته أو ممكنا لذاته. فان كان الأول امتنع زواله. وكان
__________________
يجب أن لا يزول
ذلك الامتناع. هذا خلف. وان كان ممكنا لذاته. فلا بد لحصوله من سبب. والكلام فيه
كما فى الأول ، ولا ينقطع حتى ينتهى الى الواجب لذاته. وحينئذ يعود المحذور
المذكور.
والثانى : ان عدم العالم فى الأزل الى وقت حدوثه ، نفى محض والنفى
المحض لا يكون فيه اختلاف وامتياز ، فامتنع القول بأن ذلك العدم فى الأزل مانع من
الفعل ، وفى لا يزال غير مانع منه.
وأما الجواب الخامس : وهو أن العالم ما كان ممكن الوجود ، قبل أن وجد. فهو أيضا
ضعيف من وجهين :
الأول : ان هذا يقتضي أن يقال : انه كان ممتنع الوجود لذاته ، ثم
انقلب ممكنا لذاته. وهذا يقتضي انقلاب الحقائق. وهو محال.
الثانى : ان حال الماهية من حيث هى هى ، لا تختلف. فان ثبت كونها
قابلة للوجود فى بعض الأوقات ، ثبت أنها من حيث هى هى ، قابلة للوجود أبدا. فكانت
ممكنة أبدا ، فيمتنع أن يكون حصول ذلك الامكان مخصوصا بوقت دون وقت.
وأما الجواب السادس : وهو قولهم : «القادر المختار
يرجح أحد مقدوريه على الآخر ، من غير مرجح» فهو أيضا ضعيف من وجهين :
الأول : انه لما استوى الأمران ، بالنسبة إليه. ثم وقع أحدهما دون
الآخر ، من غير مرجح. كان وقوع ذلك الفعل اتفاقيا لا اختياريا. وان جاز ذلك ،
فليجز مثله فى سائر الحوادث. وذلك يقتضي استغناء الحدوث عن المرجح.
الثانى : وهو أن القادر على الفعل والترك ، اذا استوى الفعل والترك
بالنسبة إليه. فاما أن يقال : انه لا يرجح أحد الطرفين على
الآخر ، الا اذا
خص ذلك القادر ، ذلك الطرف بنوع ترجيح ، أو يقال : أنه يرجح أحد الطرفين على الآخر
، وان لم يخص ذلك القادر ذلك الطرف بنوع ترجيح. فان كان الأول فحينئذ يتوقف رجحان
ذلك الطرف على الطرف الآخر ، على انضياف ذلك المرجح إليه. وحينئذ يعود الاشكال من
الرأس. وهو أن ذلك المرجح. هل كان حاصلا فى الأزل ، أو ما كان حاصلا فى الأزل؟ فان
كان الحق هو الثانى. كان معنا ، أنه يترجح أحد مقدورية على الآخر ، من غير أن يكون
ذلك الرجحان ، لسبب ترجيحه. وحينئذ لا يكون ذلك الفعل واقعا بايقاعه بل يكون واقعا
من غير سبب. وذلك يقتضي استغناء الفعل عن الفاعل.
وبهذا الحرف يظهر
ضعف كلامهم فى التمثيل بالهارب من السبع ، اذا عن له طريقان وبالعطشان اذا خير بين
شرب قدحين. لأن فى هذه الصورة يعلم كل أحد أنه ما لم يحضر فى قلبه إرادة الذهاب فى
أحد الطريقين ، وإرادة شرب أحد القدحين ، فانه لا يترجح ذلك الطريق على الثانى ،
ولا يترجح ذلك القدح على الثانى. فظهر بهذا ان حصول الترجيح من غير المرجح. اما أن
يكون محالا ، واما أن يلزم منه نفى المؤثرات والتأثرات. وذلك يوجب نفى الصانع
بالكلية. وهو باطل.
فهذا تمام الكلام
فى تقرير هذه الشبهة. وهى فى الحقيقة أعظم شبه الفلاسفة فى هذه المسألة.
والشبهة الثانية لهم فى هذه المسألة :
قالوا : المفهوم من كون الواجب مؤثرا فى العالم ، أمر مغاير لذات واجب الوجود ،
ولذات العالم. ويدل عليه وجوه :
أحدها : انه يمكنا أن نعقل ذات واجب الوجود ، ونعقل ذات العالم ، مع
الشك فى أن واجب الوجود مؤثر فى العالم. ومع الشك
فى أن ذات العالم
أثر واجب الوجود. واذا أمكن تعقل الذاتين حال كون المؤثرية والأثرية مجهولة. علمنا : أن كون الواجب مؤثرا فى وجود العالم ،
وكون العالم ، أثرا لواجب الوجود ، أمر مغاير للذاتين.
وثانيها : ان كون أحد الذاتين مؤثرة فى الأخرى : نسبة بين الذاتين.
والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما. والمتوقف على الشيء مغاير له. فهذه المؤثرية
والأثرية وصفان مغايران للذاتين.
وثالثها : أنا نقول : هذه الذات مؤثرة فى تلك. فنحكم على تلك الذات
بالمؤثرية. والمحكوم عليه مغاير للمحكوم به لا محالة.
ورابعها : أنا نقول : هذه الذات صارت مؤثرة فى الأثر الفلانى ، بعد أن
كانت غير مؤثرة فيه. فتجدد صفة المؤثرية مع كون الذات موجودة قبل ، يدل على أن صفة
المؤثرية مغايرة لتلك الذات.
لا يقال : لم لا
يجوز أن يكون المراد من كونها مؤثرة فى ذلك الأثر ، نفس حصول ذلك الأثر؟ لأنا نقول
: هذا باطل. فانا نقول : انما وجد هذا الأثر ، لأجل أن هذا المؤثر أثر فى وجوده.
فعللنا وجوده لمؤثرية المؤثر فيه. فلو كانت مؤثرية المؤثر عبارة عن وجود الأثر ،
لكان ذلك تعليلا لوجود الأثر بنفسه. وانه محال. واذا ثبت أن كون واجب الوجود مؤثرا
فى وجود العالم : وصف زائد على الذات فنقول : هذا الوصف لا جائز أن يكون وصفا
سلبيا ، لأن قولنا الشيء الفلانى أثر فى كذا ، نقيض لقولنا انه ما أثر فى كذا.
ولما كان قولنا ما أثر فى كذا سلبيا محضا ، وجب أن يكون قولنا انه أثر فى كذا : وصفا
ثبوتيا زائدا على الذات.
__________________
ثم نقول : كون
الله تعالى مؤثرا فى وجود العالم. اما أن يكون حادثا أو قديما. فان كان حادثا
افتقر الى محدث. فكانت مؤثرية المؤثر فى احداث تلك المؤثرية زائدا عليه ، فيلزم
التسلسل فاذن مؤثرية الله تعالى فى العالم صفة قديمة. ولكن كون الشيء مؤثرا فى
غيره ، صفة اضافية. لا يعقل ثبوتها الا مع ثبوت المضافين. فاذن كون الشيء موصوفا
بصفة المؤثرية ، من غير وجود الأثر محال عقلا. واذا كانت صفة المؤثرية قديمة ،
يلزم كون الأثر قديما. وذلك يوجب القول بقدم الآثار.
الشبهة الثالثة لهم : قالوا : العالم لو كان محدثا ، لكان قبل حدوثه ، اما أن
يكون ممكنا ، أو واجبا ، أو ممتنعا. فان كان واجبا ، كان قبل وجوده موجودا. وهذا
محال. وان كان ممتنعا ، ثم انقلب ممكنا ، لزم أن ينقلب الممتنع لذاته ، ممكنا
لذاته. وهو محال. ولما بطل القسمان لم يبق الا الثالث. وهو أن العالم قبل حدوثه ،
كان ممكن الوجود. فنقول : الامكان اما أن يكون صفة سلبية ، أو ثبوتية. والأول
باطل. لأن الامكان نقيض الامتناع ، والامتناع عدم. اذ لو كان موجودا لكان الممتنع
الموصوف به أولى بأن يكون موجودا. فثبت: أن الامكان صفة ثابتة.
فنقول : هذا الامكان
اما أن يكون عبارة عن كون القادر متمكنا من ايجاده ، واما أن يكون وصفا راجعا الى
ذات الممكن. والأول باطل. وذلك لأن القادر يمكنه ايجاد الممكنات ، ولا يمكنه ايجاد
المحالات ، فلولا امتياز الممكن عن المحال بوصف عائد إليه ، والا لم يكن اقتداره
على ايجاد الممكنات أولى من اقتداره على ايجاد المحالات ، فثبت : أن كل محدث مسبوق
بالامكان ، وثبت أن الامكان صفة موجودة عائدة الى ذات الممكن.
ومن المعلوم
بالبداهة : أن الموصوف بالصفة الموجودة ، لا بد وأن
يكون موجودا. وذلك
الشيء الّذي يحصل فيه امكان حدوث الأشياء هو المسمى بالهيولى. فاذن كل محدث ، فانه
مسبوق بالهيولى. وثبت فى أصول الحكمة : أن الهيولى اما أن يكون هو الجسم ، أو يكون
أمرا لا ينفك عن الجسمية. وعلى التقديرين فالقول بقدم الأجسام : لازم.
الشبهة الرابعة لهم : قالوا : كل محدث فانه لا بد وأن يكون عدمه ، قبل وجوده. ولا
يجوز أن تكون تلك القبلية ، نفس ذلك العدم. لأن العدم الحاصل قبل ، والعدم الحاصل
بعد يتشاركان فى كونهما عدما ، ولا يتشاركان فى معنى القبلية والبعدية. فاذن
المفهوم من القبلية أمر زائد على ذات العدم. وذلك الزائد لا بد وأن يكون أمرا
موجودا. ثم ذلك الزائد محدث ، فيكون مسبوقا يقبل آخر. فاذن لكل قبل : قبل لا الى نهاية. وما ذاك الا الزمان. فاذن الزمان قديم. وثبت
فى أصول الحكمة : أن الزمان من لواحق الحركة. والحركة من لواحق الجسم. فيلزم من
قديم الزمان ، قدم الحركة. ومن قدم الحركة ، قدم الجسم.
الشبهة الخمسة لهم : قالوا : الايجاد احسان. فلو لم يكن الله تعالى موجدا فى
الأزل ، لكان تاركا للجود والاحسان ، مدة غير متناهية. وذلك غير جائز. وربما عبروا
عنه بعبارة أخرى. فقالوا علة وجود العالم ، جود البارى تعالى. وجود البارى تعالى
أزلى. فيلزم أن يكون وجود العالم أزليا.
الشبهة السادسة لهم : قالوا : لو كان البارى تعالى موجدا للعالم ، بعد أن لم يكن
موجودا له. لكان فاعلا بالاختيار. وهذا محال ، فذاك محال. أما الملازمة فبينة
بذاتها. ومتفق عليها. وأما أن التالى محال. فلأن من قصد الى ايجاد شيء ، فأما أن
يكون ذلك الايجاد أولى بالنسبة إليه من ترك الايجاد ، واما أن يكون طرفاه
__________________
متساويين. والأول
محال. لأن قبل ذلك الايجاد ما كانت تلك الأولوية حاصلة ، وعند الايجاد حصلت تلك
الأولوية. فيلزم منه أن يكون ناقصا لذاته ، مستكملا بغيره. وهذا محال. وأما ان لم
يكن الفعل أولى بالنسبة إليه من الترك ، امتنع أن يرجح الفعل على الترك ، لأن
الترجيح والاستواء ضدان. والجمع بينهما محال.
لا يقال الفعل وان
لم يكن أولى من الترك بالنسبة الى ذلك الفاعل ، الا أنه أولى بالنسبة الى غيره ، لأن
الايجاد احسان الى الغير. وهذا القدر من الرجحان ، كاف فى ترجيح الفعل على الترك.
لأنا نقول : ايصال الاحسان الى الغير ، ان كان أولى بالنسبة إليه من عدمه ، عاد
حديث النقص الذاتى. وان لم يكن أولى ، عاد حديث الاستواء. والله الهادى.
والجواب عن الشبهة الأولى : أن نقول : ان صح ما ذكرتم ، يلزم أن لا يحصل فى العالم شيء
من التغيرات. لأنه يلزم من دوام واجب الوجود أزلا وأبدا ، دوام المعلول الأول. ومن
دوام المعلول الأول دوام المعلول الثانى. وهلم جرا ، الى آخر المراتب. فيلزم : أن
لا يحصل فى العالم شيء من التغيرات. وانه خلاف الحس.
فان قال قائل : لم لا يجوز أن يقال : ان واجب الوجود عام الفيض ، الا أن
حدوث الأثر عنه ، يتوقف على استعداد القوابل. وحدوث هذه الاستعدادات المختلفة فى
القوابل ، يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية. وكل حادث منها مسبوق
بآخر ، لا الى أول. فلهذا السبب حدث التغير فى هذا العالم.
فالجواب : انا نقول : العرض المعين اذا حدث فى هذا العالم ، فاما أن
يفتقر فى حدوثه الى سبب أو لا يفتقر. فان لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن سبب. وهو
باطل بالاتفاق. وان افتقر الى سبب فذلك
السبب ، ان كان
حادثا ، كان الكلام فى كيفية حدوثه كما فى الأول ، فيفضى الى حدوث أسباب ومسببات
لا نهاية لها دفعة واحدة. وهو محال. وان كان السبب قديما ، فقد أسندتم الى المؤثر
القديم أثرا محدثا. واذا عقلتم ذلك ، فلم لا يجوز فى كل العالم مثل ذلك أيضا؟
والجواب عن الشبهة الثانية : انا نقول : مؤثرية المؤثر فى الأثر ، لا يجوز أن تكون وصفا
زائدا على ذات المؤثر ، لأنه لو كان كذلك ، لكانت تلك الصفة مفتقرة فى تحققها الى
ذات الموصوف ، فتكون ممكنة فى ذاتها ، مفتقرة الى المؤثر. فتكون مؤثرية المؤثر فى
تلك المؤثر ، زائدة عليها. ويلزم التسلسل.
والجواب عن الشبهة الثانية : ان الامكان لا يمكن أن يكون صفة موجودة. ويدل عليه وجوه :
أحدها : انكم سلمتم أن الشيء قبل حدوثه ، ممكن الوجود. فلو كان
الامكان صفة موجودة ، لكان اما أن تكون قائمة به أو بغيره. لا جائز أن تكون قائمة
به ، والالزام قيام الموجود بالمعدوم. ولا جائز أن نقوم بغيره. لأن صفة الشيء لا
يعقل قيامها بغيره. كما أن الحركة التى يكون الجسم موصوفا بها ، يمتنع أن تكون
قائمة بغير ذلك الجسم.
وثانيها : ان اتصاف الماهية بامكان الوجود ، سابق على اتصافها
بالوجود. فلو كان الامكان صفة موجودة ، لزم أن يكون اتصاف الماهية بوجود شيء آخر ،
سابقا على اتصافها بوجود نفسها.
وثالثها : ان الامكان لو كان موجودا ، لكان مساويا لسائر الموجودات فى
الوجود ، ومخالفا لها فى الماهية المخصوصة. فاذن ماهيته غير وجوده. فاتصاف ماهيته
بوجوده. ان كان على سبيل
الوجوب ، كان
موجودا واجبا لذاته. فيلزم أن تكون الصفة المفتقرة لذاتها ، الى ما يكون ممكنا
لذاته. تكون واجبة لذاتها. وهو محال وان كان ذلك الاتصاف على سبيل الامكان ، لزم
أن يكون للامكان امكان آخر. ويفضى الى التسلسل.
ورابعها : ان العقول الفعالة والأرواح البشرية والهيولى : كلها ممكنة.
فيلزم افتقارها الى هيولى أخرى. وهو باطل.
لا يقال : الممكن انما يفتقر الى الهيولى ، اذا كان محدثا. لأنه قبل
حدوثه غير موجود. فلا بد له من شيء آخر ، يكون موجودا قبل حدوثه ، حتى يكون ذلك
الشيء محلا لذلك الامكان. أما العقل الفعال والهيولى ، لما كانا موجودين أزلا
وأبدا ، كان امكانه قائما به ، فلا يفتقر الى هيولى أخرى. وهو باطل.
لأنا نقول : ثبوت الامكان للماهية الممكنة ، يكون على سبيل الوجوب
الذاتى. فاذا كان شرط قيام الامكان به : كونه فى نفسه. موجودا. وثبوت الامكان له
أمر واجب لذاته. وما كان شرطا لما كان واجبا لذاته ، أولى بأن يكون واجبا لذاته.
فيلزم : أن يكون ثبوت الوجوب لهذه الأشياء ، واجبا بالذات. فيلزم أن يكون الممكن
لذاته ، واجبا لذاته. وهو محال.
فثبت بهذه الدلائل
: أن الامكان لا يعقل أن يكون صفة موجودة وبالله التوفيق.
والجواب عن الشبهة الرابعة : ان المفهوم من القبلية ، لا يعقل أن يكون صفة ثبوتية ، ويدل
عليه وجوه :
أحدها : انكم (ان) سلمتم أن كل محدث ، كان عدمه قبل
وجوده ، فقد جعلتم
القبلية صفة للعدم. وصفة العدم لا يعقل أن تكون موجودة. فالقبلية صفة غير موجودة.
وثانيها : ان التقدم اضافة ، لا تعقل الا بالإضافة الى التأخر. والمضافان يوجدان معا ، فلو كان التقدم صفة
موجودة ، لاستحال وجودها ، الا مع وجود التأخر. واذا كان حصول التقدم والتأخر معا
، لزم أن يكون حصول المتقدم والمتأخر معا. ولكن المعية تنافى فى التقدم والتأخر ،
فاذن القول بأن القبلية صفة موجودة ، يفضى الى هذا المحال. فيكون ذلك محالا.
وثالثها : انا قد دللنا فى أول المسألة على أن الأمس متقدم على اليوم.
وليس ذلك التقدم بالزمان. فلم لا يجوز أن يكون تقدم العدم على الوجود جاريا مجرى
تقدم اليوم على الغد؟
والجواب عن الشبهة الخامسة ـ وهى قولهم «الايجاد جود» ـ نقول
: هذا ينتقض بايجاد هذه الصور والأعراض الحادثة. فانه جود. ولم يلزم منه قدم هذه
الصور والأعراض.
والجواب عن الشبهة السادسة : لم لا يجوز أن يقال : الفاعل المختار يرجح أحد مقدوريه على
الآخر ، من غير اكتساب كمال ولا رفع يقتضيه ، بل محض الإرادة. وبالله التوفيق.
__________________
والثاني : ان بتقدير أن تكون جوهرا
قائما بالنفس ، فهذا الجوهراما أن يكون بينه وبين الأثرنسبة واضافة ، او لايكون.
فأن كان الأول كان الكلام في تلك النسبة كما في الأول ، فيلزم التسلسل. وان كان
الثاني لم يكن بينه وبين الأثر
نسبة واضافة ولم يكن بينهما تعلق أصلا ، وكان أجنبيا باكلية عن ذلك الأثر. ولما
بطل هذا القسم تعين أن المؤثرية بتقدير الثبوت ، وجب أن تكون صفة لذات المؤثر،
مفتقرة الى تلك الذات. وكل ما كان مفتقرا الى غيره ، كام ممكنا لذاته مفتقرا في
وجوىه الى مؤثر. فيلزم افتقارتلك المؤثرية في وجودها الى موجد
آخر ،
وحينئذ يعود الكلام في تأثير المؤتمرفي وجوى تلك المؤثرية. ويلزم التسلسل. وهو
محال.
فثبت بما ذكرنا : انه لو فرض مؤثر في
اثر ، لكان تأثيره في ذلك الأثر اما أن يكون نفس المؤثر والأثر ، واما أن يكون
مغايرا لهما. والقسمان باطلان ، فكان القول بالتأثير باطلا.
السؤال الرابع : ان جواز الوجود متعلق
بالطرفين ـ أعنى الوجود والعدم ـ فلو كان جواز الوجود يقتضى احتياج الوجود الى
المؤثر، لكان جواز العدم يقتضى احتياج العدم الى المؤثر. لكن احتياج العدم الى
المؤثرمحال. لأن العدم مستمر من الأزل الى الأبد. والباقي لايمكن اسناده حال بقائه
الى المؤثر.
فثبت : انه لوكان جواز الوجود يحوج
الوجود الى المؤثر ، لكان جواز العدم يحوج العدم الى المؤثر ، وثبت : أن احتياج
العدم الى المؤثر محال ، فيلزم أن يكون احتياج الوجود أيضا الى المؤثر محالا.
__________________
قلنا : لا شك فى أن العقل يتصور من معنى الثبوت مفهوما ، ومن معنى
السلب مفهوما. ويجزم بأنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهو عند تصور مفهوم الثبوت
ومفهوم السلب ، لا يفتقر الى الاشارة الى ماهية معينة. وذلك يوجب كون مفهوم الثبوت
أمرا واحدا.
الوجه الثانى : فى بيان أن المفهوم من
الموجودية أمر واحد : أنه يمكننا تقسيم الموجود الى الواجب لذاته ، والى الممكن لذاته ، فمورد التقسيم
مشترك بين القسمين. وهذا يقتضي أن يكون المفهوم من الموجود قدرا ، مشتركا بين
القسمين.
الوجه الثالث : انا اذا اعتقدنا أن أمرا من الأمور موجود. فسواء اعتقدنا أن
ذلك الأمر جوهر أو عرض. وبتقدير أن يكون جوهرا ، فهو متحيز أو غير متحيز. وبتقدير
أن يكون عرضا ، فهو اما لون أو طعم. فان اعتقادنا فى كونه موجودا ، يكون باقيا ،
غير متغير. ولو لا أن المفهوم من كونه موجودا ، أمر واحد فى الكل ، لوجب أن يتغير
ذلك الاعتقاد ، عند تغير اعتقاد الخصوصيات. كما اذا اعتقدنا فيه أنه جوهر ، ثم
اعتقدنا فيه أنه عرض. فانه يتغير الاعتقاد الأول.
الوجه الرابع : ان من قال : الوجود غير مشترك فيه بين الماهيات ، يلزمه
الاعتراف بأن الوجود مشترك فيه بين الماهيات. والا لكنا نفتقر فى كل واحد واحد ،
من مسمى الوجود ، بأنه غير مشترك فيه بين الماهيات الى الدليل منفصل ، ولما كان
الحكم على الوجود بأنه غير مشترك فيه ، يعم كل وجود ، علمنا : أن الوجود من حيث
انه وجود : مفهوم واحد.
فثبت بما ذكرناه :
أن الوجود أمر واحد فى جميع الموجودات.
وأما أن خصوصية
ماهية كل واحد من الماهيات غير مشترك فيها بين الماهيات. فمعلوم بالضرورة. فثبت بمجموع هاتين
المقدمتين : أن وجود كل شيء مغاير لماهيته.
الحجة الثانية : على أن الوجود مغاير للماهية : هى أنه لا شك أن فى
الموجودات ما هو ممكن لذاته. فنقول : ذلك الموجود الّذي هو ممكن لذاته. ان أخذناه
مع اعتبار الوجود كان غير قابل للعدم. لأن الشيء حال كونه موجودا لا يقبل العدم.
وما لا يقبل العدم لا لكون ممكن الوجود والعدم. وان أخذناه مع اعتبار العدم ، كان
غير قابل للوجود. لأن الشيء حال كونه معدوما ، لا يقبل الوجود. وما لا يقبل الوجود
لا يكون ممكن الوجود والعدم. فلو لم تكن ماهيته مغايرة للوجود والعدم ، لما كانت
الماهية ممكنة أصلا. ولما كانت ممكنة ، علمنا أنها مغايرة للوجود والعدم.
ويمكن تقرير هذه
الحجة بعبارة أخرى : وهى ان قولنا فى الشيء : انه ممكن الوجود والعدم : أنه لا
يمتنع أن يحكم على تلك الماهية بكونها موجودة وبكونها معدومة. والمحكوم عليه بحكم
لا بد وأن يكون متقررا مع ذلك الحكم. فوجب أن تكون تلك الماهية الممكنة متقررة ،
حالتى الوجود والعدم. وذلك يقتضي كون الماهية مغايرة للوجود.
فان قيل : هذه الحجة انما تلزم لو قلنا : الماهية حال وجودها ، أو حال
عدمها ، يكون محكوما عليها فى ذلك الوقت بأنها ممكنة الوجود. نحن لا نقول بذلك. بل
نزعم أنها حال وجودها يمكن وجودها وعدمها فى الزمان الثانى ، من ذلك الزمان الحاضر
والحاصل : انا لا نسلم ثبوت الامكان بالنسبة الى الحال ، بل نسلم ثبوته بالنسبة
الى زمان الاستقبال.
__________________
والجواب من وجهين
:
الأول : ان الموجود فى الحال ، اذا حكم العقل عليه بأنه يمكن أن
يصير معدوما فى الاستقبال ، فالمحكوم عليه بالعدم فى الاستقبال ، هو هذه الماهية
والمحكوم عليه بحكم لا بد وأن يكون متقررا مع ذلك الحكم ، فتلك الماهية ممكنة
التقرر مع العدم فى الاستقبال. واذا حصلت الماهية بدون الوجود ، كانت الماهية
مغايرة للوجود.
الثانى : هو ان قولكم الشيء يمكن أن يصير معدوما فى الاستقبال ، يحتمل
وجهين :
أحدهما : ان امكان العدم فى الاستقبال ، حاصل فى الحال.
والآخر : ان امكان العدم فى الاستقبال يحصل فى الاستقبال.
والأول باطل. لأن
امكان العدم فى الاستقبال ، مشروط بحصول الاستقبال ، والاستقبال ممتنع الحصول فى
الحال. فامكان العدم فى الاستقبال ، موقوف على شرط ممتنع الحصول لذاته. وما توقف
على مثل هذا الشرط ، كان ممتنع الحصول فى الحال. فثبت : أنه يمتنع أن يحصل فى
الحال امكان العدم فى الاستقبال. ولما بطل هذا الاحتمال بقى الاحتمال الثانى. وهو
أن الموجود فى الحال يمكن أن يصير معدوما فى الاستقبال ، عند حضور الاستقبال. لكن
الاستقبال اذا حضر ، صار حاضرا. فحينئذ يعود الأمر الى ان الممكن انما يكون محكوما
عليه بالامكان بالنسبة الى الحال ، لا بالنسبة الى الاستقبال. وذلك يبطل ما ذكرتم
من السؤال.
الحجة الثالثة على أن الوجود زائد على
الماهية : وهو أنه يمكننا أن
نعقل الماهية مع الذهول عن وجودها. ولو كان الوجود نفس الماهية ، أو جزءا من أجزاء
الماهية. لكان ذلك ممتنعا.
فان قيل : هذه
الحجة منقوضة على قول الفلاسفة. فان عندهم وجود البارى سبحانه نفس حقيقته ، مع أنا
نعقل وجوده ولا نعقل ماهيته. وأيضا : فانا نتصور أن الوجود ما هو؟ ثم نصدق بأن ذلك
المفهوم حاصل وكائن وواقع. والتصور غير التصديق. فيلزم أن يكون تصديقنا بأن الوجود
واقع وحاصل ، دالا على حصول وجود الوجود. ويلزم منه التسلسل.
وأيضا : فانا قد نعقل ذاتين مع الذهول عن كون أحدهما لازما للآخر ،
أو ملزوما له ، أو كون أحدهما مؤثرا فى الآخر ، أو اثر له ، أو كون أحدهما حالا فى
الآخر ، أو محلا له. فيلزم أن يكون كون الشيء لازما للآخر ، وملزوما له ، ومؤثرا
فيه وأثرا له ، وحالا فيه ومحلا له. زائدا على الذات. وذلك محال لافضاء ذلك الى
التسلسل. وأيضا : فهب أن ما ذكرتم يدل على أن الوجود الخارجى زائد على الماهية.
ولكنه لا يفيد أن الوجود الذهنى زائد على الماهية.
والجواب : انه اذا صدق على أحد الأمرين كونه معلوما ، وعلى الآخر أنه
غير معلوم : فلو لم يثبت التغير بينهما ، لكان قد صدق على الأمر الواحد ، أنه
معلوم وأنه غير معلوم. فيلزم اجتماع النفى والاثبات. وانه محال فى بداهة العقول.
واذا كانت هذه المقدمة من أقوى البديهيات ، كان ايراد النقض عليها تشكيكا فى
البديهيات. فلا يستحق الجواب.
وأيضا : فعندنا أن
وجود الله زائد على ماهيته وأما تصديقنا بأن الوجود قد وقع ، فليس المراد منه أن
الوجود حصل له وجود آخر ، بل المراد منه : أن الوجود هل حصل للماهية أم لا؟ وهذا
عين الدليل الّذي تمسكنا به وأما حديث اللازمية والملزومية ، وأمثالها. فهى
__________________
اعتبارات ذهنية ،
بخلاف الوجود الخارجى. فانه لا يمكن أن يقال : انه اعتبار ذهنى ، والا لزم أن يقال
: انه لا موجود فى الأعيان ، وأن يقال : وجوده فى الأعيان نفس الماهية. فحينئذ
يرجع ما ذكرتم من اجتماع النفى والاثبات على الشيء الواحد. وهو محال.
وأما الوجود
الذهنى. فجوابه : ان الماهية كما وجدت فى الأذهان عارية عن الوجود الخارجى ، فقد
وجدت فى الأعيان عارية عن الوجود الذهنى. وذلك يوجب التغاير.
الحجة الرابعة : على أن الوجود زائد على
الماهية : هى أنا فى بداهة
العقول ندرك الفرق بين التصور والتصديق. فالفرق بين قولنا : السواد. وبين قولنا :
السواد موجود : معلوم بالبداهة. ولذلك فان من قال السواد وسكت ، حكم كل عاقل بأنه ما نفى ، وما أثبت
، وما ذكر كلاما مفيدا. واذا قال السواد موجود أو غير موجود ، فقد نفى ، أو أثبت
وادعى ويطالب على صحة ما ذكره بالحجة. ولو كان كونه. موجودا هو نفس كونه سوادا ،
لما حصل الفرق المذكور المعلوم بالبداهة.
فان قيل : هذا الفرق الّذي ذكرتم واقع بحسب اللفظ ، لا بحسب المعنى. فالجواب : انا نعلم بالبداهة أن من ادعى أن للعالم صانعا ، ثم أقام
الدليل على دعواه ، لم يكن مطلوبة بهذه الحجة نفس اللفظ ، بل المعنى. فسقط ما
ذكروه من السؤال.
واحتج من قال :
الوجود غير زائد على الماهية. بأن قال : لو كان الوجود زائدا على الماهية ، لكان
قيام الوجود بالماهية. وان توقف على كون الماهية موجودة ، لزم اما كون الشيء
مشروطا بنفسه ،
__________________
أو وقوع التسلسل.
وان لم يتوقف عليه فحينئذ يلزم قيام الصفة الثبوتية بالعدم المحض. وذلك محال. لأن
المحسوس عندنا من الذوات ، ليس الا الصفات. واذا جوزنا قيام الموجود بالمعدوم ،
فالجدار الّذي نشاهده لا نشاهد منه الا لونه وكثافته وثقله. فاذا لم يبعد قيام
الصفة الموجودة بالمحل المعدوم ، لم يبعد أن يكون الموصوف بالكثافة والثقل واللون
المخصوص معدوما محضا. وذلك يقتضي وقوع الشك فى أن ذات الجدار وذات الانسان. هل
موجودة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك فاسد.
والجواب عنه : ان محل الوجود هو الماهية. ثم ان الماهية من حيث هى هى ،
ماهية مغايرة للوجود والعدم ، فلا يلزم من ذلك قيام الموجود بالمعدوم.
واذا عرفت هذه
المسألة. فلنرجع الى المقصود. فنقول : أما من قال : وجود كل شيء نفس ماهيته ، لزمه
القطع بأنه متى زال الوجود ، فقد زالت الماهية ، فالقول بأن المعدوم شيء لا يتصور
على مذهب هذا القائل. أما من قال : الوجود زائد على الماهية. فقد اختلفوا فى أنه
هل يمكن تقرير الماهية عند زوال صفة الوجود؟ فمن جوز ذلك قال : المعدوم شيء. وعنى
به : أن الماهية من حيث هى هى ، تكون متقررة حال ما لا تكون موجودة. ومن لم يجوز
ذلك ، قال : المعدوم ليس بشيء.
اذا عرفت هذا ،
فلنرجع الى تعيين محل النزاع فى هذه المسألة فنقول : المعدوم. اما أن يكون واجب
العدم ممتنع الوجود ، واما أن يكون جائز الوجود جائز العدم.
أما الممتنع. فقد
اتفقوا على أنه محض ، وعدم صرف ، وليس بذات ولا بشيء. وأما المعدوم الّذي يجوز
وجوده ويجوز عدمه ، فقد ذهب أصحابنا الى أنه قبل الوجود نفى محض ، وعدم صرف ، وليس
بشيء ولا بذات.
وهذا قول «أبى الحسن البصرى» من المعتزلة وذهب أكثر شيوخ المعتزلة: الى أنها
ماهيات وذوات وحقائق ، حالتى وجودها وعدمها. فهذا هو تلخيص محل النزاع.
ولنا فى بيان أن
المعدوم ليس بشيء وجوه :
البرهان الأول : ان هذه الماهيات لو كانت متحققة فى الخارج حال عرائها عن
الوجود ، لكانت متساوية فى كونها متحققة خارج الذهن. ومباينة لخصوصياتها المعينة.
وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيلزم أن يكون تحقق كل ماهية تقررها زائدا على خصوصيتها. ولا
معنى للوجود الا هذا التحقق والتقرر ، فيلزم كونها موجودة حال كونها معدومة. وذلك
محال.
ومما يدل على أن
كونها متحققة خارج الذهن أمر زائد على ماهيتها المخصوصة : انا اذا قلنا : السواد.
ثم قلنا : السواد متقرر حال العدم. فنحن ندرك تفرقة بديهية بين ذلك التصور ، وهذا
التصديق. ولو لا أن تقررها خارج الذهن حال عدمها أمر زائد على ماهيتها ، والا لما
بقى فرق بين التصور والتصديق. وذلك محال على ما قررناه. فثبت : أن الماهيات لو
كانت متقررة حال عدمها ، لكانت موجودة حال عدمها ، ولما كان ذلك محالا ، علمنا :
أن القول بأن الماهيات متقررة حال عدمها محال.
البرهان الثانى : ان الذوات الثابتة فى العدم ، اما أن تكون متناهية ، أو غير
متناهية والقسمان باطلان ، فبطل القول بثبوت الذوات المعدومة : اما أن كونها
متناهية باطل ، فبالاتفاق. وأما أن كونها غير متناهية باطل. فذلك لأن مجموع الذوات
المعدومة حين ما لم يخرج منها شيء الى الوجود ، كانت أكثر مما يبقى منها فى
__________________
العدم بعد خروج
بعضها الى الوجود. والا لكان الشيء مع غيره ، كهو لا مع غيره. وذلك محال. واذا كان
كذلك ، كانت الذوات التى بقيت الآن فى العدم ، أقل من مجموع الذوات التى كانت
معدومة عند ما لم يخرج شيء منها الى الوجود. وما كان أقل من غيره فهو متناه. فالذوات
التى بقيت الآن فى العدم متناهية ، والتى خرج منها الى الوجود متناهية. ومجموع
المتناهى مع المتناهى يكون متناهيا. فثبت : أن القول بكون الذوات غير متناهية
محال.
البرهان الثالث : هذه الماهيات من حيث انها هى : ممكنة لذواتها. وكل ممكن
محدث فهذه الماهيات من حيث هى هى ، محدثة فيلزم أن تكون هذه الماهيات مسبوقة
بالنفى المحض والعدم الصرف. وهو المطلوب.
وانما قلنا : بأن
هذه الماهيات ممكنة لذواتها ، وذلك لأنها لو كانت واجبة التقرر لذواتها فى الخارج
، لكانت واجبة التقرر فى الخارج ممتنعة الزوال ، ولا معنى لواجب الوجود الا ذلك.
وحينئذ يكون واجب الوجود أكثر من واحد. وذلك محال. واذا ثبت أنها فى كونها متقررة
فى الأعيان ، ممكنة ، وثبت أن كل ممكن محدث ، ثبت : أنها من حيث انها ماهيات:
محدثة. وذلك يبطل القول بأن المعدوم شيء. وتمام تقرير هذا البرهان قد تقدم فى
مسألة حدوث الأجسام.
البرهان الرابع : قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) وجه الاستدلال
بالآية:
ان اسم الشيء
يتناول الماهيات ، فوجب أن يكون الله تعالى قادرا على تلك الماهيات. وانما يكون
قادرا عليها لو كان لقدرته صلاحية ، أن تؤثر فى تلك الماهيات تقريرا وابطالا. ومتى
كان
__________________
الأمر كذلك ، كان
وجود الله تعالى متقدما على تقرير تلك الماهيات ، لوجوب تقدم المؤثر على الأثر.
ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن الماهيات بأسرها نفى محض ، وعدم صرف فى الأزل. وذلك
هو المطلوب.
واحتج القائلون :
بأن المعدوم شيء بأمور :
الحجة الأولى : ان المعدومات متميزة فى أنفسها. وكل ما يتميز بعضه عن البعض
، فلا بد وأن تكون فى أنفسها حقائق متعينة. ولا معنى لقولنا المعدوم شيء الا ذلك.
والّذي يدل على أن المعدومات متميزة بعضها عن البعض حال عدمها وجوه :
الأول : وهو انا نعلم أن غدا تطلع الشمس من المشرق ، ولا تطلع من
المغرب. وهذان المطلوعان معدومان فى الحال. ونحن الآن نعلم امتياز كل واحد منهما
عن الآخر. وهذا يدل على وقوع الامتياز فى المعدومات.
الثانى : هو أنا قادرون على الحركة يمنة ويسرة ، ولسنا قادرين على
الطيران الى السماء. فقد تميز أحد المعدومين عن الثانى ، من حيث ان أحدهما مقدور
لنا ، والآخر غير مقدور لنا. وهذا الامتياز واقع حال العدم. فثبت : وقوع الامتياز
فى المعدومات.
الثالث : هو أنا نجد من أنفسنا أنا نريد أن تحدث لنا أموال وأولاد
وخيرات وسعادات وأن لا تحدث لنا أنواع الأمراض والآفات ، مع كون كل واحد من هذين
القسمين معدوما ، فلولا تميز أحد المعدومين عن الآخر ، حال كونه معدوما بماهيته
المعينة ، وحقيقته المخصوصة ، والا لامتنع كون أحدهما مراد الوقوع ، والآخر مكروه
الوقوع.
الرابع : هو أن المعدوم قسمان ممتنع وجائز. ولا شك أن كل واحد
من هذين القسمين
متميز عن الآخر فى نفسه وحقيقته. ولذلك كان القادر المختار لا يمكنه ايجاد
الممتنعات ويمكنه ايجاد الممكنات. فلولا امتياز الممكن عن الممتنع فى نفسه ، والا
لما صح ذلك.
لا يقال : هذه
الأمور ، وان كانت معدومة فى الخارج ، الا أنها موجودة فى الذهن ، فلهذا صح وقوع
الامتياز فيها. لأنا نقول : انكم اما أن تقولوا هذه المعلومات موجودة فى الذهن ، أو تقولوا : العلم بها موجود فى الذهن.
والأول باطل. لأنا انما نعلم الشمس والقمر. فلو كانت هذه المعلومات موجودة فى
الذهن ، لزم فيمن تصور شموسا كثيرة ، وأقمارا كثيرة ، وبحرا من زئبق ، وجبلا من
زبرجد : أن توجد فى ذهنه هذه الأشياء. والقول بفساده معلوم بالضرورة. وأما الثانى
وهو أن الحاضر فى الذهن هو العلم بهذه الأشياء. فهذا مسلم. الا أن بحثنا عن
المعلوم ، لا عن العلم. فهذه المعلومات لما لم تكن موجودة فى الذهن ، علمنا أنها
فى أنفسها وحقائقها متميزة ، سواء وجدت فى الذهن أو لم توجد. وذلك هو المطلوب.
فثبت بهذه
البراهين الأربعة : تميز بعض المعدومات ، عن البعض ، حال كونها معدومة.
واذا ثبت هذا
فنقول : امتياز أحد الأمرين عن الآخر ، يتوقف على كون كل واحد منهما فى نفسه حقيقة
معينة ، وماهية معينة. فان تميز البعض عن البعض : حكم من أحكام تلك الحقائق ، وصفة
من أوصافها. وثبوت الصفة والحكم بدون تقرير الموصوف : محال. فثبت : أن المعدومات
متميزة متقررة ، وثبت أن المتميز لا يتحقق الا عند كون الحقائق والماهيات متقررة.
وهذا يوجب القطع بكون المعدومات ذوات وماهيات وحقائق. وذلك هو المطلوب.
__________________
الحجة الثانية : للمعتزلة على أن
المعدوم شيء :
وهى أنه لا نزاع
فى وجود موجودات ، ممكنة الوجود لذواتها. ولا معنى للممكن الا الّذي يصح عليه
الوجود والعدم. وكل ما كان كذلك ، كانت ماهيته ممكنة التقرر ، مع الوجود ، ومع
العدم تارة أخرى. واذا عقل تقرر ماهيته مع العدم ، ثبت أن المعدوم شيء.
لا يقال : المراد من قولنا : انه يمكن أن يكون معدوما ، هو أنه لا
يمتنع بقاء ماهيته متقررة متحققة ، ولا يمتنع أيضا بطلان تلك الماهية وخروجها عن
كونها ماهية وحقيقة. فهذا هو المراد من الامكان. ومعلوم أن هذا القدر لا يدل على
أن المعدوم شيء. لأنا نقول : اذا قلنا : هذه الماهية يمكن بطلانها وزوالها ، فلا
شك أن هذه قضية موضوعها : قولنا هذه الماهية. ومحمولها : قولنا يمكن بطلانها
وزوالها. ولا شك أن ماهية القضية مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة الخاصة. ولا
شك أن المركب لا يوجد الا عند وجود جميع مفرداته. فاذن هذه القضية لا توجد ولا
تتقرر الا اذا حصل موضوعها مقارنا لمحمولها. فاذا قلنا : الموضوع نفس تلك الماهية.
وجعلنا المحمول امكان بطلان الماهية ، كان معنى هذا الكلام : أن هذه الماهية يمكن
تقررها حال بطلانها. ومعلوم أن ذلك محال. فثبت : أن كون الممكن ممكنا يستحيل أن
يكون مفسرا بهذا المعنى ، بل لا بد وأن يكون مفسرا بأنه يجوز كون الماهية موصوفة
بالوجود ، ويجوز كونها خالية عن الوجود. ومهما كان الأمر كذلك ، ثبت أن المعدوم
شيء.
الحجة الثالثة : ان كل موجود. فهو اما أن يكون ممتنع الوجود لذاته ، واما أن
يكون متصور الوجود لذاته. سواء كان ذلك الّذي هو متصور الوجود ، واجب الوجود أو
غير واجب الوجود. فاذن كونه ممتنع الوجود وكونه متصور الوجود ، أمران متقابلان لا
واسطة بينهما. فنقول : امتناع صفة موجودة. اذ لو كان الامتناع صفة موجوده
لكان الممتنع
الموصوف بهذا الامتناع موجودا ، ضرورة الوجود لا يمكن أن يكون امتناع قيام الصفة
الموجودة بالنفى المحض والعدم الصرف ، وحينئذ يلزم أن يكون ممتنع الوجود موجودا.
وهو محال. فثبت أن امتناع الوجود ليس صفة موجودة ، فوجب أن يكون تصور الوجود صفة
موجودة ضرورة أنه لا بد فى أحد النقيضين من أن يكون أمرا ثبوتيا.
اذا ثبت هذا ،
فنقول : لا شك أن كل محدث فانه قبل حدوثه ممكن الحدوث لذاته. اذ لو لم يكن ممكنا
لذاته ، لكان اما واجبا لذاته ، فيكون موجودا قبل أن كان موجودا. وهو محال. أو
ممتنعا لذاته. فيلزم انقلاب الماهية من الامتناع الذاتى الى الا مكان الذاتى. وهما
محالان. فثبت : أن كل محدث فهو قبل حدوثه ممكن لذاته ، وثبت أن الامكان صفة ثابتة
، وثبت أن الصفة الثابتة تستدعى موصوفا ثابتا. فاذن لا بد وأن تكون الماهية متقررة
قبل حدوثها ، حتى تكون موصوفة بهذا الامكان. وذلك يوجب القول بكون المعدوم شيئا.
لا يقال : لم لا يجوز أن يكون الا مكان عبارة عن كون القادر متمكنا من
ايجاده؟ لأنا نقول : القادر متمكن من ايجاد المعدوم الممكن ، وغير متمكن من ايجاد
المعدوم الممتنع ، فلو لا امتياز الممكن عن الممتنع فى نفسه بأمر عائد إليه ، والا
لما كان الأمر كذلك.
الحجة الرابعة : الماهيات لو كانت متجددة ، لكان تجددها باحداث محدث ،
وايقاع قادر ، وهذا محال فذلك مثله. بيان الملازمة. أن كل ما حدث بعد أن لم يكن ،
فلا بد له من مكون ومحقق. وبيان أنه يمتنع أن يكون تحقق تلك الماهيات وتقررها
باحداث محدث. وذلك لأن كل ما كان تحققه بسبب غير. لزم من فرض عدم ذلك الغير ، عدم
ذلك الأثر. فلو كان كون الجوهر جوهرا ، وكون السواد سوادا ، لأجل سبب منفصل ، لزم
عند فرض عدم ذلك السبب المنفصل ، أن يخرج الجوهر عن كونه جوهرا ، والسواد عن كونه
سوادا. وذلك محال.
لأن قولنا : «السواد
خرج عن كونه سوادا». و «بطل كونه سوادا» قضية موضوعها «السواد» ومحمولها «خرج عن
كونه سوادا» أو «بطل كونه سوادا» ومن شرط صحة القضية امكان اجتماع موضوعها
ومحمولها معا. ومعلوم أن اجتماع النقيضين محال فثبت : أنه يستحيل قولنا : السواد
خرج عن كونه سوادا ، وبطل كونه سوادا. واذا كان الأمر كذلك ، ثبت : أنه يمتنع
اسناد تقرر الماهية وتكونها الى ايجاد موجد ، وايقاع فاعل.
الحجة الخامسة : قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ : إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) الآية. سمى الأمر الّذي سيفعله غدا فى الحال باسم الشيء.
وذلك يقتضي أن يكون المعدوم شيئا.
والجواب عن الحجة الأولى : أن نقول : انا نجد من أنفسنا شعورا وادراكا فى صور كثيرة ،
مع حصول الاتفاق بيننا وبينكم على أنها ليست بماهيات ولا حقائق ، بل هى نفى محض ،
وعدم صرف :
الصورة الأولى : العلم بالممتنعات. وذلك لأنا نحكم بأن شريك الله ممتنع
ونقيم الدلائل على ذلك. ولو لا أنا تصورنا شريك الإله. والا لاستحال منا أن نحكم
عليه بالامتناع. لأن التصديق بدون التصور محال. ولأنا نقول : شريك الاله محال.
والجمع بين الوجود والعدم محال ، وحصول الجسم الواحد فى أن واحد فى مكانين محال ،
ونميز بين كل واحد من هذه التصديقات ، وبين الآخر. والشعور الذهنى والامتياز
العقلى حاصل فى هذه الصور ، مع حصول الاتفاق بين جميع العلماء على أن هذه الممتنعات ليست ذوات ولا حقائق ولا ماهيات.
__________________
الصورة الثانية : العلم بالمركبات ، كما اذا تصورنا بحرا من زئبق ، وجبلا من
زبرجد فان البحر والجبل عبارة عن جواهر موصوفة بالتركيب والتأليف ، وموصوفة بألوان
مختلفة ، وأشكال مخصوصة. وعندكم الثابت فى العدم ، انما هو ذوات الجواهر والأعراض.
فأما أن يكون الجوهر موصوفا بالعرض ، فذلك غير ثابت فى العدم البتة والجبل انما
يكون جبلا بكون الجواهر موصوفة بالأعراض والتركيبات. فاذن الشعور الذهنى حاصل فى
هذه الصورة ، مع أن المشعور به غير حاصل البتة ، لا فى العدم ولا فى الوجود.
الصورة الثالثة : العلم بالنسب والاضافات. مثل علمنا بحصول هذا الجسم فى هذا
الحيز ، دون ذلك الحيز ، وطلوع الشمس غدا من المشرق لا من المغرب. ولا معنى لطلوع
الشمس من المشرق الا حصول ذاتها فى ذلك الحيز دون هذا الحيز ولا شك ولا نزاع أن
هذه النسب غير ثابتة فى العدم ، لأن كون الشمس المعدوم حاصلة فى المكان المعدوم
محال فى بداهة العقل ، وأنتم ساعدتم أيضا على أنه لا حصول ولا تقرر لأمثال هذه
النسب فى العدم.
الصورة الرابعة : انا نعلم امتياز العدم عن الوجود ، وامتياز النفى المحض
والسلب الصرف عن الثبوت. ومسمى النفى الصرف والسلب المحض محكوم عليه بكونه متميزا
عن الثبوت ، مع أنه يستحيل أن يكون لمسمى النفى المحض ثبوت. لأن المراد من النفى
المحض ما هو مقابل لمسمى الثبوت ومناف له. فلو كان له ثبوت بوجه ما ، لكان منافى
الشيء ومناقضه ، نفس ذلك الشيء. وهو محال. ولأن الخصم يساعد على أن مسمى العدم غير
ثابت فى العدم.
الصورة الخامسة : انا نحكم على الماهية المعدومة بأنها غير
__________________
موجودة. فقبل
اتصاف تلك الماهية بالوجود نحن نتصور ماهية الوجود ، ونميز فى أذهاننا بين مسمى
الوجود وبين مسمى الجوهر والسواد. ولذلك فان الخصم يقول : مسمى الجوهر والسواد
ثابت فى العدم ، ومسمى الوجود غير ثابت فى العدم. فثبت : أنا نتصور ماهية الوجود
وحقيقته قبل صيرورة الماهية موصوفة بالوجود. فلو لزم من مجرد هذا التمييز الذهنى
والشعور العقلى ، كون المشعور به حاصلا فى العدم ، لزم كون ماهية الوجود متقررة فى
العدم. وذلك محال. لأن العدم نقيض الوجود. والنقيضان لا يجتمعان ولأن الخصم أيضا
يساعد على أن ماهية الوجود غير متقررة فى العدم.
الصورة السادسة : نحن نعقل الماهية المؤثرية ، وماهية المتأثرية ، ونميز بين
كل واحد منهما وبين الآخر ، وبينهما وبين غيرهما. مع أن الخصم يساعد على أن
المعدوم لا يكون مؤثرا ولا متأثرا ، ولا يتقرر حال العدم بمسمى المؤثرية ومسمى
المتأثرية. فالشعور الذهنى والادراك العقلى حاصل. مع أن المشعور به غير حاصل. وكذا
كون الشيء فوق غيره وتحت غيره ويمينا وشمالا. ويدخل فيه جميع النسب والاضافات.
واذا عرفت هذا فنقول
: تعنى بكون المعدوم معلوما ، هذا القدر من التمييز الذهنى الحاصل فى هذه الصورة ،
أم تعنى به أمرا وراء هذا القدر؟ فان عنيت به الأول تعذر الاستدلال بكونه معلوما على كونه شيئا ، لأن هذا القدر من المعلومية حاصل فى هذه
الصور ، مع أنها ليست بماهيات ولا ذوات ولا حقائق بالاتفاق. وان عنيت يكون المعدوم
معلوما ، أمرا وراء هذا القدر ، فلا بد من تفسير كون المعدوم معلوما ، ثم اقامة
الدلالة على كونه معلوما بذلك التفسير. فانا من وراء النزاع فى المقامين. واعلم :
أنك متى أوردت هذا السؤال على هذا الوجه ، ضاق الكلام على الخصم جدا.
__________________
أما دليلهم الثانى على قولهم ان المعدوم متميز ، وهو أن المقدور قبل دخوله فى
الوجود متميز عن غير المقدور ، وذلك يقتضي وقوع الامتياز فى المعدومات.
فالجواب : ان المقدور هو الّذي يكون للقادر فيه تأثير اما بالتحقيق ،
واما بالابطال. وعندكم هذه الماهيات ثابتة فى العدم ، ولا تأثير للقادر فيها
البتة. وانما تأثير القادر فى اعطاء صفة الوجود لتلك الماهيات. فالمقدور اما
الوجود واما موصوفية الماهية بالوجود وأياما كان ، فهو غير ثابت حال العدم. فثبت :
أن الّذي يمكن جعله مقدورا استحال القول بكونه ثابتا فى العدم. والّذي يمكن القول
بكونه ثابتا فى العدم ، استحال القول بكونه مقدورا للقادر. فقد سقطت هذه الشبهة.
وأما دليلهم الثالث : على قولهم المعدومات يتميز بعضها عن البعض ، وهو التمسك
بكون بعض المعدومات مرادا ، وبعضها مكروها.
فجوابه : ان الماهيات يمتنع عليها التبدل والتغير ، فيمتنع كونها
متعلقة للارادة والكراهة. بل متعلق الإرادة والكراهة صيرورتها موجودة ، لكن
صيرورتها موجودة لا يتقرر حال العدم ، فعاد ما ذكرنا من أن الّذي يمكن جعله متعلق
الإرادة والكراهة ، لا يمكن القول بثبوته فى العدم ، والّذي يمكن القول بثبوته فى
العدم ، لا يمكن جعله متعلق الإرادة والكراهة.
وأما دليلهم الرابع على ذلك ، وهو تميز المعدوم الممكن عن المعدوم الممتنع.
فجوابه : ان المعدومات الممتنعة أقسام كثيرة. مثل شريك الاله ،
والجمع بين الضدين وحصول الجسم الواحد فى الآن الواحد فى مكانين
وكل واحد من هذه
الأقسام متميز عن الآخر فى الذهن ولم يلزم من ذلك كونها ثابتة فى العدم ، فكذلك
هاهنا.
وأما الحجة الثانية التى عولوا عليها فى أن المعدوم شيء. وهو قولهم : ان الممكن هو
الّذي يمكن تقرر ماهيته تارة مع العدم ، وأخرى مع الوجود. وذلك يقتضي جواز تقرر
الماهية بدون الوجود.
فجوابها : ان الماهية اذا كانت واجبة التقرر حالتى العدم والوجود ،
ممتنعة التغير فى نفسها ، أمتنع جعل الامكان صفة لها ، بل الامكان يكون صفة
للوجود. ثم انا توافقنا على أن الوجود غير ثابت فى العدم ، فعاد ما ذكرنا من أن الّذي
يمكن جعل الامكان وصفا له لا يعقل اثباته فى العدم ، وما يمكن اثباته فى العدم ،
لا يمكن جعل الامكان وصفا له.
وأما الحجة الثالثة : وهى قولهم : الامكان صفة موجودة حاصلة قبل الوجود ، فوجب
تحقق الماهية قبل الوجود.
فجوابها : قد تقدم فى مسألة حدوث العالم.
وأما الحجة الرابعة : وهى قولهم : لو كانت الماهية متجددة ، لكان وقوعها بالفاعل
ممكنا. لكن وقوعها بالفاعل محال.
فجوابها : ان القادر كما يجعل الماهية موجودة ، فهو يجعل الماهية
ماهية. والحجة التى تمسكتم بها فى امتناع وقوع الماهية بالفاعل ، فهى بعينها تقتضى
امتناع وقوع الوجود بالفاعل ، فانه لو وقع الوجود بالفاعل ، لزم عند تقدير عدم ذلك
الفاعل ، أن يخرج الوجود عن كونه وجودا. وهو محال.
فان التزموا أن
الوجود لا يقع بالفاعل ، وزعموا : أن الواقع
بالفاعل هو
موصوفية الماهية بالوجود ، أوردنا عليهم ذلك الكلام فى نفس تلك الموصوفية. وذلك
يقتضي أن لا يقع بالفاعل لا الماهية ولا الوجود ولا موصوفية الماهية بالوجود. وذلك
يوجب أن لا يكون للمؤثر أثر البتة. وهو يوجب نفى الصانع. فثبت : أن هذه الحجة
ساقطة.
واما الحجة الخامسة : هى التمسك بقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) .
فهذا يقتضي اطلاق
اسم الشيء على المعدوم. ولا يقتضي كون المعدوم ذاتا وماهية وحقيقة. وأما قوله
تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) فانه يقتضي وقوع الماهيات بالقادر. وذلك يفيد نفى كون الذوات والماهيات متحققة فى الأزل.
والآية التى عول
الخصم عليها لا تفيد الا مجرد اللفظ. والآية التى عولنا عليها تفيد المعنى. فكان
قولنا أولى.
__________________
المسألة الثالثة
فى
اثبات العلم بالصانع
وقبل الخوض فى
المقصود ، لا بد من تقديم مقدمات :
المقدمة الأولى :
فى الفرق بين الامكان والحدوث :
الامكان عبارة عن
كون الشيء فى نفسه ، بحيث لا يمتنع وجوده ولا عدمه ، امتناعا واجبا ذاتيا. والحدوث
: عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم والفرق بين هذين الأمرين ظاهر.
المقدمة الثانية : زعم كثير من مشايخ علم الأصول أن علة الحاجة الى المؤثر ،
هى الحدوث. ومنهم من زعم : أن علة الحاجة هى مجموع الامكان والحدوث. فيكون الحدوث
على هذا القول شطر العلة. ومنهم من زعم : أن الحاجة هى الامكان بشرط الحدوث. فيكون
الحدوث على هذا القول شرط العلة. وعندنا : أن الحدوث غير معتبر فى تحقق الحاجة. لا
بأن يكون تمام العلة ، ولا بأن يكون شطر العلة ، ولا بأن يكون شرط العلة.
والدليل عليه : أن
الحدوث عبارة عن كون الشيء مسبوقا بالعدم. ومسبوقية الوجود بالعدم صفة للوجود ، الّذي
هو متأخر عن تأثير القادر فيه. والّذي هو متأخر عن احتياجه الى القادر ، الّذي هو
متأخر عن علة تلك الحاجة ، وعن جزء تلك العلة ، وعن شرط تلك العلة. فلو جعلنا
الحدوث علة للحاجة ، أو جزءا من هذه العلة ، أو شرطا لهذه العلة ، لزم تأخر الشيء
عن نفسه بمراتب. وهو محال.
__________________
المقدمة الثالثة : زعم الجمهور من الفلاسفة والمعتزلة : أن تأثير المؤثر انما
يكون فى وجود الأثر لا فى ماهيته. وهذا القول عندنا باطل. لأن الوجود له ماهية.
فلو امتنع أن يكون للقادر تأثير فى الماهية ، لامتنع أن يكون له تأثير فى الوجود.
فان قيل : تأثير القادر فى كون الماهية موصوفة بالوجود.
قلنا : موصوفية الماهية بالوجود يمتنع أن يكون أمرا ثابتا. ويدل
عليه وجوه :
احدها : ان اتصاف الماهية بالوجود ، لو كان أمرا ثابتا مغايرا
للماهية والوجود ، لما كان جوهرا مستقلا بنفسه ، قائما بذاته ، بل كان صفة من صفات
الماهية وحينئذ يكون اتصاف تلك الماهية بتلك الصفة زائدا على الماهية ، وعلى تلك
الصفة. ويلزم منه التسلسل.
وثانيها : وهو أن تلك الموصوفية تكون مساوية فى الوجود لسائر
الموجودات ، ومخالفة لها فى الماهية ، فيلزم : أن يكون لاتصاف الماهية بالوجود
ماهية ووجود آخر ، فيكون اتصاف ماهيتها بوجودها زائدا عليه ويعود الكلام الأول فيه. ويلزم التسلسل. وحينئذ لا يكون
الموجود الواحد موجودا واحدا ، بل يكون موجودات غير متناهية. وذلك محال.
وثالثها : وهو أن موصوفية الماهية بالوجود ، بتقدير أن يكون أمرا
مغايرا للماهية والوجود ، فلا بد أن تكون له ماهية. فاذا امتنع أن يكون للقادر
تأثير فى الماهيات ، امتنع أن يكون له تأثير فى هذه الموصوفية. وعلى هذا التقدير
لا يكون للمؤثر : أثر ، لا فى الماهية ، ولا فى الوجود ، ولا فى موصوفية الماهية
بالوجود. وهذا نفى للتأثير
__________________
والمؤثر بالكلية.
وهو باطل قطعا. بل القول الصحيح : أن المؤثر كما يؤثر فى جعل الماهية موجودة ،
فكذلك يؤثر فى جعل الماهية ماهية.
المقدمة الرابعة : ان الطريق الى اثبات الصانع تعالى ليس ، الا احتياج أجسام
هذه الموجودات المحسوسة ، الى موجود آخر غير محسوس. ومنشأ تلك الحاجة على قول
بعضهم هو الامكان ، وعلى قول آخرين هو الحدوث ، وعلى قول ثالث هو مجموع الامكان
والحدوث. ثم هذه الأمور الثلاثة ، اما أن تعتبر فى الذوات ، أو فى الصفات أو فى
مجموعها أو بالعكس. فللمجموع طرق ستة :
* * *
الطريق الأول : الاستدلال على وجود واجب
الوجود بامكان الذوات : فنقول : لا شك أن
الحقائق والماهيات موجودة. وكل موجود فاما أن تكون حقيقته قابلة للعدم أو لا تكون
كذلك. فان لم تقبل حقيقته العدم لما هى هى ، كان ذلك الموجود هو واجب الوجود
لذاته. وهو المطلوب. فان كانت حقيقته قابلة للعدم فنقول : كل موجود تكون حقيقته
قابلة للعدم ، فانه تكون نسبة حقيقته الى الوجود والعدم على السوية. وكل ما كان
كذلك لم يكن وجوده راجحا على عدمه الا لمرجح. وذلك المرجح لا بد وأن يكون موجودا.
ثم ذلك المرجح ان كان ممكنا عاد الكلام فيه ، ويلزم اما الدور واما التسلسل. وهما
محالان. فلا بد من الانتهاء الى واجب الوجود لذاته.
وهذا البرهان مبنى
على هذه المقدمات :
المقدمة الأولى : قولنا : كل موجود يقبل العدم. فان الوجود والعدم بالنسبة
الى ماهيته على السوية.
ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود ، الا أن
الوجود أولى بتلك الماهية من العدم ، فلكونه قابلا للعدم يكون
من الممكنات.
ويكون الوجود أولى به من العدم ، يستغنى عن المرجح والمؤثر؟
ونقول فى جواب هذا السؤال : انه متى كان الوجود أولى به من العدم ، كان واجب الوجود
لذاته. والّذي يدل عليه : هو أن تلك الماهية مع تلك الأولوية. ان لم يصح العدم
عليها ، كان واجبا لا ممكنا. وان صح العدم عليها ، كان ممكنا. وكل ما كان ممكنا ،
لا يلزم من فرض تحققه محال.
فلتفرض الماهية مع
تلك الأولوية. تارة موجودة ، وأخرى معدومة ، ونسبة تلك الأولوية الى الوقتين على
السوية. فاختصاص أحد الوقتين بالوجود دون الثانى. اما أن يتوقف على انضمام قيد
إليه لأجله اختص ذلك الوقت بالوجود ، واما أن لا يكون كذلك. فلو كان الأول لم تكن
تلك الأولوية كافية فى حصول الوجود ، بل لا بد معها من هذا القيد الزائد. لكنا قد
فرضنا أن تلك الأولوية كافية فى وقوع الوجود. هذا خلف.
وأيضا : فانا نقول : تلك الأولوية مع هذه الضميمة ، ان لم تقتض
الوجوب ، عاد التقسيم الأول فيه. وان أفاد الوجوب ، فحينئذ يصح قولنا : انه متى
حصل الرجحان ، حصل الوجوب.
المقدمة الثانية : قولنا الممكن المتساوى لا يترجح أحد طرفيه على الآخر ، الا
لمرجح وللعلماء فى تقرير هذه المقدمة قولان :
أحدهما : انها مقدمة أولية بديهية. وذلك لأنه لما كانت نسبة الوجود
ونسبة العدم الى تلك الماهية على السوية ، قضى صريح العقل بأنه يمتنع رجحان أحدهما
على الآخر لا لأجل انضياف أمر من الأمور الى الطرف الراجح. ولذلك فان كل عاقل اذا
أحس بحدوث شيء فى
وقت معين ، طلب
لحدوثه علة وسببا. وذلك يدل على أن افتقار رجحان الجائز الى المرجح أمر مقرر فى
بداهة العقول.
القول الثانى : ان هذه المقدمة برهانية. وأحسن ما قيل فى هذا المقام : ان
الاستواء والرجحان متناقضان متنافيان ، ولما ثبت أن ماهية الممكن مقتضيه للاستواء
، فلو حصل الرجحان أيضا ، لاجتمع النقيضان وهو محال.
وعندى : أن هذه
الحجة ضعيفة. لأن التناقض انما يلزم لو كانت الماهية مقتضية للاستواء أو مقتضية
للرجحان أيضا. أما من يقول : الماهية مقتضية للاستواء. وأما الرجحان فانه حصل لا
لعلة البتة ، لا لذاته ولا لغيره ، لم يلزم التناقض على هذا القول. والأقوى أن
يقال : الممكن هو الّذي يكون العدم والوجود بالنسبة إليه على التساوى ، والشيء
الّذي يكون كذلك ، امتنع أن يدخل فى الوجود ، الا بعد أن يصير وجوده راجحا على
عدمه. وذلك الرجحان يجب أن يكون صفة لشيء آخر سابق على وجوده ، فيمتنع أن يكون محل
ذلك الرجحان ، هو وجوده. لأن ذلك الرجحان لو كان صفة لوجوده ، لكان متأخرا عن
وجوده. لكنا قد بينا أنه متقدم على وجوده. فيحصل الدور ، وهو محال فاذن ذلك
الرجحان ، يجب أن يكون صفة لشيء آخر ، يلزم من وجوده. وذلك هو المؤثر. فثبت : أن
كل ممكن فهو مفتقر الى المؤثر.
ويمكن تقرير هذه المقدمة بناء على قول
الفلاسفة من وجه آخر : وذلك أنهم قالوا :
الزمان يمتنع أن يكون له مبدأ ومنتهى. لأنا لو فرضنا للزمان أولا ، لكان عدمه
سابقا على وجوده بالزمان. والسبق بالزمان لا يحصل الا مع وجود الزمان فيلزم أن
يقال : الزمان كان موجودا قبل أن كان موجودا. وذلك محال.
وهكذا لو فرضنا
للزمان منتهى. لكان عدمه حاصلا بعد وجوده ، بعدية بالزمان. والبعدية بالزمان لا
تحصل الا مع وجود الزمان. فيلزم : أن يقال : الزمان موجود بعد أن لم يكن موجودا.
وذلك محال فثبت : أن عدم الزمان محال.
واذا ثبت هذا.
قالوا : الزمان اما أن يكون واجبا لذاته ، واما أن يكون ممكنا لذاته. والأول باطل.
لأنه مركب من آنات متوالية منقضية. وكل ما كان كذلك ، لم يكن واجبا لذاته ، فهو
اذن ممكن لذاته. وهذا الممكن اما أن يقع لغيره أو لذاته ، أو لا لغيره ولا لذاته.
فان كان لغيره ثبت
افتقاره الى المؤثر ، وان كان لذاته وجب أن لا يكون منقضيا ، بل يكون باقيا
مستمرا. وهو محال. وان كان لا لذاته ولا لغيره ، كان حدوثه. اتفاقيا. وكل ما كان
اتفاقيا ، لم يمتنع فى العقل أن لا يوجد. لكنا قد بينا أن العدم على الزمان محال.
ولما بطل القسمان ، ثبت القسم الأول وهو أنه ممكن لذاته. الا انه واجب الوجود
لسببه ومؤثره. فلأجل وجوبه لوجوب سببه ، يمتنع العدم عليه.
وعند هذا يظهر أن
دلالة وجود الزمان على وجود واجب الوجود ، أظهر من دلالة جميع الممكنات. ولعله هو
المراد من قوله عليهالسلام : «لا تسبوا الدهر ، فان الله هو الدهر» هذا ما يمكن
تقريره بناء على أصول القوم.
فان قيل : القول
بافتقار الممكن الى المؤثر عليه اسئلة :
السؤال
الأول : افتقار الممكن الى
المؤثر ، اما أن يكون حال وجوده أو حال عدمه. والقسمان باطلان ، فبطل القول بالافتقار. أما
الحصر فظاهر. وأما أنه يمتنع أن يكون الافتقار حال الوجود ،
__________________
فلانه يلزم ايجاد
الموجود. وهو محال. وأما أنه يمتنع أن يكون الافتقار حال العدم. وذلك لأن المؤثر
ما يكون له أثر. والعدم نفى محض. فالقول باثبات التأثير حال كون الأثر عدما محضا :
محال.
وأيضا : فلأنه ما
دام يكون باقيا على العدم كان باقيا على عدمه الأصلي ، والعدم الأصلي يمتنع
استناده الى مؤثر الوجود والايجاد. فاذن ما دام يكون باقيا على العدم ، امتنع
استناده الى المؤثر. واذا ثبت فساد القسمين ، ثبت أن القول بالتأثير محال.
السؤال الثانى : لو فرضنا أن مؤثرا يؤثر فى أثر لكان اما أن يؤثر فى ماهية
ذلك الأثر ، أو فى وجوده ، أو فى اتصاف ماهيته بوجوده. والكل باطل ، فكان القول
بالتأثير باطلا. أما بيان الحصر فلأنه لو لم تكن الماهية ولا الوجود ولا اتصاف
الماهية بالوجود مستندا الى المؤثر ، لكان ذلك الّذي يفرض أثرا لذلك المؤثر غنيا
عن ذلك المؤثر فى ماهيته وفى وجوده وفى اتصاف ماهيته بوجوده ، وحينئذ يكون ذلك
الأثر غنيا عن ذلك المؤثر مطلقا ، فلا يكون أثرا له. هذا خلف.
واما بيان فساد
الأقسام : فهو أن نقول : انما قلنا : انه لا يجوز أن يكون تأثير المؤثر فى ماهية
الأثر. وذلك لأنه لو كان كون السواد سوادا بالفاعل مثلا ، لكان عند فرض عدم ذلك
الفاعل ، يلزم خروج السواد عن كونه سوادا. لأن ما بالغير لا يبقى عند فرض
عدم ذلك الغير. لكن خروج السواد عن كونه سوادا محال ، فوجب أن لا يكون كون السواد
سوادا ، واقعا بالفاعل. وأما أنه لا يجوز أن يكون تأثير المؤثر فى الوجود. لأن عند
تقدير عدم المؤثر ، يلزم أن يخرج الوجود عن كونه وجودا. وذلك أيضا محال ـ كما
قررناه فى الماهية.
__________________
وأما أنه لا يجوز
أن يكون تأثير المؤثر فى اتصاف الماهية بالوجود فذلك لوجهين :
الأول : ان اتصاف الماهية بالوجود ليس أمرا زائدا على الماهية وعلى
الوجود. اذ لو كان زائدا ، لكانت له ماهية ، وله وجود. وكان اتصاف تلك الماهية
بذلك الوجود زائدا عليه. ولزم التسلسل.
الثانى : ان بتقدير أن تكون تلك الموصوفية أمرا زائدا على الماهية
وعلى الوجود ، حصلت لها ماهية ووجود ، فحينئذ يعود التقسيم المذكور ، وهو أن
المؤثر اما أن يؤثر فى ماهيته أو فى وجوده أو فى موصوفية ماهيته بوجوده. والكل
محال. فثبت : أن المؤثر لو أثر ، لكان أما أن يؤثر فى الماهية أو فى الوجود أو فى
موصوفية الماهية بالوجود. والكل محال. فكان القول بالتأثير محالا.
السؤال الثالث : لو أثر شيء فى شيء ، لكان تأثير المؤثر فى الأثر اما أن
يكون عين ذات المؤثر أو ذات الأثر أو يكون أمرا ثالثا مغايرا لهما. والقسمان
باطلان ، فكان القول بالتأثير باطلا.
انما قلنا : ان كونه
مؤثرا يمتنع أن يكون عين ذات المؤثر وذات الأثر بوجوه :
الأول : انه يمكننا أن نعقل ذات المؤثر وذات الأثر ، مع الشك فى كون
ذلك المؤثر مؤثرا فى هذا الأثر. مثلا : نعقل الموجود الّذي هو واجب الوجود لذاته ،
ونعقل هذا العالم ، ثم نشك فى أن المؤثر فى وجود هذا العالم : هو ذلك الواجب ، أم
واجب آخر ، أو شيء من معلولات واجب الوجود؟ والمعلوم غير ما هو غير معلوم فهذه
__________________
المؤثرية التى هى
غير معلومة مغايرة لذات المؤثر ، ولذات الأثر ، الّذي هو معلوم.
الثانى : ان تأثير المؤثر فى الأثر نسبة بين ذات الأثر وذات المؤثر ،
والنسبة بين شيئين متأخرة عن تينك الذاتين ، والمتأخر عن الشيء مغاير لذلك الشيء.
الثالث : وهو انا نصف ذات المؤثر بكونه مؤثرا فى ذلك الأثر ،
والموصوف مغاير للصفة.
الرابع : وهو انا نعلل الأثر لا بذات المؤثر ، بل بكونه مؤثرا. فانا
نقول : انما وجد هذا الأثر ، لأن البارى تعالى أوجده وأبدعه وخلقه. ولا نقول :
انما وجد هذا الأثر لأن البارى تعالى موجود وواجب الوجود. وصدق النفى والاثبات
يوجب التغاير.
فبطل بهذه الوجوه
أن يقال : كون المؤثر مؤثرا فى الشيء عبارة عن ذات المؤثر وذات الأثر ، وانما قلنا
: انه لا يجوز أن تكون المؤثرية زائدة على ذات المؤثر وذات الأثر ، وذلك لأن على
هذا التقدير اما أن تكون المؤثرية أمرا عدميا أو ثبوتيا. لا جائز أن تكون عدميا ،
لأن المؤثرية نقيض اللامؤثرية ، واللامؤثرية عدم محض ونفى صرف. وذلك معلوم
بالضرورة. وعدم العدم ثبوت. فكانت المؤثرية صفة ثبوتية.
ثم نقول : هذه
المؤثرية التى هى معلوم ثبوتى ، وهى مغايرة لذات الأثر وذات المؤثر ، اما أن تكون
جوهرا قائما بنفسه ، أو عرضا مفتقرا الى موصوف. والأول
محال لوجهين :
الأول : وهو أن مؤثرية الشيء ، نعت للشىء وصفة له. ولا يمكن تعقلها الا
صفة للشىء ونعتا له ، فيمتنع أن تكون جوهرا قائما بالنفس.
والثانى : ان بتقدير أن تكون جوهرا قائما بالنفس ، فهذا الجوهر اما أن
يكون بينه وبين الأثر نسبة واضافة ، أو لا يكون. فان كان الأول كان الكلام فى تلك
النسبة كما فى الأول ، فيلزم التسلسل. وان كان الثانى لم يكن بينه وبين الأثر نسبة واضافة ولم يكن بينهما تعلق أصلا ، وكان أجنبيا
بالكلية عن ذلك الأثر. ولما بطل هذا القسم تعين أن المؤثرية بتقدير الثبوت ، وجب
أن تكون صفة لذات المؤثر ، مفتقرة الى تلك الذات. وكل ما كان مفتقرا الى غيره ،
كان ممكنا لذاته مفتقرا فى وجوده الى مؤثر. فيلزم افتقار تلك المؤثرية فى وجودها
الى موجد آخر ، وحينئذ يعود الكلام فى تأثير المؤثر فى وجود تلك
المؤثرية. ويلزم التسلسل. وهو محال.
فثبت بما ذكرنا :
أنه لو فرض مؤثر يؤثر فى أثر ، لكان تأثيره فى ذلك الأثر اما أن يكون نفس المؤثر
والأثر ، واما أن يكون مغايرا لهما. والقسمان باطلان ، فكان القول بالتأثير باطلا.
السؤال الرابع : ان جواز الوجود متعلق بالطرفين ـ أعنى الوجود والعدم ـ فلو
كان جواز الوجود يقتضي احتياج الوجود الى المؤثر ، لكان جواز العدم يقتضي احتياج
العدم الى المؤثر. لكن احتياج العدم الى المؤثر محال. لأن العدم نفى محض وسلب صرف
، فجعله أثرا أو مؤثرا محال. ولأن العدم مستمر من الأزل الى الأبد. والباقى لا
يمكن اسناده حال بقائه الى المؤثر.
فثبت : أنه لو كان
جواز الوجود يحوج الوجود الى المؤثر ، لكان جواز العدم يحوج العدم الى المؤثر ،
وثبت : أن احتياج العدم الى المؤثر محال ، فيلزم أن يكون احتياج الوجود أيضا الى
المؤثر محالا.
__________________
السؤال الخامس : لو كان الجواز علة للحاجة الى المؤثر ، لكان الشيء حال
بقائه مفتقرا الى المؤثر. وهذا محال ، فالقول بأن الجواز علة للحاجة الى المؤثر
محال. بيان الملازمة : هو أن الامكان من لوازم الماهيات الممكنة ، ولازم الشيء
حاصل فى جميع زمان وجوده ، وكان الامكان حاصلا حال بقاء الممكنات ، فلو كان
الامكان علة للحاجة الى المؤثر ، لزم افتقار الباقى حال بقائه الى المؤثر. وانما
قلنا : ان هذا محال ، لأن هذا يقتضي تحصيل الحاصل. وهو محال.
لا يقال : لم لا يجوز أن يكون تأثير المؤثر حال بقاء الأثر فى بقائه.
وبقاؤه زائد على ذاته؟
لأنا نقول : بقاؤه لما كان زائدا على ذاته ، لم يكن التأثير فى بقائه تأثيرا
فى ذاته. لكنا بينا : أن ذاته من حيث هى هى ، ممكنة فى الزمان الثانى. فلو كان
الامكان علة للحاجة الى المؤثر ، لكانت ذاته من حيث هى هى ، محتاجة فى الزمان
الثانى الى المؤثر. وذلك محال. لأنه يقتضي تحصيل الحاصل ، وتكوين الكائن. وهو غير
معقول. فوجب القطع بأن الامكان ليس علة للحاجة الى المؤثر.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : الامكان علة للحاجة الى المؤثر ، بشرط
الحدوث. وهذا الشرط غير حاصل حال البقاء. فلم يلزم تحقق الاحتياج حال البقاء؟
لأنا نقول : انا بينا فى ما تقدم : أن الحدوث لا يمكن أن يكون علة
للحاجة ، ولا جزءا لهذه العلة ولا شرطا لها. فسقط قولكم.
السؤال السادس : لا شك أنا نشاهد حدوث صور ، وأعراض فى هذا العالم. فلو كان
الحدوث والامكان علة للحاجة الى المؤثر فيها ، فالمؤثر فيها اما أن يكون قديما أو
حادثا والقسمان باطلان ، فبطل القول بالمؤثر. وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون
المؤثر فيها قديما ،
لأن تأثير ذلك
المؤثر القديم فيها ، اما أن يكون موقوفا على شرط حادث ، أو لا يكون كذلك. فان كان
الأول عاد التقسيم الأول فيه. فيلزم أن يكون حدوث ذلك الشرط الحادث ، لأجل حدوث
شرط آخر ، ولزم التسلسل. وان كان الثانى لزم اختصاص حدوث هذا الحادث بهذا الوقت
دون ما قبله لا لأمر أصلا البتة ، فكان هذا قولا بوقوع الجائز ، لا عن
سبب ، ولا عن مرجح. وهذا يبطل القول بافتقار الجائز الى المرجح.
وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون المؤثر فى حدوث هذه الحوادث. فى هذا
الوقت أمرا حادثا. لأن الكلام يعود فيه. ويلزم التسلسل ، وحصول أسباب ومسببات لا
نهاية لها دفعة واحدة. وذلك يبطل القول باثبات واجب الوجود.
السؤال السابع : وهو أن نقول : جملة ما حدث فى هذا الوقت ، اما أن يكون له مؤثرا ، أو لا يكون. فان لم
يكن له مؤثر ، فقد حدث الحادث لا عن مؤثر. وذلك يبطل القول بافتقار الممكن والمحدث
الى المؤثر. وأما ان كان لها مؤثر فالمؤثر فيها اما أن يكون حادثا أو قديما.
ويمتنع أن يكون حادثا ، لأن المؤثر فى الشيء مغاير للأثر ، فلو كان المؤثر فى جملة
الحوادث حادثا ، لكان ذلك الحادث مغايرا لجملة الحوادث. وذلك محال. لأن كل ما كان
حادثا كان داخلا فى جملة الحوادث وفى مجموعها.
ويمتنع أن يكون
المؤثر فيها قديما ، لأن ذلك القديم قبل ايجاد هذه الحوادث ، لم يكن موجدا لها ،
ولا مخرجا لها من العدم الى الوجود. والآن صار موجدا لها ، ومخرجا لها من العدم
الى الوجود
__________________
فتكون موجدية هذا
الموجد لها ، حكما حادثا متجددا ، وحينئذ يعود ما ذكرنا من تعليل جملة الحوادث
لشيء حادث. وذلك محال ـ على ما بيناه.
وأيضا : فلو افتقر
الحادث الى المؤثر ، لافتقرت هذه الموجدية الحادثة الى المؤثر ، فيلزم اما الدور
واما التسلسل. وهما محالان. وبتقدير القول بهما يبطل الطريق الى اثبات الصانع.
واذا كان كذلك ، وجب أن تكون تلك الموجدية المتجددة غنية عن المؤثر. وذلك يوجب
القطع باستغناء الممكن المحدث عن المؤثر.
والجواب عن السؤال الأول : لم لا يجوز أن يقال : تأثير المؤثر فى الوجود يحصل مع
الوجود لا قبله ولا بعده؟ وقول السائل : «هذا يقتضي ايجاد الموجود. وهو محال»
فجوابه: ان ايجاد موجود كان موجودا قبل ذلك الايجاد محال. وأما ايجاد موجود ما كان
موجودا قبل ذلك الايجاد ، وانما حصل حال ذلك الايجاد. فلم قلتم بأنه محال؟
والجواب عن السؤال الثانى : أنه لو وقعت الشكوك والشبهات فى تأثير شيء فى شيء ، لامتنع
تجدد شيء وحدوثه. لكنه لا شك ولا شبهة فى تجدد الحوادث والصور والأعراض. وما
ذكرتموه من التقسيم قائم هاهنا بعينه. وذلك لأنه لو تجدد أمر ، أو حدث أمر ، لكان
المتجدد اما الماهية ، أو الوجود ، أو موصوفية الماهية بالوجود. والكل محال ، فوجب
أن لا يحصل التجدد أصلا.
وانما قلنا : انه
يمتنع تجدد الماهية. لأنه يلزم أن يقال : السواد ما كان سوادا ، ثم انقلب سوادا.
وذلك يقتضي انقلاب الماهية والحقيقة. وذلك محال.
__________________
وانما قلنا : أنه
يمتنع تجدد الوجود ، لأنه يقتضي أن يقال : الوجود ما كان وجودا ثم انقلب وجودا.
وذلك يقتضي انقلاب الماهية.
وانما قلنا : انه
يمتنع تجدد موصوفية الماهية بالوجود ، لأن هذه الموصوفية ان لم تكن أمرا زائدا على
الماهية وعلى الوجود ، امتنع القول بأنها هى المتجدد. وان كان أمرا زائدا.
فالمتجدد اما ماهيتها أو وجودها. ويعود التقسيم المذكور.
فثبت : أن ما
ذكرتم من التقسيم يمنع من القول بالتجدد والحدوث. ولما كان ذلك مشاهدا محسوسا ،
علمنا : أن ما ذكرتم من التقسيم باطل.
والجواب عن السؤال الثالث : ان ذلك التقسيم أيضا قائم فيما عرف فساده بالضرورة. وذلك
لأنه يقال : لو حصل شيء فى هذه الساعة ، لكان حصوله فى هذه الساعة اما أن يكون
حصوله نفس ذاته ، أو زائدا على ذاته. والقسمان باطلان. فبطل القول بحصوله فى هذه
الساعة. وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون حصول هذه السماء ، وحصول هذه الأرض فى
هذه الساعة : نفس ذات السماء ، ونفس ذات الأرض لوجوه.
أحدها : أنه يمكننا أن نعقل ذات السماء وذات الأرض ، مع الشك فى
حصولهما فى هذه الساعة.
والثانى : ان حصولهما فى هذه الساعة نسبة لتينك الذاتين الى هذه الساعة والنسبة بين الشيئين مغايرة لهما.
والثالث : ان ذات السماء والأرض لو كانتا نفس حصولهما فى هذه الساعة ،
ففى الساعة الثانية لم يبق حصولهما فى الساعة الأولى ،
__________________
فوجب أن لا تبقى
ذاتهما فى الساعة الثانية. فان التزموا ذلك ، وقالوا : الأجسام تحدث حالا بعد حال
، ألزمناهم فى واجب الوجود. وانما قلنا : أنه لا يجوز أن يكون حصول السماء والأرض
فى هذه الساعة زائدا على الذات. لأن ذلك الزائد يكون حاصلا لا محالة فى هذه الساعة
، فيكون حصول ذلك الزائد فى هذه الساعة زائدا عليه. ولزم التسلسل وهو محال.
فثبت : أن ما
ذكروه من التقسيم حاصل فى هذا المقام ، الّذي عرف بطلانه بالضرورة. فوجب الجزم
ببطلان هذا التقسيم.
والجواب عن السؤال الرابع : انه لا نزاع فى أن الامكان متعلق بطرفى الوجود والعدم ، الا
أن رجحان الوجود يكون لوجود ما يؤثر فى الوجود ، ورجحان العدم يكون لعدم ما يؤثر
فى الوجود. وهذا هو الكلام المشهور من أن علة العدم هى عدم العلة.
والجواب عن السؤال الخامس : ان عندنا الذات الممكنة حال البقاء ، تفتقر الى المبقى. لا
بمعنى أن المبقى يعطيه حال البقاء : وجودا آخر ، بل بمعنى أنه يدوم ذلك الوجود
لدوام ذلك المؤثر الأول. فلم قلتم بأن ذلك محال؟
والجواب عن السؤال السادس : هو ان ذلك الاشكال انما يعظم اذا قلنا المؤثر فى حدوث الحوادث
هو العلة الموجبة بالذات ، أما اذا قلنا : انه فاعل مختار ، اندفع الاشكال. لا
محالة.
والجواب عن السؤال السابع : أن تأثير الشيء فى الشيء نسبة مخصوصة بينهما. وقد بينا : أن
هذه النسبة لا وجود لها فى الأعيان ، فلم يلزم وقوع التغير فى المؤثر.
فهذا هو الكلام فى
هذه المقدمة مع أنه ليس لأحد من المتقدمين ولا من المتأخرين خوض فيها بالتقرير
والاشكال وبالله التوفيق.
* * *
المقدمة الثالثة :
من مقدمات برهان اثبات واجب الوجود :
نفى الدور.
والدور : هو أن
يحصل موجودان ، ممكنان. ويكون كل واحد منهما علة لوجود الآخر.
ومن الناس من احتج على فساد ذلك بأن قال
:
المؤثر متقدم على
الأثر بالذات. فلو كان كل واحد منهما مؤثرا فى الآخر ، لكان كل واحد منها متقدما
بالذات على الآخر ، فكان كل واحد منهما متقدما على المتقدم على نفسه ، والمتقدم
على المتقدم على الشيء متقدم على ذلك الشيء ، فيلزم كون كل واحد منهما مقدما على
نفسه بمرتبتين. وذلك محال. لأنه من حيث انه متقدم يقتضي أن يكون موجودا قبل ، ومن
حيث انه متأخر يقتضي أن لا يكون موجودا قبل. وهذا يقتضي أن يكون موجودا قبل ، وأن
لا يكون موجودا قبل. فيلزم اجتماع العدم والوجود فى الشيء الواحد من الوجه الواحد.
وهو محال.
وأعلم : أن هذه
الحجة مبنية على مقدمة مشكلة. وهى اثبات التقدم الذاتى. فنقول : ليس المراد من هذا
التقدم التقدم بالزمان. لأنا قد بينا فى أول هذا الكتاب : أن تقدم المؤثر على
الأثر لا يجب أن يكون بالزمان ، لأن حركة الاصبع علة لحركة الخاتم. مع أن هاتين
الحركتين يحصلان معا ، ولا تقدم لأحدهما على الأخرى بالزمان البتة.
واذا بطل القول
بأن المؤثر يجب تقدمه على الأثر بالزمان. فنقول : ان عنيت بقولك المؤثر متقدم على
الأثر بالذات : كون المؤثر مؤثرا فى الأثر : رجع حاصل هذا التقدم الى التأثير.
فقولك : لو كان كل واحد منهما مؤثرا فى الآخر ، لكان كل واحد منهما متقدما على
الآخر : مقدمة باطلة. لأن تاليها عين مقدمها من غير فرق. وليس فيها الا تبديل عبارة
بعبارة. فان كان القول بكون كل واحد منهما مؤثرا فى الآخر ، معلوم البطلان
بالضرورة ، لم يكن فى ذكر هذا الكلام فائدة ، ولا إليه حاجة. وان لم يكن معلوم
البطلان بالضرورة ، لم يكن تغيير العبارة مفيدا البتة.
وأما ان كان
المراد من قوله : المؤثر متقدم بالذات على الأثر : أمرا آخر مغايرا للتقدم بالزمان
، ومغايرا لنفس هذا التأثير ، فذلك التقدم لا بد من إفادة تصوره ، ثم من
اقامة الدليل على ثبوته. فان كل واحد من المقامين مما غفلوا عن تلخيصه وتحصيله الى
الآن.
والأولى فى ابطال الدور أن يقال :
المعلول مفتقر الى العلة. فلو كان كل واحد منهما معلولا للآخر ، لكان كل واحد منهما مفتقرا الى الآخر ،
فكان كل واحد منهما مفتقرا الى المفتقر الى نفسه ، فيلزم كون كل واحد منهما مفتقرا
الى نفسه. وذلك محال. لأن الافتقار الى الشيء اضافة بين المفتقر والمفتقر إليه ،
والاضافة لا تعقل الا بين الشيئين.
فان قال قائل : الاضافيان كل واحد منهما علة لوجود الآخر ، وذلك لأنه يلزم
من فرض وجود أيهما كان ، وجود الآخر قطعا. ومن فرض عدم أيهما كان ، عدم الآخر
قطعا. فوجب كون كل واحد منهما علة لوجود الآخر.
__________________
فالجواب : ان قلنا : ان الاضافات لا وجود لها فى الأعيان ، فقد زال
السؤال. وان قلنا : ان لها وجودا فى الأعيان ، قلنا : الملازمة بينهما معللة بوحدة
السبب.
المقدمة الرابعة من مقدمات برهان اثبات
العلم بواجب الوجود : ابطال التسلسل.
مقدمة واعلم : أنا قبل الخوض فى تقرير هذا المطلوب ، نفتقر الى تقديم
مقدمة. وهى: ان العلة المؤثرة لا بد وأن تكون موجودة حال وجود المعلول. والدليل
عليه : أنه لو لم يكن كذلك ، لكان عند حصول المعلول تكون العلة غير موجودة ، فيلزم
حصول المعلول حال عدم العلة ، فحينئذ يكون حصول ذلك المعلول بكون العلة غير موجودة
، فيلزم حصول المعلول حال عدم العلة ، فحينئذ يكون حصول ذلك المعلول لا لأجل وجود
تلك العلة. وقد فرضنا الأمر كذلك. هذا خلف.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : العلة فى حال وجودها ، توجب وجود
المعلول بعد انقضاء العلة. وعلى هذا التقدير يكون وجود المعلول معللا بتلك العلة
التى كانت موجودة قبل ذلك؟
لأنا نقول : القول بأن هذه العلة أوجبت فى هذه الساعة حصول المعلول غدا
: قول باطل. وذلك لأن هذه العلة لما صدق عليها فى هذه الساعة أنها أوجبت ذلك
المعلول ، فإيجاب ذلك المعلول اما أن يكون عبارة عن حدوث ذلك المعلول ، أو عن شيء
آخر يترتب عليه حدوث ذلك المعلول. فان كان الأول لزم حدوث ذلك المعلول فى هذه
الساعة لا بعده. وذلك لأنه لما صدق على تلك العلة انها أوجبت فى هذه الساعة
ذلك المعلول. وهذا
الايجاب عبارة عن حدوث ذلك المعلول. ولما وجد ذلك الايجاب فى هذه الساعة. لزم حصول ذلك المعلول فى
هذه الساعة. فالقول بأن ذلك المعلول يحصل لا فى هذه الساعة بل فى الساعة الثانية :
قول يناقض الكلام الأول.
وأما ان قلنا بأن
ايجاب العلة لذلك المعلول ، عبارة عن أمر مغاير لذلك المعلول ، ويترتب عليه ذلك
المعلول. فهذا باطل. لأن ذلك المغاير لا بد وأن يصدق عليه أنه يوجب فى هذه الساعة
ذلك المعلول ، فى الساعة الثانية. فيكون ايجابه لذلك المعلول زائدا على ذاته.
ويلزم التسلسل فى الايجابات. وكل ذلك محال. فثبت بما ذكرنا : أن المؤثر التام لا
بد وأن يوجد الأثر معه.
اذا عرفت هذه المقدمة
، فنقول : البرهان على ابطال التسلسل من ثلاثة أوجه :
البرهان الأول : لو تسلسلت الأسباب والمسببات الى غير نهاية ، لكانت بأسرها
موجودة فى الحال ، بناء على المقدمة التى قررناها : من أن العلة والمعلول يوجدان
معا. واذا كان كذلك ، فنقول : مجموع تلك الأسباب والمسببات اما أن يكون واجبا لذاته
، أو ممكنا لذاته. والأول باطل ، لأن كل مجموع فهو مفتقر الى كل واحد من آحاده. وكل
واحد من آحاد هذا المجموع : ممكن لذاته. والمفتقر الى الممكن لذاته ، أولى بأن
يكون ممكنا لذاته. فهذا المجموع ممكن لذاته. وكل واحد من آحاده ممكن لذاته. وكل
ممكن لذاته ، فله مؤثر مغاير له فهذا المجموع مفتقر بحسب مجموعيته ، وبحسب كل واحد
من آحاد مجموعيته ، الى مؤثر مغاير له. وكل ما كان مغيرا المجموع الممكنات ولكل
واحد من آحاد مجموع الممكنت : لم يكن ممكنا لذاته. وكل
__________________
موجود لا يكون
ممكنا لذاته ، كان واجبا لذاته. فثبت بهذا البرهان : وجوب انتهاء جميع الممكنات
الى موجود واجب لذاته. وهو المطلوب.
البرهان الثانى : لما ثبت أن ذلك المجموع ممكن لذاته. وكل ممكن لذاته فله
مؤثر. فلذلك المجموع مؤثر. والمؤثر فى ذلك المجموع اما أن يكون هو نفس ذلك المجموع
، أو شيء من الأمور الداخلة عليه. أو شيء من الأمور الخارجة عنه. لا جائز أن يكون
المؤثر فى ذلك المجموع هو نفس ذلك المجموع ، لامتناع كون الشيء مؤثرا فى نفسه. ولا
جائز أن يكون المؤثر فيه شيئا من الأمور الداخلة فيه ، لأن كل ما كان مؤثرا فى
وجود مركب ، وجب كونه مؤثرا فى جميع أفراد ذلك المركب. وذلك الفرد الّذي جعلناه
علة لذلك المركب ، لما كان أحد أفراد ذلك المركب ، لزم كونه علة لنفسه. ولزم كونه
علة لعلة نفسه. والأول باطل ، لامتناع كون الشيء علة لنفسه. والثانى باطل ،
لامتناع الدور. ولما بطل أن تكون علة ذلك المجموع نفسه ، أو فردا من الأفراد
الداخلة فيه ، وجب أن تكون علته أمرا خارجا عنه. والخارج عن مجموع الممكنات بالذات
، لا يكون ممكنا لذاته. وكل موجود لا يكون ممكنا لذاته ، وجب أن يكون واجبا لذاته.
فثبت : وجوب انتهاء جميع الممكنات الى موجود واجب لذاته. وهو المطلوب.
البرهان الثالث : لو تسلسلت الأسباب والمسببات لا الى نهاية ، فعلى هذا
التقدير : الأثر الأخير موجود ، الا أن الخصم يقول : المؤثر الأول غير موجود.
فلنأخذ من هذا
الأثر الأخير ـ لا الى بداية ـ جملة واحدة. ولنأخذ أيضا من المرتبة الخامسة من
مراتب الآثار ـ لا الى بداية ـ جملة أخرى ، فلا بد وأن تكون الجملة الأولى أزيد من
الجملة الثانية بأربع مراتب. ثم لنطبق هذا الطرف الأخير من جانب الآثار على الطرف
الأخير من هاتين الجملتين. ومعنى هذا التطبيق أن الأول من هذه
الجملة مقابل
بالأول من تلك الجملة ، والثانى من هذه بالثانى من تلك الجملة. فاما أن يتقابل كل
واحد من آحاد الجملة الزائدة بواحد من آحاد الجملة الناقصة ، لا الى بداية. فيكون
الكل مثل البعض. وذلك محال. واما أن تنقطع الجملة الناقصة من الطرف الأخير ، فتكون
الجملة الناقصة متناهية من ذلك الطرف ، والزائدة زادت عليها بأربعة فتكون الجملة
الزائدة أيضا متناهية من ذلك الطرف. فيكون للأسباب والمسببات ، فى سلمة التصاعد :
طرف ومبدأ. وذلك يمنع من القول بأنه لا نهاية لها. ثم ذلك الطرف ان كان ممكنا
لذاته ، افتقر الى مؤثر آخر ، فلم يكن طرفا. هذا خلف. وان كان واجبا لذاته فذلك هو
المطلوب.
واذا ظهرت هذه
المقدمات. فلنرجع الى أصل البرهان المذكور ، على وجود اثبات واجب الوجود. وهو أنه
لا شك فى وجود الموجودات. وكل موجود فهو اما واجب لذاته ، واما ممكن لذاته. فان
حصل فى الموجودات موجود واجب لذاته. فذلك هو المطلوب. وان كان ذلك الموجود ممكنا ،
افتقر الى مؤثر. والدور والتسلسل باطلان. فلا بد من الانتهاء الى موجود واجب
الوجود لذاته. وذلك هو المطلوب.
الطريق الثانى فى اثبات واجب الوجود
لذاته : الاستدلال عليه بامكان الصفات.
وتقريره : أن نقول
: الأجسام متساوية فى الماهية والحقيقة. ومتى كان الأمر كذلك ، كان كل صفة اتصف
بها جسم ، أمكن اتصاف سائر الأجسام بها. ومتى كان الأمر كذلك ، افتقر كل واحد من
الأجسام فى اتصافه بصفته المخصوصة الى مخصص ومرجح.
وهذا البرهان مبنى
على ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى :
الأجسام متساوية فى تمام الماهية :
وأجود ما يمكن أن
يذكر فى هذا الباب : أن الجسم يمكن تقسيمه الى الفلكى والى العنصرى ، والى الكثيف
والى اللطيف. ومورد القسمة يجب أن يكون مشتركا فيه بين الأقسام. فاذن كونه جسما
قدر مشترك فيه بين اللطيف والكثيف ، والفلك والعنصر والحار والبارد. وهذا الّذي
وقع الامتياز فيه هو صفات الجسم. فثبت : أن الأجسام متساوية فى ذواتها وحقائقها ،
والاختلاف الحاصل بينها ليس الا فى صفاتها وأعراضها. وفى هذا المقام أبحاث غامضة
عميقة. لا تليق بهذا المختصر.
المقدمة الثانية :
وهى أن الأجسام لما كانت متماثلة فى ذواتها وحقائقها ، وجب أن يصح على كل واحد
منها ما صح على الآخر :
وذلك لأن قابلية
هذا العرض ، ان كانت من لوازم تلك الماهية ، فاذا حصلت تلك الماهية ، لزم حصول تلك
القابلية ، فوجب أن يصح على كل واحد منها ، ما صح على واحد منها. وان لم يكن من
لوازمها ، كان من عوارضها. فيعود الكلام فى قبلية تلك القابلية. فان كانت أيضا من
العوارض ، يلزم اما التسلسل واما الانتهاء الى قابلية لازمة لتلك الماهية. وحينئذ
يحصل المطلوب.
فان قال قائل : أفراد النوع الواحد ، وان كانت متساوية فى ماهية ذلك النوع
، لكنها غير متساوية فى كون كل واحد منها غير ذلك الشخص وذلك المعين. وذلك لأن تعين هذا ان كان
حاصلا
__________________
لذاك ، فهذا هو
عين ذاك ، فلم يكن مغايرا له. فثبت : أن تعين كل واحد من الأفراد غير حاصل للفرد
الآخر.
واذا ثبت هذا ،
فنقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك التعين شرطا لتلك القابلية فى هذا الفرد ، أو يكون
تعين الفرد الآخر مانعا من هذه القابلية. واذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم أن يصح
على كل واحد من أفراد النوع الواحد ، ما صح على فرد من أفراده.
الجواب : أما على قول من يقول : التعين أمر عدمى. فالسؤال ساقط ،
وأما عند من يقول : انه أمر ثبوتى. فجوابه : ان ذلك التعين ليس من لوازم تلك
الماهية. والا لزم أن يكون ذلك النوع فى ذلك الشخص. لكنه ليس الأمر كذلك ، لأن هذا
الكلام مفروض فى نوع حصل له أفراد كثيرة بالفعل. فاذن ذلك التعين الّذي به صار ذلك
الشخص ذلك المعين ، أمر غير لازم لتلك الماهية. فهو عارض جائز الزوال. وكل ما كان
عارضا لذلك الشخص بسبب ذلك التعين ، وجب أيضا أن يكون جائز الزوال. وذلك يقتضي أن
يكون اتصاف كل واحد من الأجسام بما اتصف به ، أمرا ممكنا جائزا.
وعند هذا ظهر أن
كل ما صح على العناصر ، فمثله يصح على الأفلاك. فكان الخرق والالتئام والفطور
والانشقاق جائزا على الأفلاك ، وكما يمكن انقلاب الأرض ماء ، والماء هواء ،
والهواء نارا ، فكذلك يمكن انقلاب الفلك أرضا ، والأرض فلكا. وكما يمكن كون الفلك
محيطا بالأرض ، والأرض مركزا ، فكذلك يمكن انقلاب كون الأرض محيطا ، والفلك مركزا
، وهذه المقدمة كما أنها عظيمة المنفعة فى معرفة المبدأ ، فهى أيضا عظيمة المنفعة
فى معرفة المعاد ، وتصحيح ما ورد فى القرآن من أحوال القيامة.
المقدمة الثالثة : وهى أن كل جسم يوجد ،
فلا بد له من حيز
معين ، ولا بد له
من شكل معين ، ولا بد وأن يكون صلبا أو رخوا. وقد دللنا على أن اختصاص كل واحد من
الأجسام بصفته المعينة ، لا بدّ وأن يكون من الجائزات. ولا بد للجائز من مرجح
ومخصص. فثبت بهذا : افتقار جميع الأجسام فى أحيازها وصفاتها الى مخصص ومرجح ، ثم
ذلك المرجح ان كان جسما افتقر هو أيضا فى حيزه المعين ، وشكله المعين ، وصفته
المعينة الى مخصص ومرجح ، ثم ذلك المرجح الى مخصص ومرجح. وذلك يفضى الى التسلسل.
وهو محال ـ كما سبق ـ فثبت : افتقار جميع الأجسام فى جميع صفاتها الى موجود ليس
بجسم ولا بجسمانى. واذا أردنا أن نبين أن ذلك الموجود : واجب الوجود لذاته ، رجعنا
الى بعض ما ذكرناه فى البرهان الأول.
الطريق
الثالث فى اثبات
العلم بالصانع تعالى : الاستدلال عليه بحدوث الجواهر والأجسام :
وتقريره : ثبت أن
الأجسام محدثة ، وكل محدث فله محدث. فالأجسام مفتقرة الى المحدث. أما بيان أن
الأجسام محدثة ، فقد تقدم. وأما بيان أن كل محدث ، فله محدث. فللناس هاهنا طريقان
:
الأول : ان كل محدث فهو جائز الوجود لذاته ، وكل ما كان جائز الوجود
لذاته ، فهو مفتقر الى المؤثر. وانما قلنا : ان كل ما كان محدثا ، فهو جائز الوجود
لذاته. وذلك لأن كل ما كان محدثا ، فقد كان قبل وجوده معدوما. ولو لم تكن ماهيته
قابلة للعدم ، لما كان معدوما.
وأيضا : كل محدث ، فانه بعد حدوثه موصوف بالوجود ، ولو لم
__________________
تكن ماهيته قابلة
للوجود ، لما كان كذلك. فثبت : أن كل ما كان محدثا ، فان ماهيته قابلة للعدم
وقابلة للوجود ، ولا معنى للممكن الا ذلك. فثبت : أن كل محدث فانه ممكن الوجود
والعدم لذاته. أما أن كل ممكن فانه مفتقر الى المؤثر ، فلما مر تقريره فى البرهان
الأول. وبالله التوفيق.
فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : انه كان معدوما ، ثم انقلب فى ذلك
الوقت المعين واجبا لذاته؟ والّذي يدل على أن هذا الّذي ذكرناه : محتمل.
وجوه :
الأول : ان العرض عندكم فى الوقت الثانى مستحيل البقاء. واذا كان
كذلك فوجوده فى الوقت الأول جائز الوجود ، ثم ان عدمه فى الوقت الثانى واجب لذاته.
فاذا عقل أن يكون عدمه بعد وجوده عدما واجبا لذاته ، بحيث يستحيل عقلا أن لا يصير
معدوما. فلم لا يجوز أن يصير وجوده بعد عدمه واجبا لذاته ، بحيث يستحيل عقلا أن لا
يصير موجودا؟
والثانى : وهو أن هذا الآن الّذي هو آخر الماضى ، وأول المستقبل ، كما
وجد ، يمتنع بقاؤه. لأن الحاضر لا يعقل أن يكون هو عين المستقبل. فاذن هذا الآن واجب التجدد حين
حدث ، وواجب الفناء بعد ذلك. واذا عقل هذا فى الآنات ، التى هى أجزاء الزمان ، فلم
لا يعقل مثله فى جميع الحوادث؟
والثالث : العالم بشرط كونه مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، يمتنع حصوله
فى الأزل. لأن الجمع بين النقيضين محال ، ثم فى ما لا يزال
__________________
حدث ذلك الامكان.
وحدوث ذلك الامكان ليس بالفاعل. لأن كل ما كان حصوله بالفاعل ، كان ممتنع الحصول
عند فرض عدم الفاعل. وصحة وجود العالم فى لا يزال ، حاصلة سواء حصل الفاعل ، أو لم
يحصل. فعلمنا أنه حدثت هذه الصحة لا بالفاعل ، بل لذاته. فثبت : أن حدوث الشيء
لذاته معقول.
سلمنا : أن ما ذكرتم يدل على أن كل محدث ممكن لذاته ، لكنه معارض بحجج
دالة على أن القول بوجود شيء ممكن الوجود : محال.
الحجة الأولى : انا اما أن نقول : الوجود نفس الماهية ، واما أن نقول :
الوجود غير الماهية. وعلى كل واحد من القولين ، فالقول بالامكان والجواز غير
معقول. أما على القول بأن الوجود نفس الماهية ، فنقول : الامكان غير معقول. وذلك
لأن الشيء الموصوف بالامكان هو الّذي يجوز أن يكون موجودا ، ويجوز أن يكون معدوما.
والحكم بجواز الوجود والعدم على تلك الماهية ، يستدعى جواز كون تلك الماهية مقارنة
للوجود ، ومقارنة للعدم. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : الوجود هو نفس
الماهية. وأما على القول بأن الوجود غير الماهية ، فلأن على هذا التقدير. اما أن
يكون الموصوف بالامكان هو الماهية ، أو الوجود ، أو كون الماهية موصوفة بالوجود. والكل
محال. واما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالامكان هو الماهية. لأن كل ما كان ممكن
الثبوت ، لم يمتنع تقرره ، مع عدم ذلك الشيء. فلو قلنا : السواد يمكن أن يكون
سوادا ، كان معناه : السواد يمكن أن يحكم عليه بأنه سواد. ومعلوم أن ذلك محال.
لأنه يقتضي أن يكون حال كونه سوادا ، محكوما عليه بأنه غير سواد. وذلك محال. واما
أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالامكان هو الوجود ، لأنه يرجع حاصله الى أن الوجود
يمكن أن لا يكون وجودا. وهذا محال باطل
أيضا. واما أنه لا
يجوز أن يكون الموصوف بالامكان هو موصوفية الماهية بالوجود ، لأن الّذي ذكرناه فى
الماهية وفى الوجود ، عائد بعينه فى موصوفية الماهية بالوجود. فثبت : أن القول
بامكان الوجود غير معقول سواء قلنا : الوجود عين الماهية ، أو قلنا : انه غيرها.
الحجة الثانية : انا لو فرضنا شيئا من الأشياء ممكن الوجود ، لكان ذلك
الامكان ، اما أن يكون موجودا أو معدوما. لا جائز أن يكون موجودا ، للوجوه الكثيرة
التى ذكرناها فى الجواب عن شبه الفلاسفة فى قدم الأجسام ، ولا جائز أن يكون معدوما
، لأن الشيء بتقدير أن يكون ممكن الوجود ، كان موصوفا فى نفسه بالامكان. وذلك
الامكان رافع للامتناع ، والامتناع عدم. ورافع العدم ثبوت. فوجب أن يكون الامكان
أمرا ثبوتيا. ولما كان القول بكون الشيء ممكن الوجود ، يقتضي أن يكون الامكان اما
أن يكون وصفا سلبيا ، أو وصفا وجوديا. وكان القسمان باطلين ، فكان القول بكون
الشيء ممكن الوجود باطلا.
الحجة الثالثة : انا اذا قلنا : الشيء يجوز أن يكون موجودا ، ويجوز أن يكون
معدوما : يقتضي تقرر ذلك الشيء حال وصفه بكونه معدوما. وهذا يقتضي كون المعدوم
شيئا. وأنتم لا تقولون به.
وأيضا : القائل بأن المعدوم شيء ، لا يمكنه القول بالامكان. وذلك
لأن الامكان على هذا التقدير ، اما أن يكون وصفا للماهية ، أو وصفا للوجود.
لا جائز أن يكون
وصفا للماهية ، لأن الماهية يستحيل عليها الانقلاب والتغير ، فلا يعقل كون الامكان
وصفا لها. ولا جائز أن يكون وصفا للوجود ، لأن الوجود قبل تجدده وحدوثه ، ما كان
ثابتا ولا متعينا. والامكان عندكم ثابت قبل الحدوث. واذا كان كذلك ، امتنع القول
يجعل الامكان صفة للوجود.
والجواب : مرادنا من الامكان هو كون الشيء بحيث يجوز أن يستمر على ما
كان عليه قبل ذلك ، ويجوز أن لا يبقى على ما كان عليه قبل ذلك. واذا ظهر مرادنا من
لفظ الامكان ، زالت الشبهات المذكورة.
واذا عرفت هذا ،
فنقول : بقاؤه على ما كان عليه قبل ذلك ، غير ممتنع. وعدم بقائه أيضا على ما كان
عليه قبل ذلك غير ممتنع أيضا. ولما جاز الأمران ، امتنع رجحان أحدهما على الآخر ،
الا لمرجح. الا أنه يبقى عليه أن يقال : لم لا يجوز أن يكون محدث الأجسام محدثا ،
وان كان قديما. ولكنه جائز الوجود لذاته ، الا أن الموجود كان به أولى؟ وعند هذا
نفتقر فى بيان كونه تعالى واجب الوجود لذاته ، الى الرجوع الى ما ذكرناه فى
البرهان الأول.
الطريق الثانى فى تقرير هذا البرهان : أن نقول ، الأجسام محدثة ، وكل محدث فهو محتاج الى المحدث ،
من غير تعرض لكون ذلك المحدث جائزا ، أو واجبا ـ وأكثر مشايخ المتكلمين كانوا
معولين على هذه الطريقة ـ ثم لهؤلاء طريقان :
الأول : الذين قالوا : العلم باحتياج المحدث الى المؤثر : علم
ضرورى. قالوا : والّذي يدل عليه أن كل من رأى بناء رفيعا وقصرا مشيدا ، اضطر الى
العلم بأن له بانيا وصانعا ، حتى أن من جوز حدوث ذلك البناء ، لا عن فاعل وبان :
كل محكوما عليه بالجنون ، فعلمنا : أن هذه المقدمة بديهية.
الثانى : الذين قالوا بأن هذه المقدمة استدلالية ـ وهم أكثر شيوخ
المعتزلة ك «أبى على» و «أبى هاشم» ـ وطريقهم : هو أنهم يثبتون كون العبد موجدا
لأفعال نفسه ، ثم يثبتون : أن أفعالنا انما افتقرت إلينا ، لأنها حدثت بعد أن كانت
معدومة. وعند هذا يظهر
أن الحدوث علة
للافتقار الى المحدث. فالعالم لما كان محدثا ، وجب افتقاره الى الفاعل وعلى تمسكهم
بهذا القياس سؤالات صعبة :
أولها : انا لا نسلم أن الواحد منا محدث لافعال نفسه. وسيأتى تقريره
ان شاء الله تعالى فى مسألة خلق الأفعال. ولم لا يجوز أن يقال : ان أفعالنا تحدث
عند قصودنا ودواعينا ، لا بقدرتنا وداعيتنا ، بل على سبيل الاتفاق من غير مؤثر؟
فان قالوا : الحدوث على سبيل الاتفاق محال. فليذكروا ذلك ابتداء فى حدوث العالم.
حتى يدل حدوث العالم على وجود الفاعل من غير حاجة الى ذكر هذا القياس.
وثانيها : هب أن أفعالنا واقعة بقدرتنا ، لكن لا نسلم أن علة الحاجة
هى الحدوث. ودليله : الوجوه الكثيرة التى قدمناها فى أن الحدوث لا يمكن أن يكون
علة للحاجة ، ولا جزءا لهذه العلة ، ولا شرطا لها.
وثالثها : هب أن حدوثها علة لحاجتها إلينا ، لكن لم لا يجوز أن تكون
العلة هى ذلك الحدوث اعنى : ماهية الحدوث بشرط اضافتها الى تلك الأفعال الخاصة ـ والعالم
وان حصل فيه الحدوث ، لكن لم يحصل فيه ذلك الشرط الخاص ، فلا يلزم أن يحصل فيه
الحاجة الى الفاعل.
البرهان الرابع فى اثبات الصانع
الاستدلال بحدوث الصفات والعلماء حصروا ذلك فى نوعين : دلائل الأنفس ، ودلائل الآفاق.
أما دلائل الأنفس : فهى الاستدلال بتكون الانسان من النطفة. والله تعالى ذكر
هذه الدلالة فى القرآن العظيم ، فى آيات كثيرة.
__________________
وتقريرها : أن
نقول : النطفة جسم متشابه الأجزاء فى الصورة والشكل. فاما أن يقال : انها متشابهة
الأجزاء فى الحقيقة ، أو ليست كذلك. وذلك لأن الأطباء يقولون : ان عند استيلاء
حرارة الشهوة على البدن يحصل ذوبان لجملة الأعضاء ، فبعضها ينفصل من ذوبان العظم ،
وبعضها من ذوبان اللحم ، وبعضها من ذوبان العين ، وبعضها من ذوبان القلب. فهو ان
كان متشابه الحقيقة والصورة فى الحس ، الا أنه مختلف الطبيعة فى الحقيقة. فالعظم يتولد
مما ذاب من العظم ، والعصب يتولد مما ذاب من العصب. وعلى هذا القياس جميع الأعضاء.
اذا عرفت هذا
فنقول : ان كانت النطفة جسما متشابه الأجزاء فى الحقيقة. فنقول : لا شك أن تأثير
حرارة الرخوى المزاج ، وتأثير قوى الكواكب ، بالنسبة إليه على السوية. ومهما كان
تأثير المؤثر متشابها ، وتأثير أجزاء القابل فى الماهية والطبيعة متشابهة ، وجب أن
يكون الأثر متشابها. ولهذا السبب فان الفلاسفة قالوا : شكل البسيط هو الكرة. قالوا
: لأن قوة الطبيعة فى البسيط واحدة ، والقابل متشابه. فوجب أن يكون الشكل شكلا
متشابها. وهو الكرة. ولما دل الحس على كون البدن مركبا من أعضاء مختلفة فى الكمية
والكيفية والشكل والطبيعة والخاصية ، لزم القطع بأن المؤثر فى تخليقها ليس هو الطبيعة
، ولا قوى الكواكب ، بل صانع حكيم مدبر بالقدرة والاختيار.
أما على قول من يقول : النطفة وان كان جسما. متشابه الاجزاء فى الصورة ، لكنها
مختلفة الأجزاء فى الطبيعة.
فنقول : ان كل مركب لا بد وأن يكون مركبا من أجزاء ، كل
__________________
واحد منها يكون
بسيطا فى نفس الأمر وفى الحقيقة. واذا كان كذلك ، فكل واحد من تلك الأجزاء يكون
قابلا متشابه الأجزاء فى الحقيقة ، وتكون للقوة الطبيعية الفاعلة فيها قوة واحدة.
ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء على شكل الكرة ، فوجب
أن يكون بدن الانسان على صورة شكل كرات مضمومة بعضها الى البعض. ومعلوم أن الأمر
ليس كذلك.
وأيضا فالنطفة
رطوبة رقيقة ، وما كان كذلك فانه لا يحفظ ترتيب الأجزاء ، ولا نسبة بعضها الى بعض
، فالجزء الّذي يحصل من ذوبان الرأس قد يصير أسفل ، والجزء الّذي يحصل من ذوبان
القلب قد يصير فوق. وكان ينبغى أن لا يبقى ترتيب الأعضاء ووضعها على نسبة واحدة فى
الأكثر ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، عملنا : أن انخلاق كل واحد من هذه الأعضاء
وبقاءها على ترتيبها ، بتخليق قادر حكيم.
الا أنه بقى هاهنا
أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : انما حصلت بتخليق بعض الملائكة ، أو بتخليق
الكواكب ، فانها أحياء ناطقة فاعلة مختارة؟ وعند ذلك لا بد من الرجوع الى البراهين
المتقدمة.
وأما دلائل الآفاق : فبعضها سفلية عنصرية. ومجامعها الاستدلال بأحوال الحيوان
والنبات والمعادن والآثار العلوية ، وبعضها علوية فلكية. ومجامعها الاستدلال بحول
الافلاك والكواكب. والاستقصاء فى هذا النوع من الدلائل ، مذكور فى القرآن العظيم ،
ومشروح فى كتابنا المسمى ب «أسرار التنزيل وأنوار التأويل».
المسألة الرابعة
فى
أن الله تعالى قديم أزلى بانه سرمدى
اعلم : أنا لما
دللنا فى المسألة الثالثة على وجوب انتهاء جميع الممكنات الى موجود واجب الوجود
لذاته ، وكل ما كان واجب الوجود لذاته فان حقيقته لا تقبل العدم أصلا ، وكل ما كان
كذلك ، فانه يجب أن يكون قديما أزليا باقيا أبديا. فعلى هذا لا نحتاج بعد ذلك الى
اقامة الدلالة على كونه تعالى أبديا. الا أن المتكلمين الذين كانوا قبلنا ، لما لم
يذكروا تلك الطريقة فى اثبات واجب الوجود ، لا جرم كانوا معولين فى اثبات كونه
تعالى أزليا أبديا على وجوه أخر ، فنحن أردنا أن نتبرك بايراد تلك الوجوه أيضا.
واعلم : أن مشايخ
المتكلمين لما أقاموا الدلالة على افتقار العالم الى صانع. قالوا : صانع العالم ،
لو كان محدثا ، لافتقر الى محدث آخر. ولزم التسلسل. وهو محال. فوجب القول بأن صانع
للعالم قديم.
فان قيل : الاشكال على هذا الاستدلال من وجوه :
الأول : لم لا يجوز أن يقال : خالق هذا العالم المحسوس شيء محدث ،
وخالق ذلك المحدث شيء قديم. وعلى هذا التقدير يكون صانع العالم محدثا. ولا يلزم
التسلسل أيضا. وهذا هو قول المفوضة وأصحاب الوسائط. ألا ترى أن الفلاسفة يقولون :
مدبر ما تحت كرة القمر ، هو العقل. وهذا العقل الفعال معلول عقل آخر ، وذلك العقل
معلول عقل آخر ،
الى عشر مراتب ، وأكثر. ثم ذلك العقل الأول معلول وجود الله تعالى. وعند المفوضة :
الاله الأكبر خلق السيارات السبع ، وفوض تدبير هذا العالم إليها. واذا كان هذا
الاحتمال قائما ، فلا بد من ابطاله.
السؤال الثانى : ان كل موجودين يفرضان ، فلا بد وأن يكونا اما معا ، أو يكون
أحدهما سابقا على الآخر. فان كانا معا ، لزم أن يكونا قديمين أو محدثين. لكنكم
تقولون : الاله قديم ، والعالم محدث. وان كان أحدهما قبل الآخر ، فتقدم أحدهما على
الآخر. اما أن يكون بمقدار متناه. أو غير متناه. فان كان بمقدار متناه. كان كل
واحد منهما محدثا. وذلك محال. وان كان بمقدار غير متناه. فذلك محال. لوجوه :
الأول : انه على هذا التقدير ، قد يكون انقضاء قبل اليوم مدة غير
متناهية. وانقضاء ما لا نهاية له غير معقول.
الثانى : انه ان كان يتوقف حصول اليوم على أن ينقضى قبله ما لا نهاية
له ـ وانقضاء غير المتناهى محال ، والموقوف على المحال محال ـ فوجب أن يمتنع حصول
اليوم. وحيث حصل اليوم ، علمنا أن المنقضى متناه. لا غير متناه.
الثالث : ان المنقضى من زمان الطوفان الى الأزل ، أقل من المنقضى من
زماننا هذا الى الأزل. فاذا طبقنا بين هاتين الجملتين من هذين الطرفين اللذين
يلياننا ، وجب أن يظهر التفاوت من طرف الأزل. والا لكان البعض مثل الكل فتكون
المدة المنقضية متناهية ، فيكون تقدم الله تعالى على العالم متناهيا.
الرابع : انه لما كان تقدم الله على العالم أمرا واجب الثبوت. وهذا
التقدم لا يتقرر الا بهذه المدة ، كان دوام ذات الله تعالى واستمرار بقائه ،
مفتقرا الى تحقيق هذه المدة. والمفتقر الى الغير ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون واجب
الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته. وهذا خلف.
الخامس : ان المدة لا تعقل الا بتعاقب الآنات ، وتوالى الأزمنة
والساعات. فلو كان البارى تعالى متقدما على العالم بمدة لا نهاية لها ، ولا أول
لها ، لزم حصول الأزمنة المتوالية فى الأزل. وذلك محال. لأن توالى بعض الأزمنة
بالبعض ، يقتضي كون كل واحد منها مسبوقا بغيره. والأزل عبارة عن نفى المسبوقية
بالغير. والجمع بينهما متناقض.
لا يقال : هذه الاشكالات انما تلزم اذا قلنا : ان الله تعالى قبل العالم
، وسابق عليه بمدة موجودة وزمان متحقق. ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : انه تعالى
سابق على العالم بمدة مفروضة موهومه ، لا تحقق لها خارج الذهن.
لأنا نقول : هذا الكلام ضعيف جدا. لأن تقدم البارى تعالى على العالم ،
اذا كان حاصلا لا بحسب فرضنا واعتبارنا ، بل بحسب الحقيقة والوجود ، سواء وجد
الفرض ، أو لم يوجد ، ثم ثبت أن هذا التقدم والسبق ليس الا بمدة غير متناهية ، وجب
أن يكون حصول تلك المدة ، لا بحسب الفرض فقط ، بل بحسب الوجود والتحقق.
السؤال الثالث : ان الأزل والأبد متقابلان تقابل السلب والايجاب ، وتقابل
المتناقضين والمتعاندين . وكل أمرين هذا شأنهما ، فلا بد وأن يتميز أحدهما عن
الآخر.
فعلى هذا آخر
الأزل متصل بأول الأبد ، الا أن القول بهذا أيضا محال. لأن كل نقطة فرضناها آخر
الأزل وأول الأبد ، فأول الأبد كان حاصلا قبل ذلك. لأنا لو أفرضنا نقطة أخرى قبل
تلك النقطة بمائة سنة ، لم يصر الأبد أزلا ، بسبب زيادة هذا القادر المتناهى
__________________
عليه. فاذن ليس
للأزل البتة آخر ، ولا للأبد البتة أول. فاذن لا يتميز الأول عن الأبد البتة: مع
كون كل واحد منهما مناقضا للآخر ، ومعاند له. هذا خلف.
السؤال الرابع : اذا قلنا : كان الله تعالى موجودا فى الأزل ، وسيكون موجودا
فى الأبد. فقولنا «كان» يفيد أمرا كان موجودا حاصلا ، وقد انقضى وما بقى. وقولنا «يكون»
يفيد أمرا سيصير موجودا وحاصلا وبعد ما حصل. فاذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون
، فهو محكوم عليه بكونه متجددا متغير. وذات الله تعالى لما كان واجب الدوام ممتنع
التغير ، وجب أن لا يصدق عليه البتة ، أنه كان فى الأزل وسيكون فى الأبد وأنه كائن
الآن. ثم انا لما جربنا عقولنا وجدناها حاكمة بأن كل ما لا يصدق عليه أنه كان قبل
وسيكون بعد ، وأنه كائن الآن : فهو معدوم محض.
وعند هذا قال
المنكرون : انكم لما أثبتم ذاتا منزهة عن الجهات والأكوان والأوضاع ، خرج هذا الاثبات عن العقل ، وقرب من العدم
المحض. ثم انكم الآن لما أثبتموه منزها عن أن يصدق عليه قولنا : كان ، ويكون ، وهو
كائن : فهذا تصريح بالعدم المحض. واذا أدخلتموه تحت قولنا : كان ويكون وهو كائن
اقتضى ذلك الحكم عليه بكونه متجددا متغيرا ، فكيف الخلاص عن هذه العقدة المحيرة ،
والمضائق المضلة المعمية؟
ونظم المعرى هذا
المعنى فى شعر له. فقال :
قلتم : لنا صانع
حكيم
|
|
قلنا : صدقتم.
كذا نقول
|
ثم زعمتم : بلا
زمان
|
|
ولا مكان. ألا
فقولوا
|
هذا كلام. له
خبىء
|
|
معناه : ليست
لنا عقول
|
__________________
والجواب عن السؤال الأول : انا سنقيم الدلالة القاهرة ان شاء الله تعالى فى باب قدرة
الله تعالى ، على أنه لا خالق ولا موجد الا الله. وعند هذا يبطل القول بثبوت
المتوسطات.
والجواب عن السؤال الثانى : انا ذكرنا فى أول مسألة حدوث الأجسام : أن تقدم بعض أجزاء
الزمان على البعض ، ليس بالزمان. فتقدم ذات البارى تعالى على العالم يكون من هذا
الجنس.
والجواب عن السؤال الثالث ـ وهو السؤال
الطاعن فى قولنا : البارى تعالى سابق
على العالم سبقا لا أول له ـ فاعلم : أن هذا السؤال لازم على الكل. سواء أقر ذلك
الانسان بحدوث العالم وقدم الصانع ، أو أنكر ذلك. وذلك لأنه ان أقر بحدوث العالم
لزمه الاقرار بعدم لا أول له. وان قال بقدم العالم ، لزمه الاقرار بوجود لا أول
له. فعلى جميع التقديرات لا بد من الاقرار بمعقول لا أول له. ولا بد من الاقرار
بأمر له أول. واذا كان الأمر كذلك ، زالت هذه الشبهات.
والجواب عن السؤال الرابع ـ وهو قوله : «ان كل ما يصدق عليه بأنه كان ويكون ، فهو متجدد ومتغير» ـ فنقول
: المراد من قولنا : كان ويكون ، استمراره مع الأزمنة الماضية والأزمنة الآتية ،
من غير أن يكون متغيرا بحسب تغير هذه الأزمنة. وهذا المعنى مما يدركه العقل ـ الّذي
نوره الله تعالى بنور هدايته ـ وان كان الوهم والخيال يعجزان عنه.
واعلم : أن المشايخ ـ
رحمهمالله ـ
احتجوا على بقاء الصانع بحجتين :
الحجة الأولى : قالوا : لو عدم بعد وجوده ، لكان اما أن يكون عدمه باعدام
معدم ، أو بطريان ضد ، أو بانتفاء شرط. والأول محال ،
لان القدرة صفة
مؤثرة ، والعدم نفى محض ، فيمتنع كون الاعدام بالفاعل. ولا جائز أن يكون بطريان ضد
، لأن هذا الضد محدث ، والقديم أقوى من المحدث. فكان اندفاع هذا الضد بسبب وجوده
أولى من انعدامه بسبب طريان هذا المحدث. ولا جائز أن يكون بسبب زوال شرط ، لأن ذلك
الشرط يجب أن يكون قديما ، لأن المحدث يمتنع أن يكون شرطا للقديم. واذا كان كذلك ،
كان الكلام فى عدمه ، كالكلام فى عدم القديم الأول. فيلزم التسلسل. وهو محال.
الحجة الثانية : انه لو صح عليه العدم ، لكانت ماهيته قابلة للعدم وللوجود ،
ولو كان كذلك لكان مفتقر الى المؤثر. وكل مفتقر الى المؤثر محدث ، فيلزم : أنه لو
صح العدم عليه بعد وجود ، لكان محدثا.
وتقرير هذه
المقدمات قد تقدم فى مسألة حدوث الأجسام ، ولما امتنع حدوثه امتنع عدمه بعده
وجوده. وبالله التوفيق.
المسألة الخامسة
فى
أن حقيقة الله تعالى مخالفت
لسائر الحقائق لعين ذاته المخصوصة
اعلم : أن جماعة
عظيمة من مشايخ علم الأصول. زعموا : أن الذوات من حيث انها ذوات متساوية. وانما
يمتاز بعض الذوات عن البعض ، لاختصاصها بصفات مخصوصة. ثم قالوا بناء على هذا الأصل
: ان ذاته تعالى من حيث انها ذات ، مساوية السائر الذوات. وانما تمتاز ذاته عن
سائر الذوات لاختصاص ذاته بصفات مخصوصة ، لأجلها تصح الالهية. وتلك الصفات هى :
وجوب الوجود ، والقدرة التامة ، والعلم التام.
وزعم «أبو هاشم» : أنها صفة تقتضى لذاتها صفات أربعة : هى : الموجودية ،
والعالمية ، والقادرية ، والحيية.
والّذي نختاره ونقول به : ان ذاته سبحانه وتعالى ـ مخالفة لسائر الذوات لنفس كونها
تلك الذات المخصوصة.
واعلم : أن الخصم
ربما قال فى هذا الموضع : ان كلامكم فى هذا الموضع متناقض لأنكم تقولون : انه
تعالى يخالف خلقه لذاته المخصوصة فقولكم «المخصوصة» يدل على المفهوم الزائد على
الذات. فكان هذا اعترافا بأن المخالفة انما وقعت بأمر زائد على الذات. فثبت : أن
قولكم بأنه تعالى يخالف سائر الذوات لذاته المخصوصة ، لا لأمر زائد على الذات :
كلام متناقض.
واعلم : أنا قبل
الخوض فى الدليل ، نذكر ما يزيل هذا الاشكال. فنقول : انه لا يجب فى كل شيء يخالف
شيئا آخر ، أن تكون مخالفته له ، لأجل أمر زائد عليه. والّذي يدل عليه وجوه :
الوجه الأول : ان
الشيئين المختلفين. لو كان اختلافهما ، لأجل اختصاصهما بأمر زائد ، لكان ذلك
الزائد ، اما أن يكون مخالفا للآخر ، أو لا يكون فان لم يكن مخالفا للآخر ، امتنع
كونه سببا لأن يصير غيره مخالفا للآخر. وان كان مخالفا للآخر ، وجب أن تكون
مخالفته لأجل شيء آخر. ولزم اما التسلسل واما الدور. وهما محالان. فثبت : أنه لا
بد من الانتهاء الى شيئين يختلفان لنفسهما ، لا لأمر زائد.
الوجه الثانى :
وهو أن الذاتين اذا كانتا متساويتين من كل الوجوه ، ثم قامت بكل واحدة منهما صفة
مخالفة للصفة القائمة بالذات الأخرى ، فعند هذا الفرض بقيت الذاتان كما كانتا
متساويتين ، والصفتان كما كانتا مختلفتين ، وما كانتا متساويتين لا تنقلبان البتة
مختلفين ، وما كانتا مختلفتين لا تنقلبان البتة متساويتين. وعند هذا يظهر أن
المختلفتين لا يعقلان الا أن يكونا مختلفتين لذاتيهما. وأما فرض أمرين يختلفتان
بسبب أمر زائد على ذاتيهما. فذلك غير معقول.
الوجه الثالث :
انا اذا فرضنا ذاتا ، وقامت بها صفة. فالذات من حيث انها هى ، لا بد وأن تكون
مخالفة لتلك الصفة ، والا لم تكن احداهما بأن تكون موصوفة ، والأخرى بأن تكون صفة
أولى من العكس. واذا كانت تلك الذات مخالفة لتلك الصفة ، كانت مخالفة تلك الذات
لتلك الصفة ، لنفس الذات ، لا لأمر زائد.
فثبت بهذه الوجوه
: أنه لا بد من الاعتراف بأمور يخالف بعضها بعضا ، لانفسها وذواتها حيث هى هى ، لا
باعتبار صفة قائمة بها.
__________________
واذا عرفت هذا
فنقول قولنا : «الله تعالى مخالف لخلقه لذاته المخصوصة» المراد منه ما ذكرناه
ولخصناه .
واذا لخصنا محل
النزاع. فنقول : الدليل على أنه تعالى مخالف لخلقه لذاته المخصوصة : أنه لو كنت
ذاته من حيث انها تلك الذات مساوية لسائر الذوات ـ وقد عرفت أن الأشياء المتساوية
فى تمام الحقيقة ـ يجب أن يصح على كل واحد منهما ما صح على الآخر. واذا كذلك كان
اختصاص ذاته بصفته المخصوصة ، وعدم اختصاصه بصفات المحدثات أمرا جائزا. فترجح ذلك
الجائز على سائر الجائزات ، ان لم يكن لأمر فقد ترجح الممكن لا عن مؤثر. وهو محال.
وان كان لأمر عاد الطلب فى اختصاص ذاته بذلك الأمر ، فيلزم اما الدور واما التسلسل
وهما محالان. فثبت : أن القول بكون ذاته سبحانه وتعالى مساوية لسائر الذوات فى
كونه ذاتا يفضى الى أحد هذه المحالات ، فكان القول به محالا. وبالله التوفيق.
واحتج الخصم : بأن جميع الذوات متساوية فى كونها ذوات. واذا كان الأمر كذلك ،
وجب أن يكون امتياز بعضها عن البعض ، بسبب الصفات والأحوال.
أما بيان
المقدمة الأولى ـ فيدل
عليه وجوه :
الأول : انه يصح تقسيم الذوات الى الواجب والى الممكن. ومورد
التقسيم مشترك بين القسمين.
والثانى : انا اذا اعتقدنا. ذاتا. فسواء اعتقدناه قديما أو محدثا أو
واجبا أو ممكنا ، فان اعتقاد كونه ذاتا لا يزول ولا يتبدل. وهذا يدل على أن
المفهوم من الذوات واحد فى كل المواضع.
والثالث : انا نقول : المعلوم اما ذات واما صفة. وصريح العقل يشهد بأن
هذا التقسيم منحصر. ولو لا أن المفهوم من كون الذوات
__________________
ذاتا أمر واحد.
والا لم يكن هذا التقسيم منحصرا. فثبت بهذه الوجوه : أن الذوات متساوية فى كونها
ذوات.
وأما المقدمة الثانية ـ وهى أنه لما كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون امتياز بعض
الذوات عن بعض بسبب الصفات ـ فذلك لأنه لأنه لا شك أن الله تعالى متميز عن سائر
الموجودات. وثبت أن ذاته مساوية لسائر الذوات. وما به الامتياز غير ما به المشاركة
، فوجب أن يكون امتياز ذاته عن سائر الذوات بأمور زائدة على الذات. يكون بالصفة.
لا يقال : لم لا يجوز أن يكون امتياز ذوات المحدثات عن ذاته ، بسبب
اختصاص ذوات المحدثات بصفات ثبوتية ، وامتياز ذاته سبحانه عن ذوات المحدثات ، بسبب
سلب تلك الصفات عن ذاته؟
لأنا نقول : الذات من حيث انها ذات ، لو كانت مستقلة بنفسها فى التحقق ،
غنية عن الصفات ، لزم جواز أن ينقلب ذات السواد بياضا ، وذات البياض سوادا ، وذات
الواجب عرضا حالا فى المحل. وبالعكس. وكل ذلك محال. وان لم تكن الذات من حيث انها
ذات مستقلة الا مع الصفات ، وجب أن يكون امتياز ذات الحق تعالى عن غيره ، بسبب
ثبوت الصفات ، لا بسبب سلب الصفات.
والجواب : لا نسلم أن الذوات متساوية فى كونها ذوات. والوجوه الثلاثة
التى عولتم عليها قائمة بعينها فى الصفات ، فيلزمكم أن تكون الصفات متساوية فى
كونها صفات ، فيلزمكم أن يكون امتياز بعض الصفات عن بعض بصفات أخرى. ويلزم
التسلسل. وأيضا : فالمفهوم من كونها ذوات كونها أمور قائمة بأنفسها. والقيام
بالنفس عبارة عن الاستغناء عن المحل. وهو مفهوم سلبى. ولا نزاع فى كون هذا المفهوم
السلبى أمرا مشتركا فيه بين الذوات كلها. وانما النزاع فى أن تلك الحقائق
المحكوم عليها
بهذا القيد السلبى. هل هى متساوية من حيث انها هى؟ ودليلكم لا يفيد ذلك. واعلم :
أن الخصوم زعموا : أن الذوات متساوية فى تمام كونها ذوات ، ثم اثبتوا لكل واحد من
تلك الذوات صفة لازمة. فحاصل قولهم يرجع الى أن الأشياء المتساوية فى تمام الماهية
، يلزمها لوازم مختلفة. وذلك مما لا يقبله العقل.
أما على ما قلنا
فانا زعمنا : أن الذوات والحقائق مختلفة فى أنفسها ، الا أنه يلزمها لازم مشترك ،
وهو كونها أمورا قائمة بأنفسها ، غنية عن محال تحل فيها. فحاصل قولنا يرجع الى أن
الأشياء المختلفة يلزمها لوازم متساوية. وهذا غير ممتنع فى المعقول. اذ المختلفات
متشاركة فى كونها مختلفة ، والمتضادات متساوية فى كونها متضادة.
__________________
المسألة السادسة
فى
أن وجود الله تعالى
هل هو نفس حقيقة أم لا؟
المذاهب الممكنة
فى هذه المسألة لا تزيد على ثلاثة :
أحدها
: قول من يقول :
اطلاق لفظ الموجود على واجب الوجود ، وعلى ممكن الوجود ، ليس بحسب معنى واحد ، بل
بحسب مفهومين. وهذا هو قول «أبى الحسن الأشعرى» و «أبى الحسين البصرى» وأتباعهما.
والقول الثانى : هو أن وقوع لفظ الموجود على الواجب ، وعلى الممكن ، بحسب
مفهوم واحد ، الا أن ذلك المفهوم غير مقارن لشيء الماهيات ، بل هو وجود مجرد ،
وانما يتميز عن سائر الوجودات بقيد سلبى ، وهو أنه غير عارض لشيء من الماهيات. ووجودات
الممكنات أوصاف عارضة لماهيات الممكنات. وهذا القول هو اختيار «أبى على بن سينا»
فى جميع كتبه.
والقول الثالث : وهو أن وقوع لفظ الموجود على الواجب ، وعلى الممكن ، بحسب
مفهوم واحد. وذلك المفهوم صفة عارضة لماهية الحق ـ سبحانه وتعالى وتقدس ـ ولحقيقته
المخصوصة. وهو المختار عندنا ، وعند طائفة عظيمة من علماء الأصول.
فأما القول الأول
فقد تكلمنا فيه فى مسألة أن المعدوم شيء أم لا؟ فلا نعيده.
وأما القول الثانى
الّذي اختاره «أبو على بن سينا» فنقول : انه باطل ويدل عليه وجوه : الأول : ان
الوجود من حيث انه وجود ، مفهوم واحد على ما دلت عليه الدلائل ، ووافقنا فيه «أبو
على بن سينا»
وأيضا : هذه المسألة متفرعة على هذا القول. فنقول : الوجود من حيث
انه وجود اما أن يقتضي أن يكون عارضا الماهية ، أو يقتضي أن لا يكون عارضا لماهية
، أو لا يقتضي لا أن يكون عارضا ولا أن يكون غير عارض ، بل الأمر ان جائزان عليه.
فان اقتضى الوجود من حيث انه وجود ، أن يكون عارضا لماهية من الماهيات ، وجب أن
يكون وجود واجب الوجود عارضا الماهية من الماهيات. فقوله : أنه وجود مجرد ، غير
عارض الشيء من الماهيات : قول باطل. وما ان اقتضى الوجود ، أن يكون غير عارض الشيء
من الماهيات ، وجب أن لا يكون شيء من الوجودات عارضا لشيء من الماهيات البتة. فهذه
الممكنات اما أن لا تكون موجودة أصلا ، وان كانت موجودة كانت وجوداتها نفس
ماهياتها. فيكون لفظ الوجود واقعا على الموجودات بالاشتراك اللفظى ، لا بالاشتراك
المعنوى. وقد بينا أن ذلك باطل ، وأن هذا البحث متفرع على أن لفظ الموجود واقع على
الواجب والممكن بالاشتراك المعنوى.
وأما ان قلنا :
الوجود من حيث انه وجود لا يقتضي أن يكون عارضا لماهية ، ولا أن يكون غير عارض
لها. فحينئذ يمتنع أن يصير عارضا أو غير عارض ، الا لسبب منفصل. فوجود واجب الوجود
لا يصير مجردا الا بسبب منفصل ، فيكون واجب الوجود لذاته ، واجب الوجود لغيره. وهو
محال.
وأيضا : قد عرفت
أن الماهيات المتساوية فى تمام تلك الماهية ، كل ما صح على كل واحد منها ، صح على
كلها. فاذن كل ما صح
على جميع
الموجودات العارضة ، لماهيات الممكنات ، وجب أن يصح على واجب الوجود. وكل ما ثبت
لواجب الوجود ، وجب أن يثبت لوجودات جميع الماهيات الممكنات. وكل ذلك باطل قطعا.
ولما ثبت بهذا البرهان القطعى امتنع هذه الأقسام ، ثبت أن القول الّذي اختاره «أبو على
بن سينا» قول مردود.
الحجة الثانية على فساد هذا المذهب : انه لو لم تكن للبارى تعالى ماهية وحقيقة ، الا الوجود
المقيد بالقيد السلبى ، وهو أنه غير عارض لشيء من الماهيات ، فمبدأ وجودات
الممكنات اما أن يكون هو ذلك الوجود لا بشركة من ذلك السلب ، واما أن يكون بشركة
من ذلك السلب. فان المبدأ هو ذلك الوجود لا بمشاركة من ذلك السلب ، وجب أن يكون
أخس الموجودات مشاركا لذات الحق سبحانه وتعالى فى تلك المبدئية وان كانت المبدئية
بمشاركة من ذلك السلب ، كان السلب جزءا من مبدأ الثبوت وذلك محال. اذ لو جاز فى
العقل أن يكون العدم جزء العلة الثبوت ، فليتجه أيضا أن يكون تمام علة الثبوت.
وحينئذ لا يمكننا أن نستدل بوجود الممكنات على وجود واجب الوجود.
فان قيل : لم لا يجوز أن يكون ذلك الوجود المجرد مستلزما لصفة ، ويكون
الوجود مع تلك الصفة مبدءا للممكنات؟
قلنا : التقسيم المذكور عائد فى كيفية استلزام الوجود لتلك الصفة ،
وهو أن المؤثر فى ذلك الاستلزام اما الوجود لا بمشاركة ذلك السلب ، أو بمشاركة ذلك
السلب. الحجة الثالثة: اتفق الحكماء على أن الوجود بديهى التصور ، والدلائل
العقلية ناطقة بذلك. واتفق الحكماء على أن كنه ماهية الحق سبحانه غير معقول للبشر.
والبراهين العقلية ناطقة بذلك. واذا كان الوجود معلوم التصور ، وحقيقة الحق
__________________
سبحانه وتعالى غير
معلومة التصور ، وجب أن تكون حقيقة الحق سبحانه غير الوجود.
فان قيل : لم لا يجوز أن يكون المجهول من حقيقة الحق قيوده السلبية؟
قلنا : هذا باطل لأن القيود السلبية معلومة. ولذلك فانا يمكننا أن
نعقل أن وجوده غير عارض لشيء من الماهيات أصلا.
واتفقت الفلاسفة
على أن المعلوم من الحق سبحانه هو السلوب والاضافات.
الحجة الرابعة : ثبت فى علم «علم المنطق» أن الوجوب والامتناع والامكان
كيفيات لنسب المحمولات الى الموضوعات. مثلا : اذا قلنا : «الانسان يجب أن يكون
حيوانا» فالانسان هو الموضوع ، والحيوان والحيوان هو المحمول ، وثبوت الحيوان
للانسان هو النسبة. وهى المسماة بالرابطة. ثم هذه النسبة موصوفة بالوجوب. وهذا
الوجوب كيفية لهذه النسبة. وهذا كلام حق معقول.
اذا عرفت هذا
فنقول : اذا قلنا : «يجب أن يكون البارى تعالى موجودا» فالبارى هو الموضوع ،
والموجود هو المحمول ، واسناد الموجود الى تلك الحقيقة هو الرابطة. والوجوب كيفية
لهذه النسبة والرابطة. واذا كان الأمر كذلك ، لم يصر اثبات وجوب الوجود فى حق الله تعالى معقولا ، الا اذا قلنا : ان حقيقته مغايرة
لوجوده.
الحجة الخامسة : احتج «أبو على بن سينا» على أن وجود الممكنات مغاير
لماهياتها بأن قال : «يمكننا أن نعقل هذه
__________________
الماهيات عند ما
نشك فى وجودها ، الى أن يقوم البرهان على كونها موجودة. والمعلوم غير ما هو غير معلوم.
فماهياتها مغايرة لوجوداتها. فكذا هاهنا يمكننا أن نعقل أن إله العالم ما هو؟
وموجد الممكنات ما هو؟ حال ما نشك فى وجوده الى أن يثبت بالبرهان كونه موجودا.
والمعلوم غير ما هو غير معلوم. فهذا يقتضي أن تكون حقيقته غير وجوده».
واعلم : أنه يمكنه
أن يجيب عن هذا الوجه بفرق لطيف.
الحجة السادسة : هاهنا مقدمة سلم «أبو على بن سينا» وأكثر العقلاء صحتها
واستقامتها. وهى أن أفراد النوع الأخير كل ما صح على واحد منها ، صح على كلها. وقد
بنى «أبو على» على هذه المقدمة فى كتبه الحكمية : مطالب كثيرة.
اذا عرفت هذا ،
فنقول : لو كانت حقيقة البارى تعالى هى محض الوجود ، كان كل ما كان من لوازم ذاته
، وجب أن يكون حاصلا لجميع الموجودات. وان كان وجوده أخص الموجودات وكل ما كان ممتنعا على ذاته ، وجب أن يكون ممتنعا على سائر
الموجودات ، وهو يفضى الى التناقض. لأنه كما أن وجود هذه المحدثات للكائنات
الفاسدات ، وجود ضعيف سريع الزوال والعدم ، وجب أن يكون وجود الحق سبحانه كذلك ،
وكما أن وجود الحق واجب الدوام ، ممتنع التغير ، وجب أن تكون هذه الموجودات الحسية كذلك. وذلك يفضى الى التناقض. وكل ذلك باطل.
__________________
واحتج «أبو على بن
سينا» على صحة قوله بأن وجود البارى سبحانه وتعالى ، لو كان صفة عارضة لماهيته ،
لكان مفتقرا الى تلك الماهية. والمفتقر الى الغير هو الممكن لذاته. فذلك الوجود
ممكن لذاته. والممكن لذاته لا بد له من مؤثر. والمؤثر فيه اما تلك الماهية أو غير
تلك الماهية. لا جائز أن يكون المؤثر فى ذلك الوجود هو تلك الماهية. لأن المؤثر
متقدم بالوجود على الأثر ، فيلزم أن تكون تلك الماهية متقدمة بوجودها ، على وجودها
، وذلك محال.
ولا جائز أن يكون
المؤثر فى ذلك الوجود غير تلك الماهية ، لأنه يلزم أن يكون الواجب لذاته مفتقرا فى
وجوده الى سبب منفصل. وذلك محال والجواب : كما أن المؤثر متقدم بالوجود على الأثر ، فكذلك القابل
متقدم بالوجود على المقبول. ولا نزاع أن وجود الممكنات زائد على ماهياتها ، فيلزم
أن تكون تلك الماهيات القابلة لتلك الوجودات متقدمة بوجودها على وجودها. وذلك
محال.
فان قلتم : لم لا يجوز أن تكون هذه الماهيات متقدمة على وجوداتها بنفس
تلك الماهيات لا بوجود آخر؟
قلنا : فلم لا
يجوز أن يكون الحال كذلك فى جانب المؤثر؟
المسألة السابعة
فى
أن الله تعالى ليس بمتحيز
الحجة الأولى : ويدل عليه وجوه. كل متحيز منقسم وكل منقسم ممكن الوجود
لذاته. فكان متحيز فهو ممكن الوجود لذاته. وهذا يستلزم أن كل ما لا يكون ممكن
الوجود لذاته ، وجب أن لا يكون متحيزا. أما أن كل متحيز فهو منقسم لذاته ، فهذا
بناء على نفى الجوهر الفرد. وسيأتى الكلام عليه فى هذه المسألة ، وأما أن كل منقسم
لذاته فهو ممكن لذاته ، وذلك لأن كل منقسم فهو مركب ، وكل مركب فهو مفتقر فى تحققه
الى تحقق كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزاء الشيء غير ذلك الشيء فكل منقسم
فهو مفتقر فى تحققه الى غيره ، وكل مفتقر فى تحققه الى غيره ، فهو ممكن لذاته.
فثبت : أن كل منقسم فهو ممكن لذاته.
الحجة الثانية : انا ذكرنا فى مسألة حدوث الأجسام : أن كل متحيز فهو محدث.
فلو كان البارى تعالى متحيز ، لكان محدثا ، لكنه يمتنع أن يكون محدثا ، فيمتنع أن
يكون متحيزا.
الحجة الثالثة : وذكرنا فى مسألة حدوث الأجسام : أن كل متحيز فهو متناهى
المقدار ، وكل متناهى المقدار فهو محدث ، ينتج أن كل متحيز فهو محدث. والبارى
تعالى ليس بمحدث ، فلا يكون متحيزا.
الحجة الرابعة : ذكرنا فى مسألة اثبات الصانع : أن المتحيزات متساوية فى
تمام الماهية ، فلو كان البارى تعالى متحيزا ، لكانت
ماهيته مساويه
لسائر الماهيات فى تمام الماهية ، ولو كان كذلك لافتقر فى اختصاصه بصفات الالهية
الى مرجح ومخصص. وذلك محال. فالقول بكونه متحيزا محال.
الحجة الخامسة : لو كان جسما ، لكان منقسما. فاما أن يقوم علم واحد وقدرة
واحدة بجميع تلك الاجزاء. وهذا محال. لامتناع حاول الصفة الواحدة فى المحال
المتعددة ، واما أن يقوم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة ،
فيكون كل واحد من تلك الأجزاء موصوفا بجميع صفات الالهية ، فكان هذا تصريحا باثبات
الآلهة الكثيرة. وذلك محال ـ على ما سيأتى بيانه.
الحجة السادسة : لو كان جسما ومتحيزا ، لكان مساويا الأجسام فى كونه متحيزا
وجسما وبعد هذا اما أن يكون مباينا لها فى أمر ذاتى واما أن لا يكون. فان باينها
فى أمر ذاتى ، كانت الجسمية التى بها المشاركة ، مغايرة لذلك الأمر الّذي حصلت به
المباينة. فكانت ذاته مركبة من جزءين ، بهما قوام حقيقته. وكل ما كان كذلك ، فهو
ممكن الوجود لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته. هذا
خلف. وأما ان لم يبين هذه الأجسام المحدثة فى وصف ذاتى أصلا ، لزم من حدوث هذه
الأجسام وقبولها للعفونة والفساد ، أن يكون كل جسم كذلك ـ تعالى الله عنه علوا
كبيرا.
الحجة السابعة : لو كان جسما لكان مركبا من الأجزاء. وتلك الأجزاء اما أن
تكون متساوية فى الماهية أو مختلفة فى الماهية. فان فان كان الأول فكما صح فى
الجزء الفوقانى أن يكون فوق ، صح فى السفلانى أن يكون فوق. فاختصاص كل واحد منهما
بما له من
الترتيب والوضع ،
يكون أمرا جائزا ومفتقر الى المخصص والمرجح ، فيكون ذلك الجسم ـ لا محالة ـ مفتقرا
الى المركب والمؤلف. وما كان كذلك امتنع أن يكون صانعا للعالم. وأما الثانى وهو أن
تكون تلك الأجزاء مختلفة بالماهية ، وكل واحد من تلك الأجزاء المفروضة تكون له
طبعية واحدة وخاصية واحدة ، فالذى يصح أن يكون ممسوس يمين الجزء الفرد من تلك الأجزاء ، صح أيضا أن يكون مموس
يساره. وبالضد. واذا كان كذلك ، كان التفرق على تلك الأجزاء جائزا. واذا كان كذلك
، فتلك الأجزاء قد تركبت واجتمعت ، مع جواز أن تكون متفرقة متباينة. ومتى كان
الأمر كذلك ، افتقرت فى تألفها وتركبها الى المؤلف والمركب. وكل ذلك على خالق كل
العالم محال.
الحجة الثامنة : انه لو لم تكن الجسمية والتناهى فى المقدار مانعا من
الالهية ، لتعذر القدح فى إلهية الشمس والقمر ، لأنه لا سبيل لنا الى القدح فى
إلهية كل واحد منهما ، الا لكونه جسما مركبا من الأجزاء متناهيا فى القدر ، فاذا
جوزنا كون الاله تعالى جسما متناهيا ، انسد هذا الطريق. فلا يمكننا القدح فى إلهية
الشمس والقمر ، ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أن القول بأن الاله تعالى جسم : قول
باطل.
__________________
المسألة الثامنة
فى
أنه تعالى ليس فى مكان ولا فى جهة
أعلم : أن كثيرا
ممن يثبت كونه تعالى فى الجهة ، يزعم أن كل موجودين متحيزين فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، مثل العرض
والجوهر ، أو يكون مباينا عن الآخر فى الجهة ، مثل موجودين يكون كل واحد منهما
قائما بالنفس. ويدعى أن العلم بأن كل موجودين فلا بد وأن يكونا على أحد هذين
القسمين علم ضرورى ، فان العلم بامتناع وجود موجودين ، لا يكون أحدهما ساريا فى
الآخر ، ولا مباينا عنه فى الجهة : علم ضرورى بديهى ، لا يقبل الشك واعلم : أنا
نحتاج الى أن نبين أن هذه المقدمات ليست بديهية. والّذي يدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : ان العلوم البديهية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها للجمع
العظيم. فلو كان وقوع هذه المقدمة بديهيا ، لامتنع اطباق الجمع العظيم على انكاره.
ونرى جمهور الأذكياء من العقلاء متفقين على بطلان هذه المقدمة ، فان اثبات الجهة
لله تعالى ، لم يقل به الا الحنبلة والكرامية. وأما كل من سواهم فهم متفقون على أن
ذاته سبحانه وتعالى منزه عن الاختصاص بالحيز والجهة ، نظهر أن هذه المقدمة لبست
بديهية.
__________________
الحجة الثانية : ان صريح العقل يشهد بأن زيدا وعمرا وخالدا ، يشتركون فى
معنى الانسانية ، ويمتاز كل واحد منهم عن الآخر بطوله وقصره وسواده وبياضه. وما به
المشاركة مغاير لما به المباينة. فاذن مفهوم الانسان من حيث انه انسان مغاير للطول
والقصر ، ولكونه هنا وهناك ، ولكونه أسود أو أبيض. ثم الانسان من حيث انه انسان ،
اما أن يكون له قدر معين وحيز معين ، واما أن لا يكون كذلك. والأول والأول باطل.
والا لما كان مشتركا فيه بين الأشخاص ذوات الأحياز المختلفة ، والمقادير المختلفة.
فثبت : أن الانسان من حيث انه انسان ليس له قدر معين ولا حيز معين ولا شكل معين.
واذا كان كذلك فالتفتيش قد أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس. فكيف يبعد فى خالق كل
المحسوسات ، أن يكون منزها عن الشكل والقدر والخير؟
فان قيل : الانسان من حيث انه انسان لا وجود له فى الخارج ، بل فى
العقل. ونحن ندعى أن كل موجودين فى الخارج ، فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا فى
الآخر ، أو مباينا منه فى الجهة. فأين أحد المتباينين عن الآخر؟
قلنا : نحن لا نستدل بهذا الكلام على وجود موجود فى الخارج ، منزه
عن المقدار والجهة ، بل غرضنا منه أنه يمكننا أن نعقل أمرا من الأمور ، مع أن
العقل لا يثبت له تعالى جهة ولا قدرا. وقد ثبت لنا بهذا الدليل : هذا القدر. واذا
لم يكن تصور مثل هذا الموجود مستبعدا فى العقل ، فبعد ذلك ادعاء أن هذا الموجود ،
هل هو موجود خارج الذهن أو لا يكون؟ موقوفا على دليل منفصل.
الحجة الثالثة : انا ندرك المبصرات بالقوة الباصرة ، ثم الخيال لا يمكنه أن
يتخيل للقوة الباصرة كيفية وشكلا ، بل الخيال يستحضر المتخيلات أشكالا وصورا ،
ويعجز عن أن يستحضر لنفسه صورة وشكلا ، فذات الوهم والخيال من أصدق الدلائل على
انه لا يجب أن يكون لكل
موجود صورة وشكل ،
لأنه لا صورة عند الخيال من نفسه ولا شكل عند الوهم من نفسه.
الحجة الرابعة : ان أجلى العلوم البديهية الأولية : أن النفى والاثبات لا يجتمعان
ولا يرتفعان. وهذا العلم لا بد وأن يكون مسبوقا بتصور معنى النفى والاثبات. فهل
يتمكن العقل من أن يقول : ان معنى النفى لا بد وأن يكون ساريا فى معنى الاثبات أو
مباينا عنه بالجهة والحيز ، بل هذا الحكم ممتنع لذاته؟ فعلمنا : أن استحضار
متصورين فى العقل بحيث لا يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، أو مباينا عنه بالجهة أمر
جائز.
الحجة الخامسة : ان صريح العقل يشهد بأن كل موجودين يفرضان. فاما أن يكون
أحدهما ساريا فى الآخر ، او مباينا عنه فى الجهة ، أو لا سريا فى الآخر ، ولا
مباينا عنه بالجهة. وهذا القسم الثالث لا شك أنه حاصل بحسب القسمة العقلية. واذا
رجعنا الى أنفسنا لم نجد البتة فى عقولنا نبوة عن اثبات هذا القسم الثالث ، بل نجد
العقل متوقفا فيه بالنفى والاثبات ، طالبا للحجة على الجزم باثباته ، الجزم بامتناعه. فعلمنا أن امتناع هذا القسم ليس من
الأوليات.
الحجة السادسة : ان عقلنا يشير الى ماهيات. مع أنا نعلم بالضرورة : أن ليس
لتلك الماهيات أحياز ، ولا جهات. فان ماهيات الأعداد مثل مسمى الواحد ومسمى
الاثنين ، وكذا مسمى مراتب الأعداد ، أمور يدركها العقل. ولا يمكنه أن يحكم على
ماهية الواحد من حيث انه واحد ، بأن مكانه هو موضع كذا ومقداره هو مقدار كذا ، بل
يعقل العقل هذه الماهيات ، ولا يعتبر معها البتة لا مقدارا ،
__________________
ولا شكلا ، ولا
مكانا ، ولا حيزا. فثبت بمجموع هذه الوجوه : أن أن العقل من حيث انه هو ، لا
يستبعد تصور معقول حال ما لا يعتبر له مكانا ولا جهة ولا قدرا ولا شكلا. فثبت: أن
العلم بما تناع هذا الموجود ليس من العلوم البديهية.
المقدمة الثانية : ان مرادنا بقولنا : ان الشيء الفلانى مختص بالمكان والجهة ،
أنه يمكن أن يشار إليه اشارة حسية بأنه هنا أو هناك. ولا شك أن العالم فى المكان
والجهة بهذا التفسير ، فلو كان البارى تعالى مختصا بالمكان والجهة بهذا التفسير ،
لم يخل الحال من أحد أمرين. وهو اما أن يكون البارى تعالى مماسا للعالم ، أو
محاذيا له. فأما أن يكون البارى تعالى مشارا إليه بحسب الحس بأنه هنا أو هناك ، مع
أنه لا يكون مماسا للعالم ولا محاذيا له فهذا غير معقول.
المقدمة الثالثة : ذهب السواد الأعظم من العقلاء الى أنه تعالى منزه فى وجوده
عن المكان والحيز والجهة : وقالت «الكرامية» : انه مختص بجهة فوق. وهذا
القول بحسب
القسمة العقلية يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يقال : انه مماس للعرش.
وثانيها : انه مباين للعرش ببعد متناه ، وأكثر طوائف «الكرامية»
قائلون بأحد هذين القولين.
وثالثها : أن يقال : انه تعالى مباين للعرش ببعد لا نهاية له. وهذا هو
قول «الهيضمية» واعلم : أن هذا القول اما أن يكون نفيا لكونه تعالى فى الجهة ، أو
يكون قولا غير معقول. وذلك لأنه اذا كان العالم فى أحد الجانبين ، وذات البارى
تعالى فى الجانب الآخر ، كان البعد بينهما محصورا. والقول بأن ما لا نهاية له
محصور بين حاصرين ، لا يقوله من يفهم معانى هذه الألفاظ.
واذ قد لخصنا هذه
المقدمات. فلنرجع الى ذكر الدلائل :
الحجة الأولى : كل ما كان فى جهة فاما أن يكون غير محتمل للقسمة ، واما أن
يكون محتملا للقسمة. فان لم يكن محتملا للقسمة ، مع أنه مشار إليه بحسب الحس ، كان
فى الصغر والحقرة كالجوهر الفرد. والخصوم وافقوا على أنه يجب تنزيه الله تعالى عن
هذه الصفة. وأما ان كان مشارا إليه مع أنه محتمل للقسمة ، كان جسما مركبا من
الأجزاء والأبعاض. وحينئذ يرجع الكلام الى المسألة الأولى ولهذا اسر اتفق أصحابنا
على أن كل من أثبت الله تعالى فى الحيز والجهة ، لا بد وأن يعترف بكونه مركبا من
الأجزاء والأبعاض.
واعلم : أن
أصحابنا عبروا عن هذه الدلالة بأن قالوا : او كان فى جهة فوق ، لكان اما أن يكون
أكبر من العرش ، أو مساويا له. أو اصغر منه. فان كان أكبر من العرش كان القدر
المساوى منه العرش ، مغايرا للقدر الفاضل منه من العرش. فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض
، وان كان مساويا للعرش ـ وثبت أن العرش منقسم من الأجزاء والأبعاض ـ كان المساوى
له فى المقدار منقسما ، مركبا من الأجزاء والأبعاض. وان كان أصغر من العرش ، فاما
أن يكون قد بلغ فى الصغر الى أن كان مساويا للجوهر الفرد ، والجزء الّذي لا يتجزأ
، فيكون فى غاية الصغر والحقارة ـ وجل ربنا عن ذلك باتفاق العقلاء ـ واما أن يكون
أكبر من الجوهر الفرد ، ويعود القول بالتركيب والقسمة.
واعلم : أن على قول من يقول : كل متحيز فهو قابل للقسمة أبدا ، لا
نحتج الى ذكر هذا التقسيم ، بل نقول : كل ما كان مشار إليه بحسب الحس ، فانه لا بد
وأن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن ورائه وفوقه عن تحته ، فيكون منقسما مركبا من
الأجزاء وإلا بعض وذلك مما بينا امتناعه فى المسألة السابقة.
الحجة الثانية : كل ما كان مشارا إليه بحسب الحس ، فانه لا بد وأن يتميز
يمينه عن يساره. فهو متناه من جميع الجوانب. وكل ما كان متناهيا من جميع الجوانب ،
فهو محدث. وانما قلنا : ان كل ما كان مشار إليه بحسب الحس فهو متناه من جميع
الجوانب لوجهين :
الأول : البرهان المذكور وفى مسألة حدوث الأجسام على تناهى الأبعاد. وذلك
هو العمدة القوية التى لا ريب فيها.
الثانى : انه تعالى لو كان غير متناه ، لكان اما أن يكون غير متناه
من جميع الجوانب ، أو بعض الجوانب. لا جائز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب.
لأن على هذا التقدير ، يلزم أن يكون العالم ساريا فى ذات الله تعالى وحالا فيه.
ويلزم : أن تكون ذاته مخالطة للقذورات ـ تعالى الله عن هذا المقال ، وعن هذا الوهم
والخيال ـ ولا جائز أن يقال : انه غير متناه من بعض الجهات دون البعض. وذلك لأن
الجانب المتناهى من ذاته ، اما أن يكون مساويا للجانب الآخر ـ الّذي هو غير متناه
فى الحقيقة والماهية ـ واما أن لا يكونا متساويين. فان كان الأول فكل شيئين متساويين
من جميع الوجوه ، فكل ما يصح على أحدهما يصح على الآخر ، فيلزم ان يقال : الجانب
الّذي هو غير متناه ، يصح أن ينقلب متناهيا ، والجانب الّذي هو متناه يصح أن ينقلب
غير متناه فيكون الفصل والوصل والتركيب والتفرق جائزا على ذات الله تعالى ، فيفتقر
ذلك التأليف الى مؤلف ، وذلك التركيب الى مركب. وذلك على خالق العالم محال ممتنع.
واما ان كان الجانب المتناهى مخالفا فى الماهية للجانب الّذي هو غير متناه ، فكل
ذات كانت مركبة من اجزاء مختلفة فى الماهية والطبيعة ، فلا بد وأن ينتهى فى ذلك
التركيب الى أجزاء يكون كل واحد منها فى نفسه بسيطا خاليا من التركيب فالجزء
الواحد من تلك الاجزاء البسيطة لا بد وأن يماس بيمينه شيئا ، وبيساره شيئا آخر
ذلك الّذي ماسه
بيمينه يمكن أن يماسه بيساره ، وبالضد. واذا كان ذلك جائزا كان التفرق على تلك
الاجزاء جائزا. فحينئذ يكون التأليف والتركيب والتفرق جائزا على تلك الأجزاء ومتى
كان الأمر كذلك ، افتقر تأليفها وتركيبها الى مؤلف ومركب. وكل ذلك محال.
نثبت بما ذكرنا :
أنه تعالى لو كان مشارا إليه بحسب الحس ، لكان متناهيا من جميع الجوانب. ونقول :
انه متى كان كذلك ، وجب أن يكون محدثا. وذلك لأن كل ما كان متناهيا من جميع
الجوانب ، كان وجوده أزيد مما وجد ، أو أنقص مما وجد ـ جائزا ـ واذا كان كذلك ،
كان اختصاصه بذلك القدر المعين من الجائزات ، مفتقرا الى مخصص ومقدر. وذلك على
خالق العالم محال.
وأيضا اذا كان
متناهيا من كل الجوانب ، لم يكن فوق كل الموجودات. لأن فوقه أمكنة خالية عنه. فلم
يكن فوق لكل. والخصم ينكر ذلك ولا يرضاه. فثبت : أن كونه تعالى مشارا إليه بحسب
الحس : محال.
الحجة الثالثة : لو كان ذاته مختصا بمكان وجهة ، لكان اما أن يصح عليه أن
يخرج منها ، أو لا يصح. فان صح لزم كونه محلا للحركة والسكون. وكل ما كان كذلك كان
محدثا ـ على ما بيناه فى مسألة حدوث الأجسام ـ وان تعذر عليه الخروج منها ، كان
كالزمن المقعد العاجز عن الحركة. وذلك صفة نقص. وهو على الله تعالى محال.
الحجة الرابعة : وهو انه تعالى لو كان فى مكان وجهة. فهذا المكان الّذي حكم
الخصم بأنه تعالى فيه اما أن يكون موجودا ، أو معدوما. فان كان موجودا فالبارى
تعالى مختص بالمكان والجهة من الأزل الى الأبد ، فحينئذ كان ذلك المكان موجودا مع
الله فى الأزل. وهو محال. لان ذلك المكان لما كان موجودا ، وكان قابلا للقسمة ،
كان ذلك عين الجسم فكان هذا قولا بقدم الأجسام.
وأيضا : المكان لا يفتقر فى وجوده الى المتمكن. لأن الخلاء جائز
بالاتفاق ، وأما البارى تعالى فانه عند الخصم يمتنع وجوده فى غير الحيز والجهة.
فعلى هذا يكون البارى تعالى مفتقرا فى وجوده وتحققه الى وجود المكان ، ووجود
المكان غنيا عنه ، فكان تعالى على هذا التقدير ممكنا لذاته ، مفتقرا الى غيره.
وكان المكان واجبا لذاته غنيا عن غيره ، فكان المكان أولى بأن يكون هو الاله ـ سبحانه
وتعالى ـ والاله أولى بأن يكون العبد. وكل ذلك ساقط من القول.
وأما : ان قيل :
بأن المكان الّذي حكم الخصم بكونه تعالى حالا فيه ، معدوم صرف ونفى محض. فهذا محال
من القول. لأن النفى المحض والعدم الصرف لا تخصص له ولا تعين له ، وما كان كذلك
استحال القول بحصول الموجود فيه فثبت : أن القول بحصول البارى تعالى فى المكان
محال.
فان قيل : فهذا الاشكال بعينه وارد فى
كون الجسم فى المكان.
قلنا : المراد بكون الجسم فى المكان كونه بحيث يمكن الاشارة الى كل
واحد من جوانبه بأنه غير الآخر ، وبأنه متصل به ومماس له. ويرجع حاصل كونه فى
المكان والجهة الى مقداره واتصال بعض أجزائه بالبعض. فان أردتم بقولكم : «الله
تعالى فى المكان» : هذا المعنى. كان هذا تصريحا بكونه تعالى مركبا من الاجزاء
والأبعاض. وحينئذ يرجع الكلام الى المسألة الأولى.
الحجة الخامسة : الأحياز والجهات اما ن تكون متساوية فى الماهية ، أو مختلفة
فى الماهية. فان كان الأول لزم من صحة اختصاص البارى تعالى ببعض الأحياز ، صحة
اختصاصه بسائر الأحياز ، بدلا عن ذلك الحيز ، واذا كان حصوله فى كل واحد منها بدلا
عن الآخر ،
أمرا جائزا ، كان
حصوله فى بعض تلك الاحياز امرا جائزا ـ فيفتقر ذلك الاختصاص الى المخصص وهو على
القديم محال. وأما ان قلنا بأن الاحياز مختلفة فى الماهية والحقيقة ، فلعل خاصية
بعض تلك الاحياز ، اقتضى حصول ذات الله تعالى فيه ، وخاصية بعضها اقتضى امتناع
حصول ذات الله فيه.
فنقول : هذه الأحياز أشياء متباينة بالعدد ومتباينة بالماهية ، ولكل
واحد منها خاصية معينة وصفة معينة. فهى اشياء موجودة قائمة بأنفسها ، موجودة فى
الأزل. فاذا كانت هذه الأحياز غير متناهية ، كان قد وجد مع الله تعالى فى الأزل :
موجودات قائمة بالنفس ، غير متناهية. وذلك لا يرتضيه المسلم فثبت : أن القول بأن الله تعالى فى الجهة محال.
الحجة السادسة : العالم كره. واذا كان كذلك ، وجب أن لا يكون فى الجهة أصلا.
انما قلنا : ان العالم كرة. وذلك لأنا اذ ارصدنا كسوفا قمريا. فاذا وجدناه فى
البلاد الشرقية فى أول الليل ، وجدناه فى البلاد الغربية فى الآخر الليل. فعلمنا :
أن أول الليل فى المشرق ، هو آخر الليل بعينه فى المغرب. وذلك يدل على أن العالم
كرة.
اذا ثبت هذا فنقول
: الجهة التى فوق رأسنا ، هى بعينها أسفل لأولئك الذين يكونون على ذلك الوجه الآخر
من الأرض. فلو كان تعالى فوقا لنا ، لكان أسفل بالنسبة الى سكان ذلك الجانب الآخر
من الأرض. ولو كان فوقا لهم ، لكان أسفل بالنسبة إلينا. فثبت : أنه لو كان فى جهة
لوجب أن يكون أسفل بالنسبة الى بعض الجوانب. ولما كان ذلك باطلا ، ثبت : أنه يمتنع
كونه تعالى فى المكان والجهة.
احتج الخصم بالعقل
والنقل.
__________________
أما العقل : فهو
أنه تعالى لا بد وأن يكون فى حيز وجهة. واذا ثبت هذا ، وجب أن يكون فى جهة الفوق.
أما المقام الأول :
وهو أنه تعالى فى الحيز والجهة ، فاحتجوا عليه بوجهين :
الأول : ان كل موجودين. لا بد وأن يكون أحدهما ساريا فى الآخر ،
كالعرض السارى فى الجوهر ، أو يكون مباينا عنه بالجهة ، كالجسمين. والعلم بذلك
ضرورى.
والثانى : ان الجسم مختص بالحيز والجهة. وانما كان كذلك ، لأنه قائم
بالنفس. والله ـ تعالى ـ يشاركه فى كونه قائما بالنفس ، فوجب أن يكون مشاركا له فى
الحصول فى الجهة.
وأما المقام الثانى : وهو أنه تعالى لما ثبت أنه يجب أن يكون فى الجهة. ونقول :
يجب أن تكون تلك الجهة هى جهة فوق فيدل عليه وجهان :
الأول : ان أشرف الجهات جهة فوق ، وتخصيص أشرف الجهات بأشرف الموجودات
، هو المناسب المعقول.
والثانى : ان الخلق بمجرد طباعهم وقلوبهم السلمية يرفعون الأيدى الى
جهة العلو ، عند الدعاء والتضرع. وذلك يدل على أن فطرتهم تشهد بأن معبودهم فى جهة
العلو.
وأما
النقل : فهو الألفاظ
الموهمة لاثبات الجهة. كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) : وقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ)
__________________
والجواب عن الشبهة الأولى : لا شك أن قسمة العقل تقتضى انقسام الموجودات الى ثلاثة
أقسام. وذلك لأن كل موجودين فاما أن يكون أحدهما ساريا فى الآخر أو مباينا عنه
بالحيز والجهة ، أو لا ساريا فيه ولا مباينا عنه بالحيز. فان ادعيتم أن القسم
الثالث ممتنع الوجود ـ والعلم بامتناعه ضرورى ـ فقد ابطلناه. وأن سلمتم أن ابطال
هذا القسم الثالث ليس معلوما بالضرورة ، بل بالدليل. فنقول : قولكم : ان كل
موجودين اما أن يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، أو مباينا عنه بالجهة ، انما يصح
عليه ، لو ثبت فساد القسم الثالث. فانكم اذا أثبتم فساد القسم الثالث بهذه المقدمة
، وقع الدور. فيكون ساقطا.
وأما الجواب عن الشبهة الثانية : فنقول : لم لا يجوز أن يكون كون الجسم مختصا بالخير والجهة بذاته المخصوصة لا لوصف آخر؟
وذلك لأن اختصاص الذات بالصفة. لو كان لأجل صفة أخرى ، لزم التسلسل. فلا بد من
الانتهاء الى ما يكون ثابتا له لذاته. فلم لا يجوز أن يكون كون الجسم مختصا بالحيز
والجهة من هذا الباب؟
والجواب عن الشبهة الثالثة : وهى قولهم : أشرف الجهات جهة العلو ـ
فنقول : هذا
الكلام ساقط من وجوه :
الأول : ان هذا الكلام مقدمة خطابية ، فلا يلتفت إليها فى العقليات.
والثانى : انا قد بينا أنه لما كان العالم كرة ، كان كل جهة يشار
__________________
إليها فهى وان
كانت فوق بالنسبة الى البعض ، لكنها تحت بالنسبة الى الباقين.
والثالث : انه اما أن يقال : لا نهاية لامتداد ذات الله من جهة العلو
، أو يكون لامتداد ذاته نهاية. فان كان الأول لم يفرض فى ذاته نقطة ، الا وفوقها
نقطة أخرى. ولا شيء يفرض فيه الا وهو سفل ، لا علو مطلق. وان كان الثانى افترض فوق
طرفه العلوى ، خلاء. فكان ذلك الخلاء أعلى منه ، ولم يكن علوا مطلقا.
والرابع : ان الشرف الحاصل بسبب العلو بالجهة ، يكون حاصلا للحيز
والجهة بالذات ، ويكون حاصلا للتمكن بالعرض ، بسبب أنه حصل فى ذلك المكان. فحصول
هذا الشرف للمكان والجهة ، أتم مما للمتمكن. فلو كان البارى تعالى حاصلا فى الجهة ، لزم أن
يكون المكان أشرف فى هذا الباب من البارى تعالى. وهو محال.
وأما الجواب عن الشبهة الرابعة : فهو أنه لو كان رفع الأيدى الى السماء ، يدل على كون
المعبود فى السماء ، لوجب أن يدل وضع الجبهة على الأرض على أنه فى الأرض. ولما بطل
ذلك ، فكذا ما قالوا :
وأما الجواب عن الوجوه النقلية : فاعلم أن هاهنا قانونا كليا وهو : أنا اذا رأينا الظواهر
النقلية معارضة للدلائل العقلية. فان صدقنا هما معا ، لزم الجمع بين النفى
والاثبات ، وان كذبنا هما معا ، لزم رفع النفى والاثبات ، وان صدقنا الظواهر
النقلية ، وكذبنا الشواهد العقلية القطعية ، لزم الطعن فى الظواهر النقلية
__________________
أيضا. لأن الدلائل
العقلية أصل للظواهر النقلية. فتكذيب الأصل لتصحيح الفرع يفضى الى تكذيب الأصل
والفرع معا ، فلم يبق الا أن تصدق الدلائل العقلية ويشتغل بتأويل الظواهر النقلية
، أو يفوض علمها الى الله. وعلى التقديرين فانه يظهر أن الظواهر النقلية ، لا تصلح
معارضة للقواطع العقلية. فهذا هو القانون الكلى فى هذا الباب. ومن أراد
الاستقصاء فى تأويل الظواهر الواردة فى القرآن والأخبار فعليه بكتاب «أسرار
التنزيل ، وأنوار التأويل»
__________________
المسألة التاسعة
فى
أنه تعالى يستحيل أن تحل ذاته فى شيء
ويستحيل أن تحل صفة من صفاته فى شيء
اعلم : أن النصارى
يذكرون الحلول تارة ، والاتحاد أخرى. وكلامهم فى غاية الخبط. ونحن نذكر تقسيما
مضبوطا فنقول : القوم اما أن يقولوا بالحلول أو بالاتحاد ، أما لذات الله تعالى أو
لصفة من صفاته. اما بالنسبة الى روح عيسى عليهالسلام ، أو بالنسبة الى بدنه. واما أن لا يقولوا بشيء من ذلك ،
بل يقولوا : انه تعالى اعطاه قدرة على خلق الأجسام والحياة وعلما بالمغيبات. واما
أن لا يقولوا بذلك أيضا ، بل يقولوا : انه تعالى سماه ابنا على سبيل التشريف ، كما
سمى ابراهيم ـ عليهالسلام ـ خليلا على سبيل التشريف فهذه هى الوجوه التى يحتملها
كلامهم.
ونقول : أما القول بالحلول فهو باطل. لأنه تعالى لوحل فى شيء. لكان
اما أن يحل مع وجوب أن يحل ، أو مع جواز أن يحل والأول باطل لوجهين :
الأول : ان ذلك يقتضي اما حدوث الحال ، أو قدم المحل وكلاهما
محالان.
والثانى : انه لما حل مع وجوب أن يحل ، كان ذاته مفتقرة الى ذلك
المحل. والمفتقر الى الغير ممكن بالذات.
وأما القسم الثانى ـ وهو أنه تعالى يحل من جواز أن يحل ـ
__________________
فهذا أيضا باطل.
لأن المعقول من الحلول كون الحال مفتقرا الى المحل ومحتاجا إليه. واذا لم يوجد هذا
المعنى ، لم يتحقق معنى الحلول.
فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : انه حل مع وجوب أن يحل. قوله : «يلزم
اما قدم المحل أو حدوث الحال»
قلنا : لا نسلم ولم لا يجوز أن يقال : ان ذاته يوجب لذاته الحلول
فى المحل ، بشرط وجود ذلك المحل. وقبل وجود المحل لم يكن شرط هذا الاقتضاء حاصلا ،
فلا جرم لم يحصل هذا الحلول. وبعد وجود المحل ، حصل شرط هذا الاقتضاء ، فلا جرم
حصل هذا الحكم على سبيل الوجوب.
وأيضا : فلم لا يجوز أن يقال : المحل يوجب كونه تعالى حالا فيه.
وعند وجود هذا المحل ، وجب هذا الحلول ، وقبل وجوده ، لا يجب؟
الجواب : الفرق بين الحال والمحل انما يظهر من حيث ان الحال مفتقر
الى المحل. والمحل غنى عنه. فان حصل هذا المعنى ، لزم أن يكون واجب الوجود لذاته ،
مفتقرا الى الغير ، فيكون الواجب لذاته ممكن الوجود لذاته. هذا خلف. وان لم يحصل
هذا المعنى ، لم يحصل مسمى الحلول. واما القول بالاتحاد فهو أيضا باطل. لأن
الشيئين اذا اتحدا ، فهما حال الاتحاد ان كانا باقيين ، فهما اثنان لا واحد. وان
عدما معا كان الحاصل ثالثا مغايرا لهما ، وان بقى أحدهما وفنى الآخر امتنع الاتحاد
أيضا لان الموجود لا يكون عين المعدوم فثبت بما ذكرنا : أن القول بالحلول والاتحاد
باطل.
وأما القول بأنه تعالى خلق فيه القدرة
على خلق الجسم. فهذا أيضا باطل. لأنا سنبين : أنه لا قدرة لأحد على الايجاد الا
الله تعالى.
وأما القول بأنه ـ تعالى ـ سماه ابنا
على سبيل التشريف. فهذا البحث يصير سمعيا. واحتج النصارى على قولهم : بأن عيسى عليهالسلام أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه ، والأبرص. وهذا لا يمكن الا
بالقدرة الالهية.
والجواب : لم لا يجوز أن يقال : انه تعالى هو الّذي أحيى الموتى ،
وأبرأ الأكمه فالأبرص ، على وفق دعائه اظهارا لمعجزته؟
ولقد ناظرت بعض
النصارى. فقلت له : هل تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل ، عدم المدلول؟ فقال : نعم.
فقلت له : ما الّذي يدل على أن ذات الله لم تحل فى بدن زيد ، وفى بدن عمرو ، ولم
تحل فى بدن هذه الذبابة وهذه النملة؟ فقال : هذا ممتنع. لأنا انما أثبتنا هذا
الحلول فى حق عيسى عليهالسلام لأنه ظهر على يده احياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
فاذا لم يظهر شيء من هذه الأشياء على يد زيد وعمرو ، فكيف يمكن اثبات هذا الحلول
فى حقه؟ فقلت له : انك سلمت أولا : أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. واحياء
الموتى وابراء الأكمه والأبرص دليل حصول هذا الحلول عندكم. فلا يلزم من عدم هذا الدليل
، عدم هذا الحلول. فوجب أن تبقى شاكا فى حلول الله فى بدن هذه النملة ، وهذه الذبابة. وكل مذهب
أدى الى مثل هذا القول ، فهو خسيس جدا.
وأيضا : كما ظهر احياء الموتى على يدى عيسى عليهالسلام ، فقد ظهر أيضا على يدى موسى عليهالسلام لأنه قلب العصا ثعبانا ، بل هو أعجب. لأن انقلاب الخشبة
ثعبانا عظيما ، أعجب من انقلاب الميت حيا. فان دلت معجزات عيسى عليهالسلام على الحلول والاتحاد ، فبأن تدل معجزات موسى على هذا
الحلول ـ وبالله التوفيق ـ أولى.
وبالجملة : فمذهب
النصارى والحلولية ، أخس وأذل من أن يلتفت العاقل إليه.
__________________
المسألة العاشرة
فى
بيان أنه تعالى يمتنع أن يكون محلا للحوادث
المشهور : أن الكرامية يجوزون ذلك. وسائر الطوائف ينكرونه. ومن الناس
من قال : ان أكثر طوائف العقلاء يقولون بهذا المذهب. وأن كانوا ينكرونه باللسان.
أما المعتزلة فمذهب «أبى على» و «أبى هاشم» وأتباعهما : أنه تعالى مريد بإرادة
حادثة ، لا فى محل. وكاره للمعاصى والقبائح بكراهة محدثة. لا فى محل وهذه الارادات
والكراهات. وان كانت موجودة لا فى محل. الا أن صفة المريدية والكارهية ، تحدث فى
ذات الله تعالى. وهذا قول بحدوث الحوادث فى ذات الله تعالى.
وأيضا : اذا حضر المرئى والمسموع ، حدثت فى ذات الله تعالى صفة
السامعية والمبصرية.
بلى. المعتزلة لا
يطلقون لفظ الحدوث. وانما يطلقون لفظ التجدد. وهذا نزاع فى العبارة. وأما «أبو
الحسين البصرى» فانه يثبت علوما متجددة فى ذات الله تعالى بحسب تجدد المعلومات.
وأما الأشعرية فانهم يثبتون النسخ ، ويفسرونه بأنه رفع الحكم الثابت ، أو
انتهاء الحكم. وعلى التقديرين فانه اعتراف بوقوع التغير ، لأن الّذي ارتفع وانتهى
، فقد عدم بعد وجوده. وأيضا : يقولون : انه تعالى عالم بعلم واحد ، ثم انه قبل
وقوع المعلوم يكون متعلقا بأنه سيقع ، وبعد وقوعه يزول ذلك التعلق ، ويصير متعلقا
بأنه كان واقعا.
وهذا تصريح بتغير هذه التعلقات. ويقولون أيضا : ان قدرته كانت متعلقة بايجاد
الموجود المعين ، من الأزل. فاذا وجد ذلك الشيء ، ودخل ذلك الشيء فى الوجود ،
انقطع ذلك التعلق ، لأن الموجود لا يمكن ايقاعه. فهذا اعتراف بأن ذلك التعلق قد
زال. وكذا أيضا : الإرادة الأزلية كانت متعلقة بترجيح وجود شيء على عدمه فى ذلك
الوقت المعين ، فاذا ترجح ذلك الشيء فى ذلك الوقت ، امتنع بقاء ذلك التعلق ، لأن
ترجيح المترجح محال.
وأيضا : توافقنا على أن المعدوم لا يكون مرئيا ولا مسموعا ، فالعالم
قبل أن كان موجودا لم يكن مرئيا ، ولا كانت الأصوات مسموعة. واذا خلق الألوان
والأصوات صارت مرئية ومسموعة. فهذا اعتراف بحدوث هذه التعلقات. ولو أن جاهلا التزم
كون المعدوم مرئيا ومسموعا ، قيل له : الله تعالى هل كان يرى العالم وقت عدمه
معدوما ، أو كان يراه. وجودا؟ لا سبيل الى القسم الثانى. لأن رؤية المعدوم. موجودا
غلط. وهو على الله تعالى محال. ثم اذا أوجده فانه يراه. موجودا لا معدوما. والا
عاد حديث الغلط. فعلمنا : أنه تعالى كان يرى العالم وقت عدمه معدوما ، ووقت وجوده
موجودا. وهذا يوجب ما ذكرناه.
وأما الفلاسفة : فهم مع أنهم أبعد الناس فى الظاهر عن هذا القول ، هم قائلون
به. وذلك لأن مذهبهم : أن الاضافات موجودة فى الأعيان. وعلى هذا ، فكل حادث يحدث ،
فان الله تعالى يكون موجودا معه. وكونه تعالى مع ذلك الحادث ، وصف اضافى حدث فى ذاته.
__________________
وأما «أبو البركات
البغدادى» ـ وهو من أكابر الفلاسفة المتأخرين ـ فانه صرح فى كتابه «المعتبر»
باثبات ارادات محدثة ، وعلوم محدثة فى ذات الله تعالى. وزعم : أنه لا يتصور
الاعتراف بكونه تعالى إلها لهذا العالم ، الا مع هذا المذهب. ثم قال : «الاجلال من
هذا الجلال واجب ، والتنزيه من هذا لتنزيه لازم» فاذا حصل الوقوف على هذا التفصيل
، ظهر أن هذا المذهب قال به أكثر فرق العقلاء ، وان كانوا ينكرونه باللسان.
واعلم : أن الصفات على ثلاثة أقسام :
أحدها :
صفات حقيقية عارية
عن الاضافات. كالسواد والبياض.
وثانيها : الصفات الحقيقية التى تلزمها الاضافات. كالعلم والقدرة.
وذلك لأن العلم صفة حقيقية تلزمها اضافة مخصوصة الى المعلوم ، وكذا القدرة صفة
حقيقية ، ولها تعلق بالمقدور. وذلك التعلق اضافة مخصوصة بين القدرة وبين المقدور. وثالثها : الاضافات المحضة والنسب المحضة. مثل كون الشيء قبل غيره
وبعد غيره. ومثل كون الشيء يمينا لغيره أو يسارا له. فانك اذا جلست على يمين انسان
ثم قام ذلك الانسان وجلس فى الجانب الآخر منك ، فقد كنت يمينا له ثم صرت الآن
يسارا له. فههنا لم يقع التغير فى ذاتك ، ولا فى وصفة حقيقية من صفاتك ، بل فى محض
الاضافات.
اذا عرفت هذا ،
فنقول : أما وقوع التغير فى الاضافات ، فلا خلاص عنه. وأما وقوع التغير فى الصفات
الحقيقية ، فالكرامية يثبتونه ، وسائر الطوائف ينكرونه. فظهر الفرق فى هذا الباب
بين مذهب «الكرامية» ومذهب غيرهم.
والّذي يدل على فساد
قول «الكرامية» وجوه :
الحجة الأولى : ان كل ما كان من صفات الله تعالى ، فلا بد وأن يكون من صفات
الكمال ونعوت الجلال ، فلو كانت صفة من صفاته محدثة ، لكان ذاته قبل حدوث تلك
الصفة خاليا عن صفة الكمال. والخالى عن صفة الكمال ناقص ، فيلزم أن ذاته كانت
ناقصة قبل حدوث تلك الصفة فيها. وذلك محال. فثبت : أن حدوث الصفة فى ذات الله
تعالى محال.
الحجة الثانية : لو كانت ذاته قابلة للصفة المحدثة ، لكانت تلك القابلية من
لوازم ذاته ، وكانت تلك القابلية أزلية ـ وثبوت القابلية يستلزم صحة وجود المقبول
ـ فلو كانت قابلية الحوادث أزلية ، لكان وجود الحوادث فى الأزل ممكنا. الا أن هذا
محال. لان الحوادث ما لها أول ، والأزل لا أول له. والجمع بينهما محال.
واعلم : ان هذا
الدليل مبنى على ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى : انه لو كانت ذاته قابلة للصفة المحدثة ، لكانت تلك القابلية
من لوازم ذاته. والدليل عليه : أنها لو لم تكن من اللوازم لكانت من العوارض. فكانت
الذات قابلة لتلك القابلية ، فقبول تلك القابلية ان كان من اللوازم ، فهو المقصود ، وان كان
من العوارض ، فيفتقر الى قابلية أخرى. ويلزم اما التسلسل ، واما الانتهاء الى
قابلية تكون من لوازم الذات. وهو المطلوب.
المقدمة الثانية : ان القابلية اذا كانت أزلية وجب أن يكون المقبول صحيح الوجود فى الأزل. والدليل عليه :
ان كون الشيء قابلا لغيره ، نسبة بين القابل والمقبول. والنسبة بين المنتسبين
متوقفة
__________________
على تحقق كل واحد
من المنتسبين ، فصحة النسبة تعتمد صحة وجود المنتسبين. ولما كانت صحة اتصاف البارى
بالحوادث حاصلة فى الأزل. لزم أن تكون صحة وجود الحوادث حاصله فى الازل.
المقدمة الثالثة : ان حدوث الحوادث فى الأزل غير ممكنة. والدليل عليه. ما
ذكرنا أنه يقتضي الجمع بين ثبوت الأزلية وبين عدمها. وكل ذلك محال.
فان قيل : ينتقض ما ذكرتم من الدليلين بتغير الإضافات ، وينتقض هذا الدليل بعينه بأن القدرة
أزلية وتأثيرها فى صحة الفعل من لوازم ذاتها ، مع أنه لا صحة للفعل فى الأزل.
والجواب عن الأول
: ان الإضافات لا وجود لها فى الأعيان. والا لزم التسلسل. واذا كان كذلك زال
السؤال.
وأما السؤال
الثانى : فجوابه : ان وجود القادر يجب أن يكون متقدما على وجود المقدور ، وأما
وجود القابل فلا يجب أن يكون متقدما على وجود المقبول. فظهر الفرق.
الحجة الثالثة : قول الخليل عليهالسلام : (لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ) والأفول : عبارة عن التغير. وهذا يدل على أن المتغير لا
يكون إلها أصلا.
أما الكرامية. فقد
احتجوا من وجهين :
الحجة الأولى : انهم أقاموا الدلائل على أنه لا بد من الاعتراف بحدوث الكلام
والإرادة والسامعية والمبصرية. ثم أقاموا الدلائل على
__________________
أنه لا بد من قيام
الصفة بالموصوف. وحينئذ يحصل من هذين الأصلين كونه تعالى محلا للحوادث.
الحجة الثانية : انهم قالوا : حصلت الموافقة بيننا وبين «الأشعرية» على أنه
يصح قيام المعانى بذات الله تعالى فى الجملة. ولا فارق بين المعانى القديمة ، وبين
المعانى المحدثة ، الا فى القدم والحدوث. ولا يجوز أن يكون القدم معتبرا فى
المقتضى ، لأن القدم عبارة عن نفى الأولية. وذلك قيد عدمى. والقيد العدمى لا يكون
داخلا فى المقتضى. واذا سقط القدم عن درجة الاعتبار ، بقى أنه انما يصح قيام تلك
المعانى بذات الله تعالى ، لكونها معانى. وصفات الحوادث تشاركها فى هذا المعنى ،
فيلزم صحة قيام الحوادث بذات الله تعالى.
والجواب عن الحجة الأولى : انا سنجيب عن دلائلكم فى حدوث الكلام والإرادة والسمع
والبصر.
وعن الثانية : لا نسلم أنه لا فارق بين صفات الله تعالى ، وبين هذه
الأعراض المحدثة ، الا فى القدم والحدوث. ولم لا يجوز أن تكون تلك الصفات مخالفة
لهذه الصفات بأعيانها وحقائقها المخصوصة؟ سلمنا : أنه لا فارق الا القدم ، فلم
لا يجوز أن يكون القدم معتبرا فى المقتضى؟
قوله : «لأنه قيد عدمى» قلنا : لا نسلم. فان القدم عبارة عن نفى
العدم السابق ، ونفى النفى ثبوت.
__________________
المسألة الحادية عشرة
فى
بيان كونه تعالى قادرا
والكلام فيه مرتب على
فصلين :
الفصل الأول
حقيقة القادر
اعلم : أن القادر
هو الّذي يصح منه الفعل والترك ، بحسب الدواعى المختلفة. مثاله: الانسان ان شاء أن
يمشى قدر عليه ، وان شاء أن لا يمشى قدر عليه. أما تأثير النار فى التسخين ، فليس
كذلك. لأن ظهور التسخين من النار ، غير موقوف على ارادته وداعيته ، بل هو أمر لازم
لذاته.
وهاهنا للفلاسفة
سؤالات :
السؤال الأول : ان هذا القادر المحكوم عليه بأنه يصح منه الفعل بدلا عن
الترك ، ويصح منه الترك بدلا عن الفعل ، اما أن يكون رجحان أحد طرفى الفعل والترك
على الطرف الآخر ، موقوفا على انضمام مرجح إليه أو لا يكون كذلك.
لا جائز أن يقال :
انه لا يتوقف ذلك الرجحان على المرجح. ويدل عليه وجهان :
الأول : انه لو حصل رجحان أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح ، لكان
قد حصل الممكن من غير مرجح. وذلك يفضى الى نفى الصانع.
والثانى : انا لما جربنا أنفسنا وجدنا أنه ما لم يحصل فى القلب ميل
الى أحد الطرفين ، لم يترجح ذلك الطرف على الآخر. ومتى صار الميل الى الحركة ، الى
هذا الجانب والى الحركة الى الجانب الآخر على التساوى ، لم يترجح أحدهما على
الآخر. بل بقى الانسان فى موضعه الّذي هو فيه ساكنا متحيرا ، الى أن يظهر المرجح. فحينئذ
يحصل الرجحان. فظهر بما ذكرنا : أن القول بأنه يجوز حصول رجحان أحد الطرفين على
الآخر ، من غير مرجح باطل وفاسد.
وأما القسم الثانى : وهو أنه لا بد فى هذا الرجحان من مرجح. فنقول : اذا حصلت
المرجحات بأسرها ـ وهى القدرة التامة ، والإرادة الجازمة الخالية عن الفتور ،
والوقت ، والآلة والمصلحة ، وازالة الموانع العقلية والشرعية. فمع حصول هذه
المرجحات. اما أن يكون الترك ممكنا أو غير ممكنا فان كان الترك ممكنا فمع حصول هذه
المرجحات تارة يحصل الفعل وتارة يحصل الترك. فاختصاص أحد الوقتين بالفعل والآخر
بالترك ، اما أن يتوقف على مرجح ، لأجله اختص أحد الوقتين بالفعل ، والآخر بالترك
، أولا يتوقف. فان توقف على مرجح ، لم يكن الحاصل الأول مرجحا تاما. وكنا قد
فرضناه كذلك. هذا خلف.
وأيضا : فلنفرض
حصول هذا المرجح. فحينئذ اما أن يكون حصول هذا الفعل فى هذا الوقت جائزا ، أو
واجبا. فان كان جائزا ، عاد التقسيم الأول ، وافتقر الى مرجح آخر. ولزم التسلسل.
وهو محال. ولما بطل هذا ثبت : أن الفعل واجب الحصول عند حصول كل المرجحات ، وممتنع
الحصول عند اختلال قيد من القيود المعتبرة فى الترجيح.
وعلى هذا التقدير
، فالقادر حال ما حصلت المؤثرات بأسرها ، يجب عقلا ، أن يصدر عنه الأثر ، ويمتنع
أن لا يصدر. وحال ما لم
توجد المؤثرات
بأسرها ، يجب عقلا ، أن لا يصدر عنه الأثر ، ويمتنع أن يصدر وعلى هذا التقدير ، لا
يبقى فرق البتة بين القادر والموجب. بل الفرق : أن شرائط التأثير فى حق القادر سريعة التغير.
واذا حصلت بعد أن كانت معدومة ، صار القادر واجب التأثير ، واذا زالت بعد أن كانت
موجودة ، صار ممتنع التأثير. الا أن هذا التغير انما يعقل فى حق من تكون مؤثريته ، موقوفة على شرائط
منفصلة عن ذاته. والبارى تعالى قبل تأثيره فى غيره ، ليس موقوفا على شرائط منفصلة
عن ذاته. لأنه تعالى مبدأ لكل ما سواه ، فلا يكون تأثيره فيما سواه موقوفا على شيء
منفصل عنه. فلا جرم كان تأثيره فى غيره ، يخص ذاته. وذاته ممتنعة التغير ، فكان
تأثيره فى غيره أيضا ممتنع التغير.
وهذا هو السؤال
القوى الّذي عليه يعولون ، وبه يصولون.
السؤال الثانى : قالوا : أليس من مذهبكم أن التغير ممتنع فى صفات الله تعالى
، وأن العدم على القديم محال؟ ثم من مذهبكم : ان إرادة الله تعالى كانت متعلقة من
الأزل الى الأبد بترجيح وجود ذلك الحادث المعين على عدمه ، وقدرته من الأزل الى
الأبد متعلقة بايجاد وجود ذلك الحادث المعين فى ذلك الوقت المعين. فاذا كان التغير
ممتنعا فى صفات الله تعالى ، استحال من الله تعالى أن لا يرجح وجود ذلك المراد ،
وأن لا يوجد وجود ذلك المقدور. واذا كان الأمر كذلك ، كان تعالى موجبا بالذات ، لا
فاعلا بالاختيار.
السؤال الثلاث : لا شك أنه تعالى عالم بجميع المعلومات. فهو يعلم أن الشيء
الفلانى يقع فى الوقت الفلانى ، والشيء الفلانى لا يقع فى الوقت الفلانى وخلاف
المعلوم محال الوقوع لان عدم وقوع الشيء مع العلم بوقوع الشيء ، ضدان. والضدان
ممتنعان متنافيان
__________________
لذاتيهما واذا كان
كذلك ، فما علم الله تعالى وقوعه ، كان واجب الوقوع ، ممتنع العدم وما علم عدمه ،
كان واجب العدم ، ممتنع الوجود. ولا خروج عن هذين القسمين. فيكون الله تعالى موجبا
بالذات ، لا فاعلا بالاختيار.
السؤال الرابع : الترك عبارة عن البقاء على العدم الأصلي. فالعدم الأصلي لا
يصلح أن يكون مقدور الوجهين :
الأول : ان القدرة صفة المؤثرة ، والعدم نفى محض. فلا يكون للمقدور أثر فيه البتة. فامتنع كون العدم مقدورا.
الثانى : هو ان العدم الأصلي باق كما كان قبل ذلك ، والباقى حال
بقائه لا يكون مقدور. فاذن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي ، والعدم
الباقى لا يصلح أن يكون مقدورا ، نظر الى كونه عدما ، ونظرا الى كونه باقيا. فثبت
: أن الترك لا يصلح أن يكون مقدورا البتة. فلم يكن القادر قادرا ، الا على الفعل.
ولا قدرة له على الترك البتة. فثبت : أن القادر له صلاحية التأثير فى الوجود ،
وليس له صلاحية الترك : فحينئذ ينقلب القادر موجبا ، ولا يبقى بينه وبين الموجب
فرق البتة.
فهذه مجموع أسئلة
الفلاسفة فى هذا المقام.
والجواب عن السؤال
الأول : هو أن نقول :
للمتكلمين فى هذا
المقام قولان :
أحدهما : ان صدور الفعل عن القادر موقوف على الداعى.
__________________
الا أن الفعل مع
الداعى يصير أولى بالوقوع ، الا أنه لا ينتهى الى حد الوجوب ،
فلأجل أنه صار أولى بالوقوع ، صار الوقوع راجحا على اللاوقوع ولأجل أنه لا ينتهى
الى حد الوجوب يبقى الفرق بين الموجب والقادر.
واعلم : أن هذا
الكلام ضعيف من وجهين :
الأول : وهو ان فى الوقت الّذي كان الفعل والترك فى حيز التساوى ،
كان رجحان الوجود على العدم فى ذلك الوقت ممتنعا. وعند ما صار أحد الطرفين مرجوحا
، كان دخول المرجوح فى الوجود حال كونه مرجوحا أولى بالامتناع ، لأنه حال كونه
مرجوحا ، أضعف منه حال كونه مساويا. واذا كان دخول المرجوح فى الوجود ممتنعا ، كان
دخول الراجح فى الوجود واجبا. ضرورة أنه لا خروج عن طرفى النقيض.
والثانى : ان عند حصول كل مرجحات الوجود. اما أن يكون العدم ممتنعا ،
أو لا يكون. فان كان ممتنعا كان الوجود واجبا. وهو المطلوب. وان لم يكن العدم
ممتنعا ، لم يلزم من فرض هذا العدم محال ، فلنفرض مع حصول كل مرجحات الوجود تارة :
حصول الوجود. وأخرى : حصول العدم. فاختصاص أحد الوقتين بحصول الوجود ، والوقت
الثانى بحصول العدم. ان لم يتوقف على مرجح مع أن نسبة كل تلك المرجحات الى هذين
الوقتين على السوية ، فقد ترجح الممكن المساوى على الآخر من غير مرجح. وهو محال.
وان توقف على انضمام مرجح إليه ، لم يكن الحاصل قبل ذلك كل المرجحات. وكنا قد
فرضنا حصول كل المرجحات. هذا خلف.
ثم انا ننقل
التقسيم المذكور الى هذه الحالة. وهو ان بعد
__________________
حصول هذا القيد
وهذا المرجح ، ان كان التأثير واجبا. فهو المقصود. وان لم يكن واجبا عاد التقسيم.
وافتقرنا الى قيد آخر ، ولزم التسلسل ، أو الانتهاء الى الوجوب. وهذا كلام قطع لا
رجاء فى دفعه.
القول الثانى للمتكلمين فى هذا المقام :
وهو ان صدور الفعل
عن القادر ، لا يتوقف على انضمام الداعى والمرجح إليه. وهذا القول اختيار أكثر
العلماء. وتقريره : ان العطشان اذا خير بين شرب قد حين متساويين من جميع الوجوه ،
فانه يختار أحدهما على الآخر لا لمرجح. وكذلك الجائع اذا خير بين أكل رغيفين
متساويين من جميع الوجوه. وكذا الهارب من السبع الضارى ، اذا عن له طريقان ، فانه
يختار احدهما لا لمرجح. فثبت : أن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على الداعى.
قالت الفلاسفة :
الاعتراض على هذا الكلام من وجهين
الأول
: انه اذا جاز فى
العقل رجحان أحد طرفى الجائز على الآخر لا لمرجح أصلا ، لم يكن الاستدلال برجحان
أحد طرفى فى الممكن على الطرف الآخر ، على وجود المرجح ، طريقا صحيحا. واذا كان لا
سبيل الى اثبات الصانع الا بهذا الطريق ، ثم صار هذا الطريق مطعونا فيه ، لزم
بطلان الاستدلال بالامكان والحدوث على اثبات الصانع.
الثانى : انا اذا جربنا من أنفسنا فى القدحين والرغيفين والطريقين ،
علمنا : أنه ما لم يحدث فى قلبنا ، ميل وداعية الى اختيار أحدهما دون الآخر ، فانا
لا نختار ذلك المعين ، دون الآخر ، أو اذا علمنا : أنه لا بد فى الترجيح من حصول
الميل الى أحدهما فى القلب على التعيين. فذلك الميل مرجح خاص. فثبت : أن فى هذه
الصورة لم يحصل الرجحان الا مع المرجح.
اقصى ما فى الباب : أن يقال : لا ندرى لم حدث الميل الى هذا الرغيف ، ولم يحدث
الى ذلك الرغيف الآخر؟ لأنا نقول : سبب حدوث الميل فى قلوبنا ليس لميل آخر فى
القلب ، والالزام التسلسل ، بل الميول والارادات تنتهى الى ميل وإرادة تحدث فى
القلب ، اما بخلق الله تعالى ، أو بسبب من الأسباب السماوية. وحينئذ يكون هذا
الاشكال زائلا.
والّذي يحقق هذا الكلام : أن العطشان اذا خير بين القدحين ، فانه ما لم يخص أحد
القدحين بمد اليد لأخذه ، فانه لا يمكنه أن يشرب ذلك الماء. وما لم يمل قلبه الى
أخذ ذلك القدح فانه لا يمد يده إليه. فذلك الميل الخاص ، والإرادة الخاصة ، مرجحة
لأحد الطرفين على الآخر. فثبت : أن فى هذه الصورة لم يحصل الرجحان الا لمرجح ،
وأما أنه لم حدث الميل الى هذا ولم يحدث الى ذلك؟ فذلك مستند الى الأسباب الفلكية.
أجاب المتكلمون عن السؤال الأول : بأنا لا نقول : ان رجحان أحد طرفى الممكن على الآخر ، لا
يحوج الى المرجح فى جميع المواضع ، بل نقول : الشيء اذا وجد بعد عدمه فهذا الحدوث
وهذا الامكان هو المحوج الى المقتضى. فأما ترجيح الفعل على الترك فى حق القادر ،
فذلك لا يحوج الى المؤثر .
والّذي يدل عليه : أن الفرق بين القدر المختار ، وبين العلة الموجبة ، أمر
معلوم بالضرورة. فان كل أحد يفرق بالضرورة بين كون الانسان مختار فى فعله وقوله
وقيامه وقعوده ، وبين كون
__________________
الحجر هابطا
بالطبع ، والنار صاعدة بالطبع. وتوقف صدور الفعل عن القادر على المرجح ، يقتضي بأن
لا يبقى بين الموجب وبين المختار فرق البتة. وكل نظرى أفضى الى الفساد الضرورى كان
باطلا. فعلمنا : أنه لا بد من الاعتراف بأن صدور الفعل عن القادر ، لا يتوقف على
المرجح. فهذا منتهى البحث فى هذا الباب.
وأما الجواب عن السؤال الثانى : فهو أنه ليس القادر عبارة عن الّذي عند اختيار الفعل يتصور منه
اختيار الترك ، فان ذلك يجرى مجرى الجمع بين الضدين. وهو محال. بل القادر هو الّذي يتصور منه
اختيار الترك ، بدلا عن اختيار الفعل. وبالعكس. وهذا المعنى معقول فى حق الله
تعالى ، فكان قادرا.
لا يقال : نفرض الكلام فى الشيء الّذي تعلقت ارادته وقدرته فى الأزل
بايجاده فى لا يزال. فنقول : لا حال من الأحوال يشار إليه ، الا ويمتنع من الله
تعالى فى ذلك الوقت أن لا يوجد ذلك الفعل. اذ لو لم يوجد ، لا نقطع ذلك التعلق
المستمر من الأزل الى ذلك الوقت. وذلك يقتضي تغير صفات الله تعالى ، وزوال ذلك
التعلق القديم. وكل ذلك محال. واذا كان كذلك ، فلا حال يشار إليه الا ويجب عقلا
كونه تعالى موجدا لذلك الفعل فى ذلك الوقت الخاص ، ويمتنع أن لا يكون مؤثرا فيه.
فهذا يكون موجبا لا قادرا.
لأنا نقول : الصلاحية الأصلية كانت حاصلة. وهذا القدر يكفى فى الفرق بين
الموجب والمختار.
وأما الجواب عن السؤال الثالث : فهو ان تعلق العلم بوقوع الفعل فى ذلك الزمان المعين ، تبع
لوقوع الفعل فى ذلك الزمان المعين ،
__________________
ووقوعه فى ذلك
الزمان المعين ، تبع لتأثير القدرة والإرادة بايقاعه فى ذلك الزمان. واذا كن الأمر
كذلك ، كان تعلق العلم بوقوعه فى ذلك الزمان المعين تبعا لتبع تعلق القدرة
والإرادة بايقاعه فى ذلك الزمان. فيمتنع أن يكون تعلق العلم مانعا من تعلق القدرة
والإرادة.
وأما الجواب عن السؤال الرابع : فهو ان المراد من قولنا : انه قادر على الفعل والترك ، هو
أنه يمكنه أن يفعل ويمكنه أن لا يفعل ، بل يتركه كما كان. وعلى هذا الوجه يسقط هذا
السؤال.
فهذا مجموع الكلام
فى الفرق بين القادر ، وبين الموجب. وهو من أدق المباحث العقلية.
الفصل الثانى
فى
اقامة الدلائل
على أنه تعالى
قادر
اتفق
أرباب الملل والأديان : على أن تأثير البارى تعالى فى ايجاد العالم بالقدرة والاختيار. وزعمت الفلاسفة
: ان تأثيره فى وجود العالم بالايجاب كتأثير الشمس فى الاضاءة ، وتأثير النار فى
التسخين والاحراق.
فنقول : الدليل على أنه تعالى قادر لا موجب
:
أنه لو كان البارى
تعالى موجبا بالذات ، لكان تأثيره فى وجود العالم : اما أن لا يكون موقوفا على شرط
، واما أن يكون موقوفا على شرط. فان لم يكن موقوفا على شرط ، لزم من قدمه قدم
العالم ، أو من حدوث العالم حدوثه. وكلاهما باطلان. وأما ان كان موقوفا على شرط ،
فذلك
__________________
الشرط ان كان
قديما ، لزم أيضا قدم العالم. وان كان حادثا ، كان الكلام فيه كما فى الأول. فيفضى
الى التسلسل. وهو أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر قبله. وذلك قول بحوادث لا أول
لها. وقد أبطلناه فى مسألة حدوث الأجسام. فثبت : أن القول بكونه تعالى موجبا
بالذات ، يفضى الى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون باطلا ، واذا بطل هذا ، ثبت : أنه
تعالى قادر فاعل مختار.
فان قيل : وجود العالم فى الأزل اما أن يكون جائزا أو ممتنعا. فان كان
جائزا فحينئذ يلزم قدم العالم. وعلى هذا التقدير ليس لكم أن تقولوا بأن قدم العالم
محال. لأن هذا التقدير هو تقدير أن قدم العالم ليس بمحال. واما ان كان قدم العالم
محالا ، فنقول : ان العلة الموجبة قد يتخلف عنها أثرها عند تخلف الشرائط ، أو حصول
الموانع. ومن أقوى الشرائط : كون المعلول فى نفسه ممكن الوقوع : ومن أقوى الموانع
: كونه ممتنع الوقوع. فلم لا يجوز أن يقال : ان الله تعالى موجب بالذات ، لوجود
العالم ، الا أنه لم يوجد العالم فى الأزل. لأن تحقق الأزل كالمانع من وجود العالم
، فلما زال المانع ، حصل المعلول؟
والّذي يحقق هذا السؤال : هو أن القدرة. وان لم تكن موجبة لوجود الفعل عنها ، الا
أنها موجبة لصحة وجود الفعل. ثم انه تعالى قادر فى الأزل مع أن صحة الفعل غير
حاصلة فى الأزل. ولا جواب لكم عن هذا السؤال ، الا أن تقولوا : القدرة توجب صحة
الفعل ، بشرط عدم المانع. والأزل مانع من هذه الصحة. ولهذا المعنى حصلت القدرة فى
الأزل ، مع أنه لم تحصل صحة الفعل فى الأزل. واذا صح منكم هذا الجواب فى القدرة ،
فلم لا يصح مثله فى جانب الموجب؟ ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : انه تعالى موجب
لذاته. وجود
العالم فى الوقت المخصوص فى الأزل؟ واذا كان كونه موجبا انما حصل على هذا الوجه ،
لم يلزم من قدم العلة قدم المعلول.
لا يقال : نسبة ذات الموجب الى جميع الأوقات المقدورة على السوية.
فاختصاص الايجاب بذلك الوقت المعين ، يكون ترجيحا للممكن من غير مرجح. وهو محال.
لأنا نقول : ألستم تقولون فى القادر : أنه صدر عنه فعله فى وقت دون وقت
، لا لمرجح أصلا ، مع أن نسبة صلاحية القدرة والإرادة بالنسبة الى كل الأوقات على
السوية؟ فلم لا يجوز مثله فى الموجب بالذات؟
والجواب عن الأول : ثبت أن الأزل مناف لحدوث العالم. ولكن اذا كان العالم محدثا
، كان حدوثه مختصا بوقت معين. ولو كان حادثا قبل أن حدث بتقدير عشرة أيام ، لم يصر
بهذا القدر أزليا ، واذا كان كذلك ، فلا وقت يفرض حدوثه فيه ، الا وكان المانع ـ وهو
الأزل ـ زائلا قبل ذلك الوقت. واذا كان المانع زائلا قبل ذلك الوقت ، وكانت العلة
للموجبة حاصلة قبل ذلك ، لزم حدوثه قبل أن حدث. وذلك محال. فوجب القول بأنه تعالى
فاعل بالاختيار ، لا أنه موجب بالذات.
وقوله ثانيا : «لم لا يجوز أن يقال : انه تعالى موجب لذاته وقوع العالم فى
ذلك الوقت المعين».
قلنا : اذن على هذا التقدير ، يكون تأثير ذات الله تعالى فى وجود
العالم مشروطا بحضور ذلك الوقت. وعند هذا يعود القسم الّذي ذكرناه ، من أن ذلك الشرط.
ان كان قديما لزم قدم المعلول ، وان حادثا كان الكلام فيه كما فى الأول. وهذا
يقتضي اشتراط كل حادث
بحادث آخر ، لا
الى أول. وهذا هو القول بوجود حوادث لا أول لها. وقد ابطلناه.
واحتج المخالف على
قوله بوجوه :
الحجة الأولى : لا شك أنه تعالى مؤثر فى وجود العالم. فكونه مؤثرا فى
العالم اما أن يكون لذاته ، أو لصفة قديمة أو لصفة محدثة. والقسم الثالث باطل. لأن
تلك الصفة المحدثة. ان وقعت لا عن مؤثر ، لزم نفى الصانع. وان افتقرت الى المؤثر ،
لزم التسلسل. ولما بطل هذا القسم تعين أحد القسمين الأولين. وهو أن يكون كونه مؤثرا
فى العالم. اما لذاته واما الصفة قديمة. واذا كانت هذه المؤثرية اما لأجل الذات
واما لأجل الصفة القديمة بالذات ، لزم من دوام الذات ودوام تلك الصفة ، وجوب دوام
تلك المؤثرية. اذ لو لم تجب لزم أن يحصل الأثر تارة ، وأن لا يحصل أخرى. فيكون
تمييز احدى الحالتين عن الأخرى لا لمرجح.
وهو محال. واذا
كانت تلك المؤثرية واجبة الثبوت ، ممتنعة الزوال ، كان موجبا بالذات ، لا فاعلا
بالقدرة والاختيار.
الحجة الثانية : القول بكون المؤثر قادرا ، يفضى الى التناقض. فيكون القول
به باطلا. انما قلنا : أنه يفضى الى التناقض ، لأن كون قادرا على المقدور ، موقوف
على تميز ذلك المقدور فى نفسه عن الممتنعات ، لأنه لو لا ذلك التميز ، لم تكن
قدرته عليها أولى من قدرته على الممتنعات. وهذا يقتضي أن يكون تميز المقدور عن
غيره سابقا على تعلق قدرة القادرية.
وأيضا : المقدور هو الّذي يقع بتأثير القادر وتكوينه. وهذا يقتضي أن
يكون تحقق ذات المقدور متأخرا عن تعلق قدرة القادرية. واذا كان تحقق ذاته متأخرا
عن تعلق قدرة القادرية ، كان تميزه عن غيره أولى بأن يكون متأخرا عن تحقق ذاته.
لأن التميز حكم من أحكام ذاته ،
وحالة من حوال
ذاته. وحكم الشيء وحاله متأخر عن تحقق ذاته. وهذا يقتضي أن يكون تميز المقدور عن
غيره ، مقدما على تعلق قدرة القادرية وأن يكون متأخرا عنه. وذلك محال.
فثبت : أن القول
بكون القادر قادرا على الشيء ، يفضى الى هذا المحال. فكان القول بكون القادر :
قادرا على الشيء ، محالا.
لا يقال : ماهية المقدور متقدمة على تعلق القدرة ، ووجوده متأخر عن تعلق القدرة :
كما هو مذهب القائلين بأن المعدوم شيء.
لأنا نقول : اذا كنت الماهية متقررة فى العدم وفى الوجود ، ولا تأثير
للقدرة فيها البتة ، لم تكن الماهية مقدورة البتة ، بل كان المقدور ، اما الوجود ،
واما جعل الماهية موصوفة بالوجود. وهذا من حيث ان متعلق القدرة يجب أن يكون متقدما
على القدرة ، ومن حيث ان أثر القدرة يجب أن يكون متأخرا عن القدرة. فيعود المحال
المذكور.
الحجة الثالثة : وجود المخلوق اما أن يكون معللا بأن القادر قادر ، أو بأن
الخالق خلقه وقدره. فان كان الأول لزم أن يقال : انه ما دام يكون
قادرا ، يكون المخلوق موجودا. واذا كان كذلك امتنع انفكاك القادر عن وجود المخلوق.
وان كان الثانى لزم أن يكون كونه خالقا مغايرا ، لكونه قادر ، لأنه لما صدق أن
وجود المخلوق ليس لكونه قادرا ، بل لكونه خالقا. فصدق هذا النفى والاثبات يوجب
المغايرة.
ثم نقول : كونه
خالقا اما أن يكون حادثا ، وحينئذ يفتقر الى خالقية أخرى. وهو محال. أو يكون قديما
، فنقول الخالقية صفة
__________________
قديمة فتكون
ممتنعة الزوال ، واستلزام الخالقية للخلق أمر واجب بالذات. لأن الخلق بدون المخلوق
محال. فاذن الذات مستلزمة للخلق ، والخلق مستلزم للمخلوق ، ومستلزم المستلزم
مستلزم ، فذات الله مستلزمة لوجود المخلوق. ومتى كان الأمر كذلك ، كان موجبا
بالذات لا قادرا بالاختيار.
الجواب عن الأول : ان حدوث الآثار لأجل الصفة القديمة المسمّاة بالقدرة قوله :
«لو كان المقدور قديما ، كان الأثر قديما» وقلنا هذا انما يلزم فى الموجب بالذات ،
أما فى القادر بالاختيار فهو ممنوع.
والجواب عن الثانى : ان ما ذكرتموه وارد عليكم فى الموجب ، لأن الموجب لا يوجب
الا أثرا معينا. ولو لا امتياز ذلك الأثر عن غيره ، والا لم يكن كونه موجبا لذلك
الأثر ، أولى من كونه موجبا لغيره. فيلزم أن يكون تميز ماهية المعلول عن غيرها ،
متقدما على تأثير الموجب فيه. ولما كان تحققه بتأثير تلك العلة ، لزم تأخره عنه.
فيلزمكم فى الموجب ما ألزمتم علينا فى القادر.
والجواب عن الثالث : انه لا معنى لكونه تعالى خالقا ، الا وقوع المخلوق بقدرته.
وعلى هذا التقدير تسقط الشبهة التى ذكرتموها ، وعولتم عليها.
المسألة الثانية عشرة
فى
إثبات أنه تعالى عالم
وهذه المسألة مرتبة
على فصلين :
الفصل الأول
فى
اقامة الدلالة على أنه سبحانه وتعالى عالم
وبرهانه : ان أفعال الله تعالى محكمة متقنة. وكل من كان فعله متقنا
محكما ، كان عالما بتلك الأفعال. فثبت : أنه تعالى عالم : أما أن أفعاله محكمة
متقنة ، فيدل عليه تشريح بدن الانسان. وقد لخصنا هذا العلم فى «الطب الكبير» الّذي
صنفناه ، وبلغنا فيه غاية لم يبلغ فيها أكثر من تقدمنا. وأما أن كل من كان فعله
محكما متقنا ، وجب أن يكون عالما بتلك الأفعال. فهذه مقدمة بديهية بعد الاستقراء
والاختبار.
فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : المبدأ الأول الواجب الوجود لذاته ،
يوجب بالذات موجودا. وذلك الموجود هو الخالق لهذا العالم. وهو عالم بما فيه من
المصالح. الا أن الواجب الوجود الّذي هو المبدأ الأول لا يكون عالما.
سلمنا : أن فاعل
هذه الأفعال الحادثة فى هذا العالم. هو الله تعالى. لكن ما المراد من كونها محكمة
متقنة؟ ان عنيتم بها كونها مطابقة للمصلحة. فنقول : تدعون كنها مطابقة للمصلحة من
بعض الوجوه أو تدعون كونها مطابقة للمصلحة من كل الوجوه؟ فان
أردتم الأول فهو
مسلم. لكن لا نسلم أن فعل من كان مطابقا للمصلحة من بعض الوجوه ، يدل على كون
الفاعل عالما. لأن الأفعال الصادرة عن النائم والساهى ، قد تكون مطابقة للمصلحة من
بعض الوجوه ، مع انها لا تدل على علم فاعلها البتة. وان أردتم الثانى ، فلا نسلم
أن هذه الحوادث والتركيبات مطابقة للمصلحة من كل الوجوه. وظاهر أن الأمر ليس كذلك.
فانه لا شيء من مفردات هذا العالم ومركباته. الا وهو مصلحة من وجه ومفسدة من وجه
آخر.
نزلنا عن مقام
الاستفسار ، لكن لا نسلم أن الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالما. والدليل
عليه وجوه :
الأول : وهو أن البيوت المسدسة التى بنتها النحل من غير مسطرة ولا
بركار ، لا يقدر عليها الانسان. والبيت الّذي يتخذه العنكبوت من تلك الخيوط من غير
شيء من الآلات والأدوات لا يقدر عليه الانسان. فلو دل ذلك على علم الفاعل ، لزم أن
تكون هذه الحيوانات أكثر علما من الانسان. ومعلوم أن ذلك باطل.
الثانى : وهو أن الفعل المحكم المتقن قد يصدر مرة واحدة من الجاهل.
وهذا مشاهد. واذا جاز صدوره مرة واحدة ، جاز صدوره ثانيا وثالثا. لأن الأشياء
المتماثلة حكمها حكم واحد. واذا كان كذلك ، بطلت دلالة الفعل المحكم على علم
الفاعل.
سلمنا : أن فاعل الفعل المحكم لا بد له من ادراك وشعور ، لكن لم لا
يكفى فيه الظن؟ ولم قلتم : انه لا بد له من العلم؟ والدليل عليه : هو أن أكثر هذه
الأفاعيل العجيبة الصادرة من الناس ، انما تصدر عنهم حال كونهم ظانين ، لا حال
كونهم قاطعين. أقصى ما فى الباب : أن يقال : أن الظان قد يخطئ كثيرا ، الا أنا
نقول : المصالح الحاصلة فى تركيبات هذا العالم غير خالية عن المفاسد. ولعل هذه
المفاسد انما وقعت لأجل أن فاعلها ظان لا عالم.
والجواب عن السؤال الأول : ان من استدل فى حدوث العالم بدليل الحركة والسكون ، كان هذا
السؤال لازما عليه. أما نحن لما بينا أن كل ما سوى الله تعالى محدث ، سواء كان
متحيزا أو قائما بالمتحيز ، أولا متحيزا ولا قائما بالمتحيز ، سقط عنا هذا السؤال.
لأنه لما كان كل ما سوى الله محدثا ، كان تأثيره سبحانه وتعالى فى ايجادها بالقدرة والاختيار ، لا بالطبع ولايجاب. والموجد للشىء على
سبيل القدرة والاختيار ، لا بد وأن يكون له شعور بما يقصد على ايجاده واختراعه.
وهذا القدر يكفى فى اثبات كونه تعالى عالما. وأما أنه تعالى عالم بكل الأشياء.
فتلك مسألة أخرى. وبهذا الجواب سقط جميع ما ذكروه من الأسئلة.
واحتج قدماء
الفلاسفة على انكار العلم بوجوه :
الشبهة الأولى : قالوا : لو كان عالما ، لكان علمه اما أن يكون عين ذاته ،
أو زائد على ذاته. والقسمان باطلان.
أما أنه لا يجوز
أن يكون علمه عين ذاته ، فلوجوه :
أحدها : انا ندرك التفرقة بين قولنا : ذاته. ذاته. وبين قولنا : ذاته
علمه. وهذا يوجب التغاير.
والثانى : أنا بعد معرفة أنه موجود ، واجب الوجود لذاته ، نفتقر فى
معرفة كونه تعالى عالما الى دليل منفصل. والمعلوم مغاير لغير المعلوم.
الثالث
: ان حقيقة العلم
مغايرة لحقيقة القدرة ولحقيقة الحياة. فلو كان الكل عبارة عن حقيقة ذاته ، لزم
القول بأن الحقائق الثلاثة
__________________
حقيقة واحدة. وذلك
باطل بالبداهة. وأما أنه لا يجوز أن يكون علمه زائدا على ذاته. فلأنه لو كان زائدا
على ذاته ، مع أنه صفة قائمة بتلك الذات ، وجب أن يكون ذلك العلم مفتقرا فى تحققه
الى تلك الذات. لأن الصفة مفتقرة الى الموصوف ، والمفتقر الى الغير ممكن لذاته ،
مفتقر الى المؤثر. والمؤثر فيه ليس الا تلك الذات ، فتكون تلك الذات موصوفة به ،
ومؤثرة فيه ، مع أن تلك الذات بسيطة منزهة عن جميع جهات التركيبات. فيكون البسيط قابلا وفاعلا معا. وذلك محال.
لأن المفهوم من
كونه قابلا ، غير المفهوم من كونه فاعلا. وهذان المفهومان. ان كانا خارجين عن
الذات ، كان المفهوم من استلزام الذات لأحدهما ، غير المفهوم من استلزامها للآخر ،
فيعود التقسيم الأول فيه. ولا يتسلسل ، بل ينتهى الى كثرة تقع فى الذات ، فتكون
ذاته مركبة من الأجزاء. وكل ما كان كذلك كان ممكنا لذاته ، فيكون الواجب لذاته
ممكنا لذاته. وهذا خلف. محال.
الشبهة الثانية : انهم قالوا : ذاته سبحانه وتعالى بدون هذا العلم. اما أن
تكون كاملة على الاطلاق. وحينئذ لا يكون فى حصول هذا العلم كمال وجلال. ويجب نفيه.
واما أن لا تكون الذات بدون هذا العلم كاملة. وحينئذ تكون الذات الواجبة الوجود :
ناقصة بذاتها ، وكاملة بغيرها. وهو محال.
الشبهة الثالثة : كونه إلها للعالم. ان لم يتوقف على اثبات هذا العلم ، لم
يجز اثباته. وان توقف عليه ، كان مبدأ العالم مركبا من الذات والعلم. وكل مركب
ممكن. فكان مبدأ كل الممكنات ممكنا. وذلك محال.
__________________
والجواب عن الشبهة الأولى : لم لا يجوز أن يكون البسيط حقا ، قابلا وفاعلا معا؟ قوله : «تغاير
المفهومين يدل على وقوع الكثرة فى الذات».
قلنا : هذا ينتقض بالوحدة. فانها نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع
الأربعة. وهكذا. الى غير النهاية. مع أن الوحدة أبعد الأشياء عن الكثرة. وكذلك
النقطة محاذية لجملة أجزاء الدائرة ، مع أنها غير قابلة للقسمة.
والجواب عن الشبهة الثانية : لم لا يجوز أن يقال : ان كون تلك الذات كاملة ، يقتضي كونها
مستلزمة لحصول هذا العلم. ولا نقول : الذات ناقصة بذاتها ، مستكملة بغير هابل ،
نقول : كونها كاملة لذاتها يستلزم حصول صفات الكمال.
والجواب
عن الشبهة الثالثة : مبدأ العالم هو الذات الواجبة الوجود ، الموصوفة بالعلم والقدرة. والذات هى
الواجبة لذاتها ، وبذاتها وهى مستلزمة لهذه الصفات. فلم قلتم : ان ذلك محال؟
الفصل الثانى
فى
بيان أنه سبحانه وتعالى عالم بكل المعلومات
برهانه : أنه سبحانه وتعالى حي. وكل من كان حيا ، فانه يصح منه أن
يعلم كل واحد من المعلومات. والموجب أيضا لهذه العالمية : هو ذاته. ونسبة الذات
الى الكل على السوية. فلم يكن بأن توجب ذاته كونه عالما بالبعض ، أولى من أن توجب
كونه عالما بالباقى. فلما أوجب كونه عالما بالبعض ، وجب أن يوجب كونه عالما
بالباقى. فثبت : كونه تعالى عالما بكل المعلومات.
واعلم : أن المخالفين فى هذه المسألة طوائف. ونحن نشير الى شبهة كل
واحد منهم اشارة خفية :
النوع الأول من المخالفين : الذين
يقولون : انه يمتنع كونه تعالى عالما بذاته. احتجوا عليه : بأن كون الشيء عالما بالشيء : اضافة مخصوصة
بين العالم ، وبين المعلوم. وهذا لا يحصل الا بين الشيئين. فالشيء الواحد من جميع
الوجوه يمتنع كونه عالما بنفسه. وهذا بخلاف علم الواحد منا بنفسه ، فان نفس الواحد
منا ليست منزهة عن جميع جهات التركب. فلا جرم صح فى الواحد منا أن يعلم نفسه.
لا يقال : كونه
تعالى عالما ، مغايرا لكونه معلوما. فلم لا يكفى هذا القدر من التغاير فى حصول
علمه بذاته؟ لأنا نقول : كونه عالما ومعلوما : فرع عن قيام العلم به ، وقيام العلم
به : فرع عن هذه التغاير ، فيلزم وقوع الدور.
والجواب : قد دللنا على أنه تعالى عالم بشيء ما ، وكل من علم الشيء
أمكنه أن يعلم كونه عالما بذلك الشيء. ومن علم ذلك فقد علم نفسه. فثبت : أنه تعالى
عالم بنفسه: قوله : «ان العلم اضافة مخصوصة ، واضافة الشيء الى نفسه محال » قلنا : لا نسلم. بدليل : أنه يصح أن يقال : علم ذاته :
حقيقته.
النوع الثانى من المخالفين : الذين يسلمون كونه تعالى عالما بذاته المخصوصة ، لكنهم
ينكرون كونه عالما بغيره. واحتجوا عليه : بأن العلم بأحد المعلومين : مغاير للعلم
بالمعلوم الآخر ، بدليل : أنه لا يصح أن يعلم كون زيد عالما بأحد المعلومين ، مع
الشك فى كونه عالما بالمعلوم الآخر. والمعلوم غير المشكوك. فكونه عالما بأحد
المعلومين ، يوجب أن يكون مغايرا ، لكونه عالما بالمعلوم الآخر.
__________________
اذا ثبت هذا ،
فنقول : لو كان البارى تعالى عالما بالمعلومات الكثيرة ، لوجب أن يحصل فى ذاته
بحسب كل معلوم : علم على حدة. وعلى هذا التقدير يحصل فى ذاته كثرة لا نهاية لها.
وذلك محال.
الجواب : ليس العلم عبارة عن الصور المساوية للماهيات المعلومات
المنطبعة فى ذات العالم ، بل العلم عبارة عن نسب مخصوصة ، واضافات مخصوصة بين ذات
العالم وذات المعلوم. واذا كان كذلك ، فكونه عالما بالمعلومات الكثيرة ، يقتضي أن
يحصل لذاته نسب كثيرة ، واضافات كثيرة. وهذا لا يقدح فى وحدة الذات. بدليل : أن
الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة. وهكذا. الى ما لا نهاية له من
النسب ولم يقدح فى كون الوحدة وحدة ، فكذلك القول فى هذه المسألة.
النوع الثالث من المخالفين : الذين سلموا كونه تعالى عالما بالماهيات الكلية ، لكنهم
منعوا من كونه تعالى عالما بالمتغيرات ، من حيث هى متغيرة. واحتجوا عليه : بأنه
تعالى لو علم أن زيدا جالس الآن فى هذا المكان. فاذا قام زيد من ذلك المكان ، فان
بقى ذلك العلم كان جهلا ، لأن اعتقاده أنه جالس هاهنا مع أنه غير جالس هاهنا :
جهل. وان لم يبق ذلك العلم ، كان تغيرا. والتغير على الله تعالى محال.
واعلم : ان المتكلمين صاروا فريقين بسبب
هذه الشبهة.
الفريق الأول ـ وهم جمهور المشايخ من أهل السنة ومن المعتزلة ـ قالوا : ان العلم بأن الشيء
سيوجد : نفس العلم بوجوده اذا وجد. واحتجوا على قولهم : بأنا اذا علمنا : أن زيدا
سيدخل البلد غدا. فاذا استمر هذا العلم الى الغد والى أن دخل زيد البلد. فانا بهذا
العلم نعلم أن زيدا دخل الآن البلد. فعلمنا بأن العلم بأن الشيء
سيوجد ، نفس العلم
بوجوده اذا وجد. وانما يحتاج الواحد منا الى علم آخر ، لأجل طريان الغفلة على
العلم الأول. والبارى تعالى لما امتنع طريان الغفلة عليه ، لا جرم يكون علمه بأن
الشيء الفلانى سيوجد ، هو نفس علمه بوجود ذلك الشيء ، حال ما يوجد.
وأما «أبو الحسين البصرى» فقال : هذا
المذهب باطل. ويمتنع أن يقال :
العلم بأن الشيء سيوجد ، هو نفس العلم بوجوده حال ما يصير موجودا. وله أن يحتج على
ذلك بوجوه :
الحجة الأولى : ان من شرط المثلين أن يقوم كل واحد منهما مقام الآخر.
والعلم بأن الشيء سيوجد ، لا يقوم مقام العلم بأنه موجود الآن.
فان قبل وقوع المعلوم لو اعتقدنا بأنه سيقع بعد ذلك ، كان علما. ولو اعتقدنا أنه
واقع الآن كان جهلا. وأما حال وقوعه ، فانه ينقلب الأمر. فلو اعتقدنا بأنه سيقع
بعد ذلك ، وأنه الآن غير واقع ، كان جهلا. ولو اعتقدنا أنه الآن واقع ، كان علما.
فثبت : أن كل واحد منهما لا يقوم مقام الآخر. وذلك يقتضي كون هذين الاعتقادين مختلفين
فى الحقيقة. ومع هذا الاختلاف فى الماهية والحقيقة ، كيف يمكن دعوى الاتحاد؟
الحجة الثانية : ان كونه عالما بأنه سيقع ، غير مشروط بكونه واقعا فى الحال.
وكونه عالما بوقوعه مشروط بوقوعه فى الحال. والشيئان اللذان يكون أحدهما مشروطا
بشيء ، والآخر لا يكون مشروطا بذلك الشيء ، يمتنع أن يكون أحدهما نفس الآخر.
الحجة الثالثة ـ وهى التى عول عليها «أبو الحسين» ـ فقال : مجرد العلم بأن
الشيء سيقع. لا يكون علما بوقوعه اذا وقع. فان
__________________
من علم أن زيدا
سيدخل البلد غدا. ثم انه جلس فى بيت مظلم لا يميز فيه بين الليل
والنهار. وبقى مستديما لذلك العلم ، حتى جاء الغد ودخل «زيد» البلد. فههنا هذا الشخص بمجرد علمه بأن زيدا
سيدخل البلد غدا ، لا يصير عالما بأنه دخل الآن فى البلد. فثبت بهذا : أن العلم
بأن الشيء سيوجد غدا ، لا يكون نفس العلم بوجوده اذا وجد.
بلى. من علم أن
زيدا سيدخل البلد غدا ، ثم علم حصول الغد. فحينئذ يتولد من هذين العلمين علم ثالث.
وهو العلم بأن زيدا دخل البلد الآن.
الحجة الرابعة : ان العلم بالشيء صورة مطابقة لذلك الشيء ولا شك أن حقيقة
أنه سيقع بعد ذلك ـ وهو الآن غير واقع ـ مغايرة لحقيقة انه واقع فى الحال وحاصل.
واذا اختلفت المعلومات وجب اختلاف العلمين.
الحجة الخامسة : وهو أنه يمكننا أن نعلم كونه عالما بأن الشيء الفلانى سيقع
غدا ، حال ما نجهل كونه عالما بوقوعه حال وقوعه. ولما حصل العلم بأحد هذين العلمين
حال ما حصل الشك فى حصول العلم الآخر ، علمنا تغاير العلم.
واعلم : أن «أبا
الحسين البصرى» كما أبطل بهذه الدلائل قول المشايخ ، التزم وقوع التغير فى علم
الله تعالى بالجزئيات المتغيرة. فقال : «الموجب لكونه تعالى عالما بالمعلومات هو ذاته
، لكن شرط هذا الايجاب : حضور تلك المعلومات. فاذا حصل المعلوم واقعا على وجه معين
، حصل شرط كونه الذات. موجبة للعلم بوقوع ذلك الشيء
__________________
على ذلك الوجه ،
فيحصل ذلك العلم. واذا عدم وقوع ذلك المعلوم على هذا الوجه زال شرط الايجاب. ولا
جرم يزول ذلك العلم ، ويحدث علم آخر بوقوع ذلك المعلوم على الوجه الثانى».
فهذا مذهبه فى هذا
الباب. الا أنه يتوجه عليه سؤالان صعبان :
السؤال الأول : انه تعالى قبل أن خلق العالم كان عالما بأنه سيخلقه ، فاذا
خلق العالم فهل زال العلم الأول أو لم يزل؟ فان لم يزل كان عالما بأنه سيخلقه الآن
، مع أنه فى نفسه مخلوق. وذلك محال. وأما ان زال العلم الأول ، فذلك العلم الّذي
زال ، كان قديما أو حادثا؟ فان كان قديما كان هذا قولا بجواز عدم القديم. وحينئذ
يبطل دليله على حدوث الأجسام لأن مبنى ذلك على أن عدم القديم لا يجوز. وأما ان كان
ذلك العلم محدثا. فهذا العلم المحدث. هل كان مسبوقا بعلم آخر لا الى أول ، أو لم
يكن كذلك؟ فان كان الأول. كان هذا قول بحوادث لا أول لها. وهذا يبطل عليه دليل
حدوث الأجسام. وأما ان انتهت هذه العلوم الى علم محدث غير مسبوق بعلم آخر ، كان
هذا قولا بأنه تعالى ما كان فى الأزل عالما بأحوال هذه التغيرات ، فيكون هذا جهلا
مطلقا لله تعالى. وذلك باطل قطعا.
السؤال الثانى : وهو أن الفلاسفة أقاموا البرهان المطلق على امتناع وقوع
التغيرات فى ذات الله تعالى وفى صفاته. فقالوا : كل صفة يفرض ثبوتها فذات الله
تعالى من حيث هى هى ، اما أن تكون كافية فى ثبوتها ، أو كافية فى انتفائها ، أو لا
تكون كافية لا فى ثبوتها. ولا فى انتفائها. فان كانت ذاته سبحانه كافية فى ثبوتها
، وجب ثبوتها للذات وأبدا. حتى تكون تلك الصفة دائمة الثبوت بدوام ذاته. وان كانت
ذاته سبحانه وتعالى كافية فى انتفائها ، وجب انتفاؤها عن الذات أزلا وأبدا ، حتى
تكون دائمة الانتفاء بدوام
ذاته. وأما القسم
الثالث ، وهو أن يقال : ان ذاته سبحانه غير كافية فى ثبوت تلك الصفة ولا فى
انتفائها ، فعلى هذا التقدير يكون ثبوت تلك الصفة وعدمها ، موقوفين على ثبوت شيء
منفصل ، وعلى عدمه.
فنقول : ذات الله
تعالى لا تنفك عن ثبوت هذه الصفة ، وعن عدمها. وثبوت هذه الصفة وعدمها موقوفان على
ثبوت ذلك الشيء المنفصل وعدمه. والموقوف على الموقوف على الغير ، موقوف على الغير
فذات الله تعالى مفتقرة فى تحققها الى الغير. والمفتقر فى تحققه الى الغير ممكن
لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجوب لذاته ، ممكن الوجود لذاته. وذلك محال. فثبت :
أن التغير فى صفات الله تعالى محال. فهذا حاصل هذه المباحث فى هذا الباب.
وللفريق الثانى أن يقولوا : ما ذكرتم من الدليل المانع من التغير ، انما
يجرى فى الصفات الحقيقية. أما الصفات الاضافية فلا يمكن منع التغير فيها. وكيف لا
نقول هذا ، واذا وجد حادث فان الله تعالى يكون معه. فاذا فنى ذلك الحادث ، بطلت
تلك المعية؟ وهذا يقتضي وقوع التغير فى الاضافات. واذا ثبت هذا فنقول : هذه
التعلقات من باب النسب والاضافات. واذا كان الأمر كذلك ، لم يمتنع وقوع التغيرات
فيها.
النوع الرابع من المخالفين : الذين قالوا : انه تعالى فى الأزل كان عالما بحقائق الأشياء
وماهياتها ، وأما العلم بالأشخاص والأحوال ، فذلك انما يحصل عند حدوث تلك الأشخاص.
وهذا مذهب «هشام
__________________
ابن الحكم» ومذهب «أبى
الحسين البصرى» كأنه لا يتمشى الا بالتزام هذا المذهب.
واحتج «هشام بن
الحكم» على هذا المذهب بوجوه :
الأول
: لو كان تعالى
عالما فى الأزل بجميع الجزئيات التى توجد فى لا يزال ، لكان عالما بكل ما يصدر من
الناس من أفعالهم ، وعالما بما لا يصدر عنهم. وكل ما علم الله تعالى وقوعه ، كان
واجب الوقوع ، وكل ما علم الله تعالى وعدم وقوعه ، كان ممتنع الوقوع. فيلزم : أن
يقال : جميع أفعال الخلق اما واجبة الوقوع أو ممتنعة الوقوع. ولو كان الأمر كذلك ،
لم يكن لشيء من الحيوانات قدرة على الفعل.
لأن الّذي كان
معلوم الله تعالى أنه يوجد ، يكون واجب الوقوع. والّذي علم أنه لا يصدر منه ، يكون
ممتنع الوقوع. ولا قدرة البتة لا على ما يكون واجب الوقوع ، ولا على ما يكون ممتنع
الوقوع. وهذا يقتضي أن لا يكون لله تعالى قدرة البتة ، وأن لا يكون لشيء من
المخلوقات قدرة البتة ، وأن تكون التكاليف وبعثة الرسل كلها عبثا ضائعا ، وأن يكون
الوعد والوعيد والثواب والعقاب كلها عبثا وجورا. وهذا يبطل القول بالربوبية.
لأن نفى القدرة عن
الله تعالى يبطل القول بالربوبية ، ويبطل القول أيضا بالعبودية. لأن العبد اذا لم
تكن له قدرة على العبودية ، كان الأمر والنهى عبثا ، واذا كان الأمر كذلك ، وجب أن
يقال : انه تعالى كان عالما فى الأزل بذاته وبصفاته وبماهيات الأشياء وحقائقها
وصفاتها ، وأما العلم بالأشخاص وأحوالها المتغيرة فذلك لا يحصل الا عند دخولها فى
الوجود ، حتى تندفع هذه الاشكالات.
الشبهة الثانية : كل ما كان معلوما ، فهو متميز عن غيره. وكل ما له تميز
وتخصص وتعين ، فهو ثابت متحقق. وما لا يكون ثابتا ولا متعينا ولا متحققا ، وجب أن
لا يكون معلوما. وهذه الأشخاص وصفاتها وأحوالها ، كانت نفيا محضا وعدما صرفا ، قبل
دخولها فى الوجود. فوجب أن لا تكون معلومة.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : المعدوم شيء وذات. فلا جرم لم يمتنع
كونها معلومة؟
لأنا نقول : القول
بأن المعدوم شيء (هو) باطل. وبتقدير تسليمه فالثابت فى العدم انما هى الذوات
والحقائق والماهيات ، أما الذوات بنعت كونها مركبة مؤلفة موصوفة بالأعراض ، فغير
ثابتة فى العدم بالاتفاق. واذا كان الأمر كذلك ، وجب أن لا تكون هذه الأشخاص
والأحوال معلومة قبل تحققها.
الشبهة الثالثة : لو كان عالما بكل ما سيدخل فى الوجود. لكان عالما بعدد ما
يدخل فى الوجود من حركات أهل الجنة وأهل النار ، وكل ما كان عدده معلوما ، كان
متناهيا. فيلزم اثبات النهاية لثواب أهل الجنة ، ولعقاب أهل النار. وذلك محال.
فعلمنا : أنه تعالى لا يعلم هذه المتغيرات الا عند وقوعها.
والجواب عن الشبهة الثانية : انه منقوص بأن كل واحد منا يعلم والقدرة على الايقاع أصل
الوقوع. والتبع للشىء لا يكون مانعا من الأصل.
والجواب عن الشبهة الثانية : انه منقوض بأن كل واحد منا يعلم أن الشمس غدا تطلع من
مشرقها لا من مغربها. وهذا المعدوم معلوم.
والجواب عن الشبهة الثالثة : انه تعالى انما يعلم الشيء كما هو ، فان كان له عدد محصور
علمه كذلك. وان كان له عدد غير محصور ، كان علمه كذلك.
النوع الخامس من المخالفين : الذين ينكرون كونه تعالى عالما بما لا نهاية له من
المعلومات. ولهم فيه شبه :
الشبهة الأولى : انا لما بينا أنه يجب تعدد العلم بتعدد المعلومات فلو كانت
المعلومات غير متناهية ، لحصل فى ذات الله تعالى علوم غير متناهية.
ولو أن قائلا يقول
: انا لا نثبت العلم لله تعالى ، بل نثبت العالمية : كان هذا نزاعا فى العبارة.
ويلزمه : أن يثبت لله تعالى عالميات لا نهاية لها. لأنه لا يمكننا أن نعلم كونه
تعالى عالما بأحد هذين المعلومين ، حال شكنا فى كونه تعالى عالما بالمعلوم الآخر ـ
المعلوم غير المشكوك ـ
اذا ثبت هذا فنقول
: لو كان الله تعالى عالما بما لا نهاية له ، لزم أن يحصل فى ذاته علوم غير
متناهية ، أو عالميات غير متناهية. وذلك محال. لأن كل عدد يوجد ، فانه قابل
للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك ، وجب أن يكون متناهيا.
الشبهة الثانية : قالوا : كل معلوم فهو متميز عن غيره. وكل متميز عن غيره ،
فهو متناه. لأن المتميز هو الّذي ينفصل عن غيره بحده وطرفه ، فاذن كل ما كان
معلوما : فهو متناه. وما لا يكون متناهيا ، يمتنع أن يكون معلوما.
الشبهة الثالثة : مقدورات الله تعالى أقل من معلوماته. والأقل
من غيره متناه.
فمقدوراته متناهية ، ومعلوماته أضعاف مقدوراته ، وأضعاف المتناهى : متناه.
فمعلوماته : متناهية.
والجواب عن الأولى : ان علم الله تعالى. لم لا يجوز أن يقال : انه واحد ، وانما
تعلقاته غير متناهية. وهذه التعلقات نسب واضافات. ودخول اللانهاية فى النسب
والاضافات غير ممتنع. بدليل ما ذكرناه : أن الواحد نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة.
وهكذا الى ما لا نهاية له؟
والجواب عن الشبهة الثانية : ان هذه الشبهة اما أن نوردها فى كل واحد من آحاد المعلومات
، أو فى مجموعها. والأول باطل. لأن كل واحد من آحاد المعلومات متناه. والثانى
باطل. لأن هذا الكلام انما يتجه لو كان للمعلومات التى لا نهاية لها مجموع وجملة. وذلك
محال. لأن المجموع والجملة ، يشعران بالتناهى ، ووصف ما لا نهاية له بكونه مجموعا
وجملة : محال.
لا يقال : هذا الّذي ذكرتموه مما يؤكد السؤال. وذلك لأن كل ما كان
معلوما فهو شيء مشار إليه بحسب اشارة العقل ، فله خصوصية وتعين وتميز ، وكل ما كان
كذلك فهو متناه ، فأذن كل معلوم فهو متناه. وما لا يكون متناهيا لا يكون معلوما.
لأنا نقول : انه معلوم من حيث انه غير متناه. وكونه معلوما من هذا
الاعتبار ، لا ينافى كونه غير متناه.
والجواب عن الشبهة الثالثة : ان قولنا : المقدورات أقل من المعلومات. هو أن العلم يتعلق
بالواجب والممتنع والجائز. والقدرة لا تعلق لها الا بالجائزات.
النوع السادس من المخالفين : الذين ينكرون كونه تعالى عالما بجميع المعلومات واحتجوا
عليه بوجهين :
الأول : لو كان عالما بجميع المعلومات ، لكان اذا علم شيئا ، علم
كونه عالما به ، وعلم كونه تعالى عالما بكونه عالما. وهكذا فى المرتبة الثالثة
والرابعة الى ما لا نهاية له ، فيكون له بحسب كل واحد من المعلومات علوم غير
متناهية ، لأنها أمور مترتبة ، لأن المرتبة الثالثة مرتبة على الثانية ، والثانية
على الأولى. فاذا حصلت هاهنا مراتب غير متناهية ، لزم حصول أسباب ومسببات لا نهاية
لها دفعة واحدة. وذلك مما ظهر ابطاله فى مسألة اثبات العلم بواجب الوجود.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : اثبات العلم بالعالم بالشيء ، هو نفس العلم
بذلك الشيء؟
لأنا نقول : هذا
باطل من وجوه :
أحدها : ان المعلوم والعلم مما يتغايران ، فوجب أن يكون العلم
بالمعلوم مغايرا للعلم بالعلم بذلك المعلوم.
وثانيها : انه لو كان العلم بالعلم بالشيء نفس العلم بذلك الشيء. لكان
من علم شيئا ، حضر فى ذهنه العلم بالعلم ، والعلم بالعلم به. وهكذا هذه المراتب
الغير متناهية ولما علمنا بالضرورة : أنه ليس كل من علم الشيء حضر فى ذهنه هذه
المراتب الغير متناهية ، علمنا : أن العلم بالعلم بالشيء (هو) مغاير للعلم بذلك
الشيء.
وثالثها : انه يمكننا أن نعلمه عالما بذلك الشيء ، وان كنا لا نعلمه
عالما بكونه عالما بذلك الشيء. والمعلوم مغاير للمشكوك.
فثبت بهذه الوجوه
: أن العلم بالعلم بالشيء. يمتنع أن يكون نفس العلم بذلك الشيء.
الوجه الثانى : انه لو كان عالما بجميع المعلومات ، سواء كانت واقعة ، أو
ممكنة الوقوع. فاذا علم الله تعالى جوهرا فردا ، فذلك الجوهر الفرد يمكن وقوعه فى
أحياز غير متناهية على البدل ، وفى أزمنة غير متناهية على البدل ، وموصوفة من كل
نوع من أنواع الأعراض بأفراد لا نهاية لها على البدل. فهذه المراتب لا نهاية لها ،
لا مرة واحدة بل مرارا ، لا نهاية لها. وكل ذلك محال فى جوهر فرد ، وجزء لا يتجزأ.
ومعلوم : أن استحضار العلم المنفصل بهذه المراتب دفعة واحدة مما لا يقبله العقل.
والجواب عن الوجه الأول : ان علم الله تعالى واحد. الا أن مراتب تعلقاته غير متناهية
، والتعلقات من باب النسب والاضافات. ودخول ما لا نهاية له فيها غير ممتنع. كما
ضربنا فى المثال ، من الوحدة ، المشتملة على النسب والاضافات التى لا نهاية لها.
والجواب عن الوجه الثانى : أنها محض التعجب. ولا عبرة بذلك فى صفات الله تعالى. فان
كما لها وجلالها أعظم من أن يحيط به عقول البشر.
وهذا ما انتهى
إليه العقل الضعيف. وجلال الله تعالى منزه عن غايات عقول العقلاء ، ونهايات علوم
العلماء. وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة عشرة
فى
إثبات أنه تعالى مريد
وهذه المسألة مشتملة
على فصول :
الفصل الأول
فى
شرح حقيقة الإرادة
اعلم : أنه متى
صدر عنا فعل أو ترك. فقبل ذلك الفعل وذلك الترك ، يظهر فى قلوبنا حالة تقتضى ترجيح
ذلك الفعل على ذلك الترك ، أو بالعكس. والعلم بحصول تلك الحالة المقتضية للترجيح :
علم ضرورى.
ثم اختلف العقلاء
فى أن تلك الحلة المقتضية للترجيح ما هى؟ فقال قوم من محققى المعتزلة : انما هى
الداعية.
* * *
وتحقيق الكلام فى الداعى : ان الانسان قادر على الفعل وعلى الترك. فنسبة قدرته الى
طرفى الفعل والترك على السوية ، وما دامت القدرة على هذا الاستواء ، يمتنع حصول
الرجحان. لأن الاستواء والرجحان متنافيان. فاذا حصل فى القلب علم أو اعتقاد أو ظن
باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد ، حصل الرجحان بسبب ذلك. وصار المجموع الحاصل من
تلك القدرة ومن ذلك العلم أو الظن أو الاعتقاد : مؤثرا فى وقوع ذلك الفعل. وأما فى
حق البارى سبحانه فالاعتقاد والظن ممتنعان ، فلم يبق الداعى فى حق الله تعالى الا
العلم باشتمال ذلك الفعل على مصلحة راجحة.
هذا هو الكلام فى
حقيقة الداعية.
* * *
ثم قالوا : تلك
الحالة المقتضية للترجيح التى نجدها من قلوبنا ليست الا هذه الداعية.
ومن الناس من قال : الميل والإرادة حالة زائدة على هذه الداعية. واحتجوا عليه بوجهين
:
الحجة الأولى : ان الميل قد يوجد ، بدون هذه الداعية. وذلك لأن العطشان اذا
خير بين شرب قدحين متساويين من الماء فانه لا بد وأن يرجح أحدهما على الآخر من أجل
أنه لا بد وأن يحدث فى قلبه ميل الى أحد القدحين دون الثانى. وهذا الترجيح
حاصل. وليس هذا الترجيح الا عبارة عن الداعية بالتفسير الّذي ذكرناه. لأنه لما
استوى القدحان فى جميع المنافع المعلومة والمظنونة ، امتنع أن يكون ذلك الميل
الّذي هو غير مشترك فيه بينهما هو عين هذا العلم والظن ، الّذي هو مشترك فيه
بينهما.
الحجة الثانية : انا نجد من أنفسنا أنا متى علمنا أو اعتقدنا أو ظننا اشتمال
الفعل على هذه المصلحة الزائدة ، فانه يتولد عن ذلك العلم ميل ورغبة وترجيح ،
ويكون ذلك الميل كالأمر اللازم لذلك الفعل وكالأمر المتولد منه. ولذلك فان الخصم يقول : ان هذا العلم
يدعو الفاعل الى الفعل ، فجعل كون هذا العلم داعيا ، كالأمر المتولد منه. فثبت
بهذين الوجهين : أن الداعى مغاير للارادة فى حقنا.
__________________
الفصل الثانى
فى
بيان أن الله تعالى مريد
اتفقت الأمة على
اطلاق هذا اللفظ. الا أنهم اختلفوا فى معناه فذهب «حسين النجار» الى أن معناه :
أنه تعالى غير مغلوب ولا مستكره. فجعل كونه تعالى مريدا ، وصفا سلبيا. وقال «أبو
القاسم البلخى» : معنى كونه مريدا لأفعال نفسه : أنه موجد لها ، ومعنى كونه مريدا
لأفعال غيره : أنه آمر بها. وقال «أبو الحسين البصرى» : معنى كونه مريدا لأفعال
نفسه أنه دعاه الداعى الى ايجادها. ومعنى كونه مريدا لأفعال غيره : أنه دعاه
الداعى الى الحث عليها ، والترغيب فى فعلها. ولعل مذهب «أبى القاسم البلخى» هو
هذا.
ومذهبنا : أن كونه تعالى مريدا : صفة زائدة على كونه تعالى عالما ـ وهذا
مذهب جمهور البصريين من المعتزلة ـ
لنا : انا وجدنا
بعض أفعال الله تعالى متقدمة ، وبعضها متأخرة مع أن ما تقدم ، كان يجوز فى العقل
أن يتأخر ، وما تأخر كان يجوز فى العقل أن يتقدم. واذا كان كذلك ، افتقر ذلك
التقدم والتأخر ، الى مرجح ومخصص ، لامتناع حصول الرجحان لا عن مرجح. ثم نقول :
ذلك المرجح اما القدرة أو العلم أو صفة أخرى. لا جائز أن يكون هو القدرة. لأن
خاصية القدرة : الايجاد. وذلك بالنسبة الى جميع الأوقات على السوية. ولا جائز أن
يكون هو العلم. لأن العلم بالوقوع تبع للوقوع. فلو كان هو تبعا لذلك العلم ، لزم
الدور. فثبت : أنه لا بد من شيء آخر ، يكون مخصصا ومرجحا سوى القدرة والعلم. وظاهر
أن الحياة والكلام والسمع والبصر لا تصلح
لذلك. ولا بد من
اثبات صفة وراء هذه الصفات ، خاصيتها الترجيح والتخصيص. وتلك الصفة هى المسماة
بالارادة.
فان قيل : لا نسلم
أن تقدم المتأخر ، وتأخر المتقدم جائز. بيانه : ان من المحتمل أن يكون هذه الحوادث
الأرضية مستندة الى الاتصالات الفلكية ، وتلك الاتصالات لازمة من كون كل واحد منها متحركا على وجه خاص. وكون كل واحد منهما متحركا على وجه
خاص انما كان لأن ماهية كل واحد منها مخالفة لماهية الآخر. فلا جرم كان كل واحد من
تلك الماهيات ، قد استلزم نوعا معينا من الحركات.
لا يقال : هذا
مدفوع من وجهين :
الأول : ان القول بأن ذات كل واحدة منها هى الموجبة لتلك الحركة
باطل لان تلك الماهية باقية ، وتلك الحركة متغيرة ، والباقى لا يكون علة لغير
الباقى.
الثانى
: ان هذا محتمل.
ولكنا قد دللنا على حدوث العالم ، فلم اختص حدوث العالم بذلك الوقت ، ولم يحدث
قبله ولا بعده؟
لأنا نجيب عن الأول : بأنه لا يبعد أن يكون الدائم موجبا للمتغير ، على معنى ان
كل حالة متقدمة سابقة ، فانها تكون شرطا لكون ذلك الباقى علة لوجود الحالة
المتأخرة وبهذا الطريق لا يمتنع كون الدائم علة للمتغير.
وعن الثانى : ان بتقدير ثبوت القول بحدوث العالم وحدوث الزمان ، لم يكن
قبل اوّل الزمان الحادث زمان آخر ، واذا كان كذلك ، لم يكن له قبل ، واذا لم يكن
له قبل استحال أن يقال : لم لم يوجد قبله؟
__________________
سلمنا صحة التقدم
والتأخر ، ولكن لم لا يجوز أن يكون المرجح هو القدرة؟ قوله : «خاصية القدرة
الايجاد. وهذا بالنسبة الى الأوقات مما يختلف» قلنا : وكذلك خاصية الإرادة التخصيص بوقت مين ، لا بهذا
الوقت المعين. فلو افتقرت القدرة الى مرجح آخر ، لافتقرت الإرادة أيضا الى مرجح
آخر. ولزم التسلسل.
وتمام تقرير هذا السؤال : ان القدرة كما أنها صالحة للايجاد فى هذا الوقت ، بدلا عن
ذلك الوقت ، وفى ذلك الوقت ، بدلا عن هذا الوقت : فكذا الإرادة صالحة للتخصيص بذلك
الوقت ، بدلا عن هذا الوقت ، وبهذا الوقت بدلا عن ذلك الوقت. فان كانت تلك
الصلاحية فى القدرة تحوجها الى الإرادة. فهذه الصلاحية فى الإرادة تحوجها الى مخصص
آخر ، وان استغنى هاهنا عن المرجح ، فكذا هناك. فظهر أنه لا فرق بين الصورتين.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إرادة الله تعالى من شأنها تخصيص كل
حادث بالوقت الّذي حدث فيه ، وليس لها صلاحية أن تخصص احداث ما حدث فى وقت بوقت
آخر ، وعلى هذا التقدير تستغنى الإرادة عن مرجح آخر. لأنا نقول : هذا باطل من وجوه
:
الأول : ان على هذا التقدير لا يكون صانع العالم فاعلا مختارا ، بل
علة موجبة بالذات. لأنه لما كان بحال أوجب أن يكون مؤثرا فى الايجاد فى هذا الوقت
، ويمتنع عقلا أن يكون موجدا له فى وقت آخر ، لم يكن له اختيار البتة ، بل كان
موجبا بالذات.
الثانى : لو جاز هذا الكلام فى الإرادة ، فلم لا يجوز مثله فى القدرة؟
وهو أن يقال : قدرة الله لها صلاحية الايجاد فى ذلك الوقت
__________________
المعين ، وليس لها
صلاحية الايجاد فى سائر الأوقات. وعلى هذا التقدير تستغنى هذه القدرة عن الإرادة.
الثالث : ان الأوقات متساوية ، فلو جاز أن يقال : هذا الوقت المعين
له خاصية ، وإرادة الله تعالى لا تصلح لتخصيص الحادث المعين ، الا به. فلم لا يجوز
أن يقال : لكل واحد من الأوقات خاصية ، والمؤثر فى حدوث هذه الحوادث هو خواص هذه
الأوقات؟ وعلى هذا التقدير يكون المؤثر فى حدوث الحوادث هو الأوقات لا الصانع. ويلزم
منه نفى الصانع.
سلمنا : أنه لا
يجوز أن يكون المرجح هو القدرة ، فلم لا يجوز أن يكون المرجح هو العلم؟ قوله : «العلم
بالوقوع تبع للوقوع ، فلا يجوز أن يكون مؤثرا فى الوقوع» قلنا : نحن لا نقول :
المؤثر فى الوقوع هو العلم بالوقوع بل نقول : علم الله تعالى باشتمال هذا الفعل
على الاحسان الى الغير ، مع كونه عاريا عن جميع جهات القبح : سبب لرجحان الفعل على
الترك. وعلى هذا التقدير يندفع ما ذكرتم.
والجواب :
أما السؤال الأول. فجوابه : أن الزمان وان كان محدثا. لكن لنفرض أن من أول حدوث الزمان
الى هذا اليوم ، دار فلك الثوابت مائة الف مرة. وكان يجوز فى العقل أن يوجد العالم
بحيث يكون من أول حدوث الزمان الى هذا اليوم ، قد دار فلك الثوابت مائة وخمسين ألف
مرة. ويجوز أيضا بحيث يكون من أول الحدوث الى هذا اليوم ، دار فلك الثوابت خمسين
ألف مرة. فهذا هو المراد من التقدم والتأخر. واذا تلخص هذا ، ظهر الاحتياج الى
المخصص والمرجح.
وأما السؤال الثانى. فجوابه : ان المفهوم من التخصيص غير المفهوم من التكوين. واذا اختلف
المفهومان وتغاير الاعتباران ، سمينا
مفهوم مبدأ
التخصيص بالارادة. وسمينا مفهوم مبدأ الايجاد بالقدرة.
وأما
السؤال الثالث. فجوابه : انا سنقيم الدلالة على أنه تعالى خالق لجميع أفعال العباد ، واذا كان الأمر
كذلك ، بطل تعليل أفعال الله تعالى بالحسن والقبح ورعاية المصالح.
وأما الفلاسفة.
فقد احتجوا على نفى كونه تعالى مريدا بوجوه :
الشبهة الأولى : ان كل من قصد الى ايجاد شيء ، فلا بد وأن يكون تحصيل ذلك
الفعل أولى فى علمه واعتقاده من تركه. وكل من كان كذلك ، كان قبل ذلك الفعل ناقصا
، ويصير مستكملا بسبب ذلك الفعل. وهذا فى حق الله تعالى محال.
أما بيان المقدمة الأولى ـ وهى : أن كل من قصد الى شيء ، فلا بد وان يكون ذلك الفعل
أولى فى اعتقاده من تركه ـ فالدليل عليه : أنه لو لم تحصل هذه الأولوية فى اعتقاد
ذلك الفاعل ، لكان الفعل والترك بالنسبة إليه سيان. ولو كان كذلك امتنع كونه مرجحا
للفعل على الترك. لأن حصول الترجيح بدون المرجح محال.
وأما بيان المقدمة الثانية ـ وهى أن كل من كان وجود ذلك الفعل أولى به من عدمه فهو ناقص
ـ فدليله : أنه اذا فعل ذلك الفعل ، حصلت تلك الأولوية ، واذا لم يفعل لم تحصل.
فكان ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال الفعل والترك ـ وان استويا بالنسبة إليه
ـ الا أن الفعل أصلح للغير من الترك ، وهذا : الفاعل يرجح الفعل ، لا لأنه أنفع له
، بل لأنه احسان الى الغير وايصال للنفع الى الغير؟ لأنا نقول : الاحسان الى الغير
وتركه ان استويا بالنسبة إليه ، امتنع الترجيح ، وان لم يستويا ، كان الاحسان الى
الغير أولى
به. فيكون الاحسان
الى الغير سببا لاستكماله ، وتركه يصير سببا لنقصانه. فيعود المحذور المذكور.
الشبهة الثانية لهم : قالوا : لو كان الله تعالى مريدا ، لكان مريدا بإرادة
محدثة. وهذا محال فذلك محال. أما بيان الملازمة فهو أن القصد الى الايجاد يمتنع
حصوله ، الا عند حصول ذلك الايجاد ، فأما قبل حصول ذلك الايجاد. فذلك لا يكون قصدا
الى الايجاد ، بل يكون ذلك عزما على أنه سيوجد فى الوقت الفلانى.
لا يقال : لم لا
يجوز أن يكون العزم على أنه سيفعل غدا ، يكون نفس القصد الى الايجاد عند حضور الغد؟
لأنا نقول : ان من عزم على أن يفعل بكرة الغد ، ثم جلس فى بيت مظلم ، لا يميز فيه
بين الليل والنهار ، واستمر ذلك العزم فى قلبه الى أن جاء الغد. لكنه لم يعلم مجىء
الغد. فانه لا يصير قاصدا الى الفعل. ولو كان العزم على الفعل غدا ، يكون عين
القصد الى الفعل عند مجىء الغد ، لصار عند مجىء الغد قاصدا للفعل ، بل اذا كان
عازما على الفعل غدا ، ثم أحس مجىء الغد ، تولد من ذلك العزم ، ومن هذا العلم : قصد
الى هذا الفعل. فثبت : أن القصد الى احداث الفعل ، لا يتحقق الا حال حدوث الفعل.
فثبت : أنه تعالى لو كان يفعل الأفعال بالقصد والإرادة ، لكانت إرادة لا محالة
محدثة.
وانما قلنا : انه
يمتنع أن تكون ارادته محدثة ، لأنها لو كانت محدثة لافتقر فى خلق تلك الإرادة الى
إرادة اخرى ، فيلزم اما الدور ، واما التسلسل. وكل ذلك محال ، فثبت : أنه يمتنع
كونه تعالى مريدا.
لا يقال : أليس من الناس من قال : ان علم الله تعالى بالمتغيرات
متغير متجدد؟ وقال
: ان ذاته تعالى توجب العلم بذلك المعلوم عند حدوث ذلك المعلوم ، فلا جرم استغنى
حدوث ذلك العلم عن علم آخر ، فلم لا يجوز مثله فى الإرادة؟
لأنا نقول : العلم بالشيء تبع لوقوع ذلك الشيء. فاذا حدث ذلك الشيء ، أمكن أن
يقال : ذاته تعالى توجب ذلك العلم ، بشرط وقوع ذلك المعلوم. أما إرادة الوقوع
فمؤثرة فى الوقوع ومتقدمة عليه ، فيمتنع أن يقال : ان ذاته تعالى توجب إرادة
الوقوع بشرط الوقوع.
واذا لم يمكن جعل
وقوع المراد شرطا لكون ذاته موجبا لحدوث الإرادة ، لم يبق الا أن يقال : انه تعالى
أحدث تلك الإرادة على سبيل الاختيار. وحينئذ يلزم التسلسل. فظهر الفرق بين العلم
والإرادة.
الشبهة الثالثة : لو كان البارى تعالى مريدا لخلق العلم ، لكان اما ان يريد
خلق العالم فى جميع الأوقات أزلا وأبدا ، أو يريد تخصيص خلق العالم بوقت معين.
والأول يقتضي قدم العالم. واذا كان العالم قديما دائما موجودا ، امتنع القصد الى
الايجاد. لأن القصد الى ايجاد الموجود محال. وهذا القسم يفضى ثبوته الى عدمه ،
فيكون باطلا.
والثانى أيضا
باطل. لأن ذلك الوقت ما كان موجودا فى الأزل ، والا عاد التقسيم الأول. وهو أن ذلك
الوقت قد حدث بعد أن لم يكن ، فيعود التقسيم الأول فيه. وهو أنه تعالى اما أن يقال
: انه أراد خلق ذلك الوقت أزلا وأبدا ، أو أراد خلقه فى وقت معين. والأول يلزم منه
القدم ، والثانى يلزم منه اشتراط كل وقت بوقت آخر. ويلزم التسلسل. وهو محال.
الشبهة الرابعة : لو كان البارى تعالى مريدا لاحداث العالم ،
لكانت تلك الإرادة
اما أن تكون قديمة أو محدثة. والقسمان محالان ، فثبوت الإرادة فى حق الله تعالى
محال.
انما قلنا : انه
لا يجوز ان يكون مريدا بإرادة قديمة لوجهين :
الأول : ان على هذا التقدير يكون حصول الفعل فى ذلك الوقت المعين من
لوازم تلك الإرادة. وتلك الإرادة لكونها قديمة أزلية ممتنعة التغير والزوال. ولازم
اللازم لازم ، فيكون عدم وقوع ذلك الفعل فى ذلك الوقت ممتنعا. واذا كان ذلك ، كان
الصانع موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار. فاذن القول بقدم الإرادة يفضى الى نفى
الإرادة. والصفة اذا أدت الى نفى الذات ، كان القول بتلك الصفة باطلا ، فبطل القول
بكون تلك الإرادة قديمة.
الثانى
: ان بدخول ذلك
الفعل فى الوجود ، لا تبقى الإرادة متعلقة بايجاده ، لأن ايجاد الموجود محال. فلو
كان ذلك التعلق قديما ، لزم عدم القديم وهو محال.
فثبت بهذين الوجهين
: انه يمتنع كونه تعالى مريدا بإرادة قديمة.
وانما قلنا : انه
يمتنع كونه تعالى مريدا بإرادة محدثة : لما ذكرنا أنه يلزم التسلسل فى الارادات.
ولما بطل القسمان ، ثبت أن فاعلية الله تعالى غير موقوفة على الإرادة.
والجواب عن الشبهة الأولى : قوله : «المريد لا يرجح أحد الطرفين على الآخر ، الا اذا
كان أحد الطرفين أولى به فى علمه أو ظنه أو اعتقاده» قلنا : هذا مدفوع. ودليله ما
ذكرنا فى مسألة القدحين والرغيفين والطريقين.
والجواب عن الشبهة الثانية : ان إرادة ايقاع الفعل عند مجىء الغد ، هو نفس القصد لايقاع
الفعل عند مجىء الغد. والكلام فيه عين ما ذكرناه فى مسألة أن العلم بأن الشيء
سيوجد ، نفس العلم بوجوده اذا وجد.
والجواب عن الشبهة الثالثة : انه لما كان ايجاد هذا الزمان المعين ، غير موقوف على زمان
آخر ، فلم لا يجوز أن تكون إرادة احداثه ، لا تفتقر الى زمان آخر؟
والجواب عن الشبهة الرابعة : ما قدمناه فى مسألة اثبات القدرة.
الفصل الثالث
فى
شرح مذاهب الناس فى كونه تعالى مريدا
اعلم : أن المفهوم
من كونه تعالى مريدا. اما أن يكون صفة سلبية أو ثبوتية. أما القول بأنه أمر سلبى
فهذا هو المنقول عن «النجار» أنه قال : «معنى كونه تعالى مريدا : أنه غير مقهور
ولا مغلوب» وأما الذين فسروه بمعنى ثبوتى. فذلك المعنى اما أن يكون
معللا بذاته أو بمعنى.
أما الأول ـ فهو القول الثانى ل «النجار» وذلك أنه قال : انه تعالى مريد
لذاته. وأما الذين قالوا : المريدية معللة بمعنى ، فذلك المعنى اما أن يكون قديما
قائما بذات الله تعالى. وهذا هو قول اصحابنا. واما أن يكون محدثا. وعلى هذا
التقدير فهذه الإرادة المحدثة. اما أن تكون قائمة بذات الله تعالى ـ وهو قول
الكرامية ـ
__________________
أو موجودة لا فى
محل ـ وهو قول «أبى على» و «أبى هاشم» و «القاضى عبد البحار بن احمد» ـ واما أن
تكون قائمة بذات غير الله تعالى. وما رأيت أحدا اختار هذا القسم. فهذا تفصيل مذاهب
الناس فى هذه المسألة. ولما كثر خوض المتقدمين فى هذه المباحث ، لا جرم اكتفينا
فيها بالقليل من القول.
فأما قول «النجار» ان معنى كونه مريدا : «أنه غير مقهور ولا مغلوب» فهذا باطل.
لأن الجماد والنائم غير مقهور ، مع أنه ليس بمريد. وأما قول من قال : كونه مريدا
هو نفس ذاته. فهو أيضا باطل. لأنه لما دل الدليل على استناد هذا العالم الى موجود
واجب الوجود لذاته ، فقد علمنا ذاته بعد ما علمنا كونه مريدا. والمعلوم غير ما هو
غير معلوم. وأما قول من قال : ان ارادته محدثة. فهو باطل. لأنه لما ثبت أن احداث
المحدثات موقوف على الإرادة. فلو كانت الإرادة محدثة ، لافتقر احداثها الى إرادة
أخرى. ولزم التسلسل.
وأما قول «الكرامية» انه تحدث الإرادة فى ذاته. فهو أيضا باطل. لما ثبت أن ذاته
يمتنع أن تكون محلا للحوادث.
واما قول «المعتزلة»
انه تحدث الإرادة لا فى محل. فهذا أيضا باطل. ويدل عليه وجهين :
الأول : ان وجود عرض لا فى محل ، بعيد عن العقول. ولو جاز ذلك ، فلم
لا يجوز وجود سواد لا فى محل ، وبياض لا فى محل؟ وكذا القول فى سائر الأعراض.
الثانى : ان ذوات الحيوانات تصح عليها صفة المريدية ، فلو
جوزت إرادة لا فى محل ، لكانت نسبة تلك الإرادة الى ذات الله
تعالى ، كنسبتها الى سائر الذوات. فوجب أن توجب صفة المريدية لكل من يصح أن يكون
مريدا ، لعدم الاختصاص ، فيلزم أن كل ما يريده الله تعالى ، يريده كل الاحياء.
وذلك باطل.
فان قيل : ذات الله تعالى لا فى محل. وهذه الإرادة لا فى محل. فكان
اختصاص هذه الإرادة بذات الله تعالى أولى من اختصاصها بسائر الأحياء.
قلنا : كونه لا فى محل مفهوم سلبى ، فلا يجوز أن يكون ذلك علة
لاختصاص صفة المريدية بذات الله تعالى ، لأن السلب لا يكون علة للثبوت. واذا ظهر
أن هذا القيد لا يصلح أن يكون علة لهذا الاختصاص ، عاد المحذور المذكور. وبالله
التوفيق.
__________________
المسألة الرابعة عشرة
فى
كونه تعالى حيا
مذهب «أبى الحسين
البصرى» أن الحى هو الّذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر.
وقال أصحابنا :
الحياة صفة قائمة بالذات ، لأجلها لا يمتنع على الذات أن تعلم وتقدر.
وحجة أصحابنا على
قولهم : ان الذوات على قسمين : منها ما يصح عليه أن يعلم ويقدر ، ومنها ما لا يصح
ذلك عليه. وهى الجمادات. والقسمان متساويان فى الذاتية. ولو لا امتياز ما يصح عليه
أن يعلم ويقدر عما لا يصح عليه ذلك ، والا لما حصل هذا التفاوت.
قال «أبو الحسين
البصرى» : انا قد دللنا على أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، لنفس ذاته
المخصوصة ، فلم لا يجوز أن تكون صفة العالمية والقادرية فى حق الله تعالى معللة
بذاته المخصوصة؟ وهذا سؤال حسن.
والمعتمد لنا أن
نقول : قولك الحى هو الّذي لا يمتنع عليه أن يعلم ويقدر : هذا اشارة الى نفى
الامتناع والامتناع سلب. ونفى الامتناع سلب السلب ، فيكون أمرا ثبوتيا. ثم هذا الأمر الثبوتى ليس
هو نفس الذات. لأنا اذا علمنا انتهاء الممكنات الى واجب الوجود لذاته ، فقد علمنا
ذاته. وبعد ما علمنا هذا الأمر ـ أعنى قولنا لا يمتنع أن يعلم ويقدر ـ والمعلوم
مغاير لغير المعلوم ، يثبت : أن كونه تعالى حيا : صفة حقيقية قائمة بذاته. وهو
المطلوب.
__________________
المسألة الخامسة عشرة
فى
إثبات أن لله تعالى علما وقدرة
اعلم أنا لا ندعى
فى هذه المسألة أزيد من أن المفهوم من كونه تعالى عالما قادرا حيا ، ليس نفس
المفهوم من ذاته ، بل هو أمر مغاير لذاته. فان كانت «المعتزلة» تساعدنا على هذا
القدر ، فقد حصل الوفاق وزال الخلاف. واعلم : أن أكثر المتكلمين تخبطوا فى تعيين
محل النزاع فى هذه المسألة.
وتحقيق الكلام أن نقول : ان كل من علم أمرا من الأمور ، فانه لا بدّ وأن يحصل بين
العلم وبين المعلوم نسبة مخصوصة ، واضافة مخصوصة. هذه الاضافة هى التى يعبر عنها
المتكلمون بالتعلق ، فيقولون : العلم متعلق بالمعلوم. وعندنا : أن العلم عبارة عن
نفس هذا التعلق وعن نفس هذه الاضافة المخصوصة. وندعى أن هذه الاضافة والنسبة :
مغايرة لنفس الذات. فالعلم مع هذه الاضافة المخصوصة أمران ، لا أمر واحد.
وجماعة من الأصحاب
: أثبتوا أمورا ثلاثة : الذات والعلم ـ وهو صفة حقيقية قائمة بالذات ـ ثم أثبتوا
لهذه الصفة هذه النسبة وهذه الاضافة وهذا التعلق. فيكون هذا التعلق حاصلا بين تلك
الصفة وبين المعلوم.
وأما القاضى «أبو
بكر الباقلانى» فظاهر كلامه يشعر باثبات أمور أربعة : الذات والعلم ، ثم العلم
يوجب العالمية ـ هذه أمور
ثلاثة ـ ثم هاهنا
أمر آخر ، وهو أنهم
أثبتوا هذا التعلق للعالمية لا للعلم او للعلم للعالمية. وعلى هذا التقدير يكون
الحاصل هناك أمور أربعة. وأما ان أثبتوا التعلق للعالمية وللعلم ، فيكون الحاصل
هناك أمورا خمسة : الذات ، والعلم ، والعالمية ، وتعلق العلم ، وتعلق العالمية.
وأكثر من تقدمنا ما بحثوا عن هذه الفروق. فلذا بقيت مخبطة غير ملخصة .
والّذي ندعيه ونقوله : أنه لا بد من اثبات الذات. ولا بد من اثبات النسبة والاضافة
وهى المسماة بالشعور وبالعلم. وأما اثبات سائر الأمور فذاك مما لا ندعيه ولا نتعرض
له. والدليل القاطع على ثبوت هذه المغايرة : أنا اذا علمنا انتهاء الممكنات الى
موجود واجب الوجود لذاته ، لم يلزم من علمنا بهذا القدر ، علمنا بكونه تعالى عالما
قادرا ، بالمعنى الّذي ذكرناه. والمعلوم مغاير لغير المعلوم. فكان كونه تعالى
عالما قادرا ، ليس عين ذاته. ثم هذا المفهوم الزائد ليس أمرا سلبيا.
ويدل عليه وجهان :
الأول : انا نعلم بالضرورة : أن كون العالم عالما ، عبارة عن نسبة
مخصوصة بين العالم والمعلوم. وليست هذه النسبة وهذه الاضافة ، عبارة عن سلب شيء أو
عن عدم شيء آخر.
والثانى : وهو أن العلم لا يكون عبارة عن عدم أى شيء كان ، بل يكون
عبارة عن عدم الجهل. لأن الجهل ان أريد به عدم العلم ، كان العلم عبارة عن عدم
العدم ، فيكون ثابتا ، وان أريد به اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه ، لم يلزم من
عدم هذا المعنى حصول
__________________
العلم. لأن الواحد
منا قد يكون خاليا عن الجهل بالشيء بهذا التفسير ، مع أنه لا يكون عالما بالشيء.
فثبت : أن كونه تعالى عالما قادرا ، أمر زائد على ذاته. وهو المطلوب.
قال أصحاب «أبى هاشم» : نحن لا ننازع فى اثبات هذا الزائد. لا أنا نقول : هذا
الزائد صفة. والصفة لا تكون معلومة ولا مجهولة وأنتم تقولون : هذه الصفة معلومة.
فموضع الخلاف هاهنا.
الا أنا نقول : اثبات صفة غير معلومة ، مذهب اختاره «أبو هاشم» و «القاضى
عبد الجبار بن أحمد» وهو فى غاية الضعف ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : ان التصديق مسبوق بالتصور ، فلولا أنكم تصورتم هذه الصفة ،
والا لامتنع منكم أن تحكموا عليها بأنها غير معلومة. وهذا القول يؤدى ثبوته الى
نفيه. فيكون باطلا.
الحجة الثانية : انا نعلم كون الذات موصوفة ، ولو لا أنا تصورناها وعقلناها
، والا لما كان يمكننا أن نحكم بكون الذات موصوفة بها.
الحجة الثالثة : انكم تميزون بين الصفة المسماة بالعالمية ، وبين الصفة
المسماة بالقادرية ، وتفرقون أن باعتبار صفة القادرية يصح الايجاد ، وباعتبار صفة
العالمية يصح الاتقان والاحكام. ولو لا أنكم تصورتم هذه الصفات وعقلتموها ، لما
قدرتم على هذا التمييز.
واحتج منكرو الصفات بوجوه :
أما الفلاسفة : فقد عولوا على حرف واحد ، وهو أنه ثبت أن ذاته سبحانه
وتعالى واجب الوجود لذاته ، فلو اتصفت تلك الذات
بصفة ، لكانت تلك
الصفة اما أن تكون واجبة لذاتها ، أو ممكنة لذاتها.
والأول باطل بوجهين :
أحدهما : ما ثبت
أن واجب الوجود لذاته ، يمتنع أن يكون اكثر من واحد.
وثانيهما : ان الصفة مفتقرة الى الذات. والمفتقر الى الغير ممكن لذاته
، لا واجب لذاته. وأما أن كانت الصفة ممكنة لذاتها ، افتقرت الى مؤثر. ولا مؤثر
الا تلك الذات. فيلزم كون الذات البسيطة قابلة وفاعلة معا. وذلك محال. وهذه الشبهة
قد ذكرنا جوابها فيما قبل.
وأما المعتزلة : فقد تمسكوا فى نفى [مطلق]
الصفات بوجوه :
أولها : عالمية الاله صفة واجبة والواجب لا يعلل. وانما قلنا : ان
عالميته صفة واجبة والواجب لا يعلل. لأنها لو كانت جائزة لا فتقرت الى الموجد
والمخصص. وانما قلنا : ان الواجب لا يعلل ، لأن الافتقار الى العلة انما يكون لأجل
أن يترجح وجوده على عدمه ، لا لأجل تلك العلة. واذا كان الرجحان على سبيل الوجوب
حاصلا ، وجب كونه غنيا عن العلة.
الشبهة الثانية : لو كان علم الله تعالى أمرا زائدا على ذاته ، لكان الله
تعالى محتاجا فى أن يعلم الأشياء ويقدر عليها الى تلك الصفة. والحاجة على الله
تعالى : محال.
الشبهة الثالثة : المعقول من قيام العرض بالجوهر : كون العرض حاصلا فى الحيز
المعين ، تبعا لحصول محله فيه. والحال انما يتميز عن المحل ، بسبب أن الحال حاصل
فى ذلك الحيز على سبيل التبعية. والمحل حاصل فيه على سبيل الأصالة. أما فى حق الله
تعالى فذاته غير مختصة بالمكان والجهة أصلا ، فلم يحصل التفاوت بين الصفة والموصوف
من هذا الوجه. وحينئذ لم يكن جعل أحدهما موصوفا ،
والآخر صفة ، أولى
من انقلب والعكس. فيلزم كون كل واحد منهما موصوفا بالآخر وصفة له. وذلك محال. ولما
كان القول بقيام الصفة بذاته يفضى الى هذا المحال ، وجب أن يكون قيام الصفة بذاته
محالا.
الشبهة الرابعة : لو قامت الصفات القديمة بالذات القديمة ، لكانت الصفات
والذات متشاركتين فى القدم. والقدم وصف ثبوتى ، لأنه عبارة عن نفى العدم السابق.
ونفى النفى ثبوت. فاذن الذات والصفات تشتركان فى هذا الوصف الثبوتى المسمى بالقدم.
فاما أن يتميز الذات عن الصفة باعتبار آخر ، أو لا يتميز. فان تميز. فما به
المشاركة غير ما به المباينة ، فيكون كل واحد من الذات والصفات متركبا من هذين
الاعتبارين ـ أعنى ما به يشتركان وما به يتباينان ـ ثم ان كل واحد من ذينك
الاعتبارين لا بد أن يكون أيضا قديما ، لأنه جزء جزء القديم. واذا اشترك ذانك
الجزءان فى القدم ، فلا بد وأن يتباينا باعتبار آخر ، وحينئذ يتركب كل واحد من
ذينك الجزءين من جزءين آخرين. ويلزم التسلسل. وهو محال.
وأما ان قلنا :
بأن الذات والصفات بعد اشتراكهما فى القدم ، لا يتميز كل واحد منهما عن الآخر
بماهية مخصوصة ، فحينئذ تكون الذات والصفة مثلين. ولما كانت الذات إلها وجب أن
تكون الصفة إلها ، فيكون هذا قولا بتعدد الآلهة.
وأيضا اذا كانت
الذوات والصفات متماثلين ، لم يكن قيام أحدهما بالآخر أولى من قيام الآخر به ،
فتكون الذات صفة ، والصفة ذاتا ، والعلم قدره والقدرة علما. وكل ذلك محال. ولما
كان القول باثبات الصفة القديمة مفضيا الى هذا المحال ، وجب أن يكون القول به
محال.
الشبهة الخامسة : لو كان الله تعالى عالما بالعلم ، قادرا بالقدرة ، لكان
علمه وقدرته وحياته وذاته موجودات متغايرة ، فيكون هذا قولا بقدماء متغايرة. وذلك
كفر باجماع المسلمين.
الشبهة السادسة : ان الله تعالى قد كفر النصارى ، فى قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ
اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) فلا يخلو اما أن يقال : انه تعالى كفرهم ، ثنهم أثبتوا
ذواتا ثلاثة قديمة قائمة بأنفسها ، أو لأنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات متباينة.
والأول باطل. لأن
النصارى لا يثبتون ذوات ثلاثة قديمة قائمة بأنفسها. ولما لم يقولوا بذلك ، استحال
أن يكفرهم الله بسبب ذلك. ولما بطل القسم الأول ، ثبت القسم الثانى. وهو أنه تعالى
انما كفرهم لأنهم أثبتوا ذوات موصوفة بصفات متباينة. ولما كفر النصارى لأجل أنهم
أثبتوا صفات ثلاثة ، فمن أثبت الذات مع الصفات الثمانية ، فقد أثبت تسعة أشياء.
وكان كفره أعظم من كفر النصارى بثلاث مرات.
هذا مجموع شبه المعتزلة فى نفى مطلق
الصفات.
* * *
أما شبههم فى نفى
صفة
العلم خاصة. فمن
وجوه :
* * *
الشبهة الأولى : لو كان عالما بالعلم ، لكان علمه اذا تعلق بشيء يكون ذلك الشيء متعلق علمنا. ومتعلق علم
الله تعالى : من وجه واحد ، ومن طريقة واحدة. وكل علمين كذلك ، فهما مثلان : فيلزم
أن يكون علم الله وعلمنا مثلين. فيلزم من حدوث علمنا حدوث علم الله تعالى ، ومن
قدم علم الله تعالى ، قدم علمنا. ولما بطل الوجهان ، علمنا : أنه تعالى عالم لا
بالعلم.
لا يقال : هذا
لازم على نفاة الصفات فى العالمية. لأنا نقول : احترزنا عن هذا بقولنا : ان
العلمين يتعلقان بمعلوم واحد على وجه
__________________
واحد على طريقة
واحدة. وهذا غير لازم فى كونه تعالى عالما. لأن علمه تعالى يتعلق بذلك المعلوم
تعلق العالمية لا تعلق العلوم. وعلمنا لا يتعلق به تعلق العالمية بل تعلق
العلوم. فقد اختلفت الطريقة. أما اذا كان تعالى عالما بالعلم ، تعلق علمه بذلك
المعلوم ، وتعلق علمنا أيضا تعلق المعلوم ، فكان تعلق كل واحد منهما به على طريقة
واحدة ، فيلزم التماثل. فظهر الفرق.
الشبهة الثانية : لا شك أنه تعالى عالم بالمعلومات التى لا نهاية لها. فاما
أن يعلم كل تلك المعلومات بعلم واحد ، أو بعلوم متناهية ، أو بعلوم غير متناهية؟
والكل باطل. فبطل القول بكونه تعالى عالما بالعلم
انما قلنا : انه لا يجوز أن يعلم الكل بعلم واحد : من وجوه :
الأول : انه يصح أن يعلم كونه عالما بأحد المعلومين ، مع الشك فى
كونه تعالى عالما بالمعلوم الآخر. والمعلوم غير ما هو غير معلوم.
الثانى : ان العلم المتعلق بالسواد ، مخالف للعلم المتعلق بالبياض فى
الشاهد ، فلو جاز تعلق العلم الواحد فى الغائب بالمعلومات الكثيرة ، لكان ذلك
العلم قائما مقام العلوم المختلفة فى الشاهد ، واذا جاز كون الشيء الواحد قائما
مقام الأشياء المختلفة ، فلم لا يجوز قيام الصفة الواحدة مقام الصفات المختلفة ،
حتى تثبت لله تعالى صفة واحدة تكون علما وقدرة وحياة؟ بل لم لا يجوز أن تكون ذاته
قائمة مقام الذات ، ومقام جملة الصفات. وحينئذ يلزمكم نفى الصفات؟
الثالث
: انه لو جاز تعلق
العلم الواحد بالمعلومين ، لم يكن تعلقه بمعلومين أولى من تعلقه بثلاثة أو أربعة ،
فيفضى ذلك الى تعلقه بمعلومات لا نهاية لها فى الشاهد. وكل ذلك محال.
__________________
فثبت بهذه الوجوه
: أنه تعالى يمتنع كونه عالما بكل المعلومات بعلم واحد.
وانما قلنا : انه لا يجوز أن يعلم هذه المعلومات بعلوم متناهية. لأن
المتناهى اذا وزع على غير المتناهى ، لزم أن يكون المعلوم بكل علم أشياء كثيرة.
وقد بينا أنه لا يجوز أن يعلم بالعلم الواحد أكثر من معلوم واحد. وانما قلنا : انه
لا يجوز أن يعلم المعلومات التى لا نهاية لها بعلوم لا نهاية لها ، لأن وجود عدد
لا نهاية له محال. وذلك لأن كل عدد موجود. فهو قابل للزيادة والنقصان. وكل ما كان
كذلك فهو متناه ، فكل عدد موجود فهو متناه. والعدد الّذي لا نهاية له يمتنع وجوده.
ولما كان كونه تعالى عالما بالعلم ، لا بد وأن يكون على أحد هذه الأقسام وثبت أنها
بأسرها باطلة ، ثبت : أن كونه تعالى عالما بالعلم محال.
الشبهة الثالثة : لو كان عالما بالعلم ، لكان اما أن يعلم ذلك العلم بنفس ذلك العلم ، أو بعلم آخر. ولأول باطل. لأن كون الشيء
عالما بالشيء ، نسبة مخصوصة بين العالم والمعلوم. والنسبة لا تتحقق الا بين
الشيئين. فثبت : أن العلم الواحد يمتنع أن يكون علما بنفسه. والثانى باطل أيضا.
لأنه لو افتقر فى معرفة العلم الأول الى علم ثان ، لافتقر فى معرفة العلم الثانى
الى علم ثالث. ويلزم التسلسل. وهو محال.
الشبهة الرابعة : لو كان تعالى عالما بالعلم ، لكان ذا علم. ولو كان ذا علم ،
لحصل فوقه عليم. لقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ : عَلِيمٌ) وهذا محال ، فهذا محال. فوجب أن لا يكون عالما بالعلم.
__________________
وأما شبههم فى نفى
صفة القدرة. فمن وجهين :
الشبهة الأولى : ان القدرة فى الشاهد مختلفة. وهى مع اختلافها مشتركة فى أنها
لا تصلح لخلق الجسم. فهذا الحكم المشترك لا بد من تعليله بوصف مشترك. ولا مشترك
بينهما الا كونها قدرا. واذا كان كونها قدرا علة لأن لا تكون صالحة لخلق الجسم وجب
فى كل ما كان قدرة أن لا تكون صالحة لخلق الجسم. فلو كان الله تعالى قادرا بالقدرة
، لوجب أن لا يقدر على خلق الجسم ، واللازم محال فالملزوم مثله.
قالوا : هذا
الكلام لازم على أصول «الأشعرية» فانهم قالوا : العرض والجوهر مشتركان فى صحة
الرؤية. فلا بد من استناد هذا الحكم المشترك الى وصف مشترك. ولا مشترك يعقل بين
الجوهر وبين العرض الا الوجود أو الحدوث. والحدوث لا يصلح لهذه العلة ، فبقى
الوجود. والله تعالى موجود ، فوجب أن تصح رؤيته. فكذا نقول : القدرة فى الشاهد
مشتركة فى أنها غير صالحة لخلق الجسم ، وهذا الحكم المشترك لا بد من تعليله بوصف
مشترك ، والمشترك هاهنا هو كونها قدرا ، فوجب أن يكون كونها قدرا ، علة لهذا
الامتناع. فوجب أن يحصل هذا الامتناع فى كل ما كان قدرة.
الشبهة الثانية : وهى ان القدرة فى الشاهد ، مع اختلافها ، لا يصلح شيء منها
لخلق الجسم ، فلو فرضنا قدرة فى الغائب ، لكانت تلك القدرة اما أن تكون مثلا لهذه
القدرة الموجودة فى الشاهد ، أو مخالفة لها. فان كانت تلك القدرة مثلا لهذه القدرة
فى الشاهد ، ثم ان هذه القدرة لا تصلح لخلق الجسم ، فكذا تلك القدرة لا تصلح لخلق
الجسم. فان كانت تلك القدرة مخالفة لهذه القدرة ، لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد
من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. ولما كانت هذه القدرة مع ما بينا من المخالفة لا
يصلح شيء منها لخلق الجسم ، فكذلك تلك القدرة الغائبة ، وجب أن لا تصلح لخلق
الجسم.
فهذه جملة شبه
المخالفين فى هذه المسألة.
والجواب عن الشبهة الأولى : لم لا يجوز أن تكون الصفة ممكنة لذاتها واجبة لوجوب الذات؟
قوله : «يلزم كون الذات قابلة وفاعلة معا». قلنا : ولم قلتم : ان ذلك محال؟ قوله «لأن
الواحد لا يصدر عنه الا أثر واحد» قلنا : سنجيب عن شبهتكم فى هذه المسألة ان شاء
الله تعالى.
والجواب عن الشبهة الأولى للمعتزلة فى
العلم ـ وهى قولهم : عالمية
الله تعالى صفة واجبة والواجب لا يعلل ـ فنقول : الجواب عنه من وجوه :
أحدها : ان قولكم : عالمية الله تعالى واجبة : قدر مشترك بين أن تكون
عالمية الله تعالى واجبة لذاته ، وبين أن تكون عالمية الله تعالى واجبة لوجوب
اتصافه بالعلم واذا كان كذلك فبتقدير أن تكون عالمية الله تعالى لاجل وجوب اتصافه
بالعلم لم يلزم من كون عالميته واجبة بهذا التفسير ، استغناؤه عن العلم. الا أن
وجوب الشيء بالشيء ، لا يقتضي استغناؤه عنه. وان ادعيتم أصل وجوب العالمية بهذا
القدر لا يقتضي امتناع تعليل العالمية بالعلم. فان ادعيتم أصل وجوب العالمية. فهذا
القدر لا يقتضي امتناع تعليل العالمية بالعلم. وان ادعيتم أن عالمية الله واجبة
لنفس الذات ، فمسلم : أنه لو ثبت لكم هذه المقدمة ، وجب القطع بامتناع تعليل
العالمية بالعلم ، الا أن قولكم : عالمية الله تعالى واجبة لنفس الذات ، هو ادعاء
نفس المطلوب. فلا يمكن جعله مقدمة فى اثبات المطلوب. فثبت : أن هذه الشبهة مغالطة.
وثانيها : ان هذه الشبهة متناقضة. وذلك لأنكم جعلتم كون العالمية
واجبة ، علة لأن لا تكون معللة ، وكونها غير معللة أمر واجب
عندكم ، فاذا
عللتم كونها غير معللة ، بكونها واجبة ، فقد عللتم الحكم الواجب. وذلك مناقض
لكلامكم.
وثالثها : انكم تقولون : انه تعالى ممتاز عن خلقه بحالة توجب أحوالا
أربعة وهى : الموجودية والعالمية والحيية والقادرية. وهذه الأحوال الأربعة واجبة
الثبوت لله تعالى ، ثم انكم عللتموها بالحالة الخامسة. فقد بطل قولكم : ان الواجب
لا يجوز تعليله.
وأما الجواب عن الشبهة الثانية للمعتزلة
ـ وهى قولهم : لو
كان عالما بالعلم ، لاحتاج فى معرفة الأشياء الى تلك الصفة ـ فنقول : الاحتياج لو
افتقر فى حصول تلك التعلقات ـ التى هى المسماة بالشعور والعلم ـ الى شيء آخر ،
فنحن لا نقول ذلك ، بل نقول : الموجب لتلك التعلقات هو نفس الذات. وعلى هذا التقدير
، لا يلزم تحقق الحاجة. وأما على قول من أثبت أمورا ثلاثة : الذات والمعنى
والتعلقات ، فجوابه : لم لا يجوز أن تكون الذات موجبة للمعنى والمعنى موجبا
للتعلقات؟ فان أردتم بالحاجة هذا المعنى ، فلم قلتم : ان ذلك محال؟ فان النزاع ليس
الا فيه ، وان أردتم بالحاجة شيئا آخر فبينوه.
والجواب عن الشبهة الثالثة ـ وهى قولهم : حلول الشيء فى الشيء ، عبارة عن حصول الحال فى
الحيز ، تبعا لحصول محله فيه ـ فنقول : هذا التفسير باطل. ويدل عليه وجهان :
الأول : ان كون الجسم حاصلا فى الحيز ، هو المسمى بالكائنية ، وهى
صفة حالة فى الجسم قائمة به ، فلو كان الحلول عبارة عما ذكرتم ، لزم أن تكون هذه
الكائنية حاصلة فى الحيز تبعا لحصول ذلك الجسم فيه ، فيكون كون الجسم موصوفا بكونه
حاصلا فى هذا
الحيز ، مشروطا
بحصول آخر لهذا الجسم فى هذا الحيز. ثم الكلام فى ذلك الحصول كالكلام فى الأول.
فيلزم أن يكون الجسم حاصلا فى ذلك الحيز مرارا لا نهاية لها دفعة واحدة. وذلك
محال. فثبت : أن كونه حاصلا فى ذلك الحيز صفة قائمة به ، وحالة فيه. وثبت : أن ما
ذكرتم من تفسير الحلول والقيام غير حاصل فيه. فثبت : أن تفسير الحلول والقيام بما
ذكرتم باطل.
الثانى : وهو انكم لا تنكرون أن ذات الله تعالى موصوفة بالأحوال
وبالأحكام. فقد حصل كون الشيء موصوفا وصفة بدون ما ذكرتم من التفسير ، فكان ما
ذكرتموه باطلا.
واذا عرفت هذا
فنقول : الذات والصفة حقيقتان مختلفتان لذاتيهما ، فقول القائل : «ليس أحدهما أن
يكون موصوفا ، والآخر صفة : أولى من العكس» : ان كان المراد به : أنا لا نعرف ما
به حصلت تلك الأولوية. فهذا مسلم. واكن لا يلزم من عدم علمنا به ، عدمه فى نفسه ،
وان أردتم به عدم الأولوية فى نفس الأمر. فهذا غير مسلم. لأن الذات والصفة ، لما
كانتا مختلفتين فى الماهية ، فلعله حصلت هذه الأولوية لنفس تلك الماهية ، وان كنا
لا نعرف ما لأجله حصلت هذه الأولوية. فسقط هذا الكلام بالكلية.
والجواب عن شبهتهم الرابعة : انا لا نسلم أن القدم مفهوم ثبوتى. قوله : «القدم عبارة عن
نفى العدم السابق» قلنا : لا نسلم ، بل هو عبارة عن نفى كون الشيء مسبوقا بذلك العدم
، وكونه مسبوقا بالعدم أمر وجودى.
لا يقال : لو كان كونه مسبوقا بالعدم أمرا وجوديا لكان
__________________
ذلك الزائد ، اما
أن يكون قديما ، فيلزم أن تكون الذات محدثة ، والصفة قديمة وهو محال. أو يكون محدثا
فيكون مسبوقا بالعدم ، فتكون المسبوقية زائدة عليه. ولزم التسلسل. لأنا نقول : هذا
معارض من وجه آخر ، وهو أن مسبوقية وجوده بالعدم ، صفة من صفات وجوده ، ونحن ندرك
بالضرورة تفرقة بين هذه الصفة وبين نفس العدم المحض ، فوجب أن تكون هذه المسبوقية
صفة ثبوتية.
سلمنا : أن القدم
أمر ثبوتى. فلم لا يجوز أن يقال : الذات والصفة حقيقتان مختلفتان لذاتيهما الا
أنهما مشتركتان فى هذا القدم ، والأشياء المختلفة لا يبعد فى العقل اشتراكها فى
لازم واحد؟ والّذي يحقق ما ذكرناه : أن الحوادث مختلفة فى الماهيات ، ومشتركة فى
كونها حادثة ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك فى القدم؟
والجواب عن شبهتهم الخامسة : ان أصحابنا قالوا : الصفة مع الذات لا هو ولا غيره ،
واستبعد المخالفون ذلك. وهذا البحث لفظى ، فانا نقول : ان عنيتم بالغيرين أشياء
مستقلة بالذات والحقيقة ، فلا نسلم أن الذات والصفة غيران ، على هذا التفسير. وان
عنيتم بالغيرين كل شيئين سواء كانا مستقلين أو كان أحدهما صفة للآخر ، والآخر
موصوفا به. فلم قلتم : ان اثبات شيئين متغايرين قديمين بهذا التفسير باطل ، فان
النزاع ما وقع الا فيه؟
والجواب عن شبهتهم السادسة : ان الله تعالى انما كفر النصارى ، لأنهم أثبتوا صفات ثلاثة
هى فى الحقيقة ذوات. ألا ترى أنهم جوزوا انتقال أقنوم الكلمة من ذات الله الى بدن
عيسى عليهالسلام. والشيء الّذي يكون مستقلا بالانتقال من ذات الى ذات أخرى
يكون مستقلا بنفسه قائما بذاته. فهم وان سموها صفات ، الا أنهم قائلون
فى الحقيقة بكونها
ذوات. ومن أثبت كثرة فى الذوات المستقلة بأنفسها ، فلا شك فى كفره. فلم قلتم : ان
من أثبت الكثرة فى الصفات لزمه الكفر؟
وأما الشبه الأربعة التى تمسكوا بها فى
نفى علم الله :
فنقول
أما الشبهة الأولى : فالجواب عنها بوجوه
:
الأول : لم لا يجوز أن يقال : العلمان المتعلقان بمعلوم واحد على
وجه واحد وعلى طريقة واحدة ، فانهما متساويان فى هذا التعلق ، وهذا التعلق من
لوازمها. وقد ثبت أن الأشياء المختلفة فى الماهية ، لا يمتنع اشتراكها فى العقل فى
لازم واحد ، واذا كان كذلك ، لم يلزم من استواء العلمين فى هذا القدر تماثلهما؟
فان قالوا : فاذا لم يلزم من هذا القدر تماثل العلمين ، فبأى طريق تعرفون تماثل
العلمين فى الشاهد؟ فنقول : قد بينا أن هذا القدر لا يقتضي الجزم بالتماثل وأن لم
يحصل فى الشاهد الا هذا الطريق ، وجب أن لا يقطع فى الشاهد أيضا بالتماثل ، بل
يتوقف فيه. وان حصل فيه طريق آخر سوى هذا الطريق ، قطعنا به. وهذا جواب قاطع.
الثانى
: لم لا يجوز أن
يقال : العلم فى الشاهد غير متعلق بالمعلوم ، انما المتعلق بالمعلوم هو العالمية.
واذا لم يكن العلم متعلقا بالمعلوم ، بطل قولهم العلمان المتعلقان بمعلوم واحد على
وجه واحد على طريقة واحدة ، يوجب القول بكونهما متماثلين.
الثالث
: ان ما ألزموه
علينا فى العلمين ، يلزمهم فى العالميتين. فان عالمية الله تعالى وعالميتنا ، قد
تعلقنا بالمعلوم الواحد من الوجه الواحد على الطريقة الواحدة فيلزمهم أن تكون
عالمية الله تعالى مثلا لعالمية واحد منا. وتلزمهم المحالات المذكورة.
والرابع : هب أنه يلزم أن يكون علم الله تعالى مثلا لعلم الواحد منا ،
لكن لم يلزم من هذا القدر التساوى فى القدم والحدوث؟
أليس أن الوجود فى
الشاهد والغائب له حقيقتة واحدة ، ومعقول واحد ، مع أن الوجود فى الشاهد متجدد ،
وفى الغائب دائم؟ فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك فى المعلوم؟
وأما الشبهة الثانية ـ وهى قولهم : اما أن يعلم المعلومات التى لا نهاية لها بعلم واحد ، أو
بعلوم متناهية ، أو بعلوم غير متناهية ـ فنقول : هذه الشبهة بتمامها واردة عليكم
فى العالمية. وكل ما تقولونه فى العالمية ، نقوله فى العلم.
ثم نقول : لم لا
يجوز أن يعلم جميع المعلومات بعلم واحد؟ وما ذكرتموه من الوجوه فى بيان أنه لا
يجوز أن يعلم بالعلم الواحد الا معلوما واحد : فهو معارض بدليل آخر. وهو أن العلم
المتعلق بكون السواد ضد البياض مثلا ، لا بد أن يكون ذلك العلم بعينه متعلقا
بالبياض والسواد ، لأنه اذا لم يكن ذلك العلم المتعلق متعلقا بالسواد والبياض ،
فحينئذ لا يكون متعلقا بالمضادة بين السواد والبياض. بل أقصى ما فى الباب : أنه
يكون متعلقا بالمضادة. ونحن لا نلزم الكلام فى العلم المتعلق بالمضادة. وانما نلزم
الكلام فى العلم المتعلق بمضادة السواد والبياض.
لا يقال : هب أنه حصل من هذا الدليل ، أن كل معلومين يجوز أن يعلم أحدهما مع الذهول عن الآخر ، فانه يجوز أن يعلما
بعلم واحد. لأنا نقول : لما ثبت أن العلم المتعلق بمضادة السواد والبياض ، متعلق
بالسواد والبياض معا. فلا شك أن السواد يجوز أن يعلم حال الذهول عن البياض ، فلما
صار السواد والبياض معلومين بهذا العلم الواحد ، حصل أن المعلومين اللذين يجوز أن
يعلم أحدهما مع الذهول عن الآخر ، فانه لا يمتنع أن يعلما بعلم واحد. فثبت بهذا
الدليل : أنه لا يمتنع تعلق العلم الواحد بالمعلومات الكثيرة.
__________________
وأما الشبهة الثالثة ـ وهى قولهم : اما أن يعلم علمه بنفسه ، أو بعلم آخر ـ قلنا : هذا وارد
عليكم فى العالمية أيضا سواء بسواء. وأيضا : فلم لا يجوز أن يكون العلم متعلقا
بنفسه ، ثم ثانيا بذلك التعلق. فيكون هناك تعلقات مترتبة كثيرة. ولا بد لكم من
التزام مثل هذا الكلام فى العالمية.
وأما الشبهة الرابعة ـ وهى التمسك بقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) فجوابها : انها معارضة بالآيات الدالة على اثبات العلم.
وهى أربعة : قوله تعالى (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) (وَما تَحْمِلُ مِنْ
أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) ـ (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ) .
وأما الشبه التى
تمسكوا بها فى نفى قدرة الله تعالى : فنقول :
أما الجواب عن الشبهة الأولى : فهو أنه لا نزاع فى أن القدرة التى فى الشاهد ، لا تصلح
لخلق الأجسام ، ولا نزاع فى أنه لا بد من تعليل هذا الحكم. لكن لم لا يجوز تعليل
هذا الحكم بخصوصية ماهية كل واحدة من تلك القدر؟ أقصى ما فى ذلك الباب : أنه يلزم
تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة ، الا أن هذا عندكم غير ممتنع. وهذا هو
الحق. لما بينا أن الأشياء المختلفة فى الماهية لا يمتنع اشتراكها فى بعض اللوازم.
سلمنا : أنه لا بد
من تعليل هذه الأحكام المتساوية بوصف واحد
__________________
مشترك بينها ، ولا
مشترك بينها الا كونها قدرا. فلم لا يجوز أن يقال : هذه القدر مشتركة فى وصف. لأجل ذلك الوصف يمتنع خلق الجسم بها الا أن
ذلك الوصف لا تندرج فيه القدرة القديمة ، وتندرج فيه جميع هذه القدر الحادثة؟ أقصى
ما فى الباب : انا لا نعرف ذلك الوصف. ولكن السائل يكفيه مجرد الاحتمال. وأيضا :
فهذا هو عين الدليل الّذي يتمسك به أصحابنا فى جواز الرؤية. فان صح هذا الدليل ،
لزمكم القطع بجواز الرؤية على الله تعالى ، وأنتم لا تقولون به.
والجواب عن شبهتهم الثانية : لم لا يجوز أن يقال : تلك القدرة القديمة مخالفة لهذه
القدرة التى فى الشاهد؟ قوله : «ليست مخالفة تلك القدرة ، لهذه القدرة ، أعظم من
مخالفة بعضها لبعض» قلنا : هذا فى غاية الركاكة. لاحتمال أن تكون تلك القدرة
القديمة لها خصوصية ، ولا توجد تلك الخصوصية فى شيء من القدر الموجودة فى الشاهد ،
فلا جرم كانت تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام ، ولم تكن غيرها صالحة لهذا المعنى.
ومع قيام الاحتمال ، بطل ما ذكرتم.
__________________
المسألة السادسة عشرة
فى
كونه تعالى سميعا بصيرا
وهى مرتبة على فصلين
:
الفصل الأول
فى
شرح حقيقة الابصار والاسماع
أما الأبصار :
فنقول : انا اذا
نظرنا الى وجه «زيد» نظرا بالاستقصاء ، ثم غمضنا العين ، فحالة التغميض نكون
عالمين بتلك الصورة علما جليا خاليا عن الشك والشبهة ، واذا فتحنا العين مرة أخرى
ونظرنا إليه ، علمنا بالبداهة حصول تفرقة بين الحالتين. فهذه الحالة الزائدة الحاصلة
عند النظر الى ذلك المرئى ، أمر مغاير للعلم الّذي كان حاصلا حال تغميض العين.
وهذا التغاير هو الأبصار. فثبت : أن الابصار أمر مغاير للعلم.
قالت الفلاسفة : لم لا يجوز أن يقال : التفاوت راجع الى أن العين تتأثر من
المحسوس حال النظر إليه؟ والّذي يدل على حصول التأثير وجوه :
الأول : ان من نظر الى قرص الشمس نظرا شديدا بالاستقصاء ، ثم غمض
عينيه ، فانه يتخيل كأن قرص الشمس حاضر فى خياله.
ولو اراد أن يدفع
ذلك الخيال ، عجز عنه. وهذا يدل على أن الحس قد يتأثر عن المحسوس.
الثانى : ان من نظر الى روضة خضراء نظرا بالاستقصاء الشديد زمانا له
قدر ، ثم حول حدقته الى شيء آخر أبيض اللون ، فانه لا يراه أبيض اللون ، بل يرى
لونه ممزوجا من البياض والخضرة. وما ذلك الا لأن أثر الخضرة بقى فى حدقته. فلما
حول الحدقة الى الشيء الأبيض ، امتزجت الخضرة الباقية فى حدقته بذلك البياض ، فأحس
بذلك اللون على وصف الامتزاج.
الثالث : ان من نظر الى المضىء القوى ارتدت حدقته الباصرة مقهورة. وهذا يدل على أن الحس يقبل الأثر من
المحسوس.
اذا ثبت هذا فنقول
: لم لا يجوز أن يكون التفاوت الحاصل بين ما اذا نظرنا الى الشيء ، وبين ما اذا
غمضنا العين ، هو كون الحس متأثرا عن المحسوس. وعلى هذا التقدير وجب أن يمتنع
الابصار على الله تعالى ، لأن الابصار لما كان عبارة عن هذا التأثر
وهذا التأثر من صفات الأجسام. والله تعالى ليس بجسم ، وجب أن يكون الابصار
ممتنعا على الله تعالى.
أجاب المتكلمون عنه : بأن الابصار ليس معناه هذا التأثر فقط. وذلك لأنا اذا فتحنا
العين رأينا نصف كرة العالم دفعة واحدة. وحصول هذه الصورة العظيمة فى الجسم الصغير
محال. ومن المعلوم أن موضع التأثر ليس الا نقطة الناظر ، فعلمنا : أن الابصار حالة
مغايرة للعلم ، ومغايرة أيضا لتأثير الحس.
__________________
قالت الفلاسفة : هب أن الابصار حالة مغايرة لهذا التأثير. لكن لم لا يجوز أن
يقال : هذه الحالة مشروطة بحصول هذا التأثر ، ولما كان الشرط ممتنع التحقق فى حق
الله تعالى ، كان المشروط أيضا كذلك؟
أجاب المتكلمون : بأنه لما ثبت أن الابصار حالة مغايرة لهذا التأثر ، فنحن
انما نعول فى اثبات هذه الحالة لله تعالى ، على الدلائل السمعية. فان ظواهرها دالة
على كونه بصيرا. ونحن متمسكون بالظواهر ، الا اذا أقام الخصم دليلا على أن الابصار
مشروط بهذا التأثر ، ولما كان هذا الشرط محالا فى حق الله تعالى ، كان المشروط
أيضا محالا. لكن هذا اشارة الى المعارضة ، ومن ادعاها فعليه البيان.
فهذا هو الكلام فى
الابصار.
* * *
وأما الكلام فى
السماع :
فقد قالت الفلاسفة : انه اذا حصل قرع أو قلع ، حصل بسببهما تموج فى الهواء. وذلك
التموج سبب لحدوث الصوت. واذا وصل أثر ذلك التموج الى سطح الصماخ ، أحست القوة
السامعة بذلك الأثر ، وذلك الاحساس هو السماع. فالمسموع فى الحقيقة هو ذلك الأثر
الواصل الى الصماخ.
قال المتكلمون : هذا الكلام باطل ، لأن القوة السامعة ، لو كانت لا تسمع الا
ما يصل الى سطح الصماخ ، لما كان الانسان بقوته السامعة يدرك أنه سمع هذا الصوت من
هذا الجانب أو من ذلك الجانب ، لأنه اذا كان لا يحس الا بما وصل إليه ، وجب أن لا
يحس بتلك الجوانب ، التى وصل منها ذلك الأثر ، كما أن القوة اللامسة والذائقة لما
كانتا لا تدركان الا ما يصل إليهما ، لا جرم لا تدركان الجهة التى وصل منها
المحسوس إليهما.
ولما كانت القوة السامعة تميز بين جهة وجهة ، علمنا أنها تدرك الأصوات حيث وجدت
الأصوات.
فهذا هو الكلام
الملخص فى حقيقة السمع والبصر.
الفصل الثانى
فى
بيان أنه تعالى موصوف بالسمع والبصر
والدليل عليه : هو أن السمع والبصر من صفات الكمال ، وضدهما من صفات
النقصان. والقرآن وارد باثباتهما لله تعالى. قال الله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) وقال ابراهيم لأبيه : (يا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ)؟ وقال الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) واذا كانت النصوص الكثيرة واردة بذلك ، وجب اثباتهما لله
تعالى. الا أن يقيم الخصم دلالة على أن ثبوت هاتين الحالتين مشروط بشرط ممتنع
التحقق فى حق الله تعالى ، فيجب المصير الى التأويل. وتكون الدلالة اشارة الى المعارضة
، ومن ادعاها كان عليه البيان. هذا هو الّذي يعول عليه فى هذا الباب
واحتج جمهور الأصحاب : بأنه تعالى حي ، وكل حي فانه يصح أن يكون موصوفا بالسمع
والبصر ، وكل من صح أن يكون موصوفا بصفة ، وجب أن يكون موصوفا بتلك الصفة أو
بضدها. وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى. فثبت : أنه لا بد وأن يكون البارى تعالى
موصوفا بالسمع والبصر ، أو بالصمم والعمى. وهذان الوصفان من
__________________
باب النقائص
والآفات. وهى على الله تعالى محال. ولما امتنع كونه تعالى موصوفا بأضداد السمع
والبصر ، وجب كونه تعالى موصوفا بالسمع والبصر. وهو المطلوب.
واعلم : أن هذا
الدليل مبنى على مقدمات يعسر تقريرها :
أما المقدمة الأولى : فهى قوله : «كل حي يصح أن يكون موصوفا بالسمع والبصر» فنقول
: أليس كل حي يصح فى الشاهد أن يكون موصوفا بالجهل والظن والشهوة والنفرة والألم
واللذة ، ثم انه تعالى حي مع أنه لا يصح عليه شيء من ذلك؟ فعلمنا : أنه لا يلزم من
كونه حيا ، أن يصح عليه ما يصح على سائر الأحياء.
وتقرير القول فيه
: ان ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، وحياته تعالى مخالفة لحياة سائر الأحياء.
واذا كان كذلك ، لم يلزم من صحة السمع والبصر على سائر الأحياء ، صحتها على ذاته
وحياته.
وأيضا : بتقدير أن
لا تكون ذاته المخصوصة وحياته المخصوصة منافية للسمع والبصر ، لكن لم لا يجوز أن
يقال : ان ثبوتهما مشروط بحصول هذا التأثير ، ولما كان هذا الشرط ممتنع الحصول فى
حق الله تعالى ، كان المشروط أيضا كذلك؟
فهذه الاحتمالات
قائمة فى قولهم : انه تعالى يصح أن يكون موصوفا بالسمع والبصر.
أما
المقدمة الثانية ـ وهى قولهم : كل ما يصح اتصافه بصفة ، فانه لا بد وأن يكون موصوفا بتلك الصفة
أو بضدها ـ
فنقول : ان أردتم بضد الصفة عدم الصفة ،
كان المعنى أن كل ما صح اتصافه بصفة ، فاما أن يكون موصوفا بها ، واما أن لا يكون.
وهذا حق. ولكن لم
قلتم : ان عدم اتصافه بتلك الصفة محال؟ فان
هذا عين المتنازع
فيه. ولا يمكن جعله مقدمة فى اثبات المتنازع. وان أردتم بضد الصفة معنى وجوديا ،
منافيا لتلك الصفة على وزان المنافيات الحاصلة من السواد والبياض. فلم قلتم : ان
السمع والبصر ضدان بهذا المعنى؟ ولم لا يجوز أن يقال : ان العمى عبارة عن عدم
البصر عما من شأنه أن يبصر ، والصمم عبارة عن عدم السمع عما من شأنه أن يسمع؟
فأنتم فى هذا المقام محتاجون الى اثبات أن الصمم والعمى معنيان موجودان ، مضادان
للسمع والبصر.
والفلاسفة ينازعون
فيه أشد المنازعة. فانهم يقولون : تقابل البصر والعمى ، وتقابل السمع والصمم ،
تقابل العدم والملكة ، لا تقابل الضدين. وقول من قال : ليس جعل العمى عد ما للبصر
، أولى من العكس : ظاهر البطلان. لأنه ان أريد بعدم هذه الأولوية : عدمها فى
أذهاننا وعقولنا. فهذا مسلم ، الا أن هذا لا ينتج الا أن نتوقف فيه ، ولا نقطع على
أحد الجانبين. وان أريد بعدم هذه الأولوية عدمها فى نفس الأمر وفى الحقيقة. فهذا
ممنوع ولعل هذه الأولوية حاصلة فى نفس الأمر ، وان كنا لا نعرف كيفية تلك الأولوية.
أما المقدمة الثالثة ـ وهى ان بتقدير أن يكون العمى والصمم متقابلين تقابل التضاد
ـ لم قلتم : ان كل ذات تكون قابلة للضدين بهذا التفسير ، فانه لا بد أن تكون
موصوفة بأحدهما؟ ولم لا يجوز أن يقال : انه قد تكون خالية عنهما؟ فهم مطالبون باقامة
الدلالة على اثبات هذه المقدمة.
ثم انا ننقض هذه المقدمة : بأن الهواء خال عن جميع الألوان وعن جميع الطعوم ، والواحد
قد لا يكون مريدا لأفعال أهل الفسوق ولا كارها لها ، فبطلت هذه المقدمة.
__________________
أما المقدمة الرابعة ـ وهى قولهم : انه لا يمكن اتصافه تعالى والعمى والصمم ، لأن
ذلك من صفات النقص وصفات النقص على الله تعالى محال ـ انهم عولوا فى تنزيه الله
تعالى عن النقائض على الاجماع ، ثم أنهم يثبتون كون الاجماع حجة ، بظواهر الآيات
والأحاديث.
فصارت هذه الدلالة
بالآخرة سمعية. ثم انا نرى أن الظواهر الدلالة على كونه سميعا
بصيرا ، أقوى من الظواهر الدالة على أن الاجماع حجة وأكثر. واذا كان الأمر كذلك ،
فبأن نتمسك فى اثبات كونه تعالى سميعا بصيرا بهذه الظواهر القوية ، ونسقط عن
أنفسنا التزام تقرير هذه المقدمات الخفية المظلمة ، كان أولى. فهذا ما نقوله فى
هذا الباب.
واحتج المنكرون
لكونه تعالى سميعا بصيرا بوجهين :
الشبهة الأولى : لو كان الله تعالى سميعا بصيرا ، لكان سمعه وبصره ، اما أن
يكون قديما أو محدثا. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه تعالى سميعا بصيرا. انما
قلنا : انه لا يجوز أن يكون قديما ، لأن العالم كان معدوما فى الأزل. ورؤية
المعدوم وسمع المعدوم محال. وان التزم جاهل أن يكون المعدوم مرئيا ومسموعا ، فنقول
: انه تعالى يرى العالم وقت عدمه معدوما ، اذ لو رآه موجودا ، لكان ذلك غلطا
وجهلا. وهو على الله تعالى محال. ثم اذا وجد العالم فلا بد وأن يراه موجودا ، وإلا
عاد حديث الغلط. وعلى هذا التقدير ، يزلم التبديل والتغير وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون سمعه وبصره محدثا ، لأنه
لو كان كذلك لصار محلا للحوادث. وهو محال.
__________________
الشبهة الثانية ـ السمع والبصر لا يحصلان الا مع تأثير الحاسة. وذلك من صفات
الأجسام. وهو على الله تعالى محال.
والجواب عن الشبهة الأولى : ان السمع والبصر صفتان مستعدتان لادراك المسموعات والمبصرات
عند وجودها. فالتغير يقع فى المسموع والمبصر لا فى السمع والبصر.
ولقائل أن يقول : أليس أن كون السمع والبصر مدركين للمسموع والمبصر ، موقوف
على حضور المبصر والمسموع؟ وهذا الادراك الّذي هو موقوف على حضور المسموع والمبصر
، مغاير لتلك الصفة التى هى غير موقوفة على حضور المسموع والمبصر ، فيلزمكم أن
يكون كون الله تعالى مدركا للمسموعات والمبصرات ، صفة متجددة.
والجواب عن الشبهة الثانية : انكم ما ذكرتم دليلا على أن الابصار والسماع مشروطان بحصول
تأثير الحاسة ، بل نجد فى الشاهد أن الابصار والسماع لا يحصلان الا عند هذا
التأثير ، ولكن مجرد الاقتران لا يدل على الاشتراط. بدليل : أن الحياة والقدرة لا
تحصلان الا عند المزاج ، ثم انا نثبتهما فى حق الله تعالى مع القطع بكونه تعالى
منزها عن الجسمية والمزاج ، فعلمنا : أن مجرد المقارنة لا تدل على الاشتراط.
المسألة السّابعة عشرة
فى
كونه تعالى متكلما
والكلام فى هذه
المسألة مرتب على فصلين :
الفصل الأول
فى
حقيقة الكلام
اعلم : أن الانسان اذا أراد أن يقول : اسقني الماء. فانه قبل أن
يتلفظ بهذا اللفظ ، يجد فى نفسه طلبا واقتضاء لذلك الفعل. وماهية ذلك الطلب مغايرة
لذلك اللفظ.
والّذي يدل عليه
وجوه :
الأول : ان ماهية ذلك الطلب لا تتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة. والألفاظ
الدالة على هذا المعنى تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
الثانى : ان جميع العقلاء يعلمون بالضرورة أن قول القائل «افعل» دليل
على ذلك الطلب القائم بالقلب. ولا شك أن الدليل مغاير للمدلول.
الثالث : ان جميع العقلاء يعلمون بالضرورة. أن قول القائل «افعل» :
لا يكون طلبا وأمرا ، الا عند اصطلاح الناس على هذا
__________________
الموضوع. وأما كون
ذلك المعنى القائم بالقلب طلبا ، فانه أمر ذاتى حقيقى لا يحتاج فيه الى الوضع
والاصطلاح.
الرابع : وهو أنهم قالوا : ان قولنا : ضرب يضرب : اخبار. وقولنا :
اضرب لا تضرب: أمر ونهى. ولو أن الواضعين قلبوا الأمر ، وقالوا : ان قولنا ضرب يضرب
: أمر ونهى. وقولنا اضرب لا تضرب : اخبار. لكان ذلك ممكنا جائزا. اما لو قالوا :
حقيقة الطلب يمكن أن تتقلب خبرا ، وحقيقة الخبر يمكن أن تنقلب طلبا ، لكان ذلك
محالا. فهذه الوجوه الظاهرة دالة على أن حقيقة الطلب وحقيقة الخبر : أمر مغاير
لهذه الألفاظ وهذه العبارات ، بل هذه الألفاظ وهذه العبارات ، دالة عليها معرفة
لها.
اذا عرفت هذا ،
فلنبحث عن ماهية هذا الطلب ، وماهية الحكم الذهنى الّذي يسمى بالخبر. فنقول : هذا الطلب اما أن يكون هو الإرادة ، واما أن يكون معنى
مغايرا للارادة. والأول باطل ، فتعين الثانى. وهو المطلوب.
وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون عبارة
عن الإرادة لوجوه :
الحجة الأولى : انه لا نزاع فى أنه تعالى أمر بايمان من يعلم أنه لا يؤمن ،
ويمتنع أن يقال : انه يريد الايمان منه ، لأنه تعالى عالم الغيب. فان خلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وكل ما كان ممتنع الوقوع ، لا
يكون مراد الوقوع. فلما تحقق الأمر والطلب ، مع عدم الإرادة علمنا : أن ماهية هذا
الطلب مغايرة لماهية الإرادة. وهذه النكتة هى النكتة القوية فى اثبات هذا المطلوب.
الحجة الثانية : انه قد يوجد الأمر بدون الإرادة ، وقد توجد الإرادة بدون
الأمر. أما أنه قد يوجد الأمر بدون الإرادة ، ففى صور :
__________________
احداها : ان السلطان اذا أمر «زيدا» أن يأمر عموا بشيء ، فقد يكون «زيد»
كارها لصدور ذلك الفعل من «عمرو» الا أنه يأمره لأجله أن السلطان أمره بذلك. فههنا
الأمر حاصل ، والإرادة غير حاصلة.
ثانيها : ما ذكره أصحابنا ـ رحمهمالله ـ من أن الرجل اذا ضرب عبده ، فشكى العبد ذلك الى السلطان
، فقال السلطان لم ضربت عبدك؟ فقال : انه لا يطيعنى ، ثم لأجل هذا العذر قال للعبد
: افعل كذا وكذا. فالأمر قد حصل هاهنا. مع أنه لا يريد اقدامه على ذلك الفعل ،
لأنه لو أقدم عليه لما تمهد عذره عند السلطان.
وثالثها : انه تعالى لما أخبر عن أبى جهل وأبى لهب أنهما يموتان على
الكفر. والنبيعليهالسلام ـ ما كان يريد الايمان منهما لأن من لوازم صدور الايمان
منهما ، دخول الكذب فى الكلام الله تعالى. ومريد الشيء مريد لما هو من لوازمه ومن
ضروراته. فثبت : أنه عليهالسلام ما كان يريد الايمان منهما ، وكان صلىاللهعليهوسلم يأمرهما بالايمان ، فعلمنا : أن الأمر قد يحصل بدون
الإرادة. وأما أن الإرادة قد تحصل بدون الأمر فظاهر. فان الانسان قد يصرح بذلك.
ويقول: أريد منك أن تفعل هذا. الا أنى لا آمرك به.
فثبت بهذه الوجوه
: أن هذا الطلب القائم بالنفس والاقتضاء الموجود فى القلب : أمر مغاير للارادة.
وأما الخبر الذهنى : فنقول : لا شك أن قولنا باللسان «قام زيد» و «ضرب عمرو» يدل على
حكم ذهنى ، واسناد عقلى. وهذا الحكم الذهنى والاسناد العقلى : ظاهر أنه ليس من جنس
القدرة والإرادة ، انما الّذي يقع فيه الاشتباه أن يقال : ان هذا الحكم الذهنى هو
الاعتقاد أو العلم. فاذا بينا بالبرهان أنه ليس الأمر كذلك ، ظهر أن
الخبر القائم
بالنفس ، معنى مغاير للعلوم والاعتقادات ، ومغاير للقدر والارادات. وذلك هو المراد
من الخبر القائم بالنفس.
وانما قلنا : ان
هذا الحكم الذهنى ليس من جنس العلوم والاعتقادات : وذلك لأنى حال ما أكون عالما
بأن العالم ليس بتقديم ، يمكننى أن أقول فى الذهن : العالم قديم. وذلك لأن الذهن
كما يمكنه تركيب القضايا الصادقة ، فكذلك يمكنه تركيب القضايا الكاذبة. والقضايا
الكاذبة الذهنية يكون ذلك الحكم الكاذب فيها حاصلا فى الذهن ، والعلم بها
والاعتقاد فيها غير حاصل. فههنا الكلام فى القضايا الكاذبة التى يكون كذبها معلوما
، حصل الحكم الذهنى ، ولم يحصل العلم والاعتقاد. وهذا يدل قطعا : على أن الحكم الذهنى
، مغاير للعلم والاعتقاد.
فان قيل : هذا الحكم الذهنى عبارة عن
فرض يفرضه الذهن ، وتقدير يقدره.
قلنا : هب أن الأمر على ما قلتم ، الا
أن هذا الفرض وهذا التقدير ، ليس من باب العلوم والاعتقادات ، ولا من باب القدر
والارادات ، فكان معنى مغاير لها. وهو المطلوب. وذلك لا يختلف بأن سميتموه فرضنا
وتقديرا ، أو لا تسمونه بذلك. فثبت بما ذكرنا : أن الطلب الذهنى مغاير للارادة ،
وأن الحكم الذهنى مغاير للعلم والاعتقاد.
ومن أنصف : علم أن هذا التقدير والتلخيص لم يتيسر لأحد ممن تقدمنا.
الفصل الثانى
فى
اثبات كونه تعالى متكلما
اعلم : أن الأمة متفقة على اطلاق لفظ المتكلم على الله تعالى ، الا
أن هذا الاتفاق ليس الا فى اللفظ. وأما المعنى فغير متفق عليه.
أما المعتزلة : فقالوا : ان الانسان لا يمكنه أن يعيش وحده ، بل ما لم
يشتغل كل واحد باعانة الآخر ، لم يحصل لكل واحد منهم مقصوده بالتمام ، وما لم يعرف
كل أحد ما فى قلب الآخر من جهات الحاجات ، لا يمكنه الاشتغال باعانته. فاحتاج
الانسان الى وضع طريق يعرف به غيره ما فى قلبه ، من فنون الحاجات. فاصطلحوا على
جعل هذه الأصوات المقطعة بهذه التقطيعات المخصوصة ، معرفة لما فى قلوبهم من
الأحوال. وقد كان يمكنهم وضع طريق آخر سوى هذا الطريق من الاشارة والايماء وتصفيق
اليد والكتابة. الا أن هذا الطريق كان أسهل وأيسر.
اذا عرفت هذا
فنقول : انه تعالى اذا أراد شيئا أو كره شيئا ، خلق هذه الأصوات المخصوصة فى جسم
من الأجسام ، لتدل هذه الأصوات على كونه تعالى مريدا لذلك الشيء المعين ، أو كارها
له ، أو كونه حاكما به بالنفى أو بالاثبات. وهذا هو المراد من كونه تعالى متكلما.
وقد نازعهم أصحابنا فيه : وقالوا : انه يمتنع أن يكون متكلما بكلام قائم بالغير ، كما
أنه يمتنع أن يكون متحركا بحركة قائمة بالغير ، وساكنا بسكون قائم بالغير. وعندى :
أن هذه المنازعة ضعيفة. لأن هذه المنازعة ، اما أن تكون فى المعنى ، أو فى اللفظ. أما
المعنى:
فهنا شيئان :
أحدهما : أنه تعالى قادر على خلق هذه الأصوات المقطعة بالتقطيعات
المخصوصة فى جسم جمادى أو حيوانى وهذا أمر لا يمكن النزاع فيه. لأن خلق هذه الأصوات والحروف
فى الجسم الجمادى أو الحيوانى ممكن ، والله تعالى قادر على كل الممكنات.
__________________
والثانى : ان الله تعالى جعل تلك الأصوات المخصوصة ، معرفة لكونه
تعالى مريدا لبعض الأشياء وكارها لبعضها. وهذا أيضا غير ممتنع. واذا سلم هذان
المقامان عن الطعن ، فقد سلمنا لهم صحة كونه تعالى متكلما بالمعنى الّذي أرادوه.
وأما المنازعة فى اللفظ : فهو أن من فعل هذه الأصوات المخصوصة ـ وهى الحروف المركبة فى
جسم ـ لغرض أن يعرف غيره ما يريده أو يكرهه ، فهل يسمى متكلما فى اللغة أم لا؟
ومعلوم : أن هذا البحث بحث لغوى محض ، وليس للمعنى به تعلق البتة.
فثبت بما ذكرنا : أن كونه تعالى متكلما بالمعنى الّذي يقوله «المعتزلة» مما
نقول به ونعترف به ولا ننكره بوجه من الوجوه. انما الخلاف بيننا وبينهم فى أنا
نثبت أمرا آخر ، وراء ذلك. وهم ينكرونه. وسنذكر ، أن ذلك الشيء ما هو؟ وأما «الكرامية»
فهم يقولون : انه تعالى يخلق الأصوات والحروف فى ذاته. وهذا يرجع الى أنه تعالى هل
يجوز أن يكون محلا للحوادث أم لا؟ وأما أصحابنا. فقد قالوا : ثبت أن الكلام القائم
بالنفس معنى مغاير للقدر والارادات والعلوم والاعتقادات. وندعى : أن البارى تعالى
موصوف بهذا المعنى ، وندعى : أن هذا المعنى قديم. وندعى : أنه معنى واحد ، وهو مع
كونه واحدا ، أمر ونهى وخبر واستخبار ونداء.
والمعتزلة
والكرامية ينازعون أصحابنا فى كل واحد من هذه المواضع الأربعة. فأولا : ينكرون
اثبات معنى مغاير للاعتقادات والارادات وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه موصوفا به ،
وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه قديما. وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه واحدا. فهذا
تلخيص محل النزاع فى هذا الباب.
أما المقام الأول : وهو اثبات أن كلام النفس أمر مغاير للارادات والاعتقادات.
فقد تقدم تقريره على أحسن الوجوه.
وأما المقام الثانى : وهو أن البارى تعالى موصوف بكلام النفس. فالذى يدل عليه : ما
ثبت عندنا بالتواتر الظاهر من جميع الأنبياء والرسل عليهمالسلام : أنه تعالى أمر عباده بكذا ونهاهم عن كذا وأخبرهم بكذا.
ولما ثبت بالمعجزات صدق الأنبياء والرسل عليهمالسلام ، وجب القطع بكونه تعالى آمرا وناهيا ومخبرا.
واذا ثبت هذا
فنقول : هذا الأمر والنهى والخبر ، اما أن يكون من باب الألفاظ والعبارات ، واما
أن يكون من باب المعانى والحقائق. فان كان الأول ، فتلك العبارات والألفاظ لا بد
وأن تكون دالة على المعانى والمدلولات. فمدلول هذه العبارات فى حق الله تعالى اما
أن يكون هو الارادات والاعتقادات ، واما أن يكون معنى مغايرا لها. لا جائز أن تكون
تلك المعانى هى الارادات والاعتقادات. لأنا بينا أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة.
والخبر قد يوجد بدون الاعتقادات.
فثبت : أن مدلول
هذه العبارات فى حق الله تعالى : معنى وراء الاعتقادات والارادات. فثبت : أنه
تعالى موصوف بمعنى حقيقى. هو مدلول قوله : «افعل» وهو مغاير لارادته ، وانه تعالى
موصوف بمعنى حقيقى ، هو مدلول قوله «الحمد لله» وهو مغاير لعلمه. ونحن نسمى ذلك
المعنى بالأمر الحقيقى والخبر الحقيقى. وهو المطلوب.
فان قيل : كيف يمكنكم أن تستدلوا بقول الأنبياء والرسل عليهمالسلام على كونه تعالى متكلما ، مع أن نبوة الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لا يمكن اثباتها الا بعد العلم بكونه تعالى متكلما. قلنا
: لا نسلم أن العلم بصحة نبوة الأنبياء موقوف على العلم بكونه تعالى متكلما. وذلك
لأنه
__________________
لما ظهرت المعجزات
على وفق دعاويهم ، ثبت كونهم صادقين ، سواء علمنا كونه تعالى متكلما أو لم نعلم
ذلك.
وأما المقام الثالث ـ وهو أنا ندعى ان هذه الصفة قديمة ـ فنقول : لو كانت محدثة ،
لكانت اما قائمة به أو بغيره ، أولا فى محل. فان كانت قائمة به كان الله تعالى
محلا للحوادث. وهو محال. وان كانت قائمة بغيره ، فهو أيضا محال [وان لم تكن قائمة
بشيء ، أو كانت قائمة. بغيره ، أو كانت موجودة لا فى محل. فهو محال] لأنا بينا : أن هذا الكلام صفة الله تعالى ونعته. ومن
المحال أن تحصل صفة الشيء ونعته ، لا فيه بل فى غيره. والّذي يقوله المعتزلة من
أنه يجوز أن يكون كلامه قائما بغيره ، فليس من هذا الباب. وذلك لأنهم فسروا الكلام
القائم بغيره بأنه يخلق أصواتا وحروفا دالة بالوضع والاصطلاح ، على كونه تعالى
مريدا لبعض الأشياء وكارها لبعضها. وهذا غير ممتنع البتة.
وأما نحن فى هذا
المقام فقد بينا : أنه لو خلق ألفاظا دالة على الطلب وألفاظا دالة على الحكم
والاسناد ، فلا بد من مدلولات لتلك الألفاظ ومفهومات. وبينا : أن الألفاظ الدالة
على الطلب لا يمكن أن يكون مدلولها الإرادة ، والألفاظ الدالة على الخبر لا يمكن
أن يكون مدلولها العلم ، فلا بد من صفات أخرى قائمة بذات الله تعالى ، تكون تلك
الصفات مدلولة الألفاظ الدالة على الطلب ، والألفاظ الدالة على الخبر ، وتلك
المدلولات يمتنع كونها مباينة عن ذات الله تعالى ، بل يجب كونها قائمة بذات الله
تعالى.
فالذى يقوله
المعتزلة من أنه يجوز أن يكون الحى متكلما بكلام قائم بالغير : حق وصدق. والّذي
يقوله أصحابنا من أنه يمتنع أن يكون
__________________
الحى متكلما بكلام
قائم بالغير : حق وصدق. الا أن الكلام الّذي يشير إليه المعتزلة له معنى ، والكلام
الّذي يشير إليه أصحابنا له معنى آخر ، والفريقان لما لم يشتغلوا بتلخيص محل
النزاع ، لا جرم خفيت هذه المباحث والمطالب.
وأما المقام الرابع : وهو أن كلام الله تعالى واحد ، ومع كونه واحدا ، فهو أمر
ونهى وخبر. فتحقيق الكلام فيه : يرجع الى حرف واحد ، وهو أن الكلام كله خبر ، لأن
الأمر عبارة عن تعريف الغير أنه لو فعله ، لصار مستحقا للمدح ، ولو تركه لصار
مستحقا للذم. وكذا القول فى النهى. واذا كان المرجع بالكل الى شيء واحد ، وهو
الخبر ، صح قولنا : ان كلام الله تعالى واحد. فهذا مجموع ما تلخص فى هذا الباب.
* * *
واحتج القائلون بحدوث كلام الله تعالى
بالمنقول والمعقول.
أما الشبه النقلية : فمن وجوه :
الشبهة الأولى : ان القرآن ذكر. وكل ذكر : محدث. فالقرآن محدث. وانما قلنا :
ان القرآن ذكر ، لقوله تعالى : (ص. وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) [ص ١ ـ ٢] وقوله
تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء ٥٠]
وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٤] وأما أن كل ذكر محدث ، ففى سورة الأنبياء : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء ٢] وفى
سورة الشعراء : (وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) [الشعراء ٥].
الشبهة الثانية : تمسكوا بقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ : أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [النحل ٤٠] وجه
الاستدلال به من ثلاثة أوجه :
الأول : ان قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) جملة مركبة من شرط وجزاء. والشرط هو قوله : (إِذا أَرَدْناهُ) والجزاء هو قوله : (كُنْ) والجزاء لا بد وأن يكون متأخرا عن الشرط. فوجب أن يكون قول
الله تعالى ، متأخرا عن ارادته. والمتأخر عن الغير محدث ، فوجب أن يكون قول الله
محدثا.
والثانى : وهو ان الفاء فى قوله : (فَيَكُونُ) فاء التعقيب. وهذا يقتضي أن يكون المكون حاصلا عقيب قوله
من غير فصل ولا تراخ ، فيلزم أن يكون قوله : (كُنْ) متقدما على المكون من غير فصل. والمقدم على المحدث بزمان
واحد ، يجب أن يكون محدثا ، فيلزم أن يكون قوله (كُنْ) محدثا.
الثالث : ان الآية صريحة فى أن قول الله تعالى : (كُنْ) كلمة مركبة من الكاف والنون. وهما حرفان متعاقبان. فتكون
هذه الكلمة محدثة ، فيلزم أن يكون قول الله محدثا.
الشبهة الثالثة : قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة ٣٠] فكلمة
(إِذْ) ظرف زمان وهذا يدل على أن قول الله تعالى مختص بذلك الوقت.
وكل ما كان وجوده مختصا بوقت معين ، كان محدثا ، فيلزم أن يكون قوله الله تعالى
محدثا.
الشبهة الرابعة : انه تعالى وصف القرآن بقوله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود ٢] وقال أيضا
: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف ٢٠] وهذا
يدل على أن القرآن مركب من السور والآيات والحروف والعبارات ، ويدل على أن كلام
الله تعالى تارة يكون عربيا وتارة يكون عبريا. وكل ذلك يدل على أنه محدث مخلوق.
الشبهة الخامسة : ان كلام الله تعالى مسموع ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ
اللهِ) [التوبة ٦] والّذي
يسمعه ليس الا هذه الحروف والأصوات. ولا شك أن هذه الحروف والأصوات محدثة ، فيلزم
القطع بأن كلام الله تعالى محدث.
الشبهة السادسة : أجمعت الأمة على أن القرآن واحد ، وأجمعوا على أن القرآن
معجزة لمحمد عليهالسلام. والدليل العقلى : دل على أن المعجزات يمتنع أن تكون قديمة
، بل يجب أن تكون محدثة. والا لكانت المعجزة سابقة على الدعوى ، وحينئذ لا يكون له
اختصاص بالدعوى ، فلا يكون دليلا على صدق الدعوى. واذا ثبت أن القرآن معجز وثبت أن
المعجز محدث ، ثبت أن القرآن محدث واذا ثبت أن القرآن قول واحد ، ثبت أن كل ما كان
قرآنا فهو محدث.
الشبهة السابعة : ان القرآن موصوف بكونه تنزيلا ومنزلا. وذلك يقتضي كونه
محدثا.
الشبهة
الثامنة : صح فى الأخبار أنه
عليهالسلام كان يقول : «يا رب القرآن العظيم ، ويا رب طه ويسن» وكل ما
كان مربوبا فهو محدث مخلوق.
فهذا جملة الكلام
فى الشبه النقلية.
* * *
وأما الشبه
العقلية :
فمن وجوه :
الشبهة الأولى : ان الأمر سواء قلنا بأنه عبارة عن الحروف والأصوات ، أو
قلنا : انه معنى قائم بالنفس ، فانه يمتنع أن يكون قديما. وذلك لأنه ما كان فى
الأزل مأمورا ولا منهيا ، فلو حصل الأمر والنهى من غير حضور المأمور والمنهى ، كان
هذا سفها وجنونا. والدليل عليه : ان الواحد منا لو جلس فى بيته وحده ، ويقول : يا
زيد
قم ، ويا عمرو
اجلس ، من غير أن يكون هناك أحد ، قضى كل عاقل بكونه مجنونا. وما كان كذلك كيف
يعقل اثباته فى حق الله تعالى؟
وكيف يحسن فى
العقل أن يقول : (يا مُوسى إِنِّي
أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه ١٢] مع أنه لم
يكن هناك موسى ، ولا أحد. وأيضا : لو كان تعالى مخبرا فى الأزل عن كيفيات الأشياء
، لكان ذلك الخبر اما أن يكون المقصود منه اخبار نفسه ـ وهو عبث ـ أو أخبار غيره ،
أو لا يكون المقصود منه اخبار نفسه ولا اخبار غيره. أما اخبار نفسه فهو عبث. وأما
اخبار غيره مع أنه ليس هناك غيره فهو جنون. وأما أن لا يكون المقصود منه ، لا هذا
ولا ذلك ، فهو محض العبث والسفه.
لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : ان ذلك الأمر الأزلى كان أمرا فى
الأزل للأشخاص الذين سيوجدون فى لا يزال ، كما أنه تعالى كان قادرا فى الأزل على
أن يوجد الخلق فى لا يزال؟
وأيضا : أليس أن النبي
صلىاللهعليهوسلم كان يأمر وينهى حال حياته كل من سيوجد بعده الى قيام
القيامة؟ فثبت : أن تقدم الأمر على المأمور ، غير ممتنع.
لأنا نقول : الأمر عبارة عن الطلب. وتحقق وجود الطلب مع أنه ليس هناك من
يطلب منه شيء : محال فى العقول. بل العزم على الطلب قد يتقدم على الطلب. مثل أن
الواحد منا اذا علم أنه سيوجد له ولد ، فانه فى الحال يعزم على أنه اذا وجد له ذلك
الولد ، فبعد وجوده ويطلب منه تحصيل العلم والأدب. فأما أن يقال : انه قبل وجود
الولد ، يطلب منه تحصيل العلم والأدب ، فهذا البتة غير معقول.
وأما أن قوله بأن
النبي عليهالسلام كان يأمر حال حياته وينهى كل من يوجد بعده الى قيام
القيامة.
فنقول : هذه
مغالطة. وذلك لأن النبي صلىاللهعليهوسلم [ما كان له أمر
ونهى على الخلق ، بل هو عليهالسلام] كان يخبرنا : أن أولئك الذين سيوجدون بعدى يحدث الله عليهم حال وجودهم
وكمال عقلهم ، أنواعا من الأمر والنهى. وذلك الاخبار انما حسن من الرسول عليهالسلام لأنه حضر هناك من يسمع ذلك الخبر ، ويبلغه الى الذين
سيوجدون بعد ذلك. أما فى الأزل فليس هناك أحد البتة يسمع ذلك الخبر ، ويبلغه الى
الذين سيوجدون بعد ذلك. فظهر أن هذا المثال مغالطه محضة.
الشبهة الثانية : أنه سبحانه وتعالى أخبر بلفظ الماضى فى مواضع كثيرة من
القرآن. كقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً) [نوح ١] و (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ) [القدر ١] و (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة ٦] فلو
كان هذا الاخبار قديما أزليا ، لكان قد أخبر فى الأزل عن شيء مضى قبله. وهذا يقتضي
أن يكون الأزل مسبوقا بغيره ، وأن يكون كلام الله تعالى كذبا ، ولما كان كل واحد
منهما محالا ، علمنا : أن هذا الاخبار يمتنع كونه أزليا.
الشبهة الثالثة : ان كلام الله تعالى لو كان قديما أزليا ، لكان باقيا أبديا.
لأن ما ثبت قدمه يمتنع عدمه ، فيكون قوله تعالى ل «زيد» : «صل» باقيا ، بعد أن صلى
زيد صلاة الصبح ، وبعد أن مات ، وبعد أن قامت القيامة. وهكذا يكون باقيا أبدا
الآباد ودهر الداهرين ، ومعلوم أن ذلك على خلاف المعقول ، فانه تعالى اذا أمر عبده
بفعل من الأفعال فاذا أتى ذلك العبد بذلك الفعل ، لم يبق ذلك الأمر متوجها عليه.
واذا ثبت أن ذلك الأمر قد زال ، ثبت أنه كان محدثا لا قديما.
__________________
الشبهة الرابعة : أجمعت الأمة على أن النسخ حق ، والنسخ عبارة اما عن ارتفاع
الحكم بعد ثبوته ، واما عند انتهائه. وأيا ما كان ، فهو يقتضي زوال ذلك الأمر وذلك
الخطاب بعد ثبوته. وكل ما زال بعد ثبوته ، لم يكن قديما. لأن ما ثبت قدمه ، استحال
عدمه.
الشبهة الخامسة : لو كان كلام الله قديما أزليا ، لكان تعلقه بمتعلقاته ثابتا
له لذاته. ولو كان كذلك لكان عام التعلق بكل ما يصح تعلقه به ، ولما كان من مذهبكم
أن الحسن والقبح لا يثبتان الا بالشرع ، فاذن كل ما كان مأمورا لا يمتنع أن يكون
منهيا. وكل ما كان منهيا ، لا يمتنع أن يكون مأمورا. فيلزم تعلق أمر الله تعالى
بجميع الأشياء ، وتعلق نهيه بجميعها. ويلزم أن تكون جميع الأشياء مأمورة منهية
حسنة قبيحة. وكل ذلك محال. فثبت : أن كلام الله يمتنع أن يكون أزليا.
* * *
والجواب : أما جميع
الشبه السمعية فالجواب عنها :
شيء واحد. وهو أن
تصرف كل تلك الوجوه الى هذه الحروف والأصوات. فانا معترفون بأنها محدثة. وعندهم
القرآن ليس الا ما تركب عن هذه الحروف والأصوات ، فكانت الدلائل التى ذكروها دالة
على حدوث هذه الحروف والأصوات. ونحن لا ننازع فى ذلك. وانما ندعى قدم القرآن ،
بمعنى آخر . فكانت كل هذه الشبهة ساقطة عن محل النزاع.
وأما الجواب عن
الشبه العقلية :
فالجواب عن الشبهة الأولى : هو أنها معارضة بالقدرة. فانها صفة تقتضى صحة الفعل ، ثم
انها كانت ثابتة فى الأزل مع أن الفعل
__________________
كان ممتنعا. فلم
لا يجوز أن يقال : الأمر عبارة عن الصفة المقتضية لطلب الفعل ، ثم انها كانت ثابتة
فى الأزل ، مع أن طلب الفعل كان فى الأزل محالا؟
والجواب عن الشبهة الثانية : انه تعالى كان عالما فى الأزل بأنه سيخلق العالم ، ثم لما
خلقه فى لا يزال ، صار العلم متعلقا بأنه قد خلقه فى الماضى. ولما لم يقتض هذا
حدوث هذا العالم وتغيره ، فكذا فى الخبر.
والجواب عن الشبهة الثالثة والرابعة : هو أن قدرته تعالى كانت متعلقة من الأزل الى الأبد بايجاد
العالم ولما أوجد العالم لم يبق ذلك التعلق ، لأن ايجاد الموجود محال. ولما زال
هذا التعلق ، ولم يقتض ذلك حدوث قدرة الله تعالى ، فكذا القول فى الكلام.
والجواب عن الشبهة الخامسة : ان قدرة الله تعالى لها صلاحية التعلق بايجاد كل الممكنات ،
ثم أنها تعلقت بايجاد البعض دون البعض ، مع أن هذه القدرة قديمة. واذا عقل ذلك فى
القدرة ، فلم لا يعقل مثله فى الكلام؟
فهذا جملة الكلام
فى هذه المسألة.
المسألة الثّامنة عشرة
فى
بقاء الله تعالى
والكلام فيه مرتب
على فصلين :
الفصل الأول
فى
حقيقة البقاء
اعلم : أن الشيء
اذا كان معدوما ، ثم صار موجودا. فوجوده فى الزمان الأول هو الحدوث ، ثم وجوده فى
الّذي بعد ذلك هو البقاء.
وأكثر المحققين
اتفقوا على أن الحدوث لا يمكن أن يكون صفة زائدة على ذات الحادث. وأما البقاء. فقد
اختلفوا فى أنه هل هو زائد على ذات الباقى أم لا؟ فذهب «القاضى أبو بكر» و «امام
الحرمين» ـ من أصحابنا ـ وجمهور معتزلة البصرة الى أن كون الباقى باقيا ، ليس صفة
زائدة على الذات. وذهب «الشيخ أبو الحسن الأشعرى» وأكثر أتباعه ، وجمهور معتزلة
بغداد ، الى أنه صفة زائدة على الذات.
واعلم : أن فى هذه
المسألة أبحاثا ثلاثة :
البحث الأول : ان استمرار الذات. هل هو مفهوم زائد على الذات أم لا؟
فقال قوم : انه
مفهوم زائد على الذات. وذلك لأن الذات كانت حاصلة فى الزمان الأول ، ولم يكن
استمرار الذات حاصلا فى الزمان
الأول. فلما حصل
فى الزمان الثانى حصل الذات وحصل استمرار الذات. وهذا يقتضي أن يكون استمرار الذات
مغايرا لنفس الذات.
وعلى هذا الكلام
اشكال. وهو أنه كلما صدق على الذات أنها صارت مستمرة بعد أن لم تكن كذلك ، صدق
عليها أنها كانت متجددة فى الزمان الأول ، ثم فى الزمان الثانى صارت غير متجددة ،
فقد صارت غير متجددة ، بعد أن كانت موصوفة بأنها متجددة ، فيلزم أن يكون
حدوثها وتجددها صفة زائدة على ذاتها. وهذا محال. لأنه لو كان الحدوث صفة زائدة ،
لكانت تلك الصفة حادثة ، ويلزم التسلسل.
وقال آخرون : استمرار الذات ليس صفة زائدة على الذات. وذلك لأن العدم
يوصف بالاستمرار ، فلو كان الاستمرار وصفا ثابتا ، لزم اتصاف النفى بالصفة
الثابتة. وذلك محال.
البحث الثانى : هو ان الجوهر فى الزمان الثانى ، هل يحتاج الى معنى يقتضي
وجوده فى الزمان الثانى أم لا؟
فمن الناس من أثبته وسماه بالبقاء.
والحق : أنه محال : ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : ان وجود الجوهر فى الزمان الثانى ، غير وجوده فى الزمان
الأول. لكن وجوده فى الزمان الأول كان غنيا عن هذا العرض. فوجوده فى الزمان الثانى
يحب أن يكون غنيا عنه. لأن حكم الشيء الواحد ، يمتنع أن يتبدل بالحاجة والاستغناء.
الحجة الثانية : وجود الجوهر فى الزمان الثانى ، لو كان معللا بهذا العرض ،
لكان هذا العرض مؤثرا فى ايجاد الموجود. وهو محال.
__________________
الحجة الثالثة : لما كان العرض محتاجا فى تحققه وثبوته الى جوهر ، امتنع كون الجوهر محتاجا فى وجوده الى شيء من
الأعراض ، والا وقع الدور.
الحجة الرابعة : شرط قيام البقاء بالجوهر : حصول الجوهر فى الزمان الثانى ،
فلو كان حصول الجوهر فى الزمان الثانى ، معللا بالبقاء ، لزم الدور. وهو محال.
وأحتج مثبتو البقاء بهذا التفسير فقالوا
: الجوهر حصل فى
الزمان الثانى ، مع جواز أن يصير معدوما. والجائز مفتقر الى المخصص ، ويستحيل أن
يكون ذلك المخصص الا البقاء. فكان القول بوجود البقاء حقا.
وهذا الكلام مبنى على
مقدمات :
المقدمة الأولى : ان الجوهر حصل فى الزمان الثانى. والخلاف فيه مع «النظام» ـ
كما يقال ـ فانه زعم : أن الجسم متجدد حالا بعد حال. والدليل على كون الجوهر جائز
البقاء لذاته : ان كون ماهيته قابلة للوجود ، أمر من لوازم الذات. فتكون هذه
القابلية حاصلة أبدا. واذا كان كذلك ، كان جائز الوجود فى الزمان الثانى والثالث.
وذلك يقتضي كون الجسم جائز البقاء. واعلم : أن هذا الكلام متين. الا أنه يلزم عليه
صحة بقاء الأعراض.
المقدمة الثانية : ان الجوهر فى الزمان الثانى ، جائز العدم. وزعم قوم. أنه
بعد حدوثه ، يمتنع عليه العدم. والدليل على كونه جائز العدم : أن ماهيته قبل وجوده
، كانت موصوفة بالعدم. فثبت :
__________________
أن هذه الماهية
قابلة للعدم ، وهذه القابلية من لوازم هذه الماهية. فهذه الماهية قابلة للعدم
أبدا. وهذا يقتضي كون الجسم جائز العدم فى الزمان الثانى.
المقدمة الثالثة : لما ثبت أن الجسم حصل فى الزمان الثانى ، مع جواز أن يصير
معدوما. فالجائز لا بد له من المقتضى. وذلك المقتضى اما أن يكون أمرا عدميا أو
وجوديا. وعلى التقديرين فاما أن يكون مختارا أو موجبا. فهذه أقسام أربعة :
القسم الأول : أن يقال : انه انما بقى لأن الفاعل المختار ما أعدمه. وهذا قول
من قال الاعدام بالقدرة جائز ـ وهو أحد قولى «القاضى أبى بكر» من أصحابنا. وقول «أبى
الحسن الخياط» من قدماء المعتزلة. وهو قول «محمود الخوارزمى» من متأخرى المعتزلة ـ
ومن الناس من أنكر ذلك. وقال : القدرة صفة مؤثرة ، والعدم نفى محض فاسناد العدم
الى القدرة محال.
والقسم الثانى : أن يقال : انه انما بقى. لأن له ضدا متى وجد ، لزم من وجوده
عدمه. واذا لم يوجد ذلك الضد ، لزم بقاءه. وهذا مذهب «أبى على» و «أبى هاشم» و «القاضى
عبد الجبار بن أحمد» من المعتزلة. وزعموا : أن ذلك الضد هو عرض يخلقه الله تعالى
لا فى محل ، ويسمونه بالبقاء.
وجمهور أصحابنا
أبطلوا هذا القول من وجهين :
الحجة الأولى : ان المضادة حاصلة من الجانبين ، فليس انقطاع الباقى لطريان
الحادث ، أولى من اندفاع الحادث ، لوجود الباقى. وقالوا : بل اندفاع الحادث لوجود
الباقى أولى. وذلك لأن الحادث أضعف من الباقى ، بدليل : أن الحادث لا يوجد الا عند
المقتضى ، والباقى يبقى بدون المقتضى. وذلك يدل على أن الباقى أقوى.
الحجة الثانية : ان طريان الضد الحادث مشروط بزوال الضد الباقى ، فلو كان زوال
الضد الباقى معللا بطريان الضد الحادث ، لزم الدور. وهو محال.
والقسم
الثالث : أن يقال : الجوهر
انما بقى لأن الفاعل المختار ، يبقيه. قالوا : وهذا أيضا محال. وذلك لأن ايجاد
الموجود ، وتحصيل الحاصل محال.
والقسم الرابع : وهو أنه انما بقى لأنه قام بالجوهر فى الزمان الثانى ،
أعراض مقتضية لبقاء ذلك الجوهر. ثم نقول : ذلك العرض ، اما أن يكون هو من الأعراض
المشهورة ـ وهى الألوان والطعوم والروائح والارادات والقدرة وأمثالها ـ واما أن
يكون عرضا زائدا عليها مغايرا لها.
والأول باطل لوجهين :
أحدهما : ان لكل واحد من هذه الأعراض حكما خاصا. فالحركة توجب
المتحركية ، والعلم يوجب العالمية. فلو اقتضيت أيضا كون الجوهر باقيا ، لزم أن
يصدر عن العلة الواحدة: حكمان مختلفان. وذلك محال.
والثانى : هو أنه ليس تعليل بقاء الجوهر ببعض هذه الأعراض ، أولى من
تعليل بقائه بالباقى. فيلزم أن يكون بقاؤه معللا بكل هذه الأعراض ، فيلزم تعليل
الحكم الواحد بالعلل الكثيرة. وهو محال. ولما بطلت كل هذه الأقسام ، ولم يبق الا
ان يعلل استمرار الجوهر بعرض زائد على هذه الأعراض ، وجب الاعتراف به. وذلك هو
البقاء.
والجواب : أنتم لما أثبتم البقاء ، لا يمكنكم أن تقولوا : ان البقاء
علة لذات الجوهر. ويدل عليه وجوه :
الأول : ان ذات الجوهر كان موجودا قبل ذلك. فلو كان البقاء علة له ،
لكان هذا تحصيلا للحاصل. وهو محال.
والثانى ـ ان البقاء لا يبقى. فلو كان البقاء علة لذات الجوهر ، لزم
من تجدد العلة ، تجدد المعلول. فيلزم أن لا يبقى الجوهر فى الزمان الثانى.
والثالث : هو ان البقاء عرض مفتقر الى الجوهر. فلو كان الجوهر معللا
به ، لزم الدور. وهو محال. وأنتم اذا أثبتم البقاء ، لا بد أن تقولوا : انه علة لا
لذات الجوهر بل لكونه باقيا. وهو حكم متجدد رائد على الذات. واذا كان الأمر كذلك ،
فلم لا يجوز اسناد هذا الحكم المتجدد الى الفاعل المختار. وعلى هذا التقدير لا
يلزم ايجاد الموجود لأن الواقع بالفاعل المختار هو هذا الحكم المتجدد ، لا أصل
الذات. وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكرتموه من الاستدلال.
الفصل الثانى
فى
بقاء البارى سبحانه وتعالى
أكثر أصحابنا قالوا : البقاء صفة قائمة
بذات الله تعالى ، تقتضى كونه باقيا. وهذا عندنا باطل. ويدل عليه وجهان :
الحجة الأولى : انا قد بينا أن ذاته تعالى واجبة الوجود لذاته ، من حيث هى
هى ، وواجب الوجود لذاته ، لا يكون واجب الوجود لغيره. فاستحال أن يقال : انه
تعالى انما بقى لبقاء قائم به.
الحجة الثانية : انه تعالى لو كان باقيا ببقاء ، لكان ذلك البقاء باقيا
ببقاء. فاما أن يكون ذلك البقاء باقيا لذاته ، أو لغيره.
فان كان باقيا
لذاته ، والذات باقية لأجله ، فحينئذ يكون البقاء موجودا باقيا لذاته ، وتكون
الذات باقية تبعا لذلك البقاء. والمستقل
أولى بأن يكون
ذاتا ، والتابع أولى بأن يكون صفة. وحينئذ تصير الذات صفة ، والصفة ذاتا. وهو
محال.
وأما ان قلنا :
البقاء باق لأجل شيء غيره. فذلك الغير ان كان هو الذات لزم الدور ، لأن بقاء
البقاء تبع لبقاء الذات. والذات تبع لبقاء البقاء. وان كان متأخرا كان الكلام فيه ، كما فى الأول فيلزم التسلسل. وهو محال.
فهذا تمام الكلام
فى هذه المسألة.
ولمثبتى البقاء
اختلافات فى كيفية بقاء صفات الله تعالى وشيء من تلك الأقاويل ، لا يتوجه على هذه
النكتة ، التى لخصناها. وبالله التوفيق.
__________________
المسألة التاسعة عشرة
فى
أن الله تعالى مرئى
والكلام فيه مرتب
على فصول :
الفصل الأول
فى
المقدمتين اللتين يجب تقديمهما.
وهما اثنتان :
الأولى : فى تفسير
قولنا الله تعالى مرئى أم لا؟
اعلم : أنا بينا
فى مسألة السمع والبصر : أن الابصار حالة زائدة على العلم ، وعلى تأثر الحاسة.
وبينا أيضا : أن ذاته تعالى ذات مخالفة لسائر الذوات. فالمراد من قولنا : ان الله
تعالى هل يصح أن يرى؟ هو أنه هل تمكن حالة فى الانكشاف والظهور ، نسبتها الى ذاته
المخصوصة ، كنسبة الحالة المسماة بالابصار والرؤية ، الى هذه المرئيات ، أم لا؟
المقدمة الثانية : اعلم : أنا بينا أنه ـ سبحانه وتعالى ـ منزه عن أن يكون جسما
وجوهرا ، ومختصا بمكان وحيز. ثم انا ندعى أن هذا الشيء الموصوف بهذه الصفات يمكن
رؤيته. وهذا القول يخالفنا فيه كل من ليس على مذهبنا. أما الفلاسفة والمعتزلة.
فذلك ظاهر. وأما الكرّاميّة والمجسمة. فهم انما يسلمون جواز رؤية الله تعالى ،
لاعتقادهم أنه جسم
وفى مكان. وهم متفقون على أنه تعالى لو لم يكن جسما ، ولم يكن فى مكان ، فانه
يمتنع وجوده ، فضلا عن رؤيته.
اذا عرفت هذا ،
فنقول : القول بامتناع رؤية هذا الموجود. اما أن ندعى فيه : أنه معلوم بالبداهة ،
أو ندعى فيه : أنه معلوم بالاستدلال.
اما دعوى البداهة فباطلة. ويدل عليه
وجوه :
الحجة الأولى : ان البديهى متفق عليه بين العقلاء. وهذا غير متفق عليه. فلا
يكون بديهيا.
الحجة الثانية : انا اذا عرضنا على عقولنا : رؤية هذا الموجود ، بالتفسير
الّذي لخصناه ، وعرضنا على عقولنا : أن الواحد نصف الاثنين ، لم نجد القضية الأولى
فى قوة هذه الثانية.
الحجة الثالثة : ان حكم الوهم. والخيال فى معرفة الله تعالى ، اما أن يكون
مقبولا أو لا يكون مقبولا. فان كان مقبولا لا يمتنع اثبات ذات منزهة عن الكمية
والكيفية والجهة. والمعتزلى يسلم أن ذلك باطل. وان لم يكن مقبولا ، لم يكن حكم
الوهم بأن ما كان منزها عن الجهة ، كان غير مرئى : واجب القبول. لأن الوهم والخيال
لما صار كل واحد منهما مردود الحكم فى بعض الأحكام ، لم يبق الاعتماد عليهما فى
شيء من المواضع.
وبالجملة : فان
كان حكم الوهم حقا ، كان الحق مع المجسم. وان كان مردودا ، كان الحق معنا. أما
المعتزلى ، فانه يرد حكمه فى اثبات التجسيم والجهة ، ويقبل حكمه فى مسألة الرؤية.
فكان كلامه متناقضا.
فثبت بما ذكرنا :
أن من نفى الرؤية بالوجه الّذي ذكرناه ، لا بد أن يعول فى نفيها على الدليل ، لا
على ادعاء الضرورة.
وانما قدمنا هذه
المقدمة ، لأن هؤلاء المعتزلة فى أول الأمر يلتزمون الاستدلال ، وفى آخر الأمر عند
العجز عن تمشية الدليل ، كأنهم يسرعون فى ادعاء الضرورة. فقدمنا هذه المقدمة ،
صونا للكلام عن هذا الخبط.
الفصل الثانى
فى
حكاية ما قيل فى هذه المسألة من الدلائل
العقلية ، وذكر المباحث فيها
اعلم : أن جمهور
الأصحاب عولوا فى اثبات أنه تعالى يصح أن يرى على دليل الوجود. وأما نحن فعاجزون
عن تمشيه ، ونحن نذكر ذلك الدليل ، ثم نوجه عليه ما عندنا من الاعتراضات.
قالوا : ثبت أن
الجوهر يصح أن يرى ، واللون يصح أن يرى ، والجواهر والألوان تشتركان فى صحة
الرؤية. وهذه الصحة حكم حادث ، فلا بد لها من علة. والحكم المشترك يجب تعليله بعلة
مشتركة ، لامتناع تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة. والمشترك بين الجواهر
والأعراض ، اما الحدوث واما الوجود. لا جائز أن تكون علة هذه الصحة ، هى الحدوث.
لأن الحدوث عبارة عن وجود حاصل ، وعدم سابق. والعدم لا يجوز أن يكون جزءا من
المقتضى. واذا سقط العدم عن درجة الاعتبار ، لم يبق الا الوجود ، والوجود مشترك
فيه بين الشاهد والغائب ، فاذن وجود الله تعالى علة صالحة لصحة رؤيته. واذا حصلت
العلة ، حصل الحكم لا محالة. فوجب القول بصحة رؤيته. هذا حاصل الكلام فى هذا
الباب.
ولقائل أن يقول :
(السؤال الأول) : صحة الرؤية حكم عدمى ،
والحكم العدمى لا يجوز تعليله.
وانما قلنا : ان صحة الرؤية حكم عدمى : لأن الصحة حكم عدمى ، واذا كانت
الصحة أمرا عدميا ، كانت صحة الرؤية أمرا عدميا .
وانما قلنا :
الصحة أمر عدمى لوجهين :
الأول : الدلائل الكثيرة المذكورة فى مسألة حدوث الأجسام ، على أن
الصحة والامكان يمتنع أن يكون صفة موجودة.
والثانى : ان الصحة لو كانت صفة موجودة ، فلا شك أن العالم قبل وجوده
، صحيح الوجود. وكانت تلك الصحة صفة موجودة أيضا ، فيستدعى موصوفا موجودا. وذلك
يوجب القول بقدم العالم. وهو محال. فثبت : أن الصحة ليست صفة ثابتة ، ولا حالة
ثبوتية البتة. وانما قلنا : ان الصحة لما لم تكن حكما ثابتا ، امتنع كون صحة
الرؤية حالة ثابتة. وذلك لأن صحة الرؤية صحة مخصوصة بكيفية مخصوصية ، ولما كان أصل
الصحة غير ثابت ، امتنع أن تكون كيفيتها وصفتها ثابتة ، لامتناع قيام الثابت
بالنفى المحض. فثبت : أن صحة الرؤية ليست صفة ثابتة ولا حكما ثابتا. واذا ثبت هذا
، امتنع تعليل هذه الصحة ، لأن التعليل عبارة عن تأثير أمر فى أمر ، والعدم نفى
محض وسلب صرف ، فيمتنع أن يكون علة ومعلولا.
السؤال الثانى :
هب أن صحة الرؤية
حكم ثابت ، فلم قلتم : ان كل حكم ، فانه يجب تعليله. والدليل عليه : اتفاق
المتكلمين على أن من الاحكام ما يعلل ، ومنها ما لا يعلل. ولذلك فان صحة المعلومية
والمذكورية
__________________
والمخبرية ، لا
تعلل. لأن هذه الاحكام ثابتة فى المعدومات ، والعدم لا يصلح للعلية ـ على ما
قررتموه فى دليلكم ـ وأيضا : القدر فى الشاهد لا تصلح لخلق الجسم ، فهى مشتركة فى
هذا الحكم. ولا يمكن تعليل هذا الحكم بكونها قدرا ، والا لزم أن لا تصلح القدرة
القديمة لخلق الجسم ، ولا يمكن تعليل هذا الحكم بكونها قدرا حادثة ، لأنكم بينتم
فى دليلكم أن الحدوث لا يصلح أن يكون علة ، ولا أن يكون جزء علة. فثبت ان هذا
الحكم المشترك فيه بين هذه القدرة : غير معلل بشيء أصلا.
السؤال الثالث : سلمنا أن صحة الرؤية حكم ثابت. وان كان حكما عدميا ، لكن
الحكم العدمى يجب تعليله. لكن لا نسلم أن صحة الرؤية حكم مشترك بين الجوهر والعرض.
وذلك لأن صحة كون السواد مرئيا ، مخالفة لصحة كون البياض مرئيا. والدليل عليه :
أنه يمتنع قيام كل واحدة من هاتين الصحتين مقام الأخرى ، بدليل : أن الجوهر يمتنع
أن يرى سوادا ، والسواد يمتنع أن يرى جوهرا. ولو تساوت الصحتان لقامت كل واحدة
منهما مقام الاخرى.
لا يقال : هب أن هاتين الصحتين نوعان مختلفان فى النوعية ، لكنهما
مشتركان فى جنس واحد ، وهو كونه صحة الرؤية. وهذا الحكم واحد ، بحسب الوحدة
الجنسية. وحينئذ يعود التقريب.
لأنا نقول : انه لا نزاع فى أن الأحكام المختلفة بحسب النوعية ، وان
كانت متحدة فى الجنس ، فانه يجوز تعليلها بعلل مختلفة فى الماهية. والدليل عليه :
ان المتحركية والساكنية والعالمية والقادرية ، وان كانت مختلفة بحسب الوحدة
النوعية ، لكنها متحدة بحسب الوحدة الجنسية. فانها بأسرها صفات وأحوال. ثم أنها مع
ذلك تعلل بعلل مختلفة فى الماهية والحقيقة. فثبت : أن هذا غير ممتنع.
السؤال الرابع :
هب أن صحة رؤية
الجوهر وصحة رؤية العرض ، حكمان متماثلان. لكن لم لا يجوز تعليل الحكمين
المتماثلين بعلتين مختلفتين؟
والّذي يدل عليه
وجوه :
الأول : ان الأشياء المختلفة لا يمتنع اشتراكها فى لوازم متساوية
والدليل عليه : ان المختلفين يشتركان فى صحة الاختلاف. فانه كما أن هذا مخالف لذاك
، فذاك مخالف لهذا. فمسمى الاختلاف مشترك فيه. وكذا القول فى الضدين.
والثانى : وهو أن السواد بخصوص كونه سوادا ، يصح أن يكون معلوما. وكذا
البياض بخصوص كونه بياضا ، يصح أن يكون معلوما. وهذه أحكام متساوية معللة بخصوصيات
هذه الماهيات. وهى مختلفة.
الثالث : وهو ان الماهيتين اذا اشتركتا من وجه ، اختلفتا من وجه آخر.
ولا شك أن ما به الاشتراك ، مغاير لما به الامتياز.
اذا ثبت هذا فنقول
: اما أن لا تكون بين الاعتبارين ملازمة أصلا ، واما أن يكون كل واحد منهما
مستلزما للآخر ، واما أن يكون ما به المشاركة مستلزما لما به الممايزة ، واما أن
يكون بالعكس.
والقسم الأول
باطل. والا لانفك كل واحد من هذين الاعتبارين عن الآخر ، وحينئذ لا يحصل من
مجموعهما حقيقة واحدة. هذا خلف. والثانى والثالث : أيضا باطل. اذ لو كان ما به
الاشتراك مستلزما لما به الامتياز ، لما كان ما به الامتياز موجبا للمائزة. وذلك
محال ، فلم يبق الا القسم الرابع. وهو أن يكون ما به الممايزة ، مستلزما لما به المشاركة.
وهذا يقتضي الجزم بتعليل الأشياء المتساوية بالعلل المختلفة.
الرابع : لو وجب تعليل الحكم المشترك بوصف مشترك ، لكان صحة كونه
موصوفا بذلك الوصف المشترك ، معللة بوصف آخر مشترك فيه. والكلام فيه كما فى الأول
فيلزم التسلسل. وهو محال. فعلمنا : أنه لا بد من انتهاء تعليل الأحكام المشتركة
الى خصوصيات الماهيات. وحينئذ يلزم تعليل الأحكام المتساوية بالماهيات المختلفة.
لا يقال : الدليل على أن تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة لا
يجوز. وذلك لأن هذا الحكم لما كان معللا بهذه العلة لذاته ، والحكم الثانى مساويا
للحكم الأول فى الماهية. والمتساويان فى الماهية يجب استواؤهما فى اللوازم ، فيلزم
أن يكون الحكم الثانى مستندا الى ما يماثل تلك العلة. فثبت : أن الحكمين
المتساويين يجب تعليلهما بعلتين متماثلتين.
لأنا نقول : ان صح هذا الكلام ، لزم تعليل جميع الأحكام المتماثلة بعلة
واحدة بالشخص. لأن كون هذا الحكم معللا بهذه العلة المعينة ، أمر ثبت له لذاته ،
والحكم المماثل له ، مساو له فى تمام الماهية. فيلزم فى مثل ذلك الحكم : أن يكون
معللا بعين تلك العلة. وبالاتفاق هذا باطل. وكذا ما ذكرتموه.
ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : اسناد هذا الحكم الى هذه العلة ، ليس
متولدا من ذات الحكم ، بل العلة المخصوصة لذاتها توجب ذلك الحكم ، ولما حصل ذلك
الحكم بتلك العلة ، وجب اسناده الى تلك العلة ، لا لأن ذاته يوجب الاسناد إليها ،
بل لأجل أن تكون العلة مستلزمة له ، فوجب اسناده إليها. وهذا كلام دقيق ، لا بد من
التأمل فيه.
والسؤال الخامس :
هب أنه لا بد لهذا
الحكم المشترك من علة مشتركة فيها ، فلم قلتم :
انه لا مشترك بين
الجوهر والعرض الا الحدوث والوجود؟ وما الدليل على هذا الحصر؟ وعدم العلم بالشيء ،
لا يدل على عدم الشيء ، والسبر والبحث لا يفيد الا الظن الضعيف. ثم نقول : هاهنا
مشترك آخر ، وهو كون الشيء ممكن الوجود لذاته.
لا يقال : الامكان لا يصلح علة للرؤية.
ويدل عليه وجوه :
الأول : ان الامكان عدمى ، فلا يصلح للعلية.
الثانى : ان الامكان قائم فى المعدومات ، ولا يصح رؤيتها.
والثالث : لو كان الامكان علة للرؤية ، لزم صحة رؤية جميع الممكنات
والخصم لا يقول به.
لأنا نقول : نحن انما ذكرنا الامكان للقدح فى قولكم : انه لا مشترك بين
الجوهر والعرض ، الا الحدوث والوجود ، لا لبيان أن نجعله علة لصحة الرؤية.
وأيضا : فنحن نبحث عن الوجوه التى
ذكرتم.
أما الأول : فنقول : صحة الرؤية عبارة عن علة امكان الرؤية ، فان كان الامكان
عدميا ، كانت صحة الرؤية أيضا عدمية. ولا يبعد تعليل حكم عدمى بعلة عدمية.
وأما
الثانى : فلم لا يجوز أن
تكون صحة علة الرؤية للمجموع الحاصل من الامكان والوجود؟
وأما الثالث : فهو أن الخصم أخطأ فى قوله : لا يمكن رؤية بعض الممكنات.
ولكن لم يحصل لكم من هذا البرهان صحة رؤية الله تعالى
__________________
السؤال السادس :
هب أنه لا مشترك
الا الحدوث والوجود. فلم لا يجوز أن تكون العلة هى الحدوث؟ قوله : «الحدوث ماهية
مركبة من العدم السابق ، والوجود الحاضر فاذا سقط العدم عن درجة الاعتبار ، لم يبق
الا الوجود الحاضر»
قلنا : لا نسلم أن الحدوث عبارة عن الوجود الحاضر والعدم السابق ،
بل الحدوث عبارة عن الوجود الحاضر المسبوق بذلك العدم السابق. فلم قلتم بأن كونه
مسبوقا بالعدم نفس العدم؟ والدليل عليه : ان الحدوث صفة للوجود وكيفية له ، والعدم
نقيض الوجود ومناف له ، ونقيض الشيء لا يكون صفة له ، ولا كيفية له.
السؤال السابع :
هب أن العلة لهذه
الصحة هى الوجود. ولكن له قلتم : ان الوجود أمر مشترك فيه بين الواجب والممكن؟
والعجب : أن عند «أبى الحسن الأشعرى» وجود الشيء ذاته وحقيقته. فعلى هذا لما كانت
الحقائق مختلفة فى حقائقها ، وجب أن تكون مختلفة فى وجوداتها ومع هذا القول كيف
يمكنه أن يقول : الوجود وصف مشترك فيه؟
السؤال الثامن :
هب أن الوجود علة
لصحة الرؤية. ولكن كما يعتبر فى حصول الحكم حصول العلة المؤثرة ، يعتبر أيضا حصول
المحل القابل ، ويعتبر فيه عدم المانع. ألا ترى أن الحياة علية الجهل والشهوة
والنفرة والألم واللذة ، ثم الحياة حاصلة فى ذات الله. وصحة هذه الأشياء غير
حاصلة. اما لأن تلك الذات المخصوصة غير قابلة لهذه الأحكام أو لأنه قامت بتلك
الذات صفات مانعة من تحقق هذه الأشياء.
فثبت بهذا : أن مع
حصول العلة لا يتحقق الحكم ، الا اذا ثبت أن المحل قابل والمانع زائل. فلم قلتم ان
خصوصية ذات الله تعالى قابلة لهذه الصحة؟ ولم قلتم : انه لا يوجد هناك ما يكون
مانعا من هذه الصحة؟
السؤال التاسع :
ان القوة اللامسة
مدركة للجواهر والأعراض : أما أنها مدركة للجواهر ، فلأنا باللمس نميز بين الطويل
والعريض والعميق ، كما أنا ببصرنا ندرك التفرقة بين هذه الأحوال. ولما دل ذلك على
كون البصر مدركا للجسم ، وجب أن يدل ذلك على كون اللمس مدركا للجسم. وأما أن القوة
اللامسة مدركة للأعراض ، فلأنا ندرك التفرقة بين الحار والبارد. واذا ثبت أن القوة
اللامسة مدركة للجواهر والأعراض ، اطرد الدليل الّذي ذكرتم بتمامه. فيلزم أن تكون
علة صحة اللمس ، هى الوجود. والله تعالى موجود ، فوجب أن يصح أن يكون ملموسا
مذوقا. والتزامه فى غاية البعد.
السؤال العاشر :
قولكم : الوجود
علة لصحة الرؤية ، يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد منه : أن يكون الوجود علة لصحة أن يرى
الموجود فقط.
والثانى : أن يكون المراد منه : أن الوجود علة لصحة أن ترى الماهية.
اما الأول : فباطل قطعا. وذلك لأن المرئى اذا كان هو الوجود فقط ،
والوجود أمر مشترك فيه بين كل الموجودات ، كان المرئى
لحس البصر أمرا
مشتركا فيه بين كل الموجودات ، فوجب أن لا يكون اختلاف المختلفات مدركا بالبصر.
وهذا دخول فى السفسطة.
وأما الثانى : فانه يقتضي أن لا تكون علة صحة رؤية السواد ، هى الوجود فقط
، بل أن تكون علة تلك الصحة ، هى مجموع كونه سوادا ، وكونه موجودا. وعلة رؤية
البياض هى مجموع كونه بياضا وكونه موجودا. وعلى هذا التقدير يبطل القول بأن علة
صحة الرؤية أمر مشترك فيه.
والحاصل : انا ان
حملنا الكلام على الوجه الأول ، كانت السفسطة لازمة ، وان حملناه على الوجه الثانى
، يسقط الدليل بالكلية.
السؤال الحادى عشر
:
هو أنه تعالى يصح
أن يكون مرئيا فى ذاته. لكن لم لا يجوز أن تكون رؤيتنا موقوفة على شرط ، يمتنع
ثبوته فى حقنا ، فلا جرم يمتنع المشروط لامتناع ذلك الشرط. وهذا كما أن الجسم فى
نفسه يصح أن يكون مخلوقا ، لكنه يمتنع أن يكون مخلوقا لنا. لأن صحة خلق الجسم
مشروطة بشرط يمتنع ثبوته فى حقنا. ففاتت هذه الصحة فى حقنا ، لا لأن تلك الصحة فى
نفسها فائتة ، بل لأن شرط تلك الصحة فائت فى حقنا. وكذا القول فى مسألتنا.
السؤال الثانى عشر
:
ما ذكرتم من
الدلائل معارض بما أن الله تعالى قادر على خلق الجواهر وعلى خلق الاعراض. فصحة
المخلوقية حكم مشترك فيه بين الجواهر والأعراض ، فلا بد من تعليل هذه الصحة بأمر
مشترك بين القسمين. ولا مشترك الا الحدوث أو الوجود. والحدوث باطل ،
لما ذكرتم. فثبت
أن علة صحة المخلوقية هى الوجود. والله تعالى موجود ، فوجب صحة كونه تعالى مخلوقا.
ولما بطل هذا الكلام ، فكذا ما ذكرتم.
فهذا ما عندى من
الأسئلة على هذا الدليل. وأنا غير قادر على الأجوبة عنها ، فمن أجاب عنها ، أمكنه
أن يتمسك بهذا الدليل.
* * *
ولنختم هذه الفصل
بخاتمة ، وهى أنا نقول : اعلم : أن الدليل العقلى المعلول عليه فى هذه المسألة هذا
الّذي أوردناه ، وأوردنا عليه هذه الأسئلة واعترفنا بالعجز عن الجواب عنها.
اذا عرفت هذا
فنقول : مذهبنا فى هذه المسألة ما اختاره الشيخ «أبو منصور الماتريدي السمرقندى» وهو أنا لا نثبت صحة رؤية الله تعالى
بالدليل العقلى ، بل نتمسك فى هذه المسألة بظواهر القرآن والأحاديث . فان أراد الخصم تعليل هذه الدلائل ، وصرفها عن ظواهرها
بوجوه عقلية ، يتمسك بها فى نفى الرؤية : اعترضنا على دلائلهم ، وبينا ضعفها ،
ومنعناهم عن تأويل هذه الظواهر.
فهذا مجموع
المقدمات التى يجب تقديمها قبل الخوض فى الدلائل.
الفصل الثالث
فى
ذكر الدلائل الدالة على جواز رؤية الله تعالى
الحجة الأولى : ان موسى عليهالسلام سأل الرؤية فى قوله :
__________________
(أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ) [الأعراف ١٤٣] ولو
كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى ، لما سألها.
ولهم عليه
اعتراضات :
السؤال الأول : قال «الكعبى» : لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله (أَرِنِي) أن يظهر الله أحوالا تفيد العلم الضرورى ، بوجود الصانع؟
واطلاق لفظ الرؤية على العلم الضرورى الجلى ، مجاز مشهور.
السؤال الثانى : قال «أبو على» و «أبو هاشم» : ان موسى عليهالسلام انما سأل الرؤية لا لنفسه بل لقومه. والدليل عليه : قوله
تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة ٥٥] ثم ان موسى عليهالسلام أضاف ذلك السؤال الى نفسه ، حتى يكون ذلك السؤال أولى
بالاجابة ولما منعه الله تعالى ، كان ذلك أقوى فى الدلالة على منع الغير.
__________________
السؤال الثالث : قال «أبو الهذيل» يحتمل أن يقال : ان موسى عليهالسلام كان عالما بالدلائل العقلية ، أنه تمتنع رؤية الله تعالى. فسأل
الله الرؤية ، حتى يرى الدلائل السمعية المانعة من الرؤية ، فتصير الدلائل
السمعية والعقلية متعاضدة متوافقة. وكثرة الدلائل توجب زيادة الطمأنينة ، وقوة
اليقين ، وزوال الشك. ولهذا السبب أكثر الله تعالى فى القرآن من ذكر الدلائل
الدالة على التوحيد والصفات.
السؤال الرابع : قال بعضهم : لم لا يجوز أن يقال : ان موسى عليهالسلام ما كان فى ذلك الوقت عالما بامتناع الرؤية على الله تعالى؟
وهذا وان كان مستبعدا ، الا أنه غير مستحيل ويدل عليه وجوه :
أحدها : ان كل صفة من صفات الله تعالى ، لا يتوقف على معرفتها العلم
بصحة النبوة. ثم لم يبعد أن لا تكون تلك الصفة معلومة للأنبياء عليهمالسلام. وكونه تعالى بحيث يمتنع رؤيته ، لا يتوقف على العلم به ،
العلم بصحة النبوة. فعلى هذا لا يمتنع أن تكون هذه الصفة غير معلومة لموسى عليهالسلام.
الثانى : ان المشهور من أهل السنة أنهم يجوزون المعاصى على الأنبياء عليهمالسلام حال نبوتهم. فاذا جوزوا ذلك ، فلم لا يجوز هذا الجهل.
الثالث : مذهب أهل السنة أنه يحسن من الله تعالى جميع الأشياء. واذا
كان كذلك لم يبعد أن يقال : ان الله تعالى ما أمره بمعرفة هذه الصفة. وعلى هذا
التقدير لم يكن ذلك عبثا فى حق موسى عليهالسلام.
__________________
والجواب :
أما السؤال الأول
، فجوابه من وجهين :
الأول : ان موسى عليهالسلام كان يتكلم مع الله تعالى فى هذا الوقت بلا واسطة ، وفى مثل
هذا الوقت يبعد أن يقول : يا إلهى أظهر لى دليلا أعرف به وجودك.
الثانى : انه قال (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولو كان المراد ما ذكره «الكعبى» لكان يقول : انظر الى
دليلك.
وأما السؤال
الثانى ، فجوابه من وجهين :
الأول : ان أولئك الذين كانوا يطلبون الرؤية. اما أن يقال : انهم
كانوا من المؤمنين ، أو من الكفار. فان كانوا من المؤمنين ، كانوا لا محالة يقبلون
قول موسى عليهالسلام فى أن هذا السؤال غير جائز ، وما كان موسى محتاجا الى
اضافة هذا السؤال ، الى نفسه. وان كانوا من الكفار ، فهم لا يصدقونه فى أن الله تعالى منع العباد من سؤال الرؤية. وعلى التقديرين
فإضافة هذا السؤال ، الى نفسه عبث.
الثانى : ان هذا السؤال لو كان محالا ، لمنعهم عنه. ألا ترى أن القوم
لما قالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً
، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف ١٣٨]
منعهم عن هذا الكلام ، وقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ) [الأعراف ١٣٨].
وأما السؤال الثالث : فجوابه : انه عليهالسلام اما أن يقال : انه كان شاكا فى الامتناع والجواز ، أو يقال
: انه كان قاطعا بالامتناع.
__________________
فان قطعنا انه كان شاكا فى الجواز لزم كونه جاهلا بالله تعالى. وهذا
لا يليق بالأنبياء ـ عليهمالسلام ـ وان قلنا : انه كان قاطعا بامتناع الرؤية على الله تعالى
، كان الأدب أن يقول : رب زدنى دليلا على امتناع الرؤية : فأما أن يسأل الرؤية ،
مع العلم بامتناعها. فهذا لا يليق بالعقلاء.
وأما السؤال الرابع : فجوابه : ان الأمة مجمعة على أن علم الأنبياء والرسل ـ عليهمالسلام ـ بذات الله تعالى وصفاته ، أتم وأكمل من علم كل واحد من
آحاد الأمة. واذا ثبت هذا ، فنقول : لما كان العلم بامتناع الرؤية حاصلا لكل واحد
من آحاد المعتزلة ، فلو لم يكن حاصلا لموسى عليهالسلام لكان كل واحد من [آحاد] المعتزلة ، أعرف بذات الله تعالى
وبصفاته من موسى عليهالسلام. ولما كان هذا باطلا بالاجماع ، سقط هذا السؤال.
الحجة الثانية : رؤية الله تعالى معلقة على شرط جائز ، والمعلق على الشرط
الجائز جائز. فرؤية الله تعالى جائزة.
وانما قلنا : ان رؤية الله معلقة على شرط جائز ، لأن رؤية الله تعالى
معلقة على استقرار الجبل. واستقرار الجبل جائز. فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى
جائزة. وانما قلنا : ان رؤية الله تعالى معلقة على استقرار الجبل ، لقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ ، فَسَوْفَ
تَرانِي) [الأعراف ١٤٣]
وانما قلنا : ان استقرار الجبل جائز ، لأن الجبل جسم ، وكل جسم فإنه يمكن أن يكون
ساكنا. وانما قلنا : ان المعلق على الجائز جائز ، لأن بتقدير وقوع ذلك الشرط
الجائز ، ان لم يحصل الشروط ، لزم الكذب فى كلام الله تعالى ، وان حصل كان الجواز
قبله حاصلا. وهذه نكتة حسنة .
__________________
فان قيل : لا نسلم أن رؤية الله تعالى معلقة على شرط جائز ، قوله : «لأنها
معلقة على استقرار الجبل. وانه جائز» قلنا : بل هى معلقة على استقرار الجبل ، حال
كون الجبل متحركا ، واستقرار الجبل حال كون متحركا محال.
وانما قلنا : ان الرؤية معلقة على استقرار الجبل حال كونه متحركا ، لأنه
لو كان معلقا على استقراره لا حال كونه متحركا ، فاستقراره فى غير حال حركته ،
يكون واقعا حاصلا. لا محالة. لأن الجسم كلما لم يكن متحركا ، كان ساكنا. لا محالة.
وعلى هذا التقدير يكون شرط وقوع الرؤية حاصلا ، فكان يجب أن تحصل الرؤية ، وحيث لم
تحصل الرؤية ، علمنا : أن الشرط لم يحصل. وانما يصح أن يقال : لم يحصل الشرط ، اذا
قلنا : ان الشرط هو استقراره حال حركته. واذا كان ذلك ، كان هذا الشرط محالا. فثبت
: أن رؤية الله معلقة على شرط محال. فلم يلزم القول بجواز رؤية الله تعالى.
والجواب : ان الشرط هو استقرار الجبل. واستقرار الجبل هذا ، من حيث
هذا المفهوم ، أمر جائز الوجود. فثبت : أن الرؤية معلقة على شرط جائز الوجود.
وأقصى ما فى الباب : أن يقال : دل دليل منفصل على أنه وجد فى ذلك الوقت مانع ،
الا أن الّذي دل اللفظ على كونه شرطا للرؤية ، أمر جائز. فكان المقصود حاصلا.
__________________
الفصل الرابع
فى
بيان أن النظر المقرون بحرف الى.
هل هو موضوع للرؤية أم لا؟
وقد اختلف الناس
فيه. فزعم بعض أصحابنا : أنه للرؤية. وأنكر ذلك بعض المحققين منا ، وجمهور
المعتزلة. وقالوا : لفظ النظر موضوع. اما لكون الحدقة مقابلة للمرئى. كما يقال :
جبلان متناظران ، أى متقابلان. واما لتقليب الحدقة السليمة نحو المرئى ، طلبا
للرؤية.
واحتج من قال بأن لفظ النظر المقرون ب «الى»
للرؤية ، بالقرآن والشعر.
أما القرآن : فآيتان :
الأولى : قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) والاستدلال به من وجهين :
الأول : انه لو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة الى جهة المرئى ،
لكان معنى الآية: أرنى حتى أقلب حدقتى الى جهتك. وهذا يتقضى أن يكون موسى عليهالسلام قد أثبت الجهة لله تعالى. وذلك باطل.
والثانى : انه رتب النظر على الإراءة. والمرتب على الإراءة : هو
الرؤية ، لا تقليب الحدقة. فيدل هذا : على أن النظر هو الرؤية.
الآية
الثانية : قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ)؟ [الغاشية ١٧]
والّذي يفيد معرفة كيفية الخلقة : هو الرؤية. لا تقليب الحدقة.
وأما الشعر :
فقول النابغة :
وما رأيتك الا
نظرة عرضت
|
|
يوم الامارة.
والمأمور معذور
|
استثنى النظر عن
الرؤية ، فوجب أن يكون النظر من جنس الرؤية.
وقال آخر :
نظرت الى من حسن
الله وجهه
|
|
فيا نظرة كادت
على وامق : تقضى
|
ومعلوم : أن الّذي
يقضى على الوامق : هو رؤية المعشوق ، لا تقليب الحدقة نحوه.
وأما الذين أنكروا
كون النظر المقرون ب «الى» مفيدا للرؤية. فقد احتجوا بخمسة وعشرين وجها :
الحجة الأولى : قوله تعالى : (وَتَراهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف ١٩٨] وجه
الاستدلال من وجهين.
الأول : انه أثبت النظر ونفى الأبصار. وهذا يدل على أن النظر غير
الأبصار : الثانى: أنه تعالى حكم بأنه يرى نظرهم إليه.
ولا شك أن الرؤية
لا ترى. ولما كان النظر مرئيا ، والرؤية غير مرئية ، والرؤية غير مرئية ، وجب أن
لا يكون النظر هو الرؤية.
فان قيل : انه تعالى أثبت النظر للأصنام بقوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ولا شك أنه لم يحصل للأصنام تقليب الحدقة الى جهة المرئى ،
فوجب أن لا يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة.
قلنا : النظر هاهنا مفسر بالتقابل. يقال : جبلان متناظران ، أى
متقابلان. وهذا المعنى كان حاصلا للأصنام.
الحجة الثانية : قوله تعالى فى صفة الكفار : (وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ) [البقرة ٧٧] نفى
كونه تعالى ناظرا إليهم ، ولا شك أنه كان يراهم ، فيلزم أن يكون النظر غير الرؤية.
وان قيل : لو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة ، لكان معنى الآية :
انه تعالى لا يقلب حدقته إليهم. ومعلوم أن ذلك باطل.
قلنا
: لو جعلنا النظر
حقيقة فى تقليب الحدقة ، أمكن حمل قوله تعالى : (وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ) على ترك الرحمة. أما لو جعلناه حقيقة فى الرؤية ، لا يمكن
حمله على ترك الرحمة. فكان الأول أولى.
والّذي يدل على ما
قلناه : أن تقليب الحدقة الى جانب الشيء لا يختاره الانسان الا اذا أحبه. ومتى
أحبه فانه يرحمه ظاهرا ، فحصل بين تقليب الحدقة الى جهة الشيء وبين ايصال الرحمة
إليه هذه الملازمة.
وأيضا : تقليب
الحدقة الى جهة الشيء ، وايصال الرحمة إليه ، فعلان اختياريان .. فحصل بينهما هذه
المشابهة والملازمة. وكل واحد منهما سبب مستقل لحسن المجاز. أما لو جعلنا النظر
عبارة عن الرؤية ، لم يحصل بينه وبين الرحمة ، لا الملازمة ولا المشاكلة. أما
الملازمة فلأنه ليس كل ما يراه الانسان أحبه ، بل الّذي يختاره الانسان فانه يحبه.
لكن اختيار الرؤية ، ليس الا تقليب الحدقة نحوه. فثبت : أن حمل النظر على تقليب
الحدقة أولى.
الحجة الثالثة : لو كان النظر عبارة عن الرؤية ، لوجب أن يقال : رأيت إليه.
كما يقال : نظرت إليه. وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الفرقان ٤٥] :
مجاز. ولجاز أن يقال : نظرته. كما يقال : رأيته. ولما لم يصح ذلك ، علمنا : أن
النظر غير الرؤية.
الحجة الرابعة : يقال : نظرت الى الهلال فلم أره. أثبت : النظر مع عدم
الرؤية.
الحجة الخامسة : يقال : أما ترى كيف ينظر فلان الى الهلال؟ وكيف ينظر فلان
الى فلان؟ وهذا يدل على أن النظر مرئى. ولا شك أن الرؤية غير مرئية. فوجب أن يكون
النظر مغايرا للرؤية.
الحجة السادسة : يقال : ما زلت أنظر الى الهلال حتى رأيته. ولا شك أن غاية
الشيء غير ذلك الشيء.
الحجة السابعة : قول الشاعر :
نظرت إليها من
وراء خصاص
|
|
فأبصرت وجها ،
داعيا لمعاصى
|
ربت الابصار على
النظر ، بفاء التعقيب. وهذا يدل على أن الابصار غير النظر.
الحجة الثامنة : يقال : انظر الى زيد حتى ترى وجهه. ولو كان النظر عبارة عن
الرؤية والأبصار ، لنزل هذا الكلام منزلة قوله : أبصر زيدا حتى تبصره.
الحجة التاسعة : ان قوله : نظرت الى زيد ، يفيد أن نظرة انتهى إليه. لأن حرف
«الى» لانتهاء الغاية ، فجرى ذلك مجرى قوله : أشرت إليه ، وأو مات إليه. وذلك يفيد
الحركة الى الشيء على وجه ينتهى إليه. وهذا انما يصح لو كان النظر عبارة عن تحريك
الحدقة الى مقابلة المرئى.
الحجة العاشرة : انهم يقسمون النظر الى أقسام كثيرة. فيقولون : نظر فلان الى
نظر راض ، ونظر غضبان ، ونظر متحيز. قال النابغة :
نظر أليك لحاجة
لم تقضها
|
|
نظر المريض الى
وجوه العود.
|
وقال آخر :
نظر التيوس الى
شفار المجازر
ومعلوم : أن رؤية
هؤلاء واحدة. لأنهم يرون الشيء على ما هو عليه. ومن الممتنع وقوع التفاوت فى نفس
الرؤية ، بل المراد من قوله : نظر الى نظر غضبان : وصف عينه بما تكون عليه عين
الغضبان من الانحراف والازورار ، ولا يعارض هذا بقولهم : فلان يرانى بعين الرضا
وبعين الغضب وبعين الذل ، لأن فى هذا الكلام ما أدخلوا التقسيم على الرؤية ، بل
أضافوا الرؤية تارة الى عين الرضا وتارة الى عين الغضب.
الحجة الحادية عشرة : انهم يصفون النظر بما لا يمكن أن توصف به الرؤية. وذلك يوجب
التباين بينهما. فانه يوصف النظر بكونه شزرا.
قال الشاعر :
ولا خير بالبغضاء
والنظر الشرز.
ومعلوم : أن الشزر
كيفية فى موضع العين وتحريكها.
ومنها : أنهم
يصفون النظر بالشدة والصلابة. أنشد ابن قتيبة :
يتقارضون اذا
التقوا فى موطن
|
|
نظرا يزيل مواطن
الاقدام
|
قال ابن قتيبة :
يكاد يزيلها من شدته وصلابته. والمراد من تلك الشدة : الاعتماد على الحدقة فى
تقليبها وتحريكها.
الحجة الثانية عشر : ان الّذي يقدر عليه الانسان فى باب الرؤية ، انما هو تقليب
الحدقة الى جهة المرئى. فأما حصول الرؤية فليس ذلك فى قدرة الانسان. اذا ثبت هذا
فنقول : لو حملنا لفظ النظر على تقليب الحدقة ، كان قولنا فى الأمر والنهى : انظر
، ولا تنظر. محمولا على الحقيقة. أما لو حملنا النظر على الرؤية ، لوجب حمل قولنا أانظر
ولا تنظر ، على مقدمات الرؤية ، لا على نفس الرؤية. فيصير هذا اللفظ مجازا. ومعلوم
: أن حمل للكلام على معنى يبقى اللفظ
معه حقيقة ، أولى
من حمله على معنى يبقى اللفظ معه مجازا. وهذا يقتضي كون لفظ النظر حقيقة فى تقليب
الحدقة لا فى الرؤية.
الحجة الثالثة عشر : ان النظر معناه بالفارسية (نگريستن) والرؤية معناه
بالفارسية (ديدن) والفرق بين قولنا (نگريستن) وبين قولنا (ديدن) معلوم فى الفارسية
بالبداهة ، فانهم يقولون : (بسيار نگريستم والبتة نديدم) وآخرون يقولون : (بسيار
نگريستم وآخر نديدم) ومعلوم : أنهم يريدون بقولهم : (نگريستم) تحريك الحدقة الى
تلك الجهة التى يعتقدون حضور المرئى فيها. وذلك يحقق ما قلناه.
الحجة الرابعة عشر :
ما أنشد بعضهم :
وقفت كأنى من
وراء زجاجة
|
|
الى الدار من
فرط الصبابة ، أنظر
|
فعيناى طورا
تغرقان من البكا
|
|
فأغشى. وطورا
يحسران فأبصر
|
جعل نفسه ناظرا
حال كونه مبصرا ، وغير مبصر. وهذا يدل على أن النظر غير الابصار.
الحجة الخامسة عشر : ما أنشده «أبو على الفارسى» فى كتاب «الحجة».
فيا «مى» هل
تجزى بكائى بمثله
|
|
مرارا ، وأنفاسى
عليك الزوافر
|
وانى متى أشرف
من الجنب الّذي
|
|
به أنت من بين
الجوانب ناظر
|
قال أبو على
الفارسى : يطلب منها الجزاء على كونه ناظرا إليها. ولو كان النظر عبارة عن الرؤية
لها ، لكان قد طلب الجزاء على منفعته ولذته وحصول غرضه. وذلك لا يقوله عاقل.
الحجة السادسة عشر : أنشد بعضهم :
اذا نظر الواشون
صدت وأعرضت
|
|
وان غفلوا قلت :
ألست على العهد
|
جعل قوله : وان
غفلوا فى مقابلة قوله : نظروا. وانما يغفل الانسان عن أمر يفعله ويشتغل بتحصيله ،
وما ذلك الا تقليب الحدقة.
الحجة السابعة عشر :
أنشد بعضهم :
ونظرة ذى شجن
وامق
|
|
اذا ما الركائب
، جاوزن ميلا
|
أثبت النظر بعد
مجاوزة الركائب ميلا. ومعلوم : أن الرؤية غير حاصلة فى هذا الوقت ، ولما أثبت
النظر حال عدم الرؤية ، ثبت أن النظر حال عدم الرؤية ، ثبت أن النظر غير الرؤية.
* * *
الحجة الثامنة عشر ـ ومن هاهنا نذكر الوجوه الدالة على أن النظر المقرون بحرف
«الى» قد يجيء بمعنى الانتظار ، لا بمعنى الرؤية ـ
فنقول : قوله
تعالى : (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٣] معناه : أنها تنظر الى الرب لا الى غيره.
وذلك لأن تقديم المفعول يفيد الحصر ، كما فى قوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى ٥٢] و (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ) [هود ٨٨] و (أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم ٤٢] و (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) [العلق ٨] و (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة ٣٠] اذا
ثبت هذا فنقول : مقتضى الآية : أنهم لا ينظرون الى غير الله تعالى. ولا شك أنهم
يرون غير الله تعالى. وذلك لأنهم يرون الجنة والنار ومرافق القيامة. وذلك لأن
المؤمنين نظارة فى ذلك اليوم ، لأنهم هم الآمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولما
دلت الآية على أنهم لا ينظرون الى غير الله تعالى ، ودل العقل على أنهم يرون غير
الله ، علمنا : أن النظر غير الرؤية. أما اذا حملنا هذا اللفظ على الانتظار ، صح
هذا الحصر. وذلك لأنهم لا ينتظرون الا رحمة الله ، ولا يتوقعونها الا منه.
الحجة التاسعة عشر : حكى عن «الخليل» أنه قال : نظرت الى فلان ، بمعنى انتظرته.
وعن «ابن عباس» ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : تقول العرب : انما أنظر الى الله تعالى
، ثم الى فلان. وهذا الاستعمال أيضا حاصل فى الفارسية. فانهم يقولون فيمن يطمع فى
أمر يتوقعه : «فلان را چشم بر فلان كار است ونظرا وبر فلان كار است وفلان كارى را
مى نگرد» فثبت : أن هذا الاستعمال متعارف مشهور فى العربية ، وفى الفارسية ، حتى
أن الأعمى قد يذكر هذا اللفظ ، فيقول : عينى شاخصة أليك ، ونظرى الى الله تعالى ،
ثم أليك.
الحجة العشرون : قول الشاعر :
وجوه ناظرات يوم
بدر
|
|
الى الرحمن
تنتظر الخلاصا
|
أثبت النظر
المقرون بحرف «الى» لا بمعنى الرؤية ، بل بمعنى الانتظار.
لا يقال : ان بعض الرواة روى هذا البيت على وجه آخر :
وجوه ناظرات يوم
بكر.
وزعم : أن مراد
الشاعر يوم اليمامة. وسمى يوم بكر ، لأن القتال وقع بين عسكر أبى بكر رضى الله
عنه. وبين مسيلمة الكذاب. والمراد من الرحمن فى البيت : مسيلمة الكذاب. فانهم
كانوا يسمونه رحمن اليامة. وكانوا ينظرون الى وجهه ، ويطمعون فيه أن يخلصهم من ذلك
البلاء. لأنا نقول : لا منافاة بين الروايتين. فنقبلهما.
الحجة الحادية والعشرون : قول الكميت :
وشعث ينظرون الى
بلال
|
|
كما نظر الظماء
الى الغمام
|
ومعلوم : أن
الظماء ينتظرون حيا الغمام ، فعلمنا أن نظر الشعث الى بلال ، هو بمعنى الانتظار.
الا أنه شبه نظرهم الى بلال ينظرهم الى حيا الغمام.
الحجة الثانية
والعشرون : قال آخر :
واذا نظرت أليك
من ملك
|
|
والبحر دونك.
زدتنى نعما
|
وصف نفسه بكونه
ناظرا الى الملك حال ما كان البحر حائلا بينهما. وذلك لا يحتمل الرؤية. فعلمنا :
أن المراد هو الانتظار.
الحجة الثالثة
والعشرون : قال البعيث :
وجوه بهاليل
الحجاز على النوى
|
|
الى ملك زان
المغارب ناظرة
|
أثبت : أن «بهاليل»
الحجاز ينظرون الى ملك المغرب. وذلك لا يحتمل الرؤية ، بل يحتمل الانتظار.
الحجة
الرابعة والعشرون : قال بعضهم :
ويوم بذى قار ،
رأيت وجوههم
|
|
الى الموت من
وقع السيوف نواظرا
|
والمراد :
الانتظار لأن الموت لا خلاف فى أنه لا يرى.
لا يقال : المراد من الموت الرجل القتال ، كما فى قوله :
انى أنا الموت.
لأنا نقول : لا شك أن تسمية الرجل
القاتل بالموت ، مجاز. فلا يصار إليه الا
عند الضرورة.
الحجة الخامسة والعشرون : قول «الأبيوردى» فى صفة عين ممدوحه :
هى التى لا تزال
الدهر ناظرة
|
|
الى العلى ،
ولزوار ، وفى كتب
|
فقوله : ناظرة الى
العلى. معناه كونها طالبة للعلى ومتوقعة له.
* * *
فجملة هذه الوجوه الأول : دالة على أن
النظر المقرون بحرف الى ليس للرؤية وهذه الوجوه الأخيرة دالة على أنه للانتظار.
لا يقال : قد اشتهر من علماء اللغة أنهم قالوا : النظر اذا لم يكن
مقرونا بحرف الى ، أفاد الانتظار ، يقال نظرته أى انتظرته. أما اذا مقرونا بحرف
الى ، فانه ليس للانتظار.
لأنا نقول : لما حصل التعارض بين دلائلنا ودلائلكم ، فلا بد من التوفيق.
وطريقه : أن قولهم : نظرته بمعنى انتظرته ، انما يقال فى انتظار مجىء الانسان
بنفسه ، أما اذا كان منتظر الرفد أو المعونة. فقد يقال فيه : نظرت إليه. ومنه
قولهم : انما نظرى الى الله ، ثم أليك. فهذا مجموع البحث فى هذه المسألة اللفظية.
* * *
واعلم : أن الأقرب
أن يقال : الأصل فى قول القائل : نظرت أليك : تقليب الحدقة نحوه. ثم قد يستعمل فى
الرؤية ، من حيث ان تقليب الحدقة سبب للرؤية ، ويستعمل أيضا فى الانتظار ، من حيث
ان تقليب الحدقة سبب للانتظار ، فان من انتظر شيئا فانه يقلب الحدقة نحو الجهة
التى ينتظر المقصود منها.
فهذا ما عندى فى
هذا البحث اللفظى.
الفصل الخامس
فى
اقامة الدلالة على أن المؤمنين
يرون الله تعالى يوم القيامة
ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٢ ـ ٢٣]
فنقول : النظر ان كان هو الرؤية ، فالمطلوب حاصل. وان كان عبارة عن تقليب الحدقة
الى جهة المرئى ، فنقول : هذا فى حق الله تعالى محال ، فوجب حمل لفظة النظر على
الرؤية اطلاقا للفظ السبب على المسبب ، فان النظر سبب للرؤية ، ولأن المقصود من
تقليب الحدقة انما هو الرؤية.
فان قيل : لا نسلم أنه حصل فى هذه الآية لفظ النظر مقرونا بحرف الى.
وقوله (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) فلا نسلم ان الى هاهنا من حروف الجر ، بل هو عندنا اسم.
وبيانه من وجهين:
الأول : انه واحد الآلاء ، على ما ذكره «الأزهرى» فى كتاب «التهذيب»
قال الشاعر. وهو «الأعشى» :
أبيض لا يرهب
الهزال ولا
|
|
يقطع رحما ، ولا
يخون الى
|
أى لا يخون نعمه.
اذا ثبت هذا فنقول
: انا توافقنا على أن لفظ (ناظِرَةٌ) اذا اذا كان عاريا عن حرف «الى» أفاد معنى الانتظار ،
كقوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل ٣٥] اذا
عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون تقدير الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أى نعمة ربها منتظرة؟
الثانى : ان لفظ الى جاء بمعنى عند ، قال الشاعر وهو «أوس» :
فهل لكم فيما
الى ، فاننى
|
|
طبيب بما أعيى
النطاسى حذيما؟
|
أى فهل لكم فيما
عندى؟ اذا ثبت هذا ، فلم لا يجوز أن يكون تقرير الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ). عند ربها ثم قال بعد ذلك (ناظِرَةٌ) أى منظرة. وهو خبر عن الوجوه. والتقدير : وجوه يومئذ ناضرة
عند ربها ، منتظرة نعمة ربها؟ سلمنا : أنه حصل فى هذه الآية لفظ النظر مقرونا بحرف
الى ، لكن لا نسلم أنه للرؤية. قوله : «لفظ النظر لتقليب الحدقة ، ولا يمكن حمله
هاهنا على هذا المعنى ، فوجب حمله على لازمه ، وهو الرؤي».
قلنا : حصل هاهنا وجهان آخران من المجاز :
الأول : اضمار المضاف. والتقدير الى ثواب ربها ناظرة.
والثانى : ان تقليب الحدقة الى جهة. كما يلزمه الرؤية ، فكذلك يلزمه
نوع النفع. وهو الانتظار. فلم كان حمل اللفظ على المجاز الّذي ذكرتم ، أولى من
حمله على أحد هذين المجازين؟
والجواب
: أما حمل لفظ الى
على واحد الآلاء ، أو على معنى عند. فانه يقتضي حمل قوله (ناظِرَةٌ) على الانتظار. وذلك غير
جائز. لأن
الانتظار يلزمه الغم ، كما قيل : الانتظار الموت الأحمر ، والبشارة بما يوجب الغم
غير لائقة بالحكمة. قوله : «المراد من الآية : الى ثواب ربها ناظرة»
قلنا : هذا مدفوع من وجهين :
الأول : ان ما ذهبتم إليه يوجب الاضمار
فى الآية. وما ذهبنا إليه يوجب المجاز. والمجاز خير من الإضمار ـ على ما بيناه فى
أصول الفقه ـ
والثانى : ان النظر الى الثواب لا يفيد
الفرح. فلا بد من اضمار زيادة أخرى. وهى كون ذلك الثواب واصلا إليه ، وتكثير
الاضمارات خلاف الأصل. قوله : «نحمله على الانتظار» قلنا : أنه غير جائز.
الحجة الثانية :
قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
: الْحُسْنى ، وَزِيادَةٌ) [يونس ٢٦]
والاستدلال به من وجهين :
الأول : ان الألف
واللام : فى (الْحُسْنى) اما أن يكونا للاستغراق أو للمعهود. ولا يجوز حملهما على
الاستغراق ، والا لدخلت الزيادة فيها. وذلك يمنع من عطف الزيادة عليها. فوجب
حملهما على المعهود. ولا معهود بين المسلمين الا الجنة ، وما فيها من الثواب
المشتمل على المنفعة وعلى التعظيم. واذا كان كذلك وجب أن تكون الزيادة شيئا مغايرا للثواب المشتمل على المنفعة وعلى التعظيم. وكل
من أثبت شيئا زائدا على المنفعة وعلى التعظيم الموعود به فى يوم القيامة ، قال :
انه هو الرؤية. فوجب أن يكون المراد من هذه الزيادة. الرؤية.
الثانى : ان النقل المستفيض صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الزيادة هى النظر الى الله تعالى»
__________________
الحجة الثالثة : قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ١٥] ذكر
كون الكفار محجوبين عن الرب سبحانه وتعالى فى معرض التحقير لشأنهم. وهذا يقتضي أن
يكون المؤمن المعظم مبرأ منه.
الفصل السادس
فى
حكاية شبه المعتزلة فى انكار الرؤية والجواب عنها
اعلم : أنهم
يتمسكون بوجوه عقلية ، وبوجوه نقلية.
أما الشبه النقلية
فأربع :
الشبهة الأولى : التمسك بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) [الأنعام ١٠٣]
اعلم أنهم تارة يتمسكون بهذه الآية فى بيان أنه تعالى لا يراه أحد ، وأخرى فى بيان
أنه يمتنع أن يراه أحد.
أما الوجه الأول : فتقريره أن نقول : الادراك المضاف الى البصر هو الرؤية
والابصار ، بدليل : أنه لا يصح اثبات أحدهما مع نفى الآخر ، فلا يصح أن يقال :
رأيته وما أدركته بعينى ، وأن يقال : أدركته بعينى وما رأيته. وهذا يدل على أن
ادراك البصر والرؤية شيء واحد. اذا ثبت هذا فنقول : انه تعالى نفى أن يدركه أحد من
الأبصار. وهذا يتناول جميع الأبصار فى جميع الأوقات. وذلك يقتضي أن لا يراه أحد فى
شيء من الأوقات.
واما
الوجه الثانى : فهو أنه تعالى يمدح نفسه بأنه لا يدركه شيء من الأبصار ، وكل ما كان عدمه مدحا
كان وجوده نقصا. والنقص على الله تعالى محال. فوجب أن تكون الرؤية ممتنعة على الله
تعالى.
الشبهة الثانية : تمسكوا بقوله تعالى لموسى عليهالسلام : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف ١٤٣]
وهذه الكلمة للتأبيد ، بدليل قوله تعالى : (قُلْ : لَنْ
تَتَّبِعُونا) [الفتح ١٥] نثبت :
أن موسى عليهالسلام لا يراه قط. واذا ثبت هذا فى حق موسى ، ثبت فى حق غيره ،
لانعقاد الاجماع على أنه لا قائل بالفرق.
الشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى ٥١] دلت
هذه الآية : على أن كل من يكلم الله تعالى ، فانه لا يراه. واذا ثبت عدم الرؤية فى
وقت الكلام ، ثبت عدم الرؤية فى غير الوقت الكلام. ضرورة. أنه لا قائل بالفرق.
الشبهة الرابعة : انه تعالى ما ذكر الرؤية فى القرآن ، الا وقد استعظمها.
وذلك فى ثلاث آيات : أولها : قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ، حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً. فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة ٥٥]
وثانيها : قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ : أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ. فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ. فَقالُوا : أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً. فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء ١٥٣]
وثالثها : قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ، أَوْ نَرى
رَبَّنا. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان ٢١].
وهذا الاستعظام يدل على أن رؤية الله تعالى ممتنعة.
* * *
وأما الشبه
العقلية : فهى أيضا أربع :
الشبهة الأولى ـ وهى شبهة الموانع ـ وقبل تقريرها لا بد من مقدمة. وهى أن
الأشياء التى يجب حصول الابصار فى الشاهد عند حصولها : ثمانية :
أحدها : سلامة الحاسة. وثانيها : كون الشيء بحيث أن يكون جائز
الرؤية. وثالثها : أن لا يكون فى غلية البعد. والرابع : أن لا يكون فى غاية القرب.
والخامس : أن يكون مقابلا للمرئى ، أو فى حكم المقابل. والسادس : أن لا يكون فى
غاية اللطافة. والسابع : أن لا يكون بين الرائى والمرئى حجاب. والثامن : أن لا
يكون فى غاية الصغر.
قالوا : عند حصول
هذه الأمور الثمانية ، يجب حصول الابصار. اذ لو لم يجب لجاز أن يحصل بحضرتنا جبال
عالية وشموس مضيئة وأصوات هائلة ، ونحن لا نراها ولا نسمعها وذلك يقتضي دخول
الانسان فى الجهالات.
اذا عرفت هذه
المقدمة ، فلنرجع الى تقرير الشبهة ، ونقول : أما الشرائط الستة الأخيرة ، فلا
يمكن اعتبارها الا فى رؤية الأجسام. والله تعالى ليس بجسم ، فلا يمكن اعتبار هذه
الشرائط فى رؤيته. فعلى هذا لو صحت رؤيته ، لوجب أن لا يصير فى حصول رؤيته الا
أمران سلامة الحاسة ، وكونه بحيث يصح أن يرى. وهذان الأمران حاصلان الآن. فثبت :
أنه لو صحت رؤيته ، لوجب أن نراه الآن. ولما لم يكن الأمر كذلك ، وجب أن يقال :
انما لا نراه الآن ، لأنه لا تصح رؤيته.
الشبهة الثانية ـ وهى شبهة المقابلة ـ وهى أن كل ما كان مرئيا ، وجب أن يكون
مقابلا للرائى ، أو فى حكم المقابل له. وذلك لا يصح الا فى الشيء الّذي يكون حاصلا فى الحيز والمكان. والله تعالى ليس
فى المكان والحيز ، فامتنع كونه مقابلا للرائى أو فى حكم المقابل له ، فامتنع كونه
مرئيا. وانما قلنا : ان المرئى يجب أن يكون مقابلا أو فى حكم المقابل ، احترازا عن
صور ثلاث :
__________________
أحدها : انا نرى الأعراض مقابلة للجسم ، الا أنها حالة فى الأجسام
المقابلة للرائى. فكانت فى حكم المقابلة. وثانيها : انا نرى وجوهنا فى المرآة ،
ويستحيل أن يكون الوجه مقابل لنفسه ، الا أن الشعاع يخرج من العين الى المرآة ، ثم
ينعكس من المرآة الى الوجه ، وبهذا الطريق يكون الوجه جاريا مجرى المقابل لنفسه.
وثالثها : الشيء الّذي يوضع فى الرطوبة. فانه وان لم يكن فى مقابلة العين ، الا أن
شعاع العين ينعطف عليه ويصير مرئيا. فهو أيضا فى حكم المقابل. اذا عرفت هذا فنقول
: ان «أبا الحسين البصرى» ادعى العلم الضرورى بأن ما لا يكون مقابلا ، ولا فى حكم
المقابل ، يمتنع أن يرى.
الشبهة الثالثة ـ وهى شبهة الانطباع ـ وهى أن كل ما يصير مرئيا ، لا بد وأن
تنطبع صورته ومثاله فى العين. والله تعالى لا صورة له ولا مثال ، فوجب أن تمتنع
رؤيته.
الشبهة الرابعة : ان كل ما كان مرئيا ، فلا بد له من لون وشكل. ودليله :
الاستقراء. والله تعالى منزه عن ذلك ، فوجب أن لا يرى.
فهذا مجموع شبههم
فى نفى الرؤية.
* * *
والجواب عن الشبهة الأولى ـ وهى تمسكهم
بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) [الأنعام ١٠٣] من وجوه :
الأول : لا نسلم أن الادراك عبارة عن الرؤية ، بل هو عبارة عن
الوصول. يقال : أدرك الغلام اذا صار بالغا ، وأدركت الثمرة اذا وصلت الى حد النضج.
قال تعالى : (قالَ أَصْحابُ مُوسى
: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء ٦١] أى
لملحقون. اذا عرفت هذا فنقول : ان من رأى شيئا ورأى أطرافه ونهاياته. قيل : انه
أدركه ـ على تقدير أن يكون قد أحاط به من جملة جوانبه ـ وهذا المعنى انما يتحقق فى
الشيء الّذي له أطراف ونهايات. والبارى تعالى منزه عن ذلك. فلم تكن
رؤيته ادراكا
البتة. فلم يلزم من نفى الادراك نفى الرؤية. فالحاصل : أن الادراك رؤية مكفية ولا يلزم من نفى الرؤية المكفية ، نفى أصل الرؤية. وكما
أنا نعرف الله ولا نحيط به. فكذلك نراه ولا ندركه.
الوجه الثانى فى الجواب : هب أن ادراك العين عبارة عن الرؤية ، الا أن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) نقيض لقولنا : تدركه الأبصار. وقولنا : تدركه الأبصار ،
يقتضي أن يدركه كل أحد. لأن الألف واللام اذا دخلا على اسم الجمع ، يفيدان
الاستغراق. ونقيض الموجبة الكلية : السالبة الجزئية. فكان قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) معناه : أنه لا تدركه جميع الأبصار ، ونحن نقول بموجبه.
فانه لا يراه جميع المبصرين. فان الكافرين لا يرونه بل يراه بعض الأبصار.
الوجه الثالث فى الجواب : انا نقول بموجب الآية : أنه لا تدركه الأبصار. فلم قلتم
بأنه لا يدركه المبصرون؟ فان قالوا : المراد من الابصار فى الآية : المبصرون ،
والا خرجت الآية عن أن تكون مفيدة. فنقول : اذا حملنا الأبصار على المبصرين ، وجب
أن يكون معنى قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصارَ) : أنه يدرك جميع المبصرين. ولا نزاع فى أنه تعالى مبصر ،
فيلزم بحكم هذه الآية : أن يبصر نفسه. وأنتم لا تقولون به.
الوجه
الرابع فى الجواب : هب أن ظاهره يدل على نفى الرؤية عن جميع المبصرين. الا أنه عام. وقوله تعالى :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٢ ـ ٢٣]
خاص. والخاص مقدم على العام.
__________________
وأما الوجه الثانى
فى تمسكهم بالآية : فنقول : ذلك انما يلزم لو حملنا الادراك على الاحاطة. قلنا :
هب أن الادراك محال على الله تعالى ، فلم قلتم : بأن الرؤية ممتنعة؟ وأيضا : نقول
هذا الاستدلال معارض بأن رؤية الله تعالى لو كانت ممتنعة ، لما حصل المدح بأنه لا
يرى. ألا ترى أن المعدومات تمتنع رؤيتها ، وليس لها مدح ، بل المدح انما يحصل لو
كانت رؤيته جائزة. ثم انه سبحانه وتعالى يقدر على منع الأبصار عن ذلك.
اذا ثبت هذا فنقول
: هذه الآية تدل على أن رؤية الله تعالى جائزة من هذا الوجه. واذا ثبت الجواز ،
وجب القول بالوقوع فى القيامة. ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وأيضا : فقولهم : ان كل
ما كان عدمه مدحا ، كان وجوده ممتنعا : منقوض بأنه تعالى يمدح بنفى الظلم والعبث
عن نفسه. حيث قال : (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤٦](وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص ٢٧] مع ان مذهب
المعتزلة أنه تعالى قادر على فعل الظلم والعبث.
واما
الجواب عن الشبهة الثانية ـ وهى التمسك بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ـ فنقول : كلمة (لَنْ) لا تدل على التأبيد ، بدليل قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة ٩٦] مع أنهم يتمنونه فى الآخرة.
والجواب
عن الشبهة الثالثة ـ وهى التمسك بقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ ، إِلَّا وَحْياً) فنقول : الوحى هو أن يسمع ذلك الكلام بسرعة ، وليس فيه أن
يكون محجوبا عن رؤية الله تعالى أم لا؟
وأما الجواب عن الشبهة الرابعة : أن نقول لم لا يجوز أن يكون ذلك الاستعظام لأجل أنهم طلبوا
الرؤية على سبيل التعنت والعناد.
والدليل عليه :
أنه تعالى استعظم أيضا طلبهم لا نزال الملائكة. ولا نزاع فى جواز ذلك ، الا أنهم
لما طلبوه على سبيل العناد ، استعظم الله ذلك. فكذا فى سؤال الرؤية.
* * *
وأما الشبه العقلية
: فنقول :
أما الشبهة الأولى ـ وهى شبهة الموانع ـ فالجواب عنها : على مقامين :
المقام الأول : لا نسلم أن عند حصول الشرائط الثمانية ، يجب حصول الأبصار.
ويدل على أنه غير واجب عقلا : وجهان :
الحجة الأولى : انا نرى الجسم الكبير من البعد صغير. وان رأينا جميع أجزائه
وجب أن لا نراه صغير ، بل كبيرا. وان لم نر شيئا من أجزائه ، وجب أن لا نراه
البتة. وان رأينا بعض أجزائه دون البعض ، مع أن جميع الأجزاء بالنسبة الى القرب
والبعد واللطافة والكثافة وعدم الحجاب وسلامة الحاسة وصحة الرؤية ، متساوية ، لزم
أن لا يكون الادراك مع حصول هذه الشرائط واجبا.
لا يقال : انا اذا أبصرنا شيئا ، اتصل بطرفيه من العين خطان شعاعيان
كساقى المثلث ، وصار عرض المرئى كالخط الثالث ، فحصل هناك مثلث. ثم يخرج من نقطة
الناظر خط آخر الى وسط المرئى ، قائم عليه ، يقسم ذلك المثلث الأول الى مثلثين.
وكل واحد منهما مثلث قائم الزاوية. وهذا يصلح أن يكون وترا ، لكل واحد من
الزاويتين الحادتين الواقعتين على طرفى المثلث الأول الكبير ، والخطان الطرفيان كل
واحد منهما وتر للزاويتين القائمتين. ولا شك أن وتر القائمة أعظم من وتر الحادة.
فالخطان الطرفيان كل واحد منهما أطول من الخط الوسطى. واذا كان كذلك ، لم تكن
أجزاء المرئى بالنسبة الى الرائى متساوية فى القرب والبعد. لأنا نقول :
لنفرض أن هذا
التفاوت واقع بمقدار شبر ، فلو كان المانع من الرؤية هذا القدر من التفاوت فى
البعد ، لكنا اذا جعلنا المرئى أبعد مما كان قبل ذلك بمقدار شبر ، وجب أن لا نراه
البتة. لكنا نراه. فعلمنا : أنه ليس السبب فى عدم رؤية بعض الأجزاء : ذلك القدر من
التفاوت فى البعد.
الحجة الثانية : اذا نظرنا الى مجموع كف من التراب ، رأيناه وذلك الكيف من
التراب عبارة عن مجموع تلك الذوات وتلك الأجزاء الصغيرة. فاما أن يكون ادراك كل
واحد من تلك الذوات مشروطا. بإدراك الآخر ، فيلزم الدور. واما أن لا يكون ادراك
شيء منها مشروطا بادراك الآخر ، وحينئذ يكون ادراك كل واحد من تلك الذوات حالتى
الانفراد والاجتماع على السوية مع أنا نراها حال الاجتماع ولا نراها حال الانفراد. وحينئذ
لا يكون الادراك واجب الحصول عند حصول تلك الشرائط. واما أن يكون ادراك البعض
مشروطا بادراك الباقى. ولا ينعكس. وهذا محال. ومع أنه محال فالمقصود حاصل.
أما أنه محال ،
فلأن الأجزاء متساوية فيكون هذا مفتقرا الى ذاك ، مع أن ذاك غنى عن هذا. وهذا
ترجيح من غير مرجح. وهو محال. وأما ان المقصود حاصل ، فلأن ادراك أحد تلك الأجزاء
اذا كان غنيا عن ادراك الآخر ، كان حالة عند الاجتماع وعند الانفراد فى صحة
الادراك على السوية. وحينئذ يعود المحذور.
فهذان برهانان
قويان فى بيان أن عند حصول هذه الشرائط : يكون الادراك غير واجب الحصول.
وقولهم : لو لم يجب الادراك ، لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبوقات ،
ونحن لا نراها ولا نسمعها.
__________________
قلنا : هذا معارض بجملة العاديات. سلمنا : أن عند حضور هذه الشرائط
فى الشاهد ، يكون الادراك واجب الحصول ، فلم قلتم : ان فى حق الله تعالى يجب أن
يكون كذلك؟ وتحقيقه : هو أن ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه
الحوادث. والمختلفان فى الماهية لا يجب استواؤهما فى اللوازم. فلم يلزم من كون
الادراك واجبا فى الشاهد عند حضور هذه الشرائط ، كونه واجبا فى الغائب عند حضورها؟
ومما يدل عليه : أن الادراك فى الشاهد مشروط بشرائط ثمانية ، وفى الغائب نقطع بأنه
لا يمكن اعتباره. فكذلك لا يمتنع أن يكون الادراك فى الشاهد واجب الحصول ، وفى
الغائب لا يكون واجبا. وهذا سؤال متعين لم يتنبه له أحد من المعتزلة ، ولا نبه أحد
من أصحابنا عليه.
وأما الشبهة الثانية : فالجواب عنها من
وجهين :
الأول : انا بينا فى المقدمة : أن ذكر الدلائل لا بد أن يكون مسبوقا
بتعيين محل النزاع. فنقول : محل النزاع : ان الموجود المنزه عن المكان والجهة. هل
تجوز رؤيته أم لا؟ فان ادعيتم أن العلم بامتناع رؤيته ضرورى ، فذلك باطل ـ على ما
بيناه فى المقدمة ـ وان ادعيتم أن هذا العلم استدلالى. فلا بد فيه من الدليل.
وقولكم «ان كل مرئى ، لا بد وأن يكون مقابلا» : يقرب من أنه اعادة للدعوى. لأن
المقابل هو الّذي يكون مختصا بجهة قدام الرائى فكأنكم قلتم : الدليل على أن ما لا
يكون فى الجهة لا يكون مرئيا : هو أن كل ما كان مرئيا فى جهة. والمنطقيون يسمون
هذه القضية الثانية : عكس نقيض القضية الأولى. وفى الحقيقة لا فرق بين القضيتين فى
الظهور والخفاء. فلم يجز جعل أحدهما حجة فى صحة الأخرى ، بل يقرب هذا من أن يكون
اعادة للمطلوب بعبارة أخرى.
والوجه الثانى فى الجواب : ثبت أن المقابلة شرط للرؤية فى الشاهد. فلم قلتم : انه فى
الغائب كذلك؟ وتقريره : ما ذكرناه فى
الجواب عن الشبهة
الأولى. وتمام الكشف
والتحقيق : انا ذكرنا فى المقدمات : أن المراد من الرؤية : أن يحصل لنا انكشاف
بالنسبة الى ذاته مخصوصة. وهو يجرى مجرى الانكشاف الحاصل عند ابصار الألوان
والأضواء. واذا كان الأمر كذلك ، فاذا الانكشاف يجب أن يكون على وفق المكشوف. فان
كان المكشوف مخصوصا بالجهة ، والحيز ، وجب أن يكون الانكشاف كذلك. وان كان المكشوف
منزها عن الجهة ، وجب أن يكون انكشافه منزها عن الحيز والجهة.
وأما الشبهة الثالثة : فجوابها أيضا على هذا القانون. فالرؤية عبارة عن هذا
الانكشاف التام. فان كان الشيء له صورة كان انكشافه بانكشاف صورته ولونه ، وان كان
منزها عن الصورة واللون ، كان انكشاف كذلك أيضا. لأن شرط الانكشاف أن يحصل على وفق
ماهية المكشوف ].
وهذا هو الجواب
بعينه عن الشبهة الرابعة.
* * *
واعلم : أن من
تأمل فى هذه الكلمات على سبيل الانصاف ، علم قطعا : أنه ليس للمعتزلة فى نفى
الرؤية شبهة تحيله البتة. وبالله التوفيق .
__________________
__________________
__________________
__________________
المسألة العشرون
فى
بيان أن كنه حقيقة الله تعالى
هل هو معلوم للبشر أم لا؟
والكلام فيه مرتب على
فصلين :
الفصل الأول
فى
أن العلم بالكنه هل هو الآن حاصل أم لا؟
قال الكثيرون من
المتكلمين : هذا العلم حاصل. وقال جمهور المحققين : بأنه غير حاصل. وهو المختار.
ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : ان المعلوم منه ليس الا الوجود ، والصفات السلبية ، والصفات
الاضافية. والعلم بهذه الأمور مغاير للعلم بالذات المخصوصة والحقيقة المخصوصة.
فوجب أن لا يكون العلم بالحقيقة المخصوصة حاصلا. انما قلنا : ان المعلوم ليس الا
الوجود والسلوب والاضافيات. وذلك لأنا اذا استدللنا بوجود الممكنات على وجود واجب
الوجود ، علمنا : أنه موجود. وما وراء ذلك فهو من باب الصفات. مثل : أن نقول : انه
واجب الوجود. ومعناه : أنه الموجود الّذي لا يقبل العدم. ونقول : أنه قديم. ومعناه
: انه كان موجودا من الأزل الى الآن. ونقول : انه أبدى. ومعناه : انه موجود من
الآن لا الى آخر ونهاية. ونقول : انه ليس بجسم ، ولا بجوهر ، ولا فى مكان ، وليس
له ضد ولا ند ، وكل ذلك سلوب. ونقول : انه قادر ، أى أنه يصح منه الفعل والترك
ونقول انه عالم أى أنه يصح منه ايقاع الفعل على وجه الاحكام. ونقول : انه مريد ، أى
أنه يصح منه ايقاع الفعل على سبيل التخصيص. وكل ذلك اضافات.
فثبت : أنه ليس
المعلوم للخلق منه ، الا الوجود والسلوب والاضافات. وانما قلنا : ان العلم بهذه
الأمور لا يقتضي العلم بالحقيقة المخصوصة. لأنا اذا رجعنا الى أنفسنا لم نجد عقلنا
جازما ، بأنه متى كانت الصفات هى هذه. وجب أن تكون الذات هى الحقيقة المخصوصة
الفلانية على التعيين ، بل نجد عقلنا جازما بأنه لا بد وأن تكون تلك الحقيقة فى
نفسها حقيقة مخصوصة متميزة عن سائر الحقائق [واما أن يعرف العقل تعين تلك الحقيقة. فهذا غير حاصل. وهذا كما
أنا لما شاهدنا الأثر المخصوص عن المغناطيس. قلنا : ان له حقيقة مخصوصة مميزة عن
سائر الحقائق. فأما أن نعلم تلك الحقيقة بعينها ، فهذا غير حاصل. فكذا هاهنا : لما
علمنا اختصاص ذاته بهذه الصفات على أصل الوجوب واللزوم ، علمنا أن له حقيقة متميزة
عن سائر الحقائق ، فأما أن نعلم من هذه الصفات تلك الحقيقة المخصوصة بعينها ، فهذا
غير حاصل. والعلم به ضرورى. فعلمنا : ان العلم بحقيقته المخصوصة : غير حاصل] .
الحجة الثانية : من البين : أن التصديق فرع التصور ، فما لا نتصور حقيقته لا
يمكننا أن نعلم أنها حاصلة أم غير حاصلة. ونحن لا يمكننا أن نتصور حقيقته الا اذا
أدركناها من أنفسنا ادراكا ضروريا ، كالعلم بالألم واللذة والفرح والغم والغضب ،
وأدركناها باحدى الحواس الخمس ، كالعلم بالألوان. فانه حصل من الابصار ، والعلم
بالأصوات فانه حصل بالسماع. وكذا القول فى بقية المحسوسات. وأما الماهية التى ما
أدركناها بواحد من هذين الطريقين فاننا نعلم أنها غير متصورة .
__________________
اذا عرفت هذا ،
فنقول : حقيقة الله وكنه ماهيته غير مدركة بأحد هذين الطريقين. فوجب أن لا تكون
متصورة عند العقول.
الحجة الثالثة : ان كل ما نعلمه منه سبحانه وتعالى ، فان مجرد تصوره غير ما
تبين من وقوع الشركة فيه. ولذلك فانا بعد معرفة هذه الصفات ، نفتقر الى اقامة
الدلائل على أنه سبحانه وتعالى واحد ، وأما ذاته المخصوصة فانها من حيث انها هى
مانعة من الشركة. واذا كان كذلك ، وجب القطع بأنه من حيث انه هو غير معلوم للبشر. وهذا
قياس جلى من الشكل الثانى.
* * *
واحتج القائلون
بأن تلك الحقيقة معلومة بوجهين :
الحجة الأولى : ان التصديق مسبوق بالتصور ، ولو لم تكن تلك الحقيقة معلومة
، لامتنع الحكم عليها بأنها غير معلومة.
الحجة الثانية : انا نحكم على تلك الذات المخصوصة بأنها موصوفة بالوجود
والقدم والدوام والوجوب والوحدة وصفات الجلال والاكرام. ولو لا أن تلك الحقيقة من
حيث هى هى معلومة ، والا لما أمكن الحكم عليها بهذه الصفات.
والجواب : تنتقض هاتان الحجتان بخواص الاغذية والأدوية فانها من حيث
هى هى مجهولة ، مع العلم بكونها مستلزمة للآثار المخصوصة. وكذا هاهنا.
واعلم : أن هذا
الب حث ينتج اشكالات عظيمة ، لا يليق ذكرها بهذه المواضع.
__________________
الفصل الثانى
فى
بيان أن كنه حقيقة الله تعالى ، وان لم يكن
الآن معلوما. فهل يصح أن يصير معلوما للبشر؟
اعلم : أنا اذا
رأينا الاحتراق حاصلا فى الجسم ، علمنا : أنه لا بد لذلك الاحتراق من محرق. وذلك
المحرق معلوم ، لكن علمنا (يكون) بالتبع والعرض. فانا لا نعلم فى هذا الوقت أن ذلك
المحرق ما هو؟ بل أنه شيء ما ، معين فى نفسه ، مجهول التعين عند العقل. ومن لوازمه
: حصول هذا الاحتراق. وأيضا : اذا وجدنا فى أنفسنا ألما ولذة وغما وفرحا. فهذه
الماهيات معلومة علما لا بالتبع والعرض ، بل بالذات والحقيقة. وهذه المرتبة أقوى
وأجلى من المرتبة الأولى. وأيضا : اذا أدركنا بالعين لونا وضوءا ، ثم غمضنا العين
، فانا ندرك تفرقة بديهية بين الحالتين ، مع أن العلم بذلك اللون المخصوص حاصل فى
الحالتين. وتلك التفرقة هى المسماة بالرؤية.
اذا عرفت هذا
فنقول : انا اذا استدللنا بوجود الممكنات على وجود الصانع ، فقد حصل النوع الأول
من العلم والمعرفة. أما النوع الثانى والثالث فهل هو ممكن الحصول؟ قال بعضهم : هذا
غير ممكن. لأنه غير متناه ، والعقل متناه ، وادراك غير المتناهى بالمتناهى محال.
ومن المحققين من
توقف فى جوازه وامتناعه. وقال : لا سبيل للعقل الى معرفة هذه المضايق ، بل السمع
لما دل على أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة ، دل ذلك على كون هاتين
المرتبتين ممكنتين. ولا شك أنه لا حال للبشر أشرف من هاتين الحالتين. فنسأل الله
أن يجعلنا بفضله أهلا لها. والله الموفق والمعين.
المسألة الحادية والعشرون
فى
بيان أن صانع العالم سبحانه وتعالى واحد
ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : لو كان فى الوجود شيئان ، كل واحد منهما واجب الوجود لذاته
، لكانا مشتركين فى الوجوب بالذات ، ومتباينين بالتعين. فيلزم وقوع التركيب فى ذات
كل واحد منهما. وكل مركب فهو ممكن لذاته. فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكنا لذاته.
وهو محال. وتمام البحث فيه قد تقدم فى مسألة حدوث الأجسام.
الحجة الثانية : الاله هو الّذي يكون قادرا على المقدورات. ولو فرضنا إلهين
، أراد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه. فاما أن يحصل المرادان. وهو محال ، أو لا
يحصل مراد واحد منهما. وذلك أيضا محال. لأن المانع لكل واحد منهما عن حصول مراده
ليس هو مجرد كون الآخر قادرا ، بل حصول مقدور الآخر. فاذن لا يمتنع حصول مراد هذا
، الا اذا حصل مقدور ذاك. ولا يمتنع حصول مراد ذاك ، الا اذا حصل مقدور هذا. فلو
حصل مراد كل واحد منهما لحصل مقدور كل واحد منهما. وحينئذ يرجع هذا القسم الثانى
الى القسم الأول. وقد بينا أنه محال. أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر.
وهذا أيضا محال
لوجهين :
الأول : ان الّذي حصل مراده. فهو قادر. والّذي لم يحصل مراده. فهو
عاجز. والعاجز لا يصلح للالهية.
والثانى : لما كانت لقدرة كل واحد منهما صلاحية التأثير فى ايجاد ذلك
المقدور. فنقول : انه يستحيل أن يقال : ان احدى هاتين الصلاحيتين أقوى من الأخرى.
وذلك لأن المقدور شيء واحد ، لا يقبل القسمة أصلا. واذا كان كذلك ، فهو اما أن
يكون موجودا ، أو معدوما. فأما القسم الثالث. وهو أن يقال : انه يصير بعضه موجودا
وبعضه معدوما. فذلك محال. واذا كان الأمر كذلك ، لم يكن ايجاد مثل هذا المقدور
قابلا للتفاوت. واذا لم يقبل التفاوت ، امتنع كون احدى القدرتين أقوى من الأخرى.
اذا ثبت هذا ،
فنقول : لما حصل التساوى فى قدرة هذين القادرين ، فلو حصل مقدور أحدهما دون الثانى
، لكان هذا ترجيحا لأحد المتساويين على الآخر ، من غير مرجح البتة. وذلك محال. فكان
هذا القسم محالا. فثبت : أن القول بوجود إلهين : يفضى الى أحد هذه الأقسام
الثلاثة. ولما ثبت أن كل واحد منهما محال باطل ، كان القول بوجود إلهين محالا
باطلا.
فان قيل : هذه الأقسام الثلاثة متفرعة على وقوع المخالفة بين الالهين.
فنقول : لم لا يجوز وجود الالهين ، بحيث يمتنع وقوع المخالفة بينهما ، فعليكم أن
تدلوا على صحة هذه المخالفة. ولا يقال : الّذي يدل على صحة وقوع المخالفة بينهما :
هو أنا لو قدرنا أحد هذين الالهين منفردا بالوجود ، لصح منه أن يريد حركة زيد. ولو
قدرنا الاله الثانى منفردا بالوجود ، لصح منه أن يريد سكون زيد. واذا ثبت هذا حال
الانفراد ، وجب أيضا حال الاجتماع. لأن ما لكل واحد من الذات والصفات. قديم.
والقديم لا يجوز عليه التغير والتبدل. وهذا يقتضي أن يكون كل واحد منهما حال
الاجتماع ، كما كان حال الانفراد. وهذا يوجب القطع بجواز المخالفة لأنا نقول :
أليس أنه انفرد
أحد الالهين ، لصح منه ايجاد الحركة. ولو انفرد الثانى لصح منه ايجاد السكون. ثم
انهما لما اجتمعا تعذر على كل واحد منهما ايجاد ما لم يكن متعذرا عليه وقت
الانفراد؟ واذا كان الحال كذلك فى القدرتين ، فلم لا يجوز مثله فى الارادتين؟
سلمنا : أن ما ذكرتم يدل على جواز المخالفة بينهما ، لكن معنا ما
يدل على أن مع القول بوجود الالهين ، يمتنع وقوع المخالفة بينهما. وهو من وجهين :
أحدهما : هو انا لو فرضنا إلهين ، لوجب كون كل واحد منها حكيما.
والحكيم هو الّذي لا يفعل الا الأفضل والأولى. ولا شك أن الأفضل والأولى فى كل شيء
واحد. واذا كان كذلك ، كان كل واحد منهما لكونه حكيما ، لا يريد الا ذلك الوجه
الواحد. واذا كان الأمر كذلك ، امتنع وقوع المخالفة بينهما.
الوجه الثانى : هو أن كل واحد منهما ، لما كان إلها ، وجب أن يكون كل واحد منهما
عالما بكل المعلومات. وكان كل واحد منهما عالما بأن أى المعلومات يقع؟ وأيها لا
يقع؟ وإرادة ما علم أنه لا يقع يكون محالا. واذا كان الشيء الّذي هو معلوم الوقوع
، ليس الا الواحد ، ويستحيل أن يريد الا ما كان معلوم الوقوع ، وجب أن يكون كل
واحد منهما مريدا لوقوع شيء واحد بعينه. وعلى هذا التقدير فانه يمتنع وقوع
المخالفة بينهما.
سلمنا : أنه يصح
وقوع المخالفة بينهما ، لكن المحالات التى الزمتمونا انما تلزم من وقوع المخالفة ،
لا من صحة المخالفة. فلما لم تثبتوا أن هذه المخالفة لا بد وأن تحصل وتدخل فى
الوجود ، لا يمكنكم أن تلزموا علينا تلك المحالات. فأنتم وأن
أقمتم الدلائل على
صحة المخالفة ، الا أنكم تحتاجون بعدها الى اقامة الدلالة على وقوع تلك المخالفة.
حتى يتم دليلكم.
والجواب : الدليل على صحة المخالفة بينهما : أنه لو انفرد هذا صحت منه
إرادة الحركة ، ولو انفرد ذلك صحت منه إرادة السكون. وعند اجتماعهما ، وجب القول
ببقاء هاتين الصحتين. ويدل عليه وجهان :
الأول : ان كل واحد من هاتين الصحتين أزلى. والأزلى يمتنع زواله.
والثانى
: ان زوال احدى
الصحتين بالأخرى ، انما يصح لو حصل بينهما نوع منافاة. والا لم يلزم من حصول
أحدهما زوال الثانى. واذا حصلت المنافاة من الجانبين ، لم يكن تأثير حصول أحدهما
فى عدم الآخر أولى من العكس. فلا بد وأن تزول كل واحدة من هاتين الصحتين
بالأخرى. الا أن هذا محال. لأن المؤثر فى عدم كل واحدة من هاتين الصحتين وجود
الأخرى. والعلة واجبة الحصول عند حصول المعلول. فلو عدمت الصحتان معا ، لزم من
عدمهما معا ، لزومهما معا. وهذا محال. فعلمنا : أنه لا تزول هذه الصحة ، ولا تلك
الصحة عند اجتماعهما. فثبت : أن صحة المخالفة حاصلة عند الاجتماع.
وأما قوله : «ان هذا ينتقض بالقدرتين ، فانه يصح على كل واحدة منهما
ايجاد أحد الضدين عند الانفراد ، ولا يصح منهما ايجادهما عند الاجتماع» قلنا : هذا
عين دليلنا على كون الله تعالى واحدا. لأنا
__________________
نقول : هذه الصحة
كانت ثابتة لكل واحدة من القدرتين عند الانفراد. فاذا بقيتا عند الاجتماع ، يلزم
منه صحة الجمع بين الضدين. وهو محال وان زالتا أو زالت احداهما. فهو محال للوجوه
التى ذكرناها. فعلم : أن القول بوجود الالهين يفضى الى هذا المحال. فكان القول به
محالا.
قوله : «لو حصل فى الوجود إلهان ، لكان كل واحد منهما حكيما. وذلك
يوجب توافقهما» قلنا : الفعل اما أن يتوقف على الداعى أو لا يتوقف. فان توقف لزم
الجبر. واذا لزم الجبر لم تكن فاعلية الله تعالى موقوفة على رعاية المصالح ، فلم
يلزم من خلو الفعل عن المصلحة ، أن لا يكون مراد الوقوع لله تعالى. فلم يلزم من
كون المصلحة واحدة ، عدم المخالفة. وان لم يتوقف الفعل على الداعى ، لم يلزم من
استواء الضدين فى المصلحة والمفسدة ، عدم الترجيح فى القصد والإرادة. فثبت : أن
هذا السؤال لا يمنع من صحة المخالفة.
قوله : «الشيء الّذي هو معلوم الوقوع واحد. وذلك يمنع من الاختلاف
فى الإرادة» قلنا : إرادة الوقوع متقدمة على الوقوع ، الّذي هو متقدم على العلم
بالوقوع. فيمتنع أن يكون العلم بالوقوع سببا لارادة الوقوع ، والا لزم الدور.
قوله : «هذه الأقسام الثلاثة انما تتولد من حصول المخالفة لا من
صحة المخالفة».
قلنا : هاهنا مقدمة يقينية. وهى أن كل ما كان ممكنا ، لا يلزم من
فرض وقوعه محال ، فلو كانت المخالفة ممكنة ، لم يلزم من فرض وقوعها محال. لكنه قد
لزم المحال من فرض وقوعها. وعند هذا نقول : لو فرضنا إلهين ، لكانت المخالفة
بينهما. اما أن تكون ممكنة ، واما أن لا تكون ممكنة. والقسمان باطلان ، فبطل القول
بوجود الالهين.
الحجة الثالثة على امتناع وجود الالهين
:
هى أنا لو فرضنا
إلهين ، لكان كل واحد منهما قادرا على جميع الممكنات ، لأن صفة القادرية لما كانت
فى حق كل واحد منهما من لوازم الذات ، وكانت نسبة تلك القادرية الى جميع الممكنات
على السوية ، وجب كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات. واذا ثبت هذا ، لزم أن كل
ما كان مقدورا لأحدهما فهو بعينه مقدور للآخر من جهة واحدة. وهى جهة الايجاد
والاختراع. الا أن ذلك محال ، لأن كل ما كان مقدورا لقادر ، صح منه ايجاده. واذا
قصد كل واحد منهما الى ايجاده. فاما أن يقع ذلك المقدور بهما معا ، أو لا يقع
بواحد منهما ، أو يقع بأحدهما دون الثانى. والأقسام الثلاثة باطلة.
أما القسم الأول ـ وهو وقوعه بهما جميعا ـ فهذا محال. لأن اسناد الأثر الى
المؤثر ، انما كان لامكانه وجوازه. والأثر اذا أخذ مع المؤثر التام ، كان واجب
الوجود. وكونه واجب الوجود يمنعه من اسناده الى القدرة الثانية. فكون الفعل مع
القدرة الثانية ، يمنع من الاسناد الى القدرة الاولى. فيلزم أن يكون حال وقوعه بكل
واحدة من القدرتين أن يكون واجب الانقطاع عن كل واحد منهما. وهو جمع بين النقيضين.
وهو محال.
وأما القسم الثانى ـ وهو أن لا يقع بواحد منهما ـ فهو أيضا محال. لأن المانع من
وقوعه بهذه القدرة ، وقوعه بتلك القدرة. والمانع من وقوعه بتلك القدرة : وقوعه
بهذه القدرة. فلا يمتنع هذا الا اذا وجد ذلك ، ولا يمتنع ذلك الا اذا وجد هذا. فلو
امتنعا معا ، لوجدا معا. وذلك محال. فيلزم اجتماع النفى والاثبات. وهو محال.
وأما القسم الثالث ـ وهو أن يقع بأحدهما دون الآخر ـ فهذا أيضا محال لوجهين :
الأول : ان كل واحد منهما فرضناه قادرا على جميع الممكنات ، فلا
يكون أحدهما أقدر من الثانى. واذا كان كذلك ، امتنع رجحان أحدهما على الآخر.
الثانى : ان وقوع التفاوت فى القدرة على ايجاد المقدور الواحد محال ،
لما بينا أن التفاوت فى الاقتدار ، يستدعى امكان وقوع التفاوت فى المقدور. والشيء
الّذي يكون واحدا وحدة حقيقية يمتنع وقوع التفاوت فيه ، فامتنع وقوع التفاوت فى
القدرة عليه. فثبت :
أن القول بوجود
الالهين يفضى الى أحد هذه الأقسام الثلاثة. وثبت : أن كل واحد منها محال ، فكان
القول بوجود الالهين محالا.
شبهة للخصم : انا نجد فى العالم شرا وخيرا. والفاعل الواحد لا يكون خيرا
وشريرا معا فلا بد من القول بالاثنين.
والجواب : ان الخير ان لم يقدر على دفع الشر ، فهو عاجز لا يصلح
للالهية ، وان قدر ولم يفعل فهو أيضا شرير ، لأن الراضى بأفعال الشر شرير. فثبت :
أن هذه الشبهة ساقطة والله أعلم.
المسألة الثانية والعشرون
فى
خلق الأفعال
اعلم : أن للعقلاء
فى الأفعال الاختيارية التى للحيوانات قولين :
القول الأول : ان ذلك الحيوان غير مستقل بايجاده وتكوينه.
وأصحاب هذا القول :
فرق أربع :
الفرقة الأولى : الذين يقولون : ان الفعل موقوف على الداعى. فاذا حصلت
القدرة وانضم إليها الداعى ، صار مجموعهما علة موجبة للفعل. وهذا قول جمهور
الفلاسفة. واختيار «أبى الحسين البصرى» ـ من المعتزلة ـ وهو وان كان يدعى الغلو فى
الاعتزال ، حتى ادعى أن العلم ـ بأن العبد يوجد ويستقل بالفعل ـ ضرورى. الا أنه
لما كان من مذهبه : أن الفعل موقوف على الداعى. واذا كان عند الاستواء ، يمتنع
وقوعه. وحال المرجوحية أولى بالامتناع. واذا امتنع المرجوح وجب الراجح. لأنه لا
خروج عن النقيضين : كان هذا عين القول بالجبر. لأن الفعل واجب الوقوع عند حصول
المرجح ، وممتنع الوقوع عند عدم المرجح. فثبت : أن «أبا الحسين» كان شديد الغلو فى
القول بالجبر ، وان كان يدعى فى ظاهر الأمر : أنه عظيم الغلو فى الاعتزال.
الفرقة الثانية : الذين يقولون : المؤثر فى وجود الفعل هو مجموع قدرة الله
تعالى وقدرة العبد. ويشبه أن يكون هذا قول «الأستاذ
__________________
أبى اسحاق
الأسفرائيني» فانه نقل عنه : أنه قال : «قدرة العبد تؤثر بمعين».
الفرقة الثالثة : الذين يقولون : الصلاة والزنا ، يشتركان فى كون كل واحد
منهما حركة ، وتمتاز احدى الحركتين عن الأخرى بكون احداهما صلاة ، والأخرى زنا.
فاذن الصلاة عبارة عن حركة موصوفة بوصف كونها صلاة ، والزنا عبارة عن حركة موصوفة
بوصف كونها زنا. اذا عرفت هذا فنقول : أصل الحركة انما يوجد بقدرة الله تعالى. أما
وصف كونها صلاة ، وكونها زنا ، فانما يقع بقدرة العبد. وهذا قول «القاضى أبى بكر
ابن الباقلانى».
الفرقة الرابعة : الذين يقولون لا تأثير لقدرة العبد فى الفعل وفى صفة من
صفات الفعل ، بل الله تعالى يخلق الفعل ويخلق قدرة متعلقة بذلك الفعل. ولا تأثير
لتلك القدرة البتة فى ذلك الفعل. وهذا قول «أبى الحسن الأشعرى».
فهذا كله تفصيل
مذاهب القائلين بأن الحيوان غير مستقل بايجاد فعله.
* * *
والقول الثانى : قول
من قال : الحيوان مستقل بايجاد فعله. وهو قول جمهور المعتزلة وهم طائفتان :
* * *
الطائفة الأولى : الذين يقولون : نحن نعلم بالضرورة كوننا موجدين لأفعالنا.
وهذا القول اختيار «أبى الحسين البصرى».
قال صاحب الكتاب :
أنا شديد التعجب منه . انه كيف جمع بين هذا القول ، وبين قوله : «الفعل موقوف
على الداعى»؟ فان هذا غلو فى الجبر. وكيف جمع معه الغلو فى القدر؟ وأما «محمود
__________________
الخوارزمى» فانه
لما أراد الجمع بين هذين القولين ، قال : «الفعل مع الداعى يصير أولى بالوقوع ،
ولا ينتهى الى حد الوجوب» وسنبين أن هذا القدر ضعيف .
الطائفة الثانية : الذين يقولون : ان علمنا بكوننا موجدين لأفعالنا ، علم
استدلالى. وهذا مذهب جمهور مشايخ المعتزلة.
فهذا تفصيل مذاهب
الناس فى هذه المسألة.
* * *
ولنا : دلائل :
الحجة الأولى : ان العبد حال ما رجح الفعل. هل يصح منه ترجيح الترك بدلا عن
الفعل ، أو لا يصح؟ فان كان حال كونه مصدرا للفعل ، لا يصح منه الترك. وحال كونه
مصدرا للترك ، لا يصح منه الفعل ، فحينئذ العبد غير مستقل لا بالفعل ولا بالترك.
وذلك هو المطلوب. واما ان صح منه الترك بدلا عن الفعل ، فترجيح أحد الطرفين على
الآخر ، اما أن يتوقف على مرجح أو لا يتوقف. فان توقف على مرجح ، فذلك المرجح اما
أن يكون من العبد ، أو من الله تعالى ، أو لا من العبد ولا من الله. فان كان من
العبد عاد التقسيم الأول. ويلزم التسلسل. وان كان من الله تعالى. فنقول : عند حصول
ذلك المرجح ، قد صار الفعل راجحا على الترك. ونقول : ذلك الرجحان اما أن يقال :
انه انتهى الى حد الوجوب ، أو ما انتهى الى حد الوجوب. فان كان الأول هو الحق ،
لزم الجبر ، لأنه على
__________________
تقدير حصول ذلك
المرجح ، صار الفعل واجب الوقوع ، وعلى تقدير أن لا يحصل ، كان الفعل ممتنع
الوقوع. وان كان الثانى ، هو الحق ، وهو أنه ما انتهى الى حد الوجوب. فنقول : اذا
كان الأمر كذلك ، كان عند حصول ذلك المرجح ، لا يمتنع حصول ذلك الفعل تارة وعدم
حصوله أخرى. وكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال.
فلنفرضه تارة
واقعا ، وأخرى غير واقع. فاختصاص أحد الوقتين بالوقوع ، والثانى بعدم الوقوع. اما
أن يتوقف على انضمام قيد زائد إليه ، أو لا يتوقف. فان توقف لم يكن الّذي حصل أو
لا ، تمام المرجح ، لأنه كان لا بد معه من هذا القيد. لكنا كنا فرضنا ما حصل أو لا
، تمام المرجح. هذا خلف.
وأيضا : فانه يعود التقسيم فى المجموع الحاصل من المرجح الأول ، ومن
هذا القيد. فان لم يصر الرجحان واجبا ، افتقر الى مرجح آخر ، ولزم التسلسل. وهو
محال. وان وجب ، عاد ما ذكرناه من لزوم الجبر. وأما ان كان اختصاص أحد الوقتين
بالوقوع ، لا يتوقف على انضمام قيد زائد الى ما كان حاصلا أولا ، مع أن نسبة ذلك
المرجح الّذي كان حاصلا أولا ، الى وقتى الوقوع واللاوقوع على السوية ، لزم رجحان
أحد طرفى الممكن المتساوى على الآخر من غير مرجح. وهو محال. وأما القسم الثالث :
وهو أن يحدث ذلك المرجح. لا من العبد ولا من الله تعالى. فهذا يقتضي حدوث الحادثات
لا عن محدث. وتجويزه يبطل القول بالاستدلال بحدوث الحوادث على وجود الله تعالى.
وهذا باطل.
هذا كله اذا قلنا
بأن العبد حال كونه مصدرا للفعل ، يصح منه الترك بدلا عن الفعل ، الا أن هذا
الرجحان يتوقف على مرجح. أما اذا قلنا : انه لا يتوقف على المرجح ، فحينئذ قد حصل
الرجحان لا عن
مؤثر. وتجويزه
يبطل القول بافتقار الجائزات الى المؤثر والمرجح ، ويلزم منه نفى الصانع. وأيضا :
فبتقدير أن يكون الأمر كذلك ، وجب أن يكون ذلك الرجحان واقعا بالاتفاق ، بمعنى أنه
يكون واقعا لا لأمر صدر عن الفاعل. وهذا أيضا يقتضي الجبر ، لأنه اذا وقع ذلك
الاتفاق ، حصل الفعل سواء أراد أو لم يرد. واذا لم يقع لم يحصل الفعل ، سواء أراد
أو لم يرد. فيكون الجبر لازما أيضا على هذا التقدير.
اذا عرفت هذا
فنقول : ثبت أن العبد حال كونه مصدرا للفعل. ان صح منه الترك. فاما أن يتوقف ذلك
الترجيح على المرجح ، أو لا يتوقف. وثبت أن القسمين باطلان ، فثبت أن العبد حال
كونه مصدرا للفعل ، يمتنع منه الترك. وحال كونه مصدرا للترك ، يمتنع منه الفعل.
فان قيل : هذا
الّذي ذكرتم فى الشاهد ، يلزمكم مثله فى الغائب. فوجب أن يكون البارى تعالى علة موجبة
بالذات ، لا فاعلا بالاختيار.
قلنا : الفرق بين
الشاهد والغائب : أن صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة. وهذه الإرادة فى
الشاهد محدثة ، فافتقرت الى محدث. فان كان ذلك المحدث هو العبد ، لزم التسلسل. وهو
محال. فوجب القول بانتهاء الارادات الى إرادة ضرورية ، يخلقها الله تعالى فى العبد
ابتداء. وعند هذا يصير الجبر لازما. أما إرادة الله تعالى فهى قديمة عندنا ،
فاستغنت تلك الإرادة لأجل قدمها عن إرادة أخرى. فظهر الفرق بين الصورتين.
الحجة
الثانية : لو كان العبد
موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل أفعاله. وهو غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه
، فوجب أن لا يكون موجدا لها. بيان الملازمة : انه لكونه قادرا يصح منه وقوع
__________________
ذلك الفعل بذلك
المقدار ، ويصح وقوعه أزيد منه أو أنقص منه. فوقوع ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه
، أو دون ما هو أنقص منه ، لا يكون الا لأجل القصد والاختيار. والقصد والاختيار
مشروط بالعلم ، لأن القصد الى ايجاد العشرة فوق الخمسة ، ودون العشرين ، لا يتأتى
الا مع العلم بأنه عشرة ، وليس بخمسة ، وليس بعشرين.
فثبت : أن العبد
لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل أفعال نفسه. وهذا هو معنى قوله
سبحانه وتعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ؟ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك ١٤)
أحدها : ان النائم والمغمى عليه قد ينقلب من أحد جنبيه الى وانما
قلنا : ان العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه لوجوه :
الجنب الآخر ، مع
أنه ليس له من كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها خبر البتة.
والثانى
: ان أكثر المتكلمين
متوافقون فى اثبات الجوهر الفرد ، ومتى ثبت القول بالجوهر الفرد ، كان التفاوت بين
الحركات فى البطء والسرعة ، لأجل تخلل السكنات فيما بين الحركات. وسيأتى البرهان
على ذلك فى تقرير مسألة الجوهر الفرد.
واذا ثبت هذا
فنقول : النملة اذا تحركت بحركة بطيئة ، فذاك لأنها تحركت فى بعض الأحياز وسكنت فى
بعضها. ومعلوم أنه ليس عند النملة خبر من كمية عدد تلك الأحياز ، وليس عندها خبر
من أنها سكنت هاهنا ، وتحركت هناك ، والحال فى الآدمى الّذي هو أعقل الحيوانات كذلك
، فانه اذا مشى فلا شك أن مشيه أبطأ من حركة الفلك. وذلك لأنه سكن فى بعض الأحياز
، وتحرك فى بعضها. وهذا الّذي هو أعقل الخلق ، لو أراد أن يعرف أنه أين سكن؟ واين
تحرك؟ لم يعرف. فعلمنا : أن العبد غير عالم بتفاصيل أحوال فعله.
الثالث : ان مذهب «أبى على» و «أبى هاشم» : أن الجسم. اذا تحرك ،
فهناك ثلاثة أمور : الجسم ، والمتحركية ، والحركة. وهذه الحركة معنى توجب
المتحركية. وتأثير قدرة العبد ليس فى نفس المتحركية ، بل فى هذا المعنى الّذي يوجب
تلك المتحركية. ومعلوم أن أكثر العقلاء غافلون عن هذا الثالث. ولا يخطر ببالهم ،
ولا يدور فى خيالهم تصور هذا الثالث. واذا ثبت كونهم غافلين عن ماهيته ، استحال
منهم القصد الى ايجاده وتكوينه. فان ما لا يكون متصورا عند الذهن ، امتنع القصد
الى ايجاده. وهذا الوجه الثانى والثالث مختص بمشايخ المعتزلة. فأما «أبو الحسين»
فانه متوقف فى الجوهر الفرد ، وناف لهذا المعنى الثالث. فلا يلزمه ذلك.
الرابع : ان من حرك اصبعه. فلا شك أن ذلك الاصبع مركب من الأجزاء.
وقامت بكل واحدة منها حركة على حدة. فاذا لزم فيمن يوجد الشيء أن يكون عالما
بتفاصيله من الكمية والكيفية ، وجب فى محرك هذا الاصبع أن يكون عالما بأن أجزاء
هذا الاصبع. كم هى؟ حتى يمكنه القصد الى ايجاد الحركة فى كل واحد من تلك الأجزاء ،
ويكون عالما بعدد الأحياز الواقعة من مبدأ الحركة الى منتهاها ، حتى يمكنه القصد
الى ايجاد الحركات فى تلك الأحياز ، ولما لم يكن شيء من هذه الأحوال معلوما ،
علمنا : أن العبد غير عالم بتفاصيل افعال نفسه.
واذا ثبت هذا
فنقول : ظهر أنه لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل تلك الأفعال ،
وظهر أنه غير عالم بتفاصيلها ، فوجب القطع بأن العبد غير موجد لها.
الحجة الثالثة : على أن العبد غير موجد لأفعال نفسه : هو ان ذاته سبحانه وتعالى
مستلزمة للقادرية. اما لنفس ذاته عند من يقول : انه تعالى قادر لذاته ، أو بواسطة
كونها مستلزمة لمعنى ، وذلك المعنى
يستلزم القادرية ـ
عند من يقول : انه تعالى قادر لمعنى ـ وعلى التقديرين فان نسبة ذاته الى جميع
الممكنات على السوية. فيلزم أن يكون الله تعالى قادرا على جميع الممكنات ، وأن
يكون تعالى قادرا على جميع المقدورات ، وعلى مقدورات العباد.
اذا ثبت هذا فنقول
: ذلك المقدور اما أن يقع بمجموع القدرتين ـ أعنى قدرة الله وقدرة العبد ـ واما أن
لا يقع بواحدة منهما ، واما أن يقع باحدى القدرتين دون الأخرى. وهذه الأقسام
الثلاثة باطلة ، بعين الدليل الّذي ذكرناه فى مسألة التوحيد ، فوجب أن لا يكون
العبد قادرا على الايجاد والتكوين.
الحجة الرابعة : لو كانت قدرة العبد صالحة للايجاد ، فاذا أراد الله تعالى
تسكين جسم ، وقدرنا أن العبد أراد تحريكه. فاما أن يقع المرادان. وهو محال. أو لا
يقع واحد منهما. وهو أيضا محال ـ على ما بيناه فى مسألة التوحيد ـ لأنه خروج عن
النقيضين. أو يقع مراد الله تعالى دون مراد العبد وهو أيضا محال. لأن وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر ،
لأن الله تعالى ، وان كان قادرا على ما لا نهاية له ، والعبد ليس كذلك. الا أن ذلك
لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى وقدرة العبد ، فى هذه الصورة. لأن الحركة
الواحدة والسكون الواحد ماهية غير قابلة للقسمة والتفاوت بوجه من الوجوه. واذا كان
المقدور غير قابل للتفاوت ، لم تكن القدرة على مثل هذا المقدور قابلة للتفاوت ، فيمتنع
أن تكون قدرة الله على ايجاد هذه الحركة أقوى من قدرة العبد على ايجاد السكون ، بل
الله تعالى قادر على سائر المقدورات ، والعبد غير قادر عليها. لكن ذلك التفاوت لا
يوجب التفاوت فى القدرة على تلك الحركة ، والقدرة على هذا السكون.
__________________
واذا ثبت أن قدرة
الله تعالى على ايجاد هذه الحركة المعينة لا يمكن أن تكون أقوى من قدرة العبد على
ايجاد هذا السكون ، استحال أن يقال : ان مقدور الله تعالى أولى بالوقوع من مقدور
العبد ، وثبت أن التفاوت الحاصل بسبب أن قدرة الله تعالى متعلقة بما لا نهاية له
وقدرة العبد متعلقة بالمتناهى ، لا يقدح فى ذلك التساوى. فثبت : أن بتقدير أن تكون
قدرة العبد صالحة للايجاد ، يلزم أحد هذه الأقسام الثلاثة. وثبت : أن كل واحد منها
باطل ، فلزم القطع بأن قدرة العبد غير صالحة للايجاد.
الحجة الخامسة : ان الفعل الاختيارى لا يقع منه ، الا ما تعلق به القصد
والاختيار. والكافر لا يقصد ولا يختار احداث الجهل ، بل لا يقصد الا العلم والصدق
، فكان يجب أن لا يحصل له الا العلم والصدق. ولما قصد العلم وحصل له الجهل ، علمنا
: أن وقوعه ليس بايقاعه بل بايقاع غيره.
فان قيل : انما حصل ذلك الجهل ، لأنه ظن أنه علم ، فلا جرم قصد
ايقاعه.
قلنا : فهو انما اختار الجهل بسبب أنه كان ذلك الجهل المتقدم حاصلا
له. فان كان القول فيه كما فى الأول ، لزم أن يكون كل جهل مسبوقا بجهل آخر ، لا
الى بداية وذلك محال. فاذن لا بد من انتهاء هذه الجهالات الى جهل أول ، غير مسبوق
بجهل آخر. وذلك الجهل الأول يستحيل أن يكون بسبب أن الانسان اختاره. لأن الإنسان
لا يختار ذلك البتة. فثبت : أن ذلك الجهل الأول انما حصل بايجاد الله تعالى
وتخليقه ، وسائر الجهالات تفرعت عليه. فكان الكل مستندا بالحقيقة الى تخليق الله
تعالى وتكوينه.
وأما المعتزلة. فكلامهم فى هذا الباب فى
غاية الكثرة والبسط ،
الا أنه يرجع الكل
الى حرف واحد ، وهو أنه لو لا الاستقلال بالفعل ، لكان الأمر والنهى والمدح والذم
والثواب والعقاب : باطلا.
والجواب : ان هذا السؤال لازم عليكم أيضا ، من ستة أوجه :
الأول ـ هو أن العلم بعدم الايمان ووجود الايمان ، متضادان متنافيان
لذاتيهما ، كما أن الحركة والسكون متنافيان متضادان لذاتيهما. وذلك لأن العلم بعدم
الايمان لا يكون علما ، الا مع عدم الايمان ، وعدم الايمان ووجوده متنافيان ، فوجب
القول بأن العلم بعدم الايمان. مناف ومضاد لوجود الايمان ، وكما أن الأمر بالجمع
بين الحركة والسكون ، أمر بايجاد ما يمتنع وجوده ، فكذلك الأمر بالايمان ، مع قيام
العلم بعدم الايمان أمر بالجمع بين الضدين.
اذا عرفت هذا ،
فنقول : انه تعالى كان عالما من الأزل الى الأبد ، بأن «أبا لهب» لا يؤمن. ثم انه
كان يأمره بالايمان ، فكان هذا أمرا بالجمع بين النقيضين. وهو محال. فالقول بتكليف
ما لا يطاق لازم عليه فى مسألة العلم ، كما أنه لازم علينا فى مسألة خلق الأفعال.
ولو أن جملة
العقلاء اجتمعوا وأرادوا ، أن يوردوا على هذا الكلام حرفا ، لم يقدروا عليه. الا
أن يلتزموا مذهب «هشام بن الحكم» وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، لا
بالوجود ولا بالعدم. الا أن أكثر المعتزلة يكفرون من يقول بهذا القول. والله أعلم.
الوجه الثانى فى الالزام : انه تعالى
قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة ٦] ،
فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر ، لو آمنوا لانقلب هذا الخبر كذبا ،
__________________
والكذب على الله
تعالى محال. والمفضى الى المحال محال. فكان صدور الايمان عنهم محالا ، مع أن الله
تعالى كان يأمرهم بالايمان.
الوجه الثالث : انه تعالى كلف «أبا لهب» بالايمان. ومن جملة الايمان تصديق
الله تعالى فى كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنه : أن «أبا لهب» لا يؤمن. فقد صار «أبو
لهب» مكلفا بأن يؤمن ، بأنه لا يؤمن. وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين.
الوجه الرابع : هو ان توجه التكليف على العبد. اما أن يكون حال استواء
الداعى الى الفعل أو الترك ، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر. أما الأول فهو
تكليف بما لا يطاق. لأن الاستواء والرجحان متناقضان ، فلو كلف حال الاستواء
بالترجيح ، لكان قد وقع التكليف بالجمع بين النقيضين. وأما الثانى فهو أيضا تكليف
بما لا يطاق ، لأنه ان كلف بالراجح ، فالراجح واجب الوقوع ـ على ما بيناه ـ وما
كان واجب الوقوع لنفسه ، استحال أن يكون وقوعه بايقاع موقع منفصل ، فكان أمره
بايقاعه ، أمرا له بما ليس فى وسعه ، وان كلف بالمرجوح فالمرجوح ممتنع الوقوع ،
فكان هذا أمرا بايقاع ما يكون ممتنع الوقوع. والله أعلم.
فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : انه حال استواء الداعيين ، يكون مأمورا
بالترجيح لا فى هذه الحالة التى هى حالة الاستواء ، بل فى الحالة الثانية منهما؟
قلنا : اذا توجه عليه هذا التكليف فى حال الاستواء. فاما أن يؤمر حال الاستواء بأن
يحصل الترجيح فى هذه الحالة التى هى حال الاستواء ، فيكون هذا جمعا بين النقيضين. واما
أن يقال : انه فى هذه الحالة مأمور بأن يوقع الترجيح فى الحالة الثانية من هذه
الحالة. ونقول : هذا القسم أيضا ينقسم الى قسمين. وذلك لأنه اما أن يكون المراد
منه : أنه حال الاستواء أعلمه أنه اذا
جاءت الحالة
الثانية ، فهو فى تلك الحالة الثانية مأمور بايقاع الترجيح ، لكن على هذا التقدير
لا تكليف عليه فى حال الاستواء ، بل أعلمه أنه فى الحالة الثانية سيصير مكلفا.
واذا كان كذلك فنحن نقول : عند مجىء الحالة الثانية ، اما أن يكون الحال حال
الاستواء ، أو حال الترجيح. ويعود الاشكال المذكور ، واما أن يكون المراد منه :
أنه فى حالة الاستواء مأمور فى هذه الحالة ، بأن يوقع الرجحان فى الحالة الثانية.
لكن على هذا
التقدير يتوجه تكليف ما لا يطاق. لأن ايقاع الرجحان فى الزمان الثانى ، مشروط
بحصول الزمان الثانى. وحصول الزمان الثانى فى الزمان الأول محال ، فكان ايقاع
الترجيح فى الزمان الثانى عند حصول الزمان الأول ، موقوفا على شرط محال ، والموقوف
على المحال محال. فقول القائل : انه كلف حال الاستواء بأن يوقع الترجيح فى الزمان
الثانى : يكون تكليفا بما لا يطاق.
الوجه الخامس : أن نقول : ان شيئا من التصورات غير مكتسب ، فشيء من
التصديقات البديهية غير مكتسب ، فشيء من التصديقات غير مكتسب. مع أنه ورد الأمر
بتحصيل المعرفة ، فكان هذا تكليفا بما لا يطاق. وانما قلنا : ان شيئا من التصورات
غير مكتسب ، لأن من طلب اكتسابه ، فاما أن يكون له شعور بتلك الماهية ، واما أن لا
يكون فان كان له شعور بتلك الماهية ، كان تصورها حاصلا له ، وطلب الحاصل محال ،
وان لم يكن له شعور بتلك الماهية ، استحال طلبها ، لأن الغافل عن الشيء ، يمتنع أن
يكون طالبا له.
فان قلت : انه
مشعور به من وجه دون وجه. قلت : الوجه الشعور به مغاير للوجه الغير مشعور به ،
فالمشعور به أمتنع طلبه ، لكونه حاصلا ، وغير المشعور به ، امتنع طلبه ، لكونه
مغفولا عنه.
وانما قلنا : انه
لما كانت التصورات غير مكتسبة ، كانت التصديقات البديهية غير مكتسبة. وذلك أن
التصديقات البديهية هى التى يكون مجرد طرفى موضوعها ومحمولها ، كافيا فى جزم الذهن
باثبات أحدهما للآخر أو سلبه عنه.
وعلى هذا التقدير
: ان حضرت التصورات ، كان ذلك التصديق واجب الحصول ، وان لم تحضر كان ذلك التصديق
ممتنع الحصول. واذا كان هذا التصديق واجب الحصول ، لزم الدوران ، نفيا واثباتا عند
حضور تلك التصورات نفيا واثباتا. وثبت : أن حضور تلك التصورات نفيا واثباتا ليس
باختيار الانسان ، فلزم أن يكون حصول هذه التصديقات نفيا واثباتا ، ليس باختيار
الانسان. فثبت : أن هذه التصديقات البديهية ، ليس شيء منها مكتسبا.
وانما قلنا : انه
لما كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون شيء من التصديقات مكتسبا. وذلك لأن التصديقات
المكتسبة لا تتسلسل ولا تدور ، بل لا بد من انتهائها الى المكتسب الأول ، فيكون
التصور المكتسب الأول هو تلك البديهيات لا محالة ، فتلك البديهيات اما أن تكون
تامة فى استلزام المكتسب الأول ، واما أن لا تكون. فان كانت البديهيات تامة ، لزم
من حصولها حصول المكتسب الأول ، ويلزم من عدمها امتناع حصول المكتسب الأول ، لأنه
لا سبب للمكتسب الأول الا تلك البديهيات وحينئذ يكون المكتسب الأول واجب الدوران ،
نفيا واثباتا ، مع ما لا يكون باختياره ، لا نفيا ولا اثباتا. وحينئذ يخرج المكتسب
الأول عن أن يكون باختياره.
واذا عرفت هذا
فنقول : حال المكتسب الثانى بالنسبة الى المكتسب الأول ـ كما ذكرناه ـ وعلى هذا
التقدير ، لا يكون شيء من العلوم مكتسبا.
وأما ان قلنا بأن
تلك البديهيات غير تامة فى استلزام المكتسب الأول ، فحينئذ لا بد مع تلك البديهيات
من شيء من المكتسبات ، فحينئذ يكون ذلك المكتسب مقدما على أول المكتسبات. وذلك
محال. فثبت وما ذكرنا : أن جميع العلوم ، اما بديهية ، واما أن تكون من لوازم
البديهيات. وشيء منها ليس بمكتسب ، فاذن شيء من المعلوم غير مكتسب. ولا شك فى ورود
الأمر بها ، لقوله تعالى : (فَاعْلَمْ : أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد ١٩] فثبت :
أن تكليف ما لا يطاق لازم على الكل.
الوجه السادس : انه ورد الأمر بتحصيل معرفة الله تعالى. فنقول : اما أن
يقال : انه توجه هذا الأمر على من يعرف الله ، أو على من لا يعرف الله تعالى. فان كان
الأول كان هذا أمرا بتحصيل الحاصل. وانه محال. وان كان الثانى كان هذا توجها لأمر
الله تعالى على من لم يكن عارفا بالله تعالى. والجاهل بالذات جاهل بالصفات ، فاذن
هذا الأمر متوجه على شخص لا يمكنه حال بقاء ذلك الأمر : ان يعرف الآمر والأمر.
وذلك عين تكليف ما لا يطاق.
فثبت بهذه الوجوه
السنة : أن تكليف ما لا يطاق لازم على الكل. والاستقصاء فى هذا الباب ، مذكور فيما
صنفناه فى أصول الفقه.
فان قيل : هب أن هذا الاشكال لازم على الكل. فما الحيلة لنا ولهم فى
دفعه؟
قلنا : الحيلة ترك الحيلة ، والاعتراف بأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما
يريد ، وأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وهذا آخر المباحث
المحصلة فى هذا الباب. وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة والعشرون
فى
أنه لا يخرج شيء من العدم إلى
الوجود إلا بقدرة الله تعالى
اعلم : ان أكثر
أرباب الملل يخالفوننا فى هذه المسألة ولو أطنبنا فى شرح المذاهب وابطالها ، لطال
الكتاب الا أنا هاهنا نكتفى بالاختصار.
فنقول : الّذي يدل
على صحة قولنا وجوه :
الأول : ان علة صحة المقدورية هى الامكان ، والامكان حكم مشترك فيه
بين كل الممكنات ، واذا كانت العلة مشتركة فيها ، كان الحكم كذلك. فاذن كل حكم الممكنات مشتركة فى كونها بحيث يصح أن تكون مقدورة لله
تعالى. والمقتضى لكونه قادرا على المقدور ، هو ذاته. ونسبة الذات الى الكل على
السوية. فلما اقتضت الذات كونه تعالى قادرا على البعض ، وجب أن تقتضى كونه قادرا
على الكل. فثبت : أنه تعالى قادر على كل الممكنات ، فلو فرضنا شيئا آخر يصلح لأن
يكون مؤثرا فى الوجود ، فعند فرض اجتماع هذين المؤثرين. اما أن يقع الأثر بهما ،
أو لا يقع بواحد منهما ، أو يقع بأحدهما دون الثانى. والأقسام الثلاثة باطلة ، لما
مرت الاشارة إليه فى مسألة التوحيد ، ومسألة خلق الأفعال فوجب القطع بأنه لا شيء سوى قدرة الله تعالى يصلح للتأثير
والتكوين.
__________________
الثانى : ان صفة الامكان صفة واحدة فى الممكنات ، وانها محوجة الى
المؤثر. فاما أن يقال : الامكان يحوج الى مؤثر معين ، أو يحوج الى مؤثر غير معين.
والثانى محال. لأن ما لا يكون معينا فى نفسه ، لا يكون موجودا ، وما لا يكون
موجودا استحال احتياج غيره إليه فى الوجود. فاذن الامكان يحوج الى شيء معين.
وذلك المعين اما
أن يكون من الممكنات ، واما أن لا يكون. لا جائز أن يكون من الممكنات والا لكان
امكان ذلك الشيء ، يحوجه الى نفسه ، وحينئذ يكون موجدا لنفسه. وكل ما كان موجدا
لنفسه ، كان واجبا لذاته ، فيكون الممكن لذاته واجبا لذاته. وهو محال. ولما بطل أن
يكون ذلك الشيء من الممكنات ، ثبت : أنه واجب لذاته. فثبت : أن الامكان يحوج جميع
الممكنات الى الموجود الواجب لذاته ، فيكون الواجب لذاته هو المبدأ لوجود جميع
الممكنات. وهو المطلوب.
فان قيل : لم لا يجوز ان يكون الامكان علة للحاجة الى المؤثر ، من حيث
انه مؤثر. والمؤثر من حيث هو مؤثر ، له ماهية واحدة ، بالنوع. وهى لا تمنع دخول
أشياء كثيرة تحتها بالعدد.
والجواب : لما كان المؤثر من حيث انه مؤثر ، مفهوما واحدا ، مشتركا
فيه بين ذوات الماهيات المختلفة ، يلزم أن تكون المؤثرية لاحقا من لواحق تلك
الماهيات المختلفة. وكل ما كان كذلك ، كان مفتقرا الى المؤثر : ويعود التقسيم
الأول فيه ، ولا ينقطع الافتقار والاستناد ، الا عند الانتهاء الى الذات. ويجب أن
تكون تلك الذات معينة ـ كما بيناه ـ وحينئذ يحصل المطلوب.
الحجة الثالثة ـ هى مبنية على أصول الحكماء ـ : هى أن كل ما كان ممكنا لذاته
، فهو قابل للوجود والعدم ، فلو كان شيء من
الممكنات مؤثرا فى
وجود شيء آخر ، لزم كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا. وهو محال. فاذن الممكن له
خاصية القبول ، وليس له صلاحية التأثير ، كما أن الواجب لذاته ، له خاصية التأثير
، وليس له صلاحية القبول.
واعلم : أن
المخالفين فى هذه المسألة فرق كثيرة :
الفرقة الأولى من المخالفين فى هذه
المسألة : الفلاسفة. الذين يقولون :
المعلول الأول لذات الله تعالى من غير واسطة شيء واحد ، وهو العقل الأول. وأما
سائر الأشياء فهى معلولات معلولاته. ولهم فيه شبه :
الشبهة الأولى : ان مفهوم أنه تعالى مصدر (ا) غير مفهوم أنه مصدر (ب) بدليل:
أنه يصح العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر. وهذان المفهومان اما أن يكونا داخلين فى
الماهية ، أو خارجين عنها ، أو يكون أحدهما داخلا فى الماهية ، والآخر خارجا عنها.
فان كانا داخلين فى الماهية ـ وهو القسم
الأول ـ كانت الماهية
مركبة. وهذا فى حق واجب الوجود محال.
وان كانا خارجين عن الماهية ـ وهو القسم
الثانى ـ فلا شك انهما من
لواحق هذه الماهية. وكل ما كان خارجا عن الماهية لاحقا لها غير مستقل بنفسه ، فانه
يكون ممكنا بذاته واجبا بغيره ، وحينئذ يعود التقسيم من أن تكون تلك الماهية مصدرا
لأحد هذين اللازمين مغايرة لكونها مصدرا للازم الثانى. وان كان هذان المفهومان
أيضا خارجين عن الماهية ، لزم اما التسلسل واما الانتهاء الى الكثرة فى الماهية ـ وهو
القسم الأول ـ
وأما القسم الثالث : وهو أن يكون أحد القسمين داخلا فى الماهية والآخر خارجا عنها فهذا يقتضي أن تكون هذه الماهية مركبة. لأن كل ما له
جزء ، فأقله أنه مركب من جزءين. وذلك يقتضي أن يكون المعلول واحدا ، لأن الجزء
متقدم والمعلول متأخر ، والجزء لا يكون معلولا.
فثبت : أن القول
بصدور الشيئين عنه ، يفضى الى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون باطلا.
الشبهة الثانية : اذا صدر عن الشيء الواحد باعتبار واحد ، الألف والباء ـ والألف
لا شك أنه غير الباء ـ فمن حيث انه صدر عنه الألف لم يصدر عنه الباء ، لأنه من ذلك
الحيث صدر عنه الباء ، والباء ليس بالألف. ومن حيث انه صدر عنه الباء ، لم يصدر
عنه الألف.
الشبهة الثالثة : العلة لا بد أن تكون ملائمة للمعلول ، والشيء الواحد
بالاعتبار الواحد ، لو أوجب الشيئين المختلفين ، لزم أن يكون الشيء الواحد
بالاعتبار الواحد ملائما لشيئين مختلفين. والملائم للشيئين المختلفين مختلف ،
فيلزم أن يكون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد ، مخالفا لنفسه. وهو محال.
الشبهة الرابعة : لما شاهدنا أن تأثير النار هو التسخين ، وتأثير الماء هو
التبريد ، استدللنا بهذين الأثرين على أن طبيعة الماء مخالفة لطبيعة النار ، واذا كان اختلاف
الأثر ، دالا على اختلاف المؤثر ، فبأن يدل على تعدد المؤثر أولى.
__________________
والجواب عن الشبهة الأولى : ان الوحدة يصدق عليها أنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ،
وربع الأربعة. فنقول : مفهوم أنها نصف الاثنين ، مغاير لمفهوم أنها ثلث الثلاثة ،
ويعود التقسيم الّذي ذكرتم فيها ، فيلزم وقوع الكثرة فى الوحدة. وذلك محال. ولما
كان هذا الكلام باطلا ، فكذا ما ذكرتم.
والجواب عن الشبهة الثانية : ان نقيض أنه صدر عنه الألف ، هو أنه ما صدر عنه الألف ، لا
أنه صدر عنه ما ليس بألف. والفرق ظاهر بين قولك ما حصل بالألف وبين قولك حصل ما
ليس بالألف. ولو صح ما ذكرتم لزم أن لا يقبل الواحد الا الواحد ، لأنه قبل الألف
وقبل الباء ـ والباء ليس بألف ـ فحين قبل الألف لم يقبل الباء وذلك محال. ولما كان هذا الكلام باطلا فى جانب القابل ،
فكذا فى جانب الفاعل.
والجواب عن الشبهة الثالثة : ان الملائم غير ملخص المعنى. فان أردتم به كون العلة مماثلة
للمعلول ، فهذا خطأ. لأن المعلول لذاته محتاج الى العلة ، والعلة لذاتها مؤثرة فى
المعلول ، فلو كانت العلة والمعلول مثلين ، لزم كون العلة معلولا والمعلول علة.
وهو محال. وان كان المراد من الملائمة شيئا آخر ، فلا بد من بيانه.
والجواب عن الشبهة الرابعة : ان الّذي به عرفنا أن طبيعة الماء تخالف طبيعة النار ، ليس
هو مجرد اختلاف الأثرين ، بل لما رأينا الماء حاصلا بدون التسخين ، والنار حاصلة
بدون التبريد ، علمنا بهذا : اختلاف طبيعتيهما. فالحاصل : أن المعرف لاختلاف
الطبيعتين هو تخلف الآثار ، لا اختلاف الآثار .
__________________
والفرقة الثانية من المخالفين فى هذه
المسألة : الثنوية الذين ينسبون
الخير الى النور ، والشر الى الظلمة. واعلم : أن النور كيفية قائمة بالجسم. ونحن
قد دللنا على أن الجسم محدث ، فكان القول بحدوث النور الّذي هو كيفية قائمة بالجسم
أولى.
وقدماء المشايخ أبطلوا مذهبهم : بأن من قال أخطأت. فقائل هذا القول اما أن يكون هو النور ،
أو الظلمة. فان كان هو النور ، فان كان صدقا ، فالنور قد فعل الشر ، وان كان كذبا
ـ والكذب شر ـ فالنور قد فعل الشر ، وان كان قائل هذا القول هو الظلمة ، فان كان
صدقا ـ والصدق خير ـ فالظلمة فعلت الخير ، وان كان كذبا ، فالظلمة ما فعلت الخطأ.
وترك الخطأ خير ، فالظلمة فعلت الخير.
الفرقة الثالثة من المخالفين فى هذه
المسألة : المنجمون الذين يقولون :
المدبر فى هذا العالم السفلى هو الأفلاك والكواكب. والّذي يدل على بطلان قولهم :
ان الأفلاك. اما أن تكون بسائط أو مركبة من أجزاء كل واحد منها بسيط فى نفسه. وكل بسيط فانه يحصل له جانبان
بحيث يكون كل واحد منهما مساويا للآخر فى تمام الماهية. وكل ما كان كذلك ، فكل ما
صح على أحد جانبيه صح على الآخر ـ بكل ما كان كذلك ـ فما كان ممسوس يمينه صح أن
ينقلب ممسوس يساره ، وبالعكس. وكل ما كان كذلك ، فان التركيب والانحلال جائزان
عليه. فاذن التركيب والانحلال جائزان على أجرام الفلك والكواكب. فيلزم من هذه
النكتة : فساد أصول الفلاسفة ، اصحاب المجسطى فى أجرام الفلك. ويلزم القول
بافتقارها فى ذواتها وصفاتها وأشكالها الى تقدير فاعل مختار.
__________________
واحتجوا بأنا
نشاهد أن تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب. ويدل عليه : حال
الليل والنهار ، وحال الفصول الأربعة.
والجواب : ثبت فى المنطق أنه لا يلزم من حصول شيء عند شيء ، ومن عدمه
عند عدمه ، كونه معللا به ، لاحتمال حصول هذا الدوران مع شطر العلة وشرط العلة ،
ومع صفة لازمة للعلة طردا وعكسا ، مع أنه يكون أجنبيا عن التأثير.
الفرقة الرابعة من المخالفين فى هذه
المسألة : الطبيعيون وهم يقولون : ان
حوادث هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان ، معللة بامتزاج هذه العناصر بعضها
مع بعض.
واعلم ـ ان القول
بالمزاج باطل. وذلك لأن هذه العناصر اذا اختلطت وامتزجت فاما أن يكون تأثير كل
واحد منها فى الآخر ، وتأثر كل واحد منها عن الآخر : يقع دفعة ، واما أن يوجد
تأثير أحدهما فى الآخر ، ثم بعد ذلك يعود ذلك المغلوب غالبا.
والأول باطل. لأن
المؤثر فى انكسار كل واحد منهما : قوة الآخر. فالحار والبارد لو حصل انكسارهما معا
ـ وحال حصول المعلول لا بدّ من حصول العلة ـ يلزم أن يكونا فى غاية القوة حال
كونهما منكسرين ، وذلك محال. والثانى باطل أيضا. لأن المغلوب بعد صيرورته مغلوبا ،
يمتنع أن يعود غالبا مع أنه حال قوته ، كان عاجزا عن قهره.
لا يقال : لم لا
يجوز أن يقال : النارية صفة قائمة بجسم النار ، وتلك الصفة علة للحرارة واليبوسة ،
وكذا المائية صفة قائمة بالماء ،
وتلك الصفة علة
للبرودة والرطوبة. فالكاسر لبرد الماء ورطوبته ، ليس هو حر النار ويبسها ، بل
ناريتها ، والكاسر لحر النار ويبسها ، ليس هو برد الماء ورطوبته ، بل مائيته؟
وعلى هذا التقدير
يزول السؤال لأنا نقول : النارية والمائية انما يتنافيان بواسطة ما بين أثريهما من
التنافى. وحينئذ يعود الكلام الأول.
الفرقة الخامسة من المخالفين فى هذه
المسألة : المعتزلة. أما «النظام» فقال
: انه تعالى غير قادر على خلق القبيح. قال : لأن صدور هذه الأشياء عن الله تعالى
محال. وكل محال فهو غير مقدور. وانما قلنا : انه محال. لأن صدور هذه الأشياء عن
الله تعالى ، يستلزم الجهل ، أو الحاجة وكل واحد منهما محال. ومستلزم المحال محال.
فصدور هذه الأشياء عن الله تعالى محال. وانما قلنا : ان المحال غير مقدور ، لأن
المحال ما يمتنع وقوعه ، والمقدور هو الّذي يمكن وقوعه. والجمع بينهما محال.
والجواب على مذهبنا : ان خلق شيء من الأشياء لا يدل فى حق الله تعالى على الجهل ،
ولا على الحاجة. فزال هذا السؤال.
وأما على مذهب «المعتزلة» فالجواب عن
هذه الشبهة :
ان معنى كون
القبائح مقدورة لله تعالى : أنه لو صح تحقق الداعى الى فعل هذه القبائح فى حق الله
تعالى ، كانت قادريته صالحة لايجادها. فالحاصل : أن فعل هذه القبائح وان كان
ممتنعا لامتناع الداعى ، لكنه غير ممتنع بالنظر الى صلاحية القدرة.
وأما «الكعبى» فانه يقول : انه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد ، لأن فعل العبد
اما طاعة أو معصية. وهما محالان على الله تعالى فثبت : أنه تعالى غير قادر على مثل
فعل العبد.
والجواب : ان طاعة العبد ومعصيته. اما حركة واما سكون. والله تعالى
قادر على جميع الحركات والسكنات.
وأما البصريون فقد
سلموا أنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد ، الا أنهم قالوا : انه تعالى غير قادر
على نفس مقدور العبد.
واحتجوا عليه :
بأن ما كان مقدورا للقادر ، فلا بد أن يحصل عند ما يدعوه الداعى الى فعله ، وأن لا
يحصل عند ما يصرفه الصارف عن فعله. فلو فرضنا مقدورا واحدا بين قادرين ، وحصل
الداعى الى الفعل فى حق أحدهما ، وحصل الصارف عن الفعل فى حق الثانى ، لزم أن يوجد
ذلك الفعل وأن لا يوجد. وهذا محال. فالقول بوجود مقدور بين قادرين محال.
والجواب : [ ان من جوز وجود مقدور واحد لقادرين ، لم يسلم أنه يلزم من
تحقق الصارف فى حق أحد القادرين عن الفعل أن لا يوجد الفعل ، لاحتمال أن يكون قصد
غيره الى ايجاده سببا لوجوده.
وأيضا : الرجل اذا اعتمد على جسم آخر ، فحدثت حركة فى ذلك الجسم
الآخر ، فقد اتفقت المعتزلة على أن الحركة الحاصلة فى ذلك الجسم المباين ، انما
حصلت بتأثير هذا الاعتماد وتأثير هذه المدافعة. وأصحابنا أنكروا ذلك.
وهذه هى المسألة] المشهورة بمسألة التولد.
وحجة أصحابنا : أنه لو صح القول بالتولد ، لزم وقوع الأثر الواحد بمؤثرين
مستقلين بالأثر. وهذا محال فالقول بالتولد محال. بيان الملازمة : انه اذا التصق
جوهر فرد ، بكف رجلين ، ثم ان أحدهما جذب الكف فى حال ما دفع الآخر أيضا كفه. فلو
صح القول بالتولد ، كان الجذب مولدا للحركة فى ذلك الجوهر ، كما أن الدفع
__________________
مولد للحركة فيه.
فاما أن تتولد من كل واحد منهما حركة على حدة أو تتولد منهما معا حركة واحدة.
والأول باطل ، لأنه يقتضي حصول الجسم الواحد ، فى الحيز ، فى الآن الواحد ، مرتين.
وهذا غير معقول
وأيضا : فعلى هذا
التقدير ، تكون الحركتان ، متماثلتين ، فليس استناد أحدهما الى الجذب ، والثانية
الى الدفع أولى من العكس ، فيلزم استناد كل واحد من الحركتين الى الجذب والى الدفع
، فيعود الأمر الى وقوع الأثر الواحد بمؤثرين مستقلين. ولما بطل هذا القسم ثبت :
أنه حصل فى ذلك الجوهر الفرد حركة واحدة ، حصلت بعلة الجذب وبعلة الدفع ، ثم كل
واحدة من هاتين العلتين مستقلة باقتضاء هذا الأثر ، مع القول بالتولد. فيلزم حصول
الأثر الواحد بمؤثرين مستقلين. وذلك محال. لأن ذلك الأثر يستغنى بكل واحد منهما عن
كل واحد منهما. وهو محال.
واستدلال المعتزلة على القول بالتولد :
انما هو لحسن المدح والذم ، والثواب ، والعقاب. وقد تقدم الجواب عنه فى مسألة خلق
الأفعال.
المسألة الرابعة والعشرون
فى
بيان أنه تعالى مريد لجميع الكائنات
مذهب المعتزلة : ان الإرادة توافق الأمر : فكل ما أمر الله به ، فقد أراده.
وكل ما نهى عنه ، فقد كرهه.
ومذهبنا : ان الإرادة توافق العلم. فكل ما علم وقوعه فهو مراد الوقوع
، وكل ما علم عدمه فهو مراد العدم. فعلى هذا ايمان «أبى جهل» مأمور به. وهو غير
مراد ، وكفره منهى عنه. وهو مراد.
لنا وجهان :
الحجة الأولى : قد دللنا على أنه تعالى خالق أفعال العباد. وكل من خلق شيئا
لا على سبيل الاكراه والالجاء ، فهو مريد لذلك الشيء ، فوجب القطع بأنه تعالى مريد
لجميع أفعال العباد.
الحجة الثانية : انه تعالى علم من «أبى جهل» أنه لا يؤمن. وقد بينا أن العلم
بعدم الايمان مضاد لوجود الايمان. وعند قيام أحد الضدين كان الضد الثانى ممتنع
الوجود لذاته. فاذن ايمان «أبى جهل» ممتنع الحصول مع ذلك العلم. وكل المعلومات
معلوم لله تعالى. فالله تعالى لا بد وأن يكون عالما بامتناع وجود هذا الايمان. ومن
كان عالما بكون الشيء ممتنع الوجود ، استحال أن يكون مريدا لوجوده وهذا يدل على
أنه سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون مريدا لصدور الايمان عن الكافر.
وأما المعتزلة.
فقد احتجوا على قولهم بوجوه :
الشبهة الأولى : انه تعالى أمر الكافر بالايمان. وكل من أمر بشيء فهو مريد
لوجود المأمور به ، فيلزم أن يكون الله تعالى أراد الايمان من الكافر.
الشبهة الثانية : إرادة الكفر والفسق سفه ، والسفه لا يليق بالحكيم. وأيضا :
ان من أراد منه الكفر والفسق ، ثم انه يعاقب عليهما ، كان ذلك غاية السفاهة.
الشبهة الثالثة : الطاعة عبارة عن تحصيل
مراد المطاع. فلو أراد الله تعالى الكفر من الكافرين ، لكان الكافر مطيعا لله
تعالى بكفره. وذلك باطل
بالاتفاق.
الشبهة الرابعة : الرضا بقضاء الله تعالى واجب بالاجماع ، فلو كان الكفر
بقضاء الله تعالى ، لوجب الرضا بالكفر ، لكن هذا باطل. لأن الرضا بالكفر كفر.
الشبهة الخامسة : لو أراد الله تعالى الكفر من الكافر ، وخلق الكفر فى الكافر
، لكان تكليف الكافر بالايمان تكليف بما لا يطاق. وهذا باطل بالعقل والسمع.
أما العقل : فلأن كل انسان يجد بالضرورة من نفسه ، أنه ان أراد الطاعة ،
يمكنه فعلها. فكيف يقال : انه غير متمكن من الطاعة ، مع أنه يجد بالضرورة ثبوت هذه
المكنة؟
أما السمع : فقوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا بِاللهِ)؟ ـ [النساء ٣٩](فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر ٤٩] وكذا
القول فى جملة الآيات الدالة على أن الانسان غير عاجز عن الاتيان بالطاعات.
الشبهة السادسة : التمسك بقوله تعالى : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر ٧] وقوله
تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر ٣١] وبقوله
: (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) [فاطر ٨]
* * *
والجواب عن الشبهة الأولى : لا نسلم أن الأمر بالشيء يستدعى إرادة المأمور به. فان
النزاع ما وقع الا فيه.
وعن الشبهة الثانية
:
أنا سنقيم الدلالة
القاطعة ـ ان شاء الله تعالى ـ على أن القبيح لا يقبح الا بالشرع ، وعلى هذا الأصل
فانه لا يقبح من الله تعالى شيء.
وعن الشبهة الثالثة : ان الطاعة موافقة للأمر لا موافقة للارادة.
وعن الشبهة الرابعة : القضاء صفة الله. ونحن راضون بقضاء الله تعالى. أى راضون
بصفة الله تعالى ، وأما الكفر فليس هو نفس قضاء الله تعالى ، بل هو مقتضى قضاء
الله تعالى ، ولم يدل الدليل على أنه واجب الرضى بكل شيء قضى الله تعالى به.
وعن الشبهة الخامسة : المعارضة بالوجوه الستة التى ذكرناها فى خلق الأفعال.
وعن الشبهة السادسة : ان الرضا والمحبة ، ترك الاعتراض. والكفر والمعاصى. وان
كانا بإرادة الله تعالى لكنهما ليستا بمحبة الله تعالى ولا برضاه.
__________________
المسألة الخامسة والعشرون
فى
أن الحسن والقبح يثبتان بالشرع
أهم المهمات فى
هذه المسألة : تعيين محل النزاع فنقول : لا نزاع فى أنا نعرف بعقولنا كون بعض
الأشياء ملائما لطباعنا ، وبعضها منافرا لطباعنا. فان اللذة وما يؤدى إليها ملائم
، والألم وما يؤدى إليه منافر ، ولا حاجة فى معرفة هذه الملائمة وهذه المنافرة الى
الشرع.
وأيضا : نعلم بعقولنا : أن صفة كمال ، والجهل صفة نقص ، وانما النزاع فى أن كون
بعض الأفعال متعلق الذم فى الدنيا والعقاب فى الآخرة ، وكون البعض الآخر متعلق
المدح فى الدنيا والثواب فى الآخرة. هل هو لأجل صفة عائدة الى الفعل ، أو ليس
الأمر كذلك ، بل هو محض حكم الشرع بذلك ، أو حكم أهل المعرفة به؟
قالت : المعتزلة :
المؤثر فى هذه الأحكام : صفات عائدة الى الأفعال.
ومذهبنا : أنه مجرد حكم الشرع.
واذ تنقح محل
النزاع. فنقول : الّذي يدل على قولنا وجوه :
الحجة الأولى : ان أفعال العباد. اما اضطرارية ، واما اتفاقية. وعلى
التقديرين فالقول بالحسن والقبح العقليين باطل. بيان المقدمة الأولى : ان صدور
الفعل عند حصول القدرة والداعى. اما أن يكون
واجبا ، أو لا.
فان كان واجبا كان فعل العبد اضطراريا ، لأن حصول القدرة والداعى ليس بالعبد ،
والا لزم التسلسل. واذا كان كذلك فعند حصولهما يكون الفعل واجبا ، وعند ما لا
يكونان حاصلين كان الفعل ممتنعا ، فكان الاضطرار لازما لا محالة.
وأما ان لم يكن
حصول الفعل عند حصول القدرة والداعى واجبا ، فاما أن يتوقف رجحان الفعل على الترك
على مرجح أو لا يتوقف. فان توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول ذلك المرجح واجبا.
وإلا عاد الكلام الأول ولزم التسلسل. واذا كان واجبا عاد القول بأن حصول الفعل عند
حصول القدرة والداعى اضطرارى. وأما ان لم يتوقف رجحان الفعل على الترك على مرجح ،
كان رجحان الفعل اتفاقيا ، بمعنى أنه اتفق حصول هذا الرجحان ، لا لمؤثر أصلا ، فلا
يكون ذلك الرجحان من العبد. فثبت : أن أفعال العباد اما اضطرارية واما اتفاقية.
واذا كان كذلك وجب أن يكون القول بالحسن والقبح العقلى باطلا.
أما على قولنا
فظاهر ، وأما على قول المعتزلة فلأن كل واحدة من هاتين الحالتين ينافى الاختيار ،
وعند فقدان الاختيار لا يبقى الحسن والقبح.
فان قيل : فهذا
الكلام بتمامه قائم فى الغائب ، فينبغى أن لا يصدر من الله تعالى فعل حسن ولا فعل
قبيح. قلنا : قد ذكرنا فى مسألة خلق الأفعال أن صدور الفعل عن القادر ، موقوف على
المرجح ، وذلك المرجح هو الإرادة. والإرادة فى حق العبد محدثة ، فافتقرت الى
الخالق والموجد ، فكان هذا المعنى لازما فى حق العبد ، بخلاف البارى تعالى ، فان
ارادته قديمة أزلية ، فاستغنت عن المؤثر. فلم يلزم الجبر فى حقه.
الحجة الثانية : لو كان الظلم قبيحا لوجه عائد إليه ، لزم تعليل الحكم الوجودى
بالعلة العدمية. وهذا محال فذلك محال. بيان الملازمة : ان القبيح نقيض اللاقبيح
واللاقبيح محمول على العدم ، والمحمول على العدم عدم ، فلا قبيح عدم. فوجب أن يكون
القبح صفة موجودة. اذا ثبت هذا فنقول : الظلم ماهية مركبة من أمور : منها : كون
ذلك الاضرار غير مستحق. ومعلوم أن كونه غير مستحق قيد عدمى ، فاذا عللنا قبح الظلم
بكونه ظلما ، وكونه ظلما ماهية مركبة من قيود : أحدها : قيد عدمى ، فحينئذ لم يكن
مجموع القيود المعتبرة فى كونه ظلما : أمرا وجوديا. فيلزم تعليل القبح الّذي هو
صفة موجودة ، بالعدم ، وهو محال. وانما قلنا : ان تعليل ذلك الموجود بالعدم محال ،
وذلك لأن العدم نفى محض وسلب صرف ، وايجاد الغير يعتمد كونه موجودا فى نفسه. واذا
لم يكن له ثبوت وتحقق أصلا ، امتنع كونه علة لغيره.
الحجة الثالثة : لو كان قبح الكذب لكونه كذبا ، لوجب أن يقبح كل ما كان كذبا
، وكان يلزم أن يكون الكذب الّذي يكون سببا لخلاص الأنبياء والرسل ـ عليهمالسلام ـ عند اقدام الظلمة عليهم بالقتل ، وأنواع الايذاء : قبيحا.
ومعلوم : أنه ليس كذلك. فدل هذا على أن كونه كذبا ليس علة للقبح.
فان قيل : الكذب فى جميع المواضع قبيح. والواجب فى هذه الصور انما هو
ذكر المعاريض. كما قيل : «ان فى المعاريض لمندوحة عن الكذب» وأيضا : لم لا يجوز أن
يقال: ان كونه كذبا علة للقبح. الا أن الحكم تخلف عن العلة فى هذه الصورة ، لقيام
مانع ومعارض.
__________________
والجواب عن السؤال الأول : انا نفرض أن الكلام فيما اذا لم يكن التعريض كافيا ، كما
اذا قال : هل رأيت فلانا فى هذه الساعة؟ وهل تعرف مكانه؟ فان قلت : نعم. طالبك به
وقتله لا محالة ، وان قلت : لا. فقد كذبت.
وأما السؤال الثانى : فجوابه : انه لو جاز تخلف القبح عن الكذب لمانع ، فلا كذب الا ويجوز أن
يقال له : لعله وجد مانع من الموانع يمنعه من قبحه. وعلى هذا التقدير لا يمكنك
الحكم القطعى بقبح شيء من الأكاذيب. أقصى ما فى الباب : أن يكون الحاصل هو الظن.
وعند هذا لا يمكنك الحكم بقبح الكذب فى حق الله تعالى.
الحجة الرابعة : لو أن ظالما قال لشخص : انى سأقتلك غدا. فههنا الحسن اما أن
يقتله. وهو باطل قطعا. أو أن لا يقتله ، الا أنه اذا لم يقتله صار الخبر بأنه
سيقتله غدا : كذبا. فلو كان الكذب قبيحا ، لكان ترك القتل يلزمه القبيح ، وما
يلزمه القبيح فهو قبيح ، فكان يجب أن يكون ترك القبيح قبيحا. ولما كان ذلك باطلا ،
علمنا : أنه لا يمكن الحكم بقبح الكذب مطلقا. وبالله التوفيق.
شبهة للخصم : انا نعلم ببداهة العقل أن الظلم قبيح ، وأن الاحسان حسن.
وهذا العلم غير مستفاد من الشرع. فان من ينكر الشرع ، حصل له هذا العلم. فدل ذلك
على أن هذا مستفاد من العقل.
والجواب : ان هذا الحسن والقبح عبارتان عن رغبة الطبع ونفرته. ولا نزاع فى
أن هذا معلوم بالعقل وانما النزاع فى أن كون الفعل متعلق الذم والعقاب ، أو متعلق
المدح والثواب. هل هو لأجل صفة قائمة بالفعل؟ وما ذكرتموه لا يدل على ذلك. وتمام
الكلام فيه ، مذكور فى كتاب «المحصول فى علم الأصول» والله أعلم.
__________________
المسألة السّادسة والعشرون
فى
أنه لا يجوز أن تكون أفعال الله
تعالى وأحكامه معللة بعلة البتة
اتفقت المعتزلة : على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية مصالح
العباد. وهو اختيار أكثر المتأخرين من الفقهاء. وهذا عندنا باطل. ويدل عليه وجوه
خمسة :
الحجة الأولى : ان كل من فعل فعلا ، لأجل تحصيل مصلحة ، أو لدفع مفسدة ،
فان كان تحصيل تلك المصلحة أولى له من عدم تحصيلها ، كان ذلك الفاعل قد استفاد
بذلك الفعل تحصيل تلك الأولوية. وكل من كان كذلك ، كان ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره. وهو فى حق
الله تعالى محال. وان كان تحصيلها وعدم تحصيلها بالنسبة إليه سيان فمع الاستواء لا
يحصل الرجحان ، فامتنع الترجيح.
لا يقال : حصولها
ولا حصولها بالنسبة إليه ، وان كانا على التساوى ، الا أن حصولها أولى للعبد من
عدم حصولها له ، فلأجل الأولوية العائدة الى العبد ترجح الوجود على العدم. لأنا
نقول : تحصيل مصلحة العبد وعدم تحصيلها له اما أن يكونا متساويين بالنسبة الى الله
تعالى ، أو لا يستويان. وحينئذ يعود التقسيم المذكور.
الحجة الثانية : لو كانت موجدية الله تعالى معللة بعلة ، لكانت تلك العلة.
ان كانت قديمة لزم من قدمها قدم الفعل. وهو محال. وان
__________________
كانت محدثة ،
افتقر كونه تعالى موجدا لتلك العلة ، الى علة أخرى. فيلزم التسلسل. وهو محال. وهذا
هو المراد من قول مشايخ الأصول «علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه».
الحجة الثالثة : ان جميع الأغراض ، يرجع حاصلها الى شيئين : تحصيل اللذة
والسرور ، ودفع الألم والحزن. والله تعالى قادر على تحصيل هذين المطلوبين ابتداء
من غير شيء من الوسائط. وكل من كان قادرا على تحصيل المطلوب ابتداء بدون الواسطة ،
ولم يصر تحصيل ذلك المطلوب بتلك الوسائط أسهل عليه من تحصيله ابتداء : كان التوسل
الى تحصيل ذلك المطلوب بتلك الواسطة عبثا. وذلك على الله تعالى محال. فثبت : أنه
لا يمكن تعليل أفعاله وأحكامه بشيء من العلل والأغراض.
الحجة الرابعة : انه لو وجب أن يكون خلقه وحكمه معللا بغرض ، لكان خلق الله
تعالى العالم فى وقت معين دون ما قبله وما بعده ، معللا برعاية مصلحة وغرض. ثم ذلك
الغرض ـ وتلك المصلحة ـ اما أن يقال : انه كان حاصلا قبل ذلك الوقت ، وأ ما كان
حاصلا قبله. فان كان حاصلا قبله ، كان ما لأجله أوجد الله تعالى العالم فى ذلك
الوقت ، حاصلا قبل أن أوجده. فيلزم أن يقال : انه كان موجدا له قبل أن كان موجدا.
وذلك محال. وأما ان قلنا بأن ذلك الغرض وتلك المصلحة ما كان حاصلا قبل ذلك الوقت ،
وانما حدث فى ذلك الوقت. فنقول : حصول ذلك الغرض فى ذلك الوقت ، اما أن يفتقر الى
المحدث أولا يفتقر. فان لم يفتقر فقد حدث الشيء ، لا عن موجد ومحدث. وهو محال. وان
افتقر الى المحدث. فان افتقر تخصيص احداث ذلك الغرض بذلك الوقت الى غرض آخر ، عاد
التقسيم الأول فيه. ولزم التسلسل.
__________________
وان لم يفتقر
البتة الى رعاية غرض آخر ، فحينئذ تكون موجدية الله تعالى وخالقيته ، غنية عن
التعليل بالأغراض والمصالح. وهذا هو المطلوب.
واعلم : أن هذه
الحجة التى ذكرناها فى اختصاص حدوث العالم بذلك الوقت المعين ، عائدة فى اختصاص كل
واحد من الحوادث لوقته المعين.
الحجة الخامسة : قد بينا فى مسألة خلق الأفعال : أنه لا موجد الا الله تعالى
، واذا كان كذلك ، كان الخير والشر والكفر والايمان حاصلا بايجاده وتخليقه
وتكوينه. واذا كان الأمر كذلك ، امتنع توقف كونه تعالى خالقا وموجدا على رعاية
المصالح والأغراض.
واحتج الخصم على
مذهبه : بأنه تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنه. وكل من كان كذلك ،
امتنع أن يكون فاعلا للقبيح.
أما المقدمة الأولى ـ وهى قولنا : انه عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنه
ـ فهذه المقدمة مبنية على ثلاث مقدمات :
احداها : أن
القبائح انما تقبح لوجوه عائدة إليها.
وثانيها : انه
تعالى منزه عن جميع الحاجات.
وثالثها : انه
تعالى عالم بجميع المعلومات واذا ثبتت هذه المقدمات الثلاث ، ظهر أنه تعالى غنى عن
فعل كل القبائح ، وأنه تعالى عالم بكونه غنيا عنها.
وأما المقدمة الثانية : وهى أن كل من كان غنيا عن القبائح ، وكان عالما بكونه غنيا
عنها ، فانه يستحيل أن يفعل القبيح ـ فقد ذكروا فى تقرير هذا طريقين :
الأول : انا ببداهة العقل نعلم أن جهة القبح جهة صرف عن الفعل ، لا
جهة دعاء إليه. فاذا حصل العلم بكونه قبيحا ولم يصر هذا
الصارف معارضا
بداعية الشهوة والحاجة ، بقى الصارف خاليا عن معارضة الداعى ، فوجب أن يمتنع الفعل.
الطريق الثانى : هو أنا نثبت هذه المقدمة فى الشاهد ثم نقيس الغائب على
الشاهد. أما اثباتها فى الشاهد. فلأنا اذا قلنا لانسان كامل العقل : ان صدقت
أعطيناك دينارا ، وان كذبت أعطيناك دينارا. وفرضنا حصول الاستواء بين الصدق والكذب
، فى جميع منافع الدنيا والآخرة ، وفى جميع مضارهما من المدح والذم والثواب
والعقاب ، وسهولة التلفظ بتلك اللفظة وصعوبته. فان فى هذه الصورة نعلم بالضرورة :
أنه يرجح الصدق على الكذب. وذلك يدل على أن جهة الحسن جهة دعاء وجهة القبح جهة
صرف.
واذا ثبت هذا فى
الشاهد ، فنقيس عليه الغائب. ونقول : هذا الترجيح لا بدّ فيه من علة وتلك العلة
ليست الا علمه بأن هذا حسن وذاك قبيح. لأنا كلما علمناه قبيحا ، علمنا هذه
المرجوحية. وكلما علمناه حسنا علمنا هذه الراجحية. فلما دار العلم بأحدهما مع
العلم بالآخر وجودا وعدما ، علمنا : أن العلة فى هذا البعث وفى هذا المنع ، ليس
الا العلم بهذه الجهة. واذا كان العلم حاصلا فى حق الله تعالى ، وجب أن يترتب عليه
هذا البعث وهذا المنع.
* * *
هذا غاية تقرير
كلام المعتزلة فى هذه المسألة.
والجواب : أما المقدمة الأولى من هذا الدليل فهى مبنية على أن الحسن
والقبح ، انما يثبتان لوجوه عائدة الى الفعل. وقد أبطلنا هذه القاعدة. سلمنا : أنه
تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنيا ، فلم قلتم : ان كل من كان كذلك ، فانه
لا يفعل القبيح؟ وتقريره. انكم اما أن تقولوا : ان كل من كان كذلك ، فانه يمتنع مع
هذه الحالة أن يفعل القبيح ، أو لا تدعو الامتناع العقلى. فان ادعيتم الامتناع
العقلى ، لم يكن الله تعالى قادرا مختارا ، لأن الاستغناء والعلم بذلك
__________________
الاستغناء من
لوازم ذاته ، وترك القبيح من لوازم هذا الاستغناء. وهذا العلم ولازم اللازم :
لازم. فترك القبيح من لوازم الذات المخصوصة. واذا كان كذلك ، كان ترك القبيح أمرا
واجبا بالذات ، ممتنع العدم.
واذا كان ترك
القبيح أمرا واجبا بالذات ، كان ايصال الثواب الى المستحق أمرا واجبا ، وجوبا
بالذات. لأن تركه لما كان قبيحا ممتنعا بالذات ، كان فعله فعلا واجبا بالذات.
فحينئذ يلزم أن تكون ذاته تعالى موجبة لحصول الثواب ووصوله الى المستحق ، وأن لا
يكون قادرا على الترك أصلا. فاثبات الحكمة على هذا الوجه ، يقدح فى كونه قادرا ،
الا أن الحكمة مفرعة على كونه قادرا. والفرع اذا استلزم فساد الأصل كان باطلا ،
فلقول بالحكمة يجب أن يكون باطلا على هذا القول.
وأيضا : اذا كان
الفعل موقوفا على الداعى ، لزم الجبر ، واذا لزم الجبر كان الله تعالى فاعلا لجميع
أفعال العباد ، بواسطة خلق القدرة والداعى الموجب لها. واذا كان كذلك ، امتنع أن
يقال : انه تعالى لا يفعل هذه الأفعال.
وأما القسم الثانى : وهو أن تقولوا : ان كونه تعالى غنيا ، مع كونه عالما بكونه
غنيا ، لا ينافى فعل القبيح. ولم يكن بين حصول هذا الفعل وحصول ذلك الوصف منافاة
ولا معاندة أصلا ، فحينئذ يتعذر الاستدلال بذلك الوصف على أنه تعالى لا يفعل
القبيح ، لأن كل ما لم يكن فيه امتناع ، لم يلزم من فرض وجوده محال ولا فساد.
وهذا سؤال صعب على
ما ذكروه. والله أعلم بالصواب .
* * *
(تم الجزء الأول.
ويليه الجزء الثانى وأوله المسألة السابعة والعشرون فى اثبات الجوهر الفرد).
__________________
|