بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة النّساء

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

هذه السورة مدنية ، إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح ، في عثمان بن طلحة وهي قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] قال النقاش : وقيل نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة المنورة.

قال القاضي أبو محمد : وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) حيث وقع إنما هو مكي فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه‌السلام ، وقال النحاس : هذه السورة مكية.

قال القاضي أبو محمد : ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة ، وفي البخاري : آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] ذكرها في تفسير سورة ـ براءة ـ من رواية البراء بن عازب ، وفي البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تعني قد بنى بها.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

«يا» حرف نداء ، و «أي» منادى مفرد ـ و «ها» تنبيه ، و (النَّاسُ) ـ نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش ، «والرب» : المالك ، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود ، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد ، وقال : (واحِدَةٍ) على تأنيث لفظ النفس ، وهذا كقول الشاعر : [الوافر]

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

وقرأ ابن أبي عبلة ـ «من نفس واحد» ـ بغير هاء ، وهذا على مراعاة المعنى ، إذ المراد بالنفس آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ، والخلق في الآية : بمعنى الاختراع ، ويعني بقوله :


(زَوْجَها) حواء ، والزوج في كلام العرب : امرأة الرجل ، ويقال زوجة ، ومنه بيت أبي فراس : [الطويل]

وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها

وقوله (مِنْها) ، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة : إن الله تعالى خلق آدم وحشا في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله ، وقيل : من يمينه فخلق منه حواء ، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه‌السلام : «إن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها» وكسرها طلاقها. وقال بعضهم : معنى (مِنْها) من جنسها ، واللفظ يتناول المعنيين ، أو يكون لحمها وجواهرها من ضلعه ، ونفسها من جنس نفسه ، و (بَثَ) معناه : نشر ، كقوله تعالى : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤] أي المنتشر ، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع ، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا ، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين ، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين. و (الَّذِي) في موضع نصب على النعت ـ و (تَسائَلُونَ) معناه : تتعاطفون به ، فيقول أحدكم : أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه : (تَسائَلُونَ بِهِ) حقوقكم وتجعلونه مقطعا لها وأصله : «تتساءلون» ، فأبدلت التاء الثانية سينا وأدغمت في السين ، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو ، بخلاف عنه ، وقرأ الباقون ـ «تساءلون» ـ بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة ، قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا : طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس : قال العجاج : [الرجز]

لو عرضت لأيبليّ قسّ

أشعث في هيكله مندسّ

حنّ إليها كحنين الطّسّ

وقال ابن مسعود ـ «تسألون» ـ خفيفة بغير ألف ، و (الْأَرْحامَ) نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب ، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة ، وعليها فسر ابن عباس وغيره ، وقرأ عبد الله بن يزيد ـ والأرحام ـ بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر ، تقديره : والأرحام أهل أن توصل ، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء ـ «والأرحام» ـ بالخفض عطفا على الضمير ، والمعنى عندهم : أنها يتساءل بها كما يقول الرجل : أسألك بالله وبالرحم ، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض ، قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه ، فكما لا يجوز : مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد ، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر ، كما قال : [البسيط]

فاليوم قد بتّ تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب

وكما قال : [الطويل]

نعلّق في مثل السّواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف


واستهلها بعض النحويين ، قال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس.

قال القاضي أبو محمد : المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف ، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة ، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريرا للتساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه‌السلام : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وقالت طائفة : إنما خفض ـ «والأرحام» ـ على جهة القسم من الله على ما اختص به لا إله إلا هو من القسم بمخلوقاته ، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده ، وإن كان المعنى يخرجه ـ و (كانَ) في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط ، بل المعنى : كان وهو يكون ، والرقيب : بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه ، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة ، وفي قوله (عَلَيْكُمْ) ضرب من الوعيد ، ولم يقل «لكم» للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم ، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب ، لأنه يرتقب ذلك. ومنه قول أبي دؤاد : [مجزوء الكامل]

كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم نواهد

قوله تعالى :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)

(الْيَتامى) : جمع يتيم ويتيمة ، واليتم في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ ، وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يتم بعد بلوغ» وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر ، وحكى اليتم في الإنسان من جهة الأم ، وقال ابن زيد : هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا وتأخذوا الكل ظلما حراما خبيثا ، فيجيء فعلكم ذلك تبدلا ، وقالت طائفة : هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام ، والمعنى : إذا بلغوا وأونس منهم الرشد. وسماهم يتامى وهم قد بلغوا ، استصحابا للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم ، (وَلا تَتَبَدَّلُوا) قيل : المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف من ماله ، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسندي والضحاك ، وقيل : المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثا ، وتدعوا أموالكم طيبا ، وقيل : معناه لا تتعجلوا أكل «الخبيث» من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله ، قاله مجاهد وأبو صالح ، و «الخبيث» و «الطيب» : إنما هو هنا


بالتحليل والتحريم ، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ ـ «ولا تبدلوا» ـ بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين ، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) استوى الأيتام في النهي عن أكل «أموالهم» ، كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين ، والآية نص في [النهي عن] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه ، وروي عن مجاهد أنه قال : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة : ٢٢٠] وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة ، وقال ابن فورك عن الحسن : إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة ، وقالت طائفة من المتأخرين (إِلى) بمعنى مع ، وهذا غير جيد ، وروي عن مجاهد أن معنى الآية : ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تقريب للمعنى ، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر ، وقال الحذاق : (إِلى) هي على بابها وهي تتضمن الإضافة ، التقدير : «لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل» ، كما قال تعالى (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢ ، الصف : ١٤] أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في (إِنَّهُ) عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر ، والحوب الإثم ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما ، تقول : حاب الرجل يحوب حوبا وحابا وحوبا إذا أثم ، قال أمية بن الأسكر : [الوافر]

وإنّ مهاجرين تكنّفاه

غداتئذ لقد خطئا وخابا

وقرأ الحسن : «حوبا» بفتح الحاء ، وهي لغة بني تميم ، وقيل : هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه ، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج ، فإن هذه الأربعة بخلاف تفعل كله ، لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه ، ويلحق بهذه الأربعة تفكهون ، في قوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥] أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم ، بدليل قوله بعد ذلك (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة : ٦٦ و ٦٧] أي يقولون ذلك ، وقوله : (كَبِيراً) نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر.

وقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) قال أبو عبيدة : (خِفْتُمْ) هنا بمعنى أيقنتم ، واستشهد بقول الشاعر : [دريد بن الصمة] : [الطويل]

فقلت لهم خافوا بألفي مدجّج

وما قاله غير صحيح ، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع ، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين ، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا ، و (تُقْسِطُوا) معناه تعدلوا ، يقال : أقسط الرجل إذا عدل ، وقسط إذا جار ، وقرأ ابن وثاب والنخعي ، ـ «ألا تقسطوا» بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة ـ لا ـ كأنه قال : (وَإِنْ خِفْتُمْ) أن تجوروا ، واختلف في تأويل الآية ، فقالت عائشة رضي الله عنها : نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم ، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن ، فقيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي


يكايسن في حقوقهن وقاله ربيعة ، وقال عكرمة : نزلت في قريش ، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فتزوج منه ، فقيل لهم : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا ، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس : إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ، ولا تتحرج في العدل بين النساء ، كانوا يتزوجون العشر وأكثر ، فنزلت الآية في ذلك ، أي كما تخافون «ألا تقسطوا في اليتامى» ، فكذلك فتحرجوا في النساء ، «وانكحوا» على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه ، وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه ، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى ، وانكحوا على ما حد لكم ، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير : (ما طابَ) ، معناه ما حل.

قال القاضي أبو محمد : لأن المحرمات من النساء كثير. وقرأ ابن أبي عبلة ، «من طاب» على ذكر من يعقل ، وحكى بعض الناس أن (ما) في هذه الآية ظرفية ، أي ما دمتم تستحسنون النكاح.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المنزع ضعف وقال (ما) ولم يقل ـ من ـ لأنه لم يرد تعيين من يعقل ، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل ، فكأنه قال : «فانكحوا الطيب» ، وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه ، قال عليه‌السلام : من استطاع منكم الباءة فليتزوج. و (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : موضعها من الإعراب نصب على البدل من (ما طابَ) ، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي. وقال غيره : هي معدولة في اللفظ وفي المعنى ، وأيضا فإنها معدولة وجمع ، وأيضا فإنها معدولة مؤنثة ، قال الطبري : هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام ، وخطأ الزجاج هذا القول ، وهي معدولة عن اثنين ، وثلاثة ، وأربعة ، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود ، وأنشد الزجاج لشاعر [ساعدة بن جؤيّة] : [الطويل]

ولكنّما أهلي بواد أنيسه

ذئاب تبغّي الناس مثنى وموحد

فإنما معناه اثنين اثنين ، وواحد واحدا ، وكذلك قولك : جاء الرجال مثنى وثلاث ، فإنما معناه : اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وربع» ساقطة الألف ، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر : على لسان الضب : [المجتث]

لا أشتهي أن أردّا

إلا عرادا عردّا

وعنكثا ملتبدّا

وصليانا بردا

يريد باردا. وقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال الضحاك وغيره : المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين ، ويتوجه على قول من قال : إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته ، أن يكون المعنى : ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم ، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم ، أو تسرّوا منها ، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره : فانكحوا واحدة. وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن : «فواحدة» بالرفع على الابتداء ، وتقدير الخبر : فواحدة كافية ، أو ما أشبهه ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. و (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد


به الإماء ، والمعنى : إن خاف ألا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه ، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها ، ألا ترى أنها المنفقة ، كما قال عليه‌السلام : «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة المبايعة ، وبها سميت الأليّة يمينا ، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد ، وقد نهى عليه‌السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها.

قوله تعال :

(ذلِکَ أَدْني‏ أَلاَّ تَعُولُوا(٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٥)

(أَدْنى) معناه : أقرب ، وهو من الدنو ، وموضع ـ أن ـ من الإعراب نصب بإسقاط الخافض ، والناصب أريحية الفعل الذي في (أَدْنى) ، التقدير : ذلك أدنى إلى أن لا تعولوا ، و (تَعُولُوا) معناه : تميلوا ، قاله ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك والسدي وغيرهم ، يقال : عال الرجل يعول : إذا مال وجار ، ومنه قول أبي طالب في شعره في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

بميزان قسط لا يخسّ شعيرة

ووزان صدق وزنه غير عائل

يريد غير مائل ، ومنه قول عثمان لأهل الكوفة حين كتب إليهم : إني لست بميزان لا أعول ، ويروى بيت أبي طالب : «له شاهد من نفسه غير عائل» وعال يعيل ، معناه : افتقر فصار عالة ، وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي : معناه : ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم ، وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل يعول إذا كثر عياله ، وقدح في هذا الزجاج وغيره ، بأن الله قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القدح غير صحيح ، لأن السراري إنما هن مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال الفادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة قوله (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) قال ابن عباس وقتادة وابن جريح : إن الخطاب في هذه الآية للأزواج ، وأمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم ، وقال أبو صالح : الخطاب لاولياء النساء ، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن ، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه : زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى ، فأمروا أن يضربوا المهور.

قال القاضي أبو محمد : والآية تتناول هذه الفرق الثلاث ، وقرأ جمهور الناس والسبعة «صدقاتهن» بفتح الصاد وضم الدال ، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم «صدقاتهن» بضم الصاد والدال ، وقرأ قتادة وغيره «صدقاتهن» بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ ابن وثاب والنخعي «صدقتهن» بالإفراد وضم الصاد وضم الدال. والإفراد من هذا كله صدقة وصدقة. و (نِحْلَةً) : معناه: نحلة


منكم لهن أي عطية ، وقيل التقدير : من الله عزوجل لهن ، وذلك لأن الله جعل الصداق على الرجال ولم يجعل على النساء شيئا ، وقيل (نِحْلَةً) معناه : شرعة ، مأخوذ من النحل تقول : فلان ينتحل دين كذا ، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء ، ويتجه مع سواه ، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها ، تقديره ـ انحلوهن نحلة ، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر ، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عزوجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك ، وعلى أنها شريعة هي أيضا من الله وقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء ، والمعنى : إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن ، والضمير في (مِنْهُ) راجع على الصداق ، وكذلك قال عكرمة وغيره ، أو على الإيتاء ، وقال حضرمي : سبب الآية أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات ، و (نَفْساً) نصب على التمييز ، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل ، وإجازة غيره في الكلام. ومنه قول الشاعر [المخبل السعدي] : [الطويل]

وما كان نفسا بالفراق تطيب

و «من» ـ تتضمن الجنس هاهنا ، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقفت «من» على التبعيض لما جاز ذلك ، وقرىء «هنيا مريا» دون همز ، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري. قال الطبري : ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما قال اللغويون : الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة ، وكذلك المريء ، قال اللغويون : يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع ، فإذا أفردوا قالوا : أمرأني على وزن أفعل. قال أبو علي : وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» فإنما اعتلت الواو من موزورات اتباعا للفظ مأجورات ، فكذلك مرأني اتباعا لهنأني ، ودخل رجل على علقمة ـ وهو يأكل شيئا مما وهبته امرأته من مهرها ـ فقال له : كل من الهنيء المريء ، قال سيبويه ؛ (هَنِيئاً مَرِيئاً) صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره ، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك «هنيئا مريئا».

وقوله (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) الآية ، اختلف المتأولون في المراد ب (السُّفَهاءَ) ، فقال ابن مسعود والسدي والضحاك والحسن وغيرهم : نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في المحجورين «السفهاء» وقال مجاهد : نزلت في النساء خاصة ، وروي عن عبد الله بن عمر أنه مرت به امرأة لها شارة فقال لها (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية ، وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما : نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كان من كان ، وقول من خصها بالنساء يضعف من جهة الجمع ، فإن العرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات ، وقوله : (أَمْوالَكُمُ) يريد أموال المخاطبين ، هذا قول أبي موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة ، وقال سعيد بن جبير : يريد أموال «السفهاء» ، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطا بالأموال ، أي هي لهم إذا احتاجوا ، كأموالكم لكم التي تقي أعراضكم ، وتصونكم وتعظم أقداركم ، ومن مثل هذا (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وما جرى مجراه ، وقرأ


الحسن بن أبي الحسن والنخعي «اللاتي» والأموال : جمع لما لا يعقل ، فالأصوب فيه قراءة الجماعة ، وقيما جمع قيمة كديمة وديم ، وخطأ ذلك أبو علي وقال : هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم ، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم : جياد في جمع جواد ، وكما قالت بنو ضبة : طويل وطيال ، ونحو هذا ، وقوما وقواما وقياما ، معناها : ثباتا في صلاح الحال ، ودواما في ذلك ، وقرأ نافع وابن عامر قيما بغير ألف ، وروي أن أبا عمرو فتح القاف من قوله : قواما ، وقياما ـ كان أصله قواما ، فردت كسرة القاف الواو ياء للتناسب ، ذكرها ابن مجاهد ولم ينسبها ، وهي قراءة أبي عمرو والحسن ، وقرأ الباقون (قِياماً) وقرأت طائفة «قواما» ، وقوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) قيل : معناه : فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجه وبنيه الأصاغر ، وقيل : في المحجورين من أموالهم ، و (مَعْرُوفاً) قيل : معناه : ادعوا لهم : بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم ، وقيل : معناه عدوهم وعدا حسنا ، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم ، ومعنى اللفظ كل كلام تعرفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع.

قوله تعالى :

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٦)

هذه مخاطبة للجميع ، والمعنى : يخلص التلبس بهذا الأمر للأوصياء ، والابتلاء : الاختبار ، و (بَلَغُوا النِّكاحَ) ، معناه : بلغوا مبلغ الرجال بحلم وحيض أو ما يوازيه ، ومعناه : جربوا عقولهم وقرائحهم وتصرفهم ، و (آنَسْتُمْ) ، معناه علمتم وشعرتم وخبرتم ، كما قال الشاعر : [الخفيف]

آنست نبأة وأفزعها القنّاص

عصرا وقد دنا الإمساء

وقرأ ابن مسعود ـ «حستم» ـ بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو السمال وابن مسعود وعيسى الثقفي : «رشدا» بفتح الراء والشين والمعنى واحد ، ومالك رحمه‌الله يرى الشرطين : البلوغ ، والرشد المختبر ، وحينئذ يدفع المال ، وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحتفظ له سفه كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، كاليمين والحنث اللذين بعدهما تجب الكفارة ، ولكنها تجوز قبل الحنث.

قال القاضي أبو محمد : والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح ، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط ، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه ، فقال : إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك ، لأن التوقيف بالبلوغ جاء «بإذا» والمشروط جاء «بإن» التي هي قاعدة حروف الشرط ، و (إِذا) ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : فعلوا ذلك


مضطرين ، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهرا أو مضمرا ، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر البسر ، وقال الحسن وقتادة : الرشد في العقل والدين ، وقال ابن عباس : بل في العقل وتدبير المال لا غير ، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا ، والرواية الأخرى : أنه في العقل والدين مروية عن مالك ، وقالت فرقة: دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك ، وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان.

قال القاضي أبو محمد : والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده ، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرى المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت ، وقوله : (وَلا تَأْكُلُوها) الآية ، نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ، والإسراف : الإفراط في الفعل ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق ، ومنه قول الشاعر [جرير] : [البسيط]

ما في عطائهم منّ ولا سرف

أي لا يخطئون مواضع العطاء. (وَبِداراً) : معناه مبادرة كبرهم ، أي إن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ، قاله ابن عباس وغيره. و (أَنْ يَكْبَرُوا) نصب ببدارا ، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن وقوله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) الآية ، يقال : عف الرجل عن الشيء واستعف : إذا أمسك ، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم ، وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف ، واختلف العلماء في حد المعروف ، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية : إن ذلك القرض أن يتسلف من مال يتيمه ويقضي إذا أيسر ، ولا يتسلف أكثر من حاجته ، وقال ابن عباس أيضا وعكرمة والسدي وعطاء : روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إني نزلت من مال الله منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت. وروي عن إبراهيم وعطاء وغيرهما أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما أكل بالمعروف ، قال الحسن : هي طعمة من الله له ، وذلك أن يأكل ما يقيمه أكلا بأطراف الأصابع ، ولا يكتسي منه بوجه ، وقال إبراهيم النخعي ومكحول : يأكل ما يقيمه ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الكتان والحلل ، وقال ابن عباس وأبو العالية والحسن والشعبي : إنما يأكل الوصي بالمعروف إذا شرب من اللبن وأكل من الثمر بما يهنأ الجربى ويليط الحوض ويجد الثمر وما أشبهه ، وقالت فرقة : المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وقال الحسن بن حي : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، وإن كان وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وقال ابن عباس والنخعي : المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد اليتامى في الحالين ، أي : من كان منهم غنيا فليعف بماله ، ومن كان فقيرا فليتقتر عليه بالمعروف والاقتصاد ، وقوله : (فَإِذا دَفَعْتُمْ) الآية. أمر من الله بالتحرز والحزم ، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها ، إذا كان حبسها أولا معروفا ، وقالت فرقة : الإشهاد هاهنا فرض وقالت فرقة : هو ندب إلى الحزم ، وروى عمر بن الخطاب وابن جبيرة أن هذا هو دفع


ما يستقرضه الوصي الفقير إذا أيسر ، واللفظ يعم هذا وسواه ، والحسيب هنا المحسب ، أي هو كاف من الشهود ، هكذا قال الطبري ، والأظهر (حَسِيباً) معناه : حاسبا أعمالكم ومجازيا بها ، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق.

قوله تعالى :

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٩)

سمى الله عزوجل الأب والدا لأن الولد منه ومن الوالدة ، كما قال الشاعر : [الرجز]

بحيث يعتش الغراب البائض

لأن البيض من الأنثى والذكر ، قال قتادة وعكرمة وابن زيد : وسبب هذه الآية ، أن العرب كان منها من لا يورث النساء ويقول : لا يرث إلا من طاعن بالرمح وقاتل بالسيف فنزلت هذه الآية ، قال عكرمة : سببها خبر أم كحلة ، مات زوجها وهو أوس بن سويد وترك لها بنتا فذهب عم بنيها إلى أن لا ترث فذهبت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال العم : هي يا رسول الله لا تقاتل ولا تحمل كلا ويكسب عليها ولا تكسب ، واسم العم ثعلبة فيما ذكره. و (نَصِيباً مَفْرُوضاً) ، نصب على الحال ، كذا قال مكي ، وإنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال ، تقديره : فرضا ، ولذلك جاز نصبه ، كما تقول : لك عليّ كذا وكذا حقا واجبا ، ولو لا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب ، ولكان حقه الرفع.

وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) الآية ، اختلف المتأولون فيمن خوطب بهذه الآية على قولين : أحدهما أنها مخاطبة للوارثين ، والمعنى : إذا حضر قسمتكم لمال موروثكم هذه الأصناف الثلاثة ، (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ، ثم اختلف قائلو هذا القول ، فقال سعيد بن المسيب وأبو مالك والضحاك وابن عباس فيما حكى عنه المهدوي : نسخ ذلك بآية المواريث. وكانت هذه قسمة قبل المواريث ، فأعطى الله بعد ذلك كل ذي حق حقه ، وجعلت الوصية للذين يحزنون ولا يرثون ، وقال ابن عباس والشعبي ومجاهد وابن جبير : ذلك محكم لم ينسخ ، وقال ابن جبير : وقد ضيع الناس هذه الآية ، قال الحسن : ولكن الناس شحوا ، وامتثل ذلك جماعة من التابعين ، عروة بن الزبير وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري ، واختلف القائلون بأحكامها ، فقالت فرقة : ذلك على جهة الفرض والوجوب أن يعطى الورثة لهذه الأصناف ما تفه وطابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق ، وما خف كالتابوت ، وما تعذر قسمه ، وقال ابن جبير والحسن : ذلك على جهة الندب ، فمن تركه فلا حرج عليه ، واختلف في هذا القول إذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله ، فقال


سعيد بن جبير وغيره : هذا على وجه المعروف فقط ، يقوله ولي الوارث دون عطاء ينفذ ، وقالت فرقة : بل يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى ، والقول الثاني فيمن خوطب بها : إن الخطاب للمحتضرين الذين يقسمون أموالهم بالوصية ، فالمعنى : إذا حضركم الموت أيها المؤمنون ، وقسمتم أموالكم بالوصية ، وحضركم من لا يرث من ذي القرابة واليتامى فارزقوهم منه ، قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد قال : كانوا يقولون للوصي : فلان يقسم ماله ، ومعنى «حضر» : شهد ، إلا أن الصفة بالضعف واليتم والمسكنة تقضي أن ذلك هو علة الرزق ، فحيث وجدت رزقوا وإن لم يحضروا القسمة ، و (أُولُوا) : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ولا يكون إلا مضافا للإبهام الذي فيه ، وربما كان واحده من غير لفظة : ذو ، واليتم : الانفراد واليتيم : الفرد ، وكذلك سمي من فقد أباه يتيما لانفراده ، ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية ، أن يصنع لهم طعام يأكلونه ، وفعلا ذلك ، ذبحا شاة من التركة ، والضمير في قوله : (فَارْزُقُوهُمْ) وفي قوله : (لَهُمْ) عائد على الأصناف الثلاثة ، وغير ذلك من تفريق عود الضميرين كما ذهب إليه الطبري تحكم ـ والقول المعروف : كل ما يؤنس به من دعاء أو عدة أو غير ذلك.

وقوله (وَلْيَخْشَ) جزم بلام الأمر ، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه ، قياسا على حروف الجر ، إلا في ضرورة شعر ، ومنه قول الشاعر : [الوافر]

محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا

وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري : بكسر لامات الأمر في هذه الآية ، وقد تقدم الكلام على لفظ (ذُرِّيَّةً) في سورة آل عمران ، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه ، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى. والتخويف بالعاقبة في الدنيا ، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة : «ضعفاء» بالمد وضم الضاد ، وروي عن ابن محيصن «ضعفا» بضم الضاد والعين وتنوين الفاء ، وأمال حمزة (ضِعافاً) وأمال ـ (خافُوا) ، والداعي إلى إمالة (خافُوا) الكسرة التي في الماضي في قولك : خفت ، ليدل عليها ، و (خافُوا) جواب (لَوْ) ، تقديره : لو تركوا لخافوا ، ويجوز حذف اللام في جواب ـ لو ـ تقول ـ لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، واختلف من المراد بهذه الآية؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد : المراد من حضر ميتا حين يوصي فيقول له : قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك ، فكأن الآية تقول لهم : كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته ، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة. وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس ذلك ، وهو أن يقول للمحتضر : أمسك على ورثتك وأبق لولدك ، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى ، وكل من يستحق أن يوصي له ، فقيل لهم : كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك فسدوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضرهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، وللآخر القول الثاني ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن


أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعى إنما هو الضعف ، فيجب أن يمال معه ، وقال ابن عباس أيضا : المراد بالآية ولاة الأيتام ، فالمعنى : أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم ، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك ، وقالت فرقة : بل المراد جميع الناس ، فالمعنى : أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم ، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده ، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال : كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان ، فقلت له : يا أبا بسر ودي أن لا يكون لي ولد ، فقال لي : ما عليك ، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره ، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ، ثم تلا هذه الآية. «والسديد» معناه : المصيب للحق ، ومنه قول الشاعر :

أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتد ساعده رماني

معناه ، لما وافق الأغراض التي يرمي إليها.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ)

قال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار ، ويأكلون أموالهم ، وقال أكثر الناس : نزلت في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم ، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصيا ، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلا لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء ، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق ، من التهافت بسبب البطن ، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار ، و (ظُلْماً) معناه : ما جاوز المعروف مع فقر الوصي ، وقال بعض الناس : المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل : (يَأْكُلُونَ) النار ، وقالت طائفة : بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار ، وفي ذلك أحاديث ، منها حديث أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة أسري به ، قال ، رأيت أقواما لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار ، تخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، وقرأ جمهور الناس «وسيصلون» على إسناد الفعل إليهم ، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم ، وقرأ أبو حيوة ، (وَسَيَصْلَوْنَ) على بناء الفعل للمفعول بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام على التكثير ، وقرأ ابن أبي عبلة «وسيصلون» بضم الياء واللام ، وهي ضعيفة ، والأول أصوب ، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) [الليل : ١٦]


وفي قوله : (صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦٣] والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد :

لم أكن من جناتها ، علم الله

وإني بحرّها اليوم صال

والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره ، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون ، «والسعير» : الجمر المشتعل ، وهذه آية من آيات الوعيد ، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة ، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ، وتلخيص الكلام في المسألة : أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، هذا عرفهما إذا أطلقا ، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيدا به ، كما قال تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ ، الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج : ٧٢] فقالت المعتزلة : آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين ، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر ، وقال بعضهم : وبالصغائر ، وقالت المرجئة : آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق ، كان من كان من عاص أو طائع ، وقلنا أهل السنة والجماعة : آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة ، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة ، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ و ١١٦] فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين ، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد ، إذ الشرك أيضا يغفر للتائب ، وهذا قاطع بحكم قوله (لِمَنْ يَشاءُ) بأن ثم مغفورا له وغير مغفور ، واستقام المذهب السني.

وقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ) يتضمن الفرض والوجوب ، كما تتضمنه لفظة أمر ـ كيف تصرفت ، وأما صيغة الأمر من غير اللفظة ففيها الخلاف الذي سيأتي موضعه إن شاء الله ، ونحو هذه الآية قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) [الأنعام : ١٥١] وقيل : نزلت هذه الآية بسبب بنات سعد بن الربيع وقال السدي : نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت ، وقيل : بسبب جابر بن عبد الله ، إذ عاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه ، قال جابر بن عبد الله ، وذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو ، فنزلت الآيات تبيينا أن لكل أنثى وصغير حظه ، وروي عن ابن عباس : أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد ، والوصية للوالدين ، فنسخ ذلك بهذه الآيات ، و (مِثْلُ) مرتفع بالابتداء أو بالصفة ، تقديره حظ مثل حظ ، وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «في أولادكم أن للذكر» وقوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) الآية الأولاد لفظ يجمع الذكران والإناث ، فلما أراد بهذه الآية أن يخص الإناث بذكر حكمهن أنث الفعل للمعنى ، ولو اتبع لفظ الأولاد لقال كانوا ، واسم ـ كان ـ مضمر ، وقال بعض نحويي البصرة : تقديره وإن كن المتروكات «نساء» ، وقوله : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) معناه : «اثنتين» فما فوقهما ، تقتضي ذلك قوة الكلام ، وأما الوقوف مع اللفظ فيسقط معه النص على الاثنتين ، ويثبت الثلثان لهما بالإجماع الذي مرت عليه الأمصار والأعصار ، ولم يحفظ فيه خلاف ، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس : أنه يرى لهما النصف. ويثبت أيضا ذلك لهما بالقياس على الأختين المنصوص عليهما ، ويثبت ذلك لهما بالحديث الذي ذكره الترمذي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم


قضى للابنتين بالثلثين ، ومن قال : (فَوْقَ) زائدة واحتج بقوله تعالى : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال: ١٢] هو الفصيح ، وليست (فَوْقَ) زائدة بل هي محكمة المعنى لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد بن الصمة «اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال : وقد احتج لأخذهما الثلثين بغير هذا ، وكله معارض ، قال إسماعيل القاضي : إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها الثلث إذا انفرد ، فأحرى أن تأخذ ذلك مع أختها قال غيره : وكما كان حكم الاثنين فما فوقهما من الإخوة للأم واحدا ، فكذلك البنات ، وقال النحاس : لغة أهل الحجاز وبني أسد ، الثلث والربع إلى العشر ، وقد قرأ الحسن ذلك كله بإسكان الأوسط ، وقرأه الأعرج ، ومذهب الزجاج : أنها لغة واحدة ، وأن سكون العين تخفيف ، وإذا أخذ بنات الصلب الثلثين ، فلا شيء بعد ذلك لبنات الابن ، إلا أن يكون معهن أخ لهن ، أو ابن أخ ، فيرد عليهن ، وعبد الله بن مسعود لا يرى لهن شيئا ، وإن كان الأخ أو ابن الأخ ، ويرى المال كله للذكر وحده دونهن.

قوله تعالى :

(وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ)

قرأ السبعة سوى نافع «واحدة» بالنصب على خبر كان ، وقرأ نافع واحدة بالرفع على أن كان بمعنى وقع وحصر ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «النّصف» بضم النون ، وكذلك قرأه علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في جميع القرآن ، وقوله : (وَلَدٌ) يريد ذكرا أو أنثى ، واحدا أو جماعة للصلب أو ولد ولد ذكر ، فإن ذلك كيف وقع يجعل فرض الأب السدس ، وإن أخذ النصف في ميراثه فإنما يأخذه بالتعصيب ، وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) الآية ، المعنى : فإن لم يكن له ولد ، ولا ولد ولد ذكر ، ذكرا كان أو أنثى ، وقوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) تقتضي قوة الكلام أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره ، فعلى هذا يكون قوله (وَوَرِثَهُ) حكما لهما بالمال فإذا ذكر وحدّ بعد ذلك نصيب أحدهما أخذ النصيب الآخر ، كما تقول لرجلين : هذا المال بينكما ، ثم تقول لأحدهما ، أنت يا فلان لك منه الثلث ، فقد حددت للآخر منه الثلثين ، بنص كلامك ، وعلى أن فريضتهما خلت من الولد وغيره يجيء قول أكثر الناس : إن للأم مع الانفراد الثلث من المال كله ، فإن كان معهما زوج كان «للأم السدس» ، وهو الثلث بالإضافة إلى الأب ، وعلى أن الفريضة خلت من الولد فقط يجيء قول شريح وابن عباس : إن الفريضة إذا خلت من الولد أخذت «الأم الثلث» من المال كله مع الزوج ، وكان ما بقي للأب ويجيء على هذا ، قوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ). منفردين أو مع غيرهم. وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة ، وهي لغة حكاها سيبويه ، وكذلك كسر الهمزة من قوله : (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النجم : ٣٢] وفي (أُمِّها) [القصص : ٥٩] وفي (أُمُّ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧ ، الرعد : ٣٩ ، الزخرف : ٤] وهذا كله إذا وصلا اتباعا للكسرة أو الياء التي قبل الهمزة ، وقرأ الباقون كل هذا بضم الهمزة ، وكسر همزة الميم من «أمهاتكم» اتباعا لكسر الهمزة ، ومتى لم


يكن وصل وياء أو كسرة فالضم باتفاق ، وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الإخوة يحطون الأم إلى السدس ولا يأخذونه ، أشقاء كانوا أو للأب أو للأم ، وقال من لا يعد قوله إلا في الشذوذ : إنهم يحطون ويأخذون ما يحطون لأنفسهم مع الأب ، روي عن ابن عباس ، وروي عنه خلافه مثل قول «السدس» الذي يحجبون «الأم» عنه ، قال قتادة : وإنما أخذه الأب دونهم ، لأنه يمونهم ، ويلي نكاحهم ، والنفقة عليهم ، هذا في الأغلب ، ومجمعون على أن أخوين فصاعدا يحجبون الأم عنه ، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس ، أن الأخوين في حكم الواحد ، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة. واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان ، لأن التثنية جمع شيء إلى مثله ، فالمعنى يقتضي أنها جمع ، وذكر المفسرون أن العرب قد تأتي بلفظ الجمع وهي تريد التثنية ، كما قال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) [الأنبياء : ٧٨] وكقوله في آية الخصم (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا) [ص : ٢١ ، ٢٢] وكقوله : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) [طه : ١٣٠] واحتجوا بهذا كله في أن الإخوة يدخل تحته الأخوان.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآيات كلها لا حجة فيها عندي على هذه الآية ، لأنه قد تبين في كل آية منها بالنص أن المراد اثنان ، فساغ التجوز بأن يؤتى بلفظ الجمع بعد ذلك ، إذ معك في الأولى ـ يحكمان ـ وفي الثانية ـ إن هذا أخي ، وأيضا فالحكم قد يضاف إلى الحاكم والخصوم ، وقد يتسور مع الخصم غيرهما فهم جماعة ، وأما «النهار» في الآية الثالثة فالألف واللام فيه للجنس فإنما أراد طرفي كل يوم وأما إذا ورد لفظ الجمع ولم يقترن به ما يبين المراد فإنما يحمل على الجمع ، ولا يحمل على التثنية ، لأن اللفظ مالك للمعنى وللبنية حق ، وذكر بعض من احتج لقول عبد الله بن عباس : أن بناء التثنية يدل على الجنس والعدد ، كبناء الإفراد وبناء الجمع يدل على الجنس ولا يدل على العدد فلا يصح أن يدخل هذا على هذا ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ـ «يوصي» ـ بإسناد الفعل إلى الموروث ، إذ قد تقدم له ذكر ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ، «يوصى» بفتح الصاد ببنية الفعل للمفعول الذي لم يسّم فاعله ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، «يوصّى» بفتح الصاد وتشديدها ، وكل هذا في الموضعين ، وقرأ حفص عن عاصم في الأولى بالفتح ، وفي الثانية بالكسر ، وهذه الآية إنما قصد بها تقديم هذين الفعلين على الميراث ، ولم يقصد بها ترتيبهما في أنفسهما ، ولذلك تقدمت الوصية في اللفظ ، والدين مقدم على الوصية بإجماع ، والذي أقول في هذا : إنه قدم الوصية إذ هي أقل لزوما من الدين ، اهتماما بها وندبا إليها ، كما قال تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] وأيضا قدمها من جهة أنها مضمنها الوصية التي هي كاللازم يكون لكل ميت ، إذ قد حض الشرع عليها ، وأخر الدين لشذوذه ، وأنه قد يكون ولا يكون ، فبدأ بذكر الذي لا بد منه ، ثم عطف بالذي قد يقع أحيانا ، ويقوي هذا كون العطف ب (أَوْ) ، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو ، وقدمت الوصية أيضا إذ هي حظ مساكين وضعاف وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة ، وهو صاحب حق له فيه ، كما قال عليه‌السلام إن لصاحب الحق مقالا وأجمع العلماء على أن ليس لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث ، واستحب كثير منهم أن لا يبلغ الثلث ، وأن يغض الناس إلى الربع.


قوله تعالى :

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ)

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) رفع الابتداء ، والخبر مضمر تقديره : هم المقسوم عليهم ، وهم المعطون ، وهذا عرض للحكمة في ذلك ، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه الصفة ، و (لا تَدْرُونَ) عامل في الجملة بالمعنى ومعلق عن العمل في اللفظ بحسب المعمول فيه ، إذ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، و (نَفْعاً) ، قال مجاهد والسدي وابن سيرين : معناه في الدنيا ، أي إذا اضطر إلى إنفاقهم للحاجة ، نحا إليه الزجاج ، وقد ينفقون دون اضطرار ، وقال ابن عباس والحسن ، في الآخرة ، أي بشفاعة الفاضل للمفضول ، وقال ابن زيد : فيهما ، واللفظ يقتضي ذلك ، و (فَرِيضَةً) نصب على المصدر المؤكد ، إذ معنى (يُوصِيكُمُ) يفرض عليكم ، وقال مكي وغيره : هي حال مؤكدة ، وذلك ضعيف ، والعامل (يُوصِيكُمُ) ، و (كانَ) هي الناقصة ، قال سيبويه لما رأوا علما وحكمة قيل لهم : إن الله لم يزل هكذا وصيغة ـ كان ـ لا تعطي إلا المضي ، ومن المعنى بعد يعلم أن الله تعالى كان كذلك ، وهو ويكون ، لا من لفظ الآية ، وقال قوم : (كانَ) بمعنى وجد ووقع ، و (عَلِيماً) ، حال ، وفي هذا ضعف ، ومن قال : (كانَ) زائدة فقوله خطأ.

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الآية. الخطاب للرجال ، والولد هاهنا بنو الصلب وبنو ذكورهم وإن سفلوا ، ذكرانا وإناثا ، واحدا فما زاد هذا بإجماع من العلماء.

قوله تعالى :

(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ)

والولد في هذه الآية كما تقدم في الآية التي قبلها ، والثمن للزوجة أو للزوجات هن فيه مشتركات بإجماع ، ويلحق العول فرض الزوج والزوجة ، كما يلحق سائر الفرائض المسماة ، إلا عند ابن عباس ، فإنه قال : يعطيان فرضهما بغير عول ، والكلالة : مأخوذة من تكلل النسب : أي أحاط ، لأن الرجل إذا لم يترك والدا ولا ولدا فقد انقطع طرفاه ، وبقي أن يرثه من يتكلله نسبه ، أي يحيط به من نواحيه كالإكليل ، وكالنبات إذا أحاط بالشيء ، ومنه : روض مكلل بالزهر ، والإكليل منزل القمر يحيط به فيه كواكب ، ومن الكلالة قول الشاعر : [المتقارب]


فإنّ أبا المرء أحمص له

ومولى الكلالة لا يغضب

فالأب والابن هما عمودا النسب ، وسائر القرابة يكللون ، وقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وسليم بن عبيد وقتادة والحكم وابن زيد والزهري وأبو إسحاق السبيعي : «الكلالة» خلو الميت عن الولد والوالد ، وهذا هو الصحيح ، وقالت طائفة : هي خلو الميت من الولد فقط ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعن عمر ، ثم رجعا عنه ، وروي عن ابن عباس ، وذلك مستقرا من قوله في الإخوة مع الوالدين : إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونها.

قال القاضي أبو محمد : هكذا حكى الطبري. ويلزم على قول ابن عباس إذ ورثهم بأن الفريضة «كلالة» أن يعطيهم الثلث بالنص ، وقالت طائفة منهم الحكم بن عتيبة : «الكلالة» الخلو من الوالد ، وهذان القولان ضعيفان ، لأن من بقي والده أو ولده ، فهو موروث بجزم نسب لا بتكلل ، وأجمعت الآن الأمة على أن الإخوة لا يرثون مع ابن ولا مع أب ، وعلى هذا مضت الأمصار والأعصار ، وقرأ جمهور الناس ـ «يورث» بفتح الراء ، وقرأ الأعمش وأبو رجاء ـ «يورّث» ـ بكسر الراء وتشديدها ، قال أبو الفتح بن جني : قرأ الحسن «يورث» من أورث ، وعيسى «يورّث» بشد الراء من ورث ، والمفعولان على كلتا القراءتين محذوفان ، التقدير : يورث وارثه ماله كلالة ، ونصب (كَلالَةً) على الحال ، واختلفوا في «الكلالة» فيما وقعت عليه في هذه الآية ، فقال عمر وابن عباس : «الكلالة» الميت الموروث إذا لم يكن له أب ، ونصبها على خبر كان ، وقال ابن زيد : «الكلالة» الوارثة بجملتها ، الميت والأحياء كلهم «كلالة» ، ونصبها على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره وراثة «كلالة» ، ويصح على هذا أن تكون (كانَ) تامة بمعنى وقع ، ويصح أن تكون ناقصة وخبرها (يُورَثُ) وقال عطاء : «الكلالة» المال ، ونصب على المفعول الثاني.

قال القاضي أبو محمد : والاشتقاق في معنى الكلالة يفسد تسمية المال بها ، وقالت طائفة : الكلالة الورثة ، وهذا يستقيم على قراءة «يورث» بكسر الراء ، فينصب (كَلالَةً) على المفعول ، واحتج هؤلاء بحديث جابر بن عبد الله ، إذ عاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنما يرثني «كلالة» أفأوصي بمالي كله؟ وحكى بعضهم : أن تكون «الكلالة» الورثة ، ونصبها على خبر (كانَ) ، وذلك بحذف مضاف ، تقديره ذا كلالة ، ويستقيم سائر التأويلات على كسر الراء ، وقوله (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على الرجل ، وقوله تعالى : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) الآية ، الضمير في له عائد على الرجل ، واكتفى بإعادته عليه دون المرأة ، إذ المعنى فيهما واحد ، والحكم قد ضبطه العطف الأول ، وأصل (أُخْتٌ) : أخوة ، كما أصل بنت : بنية ، فضم أول أخت إذ المحذوف منها واو ، وكسر أول بنت إذ المحذوف ياء ، وهذا الحذف والتعليل على غير قياس ، وأجمع العلماء على أن الإخوة في هذه الآية الإخوة لأم ، لأن حكمهم منصوص في هذه الآية على صفة ، وحكم سائر الإخوة مخالف له ، وهو الذي في كلالة آخر السورة ، وقرأ سعد بن أبي وقاص «وله أخ أو أخت لأمه» والأنثى والذكر في هذه النازلة سواء ، وشركتهم في الثلث متساوية وإن كثروا ، هذا إجماع ، فإن ماتت امرأة وتركت زوجا وأما وإخوة أشقاء ، فللزوج النصف ، وللأم السدس وما بقي فللإخوة ، فإن كانوا لأم فقط ، فلهم الثلث ، فإن تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأم وإخوة لأب وأم ، فهذه الحمارية ، قال قوم : فيها للإخوة للأم الثلث ، ولا شيء للإخوة الأشقاء ، كما لو مات رجل وخلف أخوين لأم ، وخلف مائة أخ لأب


وأم ، فإنه يعطى الأخوان الثلث ، والمائة الثلثين ، فيفضلون بالثلث عليهم ، وقال قوم : الأم واحدة وهب أباهم كان حمارا ، وأشركوا بينهم في الثلث وسموها أيضا المشتركة.

قال القاضي أبو محمد : ولا تستقيم هذه المسألة ان لو كان الميت رجلا ، لأنه يبقى للأشقاء ، ومتى بقي لهم شيء فليس لهم إلا ما بقي ، والثلث للإخوة للأم.

قوله تعالى :

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤)

(غَيْرَ مُضَارٍّ) نصب على الحال ، والعامل (يُوصى) ، و (وَصِيَّةٍ) نصب على المصدر في موضع الحال ، والعامل (يُوصِيكُمُ) وقيل : هو نصب على الخروج من قوله : (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) أو من قوله (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) ويصح أن يعمل (مُضَارٍّ) في (وَصِيَّةٍ) ، والمعنى : أن يقع الضرر بها وبسببها ، فأوقع عليها تجوزا ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «غير مضار وصية» بالإضافة ، كما تقول : شجاع حرب ، ومدره حرب ، وبضة المتجرد ، في قول طرفة بن العبد ، والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى ، وقال ابن عباس : الضرار في الوصية من الكبائر ، رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من ضارّ في وصية ألقاه الله تعالى في واد في جهنم.

قال القاضي أبو محمد : ووجوه المضارّة كثيرة لا تنحصر ، وكلها ممنوعة : يقر بحق ليس عليه ، ويوصي بأكثر من ثلثه ، أو لوارثه ، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج ، وغير ذلك ، ومشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارّة ما دام في الثلث ، فإن ضارّ الورثة في ثلثه مضى ذلك ، وفي المذهب قوله : إن المضارة ترد وإن كانت في الثلث ، إذا علمت بإقرار أو قرينة ويؤيد هذا قوله تعالى :

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) [البقرة : ١٨٢].

وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) الآية (تِلْكَ) إشارة إلى القسمة المتقدمة في المواريث ، والحد : الحجز المانع لأمر ما أن يدخل على غيره أو يدخل عليه غيره ، ومن هذا قولهم للبواب حداد لأنه يمنع ، ومنه إحداد المرأة وهو امتناعها عن الزينة ، هذا هو الحد في هذه الآية ، وقوله : (مِنْ تَحْتِهَا) يريد من تحت بنائها ، وأشجارها الذي من أجله سميت جنة ، لأن أنهار الجنة إنما هي على وجه أرضها في غير أخاديد ، وحكى الطبري : أن الحدود عند السدي هنا شروط الله ، وعند ابن عباس : طاعة الله ، وعند بعضهم : سنة الله ، وعند بعضهم : فرائض الله ، وهذا كله معنى واحد وعبارة مختلفة ، و (خالِدِينَ) قال الزجاج : هي حالة


على التقدير ، أي مقدرين (خالِدِينَ فِيها) ، وجمع (خالِدِينَ) على معنى (مَنْ) بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ (مَنْ) ، وعكس هذا لا يجوز.

وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، قرأ نافع وابن عامر «ندخله» بنون العظمة ، وقرأ الباقون ، يدخله بالياء فيهما جميعا ، وهذه آيتا وعد ووعيد ، وتقدم الإيجاز في ذلك ، ورجّى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث ، وتوعد على العصيان فيها بحسب إنكار العرب لهذه القسمة ، وقد كلم فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيينة بن حصن وغيره.

قوله تعالى :

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١٦)

قوله (وَاللَّاتِي) : اسم جمع التي ، وتجمع أيضا على «اللواتي» ، ويقال : اللائي بالياء ، و (الْفاحِشَةَ) في هذا الموضع : الزنا ، وكل معصية فاحشة ، لكن الألف واللام هنا للعهد ، وقرأ ابن مسعود «بالفاحشة» ببناء الجر وقوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) إضافة في معنى الإسلام ، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ، ولا يلحقها هذا الحكم ، وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء ، تغليظا على المدعي وسترا على العباد ، وقال قوم : ذلك ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وكانت هذه أول عقوبات الزناة ـ الإمساك في البيوت ، قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد : حتى نسخ بالأذى الذي بعده ، ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب ، وقالت فرقة : بل كان الأذى هو الأول ، ثم نسخ بالإمساك ولكن التلاوة أخرت وقدمت ، ذكره ابن فورك ، و (سَبِيلاً) معناه مخرجا بأمر من أوامر الشرع ، وروى حطان بن عبد الله الرقاشي عن عمران بن حصين ، أنه قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل عليه الوحي ، ثم أقلع عنه ووجهه محمر ، فقال : قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.

(وَالَّذانِ) ـ تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان كرحيان المتمكنة وبين الأسماء المبهمات. قال أبو علي : حذفت الياء تخفيفا إذ قد أمن من اللبس في اللذان ، لأن النون لا تنحذف ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم ، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين ، وقرأ ابن كثير «اللذانّ» بشد النون ، وتلك عوض من الياء المحذوفة ، وكذلك قرأ هذان ، وفذانك ، وهاتين ، بالتشديد في جميعها ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بتخفيف جميع ذلك ، وشدد أبو عمرو ، «فذانك» وحدها ولم يشدد غيرها ، (وَالَّذانِ) رفع بالابتداء ، وقيل على معنى : فيما يتلى


عليكم «اللذان» ، واختلف في الأذى ، فقال عبادة والسدي : هو التعيير والتوبيخ وقالت فرقة : هو السبّ والجفاء دون تعيير ، وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه ، قال مجاهد وغيره : الآية الأولى في النساء عامة لهن ، محصنات وغير محصنات ، والآية الثانية في الرجال ، وبين بلفظ التثنية صنفي الرجال ممن أحصن وممن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، وهذا قول يقتضيه اللفظ ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عليه ، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى (مِنْ نِسائِكُمْ) وقوله في الثانية (مِنْكُمْ) ، وقال السدي وقتادة وغير هما : الآية الأولى في النساء المحصنات ، يريد ويدخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى ، والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا القول تام ، إلا أن لفظ الآية يقلق عنه ، وقد رجحه الطبري ، وقرأ ابن مسعود «والذين يفعلونه منكم» وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور ، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما ، إلا من قال : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد ، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع ، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم ، وكذلك عممه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث حطان بن عبد الله الرقاشي الذي ذكرته آنفا ، وإن كان في صحيح مسلم فهو خبر آحاد ، ثم ورد بالخبر المتواتر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ولم يجلد ، فمن قال : إن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخا لجلد الثيب ، وهذا الذي عليه الأئمة : أن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، إذ هما جميعا وحي من الله ، ويوجبان جميعا العلم والعمل ، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز ، وصح ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خبر ماعز ، وفي حديث المرأة التي بعث إليها أنيس ، ومن قال إن السنة المتواترة لا تنسخ القرآن ، قال : إنما يكون حكم القرآن موقفا ، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن تتناول نسخا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تخيل لا يستقيم ، لأنا نجد السنة ترفع بحكمها ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ ، ولا يرد ذلك نظر ، ولا ينخرم منه أصل ، أما أن هذه النازلة بعينها يتوجه عندي أن يقال فيها : إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه ، في قوله تعالى : الشيخ والشيخة ـ إذا زنيا ـ فارجموهما البتة ، وهذا نص في الرجم ، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة ، وذكر أنهم قرأوه على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحديث بكماله في مسلم وأيضا فيعضد أن ذلك من القرآن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال له : فاقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأقضين بينكما بكتاب الله ، ثم أمر أنيسا برجم المرأة إن هي اعترفت ، فدل هذا الظاهر على أن الرجم كان في القرآن ، وأجمعت الأمة على رفع لفظة ، وهاتان الآيتان أعني الجلد والرجم لو لم يقع بيان من الرسول لم يجب أن تنسخ إحداهما الأخرى ، إذ يسوغ اجتماعهما على شخص واحد ، وحديث عبادة المتقدم يقوي جميعهما ، وقد أخذ به علي رضي الله عنه في شراحة جلدها ثم رجمها ، وقال : أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه ، ولكن لما بين الرسول برجمه دون جلد كان فعله بمثابة قوله مع هذه الآية : فقوا ولا


تجلدوا فيكون القرآن هو الناسخ والسنة هي المبينة ويصح أن نعترض من ينسخ بالسنة في هذه النازلة فنقول : الناسخ من شروطه أن يستقل في البيان بنفسه ، وإذا لم يستقل فليس بناسخ ، وآية الرجم بعد أن يسلم ثبوتها لا تستقل في النسخ بنفسها ، بل تنبني مع الجلد وتجتمع ، كما تضمن حديث عبادة بن الصامت ، لكن إسقاط الرسول الجلد هو الناسخ ، لأن فعله في ذلك هو بمنزلة قوله : لا تجلدوا الثيب ، وأما البكر فلا خلاف أنه يجلد ، واختلف في نفيه ، فقال الخلفاء الأربعة وابن عمر ومالك والشافعي وجماعة : لا نفي اليوم ، وقالت جماعة : ينفى وقيل : نفيه سجنه ، ولا تنفى المرأة ولا العبد ، هذا مذهب مالك وجماعة من العلماء ، وقوله : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) كانت هذه العقوبة من الإمساك والأذى إرادة أن يتوب الزناة ، وهو الرجوع عن الزنا والإصرار عليه ، فأمر الله تعالى المؤمنين ، إذا تاب الزانيان وأصلحا في سائر أعمالهما أن يكف عنهما الأذى ، وجاء الأمر بهذا الكف الذي هو «أعرضوا» وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا ، لأن تركهم إنما هو إعراض ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وليس الإعراض في الآيتين أمرا بهجرة ، ولكنها متاركة معرض ، وفي ذلك احتقار لهم بحسب المعصية المتقدمة ، ويحسب الجهالة في الآية الأخرى ، والله تعالى تواب ، أي راجع بعباده عن المعاصي إلى تركها ولزوم الطاعة.

قوله تعالى :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨)

(إِنَّمَا) حاصرة ، وهو مقصد المتكلم بها أبدا ، فقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر ، كقوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١] وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر ، كقوله : إنما الشجاع عنترة فيبقى الحصر في مقصد المادح ، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة ، وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة ، وهي في عرف الشرع : الرجوع من شر إلى خير ، وحد التوبة : الندم على فارط فعل ، من حيث هو معصية الله عزوجل ، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة ، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف ، وإلا فثم إصرار لا توبة معه ، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه ، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك ، فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على الترك ، والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة ، والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) [النور : ٣١] على الوجوب ، وتصح التوبة من ذنب من الإقامة على غيره من غير نوعه ، خلافا للمعتزلة في قولهم : لا يكون تائبا من أقام على ذنب ،


وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب ، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت ، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة ، والإيمان للكافر ليس نفس توبته ، وإنما توبته ندمه على سالف كفره ، وقوله تعالى : (عَلَى اللهِ) فيه حذف مضاف تقديره : على فضل الله ورحمته لعباده ، وهذا نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم سكت قليلا ، ثم قال : يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يدخلهم الجنة ، فهذا كله إنما معناه : ما حقهم على فضل الله ورحمته ، والعقيدة : أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلا ، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا ، فمن ذلك تخليد الكفار في النار ، ومن ذلك قبول إيمان الكافر ، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلا ، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب ، قال أبو المعالي وغيره : فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعا على الله بقبول التوبة.

قال القاضي أبو محمد : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى ، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط ، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته ، وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته ، كما أخبر عن نفسه عزوجل.

قال القاضي أبو محمد : وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه ، وبه أقول ، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [الشورى : ٢٥] وقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ) [طه : ٨٢] و (السُّوءَ) في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي ، وقوله تعالى : (بِجَهالَةٍ) معناه : بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية ، وليس المعنى أن تكون «الجهالة» ان ذلك الفعل معصية ، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة ، وهذا فاسد إجماعا ، وبما ذكرته في «الجهالة» قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر ذلك عنهم أبو العالية ، وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة ، عمدا كانت أو جهلا ، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي ، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا : «الجهالة» هنا العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها «جهالة».

قال القاضي أبو محمد : يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله ، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) [محمد : ٣٦ ، الحديد : ٢٠] وقد تأول قوم قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا.

قال القاضي أبو محمد : فكأن «الجهالة» اسم للحياة الدنيا ، وهذا عندي ضعيف ، وقيل (بِجَهالَةٍ) ، أي لا يعلم كنه العقوبة ، وهذا أيضا ضعيف ، ذكره ابن فورك ورد عليه ، واختلف المتأولون في قوله تعالى : (مِنْ قَرِيبٍ) فقال ابن عباس والسدي : معنى ذلك قبل المرض والموت ، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم : معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق ، وأن يغلب المرء على نفسه ، وروى أبو قلابة ، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف ، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر ،


قال : وعزتك لا برحت من قلبه ما دام فيه الروح ، فقال الله تعالى : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح.

قال القاضي أبو محمد : فابن عباس رضي الله عنه ذكر أحسن أوقات التوبة ، والجمهور حددوا آخر وقتها ، وقال إبراهيم النخعي : كان يقال : التوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه ، وروى بشير بن كعب والحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويغلب على عقله.

قال القاضي أبو محمد : لأن الرجاء فيه باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل في المستأنف ، فإذا غلب تعذرت التوبة لعدم الندم والعزم على الترك ، وقوله تعالى : (مِنْ قَرِيبٍ) إنما معناه : «من قريب» إلى وقت الذنب ، ومدة الحياة كلها قريب ، والمبادر في الصحة أفضل ، والحق لأمله من العمل الصالح ، والبعد كل البعد الموت ، ومنه قول مالك بن الريب : [الطويل]

وأين مكان البعد إلّا مكانيا

وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي بمن يتوب وييسره هو للتوبة حكيما فيما ينفذه من ذلك ، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك.

ثم نفى بقوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس ، وحضور الموت هو غاية قربه ، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق ، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجماعة المفسرين ، وقال الربيع : الآية الأولى قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) هي في المؤمنين ، والآية الثانية قوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] فحتم أن لا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة.

قال القاضي أبو محمد : وطعن بعض الناس في هذا القول بأن خبر ، والأخبار لا تنسخ. وهذا غير لازم ، لأن الآية لفظها الخبر ، ومعناه تقرير حكم شرعي ، فهي نحو قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] ونحو قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [سورة الأنفال : ٦٥] وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب ، فنحتاج أن نقول ، إن قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) [النساء : ٤٨ ، ١١٦] نسخها وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائبا من لم يتب إلا مع حضور الموت ، فالعقيدة عندي في هذه الآيات : أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب ، هذا مذهب أبي المعالي وغيره ، وقال غيرهم : بل هو مغفور له قطعا ، لإخبار الله تعالى بذلك ، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة ، ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين ، فإن كان كافرا فهو يخلد ، وإن كان مؤمنا فهو عاص في المشيئة ، لكن يغلب الخوف عليه ، ويقوي الظن في تعذيبه ، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلا منه ولا يعذبه. وأعلم الله تعالى أيضا أن (الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة ، وقوله تعالى :


(أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط ، فالعذاب عذاب خلود ، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد ، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء ، عذاب ولا خلود معه ، و (أَعْتَدْنا) معناه : يسرناه وأحضرناه ، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩)

اختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فقال ابن عباس : كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها ، إن شاؤوا تزوجها أحدهم ، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم ، وإن شاؤوا منعوها الزواج ، فنزلت الآية في ذلك ، قال أبو إمامة بن سهل بن حنيف : لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فنزلت الآية في ذلك ، ذكر النقاش : أن اسم ولد أبي قيس محصن.

قال القاضي أبو محمد : كانت هذه السيرة في الأنصار لازمة ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي ، ألا ترى أن أبا عمرو بن أمية ، خلف على امرأة أبيه بعد موته ، فولدت من أبي عمرو مسافرا وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما ، وقال بمثل هذا القول الذي حكيت عن ابن عباس عكرمة والحسن البصري وأبو مجلز ، قال عكرمة : نزلت في كبيشة بنت معن الأنصارية ، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت ، وقال مجاهد : كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها ، وقال السدي : كان ولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه ، فهو أحق بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها.

قال القاضي أبو محمد : والروايات في هذا كثيرة بحسب السير الجاهلية ، ولا منفعة في ذكر جميع ذلك ، إذ قد أذهبه الله بقوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ) ومعنى الآية على هذا القول : (لا يَحِلُّ لَكُمْ) أن تجعلوا النساء كالمال ، يورثن عن الرجال الموتى ، كما يورث المال ، والمتلبس بالخطاب أولياء الموتى ، وقال بعض المتأولين : معنى الآية : (لا يَحِلُّ لَكُمْ) عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن وإمساكهن دون تزويج حتى يمتن فتورث أموالهن.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول فالموروث مالها لا هي ، وروي نحو هذا عن ابن عباس وغيره ، والمتلبس بالخطاب أولياء النساء وأزواجهن ، إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية أن يرثها ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير : «كرها» بفتح الكاف حيث وقع في النساء وسورة التوبة وفي الأحقاف ، وقرأ


حمزة والكسائي جميع ذلك بضم الكاف ، وقرأ عاصم وابن عامر في النساء والتوبة بفتح الكاف ، وفي الأحقاف في الموضعين بضمها ، والكره والكره لغتان كالضعف والضعف ، والفقر والفقر ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : هو بضم الكاف المشقة وبفتحها إكراه غير ، وقاله ابن قتيبة ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) الآية ، فقال ابن عباس وغيره : هي أيضا في أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة لأنهم كانوا يتزوجونها إذا كانت جميلة ، ويمسكونها حتى تموت إذا كانت دميمة ، وقال نحوه الحسن وعكرمة.

قال القاضي أبو محمد : ويجيء في قوله : (آتَيْتُمُوهُنَ) خلط أي ما آتاها الرجال قبل ، فهي كقوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وغير ذلك وقال ابن عباس أيضا : هي في الأزواج ، في الرجل يمسك المرأة ويسيء عشرتها حتى تفتدي منه ، فذلك لا يحل له ، وقال مثله قتادة ، وقال ابن البيلماني : الفصل الأول من الآية هو في أمر الجاهلية ، والثاني في العضل ، هو في أهل الإسلام في حبس الزوجة ضرارا للفدية ، وقال ابن مسعود : معنى الآية : لا ترثوا النساء كفعل الجاهلية ، (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) في الإسلام ، وقال نحو هذا القول السدي والضحاك ، وقال السدي : هذه الآية خطاب للأولياء ، كالعضل المنهي عنه في سورة البقرة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يقلق ، إلا أن يكون العضل من ولي وارث ، فهو يؤمل موتها ، وإن كان غير وارث فبأي شيء يذهب؟ ، وقال ابن زيد : هذا العضل المنهي عنه في هذه الآية هو من سير الجاهلية في قريش بمكة ، إذا لم يتوافق الزوجان طلقها على ألا تتزوج إلا بإذنه ، ويشهد عليها بذلك ، فإذا خطبت فإن أعطته ورشته وإلا عضل ، ففي هذا نزلت الآية.

قال القاضي أبو محمد : والذي أقول : إن العضل في اللغة الحبس في شدة ومضرة ، والمنع من الفرج في ذلك فمن ذلك قولهم : أعضلت الدجاجة وعضلت إذا صعب عليها وضع البيضة ، ومنه أعضل الداء إذا لحج ولم يبرأ ، ومنه داء عضال. ومشى عرف الفقهاء على أن العضل من الأولياء في حبس النساء عن التزويج ، وهو في اللغة أعم من هذا حسبما ذكرت ، يقع من ولي ومن زوج ، وأقوى ما في هذه الأقوال المتقدمة ، أن المراد الأزواج ، ودليل ذلك قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة ، وإنما ذلك للزوج على ما سنبين بعد إن شاء الله ، وكذلك قوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) إلى آخر الآية يظهر منه تقوية ما ذكرته ، وإن حان ذلك يحتمل أن يكون أمرا منقطعا من الأول يخص به الأزواج. وأما العضل فمنهي عنه كل من يتصور في نازلة عاضلا ، ومتى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها ولم يلتفت ، إلا الأب في بناته ، فإنه إن كان في أمره إشكال فلا يعترض قولا واحدا ، وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك : أحدهما أنه كسائر الأولياء : يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه ، والقول الآخر إنه لا يعرض له ، ويحتمل قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) أن يكون جزما ، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى ، ويحتمل أن يكون (تَعْضُلُوهُنَ) نصبا عطفا على (تَرِثُوا) فتكون الواو مشركة عاطفة فعل على فعل ، وقرأ ابن مسعود : «ولا أن تعضلوهن». فهذه القراءة تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يحل بالنص ، وعلى تأويل الجزم


هو نهي معرض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهية ، واحتمال النصب أقوى ، واختلف الناس في معنى الفاحشة هنا ، فقال الحسن بن أبي الحسن : هو الزنا ، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة ، وترد إلى زوجها ما أخذت منه ، وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه ، وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن ، وقال عطاء الخراساني : كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود ، وهذا قول ضعيف ، وقال ابن عباس رحمه‌الله : «الفاحشة» في هذه الآية البغض والنشوز ، وقاله الضحاك وغيره ، قالوا : فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو مذهب مالك ، إلا أني لا أحفظ له نصا في معنى «الفاحشة» في هذه الآية ، وقال قوم : «الفاحشة» البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا ، وهذا في معنى النشوز ، ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع ، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى : (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) وقال مالك وأصحابه وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.

قال القاضي أبو محمد : والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى ، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال ، وقرأ ابن مسعود : «إلا أن يفحشن وعاشروهن».

قال القاضي أبو محمد : وهذا خلاف مفرط لمصحف الإمام ، وكذلك ذكر أبو عمرو عن ابن عباس وعكرمة وأبيّ بن كعب ، وفي هذا نظر ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «مبينّة» و «آيات مبيّنات» بفتح الياء فيهما ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص والمفضل عن عاصم : «مبيّنة» ، و «مبيّنات» ـ بكسر الياء فيهما ، وقرأ نافع وأبو عمرو : «مبيّنة» بالكسر ، و «مبيّنات» بالفتح ـ وقرأ ابن عباس : «بفاحشة مبينة» بكسر الباء وسكون الياء ، من أبان الشيء ، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة ، يقال : بين الشيء وأبان : إذا ظهر ، وبان الشيء وبينته ، وقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أمر للجميع ، إذ لكل أحد عشرة ، زوجا كان أو وليا ، ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج ، والعشرة المخالطة والممازجة ، ومنه قول طرفة : [الرمل]

فلئن شطّت نواها مرّة

لعلى عهد حبيب معتشر

جعل ـ الحبيب ـ جمعا كالخليط والفريق ، يقال : عاشره معاشرة ، وتعاشر القوم واعتشروا ، وأرى اللفظة من أعشار الجزور ، لأنها مقاسمة ومخالطة ومخالقة جميلة ، فأمر الله تعالى الرجال بحسن صحبة النساء ، وإلى هذا ينظر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاستمتع بها وفيها عوج ، ثم أدب تعالى عباده بقوله : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) إلى آخر الآية ، قال السدي : الخير الكثير في المرأة الولد ، وقال نحوه ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة شيء لأنه يطرد هذا النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه ، فيحسن الصبر ، إذ عاقبته إلى خير ، إذا أريد به وجه الله.


قوله تعالى :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١)

لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة ، وأن للزوج أخذ المال منها ، عقب ذلك ذكر الفراق الذي سببه الزوج ، والمنع من أخذ مالها مع ذلك ، فهذا الذي في هذه الآية هو الذي يختص الزوج بإرادته ، واختلف العلماء ، إذا كان الزوجان يريدان الفراق ، وكان منهما نشوز وسوء عشرة ، فقال مالك رحمه‌الله : للزوج أن يأخذ منها إذا سببت الفراق ، ولا يراعى تسبيبه هو ، وقالت جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وبظلمه في ذلك ، وقال بعض الناس : يخرج في هذه الآية جواز المغالاة بالمهور ، لأن الله تعالى قد مثل بقنطار ، ولا يمثل تعالى إلا بمباح ، وخطب عمر بن الخطاب فقال : ألا لا تغالوا بمهور نسائكم ، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة ، يقول : تجشمت إليك علق القربة أو عرق القربة ، فيروى أن امرأة كلمته من وراء الناس فقالت ، كيف هذا؟ والله تعالى يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) قال : فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ، ويروى أنه قال : امرأة أصابت ورجل أخطأ ، والله المستعان ، وترك الإنكار ، وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل جاء على جهة المبالغة ، كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا كقوله عليه‌السلام ، من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ، فمعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص ، وقد قال النبي عليه‌السلام لابن أبي حدرد ـ وقد جاء يستعينه في مهره ـ فسأله عن المهر ، فقال : مائتين ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل ، الحديث ـ فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ، لأن هذا أحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال ، وذلك مكروه باتفاق ، وإنما المغالاة المختلف فيها مع الغنى وسعة المال ، وقرأ ابن محيصن بوصل ألف «إحداهن» ، وهي لغة تحذف على جهة التخفيف. ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ونسمع من تحت العجاج لها زملا

وقول الآخر : [الكامل]

إن لم أقاتل فالبسوني برقعا

وقد تقدم القول في قدر القنطار في سورة آل عمران ، وقرأ أبو السمال «منه شيئا» بفتح الياء والتنوين ، وهي قراءة أبي جعفر ، والبهتان : مصدر في موضع الحال ، ومعناه : محيرا لشنعته وقبح الأحدوثة والفعلة فيه.


ثم وعظ تعالى عباده مذكرا لهم بالمودة التي بين الزوجين الموجبة لحياطة مال المرأة ، إذ قد أخذ منها العوض عما أعطيته ، (وَكَيْفَ) في موضع نصب على الحال و (أَفْضى) معناه : باشر وجاوز أقصى المجاوزة ومنه قول الشاعر : [الطويل]

بلى وثأى أفضى إلى كلّ كثبة

بدا سيرها من ظاهر بعد باطن

وفي مثل الناس ، فوضى فضا ، أي مختلطون يباشر أمر بعضهم بعضا وتقول أفضت الحال إلى كذا أي صارت إليه ، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم : الإفضاء في هذه الآية الجماع ، قال ابن عباس : ولكن الله كريم يكني ، واختلف الناس في المراد بالميثاق الغليظ ، فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم : هو قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] وقال مجاهد وابن زيد : الميثاق الغليظ عقدة النكاح ، وقول الرجل : نكحت وملكت النكاح ونحوه ، فهذه التي بها تستحل الفروج ، وقال عكرمة والربيع : الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلام الله ، وقال قوم : الميثاق الغليظ الولد ، ومن شاذ الأقوال في هذه الآية ، أن بكر بن عبد الله المزني قال : لا يجوز أن يؤخذ من المختلعة قليل ولا كثير ، وإن كانت هي المريدة للطلاق ، ومنها أن ابن زيد قال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩].

قال القاضي أبو محمد : وليس في شيء من هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ ، وكلها ينبني بعضها مع بعض.

قوله تعالى :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)

هذه الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية ومعنى الآية : والتحريم الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع ، وسبب الآية : أن العرب كان منهم قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة أبيه ، على ما ذكرناه من أمر أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ، ومن ذلك خبر أبي قيس بن الأسلت ، ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف ، تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت امرأة أبيه قتل عنها ، ومن ذلك منظور بن زيان ، خلف على مليكة بنت خارجة ، وكانت عند أبيه زيان بن سيار ، إلى كثير من هذا ، وقد كان في العرب من تزوج ابنته ، وهو حاجب بن زرارة ، تمجس وفعل هذه الفعلة ، ذكر ذلك


النضر بن شميل في كتاب المثالب ، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير ، وقال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فنزلت هذه الآية في ذلك ، واختلف المتأولون في مقتضى ألفاظ الآية ، فقالت فرقة : قوله : (ما نَكَحَ) يراد به النساء. أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم ، وقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) معناه : لكن ما قد سلف فدعوه ، وقال بعضهم المعنى لكن ما قد سلف فهو معفو عنكم لمن كان واقعه ، فكأنه قال تعالى ولا تفعلوا حاشا ما قد سلف ، ف (ما) على هذا القول واقعة على من يعقل من حيث هؤلاء النساء صنف من أصناف من يعقل ، وما تقع للأصناف والأوصاف ممن يعقل ، وقالت فرقة : قوله : (ما نَكَحَ) يراد به فعل الآباء ، أي لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة ، وقوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) معناه إلا ما تقدم منكم ووقع من تلك العقود الفاسدة فمباحة لكم الإقامة عليه في الإسلام ، إذا كان مما يقرر الإسلام عليه من جهة القرابة ، ويجوزه الشرع أن لو ابتدئ نكاحه في الإسلام على سنته ، وقيل : معنى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي فهو معفو عنكم.

قال القاضي أبو محمد : و (ما) على هذا مصدرية ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «إلا ما قد سلف إلا من تاب».

قال القاضي أبو محمد : وكذلك حكاه أبو عمرو الداني ، وقال ابن زيد : معنى الآية : النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء ، «إلا ما قد سلف» من الآباء في الجاهلية من الزنا ، لا على وجه المناكحة ، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام ، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتا ، قال ابن زيد : فزاد في هذه الآية المقت ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية : كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل ، فهي عليك حرام و (كانَ) في هذه الآية تقتضي الماضي والمستقبل ، وقال المبرد : هي زائدة ، وذلك خطأ يرد عليه وجود الخبر منصوبا ، والمقت : البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها الممقوت ، فسمى تعالى هذا النكاح (مَقْتاً) إذ هو ذا مقت يلحق فاعله ، وقال أبو عبيدة وغيره : كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المقتي ، وقوله : (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه ، إذ عاقبته إلى عذاب الله.

وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) الآية ، حكم حرم الله به سبعا من النسب ، وستا من بين رضاع وصهر ، وألحقت السنة المأثورة سابعة ، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ، ومضى عليه الإجماع ، وروي عن ابن عباس أنه قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر سبع ، وتلا هذه الآية ، وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار : مثل ذلك ، وجعل السابعة قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٢٤] ، وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه ، ويسميه أهل العلم ـ المبهم ـ أي لا باب فيه ، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته ، وكذلك تحريم البنات والأخوات ، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل من ولدها وإن سفلت ، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن ، والعمة أخت الأب ، والخالة أخت الأم ، كذلك فيهما العموم والإبهام ، وكذلك عمة الأب وخالته ، وعمة الأم وخالتها ، وكذلك عمة العمة ، وأما خالة العمة فينظر ، فإن كانت العمة أخت أب لأم ، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة ، لأنها أخت الجدة ، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها ، تحل للرجال ، ويجمع بينها وبين النساء ،


وكذلك عمة الخالة ينظر ، فإن كانت الخالة أخت أم لأب ، فعمتها حرام ، لأنها أخت جد ، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها ، وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام ، سواء كانت الأخوة شقيقة. أو لأب أو لأم ، وقرأ أبو حيوة «من الرّضاعة» بكسر الراء ، والرضاع يحرم ما يحرم النسب ، والمرضعة أم ، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة ، وفحل اللبن أب ، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة ، وقرأ ابن مسعود «اللاي» بكسر الياء ، وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي» بالإفراد ، كأنه من جهة الإبهام يقع مع الواحد والجماعة ، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) فقال جمهور أهل العلم : هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل ، فبالعقد على الابنة حرمت الأم ، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها؟ قال : نعم ، هي بمنزلة الربيبة.

قال القاضي أبو محمد : يريد أن قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) شرط في هذه ، وفي الربيبة ، وروي نحوه عن ابن عباس ، وروي عنه كقول الجمهور ، وروي عن زيد بن ثابت ، أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإن طلقها قبل أن يدخل بها ، فإن شاء فعل ، وقال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول ، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال : (أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) مبهمة ، وإنما الشرط في الربائب ، وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن»؟ فقال لا تترأ ، قال حجاج: قلت لابن جريج : ما تترأ؟ قال كأنه قال ، لا لا ، ويرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا ، ومعناه : إذا اختلفا في العامل ، وهذه الآية قد اختلف فيها جنس العامل.

قوله تعالى :

(وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣)

الربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته. وربيبة : فعيلة بمعنى مفعولة ، وقوله تعالى : (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ذكر الأغلب في هذه الأمور ، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر ، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر ، لأنها في حكم أنها في الحجر ، إلا ما روي عن علي أنه قال : تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم ، إذا كانت بعيدة عنه ، ويقال : حجر بكسر الحاء وفتحها ، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس ، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر ، لأن اللابس إنما تحفظ طفلا وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب ، واختلف العلماء في معنى قوله: (دَخَلْتُمْ بِهِنَ) فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار : الدخول في هذا الموضع الجماع ، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء ، فإن ابنتها له حلال ، وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح


وغيرهم : إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء ، والحلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، لأنها تحل مع الرجل حيث حل ، فهي فعلية بمعنى فاعلة ، وذهب الزجاج وقوم : إلى أنها من لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة ، وقوله : (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب ، وكان عندهم أمرا كثيرا قوي الحكم ، قال عطاء ابن أبي رباح : يتحدث ـ والله أعلم ـ أنها نزلت في محمد عليه‌السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة ، فقال المشركون : قد تزوج امرأة ابنه ، فنزلت الآية ، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين ، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح ، وأما بملك يمين ، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهما حسنا ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ، ذكره ابن المنذر ، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكا فيمن كرهه.

قال القاضي أبو محمد : ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وبنتها ، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا ، واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء ، إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها ، قال ابن المنذر : وفيها قول ثان لقتادة ، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ، ثم يمسك عنها حتى يستبرىء الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية.

قال القاضي أبو محمد : ومذهب مالك رحمه‌الله ، إذا كان أختان عند رجل يملك ، فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته ، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله ، من إخراج عن الملك ، أو تزويج ، أو عتق إلى أجل ، أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ، ولم يبق ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم فيمن قد وطئ ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة ، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال ، في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح ، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء ، وذلك مكروه إلا في الحيض ، لأنه أمر غالب كثير ، وفي الباب بعينه قول آخر : إن النكاح لا ينعقد ، وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة ، وثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)


[النساء : ٢٤] وذلك لأن الحديث من المتواتر ، وكذلك قوله عليه‌السلام ، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، قيل أيضا إنه ناسخ ، وقوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء منقطع ، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره ، والإسلام يجبّه.

قوله تعالى :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢٤)

قوله عزوجل : (وَالْمُحْصَناتُ) عطف على المحرمات قبل ، والتحصن : التمنع ، يقال حصن المكان : إذا امتنع ، ومنه الحصن ، وحصنت المرأة : امتنعت بوجه من وجوه الامتناع ، وأحصنت نفسها ، وأحصنها غيرها ، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء ، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عزوجل ، فتستعمله في الزواج ، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا ، والحرة بخلاف ذلك ، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي عليه‌السلام ، حين بايعته ، وهل تزني الحرة؟ فالحرية منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ ، ومنه قول النبي عليه‌السلام «الإيمان قيد الفتك» ومنه قول الهذلي :

فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك

ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل

ومنه قول الشاعر :

قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا

يأبى عليك الله والإسلام

ومنه قول سحيم :

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

ومنه قول أبي حية :

رمتني وستر الله بيني وبينها

فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام ، ويستعملون الإحصان في العفة ، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها ، فهي منعة وحفظ ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني ، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض ، بحسب موضع وموضع ، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.

فقوله في هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ) ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو


سعيد الخدري : هن ذوات الأزواج ، أي هن محرمات ، إلا ما ملكت اليمين بالسبي ، من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه ، وإن كان لها زوج ، وروى أبو سعيد الخدري : أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين ، فتأثم المسلمون من غشيانهن ، فنزلت الآية مرخصة ، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضا : معنى (الْمُحْصَناتُ) ذوات الأزواج ، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج ، فإن بيعها طلاقها ، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها ، وأن تعتق طلاقها ، وأن تورث طلاقها ، وتطليق الزوج طلاقها ، وقال ابن مسعود : إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها ، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا ، ولا طلاق لها إلا الطلاق ، وقال قوم : (الْمُحْصَناتُ) في هذه الآية العفائف ، أي كل النساء حرام ، وألبسهن اسم الإحصان ، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك ، (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قالوا : معناه بنكاح أو شراء ، كل ذلك تحت ملك اليمين ، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ، ورواه عبيدة عن عمر رضي الله عنه ، وقال ابن عباس: (الْمُحْصَناتُ) العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب.

قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا ، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ) : هن الحرائر ، ويكون (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) معناه بنكاح ، هذا على اتصال الاستثناء ، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان نساء يأتيننا مهاجرات ، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ) الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال ، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها ، وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل ، قوله : (وَالْمُحْصَناتُ) إلى قوله : (حَكِيماً).

قال القاضي أبو محمد : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) فقال : يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات ، ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك ، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين ، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ ، فإنه قال : هن ذوات الأزواج ، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا ، ففسر الإحصان بالزواج ، ثم عاد عليه بالعفة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة ، «والمحصنات» بفتح الصاد في كل القرآن ، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده ، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصنات» كذلك ، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد ، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها ، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصنات» بضم الصاد ، وهذا على إتباع الضمة الضمة ، وقرأ جمهور الناس «كتاب الله» وذلك نصب على المصدر المؤكد ، وقرأ أبو حيوة


ومحمد بن السميفع اليماني «كتب الله عليكم» على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى ، وقال عبيدة السلماني وغيره : قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣] وفي هذا بعد ، والأظهر أن قوله (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله ، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) فقال السدي : المعنى وأحل لكم ما دون الخمس ، أن تبتغوا بأموالكم ، على وجه النكاح ، وقال نحوه عبيدة السلماني ، وقال عطاء وغيره : المعنى «وأحل لكم ما وراء» من حرم من سائر القرابة ، فهن حلال لكم تزويجهن ، وقال قتادة : المعنى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) من الإماء.

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأحل لكم» بفتح الألف والحاء ، وهذه مناسبة لقوله (كِتابَ اللهِ) إذ المعنى كتب الله ذلك كتابا ، وقرأ حمزة والكسائي «وأحل» بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات ، فهن وراء أولئك بهذا الوجه ، و (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) ، لفظ يجمع التزوج والشراء و (أَنْ) في موضع نصب ، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع ، ويحتمل النصب بإسقاط الباء ، و (مُحْصِنِينَ) ، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك (غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، أي غير زناة ، والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه ، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع الدفاف في عرس : هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر ، واختلف المفسرون في معنى قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر ، وهو المهر كله ، ولفظة (فَمَا) تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر ، وروي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والسدي وغيرهم : أن الآية في نكاح المتعة ، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير ، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهن» وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها الله عزوجل ، وروى الحكم بن عتيبة ، أن عليا رضي الله عنه قال : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ ، وقد كانت المتعة في صدر الإسلام ، ثم نهى عنها النبي عليه‌السلام ، وقال ابن المسيب : نسختها آية الميراث ، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها ، وقيل قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] وقالت عائشة : نسخها قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق ، والعدة ، والميراث ، وكانت : أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى ، وعلى أن لا ميراث بينهما ، ويعطيها ما اتفقا عليه ، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك ، فإن لم تحمل حلت لغيره.

قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب النحاس : في هذا خطأ فاحش في اللفظ ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة ، وحكى المهدوي عن ابن المسيب : أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود ، وفيما حكاه ضعف ، و (فَرِيضَةً) نصب على المصدر في موضع الحال ، واختلف المفسرون في معنى قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الآية ، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن : إن هذه إشارة


إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة ، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض ، وقال القائلون بأن الآية المتقدمة هي أمر المتعة : إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ ، وباقي الآية بين

قوله تعالى :

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)

قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك بن أنس في المدونة ، الطول هنا السعة في المال ، وقال ربيعة وإبراهيم النخعي : الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة ، ثم يكون قوله تعالى : (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ) على هذا التأويل بيانا في صفة عدم الجلد ، وعلى التأويل الآخر يكون تزوج الأمة معلقا بشرطين : عدم السعة في المال وخوف العنت ، فلا يصح إلا باجتماعهما ، وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد. ان الحر لا يتزوج الأمة على حال إلا ألا يجد سعة في المال لمهر حرة ، وأن يخشى العنت مع ذلك ، وقال مالك في كتاب محمد : إذا وجد المهر ولكنه لا يقدر على النفقة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة ، وقال أصبغ : ذلك جائز ، إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه ، وقال مطرف وابن الماجشون : لا يحل للحر أن ينكح أمة ، ولا يقر إن وقع ، إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى ، وقاله أصبغ ، قال : وقد كان ابن القاسم يذكر أنه سمع مالكا يقول : نكاح الأمة حلال في كتاب الله عزوجل.

قال القاضي أبو محمد : وهو في المدونة ، وقال سحنون في غيرها : ذلك في قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [النور : ٣٢]. وقاله ابن مزين.

قال القاضي أبو محمد : وليس في الآية ما يلزم منه تحليل الأمة لحر دون الشرطين ، وقال مالك في المدونة : ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت ، وقال في كتاب محمد : ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي : وهو ظاهر القرآن ، وروي نحو هذا عن ابن حبيب ، وقاله أبو حنيفة : فمقتضى هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح أمة ، وإن عدم السعة وخاف العنت ، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة ، وقال به الطبري واحتج له ، و (طَوْلاً) ـ يصح في إعرابه أن يكون مفعولا بالاستطاعة ، و (أَنْ يَنْكِحَ) في موضع نصب بدل من قوله (طَوْلاً) أو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح ، وفي هذا نظر ، ويصح أن يكون (طَوْلاً) نصبا على المصدر ، والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب ، و (أَنْ يَنْكِحَ) على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر ، تقول : طال الرجل طولا بفتح الطاء إذا تفضل ووجد واتسع عرفه ، و (طَوْلاً) بضم الطاء في ضد القصر و (الْمُحْصَناتِ) في هذا الموضع الحرائر ، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء ، وقالت فرقة : معناه العفائف وهو ضعيف لأن الإماء يقعن تحته ،


وقد تقدم الذكر للقراءة في (الْمُحْصَناتِ) ، و (الْمُؤْمِناتِ) صفة ، فأما من يقول في الرجل يجد طولا لحرة كتابية لا لمؤمنة : إنه يمتنع عن نكاح الإماء ، فهي صفة غير مشترطة ، وإنما جاءت لأنها مقصد النكاح ، إذ الأمة مؤمنة ، وهذا هو المذهب المالكي ، نص عليه ابن الماجشون في الواضحة ومن قال في الرجل لا يجد طولا إلا الكتابية : إنه يتزوج الأمة إن شاء ، فصفة (الْمُؤْمِناتِ) عنده في الآية مشترطة في إباحة نكاح الإماء ، والمسألة مختلف فيها حسبما ذكرناه ، و (ما) في قوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يصح أن تكون مصدرية ، تقديره : فمن ملك أيمانكم ويصح أن يراد بها النوع المملوك ، فهي واقعة عليه ، والفتاة ـ وإن كانت واقعة في اللغة على الشابة أية كانت ، فعرفها في الإماء ، وفتى ـ كذلك ، وهذه المخاطبات بالكاف والميم عامة ، أي : منكم الناكحون ومنكم المالكون ، لأن الرجل ينكح فتاة نفسه ، وهذا التوسع في اللغة كثير ، و (الْمُؤْمِناتِ) في هذا الموضع صفة مشترطة عند مالك وجمهور أصحابه ، لأنهم يقولون : لا يجوز زواج أمة غير مسلمة بوجه ، وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي : نكاح الأمة الكتابية جائز ، وقوله (الْمُؤْمِناتِ) على جهة الوجه الفاضل ، واحتجوا بالقياس على الحرائر ، وذلك أنه لما لم يمنع قوله (الْمُؤْمِناتِ) في الحرائر من نكاح الكتابيات الحرائر ، فكذلك لا يمنع قوله (الْمُؤْمِناتِ) في الإماء من نكاح الكتابيات الإماء ، وقال أشهب في المدونة : جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية.

قال القاضي أبو محمد : فالمنع عنده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا ، وقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) معناه : أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها ، فإذا كانت الفتاة ظاهرها الإيمان فنكاحها صحيح ، وعلم باطنها إلى الله ، وإنما هذا لئلا يستريب متحير بإيمان بعض الإماء ، كالقريبة عهد بالسباء ، أو كالخرساء وما أشبهه. وفي اللفظ أيضا تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض من الحرائر ، أي : فلا تعجبوا بمعنى الحرية ، وقوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) قالت طائفة : هو رفع على الابتداء والخبر ، والمقصد بهذا الكلام أي إنكم أيها الناس سواء بنو الحرائر وبنو الإماء ، أكركم عند الله أتقاكم ، فهذه توطئة لنفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة ، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها ، أعلموا مع ذلك أن ذلك التهجين لا معنى له ، وقال الطبري : هو رفع بفعل تقديره : فلينكح مما ملكت «أيمانكم بعضكم من بعض» فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير. وهذا قول ضعيف.

قوله تعالى :

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥)

قوله : (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) معناه : بولاية أربابهن المالكين ، وقوله : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني مهورهن ، قاله ابن زيد وغيره ، و (بِالْمَعْرُوفِ) معناه : بالشرع والسنة ، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة ، وهو مذهب مالك قال في كتاب الرهون : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. قال سحنون في


غير المدونة : كيف هذا؟ وهو لا يبوئه معها بيتا. وقال بعض الفقهاء : معنى ما في المدونة : أنه بشرط التبوئة ، فعلى هذا لا يكون قول سحنون خلافا و (مُحْصَناتٍ) وما بعده حال ، فالظاهر أنه بمعنى عفيفات إذ غير ذلك من وجوه الإحصان بعيد إلا مسلمات فإنه يقرب ، والعامل في الحال (فَانْكِحُوهُنَ) ويحتمل أن يكون (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) كلاما تاما ، ثم استأنف «وآتوهن أجورهن مزوجات غير مسافحات» ، فيكون العامل (وَآتُوهُنَ) ، ويكون معنى الإحصان : التزويج ، و «المسافحات» من الزواني : المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا ، «ومتخذات الأخدان» : هن المتسترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا ويزنين خفية ، وهذان كانا نوعين في زنا الجاهلية ، قاله ابن عباس وعامر الشعبي والضحاك وغيرهم ، وأيضا فهو تقسيم عقلي لا يعطي الوجود إلا أن تكون الزانية إما لا ترديد لامس وإما أن تختص من تقتصر عليه ، وقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) الآية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «أحصن» على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ حمزة والكسائي على بناء الفعل للفاعل ، واختلف عن عاصم ، فوجه الكلام أن تكون القراءة الأولى بالتزوج ، والثانية بالإسلام أو غيره مما هو من فعلهن ، ولكن يدخل كل معنى منهما على الآخر ، واختلف المتأولون فيما هو الإحصان هنا ، فقال الجمهور : هو الإسلام ، فإذا زنت الأمة المسلمة حدت نصف حد الحرة ـ وإسلامها هو إحصانها الذي في الآية ، وقالت فرقة : إحصانها الذي في الآية هو التزويج لحر ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها ، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة ، وقالت فرقة : الإحصان ـ في الآية التزوج ، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة بالسنة ، وهي الحديث الصحيح في مسلم والبخاري ، أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحد. قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث والسؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا من القرآن أن معنى (أُحْصِنَ) تزوجن ، وجواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك يقتضي تقرير المعنى ومن أراد أن يضعف قول من قال : إنه الإسلام بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت وتقررت فذلك غير لازم ، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد ، فإذا كن على هذه الحالة المتقدمة من الإيمان (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَ) ، وذلك سائغ صحيح ، والفاحشة هنا : الزنى بقرينة إلزام الحد ، و (الْمُحْصَناتِ) في هذه الآية الحرائر ، إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل ، والرجم لا يتنصف ، فلم يرد في الآية بإجماع ، ثم اختلف ، فقال ابن عباس والجمهور : على الأمة نصف المائة لا غير ذلك ، وقال الطبري وجماعة من التابعين : على الأمة نصف المائة ونصف المدة ، وهي نفي ستة أشهر ، والإشارة بذلك إلى نكاح الأمة ، و (الْعَنَتَ) في اللغة : المشقة ، وقالت طائفة : المقصد به هاهنا الزنا ، قاله مجاهد : وقال ابن عباس : ما ازلحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قريبا ، قال : و (الْعَنَتَ) الزنا ، وقاله عطية العوفي والضحاك ، وقالت طائفة: الإثم ، وقالت طائفة : الحد.

قال القاضي أبو محمد : والآية تحتمل ذلك كله ، وكل ما يعنت عاجلا وآجلا. وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) يعني عن نكاح ـ الإماء ـ قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي وابن عباس رضي الله عنهما ، وهذا ندب إلى الترك ، وعلته ما يؤدي إليه نكاح الإماء من استرقاق الولد ومهنتهن ، وهذه الجملة ابتداء وخبر تقديره : وصبركم خير لكم (وَاللهُ غَفُورٌ) ، أي لمن فعل وتزوج.


قوله تعالى :

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨)

اختلف النحاة في اللام من قوله : (لِيُبَيِّنَ) فمذهب سيبويه رحمه‌الله : أن التقدير «لأن يبين» والمفعول مضمر ، تقديره : يريد الله هذا ، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن» لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون : اللام نفسها بمنزلة «أن» وهو ضعيف ، ونظير هذه اللام قول الشاعر : [الطويل]

أريد لأنسى ذكرها

وقال بعض النحاة : التقدير إرادتي لأنسى. (وَيَهْدِيَكُمْ) بمعنى : يرشدكم ، لا يتوجه غير ذلك ، بقرينة السنن ، وال (سُنَنَ) : الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا ، وليس ذلك كذلك ، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين ، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهيا وأمرا ، كما خوطبوا هم أيضا في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدينا سننهم في ذلك ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم ، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة ، والذين من قبلنا : هم المؤمنون في كل شريعة ، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له ، وحسن (عَلِيمٌ) هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح و (حَكِيمٌ) أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.

وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عباده تقوية للإخبار الأول ، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة الله توطئة ، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات ، واختلف المتأولون في متبعي الشهوات ، فقال مجاهد : هم الزناة ، وقال السدي : هم اليهود والنصارى ، وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ، لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، وقال ابن زيد : ذلك على العموم في هؤلاء ، وفي كل متبع شهوة ، ورجحه الطبري ، وقرأ الجمهور «ميلا» بسكون الياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «ميلا» بفتح الياء.

وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك ، وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ، وكذلك قال مجاهد وابن زيد وطاوس ، وقال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.


قال القاضي أبو محمد : ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية في مخرج التفضل ، لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى عن عباده ، وجعله الدين يسرا ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما ، حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب و (الْإِنْسانُ) رفع على ما لم يسم فاعله ، و (ضَعِيفاً) حال ، وقرأ ابن عباس ومجاهد «وخلق الإنسان» على بناء الفعل للفاعل و (ضَعِيفاً) حال أيضا على هذه القراءة ، ويصح أن يكون (خُلِقَ) بمعنى جعل ، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين ، فيكون قوله (ضَعِيفاً) مفعولا ثانيا.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠)

هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها ، وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارة» بالرفع على تمام «كان» وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارة» بالنصب على نقصان «كان» ، وهو اختيار أبي عبيد.

قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان» يترجح عند بعض ، لأنها صلة «لأن» فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و (أَنْ) في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة» جعل اسم كان مضمرا ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [الطويل]

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

أي : إذا كان اليوم يوما ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع. فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يبع حاضر لباد» لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه‌الله. و (عَنْ تَراضٍ) معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين. واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضا ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البيعان بالخيار ما


لم يتفرقا إلا بيع الخيار» ، وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما ـ وهما الراويان ـ أنه افتراق الأبدان.

قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما‌الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النبأ : ١٣٠] فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه‌السلام : «لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا يبع الرجل على بيع أخيه» فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختار ربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه‌السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييرا بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه‌الله : قوله عليه‌السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا يبع تجوزا في لا يسم ، إذ ماله إلى البيع ، فهي جميعا بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعا.

قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار» معناه عند المالكيين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعا يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قرأ الحسن «ولا تقتّلوا» على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفا على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجاجه.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) اختلف المتأولون في المشار إليه بذلك ، فقال عطاء : ذلك عائد على القتل لأنه أقرب مذكور ، وقالت فرقة : ذلك عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس ، لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا ، ثم ورد الوعيد حسب النهي ، وقالت فرقة ذلك عائد على كل ما نهى عنه من القضايا من أول السورة إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) وقال الطبري : ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد ، وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً)


[النساء : ١٩] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فإنه والنواهي بعده لا وعيد معها ، إلا قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) والعدوان : تجاوز الحد ، و (نُصْلِيهِ) معناه : نمسه حرها ، كما تعرض الشاة المصلية ، أي نحرقه بها ، وقرأ الأعمش والنخعي ، «نصليه» بفتح النون ، وقراءة الجمهور بضم النون على نقل صلى بالهمز ، وقراءة هذين على لغة من يقول : صليته نارا ، بمعنى أصليته ، وحكى الزجّاج أنها قد قرئت «نصلّيه» بفتح الصاد وشد اللام المكسورة ويسير ذلك على الله عزوجل ، لأن حجته بالغة ، وحكمه لا معقب له.

قوله تعالى :

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١)

(تَجْتَنِبُوا) معناه : تدعون جانبا ، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير» وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر» و «يدخلكم» على علامة الغائب ، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان ، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم» بزيادة «من» وقرأ السبعة سوى نافع «مدخلا» بضم الميم ، وقرأ نافع : «مدخلا» بالفتح وقد رواه أيضا أبو بكر عن عاصم هاهنا وفي الحج ، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في (مُدْخَلَ) و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) [الإسراء : ٨٠] أنهما بضم الميم ، قال أبو علي : «مدخلا» بالفتح يحتمل أن يكون مصدرا ، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون مدخلا ، ويحتمل أن يكون مكانا ، فيعمل فيه الفعل الظاهر ، وكذلك يحتمل «مدخلا» بضم الميم للوجهين ، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف ، تقديره : ويدخلكم الجنة ، واختلف أهل العلم في «الكبائر» ، فقال علي بن أبي طالب : هي سبع ، الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عزوجل.

قال القاضي أبو محمد : وذكر كقول علي ، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) [محمد : ٢٥] ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات ، الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقال عبد الله بن عمر : هي تسع «الإشراك بالله ، والقتل ، والفرار ، والقذف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق» قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي : هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي (إِنْ تَجْتَنِبُوا) وقال عبد الله بن مسعود : هي أربع أيضا الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وروي أيضا عن ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط ، واليأس ، والأمن المتقدمة ، وقال ابن عباس أيضا وغيره : «الكبائر» كل ما


ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك ، وقالت فرقة من الأصوليين : هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال ، وقال رجل لابن عباس : أخبرني عن الكبائر السبع ، فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير ، فهنا يدخل الزنا ، وشرب الخمر ، والزور ، والغيبة ، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها ، بل ذكر بعضها مثالا ، وعلى هذا القول أئمة الكلام : القاضي ، وأبو المعالي ، وغيرهما : قالوا : وإنما قيل : صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي ، بالجميع واحد ، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب الوضوء من مسلم ، عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله. واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض ، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعا بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث ، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ، والمشيئة ثابتة ، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة. ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر ، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها : قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ و ١١٦] و (كَرِيماً) يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب ، كما تقول : ثوب كريم ، وكريم المحتد ، وهذه آية رجاء ، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا ، قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا) الآية ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨ و ١١٦] ، وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ) [النساء : ١١٠] وقوله أيضا : (يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) [النساء: ١٥٢].

قوله تعالى :

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٢)

سبب الآية أن النساء قلن : ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو ، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أو نحوه ، وقال الرجال : ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على النساء ، كما لنا عليهن في الدنيا ، فنزلت الآية.

قال القاضي أبو محمد : لأن في تمنيهم هذا تحكما على الشريعة وتطرقا إلى الدفع في صدر حكم الله ، فهذا نهي عن كل تمنّ لخلاف حكم شرعي ، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا ، على أن يذهب ما عند الآخر ، إذ هذا هو الحسد بعينه ، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال


رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنّ زوال حاله ، وهذا في نعم الدنيا ، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن ، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز ، وذلك موجود في حديث النبي عليه‌السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل» وفي غير موضع ، ولقوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) وقوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية قال قتادة : معناه من الميراث ، لأن العرب كانت لا تورث النساء.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف ، ولفظة الاكتساب ترد عليه ردا بينا ، ولكنه يتركب على قول النساء : ليتنا ساوينا الرجال في الميراث ، فكأنه قيل بسببهن : لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه ، وقالت فرقة : معناه من الأجر والحسنات ، فكأنه قيل للناس : لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به ، لاختيار ترونه أنتم ، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيبا من الأجر والفضل ، بحسب اكتسابه فيما شرع له.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول هو الواضح البيّن الأعم ، وقالت فرقة : معناه : لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله ، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به ، فهي نصيبه ، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال ، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت للنساء.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كقول الذي قبله ، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال ، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل ، وتنبيه على كسب الخير ، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا» بالهمز وسكون السين ، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا» ألقيا حركة الهمزة على السين ، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) [الممتحنة : ١٠] فإنهم أجمعوا على الهمز فيه ، قال سعيد بن جبير ، وليث بن أبي سليم : هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا ، وقال الجمهور: ذلك على العموم ، وهو الذي يقتضيه اللفظ ، وقوله : (وَسْئَلُوا) يقتضي مفعولا ثانيا ، فهو عند بعض النحويين في قوله : (مِنْ فَضْلِهِ) التقدير واسألوا الله فضله ، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من» في الواجب ، والمفعول عنده مضمر ، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيرا أو حظا من فضله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الأصح ، ويحسن عندي أن يقدر المفعول ـ أمانيكم ، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير ، وقوله : (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) معناه : أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام ، فلا تعارضوا بثمن ولا غيره ، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء ، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء ، والآية لا تناقض ذلك ، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض.

قوله تعالى :

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ


بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤)

«كل» إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر ، فهي بمثابة قبل وبعد ، ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل ، على حد قبل وبعد ، فالمقدر هنا على قول فرقة ، ولكل أحد وعلى قول فرقة «ولكل شيء» يعني التركة ، والمولى في كلام العرب : لفظة يشترك فيها القريب القرابة ، والصديق ، والحليف ، والمعتق ، والمعتق ، والوارث ، والعبد ، فيما حكى ابن سيده ، ويحسن هنا من هذا الاشتراك الورثة ، لأنها تصلح على تأويل «ولكل أحد» ، وعلى تأويل ، «ولكل شيء» وبذلك فسر قتادة والسدي وابن عباس وغيرهم : أن «الموالي» العصبة والورثة ، قال ابن ابن زيد : لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيها ، وذلك في قول الله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) [الأحزاب : ٥].

قال القاضي أبو محمد : وقد سمي قوم من العجم ببني العم ، و (مِمَّا) متعلقة «بشيء» ، تقديره ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة ، وهي متعلقة على تأويل «ولكل أحد» بفعل مضمر تقديره : ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون ، ويحتمل على هذا أن تتعلق «من» ب (مَوالِيَ) ، وقوله : (وَالَّذِينَ) رفع بالابتداء والخبر في قوله : (فَآتُوهُمْ) وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «عاقدت» على المفاعلة أي إيمان هؤلاء عاقدت أولئك ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقدت» بتخفيف القاف على حذف مفعول ، تقديره : عقدت إيمانكم حلفهم أو ذمتهم ، وقرأ حمزة في رواية علي ابن كبشة عنه ، «عقّدت» مشددة القاف ، واختلف المتأولون في من المراد ب (الَّذِينَ) ، فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم : هم الأحلاف ، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف فشدد الله ذلك بهذه الآية ، ثم نسخه بآية الأنفال (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) [الأنفال : ٧٥] وقال ابن عباس أيضا : هم الذين كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخى بينهم ، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم.

قال القاضي أبو محمد : وورد لابن عباس : أن المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم ، للأخوة التي آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم ، فنزلت الآية في ذلك ناسخة ، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة ، أو من المال على جهة الندب في الوصية ، وقال سعيد بن المسيب : هم الأبناء الذين كانوا يتبنون ، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث ، وقال ابن عباس أيضا : هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث ، وروي عن الحسن : أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له.


قال القاضي أبو محمد : ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان ، و (شَهِيداً) معناه : أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة ، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة.

وقوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ) الآية ، قوام فعال : بناء مبالغة ، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد ، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد ، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما ، قال ابن عباس : الرجال أمراء على النساء ، وعلى هذا قال أهل التأويل و «ما» في قوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ) مصدرية ، ولذلك استغنت عن العائد ، وكذلك (بِما أَنْفَقُوا) والفضيلة : هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه ، والإنفاق : هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات ، وقيل : سبب هذه الآية أن سعد بن الربيع لطم زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر أن تلطمه كما لطمها ، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقض الحكم الأول وقال : أردت شيئا وما أراد الله خير ، وفي طريق آخر أردت شيئا وأراد الله غيره ، وقيل : إن في هذا الحكم المردود نزلت (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤] وقيل سببها قول أم سلمة المتقدم ، أي : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة. والصلاح في قوله (فَالصَّالِحاتُ) هو الصلاح في الدين ، و «والقانتات» معناه : مطيعات ، والقنوت الطاعة ، ومعناه لأزواجهن ، أو لله في أزواجهن ، وغير ذلك ، وقال الزجّاج : إنها الصلاة ، وهذا هنا بعيد و (لِلْغَيْبِ) معناه : كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته ، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، وفي مصحف ابن مسعود «فالصوالح قوانت حوافظ» وهذا بناء يختص بالمؤنث ، وقال ابن جني : والتكسير أشبه لفظا بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا ، و (بِما حَفِظَ اللهُ) الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الله» بالنصب على إعمال (حَفِظَ) فأما قراءة الرفع «فما» مصدرية تقديره : يحفظ الله ، ويصح أن تكون بمعنى «الذي» ويكون العائد الذي في (حَفِظَ) ضمير نصب ويكون المعنى أما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها ، وأما أوامره ونواهيه للنساء ، فكأنها حفظه ، فمعناه : أن النساء يحفظن بإرادته وبقدره ، وأما قراءة ابن القعقاع بما حفظ الله ، فالأولى أن تكون «ما» بمعنى «الذي» وفي (حَفِظَ) ضمير مرفوع ، والمعنى حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظ الله في أوامره حين امتثلنها ، وقيل : يصح أن تكون «ما» مصدرية ، على أن تقدير الكلام بما حفظن الله وينحذف الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر ، كما قال [الأعشى] : [المتقارب]

فإنّ الحوادث أودى بها

يريد أودين ، والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلنه ، وقال ابن جني : الكلام على حذف مضاف تقديره : بما حفظ دين الله وأمر الله ، وفي مصحف ابن مسعود «بما حفظ الله فأصلحوا إليهن».


(وَاللَّاتِي) في موضع رفع بالابتداء والخبر (فَعِظُوهُنَ) ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مضمر تقديره : وعظوا اللاتي تخافون نشوزهن ، كقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [المائدة : ٣٨] على قراءة من قرأها بالنصب ، قال سيبويه : النصب القياس ، إلا أن الرفع أكثر في كلامهم ، وحكي عن سيبويه : أن تقدير الآية عنده : وفيما يتلى عليكم اللاتي. قالت فرقة معنى (تَخافُونَ) تعلمون وتتيقنون ، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن :

ولا تدفنّني بالفلاة فإنّني

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها

وقالت فرقة : الخوف هاهنا على بابه في التوقع ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف ، «والنشوز» : أن تتعرج المرأة وترتفع في خلقها ، وتستعلي على زوجها ، وهو من نشز الأرض ، يقال ناشز وناشص ومنه بيت الأعشى : [الطويل]

تجلّلها شيخ عشاء فأصبحت

قضاعيّة تأتي الكواهن ناشصا

و (فَعِظُوهُنَ) معناه : ذكروهن أمر الله ، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه ، وقرأ إبراهيم النخعي «في المضجع» ، وهو واحد يدل على الجمع ، واختلف المتأولون في قوله : (اهْجُرُوهُنَ) فقالت فرقة معناه جنبوا جماعهن ، وجعلوا (فِي) للوعاء على بابها دون حذف ، قال ابن عباس : يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها ، وقال مجاهد : جنبوا مضاجعتهن ، فيتقدر على هذا القول حذف تقديره : واهجروهن برفض المضاجع أو بترك المضاجع وقال سعيد بن جبير : هي هجرة الكلام أي لا تكلموهن وأعرضوا عنهن فيقدر حذف تقديره : واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها ، وقال ابن عباس أيضا : معناه وقولوا لهن هجرا من القول ، أي إغلاظا ، حتى يراجعن المضاجع ، وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى هجر وأهجر بمعنى واحد ، وقال الطبري : معناه اربطوهن بالهجار ، كما يربط البعير به ، وهو حبل يشد به البعير ، فهي في معنى اضربوهن ونحوها ، ورجح الطبري منزعه هذا وقدح في سائر الأقوال ، وفي كلامه في هذا الموضع نظر ، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح» وقال عطاء : قلت لابن عباس : ما الضرب غير المبرح؟ قال بالشراك ونحوه ، وروي عن ابن شهاب أنه قال : لا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في النفس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تجاوز ، قال غيره : إلا في النفس والجراح ، وهذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. و (تَبْغُوا) معناه تطلبوا و (سَبِيلاً) أي إلى الأذى ، وهو التعنيت والتعسف بقول أو فعل ، وهذا نهي عن ظلمهن بغير واجب بعد تقدير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن ، وحسن معه الاتصاف بالعلو والكبر ، أي قدره فوق كل قدر ويده بالقدرة فوق كل يد ، فلا يستعمل أحد على امرأته ، فالله بالمرصاد ، وينظر هذا إلى حديث أبي مسعود فصرفت وجهي فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد».


قوله تعالى :

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥)

قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا ، لأنها إما طائعة ، وإما ناشزة ، والنشز إما من يرجع إلى الطواعية ، وإما من يحتاج إلى الحكمين ، واختلف المتأولون أيضا في الخوف هاهنا حسب ما تقدم ، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف ، و «الشقاق» : مصدر شاق يشاق ، وأجري «البين» مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية ، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما وصحبتهما ، وهذا من الإيجاز الذي يدل فيه الظاهر على المقدر ، واختلف من المأمور ب «البعثة» ، فقيل : الحاكم ، فإذا أعضل على الحاكم أمر الزوجين ، وتعاضدت عنده الحجج ، واقترنت الشبه ، واغتم وجه الإنفاذ على أحدهما ، بعث حكمين من الأهل ليباشرا الأمر ، وخص الأهل لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر ، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة ، وقيل : المخاطب الزوجان وإليهما تقديم الحكمين ، وهذا في مذهب مالك ، والأول لربيعة وغيره ، واختلف الناس في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فقال الطبري : قالت فرقة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه ، ترجم بهذا ثم أدخل عن علي غيره ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : ينظر الحكمان فى الإصلاح ، وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما ، وقالت فرقة : ينظر الحكمان في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق ، وهذا هو مذهب مالك والجمهور من العلماء ، وهو قول علي بن أبي طالب في المدونة وغيرها ، وتأول الزجّاج عليه غير ذلك ، وأنه وكل الحكمين على الفرقة ، وأنها للإمام ، وذلك وهم من أبي إسحاق ، واختلف المتأولون في من المراد بقوله : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) فقال مجاهد وغيره : المراد الحكمان ، أي إذا نصحا وقصدا الخير بورك في وساطتهما ، وقالت فرقة : المراد الزوجان ، والأول أظهر ، وكذلك الضمير في (بَيْنِهِما) ، يحتمل الأمرين ، والأظهر أنه للزوجين ، والاتصاف ب «عليم خبير» يشبه ما ذكر من إرادة الإصلاح.

قوله تعالى :

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦)

«الواو» لعطف جملة الكلام على جملة غيرها ، والعبادة : التذلل بالطاعة ، ومنه طريق معبد ، وبعير معبد ، إذا كانا معلمين ، و (إِحْساناً) نصب على المصدر ، والعامل فعل مضمر تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، وما ذكر الطبري أنه نصب بالإغراء خطأ ، والقيام بحقوق الوالدين اللازمة لهما من التوقير والصون


والإنفاق إذا احتاجا واجب ، وسائر ذلك من وجوه البر والإلطاف وحسن القول ، والتصنع لهما مندوب إليه مؤكد فيه ، وهو البر الذي تفضل فيه الأم على الأب ، حسب قوله عليه‌السلام للذي قال له من أبر؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال أباك ، ثم الأقرب فالأقرب ، وفي رواية : ثم أدناك أدناك ، وقرأ ابن أبي عبلة «إحسان» بالرفع ، و «ذو القربى» : هو القريب النسب من قبل الأب والأم ، وهذا من الأمر بصلة الرحم وحفظها ، (وَالْيَتامى) : جمع يتيم ، وهو فاقد الأب قبل البلوغ ، وإن ورد في كلام العرب يتم من قبل الأم فهو مجاز واستعارة ، (وَالْمَساكِينِ) : المقترون من المسلمين الذين تحل لهم الزكاة ، وجاهروا بالسؤال ، واختلف في معنى (الْجارِ ذِي الْقُرْبى) وفي معنى (الْجُنُبِ) ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم : الجار ذو القربى هو الجار القريب النسب ، (وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه ، وقال نوف الشامي : الجار ذو القربى هو الجار المسلم ، (وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو الجار اليهودي أو النصراني ، فهي عنده قرابة الإسلام وأجنبية الكفر ، وقالت فرقة : الجار ذو القربى هو الجار القريب المسكن منك ، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك ، وكأن هذا القول منتزع من الحديث ، قالت عائشة ، يا رسول الله إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي؟ قال إلى أقربهما منك بابا ، واختلف الناس في حد الجيرة ، فقال الأوزاعي : أربعون دارا من كل ناحية جيرة ، وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد ، وبقدر ذلك في الدور وقالت فرقة : من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جاره ، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض ، أدناها الزوج كما قال الأعشى : [الطويل]

أيا جارتي بيني

وبعد ذلك الجيرة الخلط ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

سائل مجاور جرم هل جنيت لها

حربا تفرّق بين الجيرة الخلط

وحكى الطبري عن ميمون بن مهران : أن الجار ذا القربى أريد به جار القريب ، وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكأن وجه الكلام وجار ذي القربى ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «والجار ذا القربى» بنصب الجار ، وحكى مكي عن ابن وهب أنه قال عن بعض الصحابة في (الْجارِ الْجُنُبِ) : إنها زوجة الرجل وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ «والجار الجنب» بفتح الجيم وسكون النون ، و (الْجُنُبِ) في هذه الآية معناه. البعيد ، والجنابة البعد ، ومنه قول الشاعر وهو الأعشى : [الطويل]

أتيت حريثا زائرا عن جنابة

فكان حريث عن عطائي جامدا

ومنه قول الآخر ، وهو علقمة بن عبدة : [الطويل]

فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة

فإني امرؤ وسط القباب غريب

وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الشيء جانبا ، وسئل أعرابي عن (الْجارِ الْجُنُبِ) ، فقال : هو الذي


يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه ، قال أبو علي : جنب صفة كناقة أجد ، ومشية سجح ، وجنب التطهر مأخوذ من الجنب ، وقال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك : الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي : الصاحب بالجنب الزوجة ، وقال ابن زيد : هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه ، وأسند الطبري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معه رجل من أصحابه ، وهما على راحلتين ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيضة فقطع قضيبين ، أحدهما معوج وخرج فأعطى صاحبه القويم وحبس هو المعوج ، فقال له الرجل : كنت يا رسول الله أحق بهذا ، فقال له : يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحبته ولو ساعة من نهار ، وقال المفسرون طرّا : ابن السبيل هو المسافر على ظهر طريقه ، وسمي ابنه للزومه له كما قيل ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي : ملازمه الذي يستحق بالمثابرة عليه أن ينسب إليه ، وذكر الطبري أن مجاهدا فسره بأنه المار عليك في سفره ، وأن قتادة وغيره فسره بأنه الضيف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول واحد ، (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد العبيد الأرقاء ، ونسب الملك إلى اليمين إذ هي في المعتاد جارحة البطش والتغلب والتملك ، فأضيفت هذه المعاني وإن لم تكن بها إليها تجوزا والعبيد موصى بهم في غير ما حديث يطول ذكرها ، ويغني عن ذلك اشتهارها ، ومعنى (لا يُحِبُ) في هذه الآية لا تظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ولا آثار حمده في الدنيا ، فهي المحبة التي هي صفة فعل أبعدها عمن صفته الخيلاء والفخر ، يقال خال الرجل يخول خولا إذا تكبر وأعجب بنفسه ، وأنشد الطبري : [المتقارب]

فإن كنت سيّدنا سدتنا

وإن كنت للخال فاذهب فخل

قال القاضي أبو محمد : ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد ، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو ، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم ، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به ، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل ، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا ، وقال أبو رجاء الهروي : لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا ، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا ، والفخر عد المناقب تطاولا بذلك.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ


آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) (٣٩)

قالت فرقة (الَّذِينَ) في موضع نصب بدل من (مِنْ) ، في قوله (مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء : ٣٦] ومعناه على هذا : «يبخلون بأموالهم ويأمرون الناس» يعني إخوانهم ، ومن هو مظنة طاعتهم بالبخل بالأموال ، فلا تنفق في شيء من وجود الإحسان إلى من ذكر ، (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، يعني : من الرزق والمال ، فيجيء على هذا أن الباخلين منفية عنهم محبة الله ، والآية إذا في المؤمنين ، فالمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى ، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم من المؤمنين ، وأما الكافرون فإنه أعد لهم (عَذاباً مُهِيناً) ، ففضل توعد المؤمنين من توعد الكافرين ، بأن جعل الأول عدم المحبة ، والثاني (عَذاباً مُهِيناً) ، وقالت فرقة : (الَّذِينَ) ـ في موضع رفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره بعد قوله (مِنْ فَضْلِهِ) معذبون أو مجازون أو نحوه ، وقال الزجّاج : الخبر في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] وفي هذا تكلف ما ، والآية على هذا كله في كفار ، وقد روي : أنها نزلت في أحبار اليهود بالمدينة ، فإنهم بخلوا بالإعلام بصفة محمد عليه‌السلام ، وبما عندهم من العلم في ذلك ، وأمروا الناس بالبخل على جهتين ، بأن قالوا لأتباعهم وعوامهم : اجحدوا أمر محمد ، وابخلوا به ، وبأن قالوا للأنصار : لم تنفقون أموالكم على هؤلاء المهاجرين فتفتخرون عليهم؟ ونحو هذا مروي عن مجاهد وحضرمي وابن زيد وابن عباس ، وحقيقة «البخل» : منع ما في اليد ، والشح : هو البخل الذي تقترن به الرغبة فيما في أيدي الناس ، «وكتمان الفضل» هو على هذا : كتمان العلم ، والتوعد بالعذاب المهين لهم ، وقرأ عيسى ابن عمر والحسن «بالبخل» بضم الباء والخاء ، وقرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء ، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الحديد «بالبخل» بفتح الباء والخاء ، وقرأ ابن الزبير وقتادة وجماعة : بفتح الباء وسكون الخاء ، وهي كلها لغات ، (وَأَعْتَدْنا) معناه : يسرنا وأعددنا وأحضرنا ، والعتيد : الحاضر ، والمهين : الذي يقترن به خزي وذل ، وهو أنكى وأشد على المعذب.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ) الآية ـ قال الطبري : (الَّذِينَ) في موضع خفض عطف على الكافرين ، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفا على (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) على تأويل : من رآه مقطوعا ورأى الخبر محذوفا ، وقال : إنها نزلت في اليهود ، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر ، وتقديره : بعد اليوم الآخر معذبون ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في اليهود ، قال الطبري : وهذا ضعيف ، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود ليسوا كذلك.

قال القاضي أبو محمد : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ، إذا إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان ، من حيث لا ينفعهم ، وقال الجمهور : نزلت في المنافقين ، وهذا هو الصحيح ، وإنفاقهم : هو ما كانوا يعطون من زكاة ، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «رياء» ودفعا عن أنفسهم ، لا إيمانا بالله ، ولا حبا في دينه (وَرِئاءَ) نصب على الحال من الضمير في (يُنْفِقُونَ) والعامل (يُنْفِقُونَ) ، ويكون قوله : (وَلا يُؤْمِنُونَ) في الصلة ، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة ، وحكى المهدوي : أن الحال تصح أن تكون من (الَّذِينَ) فعلى هذا يكون (وَلا يُؤْمِنُونَ) مقطوعا ليس من الصلة ،


والأول أصح ، وما حكى المهدوي ضعيف ، ويحتمل أن يكون (وَلا يُؤْمِنُونَ) في موضع الحال ، أي : غير مؤمنين ، فتكون الواو واو الحال. و «القرين» : فعيل بمعنى فاعل ، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب ، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد ، والإنسان كله يقارنه الشيطان ، لكن الموفق عاص له ، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان ، وقيل للحبل الذي يشدان به : قرن ، قال الشاعر : [البسيط]

كمدخل رأسه لم يدنه أحد

بين القرينين حتّى لزّه القرن

فالمعنى : ومن يكن الشيطان له مصاحبا وملازما ، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته ، و (قَرِيناً) نصب على التمييز ، والفاعل ل «ساء» مضمر ، تقديره ساء القرين قرينا ، على حد بئس ، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠] وذلك مردود ، لأن (بَدَلاً) حال ، وفي هذا نظر.

وقوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ) «ما» رفع بالابتداء ، و «ذا» صلة ، و (عَلَيْهِمْ) خبر الابتداء ، التقدير : وأي شيء عليهم؟ ويصح أن تكون «ما» اسما بانفرادها ، و «ذا» بمعنى «الذي» ابتداء وخبر ، وجواب «لو» في قوله : ماذا فهو جواب مقدم.

قال القاضي أبو محمد : وكأن هذا الكلام يقتضي أن الإيمان متعلق بقدرتهم ومن فعلهم ، ولا يقال لأحد : ما عليك لو فعلت إلا فيما هو مقدور له ، وهذه شبهة للمعتزلة ، والانفصال عنها أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان ، وأما الاختراع فالله المنفرد به ، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم ، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقا (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) إخبار يتضمن وعيدا ، وينبه على سوء تواطئهم ، أي : لا ينفعهم كتم مع علم الله تعالى بهم.

قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠)

(مِثْقالَ) مفعال من الثقل ، و «الذرة» : الصغيرة الحمراء من النمل ، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول ، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى ، تقول العرب : أفعى جارية ، وهي أشدها ، وقال امرؤ القيس : [الطويل]

من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا

فالمحول الذي أتى عليه حول. وقال حسان : [الخفيف]

لو يدبّ الحوليّ من ولد ألذ

ر عليها لأندبتها الكلوم

وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء» ، وهي عبارة فاسدة ، وروي عن ابن عباس :

«الذرة» رأس النملة ، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة» و (مِثْقالَ) مفعول ثان ل (يَظْلِمُ) ، والأول مضمر التقدير ، أن الله لا يظلم أحدا مثقال و (يَظْلِمُ) لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، وإنما عدي هنا


إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين ، كأنه قال : إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب ، ويصح أن يكون نصب (مِثْقالَ) على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي ، فيجيء على هذا نعتا لمصدر محذوف ، التقدير : إن الله لا يظلم ظلما مثقال ذرة ، كما تقول : إن الأمير لا يظلم قليلا ولا كثيرا ، أي لا يظلم ظلما قليلا ولا كثيرا ، فعلى هذا وقف (يَظْلِمُ) على مفعول واحد ، وقال قتادة عن نفسه ، ورواه عن بعض العلماء ، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا جميعا ، وحذفت النون من «تكن» لكثرة الاستعمال ، وشبهها خفة بحروف المد واللين ، وقرأ جمهور السبعة «حسنة» بالنصب على نقصان «كان» واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة ، وقرأ نافع وابن كثير «حسنة» بالرفع على تمام «كان» التقدير : وإن تقع حسنة أو توجد حسنة ، و (يُضاعِفْها) جواب الشرط ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها» مشددة العين بغير ألف ، قال أبو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن «يضعفها» بسكون الضاد وتخفيف العين ، ومضاعفة الشيء في كلام العرب : زيادة مثله إليه ، فإذا قلت : ضعفت ، فقد أتيت ببنية التكثير ، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد ، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير ، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد ، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه ، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز: أن «ضاعفت» يقتضي مرارا كثيرة ، وضعفت يقتضي مرتين ، وقال مثله الطبري ومنه نقل ، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرئ به في قوله (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] فإنه قرئ «يضاعفه ويضعفه» وما قرئ به في قوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠] فإنها قرئ «يضعف لها العذاب ضعفين» وقال بعض المتأولين : هذه الآية خص بها المهاجرون ، لأن الله أعلم في كتابه : أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار ، وأعلم في هذه : أنها مضاعفة مرارا كثيرة جدا حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة ، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة ، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران ، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين ، حسبما روى عبد الله بن عمر : أنها لما نزلت (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] في الناس كافة ، قال رجل : فما للمهاجرين؟ فقال ما هو أعظم من هذا (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) الآية فخصوا بهذا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة ، ولا يقع تضاد في الخبر ، وقال بعضهم : بل وعد بذلك جميع المؤمنين ، وروي في ذلك أحاديث ، وهي : أن الله عزوجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فينادي هذا فلان بن فلان ، فمن كان له عنده حق فليقم قال : فيحب الإنسان أن لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه ، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف ، ولا يبقى له إلا وزن الذرة ، فيقول الله تعالى : أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة ، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره ، والآية تعم المؤمنين والكافرين ، فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد ، وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم ، و (لَدُنْهُ) معناه من عنده ، قال سيبويه : ولدن : هي لابتداء الغاية ، فهي تناسب أحد مواضع من ، ولذلك التأما ودخلت (مِنْ) عليها ، والأجر العظيم : الجنة ، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد ، والله إذا منّ بتفضله بلغ بعبده الغاية.


قوله تعالى :

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢)

تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة ، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها ، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم ، ومعنى الآية : أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ومعنى «الأمة» في هذه الآية : غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء ، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه‌السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي ، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر ، وكذلك قال المتأولون : إن الإشارة «بهؤلاء» إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار ، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و «كيف» في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية : ترى حالهم ، أو يكونون ، أو نحوه ، وقال مكي في الهداية : (جِئْنا) عامل في «كيف» ، وذلك خطأ ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه ، وكذلك ذرفت عيناه عليه‌السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد بتبليغ الرسل ، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي ، كسؤال اللوح المحفوظ ، ثم إسرافيل ثم جبريل ، ثم الأنبياء ، فليست هذه آيته ، وإنما آيته (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] و (يَوْمَئِذٍ) ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم» في هذا الموضع على الظرف ، على أنه معرب مع الأسماء غير المتمكنة ، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع الأسماء غير المتمكنة ، و «الود» إنما هو في ذلك اليوم ، وقرأ نافع وابن عامر «تسّوّى» بتشديد السين والواو على إدغام التاء الثانية من تتسوى ، وقرأ حمزة والكسائي «تسّوّى» بتخفيف السين وتشديد الواو ، على حذف التاء الثانية المذكورة ، وهما بمعنى واحد ، واختلف فيه ، فقالت فرقة : تنشق الأرض فيحصلون فيها ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم ، وقالت فرقة : معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا ترابا كآبائهم ، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم ، والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض ، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة التي حكاها سيبويه ، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر ، وما جرى مجراه ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تسوى» على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين المتقدمين ، قال أبو علي : إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في «تسوى» حسنة ، قالت طائفة : معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف ، ثم استأنف الكلام فأخبر أنهم (لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) لنطق جوارحهم بذلك كله ، حين يقول بعضهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثا ، وهذا قول ابن عباس ، وقال فيه : إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي ، فقالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثا ، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر ،


وقالت طائفة : مثل القول الأول ، إلا أنها قالت : إنما استأنف الكلام بقوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ليخبر عن أن الكتم لا ينفع ، وإن كتموا ، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم ، فمعنى ذلك: وليس ذلك المقام الهائل مقاما ينفع فيه الكتم.

قال القاضي أبو محمد : الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه ، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع ، كما تقول : هذا مجلس لا يقال فيه باطل ، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمع إليه ، وقالت طائفة : الكلام كله متصل ، ومعناه : يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض ، ويودون أن لا يكتموا الله حديثا ، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وقالت طائفة : هي مواطن وفرق ، وقالت طائفة : معنى الآية : يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثا ، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضا ، كما تقول : وددت أن أعزم كذا ، ولا يكون كذا على جهة الفداء ، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض ، و (الرَّسُولَ) في هذه الآية : للجنس ، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع ، وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : «وعصوا الرسول» بكسر الواو من (عَصَوُا).

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣)

سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر : أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، فحضرت الصلاة ، فتقدمهم علي بن أبي طالب ، فقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] فخلط فيها ، بأن قال: «أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد» ، فنزلت الآية ، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف ، وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال : إنما المراد سكر النوم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والخطاب لجميع الأمة الصالحين ، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت ، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق ، على ما ذهب إليه بعض الناس ، وقرأت فرقة (سُكارى) جمع سكران ، وقرأت فرقة «سكرى» بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش : «سكرى» بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى ، وقرأ النخعي «سكرى» بفتح السين. قال أبو الفتح : هو تكسير سكران على سكارى ، كما قالوا : روبى نياما وكقولهم :


هلكى وميدى في جمع هالك ومائد ، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة ، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى ، وأما «سكرى» بضم السين فصفة لواحدة ، كحبلى. والسكر انسداد الفهم ، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه ، وقالت طائفة : (الصَّلاةَ) هنا العبادة المعروفة ، حسب السبب في نزول الآية ، وقالت طائفة : (الصَّلاةَ) هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معا ، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين.

قال القاضي أبو محمد : وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل ، ويظهر من قوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا) أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره : إن السكران لا يلزمه طلاقه ، فأسقط عنه أحكام القول ، لهذا ولقول النبي عليه‌السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت؟ فمعناه : أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار.

قال القاضي أبو محمد : وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق ، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدميين ، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم ، ويحكم عليه حكم العالم ، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى ، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين ، وأما أحكام الجنايات ، فهي كلها لازمة للسكران (وَأَنْتُمْ سُكارى) ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال ، وحكي عن ابن فورك أنه قال : معنى الآية النهي عن السكر ، أي لا يكن منكم سكر ، فيقع قرب الصلاة ، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأبا ، والظاهر أن الأمر ليس كذلك ، وقد روي : أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون أثر الصبح وأثر العتمة ، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون ، وقوله : (وَلا جُنُباً) عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة ، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان ، هذا قول جمهور الأمة ، وروي عن بعض الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل ، وهو من الجنابة ، وهي : البعد ، كأنه جانب الطهر أو من الجنب ، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنبا ، وقرأت فرقة «جنبا» بإسكان النون ، و «عابري سبيل» هو من العبور أي : الخطور والجواز ، ومنه : عبر السفينة النهر ، ومنه : ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة أي تعبرها بسرعة السير. قال الشاعر : وهي امرأة : [الكامل]

عيرانة سرح اليدين شملّة

عبر الهواجر كالهزفّ الخاضب

وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل هو المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ، وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم : عابر السبيل الخاطر في المسجد ، وهو المقصود في الآية ، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى ، وروى بعضهم : أن سبب الآية : أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد ، فنزلت الآية في ذلك ، ثم نزلت (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلى آخر الآية ، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع حين أقام على التماس العقد ، هكذا قال الجمهور ، وقال النخعي : نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا ، فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، ذكر النقاش: أن ذلك


نزل بعبد الرحمن بن عوف ، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري ، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به ، وهذا يتيمم بإجماع ، إلا ما روي عن عطاء : أنه يتطهر وإن مات ، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة ، والذي يخاف بطء برء ، فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب فيما حفظت ، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول ، وإما خوف ما ذكرناه. وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ، وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور ، والمحصوب ، والعلل المخوفة عليها من الماء ، والمسافر في هذه الآية : هو الغائب عن الحضر ، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر ، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء ، وقال الشافعي في كتاب الأشراف : وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير ، وهذا ضعيف.

قال القاضي أبو محمد : وكذلك قالت فرقة : لا يتيمم في سفر معصية ، وهذا أيضا ضعيف ، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة ، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه ، وإما خوف على الرحل بسبب طلبه ، وإما خوف سباع أو إذاية عليه ، واختلف في وقت إيقاعه التيمم ، فقال الشافعي : في أول الوقت ، وقال أبو حنيفة وغيره : في آخر الوقت ، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت ، والجاهل بأمره جملة ، وقال إسحق بن راهويه : لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله ، وقالت طائفة : يخرج من طلبه الغلوتين ونحوهما ، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال ، وقال الشافعي : يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، وأصل (الْغائِطِ) ما انخفض من الأرض ، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع ، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه ، وقرأ قتادة والزهري «من الغيط» ساكنة الياء من غير ألف ، قال ابن جني : هو محذوف من فيعل ، عين هذه الكلمة واو ، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى ، واختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما اعتقد في ذلك : أن أنواع الأحداث ثلاثة ، ما خرج من السبيلين معتاد ، وما أذهب العقل ، واللمس ، هذا على مذهب مالك ، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد ، ولا يراعى المخرج ولا غيره ، ولا يعد اللمس فيها. وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، والإجماع من الأحداث على تسعة ، أربعة من الذكر ، وهي البول والمني والودي والمذي ، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض ، واثنان من الدبر ، وهما الريح والغائط ، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل ، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعا ، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم (لامَسْتُمُ) وقرأ حمزة والكسائي «لمستم» وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع ، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه ، إذ في جميع ذلك لمس ، واختلف أهل العلم في موقعها هنا. فمالك رحمه‌الله يقول : اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين ، فالملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم ، لأن اللمس نقض وضوءه ، وقالت طائفة : هي هنا مخصصة للمس اليد ، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء ، ولا سبيل له إلى التيمم ، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن


مسعود وغيرهما ، وقال أبو حنيفة : هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع ، فالجنب يتيمم ، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث ، ولا هو ناقض لوضوء ، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه ، ومالك رحمه‌الله يرى : أن اللمس ينقض إذا كان للذة ، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة ، ولا إذا كان لابنة أو لأم ، والشافعي رحمه‌الله يعمم لفظة (النِّساءَ) ، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه ، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه ، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف ، واختلف فيه ، فقال الحسن : يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما ، وهذا قول ضعيف ، لأن دين الله يسر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقالت طائفة : يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا ، وقالت طائفة : يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة ، ونحو هذا ، وهذا كله في مذهب مالك رحمه‌الله ، وقيل لأشهب : أيشتري القربة بعشرة دراهم؟ فقال ما أرى ذلك على الناس.

قال القاضي أبو محمد : وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته ، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه ، ويترتب أيضا عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهذا هو الذي يقال فيه : إنه لم يجد ماء ولا ترابا ، كما ترجم البخاري ، ففيه أربعة أقوال ، فقال مالك وابن نافع : لا يصلي ولا يعيد ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد ، وقال أصبغ : لا يصلي ويقضي ، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء ، فلمالك رحمه‌الله قولان في المدونة : إنه يتيمم ولا يعيد ، وقال : إنه يعيد ، وفي الواضحة وغيرها عنه : أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس. وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة ، فقيل : يعيد ، وقيل : لا يعيد ، ومعنى قوله (فَتَيَمَّمُوا) في اللغة : اقصدوا ، ومنه قول امرئ القيس [الطويل]

تيمّمت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي

ومنه قول أعشى بني ثعلبة : [المتقارب]

تيمّمت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه ذي شزن

ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، قاله الخليل وغيره ، ومنه قول ذي الرمة : [البسيط]

كأنّه بالضّحى ترمي الصّعيد به

دبّابة في عظام الرّأس خرطوم

واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب ، فقالت طائفة : يتيمم بوجه الأرض ، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة ، وجعلت «الطيب» بمعنى الطاهر ، وهذا مذهب مالك ، وقالت طائفة منهم : «الطيب» بمعنى الحلال ، وهذا في هذا الموضع قلق ، وقال الشافعي وطائفة : «الطيب» بمعنى المنبت ، كما قال جل ذكره (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ) [الأعراف : ٥٨] فيجيء الصعيد على هذا التراب ، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه ، فمكان الإجماع : أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب ، ومكان الإجماع في المنع : أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف ،


أو الفضة والياقوت والزمرد ، أو الأطعمة ، كالخبز واللحم وغيرهما ، أو على النجاسات ـ واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع ، وهو مذهب الشافعي ، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب ، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد ، ومنعا ، وأجيز المعدني ومنع الجامد ، والثلج في المدونة جوازه ، ولمالك في غيرها منعه ، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان : أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ بحت من جهات ، وأما التراب المنقول في طبق وغيره ، فجمهور المذهب جواز التيمم به ، وفي المذهب المنع ، وهو في غير المذهب أكثر ، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان ، الإجازة والمنع ، وفي التيمم على الجدار الخلاف ، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك ، فالجمهور على منع التيمم على العود ، وفي مختصر الوقار : أنه جائز ، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد» اختلافا : أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية ، وأن «الصعيد» التراب ، وأنه وجه الأرض.

وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين ، وبه قال الجمهور ، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين ، وقاله بعض أهل العلم : قياسا على تنكيس الوضوء ، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء ، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب ، ويتتبعه كما يصنع بالماء ، وأن لا يقصد ترك شيء منه ، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين ، وما بين الأصابع في اليدين ، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة. ومذهب مالك في المدونة : أن التيمم بضربتين ، وقال ابن الجهم : التيمم واحدة ، وقال مالك في كتاب محمد : إن تيمم بضربة أجزاه ، وقال غيره في المذهب : يعيد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبدا ، وقال مالك في المدونة : يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى ، ثم يمر كذلك إلى المرفق ، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن ، حتى يصل إلى الكوع. ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك ، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى ، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة ، قال ابن حبيب : يمر بعد ذلك كفيه ، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف ، قال اللخمي : في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيرا ، وقالت طائفة : يبدأ بالشمال كما في المدونة ، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ ، مشى على الكف ، ثم كذلك باليمنى في اليسرى ، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعا ، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره ، وقالت طائفة : يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة ، وقال مالك في المدونة : يمسح يديه إلى المرفقين ، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبدا ، قال غيرهما : في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء ، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط ، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر ، وهو قول الشعبي ، وقال ابن شهاب : يمسح إلى الآباط ، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم : إنك لمباركة ، نزلت فيه رخصة ، فضربنا ضربة لوجوهنا ، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط ، وفي مصنف أبي داود عن الأعمش : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مسح إلى


أنصاف ذراعيه ، ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت ، وما حكي الداودي من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة ، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل ، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب ، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق ، وعمم جمهور الأمة ، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين ، وقيس أيضا على القطع ، إذ هو حكم شرعي وتطهير ، كما هذا تطهير ، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين ، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين ، يجب ولا يجب.

قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٤٦)

الرؤية في قوله (أَلَمْ تَرَ) من رؤية القلب ، وهي علم بالشيء ، وقال قوم : معناه «ألم تعلم» وقال آخرون : «ألم تخبر» ، وهذا كله يتقارب ، والرؤية بالقلب تصل بحرف الجر وبغير حرف الجر ، والمراد ب (الَّذِينَ) : اليهود ، قاله قتادة وغيره ، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى ، وقال ابن عباس : نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي ، و (أُوتُوا) أعطوا ، و «النصيب» الحظ ، و (الْكِتابِ) : التوراة والإنجيل ، وإنما جعل المعطى نصيبا في حق كل واحد منفرد ، لأنه لا يحصر علم الكتاب واحد بوجه ، و (يَشْتَرُونَ) عبارة عن إيثارهم الكفر وتركهم الإيمان ، فكأنه أخذ وإعطاء ، هذا قول جماعة ، وقالت فرقة : أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم فهذا شراء على وجهه على هذا التأويل ، (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) ، معناه أن تكفروا ، وقرأ النخعي ، «وتريدون أن تضلوا» ، بالتاء منقوطة من فوق في تريدون.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية وما بعدها ، تقتضي توبيخا للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود ، في سؤال عن دين ، أو في موالاة أو ما أشبه ذلك ، وهذا بيّن في ألفاظها ، فمن ذلك ، (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) ، أي تدعوا الصواب في اجتنابهم ، وتحسبوهم غير أعداء ، والله أعلم بهم ، وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) خبر في ضمنه التحذير منهم ، وبالله ، في قوله : (وَكَفى بِاللهِ) في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في لفظ الخبر ، أي اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك ، (وَلِيًّا) فعيلا ، و (نَصِيراً) كذلك ، من الولاية والنصر.

وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قال بعض المتأولين (مِنَ) راجعة على (الَّذِينَ) الأولى ، فهي على هذا متعلقة ب (تَرَ) ، وقالت طائفة ، هي متعلقة ب (نَصِيراً) والمعنى ينصركم من الذين هادوا ، فعلى


هذين التأويلين لا يوقف في قوله : (نَصِيراً) وقالت فرقة : هي لابتداء الكلام ، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون ، هذا مذهب أبي علي ، ونظيره قول الشاعر [النابغة الذبياني] : [الوافر]

كأنك من جمال أبي أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ

وقال الفراء وغيره : تقديره من ، ومثله قول ذي الرمة : [الطويل]

فظلّوا ومنهم دمعه سابق له

وآخر يثني دمعة العين باليد

فعلى هذا التأويل يوقف في قوله : (نَصِيراً) وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل ، وإضمار الموصوف أسهل ، و (هادُوا) مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب ، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول ، ذكر هذه كلها الخليل ، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة ، و «تحريف الكلم» على وجهين ، إما بتغيير اللفظ ، وقد فعلوا ذلك في الأقل ، وإما بتغيير التأويل ، وقد فعلوا ذلك في الأكثر ، وإليه ذهب الطبري ، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور ، وقالت طائفة : هو كلم القرآن ، وقال مكي : كلام النبي محمد عليه‌السلام ، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل ، وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام بالألف ، ومن جعل «من» متعلقة «بنصيرا» جعل «يحرفون» في موضع الحال ، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون» صفة ، وقوله تعالى عنهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه ، و (مُسْمَعٍ) لا يتصرف إلا من أسمع ، و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يتخرج فيه معنيان : أحدهما غير مأمور وغير صاغر ، كأنه قال : غير أن تسمع مأمورا بذلك ، والآخر على جهة الدعاء ، أي لا سمعت ، كما تقول : امض غير مصيب ، وغير ذلك ، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع ، أرادت في الباطن الدعاء عليه ، وأرت ظاهرا أنها تريد تعظيمه ، قال نحوه ابن عباس وغيره ، وكذلك (راعِنا) كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة ، وحكى مكي معنى رعاية الماشية ، ويظهرون منه معنى المراعاة ، فهذا معنى «ليّ اللسان» ، فقال الزجّاج : كانوا يريدون : اجعل سمعك لكلامنا مرعى.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي ، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا» ومن قال : (غَيْرَ مُسْمَعٍ) غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد ، و (لَيًّا) أصله لويا ، قلبت الواو ياء وأدغمت. (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي توهينا له وإظهارا للاستخفاف به

قال القاضي أبو محمد : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ) الآية ، المعنى : لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا ، واختلف المتأولون في قوله ، (وَانْظُرْنا) فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما : معناه انتظرنا ، بمعنى : أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، وهذا كما قال الحطيئة :

وقد نظرتكم إيناء صادرة

للخمس طال بها مسحي وتنّاسي


وقالت فرقة : انظر ـ معناه : انظر إلينا ، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف ، ومنه قول ابن الرقيات [الخفيف] :

ظاهرات الجمال والحسن ينظر

ن كما تنظر الأراك الظّباء

(وَأَقْوَمَ) معناه : أعدل وأصوب ، «واللعنة» : الإبعاد ، فمعناه : أبعدهم من المهدي ، و (قَلِيلاً) : نعت ، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم ، والمعنى مختلف ، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال : إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قل ما تنبت كذا وهي لا تنبته جملة ، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك ، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها ، ومن عبر بالقلة عن النفر قال : لا يؤمن منهم إلا قليل ، كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما ، وإذا قدرت الكلام نفرا قليلا ، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨)

هذا خطاب لليهود والنصارى ، و (لِما مَعَكُمْ) معناه من شرع وملة ، لا لما كان معهم من مبدل ومغير ، و «الطامس» : الدائر المغير الاعلام ، كما قال ذو الرمة : [البسيط]

من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الاعلام مجهول

ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه : أعمى مطموس ، وقالت طائفة : «طمس الوجوه» هنا : أن تعفى أثر الحواس فيها. وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس ، فيكون أرد على «الأدبار» في هذا الموضع بالمعنى ، أي خلوه من الحواس دبرا لكونه عامرا بها ، وقال ابن عباس وعطية العوفي : «طمس الوجوه» أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشى القهقرى ، وحكى الطبري عن فرقة : أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر ، فذلك هو الرد على الدبر ، ورد على هذا القول الطبري ، وقال مالك رحمه‌الله : كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من أليل وهو يقرأ هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته. فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي ، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك : ذلك تجوز ، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر ، وهو الرد على الأدبار ، وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها : إخراجهم منها ، والرد على الأدبار : هو رجوعهم إلى الشام من حبث أتوا أولا ، و (أَصْحابَ السَّبْتِ) : هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد ، حسبما


تقدم ، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة ، قاله قتادة والحسن والسدي : وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور ، دال على جنسها ، لا واحد الأوامر ، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا ، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، هذه مسألة الوعد والوعيد ، وتلخيص الكلام فيها أن يقال : الناس أربعة أصناف ، كافر مات على كفره ، فهذا مخلد في النار بإجماع ، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك ، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع ، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة ، ومذنب مات قبل توبته ، فهذا موضع الخلاف ، فقالت المرجئة : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته ، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار ، وآيات الوعد عامة في المؤمنين ، تقيّهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد ، وقالت الخوارج : إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له ، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر ، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط ، والمؤمن التائب ، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين ، وقال أهل السنة وأحق : آيات الوعد ظاهرة العموم ، وآيات الوعيد ظاهرة العموم ، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها ، كقوله تعالى : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٥ ـ ١٦] ، وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن : ٢٣] فلا بد أن نقول : إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم ، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن ، وفي التائب ، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة ، وأن آيات الوعيد لفظها عموم ، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة ، وتحكم بقولنا : هذه الآية النص في موضع النزاع ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين ، المرجئة والمعتزلة ، وذلك أن قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فصل مجمع عليه ، وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم ردا لا محيد عنه ، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة ، فجاء قوله (لِمَنْ يَشاءُ) رادا عليهم ، موجبا أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم ، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن.

قال القاضي أبو محمد : ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها ، بأن قالوا : «من يشاء» هو التائب ، وما أرادوه فاسد ، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل ، إذا التائب من الشرك يغفر له.

قال القاضي أبو محمد : ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها ، بأن قالوا : (لِمَنْ يَشاءُ) معناه: يشاء أن يؤمن ، لا يشاء أن يغفر له. فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن ، لا بغفران الله لمن يغفر له ، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) عام في كافر ومؤمن ، فإذا خصص المؤمنون بقوله (لِمَنْ يَشاءُ) وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك ، ويجازون به.


قال القاضي أبو محمد : وذلك وإن كان مما قد قيل ـ فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء ، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم ، لأن الشرك مغفور أيضا لمن شاء الله أن يؤمن.

قال القاضي أبو محمد : ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء : ٩٣] والآية مخرجة عنهم لوجوه ، منها : أن الأصح في تأويل قوله تعالى (مُتَعَمِّداً) ما قال ابن عباس : إنه أراد مستحلا ، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر ، ويدل على ما قال ابن عباس : إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد ، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص ، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي ، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر ، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبدا» فجائز أن يراد به الزمن المتطاول ، إذ ذلك معهود في كلام العرب ، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك ، ومن ذلك قول امرئ القيس : [الطويل]

وهل يعمن إلّا سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وقال عبد الله بن عمرو لما نزلت (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] قال بعض أصحاب النبي عليه‌السلام : والشرك يا رسول الله ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب ، والفرية : أشد مراتب الكذب قبحا ، وهو الاختلاق للعصبية.

قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) (٥٢)

هذا لفظ عام في ظاهره ، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود ، واختلف في المعنى الذي به «زكوا أنفسهم» ، فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] وقال الضحاك والسدي : ذلك قولهم : لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر ليلا ، وما فعلناه ليلا غفر نهارا ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب ، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم.

قال المؤلف : وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس : ذلك قولهم أبناؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا ، وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض ، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم.

قال القاضي أبو محمد : فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي


المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عزوجل ، والضمير في (يُزَكُّونَ) عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى ، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية ، وقرأت طائفة «ولا تظلمون» بالتاء على الخطاب ، «والفتيل» : هو ما فتل ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم : «الفتيل» : الخيط الذي في شق نواة التمرة ، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي : هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما ، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه ، ولا شيء دونه في الصغر ، فكيف بما فوقه ، ونصبه على مفعول ثان ب (يُظْلَمُونَ).

وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ) الآية ، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب ، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن ، و (كَيْفَ) يصح أن يكون في موضع نصب ب (يَفْتَرُونَ) ، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله : (يَفْتَرُونَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر ، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب ، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثما ولا يطلب لهم غيره ، إذ هو موبق ومهلك و (إِثْماً) نصب على التمييز.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) الآية ، ظاهرها يعم اليهود والنصارى ، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود ، والقصص يبين ذلك ، واختلف في (بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) ، فقال عكرمة وغيره : هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش ، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت لهم قريش : إنكم أهل الكتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه ، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا ، ففعلوا ، ففي ذلك نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : (بِالْجِبْتِ) هنا : حيي بن أخطب (وَالطَّاغُوتِ) : كعب بن الأشرف. فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما ، وقال ابن عباس : (بِالْجِبْتِ). الأصنام ، (وَالطَّاغُوتِ). القوم المترجمون عن الأصنام ، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (بِالْجِبْتِ) السحر ، (وَالطَّاغُوتِ) : الشيطان ، وقاله مجاهد والشعبي ، وقال زيد بن أسلم : (بِالْجِبْتِ) : الساحر ، (وَالطَّاغُوتِ) : الشيطان ، وقال سعيد بن جبير ورفيع : (بِالْجِبْتِ) : الساحر ، و (الطَّاغُوتِ) : الكاهن ، وقال قتادة : (بِالْجِبْتِ) : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن ، وقال سعيد بن جبير أيضا : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الشيطان ، وقال ابن سيرين : (بِالْجِبْتِ) : الكاهن ، (وَالطَّاغُوتِ) : الساحر ، وقال مجاهد في كتاب الطبري : (بِالْجِبْتِ) : كعب ابن الأشرف ، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان.

قال ابن عطية : فمجموع هذا يقتضي أن (بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) هو كل ما عبد وأطيع من دون الله تعالى ، وكذلك قال مالك رحمه‌الله : الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى ، وذكر بعض الناس أن الجبت : هو من لغة الحبشة ، وقال قطرب : (بِالْجِبْتِ) أصله الجبس ، وهو الثقيل الذي لا خير عنده ، وأما (الطَّاغُوتِ) فهو من طغى ، أصله طغووت وزنه فعلوت ، وتاؤه زائدة ، قلب فرد فلعوت ، أصله طوغوت ، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية سببها ، أن قريشا قالت لكعب بن الأشرف


حين ورد مكة : أنت سيدنا وسيد قومك ، إنّا قوم ننحر الكوماء ، ونقري الضيف ، ونصل الرحم ، ونسقي الحجيج ، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا آباءنا يعبدون ، وهذا الصنبور المنبتر من قومه قد قطع الرحم ، فمن أهدى نحن أو هو؟ فقال كعب : أنتم أهدى منه وأقوم دينا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس : وحكى السدي : أن أبا سفيان خاطب كعبا بهذه المقالة ، فالضمير في (يَقُولُونَ) عائد على كعب على ما تقدم ـ أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب ، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين ، و «الذين كفروا» في هذه الآية هم قريش ، والإشارة ب (هؤُلاءِ) إليهم ، و (أَهْدى) : وزنه أفعل وهو للتفضيل ، و (الَّذِينَ آمَنُوا) : هم النبي عليه‌السلام وأمته ، و (سَبِيلاً) نصب على التمييز ، وقالت فرقة : بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب وهو المقصود من أول الآيات ، والمشار إليه بقوله (أُولئِكَ) هم المراد من بني إسرائيل ، فمن قال : كانوا جماعة فذلك مستقيم لفظا ومعنى ، ومن قال : هو كعب أو حيي ، فعبر عنه بلفظ الجمع ، لأنه كان متبوعا ، وكان قوله مقترنا بقول جماعة.

و (لَعَنَهُمُ) معناه : أبعدهم من خيره ومقتهم ، ومن يفعل الله ذلك به ويخذله فلا ناصر له من المخلوقين ، وإن نصرته طائفة ، فنصرتها كلا نصرة ، إذ لا تغني عنه شيئا.

قوله تعالى :

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٥٥)

عرف (أَمْ) أن تعطف بعد استفهام متقدم ، كقولك : أقام زيد أم عمرو ، فإذا وردت ولم يتقدمها استفهام ، فمذهب سيبويه : أنها مضمنة معنى الإضراب عن الكلام الأول والقطع منه ، وهي مضمنة مع ذلك معنى الاستفهام ، فهي بمعنى «بل» مع ألف الاستفهام ، كقول العرب : إنها لإبل أم شاء ، فالتقدير عند سيبويه ، أنها لإبل بل أهي شاء. وكذلك هذا الموضع ، تقديره : بل ألهم نصيب من الملك؟ وقد حكي عن بعض النحويين ، أن (أَمْ) يستفهم بها ابتداء دون تقدم استفهام ، حكاه ابن قتيبة في المشكل ، وهذا غير مشهور للعرب ، وقال بعض المفسرين : (أَمْ) بمعنى بل ، ولم يذكروا الألف اللازمة ، فأوجبوا على هذا حصول الملك للمذكورين في الآية ، والتزموا ذلك وفسروا عليه ، فالمعنى عندهم : بل هم ملوك أهل دنيا وعتو وتنعم ، لا يبغون غيره ، فهم بخلاء به ، حريصون على أن لا يكون ظهور لسواهم.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى على الأرجح الذي هو مذهب سيبويه والحذاق ، أنه استفهام على معنى الإنكار ، أي ألهم ملك؟ فإذا لو كان لبخلوا ، وقرأ ابن مسعود ، «فإذا لا يؤتوا» بغير نون على إعمال «إذا» ، والمصحف على إلغائها ، والوجهان جائزان ، وإن كانت صدرا من أجل دخول الفاء عليها ، والنقير ، أعرف ما فيه أنها النكتة التي في ظهر النواة من التمرة ، ومن هنالك تنبت ، وهو قول الجمهور ، وقالت فرقة :


هي النقطة التي في بطن النواة ، وروي عن ابن عباس أنه قال : هو نقر الإنسان بأصبعه ، وهذا كله يجمعه أنه كناية عن الغاية في الحقارة والقلة على مجاز العرب واستعارتها ، و «إذا» في هذه الآية ملغاة لدخول فاء العطف عليها ، ويجوز إعمالها ، والإلغاء أفصح ، وذلك أنها إذا تقدمت أعملت قولا واحدا ، وإذا توسطت ألغيت قولا واحدا ، فإذا دخل عليها وهي متقدمة فاء أو واو جاز إعمالها والإلغاء أفصح وهي لغة القرآن ، وتكتب «إذا» بالنون وبالألف ، فالنون هو الأصل ، كعن ومن ، وجاز كتبها بالألف لصحة الوقوف عليها فأشبهت نون التنوين ، ولا يصح الوقوف على «عن ومن».

وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) الآية ، (أَمْ) هذه على بابها ، لأن الاستفهام الذي في تقديرنا ، بل ألهم قد تقدمها ، واختلف المتأولون في المراد ب (النَّاسَ) في هذا الموضع ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك ، هو النبي عليه‌السلام ، والفضل النبوة فقط ، والمعنى فلم يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك؟ وقال ابن عباس والسدي أيضا : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفضل ما أبيح له من النساء فقط ، وسبب الآية عندهم ، أن اليهود قالت لكفار العرب : انظروا إلى هذا الذي يقول : إنه بعث بالتواضع ، وإنه لا يملأ بطنه طعاما ، ليس همه إلا في النساء ، ونحو هذا ، فنزلت الآية ، والمعنى فلم يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم؟ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني سليمان وداود عليهما‌السلام في أنهما أعطيا النبوة والكتاب ، وأعطيا مع ذلك ملكا عظيما ، في أمر النساء ، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، ولداود مائة امرأة ، ونحو هذا من الأخبار الواردة في ذلك ، فالملك في هذا القول إباحة النساء ، كأنه المقصود أولا بالذكر ، وقال قتادة : (النَّاسَ) في هذا الموضع : العرب ، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي عليه‌السلام منها ، «والفضل» على هذا التأويل : هو محمد عليه‌السلام ، فالمعنى : لم يحسدون العرب على هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أوتي آل إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم أسلافهم ـ أنبياء وكتبا ، كالتوراة والزبور ، (وَحِكْمَةٍ) وهي الفهم في الدين وما يكون من الهدى مما لم ينص عليه الكتاب ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «نحن الناس» يريد قريشا ، و (مُلْكاً عَظِيماً) : أي ملك سليمان ، قاله ابن عباس : وقال مجاهد : الملك العظيم في الآية هو النبوة ، وقال همام بن الحارث وأبو مسلمة : هو التأييد بالملائكة.

قال القاضي أبو محمد : والأصوب أنه ملك سليمان أو أمر النساء في التأويل المتقدم ، وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) الآية ، اختلف المتأولون في عود الضمير من (بِهِ) فقال الجمهور : هو عائد على القرآن الذي في قوله تعالى : (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) [النساء : ٤٧] فأعلم الله أن منهم من آمن كما أمر ، فلذلك ارتفع الوعيد بالطمس ولم يقع ، وصد قوم ثبت الوعيد عليهم في الآخرة بقوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) وقالت فرقة : الضمير عائد على إبراهيم عليه‌السلام ، وحكى مكي في ذلك قصصا ليست بالثابتة ، وقالت فرقة : هو عائد على الفضل الذي آتاه الله النبي عليه‌السلام ، أو العرب على ما تقدم.

قال القاضي أبو محمد : قرأت فرقة : «صد» عنه بضم الصاد على بناء الفعل للمفعول ، و (سَعِيراً) معناه : احتراقا وتلهبا ، والسعير : شدة توقد النار ، فهذا كناية عن شدة العذاب والعقوبة.


قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) (٥٧)

تقدم في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم ، ثم جاء بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر ، والقراءة المشهورة (نُصْلِيهِمْ) بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت فيها ، وهو معنى صليت بتشديد اللام ، وقرأ حميد «نصليهم» بفتح النون من صليت ، ومعناه شويت ، ومنه الحديث ، أتي رسول الله بشاة مصلية ، أي مشوية ، وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره ، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهم» بضم الهاء ، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود ، فقالت فرقة : تبدل عليهم جلود غيرها ، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها ، فإنها تبدل ليذوقوا تجديد العذاب ، وقالت فرقة : «تبديل الجلود» هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا ، تأكله النار ويعيده الله دأبا لتجدد العذاب ، وإنما سماه «تبديلا» ، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد ، كما تقول : بدل من خاتمي هذا خاتما وهي فضته بعينها ، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات ، وقال ابن عمر ، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلودا بيضاء كالقراطيس ، وقال الحسن بن أبي الحسن ، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة ، وقالت فرقة : الجلود في هذا الموضع سرابيل القطران ، سماها جلودا للزومها فصارت كالجلود ، وهي تبدل دأبا عافانا الله من عذابه برحمته ، حكاه الطبري ، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام ، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله ، ولا يفعل شيئا إلا بحكمة وإصابة ، لا إله إلا هو تبارك وتعالى.

ولما ذكر الله وعيد الكفار ، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة ، وقرأ ابن وثاب والنخعي ، «سيدخلهم» بالياء وكذلك «يدخلهم» بعد ذلك وقد تقدم القول في معنى (مِنْ تَحْتِهَا) في سورة البقرة و (مُطَهَّرَةٌ) معناه : من الريب والأقذار التي هي معهودات في الدنيا و (ظَلِيلاً) معناه : عند بعضهم يقي الحر والبرد ، ويصح أن يريد أنه ظل لا يستحيل ولا ينتقل ، كما يفعل ظل الدنيا ، فأكده بقوله (ظَلِيلاً) لذلك ، ويصح أن يصفه بظليل لامتداده ، فقد قال عليه‌السلام : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها».

قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ


فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩)

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب ، وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة.

قال القاضي أبو محمد : فهو للنبي عليه‌السلام وأمرائه ، ثم يتناول من بعدهم ، وقال ابن جريج وغيره : ذلك خطاب للنبي عليه‌السلام في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية ، فدخل رسول الله الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان ، وأخرج مقام إبراهيم ، ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب : وخرج رسول الله وهو يقرأ هذه الآية ، وما كنت سمعتها قبل منه. فدعا عثمان وشيبة ، فقال لهما : خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وحكى مكي أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح ، ثم دفعه وقال للنبي عليه‌السلام : خذه بأمانة الله.

قال القاضي أبو محمد : واختلف الرواة في بعض ألفاظ هذا الخبر ، زيادة ونقصانا ، إلا أنه المعنى بعينه ، وقال ابن عباس : الآية في الولاة بأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهن إلى الأزواج ، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس ، ومع أن سببها ما ذكرناه تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره ، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك ، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى ، وقال ابن عباس : لم يرخص الله لموسر ولا معسر أن يمسك الأمانة ، و (نِعِمَّا) أصله نعم ما ، سكنت الأولى وأدغمت في الثانية وحركت العين لالتقاء الساكنين ، وخصت بالكسر اتباعا للنون ، و «ما» المردفة على «نعم» إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في «ربما ومما» في قوله : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يحرك شفتيه ، وكقول الشاعر : [الطويل]

وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللّسان من الفم

ونحوه ، وفي هذا هي بمنزلة «ربما» وهي لها مخالفة في المعنى ، لأن «ربما» معناها : التقليل ، و «مما» معناها التكثير ، ومع أن «ما» موطئة فهي بمعنى «الذي» وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل ، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر ، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به.

وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة ، تقدم في هذه إلى الرعية ، فأمر بطاعته عزوجل ، وهي امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله ، وطاعة الأمراء على قول الجمهور : أبي هريرة وابن عباس وابن زيد وغيرهم ، فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة ، أي : أولي هذا الأمر. وعن عبد الله ومجاهد وجماعة : أولو الأمر : أهل القرآن والعلم ، فالأمر على هذا التأويل أشار


إلى القرآن والشريعة ، أي : أولي هذا الأمر وهذا الشأن وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال : الإشارة هنا ب (أُولِي الْأَمْرِ) إلى أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر خاصة ، وفي هذا التخصيص بعد ، وحكى بعض من قال : إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان السبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر ، وأميرها خالد بن الوليد ، فقصدوا قوما من العرب ، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل. وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد ، فدخل إلى عمار فقال : يا أبا اليقظان ، إن قومي قد فروا ، وإني قد أسلمت ، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت ، وإلا فررت ، فقال له عمار : هو ينفعك ، فأقم ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخذه وأخذ ماله ، فجاء عمار فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وأنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، واستبّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا خالد لا تسب عمارا ، فإنه من سب عمارا سبه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله ، ومن لعن عمارا لعنه الله ، فغضب عمار ، فقام فذهب ، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا ، فأنزل الله عزوجل قوله: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وطاعة الرسول هي اتباع سنته ، قاله عطاء وغيره ، وقال ابن زيد : معنى الآية (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

قال القاضي أبو محمد : يريد «وسنته» بعد موته ، المعنى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) فيما بينكم أو أنتم وأمراؤكم ، ومعنى التنازع أن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها ، والرد إلى الله : هو النظر في كتابه العزيز ، والرد إلى الرسول : هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته عليه‌السلام ، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة والسدي ، وهو الصحيح ، وقال قوم : معناه قولوا : الله ورسوله أعلم ، فهذا هو الرد ، وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بعض وعيد ، لأن فيه جزاء المسيء العاتي ، وخاطبهم ب (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) وهم قد كانوا آمنوا ، على جهة التقرير ، ليتأكد الإلزام ، و (تَأْوِيلاً) معناه : مآلا على قول جماعة ، وقال مجاهد : أحسن جزاء ، قال قتادة والسدي وابن زيد : المعنى أحسن عاقبة ، وقالت فرقة : المعنى أن الله ورسوله أحسن نظرا وتأولا منكم إذا انفردتم بتأولكم.

قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (٦١)

تقول العرب : زعم فلان كذا ، في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق وتتقوى فيه شبه الإبطال ، فغاية


درجة الزعم إذا قوي أن يكون مظنونا ، يقال : «زعم» بفتح الزاي وهو المصدر ، «وزعم» بضمها وهو الاسم وكذلك زعم المنافقين أنهم مؤمنون ، هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم ، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم ، ومن هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بئس مطية الرجل زعموا» وقد قال الأعشى : [المتقارب]

ونبّئت قيسا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

فقال الممدوح : وما هو إلا الزعم وحرمه ، وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى رتب «زعم» أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر ، و «أن» معمولة ل (يَزْعُمُونَ).

وقال عامر الشعبي وغيره : نزلت الآية في منافق اسمه بشر ، خاصم رجلا من اليهود ، فدعاه اليهودي إلى المسلمين لعلمه أنهم لا يرتشون ، وكان هو يدعو اليهودي إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون ، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهنا كان بالمدينة فرضياه ، فنزلت هذه الآية فيهما وفي صنفيهما ، «فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» على محمد هم المنافقون ، «والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» من قبله هم اليهود ، وكل قد أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت ، و (الطَّاغُوتِ) هنا الكاهن المذكور ، فهذا تأنيب للصنفين ، وقال ابن عباس : (الطَّاغُوتِ) هنا هو كعب بن الأشرف ، وهو الذي تراضيا به ، فعلى هذا إنما يؤنب صنف المنافقين وحده ، وهم الذين آمنوا بما أنزل على محمد وبما أنزل من قبله بزعمهم ، لأن اليهود لم يؤمروا في شرعهم بالكفر بالأحبار ، وكعب منهم ، وذكر النقاش : أن كعبا هذا أصله من طيىء وتهود ، وقال مجاهد : نزلت في مؤمن ويهودي ، وقالت فرقة : نزلت في يهوديين.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية ، وقال السدي : نزلت في المنافقين من قريظة والنضير ، وذلك أنهم تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم ، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت ، وتستقيد إذا قتلت قريظة منهم ، فأبت قريظة لما جاء الإسلام ، وطلبوا المنافرة ، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعا المنافقون إلى أبي بردة الكاهن ، فنزلت الآية فيهم ، وحكى الزجّاج : أن المنافق المتقدم الذكر أو غيره اختصم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى في أمره ، فخرج وقال لخصمه : لا أرضى بحكمه ، فذهبا إلى أبي بكر فقضى بينهما ، فقال المنافق : لا أرضى ، فذهبا إلى عمر فوصفا له جميع ما فعلا ، فقال لهما : اصبرا حتى أقضي حاجة في منزلي ثم أخرج فأحكم بينكما ، فدخل وأخذ سيفه وخرج ، فضرب المنافق حتى برد ، وقال : هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الآية ، وقال الحسن : احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت الآية.

و (يُضِلَّهُمْ) معناه : يتلفهم ، وجاء (ضَلالاً) على غير المصدر ، تقديره : «فيضلون ضلالا» ، و (بَعِيداً) عبارة عن عظم الضلال وتمكنه حتى يبعد الرجوع عنه والاهتداء معه.

وقرأ الجمهور «تعالوا» بفتح اللام ، وقرأ الحسن فيما روى عنه قتادة «تعالوا» بضمة ، قال أبو الفتح : وجهها أن لام الفعل من «تعاليت» حذفت تخفيفا ، وضمت اللام التي هي عين الفعل ، وذلك لوقوع واو


الجمع بعدها ، كقولك : تقدموا وتأخروا ، وهي لفظة مأخوذة من العلو ، لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه وأشخاصه ، سيقت من العلو تحسينا للأدب ، كما تقول : ارتفع إلى الحق ، ونحوه ، و (رَأَيْتَ) هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحا ، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه ، فإذا كانت رؤية عين ف (يَصُدُّونَ) في موضع نصب على الحال ، وإذا كانت رؤية قلب ف (يَصُدُّونَ) نصب على المفعول الثاني ، و (صُدُوداً) مصدر عند بعض النحاة من صد ، وليس عند الخليل بمصدر منه ، والمصدر عنده «صدا» وإنما ذلك لأن فعولا إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية. كجلس جلوسا ، وقعد قعودا و «صد» فعل متعد بنفسه مرة كما قال : (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) [النمل : ٢٤ ـ العنكبوت : ٣٨] ، ومرة بحرف الجر كقوله تعالى : (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) وغيره ، فمصدره : صد ، و (صُدُوداً) اسم.

قوله تعالى :

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٦٤)

قالت فرقة : هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم ، فالمعنى : فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه ، دون مر الحكم وتقصي الحق ، وقالت فرقة : هي في المنافقين الذين طلبوا دم الذي قتله عمر ، فالمعنى : (فَكَيْفَ) بهم (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) في قتل قريبهم ومثله من نقم الله تعالى ، ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه (إِلَّا إِحْساناً) وحقا ، نحا إليه الزجّاج ، وموضع «كيف» نصب بفعل تقديره : فكيف تراهم ونحوه ، ويصح أن يكون موضعها رفعا ، تقديره : فكيف صنيعهم.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم وتوعدهم ، أي فهو مجازيهم بما يعلم ، و «أعرض عنهم» يعني عن معاقبتهم ، وعن شغل البال بهم ، وعن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله (يَحْلِفُونَ) وليس بالإعراض الذي هو القطيعة والهجر ، فإن قوله : (وَعِظْهُمْ) يمنع من ذلك ، (وَعِظْهُمْ) معناه بالتخويف من عذاب الله ، وغيره من المواعظ ، والقول البليغ اختلف فيه ، فقيل : هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول ، وقيل : هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق ، قاله الحسن ، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم ، والبلاغة : مأخوذة من بلوغ المراد بالقول ، وحكي عن مجاهد أن قوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) ، متعلق بقوله : (مُصِيبَةٌ) وهو مؤخر بمعنى التقديم ، وهذا ضعيف.


وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) تنبيه على جلالة الرسل ، أي : فأنت يا محمد منهم ، تجب طاعتك وتتعين إجابة الدعوة إليك ، و (لِيُطاعَ) ، نصب بلام كي ، و (بِإِذْنِ اللهِ) معناه بأمر الله ، وحسنت العبارة بالإذن ، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك ، ويصح تعلق الباء من قوله (بِإِذْنِ) ب (أَرْسَلْنا) ، والمعنى وما أرسلنا بأمر الله أي بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع ، والأظهر تعلقها ب «يطاع» والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى ، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا ، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم ، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم ، وهذا تخريج حسن ، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه ، وحقيقة الإذن : التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية ، معناه : بالمعصية والنفاق ، ونقصها حظها من الإيمان و «استغفروا الله» معناه : طلبوا مغفرته ، وتابوا إليه رجعوا ، و (تَوَّاباً) : معناه راجعا بعباده.

قوله تعالى :

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨)

قال الطبري : قوله : (فَلا) رد على ما تقدم ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله ، (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ).

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وقال غيره : إنما قدم «لا» على القسم اهتماما بالنفي ، وإظهارا لقوته ، ثم كررها بعده تأكيدا للتهمم بالنفي ، وكان يصح إسقاط (لا) الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام ، و (شَجَرَ) معناه : اختلط والتف من أمورهم ، وهو من الشجر ، شبيه بالتفاف الأغصان ، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه ، وقرأ أبو السمال «شجر» بإسكان الجيم.

قال القاضي أبو محمد : وأظنه فر من توالي الحركات ، وليس بالقوي ، لخفة الفتحة ، و (يُحَكِّمُوكَ) نصب بحتى ، لأنها هاهنا غاية مجردة ، و (يَجِدُوا) عطف عليه ، والحرج : الضيق والتكلف والمشقة ، قال مجاهد : (حَرَجاً) ، شكا ، وقوله : (تَسْلِيماً) مصدر مؤكد ، منبىء على التحقيق في التسليم ، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة ، كما قال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع ، ومنه : «وعجت عجيجا من جدام المطارف».


وقال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت ، ورجح الطبري هذا ، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة : نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب ذلك الرجل وقال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستوعب للزبير حقه ، فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ، فنزلت الآية ، واختلف أهل هذا القول في الرجل ، فقال قوم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر ، وقال مكي وغيره : هو حاطب بن أبي بلتعة.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار ، وأن الزبير قال : فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ، وقالت طائفة : لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بلغ ذلك النبي وعظم عليه ، وقال : ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي ، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله.

و (كَتَبْنا) معناه فرضنا ، و (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) معناه ليقتل بعضكم بعضا ، وقد تقدم نظيره في البقرة ، وضم النون من (أَنِ) وكسرها جائز ، وكذلك الواو من (أَوِ اخْرُجُوا) وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي ، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم ، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو ، و (قَلِيلٌ) رفع على البدل من الضمير في (فَعَلُوهُ) ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلا» ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب.

وسبب الآية على ما حكي : أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه‌السلام : ما رأينا أسخف من هؤلاء ، يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤون عقبة ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلناه ، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين ، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه ، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون ، كثابت وغيره ، وكذلك روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير (مِنْهُمْ) لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة ، وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ، وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق ، وذكر النقاش : أنه عمر بن الخطاب ، وذكر عن أبي بكر أنه قال : لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي.

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم ، و (تَثْبِيتاً) معناه : يقينا وتصديقا ونحو هذا ، أي يثبتهم الله ، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر ، ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم ، و «الصراط المستقيم» : الإيمان المؤدي إلى الجنة ، وجاء ترتيب هذه الآية كذا ، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر ، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ، فالمعنى : ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.


قوله تعالى :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٧٠)

لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله ، وهذه الآية تفسير قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٥] ، وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان ، يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت هذه الآية ، وحكى مكي عن عبد الله هذا ، أنه لما مات النبي عليه‌السلام ، قال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده ، فعمي ، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه ، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى ـ أنهم معهم ـ أنهم في دار واحدة ، ومتنعم واحد ، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله ، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول ، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم ، وعلى قدر فضل الله على من شاء ، و «الصدّيق» فعيل من الصدق ، وقيل من الصدقة. وروي عن النبي عليه‌السلام ، الصديقون المتصدقون ، والشهداء المقتولون في سبيل الله ، هم المخصوصون بفضل الميتة ، وهم الذين فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم. وسموا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة ، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته ، ولكن لفظ ، (الشُّهَداءِ) في هذه الآية يعم أنواع الشهداء ، و (رَفِيقاً) موحد في معنى الجمع ، كما قال : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج : ٥] ونصبه على التمييز ، وقيل على الحال ، والأول أصوب ، وقرأ أبو السمال ، «وحسن» بسكون السين ، وذلك مثل شجر بينهم.

وقوله تعالى : (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) رد على تقدير معترض يقول ، وما الذي يوجب استواء أهل الطاعة والنبيين في الآخرة ، والفرق بينهم في الدنيا بيّن؟ فذكر الله أن ذلك بفضله لا بوجوب عليه ، والإشارة ب (ذلِكَ) إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم ، وأيضا فلا نقرر الاستواء ، بل هم معهم في دار والمنازل متباينة ، ثم قال (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) وفيها معنى أن يقول ، فسلموا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه ، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره ، ولذلك أدخلت الباء على اسم الله ، لتدل على الأمر الذي في قوله : (وَكَفى).

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ


اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧٣)

هذا خطاب للمخلصين من أمة محمد عليه‌السلام ، وأمر لهم بجهاد الكفار ، والخروج في سبيل الله ، وحماية الشرع ، و (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ، معناه : احزموا واستعدوا بأنواع الاستعداد ، فهنا يدخل أخذ السلاح وغيره ، و (انْفِرُوا) معناه : اخرجوا مجدين مصممين ، يقال : نفر الرجل ينفر بكسر الفاء نفيرا ، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفورا ، و (ثُباتٍ) معناه : جماعات متفرقات ، فهي كناية عن السرايا و (جَمِيعاً) ، معناه : الجيش الكثيف مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هكذا قال ابن عباس وغيره ، والثبة : حكي أنها فوق العشرة من الرجال ، وزنها فعلة بفتح العين ، أصلها ثبوة ، وقيل : ثبية ، حذفت لامها بعد أن تحركت وانقلبت ألفا حذفا غير مقبس ، ولذلك جمعت ثبون ، بالواو والنون عوضا من المحذوف وكسر أولها في الجمع دلالة على خروجها عن بابها ، لأن بابها أن تجمع بالتاء أبدا ، فيقال : (ثُباتٍ) ، وتصغر ثبية أصلها ثبيوة ، وأما ثبة الحوض وهي وسطه الذي يثوب الماء إليه ، فالمحذوف منها العين ، وأصلها ثوبة وتصغيرها ثوبية ، وهي من ثاب يثوب ، وكذلك قال أبو علي الفارسي في بيت أبي ذؤيب : [الطويل]

فلمّا جلاها بالأيام تحيّزت

ثبات عليها ذلّها واكتئابها

انه اسم مفرد ليس يجمع سيق على الأصل ، لأن أصل ثبة ثبوة ، تحركت بالواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ، فساقها أبو ذؤيب في هذه الحال.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ إِنَ) إيجاب ، والخطاب لجماعة المؤمنين ، والمراد ب «من» المنافقون ، وعبر عنهم ب (مِنْكُمْ) إذ هم في عداد المؤمنين ، ومنتحلون دعوتهم ، واللام الداخلة على «من» لام التأكيد ، دخلت على اسم (إِنَ) لما كان الخبر متقدما في المجرور ، وذلك مهيع في كلامهم ، كقولك : إن في الدار لزيدا ، واللام الداخلة على (لَيُبَطِّئَنَ) لام قسم عند الجمهور ، تقديره (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ) والله (لَيُبَطِّئَنَ) وقيل : هي لام تأكيد ، و (لَيُبَطِّئَنَ) معناه : يبطىء غيره أي يثبطه ويحمله على التخلف عن مغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ مجاهد «ليبطئن» بالتخفيف في الطاء ، و (مُصِيبَةٌ) يعني من قتل واستشهاد ، وإنما هي مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين ونظرهم الفاسد ، أو على أن الموت كله مصيبة كما شاءه الله تعالى ، وإنما الشهادة في الحقيقة نعمة لحسن مآلها ، و (شَهِيداً) معناه مشاهدا فالمعنى : أن المنافق يسره غيبه إذا كانت شدة وذلك يدل على أن تخلفه إنما هو فزع من القتال ونكول عن الجهاد.

وقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) الآية ، المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله ، ندم المنافق إن لم يحضر ويصب الغنيمة ، وقال : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) ، متمنيا شيئا قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده ، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذرا واضحا ، وأمرا لا قدرة له معه ، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير ، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة ، ويعاهد على التزام كلف الإسلام ، ثم يتخلف نفاقا وشكا وكفرا بالله ورسوله ، ثم يتمنى عند ما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين ، فعلى هذا يجيء قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ)


التفاتة بليغة ، واعتراضا بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم. وحكى الطبري عن قتادة وابن جريج ، أنهما كانا يتأولان قول المنافق (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة ، وقرأ الحسن (لَيَقُولَنَ) بضم اللام على معنى «من» وضم اللام لتدل على الواو المحذوفة. ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين فإنما كان يقصد الغنيمة ، ومتخلفهم إنما كان يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين و (كَأَنْ) مضمنة معنى التشبيه ، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر ، وإنما تجيء بعدها الجمل ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص «تكن» بتاء ، وقرأ غيرهما «يكن» بياء ، وذلك حسن للفصل الواقع بين الفعل والفاعل ، وقوله : (فَأَفُوزَ) نصب بالفاء في جواب التمني ، وقرأ الحسن ويزيد النحوي (فَأَفُوزَ) بالرفع على القطع والاستئناف ، التقدير : فأنا أفوز. قال روح : لم يجعل ل «ليت» جوابا. وقال الزجّاج : إن قوله : كأن لم يكن بينكم وبينه مودة مؤخر. وإنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة الكلام.

قوله تعالى :

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٧٥)

هذا أمر من الله عزوجل للمؤمنين الذين وصفهم بالجهاد في سبيل الله ، و (يَشْرُونَ) معناه : يبيعون في هذا الموضع ، وإن جاء في مواضع : يشترون ، فالمعنى هاهنا يدل على أنه بمعنى «يبيعون» ثم وصف الله ثواب المقاتل في سبيل الله ، فذكر غايتي حالتيه ، واكتفى بالغايتين عما بينهما ، وذلك أن غاية المغلوب في القتال أن يقتل ، وغاية الذي يقتل ويغنم أن يتصف بأنه غالب على الإطلاق ، «والأجر العظيم» : الجنة ، وقالت فرقة ، «فليقاتل» بسكون لام الأمر ، وقرأت فرقة «فليقاتل» بكسرها ، وقرأ محارب بن دثار «فيقتل أو يغلب» على بناء الفعلين للفاعل ، وقرأ الجمهور (نُؤْتِيهِ) بالنون ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف «فسوف يؤتيه» بالياء.

وقوله تعالى : (وَما لَكُمْ) اللام متعلقة بما يتعلق بالمستفهم عنه من معنى الفعل ، تقديره وأي شيء موجود أو كائن أو نحو ذلك لكم ، و (لا تُقاتِلُونَ) في موضع نصب على الحال ، تقديره تاركين أو مضيعين. وقوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على اسم الله تعالى ، أي وفي سبيل المستضعفين ، وقيل: عطف على «السبيل» ، أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم ، ويعني ب (الْمُسْتَضْعَفِينَ) من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم لا يستطيعون خروجا ، ولا يطيب لهم على الأذى إقامة ، وفي هؤلاء كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «اللهم أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، اللهم أنج


المستضعفين من المؤمنين». و (الْوِلْدانِ) بابه أن يكون جمع وليد ، وقد يكون جمع ولد كورل وورلان ، فهي على الوجهين عبارة عن الصبيان ، والقرية هاهنا مكة بإجماع من المتأولين.

قال القاضي أبو محمد : والآية تتناول المؤمنين والأسرى وحواضر الشرك إلى يوم القيامة ، ووحد الظالم لأنه موضع اتخاذ الفعل ، ألا ترى أن الفعل إنما تقديره الذي ظلم أهلها ، ولما لم يكن للمستضعفين حيلة إلا الدعاء ، دعوا في الاستنقاذ وفيما يواليهم من معونة الله تعالى وما ينصرهم على أولئك الظلمة من فتح الله تبارك وتعالى.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ)

هذه الآية تقتضي تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم ، و (الطَّاغُوتِ) كل ما عبد واتبع من دون الله ، وتدل قرينة ذكر الشيطان بعد ذلك على أن المراد ب (الطَّاغُوتِ) هنا الشيطان ، وإعلامه تعالى بضعف (كَيْدَ الشَّيْطانِ) تقوية لقلوب المؤمنين ، وتجرئة لهم على مقارعة الكيد الضعيف ، فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهده ، ودخلت كان دالة على لزوم الصفة.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله (الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ)؟ فقال ابن عباس وغيره : كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين ، فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي ، وأن لا يفعلوا ، فلما كان بالمدينة وفرض القتال ، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه ، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم ، وقال قوم : كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه‌السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي ، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له ، فنزلت الآية فيهم ، وقال مجاهد وابن عباس أيضا : إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته ، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم ، ونهي المؤمنين عن فعل مثله ، وقالت فرقة : المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله ، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال ، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة ، إذ كانوا مكذبين بالثواب ، ذكره المهدوي.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : ويحسن هذا القول أن ذكر المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات ، ومعنى (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أمسكوا عن القتال ، والفريق : الطائفة من الناس ، كأنه فارق غيره. وقوله :


(يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت ، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه ، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم ، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله ، وقال الحسن : قوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ) يدل على أنها في المؤمنين ، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة ، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عزوجل.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا ترجيح لا قطع ، وقوله : (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) قالت فرقة : (أَوْ) بمعنى الواو ، وفرقة : هي بمعنى «بل» ، وفرقة : هي للتخيير ، وفرقة : على بابها في الشك في حق المخاطب ، وفرقة : هي على جهة الإبهام على المخاطب.

قال القاضي أبو محمد : وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة البقرة في قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [الآية : ٧٤] أن الموضعين سواء ، وقولهم ، (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ)؟ رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام ، «والأجل القريب» يعنون به موتهم على فرشهم ، هكذا قال المفسرون.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين ، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة ، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم.

قوله تعالى :

قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨)

المعنى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء : (مَتاعُ الدُّنْيا) ، أي الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه وأشفقتم من فقده (قَلِيلٌ) ، لأنه فان زائل (وَالْآخِرَةُ) التي هي نعيم مؤبد (خَيْرٌ) لمن أطاع الله واتقاه في الامتثال لأوامره ، على المحاب والمكاره ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «تظلمون» بالتاء على الخطاب ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يظلمون» بالياء على ترك المخاطبة وذكر الغائب ، والفتيل الخيط في شق نواة التمرة ، وقد تقدم القول فيه.

و (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) جزاء وجوابه. وهكذا قراءة الجمهور ، وقرأ طلحة بن سليمان «يدرككم» بضم الكافين ورفع الفعل ، قال أبو الفتح : ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال : فيدرككم الموت ، وهي قراءة ضعيفة ، وهذا إخبار من الله يتضمن تحقير الدنيا ، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل ، واختلف المتأولون في قوله : (فِي بُرُوجٍ) فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة ، فمثل الله لهم بها ، قال قتادة : المعنى في قصور محصنة ، وقاله ابن جريج والجمهور ، وقال السدي : هي بروج في السماء الدنيا مبنية ، وحكى مكي هذا القول عن مالك ، وأنه قال : ألا ترى إلى قوله (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج : ١] وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) ، معناه في قصور من حديد.


قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يعطيه اللفظ ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها ، وبرج معناه ظهر ، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة ، ومنه تبرج المرأة ، و (مُشَيَّدَةٍ) قال الزجّاج وغيره : معناه مرفوعة مطولة ، لأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه ، وقالت طائفة : (مُشَيَّدَةٍ) معناه : محسنة بالشيد ، وذلك عندهم أن «شاد الرجل» معناه : جصص بالشيد ، وشيد معناه : كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة ، كما تقول : كسرت العود مرة ، وكسرته في مواضع منه كثيرة مرارا ، وخرقت الثوب وخرقته ، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة ، فعلى هذا يصح أن تقول : شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا أردت المبالغة ، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [عدي بن زياد العبادي] : [الخفيف]

شاده مرمرا وجلّله كل

سا فللطير في ذراه وكور

والهاء والميم في قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) رد على الذين قيل لهم ، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون ، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة ، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه‌السلام تحت أمر ، فتصيبهم بسببه أسواء ، ومعنى الآية ، وإن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله ، لا أنه ببركة اتباعك والإيمان بك ، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك ، قالوا : هذه بسببك ، لسوء تدبيرك ، كذا قال ابن زيد ، وقيل لشؤمك علينا. قاله الزجّاج وغيره ، وقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) إعلام من الله تعالى ، أن الخير والشر ، والحسنة والسيئة خلق له ومن عنده ، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه ، فالمعنى : قل يا محمد لهؤلاء : ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا من عند غيري ، بل هو كله من عند الله ، قال قتادة : النعم والمصائب من عند الله ، قال ابن زيد ، النصر والهزيمة ، قال ابن عباس : السيئة والحسنة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله شيء واحد ، ثم وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم ، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق ، والفقه في اللغة الفهم ، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين وأموره ، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الأحكامية ، والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة ، لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما ، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمنا لطيفا بليغا ، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله (فَما) ووقف الباقون على اللام في قوله : (فَما لِ) ، اتباعا للخط ، ومنعه قوم جملة ، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور ، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس ، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا.

قوله تعالى :

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ


فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٨١)

قالت فرقة : (ما) شرطية ، ودخلت (مِنْ) بعدها لأن الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله (مِنْ) ، وقالت فرقة (ما) بمعنى الذي ، و (مِنْ) لبيان الجنس ، لأن المصيب للإنسان أشياء كثيرة : حسنة وسيئة ، ورخاء وشدة ، وغير ذلك ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغيره داخل في المعنى ، وقيل : الخطاب للمرء على الجملة ، ومعنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وغيرهم ، القطع واستئناف الإخبار من الله تعالى ، بأن الحسنة منه وبفضله ، والسيئة من الإنسان بإذنابه ، وهي من الله بالخلق والاختراع ، وفي مصحف ابن مسعود ، «فمن نفسك» «وأنا قضيتها عليك» وقرأ بها ابن عباس ، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها» وروي أن أبيا وابن مسعود قرأ «وأنا قدرتها عليك» ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي عليه‌السلام معناها ، أن ما يصيب ابن آدم من المصائب ، فإنما هي عقوبة ذنوبه. ومن ذلك أن أبا بكر الصديق لما نزلت (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] جزع فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألست تمرض؟ ألست تسقم؟ ألست تغتم؟ وقال أيضا عليه‌السلام : «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر». ففي هذا بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان ، وقالت طائفة : معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] على تقدير حذف يقولون ، فتقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، يقولون : ما أصابك من حسنة ، ويجيء القطع على هذا القول من قوله : (وَأَرْسَلْناكَ) ، وقالت طائفة : بل القطع في الآية من أولها ، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله ، وتقدير ما بعده (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، على جهة الإنكار والتقرير ، فعلى هذه المقالة ألف الاستفهام محذوقة من الكلام ، وحكى هذا القول المهدوي ، و (رَسُولاً) نصب على الحال ، وهي حال تتضمن معنى التأكيد في قوله تعالى ، (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) ثم تلاه بقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) توعد للكفرة ، وتهديد تقتضيه قوة الكلام ، لأن المعنى شهيدا على من كذبه.

والمعنى أن الرسول إنما يأمر وينهى بيانا من الله وتبليغا ، فإنما هي أوامر الله ونواهيه ، وقالت فرقة : سبب هذه الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحبني فقد أحب الله» ، فاعترضت اليهود عليه في هذه المقالة ، وقالوا : هذا محمد يأمر بعبادة الله وحده ، وهو في هذا القول مدّع للربوبية ، فنزلت هذه الآية تصديقا للرسول عليه‌السلام ، وتبيينا لصورة التعلق بينه وبين فضل الله تعالى ، و (تَوَلَّى) معناه أعرض ، وأصل (تَوَلَّى) في المعنى أن يتعدى بحرف ، فنقول تولى فلان عن الإيمان ، وتولى إلى الإيمان ، لأن اللفظة تتضمن إقبالا وإدبارا ، لكن الاستعمال غلب عليها في كلام العرب على الإعراض والإدبار ، حتى استغني فيها عن ذكر الحرف الذي يتضمنه ، و (حَفِيظاً) يحتمل معنيين ، أي ليحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي ونحوه ، أو ليحفظ مساوئهم وذنوبهم ويحسبها عليهم ، وهذه الآية تقتضي الإعراض عن من تولى والترك له ، وهي قبل نزول القتال وإنما كانت توطئة ورفقا من الله تعالى حتى يستحكم أمر الإسلام.

وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) الآية نزلت في المنافقين باتفاق من المفسرين ، المعنى يقولون لك


يا محمد : أمرنا طاعة ، فإذا خرجوا من عندك اجتمعوا ليلا وقالوا غير ما أظهروا لك. و (بَيَّتَ) معناه فعل ليلا ، فإما أخذ من بات ، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي الأسرار التي يخاف شياعها ، ومن ذلك قول الشاعر [الأسود بن يعفر] : [المتقارب]

أتوني فلم أرض ما بيّتوا

وكانوا أتوني بأمر نكر

ومنه قول النمر بن تولب :

هبّت لتعذلني بليل اسمعي

سفها تبيتك للملامة فاهجعي

المعنى وتقول لي : اسمع ، وزيدت الياء إشباعا لتصريع القافية واتباعا للياء ، كقول امرئ القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

وقوله بأمثل ، وقرأ جمهور القراء (بَيَّتَ) بتحريك التاء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامها في الطاء ، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد» وقوله : (تَقُولُ) يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد ، ويحتمل ، تقول هي لك ، و (يَكْتُبُ) معناه على وجهين ، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى يقع الجزاء ، وإما يكتبه في كتابه إليك ، أي ينزله في القرآن ويعلم بها ، قال هذا القول الزجّاج ، والأمر بالإعراض إنما هو عن معاقبتهم ومجازاتهم ، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم. قال الضحاك : معنى «أعرض عنهم» لا تخبر بأسمائهم ، وهذا أيضا قبل نزول القتال على ما تقدم. ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر ، و «الوكيل» القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها ، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب ، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي ، كالعريف والنقيب وغيره.

قوله تعالى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٣)

المعنى : هؤلاء المنافقون الطاعنون عليك الرافعون بغير برهان في صدر نبوتك ، ألا يرجعون إلى النصفة. وينظرون موضع الحجة ويتدبرون كلام الله تعالى؟ فتظهر لهم براهينه ، وتلوح أدلته ، «والتدبر»: النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء ، هذا كله يقتضيه قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وهذا أمر بالنظر والاستدلال ، ثم عرف تعالى بمواقع الحجة ، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور ، وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه ، إذ ذلك موجود في كلام البشر ، والقرآن منزه عنه ، إذ هو كلام المحيط بكل شيء علما.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من كتاب الله ، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه ، وذهب الزجّاج : إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما نخبرك به


مما يبيتون اختلافا ، أي : فإذ تخبرهم به على حد ما يقع ، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب ، هذا معنى قوله ، وقد بينه ابن فورك والمهدوي.

وقوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ) الآية ، قال جمهور المفسرين : الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم ، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعوثه ، والمعنى : أن المنافقين كانوا يشرهون إلى سماع ما يسوء النبي في سراياه ، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم ، حقروها وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير ، وإذا طرأت لهم شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم ، و (أَذاعُوا بِهِ) معناه : أفشوه ، وهو فعل يتعدى بحرف جر وبنفسه أحيانا ، تقول أذعت كذا وأذعت به. ومنه قول أبي الأسود : [الطويل]

أذاعوا به في النّاس حتّى كأنّه

بعلياء نار أوقدت بثقوب

وقالت فرقة : الآية نازلة في المنافقين ، وفي من ضعف جلده عن الإيمان من المؤمنين وقلت تجربته.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين فيقولونها مع من قالها ، ويذيعونها مع من أذاعها ، وهم غير متثبتين في صحتها ، وهذا هو الدال على قلة تجربتهم ، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة ، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنه جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، قال : فدخلت على عائشة فقلت : يا بنة أبي بكر بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالت : يا بن الخطاب عليك بعيبتك ، قال : فدخلت على حفصة فقلت : يا حفصة قد علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يحبك ، ولو لا أنا لطلقك ، فجعلت تبكي ، قال : فخرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في غرفة له ، ورباح مولاه جالس على أسكفة الغرفة ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله ، فنظر إلى الغرفة ثم نظر إليّ وسكت ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله فلعله يظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لو أمرني أن أضرب عنقها لضربته ، فنظر ثم أشار إليّ بيده : أن ادخل ، فدخلت وإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطجع على حصير وقد أثر في جنبه ، وإذا ليس في غرفته.

وهذا التأويل جار مع قول عمر ، أنا استنبطته ببحثي وسؤالي ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى لعلمه المسئولون المستنبطون ، فأخبروا بعلمهم ، وقرأ أبو السمال ، «لعلمه» بسكون اللام وذلك مثل «شجر بينهم» ، والضمير في (رَدُّوهُ) عائد على الأمر ، وفي و (مِنْهُمْ) يحتمل أن يعود على (الرَّسُولِ) و (أُولِي الْأَمْرِ) ، ويحتمل أن يعود على الجماعة كلها ، أي لعلمه البحثة من الناس ، وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) الآية ، هذا خطاب لجميع المؤمنين باتفاق من المتأولين ، والمعنى : ولو لا هداية الله وإرشاده لكم بالإيمان وذلك فضل منه ورحمة ـ لكنتم على كفركم ، وذلك هو اتباع الشيطان. وحكى الزجاج : لو لا فضل الله في هذا القرآن ورسالة محمد عليه‌السلام ، واختلف المتأولون في الاستثناء بقوله (إِلَّا قَلِيلاً) مم هو؟ فقال ابن عباس وابن زيد : ذلك مستثنى من قوله : «أذاعوا به إلا قليلا» ، ورجحه الطبري ، وقال قتادة : ذلك مستثنى من قوله : «يستنبطونه إلا قليلا» ، وقالت فرقة :


ذلك مستثنى من قوله : (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) ، على سرد الكلام دون تقدير تقديم ، ثم اختلفت هذه الفرقة ، فقال الضحاك : إن الله هدى الكل منهم إلى الإيمان ، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ، فذلك هو القليل ، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلو لا فضل الله بتجديد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان إلا قبضة من شعير وقبضة من قرظ ، وإذا أفيقان معلقان ، فبكيت ، فقال رسول الله عليه‌السلام : ما يبكيك يا بن الخطاب؟ فقلت يا رسول الله : أنت صفوة الله من خلقه ورسوله ، وليس لك من الدنيا إلا هذا ، وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار ، فقال أهاهنا أنت يا عمر؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ فقلت : بلى ، ثم جعلت أحدثه حتى تهلل وابتسم ، فقلت يا رسول الله : إنهم ادعوا أنك طلقت نساءك ، فقال : لا ، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس؟ قال : افعل إن شئت ، قال : فقمت على باب المسجد ، فقلت : ألا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلق نساءه ، فأنزل الله في هذه القصة (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) الآية وأنا الذي استنبطته.

وقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) الآية ، المعنى : لو أمسكوا عن الخوض واستقصوا الأمور من قبل الرسول. أو (أُولِي الْأَمْرِ) وهم الأمراء ، قاله السدي وابن زيد ، وقيل : أهل العلم ، قاله الحسن وقتادة وغيرهما ، والمعنى يقتضيهما معا (لَعَلِمَهُ) طلابه من (أُولِي الْأَمْرِ) والبحثة عنه وهم مستنبطوه ، كما يستنبط الماء وهو النبط أي الماء المستخرج من الأرض. ومنه قول الشاعر :

قريب ثراه ما ينال عدوّه

له نبطا آبي الهوان قطوب

يعني بالنبط الماء المستنبط.

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً). هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين. والمعنى : لو لا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم ، وهو اتباع الشيطان. وقال الضحاك : هدى الكل منهم للإيمان فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ولا عنت له شبهة ارتياب ، وذلك هو القليل ؛ وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلو لا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلّوا واتبعوا الشيطان.

قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الضحاك ، ويجيء الفضل معينا ، أي رسالة محمد والقرآن ، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق ، وقال قوم : المخاطب بقوله (لَاتَّبَعْتُمُ) جميع المؤمنين ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ، كورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وغيرهما ، وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الاتباع ، أي (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) كلكم (إِلَّا قَلِيلاً) من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، وقال قوم : قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) عبارة عن العدم ، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم ، وهذا الأخير قول قلق ، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قل ما تنبت كذا ، بمعنى لا تنبته لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ، ولكن قد ذكره الطبري.

قوله تعالى :

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا


وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (٨٦)

هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه‌السلام وحده ، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون الأمة مدة ما ، المعنى ـ والله أعلم ـ أنه خطاب للنبي عليه‌السلام في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي عليه‌السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة : «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي» ، وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله (فَقاتِلْ) بما فيه بعد ، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة ، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به ، ثم خص النبي عليه‌السلام بالأمر بالتحريض ، أي الحث على المؤمنين في القيام بالفرض الواجب عليهم ، و (عَسَى) إذا وردت من الله تعالى فقال عكرمة وغيره : إنها واجبة ، لأنها من البشر متوقعة مرجوة ففضل الله تعالى يوجب وجوبها ، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة ، ثم قوى بعد ذلك ، قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله ، وأنه أقدر على الكفرة ، (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) لهم ، التنكيل : الأخذ بأنواع العذاب وترديده عليهم.

وقوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) الآية. أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع ، وهو الزوج في العدد ، لأن الشافع ثان لوتر المذنب ، والشفيع ثان لوتر المشتري ، واختلف في هذه الآية المتأولون ، فقال الطبري : المعنى من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين ، أو من يشفع وتر الكفر بالمعونة على الإسلام ، ودله على هذا التأويل ما تقدم من أمر القتال ، وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ، فمن يشفع لينفع فله نصيب ، ومن يشفع ليضر فله كفل ، وقال الحسن وغيره : «الشفاعة الحسنة» هي في البر والطاعة ، والسيئة هي في المعاصي ، وهذا كله قريب بعضه من بعض ، «والكفل» النصيب ، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر ، وفي كتاب الله تعالى (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] و (مُقِيتاً) معناه قديرا ، ومنه قول الشاعر ، وهو الزبير بن عبد المطلب : [الوافر]

وذي ضغن كففت النّفس عنه

وكنت على إذايته مقيتا

أي قديرا ، وعبر عنه ابن عباس ومجاهد ، بحفيظ وشهيد ، وعبد الله بن كثير ، بأنه الواصب القيم بالأمور ، وهذا كله يتقارب ، ومنه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت» على من رواها هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره ، وذهب مقاتل بن حيان ، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان ، وهذا على أن يقال أقات بمعنى قات ، وعلى هذا يجيء قوله عليه‌السلام «من يقيت» من أقات وقد حكى الكسائي «أقات» يقيت ، فأما قول الشاعر [السموأل بن عادياء] : [الخفيف]


ليت شعري وأشعرنّ إذا ما

قرّبوها مطويّة ودعيت

أإلى الفضل أم عليّ؟ إذا حو

سبت ، إنّي على الحساب مقيت

فقال فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم ، وإنه بمعنى موقوت.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل بمعنى بناء مفعول.

وقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ) الآية. التحية وزنها تفعلة من حيي ، وهذا هو الأغلب من مصدر فعل في المعتل ، وروي عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس ، وفيه ضعف ، لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة ، أما أن الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية ، وهذا هو منحى مالك رحمه‌الله إن صح ذلك عنه والله أعلم ، واختلف المتأولون ، فقالت فرقة : التحية أن يقول الرجل : سلام عليك ، فيجب على الآخر أن يقول : عليك السلام ورحمة الله ، فإن قال البادئ : السلام عليك ورحمة الله ، قال الراد عليك السلام ورحمة الله وبركاته ، فإن قال البادئ : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقد انتهى ولم يبق للراد أن يحيي بأحسن منها ، فهاهنا يقع الرد المذكور في الآية ، فالمعنى عند أهل هذه القالة (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) ، فإن نقص المسلم من النهاية فحيوا بأحسن. وإن انتهى فردوا ، وقالت فرقة : إنما معنى الآية تخيير الراد ، فإذا قال البادئ : السلام عليك ، فللراد أن يقول ، وعليك السلام فقط ، وهذا هو الرد ، وله أن يقول ، وعليك السلام ورحمة الله ، وهذا هو التحية بأحسن منها ، وقال ابن عباس وغيره : المراد بالآية ، (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) ، فإن كانت من مؤمن فحيوا بأحسن منها ، وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقال لهم : وعليكم ، وروي عن ابن عمرو وابن عباس وغيرهما ، انتهى السلام إلى البركة ، وجمهور أهل العلم على أن لا يبدأ أهل الكتاب بسلام ، فإن سلم أحد ساهيا أو جاهلا فينبغي أن يستقيله سلامه ، وشذ قوم في إباحة ابتدائهم ، والأول أصوب ، لأن به يتصور إذ لا لهم ، وقال ابن عباس : كل من سلم عليك من خلق الله فرد عليه وإن كان مجوسيا ، وقال عطاء : الآية في المؤمنين خاصة ، ومن سلم من غيرهم قيل له : عليك ، كما في الحديث ، وأكثر أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سنة مؤكدة ، ورده فريضة ، لأنه حق من الحقوق ، قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره ، و (حَسِيباً) معناه : حفيظا ، وهو فعيل من الحساب ، وحسنت هاهنا هذه الصفة ، إذ معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به.

قوله تعالى :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨)

لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) [النساء : ٨٦] تلاه مقويا له الإعلام بصفة الربوبية ، وحال الوحدانية ، والإعلام بالحشر ، والبعث من


القبور ، للثواب ، والعقاب ، إعلاما بقسم ، والمقسم به تقديره وهو : أو وحقه ، أو وعظمته ، (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) والجمع هنا بمعنى الحشر ، فلذلك حسنت بعده (إِلى) ، أي : إليه السوق والحشر ، و (الْقِيامَةِ) : أصلها القيام ، ولما كان قيام الحشر من أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة و (لا رَيْبَ فِيهِ) تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب الخبر ، ومعناه : لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره ، وإن ارتاب فيه الكفرة فغير ضائر ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)؟ ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر ، تقديره : لا أحد أصدق من الله تعالى ، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف والرجاء أو سوء السجية ، وهذه منفية في حق الله تعالى وتقدست أسماؤه ، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقا لما في قلبه ، وللأمر المخبر عنه في وجوده ، و (حَدِيثاً) نصب على التمييز.

وقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) الآية. الخطاب للمؤمنين ، وهذا ظاهره استفهام ، والمقصد منه التوبيخ ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب (الْمُنافِقِينَ)؟ فقال ابن عباس : هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة ، وأقاموا بين أظهر الكفار ، ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم : إنكم لا تخافون أصحاب محمد ، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم ، فاتصل خبرهم بالمدينة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فقالت طائفة : نخرج إلى أعداء الله المنافقين ، وقالت طائفة : بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد : بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة ، فأظهروا الإسلام ، ثم قالوا : لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر ، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى (حَتَّى يُهاجِرُوا) [النساء : ٨٩] ، وقال زيد بن ثابت : نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، لأن أصحاب النبي عليه‌السلام اختلفوا فيهم ، وقال السدي : بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنها نفاقا وكفرا ، وقالوا : إنّا اجتويناها ، وقال ابن زيد : إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك ، لأن الصحابة اختلفوا فيهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة ، حسبما وقع في البخاري ، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله ، وكل من قال في هذه الآية : إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله : (حَتَّى يُهاجِرُوا) [النساء : ٨٩] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه ، وترك الخلاف والنفاق ، كما قال عليه‌السلام ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، و (فِئَتَيْنِ) معناه فرقتين ، ونصبهما على الحال كما تقول : ما لك قائما ، هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل ، والتقدير ما لكم كنتم (فِئَتَيْنِ) ، أو صرتم ، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة ، كما نقول ما لك الشاتم لزيد ، وخطأ هذا القول الزجّاج ، لأن المعرفة لا تكون حالا ، و (أَرْكَسَهُمْ) معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم ، «والركس» الرجيع ، ومنه حديث النبي عليه‌السلام في الاستنجاء ، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال إنها ركس» ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [البسيط]


فأركسوا في حميم النّار إنّهم

كانوا عصاة وقالوا الإفك والزّورا

وحكى النضر بن شميل والكسائي ، «ركس وأركس» بمعنى واحد ، أي رجعهم ، ومن قال من المتأولين : أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى ، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر ، و (بِما كَسَبُوا) معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق ، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم ، وقوله : (أَتُرِيدُونَ) استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه ، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون : بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله لضلالة وحتمها عليه ، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده.

قوله تعالى :

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٨٩)

الضمير في (وَدُّوا) عائد على المنافقين ، وهذا كشف من الله لخبث معتقدهم ، وتحذير للمؤمنين منهم. والمعنى تمنوا كفركم ، وهي غاية المصائب بكم ، وهذا الود منهم يحتمل أن يكون عن حسد منهم لهم على ما يرون للمؤمنين من ظهور في الدنيا ، فتجري الآية مع ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ، ويحتمل أمر المنافقين أن يكون أنهم رأوا المؤمنين على غير شيء فودوا رجوعهم إلى عبادة الأصنام ، والأول أظهر ، وقوله : (فَلا تَتَّخِذُوا) الآية. هذا نهي عن موالاتهم حتى يهاجروا ، لأن الهجرة في سبيل الله تتضمن الإيمان ، و (فِي سَبِيلِ اللهِ) معناه في طريق مرضاة الله ، لأن سبل الله كثيرة ، وهي طاعاته كلها ، المعنى فإن أعرضوا عن الهجرة وتولوا عن الإيمان فخذوهم ، وهذا أمر بالحمل عليهم ومجاهرتهم بالقتال.

قوله تعالى :

(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠)

كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد هادن من العرب قبائل ، كرهط هلال بن عويمر الأسلمي ، وسرقة بن مالك بن جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، فقضت هذه الآية بأنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل عليه ، قال عكرمة والسدي وابن زيد : ثم لما تقوى الإسلام وكثر ناصروه نسخت هذه والتي بعدها بما في سورة براءة ،


وقال أبو عبيدة وغيره : (يَصِلُونَ) في هذا الموضع معناه ، ينتسبون ، ومنه قول الأعشى : [الطويل]

إذا اتّصلت قالت : أبكر بن وائل

وبكر سبتها والأنوف رواغم

يريد إذا انتسبت.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا غير صحيح ، قال الطبري : قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا وهم قرابة السابقين إلى الإسلام يقضي بأن قرابة من له ميثاق أجدر بأن تقاتل ، فإن قيل : إن النبي عليه‌السلام لم يقاتل قريشا إلا بعد نسخ هذه الآية ، قيل : التواريخ تقضي بخلاف ذلك ، لأن الناسخ لهذه الآية هي سورة براءة ، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش ، وقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ) عطف على (يَصِلُونَ) ، ويحتمل أن يكون على قوله : (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) والمعنى في العطفين مختلف وهذا أيضا حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام ، فكان المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالما كارها لقتال قومه ، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه ، وهذه نسخت أيضا بما في براءة. و (حَصِرَتْ) : ضاقت وحرجت ، ومنه الحصر في القول ، وهو : ضيق الكلام على المتكلم ، وقرأ الحسن وقتادة «حصرة» كذا قال الطبري : وحكى ذلك المهدوي عن عاصم من رواية حفص ، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات» وفي مصحف أبيّ سقط (أَوْ جاؤُكُمْ) ، و (حَصِرَتْ) عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال بتقدير قد حصرت.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف ، كقولك جاء زيد ركب الفرس ، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبرا آخر عن زيد ، لم تحتج إلى تقدير قد ، وإن أردت به الحال من زيد قدرته بقد ، قال الزجاج :

(حَصِرَتْ) خبر بعد خبر ، وقال المبرد : (حَصِرَتْ) دعاء عليهم.

قال القاضي أبو محمد : وقال بعض المفسرين : لا يصح هنا الدعاء ، لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم ، ذلك فاسد.

قال المؤلف : وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم ، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم ، أي هم أقل وأحقر ، ويستغنى عنهم ، كما تقول إذا أردت هذا المعنى : لا جعل الله فلانا عليّ ولا معي أيضا ، بمعنى استغنى عنه واستقل دونه ، واللام في قوله : (لَسَلَّطَهُمْ) جواب (لَوْ) ، وفي قوله : (فَلَقاتَلُوكُمْ) لام المحاذاة والازدواج ، لأنها بمثابة الأولى ، لو لم تكن الأولى كنت تقول : لو شاء الله لقاتلوكم ، والمعنى تقرير المؤمنين على مقدار النقمة وصرفها ، أي لو شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم ، فإذ قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها ، وقرأت طائفة «فلقتلوكم». وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم» بتشديد التاء ، والمعنى فإن اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل ، و (السَّلَمَ) هنا الصلح ، قاله الربيع ، ومنه قول الطرماح بن حكيم :

وذاك أن تميما غادرت سلما

للأسد كل حصان رعثة الكبد


وقال الربيع : (السَّلَمَ) هاهنا الصلح ، وكذا قرأته عامة القراء ، وقرأ الجحدري «السلم» بسكون اللام ، وقرأ الحسن «السّلم» بكسر السين وسكون اللام ، فمعنى جملة هذه الآية ، خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم ، إلا من دخل منهم في عداد من (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) والتزم مهادنتكم أو من جاءكم وقد كره قتالكم وقتال قومه ، وهذا بفضل الله عليكم ودفاعه عنكم ، لأنه لو شاء لسلط هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المتاركة عليكم (فَلَقاتَلُوكُمْ) ، فإن اعتزلوكم أي إذا وقع هذا فلم يقاتلوكم ، فلا سبيل لكم عليهم ، وهذا والذي في سورة الممتحنة من قوله تعالى (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : ٨] منسوخ بما في سورة براءة ، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما.

قوله تعالى :

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (٩١)

لما وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة ، المجدين في إلقاء السلم ، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم ، يقولون لهم : نحن معكم وعلى دينكم ، ويقولون أيضا للمسلمين إذا وفدوا وأرسلوا : نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة ، قيل : كانت أسد وغطفان بهذه الصفة ، وقيل : نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي ، كان ينقل بين النبي عليه‌السلام والكفار الأخبار ، وقيل : نزلت في قوم يجيئون من مكة إلى النبي عليه‌السلام رياء ، يظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون ، ففضح الله تعالى هؤلاء ، وأعلم أنهم على غير صفة من تقدم ، وقوله : (إِلَى الْفِتْنَةِ) معناه إلى الاختبار ، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم : قل : ربي الخنفساء ، وربي العود ، وربي العقرب ، ونحوه ، فيقولها ، ومعنى (أُرْكِسُوا) رجعوا رجع ضلالة أي أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر ، وقرأ عبد الله بن مسعود ، «ركسوا» بضم الراء من غير ألف ، وحكاه عنه أبو الفتح بشد الكاف على التضعيف ، والخلاف في (السَّلَمَ) حسبما تقدم ، وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال. وإيجاب إلقاء السلم ، ونفي المقاتلة ، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له ، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال ، ونفي إلقاء السلم ، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين ، والحكم سواء على السياقين ، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين» ، وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان ، إذ لم يعتزلوا ، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم. ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا ،


و (ثَقِفْتُمُوهُمْ) مأخوذ من الثقاف ، أي ظفرتم بهم مغلوبين متمكنا منهم ، والسلطان الحجة ، قال عكرمة : حيث ما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة.

قوله تعالى :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٩٢)

قال جمهور المفسرين : معنى هذه الآية : وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه ، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول ، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن ، والتقدير لكن الخطأ قد يقع.

وهذا كقول الشاعر [الهذلي] : [البسيط]

أمسى سقام خلاء لا أنيس به

إلّا السّباع وإلّا الرّيح بالغرف

قال القاضي أبو محمد : سقام اسم واد ، والغرف شجر يدبغ بلحائه ، وكما قال جرير : [الطويل]

من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ

على الأرض إلّا ريط برد مرحّل

وفي هذا الشاهد نظر ، ويتجه في معنى الآية وجه آخر ، وهو أن تقدر (كانَ) بمعنى استقر ووجد ، كأنه قال ، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ (لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ، إذ هو مغلوب فيه أحيانا ، فيجيء الاستثناء على هذا غير منقطع ، وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه ، كما تقول : ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ، إعظاما للعمد والقصد مع خطر الكلام به البتة ، وقرأ الزهري «خطا» مقصورا غير مهموز ، وقرأ الحسن والأعمش مهموزا ممدودا ، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة ، وذلك أنه كان يعذبه بمكة ، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجرا فلقيه عياش بالحرة ، فظنه على كفره فقتله ، ثم جاء فأخبر النبي عليه‌السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قم فحرر» ، وقال ابن زيد : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنما وهو يتشهد فقتله وساق غنمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت الآية وقيل : نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد ، وقيل غير هذا ، والله أعلم ، وقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً) الآية. بيّن الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ ، وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل ، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى ، يربطها عدم القصد ، قال ابن عباس


والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : «الرقبة المؤمنة» هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان ، ولا يجزىء في ذلك الصغير ، وقال عطاء بن أبي رباح : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين ، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس : يجزىء كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه ، قال مالك : ومن صلى وصام أحب إليّ ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان النقصان يسيرا تتفق له معه المعيشة والتحرف ، كالعرج ونحوه ففيه قولان ، و (مُسَلَّمَةٌ) معناه مؤداة مدفوعة ، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية ، و (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يريد أولياء القتيل ، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا» وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا» بالتاء على المخاطبة للحاضر ، وقرأ نبيح العتري «تصدقوا» بالتاء وتخفيف الصاد ، و «الدية» مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم ، وعند آخرين على الناس كلهم ، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة ، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة ، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت ، واختلف في المائة من الإبل ، فقال علي بن أبي طالب : هي مربعة ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وقال عبد الله بن مسعود : مخمسة ، عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ذكرا ، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب ، وعمر بن الخطاب وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة. ومن الغنم ألفي شاة ، ومن الحلل مائة حلة ، وورد بذلك حديث عن النبي عليه‌السلام في مصنف أبي داود ، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب ، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل ، فمضى القول على ذلك ، وأما الذهب فهي ألف دينار ، قررها عمر ومشى الناس عليها ، وأما الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفا ، وبه قال مالك ، وجماعة تقول : عشرة آلاف درهم. وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) الآية. المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم وعكرمة وغيرهم ، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا ، قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم ، فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير الرقبة ، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهاجر ، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية ، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين ، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها ، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية فيه ، واحتجوا بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] وقالت فرقة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه ، كفارته التحرير ولا دية فيه ، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وقائل المقالة الأولى يقول : إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، فكفارته التحرير وأداء الدية ، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم


بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن» وقال ابن عباس والشعبي وإبراهيم أيضا. المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالى كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير ، واختلف على هذا في دية المعاهد ، فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقال مالك وأصحابه : ديته على نصف دية المسلم ، وقال الشافعي وأبو ثور : ديته على ثلث دية المسلم ، وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين» متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر ، وقال مكي عن الشعبي : «صيام الشهرين» يجزىء عن الدية والعتق لمن لم يجدها ، وهذا القول وهم ، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل ، والطبري حكى القول عن مسروق ، و (تَوْبَةً) نصب على المصدر ومعناه رجوعا بكم إلى التيسير والتسهيل.

قوله تعالى :

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٩٣)

«المتعمد» في لغة العرب القاصد إلى الشيء ، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه ، وقالت فرقة : «المتعمد» كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور وهو الأصح ، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد ، ورأوا فيه تغليظ الدية ، ومالك رحمه‌الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء ، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمدا وخطأ لا غير ، والقتل بالسم عنده عمد ، وإن قال ما أردت إلا سكره ، وقوله : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) تقديره عند أهل السنة ، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره ، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ـ ١١٦] وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يريد نزلت (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) بعد (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ و ١١٦] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتما على كل قاتل يقتل مؤمنا ، ويرونه عموما ماضيا لوجهه ، مخصصا للعموم في قوله تعالى: (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ و ١١٦] كأنه قال : إلا من قتل عمدا.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وأهل الحق يقولون لهم : هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين ، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقر بالقتل عمدا ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا متركبا على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت ، أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له ، وهذا نقض


للعموم ، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم ، بل لفظ مشترك يقع كثيرا للخصوص ، كقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه ، وكقول الشاعر [زهير بن أبي سلمى] : [الطويل]

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه

يهدّم ومن لا يظلم النّاس يظلم

وهذا إنما معناه الخصوص ، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم ، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب ، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه ، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان ، ومراده باللينة قوله تعالى : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الفرقان : ٦٨] ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال : أنزلت الآية (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) بعد قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨ ـ ١١٦] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص ، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن ، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن حبابة ، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، وجعل ينشد : [الطويل]

قتلت به فهرا وحمّلت عقله

سراة بني النّجّار أرباب فارع

حللت به وتري وأدركت ثورتي

وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا في حرم» ، وأمر بقتله يوم فتح مكة ، وهو متعلق بالكعبة ، وأما أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال (مُتَعَمِّداً) معناه مستحلا لقتله. فهذا يؤول أيضا إلى الكفر ، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل ، فجزاؤه أن جازاه ، ويكون قوله (خالِداً) إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك ، ويدل على هذا سقوط قوله «أبدا» فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار.

واختلف العلماء في قبول توبة القاتل ، فجماعة على أن لا تقبل توبته ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر ، وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل مبهمان ، من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان ، إذ الفرقان مكية والجمهور على قبول توبته ، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحيانا ، فيطلقون : لا تقبل توبة القاتل ، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له : توبتك مقبولة ، وإذا سأله من لم يفعل ، قال له : لا توبة للقاتل ، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلا سأله أللقاتل توبة؟ فقال له : لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم ، فلما مضى السائل قال له أصحابه : ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة ، فقال لهم : إني رأيته مغضبا وأظنه يريد أن يقتل ، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه ، فإذا هو كذلك. وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ ـ ١١٦] وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر ، فإنهما قالا : هي محكمة.


قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وفيما قاله هبة الله نظر ، لأنه موضع عموم وتخصيص ، لا موضع نسخ ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل. والله أعلم.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٩٤)

تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره مقترنة ب «في» ، وتقول : ضربت الأرض دون «في» إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ، ومنه قول ـ النبي عليه‌السلام : «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك» ، وسبب هذه الآية : أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلا له جمل ومتيع ، وقيل غنيمة ، فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله ، فشق ذلك على رسول الله ونزلت الآية فيه ، واختلف المفسرون في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ، فالذي عليه الأكثر ـ وهو في سيرة ابن إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما : أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط ، والحديث بكماله في المصنف لأبي داود ، وفي السير وفي الاستيعاب ، وقالت فرقة : القاتل أسامة بن زيد ، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ، وقالت فرقة : القاتل أبو قتادة ، وقالت فرقة : القاتل غالب الليثي ، والمقتول مرداس ، وقالت فرقة : القاتل هو أبو الدرداء ، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة.

وقرأ جمهور السبعة (فَتَبَيَّنُوا) وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا» بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات ، وقال قوم : «تبينوا» أبلغ وأشد من «تثبتوا» ، لأن المتثبت قد لا يتبين ، وقال أبو عبيد : هما متقاربان.

قال القاضي أبو محمد : والصحيح ما قال أبو عبيد ، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له ، بل يقتضي محاولة اليقين ، كما أن ثبت تقتضي محاولة اليقين ، فهما سواء ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير في بعض طرقه ، «السّلم» بتشديد السين وفتحه وفتح اللام ، ومعناه : الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم ، وقرأ بقية السبعة «السلام» يريد سلم ذلك المقتول على السرية ، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك ، قال الأخفش : يقال : فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا ، وروي في بعض طرق عاصم «السّلم» بكسر السين وشده وسكون اللام وهو الصلح ، والمعنى المراد بهذه الثلاثة يتقارب ، وقرأ الجحدري «السّلم» بفتح السين وسكون اللام ، والعرض : هو المتيع والجمل ، أو الغنيمة التي كانت للرجل المقتول ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست مؤمنا» بفتح الميم ، أي لسنا نؤمنك في نفسك ، وقوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) عدة بما يأتي به الله على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا.


واختلف المتأولون في قوله تعالى : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) فقال سعيد بن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ، خائفين منهم على أنفسكم ، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم ، وإظهار شريعتكم ، فهم الآن كذلك ، كل واحد منهم خائف من قومه ، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره ، وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم ، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا ثم يسلم لحينه حين لقيكم ، فيجب أن يتثبت في أمره ، ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ، أي على هذه الحال كنتم في جاهليتكم لا تتثبتون ، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم ، ثم أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين ، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد ، وذلك منه خبر يتضمن تحذيرا منه تعالى ، لأن المعنى (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ، فاحفظوا نفوسكم ، وجنبوا الزلل الموبق بكم.

قوله تعالى :

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٩٦)

في قوله : (لا يَسْتَوِي) إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد ، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، و (الْقاعِدُونَ) عبارة عن المتخلفين ، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ، «غير أولي الضرر» برفع الراء من غير ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «غير» بالنصب ، واختلف عن عاصم ، فروي عنه الرفع والنصب ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غير» بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه ، كما هي عنده صفة في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) [الفاتحة : ٧] بجر غير صفة ، ومثله قول لبيد : [الرمل]

وإذا جوزيت قرضا فاجزه

إنّما يجزى الفتى غير الجمل

قال المؤلف : كذا ذكره أبو علي ، ويروى ليس الجمل ، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين ، قال أبو الحسن : ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة ، قال الزجّاج : يجوز أيضا في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء ، كأنه قال : «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر» فإنهم يساوون المجاهدين.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا مردود ، لأن (أُولِي الضَّرَرِ) لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، قال : ويجوز في قراءة نصب


الراء أن يكون على الحال ، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين ، وروي من غير طريق أن الآية نزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ) فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها ، فقال : يا رسول الله هل من رخصة؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قال الفلتان بن عاصم كنا قعودا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله ، وكنا نعرف ذلك في وجهه ، فلما فرغ قال للكاتب : اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ) إلى آخر الآية. قال : فقام الأعمى ، فقال : يا رسول الله ما ذنبنا؟ قال : فأنزل الله على رسوله ، فقلنا للأعمى : إنه ينزل عليه. قال : فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائما مكانه يقول : أتوب إلى رسول الله حتى فرغ رسول الله ، فقال الكاتب : اكتب (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. قاله ابن عباس وغيره. وقوله تعالى : (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) هي الغاية في كمال الجهاد. ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر. قال بعض العلماء : هم أعظم أجرا من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها. واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال : إن الغنى أفضل من الفقر وإن متعلقه بها لبين. وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة» ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان ، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه‌السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالا ما قطعنا واديا ولا سلكنا جبلا ولا طريقا إلا وهم معنا حبسهم العذر» قال ابن جريج. والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات» هو على القاعدين من غير أهل العذر ، و (الْحُسْنى) الجنة ، وهي التي وعدها المؤمنون ، وكذلك قال السدي وغيره.

وقال ابن محيريز : «الدرجات» هي درجات في الجنة ، سبعون ، ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ، وقال بهذا القول الطبري ورجحه ، وقال ابن زيد : «الدرجات» في الآية هي السبع المذكورات في سورة براءة ، فهي قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ١٢٠] الآيات فذكر فيها الموطئ الغائظ للكفار ، والنيل من العدو ، والنفقة الصغيرة والكبيرة ، وقطع الأودية والمسافات.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه ، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا ، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها ، فالأقوال كلها متقاربة ، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس. ونصب (دَرَجاتٍ) إما على البدل من الأجر ، وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيدا للأجر ، كما تقول : لك عليّ ألف درهم عرفا ، كأنك قلت أعرفها عرفا.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ


أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠)

المراد بهذه الآية إلى قوله (مَصِيراً) جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان به ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة فافتتنوا ، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار فقتلوا ببدر ، فنزلت الآية فيهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما ، كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم ، فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) الآية. قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية ، أن لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم هذه الآية الأخرى ، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] الآية فكتب إليهم المسلمون بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١١٠] فكتبوا إليهم بذلك ، أن الله قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في خمسة قتلوا ببدر ، وهم قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف ، قال النقاش : في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : وكان العباس ممن خرج مع الكفار لكنه نجا وأسر ، وكان من المطعمين في نفير بدر ، قال السدي : لما أسر العباس وعقيل ونوفل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس : افد نفسك وابن أخيك ، فقال له العباس : يا رسول الله ، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال «يا عباس : إنكم خاصمتم فخصمتم» ، ثم تلا عليه هذه الآية (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) قال السدي : فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر ، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : وفي هذا الذي قاله السدي نظر ، والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود ، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمنا وأكره على الخروج ، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة ، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود ، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة ، ولم يعتد بما كان عرف منهم قبل ، ولا حجة للمعتزلة في شيء من أمر هؤلاء على


تكفيرهم بالمعاصي ، وأما العباس فقد ذكر ابن عبد البر رحمه‌الله أنه أسلم قبل بدر ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم بدر من لقي العباس فلا يقتله ، فإنما أخرج كرها.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق ـ رحمه‌الله ـ وذكر أنه إنما أسلم مأسورا حين ذكر له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر المال الذي ترك عند أم الفضل ، وذكر أنه أسلم في عام خيبر ، وكان يكتب إلى رسول الله بأخبار المشركين ، وكان يحب أن يهاجر ، فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا.

قال القاضي أبو محمد : لكن عامله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أسر على ظاهر أمره.

وقوله تعالى : (تَوَفَّاهُمُ) يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث ، إذ تأنيث لفظ (الْمَلائِكَةُ) غير حقيقي ، ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم ، فحذفت إحدى التاءين ويكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي من هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية. وقرأ إبراهيم «توفاهم» بضم التاء ، قال أبو الفتح : كأنه يدفعون إلى الملائكة ويحتسبون عليهم. و «توفاهم» بفتح التاء معناه : تقبض أرواحهم ، وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى : تحشرهم إلى النار و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) نصب على الحال أي ظالميها بترك الهجرة ، قال الزجّاج : حذفت النون من «ظالمين» تخفيفا ، كقوله تعالى : (بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، وقول الملائكة (فِيمَ كُنْتُمْ)؟ تقرير وتوبيخ ، وقول هؤلاء (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) اعتذار غير صحيح ، إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل ثم وقفتهم الملائكة على ذنبهم بقولهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) والأرض في قول هؤلاء هي أرض مكة خاصة ، و (أَرْضُ اللهِ) هي الأرض بالإطلاق. والمراد فتهاجروا فيها إلى موضع الأمن ، وهذه المقالة إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء. وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين ، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا ، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ، ولاحتمال ردته ، وتوعدهم الله تعالى بأن (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ).

ثم استثنى منهم من كان استضعافه على حقيقة من زمنة الرجال وضعفة النساء والولدان ، كعياش بن أبي ربيعة والوليد بن هشام وغيرهما ، قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين ، هي من النساء وأنا من الولدان ، والحيلة : لفظ عام لأسباب أنواع التخلص ، و «السبيل» : سبيل المدينة فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما والصواب أنه عام في جميع السبل.

ثم رجّى الله تعالى هؤلاء بالعفو عنهم ، و (عَسَى) من الله واجبة. أما أنها دالة على ثقل الأمر المعفو عنه ، قال الحسن : (عَسَى) من الله واجبة ، قال غيره : هي بمنزلة الوعد ، إذ ليس يخبر ب (عَسَى) عن شك ولا توقع ، وهذا يرجع إلى الوجوب ، قال آخرون : هي على معتقد البشر ، أي ظنكم بمن هذه حاله ترجّي عفو الله عنه.

والمراغم : المتحول والمذهب ، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم ، ومنه قول النابغة الجعدي : [المتقارب]


كطود يلاذ بأركانه

عزيز المراغم والمذهب

وقول الآخر : [المتقارب]

إلى بلد غير داني المحل

بعيد المراغم والمضطرب

وقال مجاهد : «المراغم» المتزحزح عما يكره. وقال ابن زيد : «المراغم» المهاجر ، وقال السدي: «المراغم» المبتغى للمعيشة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا كله تفسير بالمعنى ، فأما الخاص باللفظة ، فإن «المراغم» موضع المراغمة ، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم ، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. وكذلك الطود الذي ذكر النابغة ، من صعد فيه أمام طالب له وتوقل فقد أرغم أنف ذلك الطالب. وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مرغما» بفتح الميم وسكون الراء دون ألف. قال أبو الفتح : هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم ، والجماعة على «مراغم» ، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم : (السَّعَةِ) هنا هي السعة في الرزق ، وقال قتادة : المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى ، وقال مالك : السعة سعة البلاد.

قال القاضي رحمه‌الله : والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون «السعة» في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر [حطان بن المعلّى].

لكان لي مضطرب واسع

في الأرض ذات الطّول والعرض

ومنه قول الآخر : [الوافر]

وكنت إذا خليل رام قطعي

وجدت وراي منفسحا عريضا

وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق ، وقوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) الآية : حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه ، أما أنه لا يقال : إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة ، ولكن يقال : وقع له بذلك أجر عظيم ، وروي : أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة ، وقيل : من خزاعة من بني ليث ، وقيل : من جندع ، لما سمع قول الله عزوجل الذين (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) قال : إني لذو مال وعبيد ـ وكان مريضا ـ فقال : أخرجوني إلى المدينة ، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم ، فنزلت الآية بسببه ، واختلف في اسمه ، فحكى الطبري عن ابن جبير : أنه ضمرة بن العيص ، أو العيص بن ضمرة بن زنباع ، وحكي عن السدي : أنه ضمرة بن جندب ، وحكي عن عكرمة : أنه جندب بن ضمرة الجندعي ، وحكي عن ابن جبير أيضا : أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث ، وحكى أبو عمر بن عبد البر : أنه ضمرة بن العيص ، وحكى المهدوي : أنه ضمرة بن نعيم ، وقيل : ضمرة بن خزاعة ، وقرأت


الجماعة «ثم يدركه الموت» بالجزم عطفا على (يَخْرُجْ) وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركه» برفع الكاف ـ قال أبو الفتح : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله ، فهما إذن جملة ، فكأنه عطف جملة على جملة ، وعلى هذا حمل يونس بن حبيب قول الأعشى : [البسيط]

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل

المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [رويشد بن كثير الطائي] : [البسيط]

إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيتكم

فما عليّ بذنب عندكم فوت

المعنى : ثم أنتم تأتيني. وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر : [الوافر]

ألم يأتيك والأنباء تنمى

وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركه» بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن» كقول الأعشى : [الطويل]

لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها

ويأوي إليها المستجير فيعصما

أراد : فأن يعصم ـ قال أبو الفتح : وهذا ليس بالسهل وإنما بابه الشعر لا القرآن ، وأنشد ابن زيد : [الوافر]

سأترك منزلي لبني تميم

والحق بالحجاز فأستريحا

والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف.

قال القاضي أبو محمد : ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازيا فله سهمه من الغنيمة ، قاسوا ذلك على «الأجر» ، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي ـ وجب ـ لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة. فشبه لازم المعاني بذلك.

وباقي الآية بيّن.

قوله تعالى :

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)

(ضَرَبْتُمْ) معناه : سافرتم. فأهل الظاهر يرون القصر في كل سفر يخرج عن الحاضرة ، وهي من حيث تؤتى الجمعة ، وهذا قول ضعيف ، واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن راهويه : تقصر الصلاة في أربعة برد ، وذلك ثمانية وأربعون ميلا.


وحجتهم أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، وقال الحسن والزهري : تقصر الصلاة في مسيرة يومين ولم يذكرا أميالا ، وروي هذا القول عن مالك ، وروي عنه أيضا : تقصر الصلاة في يوم وليلة ، وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى ، وروي عن ابن عباس وابن عمر : أن الصلاة تقصر في مسيرة اليوم التام ، وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا ، وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على مسيرة خمسة وأربعين ميلا ، قال : يقصر ، وعن ابن القاسم في العتبية : أن قصر في ستة وثلاثين فلا إعادة عليه ، وقال يحيى بن عمر : يعيد أبدا ، وقال ابن عبد الحكم : في الوقت ، وقال ابن مسعود وسفيان والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن : من سافر مسيرة ثلاث قصر ، قال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام ، وروي عن أنس بن مالك : أنه قصر في خمسة عشر ميلا ، قال الأوزاعي : عامة العلماء في القصر في مسيرة اليوم التام ، وبه نأخذ.

واختلف الناس في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس ، واختلف الناس فيما سوى ذلك ، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح ، كالتجارة ونحوها ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد ، وقال عطاء لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير ، وقد روي عن عطاء أنها تقصر في كل المباح ، والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية ، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما ، وروي عن الأوزاعي وأبي حنيفة إباحة القصر في جميع ذلك. وجمهور العلماء على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية ، وحينئذ هو ضارب في الأرض ، وهو قول مالك في المدونة وابن حبيب وجماعة المذهب ، قال ابن القاسم في المدونة : ولم يحد لنا مالك في القرب حدا ، وروي عن مالك إذا كانت قرية يجمع أهلها فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة أميال ؛ وإلى ذلك في الرجوع ، وإن كانت لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بساتينها ، وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله ، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى ، وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل ، وهو شاذ ، وقد ثبت أن النبي عليه‌السلام صلى الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، وليس بينهما ثلث يوم ، ويظهر من قوله تعالى (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) أن القصر مباح أو مخير فيه ، وقد روى ابن وهب عن مالك : أن المسافر مخير ، وقاله الأبهري ، وعليه حذاق المذهب ، وقال مالك في المبسوط : القصر سنة. وهذا هو جمهور المذهب ، وعليه جواب المدونة بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره ، وقال محمد بن سحنون وإسماعيل القاضي : القصر فرض ، وبه قال حماد بن أبي سليمان ، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين ، وحكى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب : أنه قال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ، وقد خاب من افترى ، ويؤيد هذا قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر ، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى : (أَنْ تَقْصُرُوا) فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنين من أربع ، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إنّا نضرب


في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثم انقطع الكلام ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي عليه‌السلام ، فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، فهلا شددتم عليهم ، فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها ، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخر صلاة الخوف ، وذكر الطبري في سرد هذه المقالة حديث يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب ، إن الله تعالى يقول (إِنْ خِفْتُمْ) وقد أمن الناس ، فقال عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله عن ذلك فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» ، قال الطبري : وهذا كله قول حسن ، إلا أن قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ) تؤذن بانقطاع ما بعدها مما قبلها ، فليس يترتب من لفظ الآية ، إلا أن القصر مشروط بالخوف ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا» ـ بسقوط (إِنْ خِفْتُمْ) وثبتت في مصحف عثمان رضي الله عنه ، وذهبت جماعة أخرى إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة القصر في السفر للخائف من العدو ، فمن كان آمنا فلا قصر له ، وروي عن عائشة أنها كانت تقول في السفر : أتموا صلاتكم ، فقالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقصر ، فقالت : إنه كان في حرب وكان يخاف ، وهل أنتم تخافون؟ وقال عطاء : كان يتم الصلاة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص ، وأتم عثمان بن عفان ، ولكن علل ذلك بعلل غير هذه ، وكذلك علل إتمام عائشة أيضا بغير هذا وقال آخرون : القصر المباح في هذه الآية إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة ، والركعتان في السفر إنما هي تمام ، وقصرها أن تصير ركعة ، قال السدي : إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن يخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا ، ويكون للإمام ركعتان ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : ركعتان في السفر تمام غير قصر ، إنما القصر في صلاة المخافة يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة ، فتكون للإمام ركعتان ولهم ركعة ، ركعة ، وقال نحو هذا سعيد بن جبير وجابر بن عبد الله وكعب من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاصي ذلك ، وروى ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة بكل طائفة ولم يقضوا ، وقال مجاهد عن ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، وروى جابر بن عبد الله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم حارب خصفة وبني ثعلبة ، وروى أبو هريرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان ، وقال آخرون : هذه الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى تكبيرتين إلى تكبيرة على ما تقدم من أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) [البقرة : ٢٣٩] ورجح الطبري هذا القول ، وقال : إنه يعادله قوله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي بحدودها وهيئتها الكاملة ، وقرأ الجمهور «تقصروا» بفتح التاء وضم الصاد ، وروى الضبي عن أصحابه «تقصروا» بضم التاء وكسر الصاد وسكون القاف وقرأ الزهري «تقصّروا» بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد وشدها. و (يَفْتِنَكُمُ) معناه : يمتحنكم بالحمل عليكم وإشغال نفوسكم في صلاتكم ، ونحو


هذا قول صاحب الحائط : لقد أصابتني في مالي هذا فتنة ، وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد ، وإلى هذا المعنى ترجع كيف تصرفت ، وعدو وصف يجري على الواحد والجماعة ، و «مبين» مفعل من أبان ، المعنى : قد جلحوا في عدواتكم وراموكم كل مرام.

وقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) الآية قال جمهور الأمة : الآية خطاب للنبي عليه‌السلام ، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة ، وقال أبو يوسف وإسماعيل بن علية : الآية خصوص للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الصلاة بإمامة النبي عليه‌السلام لا عوض منها ، وغيره من الأمراء منه العوض ، فيصلي الناس بإمامين ، طائفة بعد طائفة ، ولا يحتاج إلى غير ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وكذلك جمهور العلماء على أن صلاة الخوف تصلى في الحضر إذا نزل الخوف ، وقال قوم : لا صلاة خوف في حضر ، وقاله في المذهب عبد الملك بن الماجشون ، وقال الطبري : (فَأَقَمْتَ لَهُمُ) معناه : حدودها وهيئتها ، ولم تقصر على ما أبيح قبل في حال المسايفة ، وقوله (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) ، أمر بالانقسام ، أي وسائرهم وجاه العدو حذرا وتوقع حملته ، وأعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع ، وهي غزوة محارب وخصفة ، وفي بعض الروايات : أنها نزلت في ناحية عسفان وضجنان ، والعدو : خيل قريش ، عليها خالد بن الوليد ، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة هنا؟ فقيل الطائفة المصلية ، وقيل : بل الحارسة.

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يتناول الكل ، ولكن سلاح المصلين ما خف ، واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبي عليه‌السلام بأصحابه صلاة الخوف ، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء ، فروى يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أنه صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائما وأتموا ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وروى القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل هذا الحديث بعينه ، إلا أنه روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صلّى بالطائفة الأخيرة ركعة ، سلم ، ثم قضت هي بعد سلامه ، وبهذا الحديث أخذ مالك رحمه‌الله في صلاة الخوف ، كان أولا يميل إلى رواية يزيد بن رومان ، ثم رجع إلى رواية القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وروى مجاهد وغيره عن ابن عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت على خلاف فيه : أن النبي عليه‌السلام صلّى صلاة الخوف بعسفان والعدو في قبلته ، قال : فصلى بنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر ، فقال المشركون : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، فقالوا : تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، قال : فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات ، وأخبره خبرهم ، ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر فكبروا جميعا ، ثم ركع فركعنا جميعا ، ثم رفع فرفعنا جميعا ، ثم سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي فسجد الصف الذي يليه ، فلما رفع سجد الآخرون ، ثم سلم فسلموا جميعا ، ثم


انصرفوا ، قال عبد الرزاق بن همام في مصنفه : وروى الثوري عن هشام مثل هذا ، إلا أنه قال : ينكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الآخرون فيسجدون في مصاف الأولين ، قال عبد الرزاق عن معمر عن خلاد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال : لم يصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف إلا مرتين ، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة.

قال القاضي أبو محمد : وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتضي أنه صلى صلاة الخوففي غير هذين الموطنين ، وذكر ابن عباس أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة خوف ، وروى عبد الله بن عمر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك فصلى بهم النبي عليه‌السلام ركعة ، ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد ، وبهذه الصفة في صلاة الخوف أخذ أشهب رحمه‌الله ، ومشى على الأصل في أن لا يقضي أحد قبل زوال حكم الإمام ، فكذلك لا يبني ، ذكر هذا عن أشهب جماعة منهم ابن عبد البر وابن يونس وغيرهما ، وحكى اللخمي عنه : أن مذهبه أن يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا منه صاروا تجاه العدو ، وقضت الأخرى. وهذه سنة رويت عن ابن مسعود ، ورجح ابن عبد البر القول بما روي عن ابن عمر ، وروي أن سهل بن أبي حثمة قد روي عنه مثل ما روي عن ابن عمر سواء ، وروى حذيفة حين حكى صلاة النبي عليه‌السلام في الخوف : أنه صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئا زائدا على ركعة ، وذكر ابن عبد البر وغيره عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ، فكانت لرسول الله أربع ، ولكل رجل ركعتان ، وبهذه كان يفتي الحسن بن أبي الحسن ، وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة ، وقال أصحاب الرأي : إذا كانت صلاة المغرب افتتح الإمام الصلاة ومعه طائفة ، وطائفة بإزاء العدو ، فيصلي بالتي معه ركعتين ، ثم يصيرون إلى إزاء العدو ، وتأتي الأخرى فيدخلون مع الإمام ، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وحده ، ثم يقومون إلى إزاء العدو ، وتأتي الطائفة التي صلت مع الإمام ركعتين إلى مقامهم الأول في الصلاة ، فيقضون ركعة وسجدتين وحدانا ويسلمون ، ثم يجيئون إلى إزاء العدو ، وتنصرف الطائفة الأخرى إلى مقام الصلاة ، فيقضون ركعتين بقراءة وحدانا ويسلمون ، وكملت صلاتهم.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : وهذا طرد قول أصحاب الرأي في سائر الصلوات ، سأل مروان بن الحكم أبا هريرة ، هل صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة : نعم ، قال مروان : متى؟ قال أبو هريرة : عام غزوة نجد : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبر رسول الله وكبروا جميعا الذين معه والذين بإزاء العدو ثم ركع رسول الله وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصارت الطائفة التي كانت معه إلى إزاء العدو وأقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ركعة أخرى وركعوا معه وسجد فسجدوا


معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قاعد ثم كان السلام فسلم رسول الله وسلموا جميعا. وأسند أبو داود في مصنفه عن عائشة رضي الله عنها صفة في صلاة النبي صلاة الخوف تقرب مما روي عن أبي هريرة وتخالفها في أشياء إلا أنها صفة صلاة الخوف من لدن قول أبي يوسف وابن علية أحد عشر قولا منع صلاة الخوف لكونها خاصة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعشر صفات على القول الشهير فإنها باقية للأمراء.

قوله تعالى :

(فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (١٠٢)

الضمير في (سَجَدُوا) للطائفة المصلية والمعنى : فإذا سجدوا معك الركعة الأولى فلينصرفوا ، هذا على بعض الهيئات المروية والمعنى : فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة ، والضمير في قوله : (فَلْيَكُونُوا) يحتمل أن يكون للذين سجدوا ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «فلتقم» بكسر اللام ، وقرأ الجمهور (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ) بالتاء ، وقرأ أبو حيوة «وليأت» بالياء ، وقوله تعالى : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة ، لئلا ينال العدو أمله. وأسلحة جمع سلاح ، وفي قوله تعالى : (مَيْلَةً واحِدَةً) بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الآية ترخيص ، قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب ، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين ، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت ، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين بقوله (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

قوله تعالى :

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٠٤)

ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف ، على حد ما أمروا عند


قضاء المناسك بذكر الله ، فهو ذكر باللسان ، وذهب قوم إلى أن (قَضَيْتُمُ) بمعنى فعلتم ، أي إذا تلبستم بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات : المرض ، وغيره ، وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال : يصلي قاعدا فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن ، فإن لم يطق فعلى الأيسر ، فإن لم يطق فعلى الظهر ، ومذهب مالك في المدونة التخيير ، لأنه قال : فعلى جنبه أو على ظهره ، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال : يبتدىء بالظهر ثم بالجنب ، قال ابن حبيب : وهو وهم ، قال اللخمي : وليس بوهم ، بل هو أحكم في استقبال القبلة ، وقال سحنون : يصلي على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره ، فإن لم يقدر فعلى ظهره ، و «الطمأنينة» في الآية : سكون النفس من الخوف ، وقال بعض المتأولين : المعنى : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعا ، وقوله تعالى : (كِتاباً مَوْقُوتاً) معناه : منجما في أوقات ، هذا ظاهر اللفظ ، وروي عن ابن عباس : أن المعنى فرضا مفروضا ، فهما لفظان بمعنى واحد كرر مبالغة.

وقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) يبين أن القضاء المشار إليه قبل ، إنما هو قضاء صلاة الخوف ، و (تَهِنُوا) معناه تلينوا وتضعفوا ، حبل واهن أي ضعيف ، ومنه : (وَهَنَ الْعَظْمُ) [مريم : ٤] ، و (ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) : طلبهم ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الألف ، وقرأ يحيى بن وثاب ومنصور بن المعتمر «تيلمون» في الثلاثة وهي لغة ، وهذا تشجيع لنفوس المؤمنين ، وتحقير لأمر الكفرة ، ومن نحو هذا المعنى قول الشاعر [الشداخ بن يعمر الكناني] : [المنسرح]

القوم أمثالكم لهم شعر

في الرّأس لا ينشرون إن قتلوا

ثم تأكد التشجيع بقوله تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) وهذا برهان بيّن ، ينبغي بحسبه أن تقوى نفوس المؤمنين ، وباقي الآية بيّن.

قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً(١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) (١٠٧)

في هذه الآية تشريف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفويض إليه ، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم ، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة ، وقوله تعالى : (بِما أَراكَ اللهُ) معناه : على قوانين الشرع ، إما بوحي ونص ، أو بنظر جار على سنن الوحي ، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ، وقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ، وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق ، وكانوا إخوة ، بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينحل الشعر غيره ، فكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث ، فقال شعرا يتصل فيه ، فمنه قوله :

أفكلما قال الرجال قصيدة

نحلت وقالوا : ابن الأبيرق قالها


قال قتادة بن النعمان : وكان بنو أبيرق أهل فاقة ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من دومك الشام فجعله في مشربة له ، وفي المشربة درعان له وسيفان ، فعدي على المشربة من الميل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا بن أخي ، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا ، فقال : فتحسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم ، قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : «ونحن نسأل» والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ، رجل منا له صلاح وإسلام ، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فو الله ما أنت بصاحبنا فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي : يا بن أخي لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بهذه القصة ، فأتيته عليه‌السلام فقصصتها عليه ، فقال : انظر في ذلك ، فلما سمع بذلك بنو أبيرق ، أتوا رجلا منهم يقال له : أسير بن عروة فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمته ، قال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة ، قال: فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه ، فأتيت عمي فقال : ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الآيات. فالخائنون بنو أبيرق ، والبريء المرمي لبيد بن سهل ، والطائفة التي همت : أسير وأصحابه.

قال القاضي أبو محمد : وقال قتادة وغير واحد من المتأولين : هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة ، وقال السدي : القصة في طعمة بن أبيرق لكن بأن استودعه يهودي درعا فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل الأنصاري ، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح ، وأبو مليل هو البريء المشار إليه ، وقال عكرمة : سرق طعمة بن أبيرق درعا من مشربة ورمى بسرقتها رجلا من اليهود يقال له : زيد بن السمين.

قال القاضي أبو محمد : وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه ، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق ، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم ، وخلق مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك ، ونبه على مقاله لقتادة بن النعمان بقوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : وطعيمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة ، ونزل على سلافة فرماها حسان بن ثابت بشعر ، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت: اخرج عنا ، أهديت إليّ شعر حسان ، فروي : أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، وروي ؛ أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله ، وروي : أنه اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه.

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين.


قال القاضي أبو محمد : وهذا ليس بذنب ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما دافع عن الظاهر ، وهو يعتقد براءتهم ، والمعنى : استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل ، لا أن تكون ذا جدال عنهم ، فهذا حدك ، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع ، وتستغفر للمذنب.

وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) رفق وإبقاء ، فإن الخوان : هو الذي تتكرر منه الخيانة ، والأثيم : هو الذي يقصدها ، فيخرج من هذا الشديد الساقط مرة واحدة ونحو ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة. واختيان الأنفس : هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة.

قوله تعالى :

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١١٠)

الضمير في (يَسْتَخْفُونَ) للصنف المرتكب للمعاصي مستسرين بذلك عن الناس مباهتين لهم ، واندرج في طي هذا العموم ، ودخل تحت هذه الأنحاء أهل الخيانة في النازلة المذكورة ، وأهل التعصب لهم والتدبير في خدع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتلبس عليه ، ويحتمل أن يكون الضمير لأهل هذه النازلة ، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من فعل نحو فعلهم ، ومعنى (وَهُوَ مَعَهُمْ) بالإحاطة والعلم والقدرة ، و (يُبَيِّتُونَ) يدبرون ليلا ، انطلقت العبارة على كل استسرار بهذا ، إذ الليل مظنة الاستتار والاختفاء ، قال الطبري : وزعم بعض الطائيين : أن التبييت في لغتهم التبديل ، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين الطائي : المتقارب]

وبيّت قولي عند الملي

ك قاتلك الله عبدا كنودا

وقال أبو زيد (يُبَيِّتُونَ) معناه : يؤلفون ، ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت ، أي : يستسرون في تدبيرهم بالجدرات.

وقوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) قد تقدمت وجوه القراءات فيه في سورة آل عمران ، والخطاب بهذه الآية للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج طي هذا العموم أهل النازلة ، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل التعصب في هذه النازلة وهو الأظهر عندي بحكم التأكيد ب (هؤُلاءِ) ، وهي إشارة إلى حاضرين ، وقد تقدم إعراب مثل هذه الآية في سورة آل عمران ، «والمجادلة» : المدافعة بالقول وهي من فتل الكلام وليه ، إذ الجدل الفتل ، وقوله تعالى : (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وعيد محض ، أي إن


الله يعلم حقيقة الأمر فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره ، كما فعلتم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هو بشر يقضي على نحو ما يسمع.

ولما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل يقوم بأمور العصاة عنده ، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم ، والمهل المنفسح بقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) الآية. منحى من عمل السوء ، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة ، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله تعالى : (يَجِدِ اللهَ) استعارة ، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين ، كانوا كالواجدين لمطلوب ، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب من الله ، وقال عبد الله بن مسعود يوما في مجلسه : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتبت كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئا من ثيابه قرضه بالمقراضين ، فقال رجل من القوم : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا ، فقال عبد الله : ما آتاكم الله خير مما آتاهم ، جعل لكم الماء طهورا ، وقال (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية وهذه آية وعد بشرط المشيئة على ما تقتضيه عقيدة أهل السنة ، وفضل الله مرجو وهو المستعان.

قوله تعالى :

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣)

تقدم القول في معنى «الكسب» ، «والإثم» الحكم اللاحق عن المعصية ، ونسبة المرء إلى العقوبة فيها ، وقوله : (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) أي إياها يردي وبها يحل المكروه.

وقوله تعالى : (خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) ذهب بعض الناس إلى أنهما لفظان بمعنى كرر لاختلاف اللفظ ، وقال الطبري : إنما فرق بين «الخطيئة والإثم» أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد ، وهذه الآية لفظها عام ، ويندرج تحت ذلك العموم وتوبيخه أهل النازلة المذكورة ، «وبريء» النازلة قيل : هو لبيد بن سهل ، وقيل : هو زيد بن السمين اليهودي ، وقيل : أبو مليل الأنصاري ، وقوله تعالى : (فَقَدِ احْتَمَلَ) تشبيه ، إذ الذنوب ثقل ووزر ، فهي كالمحمولات ، و (بُهْتاناً) معناه : كذبا على البريء ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قلت في أخيك ما فيه مما يكره سماعه فقد اغتبته ، فإن قلت ما ليس فيه فقد بهته ، فرمي البريء بهت له ونفس الخطيئة والإثم إثم مبين ، ومعصية هذا الرامي معصيتان.


ثم وقف الله تعالى نبيه على مقدار عصمته له ، وأنها بفضل من الله ورحمة وقوله تعالى : (لَهَمَّتْ) معناه : لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه ، وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة ، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت ، وإنما المعنى : ولو لا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ، ويجعله هم نفسه أي كما فعل هؤلاء ، لكن العصمة تبطل كيد الجميع ، فيبقى الضلال في حيزهم ، ثم ضمن وعد الله تعالى له أنهم «لا يضرونه شيئا» ، وقرر عليه نعمه لديه ، من إنزال (الْكِتابَ) المتلو ، (وَالْحِكْمَةَ) التي بعضها خوطب به وبعضها جعلت له سجية ملكها ، وقريحة يعمل عنها ، وينظر بين الناس بها ، لا ينطق عن الهوى ، وبهذين علمه ما لم يكن يعلم ، وباقي الآية بيّن.

قوله تعالى :

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١١٦)

الضمير في (نَجْواهُمْ) عائد على الناس أجمع ، وجاءت هذه الآيات عامة التناول ، وفي عمومها يندرج أصحاب النازلة ، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة ، والنجوى : المسارّة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا ، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه ، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل ، كأنه قال : لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من ، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه ، كأنه قال : لا خير في كثير من تناجيهم ، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف ، كأنه قال : إلا نجوى من ، قال بعض المفسرين : النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سرا أو جهرا.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : انفراد الجماعة من الاستسرار ، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه ، و «المعروف» : لفظ يعم الصدقة والإصلاح ، ولكن خصّا بالذكر اهتماما بهما ، إذ هما عظيما الغناء في مصالح العباد ، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم» على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى. و (ابْتِغاءَ) نصب على المصدر ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) بالنون وقرأ أبو عمرو وحمزة «يؤتيه» بالياء والقراءتان حسنتان.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) الآية ، لفظ عام نزل بسبب طعمة بن أبيرق ، لأنه ارتد وسار إلى مكة ، فاندرج الإنحاء عليه في طي هذا العموم المتناول لمن اتصف بهذه الصفات إلى يوم القيامة ، وقوله (ما تَوَلَّى) وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره في تولي الطاغوت ، وقرأ ابن أبي عبلة «يوله» و «يصله» بالياء فيهما.


ثم أوجب تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به ، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية وما يتصل بها من المعتقد والبعد في صفة الضلال ، مقتض بعد الرجوع إلى المحجة البيضاء وتعذره وإن بقي غير مستحيل.

قوله تعالى :

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (١١٨)

الضمير في (يَدْعُونَ) عائد على من تقدم ذكره من الكفرة في قوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) [النساء : ١١٥](إِنْ) نافية بمعنى «ما» ويدعون عبارة مغنية موجزة في معنيي : يعبدون ويتخذون آلهة ، وقرأ أبو رجاء العطاردي «إن تدعون» بالتاء من فوق ، ورويت عن عاصم ، واختلف في معنى «الإناث» ، فقال أبو مالك والسدي وغيرهما : ذلك لأن العرب كانت تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة ، فاللات والعزى ومناة ونائلة.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : ويرد على هذا أنها كانت تسمي بأسماء مذكرة كثيرة ، وقال الضحاك وغيره : المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها ، فقيل لهم هذا على جهة إقامة الحجة من فاسد قولهم ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة : المراد : الخشب والحجارة وهي مؤنثات لا تعقل ، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء فيجيء قوله : (إِلَّا إِناثاً) عبارة عن الجمادات ، وقيل : إنما هذا لأن العرب كانت تسمي الصنم أنثى فتقول : أنثى بني فلان.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : وهذا على اختلافه يقضي بتعييرهم بالتأنيث وأن التأنيث نقص وخساسة بالإضافة إلى التذكير ، وقيل معنى (إِناثاً) أوثانا ، وفي مصحف عائشة «إن يدعون من دونه إلا أوثانا» وقرأ ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح «إلا أنثا» يريد وثنا ، فأبدل الهمزة واوا ، وهو جمع جمع على ما حكى بعض الناس ، كأنه جمع وثنا على وثان ، كجمل وجمال ، ثم جمع وثانا على وثن كرهان ورهن وكمثال ومثل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ ، لأن فعالا في جمع فعل إنما هو للتكثير والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع وإنما تجمع جموع التقليل ، والصواب أن تقول وثن جمع وثن دون واسطة ، كأسد وأسد ، قال أبو عمرو : وبهذا قرأ ابن عمر وسعيد بن المسيب ومسلم بن جندب وعطاء ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلا وثنا» بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس ، وقرأ ابن عباس أيضا «وثنا» بضم الواو والثاء ، وقرأت فرقة «إلا وثنا» ، وقرأت فرقة «إلا أثنا» بسكون الثاء ، وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إلا أنثا» بتقديم النون وهو جمع أنيث كغدير وغدر ونحو ذلك ، وحكى الطبري : أنه جمع إناث كثمار وثمر ، وحكى هذه القراءة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو عمرو الداني ، قال : وقرأ بها ابن عباس وأبو حيوة والحسن ، واختلف في المعنى ب «الشيطان» ، فقالت فرقة : هو الشيطان المقترن بكل صنم ، فكأنه موحد باللفظ جمع بالمعنى ، لأن الواحد يدل على الجنس ، وقال الجمهور : المراد إبليس وهذا هو الصواب ، لأن سائر المقالة به تليق ،


و (مَرِيداً) معناه عاتيا صليبا في غوايته ، وهو فعيل من مرد : إذا عتا وغلا في انحرافه وتجرد للشر والغواية.

وأصل اللعن : الإبعاد ، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب ، ويحتمل أن يكون (لَعَنَهُ) صفة الشيطان ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه ، والمعنى يتقارب على الوجهين ، وقوله تعالى : (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَ) الآية ، التقدير : وقال الشيطان ، والمعنى ، لأستخلصنهم لغوايتي : ولأخصنهم بإضلالي وهم الكفرة والعصاة ، والمفروض معناه في هذا الموضع المنحاز ، وهو مأخوذ من الفرض وهو الحز في العود وغيره ، ويحتمل أن يريد واجبا أن أتخذه ، وبعث النار هو نصيب إبليس.

قوله تعالى :

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢)

قوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) معناه أصرفهم عن طريق الهدى ، (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) لأسولن لهم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه‌الله : وهذا لا ينحصر إلى نوع واحد من الأمنية ، لأن كل واحد في نفسه إنما تمنيه بقدر نصبته وقرائن حاله ، ومنه قوله عليه‌السلام : «إن الشيطان يقول لمن يركب ولا يذكر الله : تغن ، فإن لم يحسن قال له تمن» ، واللامات كلها للقسم ، «والبتك» : القطع. وكثر الفعل إذ القطع كثير على أنحاء مختلفة ، وإنما كنى عزوجل عن البحيرة والسائبة ونحوه مما كانوا يثبتون فيه حكما ، بسبب آلهتهم وبغير ذلك ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بغير ألف ، وقرأ أبيّ «وأضلهم وأمنيهم وأمرهم» واختلف في معنى «تغيير خلق الله» ، فقال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم : أراد : يغيرون دين الله ، وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] أي لدين الله ، والتبديل يقع موضعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه ، وقالت فرقة : «تغيير خلق الله» هو أن الله تعالى خلق الشمس والنار والحجارة وغيرها من المخلوقات ليعتبر بها وينتفع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة ، وقال ابن عباس أيضا وأنس وعكرمة وأبو صالح : من تغيير خلق الله الإخصاء ، والآية إشارة إلى إخصاء البهائم وما شاكله ، فهي عندهم أشياء ممنوعة ، ورخص في إخصاء البهائم جماعة إذا قصدت به المنفعة ، إما السمن أو غيره ، ورخصها عمر بن عبد العزيز في الخيل ، وقال ابن مسعود والحسن : هي إشارة إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن ، فمن ذلك الحديث : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الواشمات والموشومات والمتنمصات والمتفلجات


المغيرات خلق الله». ومنه قوله عليه‌السلام ، «لعن الله الواصلة والمستوصلة» ، وملاك تفسير هذه الآية : أن كل تغيير ضار فهو في الآية ، وكل تغيير نافع فهو مباح ، ولما ذكر الله تعالى عتو الشيطان وما توعد به من بث مكره ، حذره تبارك وتعالى عباده ، بأن شرط لمن يتخذه وليا جزاء الخسران ، وتصور الخسران إنما هو بأن أخذ هذا المتخذ حظ الشيطان ، فكأنه أعطى حظ الله تبارك وتعالى فيه وتركه من أجله.

وقوله تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) : يعدهم بأباطيله من المال والجاه ، وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك لكل أحد ما يليق بحاله. ويمنيهم كذلك ، ثم ابتدأ تعالى الخبر عن حقيقة ذلك بقوله : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

ثم أخبر تعالى بمصير المتخذين الشيطان وليا وتوعدهم بأن (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ، ولا يدافعونها بحيلة ، ولا يعدلون عنها. ولا ينحرفون ولا يتروغون ، و «المحيص» مفعول من حاص إذا راغ ونفر ، ومنه قول الشاعر [جعفر بن علبة الحارثي] : [الطويل]

ولم أدر إن حصنا من الموت حيصة

كم العمر باق والمدى متطاول

ومنه الحديث ، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، يقال حاص الرجل من كذا ، وجاض بالجيم والضاد المنقوطة إذا راغ بنفور ، ولغة القرآن الحاء والصاد غير منقوطة.

ولما أخبر تعالى عن الكفار الذين يتخذون الشيطان وليا ، وأعلم بغرور وعد الشيطان لهم ، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى جهنم ، فاقتضى ذلك كله التحذير ، أعقب ذلك ـ عزوجل ـ بالترغيب في ذكره حالة المؤمنين ، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى النعيم المقيم ، وأعلم بصحة وعده تعالى لهم ، ثم قرر ذلك بالتوقيف عليه في قوله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) والقيل والقول واحد ، ونصبه على التمييز ، وقرأت فرقة «سندخلهم» بالنون وقرأت فرقة «سيدخلهم» بالياء ، و (وَعْدَ اللهِ) نصب على المصدر. و (حَقًّا) مصدر أيضا مؤكد لما قبله.

قوله تعالى :

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥)

اسم (لَيْسَ) مضمر ، و «الأماني» : جمع أمنوية ، وزنها أفعولة ، وهي : ما يتمناه المرء ويطيع نفسه فيه ، وتجمع على أفاعيل ، فتجتمع ياءان فلذلك تدغم إحداهما في الأخرى فتجيء مشددة وهي قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحكم والأعرج ، «ليس بأمانيكم» ساكنة الياء ، وكذلك في الثانية ، قال الفراء : هذا جمع على أفاعل ، كما يقال قراقير وقراقر إلى


غير ذلك. واختلف الناس فيمن المخاطب بهذه الآية؟ فقال ابن عباس والضحاك وأبو صالح ومسروق وقتادة والسدي وغيرهم : الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعضهم : وسبب الآية أن المؤمنين اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : ديننا أقدم من دينكم وأفضل ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن أفضل منكم ، وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم النبيين ، أو نحو هذا من المحاورة ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد وابن زيد : بل الخطاب لكفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : لن نبعث ولا نعذب ، وإنما هي حياتنا الدنيا لنا فيها النعيم ثم لا عذاب ، وقالت اليهود (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: ١٨] ، إلى نحو هذا من الأقوال ، كقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة: ١١١] ، وغيره ، فرد الله تعالى على الفريقين بقوله (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) ثم ابتدأ الخبر الصادق من قبله بقوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) وجاء هذا اللفظ عاما في كل سوء فاندرج تحت عمومه الفريقان المذكوران ، واختلف المتأولون في تعميم لفظ هذا الخبر ، فقال الحسن بن أبي الحسن : هذه الآية في الكافر ، وقرأ وهل يجازى إلا الكفور [سبأ : ١٧] قال : والآية يعني بها الكفار ، ولا يعني بها أهل الصلاة ، وقال : والله ما جازى الله أحدا بالخير والشر إلا عذبه ، ولكنه يغفر ذنوب المؤمنين ، وقال ابن زيد : في قوله تعالى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك يعني المشركين ، وقال الضحاك (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) يعني بذلك اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : فهذا تخصيص للفظ الآية ، ورأى هؤلاء أن الكافر يجزى على كل سوء يعمله وأن المؤمن قد وعده الله تكفير سيئاته ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) معناه ، من يك مشركا والسوء هنا الشرك فهو تخصيص لعموم اللفظ من جهة أخرى ، لأن أولئك خصصوا لفظ (مَنْ) ، وهذان خصصا لفظ السوء ، وقال جمهور الناس : لفظ الآية عام ، والكافر والمؤمن مجازى بالسوء يعمله ، فأما مجازاة الكافر فالنار ، لأن كفره أوبقه ، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لما نزلت (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قلت يا رسول الله ما أشد هذه الآية ، فقال : يا أبا بكر أما تحزن أما تمرض أما تصيبك اللأواء؟. فهذا بذلك ، وقال عطاء بن أبي رباح : لما نزلت هذه الآية ، قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما هي المصيبات في الدنيا ، وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها ، وقال أبيّ بن كعب ، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها ، فقال له أبيّ : ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى ، ما يصيب الرجل خدش ولا غيره إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : فالعقيدة في هذا : أن الكافر مجازى والمؤمن يجازى في الدنيا غالبا ، فمن بقي له سوء إلى الآخرة فهو في المشيئة ، يغفر الله لمن يشاء ، ويجازي من يشاء ، وقرأ الجمهور «ولا يجد» بالجزم عطفا على (يُجْزَ) ، وروى ابن بكار عن ابن عامر : «ولا يجد» بالرفع على القطع ، وقوله (مِنْ دُونِ) لفظة تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة ، ويفسرها بعض المفسرين بغير ، وهو تفسير لا يطرد.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) دخلت (مَنْ) للتبعيض إذ ، (الصَّالِحاتِ) على


الكمال مما لا يطيقه البشر ، ففي هذا رفق بالعباد ، لكن في هذا البعض الفرائض وما أمكن من المندوب إليه ، ثم قيد الأمر بالإيمان إذ لا ينفع عمل دونه ، وحكى الطبري عن قوم : أن (مَنْ) زائدة ، وضعفه كما هو ضعيف ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «يدخلون الجنة» بفتح الياء وضم الخاء ، وكذلك حيث جاء من القرآن ، وروي مثل هذا عن عاصم ، وقرأ أبو عمرو في هذه الآية وفي مريم والملائكة وفي المؤمن «يدخلون» بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ بفتح الياء من (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] و «النقير» النكتة التي في ظهر نواة التمرة ومنه تنبت ، وروي عن عاصم «النقير» ما تنقره بأصبعك ، وهذا كله مثال للحقير اليسير.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : فهنا كمل الرد على أهل الأماني والإخبار بحقيقة الأمر.

ثم أخبر تعالى إخبارا موقفا على أنه لا أحسن دينا ممن (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي أخلص مقصده وتوجهه. وأحسن في أعماله ، واتبع الحنيفية التي هي (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، إمام العالم وقدوة أهل الأديان ، ثم لما ذكر الله تعالى إبراهيم بأنه الذي يجب اتباعه ، شرفه بذكر الخلة ، وإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم سماه الله خليلا ، إذ كان خلوصه وعبادته واجتهاده على الغاية التي يجري إليها المحب المبالغ ، وكان لطف الله به ورحمته ونصرته له بحسب ذلك ، وذهب قوم إلى أن إبراهيم سمي خليلا من الخلة بفتح الخاء ، أي لأنه أنزل خلته وفاقته بالله تعالى ، وقال قوم : سمي خليلا لأنه فيما روي في الحديث جاء من عند خليل كان له بمصر وقد حرمه الميرة التي قصد لها ، فلما قرب من منزله ملأ غرارتيه رملا ليتأنس بذلك صبيته ، فلما دخل منزله نام كلالا وهما ، فقامت امرأته وفتحت الغرارة ، فوجدت أحسن ما يكون من الحواري ، فعجنت منه ، فلما انتبه قال : ما هذا؟ قالت من الدقيق الذي سقت من عند خليلك المصري فقال : بل هو من عند خليلي الله تعالى ، فسمي بذلك خليلا.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله ـ : وفي هذا ضعف ، ولا تقتضي هذه القصة أن يسمى بذلك اسما غالبا ، وإنما هو شيء شرفه الله به كما شرف محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد صح في كتاب مسلم وغيره : أن الله اتخذه خليلا.

قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧)

ذكر ـ عزوجل ـ سعة ملكه وإحاطته بكل شيء عقب ذكر الدين وتبيين الجادة منه ، ترغيبا في طاعة الله والانقطاع إليه.

وقوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ) الآية ، نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن


في المواريث وغير ذلك ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه. وقوله تعالى (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يحتمل (ما) أن تكون في موضع خفض عطفا على الضمير في قوله (فِيهِنَ) ، أي : «ويفتيكم فيما يتلى عليكم» ، قاله محمد بن أبي موسى ، وقال : أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يسألوا عنه ، ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض ، ويحتمل أن تكون (ما) في موضع رفع عطفا على اسم الله عزوجل ، أي و «يفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب» ، يعني القرآن ، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآيات في أمر النساء ، وهو قوله تعالى في صدر السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣]. قالت عائشة : نزلت هذه الآية أولا ، ثم سأل ناس بعدها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر النساء فنزلت : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وقوله تعالى (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) معناه : النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية بدون ما تستحقه من المهر ، ومن عضل الدميمة الفقيرة أبدا ، والدميمة الغنية حتى تموت فيرثها العاضل ، ونحو هذا مما يقصد به الولي منفعة نفسه لا نفع اليتيمة ، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر ، وإلحاقها بأقرانها ، وقرأ أبو عبد الله المدني ـ «في ييامى النساء» بياءين ، قال أبو الفتح : والقول في هذه القراءة أنه أراد أيامى فقلبت الهمزة ياء ، كما قلبت في قولهم : باهلة بن يعصر ، وإنما هو ابن أعصر لأنه إنما يسمى بقوله : [الكامل].

أبنيّ إن أباك غيّر لونه

كرّ الليالي واختلاف الأعصر

وكما قلبت الياء همزة في قولهم : قطع الله أده ، يريدون يده ، وأيامى : جمع أيم أصله : أيايم ، قلبت اللام موضع العين ، فجاء أيامى ، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : يشبه أن الداعي إلى هذا استثقال الضمة على الياء ، قال أبو الفتح : ولو قال قائل كسر أيم على أيمى على وزن سكرى وقتلى من حيث الأيومة بلية تدخل كرها ، ثم كسر أيمى على أيامى لكان وجها حسنا ، وقوله تعالى (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) إن كانت الجارية غنية جميلة فالرغبة في نكاحها ، وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى ، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل : هي غنية جميلة ، قال له : أطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع ، وإذا قيل له : هي دميمة فقيرة ، قال له : أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك ، وقوله تعالى (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) عطف على (يَتامَى النِّساءِ) ، والذي تلي في (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) هو قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] ، وذلك : أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير ، وكان الكبير ينفرد بالمال ، وكانوا يقولون : إنما يرث المال من يحمي الحوزة ، ويرد الغنيمة ، ويقاتل عن الحريم ، ففرض الله لكل أحد حقه ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) عطف أيضا على ما تقدم ، والذي تلي في هذا المعنى هو قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم ، والقسط العدل ، وباقي الآية وعد على فعل الخير بالجزاء الجميل ، بيّن.


قوله تعالى :

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٢٩)

هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة ، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها ، فيذهب الزوج إلى طلاقها ، أو إلى إيثار شابة عليها ، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضررا يلزمه إياها ، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة ، فتزيد هي بقاء العصمة ، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح ، ورفع الجناح فيه ، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه ، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض ، وهو مع وقوعها مباح أيضا ، و «النشوز» : الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة ، و «الإعراض» : أخف من النشوز ، وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي ، أو تعطي هي على أن لا يؤثر الزوج ، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة ، أو يقع الصلح على الصبر على الاثرة ، فهذا كله مباح ، واختلف المفسرون في سبب الآية ، فقال ابن عباس وجماعة معه : نزلت في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وسودة بنت زمعة ، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل فنزلت (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) الآية ، وفي المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول ، وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم : نزلت الآية بسبب رافع بن خديج وخولة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة ، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا ، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى ، فلما بقي من العدة يسير قال لها : إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة ، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك ، قالت : بل راجعني وأصبر ، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر ، فقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقري على ما ترين من الإثرة ، وإلا طلقتك ، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) الآية ، وقال مجاهد : نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصّالحا» بفتح الياء وشد الصاد وألف بعدها ، وأصلها يتصالحا ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «يصلحا» بضم الياء وسكون الصاد دون ألف ، وقرأ عبيدة السلماني «يصالحا» بضم الياء من المفاعلة ، وقرأ الجحدري وعثمان البتي «يصلحا» بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا ، قال أبو الفتح : أبدل الطاء صادا ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا» ، وقرأ الأعمش «إن اصالحا» ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود ، وقوله (صُلْحاً) ليس الصلح مصدرا على واحد من هذه الأفعال التي قرىء بها ، فالذي يحتمل أن يكون اسما كالعطاء مع أعطيت والكرامة مع أكرمت ، فمن قرأ «يصلحا» كان تعديه إلى الصلح كتعديه إلى الأسماء ، كما تقول : أصلحت ثوبا ، ومن قرأ


«يصالحا» من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا يتعدى ، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعديا في نحو قول ذي الرمة :

ومن جردة غفل بساط تحاسنت

بها الوشي قرّات الرياح وخورها

ويجوز أن يكون الصلح مصدرا حذفت زوائده ، كما قال : «وإن تهلك فذلك كان قدري» أي تقديري.

قال القاضي أبو محمد رحمه‌الله : هذا كلام أبي علي على أن القدر مصدر جار على ان قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد ، وقوله تعالى (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق ، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة. وقوله تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) معذرة عن عبيده تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير : هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها ، وقال ابن زيد : الشح هنا منه ومنها.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : وهذا حسن ، و (الشُّحَ) : الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك ، فما أفرط منها ففيه بعض المذمة ، وهو الذي قال تعالى فيه (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [الحشر : ٩] وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل ، وهي رذيلة لكنها قد تكون في المؤمن ، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلا؟ قال نعم». وأما (الشُّحَ) ففي كل أحد ، وينبغي أن يكون ، لكن لا يفرط إلا على الدين ، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) وقوله (شُحَّ نَفْسِهِ) فقد أثبت أن لكل نفس شحا ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وهذا لم يرد به واحدا بعينه ، وليس يجمل أن يقال هنا : أن تصدق وأنت صحيح بخيل ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تُحْسِنُوا) ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها. وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن (وَتَتَّقُوا) معناه : تتقوا الله في وصيته بالنساء ، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم».

وقوله تعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) الآية. معناه : العدل التام على الإطلاق المستوي في الأفعال والأقوال والمحبة والجماع وغير ذلك ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول : «اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني ميله بقلبه ، وكان عمر ابن الخطاب يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل. وروي أن هذه الآية نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وميله بقلبه إلى عائشة ، فوصف الله تعالى حالة البشر ، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض ، ونشاطهم إليهن وبشرهم معهن ، ثم نهى عن «الميل كل الميل» ، وهو أن يفعل فعلا يقصده من التفضيل وهو يقدر أن لا يفعله ، فهذا هو (كُلَّ الْمَيْلِ) ، وإن كان في أمر حقير ، فكأن الكلام (فَلا تَمِيلُوا) النوع الذي هو كل الميل وهو المقصود من قول أو فعل ،


وقوله تعالى (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي لا هي أيم ولا ذات زوج ، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما علق منه انحمل ، وهذا مطرد في قولهم في المثل : أرض من المركب بالتعليق ، وفي عرف النحويين في تعليق الفعل ، ومنه في حديث أم زرع قول المرأة : زوجي العشنق ، إن انطلق أطلق ، وإن أسكت أعلق ، وقرأ أبيّ بن كعب «فتذروها كالمسجونة» وقرأ عبد الله بن مسعود «فتذروها كأنها معلقة» ثم قال تعالى (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) أي وإن تلتزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لما لا تملكونه متجاوزا عنه ، وقال الطبري : معنى الآية ، غفورا لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : فعلى هذا فهي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم ، واقعوا المحظور في مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاء في التي قبل (وَإِنْ تُحْسِنُوا) وفي هذه (وَإِنْ تُصْلِحُوا) لأن الأول في مندوب إليه ، وهذه في لازم ، لأن الرجل له هنالك أن لا يحسن وأن يشح ويصالح بما يرضيه ، وفي هذه ليس له أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك.

قوله تعالى :

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (١٣٣)

الضمير في قوله (يَتَفَرَّقا) للزوجين اللذين تقدم ذكرهما ، أي إن شح كل واحد منهما فلم يتصالحا لكنهما تفرقا بطلاق فإن الله تعالى يغني كل واحد منهما عن صاحبه بفضله ولطائف صنعه ، في المال والعشرة ، والسعة وجود المرادات والتمكن منها ، وذهب بعض الفقهاء المالكيين إلى أن التفرق في هذه الآية هو بالقول ، إذ الطلاق قول ، واحتج بهذه على قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» إذ مذهب مالك في الحديث أنه التفرق بالقول لا بالبدن.

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذه الآية ، لأن إخبارها إنما هو من افتراقهما بالأبدان ، وتراخي المدة بزوال العصمة ، و «الإغناء» إنما يقع في ثاني حال ، ولو كانت الفرقة في الآية الطلاق لما كان للمرأة فيها نصيب يوجب ظهور ضميرها في الفعل ، وهذه نبذة من المعارضة في المسألة ، و «الواسع» معناه : الذي عنده خزائن كل شيء.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تنبيه على موضع الرجاء لهذين المفترقين ، ثم جاء بعد ذلك قوله (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تنبيها على استغنائه عن


العباد ، ومقدمة للخبر بكونه غنيا حميدا ، ثم جاء بعد ذلك قوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) مقدمة للوعيد ، فهذه وجوه تكرار هذا الخبر الواحد ثلاث مرات متقاربة. وقوله تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) لفظ عام لكل من أوتي كتابا ، فإن وصية الله تعالى عباده بالتقوى لم تزل منذ أوجدهم ، و «الوكيل» : القائم بالأمور المنفذ فيها ما رآه.

وقوله تعالى : (أَيُّهَا النَّاسُ) مخاطبة للحاضرين من العرب ، وتوقيف للسامعين لتحضر أذهانهم. وقوله (بِآخَرِينَ) يريد من نوعكم ، وروي عن أبي هريرة أنه لما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده على كتف سلمان الفارسي وقال : هم قوم هذا ، وتحتمل ألفاظ الآية أن تكون وعيدا لجميع بني آدم ، ويكون الآخرون من غير نوعهم ، كما قد روي : أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم ، وقدرة الله تعالى على ما ذكر تقضي بها العقول ببدائها ، وقال الطبري هذا الوعيد والتوبيخ هو للقوم الذين شفعوا في طعمة بن أبيرق وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدرع والدقيق.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : وهذا تأويل بعيد واللفظ إنما يظهر حسن رصفه بعمومه وانسحابه على العالم جملة أو العالم الحاضر.

قوله تعالى :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥)

أي : من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم سواه ، فليس هو كما ظن ، بل عند الله تعالى ثواب الدارين ، فمن قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا وأعطاه قصده ، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له وكان له في الآخرة العذاب ، والله تعالى «سميع» للأقوال ، «بصير» بالأعمال والنيات.

ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله (كُونُوا قَوَّامِينَ) الآية ، وهذا بناء مبالغة ، أي ليتكرر منكم القيام. (بِالْقِسْطِ) وهو العدل ، وقوله (شُهَداءَ) نصب على خبر بعد خبر ، والحال فيه ضعيفة في المعنى ، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط ، قوله (لِلَّهِ) المعنى لذات الله ولوجهه ولمرضاته ، وقوله (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلق ب (شُهَداءَ) ، هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس ، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق ، ويحتمل أن يكون قوله (شُهَداءَ لِلَّهِ) معناه بالوحدانية ، ويتعلق قوله (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ب (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) ، والتأويل الأول أبين ، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقائق وقوله الحق في كل أمر ، وقيامه بالقسط عليها كذلك ، ثم ذكر (الْوالِدَيْنِ) لوجوب برهما وعظم قدرهما ، ثم ثنى


ب (الْأَقْرَبِينَ) إذ هم مظنة المودة والتعصب ، فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة ، فلا معنى للتفقه منها في الشهادة لهم كما فعل بعض المفسرين ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) معناه : إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يراعى لغناه ، ولا يخاف منه ، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه فإن الله تعالى أولى بالنوعين وأهل الحالين ، والغني والفقير اسما جنس والمشهود عليه كذلك ، فلذلك ثنى الضمير في قوله (بِهِما) ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «فالله أولى بهم» على الجمع ، وقال الطبري : ثنى الضمير لأن المعنى فالله أولى بهذين المعنيين ، غنى الغني وفقر الفقير ، أي : وهو أنظر فيهما ، وقد حد حدودا وجعل لكل ذي حق حقه ، وقال قوم (أَوِ) بمعنى الواو ، وفي هذا ضعف.

وذكر السدي : أن هذه الآية نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اختصم إليه غني وفقير ، فكان في ضلع الفقير علما منه أن الغني أحرى أن يظلم الفقير ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وارتبط هذا الأمر على ما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأقضي له على نحو ما أسمع» ، أما أنه قد أبيح للحاكم أن يكون في ضلع الضعيف ، بأن يقيد له المقالات ويشد على عضده ، ويقول له : قل حجتك مدلا ، وينبهه تنبيها لا يفت في عضد الآخر ، ولا يكون تعليم خصام ، هكذا هي الرواية عن أشهب وغيره.

وذكر الطبري : أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق ، وقيام من قام في أمره بغير القسط ، وقوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) نهي بيّن ، واتباع الهوى مرد مهلك ، وقوله تعالى : (أَنْ تَعْدِلُوا) يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون العدل هنا بمعنى العدول عن الحق ، ويحتمل أن يكون معناه محبة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط ، كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا أو محبة أن تقسطوا ، فإن جعلت العامل (تَتَّبِعُوا) فيحتمل أن يكون المعنى محبة أن تجوروا ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) قال ابن عباس : هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر ، فالليّ على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي عليه ، وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك ، والله حسيب الكل ، وقال ابن عباس أيضا ، ومجاهد ، وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الشاهد يلوي الشهادة بلسانه ويحرفها ، فلا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة والتوسط بين الناس ، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل ، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله ، وقرأ جمهور الناس «تلووا» بواوين من لوى يلوي على حسب ما فسرناه ، وقرأ حمزة وابن عامر وجماعة في الشاذ «وأن تلو» بضم اللام وواو واحدة ، وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا» على القراءة الأولى ، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر ، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى» ثم حذفت لاجتماع ساكنين ، ويحتمل أن تكون «تلوا» من قولك ولي الرجل الأمر ، فيكون في الطرف الآخر من (تُعْرِضُوا) كأنه قال تعالى للشهود


وغيرهم : وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه ، فالولاية والإعراض طرفان ، والليّ والإعراض في طريق واحد ، وباقي الآية وعيد.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (١٣٧)

اختلف الناس فيمن خوطب بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) فقالت فرقة : الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى من أهل الكتابين ، أي : يا من قد آمن بنبي من الأنبياء ، آمن بمحمد عليه‌السلام ، ورجح الطبري هذا القول ، وقيل : الخطاب للمؤمنين على معنى : ليكن إيمانكم هكذا على الكمال والتوفية بالله تعالى وبمحمد عليه‌السلام وبالقرآن وسائر الكتب المنزلة ، ومضمن هذا الأمر الثبوت والدوام ، وقيل : الخطاب للمنافقين ، أي : يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم ، ليكن إيمانكم حقيقة على هذه الصورة ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ، «نزّل» بضم النون وكسر الزاي المشددة على ما لم يسم فاعله ، وكذلك قرؤوا «والكتاب الذي أنزل من قبل» بضم الهمزة وكسر الزاي على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الباقون «نزل وأنزل» بفتح النون والزاي وبفتح الهمزة في «أنزل» على إسناد الفعلين إلى الله تعالى ، وروي عن عاصم مثل قراءة أبي عمرو ، (وَالْكِتابِ) المذكور أولا هو القرآن ، والمذكور ثانيا هو اسم جنس لكل ما نزل من الكتاب ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ) إلى آخر الآية وعيد وخبر ، مضمنة تحذير المؤمنين من حالة الكفر.

واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) فقالت طائفة منهم قتادة وأبو العالية : الآية في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجح الطبري هذا القول ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [آل عمران : ٧٢] وقال مجاهد وابن زيد : الآية في المنافقين ، فإن منهم من كان يؤمن ثم يكفر ، ثم يؤمن ثم يكفر ، يتردد في ذلك ، فنزلت هذه الآية فيمن ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات.

قال القاضي : وهذا هو القول المترجح ، وقول الحسن بن أبي الحسن جيد محتمل ، وقول قتادة وأبي العالية وهو الذي رجح الطبري قول ضعيف ، تدفعه ألفاظ الآية ، وذلك أن الآية إنما هي في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من التردد بين الكفر والإيمان ، ثم يزداد كفرا بالموافاة ، واليهود والنصارى لم يترتب في واحد منهم إلا إيمان واحد وكفر واحد ، وإنما يتخيل فيهم الإيمان والكفر مع تلفيق الطوائف


التي لم تتلاحق في زمان واحد ، وليس هذا مقصد الآية ، وإنما توجد هذه الصفة في شخص من المنافقي ، لأن الرجل الواحد منهم يؤمن ثم يكفر ، ثم يوافي على الكفر وتأمل قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) فإنها عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم ، ولذلك ترددوا وليست هذه العبارة مثل أن يقول : لا يغفر الله لهم ، بل هي أشد ، وهي مشيرة إلى استدراج من هذه حاله وإهلاكه ، وهي عبارة تقتضي لسامعها أن ينتبه ويراجع قبل نفوذ الحتم عليه ، وأن يكون من هؤلاء ، وكل من كفر كفرا واحدا ووافى عليه فقد قال الله تعالى : إنه لا يغفر له ، ولم يقل «لم يكن الله ليغفر له» فتأمل الفرق بين العبارتين فإنه من دقيق غرائب الفصاحة التي في كتاب الله تعالى ، كأن قوله (لَمْ يَكُنِ اللهُ) حكم قد تقرر عليهم في الدنيا وهم أحياء.

قوله تعالى :

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠)

في هذه الآية دليل ما على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين ، كما ترجح آنفا ، وجاءت البشارة هنا مصرحا بقيدها ، فلذلك حسن استعمالها في المكروه ، ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب.

ثم نص تعالى في صفة المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين ، وهي موالاتهم الكفار واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة ، ثم وقف تعالى على جهة التوبيخ على مقصدهم في ذلك ، أهو طلب العزة والاستكثار بهم أي ليس الأمر كذلك بل العزة كلها لله يؤتيها من يشاء ، وقد وعد بها المؤمنين ، وجعل العاقبة للمتقين ، و (الْعِزَّةَ) أصلها : الشدة والقوة ، ومنه الأرض العزاز أي : الصلبة ، ومنه (عَزَّنِي) [ص : ٢٣] أي : غلبني بشدته ، واستعز المرض إذا قوي ، إلى غير هذا من تصاريف اللفظة.

وقوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) مخاطبة لجميع من أظهر الإيمان من محقق ومنافق ، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله تعالى ، والإشارة بهذه الآية إلى قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الإنعام : ٦٨] ، إلى نحو هذا من الآيات ، وقرأ جمهور الناس «نزّل عليكم» بضم النون وكسر الزاي المشددة قال الطبري : وقرأ بعض الكوفيين «نزّل» بفتح النون والزاي المشددة على معنى نزل الله ، وقرأ أبو حيوة وحميد «نزل» بفتح النون والزاي خفيفة ، وقرأ إبراهيم النخعي «أنزل» بألف على بناء الفعل للمفعول ، و (الْكِتابِ) في هذا الموضع القرآن ، وفي هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي ، وأن لا يجالسوا ، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم فحمل


عليه الأدب ، وقرأ هذه الآية (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة ، وهذا المعنى كقول الشاعر : [الطويل]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن يقتدي

ثم توعد تعالى المنافقين والكافرين بجمعهم في جهنم ، فتأكد بذلك النهي والحذر من مجالسهم وخلطتهم.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣)

(الَّذِينَ) صفة للمنافقين ، و (يَتَرَبَّصُونَ) معناه : ينتظرون دور الدوائر عليكم ، فإن كان فتح للمؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يظهرونه من الإيمان ، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار ، وهذا حال المنافقين ، و (نَسْتَحْوِذْ) معناه : نغلب على أمركم ، ونحطكم ونحسم أمركم ، ومنه قول العجاج في صفة ثور وبقر : [الرجز]

يحوذهن وله حوذي

أي يغلبهن على أمرهن ، ويغلب الثيران عليهن ، ويروى يحوزهن بالزاي ، ومن اللفظة قول لبيد في صفة عير وأتن :

إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها

وأوردها على عوج طوال

أحوذ جانبيها قهرها وغلب عليها. وقوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩] معناه : غلب عليهم ، وشذ هذا الفعل في أن لم تعل واوه ، بل استعملت على الأصل ، وقرأ أبيّ بن كعب «ومنعناكم من المؤمنين» وقرأ ابن أبي عبلة «ونمنعكم» بفتح العين على الصرف ، ثم سلى وأنس المؤمنين بما وعدهم به في قوله (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وبينهم وينصفكم من جميعهم ، وبقوله (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وقال يسيع الحضرمي : كنت عند علي بن أبي طالب فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا؟ فقال علي رضي الله عنه : معنى ذلك : يوم القيامة يكون الحكم ، وبهذا قال جميع أهل التأويل.


و «السبيل» : الحجة والغلبة ، ومخادعة المنافقين هي لأولياء الله تعالى ، إذ يظنونهم غير أولياء ، ففي الكلام حذف مضاف ، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم ، وإن كانت نياتهم لم تقتضه ، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى وقوله (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي منزل الخداع بهم ، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب ، فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم وغم قلوبهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم ، وقال السدي وابن جريج والحسن وغيرهم من المفسرين : إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نورا لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، ونهض المؤمنون بذاك ، فذلك قول المنافقين «انظرونا نقتبس من نوركم» وذلك هو الخدع الذي يجري على المنافقين ، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي «وهو خادعهم» بإسكان العين وذلك على التخفيف ثم ذكر تعالى كسلهم في القيام إلى الصلاة ، وتلك حال كل من يعمل العمل كارها غير معتقد فيه الصواب تقية أو مصانعة ، وقرأ ابن هرمز الأعرج «كسالى» بفتح الكاف ، وقرأ جمهور الناس «يرءّون» بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو دون ألف ، وهي تعدية رأى بالتضعيف وهي أقوى في المعنى من (يُراؤُنَ) لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ، ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق ، وتقليله ذكرهم يحتمل وجهين ، قال الحسن : قل لأنه كان لغير الله ، فهذا وجه ، والآخر أنه قليل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر ، و (مُذَبْذَبِينَ) معناه : مضطربين لا يثبتون على حال ، والتذبذب : الاضطراب بخجل أو خوف أو إسراع في مشي ونحوه ، ومنه قول النابغة :

ترى كل ملك دونها يتذبذب

ومنه قول الآخر : [البعيث بن حريث] :

خيال لأمّ السّلسبيل ودونها

مسيرة شهر للبريد المذبذب

بكسر الذال الثانية ، قال أبو الفتح : أي المهتز القلق الذي لا يثبت ، ولا يتمهل فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين» ، فالإشارة بذلك إلى حالي الكفر والإيمان ، وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكره ، لظهور تضمن الكلام له ، كما جاء (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] و (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] وقرأ جمهور الناس «مذبذبين» بفتح الذال الأولى والثانية ، وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد ، «مذبذبين» بكسر الذال الثانية ، وقرأ أبي بن كعب «متذبذبين» بالتاء وكسر الذال الثانية ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مذبذبين» بفتح الميم والذالين وهي قراءة مردودة. وقوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) معناه سبيل هدى وإرشاد.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً


(١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (١٤٧)

خطابه تعالى للمؤمنين ، يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان ، ففي اللفظ رفق بهم ، وهم المراد بقوله تعالى : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) لأن التوقيف إنما هو لمن ألم بشيء من الفعل المؤدي إلى هذه الحال ، والمؤمنون المخلصون ما ألموا قط بشيء من ذلك ، ويقوي هذا المنزع قوله تعالى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة ، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين ، بل المعنى : يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه ، و «السلطان» : الحجة ، وهي لفظة تؤنث وتذكر ، والتذكير أشهر ، وهي لغة القرآن حيث وقع ، والسلطان إذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف ، والتقدير : ذو السلطان أي ذو الحجة على الناس ، إذ هو مدبرهم ، والناظر في منافعهم ، ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) من نار جهنم ، وهي ادراك بعضها فوق بعض سبعة طبقة على طبقة ، أعلاها هي جهنم وقد يسمى جميعها باسم الطبقة العليا ، فالمنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر هم في أسفل طبقة من النار ، لأنهم أسوأ غوائل من الكفار وأشد تمكنا من أذى المسلمين ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «في الدرك» مفتوحة الراء ، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب «في الدرك» بسكون الراء ، واختلف عن عاصم فروي عنه الفتح والسكون ، وهما لغتان ، قال أبو علي : كالشمع والشمع ونحوه ، وروي عن أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم قالوا : المنافقون في الدرك الأسفل من النار في توابيت من النار تقفل عليهم ، و «النصير» : بناء مبالغة من النصر ، ثم استثنى عزوجل التائبين من المنافقين ، ومن شروط التائب أن يصلح في قوله وفعله ، ويعتصم بالله ، أي يجعله منعته وملجأه ، ويخلص دينه لله تعالى ، وإلا فليس بتائب ، وقال حذيفة بن اليمان بحضرة عبد الله بن مسعود : والله ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين ، فقال له عبد الله بن مسعود : وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة وتنحى ، فلما تفرقوا مر به علقمة فدعاه وقال : أما إن صاحبكم يعلم الذي قلت ، ثم تلا (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا) الآية ، وأخبر تعالى أنهم مع المؤمنين في رحمة الله وفي منازل الجنة ، ثم وعد المؤمنين «الأجر العظيم» ، وحذفت الياء من (يُؤْتِ) في المصحف تخفيفا قال الزجّاج : لسكونها وسكون اللام في (اللهُ) كما حذفت من قوله (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) [ق : ٤١] وكذلك (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] وأمثال هذا كثير ، و «الأجر العظيم» : التخليد في الجنة ، ثم قال تعالى للمنافقين ، (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) الآية ، أي : أي منفعة له في ذلك أو حاجة؟ والشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان ، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على جلالة موقعه ، ثم وعد الله تعالى بقوله : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) ، أي يتقبل أقل شيء من العمل وينميه ، فذلك شكر منه لعباده ، والشكور من البهائم الذي يأكل قليلا ويظهر به بدنه ، والعرب


تقول في مثل أشكر من بروقة ، لأنها يقال : تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر ، وفي قوله (عَلِيماً) تحذير وندب إلى الإخلاص.

قوله تعالى :

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١)

المحبة في الشاهد إرادة يقترن بها استحسان وميل اعتقاد ، فتكون الأفعال الظاهرة من المحب بحسب ذلك ، و (الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) لا يكون من الله تعالى فيه شيء من ذلك ، أما أنه يريد وقوع الواقع منه ولا يحبه هو في نفسه. و (الْجَهْرَ) : كشف الشيء ، ومنه الجهرة في قول الله تعالى (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ٥٣] ومنه قولهم : جهرت البير ، إذا حفرت حتى أخرجت ماءها ، واختلف القراء في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) وقراءة جمهور الناس بضم الظاء وكسر اللام ، وقرأ ابن أبي إسحاق وزيد بن أسلم والضحاك بن مزاحم وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار ومسلم بن يسار وغيرهم «إلا من ظلم» بفتح الظاء واللام ، واختلف المتأولون على القراءة بضم الظاء ، فقالت فرقة : المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول «إلا من ظلم» فلا يكره له الجهر به ، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك ، فقال الحسن : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعنّي عليه ، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حل بيني وبين ما يريد من ظلمي ، وقال ابن عباس وغيره : المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو أحسن له ، وقال مجاهد وغيره : هو في الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر الذي لم يكرمه بالسوء من القول ، فقد رخص له أن يقول فيه : وفي هذا نزلت الآية ، ومقتضاها ذكر الظلم وتبيين الظلامة في ضيافة وغيرها ، وقال ابن عباس والسدي : لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ، ويجهر له بالسوء من القول.

قال القاضي رحمه‌الله : فهذه الأقوال على أربع مراتب :

قول الحسن دعاء في المدافعة ، وتلك أقل منازل السوء من القول.

وقول ابن عباس الدعاء على الظالم بإطلاق في نوع الدعاء.

وقول مجاهد ، ذكر الظلامة والظلم.

وقول السدي الانتصار بما يوازي الظلامة.

وقال ابن المستنير : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفرا أو نحوه ،


فذلك مباح ، والآية في الإكراه ، واختلف المتأولون على القراءة بفتح الضاد واللام ، فقال ابن زيد : المعنى «إلا من ظلم» في قول أو في فعل ، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ والرد عليه ، قال : وذلك أنه لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار ، كان ذلك جهرا بالسوء من القول. ثم قال لهم بعد ذلك (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) [النساء : ١٤٧] الآية ، على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان ، ثم قال للمؤمنين : «ولا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم» في إقامته على النفاق ، فإنه يقال له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟ ونحو هذا من الأقوال ، وقال قوم معنى الكلام : «ولا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول» ، ثم استثنى استثناء منقطعا ، تقديره : لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك وإعراب (مِنَ) يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب ، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر ، و «سميع عليم» : صفتان لائقتان بالجهر بالسوء وبالظلم أيضا ، فإنه يعلمه ويجازي عليه ، ولما ذكر تعالى عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه ، أتبع ذلك عرض إبداء الخير وإخفائه ، والعفو عن السوء ، ثم وعد عليه بقوله (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) وعدا خفيا تقتضيه البلاغة ورغب في العفو إذ ذكر أنها صفته مع القدرة على الانتقام ، ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) إلى آخر الآية. نزل في اليهود والنصارى ، لأنهم في كفرهم بمحمد عليه‌السلام كأنهم قد كفروا بجميع الرسل. وكفرهم بالرسل كفر بالله ، وفرقوا بين الله ورسله في أنهم قالوا : نحن نؤمن بالله ولا نؤمن بفلان وفلان من الأنبياء ، وقولهم (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) قيل : معناه من الأنبياء ، وقيل : هو تصديق بعضهم لمحمد في أنه نبي ، لكن ليس إلى بني إسرائيل ، ونحو هذا من تفريقاتهم التي كانت تعنتا وروغانا. وقوله (بَيْنَ ذلِكَ) أي بين الإيمان والإسلام والكفر الصريح المجلح ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الكافرون حقا ، لئلا يظن أحد أن ذلك القدر الذي عندهم من الإيمان ينفعهم ، وباقي الآية وعيد.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣)

لما ذكر الله تعالى أن المفرقين بين الرسل هم الكافرون حقا ، عقب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعا. وهم المؤمنون بمحمد عليه‌السلام ليصرح بوعد هؤلاء كما صرح بوعيد أولئك ، فبين الفرق بين المنزلتين ، وقرأ بعض السبعة «سوف يؤتيهم» بالياء أي يؤتيهم الله ، وقرأ الأكثر «سوف نؤتيهم» بالنون ، منهم ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، واختلف المتأولون في كيفية سؤال أهل الكتاب لمحمد عليه‌السلام أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، فقال السدي : قالت اليهود : يا محمد إن كنت صادقا فجىء بكتاب من


السماء كما جاء موسى بكتاب ، وقال محمد بن كعب القرظي : قد جاء موسى بألواح فيها التوراة فجيء أنت بألواح فيها كتابك ، وقال قتادة : بل سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود ، يأمرهم فيه بالإيمان بمحمد ، وقال ابن جريج : قالت اليهود : يا محمد لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان وإلى فلان أنك رسول الله.

قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله ـ : فقول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أبي أمية المخزومي القرشي ، ثم قال تعالى (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) على جهة التسلية لمحمد عليه‌السلام ، وعرض الأسوة ، وفي الكلام متروك يدل عليه المذكور ، تقديره : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشططهم فإنها عادتهم ، (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) ، وقرأ جمهور الناس «أكبر» بالباء المنقوطة بواحدة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أكثر» بالثاء المثلثة ، وجمهور الناس «أكبر» بالباء المنقوطة بواحدة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أكثر» بالثاء المثلثة ، وجمهور المتأولين على أن (جَهْرَةً) معمول ل (أَرِنَا) ، أي : حتى نراه جهارا أي عيانا رؤية منكشفة بينة ، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى أن (جَهْرَةً) معمول لقالوا ، أي قالوا جهرة منهم وتصريحا (أَرِنَا اللهَ).

قال القاضي أبو محمد : وأهل السنة معتقدون أن هؤلاء لم يسألوا محالا عقلا ، لكنه محال من جهة الشرع ، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخبر المتواتر ، وهي جائزة عقلا دون تحديد ولا تكييف ولا تحيز ، كما هو تعالى معلوم لا كالمعلومات كذاك هو مرئي لا كالمرئيات ، هذه حجة أهل السنة وقولهم ، ولقد حدثني أبي رضي الله عنه عن أبي عبد الله النحوي أنه كان يقول عند تدريس هذه المسألة : مثال العلم بالله حلق لحا المعتزلة في إنكارهم الرؤية ، والجملة التي قالت (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) هي التي مضت مع موسى لحضور المناجاة ، وقد تقدم قصصها في سورة البقرة ، وقرأ جمهور الناس «فأخذتهم الصاعقة» وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي «الصعقة» والمعنى يتقارب ، إذ ذلك كله عبارة عن الوقع الشديد من الصوت يصيب الإنسان بشدته وهو له خمود وركود حواس ، و (بِظُلْمِهِمْ) هو تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه. وقوله تعالى : قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل ، وذلك أن اتخاذ العجل كان عند أمر المضي للمناجاة ، فلم يكن الذين صعقوا ممن اتخذوا العجل ، لكن الذين اتخذوه كانوا قد جاءتهم البينات في أمر إجازة البحر وأمر العصا وغرق فرعون وغير ذلك ، وقوله تعالى : (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) يعني بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم ، و «السلطان» الحجة.

قوله تعالى :

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (١٥٦)

(الطُّورَ) الجبل اسم جنس ، هذا قول ، وقيل (الطُّورَ) : كل جبل غير منبت ، وبالشام جبل قد


عرف بالطور ولزمه الاسم وهو طور سيناء ، وليس بالمرفوع على بني إسرائيل ، لأن رفع الجبل كان فيما يلي فحص التيه من جهة ديار مصر ، وهم ناهضون مع موسى عليه‌السلام ، وقد تقدم في سورة البقرة قصص رفع الطور ، وقوله (بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب ميثاقهم أن يعطوه في أخذ الكتاب بقوة والعمل بما فيه ، وقوله تعالى : (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) هو باب بيت المقدس المعروف بباب حطة ، أمروا أن يتواضعوا شكرا لله تعالى على الفتح الذي منحهم في تلك البلاد ، وأن يدخلوا باب المدينة سجّدا. وهذا نوع من سجدة الشكر التي قد فعلها كثير من العلماء ، ورويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان مالك بن أنس رحمه‌الله لا يراها. وقوله تعالى (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي على الحيتان وفي سائر الأعمال ، وهؤلاء كانوا بأيلة من ساحل البحر فأمروا بالسكون عن كل شغل في يوم السبت فلم يفعلوا ، بل اصطادوا وتصرفوا ، وقد تقدم قصص ذلك ، وأخذ الله تعالى منهم «الميثاق الغليظ» هو على لسان موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، أي بأنهم يأخذون التوراة بقوة ، ويعملون بجميع ما فيها ، ويوصلونه إلى أبنائهم ويؤدون الأمانة فيه.

وقوله تعالى (فَبِما نَقْضِهِمْ) الآية ، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه ، والإيمان الذي تضمنه (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله كفرهم بآيات الله ، وقولهم : حبة في شعرة وحنطة في شعيرة ، ونحو ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به ، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت ، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر ، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة ، وهي قتل الأنبياء ، وكذلك أخذ «الميثاق الغليظ» منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه ، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم. وقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي هي في حجب وغلف ، فهي لا تفهم ، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم ، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم ، وقرأ نافع «تعدّوا» بسكون العين وشد الدال المضمومة ، وروى عنه ورش «تعدّوا» بفتح العين وشد الدال المضمومة ، وقرأ الباقون «لا تعدوا» ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة ، وقرأ الأعمش والحسن «لا تعتدوا» وقوله تعالى : (فَبِما) ما زائدة مؤكدة ، التقدير فبنقضهم ، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم ، متروك مع ذهن السامع ، تقديره لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم.

ثم قال تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ) أي في أمر عيسى عليه‌السلام ، وقولهم على مريم بهتانا ، يعني رميهم إياها بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد ، وإلا فلو لا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر و «البهتان» : مصدر من قولك بهته إذا قابله بأمر مبهت يحار معه الذهن وهو رمي بباطل.

قوله تعالى :

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ


وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩)

هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على اختلاف الأزمان وتعاقب القرون ، فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، فهذه الطائفة التي قالت (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) غير الذين نقضوا الميثاق في الطور ، وغير الذين اتخذوا العجل ، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله : (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وقوله عزوجل : (رَسُولَ اللهِ) إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى وهي الرسالة ، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ، ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول ، ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى فكأنهم قتلوه ، وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول ، كما أن قريشا في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه كذاب ، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه ، ثم أخبر تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم ، واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافا شديدا أنا أختصر عيونه ، إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته ، لأنه لم يثبت عن النبي عليه‌السلام فيه شيء ، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله ، فالذي لا نشك فيه أن عيسى عليه‌السلام كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله ، وكانت بنو إسرائيل تطلبه ، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه حيث سار ، فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى ، فروي أن أحد الحواريين رشي عليه فقبل الرشوة ودل على مكانه فأحيط به ، ثم ندم ذلك الحواري وخنق نفسه ، وروي أن رجلا من اليهود جعل له جعل فما زال ينقر عليه حتى دل على مكانه ، فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم دخلوا بيتا بمرأى من بني إسرائيل فروي : أنهم عدوهم ثلاثة عشر ، وروي ثمانية عشر وحصروا ليلا فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة ، ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل فصلب ذلك الرجل ، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه فصلب ، وروي أن عيسى عليه‌السلام لما أحيط بهم قال لأصحابه : أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص هؤلاء وهو رفيقي في الجنة؟ فقال سرجس : أنا ، وألقي عليه شبه عيسى ، ويروى أن شبه عيسى عليه‌السلام ألقي على الجماعة كلها ، فلما أخرجهم بنو إسرائيل نقص واحد من العدة ، فأخذوا واحدا ممن ألقي عليه الشبه حسب هذه الروايات التي ذكرتها ، فصلب ذلك الشخص ، وروي : أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر ، فصلب ذلك الشخص وأبعد الناس عن خشبته أياما حتى تغير ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ومضى الحواريون يحدثون بالآفاق أن عيسى صلب ، فهذا أيضا يدل على أنه فرقهم وهو في البيت ، أو على أن الشبه ألقي على الكل ، وروي أن هذه القصة كلها لم يكن فيها إلقاء شبه شخص عيسى على أحد وإنما المعنى (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي شبه عليهم الملك الممخرق ، ليستديم ملكه ، وذلك أنه لما نقص واحد من


الجماعة وفقد عيسى عمد إلى أحدهم وبطش بصلبه وفرق الناس عنه. وقال : هذا عيسى قد صلب وانحل أمره ، وقوله تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) يعني اختلاف المحلولين لأخذه ، لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد وتحدث برفع عيسى اضطربوا واختلفوا ، وعلى رواية من روى أنه ألقي شبه يوشك أنه بقي في ذلك الشبه مواضع للاختلاف ، لكن أجمعوا على صلب واحد على غير ثقة ولا يقين أيهم هو.

قال القاضي ـ رحمه‌الله : الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصا صلب ، وأما هل هو عيسى أم لا؟ فليس من علم الحواس ، فلذلك لم ينفع في ذلك نقل كافة اليهود والنصارى ، ونفى الله عنهم أن يكون لهم في أمره علم على ما هو به ، ثم استثنى اتباع الظن وهو استثناء متصل ، إذ الظن والعلم يضمهما جنس واحد أنهما من معتقدات النفس ، وقد يقول الظان على طريق التجوز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه. وقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) اختلف المتأولون في عود الضمير من (قَتَلُوهُ) فقالت فرقة : هو عائد على الظن كما تقول : قتلت هذا الأمر علما ، فالمعنى وما صح ظنهم عندهم ولا تحققوه يقينا ، هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة ، وقال قوم : الضمير عائد على عيسى ، أخبر أنهم لم يقتلوه يقينا ، فيصح لهم الإصفاق ويثبت نقل كافتهم ، ومضمن الكلام أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة لا يقينا ولا شكا ، لكن لما حصلت في ذلك الدعوى صار قتله عندهم مشكوكا فيه ، وقال قوم من أهل اللسان : الكلام تام في قوله (وَما قَتَلُوهُ) و (يَقِيناً) مصدر مؤكد للنفي في قوله (وَما قَتَلُوهُ) المعنى يخبركم يقينا ، أو يقص عليكم يقينا ، أو أيقنوا بذلك يقينا ، وقوله تعالى (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) يعني إلى سمائه وكرامته ، وعيسى عليه‌السلام حي في السماء الثانية على ما تضمن حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى ذكره البخاري في حديث المعراج ، وذكره غيره ، وهو هناك مقيم حتى ينزله الله لقتل الدجال ، وليملأ الأرض عدلا ، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما يموت البشر.

وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) اختلف المتأولون في معنى الآية فقال ابن عباس وأبو مالك والحسن بن أبي الحسن وغيرهم : الضمير في (مَوْتِهِ) راجع إلى عيسى ، والمعنى أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد إذا نزل عيسى إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى كما يؤمن سائر البشر ، وترجع الأديان كلها واحدا ، وقال مجاهد وابن عباس أيضا وغيرهما : الضمير في (بِهِ) لعيسى وفي (مَوْتِهِ) للكتابي الذي تضمنه قوله (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) التقدير : وإن من أهل الكتاب أحد ، قالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى روح الله ، ويعلم أنه نبي ولكن عند المعاينة للموت ، فهو إيمان لا ينفعه ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند المعاينة ، وقال هذا القول عكرمة والضحاك والحسن بن أبي الحسن أيضا ، وقال عكرمة أيضا : الضمير في (بِهِ) لمحمد عليه‌السلام ، و (قَبْلَ مَوْتِهِ) للكتابي ، قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت ، وفي مصحف أبي بن كعب «قبل موتهم» ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي ، وقرأ الفياض بن غزوان «وإنّ من أهل الكتاب» بتشديد «إن». والضمير المستتر في يكون هو لعيسى عليه‌السلام في جل الأقوال ، ولمحمد عليه‌السلام في قول عكرمة.


قوله تعالى :

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً(١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢)

قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ) عطف على قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] كأنه قال فبنقضهم لعناهم وأوجبنا عذابهم ، فبظلم منهم حرمنا عليهم المطاعم ، وجعل الله تعالى هذه العقوبة الدنيوية إزاء ظلم بني إسرائيل في تعنتهم وسائر أخلاقهم الدميمة ، و «الطيبات» هنا : هي الشحوم وبعض الذبائح والطير والحوت وغير ذلك ، وقرأ ابن عباس «طيبات كانت أحلت لهم» وقوله تعالى (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) يحتمل أن يريد صدهم في ذاتهم ، ويحتمل أن يريد صدهم غيرهم ، وإلى هذا ذهب الطبري ، وقال : هو جحدهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم صدوا بذلك جمعا عظيما من الناس عن سبيل الله (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) : هو الدرهم بالدرهمين إلى أجل ونحو ذلك مما هو مفسدة ، وقد نهوا عنه فشرعوه لأنفسهم واستمروا عليه من ذلك ، ومن كراء العين ونحوه ، وأكل أموال الناس بالباطل : هو الرشى ، ثم استثنى الله تعالى من بني إسرائيل «الراسخين» في علم التوراة الذين قد تحققوا أمر محمد عليه‌السلام وعلاماته ، وهم : عبد الله بن سلام ، ومخيريق ، ومن جرى مجراهما ، (وَالْمُؤْمِنُونَ) : عطف على الراسخين ، و «ما أنزل» إلى محمد هو القرآن ، والذي أنزل من قبله : هو التوراة والإنجيل ، واختلف الناس في معنى قوله (وَالْمُقِيمِينَ) وكيف خالف إعرابها إعراب ما تقدم وتأخر ، فقال أبان بن عثمان بن عفان وعائشة رضي الله عنها : ذلك من خطأ كاتب المصحف ، وروي أنها في مصحف أبيّ بن كعب «والمقيمون» وقد روي أنها فيه (وَالْمُقِيمِينَ) كما هي في مصحف عثمان. قال الفراء : وفي مصحف ابن مسعود «والمقيمون» وكذلك روى عصمة عن الأعمش ، وكذلك قرأ سعيد بن جبير ، وكذا قرأ عمرو بن عبيد والجحدري وعيسى بن عمر ومالك بن دينار ، وكذلك روى يونس وهارون عن أبي عمرو ، وقال آخرون : ليس ذلك من خطأ الكاتب ولا خطأ في المصحف ، وإنما هذا من قطع النعوت إذا كثرت على النصب بأعني ، والرفع بعد ذلك بهم ، وذهب إلى هذا المعنى بعض نحويي الكوفة والبصرة ، وحكي عن سيبويه : أنه قطع على المدح ، وخبر (لكِنِ يُؤْمِنُونَ) لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة الأولى ، وهذا كقول خرنق بنت هفان : [الكامل]

لا يبعدن قومي الّذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر

قال القاضي أبو محمد : وقد فرق بين الآية والبيت بحرف العطف الذي في الآية ، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل ، وفي هذا نظر ، وقال قوم : قوله تعالى (وَالْمُقِيمِينَ) ليس بعطف على قوله


(وَالْمُؤْمِنُونَ) ولكن على (ما) في قوله (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) والمعنى ويؤمنون بالمقيمين الصلاة وهم الملائكة ، وقال بعضهم : بل من تقدم من الأنبياء ، قالوا : ثم رجع بقوله (وَالْمُؤْتُونَ) فعطف على قوله (وَالْمُؤْمِنُونَ) وقال قوم (وَالْمُقِيمِينَ) عطف على (ما أُنْزِلَ) ، والمراد بهم المؤمنون بمحمد ، أي يؤمن الراسخون بهم وبما هم عليه ، ويكون قوله (الْمُؤْتُونَ) أي وهم المؤتون ، وقال قوم (وَالْمُقِيمِينَ) عطف على الضمير في منهم ، وقال آخرون : بل على الكاف في قوله (مِنْ قَبْلِكَ) ويعني الأنبياء ، وقرأت فرقة «سنؤتيهم» بالنون ، وقرأت فرقة «سيؤتيهم» بالياء.

قوله تعالى :

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤)

روي عن عبد الله بن عباس : أن سبب هذه الآية أن سكينا الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا بعد موسى ، ولا أوحى إليه ، فنزلت هذه الآية تكذيبا لقولهما. وقال محمد بن كعب القرظي : لما أنزل الله (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) [النساء : ١٥٣] إلى آخر الآيات ، فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على موسى ولا على عيسى وجحدوا جميع ذلك فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] والوحي : إلقاء المعنى في خفاء ، وعرفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه‌السلام ، وذلك هو المراد بقوله (كَما أَوْحَيْنا) أي بملك ينزل من عند الله ، و (نُوحٍ) أول الرسل في الأرض إلى أمة كافرة ، وصرف نوح مع العجمة والتعريف لخفته ، و (إِبْراهِيمَ) عليه‌السلام هو الخليل ، (وَإِسْماعِيلَ) ابنه الأكبر وهو الذبيح في قول المحققين ، وهو أبو العرب ، (وَإِسْحاقَ) ابنه الأصغر (وَيَعْقُوبَ) هو ولد إسحاق وهو إسرائيل ، (وَالْأَسْباطِ) : بنو يعقوب ، يوسف وإخوته ، (وَعِيسى) هو المسيح ، (وَأَيُّوبَ) هو المبتلى الصابر ، (وَيُونُسَ) هو ابن متى ، وروى ابن جماز عن نافع : يونس بكسر النون ، وقرأ ابن وثاب والنخعي ـ بفتحها ، وهي كلها لغات ، (وَهارُونَ) هو ابن عمران ، (وَسُلَيْمانَ) هو النبي الملك ، و (داوُدَ) : أبوه ، وقرأ جمهور الناس «زبورا» بفتح الزاي ، وهو اسم كتاب داود تخصيصا ، وكل كتاب في اللغة فهو زبور من حيث تقول زبرت الكتاب إذا كتبته ، وقرأ حمزة وحده «زبورا» بضم الزاي ، قال أبو علي : يحتمل أن يكون جمع زبر ، أوقع على المزبور اسم الزبر ، كما قالوا ضرب الأمير. ونسج اليمن. وكأن سمي المكتوب كتابا ، ويحتمل أن يكون جمع زبور على حذف الزيادة ، كما قالوا : ظريف وظروف وكروان وكروان وورشان وورشان ، ونحو ذلك مما جمع بحذف الزيادة ، ويقوي هذا الوجه أن التكسير مثل التصغير. وقد اطرد هذا المعنى في


تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير ، وحارث وحريث ، وثابت وثبيت ، فالجمع مثله في القياس إن كان أقل منه في الاستعمال.

وقوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) الآية ، نصب (رُسُلاً) على المعنى ، لأن المعنى إنا أرسلناك كما أرسلنا نوحا ، ويحتمل أن ينصب (رُسُلاً) بفعل مضمر تقديره أرسلنا رسلا ، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي ، وفي حرف أبي بن كعب «ورسل» في الموضعين بالرفع على تقديرهم رسل ، و (قَصَصْناهُمْ) معناه ذكرنا أسماءهم وأخبارهم ، وقوله تعالى : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) يقتضي كثرة الأنبياء دون تحديد بعدد ، وقد قال تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] وقال تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] وما يذكر من عدد الأنبياء فغير صحيح ، الله أعلم بعدتهم ، صلى الله عليهم ، وقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) إخبار بخاصة موسى ، وأن الله تعالى شرفه بكلامه ثم أكد تعالى الفعل بالمصدر ، وذلك منبىء في الأغلب عن تحقيق الفعل ووقوعه ، وأنه خارج عن وجوه المجاز والاستعارة ، لا يجوز أن تقول العرب : امتلأ الحوض وقال : قطني قولا ، فإنما تؤكد بالمصادر الحقائق. ومما شذ قول هند بنت النعمان بن بشير :

وعجت عجيجا من جذام المطارف.

وكلام الله للنبي موسى عليه‌السلام دون تكييف ولا تحديد ولا تجويز حدوث ولا حروف ولا أصوات ، والذي عليه الراسخون في العلم : أن الكلام هو المعنى القائم في النفس ، ويخلق الله لموسى أو جبريل إدراكا من جهة السمع يتحصل به الكلام ، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات ، معلوم لا كالمعلومات فكذلك كلامه لا كالكلام ، وما روي عن كعب الأحبار وعن محمد بن كعب القرظي ونحوهما : من أن الذي سمع موسى كان كأشد ما يسمع من الصواعق ، وفي رواية أخرى كالرعد الساكن فذلك كله غير مرضي عند الأصوليين ، وقرأ جمهور الأمة «وكلم الله موسى» بالرفع في اسم الله ، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وكلم الله» بالنصب على أن موسى هو المكلم ، وهي قراءة ضعيفة من جهة الاشتهار ، لكنها مخرجة من عدة تأويلات.

قوله تعالى :

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٦٩)

(رُسُلاً) بدل من الأول قبل. و (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان أي يبشرون بالجنة من آمن وأطاع ،


وينذرون بالنار من كفر وعصى ، وأراد الله تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إليّ الرسول لآمنت ، والله تعالى عزيز لا يغالبه شيء ولا حجة لأحد عليه ، وهو مع ذلك حكيم تصدر أفعاله عن حكمة ، فكذلك قطع الحجة بالرسل حكمة منه تعالى.

وقوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) الآية ، سببها قول اليهود (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] وقال بعضهم لمحمد عليه‌السلام : ما نعلم يا محمد أن الله أرسل إليك ولا أنزل عليك شيئا ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والجراح الحكمي «لكنّ الله يشهد» بشد النون ونصب المكتوبة على اسم «لكن» وقوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم ، والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله ، ومذهب المعتزلة في هذه الآية أنه أنزله مقترنا بعلمه ، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك ، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن ، كما هو في قول الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، معناه : من علم الله الذي بث في عباده ، وقرأ الجمهور «أنزل» على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الحسن «أنزل» بضم الهمزة على بنائه للمفعول ، وقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) تقوية لأمر محمد عليه‌السلام ورد على اليهود ، قال قتادة : شهود والله غير متهمة ، وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) تقديره : وكفى الله شهيدا ، لكن دخلت الباء لتدل على أن المراد بالله.

ثم أخبر تعالى عن الكافرين الذين يصدون الناس عن سبيل الله أنهم قد بعدوا عن الحق و (ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) لا يقرب رجوعهم عنه ولا تخلصهم معه ، وقرأ عكرمة وابن هرمز «وصدوا» بضم الصاد.

ثم أخبر تعالى عن الكافرين الظالمين في أن وضعوا الشيء في غير موضعه ، وهو الكفر بالله ، والله تعالى يستوجب منهم غير ذلك لنعمه الظاهرة والباطنة أنهم بحيث لم يكن ليغفر لهم ، وهذه العبارة أقوى من الإخبار المجرد أنه لا يغفر ، ومثال ذلك أنك إذا قلت : أنا لا أبيع هذا الشيء فهم منك الاغتباط به ، فإذا قلت : أنا ما كنت لأبيع هذا الشيء ، فالاغتباط منك أكثر ، هذا هو المفهوم من هذه العبارة ، وقوله تعالى : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) هذه هداية الطرق وليست بالإرشاد على الإطلاق. وباقي الآية بيّن يتضمن تحقير أمر الكفار ، وأنهم لا يباليهم الله بالة كما ورد في الحديث ، يذهب الصالحون الأول فالأول ، حتى تبقى حثالة كحثالة التمر لا يباليهم الله بالة ، المعنى : إذ هم كفار في آخر الزمان وعليهم تقوم الساعة.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ)

المخاطبة بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مخاطبة لجميع الناس ، والسورة مدنية ، فهذا مما خوطب به جميع


الناس بعد الهجرة ، لأن الآية دعاء إلى الشرع ، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ونحوها لكانت «يا أيها الذين آمنوا» و (الرَّسُولُ) في هذه الآية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (بِالْحَقِ) في شرعه ، وقوله تعالى : (خَيْراً لَكُمْ) منصوب بفعل مضمر تقديره ، إيتوا خيرا لكم ، أو حوزوا خيرا لكم ، وقوله (فَآمِنُوا) وقوله (انْتَهُوا) بعد ذلك ، أمر بترك الشيء والدخول في غيره ، فلذلك حسنت صفة التفضيل التي هي خير ، هذا مذهب سيبويه في نصب خير ، ونظيره من الشعر قول عمر بن أبي ربيعة :

فواعديه سرحتي مالك

أو الربى بينهما أسهلا

أي يأت أسهل ، وقال أبو عبيدة التقدير يكن الإيمان خيرا والانتهاء خيرا ، فنصبه على خبر كان ، وقال الفراء : التقدير فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، فنصبه على النعت لمصدر محذوف ثم قال تعالى (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا خبر بالاستغناء ، وأن ضرر الكفر إنما هو نازل بهم ، ولله تعالى العلم والحكمة.

ثم خاطب تعالى أهل الكتاب من النصارى بأن يدعوا «الغلو» ، وهو تجاوز الحد ، ومنه غلاء السعر ، ومنه غلوة السهم ، وقوله تعالى : (فِي دِينِكُمْ) إنما معناه ، في الدين الذي أنتم مطلوبون به ، فكأنه اسم جنس ، وأضافه إليهم بيانا أنهم مأخوذون به ، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل ، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو ، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق ، وأن يوحدوا ولا «يقولوا على الله إلا الحق» ، وإذا سلكوا ما أمروا به ، فذلك سائقهم إلى الإسلام ، ثم بين تعالى أمر المسيح وأنه (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) ، أي مكون عن كلمته التي هي «كن» وقوله (أَلْقاها) عبارة عن إيجاد هذا الحادث في مريم ، وقال الطبري (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها) يريد جملة مخلوقاته ، ف «من» لابتداء الغاية إذا حقق النظر فيها ، وقال البشارة التي بعث الملك بها إليها ، وقوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي من الله وقال الطبري (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي نفخة منه ، إذ هي من جبريل بأمره ، وأنشد قول ذي الرمة :

فقلت له اضممها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

يصف سقط النار ، وقال أبيّ بن كعب : روح عيسى من أرواح الله التي خلقها واستنطقها بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] فبعثه الله إلى مريم فدخل فيها ، ثم أمرهم بالإيمان بالله ورسله ، أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) المعنى :

الله ثالث ثلاثة ، فحذف الابتداء والمضاف ، كذا قدر أبو علي ، ويحتمل أن يكون المقدر : المعبود ثلاثة ، أو الإله ثلاثة ، أو الآلهة ثلاثة ، أو الأقانيم ثلاثة ، وكيف ما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير ، وقد تقدم القول في معنى (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ).

قوله تعالى :

(إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً(١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ


يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)

(إِنَّمَا) في هذه الآية حاصرة ، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه ، وليست صيغة (إِنَّما) تقتضي الحصر ، ولكنها تصلح للحصر وللمبالغة في الصفة وإن لم يكن حصر ، نحو : إنما الشجاع عنترة وغير ذلك. و (سُبْحانَهُ) : معناه تنزيها له وتعظيما عن أن يكون له ولد كما تزعمون أنتم أيها النصارى في أمر عيسى ، إذ نقلتم أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «إن يكون له ولد» بكسر الألف من «أن» وهي نافية بمعنى ما يكون له ولد ، وقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الآية : إخبار يستغرق عبودية عيسى وغير ذلك من الأمور.

ثم برأ تعالى جهة المسيح عليه‌السلام من أقوالهم ، وخلصه للذي يليق به فقال (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ) الآية ، والاستنكاف : إباية بأنفة ، وقوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان ، أي ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين ، لا يستنكفون عن ذلك فكيف سواهم ، وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء ، ثم أخبر تعالى عمن يستنكف أي يأنف عن عبادة الله ويستكبر ، بأنه سيناله الحشر يوم القيامة والرد إلى الله ، وقوله (فَسَيَحْشُرُهُمْ) عبارة وعيد ، وقرأ جمهور الناس «فسيحشرهم» بالياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «فسنحشرهم» بنون الجماعة ، «فنوفيهم» ، «ونزيدهم» ، «فنعذبهم» ، كلها بالنون ، قال أبو الفتح : وقرأ مسلمة «فسيحشرهم» «فيعذبهم» بسكون الراء والباء على التخفيف.

وبين الله تعالى أمر المحشورين ، فأخبر عن المؤمنين العاملين بالصالحات ، أنه «يوفيهم أجورهم» حتى لا يبخس أحد قليلا ولا كثيرا ، وأنه يزيدهم من فضله ، وتحتمل هذه الزيادة أن تكون المخبر عنها في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف ، ويحتمل أن يكون التضعيف الذي هو غير مصرد محسوب ، وهو المشار إليه في قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١].

قوله تعالى :

(وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً(١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (١٧٥)

هذا وعيد للمستنكفين الذين يدعون عبادة الله أنفة وتكبرا ، وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه ، كفعل حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر بمحمد عليه‌السلام ، وكفعل أبي


جهل وغيره ، وإلا فإذا فرضت أحدا من البشر عرف الله تعالى ، فمحال أن تجده يكفر به تكبرا عليه ، والعناد المجوز إنما يسوق إليه الاستكبار عن البشر ، ومع تقارب المنازل في ظن المتكبر.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية إشارة إلى محمد رسول الله ، و «البرهان» : الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام ، والمعنى : قد جاءكم مقترنا بمحمد برهان من الله تعالى على صحة ما يدعوكم إليه وفساد ما أنتم عليه من النحل ، وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) يعني القرآن فيه بيان لكل شيء ، وهو الواعظ الزاجر ، الناهي الآمر.

ثم وعد تبارك وتعالى المؤمنين بالله ، المعتصمين به ، والضمير في (بِهِ) يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على القرآن الذي تضمنه قوله تعالى : (نُوراً مُبِيناً) و «الاعتصام» به التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به ، فهو يعصم كما تعصم المعاقل ، وهذا قد فسره قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم» ، و «الرحمة» و «الفضل» : الجنة وتنعيمها ، (وَيَهْدِيهِمْ) ، معناه : إلى الفضل ، وهذه هداية طريق الجنان ، كما قال تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٥] لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه ، و (صِراطاً) نصب بإضمار فعل يدل عليه (يَهْدِيهِمْ) ، تقديره فيعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب كالمفعول الثاني ، إذ (يَهْدِيهِمْ) في معنى يعرفهم ، ويحتمل أن ينتصب على ظرفية «ما» ويحتمل أن يكون حالا من الضمير في (إِلَيْهِ) وقيل : من فضل ، والصراط : الطريق وقد تقدم تفسيره.

قوله تعالى :

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦)

تقدم القول في تفسير (الْكَلالَةِ) في صدر السورة ، وان المترجح أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب لا عال ولا سافل ، وبقي فيها من يتكلل ، أي : يحيط من الجوانب كما يحيط الإكليل ، وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطاب مشكلا فقال : ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة ، ولوددت أن رسول الله لم يمت حتى يبينها وقال على المنبر : ثلاث لو بينها رسول الله كان أحب إليّ من الدنيا : الجد والكلالة ، والخلافة ، وأبواب من الربا ، وروي عنه رضي الله عنه أنه كتب فيها كتابا فمكث يستخير الله فيه ويقول. اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه ، فلما طعن دعا بالكتاب فمحي ، فلم يدر أحد ما كان فيه ، وروى الأعمش عن إبراهيم وسائر شيوخه قال : ذكروا أن عمر رضي الله عنه قال : لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليّ من جزية قصور الشام. وقال طارق بن شهاب : أخذ عمر بن الخطاب كتفا وجمع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت فتفرقوا ، فقال عمر : لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه ،


وقال معدان بن أبي طلحة : خطب عمر بالناس يوم الجمعة فقال : إني والله ما أدع بعدي شيئا هو أهم إليّ من أمر الكلالة ، وقد سألت عنها رسول الله ، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن في نحري وقال : تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء ، فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف معها اثنان ممن يقرأ القرآن ، وسئل عقبة بن عامر عن الكلالة فقال : ألا تعجبون لهذا يسألني عن الكلالة؟ وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة.

قال القاضي أبو محمد : فظاهر كلام عمر رضي الله عنه أن آية الصيف هي هذه ، وروى أبو سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) [النساء : ١٢] إلى آخر الآية.

قال القاضي رحمه‌الله : هذا هو الظاهر ، لأن البراء بن عازب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وقال كثير من الصحابة : هي من آخر ما نزل ، وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسببي ، عادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض فقلت يا رسول الله : كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ، ولم يكن لي والد ولا ولد؟ فنزلت الآية.

قال القاضي أبو محمد : وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تكفيك منها آية الصيف ، بيان فيه كفاية وجلاء ، ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه؟ إلا أن تكون دلالة اللفظ ولذلك قال بعضهم : (الْكَلالَةِ) الميت نفسه ، وقال آخرون (الْكَلالَةِ) المال ، إلى غير ذلك من الخلاف ، وإذا لم يكن في الفريضة والد ولا ولد وترك الميت أختا ، فلها النصف فرضا مسمى بهذه الآية ، فإن ترك الميت بنتا وأختا ، فللبنت النصف ، وللأخت النصف بالتعصيب لا بالفرض المسمى ، ولعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس في هذه المسألة خلاف للناس وذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته : ألا إن آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال ، أنزلها الله في أولي الأرحام ، وقرأ ابن أبي عبلة «فإن للذكر مثل حظ». وقوله تعالى (أَنْ تَضِلُّوا) معناه : كراهية أن تضلوا ، وحذر أن تضلوا فالتقدير. لئلا تضلوا ، ومنه قول القطامي في صفة ناقة : [الوافر].

رأينا ما يرى البصراء منها

فآلينا عليها أن تباعا

وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قال : اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم

سورة المائدة

هذه السورة مدنية بإجماع. وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية قال : يا عليّ أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع. ومنها ما نزل عام الفتح وهو قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢] الآية. وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مدني سواء ما نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار أو بمكة. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.

قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً)

قال علقمة : كل ما في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدني. وقد تقدم القول في مثل هذا. ويقال : وفى وأوفى بمعنى واحد ، وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود. وهي الربوط في القول كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح أو بيع أو غيره. ولفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب. إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفظ «العقود» يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه ، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر الناس لفظ «العقود» بالعهود. وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة (أوفوا بالعقود) معناه بعهد الجاهلية. روي لنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام.

قال القاضي أبو محمد : وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين ، إذ كان الجمهور على ظلم وضلال ، والإسلام قد ربط الجميع وجعل المؤمنين إخوة فالذي يريد أن يختص به


المتعاقدان قد ربطهما إليه الشرع مع غيرهم من المسلمين اللهم إلا أن يكون التعاهد على دفع نازلة من نوازل الظلامات فيلزم في الإسلام التعاهد على دفع ذلك والوفاء بذلك العهد ، وأما عهد خاص لما عسى أن يقع يختص المتعاهدون بالنظر فيه والمنفعة كما كان في الجاهلية فلا يكون ذلك في الإسلام. قال الطبري : وذكر أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حلف الجاهلية ، فقال لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم الله ، قال نعم يا نبي الله ، قال لا يزيده الإسلام إلا شدة. وقال ابن عباس رضي الله عنه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) معناه بما أحل الله وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء ، قاله مجاهد وغيره.

وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما «العقود» في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.

وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف.

قال القاضي أبو محمد : وقد تنحصر إلى أقل من خمس ، وقال ابن جريج قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قال : هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم ، وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : هذا بيان من الله ورسوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فكتب الآيات منها إلى قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [المائدة : ٤].

قال القاضي أبو محمد : وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع. ومن لفظ العقد قول الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

وقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) خطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله وكانت للعرب سنن في «الأنعام» من السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك فنزلت هذه الآية رافعة لجميع ذلك ، واختلف في معنى (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) فقال السدي والربيع وقتادة والضحاك : هي «الأنعام» كلها.

قال القاضي أبو محمد : كأنه قال أحلت لكم «الأنعام» فأضاف الجنس إلى أخص منه. وقال الحسن : (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات فهي تؤكل دون ذكاة ، وقال ابن عباس : هذه الأجنة من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، قال الطبري : وقال قوم (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وحشها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن الضحاك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، وذلك أن «الأنعام» هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن


حد «الأنعام» فصار له نظر ما ، ف (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) هي الراعي من ذوات الأربع وهذه على ما قيل إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع ، وما هي عندي إلا إضافة الشيء إلى جنسه وصرح القرآن بتحليلها. واتفقت الآية وقول النبي عليه‌السلام «كل ذي ناب من السباع حرام» ، ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد إذ أحدهما استثني فيه أشخاص نالتها صفات ما وتلك الصفات واقعات كثيرا في الراعي من الحيوان. والثاني استثني فيه حال للمخاطبين وهي الإحرام والحرم ، والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج ، فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع. والبهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم ومنه باب مبهم وحائط مبهم ، وليل بهيم ، وبهمة ، للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) استثناء ما تلي في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : ٣]. و (ما) في موضع نصب على أصل الاستثناء وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون (إِلَّا) عاطفة وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك جاء الرجال إلا زيد كأنك قلت غير زيد بالرفع وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) نصب (غَيْرَ) على الحال من الكاف والميم في قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالرفع ووجهها الصفة للضمير في (يُتْلى) لأن «غير محلي الصيد» هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا أو يتخرج على الصفة ل (بَهِيمَةُ) على مراعاة معنى الكلام كما ذكرت.

قال القاضي أبو محمد : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب «غير» وقدروا فيها تقديمات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء وحرم جميع حرام وهو المحرم ومنه قول الشاعر :

فقلت لها فيئي إليك فإنني

حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي ملبّ وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب «حرم» بسكون الراء. قال أبو الحسن هذه لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحوه ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب أي فأنت أيها السامع لنسخ تلك العهود التي عهدت تنبه فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام : الأمر بالوفاء بالعقود وتحليل بهيمة الأنعام واستثناء ما تلي بعد واستثناء حال الإحرام فيما يصاد وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم ، وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا للكندي : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد ..

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) خطاب للمؤمنين حقا أن لا يتعدوا حدود الله


في أمر من الأمور. والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حده وطاعته فهي بمعنى معالم الله ، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي (شَعائِرَ اللهِ) حرم الله ، وقال ابن عباس (شَعائِرَ اللهِ) مناسك الحج. وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وقال ابن عباس أيضا (شَعائِرَ اللهِ) ما حد تحريمه في الإحرام. وقال عطاء بن أبي رباح ، (شَعائِرَ اللهِ) جميع ما أمر به أو نهى عنه ، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم. وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية ، وقوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه‌السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه. وتزيل فيه السلاح ، وتنزع الأسنة من الرماح ، وتسميه منصل الأسنة وتسميه الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح ، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفرا فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله علم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته ..

قال القاضي أبو محمد : والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصا بقريش ثم فشا في مضر ، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص :

وشهر بني أمية والهدايا

إذا حبست مضرجها الدماء

قال أبو عبيدة أراد رجبا لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر ..

قال القاضي أبو محمد : فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، وقال عكرمة : المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها ، وقولنا فيها «أول» تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم.

وقوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه ، واختلف الناس في (الْقَلائِدَ) فحكى الطبري عن ابن عباس أن (الْقَلائِدَ) هي (الْهَدْيَ) المقلد وأن (الْهَدْيَ) إنما يسمى هديا ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي» الذي يقلد والمقلد منه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن (الْهَدْيَ) إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال (الْهَدْيَ) جملة ثم ذكر


المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد ، وقال جمهور الناس : (الْهَدْيَ) عام في أنواع ما أهدي قربة و (الْقَلائِدَ) ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من السمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره : بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل ذلك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني. وقال مجاهد وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون ، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره ، وقوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين (الْبَيْتَ الْحَرامَ) على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة وذلك أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما لأصحابه : «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فجاء الحطم فخلف خيله خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما عرض رسول الله عليه‌السلام ودعاه إلى الله قال : أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره. فخرج فقال النبي عليه‌السلام «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر» ، فمر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :

قد لفها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم

خدلج الساقين خفاق القدم

ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجا وساق هديا فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليه. وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه‌السلام ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون ، فقال المسلمون يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

قال القاضي أبو محمد : فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم ، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت» بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء ، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت ، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورضوانا» بضم الراء.


قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة.

قوله تعالى :

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ)

جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول ، وقوله تعالى : (فَاصْطادُوا) صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس ، واختلف العلماء في صيغة أفعل إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات ، فقال الفقهاء : هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة ، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل ، وقال قوم : هي على الندب حتى يدل الدليل وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف. ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وقد تجيء للندب كقوله : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [الحج : ٧٧] وقد تجيء للإباحة كقوله (فَاصْطادُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [العنكبوت : ١٧] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندبا ، وقد تجيء للوعيد كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وقد تجيء للتعجيز كقوله (كُونُوا حِجارَةً) [الإسراء : ٥٠] وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا» بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذ بدأت فقلت : اصطادوا فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسرة ألف الوصل ، وقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) معناه ولا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب ، وفي الحديث : وتكسب المعدوم ، قال أبو علي : وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب ، وقال الكسائي جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم (يَجْرِمَنَّكُمْ) معناه يحق لكم كما أن (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) [النحل : ٦٢] معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس (يَجْرِمَنَّكُمْ) معناه يحملنكم.

قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر : [أبو خراش الهذلي] :

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

معناه كاسب قوت ناهض ، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم ، وقرأ ابن مسعود وغيره


«يجرمنكم» بضم الياء والمعنى أيضا لا يكسبنكم وأما قول الشاعر :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى : (شَنَآنُ قَوْمٍ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شنآن» متحركة النون ، وقرأ ابن عامر «شنآن» ساكنة النون ، واختلف عن عاصم ونافع ، يقال شنئت الرجل شنأ بفتح الشين وشنآنا بفتح النون وشنآنا بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته ، قال سيبويه : كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت كما عدي الرفث ب «إلى» من حيث كان بمعنى الإفضاء.

قال القاضي أبو محمد : فأما من قرأ «شنآن» بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره ، ويحتمل «الشنان» بفتح النون أن يكون وصفا فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم : حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ومنه ما أنشده أبو زيد :

وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي

وفقأت عين الأشوس الأبيان

بفتح الباء وأما من قرأ «شنآن» بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدرا وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه ليانا ، وقول الأحوص :

وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

إنما هو تخفيف من «شنآن» الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي ، قال أبو علي : من زعم أن فعلان إذا أسكنت علينه لم يك مصدرا فقد أخطأ ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفا فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا وإذا قدرت اللفظة مصدرا فهو مصدر مضاف إلى المفعول ، ومما جاء وصفا على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان.

قال القاضي أبو محمد : ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان ، وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما صد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما


صددنا فنزلت الآية ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم» بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم» بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه إن وقع مثل ذلك في المستقبل. وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم» وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير.

ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون (عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) قال قوم : هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا بشدة العقاب وروي أن هذه الآية نزلت نهيا عن الطلب بذحول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، قاله مجاهد. وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل ..

وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [المائدة : ١] و (الْمَيْتَةُ) كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة ، وقرأ جمهور الناس «الميتة» بسكون الياء ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة» بالتشديد في الياء قال الزجاج : هما بمعنى واحد ، وقال قوم من أهل اللسان : الميت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر :

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

قال القاضي أبو محمد : والبيت يحتمل أن يتأول شاهدا عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة وقوله تعالى : (وَالدَّمُ) معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم وعلى تحليل الطحال ونحوه وكانت الجاهلية تستبيح الدم ومنه قولهم لم يحرم من فصد له والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) مقتض لشحمه بإجماع ، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلدا كان أو عظما ، وقوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارى وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذا صاح عند الولادة ، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر:

يهل بالفرقد ركبانها

كما يهل الراكب المعتمر

وقوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ) معناه التي تموت خنقا وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع ، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة


وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباس (وَالْمَوْقُوذَةُ) التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق :

شغارة تغذ الفصيل برجلها

فطارة لقوادم الأبكار

وقال ابن عباس (الْمَوْقُوذَةُ) التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها.

قال القاضي أبو محمد : ومن اللفظة قول معاوية ، وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته ، وقال الضحاك : كانوا يضربون «الأنعام» بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها وقال أبو عبد الله الصنابحي ليس (الْمَوْقُوذَةُ) إلا في مالك وليس في الصيد وقيذ.

قال القاضي أبو محمد : وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في المعراض «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ» ، (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة ، (وَالنَّطِيحَةُ) فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت وتأول قوم (النَّطِيحَةُ) بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان ، وقال قوم : لو ذكر الشاة لقيل : والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين ، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكرا يريد أم مؤنثا ، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك : النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم ..

قال القاضي أبو محمد : وكل ما مات ضغطا فهو نطيح ، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة» ، وقوله : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه هذه كلها سباع. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد. وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها ، قاله قتادة وغيره.

وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبع» بسكون الباء وهي لغة أهل نجد وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه. وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع» وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع» ، واختلف العلماء في قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاستثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرق بعين أو يمصع برجل أو يحرك ذنبا وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل ، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده ، وقال مالك رحمه‌الله مرة بهذا القول ، وقال أيضا وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة ان قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة.


قال القاضي أبو محمد : فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم» مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) من غير هذه فكلوه ، وفي هذا عندي نظر ، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات ، وقال الطبري : إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى ، والذكاة في كلام العرب الذبح ، قاله ثعلب ، قال ابن سيده : والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو حديث ، وذكى الحيوان ذبحه ، ومنه قول الشاعر :

يذكيها الأسل

ومما احتج به المالكيون لقول مالك ، إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولا يغني عنها فمن حجة المخالف ان قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميتة الوجع حسب ما كانت هي عليه.

قوله تعالى :

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤)

قوله : (وَما ذُبِحَ) عطف على المحرمات المذكورات ، و (النُّصُبِ) جمع واحده نصاب ، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون ، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضا وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعا قطعا ليأكل الناس ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما : (النُّصُبِ) حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. وقال ابن عباس : ويهلون عليها ، قال ابن جريج : (النُّصُبِ) ليس بأصنام الصنم يصور وينقش ، وهذه حجارة تنصب.

قال القاضي أبو محمد : وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون فيها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره ، قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة .. فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) [الحج : ٣٧] ونزلت (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).


قال القاضي أبو محمد : المعنى والنية فيها تعظيم النصب ، قال مجاهد : وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها ، قال ابن زيد : (ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وما أهل به لغير الله شيء واحد.

قال رضي الله عنه : (ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضا نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النّصب» بفتح النون وسكون الصاد ، وقال على الصنم ، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النّصب» بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ عيسى بن عمر «على النّصب» بفتح النون والصاد وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر (بِالْأَزْلامِ) وهي سهام واحدها زلم بضم الزاي وبفتحها وأزلام العرب ثلاثة أنواع ، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل والآخر لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب ، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وقت الهجرة ، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل ، في أحدها العقل في أمور الديات ، وفي آخر منكم وفي آخر من غيركم وفي آخر ملصق وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق ، وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل. والنوع الثالث هو قداح الميسر وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف ، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر ، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام ، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام» حرام كله وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) إشارة إلى الاستقسام (بِالْأَزْلامِ) ، والفسق الخروج من مكان محتو جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء ، وظاهر أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة ألا بطل السحر اليوم ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وهذه الآية نزلت في إثر


حجة الوداع وقيل في يوم عرفة يوم الجمعة ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكن المشركون حينئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر ، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج ، ويحتمل قوله تعالى : (الْيَوْمَ) أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره ، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك. ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان (يَئِسَ) الكفار من دينكم وقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومفتاح كل خير ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس» بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) تحتمل الإشارة ب (الْيَوْمَ) ما قد ذكرناه ، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا ، وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك. وقال ابن عباس والسدي هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض ، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والظاهر أنه عاش عليه‌السلام أكثر بأيام يسيرة. وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقت ، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي : آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال له عمر أية آية هي فقال له: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة.

قال القاضي أبو محمد : ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة ، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته قال داود : فقلت أي يوم هو قال يوم عرفة ، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوسا في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه ، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة.

قال القاضي أبو محمد : وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال : نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم


الاثنين ، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حجة الوداع ، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قبلنا ، وقوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها ، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الإيمان والأعمال والشعب.

وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات ، وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متى تحل الميتة؟ فقال إذا لم يصطبحوا ولم يغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا.

قال القاضي أبو محمد : فهذا مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة وقرأ ابن محيصن «فمن اطر» بإدغام الضاد في الطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالا كثيرا وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة ، و «المخمصة» المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال خمصانة وبطن خميص ومنه أخمص القدم ، ويستعمل ذلك كثيرا في الجوع والغرث ، ومنه قول الأعشى :

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن ، وقوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) هو بمعنى (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة : ١٧٣] وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل ، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف» ، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من (مُتَجانِفٍ) ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه ، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه. ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ، ومقاربة ميل ، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل ، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات.

وسبب نزول قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد في البيت كلبا فلم يدخل فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ادخل فقال أنا لا أدخل بيتا فيه كلب فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟


قال القاضي أبو محمد : وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كان المتولي لقتل الكلاب ، وحكاه أيضا عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفا عليهما وظاهر الآية أن سائلا سأل عما أحل للناس من المطاعم لأن قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيرا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبين الشرع فإنما يجاوب مادّا أطناب التعليم لأمته ، و (الطَّيِّباتُ) الحلال هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراغى مستلذا كان أم لا ، وقال الشافعي : (الطَّيِّباتُ) الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام.

وقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيما فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم ، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف ، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال : جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠] أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال : وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال : لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد البازي فقال إذا أمسك عليك فكل ، وقال الضحاك والسدي : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي. وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال ابن راهويه ، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.

وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه ، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ويعضد هذا القول قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ، وتأول هؤلاء قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي الإمساك التام ومتى أكل فلم يمسك على الصائد ، وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة أيضا وسلمان الفارسي رضي الله عنهم : إذا أكل الجارح أكل ما بقي وإن لم تبق إلا بضعة. وهذا قول مالك وجميع أصحابه فيما علمت وتأولوا قوله تعالى : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٤] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه خاصة في البازي.

قال القاضي أبو محمد : كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب ، وأن يشلى


فينشلي ، وإذا كان الجارح يشرب من دم الصيد فجمهور الناس على أن ذلك الصيد يؤكل ، وقال عطاء: ليس شرب الدم بأكل. وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري.

قال القاضي أبو محمد : وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذا وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم. وأما الطير فقال ربيعة : ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري.

قال القاضي أبو محمد : لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي ، وقال أصحاب أبي حنيفة : إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات ولاء فقد حصل منه التعليم ، قال ابن المنذر : وكان النعمان لا يحد في ذلك عددا ، وقال غيرهم : إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلما وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري ، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه ، ومالك رحمه‌الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلما قالوا : وذلك مثل شفرته ، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه‌الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى ، وقال ابن وهب وأشهب : صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته ، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابىء ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسيا فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس ، وقال أبو ثور فيها قولين : أحدهما كقول هؤلاء ، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز ، وقرأ جمهور الناس «وما علمتم» بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «علّمتم» بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها ، و (الْجَوارِحِ) الكواسر على ما تقدم ، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا (الْجَوارِحِ) مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكلّبين» بفتح الكاف وشد اللام والمكلب معلم الكلاب ومضريها ويقال لمن يعلم غير كلب مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب ، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكلبين» بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال : أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه ، وقال بعض المفسرين : المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب.

قال القاضي أبو محمد : وليس هذا بمحرر.

قوله عزوجل :

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ


مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥)

أي يعلمونهن من الحيلة في الاصطياد والتأتي لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه الله الإنسان ف «من» للتبعيض ، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية وأنث الضمير في (تُعَلِّمُونَهُنَ) مراعاة للفظ (الْجَوارِحِ) إذ هو جمع جارحة ، وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) يحتمل أن يريد مما أمسكن فلم يأكلن منه شيئا. ويحتمل أن يريد مما «أمسكن» وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك ، وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمدا أو نسيانا لم تؤكل وممن رويت عنه كراهية ما لم يسم عليه الله نسيانا الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور ، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفا لم تؤكل وإن تركها عامدا لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم : أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامدا فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسيا سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة ، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر ، وقال قوم : إن صلى مع ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجائز ، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علما فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة ، وتحتمل الآية أن تكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب ، ويحتمل أن يريد ب (الْحِسابِ) المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) إشارة إلى الزمن والأوان ، والخطاب للمؤمنين ، وتقدم القول في (الطَّيِّباتُ) وقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ابتداء وخبر ، و (حِلٌ) معناه حلال ، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير ، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه ويحرم عينه تملك أحد ، والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين فمنه ما محاولته صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن جنب من الذمي فعلى جهة التقزز ، والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول : إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس ، ثم إن العلماء اختلفوا في لفظ طعام فقال الجمهور : وهي الذبيحة كلها وتذكية الذمي عاملة لنا في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه لأنه مذك. وقالت جماعة من أهل العلم إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم فمنعت هذه الطائفة الطريف والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب ، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك رحمه‌الله ، واختلف


العلماء في لفظة (أُوتُوا) فقالت فرقة إنما أحلت لنا ذبائح بني إسرائيل والنصارى الصرحاء الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، فمنعت هذه الفرقة ذبائح نصارى بني تغلب من العرب وذبائح كل دخيل في هذين الدينين وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب ويقول لأنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر.

قال القاضي أبو محمد : فهذا ليس بنهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم ، وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وحماد وقتادة ومالك رحمه‌الله وغيرهم : إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم ، وكذلك اليهود وتأولوا قول الله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١] وقوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي ذبائحكم ، فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم ورخص الله تعالى في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز ، وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ) عطف على الطعام المحلل ، والإحصان في كلام العرب وفي تصريف الشرع مأخوذ من المنعة ومنه الحصن ، وهو مترتب بأربعة أشياء : الإسلام والعفة والنكاح والحرية ، فيمتنع في هذا الموضع أن يكون الإسلام لأنه قد نص أنهن من أهل الكتاب ويمتنع أن يكون النكاح لأن ذات الزوج لا تحل ، ولم يبق إلا الحرية والعفة فاللفظة تحتملهما ، واختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال فقال مالك رحمه‌الله ومجاهد وعمر بن الخطاب وجماعة من أهل العلم «المحصنات» في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية ، وقالت جماعة من أهل العلم : «المحصنات» في هذه الآية العفائف ، منهم مجاهد أيضا والشعبي وغيرهم فجوزوا نكاح الأمة الكتابية وبه قال سفيان والسدي ، وقال الشعبي : إحصان الذمية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة ، وقال أبو ميسرة : مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهن العفائف منهن حلال نكاحهن.

قال القاضي أبو محمد : ومنع بعض العلماء زواج غير العفيفة بهذه الآية ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا اطلع الرجل من امرأته على فاحشة فليفارقها. وفرق ابن عباس بين نساء أهل الحرب ونساء أهل الذمة فقال : من أهل الكتاب من يحل لنا وهم كل من أعطى الجزية ، ومنهم من لا يحل لنا وهم أهل الحرب ، وكره مالك رحمه‌الله نكاح نساء أهل الحرب مخافة ضياع الولد أو تغير دينه ، والأجور في هذه الآية المهور ، وانتزع أهل العلم لفظة (آتَيْتُمُوهُنَ) أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به ، ومن جوز أن يدخل دون أن يبذل ذلك فرأى أنه بحكم الارتباط والالتزام في حكم الموتى ، و (مُحْصِنِينَ) معناه متزوجين على السنة ، والإحصان في هذا الموضع هو بالنكاح ، والمسافح المزاني ، والسفاح الزنى ، والمسافحة هي المرأة التي لا ترد يد لامس وتزني مع كل أحد وهن أصحاب الرايات في الجاهلية ، والمخادنة أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد نفسه على صاحبه ، وقد تقدم نظير هذه الآية وفسر بأوعب من هذا ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) يحتمل أن يكون المعنى على أن الكفر هو بنفس الإيمان ، وفي هذا مجاز واستعارة لأن الإيمان لا يتصور كفر به إنما الكفر بالأمور التي حقها أن يقع الإيمان بها ، وباقي الآية بين.


قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦)

لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء ، لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير ، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق. وفيها كان هبوب الريح فيما روي ، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) [المنافقون : ٨] القصة بطولها ، وفيها وقع حديث الإفك. ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة (إِذا قُمْتُمْ) ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله (إِذا قُمْتُمْ) فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثا فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية ، وروي نحوه عن عكرمة ، وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة ، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءا فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتدابا إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ، وقال : إنما رغبت في هذا ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال ، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة ، وكان دليل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، وقال زيد بن أسلم والسدي : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم.


قال القاضي أبو محمد : والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث ، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) من النوم (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) يعني الملامسة الصغرى (فَاغْسِلُوا) فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر ثم قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فهذا حكم نوع آخر ، ثم قال للنوعين جميعا (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه‌الله وغيره ، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : (فَاطَّهَّرُوا) ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعا وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ليذكر الجنب العادم للماء كما ذكر الواجد ، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم.

وقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها ، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه ، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه ، والوجه ما راجه الناظر وقابله ، وحدّه في الطول منابت الشعر فوق الجبهة إلى آخر الذقن ، وعبر بعض الناس إلى تحت الذقن ، واختلف في ذي اللحية فقيل : حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن ، وقيل بل حده فيها آخر الشعر ، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث أنس ذكره الطبري ، واختلف في حده عرضا فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل : من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل : من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل : يغسل ذلك البياض استحبابا ، واختلف في الأذنين فقيل هما من الرأس ، وقال الزهري من الوجه ، وقيل هما عضو قائم بنفسه ليسا من الوجه ولا من الرأس ، وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس ، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء ، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة ، وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.

وقوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحيانا ليطيل الغرة ، وحد الله تعالى موضع الغسل منه بقوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) يقال في واحدها مرفق ومرفق ، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر ، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها ، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل ، ومثل أبو


العباس المبرد في ذلك بأن تقول : اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧].

قال القاضي أبو محمد : وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد (إِلَى) ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه ، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد ، وروي عنه أنهما داخلان.

وقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين ، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه ، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر ، وقالت فرقة : يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس ، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول بالعموم ، واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل : هو فرض ، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة : الواجب من مسح الرأس عمومه ، ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه ، وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي : وروي عن مالك أنه أن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع ، وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ.

قال القاضي أبو محمد : وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس ، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس ، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه. وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط ، وقال أصحاب الرأي : إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم : يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها ، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه ، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعا وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة ، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء.

قال القاضي أبو محمد : ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون


ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء ، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات ، فالجمهور على مرة واحدة ويجزىء ذلك عند الشافعي وثلاثا أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين ، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثا ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة ، والباء في قوله (بِرُؤُسِكُمْ) مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس ، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم ، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كأن المعنى أوجدوا مسحا برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك ، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثارا وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم‌الله.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلكم» خفضا وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصبا ، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض ، وروى عنه حفص النصب ، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلكم» بالرفع المعنى فاغسلوها ، ورويت عن نافع ، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين ، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح ، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو اللازم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ، «ويل للأعقاب من النار» ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين ، واختلفوا ، فقالت فرقة منهم ، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا» بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) قال وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما ، وروي أيضا عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح.

وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ثم قال : ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا وروي عن أبي جعفر أنه قال : امسح على رأسك وقدميك ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلكم» بكسر اللام ، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم ، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح ، وذهب قوم ممن يقر بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين» هو الغسل ، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي ، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً) [ص : ٣٣] أنه الضرب ، ويقال : مسح علاوته إذا ضربه ، قال أبو علي : فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل ، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل أن الحد قد وقع فيهما ب (إِلَى) كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد.

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه فكان الوضوء مغسولين حد أحدهما وممسوحين حد أحدهما ، وقال الطبري رحمه‌الله إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم


يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلا ماسحا ، قال : ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضىء أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار. وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء. وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بضم اللام ، والكلام في قوله (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) كما تقدم في قوله (إِلَى الْمَرافِقِ). واختلف اللغويون في (الْكَعْبَيْنِ) فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت ، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق. وقال قوم الكعب هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل.

قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام. قال الشافعي رحمه‌الله لم أعلم مخالفا في أن (الْكَعْبَيْنِ) هما العظمان في مجمع مفصل الساق ، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال : الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي (إِلَى الْمَرافِقِ) أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر ، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان ، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر ، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان ، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه فقال الأبهري الترتيب سنة ، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي مجزىء ، واختلف في العامد فقيل : يجزىء ويرتب في المستقبل ، وقال أبو بكر القاضي وغيره : لا يجزىء لأنه عابث.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) الجنب مأخوذ من الجنب لأنه يمس جنبه جنب امرأة في الأغلب ، ومن المجاورة والقرب قيل (وَالْجارِ الْجُنُبِ) [النساء : ٣٦] ، ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه ، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون (الْجارِ الْجُنُبِ) [النساء : ٣٦] هو البعيد الجوار ويكون مقابلا للصاحب بالجنب و «اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء ، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، وقال جمهور الناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء ، وقد ذكر الجنب أيضا بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) إذ الملامسة هنا الجماع ، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه ، هذا هو مشهور المذهب ، وروى محمد بن مروان الظاهري وغيره عن مالك أنه يجزىء في غسل الجنابة أن ينغمس الرجل في الماء دون تدلك ، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلى قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) وقراءة من قرأ «من الغيط».

وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلا مراعاة


للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم ، وتعدية أراد وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل

قال سيبويه وسألته رحمه‌الله عن هذا فقال ، المعنى إرادتي لأنسى ، ومن ذلك قول قيس بن سعد :

أردت لكيما يعلم الناس أنها

سراويل قيس والوفود شهود

ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن ، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة من وإن لم يكن النفي واقعا على الفعل الواقع على الحرج ، ولهذا نظائر ، والحرج الضيق ، والحرجة الشجر الملتف المتضايق ، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دين الله يسر» وقوله «بعثت بالحنيفية السمحة». وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبدا ولذلك قال أسيد : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) الآية ، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى ، و (لَعَلَّكُمْ) : ترجّ في حق البشر ، وقرأ سعيد بن المسيب «يطهركم» بسكون الطاء وتخفيف الهاء.

قوله عزوجل :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٨)

الخطاب بقوله : (وَاذْكُرُوا) إلى آخر الآية هو للمؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (نِعْمَةَ اللهِ) اسم جنس يجمع الإسلام وجمع الكلمة وعزة الحياة وغنى المال وحسن المآل ، هذه كلها نعم هذه الملة ، والميثاق المذكور هو ما وقع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيعات العقبة وبيعة الرضوان وكل موطن قال الناس فيه سمعنا وأطعنا هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة من المفسرين. وقال مجاهد : الميثاق المذكور هو المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم ، والقول الأول أرجح وأليق بنمط الكلام.

ثم أمر تعالى المؤمنين بالقيام دأبا متكررا بالقسط وهو العدل ، وقد تقدم نظير هذا في سورة النساء وتقدم في صدر هذه السورة نظير قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢] وباقي الآية بيّن متكرر والله المعين.


قوله عزوجل :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١)

هذه آية وعد للمؤمنين بستر الذنوب عليهم وبالجنة فهي الأجر العظيم ، و (وَعَدَ) يتعدى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما ، وكذلك هو في هذه الآية ، فالمفعول الثاني مقدر يفسره ويدل عليه قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ثم عقب تعالى بذكر حال الكفار ليبين الفرق.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، والنعمة هي العاملة في إذ وهي نعمة مخصوصة ، وهم الرجل بالشيء إذا أراد فعله ، ومنه قول الشاعر :

هل ينفعنك اليوم أن همت بهم

كثرة ما توصي وتعقاد الرتم

ومنه قول الآخر :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

واختلف الناس في سبب هذه الآية وما النازلة التي وقع فيها الهم ببسط اليد والكف من الله تعالى؟ فقال الجمهور : إن سبب هذه الآية أنه لما قتل أهل بئر معونة نجا من القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل آخر معه ، فلقيا بقرب المدينة رجلين من سليم قد كانا أخذا عهدا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانصرفا ، فسألهما عمرو ممن أنتما؟ فانتسبا إلى بني عامر بن الطفيل وهو كان الجاني على المسلمين في بئر معونة ، فقتلهما عمرو وصاحبه وأتيا بسلبهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لقد قتلتما قتيلين لأدينهما ثم شرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جمع الدية فذهب يوما إلى بني النضير يستعينهم في الدية ومعه أبو بكر وعمر وعلي. فكلمهم فقالوا : نعم يا أبا القاسم انزل حتى نصنع لك طعاما وننظر في معونتك ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظل جدار فتآمروا بينهم في قتله ، وقالوا ما ظفرتم بمحمد قط أقرب مراما منه اليوم ، فقال بعضهم لبعض من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجرا يشدخه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش فيما روي ، وجاء جبريل فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام رسول الله من المكان وتوجه إلى المدينة ونزلت الآية في ذلك ، وفي الخبر زوائد لا تخص الآية وقد ذكره ابن إسحاق وغيره ، وهذا القول يترجح بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر بني إسرائيل ونقضهم المواثيق ، وقالت جماعة من العلماء : سبب الآية فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع ، وهي غزوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان ، وذلك أنه نزل بواد كثير العضاه ، فتفرق الناس في الظلال وتركت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجرة ظليلة ، فعلق سيفه بها ونام فجاء رجل


من محارب فاخترط السيف فانتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسيف صلت في يده ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتخافني؟ فقال لا ، فقال له ومن يمنعك مني ، فقال : الله ، فشام السيف في غمده وجلس ، وفي البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعاقبه ، وذكر الواقدي وابن أبي حاتم عن أبيه أنه أسلم ، وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق الشجرة حتى مات ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث بالغين منقوطة ، وحكى بعض الناس أن اسمه دعثور بن الحارث وحكى الطبري أن الآية نزلت بسبب قوم من اليهود أرادوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طعام ، فأشعره الله بذلك ، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة عن ابن عباس خلاف ما ترجم به من أن قوما من اليهود صنعوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام.

قال القاضي أبو محمد : فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة ، وقال قتادة : سبب الآية ما همت به محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر ، فأشعره الله تعالى بذلك ونزلت صلاة الخوف ، فذلك كف أيديهم عن المسلمين ، وحكى ابن فورك عن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت بسبب أن قريشا بعثت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا ليغتاله ويقتله. فأطلعه الله تعالى على ذلك وكفاه شره.

قال القاضي أبو محمد : والمحفوظ في هذا هو نهوض عمير بن وهب لهذا المعنى بعد اتفاقه على ذلك مع صفوان بن أمية والحديث بكماله في سيرة ابن هشام ، وذكر قوم من المفسرين وأشار إليه الزجاج أن الآية نزلت في قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣] فكأنه تعالى عدد على المؤمنين نعمه في أن أظهرهم وكف بذلك أيدي الكفار عنهم التي كانوا هموا ببسطها إلى المؤمنين.

قال القاضي أبو محمد : ويحسن على هذا القول أن تكون الآية نزلت عقب غزوة الخندق وحين هزم الله الأحزاب وكفى الله المؤمنين القتال ، وباقي الآية أمر بالتقوى والتوكل.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٢)

هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير ، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها ، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس


كلهم على هذه الطريقة ومنه قيل في عمر : إنه كان لنقابا ، فالنقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي العقبة الثالثة بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السبعين اثني عشر رجلا وسماهم النقباء ، وقال الربيع والسدي وغيرهما إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعا فجعلهم في حجزته.

قال القاضي أبو محمد : في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه‌السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، وأسند الطبري عن ابن عباس قال : النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل فقالوا : اقدروا قدر قوة قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائيل ونكولهم ، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) أي ملكا وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك قال فما وفى منهم إلا خمسة داود عليه‌السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جبارا كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم والضمير في (مَعَكُمْ) لبني إسرائيل جميعا ولهم كانت هذه المقالة وقال الربيع : بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة.

قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أرجح و (مَعَكُمْ) معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله (لَئِنْ) هي المؤذنة بمجيء لام القسم ولام القسم هي قوله (لَأُكَفِّرَنَ) والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحيانا ويتم الكلام دونها ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك ، وإقامة الصلاة توفية شروطها و (الزَّكاةَ) هنا شيء من المال كان مفروضا فيما قال بعض المفسرين ويحتمل أن يكون المعنى وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه وقدم هذه على الإيمان تشريفا للصلاة والزكاة وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «برسلي» ساكنة السين في كل القرآن. (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) معناه وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم ومنه قول الشاعر :

وكم من ماجد لهم كريم

ومن ليث يعزر في الندى

وقرأ عاصم الجحدري «وعزرتموهم» خفيفة الزاي حيث وقع وقرأ في سورة الفتح «وتعزوه» بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي ، وقد تقدم في سورة البقرة تفسير الإقراض ، وتكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة و (سَواءَ السَّبِيلِ) وسطه ومنه (سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] ومنه قول الأعرابي قد انقطع سوائي ، وأوساط الطرق هي المعظم اللاحب منها ، وسائر ما في الآية بيّن والله المستعان.


قوله تعالى :

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣)

يحتمل أن تكون «ما» زائدة والتقدير «فبنقضهم» ويحتمل أن تكون اسما نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة التقدير فبفعل هو نقضهم للميثاق وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا و (لَعَنَّاهُمْ) معناه بعدناهم من الخير أجمعه وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية» بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية» دون ألف وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) وقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٧٤] والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ومن قرأ قسية فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية» ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم وهي التي خالطها غش وتدليس فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :

لها صواهل في صم السلام كما

صاح القسيات في أيدي الصياريف

ومنه قول الآخر :

فما زوداني غير سحق عمامة

وخمس مئي منها قسي وزائف

قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضا وفعلوا الأمرين جميعا بحسب ما أمكنهم.

قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] يقتضي التبديل. ولا شك أنهم فعلوا الأمرين. وقرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام» بالألف ، وقرأ أبو رجاء. «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه‌السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع (عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى (خائِنَةٍ) في هذا الموضع فقالت فرقة (خائِنَةٍ) مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :


حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن

للغدر خائنة مغل الإصبع

وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم» ، ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية وباقي الآية وعد على الإحسان.

قوله عزوجل :

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)

(مِنَ) متعلقة ب (أَخَذْنا) التقدير : وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم ، ويحتمل أن يكون قوله (وَمِنَ) معطوفا على قوله (خائِنَةٍ مِنْهُمْ) [المائدة : ١٣] ، ويكون قوله (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) ابتداء خبر عنهم. والأول أرجح. وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم ، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله ، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم ، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه ، وقوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ) معناه أثبتناها بينهم وألصقناها ، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به ، والضمير في (بَيْنَهُمُ) يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم ، موجودة مستمرة ، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة ، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب ، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.

وقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود ، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مهاجره ، وقال محمد بن كعب القرظي : أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى ، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله : (رَسُولُنا) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الآية الدلالة على صحة نبوته. لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القراءة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى ، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم ، وحديثه مشهور. ومن ذلك صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غير ذلك. و (مِنَ الْكِتابِ) يعني من التوراة وقوله : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) معناه ويترك كثيرا لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم. وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم ، والفاعل في (يَعْفُوَ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه‌السلام فبأمر ربه ، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه‌السلام ، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض.


قوله عزوجل :

قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧)

قوله عزوجل : (نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) يحتمل أن يريد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، وهذا هو ظاهر الألفاظ ، ويحتمل أن يريد موسى عليه‌السلام والتوراة ، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد ، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به قوله وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب «به الله» بضم الهاء حيث وقع مثله ، و (اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه ، والسبل الطرق ، والقراءة في «رضوان» بضم الراء وبكسرها وهما لغتان ، وقد تقدم ذكر ذلك وقرأ ابن شهاب والحسن بن أبي الحسن «سبل» ساكنة الباء. و (السَّلامِ) في هذه الآية يحتمل أن يكون اسما من أسماء الله تعالى ، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم ، ويحتمل أن يكون مصدرا كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار. وقوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ) يعني المتبعين الرضوان ، فالضمير على معنى من لا على لفظها ، و (الظُّلُماتِ) الكفر ، و (النُّورِ) الإيمان ، وقوله تعالى : (بِإِذْنِهِ) أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله ، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه ، فهذا هو حد الإذن ، العلم بالشيء والتمكين منه ، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه.

ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح ، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح عليه‌السلام حظا من الألوهية ، وقد تقدم القول في لفظ (الْمَسِيحُ) في سورة آل عمران ، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لا مالك ولا رادّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله ، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه‌السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى ، وقوله تعالى : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد. بل اختراعا كآدم عليه‌السلام ، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [آل عمران : ٤٠] وفي قصة مريم (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وقوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات ، والشيء في اللغة هو الموجود.


قوله عزوجل :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩)

في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع (الْيَهُودُ وَالنَّصارى) يقولون عن جميعهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة. وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك. وقالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ولو صح ما رووا لكان معناه بكرا في التشريف أو النبوة ونحوه ، وأحباء جمع حبيب ، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان به وخوفهم العذاب ، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا (أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وذكر ذلك ابن عباس ، وقد كانوا قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوما ثم تخلفوننا فيها ، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة ، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوبا على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشرا كسائر الناس ، والخلق أكرمهم أتقاهم ، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه ، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.

وقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى ، والرسول في قوله : (رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) ، أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما ، والفترة سكون بعد حركة في جرم ، ويستعار ذلك في المعاني ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لكل عمل شدة ، ولكل شدة فترة» ، وقال الشاعر :

وإني لتعروني لذكراك فترة

معناه سكون بعد اضطراب ، واختلف الناس في قدر الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاما. وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي


الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة. وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود : ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء ، قاله ابن عباس ، وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا) مفعول من أجله ، المعنى حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) فقد جاءكم وقامت الحجة عليكم ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الهادي والمضل والمنعم والمعذب لا رب غيره.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) (٢٢)

المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليتحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة. وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن. وروي ذلك عن ابن كثير ، و (نِعْمَتَ اللهِ) هنا اسم الجنس ، ثم عدد عيون تلك النعم ، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عيسى عليه‌السلام والأنبياء حاطة ومنقذون من النار وشرف في الدنيا والآخرة. وقوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها ، والمعنى الآخر : أن يريد استنقذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحرارا تملكون ولا تملكون ، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره. وقال قتادة إنما قال : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمه أحد من بني آدم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا ، وإنما اختلفت الأمم في معنى التملك فقط. وقال عبد الله ابن عمرو بن العاصي والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك ، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك ، وقوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير : الخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا ضعيف ، وقال جمهور المفسرين الخطاب هو من موسى عليه‌السلام لقومه ، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله؟ فقال مجاهد ، المن والسلوى والحجر والغمام ، وقال غيره : كثرة الأنبياء.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق ، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى فالعالمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه ، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه‌السلام أكثر من ذلك ، قد ظلل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغمامة قبل مبعثه ، وكلمته الحجارة والبهائم ، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من


قليل الطعام ببركته ، وانشق له القمر ، وعاد العود سيفا ، ورجع الحجر المعترض في الخندق رملا مهيلا.

قال القاضي أبو محمد : وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة ، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه ، و (الْمُقَدَّسَةَ) معناه المطهرة ، وقال مجاهد : المباركة.

قال القاضي أبو محمد : والبركة تطهير من القحوط والجوع ونحوه. واختلف الناس في تعيينها ، فقال ابن عباس ومجاهد هي الطور وما حوله ، وقال قتادة : هي الشام ، وقال ابن زيد : هي أريحا وقاله السدي وابن عباس أيضا ، وقال قوم : هي الغوطة وفلسطين وبعض الأردن ، قال الطبري : ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر.

قال القاضي أبو محمد : وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين ، وقوله : «التي كتاب الله لكم» معناه التي «كتب الله» في قضائه وقدره أنها لكم ترثونها وتسكنونها مالكين لها ، ولكن فتنتكم في دخولها بفرض قتال من فيها عليكم تمحيصا وتجربة ، ثم حذرهم موسى عليه‌السلام الارتداد على الأدبار ، وذلك الرجوع القهقهرى ، ويحتمل أن يكون تولية الدبر والرجوع في الطريق الذي جيء منه ، والخاسر : الذي قد نقص حظه.

ثم ذكر عزوجل عن بني إسرائيل أنهم تعنتوا ونكصوا فقالوا (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ). والجبار فعال من الجبر كأنه لقوته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته ، والنخلة الجبارة العالية التي لا تنال بيد ، وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة فلما بعث «موسى» الاثني عشر نقيبا مطلعين على أمر الجبارين وأحوالهم رأوا لهم قوة وبطشا وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم فجاؤوا بني إسرائيل ونقضوا العهد في أن أخبروهم بحال ال (جَبَّارِينَ) حسبما قدمناه في ذكر بعث النقباء ، ولم يف منهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، ثم إن بني إسرائيل كعوا وجبنوا وقالوا : كوننا عبيدا للقبط أسهل من قتال هؤلاء ، وهم كثير منهم أن يقدموا رجلا على أنفسهم ويصير بهتم إلى أرض مصر مرتدين على الأعقاب ، ونسوا أن الله تعالى إذا أيد الضعيف غلب القوي وأخبروا «موسى» أنهم لن يدخلوا الأرض ما دام الجبارون فيها ، وطلبوا منه أن يخرج الله الجبارين بجند من عنده وحينئذ يدخل بنو إسرائيل.

قوله عزوجل :

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «يخافون» بضم الياء. وقرأ الجمهور «يخافون» بفتح الياء ،


وقال أكثر المفسرين : الرجلان يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوفنا ، ويقال فيه كلاب ، ويقال كالوث بثاء مثلثة ويقال في اسم أبيه يوفيا ، وهو صهر «موسى» على أخته ، قال الطبري : اسم زوجته مريم بنت عمران ، ومعنى (يَخافُونَ) أي الله ، وأنعم عليهما بالإيمان الصحيح وربط الجأش والثبوت في الحق ، وقال قوم المعنى يخافون العدو لكن (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان والثبوت مع خوفهما ، ويقوي التأويل الأول أن في قراءة ابن مسعود : «قال رجلان من الذين يخافون الله أنعم عليهما». وأما من قرأ بضم الياء فلقراءته ثلاثة معان ، أحدها ما روي من أن الرجلين كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه ، فكانا من القوم الذين يخافون لكن (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالإيمان بموسى فقالا نحن أعلم بقومنا ، والمعنى الثاني أنهما يوشع وكالوث لكنهما من الذين يوقرون ويسمع كلامهم ويهابون لتقواهم وفضلهم. فهم «يخافون» بهذا الوجه. والمعنى الثالث أن يكون الفعل من أخاف والمعنى من الذين يخافون بأوامر الله ونواهيه ووعيده وزجره ، فيكون ذلك مدحا لهم على نحو المدح في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) [الحجرات : ٣] وقوله تعالى : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) صفة للرجلين ، والباب هو باب مدينة الجبارين فيما ذكر المفسرون والمعنى اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب ، وقوله : (فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) ظن منهما ورجاء وقياس أي إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم ، وفي قراءة ابن مسعود «عليهما ويلكم ادخلوا». وقولهما : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر.

ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى : و (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وهذه عبارة تقتضي كفرا ، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقولهم (فَقاتِلا) يقطع بهذا التأويل ، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى» وكان معظما في بني إسرائيل محببا لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا اذهب أنت وكبيرك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد ، وهارون إنما كان وزيرا لموسى وتابعا له في معنى الرسالة ، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر ، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية ، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود : لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون». لكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : وجميع هذا وهم ، غلط قتادة رحمه‌الله في وقت النازلة ، وغلط النقاش في قائل المقالة ، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذفران فكلم الناس


وقال لهم : أشيروا عليّ أيها الناس ، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية.

قال القاضي أبو محمد : وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى ، ويونس أيضا في إيمان بني إسرائيل ، لأن المقداد قد قال : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك ، أي اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها ، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها ، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها.

ولما سمع موسى عليه‌السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم ، وقال داعيا عليهم : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) يعني هارون ، وقوله : (وَأَخِي) يحتمل أن يكون إعرابه رفعا إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه ، وإما على العطف على الضمير الذي في (أَمْلِكُ) تقديره لا أملك أنا ، ويحتمل أن يكون إعرابه نصبا على العطف على (نَفْسِي) ، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى» فلذلك أخبر أنه يملكه ، وقرأ الحسن «إلا نفسي وأخي» بفتح الياء فيهما ، وقوله : (فَافْرُقْ بَيْنَنا) دعاء حرج ، قال السدي ، هي عجلة عجلها موسى عليه‌السلام ، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح ، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة ، وقال قوم : المعنى «فافرق بيننا وبينهم» في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق ، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه : «فرق بيننا وبينهم» بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم «وفرق بيننا وبينهم» حتى لا نشقى بفسقهم ، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء ، وقرأ عبيد بن عمير «فافرق» بكسر الراء.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ) المعنى قال الله ، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازا لدلالة معنى الكلام على المراد ، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة (أَرْبَعِينَ سَنَةً) وتركهم خلالها (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي في أرض تلك النازلة ، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلا في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام ، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبدا ، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث ، ويروى أن هارون عليه‌السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها ، وروي أن «موسى» عليه‌السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام ، وقيل بستة أشهر ونصف ، وأن يوشع نبىء بعد كمال «الأربعين سنة». وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة ، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين ، وروي أن «موسى» عليه‌السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته ، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق ، يقال كان في طول «موسى» عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع ، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع. وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعا ، ويروى أن عوجا اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهدا بحجر الماس


فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج ، وضربه «موسى» فمات ، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع ، وحكي عن ابن عباس أنه قال لما خر كان جسرا على النيل سنة.

قال القاضي أبو محمد : والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم ، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى» وهارون لم يكونا في التيه ، والعامل في (أَرْبَعِينَ) يحتمل أن يكون (مُحَرَّمَةٌ) ، أي حرمت عليهم (أَرْبَعِينَ سَنَةً) و (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) هذه المدة ثم تفتح عليهم ، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات. وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل (مُحَرَّمَةٌ) ، وذلك منه تحامل ، ويحتمل أن يكون العامل (يَتِيهُونَ) مضمرا يدل عليه (يَتِيهُونَ) المتأخر ، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبدا ، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة» يموت فيها من مات.

قال القاضي أبو محمد : والخطاب على هذا التأويل أصعب موقفا وأحضر يأسا. وروي أن من كان قد جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه ، وأن من كان دون العشرين عاشوا.

قال القاضي أبو محمد : كأنه لم يعش المكلفون أشار إلى ذلك الزجاج ، والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم ، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل ، قال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحيانا والليل أحيانا فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا ، وذلك في مقدار ستة فراسخ.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي ، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة». فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع ، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى ، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم ، وقد مضى ذلك في سورة البقرة ، وقوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) معناه فلا تحزن يقال أسي : الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرئ القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسىّ وتجمل

ومنه قول متمم بن نويرة :

فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى

دعوني فهذا كله قبر مالك

والخطاب بهذه الآية لموسى عليه‌السلام ، قال ابن عباس ندم «موسى» على دعائه على قومه وحزن عليهم ، فقال له الله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ). وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراد ب (الْفاسِقِينَ) معاصروه ، أي هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك ، فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.


قوله عزوجل :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (٢٩)

(اتْلُ) معناه اسرد وأسمعهم إياه ، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها إلا من طريق الوحي ، فهو من دلائل نبوته ، والضمير في (عَلَيْهِمْ) ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين : أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثاني أن علم (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم ، وعليهم تقوم الحجة في إيراده والنبأ الخبر. و «ابنا آدم» هما في قول جمهور المفسرين لصلبه. وهما قابيل وهابيل ، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «ابنا آدم» ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم ، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب ، والصحيح قول الجمهور وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثا وتطوعا. وكان قابيل صاحب زرع فعمد إلى أرذل ما عنده وأدناه فقربه ، وكان هابيل صاحب غنم ، فعمد إلى أفضل كباشه فقربه ، وكانت العادة حينئذ أن يقرب المقرب قربانه ويقوم يصلي ويسجد ، فإن نزلت نار وأكلت القربان فذلك دليل للقبول وإلا كان تركه دليل عدم القبول ، فلما قرب هذان كما ذكرت فنزلت النار وأخذت كبش هابيل فرفعته وسترته عن العيون وتركت زرع قابيل ، قال سعيد بن جبير وغيره : فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة حتى أهبط إلى إبراهيم في فداء ابنه ، قال سائقو هذا القصص ، فحسد قابيل هابيل وقال له : أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني؟ وكان قابيل أسن ولد «آدم». وروي أن «آدم» سافر إلى مكة ليرى الكعبة وترك قابيل وصيا على بنيه فجرت هذه القصة في غيابه ، وروت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود : أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر ، ولا تحل له أخته توأمته ، فولدت مع قابيل أخت جميلة ، ومع هابيل أخت ليست كذلك فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل : أنا أحق بأختي ، فأمره «آدم» فلم يأتمر ، فاتفقوا على التقريب ، وروي أن آدم حضر ذلك فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل ، فحينئذ قال له (لَأَقْتُلَنَّكَ) وقول هابيل : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) كلام قبله محذوف تقديره ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني اتقيته وكنت على لا حب الحق. و (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك ، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة ، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من


القبول والحتم بالرحمة ، علم ذلك بأخبار الله تعالى ، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا ، وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان متقي هذه الأمة الصلاة.

واختلف الناس لم قال هابيل : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ)؟ فقال مجاهد : كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفا وأن لا يمتنع من أريد قتله .. وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس : كان هابيل أشد قوة من قابيل ، ولكنه تحرج.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا هو الأظهر. ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر ، لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج وجه ، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة ، ونحو هذا فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وقوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) الآية ، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة ، وإنما هو تخير في شرين ، كما تقول العرب في الشر خيار ، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوما سيستنصر الله لي في الآخرة ، وتبوء معناه تمضي متحملا. وقوله : (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) قيل معناه : بإثم قتلي وسائر آثامك التي أوجبت أن لا يتقبل منك ، وقيل المعنى : بإثم قتلي وإثمك في العداء علي إذ هو في العداء وإرادة القتل آثم ولو لم ينفذ القتل ، وقيل المعنى : بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه ، فكأن هابيل أراد : أني لست بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي ، وقيل المعنى : بإثمي الذي يختص لي فيما فرط لي أي يؤخذ من سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي «تبوء بإثمك» في قتلي وهذا تأويل يعضده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف ، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه ، وقوله تعالى : (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه ، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل :

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١)

قراءة الجمهور (فَطَوَّعَتْ) والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس ، فرد؟ ه هذه


النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعا منقادا حتى واقعه صاحب هذه النفس ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد «فطاوعت» والمعنى كأن القتل يدعو إلى نفسه بسبب الحقد والحسد الذي أصاب قابيل ، وكأن النفس تأبى لذلك ويصعب عليها ، وكل جهة تريد أن تطيعها الأخرى ، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فواقعته ، وروي أنه التمس الغرة في قتله حتى وجده نائما في غنمه فشدخ رأسه بحجر ، وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل وروي أنه لما انصرف قابيل إلى آدم قال له أين هابيل قال لا أدري كأنك وكلتني بحفظه فقال له آدم أفعلتها والله إن دمه ليناديني من الأرض ، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل ، فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما ، ثم ان آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقي مائة عام لم يتبسم حتى جاء ملك فقال له حياك الله يا آدم وبياك فقال آدم : ما بياك؟ قال أضحكك. ويروى أن آدم عليه‌السلام قال حينئذ :

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغير كل ذي طعم ولون

وقل بشاشة الوجه المليح

وكذا هو الشعر بنصب بشاشة وكف التنوين ، وروي عن مجاهد أنه قال علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.

قال القاضي أبو محمد : فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) : ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال إنّا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم ، ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وذلك أنه أول من سن القتل» وقوله : (فَأَصْبَحَ) عبارة عن جميع أوقاته أقيم بعض الزمن مقام كله ، وخصّ الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومطية النشاط ، ومنه قول الربيع بن ضبع :

أصبحت لا أحمل السلاح البيت ،

ومنه قول سعد بن أبي وقاص ، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام ، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه.

وقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام. وقيل سنة واحدة ، وقيل بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه فلم يدر ما يصنع به ، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت. وروي أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ، ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت ، وروي أن الله تعالى «إنما بعث غرابا» واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل ، وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ، ولذلك جهلت سنة المواراة ، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأول ، و (يَبْحَثُ)


معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره ، ومن هذا سميت سورة براءة البحوث لأنها فتشت عن المنافقين ومن ذلك قول الشاعر :

إن الناس غطوني تغطيت عنهم

وإن بحثوني كان فيهم مباحث

وفي مثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة ، والضمير في قوله : (سَوْأَةَ أَخِيهِ) يحتمل أن يعود على قابيل ويراد بالأخ هابيل ، ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث ويراد بالأخ الغراب الميت ، والأول أشهر في التأويل ، والسوأة العورة ، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد ، ويحتمل أن يراد «بالسوأة» هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة لا على جهة الغض منه بل الغض حق للقاتل وهو الذي أتى «بالسوأة» ، وقرأ الجمهور «فأواري» بنصب الياء.

وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان «فأواري» بسكون الياء ، وهي لغة لتوالي الحركات ، ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه ، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور ، فقال (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ) الآية واحتقر نفسه ولذلك ندم ، وقرأ الجمهور «يا ويلتى» والأصل «يا ويلتي» لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك فيقولون «يا ويلتى» ويا غلاما ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول يا ويلتاه. وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يا ويلتى» ونداء الويلة هو على معنى احضري فهذا أوانك ، وهذا هو الباب في قوله (يا حَسْرَةً) [يس : ٣٠] وفي قوله : يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان ، وقرأ الجمهور «أعجزت» بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود والحسن والفياض وطلحة بن سليمان «أعجزت» بكسر الجيم ، وهي لغة ، ثم إن قابيل وارى أخاه وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفعه الندم ، واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار أو من العصاة ، والظاهر أنه من العصاة ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر».

قوله عزوجل :

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢)

جمهور الناس على أن قوله : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) متعلق بقوله (كَتَبْنا) أي بسبب هذه النازلة ومن جراها كتبنا ، وقال قوم : بل هو متعلق بقوله (مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١] أي ندم من «أجل» ما وقع ، والوقف على هذا على ذلك ، والناس على أن الوقف (مِنَ النَّادِمِينَ) ، ويقال أجل الأمر أجلا وأجلا إذا جناه وجره ، ومنه قول خوات :

وأهل خباء صالح ذات بينهم

قد احتربوا في عاجل أنا آجله


ويقال فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ذلك بوصل الألف وكسر النون قبلها ، وهذا على أن ألقى حركة الهمزة على النون كما قالوا كم إبلك بكسر الميم ووصل الألف. ومن ابراهيم بكسر النون و (كَتَبْنا) معناه كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص الله تعالى : (بَنِي إِسْرائِيلَ) بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظورا لوجهين ، أحدهما فيما روي أن (بَنِي إِسْرائِيلَ) أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء ، والآخر لتلوح مذمتهم في أن كتب عليهم هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل همّوا بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلما ، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم ، وقوله تعالى : (بِغَيْرِ نَفْسٍ) معناه بغير أن تقتل نفسا فتستحق القتل ، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس ظلما وتعديا. وهنا يندرج المحارب ، والفساد في الأرض بجميع الزنا والارتداد والحرابة ، وقرأ الحسن «أو فسادا في الأرض» بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فسادا أو أحدث فسادا ، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه ، وقوله تعالى : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه ، فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ومن أحياه بأن شد عضده ونصره (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا تعطيه الألفاظ ، وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال : المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا. ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحياها أن يقتلها فهو كمن أحيا الناس جميعا. وقال عبد الله بن عباس أيضا ، المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ. وقال ابن عباس أيضا وغيره المعنى من قتل نفسا فأوبق نفسه فكأنه قتل الناس جميعا إذ يصلى النار بذلك ومن سلم من قتلها فكأنه سلم من «قتل الناس جميعا» ، وقال مجاهد الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ، يقول لو «قتل الناس جميعا» لم يزد على ذلك. ومن لم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه ، وقال ابن زيد المعنى أي من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من «قتل الناس جميعا». قال ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله ، وقاله الحسن أيضا أي هو العفو بعد القدرة ، وقال مجاهد ومن أحياها أنقذها من حرق أو غرق ، وقال قوم لما كان المؤمنون كلهم يطلبون القاتل كان كمن قتل الناس جميعا.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول متداع ولم يتخلص التشبيه إلى طرف في شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات. إحداها القود فإنه واحد ، والثانية الوعيد ، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب ، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك ، والثالثة انتهاك الحرمة ، فإن نفسا واحدة ، في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع ، ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا ، فطعم


أحدهما واحدة من ثمر شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كله ، فقد استويا في الحنث ، وقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها) فيه تجوز لأنها عبارة عن الترك والإنقاذ وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى. وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود ، أنا أحيي ، سمى الترك إحياء ، ومحيي نفس كمحيي الجميع في حفظ الحرمة واستحقاق الحمد ، ثم أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل» أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه ، ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود ، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم.

قوله عزوجل :

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٤)

اقتضى المعنى في هذه الآية كون (إِنَّما) حاصرة الحصر التام ، واختلف الناس في سبب هذه الآية ، فروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.

قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن تكون نازلة بني قريظة حين هموا بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عكرمة والحسن : نزلت الآية في المشركين.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ضعف ، لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال ، وقال أنس بن مالك وجرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم : إن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا ثم إنهم مرضوا واستوخموا المدينة فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكونوا في لقاح الصدقة ، وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها. فخرجوا فيها فلما صحوا قتلوا الرعاء واستاقوا الإبل فجاء الصريخ فأخبر بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر فنودي في الناس يا خيل الله اركبي ، فركب رسول الله على أثرهم فأخذوا ، وقال جرير بن عبد الله فبعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من المسلمين حتى إذا أدركناهم ، وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال جميع الرواة فقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمر أعينهم ، ويروى وسمل ، وتركهم في جانب الحرة يستسقون فلا يسقون ، وفي حديث جرير ، فكانوا يقولون الماء ويقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النار ، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم ، قال أبو قلابة ، هؤلاء كفروا وقتلوا وأخذوا الأموال وحاربوا الله ورسوله ، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي


صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعرنيين ووقفت الأمر على هذه الحدود ، وقال بعضهم وجعلها الله عتابا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سمل الأعين ، وحكي عن جماعة من أهل العلم أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل لأن ذلك وقع في المرتدين.

قال القاضي أبو محمد : لا سيما وفي بعض الطرق أنهم سملوا أعين الرعاة قالوا ، وهذه الآية هي في المحارب المؤمن ، وحكى الطبري عن السدي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك فنزلت الآية ناهية عن ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف تخالفه الروايات المتظاهرة ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام ، واختلفوا فيمن هو الذي يستحق اسم الحرابة ، فقال مالك بن أنس رحمه‌الله ، المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة ، وقال بهذا القول جماعة من أهل العلم ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل العلم ، لا يكون المحارب إلا القاطع على الناس في خارج الأمصار ، فأما في المصر فلا.

قال القاضي أبو محمد : يريدون أن القاطع في المصر يلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك. والحرابة رتب أدناها إخافة الطريق فقط لكنها توجب صفة الحرابة ، ثم بعد ذلك أن يأخذ المال مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يقتل مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يجمع ذلك كله ، فقال مالك رحمه‌الله وجماعة من العلماء : في أي رتبة كان المحارب من هذه الرتب فالإمام مخير فيه في أن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات ، واستحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقوبات.

قال القاضي أبو محمد : لا سيما إن كانت زلة ولم يكن صاحب شرور معروفة ، وأما إن قتل فلا بد من قتله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه والحسن وأبو مجلز وقتادة وغيرهم من العلماء بل لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب ، فمن أخاف الطرق فقط فعقوبته النفي ، ومن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته القطع من خلاف. ومن قتل دون أخذ مال فعقوبته القتل ، ومن جمع الكل قتل وصلب ، وحجة هذا القول أن الحرابة لا تخرج عن الإيمان ودم المؤمن حرام إلا بإحدى ثلاث : ارتداد أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس ، فالمحارب إذا لم يقتل فلا سبيل إلى قتله ، وقد روي عن ابن عباس والحسن أيضا وسعيد بن المسيب وغيرهم مثل قول مالك : إن الإمام مخير ، ومن حجة هذا القول أن ما كان في القرآن «أو. أو» ، فإنه للتخيير ، كقوله تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] وكآية كفارة اليمين وآية جزاء الصيد.

قال القاضي أبو محمد : ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب وقول مالك أسد للذريعة وأحفظ للناس والطرق ، والمخيف في حكم القاتل ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحسانا ، وذكر الطبري عن أنس بن مالك أنه قال سأل رسول الله جبريل عليهما‌السلام عن الحكم في المحارب ، فقال : من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ، ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ، ومن جمع ذلك فاصلبه.


قال القاضي أبو محمد : وبقي النفي للمخيف فقط ، وقوله تعالى : (يُحارِبُونَ اللهَ) تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة ، وقيل التقدير يحاربون عباد الله ، ففي الكلام حذف مضاف ، وقوله تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) تبيين للحرابة أي : ويسعون بحرابتهم ، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فسادا منضافا إلى الحرابة ، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة ، وقرأ الجمهور «يقتّلوا ، يصلّبوا ، تقطّع» بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير ، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل (يُذَبِّحُونَ) وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن «يقتلوا ، ويصلبوا ، تقطع» بالتخفيف في الأفعال الثلاثة ، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق ، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالا لغيره ، وهذا قول الشافعي ، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حيا ويقتل بالطعن على الخشبة ، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال ، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقي العقب واختلف العلماء في النفي فقال السدي : هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ الله ويخرج من دار الإسلام ، وروي عن ابن عباس أنه قال : نفيه أن يطلب وقاله أنس بن مالك ، وروي ذلك عن الليث ومالك بن أنس غير أن مالكا قال : لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك ، وقال سعيد بن جبير : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك ، وقالت طائفة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز : النفي في المحاربين أن ينفوا من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد ، وقال الشافعي : ينفيه من عمله ، وقال أبو الزناد : كان النفي قديما إلى دهلك وباضع وهما من أقصى اليمن ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة : النفي في المحاربين السجن فذلك إخراجهم من الأرض.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن (الْأَرْضِ) في هذه الآية هي أرض النازلة ، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدر ، نحو الأرض المقدسة ، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه ، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحا ، وهذا هو صريح مذهب مالك : أن يغرب ويسجن حيث يغرب ، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف ، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه ، فإذا تاب وفهم حاله سرح وقوله تعالى : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم ، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع العقوبة في الدنيا ، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو له كفارة.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره ، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة ، اما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وعظم الذنب ، والخزي في هذه الآية الفضيحة والذل والمقت.

وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثنى عزوجل التائب قبل أن يقدر عليه


وأخبر بسقوط حقوق الله عنه بقوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واختلف الناس في معنى الآية فقال قتادة والزهري في كتاب الاشراف : ذلك لأهل الشرك.

قال القاضي أبو محمد : من حيث رأيا الوعيد بعد العقاب ، وهذا ضعيف ، والعلماء على أن الآية في المؤمنين وأن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه فقد سقط عنه حكم الحرابة ولا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين ، فإن طلبه أحد بدم نظر فيه وأقاد منه إذا كان الطالب وليا ، وكذلك يتبع بما وجد عنده من مال الغير وبقيمة ما استهلك من الأموال ، هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ذكره ابن المنذر ، وقال قوم من الصحابة والتابعين : إنه لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده بعينه ، وأما ما استهلك فلا يطلب به ، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه ، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم كتابا منشورا ، وحكى الطبري عن عروة بن الزبير أنه قال : لا تقبل توبة المحارب ، ولو قبلت لاجترؤوا وكان فساد كثير ولكن لو فر إلى العدو ثم جاء تائبا لم أر عليه عقوبة.

قال القاضي أبو محمد : لا أدري هل أراد ارتد أم لا ، وقال الأوزاعي نحوه إلا أنه قال : إذا لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام أو بقي عليه ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه قبلت توبته.

قال القاضي أبو محمد : والصحيح من هذا كله مذهب الفقهاء الذي قررته آنفا أن حكم الحرابة يسقط ويبقى كسائر المسلمين ، واختلف إذا كان المال أقل مما يقطع فيه السارق ، فقال مالك : ذلك كالكثير ، وقال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يقطع من المحاربين إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٧)

هذه الآية وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين ، وهذا من أبلغ الوعظ لأنه يرد على النفوس وهي خائفة وجلة ، وعادة البشر إذا رأى وسمع أمر ممتحن ببشيع المكاره أن يرق ويخشع ، فجاء الوعظ في هذه الحال ، (ابْتَغُوا) معناه اطلبوا ، و (الْوَسِيلَةَ) القربة وسبب النجاح في المراد ، ومن ذلك قول عنترة لامرأته :

إن الرجال لهم إليك وسيلة

أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وأما الوسيلة المطلوبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي أيضا من هذا ، لأن الدعاء له بالوسيلة


والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا ويتصف بهما ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعاد التصافي بيننا والوسائل

أنشده الطبري ، وقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) خص الجهاد بالذكر لوجهين ، أحدهما نباهته في أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام ، وقد دخل بالمعنى في قوله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ولكن خصه تشريفا ، والوجه الآخر أنها العبادة التي تصلح لكل منهي عن المحاربة وهو معدلها من حاله وسنه وقوته وشره نفسه ، فليس بينه وبين أن ينقلب إلى الجهاد إلا توفيق الله تعالى.

واللام في قوله : (لِيَفْتَدُوا) لام كي ، وقرأ جمهور الناس «تقبل» بضم التاء والقاف على ما لم يسم فاعله ، وقرأ يزيد بن قطيب «تقبل» بفتحها على معنى ما قبل الله.

وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ) إخبار عن أنهم يتمنون هذا في قلوبهم ، وفي غير ما آية أنهم ينطقون عن هذه الإرادة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا فارت بهم النار قربوا من حاشيتها فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون به وذلك قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ).

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقد تأول قوم هذه الإرادة أنها بمعنى يكادون على هذا القصص الذي حكى الحسن ، وهذا لا ينبغي أن يتأول إلا فيما لا تتأتى منه الإرادة الحقيقة كقوله تعالى :

(يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] وأما في إرادة بني آدم فلا إلا على تجوز كثير ، وقرأ جمهور الناس «يخرجوا» بفتح الياء وضم الراء وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «يخرجوا» بضم الياء وفتح الراء ، وأخبر تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم متأبد ، وحكى الطبري عن نافع بن الأزرق الخارجي أنه قال لابن عباس يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما «يخرجون من النار» وقد قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال له ابن عباس : ويحك اقرأ ما فوقها ، هذه الآية في الكفار.

قوله عزوجل :

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣٨)

قرأ جمهور القراء «والسارق والسارقة» بالرفع ، وقرأ عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة «والسارق والسارقة» بالنصب ، قال سيبويه رحمه‌الله الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع يعني عامة القراء وجلهم ، قال سيبويه الرفع في هذا وفي قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [النور : ٢] وفي قول الله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النساء : ١٦] هو على معنى فيما فرض عليكم. والفاء في قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا) ردت المستقل غير مستقل ، لأن قوله فيما فرض عليكم السارق جملة حقها وظاهرها الاستقلال ، لكن المعنى المقصود ليس إلا في قوله : (فَاقْطَعُوا) فهذه الفاء هي التي ربطت الكلام الثاني بالأول وأظهرت الأول هنا غير مستقل ، وقال أبو العباس المبرد وهو قول جماعة من البصريين ، اختار


أن يكون «والسارق والسارقة» رفعا بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك زيدا فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده ، قال الزجاج وهذا القول هو المختار.

قال القاضي أبو محمد : أنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين ، وقرأ عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» ، وقال الخفاف : وجدت في مصحف أبي بن كعب «والسّرّق والسّرّقة» هكذا ضبطا بضم السين المشددة وفتح الراء المشددة فيهما هكذا ضبطهما أبو عمرو.

قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط لأن قراءة الجماعة إذا كتب «السارق» بغير ألف وافقت في الخط هذه ، وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه ، فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره ، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق ، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه ، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن ، منها الإخراج من حرز ، ومنها القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه ، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة ، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه ، فلفظ (السَّارِقُ) في الآية عموم معناه الخصوص ، فأما القدر المسروق فقالت طائفة لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ، قال به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور ، وفيه حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : القطع في ربع دينار فصاعدا وقال مالك رحمه‌الله : تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم ، فإن سرق درهمين وهي ربع دينار لانحطاط الصرف لم يقطع وكذلك العروض لا يقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر ، وقال إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل : إن كانت قيمة السلعة ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع فيها قل الصرف أو كثر ، وفي القطع قول رابع وهو أن لا قطع إلا في خمسة دراهم أو قيمتها ، روي هذا عن عمر ، وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة ، ومنه قول أنس بن مالك : قطع أبو بكر في مجنّ قيمته خمسة دراهم.

قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذا على أن الخمسة حد وقال أبو حنيفة وأصحابه وعطاء : لا قطع في أقل من عشرة دراهم ، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري : لا تقطع اليد في أقل من أربعة دراهم ، وقال عثمان البتي : تقطع اليد في درهمين فما فوقه ، وحكى الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم ، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال : تقطع اليد في كل ما له قيمة قل أو كثر على ظاهر الآية. وقد حكى الطبري نحوه عن ابن عباس ، وهو قول أهل الظاهر وقول الخوارج ، وروي عن الحسن أيضا أنه قال : تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد فاتفق رأينا على درهمين وأكثر العلماء على أن التوبة لا تسقط عن السارق القطع ، وروي عن الشافعي أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه وتمتد إليه يد الأحكام فإن القطع يسقط عنه قياسا على المحارب ، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ، وقال الحسن بن أبي الحسن إذا جمع الثياب في البيت قطع وإن لم يخرجها ، وقوله تعالى :


(فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة وهي المعرضة للقطع في السرقة أولا فجاءت للسراق أيد وللسارقات أيد ، فكأنه قال اقطعوا أيمان النوعين فالتثنية في الضمير إنما هي للنوعين. قال الزجاج عن بعض النحويين ، إنما جعلت تثنية ما في الإنسان منه واحد جمعا كقوله : (صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك. قال أبو إسحاق : وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه. فإذا قلت أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين.

قال القاضي أبو محمد : كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة.

واختلف العلماء في ترتيب القطع ، فمذهب مالك رحمه‌الله وجمهور الناس أن تقطع اليمنى من يد السارق ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى ، ثم إن سرق عزر وحبس ، وقال علي بن أبي طالب والزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل : تقطع يده اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق عزر وحبس. وروي عن عطاء بن أبي رباح : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ثم إن سرق عزر وحبس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تمسك بظاهر الآية ، والقول شاذ فيلزم على ظاهر الآية أن تقطع اليد ثم اليد. ومذهب جمهور الفقهاء أن القطع في اليد من الرسغ وفي الرجل من المفصل ، وروي عن علي بن أبي طالب أن القطع في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم. وقوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا) نصبه على المصدر ، وقال الزجاج مفعول من أجله. وكذلك : (نَكالاً مِنَ اللهِ) والنكال العذاب ، والنكل القيد ، وسائر معنى الآية بيّن وفيه بعض الإعراب حكاية.

قوله عزوجل :

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ)

المعنى عند جمهور أهل العلم أن من (تابَ) من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله (وَأَصْلَحَ) أيضا في سائر أعماله وارتفع إلى فوق (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى ، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه ، وقال مجاهد : التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد.


قال القاضي أبو محمد : وهذا تشديد وقد جعل الله للخروج من الذنوب بابين أحدهما الحد والآخر التوبة ، وقال الشافعي : إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحاكم بأخذه فتوبته ترفع عنه حكم القطع قياسا على توبة المحارب.

وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) الآية توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في المحاربين والسرقة والإخبار بهذا التعذيب لقوم والتوبة على آخرين وهي ملكه تعالى لجميع الأشياء ، فهو بحق الملك لا معقب لحكمه ولا معترض عليه.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل ، والمعنى قد وعدناك النصر والظهور عليهم ف (لا يَحْزُنْكَ) ما يقع منهم خلال بقائهم ، وقرأ بعض القراء «يحزنك» بفتح الياء وضم الزاي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي وحزنته بفتحها وقرأ بعض القراء «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي لأن من العرب من يقول أحزنت الرجل بمعنى حزنته وجعلته ذا حزن ، وقرأ الناس يسارعون. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» دون ألف ومعنى المسارعة في الكفر البدار إلى نصره وإقامة حججه والسعي في إطفاء الإسلام به واختلف المفسرون في ترتيب معنى الآية وفيمن المراد بقوله (بِأَفْواهِهِمْ) وفي سبب نزول الآية فأما سببها فروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عباس وجماعة أنهم قالوا : نزلت هذه الآية بسبب الرجم.

قال القاضي أبو محمد : وذلك أن يهوديا زنى بيهودية وكان في التوراة رجم الزناة ، وكان بنو إسرائيل قد غيروا ذلك وردوه جلدا وتحميم وجوه ، لأنهم لم يقيموا الرجم على أشرافهم وأقاموه على صغارهم في القدر فاستقبحوا ذلك وأحدثوا حكما سووا فيه بين الشريف والمشروف ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة زنى رجل من اليهود بامرأة فروي أن ذلك كان بالمدينة. وروي أنه كان في غير المدينة في يهود الحجاز. وبعثوا إلى يهود المدينة وإلى حلفائهم من المنافقين أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النازلة وطمعوا بذلك أن يوافقهم على الجلد والتحميم فيشتد أمرهم بذلك. فلما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدارس فجمع الأحبار هنالك وسألهم عما في التوراة فقالوا إنا لا نجد فيها الرجم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن فيها الرجم فانشروها فنشرت ووضع أحدهم يده على آية الرجم. فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بالرجم وأنفذه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وفي هذا الحديث اختلاف ألفاظ وروايات كثيرة ، منها أنه روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر عليه يهودي ويهودية زنيا وقد جلدا وحمما. فقال هكذا شرعكم يا معشر يهود؟ فقالوا نعم ، فقال لا ، ثم مشى إلى بيت المدارس وفضحهم وحكم في ذينك بالرجم ، وقال : لأكونن أول من أحيا حكم التوراة حين أماتوه. وروي أن الزانيين لم يكونا بالمدينة ، وأن يهود فدك هم الذين قالوا ليهود المدينة استفتوا محمدا فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا الرجم ، قاله الشعبي وغيره ، وقال قتادة بن دعامة وغيره سبب الآية وذكر اليهود أن بني


النضير كانوا غزوا بني قريظة فكان النضري إذا قتله قرظي قتل به وإذا قتل نضري قرظيا أعطي الدية ، وقيل كانت دية القرظي على نصف دية النضري ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة طلبت قريظة الاستواء إذ هم أبناء عم يرجعان إلى جد ، وطلبت الحكومة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت النضير بعضها لبعض إن حكم بما كنا عليه فخذوه وإلا فاحذروا.

قال القاضي أبو محمد : وهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها ، ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتمرسهم بالدين ، والروايات في هذا كثيرة ومختلفة ، وقد وقع في بعض الطرق في حديث أبي هريرة أنه قال في قصة الرجم ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت مدراسهم وقمنا معه وهذا يقتضي أن الأمر كان في آخر مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن أبا هريرة أسلم عام خيبر في آخر سنة ست من الهجرة ، وقد كانت النضير أجليت وقريظة وقريش قتلت ، واليهود بالمدينة لا شيء ، فكيف كان لهم بيت مدارس في ذلك الوقت أو إن كان لهم بيت على حال ذلة فهل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتاج مع ظهور دينه إلى محاجتهم تلك المحاجة؟ وظاهر حديث بيت المدارس أنه كان في صدر الهجرة اللهم إلا أن يكون ذلك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عزة كلمته من حيث أراد أن يخرج حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم مع قدرته عليهم ، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما اختلاف الناس فيمن المراد بقوله : (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) فقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة بن عبد المنذر أشارت إليه قريظة يوم حصرهم ما الأمر؟ وعلى من نزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه أنه بمعنى الذبح.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وأبو لبابة من فضلاء الصحابة وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ثم جاء إلى مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة فربط نفسه بسارية من سواري المسجد ، وأقسم أن لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه ويرضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة حمله عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة ، وقال الشعبي وغيره : نزلت الآية في قوم من اليهود أرادوا سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر رجل منهم قتل آخر فكلفوا السؤال رجلا من المسلمين وقالوا : إن أفتى بالدية قبلنا قوله وإن أفتى بالقتل لم نقبل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو ما تقدم عن قتادة في أمر قتل النضير وقريظة ، وقال عبد الله بن كثير ومجاهد وغيرهما قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) يراد به المنافقون. وقوله بعد ذلك (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) يراد به اليهود ، وأما ترتيب معنى الآية بحسب هذه الأقوال. فيحتمل أن يكون المعنى يا أيها الرسول لا يحزنك المسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ، ويكون قوله : (سَمَّاعُونَ) خبر ابتداء مضمر ، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحزنك المسارعون في الكفر


من اليهود ووصفهم بأنهم (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) إلزاما منه ذلك لهم من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها ، فهم يقولون بأفواههم نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى ، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوها وجحدوا ما فيها من نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك مما كفر بهم ، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد هذا ، (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٤٢] ، ويجيء على هذا التأويل قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) كأنه قال ومنهم لكن صرح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدل التوراة على علم منها. وقرأ جمهور الناس «سماعون» ، وقرأ الضحاك «سماعين» ، ووجهها عندي نصب على الذم على ترتيب من يقول لا يحزنك المسارعون من هؤلاء «سماعين» ، وأما المعنى في قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) فيحتمل أن يكون صفة للمنافقين ولبني إسرائيل لأن جميعهم يسمع الكذب بعضهم من بعض ويقبلونه ، ولذلك جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة ، وإذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك المسموع ، وقوله تعالى : (لِلْكَذِبِ) يحتمل أن يريد (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ويحتمل أن يريد «سماعون منك أقوالك» من أجل أن يكونوا عليك وينقلوا حديثك ويزيدوا مع الكلمة أضعافها كذبا ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر «للكذب» بكسر الكاف وسكون الذل ، وقوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) يحتمل أن يريد يسمعون منهم ، وذكر الطبري عن جابر أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك ، وقيل يهود خيبر ، وقيل أهل الزانيين ، وقيل أهل الخصام في القتل والدية ، وهؤلاء القوم الآخرون هم الموصوفون بأنهم لم يأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يكون معنى (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ) بمعنى جواسيس مسترقين للكلام لينقلوه لقوم آخرين ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة ، وقيل لسفيان بن عيينة هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله عزوجل ، فقالوا نعم ، وتلا هذه الآية : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ).

قوله عزوجل :

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)

قرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام ، وقرأ بعض الناس «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة ، وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه. ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادئ كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت ، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله ، وأما الكذب الذي لا يرفد بمبدأ فقليل الأثر في النفس ، وقوله : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة ، والإشارة بهذا قيل هي إلى التحميم والجلد في الزنا ، وقيل : هي إلى قبول الدية في أمر القتل ، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية ،


ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لا تتبع نفسك أمرهم ، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا «يطهر قلوبكم» وأن يكونوا مدنسين بالكفر ، ثم قرر تعالى لهم «الخزي في الدنيا». والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة ، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.

وقوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة ، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضا عن بني إسرائيل وقوله تعالى : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر. و «السحت» كل ما لا يحل كسبه من المال. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحت» ساكنة الحاء خفيفة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحت» مضمومة الحاء مثقلة. وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السّحت» بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى : (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] ومن الرباعي قول الفرزدق :

إلا مسحتا أو مجلف

والسّحت والسّحت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت ، والسحت بفتح السين وسكون الحاء المصدر ، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيدا في قوله عزوجل (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ٩٥] وكما سمي المرهون رهنا ، وهذا كثير.

قال القاضي أبو محمد : فسمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب وتستأصله النوب ، كما قال عليه‌السلام «من جمع مالا من تهاوش أذهبه الله في نهابير» ، وقال مكي سمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليل قليلا ، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل ، وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها ، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتا لأنه يسحت مروءة آخذه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا أشبه ، أصل السحت كلب الجوع ، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلفى أبدا إلا جائعا يذهب ما في معدته ، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبدا لا يشبع.

قال القاضي أبو محمد : وذلك بأن الرشوة تنسحت ، فالمعنى هو كما قدمناه ، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب ، وليس كلب الغرث أصلا للسحت ، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا ، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب : مهر البغي سحت وعسب الفحل سحت وكسب الحجام سحت وثمن الكلب والخمر سحت ، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل ، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال : ذلك الكفر ،


وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ، قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال : الرشوة في الحكم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة ، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس ، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل ، وقوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخيير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم ، وقال عكرمة والحسن : هذا التخيير منسوخ بقوله (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ) [المائدة: ٤٩] وقال ابن عباس ومجاهد : نسخ من المائدة آيتان ، قوله تعالى : (وَلَا الْقَلائِدَ) [المائدة : ٢] نسختها آية السيف وقوله : (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) نسختها و (أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩].

قال القاضي أبو محمد : وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق ، وهذا هو الأظهر إن شاء الله ، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينفر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك ، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك ، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوى محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير ، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار ، قاله ابن القاسم في العتبية ، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم.

قال القاضي أبو محمد : وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النازلة عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر؟ وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته؟

ومالك رحمه‌الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ) يعني أهل نازلة الزانيين.

قال القاضي أبو محمد : ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا


عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤)

أمن الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ضررهم إذ أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم ، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال ، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) [آل عمران : ١١١] ثم قال تعالى : (وَإِنْ حَكَمْتَ) أي اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، يقال أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار ، ومنه قوله : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه.

ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم ، وذلك أنه قال : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك ، وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) يعني بالتوراة وبموسى ، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة. وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١] أنه يراد به اليهود.

وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) الآية ، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية ، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. و «الهدى» : الإرشاد في المعتقد والشرائع ، و «النور» : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها ، و (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية و (أَسْلَمُوا) معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى. وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ هادُوا) متعلق ب (يَحْكُمُ) أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم. وقوله تعالى : (الرَّبَّانِيُّونَ) عطف على «النبيين» أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء ، وفي البخاري قال «الرباني» الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقيل «الرباني» منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه ، وزيدت النون في «رباني» مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني ، والأحبار أيضا العلماء واحدهم حبر بكسر الحاء ، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به. وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار» الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانيا والآخر حبرا. وكانوا قد أعطوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهدا أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم


وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبرا ولا ربانيا. وقوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه ، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة ، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] والحمد لله. وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطابا لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) فقالت جماعة : المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين ، وروي في هذا حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق البراء بن عازب. وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان. وقيل لحذيفة بن اليمان أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ان كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة لتسلكن طريقهم قد الشراك. وقال الشعبي : نزلت (الْكافِرُونَ) في المسلمين و (الظَّالِمُونَ) في اليهود و (الْفاسِقُونَ) في النصارى.

قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم بهذا التخصيص وجها إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) وقال إبراهيم النخعي : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها.

قوله عزوجل :

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥)

«الكتب» في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح ، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام ، والضمير في (عَلَيْهِمْ) لبني إسرائيل وفي (فِيها) للتوراة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) بنصب النفس على اسم (أَنَ) وعطف ما بعد ذلك منصوبا على (النَّفْسَ). ويرفعون «والجروح قصاص» على أنها جملة مقطوعة. وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله. و (قِصاصٌ) خبر (أَنَ). وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروح». وقرأ الكسائي «أن النفس بالنفس» نصبا ورفع ما بعد ذلك ، فمن نصب «والعين» جعل عطف الواو مشركا في عمل «أن» ولم يقطع الكلام مما قبله. ومن رفع «والعين» فيتمثل ذلك من الأعراب أن يكون قطع مما قبل ، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في


عامل ، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) قلنا لهم النفس بالنفس ، ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الصافات : ٤٥] يمنحون كأسا من معين عطف وحورا عينا على ذلك ، ويحتمل أن يعطف قوله (وَالْعَيْنَ) على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨].

قال القاضي أبو محمد : ولسيبويه رحمه‌الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب (لا) في قوله : (وَلا آباؤُنا) فكانت (لا) عوضا من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، قال أبو علي : وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضا من الضمير الواقع قبل حرف العطف ، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير ، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.

قال القاضي أبو محمد : وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية ، لأن (لا) ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضا عن الآباء فتمكن العطف ، قال أبو علي ومن رفع «والجروح قصاص» فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين ، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة ، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة. ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ «أن النفس بالنفس» بتخفيف «أن» ورفع «النفس» ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس» وما بعدها ثم قرأ : «وأن الجروح قصاص» بزيادة «أن» الخفيفة ورفع «الجروح».

ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس ، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه : رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم ، وحكى الطبري عن ابن عباس : كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري : وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).


قال القاضي أبو محمد : وكذلك قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود ، وهي التي لا يخاف منها على النفس ، فأما ما خيف منه كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. و «القصاص» مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه. فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل ، وقوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) يحتمل ثلاثة معان ، أحدها أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل. ويعود الضمير في قوله : (لَهُ) عليه أيضا ، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه ، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة ، وذكر مكي حديثا من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم. وقال به أيضا قتادة والحسن ، والمعنى الثاني أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل ، والضمير في (لَهُ) يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه : فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب ، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة ، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى ، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه ، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم ، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في (لَهُ) يعود عليه أيضا ، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه ، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهدا قال إذا أصاب رجل رجلا ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب ، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير. فإن كان بعينك بأس فإنها بها.

قال القاضي أبو محمد : وانظر أن (تَصَدَّقَ) على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق ، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوما تأولوا الآية أن المعنى (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل قلق. وقد تقدم القول على قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) الآية. وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له».

قوله عزوجل :

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)

(قَفَّيْنا) تشبيه كأن مجيء عيسى كان في قفاء مجيء النبيين وذهابهم ، والضمير في (آثارِهِمْ)


للنبيين المذكورين في قوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) [المائدة : ٤٤] و (مُصَدِّقاً) حال مؤكده. و (التَّوْراةِ) بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يدي الساعة ، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع ، و (الْإِنْجِيلَ) اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر ، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ «الإنجيل» بفتح الهمزة ، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران. و «الهدى» الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه. و «النور» ما فيه مما يستضاء به. و (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال. وقال مكي وغيره : (مُصَدِّقاً) معطوف على الأول.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني. وقرأ الناس «وهدى وموعظة» بالنصب. وذلك عطف على (مُصَدِّقاً) ، وقرأ الضحاك «وهدى وموعظة» بالرفع وذلك متجه. وخص «المتقين» بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة.

وقرأ أبيّ بن كعب «وأن ليحكم» بزيادة أن. وقرأ حمزة وحده «وليحكم» بكسر اللام وفتح الميم على لام كي ونصب الفعل بها ، والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ليحكم أهله بما أنزل الله فيه ، وقرأ باقي السبعة «وليحكم» بسكون اللام التي هي لام الأمر وجزم الفعل. ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم. وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله. ومن القراء من يكسر لام الأمر ويجزم الفعل وقد تقدم نظير هذه الآية ، وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر ، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه ، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.

وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن ، وقوله : (بِالْحَقِ) يحتمل أن يريد مضمنا الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها ، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحا لعباده ، وقوله : (مِنَ الْكِتابِ) يريد من الكتب المنزلة. فهو اسم جنس ، واختلفت عبارة المفسرين في معنى «مهيمن». فقال ابن عباس : (مُهَيْمِناً) شاهدا. وقال أيضا مؤتمنا. وقال ابن زيد :

معناه مصدقا ، وقال الحسن بن أبي الحسن أمينا ، وحكى الزجاج رقيبا ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ولأن يدخل فيه ما ليس منه والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده ، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم ، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم ، والقرآن جعله الله مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف ، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين ، و «مهيمن» بناء اسم فاعل ، قال أبو عبيدة : ولم يجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف. وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر. وذكر أبو القاسم الزجّاج في شرحه لصدر أدب الكتاب ومبيقر. يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق ، وبيقر أيضا لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها


الصبيان ، وقال مجاهد قوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مؤتمن على القرآن.

قال القاضي أبو محمد : وغلط الطبري رحمه‌الله في هذه اللفظة على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس «مهيمنا» بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ومجاهد رحمه‌الله إنما يقرأ هو وابن محيصن «ومهيمنا» عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول. وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله : (مُصَدِّقاً) وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (عَلَيْهِ) في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله. هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه‌الله ، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه‌الله : «مهيمن» أصله «مويمن» بني من أمين ، أبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته ، قال الزجاج : وهذا حسن على طريق العربية ، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى «مهيمن» مؤتمن ، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه ، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلبا فقال : إن ما قال ابن قتيبة رديء ، وقال هذا باطل ، والوثوب على القرآن شديد وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب ، انتهى كلام ثعلب.

قال القاضي أبو محمد : ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائما عليه أمينا ، ويحتمل أن يكون (مُصَدِّقاً) و (مُهَيْمِناً) حالين من الكاف في (إِلَيْكَ). ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي.

قوله عزوجل :

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨)

قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله : (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] وقد تقدم ذكر ذلك. وقال الجمهور : إنه ليس بنسخ ، وإن المعنى فإن اخترت أن تحكم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس ، والنفس أمّارة بالسوء فهواها مرد لا محالة ، وحسن هنا دخول عن في قوله : (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) لما كان الكلام بمعنى لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك. واختلف المتأولون في معنى قوله عزوجل (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين : المعنى «لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجا» أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندهم في الأحكام ، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل ، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عددا من الأنبياء شرائعهم مختلفة ، ثم قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] فهذا عند العلماء في


المعتقدات فقط ، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).

قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول عليه الناس. ويحتمل أن يكون المراد بقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) الأمم كما قدمنا. ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه ، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد ، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيرا فمن ذلك قول الشاعر :

وفي الشرائع من جلان مقتنص

بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب

أراد في الطرق إلى المياه ، ومنه الشارع وهي سكك المدن ، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب ، والمنهاج أيضا الطريق ، ومنه قول الشاعر :

من يك في شك فهذا نهج

ماء رواء وطريق نهج

أراد واضحا والمنهاج بناء مبالغة في ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) معناه سبيلا وسنة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد ، والقراء على «شرعة» بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «شرعة» بفتح الشين ، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، كذا قال ابن جريج وغيره ، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات ، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم ، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) والمعنى فالبدار البدار ، وقوله تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع ، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ، وكل كتاب الله كذلك ، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض.

قوله عزوجل :

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠)

(وَأَنِ احْكُمْ) معطوف على (الْكِتابَ) في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٤٨] ، وقال مكي : هو معطوف على «الحق» في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [المائدة: ٤٨] ، والوجهان حسنان ، ويقرأ


بضم النون من «أن احكم» مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع ، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين ، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] وقد تقدم ذكر ذلك ، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة ، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه ، وقد يجيء أحيانا مقيدا بما فيه خير ، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر : فهوى رسول الله رأي أبي بكر ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك؟ قال : حق وافق هوى ، والهوى مقصور ووزنه فعل ، ويجمع على أهواء ، والهواء ممدود ويجمع على أهوية ، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم «أن يفتنوه» أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام ، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا له مرارا احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك ، وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم ، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله (لَفاسِقُونَ) ، وقوله تعالى : (فَاعْلَمْ) الآية وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم ، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا ، فلذلك خصص البعض دون الكل ، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) إشارة إليهم لكن جاءت العبارة تعمهم وغيرهم ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولّ عن النبي عليه‌السلام فيرى أنه تحت الوعيد.

واختلف القراء في قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد ، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج «أفحكم» برفع الميم ، قال ابن مجاهد : وهي خطأ ، قال أبو الفتح : ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه. وقد جاء في الشعر ، قال أبو النجم :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

برفع كلّ.

قال القاضي أبو محمد : وهكذا الرواية ، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب ، ولو نصب «كل» لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه ، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح ، التقدير يبغونه ولم أصنعه ، وإنما يحذف الضمير كثيرا من الصلة كقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] ، وكما تقول مررت بالذي أكرمت ، ويحذف أقل من ذلك من الصفة ، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم ، ويتجه بيته بوجهين : أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ) والثاني أن في البيت عوضا من الهاء المحذوفة ، وذلك حرف


الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ «أفحكم» بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولا عوض من الضمير ، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة ، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون فلا تجعل يبغون خبرا بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف ، ونظيره قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) [النساء : ٤٦] تقديره قوم يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، ومثله قول الشاعر :

وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقرأ سليمان بن مهران «أفحكم» بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس ، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها ، وله نظائر.

قال القاضي أبو محمد : فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات ، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) ، وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم. وباقي السبعة «يبغون» بالياء من تحت ، و (يَبْغُونَ) معناه يطلبون ويريدون ، وقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) تقرير أي لا أحد أحسن منه حكما تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله : (لِقَوْمٍ) من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥٢)

نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي ، وقد عامل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهوديا ورهنه درعه ، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية ، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم : سببها أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفا لهم ، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله ، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله ، وقال عبد الله بن أبي : أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود ، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر ، وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدخل يده في جيب درعه ، وقال : يا محمد أحسن في مواليّ ، فقال له رسول الله :


أرسل الدرع من يدك ، فقال لا والله حتى تهبهم لي لأنهم ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسر أفأدعك تحصدهم في غداة واحدة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد وهبتهم لك ، ونزلت الآية في ذلك ، وقال السدي : سبب هذه الآية أنه لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم وقال بعضهم لبعض نأخذ من اليهود عصما ليعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش وسائر العرب ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال عكرمة : سبب الآية أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم على حكم سعد بن معاذ.

قال القاضي أبو محمد : وكل هذه الأقوال محتمل ، وأوقات هذه النوازل مختلفة ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «لا تتخذوا اليهود والنصارى أربابا بعضهم» ، وقوله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين ، وقوله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكل من اتصف بهذه الصفة من موالاتهم ، ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه ، وبهذه الآية جوز ابن عباس وغيره ذبائح النصارى من العرب وقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فقال من دخل في دين قوم فهو منهم ، وسئل ابن سيرين رحمه‌الله عن رجل أراد بيع داره من نصارى يتخذونها كنيسة فتلا هذه الآية ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله ، فإن الظلم لا هدى فيه ، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه.

وقوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الآية ، مخاطبة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإشارة إلى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع ، ويدخل في الآية من كان من مؤمني الخزرج يتابعه جهالة وعصبية ، فهذا الصنف له حظه من مرض القلب ، وقراءة جمهور الناس «ترى» بالتاء من فوق ، فإن جعلت رؤية عين ف (يُسارِعُونَ) حال وفيها الفائدة المقصودة ، وإن جعلت رؤية قلب ف (يُسارِعُونَ) في موضع المفعول الثاني ، ويقولون حال ، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فيرى» بالياء من تحت والفاعل على هذه القراءة محذوف ولك أن تقدر فيرى الله أو فيرى الرأي و (الَّذِينَ) مفعول ، ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ) فاعل والمعنى أن يسارعوا فحذفت «أن» إيجازا (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) معناه في نصرتهم وتأنيسهم وتجميل ذكرهم ، وقوله تعالى : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) لفظ محفوظ عن عبد الله بن أبيّ ، ولا محالة أنه قال بقوله منافقون كثير ، والآية تعطي ذلك ، و (دائِرَةٌ) معناه نازلة من الزمان وحادثة من الحوادث تحوجنا إلى موالينا من اليهود ، وتسمى هذه الأمور دوائر على قديم الزمان من حيث الليل والنهار في دوران ، فكأن الحادث يدور بدورانها حتى ينزل فيمن نزل ، ومنه قول الله تعالى : (دائِرَةُ السَّوْءِ) [التوبة : ٩٨ ، الفتح : ٦] و (يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) [التوبة : ٩٨] ومنه قول الشاعر :

والدهر بالإنسان دواريّ


وقول الآخر :

ويعلم أن النائبات تدور

وقول الآخر :

يرد عنك القدر المقدورا

ودائرات الدهر أن تدورا

ويعضده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الزمان قد استدار».

قال القاضي أبو محمد : وفعل عبد الله بن أبيّ في هذه النازلة لم يكن ظاهره مغالبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو فعل ذلك لحاربه رسول الله ، وإنما كان يظهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستبقيهم لنصرة محمد ولأن ذلك هو الرأي ، وقوله إني امرؤ أخشى الدوائر أي من العرب وممن يحارب المدينة وأهلها ، وكان يبطن في ذلك كله التحرز من النبي والمؤمنين وآلفت في أعضادهم ، وذلك هو الذي أسر هو في نفسه ومن معه على نفاقه ممن يفتضح بعضهم إلى بعض ، وقوله تبارك وتعالى : (فَعَسَى اللهُ) مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ووعد لهم ، و «عسى» من الله واجبة ، واختلف المتأولون في معنى (بِالْفَتْحِ) في هذه الآية فقال قتادة : يعني به القضاء في هذه النوازل ، والفتاح القاضي ، فكان هذا الوعد هو مما نزل ببني قينقاع بعد ذلك ويقريظة والنضير ، وقال السدي ؛ يعني به فتح مكة.

قال القاضي أبو محمد : وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلو كلمته ، أي فيبدو الاستغناء عن اليهود ويرى المنافق أن الله لم يوجد سبيلا إلى ما كان يؤمل فيهم من المعونة على أمر محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والدفع في صدر نبوته فيندم حينئذ على ما حصل فيه من محادة الشرع ، وتجلل ثوب المقت من الله تعالى ومن رسوله عليه‌السلام والمؤمنين كالذي وقع وظهر بعد ، وقوله تعالى : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) قال السدي المراد ضرب الجزية.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو ما يتركب على سعي النبي وأصحابه ويسببه جدهم وعملهم ، فوعد الله تعالى إما بفتح بمقتضى تلك الأفعال وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبيب ، وقوله تعالى : (فَيُصْبِحُوا) معناه يكونون كذلك طول دهرهم ، وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر متستر ، فعند الصباح يرى بالحالة التي اقتضتها فكره أو أمراضه ونحو ذلك ومنه قول الشاعر :

أصبحت لا أحمل السلاح

إلى غير هذا من الأمثلة ، والذي أسروه هو ما ذكرناه من التمرس بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعداد اليهود للثورة عليه يوما ما ، وقرأ ابن الزهري «فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين».

قوله عزوجل.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا


خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٥٤)

اختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع «يقول» بغير واو عطف وبرفع اللام.

وكذلك ثبت في مصاحف المدينة ومكة. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «ويقول» بإثبات الواو. وكذلك ثبت في مصاحف الكوفيين. وقال الطبري كذلك هي في مصاحف أهل الشرق. وقرأ أبو عمرو وحده «ويقول» بإثبات الواو وبنصب اللام. قال أبو علي وروى علي بن نصر عن أبي عمرو النصب والرفع في اللام. فأما قراءة ابن كثير ونافع فمتعاضدة مع قراءة حمزة والكسائي. لأن الواو ليست عاطفة مفرد على مفرد مشركة في العامل وإنما هي عاطفة جملة على جملة وواصلة بينهما والجملتان متصلتان بغير واو. إذ في الجملة الثانية ذكر من الجملة المعطوف عليها. إذ الذين يسارعون وقالوا نخشى ويصبحون نادمين هم الذين قيل فيهم. (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) فلما كانت الجملتان هكذا حسن العطف بالواو وبغير الواو. كما أن قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدم اكتفى بذلك عن الواو ، وعلى هذا قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٣٩ الأعراف : ٣٦ يونس : ٢٧] ولو دخلت الواو فقيل «وهم فيها خالدون» كان حسنا.

قال القاضي أبو محمد : ولكن براعة الفصاحة في الإيجاز ، ويدل على حسن دخول الواو قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] فحذف الواو من قوله (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) كحذفها من هذه الآية ، وإلحاقها في قوله (ثامِنُهُمْ).

قال القاضي أبو محمد : وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح حصلت ندامة المنافقين وفضحهم الله تعالى ، فحينئذ يقول المؤمنون (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا) [المائدة : ٥٣] الآية. وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) [المائدة : ٥٢] وعند أفعالهم ما فعلوا في حكاية بني قينقاع. فظهر فيها سرهم وفهم منهم أن تمسكهم بهم إنما هو إرصاد لله ولرسوله. فمقتهم النبي والمؤمنون ، وترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ رغبة في المصلحة والألفة ، وبحكم إظهار عبد الله أن ذلك هو الرأي من نفسه وأن الدوائر التي يخاف إنما هي ما يخرب المدينة وعلم المؤمنون وكل فطن أن عبد الله في ذلك بخلاف ما أبدى. فصار ذلك موطنا يحسن أن يقول فيه المؤمنون (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا) الآية ، وأما قراءة أبي عمرو ويقول بنصب اللام فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح وظهور ندامة المنافقين وفضيحتهم ، لأن الواو عاطفة فعل على فعل مشركة في العامل ، وتوجه عطف (وَيَقُولُ) مطرد على ثلاثة أوجه ، أحدها على المعنى ، وذلك أن قوله (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) [المائدة : ٥٢] إنما المعنى فيه فعسى الله أن يأتي بالفتح فعطف قوله تعالى : (وَيَقُولُ) على (يَأْتِيَ) اعتمادا على المعنى ، وإلا فلا


يجوز أن يقال عسى الله أن يقول المؤمنون. وهكذا قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] لما كان المعنى «أخرني إلى أجل قريب» أصدق وحمل (أَكُنْ) على الجزم الذي يقتضيه المعنى في قوله (فَأَصَّدَّقَ) ، والوجه الثاني أن يكون قوله (أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) [المائدة : ٥٢] بدلا من اسم الله عزوجل كما أبدل من الضمير في قوله تعالى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣] ثم يعطف (وَيَقُولُ) على أن يأتي لأنه حينئذ كأنك قلت عسى أن يأتي ، والوجه الثالث أن يعطف قوله (وَيَقُولُ) على (فَيُصْبِحُوا) [المائدة : ٥٢] إذ هو فعل منصوب بالفاء في جواب التمني ، إذ قوله عسى الله تمن وترج في حق البشر ، وفي هذا الوجه نظر وكذلك عندي في منعهم جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر ، إذ الله تعالى يصيرهم يقولون بنصره وإظهار دينه ، فينبغي أن يجوز ذلك اعتمادا على المعنى وقوله تعالى : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) نصب جهد على المصدر المؤكد والمعنى أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الأيمان (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) ثم قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود وخذل الشريعة ما يكذب إيمانهم ، ويحتمل قوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أن يكون إخبارا من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين على جهة الإخبار بما حصل في اعتقادهم إذ رأوا المنافقين في هذه الأحوال ، ويحتمل أن يكون قوله (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) على جهة الدعاء إما من الله تعالى عليهم وإما من المؤمنين ، وحبط العمل إذا بطل بعد أن كان حاصلا ، وقد يقال حبط في عمل الكفار وإن كان لم يتحصل على جهة التشبيه ، وقرأ جمهور الناس «حبطت بكسر الباء وقرأ أبو واقد والجراح «حبطت» بفتح الباء وهي لغة.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة ، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، وقال هذا القول ابن جريج وغيره.

قال القاضي أبو محمد : ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر ، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج ، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري وقال هذا القول عياض ، وقال شريح بن عبيد : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ولكنهم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى ، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضا : الإشارة إلى أهل اليمن ، وقاله شهر بن حوشب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله عندي قول واحد ، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى ، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد ، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار.


قال القاضي أبو محمد : وهذا على أن يكون قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطابا للمؤمنين الحاضرين يعم مؤمنهم ومنافقهم. لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان ، والإشارة بالارتداد إلى المنافقين ، والمعنى أن من نافق وارتد فإن المحققين من الأنصار يحمون الشريعة ويسد الله بهم كل ثلم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم «يرتد» بإدغام الدال في الدال ، وقرأ نافع وابن عامر «يرتدد» بترك الإدغام ، وهذه لغة الحجاز ، مكة وما جاورها ، والإدغام لغة تميم ، وقوله تعالى (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين ، وهذا كقوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩]. وكقوله عليه‌السلام «المؤمن هين لين» ، وفي قراءة ابن مسعود «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين» ، وقوله تعالى : (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم كانوا يعتذرون بملامة الأخلاق والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم ، وقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون الله ويحبهم ، وقد تقدم القول غير مرة في معنى محبة الله للعبد وأنها إظهار النعم المنبئة عن رضاه عنه وإلباسه إياها. و (واسِعٌ) معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم.

قوله عزوجل :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥٧)

الخطاب بقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) الآية للقوم الذين قيل لهم (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١] ، و (إِنَّما) في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى ، وولي اسم جنس ، وقرأ ابن مسعود «إنما موليكم الله» وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقا وهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) المفروضة بجميع شروطها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر ، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب ، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته ، وقرأ ابن مسعود «آمنوا والذين يقيمون» بواو ، وقوله تعالى : (وَهُمْ راكِعُونَ) جملة معطوفة على جملة ، ومعناه وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة ، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع الصلاة ، كما قال (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ١٢٥] وهي عبارة عن المصلين ، وهذا قول جمهور المفسرين ، ولكن اتفق أن عليا بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع ، قال السدي : هذه الآية في جمع المؤمنين ولكن عليا بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه ، وروي في ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكينا فقال له هل أعطاك أحد شيئا فقال نعم ، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتما من فضة ، وأعطانيه وهو راكع ، فنظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الله أكبر وتلا الآية على الناس.


قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقال مجاهد : نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع ، وفي هذا القول نظر ، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور ، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي ، فقال علي من المؤمنين ، والواو على هذا القول في قوله (وَهُمْ) واوا الحال ، وقال قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع ، وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا ، فنزلت الآية مؤنسة لهم.

ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه ، وجاءت العبارة عامة (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) اختصارا لأن المتولي هو من حزب الله ، وحزب الله غالب ، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب ، و (مَنْ) يراد بها الجنس لا مفرد بعينه ، و «الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعاونون فيما يحزب ، ومنه قول عائشة في حمنة : وكانت تحارب في أمر الإفك فهلكت فيمن هلك ، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم ، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين (هُزُواً وَلَعِباً) والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز ، و «هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة ، و «هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو ، و «هزا» بزاي مفتوحة منونة ، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واختلف القراء في إعراب (الْكُفَّارَ) فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة : «والكفار» نصبا ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» خفضا ، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب ، قال أبو علي : حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.

قال القاضي أبو محمد : ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا ، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية ، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، ومن قرأ «الكفار» بالنصب حمل على الفعل الذي هو (لا تَتَّخِذُوا) ، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم ، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض ، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا» ، وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان ، لأنهم أبعد شأوا في الكفر ، وقد قال تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة ، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب ، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء ، والمنافقون بألسنتهم ، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي حق مؤمنين.

قوله عزوجل :

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ


تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٦٠)

قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ) الآية إنحاء على اليهود وتبيين لسوء فعلهم فإنهم كانوا إذا سمعوا قيام المؤمنين إلى الصلاة قال بعضهم لبعض ، قد قاموا لا قاموا ، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفون بها في وقت الأذان وغيره ، وكل ما ذكر من ذلك فهو مثال ، وقد ذكر السدي أنه كان رجل من النصارى بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله ، قال حرق الله الكاذب ، فما زال كذلك حتى سقط مصباح في بيته ليلة فأحرقه واحترق النصراني لعنه الله ، ثم ذكر تعالى أن فعلهم هذا إنما هو لعدم عقولهم ، وإنما عدموها إذ لم تتصرف كما ينبغي بها ، فكأنها لم توجد.

ثم أمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لأهل الكتاب (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) ومعناه هل تعدون علينا ذنبا أو نقيصة ، يقال «نقم» بفتح القاف ينقم بكسرها ، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور ، ويقال «نقم» بكسر القاف ينقم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو البرهسم والنخعي ، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة ، ومثلها قوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ ، إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) [البروج: ٨] ونظير هذا الغرض في الاستثناء قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وقرأ الجمهور «أنزل» بضم الهمزة ، وكذلك في الثاني ، وقرأ أبو نهيك «أنزل» بفتح الهمزة والزاي فيهما ، وقوله تعالى : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) هو عند أكثر المتأولين معطوف على قوله : (أَنْ آمَنَّا) فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه ، وهذا لا يتجه معناه ، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون ، ويكون (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) مما قرره المخاطب لهم ، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت ، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك ، لكن معنى كلامك : هل تنقم إلا مجموع هذه الحال ، وقال بعض المتأولين قوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) معطوف على (ما) ، كأنه قال (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) وبكتبه وبأن أكثركم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مستقيم المعنى ، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد فسقة هو مما ينقمونه ، وذكر تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى.

وقوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «أنبئكم» بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس : «مثوبة» بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ ابن


بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو ، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذا عن نظائره ، ومثله قول العرب : الفاكهة مقودة إلى الأذى ، بسكون القاف وفتح الواو ، والقياس مثابة ومقادة ، وأما مثوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثوبة مثل مقولة ، والمعنى في القراءتين مرجعا عند الله أي في الحشر يوم القيامة ، تقول العرب : ثاب يثوب إذا رجع ، منه قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥] ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤا ولعبا ، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئا ، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين ، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين ، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله (شَرٌّ) و (أَضَلُ) صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال ، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب (شَرٌّ) و (أَضَلُ) على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار ، ويكون على هذا الاحتمال قوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف ، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه ، فهو في حكمه ، وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير» ، واللعنة الإبعاد عن الخير ، وقوله تعالى : (وَجَعَلَ) هي بمعنى صير ، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق.

قال القاضي أبو محمد : وهذه منه رحمه‌الله نزعة اعتزالية ، لأن قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) تقديره ومن عبد الطاغوت ، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحدا عابد الطاغوت ، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة ، وأما مسخهم خنازير ، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك منهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته ، فدعت المرأة قوما إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها ، فيئست وباتت مهمومة ، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة ينفقون في نواحيها خنازير فقالت : الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه ، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة ، وقوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) تقديره ومن عبد الطاغوت ، وذلك عطف على قوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أو معمول ل (جَعَلَ) وفي هذا يقول أبو علي : إن (جَعَلَ) بمعنى خلق ، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد» لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات ، لأن «عبدا» في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات ، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب ، ومنه قول الشاعر : [أوس بن حجر].


أبني لبينى إن أمكم

أمة وإن أباكم عبد

ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره ، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت» ، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع ، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت ، وذلك على أن يصير له أن «عبد» كالخلق والأمر المعتاد المعروف ، فهي في معنى فقه وشرف وظرف ، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت ، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفا ومثله قول الراجز :

قام ولاها فسقوها صرخدا

أراد ولاتها فحذف تخفيفا ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع ، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت ، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و «عبدا الطاغوت» فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر :

ولا ذاكر الله إلا قليلا

والوجه الآخر أن يريد «عبد» الذي هو فعل ماض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر :

وما كل مغبون ولو سلف صفقة

فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعنوا بما قالوا» بسكون العين ، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة ، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعبّاد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد ، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضا «وعابد الطاغوت» على وزن فاعل ، والدال مرفوعة ، قال أبو عمرو تقديره وهم عابد الطاغوت.

قال القاضي أبو محمد : فهو اسم جنس ، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت» بضمير جمع ، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة ، وقرأ ابن بريدة «وعابد الطاغوت» بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء ، وقرأ بعض البصريين و «عباد الطاغوت» بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء ، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام ، وقد يجوز أن يكون جمع عبد ، وقل ما يأتي عباد مضافا إلى غير الله ، وأنشد سيبويه :

أتوعدني بقومك يا ابن حجل

أشابات يخالون العبادا

قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه‌السلام ، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد ، وجميع الخلق عباد الله.


قال القاضي أبو محمد : وهذا التعليق بآدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاذ بعيد والاعتراض فيه باق ، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده ، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد ، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرى فدانتهم مملكة ، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعابد الشيطان» بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف ، وقرأ ابن عباس فيما روى عن عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعبد الطاغوت» بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء ، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف ، وقال أحمد بن يحيى ثعلب هو جمع عابد كشارف وشرف ، ومنه قول القينة:

ألا يا حمز للشرف النواء

وهن معلقات بالفناء

وقال أبو الحسن الأخفش : هو جمع عبيد وأنشد :

أنسب العبد إلى آبائه

أسود الجلدة من قوم عبد

وقرأ الأعمش وغيره «وعبّد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعبد الطاغوت» بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد ، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت» كما تقول ضربت المرأة ، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعبد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء ، وهذا أيضا بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد ، وروى عكرمة عن ابن عباس : «وعبّد الطاغوت» على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبدا منونا ثم حذف التنوين كما قال ، ولا ذاكر الله ، وقد تقدم نظيره و (الطَّاغُوتَ) كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان ، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة ، و «مكان» يحتمل أن يريد في الآخرة ، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم ، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة ، و (سَواءِ السَّبِيلِ) وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي ، ومنه قوله تعالى : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر ، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء.

قوله عزوجل :

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ(٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ(٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ


رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤)

الضمير في (جاؤُكُمْ) لليهود المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاصة للمنافقين. نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير ، وقوله : (وَهُمْ) تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به ، فأزال الاحتمال قوله تعالى : (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي من الكفر.

وقوله تعالى لنبيه : (وَتَرى) يحتمل أن يكون من رؤية البصر ويحتمل من رؤية القلب ويكون المفعول الثاني (يُسارِعُونَ) ، وعلى الاحتمال الأول (يُسارِعُونَ) حال ، و (فِي الْإِثْمِ) معناه في موجبات الإثم إذ الإثم إنما هو الحكم المعلق بصاحب المعصية والنسبة التي يصير إليها إذا وقع الذنب وهو من هؤلاء كفرهم (وَالْعُدْوانِ) مصدر من عدا الرجل إذا ظلم وتجاوز الحد ، و (السُّحْتَ) هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث ، واللام في (لَبِئْسَ) لام قسم ، وقرأ أبو حيوة «والعدوان» بكسر العين.

وقوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم ، قال الطبري : كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها ، وقال الضحاك بن مزاحم : ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى ، وقال نحو هذا ابن عباس ، وقرأ الجراح وأبو واقد «الربانيون» بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره ، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني ، وقال الحسن : الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقوله في الرباني شاذ بعيد. و (الْأَحْبارُ) واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك ، والرباني هو العالم المدبر المصلح ، وقوله تعالى : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) ظاهر أن (الْإِثْمَ) هنا يراد به الكفر ، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون» بغير لام قسم.

وقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) إلى قوله (لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك ، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل ، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة ، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩] فإنما المراد لا تبخل ، ومنه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم :


مثل البخيل والمتصدق ، الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها ، وقال الحسن بن أبي الحسن قولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا.

قال القاضي أبو محمد : فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم ، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم ، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم ، وقوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم ، ويحتمل أن يكون خبرا ، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة ، وإذا كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه ، وقرأ أبو السمال «ولعنوا» بسكون العين ، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة ، وقوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) العقيدة في هذه المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون.

ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ) وفي قوله : (بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] و (عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] و (لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] و (اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ونحو هذا ، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكوت عن الأمر بعد هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة.

وقال جمهور الأمة : بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب. فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك ، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع ، إذا كان يعنى بأموره وإن كان غائبا عنه ، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها ، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا ، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد ، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه ، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالا لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز ، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق ، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب : هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد ، وذكر هذا الطبري وغيره ، وقال ابن عباس في هذه الآية ، (يَداهُ) نعمتاه ، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة ، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) عبارة عن إنعامه على الجملة


وعبر عنه بيدين جريا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى :

يداك يدا مجد فكفّ مفيدة

وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق

ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق ، قال أبو عمرو الداني : وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان» ، يقال يد بسطة أي مطلقة ، وروي عنه «بسطان» ، وقوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) إعلام لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك ، طغوا وكفروا ، وكان عليهم أن يؤمنوا إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله ، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغيانا ، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان.

وقوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) معطوف على قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ) فهي قصص يعطف بعضها على بعض ، و (الْعَداوَةَ) أخص من (الْبَغْضاءَ) لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو ، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس ، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل ، وقوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم ، والآية تحتمل أن تكون إخبارا عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور ، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة ، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد : معنى الآية كلما أوقدوا نارا لحرب محمد أطفأها الله ، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود ، وقوله تعالى : (وَيَسْعَوْنَ) معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل ، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم ، وذلك كقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] وإن كان مالك رحمه‌الله قد قال في الموطأ : إن السعي في قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) إنه العمل والفعل ، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى» ، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ


وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٦٨)

هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصر ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأظهر أنه يراد بها الأسلاف والمعاصرون داخلون في هذه الأحوال بالمعنى ، والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم لو آمنوا بالله وكتابه واتقوا في امتثال أوامره ونواهيه لكفرت سيئاتهم أي سترت وأذهبت ولأدخلوا الجنة.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة ، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس ، إذ هي أظهر هيئات المرء ، وقوله تعالى : (وَالْإِنْجِيلَ) يقتضي دخول النصارى في لفظ (أَهْلَ الْكِتابِ) في هذه الآية ، وقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء ، واختلف المفسرون في معنى (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي : المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى. وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه ، وذكر النقاش أن المعنى : لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا ، إذ هو من نبات الأرض. قوله تعالى (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) معناه : معتدلة ، والقصد والاقتصاد : الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال ، قال الطبري : معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه‌السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه ، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة في ملة عيسى عليه‌السلام ، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي لغير رشدة ، فكفر الطرفان ، وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا يتخرج قول الطبري : ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم ، وقال ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب ، وهذا هو المترجح ، وقد ذكر الزجّاج أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين.

قال القاضي أبو محمد : وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البختري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله ، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموما ، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء ، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (ساءَ) في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء ، وقد تستعمل (ساءَ) استعمال نعم وبئس ، كقوله عزوجل : (ساءَ مَثَلاً) [الأعراف : ١٧٧] فتلك غير هذه ، يحتاج في هذه التي في قوله (ساءَ مَثَلاً) من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس ، وفي هذا نظر.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) إلى قوله (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) هذه الآية أمر من الله ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال. لأنه قد كان بلغ ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد ، وذلك أن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد


حالهم فكان يلقى منهم عنتا وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية ، فقال الله له (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي كاملا متمما ، ثم توعده تعالى بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، أي إنك إن تركت شيئا فكأنما قد تركت الكل ، وصار ما بلغت غير معتدّ به ، فقوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) معناه وإن لم تستوف ، ونحو هذا قول الشاعر :

سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا

فسيان لا ذم عليك ولا حمد

أي ولم تعط ما يعد نائلا وإلا فيتكاذب البيت ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «فما بلغت رسالته» على الإفراد. وقرؤوا في الأنعام (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] على الجمع ، وكذلك في الأعراف (بِرِسالاتِي) [الأعراف : ١٤٤] ، وقرأ ابن كثير في المواضع الثلاثة بإفراد الرسالة ، وقرأ نافع «رسالاته» بالجمع ، وكذلك في الأنعام ، وأفرد في الأعراف ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بجمع الرسالة في المواضع الثلاثة ، وروى حفص عن عاصم الإفراد في العقود والأنعام ، والجمع في الأعراف ، فمن أفرد الرسالة فلأن الشرع كله شيء واحد وجملة بعضها من بعض ، ومن جمع فمن حيث الشرع معان كثيرة وورد دفعا في أزمان مختلفة ، وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية ، والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) الآية ، وقال عبد الله بن شقيق : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعقبه أصحابه يحرسونه ، فلما نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) خرج فقال : يا أيها الناس الحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني ، وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقتله به.

قال القاضي أبو محمد : هو غورث بن الحارث ، والقصة في غزوة ذات الرقاع ، وقال ابن جريج كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهاب قريشا فلما نزلت هذه الآية إلى قوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) استلقى وقال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثا ، و (يَعْصِمُكَ) معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية ، ومنه قوله تعالى : (يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) [هود : ٤٣] ومنه قول الشاعر :

فقلت عليكم مالكا إن مالكا

سيعصمكم إن كان في الناس عاصم

وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه ، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية ، وقوله تعالى : (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إما على الخصوص فيمن سبق في علم أنه لا يؤمن ، وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر ، ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره.

ثم أمر تعالى نبيه محمدا عليه‌السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) أي على شيء مستقيم حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، وفي إقامة هذين الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني به القرآن ، قاله ابن عباس وغيره ثم أخبر تعالى نبيه أنه سيطغى كثير منهم بسبب نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزيده نزول القرآن والشرع كفرا وحسدا ، ثم سلاه عنهم وحقرهم بقوله (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لا تحزن إذ لم يؤمنوا ولا تبال عنهم ،


والأسى الحزن يقال أسي الرجل يأسى أسى إذا حزن ، ومنه قول الراجز :

وانحلبت عيناه من فرط الأسى.

وأسند الطبري إلى ابن عباس قال : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رافع بن جارية وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة وبنبوة موسى وأن جميع ذلك حق؟ قال : بلى ، ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم ، فقالوا : إنّا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك ، فنزلت الآية بسبب ذلك (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) الآية.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (٧٠)

(الَّذِينَ) لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل ، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم وبينت الطوائف على اختلافها ، وهذا تأويل جمهور المفسرين ، وقال الزجاج المراد بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) المنافقون ، فالمعنى ان الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.

قال القاضي أبو محمد : فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان ، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعلى التأويل الأول يكون قوله (مَنْ آمَنَ) في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر ، وقد تقدم تفسير (هادُوا) وتفسير «الصابئين» وتفسير (النَّصارى) في سورة البقرة ، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و «الصابئون» بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة ، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين» وهذه قراءة بينة الإعراب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون» بكسر الباء وضم الياء دون همز ، وقد تقدم في سورة البقرة ، وأما قراءة الجمهور «والصابئون» فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به ، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون والنصارى» كذلك ، وأنشد الزجاج نظيرا في ذلك :

وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك ، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا : و (الصَّابِئُونَ) عطف على (الَّذِينَ) ، إذ الأصل في (الَّذِينَ) الرفع وإذ نصب (إِنَ) ضعيف وخطأ الزجّاج هذا القول وقال : (إِنَ) أقوى النواصب ، وحكي أيضا عن الكسائي أنه قال و (الصَّابِئُونَ) عطف على الضمير في (هادُوا) والتقدير هادوا هم والصابئون ، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا ، وقيل إن معنى نعم ، وما بعدها مرفوع بالابتداء ، وروي عن بعضهم أنه قرأ «والصابئون» بالهمز ، واتصال هذه


الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة ، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه.

قوله عزوجل : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية ، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم ، أي إن العصا من العصية ، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع ، و (كُلَّما) ظرف والعالم فيه كذبوا ويقتلون .. وقوله تعالى : (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) يقتضي أن هواهم كان غير الحق وهو ظاهر هوى النفس متى أطلق ، فمتى قيد بالخير ساغ ذلك ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسارى بدر : فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا ، وقوله تعالى :

(فَرِيقاً كَذَّبُوا) معناه كذبوه فقط ، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه ، وفريقا من الرسل كذبوه وقتلوه ، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب.

قوله عزوجل :

(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢)

المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم ، ونحو هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله تعالى : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قالت جماعة من المفسرين : هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم ، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبدا وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه‌السلام إليهم ، وقالت جماعة : توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه‌السلام وخص بهذا المعنى كثيرا منهم لأن منهم قليلا آمن ، ثم توعدهم بقوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكون» بنصب النون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكون» برفع النون ، ولم يختلفوا في رفع (فِتْنَةٌ) لأن «كان» هنا هي التامة ، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن» هي الخفيفة الناصبة ، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة ، وحسن دخولها لأن «لا» قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضا منه ، ولا بد في مثل هذا من عوض ، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد ، وقوله عزوجل (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة ، وقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ليس بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن» الثقيلة


التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع ، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع ، فهذا الضرب تليه «أن» الخفيفة إذ هي تناسبه ، كقوله تعالى ، (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) [الشعراء : ٨٢] و (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) [الأنفال : ٢٦](فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] و (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً) [الكهف : ٨٠](أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) [المجادلة : ١٣] ونحو هذا ، وضرب ثالث ينجذب إلى الأول مرة وإلى الثاني أحيانا نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع ، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة ، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] وقوله (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] وقرأ جمهور الناس «عموا وصموا» بفتح العين والصاد ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «عموا وصموا» بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله ، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله ، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره ، وصم وأصمه غيره ، ولا يقال عميته ولا صممته ، وقوله تعالى : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي رجع بهم إلى الطاعة والحق ، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى ، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم ، وقوله تعالى (كَثِيرٌ) يرتفع من إحدى ثلاث جهات ، إما على البدل من الواو في قوله : (عَمُوا وَصَمُّوا) وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، وإما على أن يكون (كَثِيرٌ) خبر ابتداء مضمر.

ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا بلام القسم عن كفر القائلين : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهذا قول اليعقوبية من النصارى ، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم وتبليغه كيف كان؟ فقال : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية ، وهذه المعاني قول المسيح بألفاظ لغته ، وهي بعينها موجودة في تبليغ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨ ـ ١١٦] إلى غير ذلك من الآيات ، وأخبرهم عيسى عليه‌السلام أن الله تعالى هو ربه وربهم فضلوا هم وكفروا بسبب ما رأوا على يديه من الآيات ، و «المأوى» هو المحل الذي يسكنه المرء ويرجع إليه ، وقوله تعالى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه‌السلام لبني إسرائيل ، ويحتمل أن يكون إخبارا مستأنفا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد تقدم القول في تفسير لفظة المسيح في سورة آل عمران.

قوله تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٧٥)

هذه الآية إخبار مؤكد كالذي قبله ، وهو عن هذه الفرقة الناطقة بالتثليث وهي فيما يقال الملكية وهم


فرق منهم النسطورية وغيرهم ، ولا معنى لذكر أقوالهم في كتاب تفسير ، إنما الحق أنهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الألوهية عددا ومن حيث جعلوا لعيسى عليه‌السلام حكما إلهيا ، وقوله تعالى: (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) لا يجوز فيه إلا الإضافة وخفض (ثَلاثَةٍ) لأن المعنى أحد ثلاثة فإن قلت زيد ثالث اثنين أو رابع ثلاثة جاز لك أن تضيف كما تقدم وجاز أن لا تضيف وتنصب ثلاثة على معنى زيد يربع ثلاثة ، وقوله تعالى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) خبر صادع بالحق ، وهو الخالق المبتدع المتصف بالصفات العلى تعالى عما يقول المبطلون ، ثم توعد تبارك وتعالى هؤلاء القائلين هذه العظيمة بمس العذاب ، وذلك وعيد بعذاب الدنيا من القتل والسبي وبعذاب الآخرة بعد لا يفلت منه أحد منهم.

ثم رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة ، ثم وصف نفسه بالغفران والرحمة استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم.

ثم أخبر تعالى عن حقيقة أمر المسيح وأنه رسول بشر كالرسل المتقدمة قبله ، و (خَلَتْ) معناه مضت وتقدمت في الخلاء من الأرض ، وقرأ حطان بن عبد الله الرقاشي «قد خلت من قبله رسل» بتنكير الرسل ، وكذلك قرأ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران : ١٤٤] ، وقد مضى القول على وجه هذه القراءة هناك ، وقوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) صفة ببناء مبالغة من الصدق ، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه ، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية ، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم ، ولا تكون هنالك نبوة ، فكذلك أمر مريم ، وقوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) تنبيه على نقص البشرية وعلى حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية ، وذكر مكي والمهدي وغيرهما أنها عبارة عن الاحتياج إلى الغائط وهذا قول بشع ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر ، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي ولا محالة أن الناظر إذا تأمل بذهنه لواحق التغذي وجد ذلك وغيره ، ثم أمر تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق ، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح ، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق ، و (كَيْفَ) في هذه الآية ليست سؤالا عن حال لكنها عبارة عن حال شأنها أن يسأل عنها بكيف ، وهذا كقولك : كن كيف شئت فأنت صديق ، و (أَنَّى) معناها من أي جهة ، قال سيبويه معناها كيف ومن أين ، و (يُؤْفَكُونَ) معناه : يصرفون ، ومنه قوله عزوجل : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٩] والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر ، والمطر في الحقيقة هو المصروف ، ولكن قيل أرض مأفوكة لما كانت مأفوكة عنها.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا


مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٧٨)

أمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على عبادتهم شخصا من البشر لا يملك أن يضرهم ولا أن ينفعهم ، و (مِنْ دُونِ) ودون فلان وما جاء من هذه اللفظة فإنما تضاف إلى من ليس في النازلة التي فيها القول ، وتفسيرها بغير أمر غير مطرد ، و «الضّر» بفتح الضاد المصدر ، و «الضّر» بضمها الاسم وهو عدم الخير ، و (السَّمِيعُ) هنا إشارة إلى تحصيل أقوالهم والعليم بنياتهم ، وقال بعض المفسرين : هاتان الصفتان منبهتان على قصور البشر ، أي والله تعالى هو السميع العليم بالإطلاق لا عيسى ولا غيره ، وهم مقرون أن عيسى قد كان مدة لا يسمع ولا يعلم ، وقال نحوه مكي.

ثم أمر تعالى نبيه محمدا أن ينهاهم عن الغلو في دينهم ، والغلو تجاوز الحد ، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد ، وتلك المسافة هي غلوته ، وكما كان قوله (لا تَغْلُوا) بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب (غَيْرَ) وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو ، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم ، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه ، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى ، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل ، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم ، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم ، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى ، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج ، هذه طريقة فلان ، تمثله بآخر قد اعوج نوعا آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله ، ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما وأضلوا كثيرا من أتباعهم ، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل ، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد ، وأضلوا كثيرا من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق.

وقوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية. قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم ، وكذلك أمرهم مع محمد عليه‌السلام كان مشاهدا في وقت نزول القرآن ، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاما بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما‌السلام ، وقال ابن عباس رحمه‌الله : لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد محمد في القرآن ، وروى ابن جريج أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير ، وذلك أن داود عليه‌السلام مر على نفر وهم في بيت فقال من في البيت؟ قالوا : خنازير على معنى الانحجاب ، قال : اللهم اجعلهم خنازير ، فكانوا خنازير ، ثم دعا عيسى على من افترى عليه على أن يكونوا قردة فكانوا قردة ، وقال مجاهد وقتادة : بل مسخوا في زمن داود قردة وفي زمن عيسى خنازير ، وحكى الزجّاج نحوه.


قال القاضي أبو محمد : وذكر المسخ ليس مما تعطيه ألفاظ الآية ، وإنما تعطي ألفاظ الآية أنهم لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وأعلم بذلك العباد المؤمنون على لسان داود النبي في زمنه وعلى لسان عيسى في زمنه ، وروي عن ابن عباس أنه قال : لعن على لسان داود أصحاب السبت ، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة ، وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى لعنتهم وباقي الآية بيّن.

قوله عزوجل :

(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١)

ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد ، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته ، وروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيرا ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله ، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ، قال ابن مسعود : وكان رسول الله متكئا فجلس ، وقال : لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا.

قال القاضي أبو محمد : والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين ، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر ، وقال حذاق أهل العلم : ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية ، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا ، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية ، لأن قوله (يَتَناهَوْنَ) و (فَعَلُوهُ) يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وقوله تعالى : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) اللام لام قسم ، وجعل الزجاج (ما) مصدرية وقال : التقدير لبئس شيئا فعلهم.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وقال غيره (ما) نكرة موصوفة ، التقدير : لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلا.

وقوله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تَرى كَثِيراً) يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين ، أي ترى الآن إذا خبرناك ، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم ، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي قدمته


للآخرة واجترحته ، ثم فسر ذلك قوله تعالى : (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ف (أَنْ سَخِطَ) في موضع رفع بدل من (ما) ، ويحتمل أن يكون التقدير هو أن سخط الله عليهم ، وقال الزجاج : «أن» في موضع نصب ب (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

وقوله تعالى : و (النَّبِيِ) إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى ، وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد عليه‌السلام ، والذين كفروا هم عبدة الأوثان ، وخص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن.

وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين ، وقال مجاهد رحمه‌الله : (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ) آية يعني بها المنافقين.

قوله عزوجل :

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٨٣)

اللام في قوله (لَتَجِدَنَ) لام الابتداء ، وقال الزجّاج هي لام قسم ، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن ، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم ، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل ، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة ، والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لو لا أنهم ضلوا ، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين ، ويستهينون من فهموا منه الفسق ، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك ، وإذا سالموا فسلمهم صاف ، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق ، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سر حين غلبت الروم فارس ، وذلك لكونهم أهل كتاب ، ولم يرد عليه‌السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار ، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام ، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو


الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا. ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين ، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين ، وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي ، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، فلذلك لا يرى فيهم زاهد ، ويقال «قس» بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب ، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا ، وأما الرهبان فجمع راهب. وهذه تسمية عربية والرهب الخوف ، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير :

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا

والعصم من شغف العقول الفادر

وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر :

لو عاينت رهبان دير في القلل

تحدّر الرهبان يمشي ونزل

قال القاضي أبو محمد : ويروى و «يزل» بالياء من الزلل ، وهذا الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب ، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون وهذا بين موجود فيهم حتى الآن ، واليهودي متى وجد غرورا طغى وتكبر وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله ، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليروه ويعرفوا حاله ، فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي

فآمن ، ولم يزل مؤمنا حتى مات فصلى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه ، وذكر السدي : أنهم كانوا اثني عشر سبعة قسيسين وخمسة رهبان. وقال أبو صالح : كانوا سبعة وستين رجلا ، وقال سعيد بن جبير : كانوا سبعين عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخير بالخير ، وذكر السدي : أن النجاشي خرج مهاجرا فمات في الطريق.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة ، وقال قتادة : نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه‌السلام.

قال القاضي أبو محمد : وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد ، وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا.

وقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ) الآية الضمير في (سَمِعُوا) ظاهره العموم


ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة ، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا ، وليس كل النصارى يفعل ذلك ، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن آمن لأن من آمن فهو من الذين آمنوا وليس يقال فيه قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) ولا يقال إنهم أقرب مودة ، بل من آمن فهو أهل مودة محضة ، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا) وجاء الضمير عاما إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها ، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم ، ولقد يوجد فيض الدموع غالبا فيهم وإن لم يؤمنوا ، وروي أن وفدا من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاء شديدا فقال أبو بكر : هكذا كنا ولكن قست القلوب ، وروي أن راهبا من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأى عبادتهم وجدهم في قتال عدوهم فعجب من حالهم ، وبكى ، وقال : ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء ولا أجدّ في دينهم.

قال القاضي أبو محمد : فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى : (ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب. والرؤية رؤية العين ، و (تَفِيضُ) حال من الأعين ، و (يَقُولُونَ) حال أيضا و (آمَنَّا) معناه صدقنا أن هذا رسولك والمسموع كتابك والشاهدون محمد وأمته ، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما ، وقال الطبري : لو قال قائل معنى ذلك مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صوابا.

قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح ، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه‌السلام لقول الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

قوله عزوجل :

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧)

قولهم (وَما لَنا) توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم. فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير (وَما لَنا) ابتداء وخبر ، و (لا نُؤْمِنُ) في موضع الحال ، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة : كما تقول جاء زيد راكبا وأنت قد سئلت هل جاء ماشيا أو راكبا. وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا». (وَنَطْمَعُ) تقديره ونحن نطمع. فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و «القوم الصالحون» محمد وأصحابه ، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين.


ثم ذكر الله تعالى ما أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم.

ثم ذكر حال الكافرين المكذبين وأنهم قرناء الجحيم ، والمعنى قد علم من غير ما آية من كتاب الله أنه اقتران لازم دائم أبدي.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم : إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء وبعضهم النوم بالليل والطيب وهمّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ، قال عكرمة : ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة ، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع ، وقال ابن عباس أخذوا الشفار ليقطعوا مذاكرهم ، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخبارها بأنه لم يلم بها ، فلما أعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحالهم قال : «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» قال الطبري : وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك ، وقد ضل سواء السبيل ، وقال ابن زيد : سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يعشّ فقال لزوجه ما عشيته؟ قالت : كان الطعام قليلا فانتظرتك ، فقال : حبست ضيفي من أجلي ، طعامك علي حرام إن ذقته ، فقالت هي : وهو علي حرام إن ذقته وإن لم تذقه ، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه ، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال : قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعا. ثم غدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : و «الطيبات» في هذه الآية المستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية ، واختلف المتأولون في معنى قوله (وَلا تَعْتَدُوا) فقال السدي وعكرمة وغيرهما. وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به ، فقوله (وَلا تَعْتَدُوا) تأكيد لقوله (لا تُحَرِّمُوا) وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله ، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين كأنه لا تشددوا فتحرموا حلالا ولا تترخصوا فتحلوا حراما وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة.

قوله عزوجل :

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ


أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٨٩)

(كُلُوا) في هذه الآية عبارة عن تمتعوا بالأكل والشرب واللباس والركوب. ونحو ذلك ، وخص الأكل بالذكر لأنه عظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان ، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به ، وقالت المعتزلة : الرزق كل ما صح تملكه والحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه. ويرد عليهم بأنه يلزمهم أن آكل الحرام ليس بمرزوق من الله تعالى وقد خرج بعض النبلاء أن الحرام رزق من قوله تعالى (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ : ١٥] قال فذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام ورد أبو المعالي في الإرشاد على المعتزلة مشيرا إلى أن الرزق ما تملك يلزمهم أن ما ملك فهو الرزق ، وملك الله تعالى الأشياء لا يصح أن يقال فيه إنه رزق له.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي ألزم غير لازم ، فتأمله ، وباقي الآية بين.

وقد تقدم القول في سورة البقرة في نظير قوله تعالى (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وقوله تعالى : (بِما عَقَّدْتُمُ) معناه شددتم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عقّدتم» مشددة القاف ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «عقدتم» خفيفة القاف ، وقرأ ابن عامر «عاقدتم» بألف على وزن فاعلتم ، قال أبو علي من شدد القاف احتمل أمرين أحدهما أن يكون لتكثير الفعل لأنه خاطب جماعة والآخر يكون عقد مثل ضعف لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين. ومن قرأ «عقدتم» فخفف القاف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل ، وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد ، وقال الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

ومن قرأ «عاقدتم» فيحتمل ضربين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص ، والآخر أن يراد به فاعلت الذي يقتضي فاعلين كأن المعنى يؤاخذكم بما عاقدتم عليه الإيمان ، ويعدى عاقد ب «على» لما هو في معنى عاهد ، قال الله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) [الفتح : ١٠] وهذا كما عديت (نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٥٨] ب «إلى» وبابها أن تقول ناديت زيدا و (نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢] لكن لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا كقوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] عديت نادى ب «إلى» ، ثم يتسع في قوله تعالى «عاقدتم» عليه الإيمان فيحذف الجار ، ويصل الفعل إلى المفعول ، ثم يحذف من الصلة الضمير الذي يعود على الموصول ، وتقديره يؤاخذكم بما عقدتموه الأيمان. كما حذف من قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] و (الْأَيْمانَ) جمع يمين وهي الألية سميت يمينا لما كان عرفهم أن يصفقوا بأيمان بعضهم على بعض عند الألية. وقوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ) معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام ، والضمير على الصناعة النحوية عائد على ما ، ويحتمل ما في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي ، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث ، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه و (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) معناه إشباعهم مرة ، قال الحسن بن أبي الحسن إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة ، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكا مكوكا ، وحكم هؤلاء أن لا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة ، وسواء أطعموا أفرادا أو جماعة


في حين واحد ولا يجزىء في شيء من ذلك ذمي وإن أطعم صبي فيعطى حظ كبير ، ولا يجوز أن يطعم عبد ولا ذو رحم تلزم نفقته ، فإن كان ممن لا تلزم المكفر نفقته فقد قال مالك لا يعجبني أن يطعمه ، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه ، ولا يجوز أن يطعم منها غني ، وإن أطعم جهلا بغناه ففي المدونة وغير كتاب أنه لا يجزىء وفي الأسدية أنه يجزىء واختلف الناس في معنى قوله (مِنْ أَوْسَطِ) فرأى مالك رحمه‌الله وجماعة معه هذا التوسط في القدر ، ورأى ذلك جماعة في الصنف ، والوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف.

فرأى مالك أن يطعم المسكين بالمدينة مدا بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك رطل وثلث من دقيق ، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة ، ورأى في غيرها أن يتوسع ولذلك استحسن الغداء والعشاء. وأفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف وأشهب بمد وثلث ، قال ابن المواز : ومد وثلث وسط من عيش أهل الأمصار في الغداء والعشاء ، قال ابن حبيب : ولا يجزىء الخبز قفارا ولكن بأدام زيت أو لبن أو لحم أو نحوه ، وفي شرح ابن مزين أن الخبز القفار يجزىء ، ورأى من يقول إن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد وينحط عن الأعلى ويكفر بالوسط من ذلك ، ومذهب المدونة أن يراعي المكفر عيش البلد ، وفي كتاب ابن المواز أن المراعى عيشه في أهله الخاص به ، وكأن الآية على التأويل الأول معناها من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع ، وعلى التأويل الثاني معناها من أوسط ما يطعم شخص أهله. وقرأ الجمهور «أهليكم» وهو جمع أهل على السلامة وقرأ جعفر بن محمد «من أوسط ما تطعمون أهاليكم» ، وهذا جمع مكسر قال أبو الفتح «أهال» بمنزلة ليال ، كأن واحدها أهلاة وليلاة ، والعرب تقول أهل وأهلة ومنه قول الشاعر :

وأهلة ود قد تبريت ودهم

ويقال ليلة وليلاة وأنشد ابن الأعرابي :

في كل ما يوم وكل ليلاه

حتى يقول من رآه إذ رآه

يا ويحه من جمل ما أشقاه

وقرأ الجمهور «أو كسوتهم» بكسر الكاف يراد به كسوة الثياب وقرأ سعيد بن المسيب وأبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «أو كسوتهم» بضم الكاف ، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني «أو كأسوتهم» من الأسوة قال أبو الفتح كأنه قال أو بما يكفي مثلهم فهو على حذف المضاف بتقدير أو ككفاية أسوتهم ، قال وإن شئت جعلت الأسوة هي الكفاية فلم تحتج إلى حذف مضاف.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، والقراءة مخالفة لخط المصحف ، ومعناها على خلاف ما تأول أهل العلم من أن الحانث في اليمين بالله مخير في الإطعام أو الكسوة أو العتق ، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك ثم الكسوة ثم الإطعام وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر فالأيسر ، ورب مدة ومسغبة يكون فيها الإطعام أفضل من العتق لكن ذلك شاذ وغير معهود والحكم للأغلب ، واختلف العلماء في حد الكسوة فراعى على قوم نفس اللفظ فإذا كان الحانث المكفر كاسيا والمسكين مكسوا حصل الإجزاء ، وهذه رتبة


تتحصل بثوب واحد أي ثوب كان بعد إجماع الناس أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء في كفارة اليمين ، قال مجاهد : يجزىء في كفارة اليمين ثوب واحد فما زاد ، وقال الحسن : الكسوة ثوب لكل مسكين وقاله طاوس ، وقال منصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار قاله أبو جعفر وعطاء وابن عباس ، وقال قد تجزىء العباءة في الكفارة وكذلك الشملة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : تجزىء العمامة في كفارة اليمين ، وقال مجاهد : يجزىء كل شيء إلا التبان ، وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : نعم الثوب التبان ، أسنده الطبري وقال الحكم بن عتيبة : تجزىء عمامة يلف بها رأسه وراعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة ، فقال بعضهم لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيى به كالكساء والملحفة ، قال إبراهيم النخعي : يجزىء الثوب الجامع وليس القميص والدرع والخمار ثوبا جامعا.

قال القاضي أبو محمد : قد يكون القميص الكامل جامعا وزيا ، وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء قاله ابن عمر رضي الله عنه ، وروي عن الحسن وابن سيرين وأبي موسى الأشعري أن الكسوة في الكفارة ثوبان لكل مسكين ، وعلق مالك رحمه‌الله الحكم بما يجزىء في الصلاة ، وهذا أحسن نظر ، فقال : يجزىء في الرجل ثوب واحد ، وقال ابن حبيب يكسى قميصا أو إزارا يبلغ أن يلتف به مشتملا ، وكلام ابن حبيب تفسير ، قال مالك : تكسى المرأة درعا وخمارا ، وقال ابن القاسم في العتبية : وإن كسا صغير الإناث فدرع وخمار كالكبيرة ، والكفارة واحدة لا ينقص منها لصغير ، قال عنه ابن المواز ولا تعجبني كسوة المراضع بحال ، فأما من أمر بالصلاة فيكسوه قميصا ويجزئه ، قال ابن المواز من رأيه : بل كسوة رجل كبير وإلا لم يجزىء ، قال أشهب ، تعطى الأنثى إذا لم تبلغ الصلاة ثوب رجل ويجزىء وقاله ابن الماجشون ، وقوله (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) التحرير الإخراج من الرق ، ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها ، فمنه قوله تعالى عن أم مريم : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [آل عمران : ٣٥] أي من شغوب الدنيا ، ومن ذلك قول الفرزدق :

ابني غدانة إنني حررتكم

فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجاء ، وخص الرقبة من الإنسان إذ هو العضو الذي فيه يكون الغل والتوثق غالبا من الحيوان ، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها ، واختلف الناس في صفة المعتق في الكفارة كيف ينبغي أن يكون ، فقالت جماعة من العلماء : هذه رقبة مطلقة لم تقيد بأيمان فيجوز في كفارة اليمين عتق الكافر ، وهذا مذهب الطبري وجماعة من العلماء ، وقالت فرقة كل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ فلا يجزىء في شيء من الكفارات كافر ، وهذا قول مالك رحمه‌الله وجماعة معه ، وقال مالك رحمه‌الله : لا يجزي أعمى ولا أبرص ولا مجنون ، وقال ابن شهاب وجماعة ، وفي الأعور قولان في المذهب ، وكذلك في الأصم وفي الخصي ، وفي العلماء من رأى أن جميع هذا يجزىء وفرق النخعي فجوز عتق من يعمل أشغاله وخدمته ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد والأشل اليدين ، قال مالك رحمه‌الله : والأعجمي عندي يجزىء من قصر النفقة وغيره أحب إليّ ، قال سحنون يريد بعد أن يجيب إلى الإسلام ، فإن كان الأعجمي لم يجب إلا أنه ممن يجبر على الإسلام كالكبير من المجوس والصغير من الحربيين الكتابيين فقال ابن القاسم يجزىء عتقه وإن لم يسلم وقال أشهب لا


يجزىء حتى يسلم ، ولا يجزىء عند مالك من فيه شعبة حرية كالمدبر وأم الولد ونحوه.

وقوله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة واختلف العلماء في حد هذا العادم الوجد حتى يصح له الصيام ، فقال الشافعي رحمه‌الله وجماعة من العلماء إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته وقوت عياله يومه وليلته فله أن يصوم ، فإن كان عنده زائدا على ذلك ما يطعم عشرة مساكين لزمه الإطعام ، وهذا أيضا هو مذهب مالك وأصحابه قال مالك في المدونة : لا يجزئه سيام وهو يقدر على أحد الوجوه الثلاثة ، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل له نفقة يوم فإنه لا يصوم ، وقال ابن المواز : ولا يصوم الحانث حتى لا يجد إلا قوته أو يكون في البلد لا يعطف عليه فيه ، وقال ابن القاسم في كتاب ابن مزين : إن كان لحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه ، وقال سعيد بن جبير : إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم وقال قتادة : إذا لم يكن له إلا قدر ما يكفر به صام ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا كان له درهمان أطعم ، قال الطبري : وقال آخرون : جائز لمن لم تكن عنده مائتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد ، وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معاشه أن يصوم ، وقرأ أبي بن كعب فصيام ثلاثة أيام متتابعات ، وكذلك عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي ، وقال بذلك جماعة من العلماء منهم مجاهد وغيره ، وقال مالك رحمه‌الله وغيره : إن تابع فحسن وإن فرق أجزأ ، وقوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة وقوله (إِذا حَلَفْتُمْ) معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٩٢)

الخطاب للمؤمنين جميعا ، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين ، فأما (الْخَمْرُ) فكانت لم تحرم بعد ، وأما (الْمَيْسِرُ) ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضا بوجه ما ، وأما (الْأَنْصابُ) وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها ، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية. فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة ، وهذا كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لزوجها : أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئا؟ وذو الشرى صنم لدوس ، وإن كانت المرادة في هذه الآية الأصنام فإنما قرنت بهذه الأمور ليبين النقص في هذه إذ تقرن بالأصنام ، ولا يتأول أنه بقي في نفس مؤمن شيء من تعظيم الأصنام والتلبس بها حتى يقال له


اجتنبه ، وأما (الْأَزْلامُ) فهي الثلاثة التي كان أكثر الناس يتخذونها. في أحدها «لا» وفي الآخر «نعم» ، والآخر «غفل» ، وهي التي حبسها سراقة بن جعشم حين اتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقت الهجرة ، فكانوا يعظمونها ، وبقي منها في بعض النفوس شيء ومن هذا القبيل هو الزجر بالطير وأخذ الفأل منها في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم ، وقد يقال لسهام الميسر أزلام ، والزلم السهم وكان من الأزلام أيضا ما يكون عند الكهان وكان منها سهام عند الأصنام وهي التي ضرب بها على عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عند قريش في الكعبة أزلام فيها أحكام ذكرها ابن إسحاق وغيره ، فأخبر الله تعالى أن هذه الأشياء (رِجْسٌ) ، قال ابن زيد : الرجس الشر.

قال القاضي أبو محمد : كل مكروه ذميم ، وقد يقال للعذاب ، وقال ابن عباس في هذه الآية (رِجْسٌ) سخط ، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس ، والرجز العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير ، والرجس يقال للأمرين ، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله (فَاجْتَنِبُوهُ) نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم ، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة ، وقد تقدم تفسير لفظة (الْخَمْرُ) ومعناها. وتفسير (الْمَيْسِرُ) في سورة البقرة ، وتقدم تفسير (الْأَنْصابُ) والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة ، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات ، فقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها ، وقال : اللهم بين لنا فيها بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر انتهينا ، انتهينا وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال : صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقال كل فريق : نحن خير منكم ، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها ، وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده ، فيقول هذا فعل فلان بي ، فحدث بينهم في ذلك ضغائن ، فنزلت هذه الآيات في ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة ، منها قصة حمزة حين جبّ الأسنمة ، وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] الآية ، ثم لم تزل النوازل تحزب الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية ، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل ، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير ، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء ، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ، ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب ، وهو مذهب مردود ، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس ، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس ، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام.


قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، والاجتناب أن يجعل الشيء جانبا أو ناحية.

ثم أعلم تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر ، وما كان يغري عليها بين المؤمنين وبسبب الميسر إذ كانوا يتقامرون على الأموال والأهل ، حتى ربما بقي المقمور حزينا فقيرا فتحدث من ذلك ضغائن وعداوة ، فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة كانت بغضاء ، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» ، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين ويجاهد العدو ، و (الْبَغْضاءَ) تنقض عرى الدين وتهدم عماد الحماية ، وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله وعن الصلاة ويشغلهم عنها بشهوات ، فالخمر والميسر والقمار كله من أعظم آلاته في ذلك ، وفي قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وعيد في ضمن التوقيف زائد على معنى انتهوا.

ولما كان في الكلام معنى انتهوا حسن أن يعطف عليه (وَأَطِيعُوا) وكرر (أَطِيعُوا) في ذكر الرسول تأكيدا ، ثم حذر تعالى من مخالفة الأمر وتوعد من تولى بعذاب الآخرة أي إنما على الرسول أن يبلغ وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.

قوله عزوجل :

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٤)

سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك : أنه لما نزل تحريم الخمر ، قال قوم من الصحابة : يا رسول الله ، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول؟ فنزلت هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى ، ونزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ولما كان أمر القبلة خطيرا ومعلما من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته ، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم ، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات ، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي ، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم ، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها ، و «الجناح» الإثم والحرج ، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي و (طَعِمُوا) معناه ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب ، وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق ، والتكرار في قوله (اتَّقَوْا) يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم ، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال


قوم : الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات ، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة ، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك ، وهو الإحسان ، وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن ، والثانية للحال ، والثالثة للاستقبال ، وقال قوم : الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع ، والثاني في الكبائر ، والثالث في الصغائر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليست هذه الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها ، واتقى كل التقوى. بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصيا أحيانا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن ، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه ، وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه ، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله ، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمرّ ، وكان ختن عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة ، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر ، فقال له عمر : ومن يشهد معك؟ فقال : أبو هريرة ، فجاء أبو هريرة فقال له عمر بم تشهد؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء ، فقال له عمر : لقد تنطعت في الشهادة ، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه ، فقدم ، فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله ، فقال له عمر : أخصم أنت أم شهيد ، قال : بل شهيد : قال : قد أديت شهادتك ، فصمت الجارود ثم غدا على عمر ، فقال أقم على قدامة كتاب الله ، فقال له عمر : ما أراك إلا خصما وما شهد معك إلا رجل واحد ، قال الجارود : إني أنشدك الله ، قال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسوأنك ، فقال الجارود : ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني ، فقال أبو هريرة : إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها ، وهي امرأة قدامة ، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله ، فأقامت الشهادة على زوجها ، فقال عمر لقدامة إني حادك ، فقال : لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني ، قال عمر لم؟ قال : لأن الله تعالى يقول (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) الآية ، فقال له عمر : أخطأت التأويل ، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك ، ثم حده عمر وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضا ، فأصبح يوما وقد عزم على جلده ، فقال لأصحابه : ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا : لا نرى ذلك ما دام وجعا ، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي ، وأمر بقدامة فجلد ، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضبا له ، فلما كان عمر بالسقيا نام ثم استيقظ فقال : عجلوا عليّ بقدامة ، فقد أتاني آت في النوم فقال : سالم قدامة فإنه أخوك ، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبى فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا ، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره.

وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد ، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة ، وشائعا عند الجميع منهم مستعما جدا ، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في


السبت ، و (مِنَ) تحتمل أن تكون للتبعيض ، فالمعنى من صيد البر دون البحر ، ذهب إليه الطبري وغيره ، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم ، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس ، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الورق ، وكما قال تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] وقوله (بِشَيْءٍ) يقتضي تبعيضا ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] أعطت تبعيضا ما ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله» بالياء منقوطة من تحت ، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر ، والرماح تنال كبار الصيد.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم المتصرف في الاصطياد ، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات ، وما عمل باليد من فخاخ وشباك ، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية ، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا ، وقوله تعالى (لِيَعْلَمَ) معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل. وقرأ الزهري «ليعلم الله» بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده ، و (بِالْغَيْبِ) قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه ، وقد خفي له لو صاد ، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) وأشار إليه قوله (ذلِكَ) والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٩٥)

الخطاب لجميع المؤمنين ، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) [المائدة: ٩٤] و (الصَّيْدَ) مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد ، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتله في الحرم ، ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر ، وقاس مالك رحمه‌الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ورآه داخلا في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئا بها ، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى ، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله ، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته ، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا


عليه ، وقال ابن عمر ما حل بك من السباع فحلّ به ، وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس فقال مالك في المدونة لا ينبغي للمحرم قتلها ، قال أشهب في كتاب محمد : فإن فعل فعليه الجزاء ، وقال أيضا أشهب وابن القاسم لا جزاء عليه ، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرمين بقتل الحيات ، وأجمع الناس على إباحة قتلها ، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب ، وقال مالك : يطعم قاتله شيئا ، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه ، وقال أصحاب الرأي لا شيء على قاتل هذه كلها ، وأما سباع الطير فقال مالك لا يقتلها المحرم وإن فعل فدى ، وقال ابن القاسم في كتاب محمد : وأحب إليّ أن لا يقتل الغراب والحدأة حتى يؤذياه ، ولكن إن فعل فلا شيء عليه.

قال القاضي أبو محمد : وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال ، وفرض الجزاء على من قتله و (حُرُمٌ) جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام ، وحرام ، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع ، واختلف العلماء في معنى قوله (مُتَعَمِّداً) فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد : معناه متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه ، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمدا ذاكرا لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر. قال مجاهد : قد حل ولا رخصة له ، وقاله ابن جريج ، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه ، وقال ابن زيد : هذا يوكل إلى نقمة الله ، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم ، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه ، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران.

قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأ أنهما يكفران ، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأ كفارة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «فجزاء مثل ما» بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء» بالرفع «مثل» بالرفع أيضا فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل ما قتل أي قضاؤه وغرمه ، ودخلت لفظة «مثل» هنا كما تقول أنا أكرم مثلك وأنت تقصد بقولك أنا أكرمك ، ونظير هذا قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] التقدير كمن هو في الظلمات.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ) أن يكون المعنى فعليه أن يجزي مثل ما ، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعا ، وأما القراءة الثانية فمعناها فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و «مثل» على هذه القراءة صفة لجزاء ، أي فجزاء مماثل ، وقوله تعالى : (مِنَ النَّعَمِ) صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما ، وقرأ عبد الله بن مسعود «فجزاؤه مثل ما» بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل ، وقرأ أبو عبد الرحمن «فجزاء» بالرفع والتنوين «مثل ما» بالنصب ، وقال أبو الفتح «مثل» منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون؟! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه ، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء : في النعامة


وحمار الوحش ونحوه بدنة ، وفي الوعل والإبل ونحوه بقرة ، وفي الظبي ونحوه كبش ، وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم ، وفي اليربوع حمل صغير ، وما كان من جرادة ونحوها ففيها قبضة طعام ، وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاما فإن شاء تصدق به وإن شاء صام لكل صاع يوما ، وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد ما أصاب من بكارة الإبل فما نتج منها أهداه إلى البيت وما فسد منها فلا شيء عليه فيه.

قال القاضي أبو محمد : حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة ، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف ، قال قبيصة : فقلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك ، قال : فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا. ثم قال : أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ. وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة ، وقبيصة هو راويها والله أعلم. وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاما ، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يوما ، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد ، وعند قوم صاع ، وعند قوم بدل مدين ، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة ، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم ، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه ، قال ابن القاسم : وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخا بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملا كجزاء كبير ذلك الطير. قال ابن المواز : بحكومة عدلين ، وقال ابن وهب : إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه ، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين ، وذهبت فرقة من أهل العلم منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة ، يقوّم الصيد المقتول ثم يشترى بقيمته من النعم ثم يهدى ، ورد الطبري وغيره على هذا القول ، و (النَّعَمِ) لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف ، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم» إلا للإبل وحدها ، وقرأ الحسن «من النعم» بسكون العين وهي لغة ، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية ، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار ، قال لا جزاء عليه ، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها ، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال :

فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما عليّ تيسا أعفر ، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء ، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار ، وقال ابن وهب رحمه‌الله في العتبية : من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما. فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي. فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما. وكذلك قال مالك في المدونة : إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاما لا دراهم ، قال : وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعا ، والأول أصوب ، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يوما ، وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة ، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا


العدد ، فإن شاء أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء صام عدد أمداده.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام ، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران ، قالوا : لأنها أعلى الكفارات بالصيام ، وقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ ، وذكرت (الْكَعْبَةِ) لأنها أم الحرم ورأس الحرمة ، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى ، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم ، بشرط أن يدخل من الحل لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغا الكعبة ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «هديّا بالغ الكعبة» بكسر الدال وتشديد الياء ، و (هَدْياً) نصب على الحال من الضمير في (بِهِ) ، وقيل على المصدر ، و (بالِغَ) نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع ، فتقديره بالغا الكعبة حذف تنويه تخفيفا ، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي «أو كفارة» منونا «طعام مساكين» برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين ، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع ، قال أبو علي : إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة ، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر ، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام ، فالكفارة غير الطعام لكنها به ، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض ، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص ، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام ، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمر «أو كفارة» بالرفع والتنوين «طعام» بالرفع دون تنوين «مسكين» على الإفراد وهو اسم الجنس ، وقال مالك رحمه‌الله وجماعة من العلماء : القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنيا ، وهذا عندهم مقتضى (أَوْ) ، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديا ، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم ، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان ، قالوا : والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي. ومالك رحمه‌الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم ، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعاما ، فمن قتل ظبيا قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره ، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به ، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما قال : وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم ، ومن يجد طعاما فإنما يجد جزاء ، وأسنده أيضا عن السدي.

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية فإنه ينافره ، والهدي لا يكون إلا في الحرم كما ذكرنا قبل.

واختلف الناس في الطعام فقال جماعة من العلماء : الإطعام والصيام حيث شاء المكفر من البلاد،


وقال عطاء بن أبي رباح وغيره «الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شئت» وقوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) قرأ الجمهور بفتح العين ومعناه : نظير الشيء بالموازنة والمقدار المعنوي ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري : «أو عدل» بكسر العين ، قال أبو عمرو الداني ورواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعض الناس «العدل» بالفتح قدر الشيء من غير جنسه ، وعدله بالكسر قدره من جنسه ، نسبها مكي إلى الكسائي وهو وهم والصحيح عن الكسائي : أنهما لغتان في المثل ، وهذه المنسوبة عبارة معترضة وإنما مقصد قائلها أن «العدل» بالكسر قدر الشيء موازنة على الحقيقة كعدلي البعير ، وعدله قدره من شيء آخر موازنة معنوية ، كما يقال في ثمن فرس هذا عدله من الذهب ، ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت ، والإشارة بذلك في قوله (عَدْلُ ذلِكَ) يحتمل أن تكون إلى الطعام ، وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد أو الأصوع أو أنصافها حسب الخلاف الذي قد ذكرته في ذلك. ويحتم أن تكون الإشارة ب (ذلِكَ) إلى الصيد المقتول ، وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء : الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول ، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، وإن قتل أيلا فعليه بقرة ، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا ، فإن لم يجد صام عشرين يوما ، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما.

قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفا حكاهما عنه الطبري مسندين ، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان ، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.

وقوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الذوق هنا مستعار كما قال تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] وكما قال (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) [النحل : ١١٢] وكما قال أبو سفيان : ذق عقق وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة السان ، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس ، والوبال سوء العاقبة ، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله ، وعبر بأمره عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه : معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحيلا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم ، وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط ، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر.

قال القاضي أبو محمد : ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير ، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم‌الله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة ، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة ، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير ، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه ، ويقال له : ينتقم الله منك ، كما قال الله ، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وقال سعيد بن جبير : رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.


قال القاضي أبو محمد : وهذا القول منه رضي الله عنه وعظ بالآية ، وهو مع ذلك يرى أن يحكم عليه في العودة ويكفر لكنه خشي مع ذلك بقاء النقمة ، وقال ابن زيد : معنى الآية (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم ، قال وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل فهذا لا يحكم عليه ، وهو موكول إلى نقمة الله ، ومعنى قوله (مُتَعَمِّداً) في صدر الآية أي متعمدا للقتل ناسيا للحرمة.

قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم ذكر هذا الفصل ، قال الطبري : وقال قوم : هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له عنه ثم عاد فأرسل الله عليه نارا فأحرقته ، فذلك قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وقوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) تنبيه على صفتين تقتضي خوف من له بصيرة ، ومن خاف ازدجر ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.

قوله عزوجل :

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٨)

هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه ، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال ، والصيد هنا أيضا يراد به الصيد ، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب ، و (الْبَحْرِ) الماء الكثير ملحا كان أو عذبا ، وكل نهر كبير بحر ، واختلف الناس في معنى قوله (وَطَعامُهُ) قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو ما قذف به وما طفا عليه لأن ذلك طعام لا صيد ، وسأل رجل ابن عمر عن حيتان طرحها البحر فنهاه عنها ثم قرأ المصحف فقال لنافع الحقه فمره بأكلها فإنها طعام البحر ، وهذا التأويل ينظر إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وجماعة : «طعامه» كل ما ملح منه وبقي ، وتلك صنائع تدخله فترده طعاما ، وإنما الصيد الغريض ، وقال قوم (طَعامُهُ) ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه. وكره قوم خنزير الماء ، وقال مالك رحمه‌الله : أنتم تقولون خنزير ، ومذهبه إباحته ، وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال ، وهو مذهب مالك ، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الحارث و «طعمه» بضم الطاء وسكون العين دون ألف و (مَتاعاً) نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون ، و (لَكُمْ) يريد حاضري البحر ومدنه ، (وَلِلسَّيَّارَةِ) المسافرين ، وقال مجاهد أهل القرى هم المخاطبون ، والسيارة أهل الأمصار.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار.


واختلف العلماء في مقتضى قوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته ، فقالوا إن المحرم لا يحل له أن يصيد ولا أن يأمر بصيد ولا أن يأكل صيدا صيد من أجله ولا من غير أجله ، ولحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم ، وروي أن عثمان حج وحج معه علي بن أبي طالب فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ولم يأكل علي ، فقال عثمان : والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا ، فقال علي : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ، وروي أن عثمان استعمل على العروض أبا سفيان بن الحارث فصاد يعاقيب فجعلها في حظيرة فمر به عثمان بن عفان فطبخهن وقدمهن إليه ، وجاء علي بن أبي طالب فنهاهم عن الأكل ، وذكر نحو ما تقدم قال : ثم لما كانوا بمكة أتي عثمان فقيل له هل لك في علي؟ أهدي له تصفيف حمار فهو يأكل منه ، فأرسل إليه عثمان فسأله عن أكله التصفيف وقال له : أما أنت فتأكل وأما نحن فتنهانا فقال له علي : إنه صيد عام أول ، وأنا حلال ، فليس علي بأكله بأس ، وصيد ذلك ، يعني اليعاقيب وأنا محرم وذبحن وأنا حرام ، وروي مثل قول علي عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى بأسا للمحرم أن يأكل لحم الصيد الذي صاده الحلال لحلال مثله ولنفسه ، وسئل أبو هريرة عن هذه النازلة فأفتى بالإباحة ، ثم أخبر عمر بن الخطاب فقال له لو أفتيت بغير هذا لأوجعت رأسك بهذه الدرة ، وسأل أبو الشعثاء ابن عمر عن هذه المسألة فقال له ، كان عمر يأكله ، قال : قلت فأنت؟ قال كان عمر خيرا مني ، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال ، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مثل قول علي بن أبي طالب ، وروى عطاء عن كعب قال أقبلت في ناس محرمين فوجدنا لحم حمار وحشي فسألوني عن أكله فأفتيتهم بأكله ، فقدمنا على عمر فأخبروه بذلك ، فقال ، قد أمرته عليكم حتى ترجعوا ، وقال بمثل قول عمر بن الخطاب عثمان بن عفان رضي الله عنهما والزبير بن العوام وهو الصحيح لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي محرم ، قال الطبري وقال آخرون :

إنما حرم على المحرم أن يصيد ، فأما أن يشتري الصيد من مالك له فيذبحه فيأكله فذلك غير محرم ثم ذكر أن أبا سلمة بن عبد الرحمن ، اشترى قطا وهو بالعرج فأكله فعاب ذلك عليه الناس ، ومالك رحمه‌الله يجيز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال وذبحه إذا كان لم يصده من أجل المحرم ، فإن صيد من أجله فلا يأكله ، وكذلك قال الشافعي ، ثم اختلفا إن أكل ، فقال مالك : عليه الجزاء وقال الشافعي لا جزاء عليه ، وقرأ ابن عباس و «حرّم» بفتح الحاء والراء مشددة «صيد» بنصب الدال «ما دمتم حرما» بفتح الحاء ، المعنى وحرم الله عليكم ، و (حُرُماً) يقع للجميع والواحد كرضى وما أشبهه ، والمعنى ما دمتم محرمين ، فهي بالمعنى كقراءة الجماعة بضم الحاء والراء ، ولا يختلف في أن ما لا زوال له من الماء أنه صيد بحر ، وفيما لا زوال له من البر أنه صيد بر ، واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يعيش ويحيا في الآخر فقال مالك رحمه‌الله وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر إن قتله المحرم وداه : وذكر أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان.


قال القاضي أبو محمد : ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر ، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في المدونة ، فإنه قال الضفادع من صيد البحر ، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه ، وهو أنه راعى أكثر عيش الحيوان ، سئل عن ابن الماء أصيد بر أم صيد بحر؟ فقال : حيث يكون أكثر فهو منه ، وحيث يفرخ فهو منه.

قال القاضي أبو محمد : والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب ، وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ) تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم.

ثم ذكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل ، ذكر تعالى في قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ) الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و «الهدي» قوام و «القلائد» قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم ، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها ، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه ، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه‌السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس ، فرآه النبي ، قال : هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة ، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه ، وقال : ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم ، وجعل في هذه الآية بمعنى صير ، والكعبة بيت مكة ، وسمي كعبة لتربيعه ، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة ، ومنه قول الأسود بن يعفر :

أهل الخورنق والسدير وبارق

والبيت ذي الكعبات من سنداد

قالوا كانت فيه بيوت مربعة وفي كتاب سير ابن إسحاق أنه كان في خثعم بيت يسمونه كعبة اليمانية ، وقال قوم : سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض ، ومنه كعب ثدي الجارية ، ومنه كعب القدم ومنه كعوب القناة ، و (قِياماً) معناه أمر يقوم للناس بالأمنة والمنافع كما الملك قوام الرعية وقيامهم ، يقال ذلك بالياء كالصيام ونحوه وذلك لخفة الياء فتستعمل أشياء من ذوات الواو بها ، وقد يستعمل القوام على الأصل ، قال الراجز :

قوام دنيا وقوام دين

وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى (قِياماً لِلنَّاسِ) أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام ، ومع الهدي والقلائد ، وقرأ ابن عامر وحده «قيما» دون ألف ، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه ، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله ، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد ، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها ، ويحتمل «قيما» أن تحذف الألف وهي مرادة ، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير سعة ، وقرأ الجحدري «قيّما» بفتح القاف وشد الياء المكسورة (وَالشَّهْرَ) هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب ، وشهر مضر وهو رجب الأصم ، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد ، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح ، وهو شهر قريش ، وله يقول عوف بن الأحوص :


وشهر بني أمية والهدايا

إذا سيقت مدرجها الدماء

وسماه النبي عليه‌السلام شهر الله ، أي شهر آل الله ، وكان يقال لأهل الحرم آل الله ، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه ، وأما (الْهَدْيَ) فكان أمانا لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما (الْقَلائِدَ) فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئا فكان ذلك أمانا له ، وكان الأمر في نفوسهم عظيما مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئا خوفا من الله ، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم ، وقوله تعالى : (لِلنَّاسِ) لفظ عام ، وقال بعض المفسرين أراد العرب.

قال القاضي أبو محمد : ولا وجه لهذا التخصيص ، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون نارا ، ثم شدد ذلك بالإسلام ، وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياما ، والمعنى فعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ، وقوله تعالى : (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق الموجودات ، كما قال عزوجل (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩] ، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر ، ثم خوف تعالى عباده ورجاهم بقوله (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) الآية ، وهكذا هو الأمر في نفسه حري أن يكون العبد خائفا عاملا بحسب الخوف متقيا متأنسا بحسب الرجاء.

قوله عزوجل :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (١٠٢)

قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) إخبار للمؤمنين فلا يتصور أن يقال هي آية موادعة منسوخة بآيات القتال ، بل هذه حال من آمن وشهد شهادة الحق. فإنه إذ قد عصم من الرسول ماله ودمه ، فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ والله تعالى بعد ذلك يعلم ما ينطوي عليه صدره ، وهو المجازي بحسب ذلك ثوابا أو عقابا ، و (الْبَلاغُ) مصدر من بلغ يبلغ ، والآية معناها الوعيد للمؤمنين إن انحرفوا ولم يمتثلوا ما بلغ إليهم وقوله (قُلْ لا يَسْتَوِي) الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها ، ف (الْخَبِيثُ) من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة ، (وَالطَّيِّبُ) ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) [الأعراف : ٥٨] والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك ، وهكذا هو الخبث في الإنسان ، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان


فساد نسبه ، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد ، وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل ، وخص (أُولِي الْأَلْبابِ) بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذي لا ينبغي لهم إهمالها مع البهائم وإدراكهم وكأن الإشارة بهذه (الْأَلْبابِ) إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) الآية ، اختلف الرواة في سببها فقالت فرقة منهم أنس بن مالك وغيره : نزلت بسبب سؤال عبد الله بن حذافة السهمي ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد المنبر مغضبا ، فقال : لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به ، فقام رجل فقال أين أنا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في النار فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه ، فقال من أبي؟ فقال : أبوك حذافة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وفي الحديث مما لم يذكر الطبري فقام آخر فقال من أبي؟

فقال أبوك سالم مولى أبي شيبة ، فقام عمر بن الخطاب فجثا على ركبتيه وقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد نبيا نعوذ بالله من الفتن ، وبكى الناس من غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت هذه الآية بسبب هذه الأسئلة.

قال القاضي أبو محمد : وصعود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر مغضبا إنما كان بسبب سؤالات الاعراب والجهال والمنافقين ، فكان منهم من يقول أين ناقتي؟ وآخر يقول ما الذي ألقى في سفري هذا؟ ونحو هذا مما هو جهالة أو استخفاف وتعنيت ، وقال علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وابن عباس ، في لفظهم اختلاف ، والمعنى واحد. خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس فقال : أيها الناس كتب عليكم الحج وقرأ عليهم (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] قال علي : فقالوا يا رسول الله : أفي كل عام؟ فسكت ، فأعادوا ، قال : لا ولو قلت نعم ، لوجبت ، وقال أبو هريرة : فقال عكاشة بن محصن وقال مرة فقال محصن الأسدي ، وقال غيره فقام رجل من بني أسد ، وقال بعضهم فقام أعرابي فقال يا رسول الله ، أفي كل عام؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : من السائل؟ فقيل فلان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تطيقوه ، ولو تركتموه ، لهلكتم» فنزلت هذه الآية بسبب ذلك ، ويقوي هذا حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه‌السلام قال : «إن أعظم المسلمين على المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» وروي عن ابن عباس أنه قال : نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ونحو هذا من أحكام الجاهلية ، وقاله سعيد بن جبير.

قال القاضي أبو محمد : وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد ، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه‌السلام ، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا ، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام


كعمرو بن لحي وغيره ، وفي عمرو بن لحي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأيته يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه ، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية و (أَشْياءَ) اسم جمع لشيء أصله عند الخليل وسيبويه شيئا مثل فعال قلبت إلى لفعاء لثقل اجتماع الهمزتين ، وقال أبو حاتم (أَشْياءَ) وزنها أفعال وهو جمع شيء وترك الصرف فيه سماع ، وقال الكسائي : لم ينصرف (أَشْياءَ) لشبه آخرها بآخر حمراء ، ولكثرة استعمالها ، والعرب تقول أشياوات كما تقول حمراوات ، ويلزم على هذا أن لا ينصرف أسماء لأنهم يقولون أسماوات ، وقال الأخفش : (أَشْياءَ) أصلها أشياء على وزن أفعلاء ، استثقلت اجتماع الهمزتين فأبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء استخفافا ، ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء شيئا مثل هين وأهوناء ، وقرأ جمهور الناس «إن تبد» بضم التاء وفتح الدال وبناء الفعل للمفعول ، وقرأ مجاهد «إن تبد» بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم» بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم» بالياء من أسفل ، أي يبده الله لكم. وقوله تعالى (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) قال ابن عباس : معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء. كما قيل للذي قال أين أنا؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وأبدى؟.

قال القاضي أبو محمد : فالضمير في قوله (عَنْها) عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها ، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها ، وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها ، فذلك عفو من الله عفاه ، ثم يتلو هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار ، وقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْها) تركها ولم يعرف بها ، وهذه اللفظة التي هي (عَفَا) ، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع ، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه‌السلام إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل ، و (غَفُورٌ حَلِيمٌ) صفتان تناسب العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور.

وقرأ عامة الناس «قد سألها» بفتح السين. وقرأ إبراهيم النخعي «قد سألها» بكسر السين ، والمراد بهذه القراءة الإمالة ، وذلك على لغة من قال سلت تسأل ، وحكي عن العرب هما يتساولان ، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت ، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات


وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم ثم كفروا بها قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة. قال السدي : كسؤال قريش أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا.

قال القاضي أبو محمد : وإنما يتجه في قريش مثالا سؤالهم آية ، فلما شق لهم القمر كفروا ، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه‌السلام أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديما طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف بما كلفت.

قوله تعالى :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم. أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها ولا سنه لعباده. المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه ، (وَأَكْثَرُهُمْ) يعني الأتباع (لا يَعْقِلُونَ) بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وضلالا بغير حجة و (جَعَلَ) في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله. لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سنّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة» فعيلة بمعنى مفعولة. وبحر شق ، كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولا فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال ، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون ، وقال مسروق إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق ، فلكل سنة ، وهي كلها ضلال ، قال ابن سيده ويقال «البحيرة» هي التي خليت بلا راع ، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة.

قال القاضي أبو محمد : أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر ، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل :

فيه من الأخرج المرتاع قرقرة

هدر الزيامي وسط الهجمة البحر


فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان. وروى الشعبي عن أبي الأحوص عن أبيه قال دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها ، فتأخذ الموسى فتقطع آذانها ، فتقول هذه بحر ، وتقطع جلودها فتقول هذه صرم فتحرمها عليك وعلى أهلك؟ قال نعم قال : فإن ما آتاك الله لك حل. وساعد الله أشد ، وموسى الله أحد ، والسائبة هي الناقة التي تسيب للآلهة ، والناقة أيضا إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا ليس فيهن ذكر سيبت ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت أشبه به منك ، قال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال : لا إنك مؤمن وإنه كافر ، هو أول من غير دين إسماعيل عليه‌السلام ونصب الأوثان وسيب السوائب ، وكانت السوائب أيضا في العرب كالقربة عند المريض يبرأ منه ، والقدوم من السفر ، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره ، يرون ذلك كعتق بني آدم ، ذكره السدي وغيره ، وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها أو انتفع منها بشيء فإنه تلحقه عقوبة من الله ، و «الوصيلة» قال أكثر الناس :

إن «الوصيلة» في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جذيا ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقا استحيوها وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح ، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس ، وروي عن سعيد بن المسيب أن الوصيلة من الإبل كانت الناقة إذا ابتكرت بأنثى ثم ثنت بأخرى قالوا وصلت أنثيين ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو يذبحونها. شك الطبري في إحدى اللفظتين. وأما «الحامي» فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشرين وقيل إذا ولد من صلبه عشر ، وقيل إذا ولد ولده قالوا حمي ظهره فسيبوه لم يركب ولا سخر في شيء ، وقال علقمة لمن سأله في هذه الأشياء ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب؟ وقال نحوه ابن زيد.

قال القاضي أبو محمد : وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقا لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة ، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع ويذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل ، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف ، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر ، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف ، وقاسوا على البحيرة والسائبة ، والفرق بين ، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبسا لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي عليه‌السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له : اجعله حبسا لا يباع أصله ، وحبس أصحاب النبي عليه‌السلام وقوله تعالى (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، وقد تقدم أن المفترين هم المبتدعون ، وأن الذين (لا يَعْقِلُونَ) هم الأتباع ، وكذلك نص الشعبي وغيره وهو الذي تعطيه الآية ، وقال محمد بن أبي موسى : الذين كفروا وافتروا هم أهل الكتاب ، والذين (لا يَعْقِلُونَ) هم أهل الأوثان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى


وعما تأخر أيضا من قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) والأول من التأويلين أرجح.

والضمير في قوله (قِيلَ لَهُمْ) عائد على الكفار المستنين بهذه الأشياء و (تَعالَوْا) نداء بين ، هذا أصله ، ثم استعمل حيث البر وحيث ضده ، و (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) يعني القرآن الذي فيه التحريم الصحيح ، و (حَسْبُنا) معناه كفانا وقوله (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا بهذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإنما التوقيف توبيخ لهم ، كأنهم يقولون بعده نعم ولو كانوا كذلك.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) اختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فقال أبو أمية الشعباني سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية ، فقال لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ، ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ، وذر عوامهم فإن وراءكم أياما أجر العامل فيها كأجر خمسين منك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل الذي لا نظر لأحد معه لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه‌السلام ، ويظهر من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية أنها لا يلزم معها أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ، فصعد المنبر فقال أيها الناس لا تغتروا بقول الله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فيقول أحدكم عليّ نفسي ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : ليس هذا بزمان هذه الآية ، قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه؟ فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنا : ليبلغ الشاهد الغائب ، ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل.

قال القاضي أبو محمد : وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى رجي القبول أو رجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المرء ضررا يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده ، وقال سعيد بن جبير معنى هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فالتزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف وغيره ، ولا يضركم ضلال أهل الكتاب إذا اهتديتم ، وقال ابن زيد : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم ، قال : وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك.

قال القاضي أبو محمد : ولم يقل أحد فيما علمت أنها آية موادعة للكفار وكذلك ينبغي أن لا يعارض لها شيء مما أمر الله به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، قال المهدوي : وقد قيل هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ولا يعلم قائله ، وقال بعض الناس نزلت بسبب ارتداد بعض


المؤمنين وافتتانهم كابن أبي سرح وغيره ، فقيل للمؤمنين لا يضركم ضلالهم ، وقرأ جمهور الناس «لا يضرّكم» بضم الضاد وشد الراء المضمومة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «لا يضركم» بضم الضاد وسكون الراء ، وقرأ إبراهيم «لا يضرك» بكسر الضاد وهي كلها لغات بمعنى ضر يضر وضار يضور ويضير ، وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الآية ، تذكير بالحشر وما بعده ، وذلك مسل عن أمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها ، وروي عن بعض الصالحين أنه قال : ما من يوم إلا يجيء الشيطان فيقول : ما تأكل وما تلبس وأين تسكن؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر.

قال القاضي أبو محمد : فمن فكر في مرجعه إلى الله تعالى فهذه حاله.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٧)

قال مكي بن أبي طالب رضي الله عنه : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه‌الله وبه نستعين ، لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري وعدي بن بداء ، كانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما ، قال الواقدي : وهما أخوان وقدم المدينة أيضا ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص يريد الشام تاجرا فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق ، قال الواقدي فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله ، فأتيا بعد مدة المدينة برحله فدفعاه ، ووجد أولياؤه من بني سهم وصيته مكتوبة ، ففقدوا أشياء قد كتبها فسألوهما عنها فقالا ما ندري ، هذا الذي قبضناه له ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الآية الأولى فاستحلفهما رسول الله بعد العصر ، فبقي الأمر مدة ثم عثر بمكة من متاعه على إناء عظيم من فضة مخوص بالذهب ، فقيل لمن وجد عنده من أين صار لكم هذا الإناء؟ فقالوا : ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء ، فارتفع في الأمر إلى النبي عليه‌السلام فنزلت الآية الأخرى ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا ، قال الواقدي : فحلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ، واستحقا ، وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال : برىء الناس من هذه الآيات غيري وغير عدي بن بداء ، وذكر القصة ، إلا أنه قال وكان معه جام فضة يريد به الملك ، فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه ، فلما أسلمت بعد قدوم


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة ، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحلف عمرو بن العاص ورجل آخر معه ، ونزعت من عدي خمسمائة.

قال القاضي أبو محمد : تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر ، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه ، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين ، وضعف أمره ، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة.

وأما معنى الآية من أولها الى آخرها ، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر ، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله ، وحكم بشهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم ، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما ، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم ، يقولون معنى قوله ، (مِنْكُمْ) من المؤمنين ، ومعنى ، (مِنْ غَيْرِكُمْ) من الكفار ، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة ، واختلفت هذه الجماعة المذكورة ، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة ، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلا حضرته المنية بدقوقا ولم يجد أحدا من المؤمنين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه‌السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما ، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية ، ولا تجوز أيضا في الوصية إلا إذا كانوا في سفر ، ومذهب جماعة ممن ذكر ، أنها منسوخة بقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز.

وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله ، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى : (مِنْكُمْ) يريد من عشيرتكم وقرابتكم ، وقوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) يريد من غير القرابة والعشيرة ، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب ، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها ، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان ، فإذا شهدا فإن لم يقر ارتياب مضت الشهادة ، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين.

وقال بعض الناس الآية منسوخة ، ولا يحلف شاهد ، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة


الفقهاء ، وذكر الطبري رحمه‌الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب التداعي ، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب وإذا ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى فلتزمهما اليمين ، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما استحقا إثما نظر ، فإن كان الأمر بينا غرما دون يمين وليين ، وإن كان بشاهد واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم وحلف المدعيان مع ما قام لهما من شاهد أو دليل.

قال القاضي أبو محمد : فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما ، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية ، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطا شديدا ، وذكر ذلك والرد عليه يطول ، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع ، والله المستعان ، قوله (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور ، وقال الطبري : الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي تؤدى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى ، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله (اثْنانِ) قال أبو علي : التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقدره غيره أولا كأنه قال مقيم شهادة بينكم اثنان ، وأضيفت الشهادة إلى «بين» اتساعا في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء ، كما قال تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] وقرأ الأعرج والشعبي والحسن «شهادة» بالتنوين «بينكم» بالنصب ، وإعراب هذه القراءة على نحو إعراب قراة السبعة وروي عن الأعرج وأبي حيوة «شهادة» بالنصب والتنوين «بينكم» نصب ، قال أبو الفتح : التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان ، وقوله تعالى : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) معناه إذا قرب الحضور ، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت ، وهذا كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] وكقوله (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) [الطلاق : ١] وهذا كثير ، والعامل في (إِذا) المصدر الذي هو (شَهادَةُ) ، وهذا على أن تجعل (إِذا) بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب ، ولك أن تجعل (إِذا) في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب ، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد ، وقوله (حِينَ الْوَصِيَّةِ) ظرف زمان ، والعامل فيه (حَضَرَ) ، وإن شئت جعلته بدلا من (إِذا) ، قال أبو علي :

ولك أن تعلقه ب (الْمَوْتُ) لا يجوز أن تعمل فيه (شَهادَةُ) لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه ، وقوله (ذَوا عَدْلٍ) صفة لقوله اثنان ، و (مِنْكُمْ) صفة أيضا بعد صفة ، وقوله تعالى : (مِنْ غَيْرِكُمْ) صفة لآخران ، و (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) معناه سافرتم للتجارة ، تقول ضربت في الأرض أي سافرت للتجارة ، وضربت الأرض ذهبت فيها لقضاء حاجة الإنسان ، وهذا السفر كان الذي يمكن أن يعدم المؤمن مؤمنين ، فلذلك خص بالذكر لأن سفر الجهاد لا يكاد يعدم فيه مؤمنين ، قال أبو علي : قوله (تَحْبِسُونَهُما) صفة ل (آخَرانِ) واعترض بين الموصوف والصفة بقوله : إن أنتم إلى الموت ، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى (آخَرانِ) من غير الملة والقرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه ، واستغني عن جواب (إِنْ) لما تقدم من قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) وقال


جمهور العلماء (الصَّلاةِ) هنا صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس ، وقد ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن حلف على سلعته وأمر باللعان فيه ، وقال ابن عباس : إنما هي بعد صلاة الذميين ، وأما العصر فلا حرمة لها عندهما ، والفاء في قوله (فَيُقْسِمانِ) عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) قال أبو علي : وإن شئت لم تقدر الفاء عاطفة جملة على جملة ، ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة :

وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم إذا حسر بدا ، فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ارتياب ولا اختلاف فلا يمين ، أما أنه يظهر من حكم أبي موسى تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها وإن لم يرتب ، وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة ترتب في الخيانة وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهما دون بعض وتقع مع ذلك اليمين عنده ، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا بأن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة ، والضمير في قول الحالفين (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) عائد على القسم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى ، قال أبو علي : يعود على تحريف الشهادة ، وقوله (لا نَشْتَرِي) جواب ما يقتضيه قوله : فيقسمان بالله ، لأن القسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان ، وتقديره به ثمنا ، أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى.

وكذلك قوله تعالى : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [التوبة : ٩] معناه ذا ثمن ، ولا يجوز أن يكون (نَشْتَرِي) في هذه الآية بمعنى نبيع لأن المعنى يبطله وإن كان ذلك موجودا في اللغة في غير هذا الموضع ، وخص «ذو القربى» بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى قرابتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل ، وقوله تعالى : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أضاف (شَهادَةُ) إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ، وقرأ الحسن والشعبي «ولا نكتم» بجزم الميم ، وقرأ علي بن أبي طالب ونعيم بن مسيسرة والشعبي بخلاف عنه «شهادة» بالتنوين «الله» نصب ب (نَكْتُمُ) ، كأن الكلام ولا نكتم الله شهادة قال الزهري ويحتمل أن يكون المعنى «ولا نكتم شهادة والله» ثم حذفت الواو ونصب الفعل إيجازا ، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش «شهادة» بالتنوين الله بقطع الألف دون مد وخفض الهاء ، ورويت أيضا عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على الهاء من الشهادة بالسكون ، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم ، وروي عنه أنه كان يقرأ «الله» بمد ألف الاستفهام في الوجهين أعني بسكون الهاء من الشهادة وتحريكها منّوتنة منصوبة ، ورويت هذه التي هي تنوين الشهادة ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب ، قال أبو الفتح : أما تسكين هاء شهادة والوقف عليها واستئناف القسم فوجه حسن لأن استئناف القسم في أول الكلام أوقر له وأشد هيبة أن يدرج في عرض القول ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حبيب والحسن البصري فيما ذكر أبو عمرو الداني «شهادة» بالنصب والتنوين «آلله» بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم «آنا» بمد ألف الاستفهام أيضا دخلت لتوقيف وتقرير لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه وقرأ ابن محيصن «لملآثمين» بالإدغام.


وقوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ) استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه اتفاقا وبعد «إن» لم يرج ولم يقصد ، وهذا كما يقال على الخبير سقطت ، ووقعت على كذا ، قال أبو علي : والإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأخذه إثم ، فسمي آثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة ، قال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك ، وكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.

قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر هنا أن الإثم على بابه وهو الحكم اللاحق لهما والنسبة التي يتحصلان فيها بعد مواقعتهما لتحريف الشهادة أو لأخذ ما ليس لهما أو نحو ذلك ، و (اسْتَحَقَّا) معناه استوجباه من الله وكانا أهلا له فهذا استحقاق على بابه ، إنه استيجاب حقيقة ، ولو كان الإثم الشيء المأخوذ لم يقل فيه «استحقا» لأنهما ظلما وخانا فيه ، فإنما استحقا منزلة السوء وحكم العصيان ، وذلك هو الإثم ، وقوله تعالى : (فَآخَرانِ) أي فإذا عثر على فسادهما فالأوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم أو ظهورهم أو مالهم أو ما شئت من هذه التقديرات ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «استحق» مضمومة التاء. و (الْأَوْلَيانِ) على التثنية لأولى وروى قرة عن ابن كثير «استحق» بفتح التاء «الأوليان» على التثنية وكذلك روى حفص عن عاصم ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر «استحق» بضم التاء «الأولين» على جمع أول ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «استحق» بفتح التاء «الأولان» على تثنية أول ، وقرأ ابن سيرين «الأولين» على تثنية أول ، ونصبهما على تقدير الأولين ، فالأولين في الرتبة والقربى ، قال أبو علي في قراءة ابن كثير ومن معه لا يخلو ارتفاع الأوليان من أن يكون على الابتداء وقد أخر فكأنه في التقدير و «الأوليان» بأمر الميت آخران يقومان ، فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا ، أو يكون خبر ابتداء محذوف كأنه فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان ، أو يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان ، أو يكون مسندا إليه استحق ، وأجاز أبو الحسن فيه شيئا آخر ، وهو أن يكون «الأوليان» صفة ل «آخران» ، لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له.

قال القاضي أبو محمد : ثم قال أبو علي بعد كلامه هذا : فأما ما يسند إليه «استحق» فلا يخلو من أن يكون الأنصباء أو الوصية ، أو الإثم. وسمي المأخوذ إثما كما يقال لما يؤخذ من المظلوم مظلمة. ولذلك جاز أن يستند إليه (اسْتَحَقَ). ثم قال بعد كلام : فإن قلت هل يجوز أن يسند (اسْتَحَقَ) إلى (الْأَوْلَيانِ). فالقول إن ذلك لا يجوز لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها. وأما الأوليان بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند استحق إليهما.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام نظر. ويجوز عندي أن يسند (اسْتَحَقَ) إلى (الْأَوْلَيانِ). وذلك أن أبا علي حمل لفظة الاستحقاق على أنه حقيقي فلم يجوزه إلا حيث يصح الاستحقاق الحقيقي في النازلة ، وإنما يستحق حقيقة النصيب ونحوه. ولفظة الاستحقاق في الآية إنما هي استعارة وليست بمعنى استحقا إثما فإن الاستحقاق هنا حقيقة وفي قوله استحق مستعار ، لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه. فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك هذا قد استحق علي مالي أو منزلي بظلمه فتشبهه بالمستحق حقيقة. إذ قد تسور تسوره وتملك تملكه. وكذلك يقال فلان قد استحق ومنه شغل كذا إذا كان ذلك الأمر قد غلبه على أوقاته ، وهكذا هي استحق في


الآية على كل حال وإن أسندت إلى الأنصباء ونحوه لأن قوله (اسْتَحَقَ) صلة ل (الَّذِينَ) و (الَّذِينَ) واقع على الصنف المناقض للشاهدين الجائرين فالشاهدان ما استحقا قط في هذه النازلة شيئا حقيقة استحقاق ، وإنما تسورا تسور المستحق فلنا أن نقدر الأوليان ابتداء وقد أخر. فيسند (اسْتَحَقَ) على هذا إلى المال أو النصيب ونحوه على جهة الاستعارة. وكذلك إذا كان (الْأَوْلَيانِ) خبر ابتداء وكذلك على البدل من الضمير في (يَقُومانِ) وعلى الصفة على مذهب أبي الحسن. ولنا أن نقدر الكلام بمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقهما والمبتغى أن يحضر وليها ، فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة ، ثم بني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا ويقوي هذا الغرض أن تعدي الفعل ب «على» لما كان باقتدار وحمل هيئته على الحال. ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار والضمير في (عَلَيْهِمُ) عائد على كل حال في هذه القراءة على الجماعة التي تناقض شاهدي الزور الآثمين ، ويحتمل أن يعود على الصنف الذين منهم شاهد الزور على ما نبينه الآن إن شاء الله في غير هذه القراءة. وأما رواية قرة عن ابن كثير «استحق» بفتح التاء فيحتمل أن يكون الأوليان ابتداء أو خبر ابتداء ، ويكون المعنى في الجمع أو القبيل الذي استحق القضية على هذا الصنف الشاهد بالزور ، الضمير في عليهم عائد على صنف شاهدي الزور.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وفي هذا التأويل تحويل وتحليق وصنعة في (الَّذِينَ) ، وعليه ينبني كلام أبي علي في كتاب الحجة ، ويحتمل أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم القيام ، والصواب من التأويلين أن الضمير في (عَلَيْهِمُ) عائد على (الَّذِينَ) ، و (الْأَوْلَيانِ) رفع ب (اسْتَحَقَ) وذلك متخرج على ثلاثة معان. أحدها أن يكون المراد من الذين استحق عليهم ما لهم وتركتهم شاهدا الزور. فسمى شاهدي الزور أوليين من حيث جعلتهما الحال الأولى كذلك ، أي صيرهم عدم الناس أولى بهذا الميت وتركته فجارا فيها ، والمعنى الثاني أن يكون المراد من الجماعة الذين حق عليهم أن يكون منهم الأوليان ، فاستحق بمعنى حق ووجب ، كما تقول هذا بناء قد استحق بمعنى حق كعجب واستعجب ونحوه ، والمعنى الثالث أن يجعل استحق بمعنى سعى واستوجب ، فكأن الكلام فآخران من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم حقهم ، أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقرباهما ، ونحو هذا المعنى الذي يعطيه التعدي ب «على» قول الشاعر :

اسعى على حيّ بني ملك

كل امرئ في شأنه ساع

وكذلك في الحديث : «كنت أرعى عليهم الغنم» في بعض طرق حديث الثلاثة الذين ذكر أحدهم بره بأبويه حين انحطت عليهم الصخرة ، وأما قراءة حمزة فمعناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ، ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية ، وذلك في قوله (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ثم بعد ذلك قال (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) وقوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) يعني الآخرين اللذين يقومان مقام شاهدي التحريف ، وقولهما (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي لما أخبرنا نحن به وذكرناه من نص القضية أحق مما ذكراه أولا ، وحرفا فيه ، وما اعتدينا نحن في قولنا هذا ولا زدنا على الحد ، وقولهما (إِنَّا إِذاً لَمِنَ


الظَّالِمِينَ) في صيغة الاستعظام والاستقباح للظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.

قوله عزوجل :

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (١٠٩)

الإشارة ب (ذلِكَ) هي إلى جميع ما حد الله قبل من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين ، ثم إن عثر على جورهما ردت اليمين وغرما. فذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل ، لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين ، هذا قول ابن عباس رحمه‌الله ، ويظهر من كلام السدي أن الإشارة ب (ذلِكَ) إنما هي إلى الحبس من بعد الصلاة فقط ، ثم يجيء قوله تعالى : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) بإزاء (فَإِنْ عُثِرَ) [المائدة : ١٠٧] الآية ، وجمع الضمير في (يَأْتُوا) و (يَخافُوا) إذ المراد صنف ونوع من الناس ، و (أَوْ) في هذه الآية على تأويل السدي بمنزلة قولك تجيئني يا زيد أو تسخطني كأنك تريد وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان. وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا وأقرب إلى أن يخافوا ، وقوله تعالى : (عَلى وَجْهِها) معناه على جهتها القويمة التي لم تبدل ولا حرفت ، ثم أمر تعالى بالتقوى التي هي الاعتصام بالله وبالسمع لهذه الأمور المنجية ، وأخبر أنه لا يهدي القوم الفاسقين ، من حيث هم فاسقون ، وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا ، ويحتمل أن يكون لفظ (الْفاسِقِينَ) عاما والمراد الخصوص فيمن لا يتوب.

وقوله تعالى : و (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ذهب قوم من المفسرين إلى أن العامل في (يَوْمَ) ما تقدم من قوله (لا يَهْدِي) ، وذلك ضعيف ، ورصف الآية وبراعتها ، إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا ، والعامل مقدر إما اذكروا وإما تذكروا وإما احذروا ونحو هذا مما حسن اختصاره لعلم السامع ، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة ، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق ، وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولا و (ما ذا أُجِبْتُمْ) معناه ماذا أجابت به الأمم من إيمان أو كفر وطاعة أو عصيان ، وهذا السؤال للأنبياء الرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم ويبتدأ حسابهم على الواضح المستبين لكل مفطور ، واختلف الناس في معنى قولهم عليهم‌السلام (لا عِلْمَ لَنا) فقال الطبري ذهلوا عن الجواب لهول المطلع ، وذكر عن الحسن أنه قال : لا علم لنا من هول ذلك اليوم. وعن السدي أنه قال : نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول فقالوا لا علم لنا. ثم نزلوا منزلا آخر شهدوا على قومهم ، وعن مجاهد أنه قال : يفزعون فيقولون لا علم لنا.

قال القاضي أبو محمد : وضعّف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] والأنبياء في أشد أهوال يوم القيامة وحالة جواز الصراط يقولون سلم سلم وحالهم أعظم وفضل الله عليهم أكثر من أن تذهل عقولهم حتى يقولوا ما ليس بحق في نفسه ، وقال ابن عباس رضي الله


عنه : معنى الآية لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية ، وقال ابن جريج : معنى ماذا أجبتم؟ ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا؟ فلذلك قالوا لا علم لنا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى حسن في نفسه ، ويؤيده قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) لكن لفظة (أُجِبْتُمْ) لا تساعد قول ابن جريج إلا على كره ، وقول ابن عباس أصوب هذه المناحي لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى ورد الأمر إليه ، إذ قوله (ما ذا أُجِبْتُمْ) لا علم عندهم في جوابه إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم ، وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه ، وما ينقصهم ما كان بعدهم من أمتهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال. فرأوا التسليم له والخضوع لعلمه المحيط وقرأ أبو حيوة «ماذا أجبتم» بفتح الهمزة.

قوله عزوجل :

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (١١٠)

يحتمل أن يكون العامل في (إِذْ) فعلا مضمرا تقديره اذكر يا محمد إذ جئتهم بالبينات و (قالَ) هنا بمعنى يقول ، لأن ظاهر هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله أنت قلت للناس ، وذلك كله أحكام لتوبيخ الذين يتحصلون كافرين بالله في ادعائهم ألوهية عيسى ، ويحتمل أن تكون (إِذْ) بدلا من قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ) [المائدة : ١٠٩] ونعمة الله على عيسى هي بالنبوءة وسائر ما ذكر وما علم مما لا يحصى ، وعددت عليه النعمة على أن أمه إذ هي نعمة صائرة إليه وبسببه كانت ، وقرأ جمهور الناس «أيّدتك» بتشديد الياء ، وقرأ مجاهد وابن محيصن «آيدتك» على وزن فاعلتك ويظهر أن الأصل في القراءتين «أيدتك» على وزن أفعلتك ، ثم اختلف الإعلال ، والمعنى فيهما قويتك من الأيد ، وقال عبد المطلب :

الحمد لله الأعز الأكرم

أيدنا يوم زحوف الأشرم

و «روح القدس» هو جبريل عليه‌السلام ، وقوله (فِي الْمَهْدِ) حال كأنه قال صغيرا (وَكَهْلاً) حال أيضا معطوفة على الأول. ومثله قوله تعالى : (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) [يونس : ١٢] والكهولة من الأربعين إلى الخمسين. وقيل هي من ثلاثة وثلاثين ، و (الْكِتابَ) في هذه الآية : مصدر كتب يكتب أي علمتك الخط. ويحتمل أن يريد اسم جنس في صحف إبراهيم وغير ذلك. ثم خص بعد ذلك التوراة (وَالْإِنْجِيلَ) بالذكر تشريفا ، و (الْحِكْمَةَ) : هي الفهم والإدراك في أمور الشرع. وقد وهب الله الأنبياء منها ما


هم به مختصون معصومون لا ينطقون عن هوى. قوله تعالى : (وَإِذْ) في هذه الآية حيث ما تكررت فهي عطف على الأولى التي عملت فيها نعمتي ، و (تَخْلُقُ) معناه : تقدر وتهيىء تقديره مستويا ، ومنه قول الشاعر :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري

أي يهيىء ويقدر ليعمل ويكمل ثم لا يفعل. ومنه قول الآخر :

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليله

وكان عيسى عليه‌السلام يصور من الطين أمثال الخفافيش ثم ينفخ فيها أمام الناس فتحيا وتطير بإذن الله. وقد تقدم هذا القصص في آل عمران. وقرأ جمهور الناس «كهيئة» بالهمز ، وهو مصدر من قولهم هاء الشيء يهاء إذا ثبت واستقر على أمر حسن ، قال اللحياني : ويقال «يهيء» وقرأ الزهري «كهيّة» بتشديد الياء من غير همز وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «كهيئة الطائر». والإذن في هذه الآية كيف تكرر معناه التمكين مع العلم بما يصنع وما يقصد من دعاء الناس إلى الإيمان. وقوله تعالى : (فَتَنْفُخُ فِيها) هو النفخ المعروف من البشر وإن جعل الله الأمر هكذا ليظهر تلبس عيسى بالمعجزة وصدورها عنه. وهذا كطرح موسى العصا. وكإيراد محمد عليه‌السلام القرآن. وهذا أحد شروط المعجزات. وقوله (فِيها) بضمير مؤنث مع مجيء ذلك في آل عمران (فَأَنْفُخُ فِيهِ) [آل عمران : ٤٩] بضمير مذكر موضع قد اضطرب المفسرون فيه. قال مكي : هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة ، قال ويصح عكس هذا ، قال غيره الضمير المذكر عائد على الطين.

قال القاضي أبو محمد : ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة لأن الطين والطائر الذي يجيء على الطين على هيئة لا نفخ فيه البتة ، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة بجسده وهي المذكورة في الآية ، وكذلك (الطِّينِ) المذكور في الآية إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك. وإنما النفخ في الصور المخصوصة منه التي رتبتها يد عيسى عليه‌السلام ، فالوجه أن يقال في عود الضمير المؤنث إنه عائد على ما تقتضيه الآية ضرورة ، وذلك أن قوله (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) يقتضي صورا أو أجساما أو أشكالا ، وكذلك الضمير المذكر يعود على المخلوق الذي يقتضيه (تَخْلُقُ) ، ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ، ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيمن يجوّز أن يكون اسما في غير الشعر ، وتكون الكاف في موضع نصب صفة للمصدر المراد تقديره وإذ تخلق خلقا من الطين كهيئة الطير وقرأ عبد الله بن عباس كهيئة الطير فتنفخها فيكون وقرأ الجمهور «فتكون» بالتاء من فوق وقرأ عيسى بن عمر فيها «فيكون» بالياء من تحت ، وقرأ نافع وحده «فتكون طائرا» ، وقرأ الباقون «طيرا» بغير ألف والقراءتان مستفيضتان في الناس.

فالطير جمع طائر كتاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب. والطائر اسم مفرد والمعنى على قراءة نافع فتكون كل قطعة من تلك المخلوقات طائرا قال أبو علي : ولو قال قائل إن الطائر قد يكون جمعا كالجامل والباقر فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا لكان قياسا ، ويقوي ذلك ما حكاه أبو الحسن


من قولهم طائرة فيكون من باب شعيرة وشعير ، وتمرة وتمر وقد تقدم القول في الأكمه والأبرص وفي قصص إحيائه الموتى في آل عمران ، و (تُخْرِجُ الْمَوْتى) معناه من قبورهم ، وكف بني إسرائيل عنه عليه‌السلام هو رفعه حين أحاطوا به في البيت مع الحواريين ومن أول ما منعه الله منهم هو الكف إلى تلك النازلة الآخرة فهنالك ظهر عظم الكف و «البينات» هي معجزاته وإنجيله وجميع ما جاء به ، وقرأ ابن كثير وعاصم هنا وفي هود والصف «إلا سحر» بغير ألف ، وقرأ حمزة والكسائي في المواضع الأربعة «ساحر» بألف فمن قرأ سحرا جعل الإشارة إلى البينات والحديث وما جاء به ، ومن قرأ ساحرا جعل الإشارة إلى الشخص إذ هو ذو سحر عندهم وهذا مطرد في القرآن كله حيثما ورد هذا الخلاف.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١١٣)

قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) هو من جملة تعديد النعمة على عيسى و (أَوْحَيْتُ) في هذا الموضع إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر كما قال الشاعر :

أوحى لها القرار فاستقرت

وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء أوصله تعالى إلى نفوسهم كيف شاء والرسول في هذه الآية عيسى عليه‌السلام وقول الحواريين (وَاشْهَدْ) يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله تعالى ويحتمل أن يكون لعيسى عليه‌السلام ، وقد تقدم تفسير لفظة الحواريين في آل عمران.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) .. الآية اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة ، مضمن الاعتراض إخبار محمد عليه‌السلام وأمته بنازلة الحواريين في المائدة. إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها يقتدى بمحاسنه ويزدجر عما ينقد منه من طلب الآيات ونحوه ، وقرأ جمهور الناس «هل يستطيع ربّك» بالياء ورفع الباء من ربك. وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي ، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر كامنة بمعنى هل يفعل تعالى هذا وهل تقع منه إجابة إليه؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله؟

أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير «هل تستطيع ربّك» بالتاء ونصب الباء من ربك. المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك؟ قالت عائشة رضي الله عنها : كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك.

قال القاضي أبو محمد : نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على


ما قد تبين آنفا. وبمثل هذه القراءة قرأ الكسائي وزاد أنه أدغم اللام في التاء. قال أبو علي : وذلك حسن ، و (أَنْ) في قوله (أَنْ يُنَزِّلَ) على هذه القراءة متعلقة بالمصدر المحذوف الذي هو سؤال. و (أَنْ) مفعول به إذ هو في حكم المذكور في اللفظ وإن كان محذوفا منه إذ لا يتم المعنى إلا به.

قال القاضي أبو محمد : وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده ونحوه هذا ، فيردك المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ ، و «المائدة» فاعلة من ماد إذا تحرك ، هذا قول الزجّاج أو من ماد إذا ماد وأطعم كما قال رؤبة:

تهدى رؤوس المترفين الأنداد

إلى أمير المؤمنين الممتاد

أي الذي يستطعم ويمتاد منه ، وقول عيسى عليه‌السلام (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقرير لهم كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلا ، ولا خلاف احفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وهذا هو ظاهر الآية ، وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويظهر من قوله عليه‌السلام (اتَّقُوا اللهَ) إنكار لقولهم ذلك ، وذلك على قراءة من قرأ «يستطيع» بالياء من أسفل متوجه على أمرين : أحدهما : بشاعة اللفظ ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته.

فلما خاطبهم عليه‌السلام بهذه المقالة صرحوا بالمذاهب التي حملتهم على طلب المائدة ، فقالوا : نريد أن نأكل منها فنشرف في العالم.

قال القاضي أبو محمد : لأن هذا الأكل ليس الغرض منه شبع البطن. (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) معناه يسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء بأعيننا (وَنَعْلَمَ) علم الضرورة والمشاهدة أن قد صدقتنا فلا تعترضنا الشبه التي تعرض في علم الاستدلال.

قال القاضي أبو محمد : وبهذا يترجح قول من قال كان هذا قبل علمهم بآياته. ويدل أيضا على ذلك أن وحي الله إليهم أن آمنوا إنما كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا. وهلك من كفر وقرأ سعيد بن جبير و «يعلم» بالياء مضمومة على ما لم يسم فاعله ، وقولهم (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) معناه من الشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرنا الداعين إلى هذا الشرع بسببها.

قال القاضي أبو محمد : وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى عليه‌السلام قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوما لله ، ثم إن سألتموه حاجة قضاها؟ فلما صاموها قالوا : يا معلم الخير إن حق من عمل عملا أن يطعم ، فهل يستطيع ربك؟ فأرادوا أن تكون المائدة عند ذلك الصوم.

قوله عزوجل :

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً


مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥)

ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة. فروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو. و (اللهُمَ) عند سيبويه أصلها يا الله فجعلت الميمان بدلا من ياء و (رَبَّنا) منادى آخر ، ولا يكون صفة لأن (اللهُمَ) يجري مجرى الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير ، وقرأ الجمهور «تكون لنا» على الصفة للمائدة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «تكن لنا» على جواب (أَنْزِلْ) والعيد : المجتمع واليوم المشهود ، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر والجمعة ونحوه. وهو من عاد يعود. فأصله الواو ولكن لزمته الياء من أجل كسرة العين ، وقرأ جمهور الناس «لأولنا وآخرنا» وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري : «لأولنا وأخرنا». واختلف المتأولون في معنى ذلك ، فقال السدي وقتادة وابن جريج وسفيان : لأولنا معناه لأول الأمة ثم لمن بعدهم حتى لآخرها يتخذون ذلك اليوم عيدا. وروي عن ابن عباس أن المعنى يكون مجتمعا لجميعنا أولنا وآخرنا ، قال : وأكل من المائدة حين وضعت أول الناس كما أكل آخرهم.

قال القاضي أبو محمد : فالعيد على هذا لا يراد به المستدير ، وقوله (وَآيَةً مِنْكَ) أي علامة على صدقي وتشريفي. فأجاب الله دعوة عيسى وقال (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ثم شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «إني منزّلها» بفتح النون وشد الزاي ، وقرأ الباقون «منزلها» بسكون النون ، والقراءتان متجهتان نزل وأنزل بمعنى واحد ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف ، «قال الله إني سأنزلها عليكم» ، واختلف الناس في نزول المائدة ، فقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد : إنهم لما سمعوا الشرط في تعذيب من كفر استعفوها فلم تنزل. قال مجاهد فهو مثل ضربه الله تعالى للناس لئلا يسألوا هذه الآيات ، وقال جمهور المفسرين : نزلت المائدة ، ثم اختلفت الروايات في كيفية ذلك ، فروى الشعبي عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : نزلت المائدة خبزا وسمكا ، وقال عطية : المائدة سمكة فيها طعم كل طعام ، قال ابن عباس نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أين ما نزلوا إذا شاؤوا ، وقاله وهب بن منبه ، قال إسحاق بن عبد الله : نزلت المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، قال : فسرق منها بعضهم فرفعت ، وقال عمار بن ياسر : سألوا عيسى عليه‌السلام مائدة يكون عليها طعام لا ينفد ، فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم وما لم تخبئوا أو تخونوا ، فإن فعلتم عذبتم قال فما مضى يوم حتى خبؤوا وخانوا فمسخوا قردة وخنازير ، وقال ابن عباس في المائدة أيضا ، كان طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا ، وقال عمار بن ياسر : نزلت المائدة عليها ثمار من ثمار الجنة ، وقال ميسرة : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم.

قال القاضي أبو محمد : وكثر الناس في قصص هذه المائدة بما رأيت اختصاره لعدم سنده وقال قوم : لا يصح أن لا تنزل المائدة لأن الله تعالى أخبر أنه منزلها.


قال القاضي أبو محمد : وهذ غير لازم لأن الخبر مقرون بشرط يتضمنه قوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) ، وسائغ ما قال الحسن ، أما أن الجمهور على أنها نزلت وكفرت جماعة منهم فمسخهم الله خنازير قاله قتادة وغيره. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون ، ويذكر أن شمعون رأس الحواريين قال لعيسى حين رأى طعام المائدة ، يا روح الله أمن طعام الدنيا هو أم من طعام الآخرة؟ قال عيسى عليه‌السلام : ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات ، هذا طعام ليس من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة. بل هو بالقدرة الغالبة ، قال الله له كن فكان ، وروي أنه كان على المائدة بقول سوى الثوم والكراث والبصل ، وقيل كان عليها زيتون وتمر وحب رمان.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٧)

اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول. فقال السدي وغيره : لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك ، فسأله تعالى حينئذ عن قولهم فقال (سُبْحانَكَ) الآية.

قال القاضي أبو محمد : فتجيء (قالَ) على هذا متمكنة في المضي ، ويجيء قوله آخرا (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) [المائدة : ١١٨] أي بالتوبة من الكفر ، لأن هذا ما قاله عيسى عليه‌السلام وهم أحياء في الدنيا ، وقال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس : هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة ، يقول الله له على رؤوس الخلائق ، فيرى الكفار تبريه منهم ، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل.

قال القاضي أبو محمد : وقال على هذا التأويل بمعنى يقول. ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته ، وقوله آخرا (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) [المائدة : ١١٨] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك ، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب ، وليس المعنى أنه لا بد من أن تفعل أحد هذين الأمرين. بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به. وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين. وسبحانك معناه تنزيها لك عن أن يقال هذا وينطق به ، وقوله (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ) ... الآية. بقي يعضده دليل العقل ، فهذا ممتنع عقلا أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه ، ومنه قول الصديق رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) فوفق الله عيسى عليه‌السلام لهذه الحجة


البالغة ، وقوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) بإحاطة الله به ، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات ، والمعنى : أن الله يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل هذه الآية على قول من قال : إن توقيف عيسى عليه‌السلام كان إثر رفعه مستقيمة المعنى. لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون. وهي على قول من قال إن التوقيف هو يوم القيامة بمعنى أن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا أمره مما عسى أن يكون في نفسه ، وقوله (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) معناه ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به. وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها الإيجاز ، وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤](اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] ، فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة ، ثم أقر عليه‌السلام لله تعالى بأنه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، المعنى ولا علم لي أنا بغيب فكيف تكون لي الألوهية.

ثم أخبر عما صنع في الدنيا وقال في تبليغه وهو أنه لم يتعد أمر الله في أن أمرهم بعبادته وأقر بربوبيته ، و (أَنِ) في قوله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) مفسرة لا موضع لها من الإعراب. ويصح أن تكون بدلا من (ما). ويصح أن تكون في موضع خفض على تقدير بأن اعبدوا الله ، ويصح أن تكون بدلا من الضمير في (بِهِ) ثم أخبر عليه‌السلام أنه كان شهيدا ما دام فيهم في الدنيا ، فما ظرفية. وقوله (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) قبضتني إليك بالرفع والتصيير في السماء. والرقيب : الحافظ المراعي.

قوله عزوجل :

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠)

اعتراض عليك. وإن تغفر لهم أي لو غفرت بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك ، الحكيم في أفعالك. لا تعارض على حال. فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك. وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله. وهذا هو عندي القول الأرجح. ويتقوى ما بعده.

وذلك أن عيسى عليه‌السلام لما قرر أن الله تعالى له أن يفعل في عباده ما يشاء من تعذيب ومغفرة أظهر الله لعباده ما كانت الأنبياء تخبرهم به ، كأنه يقول هذا أمر قد فرغ منه. وقد خلص للرحمة من خلص ، وللعذاب من خلص ، فقال تبارك وتعالى (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله تعالى وكل ما كان اتقى فهو أدخل في العبارة ، ثم جاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى في حاله تلك وصدقه فيما قال. فحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه ، وذكر تعالى ما أعد لهم برحمته وطوله إلى قوله (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وقرأ نافع وحده «هذا يوم» بنصب يوم ، وقرأ الباقون «يوم» بالرفع على خبر المبتدأ الذي هو (هذا) و (يَوْمُ) مضاف إلى (يَنْفَعُ) ، والمبتدأ والخبر في


موضع نصب بأنه مفعول القول. إذ القول يعمل في الجمل ، وأما قراءة نافع فتحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون «يوم» ظرفا للقول كأن التقدير قال الله هذا القصص أو الخبر يوم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي معنى يزيل رصف الآية وبهاء اللفظ ، والمعنى الثاني أن يكون ما بعد قال حكاية عما قبلها ومن قوله لعيسى إشارة إليه ، وخبر (هذا) محذوف إيجازا ، كأن التقدير قال الله : هذا المقتص يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين.

قال القاضي أبو محمد : والخطاب على هذا لمحمد عليه‌السلام وأمته ، وهذا أشبه من الذي قبله ، والبارع المتوجه قراءة الجماعة ، قال أبو علي ، ولا يجوز أن تكون «يوم» في موضع رفع على قراءة نافع لأن هذا الفعل الذي أضيف إليه معرب ، وإنما يكتسي البناء من المضاف إليه إذا كان المضاف إليه مبنيا نحو من عذاب يومئذ ، ولا يشبه قول الشاعر.

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

لأن الماضي الذي في البيت مبني والمضارع الذي في الآية معرب وقرأ الحسن بن العباس الشامي :

«هذا يوم» بالرفع والتنوين ، وقوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ) ... الآية ، يحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة ، ويحتمل أنه مقطوع من ذلك مخاطب به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته. وعلى الوجهين ففيه عضد ما قال عيسى ، إن تعذب الناس فإنهم عبادك على ما تقدم من تأويل الجمهور.

كمل تفسير سورة المائدة والله المستعان

وهو حسبي ونعم الوكيل


بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا

سورة الأنعام

قيل هي كلها مكية ، وقال ابن عباس : نزلت بمكة ليلا جملة إلا ست آيات ، وهي (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام ١٥١] وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] وقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) [الأنعام : ٩٣] وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) [الأنعام : ٩٣] وقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١١٤] وقوله : و (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [الأنعام : ٢٠].

وقال الكلبي : الأنعام كلها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة في فنحاص اليهودي ، وهي (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) [الأنعام ٩١] مع ما يرتبط بهذه الآية ، وذلك أن فنحاصا قال ما أنزل الله على بشر من شيء ، وقال ابن عباس : نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك لهم زجل يجارون بالتسبيح وقال كعب فاتحة التوراة فاتحة الأنعام (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى (يَعْدِلُونَ) ، وخاتمة التوراة خاتمة هود ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود : ١٢٣] وقيل خاتمتها (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) إلى (تَكْبِيراً) [الإسراء : ١١١] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الأنعام من نجائب القرآن ، وقال علي بن أبي طالب : من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضى ربه.

قوله عزوجل :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢)

هذا تصريح بأن الله تعالى هو الذي يستحق الحمد بأجمعه. لأن الألف واللام في (الْحَمْدُ) لاستغراق الجنس ، فهو تعالى له الأوصاف السنية والعلم والقدرة والإحاطة والأنعام ، فهو أهل للمحامد على ضروبها وله الحمد الذي يستغرق الشكر المختص بأنه على النعم ، ولما ورد هذا الإخبار تبعه ذكر بعض أوصافه الموجبة للحمد ، وهي الخلق «للسماوات والأرض» قوام الناس وأرزاقهم ، (وَالْأَرْضَ) هاهنا للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، والبادي من هذا الترتيب أن السماء خلقت من قبل الأرض ، وقد حكاه الطبري عن قتادة ، وليس كذلك لأن الواو لا ترتب المعاني ، والذي ينبني من مجموع آي القرآن أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء فخلقها ثم دحا الأرض بعد ذلك ، و (جَعَلَ) هاهنا بمعنى خلق لا


يجوز غير ذلك ، وتأمل لم خصت (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ب (خَلَقَ) و (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ب (جَعَلَ)؟ وقال الطبري (جَعَلَ) هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد ، لأن (جَعَلَ) إذا كانت على هذا النحو فلا بد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال المقاربة كقولك كاد زيد يموت ، «جعل» زيد يجيء ويذهب ، وأما إذا لم تربط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري ، وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين : (الظُّلُماتِ) الليل و (النُّورَ) النهار ، وقالت فرقة : (الظُّلُماتِ) الكفر و (النُّورَ) الإيمان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة ، وهذا هو طريق اللغز الذي برىء القرآن منه ، و (النُّورَ) أيضا هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه.

وقوله تعالى : (ثُمَ) دالة على قبح فعل (الَّذِينَ كَفَرُوا) لأن المعنى أن خلقه «السموات والأرض» وغيرهما قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله ، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه ب (ثُمَ) ، (الَّذِينَ كَفَرُوا) في هذا الموضع هم كل من عبد شيئا سوى الله قال قتادة : هم أهل الشرك صراحية ، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضا دون بعض فلم يصب إلا أن السابق من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له ، ولفظ الآية أيضا يشير إلى المانوية ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام ، وقول ابن أبزى إن المراد أهل الكتاب بعيد ، و (يَعْدِلُونَ) معناه يسوون ويمثلون ، وعدل الشيء قرينه ومثيله ، والمنوية مجوس ، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو القدرية مجوس هذه الأمة ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقا غير الله ، والقدرية تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقا غير الله تعالى عن قولهم ، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول القدرية : إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده. وإنما قلنا في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم مجوسا حقيقة لم يضفهم إلى الأمة ، وهذا كله ان لو صح الحديث والله الموفق.

وقوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) الآية قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم .. المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وحكى المهدوي عن فرقة أنها قالت بل المعنى أن النطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها من طين ثم يقلبها الله نطفة ، وذكره مكي والزهراوي ، والقول الأول أليق بالشريعة لأن القول الثاني إنما يترتب على قول من يقول بأن الطين يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة ، وذلك مردود عند الأصوليين ، واختلف المفسرون في هذين الأجلين ، فقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة والضحاك ، (أَجَلاً) أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته ، والأجل المسمى عنده من وقت موته


إلى حشره ، ووصفه بمسمى عنده لأنه استأثر بعلم وقت القيامة ، وقال ابن عباس : (أَجَلاً) ، الدنيا ، (أَجَلٌ مُسَمًّى) الآخرة ، وقال مجاهد : (أَجَلاً) ، الآخرة ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) ، الدنيا بعكس الذي قبله ، وقال ابن عباس أيضا : (أَجَلاً) ، وفاة الإنسان بالنوم ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) وفاته بالموت وقال ابن زيد ، الأجل الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم ، وبقي «أجل» واحد مسمى في هذه الحياة الدنيا ، وحكى المهدوي عن فرقة (أَجَلاً) ، ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) قيام الساعة ، وحكي أيضا عن فرقة (أَجَلاً) ما عرفناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) الآخرة.

قال القاضي أبو محمد : رضي الله عنه. وينبغي أن تتأمل لفظة (قَضى) في هذه الآية فإنها تحتمل معنيين ، فإن جعلت بمعنى قدر وكتب ورجعت إلى سابق علمه وقدره فيقول إن ذلك ولا بد قبل خلقه آدم من طين ، وتخرج ثم من معهودها في ترتيب زمني وقوع القصتين ويبقى لها ترتيب زمني الإخبار عنه ، كأنه قال : أخبركم أنه خلقكم من طين ثم أخبركم أنه قضى أجلا ، وإن جعلت (قَضى) بمعنى أوجد وأظهر ويرجع ذلك إلى صفة فعل فيصح أن يكون خلق آدم من طين قبل إظهار هذا الأجل وإبدائه وتكون ثم على بابها في ترتيب زمني وقوع القضيتين ، و (تَمْتَرُونَ) معناه تشكون ، والمرية الشك ، وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ) على نحو قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) في التوبيخ على سوء الفعل بعد مهلة من وضوح الحجج.

قوله عزوجل :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥)

قاعدة الكلام في هذه الآية أن حلول الله تعالى في الأماكن مستحيل وكذلك مماسته للأجرام أو محاداته لها أو تحيز لا في جهة لامتناع جواز التقرب عليه تبارك وتعالى ، فإذا تقرر هذا فبين أن قوله تعالى: (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) ليس على حد قولنا زيد في الدار بل هو على وجه من التأويل آخر ، قالت فرقة ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى ، كأنه قال وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض ، وعبر بعضهم بأن قدر هو الله المدبر للأمر في «السماوات وفي الأرض» ، وقال الزجاج (فِي) متعلقة بما تضمنه اسم الله تعالى من المعاني كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى ، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله : (وَهُوَ اللهُ) أي الذي له هذه كلها «في السماوات وفي الأرض» كأنه وهو الخالق الرازق المحيي المحيط «في السماوات وفي الأرض» كما تقول زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد لقلت


محالا ، وإذا كان مقصد قوله زيد الآمر الناهي المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق فأقمت السلطان مقام هذه كان فصيحا صحيحا ، فكذلك في الآية أقام لفظة (اللهُ) مقام تلك الصفات المذكورة ، وقالت فرقة (وَهُوَ اللهُ) ابتداء وخبرتم الكلام عنده ، ثم استأنف ، وتعلق قوله (فِي السَّماواتِ) بمفعول (يَعْلَمُ) ، كأنه قال «وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض» فلا يجوز مع هذا التعليق أن يكون (هُوَ) ضمير أمر وشأن لأنه يرفع (اللهُ) بالابتداء ، و (يَعْلَمُ) في موضع الخبر ، وقد فرق (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) بين الابتداء والخبر وهو ظرف غريب من الجملة ، ويلزم قائلي هذه المقالة أن تكون المخاطبة في الكاف في قوله : (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) لجميع المخلوقين الإنس والملائكة ، لأن الإنس لا سر ولا جهر لهم في السماء ، فترتيب الكلام على هذا القول وهو الله يعلم يا جميع المخلوقين «سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض» ، وقالت فرقة (وَهُوَ) ضمير الأمر والشأن و «الله في السماوات» ابتداء وخبرتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ كأنه قال «ويعلم في الأرض سركم وجهركم» ، وهذا القول إذ قد تخلص من لزوم المخاطبة الملائكة فهو مخلص من شبهة الكون في السماء بتقدير حذف المعبود أو المدبر على ما تقدم ، وقوله تعالى : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) خبر في ضمنه تحذير وزجر ، و (تَكْسِبُونَ) لفظ عام لجميع الاعتقادات والأفعال والأقوال.

وقوله تعالى :

(وَما تَأْتِيهِمْ) الآية ، (ما) نافية و (مِنْ) الأولى هي الزائدة التي تدخل على الأجناس بعد النفي ، فكأنها تستغرق الجنس ، و (مِنْ) الثانية للتبعيض ، والآية العلامة والدلالة والحجة ، وقد تقدم القول في وزنها في صدر الكتاب ، وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم ، ثم اقتضت الفاء في قوله (فَقَدْ) أن إعراضهم عن الآيات قد أعقب أن كذبوا بالحق وهو محمد عليه‌السلام وما جاء به ، ثم توعدهم بأن يأتيهم عقاب استهزائهم ، و (ما) بمعنى الذي ، ويصح أن تكون مصدرية ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره يأتيهم مضمن أنباء القرآن الذي كانوا به يستهزئون ، وإن جعلت (ما) مصدرية فالتقدير يأتيهم نبأ كونهم مستهزئين ، أي عقاب يخبرون أنه على ذلك الاستهزاء ، وهذه العقوبات التي توعدوا بها تعم عقوبات الدنيا كبدر وغيرها وعقوبات الآخرة.

قوله عزوجل :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٦)

هذا حض على العبرة ، والرؤية هنا رؤية القلب ، و (كَمْ) في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا) ، والقرن والأمة المقترنة في مدة من الزمان ، ومنه قوله عليه‌السلام : خير الناس قرني الحديث ، واختلف الناس في مدة القرن كم هي؟ فالأكثر على أنها مائة سنة ، ويرجح ذلك الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر :


يريد أنها تحرم ذلك القرن ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله بن بشير : تعيش قرنا فعاش مائة سنة ، وقيل : القرن ثمانون سنة ، وقيل سبعون وقيل ستون ، وتمسك هؤلاء بالمعترك وحكى النقاش أربعين وذكر الزهراوي في ذلك أنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحكى النقاش أيضا ثلاثين ، وحكى عشرين ، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف ، وهذه طبقات وليست بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة عشر عاما فصاعدا ، وقيل القرن الزمن نفسه ، وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن ، والضمير في (مَكَّنَّاهُمْ) عائد على القرن ، والمخاطبة في (لَكُمْ) هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس ، فكأنه قال : ما لم نمكن يا أهل العصر لكم ، فهذا أبين ما فيه ، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال يا محمد قل لهم : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ، ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة (السَّماءَ) المطر ومنه قول الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

و (مِدْراراً) بناء تكثير كمذكار ومئناث ، ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة ، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك وتحتمل الآية أن تراد السماء المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدرارا لا يوصف به إلا المطر ، وقوله تعالى : (فَأَهْلَكْناهُمْ) معناه فعصوا وكفروا (فَأَهْلَكْناهُمْ) ، (وَأَنْشَأْنا) اخترعنا وخلقنا ، وجمع (آخَرِينَ) حملا على معنى القرن.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ(٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩)

لما أخبر عنهم عزوجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضا ، والمعنى (لَوْ نَزَّلْنا) بمرأى منهم عليك (كِتاباً) أي كلاما مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) أي في صحيفة ، ويقال «قرطاس» بضم القاف (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين ، ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية ، يأمرني بتصديقك ، وما أراني مع هذا كنت أصدقك ، ثم أسلم بعد ذلك عبد الله وقتل شهيدا في الطائف ، وقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا


أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) الآية حكاية عمن تشطط من العرب بأن طلب أن ينزل ملك يصدق محمدا في نبوءته ويعلم عن الله عزوجل أنه حق ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) وقال مجاهد : معناه لقامت القيامة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا ضعيف ، وقال قتادة والسدي وابن عباس رضي الله عنه : في الكلام حذف تقديره ولو «أنزلنا ملكا فكذبوا به لقضي الأمر» بعذابهم ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية وكذبت بعد أن ظهرت إليها ، وهذا قول حسن ، وقالت فرقة (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لماتوا من هول رؤية الملك في صورته ، ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته ، فالأولى في قوله (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لماتوا من هول رؤيته ، (يُنْظَرُونَ) معناه يؤخرون ، والنظرة التأخير ، وقوله عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) الآية المعنى أنّا لو جعلناه ملكا لجعلناه ولا بد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته ، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.

قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي عليه‌السلام للمشركين ، فسمعا حس الملائكة وقائلا يقول في السماء ، أقدم حيزوم فمات أحدهما لهول ذلك ، فكيف برؤية ملك في خلقته ، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه‌السلام لجبريل وغيره في صورهم ، لأن النبي عليه‌السلام أعطي قوة غير هذه كلها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَلَلَبَسْنا) أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وعلى ضعفتهم ، أي لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به ، وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصدا آخر ، أي «للبسنا» نحن عليهم كما «يلبسون» هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله بهم ، ويقال : لبس الرجل الأمر يلبسه لبسا إذا خلطه ، وقرأ ابن محيصن : «ولبّسنا» بفتح اللام وشد الباء ، وذكر بعض الناس في هذه الآية : أنها نزلت في أهل الكتاب ، وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١)

قرىء «ولقد» بضم الدال مراعاة للضمة بعد الساكن الذي بعد الدال ، وقرىء بكسر الدال على عرف الالتقاء ، وهذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأسوة في الرسل وتقوية لنفسه على محاجّة المشركين وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه والمستهزئين ، و «حاق» معناه نزل وأحاط ، وهي مخصوصة في الشر ، يقال حاق يحيق حيقا ومنه قول الشاعر :

فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم

وحاق بهم من بأس ضبة حائق

وقال قوم : أصل حاق حق فبدلت القاف الواحدة كما بدلت النون في تظننت.


قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، و (ما) في قوله : (ما كانُوا) يصح أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر ، كأنه قال : استهزاؤهم ، وهذه كناية عن العقوبة كما تهدد إنسانا فتقول سيلحقك عملك ، المعنى عاقبته ، وسخروا معناه استهزؤوا.

وقوله تعالى :

(قُلْ سِيرُوا) الآية ، حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل فعلهم ، وقال (كانَ) ولم يقل كانت لأن تأنيث العاقبة ليس بحقيقي ، وهي بمعنى الآخر والمآل ، ومعنى الآية (سِيرُوا) وتلقوا ممن سار لأن العبرة بآثار من مضى إنما يستند إلى حس العين.

قوله عزوجل :

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣)

قال بعض أهل التأويل : في الكلام حذف تقديره : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا ، قل لله ، وقالت فرقة : المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له : قل لله ، والصحيح أن الله عزوجل أمر محمدا عليه‌السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد ، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه ، وجاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والوجه في المحاجّة إذا سأل الإنسان خصمه ، بأمر لا يدافعه الخصم فيه ، أن يسبقه بعد التقرير إليه مبادرة إلى الحجة ، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه ، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه ، فكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : يا أيها الكافرون العادلون بربهم (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ ثم سبقهم فقال : (لِلَّهِ) ، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد ، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) معناه قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه‌السلام تتضمن كتب الرحمة ، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا ، منها أن الله تعالى خلق مائة رحمة فوضع منها واحدة في الأرض فيها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها. وبها تتعاطف الطير والحيتان ، وعنده تسع وتسعون رحمة ، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده.

قال القاضي أبو محمد : فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا الله بفضل منه ، ومنها حديث آخر أن الله عزوجل كتب عنده كتابا فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي ، ويروى : نالت غضبي ، ومعناه سبقت ، وأنشد عليه ثابت بن قاسم :


أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا

نالا الملوك وفككا الأغلالا

ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا ، وأن باب توبتهم مفتوح ، قال الزجاج : (الرَّحْمَةَ) هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا ، وحكى المهدوي : أن جماعة من النحويين قالت : إن (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) هو تفسير (الرَّحْمَةَ) تقديره : أن يجمعكم فيكون (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) في موضع نصب على البدل من (الرَّحْمَةَ) ، وهو مثل قوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف : ٣٥] المعنى : أن يسجنوه.

قال القاضي أبو محمد : يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب ، وهو مردود ، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم ، وقالت فرقة وهو الأظهر : إن اللام لام قسم والكلام مستأنف ، ويتخرج ذلك في (لَيَسْجُنُنَّهُ) ، وقالت فرقة (إِلى) بمعنى في وقيل على بابها غاية وهو الأرجح ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه ، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية قيل إن (الَّذِينَ) منادى.

قال القاضي أبو محمد : وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات ، وقيل : هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم ، وقيل : هو بدل من الضمير في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ، قال المبرد : ذلك لا يجوز كما لا يجوز مررت بك زيد.

قال القاضي أبو محمد : وقوله في الآية (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) مخالف لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني ، وقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال (الَّذِينَ) من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب هنا ، وخصوا على جهة الوعيد ، ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح ، ويجيء هذا بدل البعض من الكل ، وقال الزجاج (الَّذِينَ) رفع بالابتداء وخبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، وهذا قول حسن ، والفاء في قوله : (فَهُمْ) جواب على القول بأن (الَّذِينَ) رفع بالابتداء لأن معنى الشرط حاصل تقديره ، من خسر نفسه فهو لا يؤمن ، وعلى القول بأن (الَّذِينَ) بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة ، و (خَسِرُوا) معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه ، ومنه قول الشاعر [الأعشى]: [السريع]

لا يأخذ الرّشوة في حكمه

ولا يبالي غبن الخاسر

وقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ) الآية (وَلَهُ) عطف على قوله (لِلَّهِ) واللام للملك ، و (ما) بمعنى الذي ، و (سَكَنَ) هي من السكنى ونحوه أي ما ثبت وتقرر ، قاله السدي وغيره وقالت فرقة : هو من السكون ، وقال بعضهم : لأن الساكن من الأشياء أكثر من المتحرك إلى غير هذا من القول الذي هو تخليط ، والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا أن يكون (سَكَنَ) بمعنى استقر وثبت وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن ، ألا ترى إلى الفلك والشمس والقمر والنجوم السابحة والملائكة وأنواع الحيوان والليل والنهار حاصران للزمان (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هاتان صفتان تليقان بنمط الآية من قبل أن ما ذكر قبل من الأقوال الردية عن الكفرة العادلين هو سميع لهم عليم بمواقعها مجاز عليها ، ففي الضمير وعيد.


قوله عزوجل :

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦)

قال الطبري وغيره : أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يحتاج إلى سند في أن هذا نزل جوابا وإلا فظاهر الآية لا يتضمنه ، والفصيح هو أنه لما قرر معهم أن الله تعالى له (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٢](وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] وأنه سميع عليم أمر أن يقول لهم على جهة التوبيخ والتوقيف (أَغَيْرَ) هذا الذي هذه صفاته (أَتَّخِذُ وَلِيًّا) بمعنى أن هذا خطأ لو فعلته بين. وتعطي قوة الكلام أن من فعله من سائر الناس بين الخطأ ، و (أَتَّخِذُ) عامل في قوله (أَغَيْرَ) وفي قوله : (وَلِيًّا) تقدم أحد المفعولين ، والولي لفظ عام لمعبود وغير ذلك من الأسباب الواصلة بين العبد وربه ، ثم أخذ في صفات الله تعالى فقال : (فاطِرِ) بخفض الراء نعت لله تعالى ، وفطر معناه ابتدع وخلق وأنشأ وفطر أيضا في اللغة : شق ، ومنه (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] أي من شقوق ، ومن هذا انفطار السماء ، وفي هذه الجهة يتمكن قولهم فطر ناب البعير إذا خرج لأنه يشق اللثة ، وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى (فاطِرِ السَّماواتِ) حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها.

قال القاضي أبو محمد : فحمله ابن عباس على هذه الجهة ، ويصح حمله ، على الجهة الأخرى أنه شق الأرض والبئر حين احتفرها ، وقرأ ابن أبي عبلة : «فاطر» برفع الراء على خبر ابتداء مضمر أو على الابتداء (يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) المقصود به يرزق ولا يرزق ، وخص الإطعام من أنواع الرزق لمسّ الحاجة إليه وشهرته واختصاصه بالإنسان ، وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة «يطعم» بضم الياء وكسر العين في الثاني مثل الأول يعني الوثن أنه لا يطعم وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه في الثاني «ولا يطعم» بفتح الياء على مستقبل طعم فهي صفة تتضمن التبرية أي لا يأكل ولا يشبه المخلوقين ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) إلى (عَظِيمٍ) قال المفسرون : المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة ، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك ، قال طائفة : في الكلام حذف تقديره : وقيل لي ولا تكونن من الممترين.

قال القاضي أبو محمد : وتلخيص هذا أنه عليه‌السلام أمر فقيل له كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين فلما أمر في الآية أن يقول ما أمر به جاء بعض ذلك على المعنى وبعضه باللفظ بعينه ولفظة (عَصَيْتُ) عامة في أنواع المعاصي ، ولكنها هاهنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهي عنه ، واليوم العظيم هو يوم القيامة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «من يصرف عنه» بضم الياء وفتح الراء ، والمفعول


الذي أسند إليه الفعل هو الضمير العائد على العذاب فهو مقدر ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم أيضا : «من يصرف عنه» فيسند الفعل إلى الضمير العائد إلى (رَبِّي) ويعمل في ضمير العذاب المذكور آنفا لكنه مفعول محذوف وحكي أنه ظهر في قراءة عبد الله وهي «من يصرفه عنه يومئذ» ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «من يصرفه الله عنه» وقيل : إنها من يصرف الله عنه ، قال أبو علي وحذف هذا الضمير لا يحسن كما يحسن حذف الضمير من الصلة كقوله عزوجل : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] وكقوله : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] معناه بعثه واصطفاهم فحسن هذا للطول كما علله سيبويه ، ولا يحسن هذا لعدم الصلة ، قال بعض الناس القراءة بفتح الياء «من يصرف» أحسن لأنه يناسب (فَقَدْ رَحِمَهُ) وكان الأولى على القراءة الأخرى «فقد رحم» ليتناسب الفعلان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا توجيه لفظي تعلقه خفيف ، وأما بالمعنى فالقراءتان واحد ، ورجح قوم قراءة ضم الياء لأنها أقل إضمارا ، وأشار أبو علي إلى تحسين القراءة بفتح الياء بما ذكرناه ، وأما مكي بن أبي طالب رحمه‌الله فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ، ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة والله ولي التوفيق ، ورحم عامل في الضمير المتصل وهو ضمير من ومستند إلى الضمير العائد إلى ربي ، وقوله : (وَذلِكَ) إشارة إلى صرف العذاب وإلى الرحمة ، والفوز والنجاة.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١٨)

(يَمْسَسْكَ) معناه يصبك وينلك ، وحقيقة المس هي بتلافي جسمين فكأن الإنسان والضر يتماسان ، و «الضّر» بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره ، «والضّر» بفتح الضاد ضد النفع ، وناب الضر في هذه الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه فقابل الخير ، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة ، فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٨ ، ١١٩] فجعل الجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

كأنّي لم أركب جوادا للذّة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

وهذا كثير ، قال السدي «الضر» هاهنا المرض والخير العافية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال ومعنى الآية الإخبار عن أن الأشياء كلها بيد الله إن ضر فلا كاشف لضره غيره وإن أصاب بخير فكذلك أيضا لا راد له ولا مانع منه ، هذا تقرير الكلام ، ولكن وضع بدل هذا المقدر لفظا أعم منه يستوعبه وغيره ، وهو قوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ودل ظاهر الكلام على المقدر فيه ،


وقوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عموم أي على كل شيء جائز أن يوصف الله تعالى بالقدرة عليه ، وقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ) الآية ، أي وهو عزوجل المستولي المقتدر ، و (فَوْقَ) نصب على الظرف لا في المكان بل في المعنى الذي تضمنه لفظ القاهر ، كما تقول زيد فوق عمرو في المنزلة ، وحقيقة فوق في الأماكن ، وهي في المعاني مستعارة شبه بها من هو رافع رتبة في معنى ما ، لما كانت في الأماكن تنبىء حقيقة عن الأرفع وحكى المهدوي : أنها بتقدير الحال ، كأنه قال : وهو القاهر غالبا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يسلم من الاعتراض أيضا والأول عندي أصوب : و «العباد» بمعنى العبيد وهما جمعان للعبد أما أنا نجد ورود لفظة العباد في القرآن وغيره في مواضع تفخيم أو ترفيع أو كرامة ، وورود لفظة العبيد في تحقير أو استضعاف أو قصد ذم ، ألا ترى قول امرئ القيس : [السريع]

قولا لدودان عبيد العصا

ولا يستقيم أن يقال هنا عباد العصا وكذلك الذين سموا العباد لا يستقيم أن يقال لهم العبيد لأنهم أفخم من ذلك ، وكذلك قول حمزة رضي الله عنه وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، لا يستقيم فيه عباد ، و (الْحَكِيمُ) بمعنى المحكم ، و (الْخَبِيرُ) دالة على مبالغة العلم ، وهما وصفان مناسبان لنمط الآية.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩)

(أَيُ) استفهام ، وهي معربة مع إبهامها ، وإنما كان ذلك لأنها تلتزم الإضافة ولأنها تتضمن علم جزء من المستفهم عنه غير معين ، لأنك إذا قلت أي الرجلين جاءنا فقد كنت تعلم أن أحدهما جاء غير معين فأخرجها هذان الوجهان عن غمرة الإبهام فأعربت ، وتتضمن هذه الآية أن الله عزوجل يقال عليه (شَيْءٍ) كما يقال عليه موجود ، ولكن ليس كمثله تبارك وتعالى شيء ، و (شَهادَةً) نصب على التمييز ويصح على المفعول بأن يحمل (أَكْبَرُ) على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذه الآية مثل قوله تعالى (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢] في أن استفهم على جهة التوقيف والتقدير ثم بادر إلى الجواب إذ لا تتصور فيه مدافعة ، وهذا كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر من في البلد ثم تبادر وتقول السلطان فهو يحول بيننا ، ونحو هذا من الأمثلة ، فتقدير الآية أنه قال لهم أي شيء أكبر شهادة الله أكبر شهادة ، فهو شهيد بيني وبينكم ، ف (اللهُ) رفع بالابتداء وخبره مضمر يدل عليه ظاهر الكلام كما قدرناه ، و (شَهِيدٌ) خبر ابتداء مضمر.

وقال مجاهد المعنى أن الله تعالى قال لنبيه عليه‌السلام : قل لهم : أي شيء أكبر شهادة؟ وقل لهم : الله شهيد بيني وبينكم لما عيوا عن الجواب ، ف (شَهِيدٌ) على هذا التأويل خبر لله وليس في هذا التأويل مبادرة من السائل إلى الجواب المراد بقوله : (شَهِيدٌ ، بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي في تبليغي ، وقرأت فرقة : «وأوحى إليّ


هذا القرآن» على الفعل الماضي ونصب القرآن وفي «أوحى» ضمير عائد على الله تعالى من قوله (قُلِ اللهُ) ، وقرأت فرقة «وأوحي» على بناء الفعل للمفعول «القرآن» رفعا ، (لِأُنْذِرَكُمْ) معناه لأخوفكم به العقاب والآخرة ، (وَمَنْ) عطف على الكاف والميم في قوله : (لِأُنْذِرَكُمْ) و (بَلَغَ) معناه على قول الجمهور بلاغ القرآن ، أي لأنذركم وأنذر من بلغه ، ففي بلغ ضمير محذوف لأنه في صلة من ، فحذف لطول الكلام ، وقالت فرقة ومن بلغ الحكم ، ففي (بَلَغَ) على هذا التأويل ضمير مقدر راجع إلى (مَنْ) ، وروي في معنى التأويل الأول أحاديث ، منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية ، فإنه من بلغ آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله تعالى أخذه أو تركه» ، ونحو هذا من الأحاديث كقوله «من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره» ، وقرأت فرقة «أأينكم» بزيادة ألف بين الهمزة الأولى والثانية المسهلة عاملة بعد التسهيل العاملة قبل التسهيل وقرأت فرقة «أينكم» بهمزتين الثانية مسهلة دون ألف بينهما ، وقرأت فرقة «أإنكم» استثقلت اجتماع الهمزتين فزادت ألفا بين الهمزتين ، وقرأت فرقة «أنكم» بالإيجاب دون تقدير وهذه الآية مقصدها التوبيخ وتسفيه الرأي. و (أُخْرى) صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل تجري في الإفراد مجرى الواحدة المؤنثة كقوله : (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] وكذلك مخاطبته جمع ما لا يعقل كقوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) ونحو هذا ، ولما كانت هذه الآلهة حجارة وعيدانا أجريت هذا المجرى ثم أمره الله تعالى أن يعلن بالتبري من شهادتهم. والإعلان بالتوحيد لله عزوجل والتبري من إشراكهم ، (وَإِنَّنِي) إيجاب ألحقت فيه النون التي تلحق الفعل لتبقى حركته عند اتصال الضمير به في قولك ضربني ونحوه ، وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم يثبت صحته أنها نزلت في قوم من اليهود ، وأسند إلى ابن عباس قال : جاء النحام بن زيد وفردم بن كعب وبحري بن عمرو ، فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال لهم : لا إله إلا الله بذلك أمرت ، فنزلت الآية فيهم.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١)

(الَّذِينَ) رفع بالابتداء وخبره (يَعْرِفُونَهُ) و (الْكِتابَ) معناه التوراة والإنجيل وهو لفظ مفرد يدل على الجنس ، والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) عائد في بعض الأقوال على التوحيد لقرب قوله : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنعام : ١٩] وهذا استشهاد في ذلك على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب ، و (الَّذِينَ خَسِرُوا) على هذا التأويل منقطع مرفوع بالابتداء وليس من صفة (الَّذِينَ) الأولى ، لأنه لا يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويذمون في آية واحدة.

قال القاضي أبو محمد : وقد يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه ، وأن الذم والاستشهاد ليس من جهة واحدة ، وقال قتادة والسدي وابن جريج : الضمير عائد في (يَعْرِفُونَهُ) على محمد


عليه‌السلام ورسالته ، وذلك على ما في قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ) [الأنعام : ١٩] فكأنه قال وأهل الكتاب يعرفون ذلك من إنذاري والوحي إليّ ، وتأول هذا التأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يدل على ذلك قوله لعبد الله بن سلام إن الله أنزل على نبيه بمكة أنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة فقال عبد الله بن سلام نعم أعرفه الصفة التي وصفه الله في التوراة فلا أشك فيه ، وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه.

قال القاضي أبو محمد : وتأول ابن سلام رضي الله عنه المعرفة بالابن تحقق صحة نسبه ، وغرض الآية إنما هو الوقوف على صورته فلا يخطىء الأب فيها ، وقالت فرقة : الضمير من (يَعْرِفُونَهُ) عائد على القرآن المذكور قبل.

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن تعيد الضمير على هذه كلها دون اختصاص ، كأنه وصف أشياء كثيرة ، ثم قال : أهل الكتاب (يَعْرِفُونَهُ) أي ما قلنا وما قصصنا وقوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا) الآية ، يصح أن يكون (الَّذِينَ) نعتا تابعا ل (الَّذِينَ) قبله ، والفاء من قوله (فَهُمْ) عاطفة جملة على جملة ، وهذا يحسن على تأويل من رأى في الآية قبلها أن أهل الكتاب متوعدون مذمومون لا مستشهد بهم ، ويصح أن يكون (الَّذِينَ) رفعا بالابتداء على استئناف الكلام ، وخبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والفاء على هذا جواب ، و (خَسِرُوا) معناه غبنوها ، وقد تقدم ، وروي أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار فهاهنا هي الخسارة بينة والربح الآخرين ، وقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) الآية (مَنْ) استفهام مضمنه التوقيف والتقرير ، أي لا أحد أظلم ممن افترى ، و (افْتَرى) معناه اختلق ، والمكذب بالآيات مفتري كذب ، ولكنهما منحيان من الكفر ، فلذلك نصا مفسرين ، و «الآيات» العلامات والمعجزات ونحو ذلك ، ثم أوجب (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) والفلاح بلوغ الأمل والإرادة والنجاح ، ومنه قول عبيد : [الرجز]

أفلح بما شئت فقد تبلغ بالض

ضعف وقد يخدع الأريب

قوله عزوجل :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤)

قالت فرقة : (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٢١] كلام تام معناه لا يفلحون جملة ، ثم استأنف فقال : واذكر يوم نحشرهم ، وقال الطبري المعنى لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) عطفا على الظرف المقدر والكلام متصل ، وقرأت طائفة «نحشرهم» و «نقول» بالنون ، وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء ، وقرأ عاصم هنا وفي يونس قبل الثلاثين «نحشرهم ونقول» بالنون ، وقرأ في باقي القرآن بالياء ، وقرأ أبو هريرة «نحشرهم» بكسر الشين فيجيء الفعل على هذا حشر يحشر ويحشر ، وأضاف الشركاء إليهم لأنه


لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم لهذه النسبة و (تَزْعُمُونَ) معناه تدعون أنهم لله ، والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم ، وقد يقال زعم بمعنى ذكر دون ميل إلى الكذب ، وعلى هذا الحد يقول سيبويه زعم الخليل ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله ، وقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) الآية قرأ ابن كثير في رواية شبل عنه وعاصم في رواية حفص وابن عامر «تكن فتنتهم» برفع الفتنة و (إِلَّا أَنْ قالُوا) في موضع نصب على الخبر التقدير إلا قولهم ، وهذا مستقيم لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث وهي الفتنة ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير أيضا «تكن فتنتهم» بنصب الفتنة ، واسم كان (أَنْ قالُوا) ، وفي هذه القراءة تأنيث (أَنْ قالُوا) وساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى ، قال أبو علي وهذا كقوله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] فأنث الأمثال لما كانت الحسنات بالمعنى وقرأ حمزة والكسائي «يكن» بالياء «فتنتهم» بالنصب واسم كان (إِلَّا أَنْ قالُوا) وهذا مستقيم لأنه ذكر علامة الفعل حين أسنده إلى مذكر ، قال الزهراوي وقرأت فرقة «يكن فتنتهم» برفع الفتنة ، وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكر العلامة إلى مؤنث ، وجاء ذلك بالمعنى لأن الفتنة بمعنى الاختبار أو المودة في الشيء والإعجاب وقرأ أبي بن وكيع وابن مسعود والأعمش «وما كان فتنتهم» ، وقرأ طلحة بن مصرف ، «ثم كان فتنتهم» والفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول فتنت بكذا ، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبري منها والإنكار لها ، وهذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته ، ويقال الفتنة في كلام العرب بمعنى الاختبار ، كما قال عزوجل لموسى عليه‌السلام : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [طه : ٤٠] ، وكقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا) [ص : ٣٤] وتحتمل الآية هاهنا هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار ، فالمعنى ثم لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر ، إلا إنكارهم الإشراك ، وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ثم يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له كقول ذي الرمة : [الطويل]

ولفّ الثّريّا في ملاءته الفجر

ونحوه ، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله «ربّنا» خفض على النعت لاسم الله ، وقرأ حمزة والكسائي «ربّنا» نصب على النداء. ويجوز فيه تقدير المدح ، وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين «والله ربّنا» برفع الاسمين وهذا على تقدير تقديم وتأخير كأنهم قالوا ما كنا مشركين والله ربنا ، و (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) معناه جحود إشراكهم في الدنيا ، فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان. وأتى رجل ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وفي أخرى (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢]


فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد ، وقالوا ما كنا مشركين فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا.

قال القاضي أبو محمد : وعبد بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا معذرتهم ، قاله قتادة ، وقال آخرون كلامهم قاله الضحاك ، وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه ، وقوله تعالى (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) الآية ، الخطاب لمحمد عليه‌السلام والنظر نظر القلب ، وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هي حكاية يوم القيامة فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل ، ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا ما في الفعل وإثباتا له ، وهذا مهيع في اللغة ، ومنه قول الربيع بن ضبع الفزاري : [المنسرح]

أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

يريد أن ينفر (وَضَلَّ عَنْهُمْ) معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم لله تبارك وتعالى الشركاء.

قوله عزوجل :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٥)

الضمير في قوله (وَمِنْهُمْ) عائد على الكفار الذين تضمنهم قبل قوله (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) [الأنعام : ٢٢] وأفرد (يَسْتَمِعُ) وهو فعل جماعة حملا على لفظ (مَنْ) و (أَكِنَّةً) جمع كنان وهو الغطاء الجامع ، ومنه كنانة السهام والكنّ ، ومنه قوله تعالى : (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩] ومنه قول الشاعر : [الطويل]

إذا ما انتضوها في الوغى من أكنّة

حسبت بروق الغيث هاجت غيومها

وفعال وأفعلة مهيع في كلامهم و (أَنْ يَفْقَهُوهُ) نصب على المفعول من أجله أي كراهية أن يفهموه ، وقيل المعنى أن لا يفقهوه ، ويلزم هذا القول إضمار حرف النفي ، و (يَفْقَهُوهُ) معناه يفهموه ، ويقال فقه الرجل بكسر القاف إذا فهم الشيء وفقه بضمها : إذا صار فقيها له ملكة ، وفقه إذا غلب في الفقه غيره ، والوقر : الثقل في السمع ، يقال وقرت أذنه ووقرت بكسر القاف وفتحها ، ومنه قول الشاعر : [الرمل]

وكلام سيّء قد وقرت

أذني وما بي من صمم

وقد سمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت ، وقرأ طلحة بن مصرف : «وقرا» بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل وهي قراءة شاذة ، وهذا عبارة عما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير لا أنهم لم يكونوا سامعين لأقواله ، وقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) الآية ، الرؤية هنا الرؤية العين يريد كانشقاق القمر وشبهه.

قال القاضي أبو محمد : ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة


والواو في قوله (وَجَعَلْنا) واو الحال والباب أن يصرح معها بقد ، وقد تجيء أحيانا مقدرة ، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال ومن هؤلاء الكفرة من يستمعك وهو من الغباوة في حد قلبه في كنان وأذنه صماء وهو يرى الآيات فلا يؤمن بها لكنه مع بلوغه الغاية من هذه القصور إذا جاء للمجادلة قابل بدعوى مجردة. والمجادلة المقابلة في الاحتجاج مأخوذ من الجدل ، و (هذا) في قولهم إشارة إلى القرآن ، والأساطير جمع أسطار كأقوال وأقاويل ونحوه ، وأسطار جمع سطر وسطر ، وقيل الأساطير جمع أسطارة وهي النزهات ، وقيل جمع أسطورة كأعجوبة وأضحوكة ، وقيل هو اسم جمع لا واحد من لفظه كعبابيد وشماميط والمعنى أخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وأبي عبد الله بن أبي أمية عن رستم والسندباد ، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور الله بأفواههم المبطلة ، وقد ذكر الطبري عن ابن عباس أنه مثل من ذلك قولهم : إنكم أيها المتبعون محمدا تأكلون ما قتلتم بذبحكم ولا تأكلون ما قتل الله ، ونحو هذا من التخليط الذي لا تتركب منه حجة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا جدال في حكم ، والذي في الآية إنما هو جدال في مدافعة القرآن ، فلا تتفسر الآية عندي بأمر الذبح.

قوله عزوجل :

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧)

الضمير في قوله : (وَهُمْ) عائد على المذكورين قبل ، والضمير في (عَنْهُ) قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك هو عائد على محمد عليه‌السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم و «النأي» البعد ، (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) معناه ما يهلكون إلا أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم ، وقال ابن عباس أيضا والقاسم وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الدوام في الكفر ، والمعنى وهم ينهون عنه من يريد إذايته (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) بإيمانهم واتباعهم فهم يفعلون الشيء وخلافه ، ويقلق على هذا القول رد قوله (وَهُمْ) على جماعة الكفار المتقدم ذكرها ، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على الكفر ، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة ، لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم ، كما تقول إذا شنعت على جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا ، فكأنه قال : من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون به ، أي : منهم من يفعل ذلك ، (وَما يَشْعُرُونَ) معناه : ما يعلمون علم حسّ ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان ، والشعار مأخوذ من الشعر ،


ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس ، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات.

قال القاضي أبو محمد : وقرأ الحسن «وينون عنه» ألقيت حركة الهمزة على النون على التسهيل القياسي ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) الآية المخاطبة فيه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجواب (لَوْ) محذوف ، تقديره في آخر هذه الآية لرأيت هولا أو مشقات أو نحو هذا ، وحذف جوابها في مثل هذا أبلغ لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله ، ووقعت (إِذْ) في موضع إذا التي هي لما يستقبل وجاز ذلك لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه كما يعبر عن الماضي الوقوع ، و (وُقِفُوا) معناه : حبسوا ، ولفظ هذا الفعل متعديا وغير متعد سواء ، تقول : وقفت أنا ووقفت غيري ، وقال الزهراوي : وقد فرق بينهما بالمصدر ففي المتعدي وقفته وقفا وفي غير المتعدي وقفت وقوفا ، قال أبو عمرو بن العلاء : لم أسمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلانا إلا أني لو لقيت رجلا واقفا فقلت له ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسنا ، ويحتمل قوله : (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أن يكون دخلوها ، فكان وقوفهم عليها أي فيها ، قاله الطبري ، ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : «ولا نكذب» و «نكون» بالرفع في كلها ، وذلك على نية الاستئناف والقطع في قوله «ولا نكذب ونكون» أي يا ليتنا نرد ونحن على كل حال لا نكذب ونكون ، فأخبروا أنفسهم بهذا ولهذا الإخبار صح تكذيبهم بعد هذا ، ورجح هذا سيبويه ومثله بقولك دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود على كل حال ، ويخرج ذلك على قول آخر وهو أن يكون «ولا نكذب ونكون» داخلا في التمني على حد ما دخلت فيه نرد ، كأنهم قالوا : يا ليتنا نرد وليتنا لا نكذب وليتنا نكون ، ويعترض هذا التأويل بأن من تمنى شيئا لا يقال إنه كاذب وإنما يكذب من أخبر.

قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يكون قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] حكاية عن حالهم في الدنيا كلاما مقطوعا مما قبله وبوجه آخر وهو أن المتمني إذا كانت سجيته وطريقته مخالفة لما تمنى بعيدة منه يصح أن يقال له كذبت على تجوز ، وذلك أن من تمنى شيئا فتمنيه يتضمن إخبارا أن تلك الأمنية تصلح له ويصلح لها فيقع التكذيب في ذلك الإخبار الذي يتضمنه التمني ، ومثال ذلك أن يقول رجل شرير ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل فجائز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لهذا ولا يصلح لك ، وروي عن أبي عمرو : أنه أدغم باء «نكذب في الباء التي بعدها ، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص «ولا نكذب ونكون» بنصب الفعلين ، وذلك كما تنصب الفاء في جواب التمني ، فالواو في ذلك والفاء بمنزلة ، وهذا تقدير ذكر مصدر الفعل الأول كأنهم قالوا يا ليتنا كان لنا رد وعدم تكذيب وكون من المؤمنين ، وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر «ولا نكذب» بالرفع «ونكون» بالنصب ، ويتوجه ذلك على ما تقدم في مصحف عبد الله بن مسعود «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون» بالفاء ، وفي قراءة أبي بن كعب «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا أبدا ونكون» ، وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي «بآيات ربنا ونحن نكون» ، وقوله (نُرَدُّ) في هذه الأقوال كلها معناه : إلى الدنيا ، وحكى الطبري تأويلا آخر وهو يا ليتنا نرد إلى الآخرة أي نبعث ونوقف على النار التي وقفنا عليها مكذبين ليت ذلك ونحن في حالة لا نكذب ونكون ، فالمعنى يا ليتنا


نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يضعف من غير وجه ويبطله قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ولا يصح أيضا التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى. وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات.

قوله عزوجل :

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٠)

الضمير في (لَهُمْ) عائد على من ذكر في قوله : (وُقِفُوا) و (فَقالُوا) [الأنعام : ٢٧] وهذا الكلام يتضمن أنهم (كانُوا يُخْفُونَ) شيئا ما في الدنيا فظهر لهم يوم القيامة أو ظهر لهم وباله وعاقبته ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وحكى الزهراوي عن فرقة أنها قالت : الآية في المنافقين لأنهم كانوا «يخفون» الكفر فبدا لهم وباله يوم القيامة.

قال القاضي أبو محمد : وتقلق العبارة على هذا التأويل لأنه قال (وُقِفُوا) يريد جماعة كفار ثم قال (بَدا لَهُمْ) يريد المنافقين من أولئك الكفار ، والكلام لا يعطي هذا إلا على تحامل ، قال الزهراوي: وقيل إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر به أتباعهم فظهر لهم ذلك يوم القيامة.

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه والتعظيم لما شقوا به ، فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك ، فكيف الظن على هذا بما كانوا يعلنون من كفر ونحوه ، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] ويصح أن يقدر الشيء الذي كانوا يخفونه في الدنيا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقواله ، وذلك أنهم كانوا «يخفون» ذلك في الدنيا بأن يحقروه عند من يرد عليهم ويصفوه بغير صفته ويتلقوا الناس على الطرق فيقولون لهم هو ساحر هو يفرق بين الأقارب ، يريدون بذلك إخفاء أمره وإبطاله ، فمعنى هذه الآية على هذا ، بل بدا لهم يوم القيامة أمرك وصدقك وتحذيرك وإخبارك بعقاب من كفر الذي كانوا يخفونه في الدنيا ، ويكون الإخفاء على ما وصفناه ، وقال الزجاج المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة «يخفون» من البعث.

قال القاضي أبو محمد : فالضميران على هذا ليسا لشيء واحد ، وحكى المهدوي عن الحسن نحو هذا ، وقرأ يحيى بن وثاب والنخعي والأعمش «ولو ردوا» بكسر الراء على نقل حركة الدال من رددوا إليها ، وقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد ، وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه ، فإن


أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه ، وقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) إما أن يكون متصلا بالكلام ويكون التكذيب في إخبارهم على معنى أن الأمر في نفسه بخلاف ما قصدوا لأنهم قصدوا الكذب ، أو يكون التكذيب في التمني على التجوز الذي ذكرناه ، وإما أن يكون منقطعا إخبارا مستأنفا عما هم عليه في وقت مخاطبة النبي عليه‌السلام ، والأول أصوب وقوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا) الآية ، هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام وإخبار عنهم بهذه المقالة ، ويحسن مع هذا أن يكون قوله قبل (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) مستأنفا مقطوعا خبرا عن حالهم في الدنيا التي من قولهم فيها (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) وغير ذلك ، و (إِنْ) نافية ، ومعنى الآية التكذيب بالحشر والعودة إلى الله ، وقال ابن زيد قوله (وَقالُوا) معطوف على قوله (لَعادُوا) أي (لَعادُوا) لما نهوا عنه من الكفر (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا).

قال القاضي أبو محمد : وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) يرد على هذا التأويل وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا) الآية ، بمعنى ولو ترى إذ وقفوا كما تقدم آنفا من حذف جواب (لَوْ) وقوله : (عَلى رَبِّهِمْ) معناه على حكمه وأمره ، ففي الكلام ولا بد حذف مضاف ، وقوله : (هذا) إشارة إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا ، و (بَلى) هي التي تقتضي الإقرار بما استفهم عنه منفيا ولا تقتضي نفيه وجحده ونعم تصلح للإقرار به ، كما ورد ذلك في قول الأنصار للنبي عليه‌السلام حين عاتبهم في الحظيرة عقب غزوة حنين وتصلح أيضا نعم لجحده ، فلذلك لا تستعمل وأما قول الزجاج وغيره : إنها إنما تقتضي جحده وأنهم لو قالوا نعم عند قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) لكفروا فقول خطأ والله المستعان ، وقولهم : بلى وربك إيمان ، ولكنه حين لا ينفع ، وقوله : (فَذُوقُوا) استعارة بليغة ، والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي من أشد المباشرات.

قوله عزوجل :

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٣١)

هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم ، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه ، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا ، وقوله : (بِلِقاءِ اللهِ) معناه : بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته ، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها ، و (السَّاعَةُ) يوم القيامة ، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها ، وأيضا فقد تضمنها قوله تعالى : (بِلِقاءِ اللهِ) وبغتة معناه فجأة ، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر :

ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة

وأفظع شيء حين يفجأك البغت

ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول : قتلته صبرا ، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه ، ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه ، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو


العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك ، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع ، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضا بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع ، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل ، ونحو هذا ، و (فَرَّطْنا) معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير ، وهذه حقيقة التفريط ، والضمير في قوله (فِيها) عائد على (السَّاعَةُ) أي في التقدمة لها ، وهذا قول الحسن ، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية ، ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها ، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار ، وعوده على (السَّاعَةُ) إنما معناه في أمورها والاستعداد لها ، بمنزلة زيد في العلم مشتغل.

وقوله تعالى :

(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) الآية ، الواو واو الحال ، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب ، تقول منه وزر يزر إذا حمل ، قال الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] وتقول وزر الرجل فهو موزور ، قال أبو عبيد والعامة مازور ، وأما إذا اقترن ذلك بما جوز فإن العرب تقول مأزور ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنساء لقيهن مقبلات من المقابر : ارجعن مأزورات غير مأجورات قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي ، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال ، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال ، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة ، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبرا أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول له طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم ، قال فيحمله تمثال العمل ، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم ، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره ، وقوله تعالى : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به ، وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، وقوله ألا هل بلغت ، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه (أَلا) ، وأما (ساءَ ما يَزِرُونَ) فهو خبر مجرد كقول الشاعر : [البسيط]

رضيت خطّة خسف غير طائلة

فساء هذا رضى يا قيس غيلانا

و (ساءَ) فعل ماض و (ما) فاعلة به كما تقول ساءني أمر كذا ، ويحتمل أن تجري (ساءَ) هنا مجرى بئس ، ويقدر لها ما يقدر ل «بئس» إذ قد جاء في كتاب الله (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧].

قوله عزوجل :

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣٣)

هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا ، والمعنى : أنها إذا كانت فانية منقضية لا طائل لها أشبهت اللعب واللهو الذي لا طائل له إذا تقضى ، وقرأ السنة من القراء «وللدار» بلامين و (الْآخِرَةُ) نعت للدار ، وقرأ ابن


عامر وحده «ولدار» بلام واحدة ، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة ، وهذا نحو مسجد الجامع أي مسجد اليوم الجامع ، فكذلك هذا ولدار الحياة الآخرة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يعقلون» على إرادة الغائب ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم : «تعقلون» على إرادة المخاطبين ، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف ، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف فأما (أَفَلا يَعْقِلُونَ) في (يس) [الآية : ٦٨] فقرأه نافع وابن ذكوان : بتاء والباقون بياء ، وهذه الآية تتضمن الرد على قولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩] وهو المقصود بها ، ويصح أن يكون قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على معنى فقل لهم يا محمد إذ الحال على هذه الصفة (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

وقوله تعالى :

(قَدْ نَعْلَمُ) الآية ، (قَدْ) الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدرا عنده فإذا كان الفعل خالصا للاستقبال كان التوقع من المتكلم ، كقولك قد يقوم زيد وقد ينزل المطر في شهر كذا إذا كان الفعل ماضيا أو فعل حال بمعنى المضي مثل آيتنا هذه ، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم موجب ما أخبر به ، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم بأحد المتوقعين ، و (نَعْلَمُ) تتضمن إذا كانت من الله تعالى استمرار العلم وقدمه ، فهي تعم المضي والحال والاستقبال ، ودخلت «إن» للمبالغة في التأكيد ، وقرأ نافع وحده «ليحزنك» من أحزن ، وقرأ الباقون «ليحزنك» من حزن الرجل ، وقرأ أبو رجاء «ليحزنك» بكسر اللام والزاي وجزم النون ، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة «يحزنك» بغير لام ، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي يحزن حزنا وحزنا وحزنته أنا ، وحكي عن الخليل أن قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته ، ولكنه بمعنى جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته ودهنته ، قال الخليل ولو أردت تغيير حزن لقلت أحزنته ، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب خباة العرب أحزنت الرجل ، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر استعمالا عندهم من أحزنته ، فمن قرأ «ليحزنك» بضم الياء فهو على القياس في التغيير ، ومن قرأ «ليحزنك» بفتح الياء وضم الزاي فهو على كثرة الاستعمال ، و (الَّذِي يَقُولُونَ) لفظ يعم جميع أقوالهم التي تتضمن الرد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدفع في صدر نبوته ، كقول بعضهم إنه كذاب ، مفتر ، ساحر ، وقول بعضهم إنه مجنون مسحور ، وقول بعضهم به رئي من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة (لا يُكَذِّبُونَكَ) بتشديد الدال وفتح الكاف ، وقرأها ابن عباس وردها على قارئ عليه «يكذبونك» بضم الياء ، وقال : إنهم كانوا يسمونه الأمين ، وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال ، وقرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان ، واختلف المتأولون في معناهما فقالت فرقة : هما بمعنى واحد كما تقول :

سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت ، وحكى الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ، وتقول العرب أيضا أكذبت الرجل إذا وجدته كذابا كما تقول أحمدته إذا وجدته محمودا ، فالمعنى على قراءة من قرأ «يكذّبونك» بتشديد الذال أي لا تحزن «فإنهم لا يكذبونك» تكذيبا يضرك إذ لست بكاذب في حقيقتك ، فتكذيبهم كلا تكذيب ، ويحتمل أن يريد : «فإنهم لا يكذبونك» على جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون


صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عنادا منهم وظلما ، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة التي حكى عنها أنها كانت تقول : إنا لنعلم أن محمدا صادق ولكن إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبدا ، رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه ، وحكى النقاش أن الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس والمعنى على قراءة من قرأ «يكذبونك» بتخفيف الذال يحتمل ما ذكرناه أولا في «يكذبونك» أي لا يجدونك كاذبا في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في «يكذّبونك» بشد الذال ، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (يَجْحَدُونَ) حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار ، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما ، وعلى قول من رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظا عليهم وتقبيحا لفعلهم ، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يعلمها ويقربها.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وجميع ما في هذه التأويلات من نفي التكذيب إنما هو عن اعتقادهم ، وأما أقوال جميعهم فمكذبة ، إما له وإما للذي جاء به.

قال القاضي أبو محمد : وكفر العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر وظواهر القرآن تعطيه ، كقوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] وغيرها ، وذهب بعض المتكلمين إلى المنع من جوازه ، وذهبوا إلى أن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر ، ولا سبيل إلى اجتماعهما ، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا في قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها) [النمل : ١٤] إنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم وغيرها.

قال القاضي أبو محمد : ودفع ما يتصور العقل ويعقل من جواز كفر العناد على هذه الطريقة صعب أما أن كفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد لأنه لا داعية إلى كفر العناد إلا الحسد ومن عرف الله والنبوة وأن محمدا يجيئه ملك من السماء فلا سبيل إلى بقاء الحسد مع ذلك ، أما أنه جائز فقد رأى أبو جهل على رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلا عظيما من الإبل قد همّ بأبي جهل ولكنه كفر مع ذلك ، وأسند الطبري أن جبريل عليه‌السلام وجد النبي عليه‌السلام حزينا فسأله ، فقال : كذبني هؤلاء ، فقال : «إنهم لا يكذبونك» بل يعلمون أنك صادق (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ، والذي عندي في كفر حيي بن أخطب ومن جرى مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعرفونها أو أكثرها ثم يرون من آياته زائدا على ما عندهم فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب ، وتتخالج ظنونهم فيقولون مرة هو ذلك ومرة عساه ليسه ، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم وفقدهم الرياسة ، فيتزايد ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا ، وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون بأشياء معاندون في أشياء غيرها وأنا أستبعد العناد مع المعرفة التامة.


قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥)

هذه الآية تضمنت عرض الأسوة التي ينبغي الاقتداء بها على محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترجيته أن يأتيه مثل ما أتاهم من النصر إذا امتثل ما امتثلوه من الصبر ، قال الضحاك وابن جريج :

عزى الله بهذه الآية نبيه ، وروي عن ابن عامر أنه قرأ «وأذوا» بغير واو بعد الهمزة ، ثم قوى ذلك الرجاء بقوله : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا راد لأمره وكلماته السابقات بما يكون ولا مكذب لما أخبر به ، فكأن المعنى فاصبر كما صبروا وانتظر ما يأتي وثق بهذا الإخبار فإنه لا مبدل له ، فالقصد هنا هذا الخبر وجاء اللفظ عاما جميع كلمات الله السابقات ، وأما كلام الله عزوجل في التوراة والإنجيل فمذهب ابن عباس أنه لا مبدل لها وإنما حرفها اليهود بالتأويل لا ببدل حروف وألفاظ ، وجوز كثير من العلماء أن يكونوا بدلوا الألفاظ لأنهم استحفظوها وهو الأظهر ، وأما القرآن فإن الله تعالى تضمن حفظه فلا يجوز فيه التبديل ، قال الله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وقال في أولئك (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) [المائدة : ٤٤] وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي فيما أنزلناه وقصصناه عليك ما يقضي هذا الذي أخبرناك به ، وفاعل (جاءَكَ) مضمر على ما ذهب إليه الطبري والرماني ، تقديره ولقد جاءك نبأ أو أنباء.

قال القاضي أبو محمد : والثواب عندي في المعنى أن يقدر جلاء أو بيان ، وقال أبو علي الفارسي: قوله (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) ، في موضع رفع ب «جاء» ، ودخل حرف الجر على الفاعل ، وهذا على مذهب الأخفش في تجويزه دخول من في الواجب ، ووجه قول الرماني أن من لا تزاد في الواجب ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) الآية ، آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به ، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين ، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون ، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه ، وله ذلك كله بحق ملكه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه.


قال القاضي أبو محمد : وهذا أسلوب معنى الآية ، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن و (كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) خبرها ، ويصح أن يكون (إِعْراضُهُمْ) هو اسم كان ويقدر في (كَبُرَ) ضمير وتكون (كَبُرَ) في موضع الخبر ، والأول من الوجهين أقيس ، والنفق السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع ، والسلم الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى ، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم ، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] : [البسيط]

لا يحزن المرء أحجاء البلاد ولا

تبنى له في السماوات السّلاليم

و (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي بعلامة ، ويريد إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء ، وإما أن «تأتيهم بالآية» من إحدى الجهتين ، وحذف جواب الشرط قبل في قوله (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) إيجاز لفهم السامع به ، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم ، و (لَجَمَعَهُمْ) يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين ، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم ، والهدى الإرشاد ، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه تعالى عن قولهم ، و (مِنَ الْجاهِلِينَ) يحتمل في أن لا يعلم أن الله (لَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ) ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده ، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به ، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) وبين قوله لنوح عليه‌السلام (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] وقد تقرر أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء ، قال مكي والمهدي : والخطاب بقوله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) للنبي عليه‌السلام والمراد به أمته ، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : وقر نوح لسنه وشيبته ، وقال قوم : جاء الحمل أشد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل العاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب.

قال القاضي أبو محمد : والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجىء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكبر قدرا وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل :

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨)

هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول ، فعبر عن ذلك كله ب (يَسْمَعُونَ) إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات


المعجزة ، وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا قالوا سمع ، ثم قال تعالى : (وَالْمَوْتى) يريد الكفار ، فعبر ، عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله تعالى والصمم عن وعي كلماته ، قاله مجاهد وقتادة والحسن ، و (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) يحتمل معنيين قال الحسن معناه «يبعثهم الله» بأن يؤمنوا حين يوقفهم.

قال القاضي أبو محمد : فتجيء الاستعارة في هذا التأويل ، في الوجهين في تسميتهم موتى وفي تسمية إيمانهم وهدايتهم بعثا ، والواو على هذا مشركة في العامل عطفت (الْمَوْتى) على (الَّذِينَ) ، و (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) في موضع الحال ، وكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يرشدون حين يسمعون فيؤمنون والكفار حين يرشدهم الله بمشيئته ، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر ، وقرأ الحسن «ثم إليه يرجعون» فتناسبت الآية ، وقال مجاهد وقتادة : (وَالْمَوْتى) يريد الكفار ، أي هم بمثابة الموتى حين لا يرون هدى ولا يسمعون فيعون ، و (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي : يحشرهم يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ) أي إلى سطوته وعقابه (يُرْجَعُونَ) ، وقرأت هذه الطائفة يرجعون بياء والواو على هذا عاطفة جملة كلام على جملة ، (وَالْمَوْتى) مبتدأ و (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) خبره ، فكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يسمعون فيعون والكفار سيبعثهم الله ويردهم إلى عقابه ، فالآية على هذا متضمنة الوعيد للكفار ، والعائد على (الَّذِينَ) هو الضمير في (يَسْمَعُونَ) ، والضمير في (قالُوا) عائد على الكفار ، و (لَوْ لا) تحضيض بمعنى هلا ، قال الشاعر [جرير] : [الطويل]

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم

بني ضوطرى لو لا الكميّ المقنّعا

ومعنى الآية هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من أحد كملك يشهد له أو أكثر أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا ، فأمر عليه‌السلام بالرد عليهم بأن الله عزوجل له القدرة على إنزال تلك الآية ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب ، ويحتمل (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون ، وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) الآية ، المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته ، أي قل لهم إن الله قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان ، وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر ، ويحتمل أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمما لا غير كما تريد بقولك مررت برجل مثلك أي في رجل ، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه الآية ، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما ، قال الطبري وغيره : والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض على ما روي في الأحاديث ، أي : فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتعلمون فيم انتطحتا؟ قلنا لا : قال : فإن الله يعلم وسيقضي بينهما ، وقد قال مكي في المماثلة في أنها تعرف الله تعالى وتعبده ، وهذا قول خلف و (دَابَّةٍ) وزنها فاعلة وهي صفة وضعت موضع الاسم كما قالوا الأعرج والأبرق ، وأزيل منه معنى الصفة وليست بالصفة الغالبة في قولنا العباس


والحارث لأن معنى الصفة باق في الصفة الغالبة ، وقرأت طائفة «ولا طائر» عطفا على اللفظ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «ولا طائر» بالرفع عطفا على المعنى ، وقرأت فرقة «ولا طير» وهو جمع «طائر» وقوله : (بِجَناحَيْهِ) تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال «طائر» السعد والنحس.

وقوله تعالى :

(أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي عمله ، ويقال : «طار لفلان طائر» كذا أي سهمه في المقتسمات ، فقوله تعالى (بِجَناحَيْهِ) إخراج للطائر عن هذا كله ، وقرأ علقمة وابن هرمز «فرطنا في الكتاب» بتخفيف الراء والمعنى واحد ، وقال النقاش معنى «فرطنا» مخففة أخرنا كما قالوا فرط الله عنك المرض أي أزاله ، والأول أصوب ، والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على ترك التقصير والكتاب القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات ، وقيل اللوح المحفوظ ، ومن شيء على هذا القول عام في جميع الأشياء ، وعلى القول بأنه قرآن خاص في الأشياء التي فيها منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم ، و (يُحْشَرُونَ) قالت فرقة حشر البهائم موتها ، وقالت فرقة حشرها بعثها ، واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء ، إنما هي كناية عن العدل وليست بحقيقة فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١)

كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على وحدانية الله تعالى ، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه ، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب ، وقال النقاش نزلت في بني عبد الدار.

قال القاضي أبو محمد : ثم انسحبت على سواهم ، ثم بيّن أن ذلك حكم من الله عزوجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئا الكلام (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) شرط وجوابه ، وقوله : (فِي الظُّلُماتِ) ينوب عن «عمي» ، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس ، والصراط الطريق الواضح.

وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) الآية ، ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء ، والمعنى أرأيتم إذا خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكا أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجئون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم : إنها آلهة؟ بل تدعون الله الخالق الرزاق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم ، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال ، فكيف يجعل إلها من هذه حاله في الشدائد والأزمات؟ وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة «أرأيتكم» بألف مهموزة على الأصل ، لأن الهمزة عين الفعل ، وقرأ نافع بتخفيف الهمزة بين على عرف التخفيف وقياسه ، وروي عنه أنه


قرأها بألف ساكنة وحذف الهمزة ، وهذا تخفيف على غير قياس ، والكاف في أرأيتك زيدا و «أرأيتكم» ليست باسم وإنما هي مجردة للخطاب كما هي في ذلك ، وأبصرك زيدا ونحوه ، ويدل على ذلك أن رأيت بمعنى العلم ، إنما تدخل على الابتداء والخبر ، فالأول من مفعوليها هو الثاني بعينه ، والكاف في أرأيتك زيدا ليست المفعول الثاني كقوله تعالى : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] فإذا لم تكن اسما صح أنها مجردة للخطاب وإذا تجردت للخطاب صح أن التاء ليست للخطاب كما هي في أنت لأن علامتي خطاب لا تجتمعان على كلمة كما لا تجتمع علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام فلما تجردت التاء من الخطاب وبقيت علامة الفاعل فقط استغني عن إظهار تغيير الجمع فيها والتأنيث لظهور ذلك في الكاف وبقيت التاء على حد واحد في الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث وروي عن بعض بني كلاب أنه قال : أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة ، فهذه الكاف صلة في الخطاب و (أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) معناه أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض ونحوها التي يخاف منها الهلاك ، ويدعو إلى هذا التأويل أنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ) لأن ما قد صح حلوله ومضى على البشر لا يصح كشفه ، ويحتمل أن يراد ب (السَّاعَةُ) في هذه الآية موت الإنسان ، وقوله تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) الآية ، المعنى بل لا ملجأ لكم إلا الله ، وأصنامكم مطرحة منسية ، و (ما) بمعنى الذي تدعون إليه من أجله ، ويصح أن تكون (ما) ظرفية ، ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام ، قال الزجّاج هو مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] والضمير في (إِلَيْهِ) يحتمل أن يعود إلى الله تعالى بتقدير فيكشف ما تدعون إليه ، و (إِنْ شاءَ) استثناء لأن المحنة إذا أظلت عليهم فدعوا إليه في كشفها وصرفها فهو لا إله إلا هو كاشف إن شاء ومصيب إن شاء لا يجب عليه شيء ، وتقدم معنى (تَنْسَوْنَ) و (إِيَّاهُ) اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبدا ، وقيل هو مبهم وليس بالقوي لأن الأسماء المبهمة مضمنة الإشارة إلى حاضر نحو ذاك وتلك وهؤلاء ، و «ايا» ليس فيه معنى الإشارة.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ(٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥)

في الكلام حذف يدل عليه الظاهر تقديره فكذبوا فأخذناهم ، ومعناه لازمناهم وتابعناهم الشيء بعد الشيء ، «البأساء» المصائب في الأموال ، (وَالضَّرَّاءِ) في الأبدان ، هذا قول الأكثر ، وقيل قد يوضع كل واحد بدل الآخر ، ويؤدب الله تعالى عباده (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) ، ومن هنالك أدب العباد نفوسهم بالبأساء في تفريق المال ، والضراء في الحمل على البدن في جوع وعري ، والترجي في «لعل» في هذا الموضع إنما هو على معتقد البشر أي لو رأى أحد ذلك لرجا تضرعهم بسببه ، والتضرع التذلل والاستكانة ، وفي المثل


أن الحمى أضرعتني لك ، ومعنى الآية توعد الكفار وضرب المثل لهم ، و «لو لا» تحضيض ، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا ، وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب وإظهار سوء فعله مع تحسر ما عليه ، والمعنى إذ جاءهم أوائل البأس وعلاماته وهو تردد البأساء والضراء ، و (قَسَتْ) معناه صلبت وهي عبارة عن الكفر ونسب التزيين إلى الشيطان وقد قال تعالى في آية أخرى (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام : ١٠٨] لأن تسبب الشيطان ووسوسته تجلب حسن الفكر في قلوبهم ، وذلك المجلوب الله يخلقه ، فإن نسب إلى الله تعالى فبأنه خالقه وإلى الشيطان فبأنه مسببه.

وقوله تعالى :

(فَلَمَّا نَسُوا) الآية ، عبر عن الترك بالنسيان إذا بلغ وجوه الترك الذي يكون معه نسيان وزوال المتروك عن الذهن ، وقرأ ابن عامر فيما روي عنه «فتّحنا» بتشديد التاء ، و (كُلِّ شَيْءٍ) معناه مما كان سد عليهم بالبأساء والضراء من النعم الدنياوية ، فهو عموم معناه خصوص ، و (فَرِحُوا) معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك لا يبيد وأنه دال على رضى الله عنهم ، وهو استدراج من الله تعالى ، وقد روي عن بعض العلماء أنه قال : رحم الله عبدا تدبر هذه الآية (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) وقال محمد بن النضر الحارثي : أمهل القوم عشرين سنة ، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فذلك استدراج ثم تلا (فَلَمَّا نَسُوا) الآية كلها ، و (فَأَخَذْناهُمْ) في هذا الموضع معناه استأصلناهم وسطونا بهم ، و (بَغْتَةً) معناه فجأة ، والعامل فيه (أَخَذْناهُمْ) ، وهو مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه ، و «المبلس» الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال ، وقوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ) الآية ، «الدابر» آخر الأمر الذي يدبره أي يأتي من خلفه ، ومنه قول الشاعر [أمية بن أبي الصلت] [البسيط]

فأهلكوا بعذاب حصّ دابرهم

فما استطاعوا له دفعا ولا انتصروا

وقول الآخر : [الطويل]

وقد زعمت عليا بغيض ولفّها

بأني وحيد قد تقطّع دابري

وهذه كناية عن استئصال «شأفتهم» ومحو آثارهم كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي دبرهم وقرأ عكرمة «فقطع» بفتح القاف والطاء «دابر» بالنصب ، وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل الرسل وتلطف في الأخذ بالبأساء والضراء ليتضرع إليه فيرحم وينعم ، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة ، وذلك حسن في نفسه ونعمة على المؤمنين فحسن الحمد يعقب هذه الأفعال ، وبحمد الله ينبغي أن يختم كل فعل وكل مقالة لا رب غيره.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ


يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)

هذا ابتداء احتجاج على الكفار ، و (أَخَذَ اللهُ) معناه أذهبه وانتزعه بقدرته ، ووحد السمع لأنه مصدر مفرد يدل على جمع ، والضمير في (بِهِ) عائد على المأخوذ ، وقيل على السمع ، وقيل على الهدى الذي يتضمنه المعنى ، وقرأ الأعرج وغيره «به انظر» بضم الهاء ، ورواها المسيبي وأبو وجزة عن نافع ، و (يَصْدِفُونَ) معناه يعرضون وينفرون ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه

وهنّ عن كلّ سوء يتّقى صدقا

قال النقاش : في الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا ، ثم احتج لذلك بقوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) [الأنعام : ٣٦] وبغير ذلك ، والاستفهام في قوله : (مَنْ إِلهٌ) معناه التوقيف ، أي ليس ثمة إله سواه فما بال تعلقكم بالأصنام وتمسككم بها وهي لا تدفع ضررا ولا تأتي بخير ، وتصريف الآيات هو نصب العبر ومجيء آيات القرآن بالإنذار والاعذار والبشارة ونحوه وقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) الآية ، وعيد وتهديد ، و (بَغْتَةً) معناه لا يتقدم عندكم منها علم و (جَهْرَةً) معناه : تبدو لكم مخايله ومباديه ثم تتوالى حتى تنزل ، قال الحسن بن أبي الحسن : (بَغْتَةً) ليلا و (جَهْرَةً) نهارا ، قال مجاهد : (بَغْتَةً) فجأة آمنين و (جَهْرَةً) وهم ينظرون ، وقرأ ابن محيصن «هل يهلك» على بناء الفعل للفاعل ، والمعنى هل تهلكون ألا أنتم لأن الظلم قد تبين في حيزكم ، و (هَلْ) ظاهرها الاستفهام ومعناها التسوية المضمنة للنفي ولا تكون التسوية بها إلا في النفي ، وتكون بالألف في نفي وفي إيجاب ، وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) الآية ، المعنى إنما نرسل الأنبياء المخصوصين بالرسالة ليبشروا بإنعامنا ورحمتنا لمن آمن وينذروا بعذابنا وعقابنا من كذب وكفر ، ولسنا نرسلهم ليقترح عليهم الآيات ويتابعوا شذوذ كل متعسف متعمق ، ثم وعد من سلك طريق البشارة فآمن وأصلح في امتثال الطاعات ، وأوعد الذين سلكوا طريق النذارة فكذب بآيات الله ، وفسق أي خرج عن الحد في كفرانه وعصيانه ، وقال ابن زيد : كل فسق في القرآن فمعناه الكذب ، ذكره عنه الطبري مسندا و (يَمَسُّهُمُ) أي يباشرهم ويلصق بهم ، وقرأ الحسن والأعمش (الْعَذابُ بِما) بإدغام الباء في الباء ، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش «يفسقون» بكسر السين وهي لغة.

قوله عزوجل :

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٥١)

هذا من الرد على القائلين لو لا أنزل عليه آية والطالبين أن ينزل ملك أو تكون له جنة أو أكثر أو نحو


هذا ، والمعنى : لست بهذه الصفات فيلزمني أن أجيبكم باقتراحاتكم ، وقوله (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) يحتمل معنيين أظهرهما أن يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئا مما غيب عنه ، والآخر أنه ليس بإله فكأنه قال لا أقول لكم إني أتصف بأوصاف إله في أن عندي خزائنه وأني أعلم الغيب ، وهذا هو قول الطبري وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية الملك أفضل من البشر ، وليس ذلك بلازم من هذا الموضع ، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعا في نفوسهم وأقرب إلى الله ، والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفيا وهو ظاهر من آيات أخر ، وهي مسألة خلاف ، و (ما يُوحى) يريد القرآن وسائر ما يأتي به الملك ، أي وفي ذلك عبر وآية لمن تأمل ونظر ، وقوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي) الآية ، أي قل لهم إنه لا يستوي الناظر المفكر في الآيات أو المعرض الكافر المهمل للنظر ، فالأعمى والبصير مثالان للمؤمن والكافر ، أي ففكروا أنتم وانظروا وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض و (أَنْذِرْ) عطف على (قُلْ) ، والنبي عليه‌السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق ، وإنما وقع التحضيض هنا بحسب المعنى الذي قصد ، وذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعا من اليائس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة الذين قد قال فيهم أيضا (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦ ، يس : ١٠] فكأنه قيل له هنا : قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا ودعهم ورأيهم لأنفسهم وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع ، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم ، بل الإنذار العام ثابت مستقر ، والضمير في (بِهِ) عائد على (ما يُوحى) «ويخافون» على بابها في الخوف أي الذين يخافون ما تحققوه من أن يحشروا ويستعدون لذلك ، ورب متحقق لشيء مخوف وهو لقلة النظر والحزم لا يخافه ولا يستعد له.

قال القاضي أبو محمد : وقال الطبري : وقيل (يَخافُونَ) هنا بمعنى يعلمون ، وهذا غير لازم ؛ وقوله (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) يعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني ، وقوله (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) يحتمل معنيين فإن جعلناه داخلا في الخوف في موضع نصب على الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي له ولا شفيع ، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين ولأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل ، وإن جعلنا قوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) إخبارا من الله تعالى عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب و (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ترجّ على حسب ما يرى البشر ويعطيه نظرهم.

قوله عزوجل :

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣)

المراد ب (الَّذِينَ) ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي


صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء ، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك ، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود ، وقيل : إنما قال هذه المقالة أبو طالب على جهة النصح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك ، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة ، فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت الآية ، وقال ابن عباس : إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة ، ويكونون هم موضعهم ، ويؤمنون إذا طرد هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية ، أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعل لنا منك مجلسا ، لا يخالطنا فيه العبيد والحلفاء ، واكتب لنا كتابا ، فهمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فنزلت هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد في نزول الآية ، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة ، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة اللهم إلا تكون الآية مدنية ، قال خباب رضي الله عنه : ثم نزلت (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤] الآية فكنا نأتي فيقول لنا : سلام عليكم ونقعد معه ، فإذا أراد يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الكهف : ٢٨] الآية فكان يقعد معنا ، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم و (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا وقيل : بل قوله : (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به ، كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلا ، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت والمراد على هذا التأويل قيل ، هو الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس وإبراهيم ، وقيل الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها وقال بعض القصاص : إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشيا فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا : إنما الآية في الصلوات في الجماعة ، وقيل : قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر ذكره الطبري ، وقيل العبادة قاله الضحاك : وقرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر «بالغدوة والعشي» ، وروي عن أبي عبد الرحمن «بالغدو» بغير هاء ، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات والعشيات» بألف فيهما على الجمع ، وغدوة : معرفة لأنها جعلت علما لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة ، وحملا على ما حكاه الخليل أنه يقال : لقيته اليوم غدوة منونا ، ولأن فيها مع تعيين اليوم ، إمكان تقدير معنى الشياع ، ذكره أبو علي الفارسي و (وَجْهَهُ) في هذا الموضع معناه جهة التزلق إليه كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة و (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) معناه لم تكلف شيئا غير دعائهم فتقدم أنت وتؤخر ويظهر يكون الضمير في (حِسابِهِمْ) و (عَلَيْهِمْ) للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين ، أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعيا لذلك ، والضمير في «تطردهم» عائد على الضعفة من المؤمنين ، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبدا سبب ما قبلها ، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين ، وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا ، أي لا ترزقهم ولا يرزقونك.


قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين ، وذكره المهدوي ، وذكر عن الحسن أنه من حساب عملهم كما قال الجمهور ، و (مِنْ) الأولى للتبعيض والثانية زائدة مؤكدة ، وقوله : (فَتَطْرُدَهُمْ) جواب النفي في قوله : (ما عَلَيْكَ) وقوله : (فَتَكُونَ) جواب النهي في قوله : (ما عَلَيْكَ) وقوله : (فَتَكُونَ) جواب النهي في قوله : (وَلا تَطْرُدِ) و (مِنَ الظَّالِمِينَ) ، معناه يضعون الشيء غير مواضعه وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) الآية (فَتَنَّا) معناه في هذه الآية : ابتلينا ، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوما لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدرا ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة و (لِيَقُولُوا) معناه ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا ، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] أي ليصير مثاله أن يكون لهم عدوا وقول المشركين على هذا التأويل (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) هو على جهة الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في (لِيَقُولُوا) على بابها في لام كي وتكون المقالة منهم استفهاما لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم ، فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن هدي.

قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج ، ومنّ على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين ، أي هؤلاء منّ الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة ، وقوله (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب ، فالله أعلم بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة.

قوله عزوجل :

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٥٥)

قال جمهور المفسرين : (الَّذِينَ) يراد بهم القوم الذين كان عرض طردهم فنهى الله عزوجل عن طردهم ، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ويؤنسهم ، وقال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد (الَّذِينَ) يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره ، وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت الآية بسببهم.

قال القاضي أبو محمد : وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن تشير إلى فرقة ، وقال الفضيل بن


عياض : قال قوم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّا قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية ، وقوله (بِآياتِنا) يعم آيات القرآن وأيضا علامات النبوة كلها ، و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ابتداء والتقدير : سلام ثابت أو أوجب عليكم ، والمعنى : أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، وقيل المعنى أن الله يسلم عليكم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه المهدوي ، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء ، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت ، و (كَتَبَ) بمعنى أوجب ، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلا إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب ، وفي : أين هذا الكتاب اختلاف؟ قيل في اللوح المحفوظ ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه‌السلام في صحيح البخاري : إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي ، وقرأ عاصم وابن عامر : «أنه» بفتح الهمزة في الأولى والثانية ، ف «أنه» الأولى بدل من الرحمة و «أنه» الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره : فأمره أنه غفور رحيم ، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم «فإنه» ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه ، وقال النحاس : هي عطف على الأولى وتكرير لها لطول الكلام ، قال أبو علي. ذلك لا يجوز لأن (مَنْ) لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو تكون شرطية فتحتاج إلى جواب ، وإذا جعلنا «فأنه» تكريرا للأولى عطفا عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «إنه» بكسر الهمزة في الأولى والثانية ، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها ، وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء ، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية ، وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهما ، لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع ، وقال أبو عمرو الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع ، و «الجهالة» في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي تشبه بها ، وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة ، إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم ، قال مجاهد : من الجهالة أن لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر ، ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي عليه‌السلام في استعاذته «أو أجهل أو يجهل عليّ» ، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] : [الوافر]

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة ، و «التوبة» الرجوع ، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه ، والإشارة بقوله (وَكَذلِكَ) إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع العارضين لذلك ، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها ، واللام في قوله (وَلِتَسْتَبِينَ) متعلقة بفعل مضمر تقديره ولتستبين سبيل المجرمين فصلناها ، وقرأ نافع : «ولتستبين» بالتاء أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «سبيل» بالنصب حكاه مكي في المشكل له ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : «ولتستبين سبيل المجرمين» برفع السبيل وتأنيثها ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي


«وليستبين سبيل» برفع السبيل وتذكيرها ، وعرب الحجاز تؤنث السبيل ، وتميم وأهل نجد يذكرونها ، وخص سبيل المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم ، وأيضا فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين ، وتأول ابن زيد أن قوله (الْمُجْرِمِينَ) يعني به الآمرون بطرد الضعفة.

قوله عزوجل :

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (٥٨)

أمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه و (أَنْ أَعْبُدَ) هو بتأويل المصدر التقدير عن عبادة ، ثم حذف الجار فتسلط الفعل ثم وضع (أَنْ أَعْبُدَ) موضع المصدر ، وعبر عن الأصنام ب (الَّذِينَ) على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل ، و (تَدْعُونَ) معناه تعبدون ، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس «قد ضللت» بفتح اللام ، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف : «ضللت» بكسرها ، وهما لغتان و (إِذاً) في هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف (أَهْواءَكُمْ) جمع هوى وهو الإرادة المحبة في المرديات من الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) الآية ، هذه الآية تماد في إيضاح مباينته لهم ، والمعنى قل إني على أمر بين فحذف الموصوف ثم دخلت هاء المبالغة كقوله عزوجل : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ١٤] ويصح أن تكون الهاء في (بَيِّنَةٍ) مجردة للتأنيث ، ويكون بمعنى البيان ، كما قال (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] والمراد بالآية أني أيها المكذبون في اعتقادي ويقيني وما حصل في نفسي من العلم على بينة من ربي (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) الضمير في (بِهِ) عائد على بين في تقدير هاء المبالغة أو على البيان التي هي (بَيِّنَةٍ) بمعناه في التأويل الآخر ، أو على الرب ، وقيل على القرآن وهو وإن لم يتقدم له ذكر جلي فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي عليه‌السلام ، فيصح عود الضمير عليه.

قال القاضي أبو محمد : وللنبي عليه‌السلام أمور أخر غير القرآن وقع له العلم أيضا من جهتها كتكليم الحجارة له ورؤيته للملك قبل الوحي وغير ذلك ، وقال بعض المفسرين الضمير في (بِهِ) عائد على (ما) والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين ، وقيل المراد بها العذاب ، وهذا يترجح بوجهين : أحدهما من جهة المعنى وذلك أن قوله (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي ، والآخر من جهة اللفظ وهو الاستعجال الذي لم يأت في القرآن استعجالهم إلا


العذاب لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن باستعجال ، وقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي القضاء والإنفاذ (يَقُصُّ الْحَقَ) أي يخبر به ، والمعنى يقص القصص الحق ، وهذه قراءة ابن كثير وعاصم ونافع وابن عباس ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر «يقضي الحق» أي ينفذه ، وترجع هذه القراءة بقوله (الْفاصِلِينَ) لأن الفصل مناسب للقضاء ، وقد جاء أيضا الفصل والتفصيل مع القصص ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو أسرع الفاصلين» ، قال أبو عمرو الداني : وقرأ عبد الله وأبيّ ويحيى ابن وثاب وإبراهيم النخعي وطلحة والأعمش «يقضي بالحق» بزيادة باء الجر ، وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير «يقضي الحق وهو خير الفاصلين» ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) الآية ، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال ، وتم التنازع لظهور الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين ، وحكى الزهراوي : أن المعنى لقامت القيامة ، ورواه النقاش عن عكرمة ، وقال بعض الناس : معنى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لذبح الموت.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف جدا لأن قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) [مريم : ٣٩] وذبح الموت هنا لائق فنقله إلى هذا الموضع دون شبه ، وأسند الطبري هذا القول إلى ابن جريج غير مقيد بهذه السورة ، والظن بابن جريج أنه إنما فسر الذي في يوم الحسرة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) يتضمن الوعيد والتهديد.

قوله عزوجل :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٠)

(مَفاتِحُ) جمع مفتح وهذه استعارة عبارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان ، ولو كان جمع مفتاح لقال مفاتيح ، ويظهر أيضا أن (مَفاتِحُ) جمع مفتح بفتح الميم أي مواضع تفتح عن المغيبات ، ويؤيد هذا قول السدي وغيره (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) خزائن الغيب ، فأما مفتح بالكسر فهو بمعنى مفتاح ، وقال الزهراوي : ومفتح أفصح ، وقال ابن عباس وغيره ، الإشارة ب (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) هي إلى الخمسة التي في آخر لقمان ، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] الآية ، لأنها تعم جميع الأشياء التي لم توجد بعد ، ثم قوي البيان بقوله (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تنبيها على أعظم المخلوقات المجاورة للبشر وقوله (مِنْ وَرَقَةٍ) على حقيقته في ورق النباتات ، و (مِنْ) زائدة و (إِلَّا يَعْلَمُها) يريد على الإطلاق وقبل السقوط ومعه وبعده ، (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) يريد في أشد حال التغيب ، وهذا كله وإن كان داخلا في قوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) عند من رآها في الخمس وغيرها ففيه البيان


والإيضاح والتنبيه على مواضع العبر ، أي إذا كانت هذه المحقورات معلومة فغيرها من الجلائل أحرى ، (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف على اللفظ وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق «ولا رطب ولا يابس» بالرفع عطفا على الموضع في (وَرَقَةٍ) ، لأن التقدير وما تسقط ورقة و (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قيل يعني كتابا على الحقيقة ، ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحفظة ، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه ويعارضونه بهذا الكتاب المشار إليه ليتحققوا صحة ما كتبوه ، وقيل : المراد بقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) علم الله عزوجل المحيط بكل شيء ، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد قولا : أن «الورقة» يراد بها السقط من أولاد بني آدم ، و «الحبة» يراد بها الذي ليس يسقط ، و «الرطب» يراد به الحي ، و «اليابس» يراد به الميت ، وهذا قول جار على طريقة الرموز ، ولا يصح عن جعفر بن محمد رضي الله عنه ، ولا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ) الآية ، فيها إيضاح الآيات المنصوبة للنظر ، وفيها ضرب مثل للبعث من القبور ، أن هذا أيضا إماتة وبعث على نحو ما ، والتوفي هو استيفاء عدد ، قال الشاعر [منظور الوبري] : [الرجز]

إنّ بني الأدرم ليسوا من أحد

ولا توفّاهم قريش في العدد

وصارت اللفظة عرفا في الموت ، وهي في النوم على بعض التجوز ، و (جَرَحْتُمْ) معناه كسبتم ، ومنه جوارح الصيد أي كواسبه ، ومنه جوارح البدن لأنها كواسب النفس ، ويحتمل أن يكون (جَرَحْتُمْ) هنا من الجرح كأن الذنب جرح في الدين ، والعرب تقول جرح اللسان كجرح اليد ، وروي عن ابن مسعود أو سلمان شك ابن دينار ، أنه قال : إن هذه الذنوب جراحات فمنها شوى ومنها مقتلة ، ألا وإن الشرك بالله مقتلة ، و (يَبْعَثُكُمْ) يريد الإيقاظ ، ففي (فِيهِ) عائد على النهار قاله مجاهد ، وقتادة والسدي ، وذكر النوم مع الليل واليقظة مع النهار بحسب الأغلب وإن كان النوم يقع بالنهار واليقظة بالليل فنادر ، ويحتمل أن يعود الضمير على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه قاله عبد الله بن كثير ، وقيل يعود على الليل وهذا قلق في اللفظ وهو في المعنى نحو من الذي قبله ، وقرأ طلحة بن مصرف وأبو رجاء «ليقضي أجلا مسمى» ، والمراد بالأجل آجال بني آدم ، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) يريد بالبعث والنشور (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) أي يعلمكم إعلام توقيف ومحاسبة.

قوله عزوجل :

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٦٢)

(الْقاهِرُ) إن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب فيصح أن يجعل (فَوْقَ) ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها العباد من فوقهم ، وإن أخذ (الْقاهِرُ) صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ف (فَوْقَ) لا يجوز أن تكون للجهة ، وإنما هي لعلو القدر والشأن على حد ما تقول : الياقوت فوق الحديد ، (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ) معناه يبثهم فيكم ، و (حَفَظَةً) جمع حافظ مثل كاتب وكتبة ،


والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال ، وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي عليه‌السلام «تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقاله السدي وقتادة ، وقال بعض المفسرين (حَفَظَةً) يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله ، والأول أظهر ، وكلهم غير حمزة قرأ «توفيه رسلنا» على تأنيث لفظ الجمع. كقوله عزوجل : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [الأنعام : ٣٤] وقرأ حمزة «توفاه رسلنا» ، وحجته أن التأنيث غير حقيقي ، وظاهر الفعل أنه ماض كقوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ) [يوسف : ٣٠] ويحتمل أن يكون بمعنى تتوفاه فتكون العلامة مؤنثة ، وأمال حمزة من حيث خط المصحف بغير ألف فكأنها إنما كتبت على الإمالة ، وقرأ الأعمش «يتوفيه رسلنا» بزيادة ياء في أوله والتذكير ، وقوله تعالى : (رُسُلُنا) يريد به على ما ذكر ابن عباس وجميع أهل التأويل ملائكة مقترنين بملك الموت يعاونونه ويأتمرون له ، وقرأ جمهور الناس «لا يفرّطون» بالتشديد ، وقرأ الأعرج «يفرطون» بالتخفيف ، ومعناه يجاوزون الحد مما أمروا به ، قال أبو الفتح : فكما أن المعنى في قراءة العامة لا يقصرون فكذلك هو في هذه لا يزيدون على أمروا به ، ورجح اللفظ في قوله (رُدُّوا) من الخطاب إلى الغيبة ، والضمير في (رُدُّوا) عائد على المتقدم ذكرهم ، ويظهر أن يعود على العباد فهو إعلام برد الكل ، وجاءت المخاطبة بالكاف في قوله (عَلَيْكُمْ) تقريبا للموعظة من نفوس السامعين ، و (مَوْلاهُمُ) لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الرّزق والنصرة والمحاسبة والملك وغير ذلك ، وقوله (الْحَقِ) نعت ل (مَوْلاهُمُ) ، ومعناه الذي ليس بباطل ولا مجاز ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش «الحقّ» بالنصب ، وهو على المدح ، ويصح على المصدر ، (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) ابتداء كلام مضمنه التنبيه وهز نفس السامع ، «الحكم» تعريفه للجنس أي جميع أنواع التصرفات في العباد و (أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) متوجه على أن الله عزوجل حسابه لعبيده صادر عن علمه بهم فلا يحتاج في ذلك إلى إعداد ولا تكلف سبحانه لا رب غيره ، وقيل لعلي بن أبي طالب كيف يحاسب الله العباد في حال واحدة؟ قال : كما يرزقهم في حال واحدة في الدنيا.

قوله عزوجل :

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (٦٤)

هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان ، وتوقيفهم على سوء الفعل في عبادتهم الأصنام وتركهم الذي ينجي من المهلكات ويلجأ إليه في الشدائد ، و (مَنْ) استفهام رفع بالابتداء ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «من ينجّيكم قل الله ينجّيكم» بتشديد الجيم وفتح النون ، وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر عنه وحميد بن قيس ويعقوب «ينجيكم» فيها بتخفيف الجيم وسكون النون ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد في الأولى والتخفيف في الثانية فجمعوا بين التعدية بالألف والتعدية بالتضعيف كما جاء ذلك في قوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] و (ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يراد به شدائدهما ، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد بظلمة حقيقية وما كان بغير ظلمة ، والعرب تقول عام


أسود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب ونحو هذا يريدون به الشدة ، قال قتادة : المعنى من كرب البر والبحر ، وقاله الزجّاج و (تَدْعُونَهُ) في موضع الحال و (تَضَرُّعاً) نصب على المصدر والعامل فيه (تَدْعُونَهُ) ، والتضرع صفة بادية على الإنسان ، (وَخُفْيَةً) معناه الاختفاء والسر ، فكأن نسق القول : تدعونه جهرا وسرا هذه العبارة بمعان زائدة ، وقرأ الجميع غير عاصم : «وخفية» بضم الخاء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «وخفية» بكسر الخاء ، وقرأ الأعمش : «وخيفة» من الخوف وقرأ الحجازيون وأهل الشام : «أنجيتنا» ، وقرأ الكوفيون «أنجانا» على ذكر الغائب ، وأمال حمزة والكسائي الجيم ، و (مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي على الحقيقة ، والشكر على الحقيقة يتضمن الإيمان ، وحكى الطبري في قوله (ظُلُماتِ) أنه ضلال الطرق في الظلمات ونحوه المهدوي أنه ظلام الليل والغيم والبحر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو لفظ عام لأنواع الشدائد في المعنى ، وخص لفظ «الظلمات» بالذكر لما تقرر في النفوس من هول الظلمة ، وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ) الآية : سبق في المجادلة إلى الجواب ، إذ لا محيد عنه ، (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) لفظ عام أيضا ليتضح العموم الذي في الظلمات ، ويصح أن يتأول من قوله (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) تخصيص الظلمات قبل ، ونص عليها لهولها ، وعطف في هذا الموضع ب (ثُمَ) للمهلة التي تبين قبح فعلهم ، أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققكم به أنتم تشركون.

قوله عزوجل :

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٦٧)

هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري ، وقال أبيّ بن كعب وأبو العالية وجماعة معهما : هي للمؤمنين وهم المراد ، قال أبي بن كعب : هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس وعشرين سنة ، ثم لبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض ، واثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم ، وقال الحسن بن أبي الحسن : بعضها للكفار وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها للمؤمنين ، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين ، وروي من حديث جابر وخالد الخزاعي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت (أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال أعوذ بوجهك فلما نزلت (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : أعوذ بوجهك فلما نزلت (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال هذه أهون أو هذه أيسر ، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت في المؤمنين ، وقال الطبري : وغير ممتنع أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار ، وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث


الموطأ وغيره ، وقد قال ابن مسعود : إنها أسوأ الثلاث ، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة ، والحق أنها أيسرها كما قال عليه‌السلام ، و (مِنْ فَوْقِكُمْ) و (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك (مِنْ فَوْقِكُمْ) الرجم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : (مِنْ فَوْقِكُمْ) ولاة الجور (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) سفلة السوء وخدمة السوء.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود ، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ و (يَلْبِسَكُمْ) على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعا فرقا يتشيع بعضها لبعض ، واللبس الخلط ، وقال المفسرون هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة ، وقرأ أبو عبد الله المدني «يلبسكم» بضم الياء من ألبس فهو على هذه استعارة من اللباس ، فالمعنى أو يلبسكم الفتنة شيعا و (شِيَعاً) منصوب على الحال وقد قال الشاعر [النابغة الجعدي] : [المتقارب]

لبست أناسا فأفنيتهم

فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة ، والبأس القتل وما أشبهه من المكاره ، (وَيُذِيقَ) استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار ، وهي استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن ، وقرأ الأعمش «ونذيق» بنون الجماعة ، وهي نون العظمة في جهة الله عزوجل ، وتقول أذقت فلانا العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو هذا ، وفي قوله تعالى (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ) الآية ، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم ، و «الفقه» الفهم ، والضمير في (بِهِ) عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات ، قاله السدي وهذا هو الظاهر ، وقيل يعود على النبي عليه‌السلام وهذا بعيد لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف في قوله : (قَوْمُكَ) ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري ، وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبت قومك» بزيادة تاء ، و (بِوَكِيلٍ) معناه بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى ، والوكيل بمعنى الحفيظ ، وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ ، وقيل لا نسخ في هذا إذ هو خبر.

قال القاضي أبو محمد : والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن ، وليس فيه أنه لا يكون في المسأنف وقوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي غاية يعرف عندها صدقه من كذبه ، (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد محض ووعيد.

قوله عزوجل :

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦٩)

لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، واختلف في معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه.


قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تسلهم وإياه وقيل : بل بالمعنى أيضا إنما أريد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء ، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمه‌الله ، والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء ، (وَإِمَّا) شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب ، وقد لا تلزم كما قال :

إمّا يصبك عدوّ في مناوأة

إلى غير ذلك من الأمثلة ، وقرأ ابن عامر وحده «ينسّنك» بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد ، إلا أن التشديد أكثر مبالغة ، و (الذِّكْرى) والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي ، ووصفهم هنا ب (الظَّالِمِينَ) متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه ، و (فَأَعْرِضْ) في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه ، ويدل على ذلك (فَلا تَقْعُدْ).

وقوله تعالى :

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) الآية ، المراد ب (الَّذِينَ) هم المؤمنون. والضمير في (حِسابِهِمْ) عائد على (الَّذِينَ يَخُوضُونَ) ومن قال إن المؤمنين داخلون في قوله : (فَأَعْرِضْ) قال إن النبي عليه‌السلام داخل في هذا القصد ب (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، والمعنى عندهم على ما روي أن المؤمنين قالوا لما نزلت فلا تقعد معهم قالوا : إذا كنا لا نضرب المشركين ولا نسمع أقوالهم فما يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم فنزلت لذلك (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ).

قال القاضي أبو محمد : فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها ، وقال بعض من يقول إن النبي عليه‌السلام داخل في (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) وإن المؤمنين داخلون في الخطاب الأول أن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه ، وإنما معناها لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم ، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم ، ويحتمل المعنى أن يكون لهم لعلهم إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء ، وأما من قال إن الخطاب الأول هو مجرد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثقل مفارقته مغضبا على الكفار فإنه قال في هذه الآية الثانية إنها مختصة بالمؤمنين ، ومعناها الإباحة ، فكأنه قال فلا تقعد معهم يا محمد وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم لعلهم يتقون الله في ترك ما هم فيه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أشار إليه النقاش ولم يوضحه ، وفيه عندي نظر ، وقال قائل هذه المقالة : إن هذه الإباحة للمؤمنين نسخت بآية النساء قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [النساء : ١٤٠] وكذلك أيضا من قال أولا إلا أن الإباحة كانت بحسب العبادات يقول إن هذه الآية التي في النساء ناسخة لذلك إذ هي مدنية ، والإشارة بقوله : (وَقَدْ نَزَّلَ) [النساء : ١٤٠] إليها بنفسها فتأمله ، وإلا فيجب أن يكون الناسخ


غيرها ، و (ذِكْرى) على هذا القول يحتمل أن يكون ذكروهم ذكرى ، ويحتمل ولكن أعرضوا متى أعرضتم في غير وقت العبادة ذكرى ، و (ذِكْرى) على كل قول يحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل أو رفع بإضمار مبتدأ ، وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدال والخوض فيه ، وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.

قوله عزوجل :

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

هذا أمر بالمشاركة وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ ، قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال ، وقال مجاهد : الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبرا وهو التهديد ، وقوله : (لَعِباً وَلَهْواً) يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي ، (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته.

قال القاضي أبو محمد : ويتخرج في (غَرَّتْهُمُ) هنا وجه آخر من الغرور بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ولما التقينا بالحنيّة غرّني

بمعروفه حتّى خرجت أفوّق

ومنه غر الطائر فرخه ، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر» في كل موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو دينا ، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا ، والضمير في (بِهِ) عائد على الدين ، وقيل : على القرآن ، و (أَنْ تُبْسَلَ) في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو كراهية أن تبسل ، ومعناه تسلم ، قال الحسن وعكرمة ، وقال قتادة : تحبس وترتهن ، وقال ابن عباس : تفضي وقال الكلبي وابن زيد : تجزى ، وهذه كلها متقاربة بالمعنى ، ومنه قول الشنفري: [الطويل]

هنالك لا أرجو حياة تسرّني

سمير اللّيالي مبسلا بالجرائر

وقال بعض الناس هو مأخوذ من البسل أي من الحرام كما قال الشاعر [ضمرة النهشاني] : [الكامل]

بكرت تلومك بعد وهن في النّدى

بسل عليك ملامتي وعتابي

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، و (نَفْسٌ) تدل على الجنس ، ومعنى الآية وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام ، وقوله تعالى : (لَيْسَ


لَها مِنْ دُونِ اللهِ) في موضع الحال ، و (مِنْ) لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة و (دُونِ) ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك ، وهي في هذه الآية الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل :

وأمر دون عبيدة الودم

والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث في جميع الأمور (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) أي وإن تعط كل فدية ، وإن عظمت فتجعلها عدلا لها لا يقبل منها ، وحكى الطبري عن قائل ان المعنى وإن تعدل من العدل المضاد للجور ، ورد عليه وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة.

قال القاضي أبو محمد : ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل ، والقول نص لأبي عبيدة ، و «العدل» في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه ، وقبل : العدل بالكسر المثل والعدل بالفتح القيمة ، و (أُولئِكَ) إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله (تُبْسَلَ نَفْسٌ) ، و (أُبْسِلُوا) معناه أسلموا بما اجترحوه من الكفر ، و «الحميم» الماء الحار ، ومنه الحمام والحمة ومنه قول أبي ذؤيب : [الكامل]

إلا الحميم فإنّه يتبصّع

«وأليم» فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١)

المعنى : قل في احتجاجك : أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله ، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئا موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل (ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) يعني الأصنام ، إذ هي جمادات حجارة وخشب ونحوه ، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال : (وَلا يَضُرُّنا) إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية ، (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) تشبيه ، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدما وهي المشية الجيدة فيرد يمشي القهقرى ، وهي المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدى إلى عبادة الأصنام ، و (هَدانَا) بمعنى أرشدنا ، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمرا فخاب أمله.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول قلق وقوله تعالى : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي و (اسْتَهْوَتْهُ) استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته ، قال أبو عبيدة : ويحتمل هويه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم ، والهوى من هوى يهوي يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل ، ومنه قول الشاعر :

هوى أبني من دار أشرف

فزلّت رجله ويده


وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة ، وقد ذهب إليه أبو علي وقال : هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل.

قال القاضي أبو محمد : والتحرير : أن العرب تقول : هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئا ، وبيستعمل الهوى أيضا في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧] ، ومنه قول شاعر الجن: [السريع]

تهوي إلى مكّة تبغي الهدى

ما مؤمن الجنّ كأنجاسها

وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية ، وقرأ الجمهور من الناس «استهوته الشياطين» وقرأ الحسن «استهوته الشياطون». وقال بعض الناس : هو لحن ، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم ، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين» وأمال استهواه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه الشيطان» بالياء وإفراد الشيطان ، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ، وقوله : (فِي الْأَرْضِ) يحكم بأن (اسْتَهْوَتْهُ) إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع و (حَيْرانَ) في موضع الحال ، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة ، ومعناه ضالا متحيرا وهو حال من الضمير في (اسْتَهْوَتْهُ) والعامل فيه (اسْتَهْوَتْهُ) ، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف ، وقوله (اسْتَهْوَتْهُ) يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته.

قال القاضي أبو محمد : فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائرا وقوله : (لَهُ أَصْحابٌ) يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى ، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضا ، و (ائْتِنا) من الإتيان بمعنى المجيء ، وفي مصحف عبد الله «إلى الهدى بينا» وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله ، وحكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي» في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وب «الأصحاب» أبوه وأمه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل : إن قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) [الأحقاف : ١٧] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت : كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.

قال القاضي أبو محمد : حدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول : من نازع أحدا من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله : (ائْتِنا) ، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد


عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا انتزاع حسن جدا ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) الآية ، من قال إن «الأصحاب» هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال : إن قوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحا وليس بهدى بل هو نفسه كفر وضلال ، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ، ومن قال : إن «الأصحاب» هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه ، (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) اللام لام كي ومعها أن مقدرة ويقدر مفعول ل (أُمِرْنا) مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا ، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم ، ومذهب سيبويه في هذه أن (لِنُسْلِمَ) هو موضع المفعول وأن قولك : أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر : [الطويل]

أردت لأنسى ذكرها

إلى غير ذلك من الأمثلة ، «ونسلم» يعم الدين والاستسلام.

قوله عزوجل :

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

(وَأَنْ أَقِيمُوا) يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدر في (أُمِرْنا) [الأنعام : ٧١] ، وقيل بل هو معطوف على قوله (لِنُسْلِمَ) [الأنعام : ٧١] تقديره لأن نسلم (وَأَنْ أَقِيمُوا).

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن قوله «لأن نسلم» معرب ، وقوله (أَنْ أَقِيمُوا) مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم إلا أن تجعل العطف في «أن» وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله (وَأَنْ أَقِيمُوا) بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى ، ويشبه هذا من جهة «ما» ما حكاه يونس عن العرب : أدخلوا الأول فالأول بالنصب ، وقال الزجّاج أيضا : يحتمل أن يكون (وَأَنْ أَقِيمُوا) معطوفا على (ائْتِنا) [الأنعام : ٧١].

قال القاضي أبو محمد : وفيه بعد ، والضمير في قوله (وَاتَّقُوهُ) عائد على رب العالمين (وَهُوَ) ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر يتضمن التنبيه والتخويف ، وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ) الآية ، (خَلَقَ) ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود ، و (بِالْحَقِ) ، أي لم يخلقها باطلا بغير معنى بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق وغير ذلك ، وقيل المعنى بأن حق له


أن يفعل ذلك ، وقيل (بِالْحَقِ) معناه بكلامه في قوله للمخلوقات (كُنْ) وفي قوله : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصّلت : ١١].

قال القاضي أبو محمد : وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام ، واقتران «كن» بحالة إيجاد المخلوق فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد ، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئا فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه : انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد ، ولله المثل الأعلى ، لا تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير ، أمره واحدة كلمح البصر فكأن معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله (كُنْ) المقترنة بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه ، فعبر عن ذلك (بِالْحَقِ) ، (وَيَوْمَ يَقُولُ) نصب على الظرف وهو معلق بمعمول فعل مضمر ، تقديره : واذكر الخلق والإعادة يوم ، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها : واذكر الإعادة يوم يقول الله للأجساد كن معادة ، ثم يحتمل أن يتم الكلام هنا ثم يبدأ بإخبار أن يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخبارا بالإعادة ، ويحتمل أن يكون تمام الكلام في قوله (فَيَكُونُ) ويكون (قَوْلُهُ الْحَقُ) ابتداء وخبر أو على الاحتمال الذي قبل ف (قَوْلُهُ) فاعل ، قال الزجّاج قوله (وَيَوْمَ) معطوف على الضمير من قوله (وَاتَّقُوهُ) فالتقدير هنا على هذا القول واتقوا العقاب أو الأهوال والشدائد يوم ، وقيل : إن الكلام معطوف على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ) والتقدير على هذا : وهو الذي خلق السماوات والأرض والمعادات إلى الحشر يوم ، ولا يجوز أن تعمل هذه الأفعال لا تقديرك اذكر ولا اتقوا ولا خلق في يوم لأن أسماء الزمان إذا بنيت مع الأفعال فلا يجوز أن تنصب إلا على الظرف ، ولا يجوز أن يتعلق (يَوْمَ) بقوله : (قَوْلُهُ الْحَقُ) لأن المصدر لا يعمل فيما تقدمه ، وقد أطلق قوم أن العامل اذكر أو خلق ، ويحتمل أن يريد ب «يقول» معنى المضي كأنه قال : وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق يوم يقول بمعنى قال لها «كن» ، ف (يَوْمَ) ظرف معطوف على موضع (قَوْلُهُ الْحَقُ) إذ هو في موضع نصب ، ويجيء تمام الكلام في قوله (فَيَكُونُ) ، ويجيء (قَوْلُهُ الْحَقُ) ابتداء وخبرا ويحتمل أن يتم الكلام في (كُنْ) ، ويبتدأ (فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) وتكون «يكون» تامة بمعنى يظهر ، و (الْحَقُ) صفة للقول ، و (قَوْلُهُ) فاعل ، وقرأ الحسن : «قوله» بضم القاف ، (وَلَهُ الْمُلْكُ) ابتداء وخبر (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) «يوم» بدل من الأولى على أن «يقول» مستقبل لا على تقدير مضيه ، وقيل : بل متعلق بما تضمن الملك من معنى الفعل أو بتقدير ثابت أو مستقر يوم ، و (فِي الصُّورِ) قال أبو عبيدة هو جمع صورة فالمعنى يوم تعاد العوالم ، وقال الجمهور هو الصور القرن الذي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث ، ورجحه الطبري بقول النبي عليه‌السلام : إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ ، وقرأ الحسن «في الصور» بفتح الواو وهذه تؤيد التأويل الأول وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض (عالِمُ) رفع بإضمار مبتدأ وقيل نعت ل (الَّذِي) وقرأ الحسن والأعمش «عالم» بالخفض على النعت للضمير الذي في (لَهُ) ، أو على البدل منه من قوله (لَهُ الْمُلْكُ) ، وقد رويت عن عاصم ، وقيل ارتفع «عالم» بفعل مضمر من لفظ الفعل المبني للمفعول تقديره ينفخ فيه عالم على ما أنشد سيبويه : [الطويل]

ليبك يزيد ضارع لخصومة

وآخر ممّن طوّحته الطّوائح

التقدير يبكيه ضارع ، وحكى الطبري هذا التأويل الذي يشبه ليبك يزيد عن ابن عباس ونظيرها من


القرآن قراءة من قرأ (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام ١٣٧] بضم الزاي ورفع الشركاء وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو «يوم ننفخ في الصور» بنون العظمة ، و (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) معناه ما غاب عنا وما حضر ، وهذا يعم جميع الموجودات.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥)

العامل في (إِذْ) فعل مضمر تقديره : واذكر أو قص ، قال الطبري : نبه الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاقتداء بإبراهيم في محاجته قومه إذ كانوا أهل أصنام وكان قوم محمد أهل أصنام.

قال القاضي أبو محمد : وليس يلزم هذا من لفظ الآية ، أما أن جميع ما يجيء من مثل هذا عرضة للاقتداء ، وقرأ السبعة وجمهور الناس : «آزر» بفتح الهمزة التي قبل الألف وفتح الزاي والراء. قال السدي وابن إسحاق وسعيد بن عبد العزيز : هو اسم أبي إبراهيم.

قال القاضي أبو محمد : وقد ثبت أن اسمه تارح فله على هذا القول اسمان كيعقوب وإسرائيل ، وهو في الإعراب على هذا بدل من الأب المضاف في موضع خفض وهو اسم علم ، وقال مجاهد بل هو اسم صنم وهو في موضع نصب بفعل مضمر تقديره : أتتخذ أصناما.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا ضعف ، وقال بعضهم بل هو صفة ومعناه هو المعوج المخطئ.

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا بأن «آزر» إذا كان صفة فهو نكرة ولا يجوز أن تنعت المعرفة بالنكرة ويوجه ذلك على تحامل بأن يقال أريدت فيه الألف واللام وإن لم يلفظها ، وإلى هذا أشار الزجّاج لأنه قدر ذلك فقال لأبيه المخطئ ، وبأن يقال إن ذلك مقطوع منصوب بفعل تقديره اذن المعوج أو المخطئ ، والا تبقى فيه الصفة بهذه الحال.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقيل نصبه على الحال كأنه قال : وإذ قال إبراهيم لأبيه وهو في حال عوج وخطأ ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء ، ويصح مع هذا أن يكون (آزَرَ) اسم أبي إبراهيم ، ويصح أن يكون بمعنى المعوج والمخطئ ، وقال الضحاك : (آزَرَ) بمعنى شيء ، ولا يصح مع هذه القراءة أن يكون (آزَرَ) صفة ، وفي مصحف أبيّ «يا آزر» بثبوت حرف النداء «اتخذت أصناما» بالفعل الماضي ، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه أيضا : «أزرا تتخذ» بألف الاستفهام وفتح الهمزة من آزر وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وإسقاط ألف الاستفهام من «اتخذ» ، ومعنى هذه القراءة عضدا وقوة ومظاهرة على الله تعالى تتخذ ، وهو من نحو قوله تعالى : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) [طه : ٣١] وقرأ أبو إسماعيل رجل من أهل الشام بكسر الهمزة من هذا الترتيب ذكرها أبو الفتح ، ومعناها : أنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة فكأنه قال : أوزرا ومأثما تتخذ أصناما ، ونصبه على هذا بفعل


مضمر ، ورويت أيضا عن ابن عباس ، وقرأ الأعمش : «إزرا تتخذ» بكسر الهمزة وسكون الزاي دون ألف توقيف ، و (أَصْناماً آلِهَةً) مفعولان ، وذكر : أن «آزر» أبا إبراهيم كان نجارا محسنا ومهندسا وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظي عنده آزر لذلك ، وكان على خطة عمل الأصنام تعمل بأمره وتدبيره ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده ، وحينئذ يعبد ذلك الصنم ، فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد كان أبوه يكلفه بيعها ، فكان إبراهيم ينادي عليها : من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ ويستخف بها ويجعلها في الماء منكوسة ، ويقول اشربي ، فلما شهر أمره بذلك وأخذ في الدعاء إلى الله تعالى قال لأبيه هذه المقالة ، و (أَراكَ) في هذا الموضع يشترك فيها البصر والقلب لأنها رؤية قلب ومعرفته وهي متركبة على رؤية بصر ، و (مُبِينٍ) بمعنى واضح ظاهر ، وهو من أبان الشيء ، إذا ظهر ليس بالفعل المتعدي المنقول من بان يبين.

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يكون المنقول ، ويكون المفعول مقدرا تقديره : في ضلال مبين كفركم ، وقيل كان آزر رجلا من أهل كوثا من سواد الكوفة ، قال النقاش وبها ولد إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل كان من أهل حران ، وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه‌السلام والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت ، و (نُرِي) لفظها الاستقبال ومعناها المضي ، وحكى المهدوي : أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه ، و (نُرِي) هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى ثلاثة مفاعيل ، وليس كذلك ولا يصح أن يقال : إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي يدخل عليها علمت في هذا الموضع ، وإنما هي من علم بمعنى عرف ، ثم نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت «أرى» بمنزلتها في هذه الحال ، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر ، وروي في ذلك أن الله عزوجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص لإبراهيم عليه‌السلام بما لم يدركه غيره ، قبله ولا بعده ، وهذا هو قول مجاهد قال : تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي ، وقيل : هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم ، قاله ابن عباس وغيره ، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه ، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره ، وذلك ولا بد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه.

قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان الأخيران يناسبان الآية ، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة ، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنين وبعده ، واليقين يقع له ولغيره بالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو ، و (مَلَكُوتَ) بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت ، وقال عكرمة هو ملكوتي باليونانية أو بالنبطية ، وقرأ «ملكوث» بالثاء مثلثة وقرأ أبو السمال «ملكوت» بإسكان اللام وهي لغة ، و (مَلَكُوتَ) بمعنى الملك ، والعرب تقول لفلان ملكوت


اليمن أي ملكه ، واللام في (لِيَكُونَ) متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من الموقنين أريناه ، والموقن : العالم بالشيء علما لا يمكن أن يطرأ له فيك شك ، وقال الضحاك ومجاهد أيضا إن الإشارة هاهنا «بملكوت السماوات» هي إلى الكواكب والقمر والشمس ، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها رؤية بصر في ظاهر الملكوت ، وروي عن ابن عباس في تفسير (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) قال جلى له الأمور سرها وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا ، فرده لا يرى أعمالهم.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧)

هذه الفاء في قوله (فَلَمَّا) رابطة جملة ما بعدها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية ، و «جن الليل» : ستر وغطى بظلامه ، ويقال الجن ، والأول أكثر ، ويشبه أن يكون الجن والمجن والجنة والجنن وهو القبر مشتقة من جن إذا ستر ، ولفظ هذه القصة يحتمل أن تكون وقعت له في حال صباه وقبل بلوغه كما ذهب إليه ابن عباس. فإنه قال : رأى كوكبا فعبده ، وقاله ناس كثير إن النازلة قبل البلوغ والتكليف ، ويحتمل أن تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفا ، وحكى الطبري هذا عن فرقة وقالت إنه استفهم على جهة التوقيف بغير ألف ، قال وهذا كقول الشاعر : [الطويل]

رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

يريد أهم هم وكما قال الآخر : [الطويل]

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر

يريد أشعيث.

قال القاضي أبو محمد : والبيت الأول لا حجة فيه عندي وقد حكي أن نمرود جبار ذلك الزمن رأى منجموه أن مولودا يولد في سنة كذا في عمله ، يكون خراب الملك على يديه فجعل يتبع الحبالى ويوكل بهن حراسا فمن وضعت أنثى تركت ومن وضعت ذكرا حمل إلى الملك فذبحه ، وأن أم إبراهيم حملت وكانت شابة قوية فسترت حملها فلما قربت ولادتها بعثت تارخ أبا إبراهيم إلى سفر وتحيلت لمضيه إليه ثم خرجت هي إلى غار فولدت فيه إبراهيم وتركته في الغار وقد هيأت عليه ، وكانت تفتقده فتجده يغتذي بأن يمص أصابعه فيخرج له منها عسل وسمن ونحوها ، وحكي بل كان يغذيه ملك وحكي بل كانت تأتيه بألبان النساء اللاتي ذبح أبناؤهن ، فشب إبراهيم أضعاف ما يشب غيره ، والملك في خلال ذلك يحس بولادته ويشدد في طلبه فمكث في الغار عشرة أعوام وقيل خمس عشرة سنة ، وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب وجرت قصة الآية.


قال القاضي أبو محمد : وجلبت هذه القصص بغاية الاختصار في اللفظ وقصدت استيفاء المعاني التي تخص الآية ويضعف عندي أن تكون هذه القصة في الغار لقوله في آخرها (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٧٨] وهي ألفاظ تقتضي محاجة وردا على قوم ، وحاله في الغار بعيدة عن مثل هذا اللهم إلا أن يتأول في ذلك أنه قالها بينه وبين نفسه ، أي قال في نفسه معنى العبارة عنه : يا قوم إني بريء مما تشركون ، وهذا كما قال الشاعر : [الرجز]

ثم انثنى وقال في التّفكير

إنّ الحياة اليوم في الكرور

قال القاضي أبو محمد : ومع هذا فالمخاطبة تبعده ، ولو قال يا قوم إني بريء من الإشراك لصح هذا التأويل وقوي ، فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبوة وعدم التكليف على ما ذهب إليه بعض المفسرين ويحتمله اللفظ فذلك ينقسم على وجهين : إما أن يجعل قوله (هذا رَبِّي) تصميما واعتقادا وهذا باطل لأن التصميم لم يقع من الأنبياء صلوات الله عليهم وإما أن يجعله تعريضا للنظر والاستدلال كأنه قال هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل ويجيء إبراهيم عليه‌السلام كما قال الله تعالى لمحمد عليه‌السلام : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٦] أي مهمل المعتقد ، وإن قلنا بأن القصة وقعت له في حال كفره وهو مكلف فلا يجوز أن يقول (هذا رَبِّي) مصمما ولا معرضا للنظر ، لأنها رتبة جهل أو شك وهو عليه‌السلام منزه معصوم من ذلك كله ، فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام ، كأنه قال لهم : أهذا المنير ربي؟ أو هذا ربي وهو يريد على زعمكم؟ كما قال الله تعالى : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧ ، القصص : ٦٢ ـ ٧٤ ، فصلت : ٤٧] فإنما المعنى على زعمكم ، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركته وأفوله أمارة الحدوث ، وأنه لا يصلح أن يكون ربّا ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ثم في الشمس كذلك ، فكأنه يقول : فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها ، ويعضد عندي هذا التأويل قوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٧٨] ومثل لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك ، وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة والكوكب وهو الزهرة ، في قول قتادة وقال السدي وهو المشتري جانحا للغروب ، فلما أفل بزغ القمر وهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضا من مغربه فسمي ذلك أفولا لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية ، ثم بزغت الشمس على ذلك ، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشرة من الشهر إلى ليلة عشرين ، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي ، وبذلك التجوز في أفول القمر ، و (أَفَلَ) في كلام العرب معناه غاب ، يقال : أين أفلت عنّا يا فلان ، وقيل معناه ذهب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خلاف في عبارة فقط ، وقال ذو الرمة : [الطويل]

مصابيح ليست باللّواتي تقودها

نجوم ولا بالآفلات الدّوالك

وقال (الْآفِلِينَ) فجمع بالياء والنون لما قصد الأرباب ونحو ذلك وعلى هذا يخرج قوله في الشمس


(هذا رَبِّي) فذكر الإشارة إليها لما قصد ربه وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص : «رأى» بفتح الراء والهمزة ، وقرأ نافع بين الفتح والكسر ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء ، بفتح الراء وكسر الهمزة ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) الآية ، البزوغ في هذه الأنوار : أول الطلوع ، وقد تقدم القول فيما تدعو إليه ألفاظ الآية وكون هذا الترتيب في ليلة واحدة من التجوز في أفول القمر لأن أفوله لو قدرناه مغيبه في المغرب لكان ذلك بعد بزوغ الشمس وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار و (يَهْدِنِي) يرشدني وهذا اللفظ يؤيد قول من قال : النازلة في حال الصغر ، و «القوم الضالون» عبدة المخلوقات ، كالأصنام وغيرها وإن كان الضلال أعمّ من هذا فهذا هو المقصود في هذا الموضع.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠)

لما قصد قصد ربه قال هذا فذكر أي هذا المرئيّ أو المنير ونحو هذا ، فلما أفلت الشمس لم يبق شيء يمثل لهم به ، فظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم والتبري من إشراكهم ، وقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) يؤيد قول من قال : النازلة في حال الكبر والتكليف : و (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ب (وَجْهِيَ) ، و (فَطَرَ) معناه : ابتدع في أجرام ، و (حَنِيفاً) معناه مستقيما ، والحنف الميل في كلام العرب ، وأصله في الأشخاص وهو في المعاني مستعار ، فالمعوج في الأجرام أحنف على الحقيقة أي مائل والمستقيم فيها أحنف على تجوز كأنه مال عن كل جهة إلى القوام و (حاجَّهُ) فاعله من الحجة ، قال أتراجعوني في الحجة في توحيد الله ، وقرأت فرقة «أتحاجونني» بإظهار النونين وهو الأصل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أتحاجوني» بإدغام النون الأولى في الثانية ، وقرأ نافع وابن عامر «أتحاجوني» بحذف النون الواحدة فقيل : هي الثانية وقيل هي الأولى ، ويدل على ذلك أنها بقيت مكسورة ، قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن تحذف الأولى لأنها للإعراب وإنما حذفت الثانية التي هي توطئة لياء المتكلم كما حذفت في «ليتي» وفي قول الشاعر : [الوافر]

يسوء الفاليات إذا فليني

وكسرت بعد ذلك الأولى الباقية لمجاورتها للياء و «قد هداني» أي أرشدني إلى معرفته وتوحيده ، وأمال الكسائي «هدان» ، والإمالة في ذلك حسنة وإذا جازت الإمالة في غزا ودعا وهما من ذوات الواو فهي


في «هدان» التي هي من ذوات الياء أجوز وأحسن ، وحكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه‌السلام خف أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقصك ، فقال لهم لست أخاف الذي تشركون به ، لأنه لا قدرة له ولا غناء عنده و (ما) في هذا الموضع بمعنى الذي ، والضمير في (بِهِ) يحتمل أن يعود على الله عزوجل فيكون على هذا في قوله (تُشْرِكُونَ) ضمير عائد على (ما) تقدير الكلام ولا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله في الربوبية ، ويحتمل أن يعود الضمير على (ما) فلا يحتاج إلى غيره ، كأن التقدير ما تشركون بسببه ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) استثناء ليس من الأول و (شَيْئاً) منصوب ب (يَشاءَ) ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريده بضر ، و (عِلْماً) نصب على التمييز وهو مصدر بمعنى الفاعل ، كما تقول العرب : تصبب زيد عرقا ، المعنى تصبب عرق زيد فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم.

قوله عزوجل :

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣)

هذه الآية إلى (تَعْلَمُونَ) هي كلها من قول إبراهيم عليه‌السلام لقومه ، وهي حجته القاطعة لهم ، المعنى : وكيف أخاف الأصنام التي لا خطب لها وهي حجارة وخشب إذا أنا نبذتها ولم أعظمها ، ولا تخافون أنتم الله عزوجل وقد أشركتم به في الربوبية أشياء لم ينزل بها عليكم حجة ، و «السلطان» : الحجة ، ثم استفهم على جهة التقرير (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أي من لم يشرك بالقادر العالم أحق أن يأمن وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، (الَّذِينَ) رفع بالابتداء ، و (يَلْبِسُوا) معناه يخلطوا ، و «الظلم» في هذه الآية الشرك تظاهرت بذلك الأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت هذه الآية أشفق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : أيّنا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما ذلك كما قال لقمان : إن الشرك لظلم عظيم وروي أن عمر بن الخطاب قرأ في المصحف فلما أتى عليها عظمت عليه ، فلبس رداءه ومر إلى أبي بن كعب ، فقال : يا أبا المنذر وسأله عنها ، فقال له إنه الشرك يا أمير المؤمنين فسري عن عمر ، وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي بن كعب رضي الله عنهم ، وقرأ مجاهد ، «ولم يلبسوا إيمانهم بشرك» وقرأ عكرمة «يلبسوا» بضم الياء ، و (الْأَمْنُ) رفع بالابتداء وخبره في المجرور والجملة خبر (أُولئِكَ) ، (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي راشدون ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المراد بهذه الآية إبراهيم خاصة ، وقال عكرمة : نزلت في مهاجري أصحاب محمد عليه‌السلام خاصة ، وقالت فرقة : هي من قول إبراهيم لقومه فهي من الحجة التي أوتيها ، وقال ابن جريج هي من قول قوم إبراهيم ويجيء هذا من الحجة أيضا أن أقروا بالحق وهم قد ظلموا في


الإشراك ، وقال ابن إسحاق وابن زيد وغيرهما : بل ذلك قول من الله عزوجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره ولكل مؤمن تقدم أو تأخر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها ، وهو خبر من الله تعالى (وَتِلْكَ) إشارة إلى هذه الحجة المتقدمة وهي رفع بالابتداء و (حُجَّتُنا) خبره و (آتَيْناها) في موضع الحال ، ويجوز أن تكون (حُجَّتُنا) بدلا من تلك وآتيناها خبر «تلك» «وإبراهيم» مفعول ب «آتيناها» ، والضمير مفعول أيضا ب (آتَيْناها) مقدم و (عَلى) متعلقة بقوله (حُجَّتُنا) وفي ذلك فصل كثير ، ويجوز أن تتعلق على ب «آتيناها» على المعنى إذ أظهرناها لإبراهيم على قومه ونحو هذا ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «نرفع درجات من نشاء» بإضافة الدرجات إلى (مَنْ) ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «نرفع درجات من نشاء».

قال القاضي أبو محمد : وهما مأخذان من الكلام ، والمعنى المقصود بهما واحد ، و (دَرَجاتٍ) على قراءة من نون نصب على الظرف ، و (حَكِيمٌ عَلِيمٌ) صفتان تليق بهذا الموضع إذ هو موضع مشيئة واختيار فيحتاج ذلك إلى العلم والإحكام ، والدرجات أصلها في الأجسام ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية.

قوله عزوجل :

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦)

(وَوَهَبْنا) عطف على (آتَيْناها) [الأنعام : ٨٣] و (إِسْحاقَ) ابنه من سارة ، (وَيَعْقُوبَ) هو ابن إسحاق ، و (كُلًّا) و (نُوحاً) منصوبان على المفعول مقدمان على الفعل ، وقوله : (مِنْ قَبْلُ) لقومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) المعنى وهدينا من ذريته ، والضمير في (ذُرِّيَّتِهِ) قال الزجّاج جائز أن يعود على إبراهيم ، ويعترض هذا بذكر «لوط» عليه‌السلام وهو ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن أخته ويتخرج عند من يرى الخال أبا وقيل : يعود الضمير على نوح وهذا هو الجيد ، و (داوُدَ) يقال هو ابن إيشى (وَسُلَيْمانَ) ابنه ، (وَأَيُّوبَ) هو فيما يقال أيوب بن رازح بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ، (وَيُوسُفَ) هو ابن يعقوب بن إسحاق ، (وَمُوسى وَهارُونَ) هما ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، ونصب (داوُدَ) يحتمل أن يكون ب (وَهَبْنا) ويحتمل أن يكون ب (هَدَيْنا) وهذه الأسماء كلها فيها العجمة والتعريف ، فهي غير مصروفة ، (وَمُوسى) عند سيبويه وزنه مفعل فعلى هذا يتصرف في النكرة ، وقيل وزنه فعلى ، فعلى هذا لا يتصرف في معرفة ولا نكرة ، (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وعد من الله عزوجل لمن أحسن في


عمله وترغيب في الإحسان ، (وَزَكَرِيَّا) فيما يقال هو ابن آذر بن بركنا ، (وَعِيسى) ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزينا ، (وَإِلْياسَ) هو ابن نسي بن فنحاص بن العيزان بن هارون بن عمران ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إدريس هو الياس ورد ذلك الطبري وغيره بأن إدريس هو جد نوح تظاهرت بذلك الروايات ، «وزكرياء» قرأته طائفة بالمد وقرأته طائفة بالقصر «زكريا» ، وقرأ ابن عامر باختلاف عنه ، والحسن وقتادة بتسهيل الهمزة من الياس ، وفي هذه الآية أن عيسى عليه‌السلام من ذرية نوح أو إبراهيم بحسب الاختلاف في عود الضمير من ذريته ، وهو ابن ابنته ، وبهذا يستدل في الأحباس على أن ولد البنت من الذرية ، وإسماعيل هو أكبر ولدي إبراهيم عليه‌السلام وهو من هاجر واليسع قال زيد بن أسلم وهو يوشع بن نون ، وقال غيره : هو أليسع بن أخطوب بن العجوز ، وقرأ جمهور الناس «وأليسع» وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» كأن الألف واللام دخلت على فيعل ، قال أبو علي الفارسي : فالألف واللام في «اليسع» زائدة لا تؤثر معنى تعريف لأنها ليست للعهد كالرجل والغلام ولا للجنس كالإنسان والبهائم ولا صفة غالبة كالعباس والحارث لأن ذلك يلزم عليه أن يكون «اليسع» فعلا ، وحينئذ يجري صفة. وإذا كان فعلا وجب أن يلزمه الفاعل ووجب أن يحكى إذ هي جملة ولو كان كذلك لم يجز لحاق اللام له إذ اللام لا تدخل على الفعل فلم يبق إلا أن تكون الألف واللام زائدة كما هي زائدة في قولهم الخمسة العشر درهما ، وفي قول الشاعر : [الرجز]

يا ليت أمّ العمر كانت صاحبي

بالعين غير منقوطة ، وفي قوله : [الطويل]

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

قال وأما الليسع فالألف واللام فيه بمنزلتها في الحارث والعباس لأنه من أبنية الصفات لكنها بمنزلة «اليسع» في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجىء فيها شيء هو على هذا الوزن كما لم يجىء منها شيء فيه لام تعريف فهما من الأسماء الأعجمية إلا أنهما مخالفان للأسماء فيما ذكر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وأما اليزيد فإنه لما سمي به أزيل منه معنى الفعل وأفردت فيه الاسمية فحصل علما وزيدت فيه الألف واللام لا لتعريف ، وقال الطبري دخلت الألف واللام اتباعا للفظ الوليد ، (وَيُونُسَ) هو ابن متّى ويقال يونس ويونس ويونس وكذلك يوسف ويوسف ويوسف وبكسر النون من يونس والسين من يوسف قرأ الحسن وابن مصرف وابن وثاب وعيسى بن عمر والأعمش في جميع القرآن و (الْعالَمِينَ) معناه عالمي زمانهم.

قوله عزوجل :

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ


آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠)

والمعنى وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات ، ف (مِنْ) للتبعيض ؛ والمراد من آمن منهم نبيا كان أو غير نبي ، ويدخل عيسى عليه‌السلام في ضمير قوله : (وَمِنْ آبائِهِمْ) ، ولهذا قال محمد بن كعب الخال أب والخالة أم ، (وَاجْتَبَيْناهُمْ) معناه تخيرناهم وأرشدناهم وضممناهم إلى خاصتنا وأرشدناهم إلى الإيمان والفوز برضى الله تعالى. قال مجاهد معناه أخلصناهم ، و «الذرية» الأبناء وينطلق على جميع البشر ذرية لأنهم أبناء ، وقال قوم : إن الذرية تقع على الآباء لقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ) [يس : ٤١] يراد به نوع البشر وقوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ) الآية ، (ذلِكَ) إشارة إلى النعمة في قوله : (وَاجْتَبَيْناهُمْ) وإضافة الهدى إلى الله إضافة ملك ، و (لَحَبِطَ) معناه تلف وذهب لسوء غلب عليه ، و (أُولئِكَ) إشارة إلى من تقدم ذكره و (الْكِتابَ) يراد به المصحف والتوراة والإنجيل والزبور ، و (الْحُكْمَ) يراد به اللب والفطنة والفقه في دين الله ، و (هؤُلاءِ) إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى كل كفار في ذلك العصر ، قاله قتادة وابن عباس والسدي وغيرهم ، و (قَوْماً) يراد به مؤمنو أهل المدينة ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم ، فالآية على هذا التأويل وإن كان القصد في نزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة ، وقال قتادة أيضا والحسن بن أبي الحسن المراد ب «القوم» من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين ، وقال أبو رجاء : المراد الملائكة ، والباء في به متعلقة بقوله : (بِكافِرِينَ) والباء في قوله (بِكافِرِينَ) زائدة للتأكيد وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) الآية ، الظاهر في الإشارة ، ب (أُولئِكَ) أنها إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين ومعنى الاقتداء اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة ، وإنما يصح اقتداؤه بجميعهم في العقود والإيمان والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف وأما أعمال الشرائع فمختلفة ، وقد قال عزوجل : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] ويحتمل أن تكون الإشارة ب (أُولئِكَ) إلى قوله (قَوْماً).

قال القاضي أبو محمد : وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم ويقلق بعضها ، قال القاضي ابن الباقلاني : واختلف الناس هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه متعبدا بشرع من كان قبله ، فقالت طائفة كان متعبدا ، واختلف بشرع من؟ فقالت فرقة بشرع إبراهيم ، وفرقة بشرع موسى ، وفرقة بشرع عيسى ، وقالت طائفة بالوقف في ذلك ، وقالت طائفة لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله وهو الذي يترجح.

قال القاضي أبو محمد : ولا يحمل كلام القاضي على أنه لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله في توحيد ولا معتقد لأنّا نجد شرعنا ينبىء أن الكفار الذين كانوا قبل النبي عليه‌السلام كأبويه وغيرهما في النار ولا يدخل الله تعالى أحدا النار إلا بترك ما كلف ، وذلك في قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ


رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وغير ذلك وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب ولا يكلف وإنما يوجب الشرع ، فالوجه في هذا أن يقال إن آدم عليه‌السلام فمن بعده دعا إلى توحيد الله دعاء عاما واستمر ذلك على العالم ، فواجب على الآدمي البالغ أن يبحث على الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرع النظر فيها ، ويؤمن ولا يعبد غير الله ، فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله وهو مع ذلك لم يكفر ولا عبد صنما بل تخلى فأولئك أهل الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة وهم بمنزلة الأطفال والمجانين ، ومن قصر في النظر والبحث فعبد صنما وكفر فهذا تارك للواجب عليه مستوجب العقاب بالنار ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل المبعث ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل بتوحيد الله عزوجل ، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم إذ هي مختلفة وإذ لم يدعهم إليها نبي ، وأما بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل هو وأمته مخاطبون بشرع من تقدم فقالت فرقة لسنا مخاطبين بشيء من ذلك وقالت فرقة نحن مخاطبون بشرع من قبلنا.

قال القاضي أبو محمد : ومن قال من هذه الطائفة إن محمدا عليه‌السلام وأمته مخاطبون بكل شرائع من تقدم على الإطلاق فقد أحال لأن أحكام الشرائع تأتي مختلفة ، وإنما يتحدق قول من قال منها إنّا متعبدون بما صح نقله من شرائع من قبلنا ولم تختلف فيه الشرائع وبالآخر مما اختلفت فيه لأنه الناسخ المتقدم ويرتبط في صحة نقل ذلك إلى ما وقع في القرآن في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حكاية أحكام سالفة كقوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ) [ص : ٤٤] وكقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] وكحكاية تزويج شعيب ابنته بموسى عليهما‌السلام ، وكحديث النبي عليه‌السلام في قضية سليمان بين المرأتين في الولد ونحو ذلك ، ولا يقتضي قولهم أكثر من جواز أن يتعبد بذلك وأما وجوب أن تعبد فغير لازم ، ولا يتعلق عندي أشبه في ذلك من أن يقال النبي عليه‌السلام شرع لأمته أن يصلي الناس صلاته إذا ذكرها ، ثم مثل في ذلك لا على طريق التعليل بقوله عزوجل لموسى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] فننقل نحن هذا إلى غير ذلك من النوازل ونقول إنه كما شرع عندنا المثال في نسيان الصلاة كذلك نشرع هذه الأمثلة كلها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قياس ضعيف ، ولو ذكر النبي عليه‌السلام قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] على جهة التعليل لكانت الحجة به قوية ، ولا يصح أن يقال يصح عندنا نقل ما في الشرائع من جهة من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره صحة ننقلها ، وكذلك ما شرعه الحواريون لا سبيل إلى صحة شرع عيسى عليه‌السلام له ، وقرأ ابن كثير وأهل مكة ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة وعاصم «اقتده» بهاء السكت ثابتة في الوقف والوصل ، وقرأ حمزة والكسائي «اقتد» قال بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف ، وهذا هو القياس ، وهي تشبه ألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء وتوصل غير مبتدأ بها ، فكذلك هذه تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء دون بلوغ الياء ، قال ابن مجاهد وهذا غلط لأنها هاء وقف لا تعرب على حال ، قال أبو علي ووجه ذلك أن تكون ضمير المصدر كأنه قال اقتد الاقتداء ، وقرأ ابن ذكوان على هذه «اقتده» بإشباع الياء بعد الهاء ، وقالت فرقة إن كسر الهاء إنما هو في هاء السكت كما قد تسكن هاء الضمير أحيانا.


قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، ولا تجوز عليه القراءة بإشباع الياء ، وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) الآية ، المعنى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله وتوحيده أستكثر بها وأختص بدنياها ، إن القرآن إلا موعظة ، وذكرى ودعاء لجميع العالمين.

قوله عزوجل :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١)

الضمير في (قَدَرُوا) و (قالُوا) قيل يراد به العرب قاله مجاهد وغيره ، وقيل يراد به بنو إسرائيل ، قاله ابن عباس ، وقيل رجل مخصوص منهم يقال له مالك بن الصيف قاله سعيد بن جبير ، وقيل في فنحاص قاله السدي ، (قَدَرُوا) هو من توفية القدر والمنزلة فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك ، غير أن تعليله بقولهم (ما أَنْزَلَ اللهُ) يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثه الرسل و (حَقَ) نصب على المصدر ، ومن قال إن المراد كفار العرب فيجيء الاحتجاج عليهم بقوله : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) احتجاجا بأمر مشهور منقول بكافة قوم لم تكن العرب مكذبة لهم ، ومن قال إن المراد بني إسرائيل فيجيء الاحتجاج عليهم مستقيما لأنهم يلتزمون صحة نزول الكتاب على موسى عليه‌السلام ، وروي أن مالك بن الصيف كان سمينا فجاء يخاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزعمه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله ألست تقرأ فيما أنزل على موسى أن الله يبغض الحبر السمين» فغضب وقال والله (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) والآية على قول من قال نزلت في قول بني إسرائيل تلزم أن تكون مدنية ، وكذلك حكى النقاش أنها مدنية ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وغيرهما «وما قدّروا» بتشديد الدال «الله حق قدره» بفتح الدال ، وقرأ الجمهور في الأول بالتخفيف وفي الثاني بإسكانه.

وقوله تعالى :

(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) الآية ، أمره الله تعالى أن يستفهم على جهة التقرير على موضع الحجة ، والمراد ب (الْكِتابَ) التوراة ، و (نُوراً وَهُدىً) اسمان في موضع الحال بمعنى نيرا وهاديا ، فإن جعلناه حالا من (الْكِتابَ) فالعامل فيه (أَنْزَلَ) ، وإن جعلناه حالا من الضمير في (بِهِ) فالعامل فيه (جاءَ) ، وقرأ جمهور الناس «تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون» بالتاء من فوق في الأفعال الثلاثة ، فمن رأى أن الاحتجاج على بني إسرائيل استقامت له هذه القراءة وتناسقت مع قوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) ومن رأى أن الاحتجاج إنما هو على كفار العرب فيضطر في هذه القراءة إذ لا يمكن دفعها إلى أن يقول إنه خرج من مخاطبة قريش في استفهامهم وتقريرهم إلى مخاطبة بني إسرائيل بتوبيخهم وتوبيخ أفعالهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مع بعده أسهل من دفع القراءة ، فكأنه على هذا التأويل قال لقريش من


أنزل الكتاب على موسى ، ثم اعترض على بني إسرائيل فقال لهم خلال الكلام تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا» بالياء في الأفعال الثلاثة ، فمن رأى الاحتجاج على قريش رآه إخبارا من الله عزوجل بما فعلته اليهود في الكتاب ، ويحتمل أن يكون الإخبار بذلك لقريش أو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، وما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن فأمته متلقية ذلك ، و (قَراطِيسَ) جمع قرطاس أي بطائق وأوراقا والمعنى يجعلونه ذا قراطيس من حيث يكتب فيها ، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم آيات محمد عليه‌السلام والإخبار بنبوته وجميع ما عليهم فيه حجة وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قال مجاهد وغيره هي مخاطبة للعرب ، فالمعنى على هذا قصد ذكر منة الله عليهم بذلك أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم.

قال القاضي أبو محمد : وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) يصلح على هذا المعنى لمخاطبة من انتفع بالتعليم ومن لم ينتفع به ، ويصح الامتنان بتعليم الصنفين ، وليس من شرط من علم أن يعلم ولا بد ، اما أن التعليم الكامل هو الذي يقع معه التعلم ، وقالت فرقة بل هي مخاطبة لبني إسرائيل ، والمعنى على هذا يترتب على وجهين ، أحدهما أن يقصد به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به ، لأن آباء المخاطبين من بني إسرائيل كانوا علموا أيضا وعلم بعضهم ، وليس ذلك في آباء العرب ، والوجه الآخر أن يكون المقصود منهم أي وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه بعد التعليم ولا انتفعتم به لإعراضكم وضلالكم ثم أمره تعالى بالمبادرة إلى موضع الحجة أي قل : الله هو الذي أنزل الكتاب على موسى ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا أو نحو هذا فقل الله ثم أمره بترك من كفر وأعرض ، وهذه آية منسوخة بآية القتال إن تأولت موادعة ، وقد يحتمل أن لا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا ووعيدا مجردا من موادعة ، و «الخوض» الذهاب فيما لا تسبر حقائقه ، وأصله في الماء ثم يستعمل في المعاني المشكلة الملتبسة ، و (يَلْعَبُونَ) في موضع الحال.

قوله عزوجل :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢)

قوله (هذا) إشارة إلى القرآن ، و (مُبارَكٌ) صفة له ، و (مُصَدِّقُ) كذلك ، وحذف التنوين من (مُصَدِّقُ) للإضافة وهي إضافة غير محضة لم يتعرف بها مصدق ولذلك ساغ أن يكون وصفا لنكرة ، و (الَّذِي) في موضع المفعول ، والعامل فيه مصدر ، ولا يصلح أن يكون (مُصَدِّقُ) مع حذف التنوين منه يتسلط على (الَّذِي) ، ويقدر حذف التنوين للالتقاء وإنما جاء ذلك شاذا في الشعر في قوله : [المتقارب]

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا


ولا يقاس عليه ، و (بَيْنَ يَدَيْهِ) هي حال التوراة والإنجيل لأن ما تقدم فهو بين يدي ما تأخر ، وقالت فرقة (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) القيامة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة ، وقرأ الجمهور «ولتنذر أم القرى» أي أنت يا محمد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «ولينذر» أي القرآن بمواعظه وأوامره ، واللام في (لِتُنْذِرَ) متعلقة بفعل متأخر تقديره ولتنذر أم القرى أو من حولها أنزلناه ، و (أُمَّ الْقُرى) مكة سميت بذلك لوجوه أربعة ، منها أنها منشأ الدين والشرع ومنها ما روي أن الأرض منها دحية ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى ، ومنها ما لحق عن الشرع من أنها قبلة كل قرية فهي لهذا كله أم وسائر القرى بنات ، وتقدير الآية لتنذر أهل أم القرى ، (وَمَنْ حَوْلَها) يريد أهل سائر الأرض ، و (حَوْلَها) ظرف العامل فيه فعل مضمر تقديره ومن استقر حولها ، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح وصفهم وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور ، و (يُؤْمِنُونَ) بالقرآن ويصدقون بحقيقته ، ثم قوى عزوجل مدحهم بأنهم «يحافظون على صلاتهم» التي هي قاعدة العبادات وأم الطاعات ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو بكر عن عاصم «صلواتهم» بالجمع ، ومن قرأ بالإفراد فإنه مفرد يدل على الجميع وإذا انضافت الصلاة إلى ضمير لم تكتب إلا بالألف ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تنضف إلى ضمير.

قوله عزوجل :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٩٣)

هذه ألفاظ عامة فكل من واقع شيئا مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أظلم وقال قتادة وغيره : المراد بهذه الآيات مسيلمة والأسود العنسي ، وذكروا رؤية النبي عليه‌السلام للسوارين وقال السدي : المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الغامدي وكان يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فلما نزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] فقال عبد الله بن سعد من تلقاء نفسه (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ٢٣] فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتبها فهكذا أنزلت ، فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتدا وقال أنا أنزل مثل ما أنزل الله ، وروي عنه أيضا أن النبي عليه‌السلام ربما أملى عليه «والله غفور رحيم» فبدلها هو «والله سميع عليم» فقال النبي عليه‌السلام : ذلك سواء ونحو هذا ، وقال عكرمة : أولها في مسيلمة والآخر في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن بقوله والزارعات زرعا والخابزات خبزا إلى غير ذلك من السخافات.


قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فخصص المتأولون في هذه الآيات ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئا من معانيها كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما وقرأ الجمهور «سأنزل مثل ما أنزل» بتخفيف وقرأ أبو حيوة «سأنزّل» بفتح النون وتشديد الزاي.

قوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) الآية ، جواب (لَوْ) محذوف تقديره لرأيت عجبا أو هولا ونحو هذا وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله و (الظَّالِمُونَ) لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره وغير ذلك من أنواع الظلم الذي هو كفر و «الغمرات» جمع غمرة وهي المصيبة المبهمة المذهلة ، وهي مشبهة بغمرة الماء ، ومنه قول الشاعر [بشر بن أبي خازم] : [الوافر]

ولا ينجي من الغمرات إلّا

براكاء القتال أو الفرار

(وَالْمَلائِكَةُ) ملائكة قبض الروح ، و (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) [المائدة : ٢٨].

وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته ، قال ابن عباس : يضربون وجوههم وأدبارهم ، وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة ، وقيل إن المراد بسط الأيدي في جهنم ، والغمرات كذلك لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ، وقوله : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) حكاية لما تقوله الملائكة ، والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم ، ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا فأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا ، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح ، قال الحسن : هذا التوبيخ على هذا الوجه هو في جهنم ، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر والإهانة كما يقول الرجل لمن يقهره بنفسه على أمر ما أفعل كذا ، لذلك الأمر الذي هو يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليه.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) الآية ، هذه حكاية عن قول الملائكة للكفرة عند قبض أرواحهم ، و (الْهُونِ) الهوان ومنه قول ذي الأصبع : [البسيط]

إليك عني فما ألمى براعية

ترعى المخاض ولا أفضى على الهون

وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة «عذاب الهوان» بالألف.

وقوله تعالى : (تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) لفظ جامع لكل نوع من الكفر ولكنه يظهر منه ومن قوله (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) الإنحاء على من قرب ذكره من هؤلاء الذين ادعوا الوحي وأن ينزلوا مثل ما أنزل الله ، فإنها أفعال بين فيها «قول غير الحق على الله» وبين فيها الاستكبار.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ


شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم ، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل ، و (فُرادى) معناه فردا فردا ، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] :

ترى النعرات الزرق تحت لبانه

فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقرأ أبو حيوة «فرادى» منونا على وزن فعال وهي لغة تميم ، و (فُرادى) قيل هو جمع فرد بفتح الراء ، وقيل جمع فرد بإسكان الراء والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عزوجل بفقد الخول والشفعاء ، فيكون قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تشبيها بالانفراد الأول في وقت الخلقة ، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ) زيادة معان على الانفراد كأنه قال ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا ، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه‌السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا ، و (خَوَّلْناكُمْ) معناه أعطيناكم ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير : [الطويل] :

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا

وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

(وَراءَ ظُهُورِكُمْ) إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجودا.

وقوله تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) الآية ، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها ، قال الطبري : وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى.

قال القاضي أبو محمد : ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر ، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ، وحمزة «بينكم» بالرفع ، وقرأ نافع والكساء «بينكم» بالنصب أما الرفع فعلى وجوه ، أولاها أنه الظرف استعمل اسما وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه ، اسما في قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصّلت : ٥] وكقولهم فيما حكى سيبويه أحمر بن بين العينين ، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي ، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين» في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعا عن العرب وإنما انتزع من الآية ، والآية محتملة ، قال الخليل في العين «والبين» الوصل.

لقوله عزوجل : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) فعلل سوق اللفظة بالآية ، والآية معرضة لغير ذلك ، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين» الوصل وقال : «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله : قد أنصف البين من البين». والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين» على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد ، ويكون في قوله : (تَقَطَّعَ) تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد


ذلك ، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك «بالبين» الذي هو الفرقة ، وأما وجه قراءة النصب فأن يكون ظرفا ويكون الفعل مستندا إلى شيء محذوف وتقديره لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس : مجاهد والسدي وغيرهما ، وجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش وهو أن يكون الفعل مسندا إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه وهو في النية مرفوع ، ومثل هذا عنده قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم» بزيادة ما و (ضَلَ) معناه تلف وذهب ، و (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك الله في الألوهية.

قوله عزوجل :

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٩٦)

هذا ابتداء تنبيه على العبرة والنظر ، ويتصل المعنى بما قبله لأن القصد أن الله لا هذه الأصنام ، وقال مجاهد وأبو مالك هذه إشارة إلى الشق الذي في حبة البر ونواة التمر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والعبرة على هذا القول مخصوصة في بعض الحب وبعض النوى ، وليس لذلك وجه ، وقال الضحاك وقتادة والسدي وغيرهما هذه إشارة إلى فعل الله في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا هو الظاهر الذي يعطي العبرة التامة ، فسبحان الخلاق العليم ، وقال الضحاك : (فالِقُ) بمعنى خالق ، وقال السدي وأبو مالك : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) إشارة إلى إخراج النبات الأخضر والشجر الأخضر من الحب اليابس والنوى اليابس ، فكأنه جعل الخضرة والنضارة حياة واليبس موتا و (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) إشارة إلى إخراج اليابس من النبات والشجر ، وقال ابن عباس وغيره ، بل ذلك كله إشارة إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وإخراج النطفة الميتة من الإنسان الحي ، وكذلك سائر الحيوان والطير من البيض والحوت وجميع الحيوان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أرجح وإنما تعلق قائلو القول الأول بتناسب تأويلهم مع قوله: (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) وهما على هذا التأويل الراجح معنيان متباينان فيهما معتبر ، وقال الحسن : المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، وقوله : (ذلِكُمُ اللهُ) ابتداء وخبر متضمن التنبيه ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي تصرفون وتصدون و (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي شاقه ومظهره ، والفلق الصبح ، وقرأ الجمهور «فالق الإصباح» بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء «فالق الأصباح» بفتح الهمزة جمع صبح ، وقرأت فرقة «فالق الإصباح» بحذف التنوين «فالق» لالتقاء الساكنين ، ونصب


«الإصباح» ب «فالق» كأنه أراد «فالق الإصباح» بتنوين القاف ، وهذه قراءة شاذة ، وإنما جوز سيبويه مثل هذا في الشعر وأنشد عليها : [المتقارب]

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

وحكى النحاس عن المبرد جواز ذلك في الكلام ، وقرأ أبو حيوة وإبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فلق الإصباح» بفعل ماض ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وجاعل الليل» وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وجعل الليل» ، وهذا لما كان «فالق» بمعنى الماضي فكأن اللفظ «فلق الإصباح» وجعل ، ويؤيد ذلك نصب (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ، وقرأ الجمهور «سكنا» وروي عن يعقوب «ساكنا» قال أبو عمرو الداني ولا يصح ذلك عنه ، ونصبه بفعل مضمر إذا قرأنا «وجاعل» لأنه بمعنى المضي ، وتقدير الفعل المضمر وجاعل الليل يجعله سكنا ، وهذا مثل قولك هذا معطي زيد أمس درهما ، والذي حكاه أبو علي في هذا أن ينتصب بما في الكلام من معنى معطي. وقرأ أبو حيوة «والشمس والقمر» بالخفض عطفا على لفظ «الليل» و (حُسْباناً) جمع حساب كشهبان في جمع شهاب ، أي تجري بحساب ، هذا قول ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد ، وقال مجاهد في صحيح البخاري المراد حسبان كحسبان إلى حي وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه.

قوله عزوجل :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨)

هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين ، فالحجة بها على الكافرين قائمة والعبرة بها للمؤمنين ممكنة متعرضة ، و (جَعَلَ) هنا بمعنى خلق لدخولها على مفعول واحد ، وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني في (لِتَهْتَدُوا) لأنه يقدر وهو الذي جعل لكم النجوم هداية ، و (فِي ظُلُماتِ) هي هاهنا على حقيقتها في ظلمة الليل بقرينة النجوم التي لا تكون إلا بالليل ، ويصح أن تكون «الظلمات» هاهنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها الشمس ، وذكر الله تعالى النجوم في ثلاث منافع وهي قوله : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] وقوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥] وقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فالواجب أن يعتقد أن ما عدا هذه الوجوه من قول أهل التأثير باطل واختلاق على الله وكفر به ، و (فَصَّلْنَا) معناه بينا وقسمنا و (الْآياتِ) الدلائل و (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) تخصيص لهم بالذكر وتنبيه منهم لتحصلهم الآية المفصلة المنصوبة ، وغيرهم تمر عليهم الآيات وهم معرضون عنها ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) الآية ، الإنشاء فعل الشيء ، و (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يريد آدم عليه‌السلام ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «فمستقر» بفتح القاف على أنه موضع استقرار ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف على أنه اسم فاعل ، وأجمعوا على فتح الدال من «مستودع» بأن يقدر موضع


استيداع ، وأن يقدر أيضا مفعولا ولا يصح ذلك في مستقر لأن استقر لا يتعدى فيبنى منه مفعول أما أنه روى هارون الأعور عن أبي عمرو «ومستودع» بكسر الدال ، فمن قرأ «فمستقر ومستودع» على أنها موضع استقرار وموضع استيداع علقها بمجرور تقديره فلكم مستقر ومستودع ، ومن قرأ «فمستقر ومستودع» على اسم الفاعل في «مستقر» واسم المفعول في «مستودع» علقها بمجرور تقديره فمنكم مستقر ومستودع واضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع ، فقال الجمهور مستقر في الرحم ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم ، وقال ابن عون : مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالوا قد توفي فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن «مستقر ومستودع» فقال : مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، وقال الحسن بن أبي الحسن : مستقر في القبور ومستودع في الدنيا ، وقال ابن عباس : المستقر الأرض والمستودع عند الرحم ، وقال ابن جبير : المستودع في الصلب والمستقر في الآخرة والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقرارا مطلقا لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقرارا مطلقا ، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر» بالإضافة إلى التي قبلها و «مستودع» بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد ، و (يَفْقَهُونَ) معناه يفهمون وقد تقدم تفسير مثل هذا آنفا.

قوله عزوجل :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩)

(السَّماءِ) في هذا الموضع السحاب ، وكل ما أظلك فهو سماء ، و (ماءً) أصله موه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فجاء ماه فبدلت الهاء بالهمزة لأن الألف والهاء ضعيفان مهموسان ، وقوله : (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) قال بعض المفسرين أي مما ينبت ، وحسن إطلاق العموم في (كُلِّ شَيْءٍ) لأن ذكر النبات قبله قد قيد المقصد وقال الطبري والمراد ب (كُلِّ شَيْءٍ) ما ينمو من جميع الحيوانات والنبات والمعادن وغير ذلك ، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء ، والضمير في (مِنْهُ) يعود على النبات ، وفي الثاني يعود على الخضر ، و (خَضِراً) بمعنى أخضر ، ومنه قوله عليه‌السلام : «الدنيا خضرة حلوة» بمعنى خضراء.

قال القاضي أبو محمد : وكأن «خضرا» إنما يأتي أبدا لمعنى النضارة وليس للون فيه مدخل ، وأخضر إنما تمكنه في اللون ، وهو في النضارة تجوز ، وقوله : (حَبًّا مُتَراكِباً) يعم جميع السنابل وما شاكلها كالصنوبر ، والرمان وغيرها من جميع النبات ، وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ) تقديره ونخرج من النخل و (مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) ابتداء خبره مقدم ، والجملة في موضع المفعول بنخرج ، و «الطلع» أول ما يخرج من النخلة في أكمامه ، و (قِنْوانٌ) جمع قنو وهو العذق بكسر العين وهي الكباسة ، والعرجون عوده الذي ينتظم التمر ،


قرأ الأعرج «قنوان» بفتح القاف ، وقال أبو الفتح ينبغي أن يكون اسما للجمع غير مكسر لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع قال المهدوي وروي عن الأعرج ضم القاف ، وكذلك أنه جمع «قنو» بضم القاف ، قال الفراء وهي لغة قيس وأهل الحجاز ، والكسر أشهر في العرب ، وقنو يثنى قنوان منصرفة النون ، و (دانِيَةٌ) معناه قريبة من المتناول ، قاله ابن عباس والبراء بن عازب والضحاك وقيل قريبة بعضها من بعض ، وقرأ الجمهور «وجنات» بنصب جنات عطفا على قوله نبات ، وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى ورويت عن أبي بكر عن عاصم «وجنات» بالرفع على تقدير ولكم جنات أو نحو هذا ، وقال الطبري وهو عطف على قنوان.

قال القاضي أبو محمد : وقوله ضعيف و (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) بالنصب إجماعا عطفا على قوله : (حَبًّا) ، و (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) قال قتادة : معناه تتشابه في اللون وتتباين في الثمر ، وقال الطبري : جائز أن تتشابه في الثمر وتتباين في الطعم ، ويحتمل أن يريد تتشابه في الطعم وتتباين في المنظر ، وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات ، وقوله تعالى : (انْظُرُوا) وهو نظر بصر يترتب عليه فكرة قلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم «إلى ثمره» بفتح الثاء والميم وهو جمع ثمرة كبقرة وبقر وشجرة وشجر ، وقرأ يحيى بن وثاب ومجاهد «ثمره» بضم الثاء والميم قالا وهي أصناف المال.

قال القاضي أبو محمد : كأن المعنى انظروا إلى الأموال التي تتحصل منه ، وهي قراءة حمزة والكسائي ، قال أبو علي والأحسن فيه أن يكون جمع ثمره كخشبة وخشب وأكمة وأكم ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر

نظيره في المعتل لابة ولوب وناقة ونوق وساحة وسوح.

ويجوز أن يكون جمع جمع فتقول ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر ، وقرأت فرقة «إلى ثمره» بضم الثاء وإسكان الميم كأنها ذهبت إلى طلب الخفة في تسكين الميم ، والثمر في اللغة جنى الشجر وما يطلع ، وإن سمي الشجر ثمارا فتجوز ، وقرأ جمهور الناس و «ينعه» بفتح الياء وهو مصدر ينع يينع إذا نضج ، يقال ينع وأينع ، وبالنضج فسر ابن عباس هذه الآية ، ومنه قول الحجاج «إني لأرى رؤوسا قد أينعت» ، ويستعمل ينع بمعنى استقل واخضر ناضرا ، ومنه قول الشاعر : [المديد]

في قباب حول دسكرة

حولها الزّيتون قد ينعا

وقيل في (يَنْعِهِ) إنه جمع يانع مثل في تاجر وتجر وراكب وركب ذكره الطبري ، وقرأ ابن محيصن وقتادة والضحاك «وينعه» بضم الياء أي نضجه ، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني. «ويانعه» ، وقوله (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) إيجاب تنبيه وتذكير وتقدم تفسير مثله.

قوله عزوجل :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ


بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٠٢)

(جَعَلُوا) بمعنى صيروا ، و (الْجِنَ) مفعول و (شُرَكاءَ) مفعول ثان مقدم ، ويصح أن يكون قوله (شُرَكاءَ) مفعولا أولا و (لِلَّهِ) في موضع المفعول الثاني و (الْجِنَ) بدل من قوله (شُرَكاءَ) ، وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب العابدين للجن ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا ، أما الذين «خرقوا البنين» فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح ، وأما ذاكرو البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله ، فكأن الضمير في (جَعَلُوا) و (خَرَقُوا) لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا ، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد ، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء الجنّ» بخفض النون ، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجن والجن» بالخفض والرفع على تقديرهم الجن ، وقرأ الجمهور «وخلقهم» بفتح اللام على معنى وهو خلقهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو خلقهم» يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين ، وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» بسكون اللام عطفا على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناما شركاء بالله ، وقرأ السبعة سوى نافع «وخرقوا» بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء على المبالغة ، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا» من التحريف كذا قال أبو الفتح ، قال أبو عمرو الداني قرأ ابن عباس «حرفوا» خفيفة الراء ، وابن عمر «حرّفوا» مشددة الراء ، وقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى ، (سُبْحانَهُ) أي تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى و (بَدِيعُ) بمعنى : مبدع ومخترع وخالق ، فهو بناء اسم فاعل كما جاء : سميع بمعنى مسمع و (أَنَّى) بمعنى كيف ومن أين ، فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير ، وقرأ جمهور الناس «ولم تكن» بالتاء على تأنيث علامة الفعل ، وقرأ إبراهيم النخعي : بالياء على تذكيرها وتذكير كان وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال ، فقولك : كان في الدار هند أسوغ من قام في الدار هند ، وحسن القراءة الفصل بالظرف الذي هو الخبر ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون في (تَكُنْ) ضمير اسم الله تعالى ، وتكون الجملة التي هي (لَهُ صاحِبَةٌ) خبر كان ، ويتجه أن يكون في «يكن» ضمير أمر وشأن وتكون الجملة بعد تفسيرا له وخبرا ، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد ، وقوله (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه ، فليس هو عموما مخصصا على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا ثم يخرجه التخصيص ، وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها ، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان : قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه ، وأما قوله (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهذا عموم على الإطلاق ولأن الله عزوجل يعلم كل شيء لا رب غيره ولا معبود سواه ، ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية جاء قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) الآية تتضمن تقريرا وحكما إخلاصا أمرا بالعبادة وإعلاما بأنه حفيظ رقيب على كل فعل وقول وفي هذا الإعلام تخويف وتحذير.


قوله تعالى :

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١٠٥)

أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة ، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس ، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلا ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز ، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عزوجل ، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود ، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفا ولا محدودا ، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول : مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عزوجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة ، وذكر هذا المذهب لمالك فقال : فأين هم عن قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطفّفين : ١٥].

قال القاضي أبو محمد : فقال بدليل الخطاب ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله : إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها ، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحال ذلك بآراء مجردة ، وتمسكوا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا ، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها ، وانفصال آخر ، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية ، ونقول إنه عزوجل تراه الأبصار ولا تدركه ، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته ، وذلك كله محال في أوصاف الله عزوجل ، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته ، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ويحسن معناه ، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي ، فرقوا بين الرؤية والإدراك ، وأما الطبري رحمه‌الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنّا لمدركون فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو باشتراك ، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة ، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة ، قال : وقال بعضهم : إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين ، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعا ولا تستند إلى قرآن ولا حديث ، و (اللَّطِيفُ) المتلطف في خلقه واختراعه وإتقانه ، وبخلقه وعباده و (الْخَبِيرُ) المختبر لباطن أمورهم


وظاهرها ، و «البصائر» جمع بصيرة وهي ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها ، بالاعتبار ، فكأنه قال قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه ، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين ، والبصيرة أيضا هي المعتقد المحصل في قول الشاعر [الأسعر الجعفي] : [الكامل]

راحوا بصائرهم على أكتافهم

وبصيرتي يعدو بها عتد وأي

وقال بعض الناس في هذا البيت البصيرة طريقة الدم ، والشاعر إنما يصف جماعة مشوا به في طلب دم ففتروا فجعلوا الأمر وراء ظهورهم ، وقوله تعالى : (فَمَنْ أَبْصَرَ) و (مَنْ عَمِيَ) عبارة مستعارة فيمن اهتدى ومن ضل ، وقوله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) كان في أول الأمر وقبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفيظا على العالم آخذا لهم بالإسلام والسيف ، وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) الآية ، الكاف في قوله (وَكَذلِكَ) في موضع نصب ب (نُصَرِّفُ) أي ومثل ما بينا البصائر وغير ذلك نصرف الآيات أي نرددها ونوضحها وقرأت طائفة «وليقولوا درست» بسكون اللام على جهة الأمر ويتضمن التوبيخ والوعيد. وقرأ الجمهور «وليقولوا» بكسر اللام على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] إلى ذلك ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «درست» أي يا محمد درست في الكتب القديمة ما تجيبنا به ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» أي أنت يا محمد دارست غيرك في هذه الأشياء أي قارأته وناظرته ، وهذا إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود ، وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة «درست» بإسناد الفعل إلى الآيات كأنهم أشاروا إلى أنها ترددت على أسماعهم حتى بليت في نفوسهم وامحت ، قال أبو علي واللام في (لِيَقُولُوا) على هذه القراءة بمعنى لئلا يقولوا أي صرفت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه الأساطير قديمة قد بليت وتكررت على الأسماع ، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة ، وقرأت فرقة «دارست» كأنهم أرادوا دراستك يا محمد أي الجماعة المشار إليها قبل من سلمان واليهود وغيرهم ، وقرأت فرقة «درست» بضم الراء وكأنها في معنى درست أي بليت ، وقرأ قتادة «درست» بضم الدال وكسر الراء وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه ورويت عن الحسن ، قال أبو الفتح في «درست» ضمير الآيات ، ويحتمل أن يراد عفيت وتنوسيت ، وقرأ أبي بن كعب «درس» وهي في مصحف عبد الله ، قال المهدوي وفي بعض مصاحف عبد الله أيضا «درس» ، ورويت عن الحسن ، وقرأت فرقة «درّس» بتشديد الراء على المبالغة في درس ، وهذه الثلاثة الأخيرة مخالفة لخط المصحف ، واللام في قوله و (لِيَقُولُوا) وفي قوله (وَلِنُبَيِّنَهُ) متعلقان بفعل متأخر تقديره صرفناها ، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «ولتبينه» بالتاء على مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأه فرقة «وليبينه» بياء أي الله تعالى ، وذهب بعض الكوفيين إلى أن لا مضمرة بعد أن المقدرة في قوله (وَلِيَقُولُوا) فتقدير الكلام عندهم وأن لا يقولوا كما أضمروها في قوله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦].

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قلق ولا يجيز البصريون إضمار لا في موضع من المواضع.


قوله عزوجل :

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨)

هذان أمران للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضمنهما الاقتصار على اتباع الوحي وموادعة الكفار. وذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ الإعراض عنهم بالقتال والسوق إلى الدين طوعا أو كرها ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) في ظاهرها رد على المعتزلة القائلين إنه ليس عند الله لطف يؤمن به الكافر وإن الكافر والإنسان في الجملة يخلق أفعاله ، وهي متضمنة أن إشراكهم وغيره وقف على مشيئة الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) كان في أول الإسلام ، وكذلك (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وقوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية ، مخاطبة للمؤمنين والنبي عليه‌السلام ، وقال ابن عباس وسببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إلهه ونهجوه فنزلت الآية ، وحكمها على كل حال باق في الأمة ، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله عزوجل فلا يحل للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو نحوه ، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب (الَّذِينَ) وذلك على معتقد الكفرة فيها ، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة.

وقرأ جمهور الناس «عدوا» بفتح العين وسكون الدال نصب على المصدر ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن زيد «عدوّا» بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهذا أيضا نصب على المصدر وهو من الاعتداء ، وقرأ بعض الكوفيين «عدوا» بفتح العين وضم الدال نصب على الحال أي في حال عداوة لله ، وهو لفظ مفرد يدل على الجمع ، وقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بيان لمعنى الاعتداء المتقدم ، وقوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذنب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه ، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء ، وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ) يتضمن وعدا جميلا للمحسنين ووعيدا ثقيلا للمسيئين.

قوله عزوجل :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠)


الضمير في قوله (وَأَقْسَمُوا) عائد على المشركين المتقدم ذكرهم ، و (جَهْدَ) نصب على المصدر والعامل فيه (أَقْسَمُوا) على مذهب سيبويه لأنه في معناه ، وعلى مذهب أبي العباس المبرد فعل من لفظة ، واللام في قوله (لَئِنْ) لام موطئة للقسم مؤذنة به ، وأما اللام المتلقية للقسم فهي قوله (لَيُؤْمِنُنَ) و (آيَةٌ) يريد علامة ، وحكي أن الكفار لما نزلت (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] أقسموا حينئذ أنها إن نزلت آمنوا فنزلت هذه الآية.

وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهبا وأقسموا فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو في ذلك فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم إذا لم تؤمن بالآيات المقترحة ، وإن شئت أخروا حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل حتى يتوب تائبهم ونزلت هذه الآية ، وقرأ ابن مصرف «ليؤمنن» بفتح الميم والنون وبالنون الخفيفة ، ثم قال تعالى قل لهم يا محمد على جهة الرد والتخطية إنما الآيات بيد الله وعنده ، ليست عندي فتقترح عليّ ، ثم قال (وَما يُشْعِرُكُمْ) فاختلف المتأولون فمن المخاطب بقوله (وَما يُشْعِرُكُمْ) ومن المستفهم ب «ما» التي يعود عليها الضمير الفاعل في «يشعركم» ، فقال مجاهد وابن زيد : المخاطب بذلك الكفار ، وقال الفراء وغيره ، المخاطب بها المؤمنون ، (وَما يُشْعِرُكُمْ) معناه وما يعلمكم وما يدريكم ، وقرأ قوم «يشعركم» بسكون الراء ، وهي على التخفيف ، ويحسنها أن الخروج من كسرة إلى ضمة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية دواد الايادي «إنها» بكسر الألف على القطع واستئناف الإخبار ، فمن قرأ «تؤمنون» بالتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة استقامت له المخاطبة أولا وآخرا للكفار ، ومن قرأ «يؤمنون» بالياء وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي فيحتمل أن يخاطب أولا وآخرا المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بقوله (وَما يُشْعِرُكُمْ) الكفار ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين ، ومفعول (يُشْعِرُكُمْ) الثاني محذوف ويختلف تقديره بحسب كل تأويل ، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي وابن عامر «أنها» بفتح الألف ، فمنهم من جعلها «أن» التي تدخل على الجمل وتأتي بعد الأفعال كعلمت وظننت وأعمل فيها (يُشْعِرُكُمْ) ، والتزم بعضهم «أن لا» زائدة في قوله (لا يُؤْمِنُونَ) وأنّ معنى الكلام وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو تؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] لأن المعنى وحرام على قرية مهلكة رجوعهم ، وكما جاءت في قول الشاعر : [الطويل]

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

قال الزجاج أراد «أبى جوده البخل» ، كما جاءت زائدة في قول الشاعر :

أفمنك لا برق كان وميضه

غاب تسنمه ضرام مثقب

ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى لأنها لو لم تكن زائدة لعاد الكلام عذرا للكفار وفسد المراد بالآية، وضعّف الزجّاج وغيره زيادة لا وقال هذا غلط ، ومنهم من جعل «أنها» بمعنى لعلها وحكاها سيبويه عن الخليل وهو تأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة لا ، وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب : وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [أبو النجم] : [الرجز]


قلت لشيبان ادن من لقائه

أنّى تغذّى القوم من شوائه

فهذه كلها بمعنى لعل وضعّف أبو علي هذا بأن التوقع الذي فيه لا يناسب الآية بعد التي حكمت بأنهم لا يؤمنون ، وترجح عنده في الآية أن تكون «أن» على بابها وأن يكون المعنى قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت «لا يؤمنون» ، فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم ، وتكون الآية نظير قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] أي بالآيات المقترحة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويترتب على هذا التأويل أن تكون «ما» نافية ، ذكر ذلك أبو علي فتأمل وترجح عنده أيضا أن تكون لا زائدة ، وبسط شواهده في ذلك ، وحكى بعض المفسرين أن في آخر الآية حذفا يستغنى به عن زيادة لا ، وعن تأويلها بمعنى لعل وتقديره عندهم أنها إذا جاءت «لا يؤمنون» أو يؤمنون.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف لا يعضده لفظ الآية ولا يقتضيه وتحتمل الآية أن يكون المعنى يتضمن الإخبار أنهم لا يؤمنون ، وقيل لهم وما يشعركم بهذه الحقيقة أي لا سبيل إلى شعوركم بها وهي حق في نفسها وهم لا يؤمنون أن لو جاءت ، و (ما) استفهام على هذا التأويل ، وفي مصحف ابن مسعود «وما يشعركم إذا جاءتهم يؤمنون» بسقوط أنها ، وقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا) المعنى على ما قالت فرقة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار وفي لهيبها في الآخرة لما لم يؤمنوا في الدنيا ثم استأنف على هذا ونذرهم في الدنيا (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

وقالت فرقة إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى ، والترك في الضلالة والكفر ، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لو يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة الله ، فأخبر الله تعالى على هذا التأويل بصورة فعله بهم ، وقرأ أبو رجاء «يذرهم» بالياء ورويت عن عاصم ، وقرأ إبراهيم النخعي «ويقلب ويذرهم» بالياء فيهما كناية عن الله تبارك وتعالى وقرأ أيضا فيما روى عنه مغيرة «وتقلب» بفتح التاء واللام بمعنى وتنقلب أفئدتهم وأبصارهم بالرفع فيهما ، «ويذرهم» بالياء وجزم الراء ، وقالت فرقة قوله (كَما) في هذه الآية إنما هي بمعنى المجازاة أي لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم ، فكأنه قال ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع ، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على الله عزوجل أو على القرآن أو على النبي عليه‌السلام ، و (نَذَرُهُمْ) معناه نتركهم ، وقرأ الأعمش والهمداني «ويذرهم» بالياء وجزم الراء على وجه التخفيف ، والطغيان : التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء ، والعمى التردد والحيرة.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ


يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢)

أخبر الله عزوجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره ، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم ، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره ، وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان ، وقال ابن جريج : نزلت هذه الآية في المستهزئين.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : لا يثبت إلا بسند ، وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء ، ومعناه مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس ، وغيره ونصبه على الحال ، وقال المبرد: المعنى ناحية كما تقول له قبل فلان دين.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فنصبه على هذا هو على الظرف ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم «قبلا» بضم القاف والباء ، وكذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا وقرأ (الْعَذابُ قُبُلاً) [الكهف : ٥٥] مكسورة القاف واختلف في معناه فقال عبد الله بن زيد ومجاهد وابن زيد : «قبل» جمع قبيل أي صنفا صنفا ونوعا نوعا كما يجمع قضيب على قضب وغيره ، وقال الفراء والزجّاج هو جمع قبيل وهو الكفيل «وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء» بصدق محمد وذكره الفارسي وضعفه ، وقال بعضهم قبل الضم بمعنى قبل بكسر القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر ، ومنه قوله تعالى : (قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) [يوسف : ٢٦] ومنه قراءة ابن عمر لقبل عدتهن [الطلاق : ١] أي لاستقبالها ومواجهتها في الزمن وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة «قبلا» بضم القاف وسكون الباء ، وذلك على جهة التخفيف.

وقرأ طلحة بن مصرف «قبلا» بفتح القاف وإسكان الباء ، وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلا» بفتح القاف وكسر الباء وزيادة ياء ، والنصب في هذا كله على الحال ، وقوله عزوجل : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) الضمير عائد إلى الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى يجهلون أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد ، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت «لم يؤمن إلا أن يشاء الله» له ذلك ، وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍ) الآية ، تتضمن تسلية النبي عليه‌السلام وعرض القدوة عليه ، أي إن هذا الذي امتحنت به يا محمد من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء ليبتلي الله أولي العزم منهم ، و (عَدُوًّا) مفرد في معنى الجمع ، ونصبه على المفعول الأول ل (جَعَلْنا) والمفعول الثاني في قوله (لِكُلِّ نَبِيٍ) ، و (شَياطِينَ) بدل من قوله (عَدُوًّا) ، ويصح أن يكون المفعول الأول (شَياطِينَ) والثاني (عَدُوًّا) ، وقوله (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) يريد به المتمردين من النوعين الذين هم من شيم السوء كالشياطين ، وهذا قول جماعة من المفسرين ويؤيده حديث أبي ذر أنه صلى يوما فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعوذ يا أبا ذر من شياطين الجن والإنس» ، قال وإن من الإنس لشياطين؟ قال : نعم. قال السدي وعكرمة : المراد بالشياطين الموكلون بالإنس والشياطين الموكلون بمؤمني الجن ، وزعما أن للجن شياطين موكلين بغوايتهم


وأنهم يوحون إلى شياطين الإنس بالشر والوسوسة يتعلمها بعضهم من بعض ، قالا : ولا شياطين من الإنس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر ، و (يُوحِي) معناه يلقيه في اختفاء فهو كالمناجاة والسرار ، و (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) معناه محسنه ومزينه بالأباطيل ، قاله عكرمة ومجاهد ، و «الزخرفة» أكثر ذلك إنما يستعمل في الشر والباطل ، و (غُرُوراً) نصب على المصدر ومعناه أنهم يغرون به المضللين ويوهمون لهم أنهم على شيء والأمر بخلاف ، والضمير في قوله (فَعَلُوهُ) عائد على اعتقادهم العداوة ، ويحتمل على الوحي الذي تضمنته (يُوحِي). وقوله (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) لفظ يتضمن الأمر بالموادعة منسوخ بآيات القتال ، قال قتادة كل ذر في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال و (يَفْتَرُونَ) معناه يختلفون ويشتقون ، وهو من الفرقة تشبيها بفري الأديم.

قوله عزوجل :

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤)

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) معناه لتميل يقال صغى يصغى وأصلها يصغي بكسر الغين لكن رده حرف الحلق إلى الفتح ويقال صغى يصغو وأصغى يصغي وصغى يصغى و (أَفْئِدَةُ) جمع فؤاد و «يقترفون» معناه يواقعون ويجترحون ، وهي مستعملة أكثر ذلك في الشر والذنوب ونحوه ، والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال على أنها لام كي ، فإما أن تكون معطوفة على (غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] ، وإما أن تكون متعلقة بفعل مؤخر تقديره فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك ، فهي لام صيرورة قاله الزجّاج ، ولا يحتمل أن تكون هذه اللامات على هذه القراءة لام الأمر وضمنها الوعيد ، وتبقى في «لتصغى» على نحو ما جاء من ذلك في قول الشاعر :

ألم يأتيك إلخ ....

إلى غير ذلك مما قد قرىء به. قال أبو الفتح قرأها الحسن بالتسكين في الثلاثة وهي لام كي وهي معطوفة على قوله (غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] التقدير لأجل الغرور «ولتصغى» وإسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال قوي في القياس.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن تحمل قراءة الحسن بسكون اللامات الثلاثة على أنها لام الأمر المضمن الوعيد والتهديد ، والخط على هذه القراءة «ولتصغ» ذكر أبو عمرو الداني أن تسكينه في اللامات الثلاثة وكذلك قال أبو الفتح وذكر أن الحسن إنما يسكن اللامين الثانية والثالثة.

قال القاضي أبو محمد : وذلك يخالفه خط المصحف في «ولتصغى».

قال القاضي أبو محمد : ويتحصل أن يسكن اللام في (وَلِتَصْغى) على ما ذكرناه في قراءة الجماعة ،


قال أبو عمرو : وقراءة الحسن إنما هي «لتصغي» بكسر الغين ، وقراءة إبراهيم النخعي «لتصغي» بضم التاء وكسر الغين من أصغى يصغي ، وكذلك قرأ الجراح بن عبد الله ، وقوله تعالى : (أَفَغَيْرَ) نصب ب (أَبْتَغِي) ، و (حَكَماً) نصب على البيان ، والتمييز ، و (مُفَصَّلاً) معناه مزال الإشكال قد فصلت آياته ، وإن كان معناها يعم في أن الله لا يبتغى سواه حكما في كل شيء وفي كل قضية فإنّا نحتاج في وصف الكلام واتساق المعاني أن ننظر إلى قضية فيما تقدم تكون سببا إلى قوله (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) فهي والله أعلم حكمه عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات. وحكمه بأن جعل الأنبياء أعداء من الجن والإنس ، و (حَكَماً) أبلغ من حاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر ، و (حَكَماً) نصب على البيان أو الحال ، وبهذه الآية خاصمت الخوارج عليا رضي الله عنه في تكفيره بالتحكيم ، ولا حجة لها لأن الله تعالى حكم في الصيد وبين الزوجين فتحكيم المؤمنين من حكمه تعالى.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ).

يتضمن الإشهاد بمؤمنيهم والطعن والتنبيه على مشركيهم وحسدتهم ، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «منزّل» بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، «والكتاب» أولا هو القرآن ، وثانيا اسم جنس التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، ووصفه أهل الكتاب بالعلم عموم بمعنى الخصوص وإنما يريد علماءهم وأحبارهم ، وقوله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين.

قوله عزوجل :

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١١٧)

(تَمَّتْ) في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقا وعدلا ، وليس بتمام من نقص ، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل ، و «الكلمات» ما نزل على عباده ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة» بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن. وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك «كلمات» بالجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات» بالجمع ، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي بعيد معترض ، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى :(صِدْقاً) فيما تضمنه من خبر (وَعَدْلاً) فيما تضمنه من حكم ، وهما مصدران في موضع الحال ، قال الطبري نصبا على التمييز وهذا غير صواب ، و (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه‌السلام (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) [التوبة ٨٣] إلى الخالفين ، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه


السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) [الفتح : ١٥] أو في قوله (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [التوبة : ٨٣] لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج ، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها ، هذا مذهب جماعة من العلماء ، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح ، وفي حرف أبي بن كعب ، «لا مبدل لكلمات الله» ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية ، المعنى فامض يا محمد لما أمرت به وانفذ لرسالتك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك وذكر (أَكْثَرَ) لأن أهل الأرض حينئذ كان أكثرهم كافرين ولم يكن المؤمنون إلا قلة ، وقال ابن عباس : (الْأَرْضِ) هنا الدنيا ، وحكي أن سبب هذه الآية أن المشركين جادلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في أمر الذبائح وقالوا : تأكل ما تقتل وتترك ما قتل الله؟ ، فنزلت الآية ، ووصفهم عزوجل بأنهم يقتدون بظنونهم ويتبعون تخرصهم ، والخرص الحزر والظن وقرأ جمهور الناس «يضل» بفتح الياء.

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يضل» بضم الياء ، ورواه أحمد بن أبي شريح عن الكسائي ، و (مَنْ) في قوله (مَنْ يَضِلُ) في موضع نصب بفعل مضمر تقديره يعلم من ، وقيل في موضع رفع كأنه قال أي يضل عن سبيله ؛ ذكره أبو الفتح وضعفه أبو علي وقيل في موضع خفض بإضمار باء الجر كأنه قال : بمن يضل عن سبيله ، وهذا ضعيف ، قال أبو الفتح هذا هو المراد فحذفت باء الجر ووصل (أَعْلَمُ) بنفسه ، قال ولا يجوز أن يكون (أَعْلَمُ) مضافا إلى (مَنْ) لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه ، وهذه الآية خبر في ضمنه وعيد للضالين ووعد للمهتدين.

قوله عزوجل :

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١١٩)

القصد بهذه الآية النهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة وأنواعها ، فجاءت العبارة أمرا بما يضاد ما قصد النهي عنه ، ولا قصد في الآية إلى ما نسي فيه المؤمن التسمية أو تعمدها بالترك ، وقال عطاء : هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والطعام والذبح وكل مطعوم وقوله (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم بأحكامه وأوامره آخذين ، فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها ، وقوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) الآية ، (ما) استفهام يتضمن التقرير ، وتقدير هذا الكلام أي شيء لكم في أن لا تأكلوا ، ف «أن» في موضع خفض بتقدير حرف الجر ، ويصح أن تكون في موضع نصب على أن لا يقدر حرف جر ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله (ما لَكُمْ) تقديره ما يجعلكم (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ) أي قد بين لكم الحرام من الحلال وأزيل عنكم اللبس والشك.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم» على بناء الفعل للمفعول في


الفعلين وقرأ نافع وحفص عن عاصم «وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم» على بناء الفعل للفاعل في الفعلين ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي «وقد فصّل» على بناء الفعل إلى المفعول ، وقرأ عطية العوفي «وقد فصل» على بناء الفعل للفاعل وفتح الصاد وتخفيفها ، «ما حرّم» على بناء الفعل للمفعول ، والمعنى قد فصل الحرام من الحلال وانتزعه بالنبيين ، و (ما) في قوله (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) يريد بها من جميع ما حرم كالميتة وغيرها ، وهي في موضع نصب بالاستثناء والاستثناء منقطع ، وقوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً) يريد الكفرة المحادين المجادلين في المطاعم بما ذكرناه من قولهم : تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلون» بفتح الياء على معنى إسناد الضلال إليهم في هذه السورة وفي يونس (رَبَّنا لِيُضِلُّوا) [الآية : ٨٨] وفي سورة إبراهيم (أَنْداداً لِيُضِلُّوا) [الآية: ٣٠] وفي الحج (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَ) [الآية : ٩] وفي لقمان (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الآية : ٦] وفي الزمر (أَنْداداً لِيُضِلَ) [الزمر : ٨].

وقرأ نافع وابن عامر كذلك في هذه وفي يونس وفي الأربعة التي بعد هذه يضمان الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم ، وهذه أبلغ في ذمهم لأن كل مضل ضال وليس كل ضال مضلا ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي في المواضع الستة «ليضلون» بضم الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم ، ثم بين عزوجل في ضلالهم أنه على أقبح الوجوه وأنه بالهوى لا بالنظر والتأمل ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) معناه في غير نظر فإن لمن يضل بنظر ما بعض عذر لا ينفع في أنه اجتهد ، ثم توعدهم تعالى بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ).

قوله عزوجل :

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) (١٢٠)

هذا نهي عام من طرفيه لأن (الْإِثْمِ) يعم الأحكام والنسب اللاحقة للعصاة عن جميع المعاصي ، والظاهر والباطن يستوفيان جميع المعاصي ، وقد ذهب المتأونون إلى أن الآية من ذلك في مخصص ، فقال السدي : ظاهره الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله ، وباطنه اتخاذ الأخدان ، وقال سعيد بن جبير : الظاهر ما نص الله على تحريمه من النساء بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] ، وقوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) [النساء : ٢٢] ، والباطن الزنا ، وقال ابن زيد : الظاهر التعري والباطن الزنا.

قال القاضي أبو محمد : يريد التعري الذي كانت العرب تفعله في طوافها ، قال قوم : الظاهر الأعمال والباطن المعتقد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن لأنه عاد ثم توعد تعالى كسبة الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك وتحملوا ثقله ، و «الاقتراف» الاكتساب.

قوله عزوجل :

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ


لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١)

المقصد بهذه الآية النهي عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين تتركون ما قتل الله ، والنهي أيضا عما ذبح للأنصاب ، ومع ذلك فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبح الإسلام ، وبهذا العموم تعلق محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن يزيد الخطمي والشعبي وغيرهم فيما تركت التسمية عليه نسيانا أو عمدا لم يؤكل ، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم :

يؤكل ما ذبح ولم يسم عليه نسيانا ، ولا يؤكل ما لم يسم عليه عمدا ، وهذا قول الجمهور ، وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال : تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا ، وعن ربيعة أيضا قال عبد الوهاب : التسمية سنة فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه ، وإذا تركها عمدا فقال مالك لا تؤكل ، فحمل بعض أصحابه قوله لا تؤكل على التحريم ، وحمله بعضهم على الكراهة ، وقال أشهب : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا ، وقال نحوه الطبري ، وذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وتشرع ، وقال قوم نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب ، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن ، والضمير في (إِنَّهُ) من قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل في قوله (وَلا تَأْكُلُوا) ويحتمل أن يعود على ترك الذكر الذي يتضمنه قوله (لَمْ يُذْكَرِ) ، والفسق الخروج عن الطاعة ، هذا عرفه في الشرع ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ) الآية ، قال عكرمة عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس ، وذلك أنهم كانوا يوالون قريشا على عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخاطبوهم منبهين على الحجة التي ذكرناها في أمر الذبح من قولهم تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله ، فذلك من مخاطبتهم هو الوحي الذي عنى ، و «الأولياء» قريش ، و «المجادلة» هي تلك الحجة ، وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير : بل (الشَّياطِينَ) الجن واللفظة على وجهها وكفرة الجن أولياء الكفرة قريش ، ووحيهم إليهم كان بالوسوسة حتى ألهموهم لتلك الحجة أو على ألسنة الكهان ، وقال أبو زميل : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إن إسحاق يعني المختار زعم أنه أوحي إليه الليلة. فقال ابن عباس صدق ، فنفرت فقال ابن عباس : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) ثم نهى الله عزوجل عن طاعتهم بلفظ يتضمن الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه المؤمن بمشرك ، وحكى الطبري عن ابن عباس قولا : إن الذين جادلوا بتلك الحجة هم قوم من اليهود.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن اليهود لا تأكل الميتة ، أما أن ذلك يتجه منهم على جهة المغالطة كأنهم يحتجون عن العرب.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ


أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) (١٢٣)

تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك الإثم وباطنه وغير ذلك ، وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم وغير ذلك ، فمثل الله عزوجل في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا ، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عزوجل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين.

وقرأ جمهور الناس «أو من» بفتح الواو فهي ألف استفهام دخلت على واو عطف جملة على جملة ، و (مَنْ) بمعنى الذي ، وقرأ طلحة بن مصرف : «أفمن» بالفاء ، والمعنى قريب من معنى الواو ، والفاء في قوله (فَأَحْيَيْناهُ) عاطفة ، و (نُوراً) أمكن ما يعنى به الإيمان و (يَمْشِي بِهِ) يراد به جميع التصرف في الأفعال والأقوال ، قال أبو علي : ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم القيامة ، و (فِي النَّاسِ) متعلق ب (يَمْشِي) ، ويصح أن يتعلق ب (كانَ مَيْتاً) وقوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ) بمنزلة كمن هو ، والكاف في قوله (كَذلِكَ زُيِّنَ) متعلقة بمحذوف يدل ظاهر الكلام عليه ، تقديره وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نورا كذلك زين للكافرين ، ويحتمل أن يتعلق بقوله (كَمَنْ مَثَلُهُ) أي كهذه الحال هو التزيين ، وقرأ نافع وحده «ميّتا» بكسر الياء وشدها ، وقرأ الباقون «ميتا» بسكون الياء ، قال أبو علي : التخفيف كالتشديد ، والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، وقالت طائفة إن هذه الألفاظ التي مثل بها وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر فإنما نزلت في مخصوصين ، فقال الضحاك : المؤمن الذي كان ميتا فأحيي عمر بن الخطاب ، وحكى المهدوي عن بعضهم أنه حمزة بن عبد المطلب ، وقال عكرمة : عمار بن ياسر ، وقال الزجاج : جاء في التفسير أنه يعني به النبي عليه‌السلام.

قال القاضي أبو محمد : واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل بن هشام ، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) وهذه الآية تتضمن إنذارا بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم ، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في المستهزئين.

قال القاضي أبو محمد : يعني أن التمثيل لهم ، و (جَعَلْنا) في هذه الآية بمعنى صيرنا ، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول (مُجْرِمِيها) والثاني (أَكابِرَ) وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ، وقدم الأهم إذ لعلة كبرهم أجرموا ، ويصح أن يكون المفعول الأول (أَكابِرَ) و (مُجْرِمِيها) مضاف والمفعول الثاني قوله (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) و (لِيَمْكُرُوا) نصب بلام الصيرورة ، والأكابر جمع أكبر كما الأفاضل جمع أفضل ، ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة ، ومنه قول الشاعر [الأعشى] : [الكامل]

إنّ الأحامرة الثّلاثة أتلفت

مالي وكنت بهنّ قدما مولعا

يريد الخمر واللحم والزعفران ، و «المكر» التخيل بالباطل والخديعة ونحوهما ، وقوله (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) يريد لرجوع وبال ذلك عليهم ، (وَما يَشْعُرُونَ) أي ما يعلمون ، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي البدن ، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس ، وفي ذلك مبالغة في


صفة جهله ، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة.

قوله عزوجل :

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥)

هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم ، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا إنما يقلق لنا البحر إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك ، فرد الله عزوجل عليهم بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله ، قال الزجاج : قال بعضهم : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم ، و (أَعْلَمُ) معلق العمل ، والعامل في (حَيْثُ) فعل تقديره : يعلم حيث ، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة ، و (عِنْدَ اللهِ) متعلقة ب (سَيُصِيبُ) ، ويصح أن تتعلق ب (صَغارٌ) لأنه مصدر ، قال الزجّاج : التقدير صغار ثابت عند الله ، قال أبو علي : وهو متعلق ب (صَغارٌ) دون تقدير ثابت ولا شيء غيره ، وقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ، الآية ، «من» أداة شرط ، و (يَشْرَحْ) جواب الشرط ، والآية نص في أن الله عزوجل يريد هدى المؤمن وضلال الكافر ، وهذا عند جميع أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى ، و «الهدى» في هذه الآية هو خلق الإيمان في القلب واختراعه ، و «شرح الصدر» هو تسهيل الإيمان وتحبيبه وإعداد القلب لقبوله وتحصيله ، والهدى لفظة مشتركة تأتي بمعنى الدعاء كقوله عزوجل : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] وتأتي بمعنى إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق والأعمال المفضية إليها ، كقوله تعالى : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٥] وغير ذلك ، إلا أنها في هذه الآية وفي قوله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ١٧٨] ، وفي قوله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] ونحوها لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان واختراعه ، إذ الوجوه من الهدى تدفعها قرائن الكلام مما قبل وبعد ، وقوله (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) ألفاظ مستعارة هاهنا إذ الشرح التوسعة والبسط في الأجسام وإذا كان الجرم مشروحا موسعا كان معدا ليحل فيه ، فشبه توطئة القلب وتنويره وإعداده للقبول بالشرح والتوسيع ، وشبه قبوله وتحصيله للإيمان بالحلول في الجرم المشروح ، و «الصدر» عبارة عن القلب وهو المقصود ، إذ الإيمان من خصاله ، وكذلك الإسلام عبارة عن الإيمان إذ الإسلام أعم منه ، وإنما المقصود هنا الإيمان فقط بدليل قرينة الشرح والهدى ، ولكنه عبر بالإسلام إذ هو أعم وأدنى الهدى حب الأعمال وامتثال العبادات ، وفي (يَشْرَحْ) ضمير عائد على الهدى ، قال : وعوده على الله عزوجل أبين.


قال القاضي أبو محمد : والقول بأن الضمير عائد على المهدي قول يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأفعال وينبغي أن يعتقد ضعفه وأن الضمير إنما هو عائد على اسم الله عزوجل فإن هذا يعضده اللفظ والمعنى ، وروي عن النبي عليه‌السلام أنه لما نزلت هذه الآية ، «قالوا يا رسول الله ، كيف يشرح الصدر؟ قال : إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قالوا وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال : نعم : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الفوت». والقول في قوله (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) كالقول في قوله (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) ، وقوله (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) ألفاظ مستعارة تضاد شرح الصدر للإسلام ويجعل في هذا الموضع تكون بمعنى يحكم له بهذا الحكم ، كما تقول هذا يجعل البصرة مصرا أي يحكم لها بحكمها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى يقرب من صير ، وحكاه أبو علي الفارسي ، وقال أيضا يصح أن يكون «جعل» بمعنى سمى ، كما قال تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] أي سموهم ، قال وهذه الآية تحتمل هذا المعنى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الوجه يضعف في هذه الآية ، وقرأ جمهور الناس والسبعة سوى ابن كثير «ضيّقا» بكسر الياء وتشديدها ، وقرأ ابن كثير «ضيقا» بسكون الياء وكذلك قرأ في الفرقان ، قال أبو علي وهما بمنزلة الميّت والميت ، قال الطبري وبمنزلة الهيّن والليّن والهين واللين ، قال ويصح أن يكون الضيق مصدرا من قولك ضاق والأمر يضيق ضيقا وضيقا ، وحكي عن الكسائي أنه قال الضّيق بشد الضاد وكسرها في الأجرام والمعاش ، والضّيق بفتح الضاد : في الأمور والمعاني ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «حرجا» بفتح الراء وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «حرجا» بكسرها ، قال أبو علي فمن فتح الراء كان وصفا بالمصدر كما تقول رجل قمن بكذا وحرى بكذا ودنف ، ومن كسر الراء فهو كدنف وقمن وفرق ، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها يوما بفتح الراء فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء ، فقال : ابغوني رجلا من كنانة وليكن راعيا من بني مدلج ، فلما جاءه قال له : يا فتى ما الحرجة عندكم ، قال : الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية.

قال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير ، وقوله تعالى : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي كأن هذا الضيق الصدر يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء ، قال بهذا التأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي ، وقال ابن جبير : المعنى لا يجد مسلكا إلا صعدا من شدة التضايق ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «يصعد» بإدغام التاء من يتصعد في الصاد ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «يصّاعد» بإدغام التاء من يتصاعد في السماء ، وقرأ ابن كثير وحده «يصعد» ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وابن مصرف «يتصعد» بزيادة تاء ، و (فِي السَّماءِ) يريد من سفل إلى علو في الهواء ، قال أبو علي : ولم يرد السماء المظلة بعينها ، وإنما هو كما قال سيبويه والقيدود : الطويل في غير سماء ، يريد في غير ارتفاع صعدا قال ومن هذا قوله عزوجل : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] أي في وجهة الجو.


قال القاضي أبو محمد : وهذا على غير من تأول تقلب الوجه أنه الدعاء إلى الله عزوجل في الهداية إلى قبلة فإن مع الدعاء يستقيم أن يقلب وجهه في السماء المظلة حسب عادة الداعين إذ قد ألفوا مجيء النعم والآلاء من تلك الجهة ، وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها الهواء ، و (يَصَّعَّدُ) معناه يعلو ، و (يَصَّعَّدُ) معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه. ومنه قول عمر بن الخطاب :

«ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح» ، إلى غير ذلك من الشواهد ، «ويصاعد» في المعنى مثل «يصعد» ، وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي وكما كان هذا كله من الهدى والضلال بإرادة الله عزوجل ومشيئته كذلك يجعل الله الرجس ، قال أهل اللغة (الرِّجْسَ) يأتي بمعنى العذاب ويأتي بمعنى النجس ، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال : (الرِّجْسَ) كل ما لا خير فيه وقال بعض الكوفيين : الرجس والنجس لغتان بمعنى ، «ويجعل» في هذا الموضع يحسن أن تكون بمعنى يلقي كما تقول جعلت متاعك بعضه على بعض ، وكما قال عزوجل (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) [الأنفال : ٣٧].

قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى في جعل حكاه أبو علي الفارسي ، ويحسن أن تكون (يَجْعَلْ) في هذه الآية بمعنى يصير ويكون المفعول الثاني في ضمن (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، كأنه قال قرين الذين أو لزيم الذين ونحو ذلك.

قوله عزوجل :

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٧)

هذا إشارة إلى القرآن والشرع الذي جاء به محمد عليه‌السلام ، قاله ابن عباس ، و «الصراط» الطريق ، وإضافة الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره و (مُسْتَقِيماً) حال مؤكدة وليست كالحال في قولك جاء زيد راكبا بل هذه المؤكدة تتضمن المعنى المقصود و (فَصَّلْنَا) معناه بينا وأوضحنا ، وقوله (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي للمؤمنين الذين يعدون أنفسهم للنظر ويسلكون طريق الاهتداء ، والضمير في قوله (لَهُمْ) عائد على القوم المتذكرين و (السَّلامِ) يتجه فيه معنيان ، أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله عزوجل فأضاف «الدار» إليه هي ملكه وخلقه ، والثاني أنه المصدر بمعنى السلامة ، كما تقول السلام عليك ، وكقوله عزوجل (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠] يريد في الآخرة بعد الحشر ، و (وَلِيُّهُمْ) أي ولي الانعام عليهم ، و (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مسبب ما كانوا يقدمون من الخير ويفعلون من الطاعة والبر.

قوله عزوجل :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ


اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٢٩)

(يَوْمَ) نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم ، ويحتمل أن يكون العامل (وَلِيُّهُمْ) [الأنعام: ١٢٧] والعطف على موضع قوله (بِما كانُوا) [الأنعام : ١٢٧] ، والضمير في (يَحْشُرُهُمْ) عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جنا وإنسا ، والذين لهم دار السلام جنا ، وإنسا ، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله (جَمِيعاً).

وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم» بالياء ، وقرأ الباقون بالنون وكلّ متجه ، ثم ذكر عزوجل ما يقال للجن الكفرة ، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن ، وقوله (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ) معناه فرطتم ، و (مِنَ الْإِنْسِ) يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموبخين على جهة الاعتذار عن الجن (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع.

قال القاضي أبو محمد : وذلك في وجوه كثيرة ، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير بالمستجير إذ كان العربي إذا نزل واديا ينادي يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض.

قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال في الاستمتاع ولو تتبع لبينت له وجوه أخر كلها دنياوية ، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه ، وقيل هو الحشر ، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع ، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل ، وقرأ الحسن «وبلّغنا أجلنا» بكسر اللام مشددة ، وقوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) الآية ، إخبار من الله عزوجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم ، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه ، وهذا كثير في القرآن وفصيح الكلام و (مَثْواكُمْ) أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة ، هذا قول الزجّاج وغيره ، قال أبو علي في الإغفال : المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي (خالِدِينَ) والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملا ، والتقدير النار ذات ثوابكم ، والاستثناء في قوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قالت فرقة (ما) بمعنى من ، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة.

قال القاضي أبو محمد : ولما كان هؤلاء صنفا ساغت في العبارة عنهم (ما) ، وقال الفراء (إِلَّا) بمعنى سوى ، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال الطبري : إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار.

قال القاضي أبو محمد : وساغ هذا من حيث العبارة بقوله (النَّارُ مَثْواكُمْ) لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره ، وقال الطبري عن ابن عباس انه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم


الله ثم أسند إليه أنه قال : إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا.

قال القاضي أبو محمد : والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد : ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة ، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار : (النَّارُ مَثْواكُمْ) استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافرا ، وتقع (ما) على صفة من يعقل ، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي بمن يمكن أن يؤمن منهم ، و (حَكِيمٌ عَلِيمٌ) صفتان مناسبتان لهذه الآية ، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء ، وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي) قال قتادة (نُوَلِّي) معناه نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل ما تقدم من ذكر الجن والإنس «واستمتاع بعضهم ببعض» ، وقال قتادة أيضا : معنى (نُوَلِّي) نتبع بعضهم بعضا في دخول النار ، أي نجعل بعضهم يلي بعضا ، وقال ابن زيد معناه نسلط بعض الظالمين على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل لا تؤيده ألفاظ الآية المتقدمة ، أما أنه حفظ في استعمال الصحابة والتابعين من ذلك ما روي أن عبد الله بن الزبير لما بلغه أن عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق صعد المنبر فقال إن فم الذبان قتل لطيم الشيطان (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

قوله عزوجل :

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢)

قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) داخل في القول يوم الحشر ، والضمير في (مِنْكُمْ) قال ابن جريج وغيره عمم بظاهرة الطائفتين والمراد الواحدة تجوزا ، وهذا موجود في كلام العرب ، ومنه قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وذلك إنما يخرج من الأجاج ، وقال الضحاك الضمير عائد على الطائفتين وفي الجن رسل منهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال ابن عباس الضمير عائد على الطائفتين ولكن رسل


الجن هم رسل الإنس ، فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله ، وهم النذر ، و (يَقُصُّونَ) من القصص ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «ألم تكن تأتيكم» بالتاء على تأنيث لفظ «الرسل» ، وقولهم : (شَهِدْنا) إقرار منهم بالكفر واعتراف أي شهدنا على أنفسنا بالتقصير ، وقوله (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل ، ويحتمل (غَرَّتْهُمُ) أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر فرخه وقوله (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) تظهر بينه وبين ما في القرآن من الآيات التي تقتضي إنكار المشركين الإشراك مناقضة ، والجمع بينهما هو إما بأنها طوائف ، وإما طائفة واحدة في مواطن شتى ، وإما أن يريد بقوله هاهنا : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، شهادة الأيدي والأرجل والجلود بعد إنكارهم بالألسنة.

قال القاضي أبو محمد : واللفظ هاهنا يبعد من هذا ، وقوله تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ) الآية ، (ذلِكَ) يصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره ذلك الأمر ، ويصح أن يكون في موضع نصب بتقدير فعلنا و (أَنْ) مفعول من أجله و (الْقُرى) المدن ، والمراد أهل القرى ، و (بِظُلْمٍ) يتوجه فيه معنيان ، أحدهما أن الله عزوجل لم يكن ليهلك المدن دون نذارة ، فيكون ظلما لهم إذا لم ينذرهم ، والله ليس بظلام للعبيد ، والآخر أن الله عزوجل لم يهلك أهل القرى بظلم إذ ظلموا دون أن ينذرهم ، وهذا هو البين القويّ. وذكر الطبري رحمه‌الله التأويلين ، وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) الآية إخبار من الله عزوجل أن المؤمنين في الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم وتفضل الله عليهم ، والمشركين أيضا على درجات من العذاب.

قال القاضي أبو محمد : ولكن كل مؤمن قد رضي بما أعطي غاية الرضى ، وقرأت الجماعة سوى ابن عامر «يعملون» على لفظ كل ، وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على المخاطبة بالتاء.

قوله عزوجل :

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (١٣٥)

(الْغَنِيُ) صفة ذات لله عزوجل لأنه تبارك وتعالى لا يفتقر إلى شيء من جهة من الجهات ، ثم تليت هذه الصفة بقوله (ذُو الرَّحْمَةِ) فأردف الاستغناء بالتفضل وهذا أجمل تناسق ، ثم عقب بهذه الألفاظ المضمنة الوعيد المحذرة من بطش الله عزوجل في التعجيل بذلك وأما مع المهلة ومرور الجديدين ، فكذلك عادة الله في الخلق ، وأما «الاستخلاف» فكما أوجد الله تعالى هذا العالم الآدمي بالنشأة من ذرية قوم متقدمين أصلهم آدم عليه‌السلام ، وقرأت الجماعة «ذرّية» بضم الذال وشد الراء المكسورة ، وقرأ


زيد بن ثابت بكسر الذال وكذلك في سورة آل عمران وحكى أبو حاتم عن أبان بن عثمان أنه قرأ «ذرية» بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة ، وحكى عنه أبو الزناد أنه قرأ على المنبر «ذرية» بفتح الذال وسكون الراء على وزن فعلة ، قال فسألته فقال أقرأنيها زيد بن ثابت ، و (مِنْ) في قوله (مِنْ ذُرِّيَّةِ) للتبعيض وذهب الطبري إلى أنها بمعنى قولك أخذت من ثوبي دينارا بمعنى عنه وعوضه و (تُوعَدُونَ) مأخوذ من الوعيد بقرينة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدم خصوصا. وأما أن يكون العموم مطلقا فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد ، والعقائد ترد ذلك ، و (بِمُعْجِزِينَ) معناه بناجين هربا أي يعجزون طالبهم.

ثم أمر الله عزوجل نبيه عليه‌السلام أن يتوعدهم بقوله (اعْمَلُوا) أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد ، وصيغة افعل هاهنا بمعنى الوعيد والتهديد ، و (عَلى مَكانَتِكُمْ) معناه على حالكم وطريقتكم ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «على مكاناتكم» بجمع المكانة في كل القرآن ، وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن ، و (مَنْ) يتوجه أن يكون بمعنى الذي ، فتكون في موضع نصب ب (تَعْلَمُونَ) ، ويتوجه أن يكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله (تَكُونُ لَهُ) ، و (عاقِبَةُ الدَّارِ) أي مآل الآخرة ، ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب ، ثم جزم الحكم ب (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي ينجح سعيهم ، وقرأ حمزة والكسائي من «يكون له عاقبة» بالياء هاهنا وفي القصص على تذكير معنى العاقبة.

قوله عزوجل :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦)

الضمير في (جَعَلُوا) عائد على كفار العرب العادلين بربهم الأوثان الذين تقدم الرد عليهم من أول السورة ، و (ذَرَأَ) معناه خلق وأنشأ وبث في الأرض ، يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا وذروءا أي خلقهم ، وقوله وجعلوا من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول ، فبينه بقوله : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) ، ثم اعترضهم أثناء القول بأن ذلك زعم وتقول ، والزعم في كثير كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق ، يقال «زعم» بفتح الزاي وبه قرأت الجماعة ، «وزعم» بضمها ، وقرأ الكسائي وحده في هذه الآية «زعم» بكسر الزاي ، ولا أحفظ أحدا قرأ به و (الْحَرْثِ) في هذه الآية يريد به الزرع والأشجار وما يكون من الأرض ، وقوله (لِشُرَكائِنا) يريد به الأصنام والأوثان ، وسموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم بساهمونهم في الخير والشر ويكسبونهم ذلك ، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلّاتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءا تسميه لله وجزءا تسميه لأصنامها ، وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم أقروه ، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردوه ، وإذا تفجر من سقي ما جعلوا لله في نصيب شركائهم تركوه ، وإن بالعكس سدوه ،


وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئا قالوا لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك.

قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام وكانوا إذا أصابتهم السنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم ، وقوله تعالى : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ) الآية قال جمهور المتأولين إن المراد بقوله (فَلا يَصِلُ) وقوله (يَصِلُ) ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك ، وقال ابن زيد إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله ذكروا آلهتهم على ذلك الذبح وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله ، فكأنه قال «فلا يصل» إلى ذكر الله وقال فهو «يصل» إلى ذكر شركائهم ، و (ما) في موضع رفع كأنه قال ساء الذي يحكمون ، ولا يتجه عندي أن يجري هنا (ساءَ) مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة ، وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧]. لأن المفسر ظاهر في الكلام.

قوله عزوجل :

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧)

«الكثير» في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب ، و «الشركاء» هاهنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون عليه أيضا من بني آدم الناقلين له عصرا بعد عصر إذ كلهم مشتركون في قبح هذا الفعل وتباعته في الآخرة ، ومقصد هذه الآية الذم للوأد والإنحاء على فعلته ، واختلفت القراءة فقرأت الجماعة سوى ابن عامر «وكذلك زين» بفتح الزاي «قتل» بالنصب «أولادهم» بكسر الدال «شركاؤهم» ، وهذه أبين قراءة ، وحكى سيبويه أنه قرأت فرقة «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل أولادهم» بكسر الدال «شركاؤهم» بالرفع.

قال القاضي أبو محمد : وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن وأبي عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر ، كأنه قال : زينه شركاؤهم قال سيبويه : وهذا كما قال الشاعر : [الطويل]

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما يطيح الطوائح

كأنه قال يبكيه ضارع لخصومة ، وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في هذه القراءة ارتفعوا بالقتل كأن المصدر أضيف إلى المفعول ، ثم ذكر بعده الفاعل كأنه قال إن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول حبب إليّ ركوب الفرس زيد أي أن ركب الفرس زيد.

قال القاضي أبو محمد : والفصيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول أن لا يذكر الفاعل ، وأيضا فالجمهور في هذه الآية على أن الشركاء مزينون لا قاتلون ، والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح ، ومنه قوله عزوجل على قراءة من قرأ (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦] بفتح الباء المشددة أي «يسبّح رجال» ، وقرأ ابن عامر «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل» بالرفع «أولادهم» بنصب الدال «شركائهم» بخفض


الشركاء ، وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب ، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء ، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله [أبو حية النميري] : [الوافر]

كما خطّ بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل

فكيف بالمفعول في أفصح الكلام؟ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش وهو : [مجزوء الكامل]

فزججته بمزجّة

زجّ القلوص أبي مزادة

وفي بيت الطرماح وهو قوله : [الطويل]

يطفن بحوزيّ المرابع لم يرع

بواديه من قرع القسيّ الكنائن

والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتأولون وأد بنات الغير فهم القاتلون ، والصحيح من المعنى أنهم المزينون لا القاتلون ، وذلك مضمن قراءة الجماعة.

وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر «زين» بكسر الزاي وسكون الياء على الرتبة المتقدمة من الفصل بالمفعول ، وحكى الزهراوي أنه قرأت فرقة من أهل الشام «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل» بالرفع «أولادهم» بكسر الدال «شركائهم» بالخفض والشركاء على هذه القراءة هم الأولاد الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث ، وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم وفيها بيان لفساد الفعل إذ هو قتل من له حرمة. و (لِيُرْدُوهُمْ) معناه ليهلكوهم من الردى ، (وَلِيَلْبِسُوا) معناه ليخلطوا ، والجماعة على كسر الباء ، وقرأ إبراهيم النخعي «وليلبسوا» بفتح الباء ، قال أبو الفتح : هي استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة ، وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا في قوله (وَكَذلِكَ زَيَّنَ). وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله عزوجل ، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله ، وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ) وعيد محض ، و (يَفْتَرُونَ) معناه يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك واعتقادهم أنها مباحات لهم.

قوله عزوجل :

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣٨)

هذه الآية تتضمن تعديد ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذبا منهم على الله وافتراء عليه ، فوصف تعالى أنهم عمدوا إلى بعض أنعامهم وهي الإبل والبقر والغنم أو الإبل بانفرادها ، وما غيرها إذا انفرد فلا يقال له أنعام ، وإلى بعض زروعهم وثمارهم ، وسمي ذلك «حرثا» إذ عن الحرث يكون ، وقالوا هذه حجر أي حرام ، وقرأ جمهور الناس «حجر» بكسر الحاء وسكون الجيم ، وقرأ قتادة والحسن والأعرج


«حجر» بضم الحاء وسكون الجيم ، وقرأ ابن عباس وأبيّ وابن مسعود وابن الزبير والأعمش وعكرمة وعمرو بن دينار «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها ، فالأولى والثانية بمعنى التحجير وهو المنع والتحريم ، والأخيرة من الحرج وهو التضييق والتحريم ، وكانت هذه الأنعام على ما قال ابن زيد محللة للرجال محرمة على النساء ، وقيل كانت وقفا لمطعم سدنة بيوت الأصنام وخدمتها ، حكاه المهدوي ، فذلك المراد بقوله (مَنْ نَشاءُ) وقوله (بِزَعْمِهِمْ) أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق ، و «زعمهم» هنا هو في قولهم «حجر» وتحريمهم بذلك ما لم يحرم الله تعالى ، وقرأ ابن أبي عبلة «بزعمهم» بفتح الزاي والعين ، وكذلك في الذي تقدم ، (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) كانت للعرب سنن ، إذا فعلت الناقة كذا من جودة النسل والمواصلة بين الإناث ونحوه حرم ظهورها فلم تركب وإذا فعل الفحل كذا وكذا حرم فعدد الله ذلك على جهة الرد عليهم إذ شرعوا ذلك برأيهم وكذبهم ، (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) قيل كانت لهم سنة في أنعام ما أن لا يحج عليها فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج ، فذلك قوله (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) هذا قول جماعة من المفسرين.

ويروى ذلك عن أبي وائل ، وقالت فرقة : بل ذلك في الذبائح يريد أنهم جعلوا لآلهتهم منها نصيبا لا يذكرون الله على ذبحها ، وقوله (افْتِراءً) مصدر نصب على المفعول من أجله أو على إضمار فعل تقديره يفترون ذلك ، و (سَيَجْزِيهِمْ) وعيد بمجازاة الآخرة ، والضمير في (عَلَيْهِ) عائد على اسم الله ، و (يَفْتَرُونَ) أي يكذبون ويختلفون.

قوله عزوجل :

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٣٩)

هذه الآية تتضمن تعديد مذاهبهم الفاسدة ، وكانت سنتهم في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم ، والهاء في (خالِصَةٌ) قيل هي للمبالغة كما هي في رواية وغيرها ، وهذا كما تقول فلان خالصتي وإن كان باب هاء المبالغة أن يلحق بناء مبالغة كعلامة ونسابة وبصيرة ونحوه ، وقيل هي لتأنيث الأنعام إذ ما في بطونها أنعام أيضا ، وقيل هي على تأنيث لفظ (ما) لأن (ما) واقعة في هذا الموضع موقع قولك جماعة وجملة ، وقرأ جمهور القراء والناس «خالصة» بالرفع ، وقرأ عبد الله بن مسعود وابن جبير وابن أبي عبلة والأعمش «خالص» دون هاء ورفع هاتين القراءتين على خبر الابتداء.

وقرأ ابن عباس بخلاف والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين «خالصة» بالنصب ، وقرأ سعيد بن جبير فيما ذكر أبو الفتح «خالصا» ، ونصب هاتين القراءتين على أن الحال من الضمير الذي في قوله (فِي بُطُونِ) ، وذلك أن تقدير الكلام : وقالوا ما استقر هو في بطون هذه الأنعام فحذف الفعل وحمل المجرور الضمير ، والحال من الضمير والعامل فيها معنى الاستقرار ، قال أبو الفتح ويصح أن يكون حالا من (ما) على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها ، وقرأ ابن عباس أيضا وأبو حيوة والزهري «خالصه»


بإضافة «خالص» إلى ضمير يعود على (ما) ، ومعناه ما خلص وخرج حيا ، والخبر على قراءة من نصب «خالصة» في قوله (لِذُكُورِنا) والمعنى المراد بما في قوله (ما فِي بُطُونِ) قال السدي : هي الأجنة ، وقال ابن عباس وقتادة والشعبي : هو اللبن ، قال الطبري واللفظ يعمهما ، وقوله (وَمُحَرَّمٌ) يدل على أن الهاء في (خالِصَةٌ) للمبالغة ، ولو كانت لتأنيث لقال ومحرمة ، و (أَزْواجِنا) يريد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجا ، قال مجاهد ، وحكى الطبري عن ابن زيد أن المراد ب (أَزْواجِنا) البنات.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يبعد تحليقه على المعنى ، وقوله (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً) كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتا من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعا وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها ، وقرأ ابن كثير «وإن يكن» بالياء «ميتة» بالرفع فلم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ، والمعنى وإن وقع ميتة أو حدث ميتة ، وقرأ ابن عامر «وإن تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع فألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثا ، وأسند الفعل إلى الميتة كما فعل ابن كثير ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه «تكن» بالتاء «ميتة» بالنصب فأنث وإن كان المتقدم مذكرا لأنه حمله على المعنى.

قال القاضي أبو محمد : فالتقدير وإن تكن النسمة أو نحوها ميتة ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «يكن» بالياء «ميتة» بالنصب ، فذكروا الفعل لأنهم أسندوه إلى ضمير ما تقدم من قوله (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) وهو مذكر ، وانتصبت الميتة على الخبر ، قال أبو عمرو بن العلاء ويقوي هذه القراءة قوله (فَهُمْ فِيهِ) ولم يقل فيها ، وقرأ يزيد بن القعقاع «وإن تكن ميّتة» بالتشديد ، وقرأ عبد الله بن مسعود «فهم فيه سواء» ، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات إلى الله تعالى وشرعوه من الباطل والإفك (إِنَّهُ حَكِيمٌ) أي في عذابهم على ذلك (عَلِيمٌ) بقليل ما تقوّلوه من ذلك وكثيره.

قوله عزوجل :

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٤١)

هذا لفظ يتضمن التشنيع بقبح فعلهم والتعجب من سوء حالهم في وأدهم البنات وحجرهم الأنعام والحرث ، قال عكرمة : وكان الوأد في ربيعة ومضر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وكان جمهور العرب لا يفعله ، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والإقتار وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السباء وقرأ ابن عامر وابن كثير : «قتّلوا» بتشديد


التاء على المبالغة وقرأ الباقون : «قتلوا» بتخفيفها و (ما رَزَقَهُمُ اللهُ) : هي تلك الأنعام والغلات التي توقف بغير شرع ولا مثوبة في معاد بل بالافتراء على الله والكذب و (قَدْ ضَلُّوا) إخبارا عنهم بالحيرة وهو من التعجيب بمنزلة قوله (قَدْ خَسِرَ) ، (وَما كانُوا) يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد : وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين ولكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالا وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار و (أَنْشَأَ) معناه خلق واخترع و «الجنة» : مأخوذة من جن إذا ستر ، و (مَعْرُوشاتٍ) قال ابن عباس : ذلك في ثمر العنب ، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات» ما عرش كهيئة الكرم ، وغيره البساتين وقيل : المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل : المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق ، و (مُخْتَلِفاً) : نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء ، و (مُتَشابِهاً) يريد في المنظر ، (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك ، ويقرأ «من ثمره» بضم الثاء وقد تقدم ، (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فقالت طائفة من أهل العلم : هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه ، وقاله مالك بن أنس.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة ، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة ، ومعترض أيضا بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه ، وقال ابن الحنفية أيضا وعطاء ومجاهد وغيرهم من أهل العلم : بل قوله (وَآتُوا حَقَّهُ) ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة ، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر ، فإذا صفا وكال أخرج من ذلك الزكاة ، وقال الربيع بن أنس حقه إباحة لقط السنبل ، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها.

وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن ، وقال السدي في هذه السورة مكية نسختها الزكاة فقال له سفيان عمن قال عن العلماء.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والنسخ غير مترتب في هذه الآية ، لأن هذه الآية وآية الزكاة لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض ، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي «حصاده» ، وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حصاده» بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر ، وقوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا) الآية ، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب ، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل ، وقاله ابن زيد ، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته.


وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة ، فنزلت هذه الآية ، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئا عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية ، ومن قال إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية.

قوله عزوجل :

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٤٣)

(حَمُولَةً) عطف على (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام : ١٤١] التقدير وأنشأنا من الأنعام حمولة ، والحمولة ما تحمل الأثقال من الإبل والبقر عند من عادته أن يحمل عليها والهاء في (حَمُولَةً) للمبالغة ، وقال الطبري هو اسم جمع لا واحد من لفظه ، و «الفرش» ما لا يحمل ثقلا كالغنم وصغار البقر والإبل ، هذا هو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم ، يقال له الفرش والفريش ، وذهب بعض الناس إلى أن تسميته (فَرْشاً) إنما هي لوطاءته وأنه مما يمتهن ويتوطأ ويتمكن من التصرف فيه إذ قرب جسمه من الأرض.

وروي عن ابن عباس أنه قال : «الحمولة» الإبل والخيل والبغال والحمير ، ذكره الطبري.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا منه تفسير لنفس اللفظة لا من حيث هي في هذه الآية ، ولا تدخل في الآية لغير الأنعام وإنما خصت بالذكر من جهة ما شرعت فيها العرب ، وقوله (مِمَّا رَزَقَكُمُ) نص إباحة وإزالة ما سنه الكفار من البحيرة والسائبة وغير ذلك ، ثم تابع النهي عن تلك السنن الآفكة بقوله (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وهي جمع خطوة أي لا تمشوا في طرقه المضلّة ، وقد تقدم في سورة البقرة اختلاف القراء في «خطوات» ، ومن شاذها قراءة علي رضي الله عنه والأعرج وعمرو بن عبيد «خطؤات» بضم الخاء والطاء وبالهمزة ، قال أبو الفتح وذلك جمع خطأة من الخطأ ومن الشاذ قراءة أبي السمال «خطوات» بالواو دون همزة وهو جمع خطوة وهي ذرع ما بين قدمي الماشي ، ثم علل النهي عن ذلك بتقرير عداوة الشيطان لابن آدم ، وقوله تعالى (ثَمانِيَةَ) اختلف في نصبها فقال الأخفش علي بن سليمان بفعل مضمر تقديره كلوا لحم ثمانية أزواج فحذف الفعل والمضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل نصب على البدل من ما في قوله (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ، وقيل نصبت على الحال ، وقيل نصبت على البدل من قوله (حَمُولَةً وَفَرْشاً) ، وهذا أصوب الأقوال وأجراها مع معنى الآية ، وقال الكسائي نصبها (أَنْشَأَ) [الأنعام : ١٤١] والزوج الذكر والزوج الأنثى كل واحد منهما زوج صاحبه ، وهي أربعة أنواع فتجيء ثمانية أزواج ، و (الضَّأْنِ) جمع ضائنة وضائن ، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر والحسن من «الضأن» بفتح الهمزة ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ومن المعز» بسكون العين وهو جمع ماعز وماعزة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ومن المعز» بفتح العين فضأن ومعز كراكب وركب وتاجر وتجر وضان ومعز كخادم


وخدم ونحوه ، وقرأ أبان بن عثمان «من الضأن اثنان» على الابتداء والخبر المقدم ، ويقال في جمع ماعز معز ومعز ومعيز وأمعوز وقوله تعالى : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ) هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله ، أي لا بد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم جميع الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث ، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئا مما يوجبه هذا التقسيم ، وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ ثم اتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله (نَبِّئُونِي) أخبروني (بِعِلْمٍ) أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) و (إِنْ) شرط وجوابه في (نَبِّئُونِي) ، وجاز تقديم جواب هذا الشرط لما كانت (إِنْ) لا يظهر لها عمل في الماضي ، ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب.

قوله عزوجل :

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤)

القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم كالقول المتقدم في قوله (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] وكأنه قال أنتم الذين تدعون أن الله حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في (آلذَّكَرَيْنِ) أو فيما (اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم.

وقوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) الآية استفهام على جهة التوبيخ ، إذ لم يبق لهم الادعاء المحال والتقوّل أنهم شاهدوا وصية الله لهم بهذا ، و (شُهَداءَ) جمع شهيد ، ثم تضمن قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ) ذكر حال مفتري الكذب على الله وتقرير إفراط ظلمه ، وقال السدي : كان الذين سيبوا وبحروا يقولون : الله أمرنا بهذا ثم بيّن تعالى سوء مقصدهم بالافتراء لأنه لو افترى أحد فرية على الله لغير معنى لكان ظلما عظيما فكيف إذا قصد بهما إضلال أمة. وقد يحتمل أن تكون اللام في (لِيُضِلَ) لام صيرورة ، ثم جزم الحكم لا رب غيره بأنه (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، أي لا يرشدهم ، وهذا عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه مما يقتضيه الشرع أن الله يهدي ظلمة كثيرة بالتوبة.

قوله عزوجل :

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥)

هذا أمر من الله عزوجل بأن يشرع للناس جميعا ويبين عن الله ما أوحي إليه ، وهذه الآية نزلت بمكة


ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإن هذه وإن كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات لأنها بأسباب وليست حتف الأنف ، فلما بين النص إلحاقها بالميتة كانت زيادة في المحرمات ، ثم نزل النص على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحريم الخمر بوحي غير منجز ، وبتحريم كل ذي ناب من السباع ، فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر ، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها ، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على إذلاله وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة ، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه‌السلام «كل ذي ناب من السباع حرام».

وقد روي عنه نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ثم اختلف الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يجمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهية ونحوها ، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه‌السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها لم تخمس ، وتأول بعضهم أن ذلك لئلا تفنى حمولة الناس ، وتأول بعضهم التحريم المحض وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها.

وروي عن ابن عامر أنه قرأ «فيما أوحى إلي» بفتح الهمزة والحاء وقرأ جمهور الناس يطعمه وقرأ أبو جعفر محمد بن علي «يطّعمه» بتشديد الطاء وكسر العين ، وقرأ محمد بن الحنفية وعائشة وأصحاب عبد الله «طعمه» بفعل ماض ، وقرأ نافع والكسائي وأبو عمر وعاصم «إلا أن يكون» بالياء على تقدير إلا أن يكون المطعوم ، وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو أيضا «إلا أن تكون» بالتاء من فوق «ميتة» على تقدير إلا أن تكون المطعومة ، وقرأ ابن عامر وحده وذكرها مكي عن أبي جعفر «إلا أن تكون» بالتاء «ميتة» بالرفع على أن تجعل «تكون» بمعنى تقع ، ويحتاج على هذه القراءة أن يعطف (أَوْ دَماً) على موضع «أن تكون» ، لأنها في موضع نصب بالاستثناء ، والمسفوح الجاري الذي يسيل وجعل الله هذا فرقا بين القليل والكثير ، والمنسفح ، السائل من الدم ونحوه ، ومنه قول الشاعر وهو طرفة :

إذا ما عاده منّا نساء

سفحن الدّمع من بعد الرّنين

وقول امرئ القيس : وإن شفائي عبرة إن سفحتها.

فالدم المختلط باللحم والدم الخارج من مرق اللحم وما شاكل هذا حلال والدم غير المسفوح هو هذا وهو معفوّ عنه ، وقيل لأبي مجلز في القدر تعلوها الحمرة من الدم قال : إنما حرم الله المسفوح ، وقالت نحوه عائشة وغيرها وعليه إجماع العلماء.


وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد انسفخ ، و «الرجس» النتن والحرام ، يوصف بذلك الأجرام والمعاني كما قال عليه‌السلام : دعوها فإنها منتنة ؛ الحديث ، فكذلك قيل في الأزلام والخمر رجس ، والرجس أيضا العذاب لغة بمعنى الرجز ، وقوله (أَوْ فِسْقاً) يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم ، وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) الآية ، أباح الله فيها مع الضرورة ركوب المحظور دون بغي.

واختلف الناس فيم ذا فقالت فرقة دون أن يبغي الإنسان في أكله فيأكل فوق ما يقيم رمقه وينتهي إلى حد الشبع وفوقه ، وقالت فرقة : بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق أو قتل نفس أو يكون تصرفه في معصية فإن ذلك لا رخصة له ، وأما من لم يكن بهذه الأحوال فاضطر فله أن يشبع ويتزود ، وهذا مشهور قول مالك بن أنس رحمه‌الله ، وقال بالأول الذي هو الاقتصار على سد الرمق عبد المالك بن حبيب رحمه‌الله ، وقوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إباحة تعطيها قوة للفظ.

قوله عزوجل :

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦)

لما ذكر الله عزوجل ما حرم على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم إن الله لم يحرم علينا شيئا وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه ، وقد تقدم القول في سورة البقرة في (هادُوا) ومعنى تسميتهم يهودا ، و (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) يراد به الإبل والنعام والإوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر ، وقال أبو زيد : المراد الإبل خاصة وهذا ضعيف التخصيص ، وذكر النقاش عن ثعلب أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر ، وقرأ جمهور الناس «ظفر» بضم الظاء والفاء ، وقرأ الحسن والأعرج «ظفر» بسكون الفاء ، وقرأ أبو السمال قعنب «ظفر» بكسر الظاء وسكون الفاء.

وأخبرنا الله عزوجل في هذه الآية بتحريم الشحوم على بني إسرائيل وهي الثروب وشحم الكلى وما كان شحما خالصا خارجا عن الاستثناء الذي في الآية.

واختلف العلماء في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود فحكى ابن المنذر في الأشراف عن مالك وغيره منع أكل الشحم من ذبائح اليهود وهو ظاهر المدونة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا على القول في قوله عزوجل : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] بأنه المطعوم من ذبائحهم وأما ما لا يحل لهم فلا تقع عليه ذكاة بل هو


كالدم في ذبائح المسلمين ، وعلى هذا القول يجيء قول مالك رحمه‌الله في المدونة فيما ذبحه اليهودي مما لا يحل لهم كالجمل والأرنب أنه لا يؤكل.

وروي عن مالك رحمه‌الله كراهية الشحم من ذبائح أهل الكتاب دون تحريم وأباح بعض الناس الشحم من ذبائح أهل الكتاب وذبحهم ما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مستنيبا أو نحوه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا على أن يجعل قوله (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] يراد به الذبائح فمتى وقع الذبح على صفته وقعت الإباحة ، وهذا قول ضعيف لأنه جرد لفظة (وَطَعامُ) من معنى أن تكون مطعوما لأهل الكتاب وخلصها لمعنى الذبح وذلك حرج لا يتوجه ، وأما الطريق فحرمه قوم وكرهه قوم وأباحه قوم وخففه مالك في المدونة ثم رجع إلى منعه ، وقال ابن حبيب ما كان محرما عليهم وعلمنا ذلك من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم ، وما لم نعلم تحريمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم ، وقوله (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) يريد ما اختلط باللحم في الظهر والأجناب ونحوه ، قال السدي وأبو صالح : الأليات مما حملت ظهورهما (أَوِ الْحَوايا) قال هو جمع حوية على وزن فعلية ، فوزن «حوايا» على هذا فعائل كسفينة وسفائن ، وقيل هو جمع حاوية على وزن فاعلة ، فحوايا على هذا فواعل كضاربة وضوارب وقيل جمع حاوياء ، فوزنها على هذا أيضا فواعل كقاصعاء وقواصع وأما «الحوايا» على الوزن الأول فأصلها حوايي فقلب الياء الأخيرة ألفا فانفتحت لذلك الهمزة ثم بدلت ياء ، وأما على الوزنين الأخيرين فأصل «حوايا» حواوي وبدلت الواو الثانية همزة ، والحوية ما تحوى في البطن واستدار وهي المصارين والحشوة ونحوهما ، وقال مجاهد وقتادة وابن عباس والسدي وابن زيد : «الحوايا» المباعر وقال بعضهم : هي المرابط التي تكون فيها الأمعاء وهي بنات اللبن ، وقوله (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) يريد في سائر الشخص ، و (الْحَوايا) معطوف على (ما) في قوله (إِلَّا ما حَمَلَتْ) فهي في موضع نصب عطفا على المنصوب بالاستثناء ، وقال الكسائي (الْحَوايا) معطوف على الظهور ، كأنه قال «إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا» ، وقال بعض الناس (الْحَوايا) معطوف على الشحوم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وعلى هذا تدخل (الْحَوايا) في التحريم ، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه ، وقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) ، (ذلِكَ) في موضع رفع و (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) يقتضي أن هذا التحريم إنما كان عقوبة لهم على ذنوبهم وبغيهم واستعصائهم على الأنبياء ، وقوله (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم ما حرم الله علينا شيئا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم.

قوله عزوجل :

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ


الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) (١٤٨)

يريد (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فيما أخبرت به أن الله حرمه عليهم وقالوا لم يحرم الله علينا شيئا وإنما حرمنا ما حرم إسرائيل على نفسه ، قال السدي وهذه كانت مقالتهم (فَقُلْ) يا محمد على جهة التعجب من حالهم والتعظيم لفريتهم في تكذيبهم لك مع علمهم بحقيقة ما قلت ، (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) ، إذ لا يعاجلكم بالعقوبة مع شدة جرمكم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كما تقول عند رؤية معصية أو أمر مبغي ما أحلم الله ، وأنت تريد لإمهاله على مثل ذلك في قوله (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) قوة وصفهم بغاية الاجترام وشدة الطغيان ، ثم أعقب هذه المقالة بوعيد في قوله (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فكأنه قال : ولا تغتروا أيضا بسعة رحمته فإن له بأسا لا يرد عن المجرمين إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وهذه الآية وما جانسها من آيات مكة مرتفع حكمه بالقتال ، وأخبر الله عزوجل نبيه عليه‌السلام : أن المشركين سيحتجون لصواب ما هم عليه من شركهم وتدينهم بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى وتقريره حالهم وأنه لو شاء غير ذلك لما تركهم على تلك الحال.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وبين أن المشركين لا حجة لهم فيما ذكروه لأنّا نحن نقول : إن الله عزوجل لو شاء ما أشركوا ولكنه عزوجل شاء إشراكهم وأقدرهم على اكتساب الإشراك والمعاصي ومحبته والاشتغال به ثم علق العقاب والثواب على تلك الأشياء والاكتسابات ، وهو الذي يقتضيه ظواهر القرآن في قوله (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة : ٨٢ ـ ٩٥] ونحو ذلك ، ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صوابا ، إذ كلها لو شاء الله لم تكن.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقال بعض المفسرين : إنما هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء ، وهذا ضعيف ، وتعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالت : إن الله قد ذم لهم هذه المقالة وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله تعالى بل هو خلق لهم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليس الأمر على ما قالوا ، وإنما ذم الله تعالى ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب وأما أنه ذم قولهم : لو لا المشيئة لم نكفر فلا ، ثم قال (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام ، كأنه قال : سيقول المشركون كذا وكذا وليس في ذلك حجة لهم ، ولا شيء يقتضي تكذيبك ولكن (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم ، وفي قوله (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) وعيد بيّن ، وليس في الآية رد منصوص على قولهم : لو شاء الله ما أشركنا ، وإنما ترك الرد عليهم مقدرا في الكلام لوضوحه وبيانه ، وقوله (وَلا آباؤُنا) معطوف على الضمير المرفوع في (أَشْرَكْنا) والعطف على الضمير المرفوع لا يرده قياس ، بخلاف المظنون ، لكن سيبويه قد قبح العطف على الضمير المرفوع ، ووجه قبحه أنه لما بني الفعل صار


كحرف من الفعل فقبح العطف عليه لشبهه بالحرف ، وكذلك كقولك : قمت وزيد ، لأن تأكيده فيه يبين معنى الاسمية ، ويذهب عنه شبه الحرف ، وحسن عند سيبويه العطف في قوله (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) لما طال الكلام ، ب (لا) ، فكان معنى الاسمية اتضح واقتضت ـ لا ما يعطف بعدها وقوله تعالى : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) الآية : المعنى قل يا محمد للكفرة : هل عندكم من علم من قبل الله تعالى فتبينوه حتى تقوم به الحجة ، و (مِنْ) في قوله (مِنْ عِلْمٍ) زائدة مؤكدة وجاءت زيادتها لأن الاستفهام داخل في غير الواجب ، (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي لا شيء عندكم إلا الظن وهو أكذب الحديث.

وقرأ جمهور الناس : «تتبعون» على المخاطبة ، وقرأ النخعي وإبراهيم وابن وثاب : «إن يتبعوا» بالياء حكاية عنهم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله (وَإِنْ أَنْتُمْ) و (تَخْرُصُونَ) معناه : تقدرون وتظنون وترجمون.

قوله عزوجل :

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

ثم أعقب تعالى أمره نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوقيف المشركين على موضع عجزهم بأمره إياه بأن يقول مبينا مفصحا (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) يريد البالغة غاية المقصد في الأمر الذي يحتج فيه ، ثم أعلم بأنه لو شاء لهدى العالم بأسره.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الآية ترد على المعتزلة في قولهم إن الهداية والإيمان إنما هي من العبد لا من الله ، فإن قالوا معنى (لَهَداكُمْ) لاضطركم إلى الهدى فسد ذلك بمعتقدهم أن الإيمان الذي يريد الله من عباده ويثيب عليه ليس الذي يضطر إليه العبد ، وإنما هو عندهم الذي يقع من العبد وحده ، و (هَلُمَ) معناها هات ، وهي حينئذ متعدية ، وقد تكون بمعنى أقبل ، فهي حينئذ لا تتعدى ، وبعض العرب يجعلها اسما للفعل كرويدك ، فيخاطب بها الواحد والجميع والمذكر والمؤنث على حد واحد ، وبعض العرب يجعلها فعلا فيركب عليها الضمائر فيقول هلم يا زيد وهلموا أيها الناس وهلمي يا هند ونحو هذا ، وذكر اللغتين أبو علي في الإغفال ، وقال أبو عبيدة اللغة الأولى لأهل العالية واللغة الثانية لأهل نجد ، وقال سيبويه والخليل : أصلها هالم ، وقال بعضهم : أصلها هالمم ، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين فجاء هلمم فحذف من قال أصلها هالم وأدغم من قال أصلها هلمم على غير قياس ، ومعنى هذه الآية قل هاتوا شهداءكم على تحريم الله ما زعمتم أنه حرمه ، ثم قال الله تعالى لنبيه عليه‌السلام (فَإِنْ شَهِدُوا) أي فإن افترى لهم أحدا وزور شهادة أو خبرا عن نبوة ونحو ذلك فتجنب أنت ذلك ولا تشهد معهم.


وفي قوله (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) قوة وصف شهادتهم بنهاية الزور ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ) يريد لا تنحط في شهوات الكفرة وتوافقهم على محابهم و (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) عطف نعت على نعت ، كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل ، هذا مذهب عظم الناس ، وقال النقاش : نزلت في الدهرية من الزنادقة. (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أندادا يسوونهم به ، وإن كانت في الزنادقة فعدلهم غير هذا.

قوله عزوجل :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٥١)

هذا أمر من الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعوا جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر ، و (تَعالَوْا) معناه أقبلوا ، وأصله من العلو فكأن الدعاء لما كان أمرا من الداعي استعمل فيه ترفيع المدعو ، وتعالى هو مطاوع عالى ، إذ تفاعل هو مطاوع فاعل. و (أَتْلُ) معناه اسردوا نص من التلاوة التي يصح هي اتباع بعض الحروف بعضا ، و (ما) نصب بقوله (أَتْلُ) وهي بمعنى الذي ، وقال الزجّاج أن يكون قوله (أَتْلُ) معلقا عن العمل و (ما) نصب ب (حَرَّمَ).

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قلق وأن في قوله «أن لا تشركوا» يصح أن تكون في موضع رفع الابتداء التقدير ، الأمر أن أو ذلك أن ، ويصح أن تكون في موضع نصب على البدل من (ما) قاله مكي وغيره.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والمعنى يبطله فتأمله ، ويصح أن يكون مفعولا من أجله التقدير إرادة أن لا تشركوا به شيئا ، إلا أن هذا التأويل يخرج أن لا تشركوا من المتلو ويجعله سببا لتلاوة المحرمات ، و (تُشْرِكُوا) يصح أن يكون منصوبا بأن ، ويتوجه أن يكون مجزوما بالنهي وهو الصحيح في المعنى المقصود ، وأن قد توصل بما نصبته ، وقد توصل بالفعل المجزوم بالأمر والنهي ، و (شَيْئاً) عام يراد به كل معبود من دون الله ، و (إِحْساناً) نصب على المصدر وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا والمحرمات تنفك من هذه المذكورات بالمعنى وهي الإشراك والعقوق وقرب الفواحش وقتل النفس وقال كعب الأحبار : هذه الآيات مفتتح التوراة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآية ، وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة ، وقد قيل إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى ، وإن اعترض من قال إن (تُشْرِكُوا) منصوب بأن بعطف المجزومات عليه فذلك موجود في كلام العرب ، وأنشد الطبري حجة لذلك : [الرجز].


حج وأوصى بسليمى الأعبدا

أن لا ترى ولا تكلم أحدا

ولا يزل شرابها مبرّدا

وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) الآية نهي عن عادة العرب في وأد البنات ، والولد يعم الذكر والأنثى من البنين ، و «الإملاق» الفقر وعدم المال ، قاله ابن عباس وغيره ، يقال أملق الرجل إذا افتقر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويشبه أن يكون معناه أملق أي لم يبق له إلا الملق كما قالوا أترب إذا لم يبق له إلا التراب وأرمل إذا لم يبق له إلا الرمل ، والملق الحجارة السود واحدته ملقة ، وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق ، ويقال أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن عليا قال لامرأة أملقي من مالك ما شئت وذكر النقاش عن محمد بن نعيم الترمذي أنه السرف في الإنفاق ، وحكى أيضا النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم.

وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي ، و «ظهر وبطن» حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء ، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات ، فقال السدي وابن عباس : (ما ظَهَرَ) هو زنا الحوانيت الشهير ، و (ما بَطَنَ) هو متخذات الأخدان ، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع ، وقال مجاهد (ما ظَهَرَ) هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك ، و (ما بَطَنَ) هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة ، بل هو دعوى مجردة ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا) الآية متضمنة تحريم قتل النفس المسلمة والمعاهدة ، ومعنى الآية (إِلَّا بِالْحَقِ) الذي يوجب قتلها وقد بينته الشريعة وهو الكفر بالله وقتل النفس والزنا بعد الإحصان والحرابة وما تشعب من هذه ، و (ذلِكُمْ) إشارة إلى هذه المحرمات ، و «الوصية» الأمر المؤكد المقرر ومنه قول الشاعر : [الطويل]

أجدّك لم تسمع وصاة محمّد

نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا

وقوله (لَعَلَّكُمْ) ترج بالإضافة إلينا أي من سمع هذه الوصية ترجى وقوع أثر العقل بعدها والميز بالمنافع والمضار في الدين.

قوله عزوجل :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١٥٢)

هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة ، ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه ، قال مجاهد : (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) التجارة فيه ممن كان من الناظرين له مال يعيش به ، فالأحسن إذا ثمر مال يتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها من كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له


نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره وإلا دعته الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف ، قاله ابن زيد ، و «الأشد» جمع شد وجمع شدة ، وهو هنا الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليس هذا بالأشد المقرون ببلوغ الأربعين ، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وتلك الأشد هي التجارب والعقل المحنك ، ولكن قد خلطهما المفسرون ، وقال ربيعة والشعبي ومالك فيما روي عنه وأبو حنيفة ، «بلوغ الأشد» البلوغ مع أن لا يثبت سفه ، وقال السدي : «الأشد» ثلاثون سنة ، وقالت فرقة ثلاثة وثلاثون سنة ، وحكى الزجاج عن فرقة ثمانية عشرة سنة ، وضعّفه ورجح البلوغ مع الرشد وحكى النقاش أن «الأشد» هنا من خمسة عشر إلى ثلاثين ، والفقه ما رجح الزجّاج ، وهو قول مالك رحمه‌الله الرشد وزوال السفه مع البلوغ.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع ، وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) الآية أمر بالاعتدال في الأخذ والإعطاء ، و «القسط» العدل ، وقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه ، قال الطبري : لما كان الذي يعطي ناقصا يتكلف في ذلك مشقة والذي يعطي زائدا يتكلف أيضا مثل ذلك ، رفع الله عزوجل الأمر بالمعادلة حتى يتكلف واحد منهما مشقة ، وقوله (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس وغير ذلك ، أي ولو كان ميل الحق على قراباتكم ، وقوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ) يحتمل أن يراد جميع ما عهده الله إلى عباده ، ويحتمل أن يراد به جميع ذلك مع جميع ما انعقد بين إنسانين وأضاف ذلك العهد إلى الله من حيث قد أمر بحفظه والوفاء به ، وقوله (لَعَلَّكُمْ) ترجّ بحسبنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تذكّرون» بتشديد الذال والكاف جميعا وكذلك «يذّكّرون» و «يذكّر الإنسان» وما جرى من ذلك مشددا كله ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) [مريم : ٦٧] فإنهم خففوها ، وروى أبان وحفص عن عاصم «تذكرون» خفيفة الذال في كل القرآن.

وقرأ حمزة والكسائي «تذكرون» بتخفيف الذال إذا كان الفعل بالتاء ، وإذا كان بالياء قرأه بالتشديد ، وقرأ حمزة وحده في سورة الفرقان (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) [الآية : ٦٢] بسكون الذال وتخفيف الكاف ، وقرأ ذلك الكسائي بتشديدهما وفتحهما.

قوله عزوجل :

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣)

الإشارة هي إلى الشرع الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجملته ، وقال الطبري : الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدمت من قوله (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) [الأنعام : ١٥١] قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو


عمرو «وأنّ هذا» بفتح الهمزة وتشديد النون «صراطي» ساكن الياء ، وقرأ حمزة والكسائي «وإنّ» بكسر الألف وتشديد النون ، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق وابن عامر من السبعة «وأن» بفتح الهمزة وسكون النون «صراطي» مفتوح الياء ، فأما من فتح الألف فالمعنى عنده كأنه قال ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، أي اتبعوه لكونه كذا وتكون الواو على هذا إنما عطفت جملة على جملة ، ويصح غير هذا أن يعطف على «ان لا تشركوا» وكأن المحرم من هذا اتباع السبل والتنكيب عن الصراط الأقوم ، ومن قرأ بتخفيف النون عطف على قوله «أن لا تشركوا» ومذهب سيبويه أنها المخففة من الثقيلة ، وأن التقدير وأنه هذا صراطي ، ومن قرأ بكسر الألف وتشديد النون فكأنه استأنف الكلام وقطعه من الأول ، وفي مصحف ابن مسعود «وهذا صراطي» بحذف أن ، وقال ابن مسعود إن الله جعل طريقا صراطا مستقيما طرفه محمد عليه‌السلام وشرعه ونهايته الجنة ، وتتشعب منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار وقال أيضا خط لنا الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطا ، فقال : هذا سبيل الله ، ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ، ثم قرأ هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الآية تعلم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد وتقدم القول في (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ) ، وفي قوله (لَعَلَّكُمْ) ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله جاءت العبارة لعلكم تعقلون ، والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر ، وركوب الجادة الكاملة يتضمن فعل الفضائل ، وتلك درجة التقوى.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (١٥٤)

(ثُمَ) في هذه الآية إنما مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال ثم مما قضيناه أنا آتينا موسى الكتاب ، ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه‌السلام متقدم بالزمان على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلاوته ما حرم الله ، و (الْكِتابَ) التوراة ، و (تَماماً) نصب على المصدر ، وقوله (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) مختلف في معناه فقالت فرقة (الَّذِي) بمعنى الذين ، و (أَحْسَنَ) فعل ماض صلة «الذين» ، وكأن الكلام وآتينا موسى الكتاب تفضلا على المحسنين من أهل ملته وإتماما للنعمة عندهم ، هذا تأويل مجاهد ، وفي مصحف عبد الله «تماما على الذين أحسنوا» ، فهذا يؤيد ذلك التأويل ، وقالت فرقة (الَّذِي) غير موصولة ، والمعنى تماما على ما أحسن هو من عبادة ربه والاضطلاع بأمور نبوته ، يريد موسى عليه‌السلام ، هذا تأويل الربيع وقتادة ، وقالت فرقة : المعنى (تَماماً) أي تفضلا وإكمالا على الذي أحسن الله فيه إلى عباده من النبوءات والنعم وغير ذلك ، ف (الَّذِي) أيضا في هذا التأويل غير موصولة ، وهذا تأويل ابن زيد.

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «تماما على الذي أحسن» بضم النون ، فجعلها صفة تفضيل


ورفعها على خبر ابتداء مضمر تقديره «على الذي هو أحسن» وضعف أبو الفتح هذه القراءة لقبح حذف المبتدأ العائد ، وقال بعض نحويي الكوفة يصح أن يكون (أَحْسَنَ) صفة ل (الَّذِي) من حيث قارب المعرفة إذ لا تدخله الألف واللام كما تقول العرب مررت بالذي خير منك ولا يجوز فالذي عالم ، وخطأ الزجاج هذا القول الكوفي ، و (تَفْصِيلاً) يريد بيانا وتقسيما و (لَعَلَّهُمْ) ترج بالإضافة إلى البشر ، و (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي بالبعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء صلوات الله عليهم ، إذ لا تلزمه العقول بذواتها وإنما ثبت بالسمع مع تجويز العقل له.

قوله عزوجل :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧)

(هذا) إشارة إلى القرآن ، و (مُبارَكٌ) وصف بما فيه من التوسعات وإزالة أحكام الجاهلية وتحريماتها وجمع كلمة العرب وصلة أيدي متبعيه وفتح الله على المؤمنين به ومعناه منمي خيره مكثر ، و «البركة» الزيادة والنمو ، و (فَاتَّبِعُوهُ) دعاء إلى الدين ، (وَاتَّقُوا) الأظهر فيه أنه أمر بالتقوى العامة في جميع الأشياء بقرينة قوله (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) و (أَنْ) من قوله (أَنْ تَقُولُوا) في موضع نصب ، والعامل فيه (أَنْزَلْناهُ) والتقدير وهذا كتاب أنزلناه كراهية أن ، وهذا أصح الأقوال وأضبطها للمعنى المقصود ، وقيل العامل في (أَنْ) قوله (وَاتَّقُوا) فكأنه قال واتقوا أن تقولوا ، وهذا تأويل يتخرج على معنى واتقوا أن تقولوا كذا ، لأنه لا حجة لكم فيه ، ولكن يعرض فيه قلق لقوله أثناء ذلك (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وفي التأويل الأول يتسق نظم الآية ، و «الطائفتان» اليهود والنصارى بإجماع من المتأولين والدراسة القراءة والتعلم بها ، و (أَنْ) في قوله (وَإِنْ كُنَّا) مخففة من الثقيلة ، واللام في قوله (لَغافِلِينَ) لام توكيد ، هذا مذهب البصريين وحكى سيبويه عن بعض العرب أنهم يخففونها ويبقونها على عملها ، ومنه قراءة بعض أهل المدينة وإن كلا وأما المشهور فإنها إذا خففت ترجع حرف ابتداء لا تعمل ، وأما على مذهب الكوفيين ف (أَنْ) في هذه الآية بمعنى ما النافية ، واللام بمعنى إلا ، فكأنه قال وما كنا عن دراستهم إلا غافلين.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : معنى هذه الآية إزالة الحجة عن أيدي قريش وسائر العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب ، فكأنه قال : وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا إنما أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا ، ونحن لم نعرف ذلك ، فهذا كتاب بلسانكم ومع رجل منكم ، وقوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا) جملة معطوفة على الجملة الأولى ، وهي في غرضها من الاحتجاج على الكفار وقطع تعلقهم في الآخرة بأن الكتب إنما أنزلت على غيرهم وأنهم غافلون عن الدراسة والنظر في الشرع وأنهم لو نزل عليهم كتاب لكانوا أسرع إلى الهدى من الناس كلهم ، فقيل لهم : قد جاءكم بيان من الله وهدى


ورحمة ، ولما تقرر أن البينة قد جاءت والحجة قد قامت حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ) بهذه الآيات البينات ، (وَصَدَفَ) معناه حاد وراغ وأعرض ، وقرأ يحيى بن وثاب وابن أبي عبلة «كذب» بتخفيف الذال ، والجمهور «كذّب» بتشديد الذال ، و (سَنَجْزِي الَّذِينَ) وعيد ، وقرأت فرقة «يصدفون» بكسر الدال وقرأت فرقة «يصدفون» بضم الدال.

قوله عزوجل :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨)

الضمير في (يَنْظُرُونَ) هو للطائفة التي قيل لها قبل فقد جاءكم بينة من ربكم وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم ، و (يَنْظُرُونَ) معناه ينتظرون ، و (الْمَلائِكَةُ) هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح ، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج. ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة ، وقرأ حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم» بالياء ، وقرأ الباقون «تأتيهم» بالتاء من فوق ، وقوله (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال الطبري: لموقف الحساب يوم القيامة ، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين ، ويحكي الزجاج أن المراد بقوله (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى. ألا ترى أن الله تعالى يقول (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢] فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف ، وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أما ظاهر اللفظ لو وقفنا معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن يخص من ذلك شرطا يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى تخيله ، لكن لما قال بعد ذلك (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) وبينت الآثار الصحاح في البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من المغرب ، قوى أن الإشارة بقوله (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها ، وقال بهذا التأويل مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم ، ويقوي أيضا أن تكون الإشارة إلى غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر.

ففي الحديث أن توبة العبد تقبل ما لم يغرغر ، وهذا إجماع لأن من غرغر وعاين فهو في عداد الموتى ، وكون المرء في هذه الحالة من آيات الله تعالى ، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام الساعة.

قال القاضي أبو محمد : فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال : هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب ، والأخذات المعهودة لله عزوجل ، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة.


قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يريد بقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) الآية التي ترفع التوبة معها ، وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها ، وقرأ زهير الفرقبي «يوم يأتي» بالرفع وهو على الابتداء والخبر في الجملة التي هي «لا ينفع» بتاء ، وأنث الإيمان لما أضيف إلى مؤنث. أو لما نزل منزلة التوبة ، وقال جمهور أهل التأويل كما تقدم الآية التي لا تنفع التوبة من الشرك أو من المعاصي بعدها ، هي طلوع الشمس من المغرب.

وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث ، إما طلوع الشمس من مغربها ، وإما خروج الدابة ، وإما خروج يأجوج ومأجوج.

قال أبو محمد : وهذا فيه نظر لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس.

وروي في هذا الحديث أن الشمس تجري كل يوم حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها في طلوع المشرق ، وحتى إذا أراد الله عزوجل سد باب التوبة أمرها بالطلوع من مغربها ، قال ابن مسعود وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتطلع هي والقمر كالبعيرين القرينين ، ويقوي النظر أيضا أن الغرغرة هي الآية التي ترفع معها التوبة ، وقوله (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) يريد جميع أعمال البر فرضها ونفلها ، وهذا الفصل هو للعصاة المؤمنين كما قوله (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) هو للكفار ، والآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين ، وقرأ أبو هريرة «أو كسبت في إيمانها صالحا» ، وقوله تعالى : (قُلِ انْتَظِرُوا) الآية تتضمن الوعيد أي فسترون من يحق كلامه ويتضح ما أخبر به.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

قال ابن عباس والصحاب وقتادة : المراد اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم الحنيفية ، وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه ، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد ، فهو دين جميع الناس بهذا الوجه ووصفهم «بالشيع» إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات ، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة الاختلاف ، وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة محمد ، أي فرقوا دين الإسلام ، وقرأ علي بن أبي طالب وحمزة والكسائي «فارقوا». ومعناه تركوا ، ثم بيّن قوله (وَكانُوا شِيَعاً) أنهم فرقوه أيضا ، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد ما يتشايعون عليه ، وقوله (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق ، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع ، ولأنهم لهم حظ من تفريق الدين ، وقوله (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) إلى آخر الآية وعيد محض ، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله فيه وعيد ، كما أن القرينة في قوله (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ)


[البقرة : ٢٧٥] تعطي أن في ذلك الأمر رجاء كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير ، وقرأ النخعي والأعمش وأبو صالح «فرقوا» بتخفيف الراء وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة فيشبه أن يقال إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر. وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) الآية. قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر : هذه الآية نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة فضاعف الله حسناتهم للحسنة عشر. وكان المهاجرون قد ضوعف لهم الحسنة سبعمائة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل يحتاج إلى سند يقطع العذر ، وقالت فرقة : هذه الآية لجميع الأمة ، أي إن الله يضاعف الحسنة بعشرة ثم بعد هذا المضمون قد يزيد ما يشاء ، وقد يزيد أيضا على بعض الأعمال كنفقة الجهاد ، وقال ابن مسعود ومجاهد والقاسم بن أبي بزة وغيرهم : «الحسنة» لا إله إلا الله «والسيئة» الكفر.

قال القاضي أبو محمد : وهذه هي الغاية من الطرفين ، وقالت فرقة : ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات ، وهذا هو الظاهر. وأنث لفظ «العشر» لأن الأمثال هاهنا بالمعنى حسنات ، ويحتمل أن الأمثال أنث لما أضيفت إلى مؤنث ، وهو الضمير كما قال الشاعر : [الطويل]

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرياح النواسم

فأنث وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب «فله عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الأعمال ست موجبة وموجبة ومضعفة ومضعفة ومثل ومثل. فلا إله إلا الله توجب الجنة. والشرك يوجب النار. ونفقة الجهاد تضعف سبعمائة ضعف ، والنفقة على الأهل حسنتها بعشرة ، والسيئة جزاؤها مثلها ، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها ، وقوله تعالى : (لا يُظْلَمُونَ) أي لا يوضع في جزائهم شيء في غير موضعه ، وتقدير الآية من جاء بالحسنة فله ثواب عشر أمثالها ، والمماثلة بين الحسنة والثواب مترتبة إذا تدبرت ، وقال الطبري قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) الآية ، يريد من الذين فرقوا دينهم أي من جاء مؤمنا فله الجنة.

قال القاضي أبو محمد : والقصد بالآية إلى العموم في جميع العالم أليق باللفظ.

قوله عزوجل :

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣)

هذا أمر من الله عزوجل نبيه عليه‌السلام بالإعلان بشريعته والانتباه من سواها من أضاليلهم ،


ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة ، و (هَدانِي) معناه أرشدني بخلق الهدى في قلبي. والرب المالك ، ولفظه مصدر من قولك ربه يربه ، وإنما هو مثل عدل ورضى في أنه مصدر وصف به وأصله ذو الرب ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل الرب. و «الصراط» الطريق. و (دِيناً) منصوب ب (هَدانِي) المقدر الذي يدل عليه (هَدانِي) الأول ، وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار إلى. إذ هدى يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني وبحرف الجر ، فهو فعل متردد. وقيل نصب (دِيناً) فعل مضمر تقديره عرفني دينا. وقيل تقديره فاتبعوا دينا أو فالزموا دينا ، وقيل نصب على البدل من (صِراطٍ) على الموضع ، أن تقديره هداني ربي صراطا مستقيما ، و (قِيَماً) نعت للدين ، ومعناه مستقيما معتدلا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «قيّما» بفتح القاف وكسر الياء وشدها. وأصله قيوم عللت كتعليل سيد وميت ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «قيما» بكسر القاف وفتح الياء على وزن فعل ، وكأن الأصل أن يجيء فيه قوما كعوض وحول إلا أنه شذ كشذوذ قولهم جياد في جمع جواد وثيرة في جمع ثور ، و (مِلَّةَ) بدل من الدين ، والملة الشريعة و (حَنِيفاً) نصب على الحال من (إِبْراهِيمَ) ، والحنف في كلام العرب الميل فقد يكون الميل إلى فساد كحنف الرجل.

وكقوله (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) [البقرة : ١٨٢] على قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة ونحو ذلك. وقد يكون الحنف إلى الصلاح كقوله عليه‌السلام : «الحنيفية السمحة» ، و «الدين الحنيف» ونحوه ، وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة وإنما سمي الأحنف في الرجل على جهة التفاؤل له. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) نفي للنقيصة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي) الآية ، أمر من الله عزوجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عزوجل وإرادة وجهه وطلب رضاه ، وفي إعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عزوجل ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه وحياته وموته بيد الله عزوجل ، يصرفه في جميع ذلك كيف شاء ، وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم ، ويكون قوله (بِذلِكَ أُمِرْتُ) على هذا التأويل راجعا إلى قوله (لا شَرِيكَ لَهُ) فقط أو راجعا إلى القول الأول وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما ذكر من صلاة وغيرها ، أي أمرت بأن أقصد وجه الله عزوجل في ذلك وأن التزم العمل ، وقرأ جمهور الناس : «ونسكي» بضم السين ، وقرأ أبو حيوة والحسن بإسكان السين ، وقالت فرقة «النسك» في هذه الآية الذبائح.

قال القاضي أبو محمد : ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة ، وقالت فرقة : «النسك» في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبد ، وقرأ السبعة سوى نافع و «محياي ومماتي» بفتح الياء من «محياي» وسكونها من «مماتي» ، وقرأ نافع وحده و «محياي» بسكون الياء من «محياي» ، قال أبو علي الفارسي وهي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين ، وشاذة في الاستعمال ووجهها أنه قد سمع من العرب التقت حلقتا البطان ولفلان ثلثا المال ، وروى أبو خليد عن نافع و «محياي» بكسر الياء ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري و «محيي» ، وهذه لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب :


سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم

فتصرعوا ولكل جنب مصرع

وقرأ عيسى بن عمر «صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي» بفتح الياء فيهن وروي ذلك عن عاصم. وقوله تعالى : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي من هذه الأمة ، وقال النقاش من أهل مكة.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى واحد بل الأول أعم وأحسن وقرأت فرقة «وأنا» بإشباع الألف وجمهور القراء على القراءة «وأنا» دون إشباع ، وهذا كله في الوصل.

قال القاضي أبو محمد : وترك الإشباع أحسن لأنها ألف وقف فإذا اتصل الكلام استغنى عنها لا سيما إذا وليتها همزة.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك ، فنزلت هذه الآية ، وهي استفهام يقتضي التقرير والتوقيف والتوبيخ ، و (أَبْغِي) معناه أطلب ، فكأنه قال : أفيحسن عندكم أن أطلب إلها غير الله الذي هو رب كل شيء؟ وما ذكرتم من كفالتكم لا يتم لأن الأمر ليس كما تظنونه ، وإنما كسب كل نفس من الشر والإثم عليها وحدها (وَلا تَزِرُ) أي لا تحمل وازرة أي حاملة حمل أخرى وثقلها ، والوزر أصله الثقل ، ثم استعمل في الإثم لأنه ينقض الظهر تجوزا واستعارة ، يقال منه : وزر الرجل يزر فهو وازر ووزر يوزر فهو موزور ، وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) تهديد ووعيد (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي فيعلمكم أن العقاب على الاعوجاج تبيين لموضع لحق ، وقوله (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يريد على ما حكى بعض المتأولين من أمري في قول بعضكم هو ساحر وبعضكم هو شاعر. وبعضكم افتراه ، وبعضكم اكتتبه ونحو هذا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع وإن كان اللفظ يعم جميع أنواع الاختلافات من الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك ، و (خَلائِفَ) جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يتصور في جميع الأمم وسائر أصناف الناس ، لأن من أتى خليفة لمن مضى ولكنه يحسن في أمة محمد عليه‌السلام أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم ، وليس لهم من يخلفهم إذ هم آخر الأمم وعليهم قيام الساعة.

وروى الحسن بن أبي الحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : توفون سبعين أمة أنتم خيرها


وأكرمها على الله ، ويروى أنتم آخرها وأكرمها على الله : وقوله (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) لفظ عام في المال والقوة والجاه وجودة النفوس والأذهان وغير ذلك ، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله تعالى الخلق فيرى المحسن من المسيء ، ولما أخبر عزوجل بهذا ففسح للناس ميدان العمل وحضهم على الاستباق إلى الخير توعّد ووعد تخويفا منه وترجية ، فقال (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) وسرعة عقابه إما بأخذاته في الدنيا ، وإما بعقاب الآخرة ، وحسن أن يوصف عقاب الآخرة ب (سَرِيعُ) لما كان متحققا مضمون الإتيان والوقوع ، فكل آت يحكم عليه بالقرب ويوصف به (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ترجية لمن أذنب وأراد التوبة ، وهذا في كتاب الله كثير اقتران الوعيد بالوعد لطفا من الله تعالى بعباده.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

سورة الأعراف

وهي مكية كلها قاله الضحاك وغيره ، وقال مقاتل هي مكية إلا قوله (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) [الأعراف : ١٦٣] إلى قوله : (مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢] فإن هذه الآيات مدنية.

قوله عزوجل :

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة التي في أوائل السور وذكر اختلاف المتأولين فيها ، ويختص هذا الموضع زائدا على تلك الأقوال بما قاله السدي : إن (المص) هجاء اسم الله هو المصور ، وبقول زيد بن علي إن معناه أنا الله الفاصل.

وقوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ، قال الفراء وغيره (كِتابٌ) رفع على الخبر للحروف ، كأنه قال هذه الحروف كتاب أنزل إليك ، ورد الزجّاج على هذا القول بما لا طائل فيه ، وقال غيره : (كِتابٌ) رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب و (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في موضع الصفة ل (كِتابٌ) ، ثم نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجا ، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه‌السلام ، وأصل الحرج الضيق ، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق ، و «الحرج» هاهنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر ، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج هاهنا ، وتفسيره بالشك قلق ، والضمير في (مِنْهُ) عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه ، و «من» هاهنا لابتداء الغاية ، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية ، وقيل على الابتداء.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك.

وقوله تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديما وتأخيرا ، وقوله (لِتُنْذِرَ) اللام متعلقة ب (أُنْزِلَ). وقوله (وَذِكْرى) معناه تذكرة وإرشاد ، و (ذِكْرى) في موضع رفع عطفا على قوله (كِتابٌ). فالتقدير هذه الحروف كتاب وذكرى ، وقيل رفعه على جهة العطف على صفة الكتاب فالتقدير هذه الحروف كتاب منزل إليك وذكرى ، فهي عطف على منزل


داخلة في صفة الكتاب ، وقيل (ذِكْرى) في موضع نصب بفعل مضمر تقديره لتنذر به وتذكر ذكرى للمؤمنين ، وقيل نصبها على المصدر وقيل (ذِكْرى) في موضع خفض عطفا على قوله (لِتُنْذِرَ) أي لإنذارك وذكرى.

وقوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية ، قال الطبري وحكاه : التقدير قل اتبعوا ، فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدم الذكر عليه ، وقالت فرقة قوله اتبعوا أمر يعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن يكون أمرا لجميع الناس أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن ، وقرأ الجحدري «ابتغوا ما أنزل» ، من الابتغاء ، وقرأ مجاهد «ولا تبتغوا» من الابتغاء أيضا ، وقوله (أَوْلِياءَ) ، يريد كل ما عبد واتبع من دون الله كالأصنام والأحبار والكهان والنار والكواكب وغير ذلك ، والضمير في قوله (مِنْ دُونِهِ) راجع على (رَبِّكُمْ) ، هذا أظهر وجوهه وأبينها ، وقيل يعود على قوله (اتَّبِعُوا ما) ، وقيل يعود على الكتاب المتقدم الذكر ، و (قَلِيلاً) نعت لمصدر نصب بفعل مضمر ، وقال مكي هو منصوب بالفعل الذي بعده ، قال الفارسي و (ما) في قوله (ما تَذَكَّرُونَ) موصولة بالفعل وهي مصدرية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تذكّرون» بتشديد الذال والكاف ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «تذكّرون» بتخفيف الذال وتشديد الكاف ، وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بالياء كناية عن غيب ، وروي عنه أنه قرأ «تتذكرون» بتاءين على مخاطبة حاضرين.

قوله عزوجل :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧)

(كَمْ) في موضع رفع بالابتداء والخبر (أَهْلَكْناها) ، ويصح أن يكون الخبر في قوله (فَجاءَها) و (أَهْلَكْناها) صفة ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها تقديره وكم أهلكنا من قرية أهلكناها ، وقدر الفعل بعدها ـ وهي خبرية ـ تشبيها لها بالاستفهامية في أن لها في كل حال صدر الكلام ، وقالت فرقة المراد وكم من أهل قرية وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وقالت فرقة إنما عبر بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا هلك البشر وقريتهم ، وقد بين في آخر الآية بقوله (أَوْ هُمْ) أن البشر داخلون في الهلاك ، فالآية على هذا التأويل تتضمن هلاك القرية وأهلها جميعا ، وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل ولا معنى لذكر القرية ، والمراد بالآية التكثير ، وقرأ ابن أبي عبلة : «وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا». وقوله (فَجاءَها) يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك ، وذلك مستحيل فلم يبق إلا أن يعدل على ظاهر هذا التعقيب فقيل الفاء قد تجيء بمنزلة الواو ولا تعطى رتبة.


قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وقيل عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك ، قال مكي في المشكل : مثل قوله (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨].

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتج به في تأويل من قال الفاء في هذه الآية لتعقيب القول ، وقيل المعنى «أهلكناها» بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك ، وقال الفراء وحكاه الطبري أن الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة ، وقيل إن الفاء لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.

و (بَياتاً) نصب على المصدر في موضع الحال ، و (قائِلُونَ) من القائلة ، وإنما خص وقتي الدعة والسكون لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول لما فيه من البغت والفجأة ، و (أَوْ) في هذا الموضع كما تقول : الناس في فلان صنفان حامد أو ذام ، فكأنه قال جاءهم بأسنا فرقتين بائتين أو قائلين ، وهذا هو الذي يسمى اللف ، وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة ، والبأس : العذاب ، وقيل : المراد أو وهم قائلون فكره اجتماع حرفي العطف فحذفت الواو وهذا تكلف لأن معنى اللف باق.

وقوله تعالى : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) الآية ، تبين في هذه الآية غاية البيان أن المراد في الآية قبلها أهل القرى ، والدعوى في كلام العرب لمعنيين ، أحدهما الدعاء قال الخليل : تقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه قول عزوجل : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) [الأنبياء : ١٥].

ومنه قول الشاعر [الطويل]

وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي

بدعواك من مذل بها فيهون

والثاني الادعاء ، فقال الطبري : هي في هذا الموضع يعني الدعاء.

قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يكون أيضا بمعنى الادعاء ، لأن من ناله مكروه أو حزبه حادث فمن شأنه أن يدعو كما ذهب إليه المفسرون في فعل هؤلاء المذكورين في هذه الآية ، ومن شأنه أيضا أن يدعي معاذير وأشياء تحسن حاله وتقيم حجته في زعمه ، فيتجه أن يكون هؤلاء بحال من يدعي معاذير ونحوها ، فأخبر الله عنهم أنهم لم تكن لهم دعوى ثم استثنى من غير الأول ، كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف ، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف ، ونحو من الآية قول الشاعر : [الفرزدق]

وقد شهدت قيس فما كان نصرها

قتيبة إلا عضها بالأباهم

واعترافهم وقولهم (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) هو في المدة بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم ، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة وغيرها ، وروى ابن مسعود عن النبي عليه‌السلام أنه قال «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم». وفسر عبد الملك بن ميسرة هذا الحديث بهذه الآية. و (دَعْواهُمْ) خبر كان ، واسمها (إِلَّا أَنْ قالُوا) وقيل بالعكس.

وقوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) الآية وعيد من الله عزوجل لجميع العالم ، أخبر أنه


يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم ويسأل النبيين عما بلغوا.

قال القاضي أبو محمد : وقد نفي السؤال في آيات وذلك هو سؤال الاستفهام الحقيقي وقد أثبت في آيات كهذه الآية وهذا هو سؤال التقرير ، فإن الله قد أحاط علما بكل ذلك قبل السؤال فأما الأنبياء والمؤمنون فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة ، وأما الكفار ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة فيعقبهم جوابهم عذابا وتوبيخا ، فمن أنكر منهم قص عليه بعلم ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «فلنسألن الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ولنسألن المرسلين».

وقوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَ) أي فلنسردن عليهم أعمالهم قصة قصة ، (بِعِلْمٍ) أي بحقيقة ويقين ، قال ابن عباس : يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.

قال القاضي أبو محمد : يشبه أن يكون الكلام هنا استعارة إذ كل شيء فيه مقيد ، (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أي ما كنا من لا يعلم جميع تصرفاتهم كالغائب عن الشيء الذي لا يعرف له حالا.

قوله عزوجل :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

(الْوَزْنُ) مصدر وزن يزن ، ورفعه بالابتداء و (الْحَقُ) خبره ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرف منتصب ب (الْوَزْنُ) ويصح أن يكون (يَوْمَئِذٍ) خبر الابتداء ، و (الْحَقُ) نعت ل (الْوَزْنُ) والتقدير الوزن الحق ثابت أو ظاهر يومئذ ، و (يَوْمَئِذٍ) إشارة إلى يوم القيامة والفصل بين الخلائق ، واختلف الناس في معنى الوزن والموازين فقالت فرقة : إن الله عزوجل أراد أن يعلم عباده أن الحساب والنظر يوم القيامة هو في غاية التحرير ونهاية العدل فمثل لهم في ذلك بالوزن والميزان إذ لا يعرف البشر أمرا أكثر تحريرا منه ، فاستعير للعدل وتحرير النظر لفظة الوزن والميزان كما استعار ذلك أبو طالب في قوله :

بميزان قسط لا يخس شعيرة

له حاكم من نفسه غير عائل

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أصح من الأول من جهات ، أولها أن ظواهر كتاب الله عزوجل تقتضيه وحديث الرسول عليه‌السلام ينطق به ، من ذلك : قوله لبعض الصحابة وقد قال له يا رسول الله أين أجدك في القيامة؟ فقال «اطلبني عند الحوض فإن لم تجدني فعند الميزان» ، ولو لم يكن الميزان مرئيا محسوسا لما أحاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الطلب عنده ، وجهة أخرى أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته ، وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة اللفظ إلى مجازه دون علة؟ وجهة ثالثة وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعا ، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر.


وروي هذا القول عن مجاهد والضحاك وغيره ، وكذلك استعير على قولهم الثقل والخفة لكثرة الحسنات وقلتها ، وقال جمهور الأمة : إن الله عزوجل أراد أن يعرض لعباده يوم القيامة تحرير النظر وغاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا وعهدته أفهامهم ، فميزان القيامة له عمود وكفتان على هيئة موازين الدنيا ، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه‌السلام ، وقالوا : هذا الذي اقتضاه لفظ القرآن ولم يرده نظر.

قال القاضي أبو محمد : فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها ، وأما «الثقل» و «الخفة» فإن الآثار تظاهرت بأن صحائف الحسنات والسيئات توضع في كفتي الميزان فيحدث الله في الجهة التي يريد ثقلا وخفة على نحو إحداثه ذلك في جسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقت نزول الوحي عليه ، ففي الصحيح من حديث زيد بن ثابت أنه قال : كنت أكتب حتى نزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] وفخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فخذي حتى كادت أن ترض فخذي ، وفي الحديث أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به عجزا عن حمله لثقل الحادث فيه ، ولا بد لنا أن نعلم أن الثقل الحادث مع الحسنات إنما يتعلق بجسم ، إذ العرض لا يقوم بالعرض ، فجائز أن يحدث الثقل في الصحائف وهو أقربها إلى الظن ، وجائز أن يحدث في ذلك من الأجسام المجاورة لتلك الحال ، وإلى حدوثه في الصحائف ذهب أبو المعالي ، ورويت في خبر الميزان آثار عن صحابة وتابعين في هيئته وطوله وأحواله لم تصح بالإسناد ، فلم نر للإطالة بها وجها ، وقال الحسن فيما روي عنه : بلغني أن لكل أحد يوم القيامة ميزانا على حدة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود الناس على خلافه ، وإنما لكل أحد وزن يختص به والميزان واحد ، وروي عن مجاهد في قوله (ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أن «الموازين» الحسنات نفسها.

قال القاضي أبو محمد : وجمع لفظ «الموازين» إذ في الميزان موزونات كثيرة فكأنه أراد التنبيه عليها بجمعه لفظ الميزان. و (الْمُفْلِحُونَ) في اللغة المدركون لبغيتهم الناجحون في طلبهم ومنه قول عبيد: [الرجز]

أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض

ضعف وقد يخدع الأريب

فأما قول الشاعر : [المنسرح]

والمسي والصبح لا فلاح معه

فقد قيل إنه بمعنى البقاء.

قال القاضي أبو محمد : والبقاء بلوغ بغية فالمعنيان متقاربان ، ووزن الله تعالى أعمال العباد مع علمه بدقائق الأشياء وجلائلها نظير كتبه أعمالهم في صحائفهم واستنساخه ذلك ونظير استنطاقه جوارحهم بالشهادة عليهم إقامة للحجة وإيضاحا ، فقد تقرر في الشرع أن كلمة التوحيد ترجح ميزان من وزنت في أعماله ولا بد ، فإن قال قائل كيف تثقل موازين العصاة من المؤمنين بالتوحيد ويصح لهم حكم الفلاح ثم


تدخل طائفة منهم النار وذلك شقاء لا محالة؟ فقالت طائفة إنه توزن أعمالهم دون التوحيد فتخف الحسنات فيدخلون النار ثم عند إخراجهم يوزن التوحيد فتثقل الحسنات فيدخلون الجنة ، وأيضا فمعرفة العاصي أنه غير مخلد فلاح وإن تقدمه شقاء على جهة التأديب.

وقوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) الآية ، المعنى من خفت كفة حسناته فشالت ، و (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بالهلاك والخلود في النار وتلك غاية الخسارة ، وقوله : (بِما كانُوا) أي جزاء بذلك كما تقول أكرمتك بما أكرمتني ، و «ما» في هذا الموضع مصدرية ، و «الآيات» هنا البراهين والأوامر والنواهي و (يَظْلِمُونَ) أي يضعونها في غير مواضعها بالكفر والتكذيب.

قوله عزوجل :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

الخطاب لجميع الناس ، والمراد أن النوع بجملته ممكن في الأرض ، و «المعايش» جمع معيشة وهي لفظة تعم المأكول الذي يعاش به والتحرف الذي يؤدي إليه ، وقرأ الجمهور «معايش» بكسر الياء دون همز ، وقرأ الأعرج وغيره «معائش» بالهمز كمدائن وسفائن ، ورواه خارجة عن نافع ، وروي عن ورش «معايش» بإسكان الياء ، فمن قرأ «معايش» بتصحيح الياء فهو الأصوب لأنها جمع معيشة وزنها مفعلة ، ويحتمل أن تكون مفعلة بضم العين قالهما سيبويه ، وقال الفراء مفعلة بفتح العين فالياء في معيشة أصلية وأعلت معيشة لموافقتها الفعل الذي هو يعيش في الياء أي في المتحرك والساكن ، وصححت «معايش» في جمع التكسير لزوال الموافقة المذكورة في اللفظ ولأن التكسير معنى لا يكون في الفعل إنما تختص به الأسماء ، ومن قرأ «معايش» فعلى التخفيف من «معايش» ، ومن قرأ «معائش» فأعلها فذلك غلط ، وأما توجيهه فعلى تشبيه الأصل بالزائد لأن معيشة تشبه في اللفظ صحيفة فكما يقال صحائف قيل «معائش» ، وإنما همزت ياء صحائف ونظائرها مما الياء فيه زائدة لأنها لا أصل لها في الحركة وإنما وزنها فعلية ساكنة ، فلما اضطر إلى تحريكها في الجمع بدلت بأجلد منها.

و (قَلِيلاً) نصب ب (تَشْكُرُونَ) ، ويحتمل أن تكون (ما) زائدة ، ويحتمل أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر ، (قَلِيلاً) نعت لمصدر محذوف تقديره شكرا قليلا شكركم ، أو شكرا قليلا تشكرون.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الآية ، هذه الآية معناها التنبيه على موضع العبرة والتعجيب من غريب الصنعة وإسداء النعمة ، فبدأ بالخلق الذي هو الإيجاد بعد العدم ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر ، وإلا فلم يعر المخلوق قط من صورة ، واضطراب الناس في ترتيب هذه الآية لأن ظاهرها يقتضي أن الخلق والتصوير لبني آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا ، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك ، فقالت فرقة : المراد بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) آدم بنفسه وإن كان الخطاب لبنيه ، وذلك لما كان سبب وجود بنيه بما فعل فيه صح مع تجوز أن يقال إنه فعل في بنيه ، وقال


مجاهد : المعنى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) في صلب آدم وفي وقت استخراج ذرية آدم من ظهره أمثال الذر في صورة البشر.

قال القاضي أبو محمد : ويترتب في هذين القولين أن تكون (ثُمَ) على بابها في الترتيب والمهلة ، وقال عكرمة والأعمش : المراد خلقناكم في ظهور الآباء وصورناكم في بطون الأمهات. وقال ابن عباس والربيع بن أنس : أما (خَلَقْناكُمْ) فآدم وأما (صَوَّرْناكُمْ) فذريته في بطون الأمهات ، وقاله قتادة والضحاك. وقال معمر بن راشد من بعض أهل العلم : بل ذلك كله في بطون الأمهات ، من خلق وتصوير.

قال القاضي أبو محمد : وقالت هذه الفرقة إن (ثُمَ) لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها. وقال الأخفش (ثُمَ) في هذه الآية بمعنى الواو ، ورد عليه نحويو البصرة.

و «ملائكة» وزنه إما مفاعلة وإما معافلة بحسب الاشتقاق الذي قد مضى ذكره في سورة البقرة ، وهنالك ذكرنا هيئة السجود والمراد به ومعنى إبليس وكيف كان قبل المعصية ، وأما قوله في هذه الآية (إِلَّا إِبْلِيسَ) فقال الزجّاج هو استثناء ليس من الأول ولكن إبليس أمر بالسجود بدليل قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] وقال غير الزجّاج : الاستثناء من الأول لأنّا لو جعلناه منقطعا على قول من قال إن إبليس لم يكن من الملائكة لوجب أن إبليس لم يؤمر بالسجود ، إلا أن يقول قائل هذه المقالة إن أمر إبليس كان بوجه آخر غير قوله : (اسْجُدُوا) وذلك بيّن الضعف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «للملائكة اسجدوا» بضم الهاء وهي قراءة ضعيفة. ووجهها أنه حذف همزة (اسْجُدُوا) وألقى حركتها عن الهاء ، وذلك لا يتجه لأنها همزة محذوفة مع جر الهاء بحركة ، أي شيء يلغى والإلغاء إنما يكون في الوصل.

قوله عزوجل :

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦)

(ما) استفهام والمقصود به التوبيخ والتقريع ، ولا في قوله «أن لا» قيل هي زائدة ، والمعنى ما منعك أن تسجد وهي ك «لا» في قول الشاعر : [الطويل]

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

وهذا على أحد الأقوال في هذا البيت فقيل «لا» فيه زائدة. وقال الزجّاج : مفعولة والبخل بدل منها ، وحكى الطبري عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء : أن الرواية فيه لا البخل بخفض اللام لأن «لا» قد تتضمن جودا إذا قالها من أمر بمنع الحقوق والبخل عن الواجبات. ومن الأبيات التي جاءت لا فيها زائدة قول الشاعر : [الكامل]

افعنك لا برق كأنّ وميضه

غاب تسنمه ضرام مثقب


وقيل في الآية ليست لا زائدة ، وإنما المعنى ما منعك فأحوجك أن تسجد ، وقيل : لما كان (ما مَنَعَكَ) بمعنى من أمرك ومن قال لك حسن أن يقول بعدها (أَلَّا تَسْجُدَ).

قال القاضي أبو محمد : وجملة هذا الغرض أن يقدر في الكلام فعل يحسن حمل النفي عليه ، كأنه قال ما أحوجك أو حملك أو اضطرك ، وجواب إبليس اللعين ليس عما سئل عنه ولكنه جاء بكلام يتضمن الجواب والحجة عليه ، فكأنه قال : منعني فضلي إذ أنا خير منه حين خلقتني من نار وخلقته من طين. وروي عن ابن عباس أنه قال : لا أسجد وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا ، يقول إن النار أقوى من الطين وظن إبليس أن النار أفضل من الطين وليس كذلك بل هي في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق ، فلما ظن إبليس أن صعود النار وخفتها يقتضي فضلا على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين فأخطأ قياسه وذهب عليه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من طين ، قال الطبري ذهب عليه ما في النار من الطيش والخفة والاضطراب ، وفي الطين من الوقار والأناة والحمل والتثبت.

قال القاضي أبو محمد : وفي كلام الطبري نظر ، وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.

قال القاضي أبو محمد : قال الطبري يعنيان الخطأ ولا دليل من لفظهما عليه ولا يتأول عليهما إنكار القياس ، وإنما خرج كلامهما نهيا عما كان في زمنهما من مقاييس الخوارج وغيرهم ، فأرادا حمل الناس على الجادة.

وقوله تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها) الآية ، أمر من الله عزوجل لإبليس بالهبوط في وقت عصيانه في السجود ، فيظهر من هذا أنه إنما أهبط أولا وأخرج من الجنة وصار في السماء ، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم. وقوله : (فَما يَكُونُ لَكَ) معناه فما يصح لك ولا يتم ، وليس يقتضي هذا اللفظ أن التكبر له في غيرها على ما ذهب إليه بعض المعترضين ، تضمنت الآية أن الله أخبر إبليس أن الكبرياء لا يتم له ولا يصح في الجنة مع نهيه له ولغيره عن الكبرياء في كل موضع وأما لو أخذنا (فَما يَكُونُ) على معنى فما يحسن وما يجمل كما تقول للرجل ما كان لك أن لا تصل قرابتك لغير معنى الإغلاظ على إبليس. وقوله : (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) حكم عليه بضد المعصية التي عصى بها وهي الكبرياء فعوقب بالحمل عليه بخلاف شهوته وأمله ، والصغار الذل قاله السدي.

ثم سأل إبليس ربه أن يؤخره إلى يوم البعث طمع أن لا يموت ، إذ علم أن الموت ينقطع بعد البعث ومعنى (أَنْظِرْنِي) أخرني فأعطاه الله النظرة إلى يوم الوقت المعلوم ، فقال أكثر الناس الوقت المعلوم هو النفخة الأولى في الصور التي يصعق لها من في السماوات ومن في الأرض من المخلوقين ، وقالت فرقة بل أحاله على وقت معلوم عنده عزوجل يريد به يوم موت إبليس وحضور أجله دون أن يعين له ذلك ، وإنما تركه في عماء الجهل به ليغمه ذلك ما عاش.


قال القاضي أبو محمد : وقال بعض أهل هذه المقالة : إن إبليس قتلته الملائكة يوم بدر ورووا في ذلك أثرا ضعيفا.

قال القاضي أبو محمد : والأول من هذه الأقوال أصح وأشهر في الشرع ، ومعنى (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) من الطائفة التي تأخرت أعمارها كثيرا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها ، فقد عم تلك الفرقة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر.

وقوله : (فَبِما) يحتمل أن يريد به القسم كما تقول فبالله لأفعلن ، ويحتمل أن يريد به معنى المجازاة كما تقول فبإكرامك يا زيد لأكرمنك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا أليق المعاني بالقصة ، ويحتمل أن يريد فمع إغوائك لي ومع ما أنا عليه من سوء الحال لأتجلدن ولأقعدن ، ولا يعرض لمعنى المجازاة ويحتمل أن يريد بقوله (فَبِما) الاستفهام عن السبب في إغوائه ، ثم قطع ذلك وابتدأ الإخبار عن قعوده لهم ، وبهذا فسر الطبري أثناء لفظه و (أَغْوَيْتَنِي) قال الجمهور معناه أضللتني من الغي. وعلى هذا المعنى قال محمد بن كعب القرظي فيما حكى الطبري : قاتل الله القدرية لإبليس أعلم بالله منهم ، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل ، وقال الحسن (أَغْوَيْتَنِي) لعنتني. وقيل معناه خيبتني.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله تفسير بأشياء لزمت إغواءه ، وقالت فرقة (أَغْوَيْتَنِي) معناه أهلكتني ، حكى ذلك الطبري ، وقال : هو من قولك غوى الفصيل يغوي غوى إذا انقطع عنه اللبن فمات. وأنشد : [الطويل]

معطّفة الأثناء ليس فصيلها

برازئها درا ولا ميت غوى

قال : وقد حكي عن بعض طيىء : أصبح فلان غاويا أي مريضا ، وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ) يريد على صراطك وفي صراطك وحذف كما يفعل في الظروف ، ونحوه قول الشاعر : [ساعدة بن جؤية].

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

وقال مجاهد : (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) يريد به الحق. وقال عون بن عبد الله : يريد طريق مكة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تخصيص ضعيف وإنما المعنى لأتعرضن لهم في طريق شرعك وعبادتك ومنهج النجاة فلأصدنهم عنه. ومنه قوله عليه‌السلام : «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، نهاه عن الإسلام وقال تترك دين آبائك فعصاه فأسلم فنهاه عن الهجرة وقال تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر ، فنهاه عن الجهاد وقال تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة» الحديث.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ(١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

هذا توكيد من إبليس في أنه يجد في إغواء بني آدم ، وهذا لم يكن حتى علم إبليس أن الله يجعل في


الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات.

قال القاضي أبو محمد : ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا ، فعبر ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم ، وفي اللفظ تجوز ، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقال ابن عباس فيما روي عنه : أراد بقوله (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الآخرة (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الدنيا (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) الحق ، (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) الباطل. وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) هي الدنيا (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) هي الآخرة (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) الحسنات (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) السيئات. وقال مجاهد : من «بين أيديهم وعن أيمانهم» : معناه حيث يبصرون «ومن خلفهم وعن شمائلهم» حيث لا يبصرون.

وقوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) خبر أن سعايته تفعل ذلك ظنا منه وتوهما في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك ، قال ابن عباس وقتادة : إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل الله له سبيلا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه ، وما ظنه إبليس صدقه الله عزوجل. ومنه قوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٢٠] فجعل أكثر العالم كفرة ، ويبينه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث : «يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم أخرج بعث النار ، فيقول : يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة». ونحوه مما يخص أمة محمد عليه‌السلام : «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود».

قال القاضي أبو محمد : وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده ، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس ، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء ، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض ، وهذا فيه بعد ، و (شاكِرِينَ) معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن ، قاله ابن عباس وغيره.

وقوله تعالى : (قالَ اخْرُجْ مِنْها) الضمير في (مِنْها) عائد على الجنة و (مَذْؤُماً) معناه معيبا يقال ذأمه إذا عابه ومنه الذأم وهو العيب. وفي المثل : «لن تعدم لحسناء ذاما» ، أي عيبا ، وسهلت فيه الهمزة ، ومنه قول قيل حمير : أردت أن تذيمه فمدهته يريد فمدحته ، وحكى الطبري أنه يروى هذا البيت : [الطويل]

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة

فلمّا انجلت قطعت نفسي أذيمها

قال القاضي أبو محمد : والرواية المشهورة ألومها. ومن الشاهد في اللفظ قول الكميت : [الخفيف]

وهم الأقربون من كلّ خير

وهم الأبعدون من كل ذام

ومن الشاهد في مدحور قول الشاعر : [الوافر]

ودحرت بني الحصيب إلى قديد

وقد كانوا ذوي أشر وفخر

وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش في هذه الآية «مذوما» على التسهيل ، و (مَدْحُوراً) معناه مقصيا


مبعدا. وقرأت فرقة «لمن تبعك» بفتح اللام وهي على هذه لام القسم المخرجة الكلام من الشك إلى القسم ، وقرأ عاصم الجحدري والأعمش «لمن تبعك» بكسر اللام ، والمعنى لأجل من تبعك (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) فأدخله في الوعيد معهم بحكم هذه الكاف في (مِنْكُمْ).

قوله عزوجل :

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٩)

إذا أمر الإنسان بشيء هو متلبس به فإنما المقصد بذلك أن يستمر على حاله ويتمادى في هيئته.

وقوله تعالى لآدم (اسْكُنْ) هو من هذا الباب ، وأكد الضمير الذي في قوله (اسْكُنْ) بقوله (أَنْتَ) وحينئذ جاز العطف عليه وهو ضمير لا يجوز إظهاره ولا يترتب ، والعطف على الضمير الملفوظ به لا يجوز إلا بعد تأكيده كقولك قمت أنت وزيد لأن الضمير بمنزلة حرف من الفعل ، وهذا الضمير الذي في (اسْكُنْ) أضعف من الملفوظ به فأحرى أن لا يصح العطف عليه إلا بعد التأكيد.

وقوله : (فَكُلا) هو من أكل فأصله أكلا فحذفت فاء الفعل لاجتماع المثلين واستغني عن الأخرى لما تحرك ما بعدها ، وحسن أيضا حذف فاء الفعل لأنهم استثقلوا الحركة على حرف علة ، وهذا باب كل فعل أوله همزة ووزنه فعل كأخذ وأمر ونحوه وكان القياس أن لا يحذف فاء الفعل ولكن ورد استعمالهم هكذا ، ويقال قرب يقرب ، و (هذِهِ الشَّجَرَةَ) الظاهر أنه أشار إلى شخص شجرة واحدة من نوع وأرادها. ويحتمل أن يشير إلى شجرة معينة وهو يريد النوع بجملته ، وعبر باسم الواحدة كما تقول أصاب الناس الدينار والدرهم وأنت تريد النوع.

قال القاضي أبو محمد : وعلى الاحتمالين فآدم عليه‌السلام إنما قصد في وقت معصية فعل ما نهي عنه قاله جمهور المتأولين ، وبذلك أغواه إبليس لعنه الله بقوله إنك لم تنه إلا لئلا تخلد أو تكون ملكا ، فيبطل بهذا قول من قال إن آدم إنما أخطأ متأولا بأن ظن النهي متعلقا بشخص شجرة فأكل من النوع فلم يعذر بالخطأ.

قال القاضي أبو محمد : وذلك أن هذا القائل إنما يفرض آدم معتقدا أن النهي إنما تعلق بشجرة معينة فكيف يقال له مع هذا الاعتقاد إنك لم تنه إلا لئلا تخلد ثم يقصد هو طلب الخلود في ارتكاب غير ما نهي عنه؟ ولا فرق بين أكله ما يعتقد أنه لم ينه عنه وبين أكله سائر المباحات له.

قال القاضي أبو محمد : والهاء الأخيرة في (هذِهِ) بدل من الياء في هذي أبدلت في الوقف ثم ثبتت في الوصل هاء حملا على الوقف ، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة إلا «هذه» وقرأ ابن محيصن «هذي الشجرة» على الأصل ، وقوله : (فَتَكُونا) نصب في جواب النهي.

قال القاضي أبو محمد : وتعلق الناس بهذه الآية في مسألة الحظر والإباحة ، وذلك أن مسألة الحظر والإباحة تكلم الناس فيها على ضربين فأما الفقهاء فدعاهم إلى الكلام فيها أنه تنزل نوازل لا توجد منصوصة في كتاب الله عزوجل ولا في سنة نبيه ولا في إجماع. ويعتم وجه استقرائها من أحد هذه الثلاثة


وقياسها على ما فيها ، فيرجع الناظر بعد ذلك ينظر على أي جهة يحملها من الإجازة والمنع ، فقال بعضهم إذا نزل مثل هذا فنحمله على الحظر ونأخذ فيه بالشدة ونستبرىء لأنفسنا ، إذ الله عزوجل قد بين لنا في كتابه جميع ما يجب بيانه ، وأحل ما أراد تحليله ، ولم يترك ذكر هذه النازلة إلا عن قصد فاجترامنا نحن عليها لا تقتضيه الشريعة ، وقال بعضهم بل نحملها على الإباحة لأن الله عزوجل قد أكمل لنا ديننا وحرم علينا ما شاء تحريمه ، ولم يهمل النص على نازلة إلا وقد تركها في جملة المباح ، وبعيد أن يريد في شيء التحريم ولا يذكره لنا ويدعنا في عمى الجهالة به ، فإنما نحملها على الإباحة حتى يطرأ الحظر ، وقال بعضهم بل نحمل ذلك على الوقف أبدا ولا نحكم فيه بحظر ولا إباحة بل نطلب فيه النظر والقياس أبدا ، وذلك أنّا نجد الله عزوجل يقول في كتابه (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ) في مواضع ، ويقول (أُحِلَّ لَكُمْ) في مواضع. فدل ذلك على أن كل نازلة تحتاج إلى شرع وأمر ، إما مخصوصا بها وإما مشتملا عليها وعلى غيرها ، ولو كانت الأشياء على الحظر لما قال في شيء حرم عليكم ولو كانت على الإباحة لما قال في شيء أحل لكم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا أبين الأقوال ولم يتعرض الفقهاء في هذه المسألة إلى النظر في تحسين العقل وتقبيحه ، وإنما تمسكوا في أقوالهم هذه بأسباب الشريعة وذهبوا إلى انتزاع مذاهبهم منها ، وأما الضرب الثاني من كلام الناس في الحظر والإباحة فإن المعتزلة ومن قال بقولهم إن العقل يحسن ويقبح نظروا في المسألة من هذه الجهة فقالوا نفرض زمنا لا شرع فيه أو رجلا نشأ في برية ولم يحس قط بشرع ولا بأمر ولا بنهي أو نقدر آدم عليه‌السلام وقت إهباطه إلى الأرض قد ترك وعقله قبل أن يؤمر وينهى كيف كانت الأشياء عليه أو كيف يقتضي العقل في الزمن والرجل المفروضين ، فقال بعضهم الذي يحسن في العقل أن تكون محظورة كلها حتى يرد الإذن باستباحتها ، وذلك أن استباحتها تعد على ملك الغير وإذا قبح ذلك في الشاهد فهو في حق الله أعظم حرمة ، وذهب بعض هذه الفرقة إلى استثناء التنفس والحركة من هذا الحظر وقالوا إن هذه لا يمكن غيرها.

قال القاضي أبو محمد : ويمكن أن يقدر الاضطرار إليها إباحة لها ، وقال بعضهم : بل يحسن في العقل أن تكون مباحة إذ التحكم في ملك الغير بوجه لا ضرر عليه فيه كالاستظلال بالجدران ونحوه مباح ، فإذا كان هذا في الشاهد جائزا فهو في عظم قدر الله تعالى ووجوده أجوز ، إذ لا ضرر في تصرفنا نحن في ملكه ، ويتعلق بحقه شيء من ذلك ، وقال أهل الحق والسنة في هذا النحو من النظر ، بل الأمر في نفسه على الوقف ولا يوجب العقل تحسينا ولا تقبيحا بمجرده يدان به ، ولا يتجه حكم الحسن والقبيح إلا بالشرع ، وقال بعضهم : والعقل لم يخل قط من شرع ، فلا معنى للخوض في هذه المسألة ولا لفرض ما لا يقع ، وذهبوا إلى الاحتجاج بأن آدم عليه‌السلام قد توجهت عليه الأوامر والنواهي في الجنة ، بقوله تعالى له حين جرى الروح في جسده فعطس : قل الحمد لله يا آدم ، وبقوله : اسكن وكل ولا تقرب ونحو هذا ، وقال القاضي ابن الباقلاني في التقريب والإرشاد : إن الفقهاء الذين قالوا بالحظر والإباحة لم يقصدوا الكون مع المعتزلة في غوايتهم ، ولكنهم رأوا لهم كلاما ملفقا مموها فاستحسنوه دون أن يشعروا بما يؤول إليه من الفساد في القول بتحسين العقل وتقبيحه.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام حمل على فقهاء الشرع واستقصار لهم ، والصواب أن لا


يظن بهم هذا الخلل وإنما التمسوا على نوازلهم تعليق حكم الحظر والإباحة من الشرع وهم مع ذلك لا يحمل عليهم أنهم يدفعون الحق في أن العقل لا يحسن ولا يقبح دون الشرع ، وقد تقدم في سورة البقرة ذكر الاختلاف في الشجرة وتعيينها.

قوله عزوجل :

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١)

«الوسوسة» الحديث في اختفاء همسا وسرارا من الصوت ، والوسواس صوت الحلي فشبه الهمس به ، وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه ، هذا حال الشيطان معنا الآن ، وأما مع آدم فممكن أن تكون وسوسة بمجاورة خفية أو بإلقاء في نفس ، ومن ذلك قول رؤية : [الرجز]

وسوس يدعو جاهرا رب الفلق

فهذه عبارة عن كلام خفي ، و (الشَّيْطانُ) يراد به إبليس نفسه ، واختلف نقلة القصص في صورة وسوسته فروي أنه كان يدخل إلى الجنة في فم الحية مستخفيا بزعمه فيتمكن من الوسوسة ، وروي أن آدم وحواء كانا يخرجان خارج الجنة فيتمكن إبليس منهما ، وروي أن الله أقدره على الإلقاء في أنفسهما فأغواهما وهو في الأرض.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف يرده لفظ القرآن ، واللام في قوله (لِيُبْدِيَ) هي على قول كثير من المؤلفين لام الصيرورة والعاقبة ، وهذا بحسب آدم وحواء وبحسب إبليس في هذه العقوبة المخصوصة لأنه لم يكن له علم بها فيقصدها.

قال القاضي أبو محمد : ويمكن أن تكون لام كي على بابها بحسب قصد إبليس إلى حط مرتبتهما وإلقائهما في العقوبة غير مخصصة ، و (ما وُورِيَ) معناه ما ستر ، من قولك وارى يواري إذ ستر ، وظاهر هذا اللفظ أنها مفاعلة من واحد ، ويمكن أن تقدر من اثنين لأن الشيء الذي يوارى هو أيضا من جهة ، وقرأ ابن وثاب «ما وري» بواو واحدة ، وقال قوم : إن هذه اللفظة في هذه الآية مأخوذة من وراء.

قال القاضي أبو محمد : وهو قول يوهنه التصريف ، و «السوأة» : الفرج والدبر ، ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء ، وقرأ الحسن ومجاهد من «سوّتهما» بالإفراد وتسهيل الهمزة وشد الواو ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحسن والزهري : «من سوّاتهما» بتسهيل الهمزة وتشديد الواو وحكاها سيبويه لغة ، قال أبو الفتح : ووجهها حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو ، فيقولون سوة ومنهم من يشدد الواو ، وقالت طائفة إن هذه العبارة إنما قصد بها أنهما كشفت لهما معانيهما وما يسوءهما ولم يقصد بها العورة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول كان اللفظ يحتمله إلا أن ذكر خصف الورق يرده إلا أن يقدر


الضمير في (عَلَيْهِما) [الآية : ٢٢] عائدا على بدنيهما إذ تمزقت عنهما ثياب الجنة ، فيصح القول المذكور.

وقوله تعالى : (وَقالَ ما نَهاكُما) الآية هذا القول الذي حكي عن إبليس يدخله من هذا التأويل ما دخل الوسوسة ، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحوارا ، وممكن أن يقولها إلقاء في النفس ووحيا و (إِلَّا أَنْ) تقديره عند سيبويه والبصريين إلا كراهية أن ، وتقديره عند الكوفيين «إلا أن لا» على إضمار لا.

قال القاضي أبو محمد : ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار الحروف ، وقرأ جمهور الناس «ملكين» بفتح اللام وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحاك «ملكين» بكسر اللام ، ويؤيد هذه القراءة قوله في آية أخرى (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠].

قال القاضي أبو محمد : وقال بعض الناس : يخرج من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر وهي مسألة اختلف الناس فيها وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة والفضل بيد الله ، وقال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا تكون لهما شهوة في طعام ، (وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما بالله وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعطي أنها من واحد ، ومثله قول الهذلي :

وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وروي في القصص أن آدم قال في جملة اعتذاره : ما ظننت يا رب أن أحدا يحلف حانثا ، فقال بعض العلماء خدع الشيطان آدم بالله عزوجل فانخدع ، ونحن من خدعنا بالله عزوجل انخدعنا له ، وروي نحوه عن قتادة ، واللام في قوله (لَكُما) متعلقة بالناصحين ، فقال بعض الناس مكي وغيره : ذلك على أن تكون الألف واللام لتعريف الجنس لا بمعنى الذي ، لأنها إذا كانت بمعنى الذي كان قوله (لَكُما) داخلا في الصلة فلا يجوز تقديمه ، وأظن أن أبا علي الفارسي خرج جواز تقديمه وهي بمعنى الذي ، والظاهر أنه إن جعلت بمعنى الذي كانت اللام في قوله (لَكُما) متعلقة بمحذوف تقديره إني ناصح لكما من الناصحين ، وقال أبو العالية في بعض القراءة «وقاسمهما بالله».

قوله عزوجل :

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣)

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره.

قال القاضي أبو محمد : ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك ، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه


فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف ، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي ، وفي آية أخرى (فَأَكَلا مِنْها) [طه : ١٢١].

وقوله تعالى :

(بَدَتْ) قيل تخرقت عنهما ثياب الجنة وملابسها وتطايرت تبريا منهما ، وقال وهب بن منبه كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما فانقشع بالمعصية ذلك النور ، وقال ابن عباس وقتادة : كان عليهما ظفر كاس فلما عصيا تقلص عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية فيجددان الندم ، (وَطَفِقا) معناه أخذا وجعلا وهو فعل لا يختص بوقت كبات وظل.

و (يَخْصِفانِ) معناه يلصقانها ويضمان بعضها إلى بعض ، والمخصف الإشفى ، وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة ، وقرأ جمهور الناس «يخصفان» من خصف ، وقرأ عبد الله بن بريدة «يخصّفان» من خصف بشد الصاد وقرأ الزهري «يخصفان» من أخصف ، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب : «يخصّفان» بفتح الياء والخاء وكسر الصاد وشدها ، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب ، وأصلها يختصفان كما تقول سمعت الحديث واستمعته فأدغمت التاء في الصاد ونقلت حركتها إلى الخاء ، وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه ، لكن لما سكنت التاء وأدغمت في الصاد اجتمع ساكنان فكسرت الخاء على عرف التقاء ساكنين ، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد وشدها وقد تقدم تعليلها ، قال ابن عباس : إن الورق الذي خصف منه ورق التين ، وروى أبيّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن آدم عليه‌السلام كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سحوق ، فلما واقع المعصية وبدت له حاله فرّ على وجهه فأخذت شجرة بشعر رأسه يقال إنها الزيتونة فقال لها : أرسليني فقالت ما أنا بمرسلتك ، فناداه ربه أمني تفر يا آدم؟ قال لا يا رب ، ولكن أستحييك ، قال أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا ، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا.

وقوله تعالى :

(وَناداهُما) الآية ، قال الجمهور إن هذا النداء نداء وحي بواسطة ، ويؤيد ذلك أنّا نتلقى من الشرع ان موسى عليه‌السلام هو الذي خصص بين العالم بالكلام ، وأيضا ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين ، يقولون لموسى يوم القيامة أنت خصك الله بكلامه واصطفاك برسالته اذهب فاشفع للناس ، وهذا ظاهره أنه مخصص ، وقالت فرقة بل هو نداء تكليم.

قال القاضي أبو محمد : وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن آدم فقال نبي مكلم ، وأيضا فإن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض ، فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى عليه‌السلام ، ويؤيد أنه نداء وحي اشتراك حواء فيه ، ولم يرو قط أن الله عزوجل كلم حواء ، ويتأول قوله عليه‌السلام «نبي مكلّم» أنه بمعنى موصل إليه كلام الله تعالى ، وقوله عزوجل (أَلَمْ أَنْهَكُما) سؤال


تقرير يتضمن التوبيخ ، وقوله (تِلْكُمَا) يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة ، (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [طه : ١١٧].

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه ، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما» ، وقولهما (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) اعتراف من آدم وحواء عليهما‌السلام وطلب للتوبة والستر والتغمد بالرحمة ، فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه ، قال الضحاك هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه.

قوله عزوجل :

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦)

المخاطبة بقوله : (اهْبِطُوا) قال أبو صالح والسدي والطبري وغيرهم : هي لآدم وحواء وإبليس والحية ، وقالت فرقة : هي مخاطبة لآدم وذريته وإبليس وذريته.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت ، فإن قيل خاطبهم وأمرهم بشرط الوجود فذلك يبعد في هذه النازلة لأن الأمر بشرط الوجود إنما يصح إذا ترتب على المأمور بعد وجوده وصح معناه عليه كالصلاة والصوم ونحو ذلك ، وأما هنا فإن معنى الهبوط لا يتصور في بني آدم بعد وجودهم ولا يتعلق بهم من الأمر به شيء ، وأما قوله في آية أخرى (اهْبِطا) [طه : ١٢٣] فهي مخاطبة لآدم وإبليس بدليل بيانه العداوة بينهما ، وعدو فرد بمعنى الجمع ، تقول قوم عدو وقوم صديق. ومنه قول الشاعر :

لعمري لئن كنتم على النأي والغنى

بكم مثل ما بي إنكم لصديق

وعداوة الحياة معروفة ، وروى قتادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما سالمناهن منذ حاربناهن» ، وقال عبد الله بن عمر : «من تركهن فليس منا» ، وقالت عائشة «من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

قال القاضي أبو محمد : وإنما يعرض في أمرهن حديث الفتى في غزوة الخندق ، وقول النبي عليه‌السلام : إن جنا بالمدينة قد أسلموا فمن رأى من هذه الحيات شيئا في بيته فليحرج عليه ثلاثا فإن رآه بعد ذلك فليقتله فإنما هو كافر.

وقوله تعالى ، (مُسْتَقَرٌّ) لفظ عام لزمن الحياة ولزمن الإقامة في القبور ، وبزمن الحياة فسر أبو العالية وقال : هي كقوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] وبالإقامة في القبور فسر ابن عباس واللفظ يعمهما فهي كقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) [المرسلات : ٢٥] وأما «المتاع» فهو بحسب


شخص شخص ، في زمن الحياة اللهم إلا أن يقدر سكنى القبر متاعا بوجه ما ، و «المتاع» التمتع والنيل من الفوائد ، و (إِلى حِينٍ) هو بحسب الجملة قيام الساعة ، وبحسب مفرد بلوغ الأجل والموت ، والحين في كلام العرب الوقت غير معين.

وروي أن آدم عليه‌السلام أهبط بالهند وحواء بجدة ، وتمناها بمنى ، وعرف حقيقة أمرها بعرفة ، ولقيها بجمع وأهبط إبليس بميسان وقيل بالبصرة وقيل بمصر فباض فيها وفرخ ، قال ابن عمر وبسط إبليس فيها عبقريه ، وذكر صالح مولى التؤمة قال في بعض الكتب لما أهبط إبليس قال رب أين مسكني؟ قال مسكنك الحمام ومجلسك الأسواق ولهوك المزامير وطعامك ما لم يذكر عليه اسمي وشرابك المسكر ، ورسلك الشهوات وحبائلك النساء. وأهبطت الحية بأصبهان.

وروي أنها كانت ذات قوائم كالبعير فعوقبت بأن ردت تنساب على بطنها ، وروي أن آدم لما أهبط إلى شقاء الدنيا علم صنعة الحديد ثم علم الحرث فحرث وسقى وحصد وذرا وطحن وعجن وخبز وطبخ وأكل فلم يبلغ إلى ذلك حتى بلغ من الجهد ما شاء الله ، وروي أن حواء قيل لها يا حواء كما دميت الشجرة فأنت تدمين في كل شهر وأنت لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها ، قال فرنت عند ذلك فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه القصة من الأنباء كثير اختصرتها إذ لا يقتضيها اللفظ.

وقوله تعالى : (فِيها تَحْيَوْنَ) الآية ، حكم من الله عزوجل أمضاه وجعله حتما في رقاب العباد يحيون في الأرض ويموتون فيها ويبعثون منها إلى الحشر أحياء كما أنشأ أول خلق يعيده ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء هنا ، وفي الروم و (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آياتِهِ) [الآية : ١٩] وكذلك حيث تكرر إلا في الروم (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الآية : ٢٥] وفي سأل سائل (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) [الآية : ٤٣] فإن هذين بفتح التاء والياء وضم الراء ، ولم يختلف الناس فيهما ، وقرأ حمزة والكسائي في الأعراف (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الآية : ٢٥] بفتح التاء وضم الراء وفتح ابن عامر التاء في الأعراف وضمها في الباقي.

وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ) الآية ، هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه‌السلام والسبب والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت ، ذكر النقاش ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج وعامرا والحارث ابني عبد مناف فإنها كانت عادتهم رجالا ونساء ، وذلك غاية العار والعصيان ، قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع الآيات ، وقوله : (أَنْزَلْنا) يحتمل أن يريد التدريج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس ، قال عن اللباس أنزلنا ، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطرا.

أقبل في المستن من سحابه

اسنمة الآبال في ربابه

أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة ب (أَنْزَلْنا) كقوله (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ) [الحديد : ٢٥] وقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] وأيضا فخلق الله عزوجل وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة ، و (لِباساً) عام في جميع ما يلبس ، و (يُوارِي) يستر ، وفي حرف


أبيّ «سوءاتكم وزينة ولبس التقوى» ، وفي مصحف ابن مسعود «ولباس التقوى خير ذلكم» ، ويروى عنه ذلك ، وسقطت «ذلك» الأولى ، وقرأ سكن النحوي «ولبوس التقوى» بالواو مرفوعة السين ، وقرأ الجمهور من الناس «وريشا» وقرأ الحسن وزر بن حبيش وعاصم فيما روى عنه أبو عمرو أيضا ، وابن عباس وأبو عبد الرحمن ومجاهد وأبو رجاء وزيد بن علي وعلي بن الحسين وقتادة «ورياشا» ، قال أبو الفتح : وهي قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أبو حاتم : رواها عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وهما عبارتان عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود الملبس والتمتع ، وفسره قوم بالأثاث ، وفسره ابن عباس بالمال ، وكذلك قال السدي والضحاك ، وقال ابن زيد «الريش» الجمال ، وقيل «الرياش» جمع ريش كبير وبئار وذيب وذياب ولصب ولصاب وشعب وشعاب وقيل الرياش مصدر من أراشه الله يريشه إذا أنعم عليه ، والريش مصدر أيضا من ذلك وفي الحديث «رجل راشه الله مالا».

قال القاضي أبو محمد : ويشبه ان هذا كله من معنى ريش الطائر وريش السهم إذ هو لباسه وسترته وعونه على النفوذ ، وراش الله مأخوذ من ذلك ، ألا ترى أنها تقرن ببرى ومن ذلك قول الشاعر : [لعمير بن حباب]

فرشني بخير طال ما قد بريتني

وخير الموالي من يريش ولا يبري

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباس» بالنصب عطفا على ما تقدم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة «ولباس» بالرفع فقيل هو خبر ابتداء مضمر تقديره وهو لباس ، وقيل هو مبتدأ و (ذلِكَ) مبتدأ آخر و (خَيْرٌ) خبر (ذلِكَ) ، والجملة خبر الأول ، وقيل هو مبتدأ و (خَيْرٌ) خبره و (ذلِكَ) بدل أو عطف بيان أو صفة ، وهذا أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة.

وقوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) إشارة إلى جميع ما أنزل من اللباس والريش ، وحكى النقاش أن الإشارة إلى لباس التقوى أي هو في العبد آية علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه ، و (لَعَلَّهُمْ) ترج بحسبهم ومبلغهم من المعرفة وقال ابن جريج (لِباسُ التَّقْوى) الإيمان ، وقال معبد الجهني : هو الحياء ، وقال ابن عباس هو العمل الصالح ، وقال أيضا ، هو السمت الحسن في الوجه ، وقاله عثمان بن عفان على المنبر ، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله ، وقال ابن زيد هو ستر العورة ، وقيل (لِباسُ التَّقْوى) الصوف وكل ما فيه تواضع لله عزوجل ، وقال الحسن : هو الورع والسمت والحسن في الدنيا ، وقال ابن عباس (لِباسُ التَّقْوى) العفة ، وقال زيد بن علي (لِباسُ التَّقْوى) السلاح وآلة الجهاد.

قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها مثل وهي من (لِباسُ التَّقْوى).

قال القاضي أبو محمد : وتتصور الصفة التي حكاها أبو علي في قوله : (ذلِكَ) لأن الأسماء توصف بمعنى الإشارة كما تقول جاءني زيد هذا كأنك قلت جاءني زيد المشار إليه فعلى هذا الحد توصف الأسماء بالمبهمات ، وأما قوله فيه عطف بيان وبدل فهما واحد في اللفظ إنما الفرق بينهما في المعنى والمقصد ، وذلك أنك تريد في البدل كأنك أزلت الأول وأعملت العامل في الثاني على نية تكرار العامل ، وتريد في عطف البيان كأنك أبقيت الأول ثم ثنيته بعينه في ذكر الثاني وإنما يبين الفرق بين البدل وعطف البيان في


مسألة النداء إذا قلت يا عبد الله زيد فالبدل في هذه المسألة هو على هذا الحد برفع زيد لأنك تقدر إزالة عبد الله وإضافة «يا» إلى زيد ولو عطفت عطف البيان لقلت يا عبد الله زيد لأنك أردت بيانه ولم تقدر إزالة الأول وينشد هذا البيت : [الرجز]

اني وأسطار سطرن سطرا

لقائل يا نصر نصرا نصرا

ويا نصر الأول على عطف البيان والثاني على البدل.

وقوله عزوجل :

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨)

هذه المخاطبة لجميع العالم والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عراة ، فقيل كان ذلك من عادة قريش ، وقال قتادة والضحاك : كان ذلك من عادة قبيلة من اليمن ، وقيل كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس وهم قريش ومن والاها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح لأن قريشا لما سنوا بعد عام الفيل سننا عظموا بها حرمتهم كانت هذه من ذلك ، فكان العربي إما أن يعيره أحد من الحمس ثوبا فيطوف فيه ، وإما أن يطوف في ثيابه ثم يلقيها ، وتمادى الأمر حتى صار عند العرب قربة فكانت العرب تقول نطوف عراة كما خرجنا من بطون أمهاتنا ولا نطوف في ثياب قد تدنسنا فيها بالذنوب ، ومن طاف في ثيابه فكانت سنتهم كما ذكرنا أن يرمي تلك الثياب ولا يتتفع بها وتسمى تلك الثياب اللقى ، ومنه قول الشاعر :

كفى حزنا كرّي عليه كأنه

لقى بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تطوف عريانة حتى كانت إحداهن تقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما بدا منه فلا أحله

فنهى الله عزوجل عن جميع ذلك ونودي بمكة في سنة تسع لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، و «الفتنة» في هذه الآية الاستهواء والغلبة على النفس ، وظاهر قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ) نهي الشيطان ، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الاستماع له والطاعة لأمره كما قالوا لا أرينك هاهنا ، فظاهر اللفظ نهي المتكلم نفسه ، ومعناه نهي الآخر عن الإقامة بحيث يراه ، وأضاف الإخراج في هذه الآية الى إبليس وذلك تجوز بسبب أنه كان ساعيا في ذلك ومسببا له ، ويقال أب وللأم أبة ، وعلى هذا قيل أبوان ، و (يَنْزِعُ) في موضع الحال من الضمير في (أَخْرَجَ) ، وتقدم الخلاف في «اللباس» من قول من قال الأظفار ومن قال النور


ومن قال ثياب الجنة ، وقال مجاهد هي استعارة وإنما أراد لبسة التقى المنزلة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ) الآية ، زيادة في التحذير وإعلام أن الله عزوجل قد مكن الشيطان من ابن آدم في هذا القدر وبحسب ذلك يجب أن يكون التحذر بطاعة الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد : والشيطان موجود قد قررته الشريعة وهو جسم ، (وَقَبِيلُهُ) يريد نوعه وصنفه وذريته.

و (حَيْثُ) مبنية على الضم ، ومن العرب من يبنيها على الفتح ، وذلك لأنها تدل على موضع بعينه ، قال الزجاج : ما بعدها صلة لها وليست بمضافة إليه ، قال أبو علي : هذا غير مستقيم وليست (حَيْثُ) بموصولة إذ ليس ثم عائد كما في الموصولات ، وهي مضافة إلى ما بعدها.

ثم أخبر عزوجل أنه صير «الشياطين أولياء» أي صحابة ومداخلين إلى الكفرة الذين لا إيمان لهم ، وذكر الزهراوي أن جعل هنا بمعنى وصف.

قال القاضي أبو محمد : وهي نزعة اعتزالية.

وقوله (وَإِذا فَعَلُوا) وما بعده داخل في صفة الذين لا يؤمنون ليقع التوبيخ بصفة قوم جعلوا مثالا للموبخين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم ، ويصح أن تكون هذه الآية مقطوعة من التي قبلها ابتداء إخبار عن كفار العرب ، و «الفاحشة» في هذه الآية وإن كان اللفظ عاما هي كشف العورة عند الطواف فقد روي عن الزهري أنه قال : إن في ذلك نزلت هذه الآية ، وقاله ابن عباس ومجاهد ، وكان قول بعض الكفار إن الله أمر بهذه السنن التي لنا وشرعها ، فرد الله عليهم بقوله (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ثم وبخهم على كذبهم ووقفهم على قولهم ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هو دعوى واختلاق.

قوله عزوجل :

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

تضمن قوله (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أقسطوا ولذلك عطف عليه قوله (وَأَقِيمُوا) حملا على المعنى ، و «القسط» العدل والحق ، واختلف المتأولون في قوله (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فقيل أراد إلى الكعبة قاله مجاهد والسدي والمقصد على هذا شرع القبلة والأمر بالتزامها ، وقيل أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول وجهت وجهي لله قاله الربيع.

قال القاضي أبو محمد : فلا يؤخذ الوجه على أنه الجارحة بل هو المقصد والمنزع ، وقيل : المراد بهذا اللفظ إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض ، أي حيث ما كنتم فهو مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة


إقامة وجهوكم فيه لله عزوجل ، قال قوم : سببها أن قوما كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم في قبلتهم ، فإذا حضرت الصلاة في غير ذلك من المساجد لم يصلّوا فيها ، وقوله (مُخْلِصِينَ) حال من الضمير في (وَادْعُوهُ) ، و (الدِّينَ) مفعول ب (مُخْلِصِينَ).

قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وابن عباس ومجاهد : المراد بقوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الإعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت فالوقف على هذا التأويل (تَعُودُونَ) ، و (فَرِيقاً) نصب ب (هَدى) ، والثاني منصوب بفعل تقديره : وعذب فريقا أو أضل «فريقا حق عليهم» ، وقال ابن عباس أيضا وأبو العالية ومحمد بن كعب ومجاهد أيضا وسعيد بن جبير والسدي وجابر بن عبد الله وروي معناه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المراد بقوله (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الإعلام بأن أهل الشقاء والكفر في الدنيا الذين كتب عليهم هم أهل الشقاء في الآخرة وأهل السعادة والإيمان الذين كتب لهم في الدنيا هم أهلها في الآخرة لا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها وأنفذها شيء ، فالوقف في هذا التأويل في قوله (تَعُودُونَ) غير حسن ، و (فَرِيقاً) على هذا التأويل نصب على الحال والثاني عطف على الأول ، وفي قراءة أبي بن كعب «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة» ، والضمير في (إِنَّهُمُ) عائد على الفريق الذين حق عليهم الضلالة ، و (أَوْلِياءَ) معناه : أنصارا وأصحابا وإخوانا ، (وَيَحْسَبُونَ) معناه يظنون يقال : حسبت أحسب حسبانا وحسبا ومحسبة ، قال الطبري : وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أن الله تعالى لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب ، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر «أنهم اتخذوا» بفتح الألف.

قوله عزوجل :

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها ، والزينة هاهنا الثياب الساترة قاله مجاهد والسدي ، وقال طاوس : الشملة من الزينة.

قال القاضي أبو محمد : ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعمله الخيلاء ، و (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها هذا هو مهم الأمر ، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها ، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك ، وذكر مكي حديثا أن معنى (خُذُوا زِينَتَكُمْ) صلوا في النعال ، وما أحسبه يصح.

وقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم والودك في أيام الموسم ،


قاله السدي وابن زيد ، وتدخل مع ذلك أيضا البحيرة والسائبة ونحو ذلك ، وقد نص على ذلك قتادة وقال إن البحيرة وما جانسها هي المراد بقوله تعالى : (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، وقوله تعالى : (وَلا تُسْرِفُوا) معناه ولا تفرطوا ، قال أهل التأويل : يريد ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرم الله عزوجل ، قال ابن عباس : ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي.

قال القاضي أبو محمد : يريد في الحلال القصد ، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقا فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن ، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضا من المسرفين وتوجه النهي عليه ، مثل ذلك أن يفرط الإنسان في شراء ثياب ونحوها ويستنفد في ذلك جل ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه ، فالله عزوجل لا يحب شيئا من هذا ، وقد نهت الشريعة عنه ، ولذلك وقف النبي عليه‌السلام بالموصي عند الثلث ، وقال بعض العلماء : لو حط الناس إلى الربع لقول النبي عليه‌السلام «والثلث كثير» ، وقد قال ابن عباس في هذه الآية ، أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة.

وأمر الله عزوجل نبيه عليه‌السلام أن يسألهم عمن حرم ما أحل الله على جهة التوبيخ والتقرير وليس يقتضي هذا السؤال جوابا ، وإنما المراد منه التوقيف على سوء الفعل ، وذكر بعض الناس أن السؤال والجواب جاء في هذه الآية من جهة واحدة وتخيل قوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) جوابا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نظر فاسد ليس ذلك بجواب السؤال ولا يقتضي هذا النوع من الأسئلة جوابا ، و (زِينَةَ اللهِ) هي ما حسنته الشريعة وقررته. وزينة الدنيا هي كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين وهي الزينة التي فضل الشرع عليها. وقوله : (وَالطَّيِّباتِ) قال الجمهور يريد المحللات. وقال الشافعي وغيره يريد المستلذات.

قال القاضي أبو محمد : إلا أن ذلك ولا بد يشترط فيه أن يكون من الحلال ، وإنما قاد الشافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوزغ وغيرها فإنه يقول هي من الخبائث محرمة.

وقوله تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ).

قرأ نافع وحده «خالصة» بالرفع والباقون «خالصة» بالنصب ، والآية تتأول على معنيين أحدهما أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا ، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون ، فقوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق ب (آمَنُوا). وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. فإنه قال (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ينتفعون بها في الدنيا ولا يتبعهم إثمها ، وقوله «خالصة» بالرفع خبر هي ، و (لِلَّذِينَ) تبيين للخلوص ، ويصح أن يكون خالصة خبرا بعد خبر ، و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يريد به وقت الحساب ، وقرأ قتادة والكسائي «قل هي لمن آمن في الحياة الدنيا» ، والمعنى الثاني هو أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا وإن كانت أيضا لغيرهم معهم وهي يوم القيامة خالصة لهم أي لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة ، وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد ، فقوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) على هذا


التأويل متعلق بالمحذوف المقدر في قوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) كأنه قال هي خالصة أو ثابتة في الحياة الدنيا للذين آمنوا ، و «خالصة» بالرفع خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء مقدر تقديره : وهي خالصة يوم القيامة ، و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يراد به استمرار الكون في الجنة ، وأما من نصب «خالصة» فعلى الحال من الذكر الذي في قوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، التقدير هي ثابتة أو مستقرة للذين آمنوا في حال خلوص لهم ، والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل في قوله (لِلَّذِينَ). وقال أبو علي في الحجة : ويصح أن يتعلق قوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بقوله (حَرَّمَ) ولا يصح أن يتعلق ب (زِينَةَ) لأنها مصدر قد وصف ، ويصح أن يتعلق بقوله (أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جدا كما جاء في قوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس : ٢٧] فقوله (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) معطوف على (كَسَبُوا) داخل في الصلة ، والتعلق ب (أَخْرَجَ) هو قول الأخفش ويصح أن يتعلق بقوله : (وَالطَّيِّباتِ). ويصح أن يتعلق بقوله : (مِنَ الرِّزْقِ) ويصح أن يتعلق بقوله (آمَنُوا).

قال القاضي أبو محمد : وهذا الأخير هو أصح الأقوال على هذا التأويل الأول فيما رتبناه هنا. وأما على التأويل الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر أبو علي وإنما يظهر أن يتعلق بالمحذوف المقدر في قوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا). وقوله تعالى : (كَذلِكَ) تقدير الكلام أي كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك وعلى تلك الصورة نفصل الآيات أي نبين الأمارات والعلامات والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به ، و (نُفَصِّلُ) معناه نقسم ونبين لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول.

قوله عزوجل :

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦)

لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم ، أتبعه ذكر ما حرم الله عزوجل وتقديره ، و (الْفَواحِشَ) ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

إذا هي نصته ولا بمعطل

ثم استعمل فيما ساء من الخلق وألفاظ الحرج والرفث ، ومنه الحديث ليس بفاحش في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنه قوله لسلمة بن سلامة بن وقش «أفحشت على الرجل» في حديث السير ، ومنه قول الحزين في كثير عزة : [الطويل]

قصير القميص فاحش عند بيته


وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس. والقبح والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع ، والفاحش كذلك ، فقوله هنا (الْفَواحِشَ) إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر ، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه ، وقوله : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء ، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال (ما ظَهَرَ) الطواف عريانا ، والبواطن الزنى ، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال ، و (ما) بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل ، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو ، (وَالْإِثْمَ) أيضا : لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم ، هذا قول الجمهور ، وقال بعض الناس : هي الخمر واحتج على ذلك بقول الشاعر : [الوافر]

شربت الإثم حتى طار عقلي

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم ، وأيضا فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق ، وإن صح فهو على حذف مضاف ، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٩] وهو في هذه الآية قد حرم ، فيأتي من هذا أن الخمر إثم والإثم محرم فالخمر محرمة.

قال القاضي أبو محمد : ولكن لا يصح هذا لأن قوله (فِيهِما إِثْمٌ) لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة ، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه ، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ) وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع ، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة.

(وَالْبَغْيَ) : التعدي وتجاوز الحد ، كان الإنسان مبتديا بذلك أو منتصرا فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ ، وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغيا ، (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله. و «السلطان» البرهان والحجة ، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه.

وقوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) الآية ، يتضمن الوعيد والتهديد. والمعنى ولكل أمة أي فرقة وجماعة ، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس ، أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا وخالفوا أمر ربهم ، فأنتم أيتها الأمة كذلك قاله الطبري وغيره ، وقرأ الحسن «فإذا جاء آجالهم» بالجمع. وهي قراءة ابن سيرين ، قال أبو الفتح هذا هو الأظهر لأن لكل إنسان أجلا فأما الإفراد فلأنه جنس وإضافته إلى الجماعة حسنت الإفراد ، ومثله قول الشاعر : [الرجز]

في حلقكم عظم وقد شجينا


وقوله : (ساعَةً) لفظ عين به الجزء القليل من الزمن ، والمراد جميع أجزائه أي لا يستأخرون ساعة ولا أقل منها ولا أكثر ، وهذا نحو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] فإنما هي عبارة يقام الجزء فيها مقام الكل.

قال القاضي أبو محمد : وكأنه يظهر بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [إبراهيم : ١٠ ، نوح : ٤] تعارض لأن تلك تقتضي الوعد بتأخير إن آمنوا والوعيد بمعاجلة إن كفروا.

قال القاضي أبو محمد : والحق مذهب أهل السنة أن كل أحد إنما هو بأجل واحد لا يتأخر عنه ولا يتقدم. وقوم نوح كان منهم من سبق في علم الله تعالى أنه يكفر فيعاجل ، وذلك هو أجله المحتوم ، ومنه من يؤمن فيتأخر إلى أجله المحتوم وغيب عن نوح تعيين الطائفتين فندب الكل إلى طريق النجاة وهو يعلم أن الطائفة إنما تعاجل أو تؤخر بأجلها ، فكأنه يقول : فإن آمنتم علمنا أنكم ممن قضى الله له بالإيمان والأجل المؤخر ، وإن كفرتم علمنا أنكم ممن قضي له بالأجل المعجل والكفر.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا الحد هو دعاء محمد عليه‌السلام العالم إلى طريق الجنة ، وقد علم أن منهم من يكفر فيدخل النار ، وكذلك هو أمر الأسير يقال له إما أن تؤمن فتترك وإلا قتلت.

وقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ) الآية ، الخطاب في هذه الآية لجميع العالم. و «إن» الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة. ولذلك جاز دخول النون الثقيلة على الفعل ، وإذا لم تكن «ما» لم يجز دخول النون الثقيلة. وقرأ أبي بن كعب والأعرج «تأتينكم» على لفظ الرسل. «وجاء يقصون» على المعنى. وكأنه هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم ومتحصل منه لحاضري محمد عليه‌السلام أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه. و (يَأْتِيَنَّكُمْ) مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا على مراعاة وقت نزول الآية ، وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال إن الله تعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الآية ، قال ثم نظر إلى الرسل فقال (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥٢] ثم بثهم.

قال القاضي أبو محمد : ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل وقيل المراد بالرسل محمد عليه‌السلام.

قال القاضي أبو محمد : من حيث لا نبي بعده ، فكأن المخاطبين هم المراد ببني آدم لا غير ، إذ غيرهم لم ينله الخطاب ، ذكره النقاش. و (يَقُصُّونَ) معناه يسردون ويوردون. و «الآيات» لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء ، وقوله : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) يصح أن تكون «من» شرطية وجوابه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) وهذه الجملة هي في جواب الشرط الأول الذي هو (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ). ويصح أن تكون «من» في قوله (فَمَنِ اتَّقى) موصولة ، وكأنه قصد بالكلام تقسيم الناس فجعل القسم الأول (فَمَنِ اتَّقى). والقسم الثاني (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا). وجاء هذا التقسيم بجملته جوابا للشرط في قوله (إِمَّا


يَأْتِيَنَّكُمْ). فكأنه قال إن أتتكم رسل فالمتقون لا خوف عليهم ، والمكذبون أصحاب النار ، أي هذا هو الثمرة وفائدة الرسالة : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام : ١٤٤ ، الأعراف : ٣٧ ، يونس : ١٧ ، الكهف : ١٥] أي ليس ثم نفع للمفتري ولا غرض دنياوي. فالآية تبرية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الافتراء ، وتوبيخ للمفترين من الكفار. و (لا) في قوله (فَلا خَوْفٌ) بمعنى ليس ، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» دون تنوين ، ووجهه إما أن يحذف التنوين لكثرة الاستعمال وإما حملا على حذفه مع «لا». وهي تبرية ناصبة تشبه حالة الرفع في البناء بحالة النصب ، وقيل : إن المراد فلا الخوف ، ثم حذفت الألف واللام وبقيت الفاء على حالها لتدل على المحذوف ، ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها ، ويشبه أن يكون الخوف لما يستقبل من الأمور والحزن لما مضى منها.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا) هذه حالتان تعم جميع من يصد عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده وإما أن يستكبر فكذب وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو الكفر عنادا.

قوله عزوجل :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

هذه آية وعيد واستفهام على جهة التقرير ، أي لا أحد أظلم منه ، و (افْتَرى) معناه اختلق ، وهذه وإن كانت متصلة بما قبلها أي كيف يجعلون الرسل مفترين ولا أحد أظلم ممن افترى ولا حظ للرسل إلا أن يرحم من اهتدى ويعذب من كفر ، فهي أيضا مشيرة بالمعنى إلى كل مفترق إلى من تقدم ذكره من الذين قالوا (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) وقوله : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) إشارة إلى جميع الكفرة ، وقوله : (مِنَ الْكِتابِ) قال الحسن والسدي وأبو صالح معناه من المقرر في اللوح المحفوظ ، فالكتاب عبارة عن اللوح المحفوظ ، وقد تقرر في الشرع أن حظهم فيه العذاب والسخط ، وقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد : قوله : (مِنَ الْكِتابِ) يريد من الشقاء والسعادة التي كتبت له وعليه.

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا القول الحديث المشهور الذي يتضمن أن الملك يأتي إذا خلق الجنين في الرحم فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة والضحاك ، (الْكِتابِ) يراد به الذي تكتبه الملائكة من أعمال الخليقة من خير وشر فينال هؤلاء نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك (مِنَ الْكِتابِ) يراد به من القرآن ، وحظهم فيه أن وجوههم تسود يوم القيامة ، وقال الربيع بن أنس ومحمد بن كعب وابن زيد المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق وعمر وخير وشر في الدنيا ، ورجح الطبري هذا واحتج له بقوله بعد ذلك (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي عند انقضاء ذلك فكان معنى الآية على هذا التأويل أولئك يتمتعون ويتصرفون من الدنيا


بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم ، وهذا تأويل جماعة في مجيء الرسل للتوفي ، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري الذي تقدم ، وقالت فرقة (رُسُلُنا) يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة ، و (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) معناه يستوفونهم عددا في السوق إلى جهنم.

قال القاضي أبو محمد : ويترتب هذا التأويل مع التأويلات المتقدمة في قوله : (نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) لأن «النصيب» على تلك التأويلات إنما ينالهم في الآخرة ، وقد قضى مجيء رسل الموت ، وقوله حكاية عن الرسل (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ) استفهام تقرير وتوبيخ وتوقيف على خزي وهو إشارة إلى الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله. و (تَدْعُونَ) معناه تعبدون وتؤملون ، وقولهم (ضَلُّوا) معناه هلكوا وتلفوا وفقدوا. ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) وهذه الآية وما شاكلها تعارض في الظاهر قوله تعالى حكاية عنهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] واجتماعهما إما أن يكون في طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة يقولون في حال كذا وحال كذا.

قوله عزوجل :

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

هذه حكاية ما يقول الله لهم يوم القيامة بوساطة ملائكة العذاب وعبر عن يقول. ب (قالَ) لتحقق وقوع ذلك وصدق القصة ، وهذا كثير ، وقوله : (فِي أُمَمٍ) متعلق ب (ادْخُلُوا) ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره كائنين أو ثابتين في أمم ، فيكون في موضع الحال من الضمير في (ادْخُلُوا) وقيل (فِي) بمعنى مع. وقيل هي على بابها وهو أصوب ، وقوله (قَدْ خَلَتْ) صفة ل (أُمَمٍ). وقوله : (فِي النَّارِ) يصح تعلقه ب (ادْخُلُوا) ويصح أن يتعلق ب (أُمَمٍ) أي في أمم ثابتة أو مستقرة ، ويصح تعلقه بالذكر الذي في (خَلَتْ). ومعنى (قَدْ خَلَتْ) على هذا التعلق أي قد تقدمت ومضى عليها الزمن وعرفها فيما تطاول من الآباد ، وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت إذ أصلها فيمن مات من الناس أي صاروا إلى خلاء من الأرض ، وعلى التعليقين الأولين لقوله (فِي النَّارِ) فإنما (خَلَتْ) حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة ، وقدم ذكر الجن لأنهم أعرق في الكفر ، وإبليس أصل الضلال والإغواء ، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار ، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة لأنهم عقلاء مكلفون مبعوث إليهم آمنوا وصدقوا ، وقد بوب البخاري رحمه‌الله ـ باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم ـ وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون ترابا كالبهائم ، وذكر في ذلك حديثا مجهولا وما أراه يصح ، والله أعلم.

والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة. قال السدي : يتلاعن آخرها وأولها ، و (ادَّارَكُوا) معناه


تلاحقوا ووزنه تفاعلوا أصله تداركوا أدغم فجلبت ألف الوصل ، وقرأ أبو عمرو «اداركوا» بقطع ألف الوصل ، قال أبو الفتح : هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالا فذلك إنما يجيء شاذا في ضرورة الشعر في الاسم أيضا لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع ، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال «أدركوا» بفتح الراء وبحذف الألف بعد الدال بمعنى أدرك بعضهم بعضا ، وقرأ حميد «أدركوا» بضم الهمزة وكسر الراء أي أدخلوا في إدراكها. وقال مكي في قراءة مجاهد إنها «ادّاركوا» بشد الدال المفتوحة وفتح الراء ، قال : وأصله إذ تركوا وزنها افتعلوا ، وقرأ ابن مسعود والأعمش «تداركوا» ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ الجمهور «حتى إذ اداركوا» بحذف ألف «إذا» لالتقاء الساكنين.

وقوله تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) معناه قالت الأمة الأخيرة التي وجدت ضلالات مقررة وسننا كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك وافترت على الله وسلكت سبيل الضلال ابتداء ، ربنا هؤلاء طرقوا طرق الضلال وسببوا ضلالنا فآتهم عذابا مضاعفا أي ثانيا زائدا على عذابنا إذ هم كافرون ومسببون كفرنا ، وتقول ضاعفت كذا إذا جعلته مثل الأول ، واللام في قوله (لِأُولاهُمْ) كأنها لام سبب إذ القول إنما هو للرب ، ثم قال عزوجل مخبرا لهم (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي العذاب مشدد على الأول والآخر ولكن لا تعلمون أي المقادير وصور التضعيف ، وهذا رد لكلام هؤلاء ، إذ ليس لهم كرامة فيظهر إسعافهم.

وأما المعنى الذي دعوا فيه فظاهر حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه حاصل وأن كل من سن كفرا أو معصية فعليه كفل من جهة كل من عمل بذلك بعده ، ومنه حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : ما من داع دعا إلى ضلالة إلا كان عليه وزره ووزر من اتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، الحديث ، ذكره الليث بن سعد من آخر الجزء الرابع من حديثه ، وذكره مالك في الموطأ غير مسند موصل ، ومنه قوله «ما تقتل نسمة ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها» ، أما أن هؤلاء عينوا في دعائهم الضعف وقد يكون الكفل أقل أو أكثر ، وعن ابن مسعود أن «الضعف» هاهنا الأفاعي والحيات ، وقرأ جميع السبعة غير عاصم في رواية أبي بكر «ولكن لا تعلمون» بالتاء ويحتمل ذلك أن يكون مخاطبة لهذه الأمة الأخيرة متصلة بقوله لهم (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد. وأمته ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «ولكن لا يعلمون» ، وروى حفص عن عاصم مثل قراءة الجماعة ، وهذه مخاطبة لأمة محمد وإخبار عن الأمة الأخيرة التي طلبت أن يشدد العذاب على أولاها ، ويحتمل أن يكون خبرا عن الطائفتين حملا على لفظة «كل» ، أي لا يعلم أحد منهم قدر ما أعد لهم من عذاب الله.

وقوله عزوجل : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) الآية ، المعنى وقالت الأمة الأولى المبتدعة للأمة الأخيرة المتبعة أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم النذر والرسل ، بل دمتم في كفركم وتركتم النظر واستوت حالنا وحالكم فذوقوا العذاب باجترامكم ، هذا قول السدي وأبي مجلز وغيرهما ، فقوله فذوقوا على هذا من كلام الأمة المتقدمة للأمة المتأخرة ، وقيل قوله (فَذُوقُوا) هو من كلام الله عزوجل لجميعهم ، وقال مجاهد ومعنى قوله (مِنْ فَضْلٍ) أي «من» التخفيف.


قال القاضي أبو محمد : معناه أنه لما قال الله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) قال الأولون للآخرين لم تبلغوا أملا في أن يكون عذابكم أخف من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف والنص عليه.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢)

هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر «لا تفتّح» بضم التاء الأولى وتشديد الثانية ، وقرأ أبو عمرو «تفتح» بضم التاء وسكون الفاء وتخفيف الثانية ، وقرأ حمزة والكسائي «يفتح» بالياء من أسفل وتخفيف التاء ، وقرأ أبو حيوة وأبو إبراهيم «يفتّح» بالياء وفتح الفاء وشد التاء ، ومعنى الآية لا يرتفع لهم عمل ولا روح ولا دعاء ، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين بالله تعالى ، قاله ابن عباس وغيره ، وذكر الطبري في كيفية قبض روح المؤمن والكافر آثارا اختصرتها إذ ليست بلازمة في الآية ، وللين أسانيدها أيضا ، ثم نفى الله عزوجل عنهم دخول الجنة وعلق كونه بكون محال لا يكون ، وهو أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة حيث يدخل الخيط ، و (الْجَمَلُ) كما عهد وال (سَمِ) كما عهد ، وقرأ جمهور المسلمين : «الجمل» ، واحد الجمال ، وقال الحسن هو الجمل الذي يقوم بالمديد ومرة لما أكثروا عليه قال هو الأشتر وهو الجمل بالفارسية ، ومرة قال هو الجمل ولد الناقة وقاله ابن مسعود.

قال القاضي أبو محمد : وهذه عبارة تدل على حرج السائل لارتياب السائلين لا شك باللفظة من أجل القراءات المختلفة ، وذكر الطبري عن مجاهد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : «حتى يلج الجمل الأصفر» ، وقرأ أبو السمال «الجمل» بسكون الميم وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن جبير والشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء : «الجمل» بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة ، وقرأ سالم الأفطس وابن خير وابن عامر أيضا : «الجمل» بتخفيف الميم من الجمل وقالوا هو حبل السفن ، وروى الكسائي أن الذي روى تثقيل الميم عن ابن عباس كان أعجميا فشدد الميم لعجمته.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة وقرأ سعيد بن جبير فيما روي عنه : «الجمل» بضم الجيم وسكون الميم ، وقرأ ابن عباس أيضا : «الجمل» بضم الجيم والميم ، و «السم» : الثقب من الإبرة وغيرها يقال سم وسم بفتح السين وكسرها وضمها ، وقرأ الجمهور بفتح السين ، وقرأ ابن سيرين بضمها ، وقرأ أبو حيوة بضمها وبكسرها ، وروي عنه الوجهان ، و (الْخِياطِ) والمخيط الإبرة ، وقرأ ابن مسعود : «في سم المخيط» بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء ، وقرأ طلحة «في سم المخيط» بفتح الميم ، وكذلك أبى على هذه الصفة وبمثل هذا الحتم وغيره يجزى الكفرة وأهل الجرائم على الله تعالى.


وقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) الآية ، المعنى أن جهنم فراش لهم ومسكن ومضجع يتمهدونه وهي لهم غواش جمع غاشية وهي ما يغشى الإنسان أي يغطيه ويستره من جهة فوق ، قال الضحاك «المهاد» الفراش ، و «الغواشي» اللحف ودخل التنوين في (غَواشٍ) عند سيبويه لنقصانه عن بناء مفاعل فلما زال البناء المانع من الصرف بأن حذفت الياء حذفا لا للالتقاء بل كما حذفت من قوله (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] و (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) [الكهف : ٦٤] ومن قول الشاعر : [زهير]

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفر

زال الامتناع ، وهذا كقولهم ذلذل بالتنوين وهم يريدون : الذلاذل لما زال البناء ، قال الزجاج : والتنوين في (غَواشٍ) عند سيبويه عوض من الياء المنقوصة ورد أبو علي أن يكون هذا هو مذهب سيبويه ، ويجوز الوقوف ب «يا» وبغير «يا» والاختيار بغير «يا».

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية ، هذه آية وعد مخبرة أن جميع المؤمنين هم أصحاب الجنة ولهم الخلد فيها ، ثم اعترض أثناء القول بعقب الصفة ، التي شرطها في المؤمنين باعتراض يخفف الشرط ويرجى في رحمة الله ويعلم أن دينه يسر وهذه الآية نص في أن الشريعة لا يتقرر من تكاليفها شيء لا يطاق ، وقد تقدم القول في جواز تكليف ما لا يطاق وفي وقوعه بمغن عن الإعادة ، و «الوسع» معناه الطاقة وهو القدر الذي يتسع له قدر البشر.

قوله عزوجل :

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

هذا إخبار من الله عزوجل أنه ينقي قلوب ساكني الجنة من الغل والحقد ، وذلك أن صاحب الغل متعذب به ولا عذاب في الجنة ، وورد في الحديث «الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين».

قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا الحديث إذا حمل على حقيقته ، أن الله عزوجل يخلق جوهرا يجعله حيث يرى كمبارك الإبل ، لأن الغل عرض لا يقوم بنفسه ، وإن قيل إن هذه استعارة وعبر عن سقوطه عن نفوسهم فهذه الألفاظ على جهة التمثيل كما تقول فلان إذا دخل على الأمير ترك نخوته بالباب ملقاة فله وجه ، والأول أصوب وأجرى مع الشرع في أشياء كثيرة ، مثل قوله يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش فيذبح وغير ذلك ، وروى الحسن عن علي بن أبي طالب قال : فينا والله أهل بدر نزلت (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧] وروي عنه أيضا أنه قال : فينا والله نزلت (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) ، وذكر قتادة : أن عليا قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).


قال القاضي أبو محمد : وهذا هو المعنى الصحيح ، فإن الآية عامة في أهل الجنة ، و «الغل» الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعه غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء ومنه الانغلال في الشيء ، ومنه المغل بالأمانة ، ومنه قول علقمة بن عبدة :

سلاءة كعصا الهندي غل لها

ذو فيئة من نوى قران معجوم

وقوله : (مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) بين لأن ما كان لاطئا بالأرض فهو تحت ما كان منتصبا آخذا في سماء ، و (هَدانا) بمعى أرشدنا ، والإشارة بهذا تتجه أن تكون إلى الإيمان والأعمال الصالحة المؤدية إلى دخول الجنة ، ويحتمل أن تكون إلى الجنة نفسها ، أي أرشدنا إلى طرقها ولكل واحد من الوجهين أمثلة في القرآن ، وقرأ ابن عامر وحده «ما كنا لنهتدي» بسقوط الواو من قوله : (وَما كُنَّا) ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، قال أبو علي : وجه سقوط الواو أن الكلام متصل مرتبط بما قبله ، ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا : (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فقضوا بأن ذلك حق قضاه من يحس وكانوا في الدنيا يقضون بأن ذلك حق قضاه من يستدل (وَنُودُوا) أي قيل لهم بصياح ، وهذا النداء من قبل الله عزوجل ، و (أَنْ) يحتمل أن تكون مفسرة لمعنى النداء بمعنى أي ، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وفيها ضمير مستتر تقديره أنه تلكم الجنة ، ونحو هذا قول الأعشى : [البسيط]

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل

تقديره أنه هالك ، ومنه قول الآخر : [الوافر]

أكاشره ويعلم أن كلانا

على ما ساء صاحبه حريص

و (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) ابتداء وصفه و (أُورِثْتُمُوها) الخبر و (تِلْكُمُ) إشارة فيها غيبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك ، أي تلكم هذه الجنة ، وحذفت هذه ، وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها ، فكل غائب عن منزله ، وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لا على طريق وجوب ذلك على الله ، لكن بقرينة رحمته وتغمده ، والأعمال أمارة من الله وطريق إلى قوة الرجاء ، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله تعالى ، والقسم فيها على قدر العمل ، و «أورثتم» مشيرة إلى الأقسام ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «أورثتموها» وكذلك الزخرف ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي» أورتموها» بإدغام الثاء في التاء وكذلك في الزخرف.

قوله عزوجل :

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٤٥)

هذا إخبار من الله عزوجل عما يكون منهم ، وعبر عن معان مستقبلة بصيغة ماضية وهذا حسن فيما


يحقق وقوعه ، وهذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تقريع وتوبيخ وزيادة في الكرب وهو بأن يشرفوا عليهم ويخلق الإدراك في الأسماع والأبصار ، وقرأ جمهور الناس «نعم» بفتح العين ، وقرأ الكسائي «نعم» بكسر العين ورويت عن عمر بن الخطاب وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأها ابن وثاب والأعمش قال الأخفش هما لغتان ، ولم يحك سيبويه الكسر ، وقال : «نعم» عدة وتصديق أي مرة هذا ومرة هذا ، وفي كتاب أبي حاتم عن الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال : ما كنت أسمع أشياخ قريش يقولون : إلا «نعم» بكسر العين ثم فقدتها بعده ، وفيه عن قتادة عن رجل من خثعم قال : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت تزعم أنك نبي :؟ قال : «نعم» بكسر العين ، وفيه عن أبي عثمان النهدي قال : سأل عمر عن شيء فقالوا نعم ، فقال عمر : النعم الإبل والشاء ، قولوا «نعم» بكسر العين. قال أبو حاتم : وهذه اللغة لا تعرف اليوم بالحرمين ، وقوله (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) الآية ؛ قال أبو علي الفارسي والطبري وغيرهما : «أذن مؤذن» بمعنى أعلم معلم ، قال سيبويه : أذنت إعلام بتصويت ، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل ونافع وأبو عمرو وعاصم «أن» لعنة الله» بتخفيف «أن» من الثقيلة ورفع اللعنة.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير في رواية البزي وشبل «أنّ لعنة» بتثقيل «أنّ» ونصب اللعنة ، وكلهم قرأ التي في النور (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) [النور : ٧] و (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) [النور : ٩] بتشديد النون غير نافع فإنه قرأهما «أن لعنة الله وأن غضب» مخففتين ، وروى عصمة عن الأعمش «مؤذن بينهم إن» بكسر الألف على إضمار قال.

قال القاضي أبو محمد : لما كان الأذان قولا ، و «الظالمون» في هذه الآية : الكافرون ، ثم ابتدأ صفتهم بأفعالهم في الدنيا ليكون علامة أن أهل هذه الصفة هم المراد يوم القيامة بقوله (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) و (يَصُدُّونَ) معناه يعرضون ، و «السبيل» الطريق والمنهج ويذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر ، (وَيَبْغُونَها) معناه : يطلبونها أو يطلبون لها ، فإن قدرت يطلبونها ف (عِوَجاً) نصب على الحال ، ويصح أن يكون من الضمير العائد على السبيل أي معوجه ، ويصح أن يكون من ضمير الجماعة في (يَبْغُونَها) أي معوجين ، وإن قدرت (يَبْغُونَها) يطلبون لها وهو ظاهر تأويل الطبري رحمه‌الله ف (عِوَجاً) مفعول بيبغون ، والعوج بكسر العين في الأمور والمعاني ، والعوج بفتح العين في الأجرام والمتنصبات.

قوله عزوجل :

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨)

الضمير في قوله (وَبَيْنَهُما) عائد على الجنة والنار ، ويحتمل على الجمعين إذ يتضمنهما قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤] ، و «الحجاب» : هو السور الذي ذكره عز


وجل في قوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) [الحديد : ١٣] قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : (الْأَعْرافِ) حجاب بين الجنة والنار ، وقال ابن عباس أيضا هو تل بين الجنة والنار ، وذكر الزهراوي حديثا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحدا جبل يحبنا ونحبه ، وإنه يقوم يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحتبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة» ، وذكر حديثا آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحدا على ركن من أركان الجنة» و (الْأَعْرافِ) جمع عرف وهو المرتفع من الأرض.

ومنه قول الشاعر : [الرجز]

كل كناز لحمه نياف

كالجمل الموفي على الأعراف

ومنه قول الشماخ : [الطويل]

فظلت بأعراف تعالى كأنها

رماح نحاها وجهة الريح راكز

ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما ، وقال السدي سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس.

قال القاضي أبو محمد : وهذه عجمة وإنما المراد على أعراف ذلك الحجاب أعاليه ، وقوله : (رِجالٌ) قال أبو مجلز لاحق بن حميد : هم الملائكة ، ولفظة (رِجالٌ) مستعارة لهم لما كانوا في تماثيل رجال قال : وهم ذكور ليسوا بإناث.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقد سمى الله رجالا في الجن ، وقال الجمهور : هم رجال من البشر ، ثم اختلفوا فقال مجاهد : هم قوم صالحون فقهاء علماء ، وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم كل أمة ، وقاله الزجاج وقال قوم : هم أنبياء ، وقال المهدوي : هم الشهداء ، وقال شرحبيل بن سعد : هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم ، وذكر الطبري في ذلك حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم ، وقال ابن مسعود والشعبي وحذيفة بن اليمان وابن عباس وابن جبير والضحاك : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.

قال القاضي أبو محمد : وقع في مسند خيثمة بن سليمان في آخر الجزء الخامس عشر حديث عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار» ، قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال «أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» ، وقال حذيفة بن اليمان أيضا : هم قوم أبطأت بهم صغارهم إلى آخر الناس.

قال القاضي أبو محمد : واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السور أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله تعالى رجالا من أهل الجنة ، يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين.


و (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة ، وسوادها وقبحها في أهل النار إلى غير ذلك في حيز هؤلاء وحيز هؤلاء ، والسيما العلامة وهو من وسم ، وفيه قلب ، يقال سيما مقصور وسيماء ممدود وسيمياء بكسر الميم وزيادة ياء فوزنها فعلا مع كونها من وسم ، وقيل هي من سوم إذا علم فوزنها على هذا فعلا ، ونداؤهم أصحاب الجنة يحتمل أن يكون وأصحاب الجنة لم يدخلوها بعد فيكون أيضا قوله (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) محتملا أن يعنى به أهل الجنة وهو تأويل أبي مجلز إذ جعل أصحاب الأعراف ملائكة ، ومحتملا أن يعنى به أهل الأعراف ، ويحتمل أن يكون نداؤهم أهل الجنة بالسلام وهم قد دخلوها ، فلا يحتمل حينئذ قوله : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) إلا أهل الأعراف فقط ، وهو تأويل السدي وقتادة وابن مسعود والحسن ، وقال : والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الأظهر الأليق ولا نظر لأحد مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) هي جملة مقطوعة ، أخبر أنهم لم يدخلوها وهم طامعون بدخولها فكأن الجملة حال من الضمير في (نادَوْا) ، وقرأ أبو رقيش النحوي «لم يدخلوها وهم طامعون» ، وقرأ إياد بن لقيط «وهم ساخطون» ، وذكر بعض الناس قولا وهو أن يقدر قوله (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في موضع الحال من ضمير الجماعة في (يَدْخُلُوها) ، ويكون المعنى لم يدخلوها في حال طمع بها بل كانوا في حال يأس وخوف لكنهم عمهم عفو الله عزوجل ، وقال ابن مسعود : إنما طمع أصحاب الأعراف لأن النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ حين يطفأ كل ما بأيدي المنافقين.

والضمير في قوله (أَبْصارُهُمْ) عائد على أصحاب الأعراف ، فهم يسلمون على أصحاب الجنة وإذا نظروا إلى النار وأهلها دعوا الله في التخليص منها ، قاله ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقال أبو مجلز الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد ، وقوله : (صُرِفَتْ) معطية ما هنالك من هول المطلع ، وقوله : (رِجالاً) يريد من أهل النار ، ويحتمل أن يكون هذا النداء وأهل النار في النار ، فتكون معرفتهم بعلامات معرفة بأنهم أولئك الذين عرفوا في الدنيا ، ويحتمل أن يكون هذا النداء وهم يحملون إلى النار ، فتكون السيما التي عرفوا بها أنهم أهل النار تسويد الوجوه وتشويه الخلق ، وقال أبو مجلز الملائكة تنادي رجالا في النار ، وقال غيره بل الآدميون ينادون أهل النار ، وقيل : إن (ما) في قوله : (ما أَغْنى) استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ ، وقيل (ما) نافية والأول أصوب ، و (جَمْعُكُمْ) لفظ يعم جموع الأجناد والخول وجمع المال لأن المراد بالرجال أنهم جبارون ملوك يقررون يوم القيامة على معنى الإهانة والخزي ، و (ما) الثانية : مصدرية ، وقرأت فرقة «تستكثرون» بالثاء مثلثة من الكثرة.

قوله عزوجل :

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ


اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

قال أبو مجلز : أهل الأعراف هم الملائكة وهم القائلون (أَهؤُلاءِ) إشارة إلى أهل الجنة.

قال القاضي أبو محمد : وكذلك يجيء قول من قال أهل الأعراف أنبياء وشهداء ، وقال غيره : أهل الأعراف بشر مذنبون ، وقوله : (أَهؤُلاءِ) من كلام ملك بأمر الله عزوجل إشارة إلى أهل الأعراف ومخاطبة لأهل النار ، وهذا قول ابن عباس ، وقال النقاش : لما وبخوهم بقولهم (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) [الأعراف : ٤٨] ، أقسم أهل النار أن أهل الأعراف داخلون النار معهم فنادتهم الملائكة (أَهؤُلاءِ) ، ثم نادت أصحاب الأعراف (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) ، وقال بعض المتأولين : الإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة ، والمخاطبون هم أهل الأعراف والذين خوطبوا هم أهل النار ، والمعنى أهؤلاء الضعفاء في الدنيا الذين حلفتم أن الله لا يعبأ بهم قيل لهم ادخلوا الجنة ، وقد تقدم ما قال النقاش من أن القسم هو في الآخرة على أهل الأعراف والذين خوطبوا هم أهل النار ، والمعنى أهؤلاء الضعفاء في الدنيا الذين حلفتم أن الله لا يعبأ بهم قيل لهم ادخلوا الجنة ، وقد تقدم ما قال النقاش من أن القسم هو في الآخرة على أهل الأعراف ، وقرأ الحسن وابن هرمز «أدخلوا الجنة» بفتح الألف وكسر الخاء معنى أدخلوا أنفسكم ، أو على أن تكون مخاطبة للملائكة ثم ترجع المخاطبة بعد إلى البشر في (عَلَيْكُمْ) ، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس «دخلوا الجنة» على الإخبار بفعل ماض ، وقرأ طلحة بن مصرف وابن وثاب والنخعي «أدخلوا الجنة» خبر مبني للمفعول.

قال القاضي أبو محمد : وترتيب كل قراءة من هذه على الأقوال في المخاطب والمخاطب بقوله تعالى : (أَهؤُلاءِ) ممكن بأيسر تناول فاختصرته إيجازا ، وكذلك ما في الآية من الرجوع من مخاطبة فريق إلى مخاطبة غيره ، وقوله تعالى : (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) معناه : لا تخافون ما يأتي ولا تحزنون على ما فات ، وذكر الطبري من طريق حذيفة أن أهل الأعراف يرغبون في الشفاعة فيأتون آدم فيدفعهم إلى نوح ثم يتدافعهم الأنبياء عليهم‌السلام حتى يأتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشفع لهم فيشفع فيدخلون الجنة فيلقون في نهر الحياة فيبيضون ويسمون مساكين الجنة ، قال سالم مولى أبي حذيفة : ليت أني من أهل الأعراف.

وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) الآية ، لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وقع لهم علم بأن أهل الجنة يسمعون نداءهم ، وجائز أن يكون ذلك وهم يرونهم بإدراك يجعله الله لهم على بعد السفل من العلو ، وجائز أن يكون ذلك وبينهم السور والحجاب المتقدم الذكر ، وروي أن ذلك النداء هو عند إطلاع أهل الجنة عليهم ، و (أَنْ) في قوله : (أَنْ أَفِيضُوا) مفسرة بمعنى أي ، وفاض الماء إذا سال وانماع وأفاضه غيره ، وقوله : (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) إشارة إلى الطعام قاله السدي ، فيقول لهم أهل الجنة إن الله حرم طعام الجنة وشرابها على الكافرين.

قال القاضي أبو محمد : والأشنع على الكافرين في هذه المقالة أن يكون بعضهم يرى بعضا فإنه أخزى وأنكى للنفس ، وإجابة أهل الجنة بهذا الحكم هو عن أمر الله تعالى ، وذكر الزهراوي : أنه روي عن


النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أفضل الصدقة بالماء» ، يعني عند الحاجة إليه إذ هو ألذ مشروب وأنعشها للنفس ، واستسقى الشعبي عند مصعب فقال له أي الأشربة تحب؟ فقال أهونها موجودا وأعزها مفقودا ، فقال له مصعب : يا غلام هات الماء.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) الآية ، أضيف «الدين» إليهم من حيث قولهم أن يلتزموه إذ هو دين الله من حيث أمر به ، ودين جميع الناس من حيث أمروا به ، (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يحتمل أن يكون من كلام أهل الجنة ، ويكون ابتداء كلام الله من قوله : (فَالْيَوْمَ) ، ويحتمل أن يكون الكلام من أوله من كلام الله عزوجل ، ومعنى قوله : (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً) أي بالإعراض والاستهزاء لمن يدعوهم إلى الإسلام ، (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتهم بزخرفها واعتقادهم أنها الغاية القصوى ، ويحتمل أن يكون اللفظ من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم وأبطرتهم ، وأما قوله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) فهو من إخبار الله عزوجل عما يفعل بهم ، والنسيان في هذه الآية هو بمعنى الترك ، أي نتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم ، قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين ، قال قتادة نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر ، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة ذكر الله تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله : (وَما كانُوا) عطف على «ما» من قوله : (كَما نَسُوا) ويحتمل أن تقدر (ما) الثانية زائدة ويكون قوله : «وكانوا» عطفا على قوله (نَسُوا).

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) الآية ، ذكر الاعذار إليهم إثر ذكر ما يفعل بهم واللام في قوله : (لَقَدْ) لام قسم والضمير في (جِئْناهُمْ) لمن تقدم ذكره ، وقال يحيى بن سلام تم الكلام في (يَجْحَدُونَ) وهذا الضمير لمكذبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء كلام آخر ، والمراد بالكتاب القرآن العزيز.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون اسم جنس في جميع الكتب المنزلة على تأويل من يرى الضمير في (جِئْناهُمْ) لمن تقدم ذكره ، وقرأ جمهور الناس «فصلناه» من تفصيل الآيات وتبيينها ، وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بضاد منقوطة ، و (عَلى عِلْمٍ) معناه : عن بصيرة واستحقاق لذلك ، وقوله : (هُدىً وَرَحْمَةً) مصدران في موضع الحال.

قوله عزوجل :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤)

(يَنْظُرُونَ) معناه ينتظرون ، و «التأويل» في هذا الموضع بمعنى المآل والعاقبة ، قاله قتادة ومجاهد


وغيرهما ، وقال ابن عباس : (تَأْوِيلَهُ) مآله يوم القيامة ، وقال السدي : ذلك في الدنيا وقعة بدر وغيرها ويوم القيامة أيضا ، والمراد هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا مآل الحال في هذا الدين وما دعوا إليه وما صدوهم عنه وهم يعتقدون مآله جميلا لهم؟ فأخبر الله عزوجل أن مآله يوم يأتي يقع معه ندمهم ، ويقولون تأسفا على ما فاتهم من الإيمان لقد صدقت الرسل وجاءوا بالحق ، فالتأويل على هذا مأخوذ من آل يؤول ، وقال الخطابي : أولت الشيء رددته إلى أوله فاللفظة مأخوذة من الأول ، حكاه النقاش.

قال القاضي أبو محمد : وقد قيل أولت معناه طلبت أول الوجوه والمعاني و (نَسُوهُ) في الآية يحسن أن يكون النسيان من أول الآية بمعنى الترك ويقرون بالحق ويستفهمون عن وجوه الخلاص في وقت لا مستعتب لهم فيه ، وقرأت فرقة : «أو نردّ» برفع الفعل على تقدير أو هل نرد وبنصب «فنعمل» في جواب هذا الاستفهام الأخير ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو نردّ فنعمل» بالرفع فيهما على عطف «فنعمل» ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «أو نردّ فنعمل» ونصب نرد في هذه القراءة إما على العطف على قوله : (فَيَشْفَعُوا) ، وإما بما حكاه الفراء من أن «أو تكون» بمعنى حتى كنحو قول امرئ القيس :

أو نموت فنعذرا

ويجيء المعنى ، أن الشفاعة تكون في أن يردوا ثم أخبر تعالى عن خسارتهم أنفسهم واضمحلال افترائهم على الله وكذبهم في جعل الأصنام آلهة.

وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الآية ، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة عليه بدلائله ، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب ، ولا يقال الرب معرفا إلا لله ، وإنما يقال في البشر بإضافة ، وروى بكار بن الشقير «إن ربكم الله» بنصب الهاء ، وقوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة ، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى ، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عزوجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع ، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص ، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة ، ثم بقي دون خلق يوم السبت ، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها ، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره ، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون.

ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي ، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية ، وقوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان ، وخص العرش بالذكر تشريفا له إذ هو أعظم المخلوقات ، وقال سفيان الثوري : فعل فعلا في العرش سماه استواء.

قال القاضي أبو محمد : و (الْعَرْشِ) مخلوق معين جسم ما ، هذا الذي قررته الشريعة ، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال : العرش مصدر عرش يعرش عرشا ، والمراد بقوله (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هذا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى


الله عليه وسلم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» من أغشى ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يغشّي» بالتشديد من غشّى ، وهما طريقان في تعدية «غشي» إلى مفعول ثان ، وقرأ حميد «يغشى» بفتح الياء والشين ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع «الليل»

قال القاضي أبو محمد : وأبو الفتح أثبت و (حَثِيثاً) معناه سريعا ، و (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة ، ومن النهار بحسب المعنى ، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين ، ويحتمل أن يكون حالا منهما ، ومثله قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) [مريم : ٢٧] فيصح أن يكون (تَحْمِلُهُ) حالا منها ، وأن يكون حالا منه وأن يكون حالا منهما. و (مُسَخَّراتٍ) في موضع الحال ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و «الشمس والقمر والنجوم مسخرات» بالرفع في جميعها ، ونصب الباقون هذه الحروف كلها ، وقرأ أبان بن تغلب و «الشمس والقمر» بالنصب ، و «النجوم مسخرات» بالرفع.

و (أَلا) استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد.

قال القاضي أبو محمد : وأخذ المفسرون (الْخَلْقُ) بمعنى المخلوقات. أي هي له كلها وملكه واختراعه ، وأخذوا (الْأَمْرُ) مصدرا من أمر يأمر ، وعلى هذا قال النقاش وغيره : إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عزوجل.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تؤخذ لفظة (الْخَلْقُ) على المصدر من خلق يخلق خلقا أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم ، ويؤخذ (الْأَمْرُ) على أنه واحد الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) [هود : ١٢٣] وبمنزلة قوله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠] فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام.

قال القاضي أبو محمد : ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) المصدرين حسب تقدمهما ، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله ، وأسند الطبري إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئا من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)» ، قال النقاش : ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعا في جميعها أنه مخلوق ، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق ، وقال الشعبي (الْخَلْقُ) عبارة عن الدنيا و (الْأَمْرُ) عبارة عن الآخرة ، و (تَبارَكَ) معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته ، ولا يوصف بها إلا الله تعالى ، و (تَبارَكَ) لا يتصرف في كلام العرب ، لا يقال منه يتبارك ، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان.

قال القاضي أبو محمد : وعلة ذلك أن (تَبارَكَ) لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلا إذ الله قد تبارك في الأزل ، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك فقال يتبارك فوقف على أن العرب ، لم تقله ، و «الرب» السيد المصلح ، و (الْعالَمِينَ) جمع عالم.


قوله عزوجل :

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

هذا أمر بالدعاء وتعبد به ، ثم قرر عزوجل بالأمر به صفات تحسن معه ، وقوله : (تَضَرُّعاً) معناه بخشوع واستكانة ، والتضرع لفظة تقتضي الجهر لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب ، (وَخُفْيَةً) يريد في النفس خاصة ، وقد أثنى الله عزوجل على ذلك في قوله (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] ونحو هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير الذكر الخفي ، والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر ، وتأول بعض العلماء «التضرع والخفية» في معنى السر جميعا ، فكأن التضرع فعل للقلب ، ذكر هذا المعنى الحسن بن أبي الحسن ، وقال : لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت ، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] وقال الزجاج (ادْعُوا رَبَّكُمْ) معناه اعبدوا ربكم (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي باستكانة واعتقاد ذلك في القلوب ، وقرأ جميع السبعة «وخفية» بضم الخاء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هنا وفي الأنعام و «خفية» بكسرها وهما لغتان ، وقد قيل إن «خفية» بكسر الخاء بمعنى الخوف والرهبة ، ويظهر ذلك من كلام أبي علي.

وقرأت فرقة «وخيفة» من الخوف ، أي ادعوه باستكانة وخوف ذكرها ابن سيده في المحكم ولم ينسبها ، وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا ، وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما ، فإلى هذا هي الإشارة ، والاعتداء في الدعاء على وجوه ، منها الجهر الكثير والصياح كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوم ـ وقد رفعوا أصواتهم بالتكبير ـ : «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ونحو هذا من التشطط ، ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك ، وفي هذه الأسئلة كفاية ، وقرأ ابن أبي عبلة «إن الله لا يحب المعتدين» ، والمعتدي هو مجاوز الحد ومرتكب الحظر ، وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سيكون أقوام يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل».

وقوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) الآية ، ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قلّ أو كثر بعد إصلاح ، قل أو كثر ، والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء في هذا تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال ، قال الضحاك : معناه لا تغوروا الماء المعين ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارا ، وقد ورد قطع الدينار والدرهم من الفساد في الأرض ، وقد قيل تجارة الحكام من الفساد في الأرض ، وقال بعض الناس : المراد ولا تشركوا في الأرض بعد أن أصلحها الله ببعثة الرسل وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر.


وقوله تعالى : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل لله عزوجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان ، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة ، فإذا جاء الموت غلب الرجاء ، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير ، وهذا كله احتياط ومنه تمني الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة ، وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون ، ثم أنس قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فإنها آية وعد فيها تقييد بقوله (مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

واختلف الناس في وجه حذف التاء من (قَرِيبٌ) في صفة الرحمة على أقوال ، منها أنه على جهة النسب أي ذات قرب ، ومنها أنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جرت مجرى كف خضيب ولحية دهين ، ومنها أنها بمعنى مذكر فذكر الوصف لذلك.

واختلف أهل هذا القول في تقدير المذكر الذي هي بدل منه فقالت فرقة الغفران والعفو ، وقالت فرقة المطر ، وقيل غير ذلك ، وقال الفراء : لفظة القرب إذا استعملت في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولا بد ، وإذا استعملت في قرب المسافة.

قال القاضي أبو محمد : أو الزمن ـ فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء ، وهذا منه ، ومن هذا قول الشاعر : [الطويل]

عشية لا عفراء منك قريبة

فتدنو ولا عفراء منك بعيد

فجمع في هذا البيت بين الوجهين.

قال القاضي أبو محمد : هذا قول الفراء في كتابه ، وقد مر في بعض كتب المفسرين مقيدا ورد الزجّاج على هذا القول ، وقال أبو عبيدة (قَرِيبٌ) في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع ، فيجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجميع وكذلك بعيد ، فإذا جعلوها صفة بمعنى مقربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات.

وذكر الطبري أن قوله (قَرِيبٌ) إنما يراد به مقاربة الأرواح للأجساد أي عند ذلك تنالهم الرحمة.

قوله عزوجل :

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

هذه آية اعتبار واستدلال ، وقرأ نافع وأبو عمرو «الرياح» بالجمع «نشرا» بضم النون والشين ، قال أبو


حاتم : وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء ، واختلف عنهم الأعرج ، وأبي جعفر ونافع وأبي عمرو وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين ، وقرأ ابن كثير «الريح» واحدة «نشرا» بضمها أيضا ، وقرأ ابن عامر «الرياح» جمعا «نشرا» بضم النون وسكون الشين ، قال أبو حاتم : ورويت عن الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء وقتادة وأبي عمرو ، وقرأ حمزة والكسائي ، «الريح» واحدة ، «نشرا» بفتح النون وسكون الشين ، قال أبو حاتم وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش وابن وثاب وإبراهيم وطلحة والأعمش ومسروق بن الأجدع ، وقرأ ابن جني قراءة مسروق «نشرا» بفتح النون والشين ، وقرأ عاصم «الرياح» جماعة «بشرا» بالباء المضمومة والشين الساكنة ، وروي عنه «بشرا» بضم الباء والشين ، وقرأ بها ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة. وقرأ محمد بن السميفع وأبو قطيب «بشرى» على وزن فعلى بضم الباء ، ورويت عن أبي يحيى وأبي نوفل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «بشرا» بفتح الباء وسكون الشين ، قال الزهراوي : ورويت هذه عن عاصم.

ومن جمع الريح في هذه الآية فهو أسعد ، وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة كقوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٥] وقوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] وقوله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] وأكثر ذكر الريح مفردة ، إنما هو بقرينة عذاب ، كقوله (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : ٤١] وقوله (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٦] وقوله (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف : ٢٤] نحا هذا المنحى يحيى بن يعمر وأبو عمرو بن العلاء وعاصم ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا هبت الريح يقول «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».

قال القاضي أبو محمد : والمعنى في هذا كله بين ، وذلك أن ريح السقيا والمطر أنها هي منتشرة لينة تجيء من هاهنا وتتفرق فيحسن من حيث هي منفصلة الأجزاء متغايرة المهب يسيرا أن يقال لها رياح ، وتوصف بالكثرة ريح الصر والعذاب ، عاصفة صرصر جسد واحد شديدة المر مهلكة بقوتها وبما تحمله أحيانا من الصر المحرق ، فيحسن من حيث هي شديدة الاتصال أن تسمى ريحا مفردة ، وكذلك أفردت الريح في قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يونس : ٢٢] من حيث جري السفن إنما جرت بريح متصلة كأنها شيء واحد فأفردت لذلك ووصفت بالطيب إزالة الاشتراك بينها وبين الريح المكروهة ، وكذلك ريح سليمان عليه‌السلام إنما كانت تجري بأمره أو تعصف في حقوله وهي متصلة ، وبعد فمن قرأ في هذه الآية الريح بالإفراد فإنما يريد به اسم الجنس ، وأيضا فتقييدها ب «نشر» يزيل الاشتراك.

والإرسال في الريح هو بمعنى والإجراء والإطلاق والإسالة ومنه الحديث فلرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ، والريح تجمع في القليل أرواح وفي الكثير رياح لأن العين من الريح واو انقلبت في الواحد ياء للكسر الذي قبلها ، وكذلك في الجمع الكثير ، وصحت في القليل لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ، وأما «نشرا» بضم النون والشين فيحتمل أن يكون جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي أو نشور من الحياة ، ويحتمل «نشرا» أن يكون جمع نشور بفتح النون وضم الشين كرسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر ، ويحتمل «نشرا» أن يكون كالمفعول بمعنى منشور


كركوب بمعنى مركوب ، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل لأنها تنشر الحساب ، وأما مثال الأول في قولنا ناشر ونشر فشاهد وشهد ونازل ونزل ، كما قال الشاعر :

أو تنزلون فإنّا معشر نزل

وقاتل وقتل ومنه قول الأعشى : [البسيط]

إنا لمثلكم يا قومنا قتل

وأما من قرأ «نشرا» بضم النون وسكون الشين فإنما خفف الشين من قوله (نَشْراً) وأما من قرأ «نشرا» بفتح النون وسكون الشين فهو مصدر في موضع الحال من الريح ، ويحتمل في المعنى أن يراد به من النشر الذي هو خلاف الطيّ كل بقاء الريح دون هبوب طيّ ، ويحتمل أن يكون من أن النشر الذي هو الإحياء كما قال الأعشى : [السريع]

يا عجبا للميّت الناشر

وأما من قرأ «نشرا» بفتح النون والشين وهي قراءة شاذة فهو اسم وهو على النسب ، قال أبو الفتح أي ذوات نشر ، والنّشر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى ، فشبه السحاب ، في انتشاره وعمومه بذلك ، وأما «بشرا» بضم الباء والشين فجمع بشير كنذير ونذر ، و «بشرا» بسكون الشين مخفف منه و «بشرا» بفتح الباء وسكون الشين مصدر و «بشرى» مصدر أيضا في موضع الحال. و «الرحمة» في هذه الآية المطر ، و (بَيْنَ يَدَيْ) أي أمام رحمته وقدامها وهي هنا استعارة وهي حقيقة فيما بين يدي الإنسان من الأجرام.

و (أَقَلَّتْ) معناه : رفعت من الأرض واستقلت بها ، ومنه القلة وكأن المقل يرد ما رفع قليلا إذا قدر عليه ، و (ثِقالاً) معناه من الماء ، والعرب تصف السحاب بالثقل والدلح ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [المتقارب]

بأحسن منها ولا مزنة

دلوح تكشف أدجانها

والريح تسوق السحاب من ورائها فهو سوق حقيقة ، والضمير في (سُقْناهُ) عائد على السحاب ، واستند الفعل إلى ضمير اسم الله تعالى من حيث هو إنعام ، وصفة البلد بالموت استعارة بسبب سعته وجدوبته وتصويح نباته ، وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش : «لبلد ميت» بسكون الياء وشدها الباقون ، والضمير في قوله : (فَأَنْزَلْنا بِهِ) يحتمل أن يعود على الحساب أي منه ، ويحتمل أن يعود على البلد ، ويحتمل أن يعود على الماء وهو أظهرها ، وقال السدي في تفسير هذه الآية : إن الله تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرق السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه من ثم ثم تنشره فتبسطه في السماء ثم تفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تبارك وتعالى (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) يحتمل مقصدين أحدهما أن يراد كهذه القدرة العظيمة في إنزال الماء وإخراج الثمرات به من الأرض المجدبة هي القدرة على إحياء الموتى من الأجداث وهذه مثال لها ، ويحتمل أن


يراد أن هكذا يصنع بالأموات من نزول المطر عليهم حتى يحيوا به فيكون الكلام خبرا لا مثلا ، وهذا التأويل إنما يستند إلى الحديث الذي ذكره الطبري عن أبي هريرة أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى مطر عليهم مطر من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع ، فإذا كملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ، ثم تلقى عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم ، فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ، فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.

وقوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ) آية متممة للمعنى الأول في الآية قبلها معرفة بعادة الله تعالى في إنبات الأرضين ، فمن أراد أن يجعلها مثالا لقلب المؤمن وقلب الكافر فذلك كله مرتب ، لكن ألفاظ الآية لا تقتضي أن المثال قصد بذلك والتمثيل بذلك حكاه الطبري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ، وقال النحاس : هو مثال للفهيم وللبليد ، و (الطَّيِّبُ) : هو الجيد التراب الكريم الأرض ، وخص بإذن ربه مدحا وتشريفا ، وهذا كما تقول لمن تغض منه ، أنت كما شاء الله فهي عبارة تعطي مبالغة في مدح أو ذم ومن هذا قوله تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٧٥] على بعض التأويلات ، والخبيث هو السباخ ونحوها من رديء الأرض ، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر «يخرج نباته» بضم الياء وكسر الراء ونصب التاء ، و «النكد» العسير القليل ، ومنه قول الشاعر : [المنسرح]

لا تنجز الوعد إن وعدت وإن

أعطيت أعطيت تافها نكدا

ونكد الرجل إذا سأل إلحافا وأخجل ومنه قول الشاعر : [السريع]

وأعط ما أعطيته طيبا

لا خير في المنكود والناكد

وقرأ جمهور الناس وجميع السبعة «نكدا» بفتح النون وكسر الكاف ، وقرأ طلحة بن مصرف «نكدا» بتخفيف الكاف وفتح النون ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «نكدا» بفتح النون والكاف ، وقال الزجّاج : وهي قراءة أهل المدينة (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي هكذا نبين الأمور ، و (يَشْكُرُونَ) معناه يؤمنون ويثنون بآلاء الله.

قوله عزوجل :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢)

اللام لام القسم ، قال الطبري أقسم الله تعالى أنه أرسل نوحا ، وقالت فرقة من المفسرين : سمي نوحا لأنه كان ينوح على نفسه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، قال سيبويه : نوح ولوط وهود أسماء أعجمية إلا أنها حقيقة


فلذلك صرفت ، وهذه نذارة من نوح لقومه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسماة ودا وسواعا ويغوث ويعوق وغيرها مما لم يشتهر ، وقرأ الكسائي وحده «غيره» بالكسر من الراء على النعت ل (إِلهٍ) ، وهي قراءة يحيى بن وثاب والأعمش وأبي جعفر ، وقرأ الباقون «غيره» بالرفع ، وقرأ حمزة والكسائي «هل من خالق غير الله» خفضا ، وقرأ الباقون : «غير الله» رفعا والرفع في قراءة الجماعة هنا على البدل من قوله (مِنْ إِلهٍ) لأن موضع قوله : (مِنْ إِلهٍ) رفع ، وهو الذي رجح الفارسي ، ويجوز أن يكون نعتا على الموضع لأن التقرير ما لكم إله غيره ، أو يقدر «غير» ب «إلا» فيعرب بإعراب ما يقع بعد «إلا» ، وقرأ عيسى بن عمر «غيره» بنصب الراء على الاستثناء ، قال أبو حاتم : وذلك ضعيف من أجل النفي المتقدم ، وقوله (عَذابَ) يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا ويحتمل أن يريد به عذاب الآخرة.

و (الْمَلَأُ) الجماعة الشريفة ، قال الطبري : لا امرأة فيهم ، وحكاه النقاش عن ثعلب في الملأ والرهط والنفر والقوم ، وقيل هم مأخوذون من أنهم يملؤون النفس والعين ، ويحتمل أن يكون من أنهم إذا تمالؤوا على أمرتم ، وقال سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري عند قفول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة بدر إنما قتلنا عجائز صلعا. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أولئك الملأ من قريش لو حضرت أفعالهم لاحتقرت فعلك». والملأ صفة غالبة وجمعه أملاء وليس من باب رهط وإن كانا اسمين للجمع لأن رهط لا واحد له من لفظه ، و «ملأ» يوجد من لفظه مالىء قال أحمد بن يحيى : المالئ الرجل الجليل الذي يملأ العين بجهرته فيجيء كعازب وخادم ورائح فإن أسماء جموعها عرب وخدم وروح ، وإن كانت اللفظة من تمالأ القوم على كذا فهي مفارقة باب رهط ومنه قول علي رضي الله عنه : ما قتلت عثمان ولا مالأت في دمه ، وقال ابن عباس «الملؤ» بواو وكذلك هي في مصاحف الشام ، وقولهم لنراك يحتمل أن يجعل من رؤية البصر ، ويحتمل من رؤية القلب وهو الأظهر و (فِي ضَلالٍ) أي في إتلاف وجهالة بما تسلك.

وقوله لهم جوابا عن هذا (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) مبالغة في حسن الأدب والإعراض عن الجفاء منهم وتناول رفيق وسعة صدر حسبما يقتضيه خلق النبوة ، وقوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ) تعرض لمن يريد النظر والبحث والتأمل في المعجزة.

قال القاضي أبو محمد : ونقدر ولا بد أن نوحا عليه‌السلام وكل نبي مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة تخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم نعرف.

وقرأ السبعة سوى أبي عمرو «أبلّغكم» بشد اللام وفتح الباء ، بسكون الباء وتخفيف اللام ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وإن كان لفظا عاما في كل ما علمه فالمقصود منه هنا المعلومات المخوفات عليهم لا سيما وهم لم يسمعوا قط بأمة عذبت فاللفظ مضمن الوعيد.

قوله عزوجل :

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(٦٣) فَكَذَّبُوهُ


فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤)

هذه ألف استفهام دخلت على الواو العاطفة ، والاستفهام هنا بمعنى التقرير والتوبيخ ، وعجبهم الذي وقع إنما كان على جهة الاستبعاد والاستمحال ، هذا هو الظاهر من قصتهم ، وقوله : (عَلى) قيل هي بمعنى مع ، وقيل هو على حذف مضاف تقديره على لسان رجل منكم.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المجيء بنفسه في هذا الموضع يصل ب (عَلى) إذ كل ما يأتي من الله تعالى فله حكم النزول فكأن (جاءَكُمْ) معناه نزل فحسن معه أن يقال (عَلى رَجُلٍ) واللام في (لِيُنْذِرَكُمْ) لام كي. وقوله (وَلَعَلَّكُمْ) ترجّ بحسب حال نوح ومعتقده لأن هذا الخبر إنما هو من تلقاء نوح عليه‌السلام.

وقوله : (فَكَذَّبُوهُ) الآية ، أخبر الله عنهم أنهم بعد تلطفه بهم كذبوه فأنجاه الله والمؤمنين به في السفينة وهي الفلك ، و (الْفُلْكِ) لفظ واحد للجمع والمفرد ، وليس على حد جنب ونحوه ، لكن فلك للواحد كسر على فلك للجميع فضمة الفاء في الواحد ليست هي في الجمع وفعل بناء تكسير مثل أسد وأسد ، ويدل على ذلك قولهم في التثنية فلكان ، وفي التفسير : أن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رجلا ، وقيل ثمانون. وقيل عشرة ، فهم أولاده يافث وسام وحام ، وفي كثير من كتب الحديث للترمذي وغيره : أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه‌السلام ، وقال الزهري في كتاب النقاش : وفي القرآن (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) [الإسراء : ٣].

قال القاضي أبو محمد : فيحتمل أن يكون سائر العشرة أو الأربعين حسب الخلاف حفدة لنوح ومن ذريته فتجتمع الآية والحديث ، ويحتمل أن من كان في السفينة غير بنيه لم ينسل ، وقد روي ذلك ، وإلا لكان بين الحديث والآية تعارض ، وقوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) يقتضي أن نوحا عليه‌السلام كانت له آيات ومعجزات ، وقوله : (عَمِينَ) وزنه فعلين وهو جمع عم وزنه فعل ، ويريد عمى البصائر ، وروي عن ابن عباس أن نوحا بعث ابن أربعين سنة ، قال ابن الكلبي : بعد آدم بثمانمائة سنة ، وجاء بتحريم البنات والأخوات والأمهات والخالات والعمات ، وقال وهب بن منبه بعث نوح وهو ابن أربعمائة سنة ، وقيل بعث ابن ثلاثمائة سنة ، وقيل ابن خمسين سنة ، وروي أنه عمر بعد الغرق ستين سنة ، وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأتى في حديث الشفاعة وغيره : أن نوحا أول نبي بعث إلى الناس ، وأتى أيضا أن إدريس قبل نوح ومن آبائه وذلك يجتمع بأن تكون بعثة نوح مشتهرة لإصلاح الناس وحملهم بالعذاب والإهلاك على الإيمان ، فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة.

قوله عزوجل :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ


لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) (٦٨)

(عادٍ) اسم الحي ، و (أَخاهُمْ) نصب ب (أَرْسَلْنا) [الأعراف : ٥٩] فهو معطوف على نوح ، وهذه أيضا نذارة من هود عليه‌السلام لقومه ، وتقدم الخلاف في قراءة (غَيْرُهُ) وقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) استعطاف إلى التقى والإيمان.

وقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ) الآية ، تقدم القول في مثل هذه المقالة آنفا ، و «السفاهة» مصدر عبر به عن الحال المهلهلة الرقيقة التي لا ثبات لها ولا جودة ، والسفه ، في الثوب خفة نسجه ، ومنه قول الشاعر : [الطويل] [ذي الرمة]

مشين كما اهتزت رماح تسفهت

أعاليها مرّ الرياح النواسم

وقولهم : (لَنَظُنُّكَ) هو ظن على بابه لأنهم لم يكن عندهم إلا ظنون وتخرص.

وتقدم الخلاف في قراءة (أُبَلِّغُكُمْ) وقوله : (أَمِينٌ) يحتمل أن يريد : على الوحي والذكر النازل من قبل الله عزوجل ، ويحتمل أن يريد : أنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم ، والعرب تقول : فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب ، ويحتمل أن يريد به أمين من الأمن أي جهتي ذات أمن من الكذب والغش.

قوله عزوجل :

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧٠)

قد تقدم القول في مثل (أَوَعَجِبْتُمْ) و «الذكر» لفظ عام للمواعظ والأوامر والنواهي ، وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا) الآية ، تعديد للنعم عليهم ، و (خُلَفاءَ) جمع خليف كظريف وظرفاء ، وخليفة جمع خلائف ، والعرب تقول خليفة وخليف ، وأنشد أبو علي :

فإن يزل زائل يوجد خليفته

وما خليف أبي وهب بموجود

قال السدي وابن إسحاق : والمعنى جعلكم سكان الأرض بعد قوم نوح ، وقوله : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي في الخلقة ، والبصطة الكمال في الطول والعرض ، وقيل زادكم على أهل عصركم ، قال الطبري : المعنى زادكم على قوم نوح وقاله قتادة.


قال القاضي أبو محمد : واللفظ يقتضي أن الزيادة هي على جميع العالم ، وهو الذي يقتضي ما يذكر عنهم ، وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع وطول أقصرهم ستون ونحو هذا. و «الآلاء» : جمع «إلا» على مثال معى ، وأنشد الزجّاج : [للأعشى]

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون إلا

وقيل واحد الآلاء «ألا» على مثال قفى ، وقيل واحدها «إلى» على مثال حسى وهي النعمة والمنة ، و (تُفْلِحُونَ) : معناه تدركون البغية والآمال ، قال الطبري وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إسحاق من ولد عاد بن إرم ابن عوص بن سام بن نوح ، وكانت مساكنهم الشحر من أرض اليمن وما والى حضرموت إلى عمان ، وقال السدي وكانوا بالأحقاف وهي الرمال ، وكانت بلادهم أخصب بلاد فردها الله صحارى ، وقال علي بن أبي طالب : إن قبر هود عليه‌السلام هنالك في كثيب أحمر يخالطه مدرة ذات أراك وسدر ، وكانوا قد فشوا في جميع الأرض وملكوا كثيرا بقوتهم وعددهم وظلموا الناس و، كانوا ثلاث عشرة قبيلة وكانوا أصحاب أوثان منها ما يسمى صداء ومنها صمودا ومنها الهنا فبعث الله إليهم هودا من أفضلهم وأوسطهم نسبا فدعاهم إلى توحيد الله وإلى ترك الظلم.

قال ابن إسحاق : لم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك فكذبوه وعتوا واستمر ذلك منهم إلى أن أراد الله إنفاذ أمره أمسك عنهم المطر ثلاث سنين ، فشقوا بذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا أهمهم أمر فزعوا إلى المسجد الحرام بمكة فدعوا الله فيه تعظيما له مؤمنهم وكافرهم ، وأهل مكة يومئذ العماليق وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر ، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفدا إلى مكة يستسقون الله لهم ، فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعثيل بن ضد بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عفير ، وكان هذا مؤمنا يكتم إيمانه وجلهمة بن الخبيري في سبعين رجلا من قومهم ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم فأنزلهم وأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتا معاوية ، ولما رأى معاوية إقامتهم وقد بعثتهم عاد للغوث أشفق على عاد وكان ابن أختهم كلهدة بن الخبير أخت جلهمة ، وقال هلك أخوالي وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عند فشكا ذلك إلى قينة فقالت له اصنع شعرا نغني به عسى أن ننبههم فقال : [الوافر]

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يصحبنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد امسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو

به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير

فقد أمست نساؤهم عياما

وإن الوحش تأتيهم جهارا

ولا تخشى لعاديّ سهاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم

نهاركم وليلكم التماما

فقبّح وفدكم من وفد قوم

ولا لقّوا التحيّة والسّلاما

فغنت به الجرادتان فلما سمعه القوم قال بعضهم يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حل بهم فادخلوا هذا


الحرم وادعوا لعل الله يغيثهم فخرجوا لذلك فقال لهم مرثد بن سعد إنكم والله ما تسقون بدعائكم ، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم به سقيتم ، وأظهر إيمانه يومئذ فخالفه الوفد ، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثدا ولا يدخل معنا الحرم ، فإنه قد اتبع هودا ومضوا إلى مكة فاستسقى قيل بن عنز ، وقال يا إلهنا إن كان هود صالحا فاسقنا فإنّا قد هلكنا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ، فقال قيل قد اخترت السوداء فإنها أكثرها ماء ، فنودي اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا ، لا والدا ولا ولدا ، إلا جعلتهم همدا ، وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث ، فلما رأوها قالوا هذا عارض ممطرنا ، حتى عرفت أنها ريح امرأة من عاد يقال لها مهد ، فصاحت وصعقت فلما أفاقت قيل لها ما رأيت؟ قالت رأيت ريحا كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فسخرها الله عليهم ثمانية أيام حسوما وسبع ليال ، والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك ، فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه من الريح إلا ما يلتذ به.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قصص وقع في تفسير مطولا ، وفيه اختلاف فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز وفي خبرهم أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة وترفع الظعينة عليها المرأة ، حتى تلقيها في البحر ، وفي خبرهم أن أقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه فتلقيه في البحر ، فيقوم آخر مكانه حتى هلك الجميع ، وقال زيد بن أسلم : بلغني أن ضبعا ربت أولادها في حجاج عين رجل منهم وفي خبرهم ، أن الله بعث لما هلكت عاد طيرا وقيل أسدا فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر ، فذلك قوله (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥] في بعض ما روي من شأنهم : أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها تمت على الخزنة فغلبتهم فذلك قوله : (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٦] وروي أن هودا لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى مكة فكانوا بها حتى ماتوا ، فالله علم أي ذلك كان.

وقوله تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا) الآية ، ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع ، ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم لنعبد الله وحده أي على قولك يا هود ، والتأويل الأول أظهر فيهم وفي عباد الأوثان كلهم ، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كإربد بن ربيعة ، وإلا من ادعاها لنفسه كفرعون ونمرود ، وقوله : (فَأْتِنا) تصميم على التكذيب واحتقار لأمر النبوءة واستعجال للعقوبة ، وتمكن قولهم : (تَعِدُنا) لما كان هذا الوعد مصرحا به في الشر ولو كان ذكر الوعد مطلقا لم يجىء إلا في خبر.

قوله عزوجل :

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ


(٧٢) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٣)

أعلمهم بأن القضاء قد نفذ وحل عليهم الرجس وهو السخط والعذاب يقال «رجس ورجز» بمعنى واحد ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وقال الشاعر : [الطويل]

إذا سنة كانت بنجد محيطة

فكان عليهم رجسها وعذابها

وقد يأتي الرجس أيضا بمعنى النتن والقذر ، ويقال في الرجيع رجس وركس ، وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات ، أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن ، ونحوه في المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خبر جهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية : «دعوها فإنها منتنة». وقوله : (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) إنما يريد أنهم يخاصمونه في أن تسمى آلهة ، فالجدل إنما وقع في التسميات لا في المسميات ، لكنه ورد في القرآن (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ) [يوسف : ٤٠] فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام ، فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه.

قال القاضي أبو محمد : ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل ، والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية وهذا بابه الذي استعمله به النحويون ، وقد يراد به المسمى ويدل عليه ما قاربه من القول ، من ذلك قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وقوله (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٧٨] على أن هذا يتأول ، ومنه قول لبيد : [الطويل]

إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما

على تأويلات في البيت ، وقد مضت المسألة في صدر الكتاب والسلطان : البرهان وقوله (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) الآية وعيد وتهديد.

والضمير في قوله «أنجيناه» عائد على «هود» أي أخرجه الله سالما ناجيا مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله ، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا (وَقَطَعْنا دابِرَ) استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك ، و «الدابر» الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم : فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله (كَذَّبُوا بِآياتِنا) دال على المعجزة وإن لم تتعين لها.

وقوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ) الآية ، هو «ثمود» بن غاثن بن أرم بن سام بن نوح أخو جديس بن غاثن ، وقرأ يحيى بن وثاب «وإلى ثمود» بكسر الدال وتنوينه في جميع القرآن ، وصرفه على اسم الحي وترك صرفه على اسم القبيلة ، قاله الزجاج ، وقال الله تعالى : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) فالمعنى : وأرسلنا «إلى ثمود أخاهم» فهو عطف على نوح ، والأخوة هنا أخوة القرابة ، وقال الزجاج يحتمل أن تكون أخوة الآدمية ، وسمى (أَخاهُمْ) لما بعث إليهم وهم قوم عرب و «هود وصالح» عربيان ، وكذلك إسماعيل


وشعيب ، كذا قال النقاش ، وفي أمر إسماعيل عليه‌السلام نظر ، وصالح عليه‌السلام هو صالح بن عبيد بن عارم بن أرم بن سام بن نوح كذا ذكر مكي ، وقال وهب بعثه الله حين راهق الحلم ، ولما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة ، فأقاموا بها ، حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر ، وقوله (بَيِّنَةٌ) صفة حذف الموصوف وأقيمت مقامه ، قال سيبويه وذلك قبيح في النكرة أن تحذف وتقام صفتها مقامها ، لكن إذا كانت الصفة كثيرة الاستعمال مشتهرة وهي المقصود في الأخبار والأمم زال القبح ، كما تقول جاءني عبد لبني فلان وأنت تريد جاءني رجل عبد لأن عبدا صفة فكذلك قوله هنا (بَيِّنَةٌ) ، المعنى آية أو حجة أو موعظة «بينة» ، وقال بعض الناس إن «صالحا» جاء بالناقة من تلقاء نفسه ، وقالت فرقة وهي الجمهور : بل كانت مقترحة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم ، وروي أن بعضهم قال «يا صالح» إن كنت صادقا فادع ربك يخرج لنا من هذه الهضبة وفي بعض الروايات من هذه الصخرة لصخرة بالحجر يقال لها الكاثبة ناقة عشراء قال فدعا الله فتمخضت تلك الهضبة وتنفضت وانشقت عن ناقة عظيمة ، وروي : أنها كانت حاملا فولدت سقبها المشهور ، وروي أنه خرج معها فصيلها من الصخرة ، وروي : أن جملا من جمال (ثَمُودَ) ضربها فولدت فصيلها المشهور ، وقيل (ناقَةُ اللهِ) تشريفا لها وتخصيصا ، وهي إضافة خلق إلى خالق ، وقال الزجاج : وقيل إنها ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شربا يوما ولهم شرب يوم ، وكانت الآية في شربها وحلبها.

قال القاضي أبو محمد : وحكى النقاش عن الحسن أنه قال : هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب والذي عليه الناس أقوى وأصح من هذا ، قال المفسرون : وكانت حلفا عظيما تأتي إلى الماء بين جبلين فيزحمانها من العظم وقاسمت (ثَمُودَ) في الماء يوما بيوم فكانت ترد يومها فتستوفي ماء بئر همشريا ويحلبونها ما شاؤوا من لبن ثم تمكث يوما وترد بعد ذلك غيا ، فاستمر ذلك ما شاء الله حتى أماتها (ثَمُودَ) وقالوا ما نصنع باللبن ، الماء أحب إلينا منه ، وكان سبب الملل فيما روي أنها كانت تصيف في بطن الوادي وادي الحجر وتستوفي ظاهره فكانت مواشيهم تفر منها فتصيف في ظهر الوادي للقيظ ، وتستوفي باطنه للزمهرير وفسدت لذلك ، فتمالؤوا على قتل الناقة فقال لهم «صالح» مرة إن هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه ، فولد لعشرة نفر أولاد فذبح التسعة أولادهم ، وبقي العاشر وهو سالف أبو قدار ، فنشأ قدار أحمر أزرق فكان التسعة إذا رأوه قالوا لو عاش بنونا كانوا مثل هذا ، فاحفظهم إن قتلوا أولادهم بكلام صالح.

فأجمعوا على قتله ، فخرجوا وكمنوا في غار ليبيتوه منه وتقاسموا لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله ، فسقط الغار عليهم فماتوا فهم الرهط التسعة الذين ذكر الله تعالى في كتابه هم قدار بن سالف ، ومصرع بن مهرج ضما إلى أنفسهما سبعة نفر وعزموا على عقر الناقة ، وروي أن السبب في ذلك أن امرأتين من (ثَمُودَ) من أعداء «صالح» جعلتا لقدار ومصرع أنفسهما وأموالهما على أن يعقرا الناقة وكانتا من أهل الجمال ، وقيل إن قدارا شرب الخمر مع قوم فطلبوا ماء يمزجون به الخمر فلم يجدوه لشرب الناقة ، فعزموا على عقرها حينئذ فخرجوا وجلسوا على طريقها وكمن لها قدار خلف صخرة ، فلما دنت منه


رماها بالحربة ثم سقطت فنحرها ، ثم اتبعوا الفصيل فهرب منهم حتى علا ربوة ورغا ثلاث مرات واستغاث فلحقوه وعقروه ، وفي بعض الروايات أنهم وجدوا الفصيل على رابية من الأرض فأرادوه فارتفعت به حتى لحقت به في السماء فلم يقدروا عليه ، فرغا الفصيل مستغيثا بالله تعالى فأوحى الله إلى «صالح» أن مرهم فليتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام ، وحكى النقاش عن الحسن أنه قال إن الله تعالى أنطق الفصيل فنادى أين أمي؟ فقال لهم «صالح» إن العذاب واقع بكم في الرابع من عقر الناقة ، وروي : أنه عقرت يوم الأربعاء وقال لهم «صالح» تحمر وجوهم غدا وتصفر في الثاني وتسود في الثالث وينزل العذاب في الرابع يوم الأحد ، فلما ظهرت العلامة التي قال لهم أيقنوا واستعدوا ولطخوا أبدانهم بالمن ، وحفروا القبور وتحنطوا فأخذتهم الصيحة وخرج صالح ومن معه حتى نزل رملة فلسطين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القصص اقتضبته من كثير أورده الطبري رحمه‌الله رغبة الإيجاز ، وقال أبو موسى الأشعري : أتيت بلاد (ثَمُودَ) فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعا.

قال القاضي أبو محمد : وبلاد (ثَمُودَ) هي بين الشام والمدينة ، وهي التي مر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المسلمين في غزوة تبوك فقال لا تدخلوا مساكين الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، ثم اعتجر بعمامته وأسرع السير صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي أن المسافة التي أهلكت الصيحة أهلها هي ثمانية عشر ميلا ، وهي بلاد الحجر ومراتعها الجناب وحسمي إلى وادي القرى وما حوله ، وقيل في قدار إنه ولد زنا من رجل يقال له ظيبان وولد على فراش سالف فنسب إليه ذكره قتادة وغيره ، وذكر الطبري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبر فقال أتعرفون ما هذا قالوا : لا ، قال هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من (ثَمُودَ) فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلم فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الخبر يريد ما في السير من أن أبا رغال هو دليل الفيل وحبيسه إلى مكة والله أعلم.

قوله عزوجل :

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٧٦)

(بَوَّأَكُمْ) معناه مكنكم ، وهي مستعملة في المكان وظروفه ، تقول تبوأ فلان منزلا حسنا ، ومنه قوله


تعالى (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١] وقال الأعشى : [الطويل]

فما بوّأ الرحمان بيتك منزلا

بشرقيّ أجياد الصّفا والمحرم

و «القصور» : جمع قصر وهي الدور التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود وقصرت عن الناس قصرا تاما ، و «النحت» النجر والقشر في الشيء الصلب كالحجر والعود ونحوه ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تنحتون» بفتح الحاء ، وقرأ جمهور الناس : بكسرها وبالتاء من فوق ، وقرأ ابن مصرف : بالياء من أسفل وكسر الحاء ، وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء ، وكانوا «ينحتون» الجبال لطول أعمارهم ، و (تَعْثَوْا) معناه تفسدوا يقال : عثا يعثي وعثا يعثو وعثى يعثى كنسى ينسى وعليها لفظ الآية ، وقرأ الأعمش «تعثوا» بكسر التاء و (مُفْسِدِينَ) : حال.

وتقدم القول في (الْمَلَأُ) ، وقرأ ابن عامر وحده في هذا الموضع «وقال الملأ» بواو عطف وهي محذوفة عند الجميع ، و (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) هم الأشراف والعظماء الكفرة ، و (اسْتَكْبَرُوا) يحتمل أن يكون معناه طلبوا هيئة لنفوسهم من الكبر ، أو يكون بمعنى كبروا كبرهم المال والجاه وأعظمهم فيكون على هذا كبر و «استكبر» بمعنى كعجب واستعجب ، والأول هو باب استفعل كاستوقد واسترفد ، والذين استضعفوا هم العامة والأغفال في الدنيا وهم أتباع الرسل ، وقولهم (أَتَعْلَمُونَ) استفهام على معنى الاستهزاء والاستخفاف ، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصرامة في دين الله فحملت الأنفة الإشراف على مناقضة المؤمنين في مقالتهم واستمروا على كفرهم.

قوله عزوجل :

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩)

قوله تعالى : (فَعَقَرُوا) يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تمالؤ منهم وإصفاق وكذلك : روي أن قدارا لم يعقرها حتى كان يستشير الرجال والنساء والصبيان ، فلما أجمعوا تعاطى فعقر ، (وَعَتَوْا) معناه خشوا وصلبوا ولم يذعنوا للأمر والشرع وصمموا على تكذيبه واستعجلوا النقمة بقولهم (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) وحسن الوعد في هذا الموضع لما تقيد بأنه عذاب ، قال أبو حاتم قرأ عيسى وعاصم أيتنا بهمز وإشباع ضم ، وقرأ بتخفيف الهمزة كأنها ياء في اللفظ أبو عمرو والأعمش.

و (الرَّجْفَةُ) ما تؤثره الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان وهو أن يتزعزع ويتحرك ويضطرب ويرتعد. ومنه قول خديجة فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده ، ومنه قول الأخطل : [البسيط] :

أما تريني حناني الشيب من كبر

كالنسر أرجف والإنسان ممدود


ومنه «إرجاف» النفوس لكريه الأخبار أي تحريكها ، وروي أن صيحة ثمود كان فيها من صوت كل شيء هائل الصوت ، وكانت مفرطة شقت قلوبهم فجثوا على صدورهم والجاثم اللاطئ بالأرض على صدره مع قبض ساقيه كما يرقد الأرنب والطير ، فإن جثومها على وجهها ، ومنه قول جرير : [الوافر].

عرفت المنتأى وعرفت منها

مطايا القدر كالحدأ الجثوم

وقال بعض المفسرين معناه حمما محترقين كالرماد الجاثم.

قال القاضي أبو محمد : وحيث وجد الرماد الجاثم في شعر فإنما هو مستعار لهيئة الرماد قبل هموده وتفرقه ، وذهب صاحب هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة.

وأخبر الله عزوجل بفعل «صالح» في توليه عنهم وقت «عقرهم» الناقة وقولهم (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) وذلك قبل نزول العذاب وكذلك روي أنه عليه‌السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم ، وأما لفظ الآية فيحتمل أن خاطبهم وهم موتى على جهة التفجع عليهم وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل قليب بدر ، قال الطبري : وقيل لم تهلك أمة ونبيها معها ، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ، ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في إهلاكهم. وقوله : (لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي ، إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة نفس الذي ينصح ، ولذلك تقول العرب أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.

قوله عزوجل :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤)

«لوط» عليه‌السلام بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم وروي أنه ابن أخي إبراهيم عليه‌السلام ، ونصبه إما (أَرْسَلْنا) المتقدم في الأنبياء وإما بفعل مضمر تقديره واذكر (لُوطاً) واستفهامه لهم هو على جهة التوقيف والتوبيخ والتشنيع ، و (الْفاحِشَةَ) هنا إتيان الرجال في الأدبار ، وروي أنه لم تكن هذه المعصية في أمم قبلهم.

قال القاضي أبو محمد : وإن كان لفظ الآية يقتضي هذا فقد كانت الآية تحتمل أن يراد بها ما سبقكم أحد إلى لزومها وتشهيرها وروي أنهم إن كانوا يأتي بعضهم بعضا ، وروي أنهم إنما كانوا «يأتون» الغرباء قاله الحسن البصري ، قال عمرو بن دينار ما زنا ذكر على ذكر قبل قوم «لوط» ، وحكى النقاش : أن إبليس كان أصل عملهم بأن دعاهم إلى نفسه ، وقال بعض العلماء عامل اللواط كالزاني ، وقال مالك رحمه‌الله


وغيره : يرجم أحصن أو لم يحصن ، وحرق أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلا يسمى الفجأة حين عمل عمل قوم «لوط».

وقرأ نافع والكسائي وحفص عن عاصم «أنكم» على الخبر كأنه فسر (الْفاحِشَةَ) وقرأ ابن كثير أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة : «أإنكم» باستفهام آخر ، وهذا لأن الأول استفهام عن أمر مجمل والثاني عن مفسر ، إلا أن حمزة وعاصما قرءا بهمزتين ، ولم يهمز أبو عمرو وابن كثير إلا واحدة و (شَهْوَةً) : نصب على المصدر من قولك شهيت الشيء شهاه ، والمعنى تدعون الغرض المقصود بالوطء وهو ابتغاء ما كتب الله من الولد وتنفردون بالشهوة فقط ، وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ) إضراب عن الإخبار عنهم أو تقريرهم على المعصية وترك لذلك إلى الحكم عليهم بأنهم قوم قد تجاوزوا الحد وارتكبوا الحظر ، والإسراف الزيادة المفسدة.

وقرأ الجمهور «جواب» بالنصب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «جواب» بالرفع ، ولم تكن مراجعة قومه باحتجاج منهم ولا بمدافعة عقلية وإنما كانت بكفر وصرامة وخذلان بحت في قولهم (أَخْرِجُوهُمْ) وتعليلهم الإخراج بتطهير المخرجين ، والضمير عائد على «لوط» وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم ، وروي أنه لم يكن معه غير ابنتيه وعلى هذا عني في الضمير هو وابنتاه ، و (يَتَطَهَّرُونَ) معناه يتنزهون عن حالنا وعادتنا ، قال مجاهد معناه (يَتَطَهَّرُونَ) عن أدبار الرجال والنساء ، قال قتادة : عابوهم بغير عيب وذموهم بغير ذم ، والخلاف في أهله حسبما تقدم.

واستثنى الله امرأة «لوط» عليه‌السلام من الناجين وأخبر أنها هلكت ، والغابر الباقي هذا المشهور في اللغة ، ومنه غير الحيض كما قال أبو كبير الهذلي : [الكامل]

ومبرأ من كل غبر حيضة

وفساد من ضعة وداء مغيل

وغبر اللبن في الضرع بقيته ، فقال بعض المفسرين : (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) في العذاب والعقاب أي مع الباقين ممن لم ينج ، وقال أبو عبيدة معمر : ذكرها الله بأنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة إلى أن هلكت مع قومها.

قال القاضي أبو محمد : فكأن قوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) اكتفى به في أنها لم تنج ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة ، والأول أظهر ، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي ، وكذلك حكى أهل اللغة غير بمعنى بقي وبمعنى مضى ، وأما قول الأعشى : [السريع]

عض بما أبقى المواسي له

من أمه في الزمن الغابر

فالظاهر أنه أراد الماضي وذلك بالنسبة إلى وقت الهجاء ، ويحتمل أن يريد في الزمن الباقي وذلك بالنسبة إلى الحين هو غابر بعد الإبقاء ، ويحتمل أن يعلق في الزمن بعض فيكون الباقي على الإطلاق والأول أظهر.

وقوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) الآية ، نص على إمطار وتظاهرت الآيات في غير هذه السورة أنه


بحجارة ، وروي أن الله عزوجل بعث جبريل فاقتلعها بجناحه وهي ست مدن ، وقيل خمس ، وقيل أربع ، فرفعها حتى سمع أهل السماء نهاق الحمير وصراخ الديكة ثم عكسها ورد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض. وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجا عن البقع المرفوعة ، وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجة : ووا قوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها.

قوله عزوجل :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٨٦)

قيل في (مَدْيَنَ) إنه اسم بلد وقطر ، وقيل اسم قبيلة ، وقيل هم من ولد «مدين» بن إبراهيم الخليل ، وروي أن لوط عليه‌السلام هو جد شعيب لأمه ، وقال مكي كان زوج بنت لوط ، ومن رأى (مَدْيَنَ) اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي ، ومن رآه اسما للقبيلة أو الأرض فهو أحرى ألا يصرف ، وقوله : (أَخاهُمْ) منصوب بقوله (أَرْسَلْنا) [الأعراف : ٥٩] في أول القصص ، وهذا يؤيد أن (لُوطاً) [الأعراف : ٨٠] به انتصب ، وأن اللفظ مستمر ، وهذه الأخوة في القرابة ، وقد تقدم القول في (غَيْرُهُ) وغيره ، والبينة إشارة إلى معجزته وإن كنا نحن لم ينص لنا عليها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «قد جاءتكم آية من ربكم» مكان (بَيِّنَةٌ) وقوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أمر لهم بالاستقامة في الإعطاء وهو بالمعنى في الأخذ والإعطاء ، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمن وفحشت مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه و (تَبْخَسُوا) معناه تظلموا. ومنه قولهم : تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة خادعة ، و (أَشْياءَهُمْ) يريد أموالهم وأمتعتهم مما يكال أو يوزن ، وقوله : (وَلا تُفْسِدُوا) لفظ عام دقيق الفساد وجليله ، وكذلك الإصلاح عام والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد ، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح ، وقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان.

وقوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) الآية ، قال السدي هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، والصراط : الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل : خسهم ونقصهم الكيل والوزن ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ، هو نهي عن السلب وقطع الطريق ، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد


هذين القولين ويشبههما ، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضا ، قوله : (وَلا تَقْعُدُوا) نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب ، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال القاضي أبو محمد : وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول ، وقوله تعالى : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ) الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى و (سَبِيلِ اللهِ) المفضية إلى رحمته ، والضمير في (بِهِ) يحتمل : أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب ، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر «السبيل» ، وتقدم القول في مثل قوله : (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) في صدر السورة ، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام ، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد ، وقيل : أغناهم بعد فقر ، فالمعنى على هذا : إذ كنتم قليلا قدركم ، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩)

المعنى : وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم عليّ وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم ، وفي قوله : (فَاصْبِرُوا) قوة التهديد والوعيد ، هذا ظاهر الكلام وأن المخاطبة بجميع الآية للكفار ، وحكى منذر بن سعيد عن ابن عباس أن الخطاب بقوله : (فَاصْبِرُوا) للمؤمنين على معنى الوعد لهم ، وقاله مقاتل بن حيان ، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان المعنى «فاصبروا» يا معشر الكفار.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول الجماعة.

وتقدم القول في معنى (الْمَلَأُ) ومعنى الاستكبار ، وقولهم : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ) تهديد بالنفي ، والقرية المدينة الجامعة للناس لأنها تقرت أي اجتمعت ، وقولهم أو (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) معناه أو لتصيرن ، وعاد : تجيء في كلام العرب على وجهين. أحدهما عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك ، وهي على هذه الجهة لا تتعدى فإن عديت فبحرف ، ومنه قول الشاعر : [السريع]

إن عادت العقرب عدنا لها

وكانت النعل لها حاضرة


ومنه قول الآخر : [الطويل]

ألا ليت أيام الشباب جديد

وعصرا تولّى يا بثين يعود

ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا) [الأنعام : ٢٨] ومنه قول الشاعر : [الطويل]

فإن تكن الأيام أحسن مرة

إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

والوجه الثاني أن تكون بمعنى صار وعاملة عملها ولا تتضمن أن الحال قد كانت متقدمة. ومن هذه قول الشاعر : [البسيط]

تلك المكارم لاقعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

ومنه قول الآخر : [الرجز]

وعاد رأسي كالثغامة

ومنه قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] على أن هذه محتملة ، فقوله في الآية أو (لَتَعُودُنَ) و (شُعَيْبُ) عليه‌السلام لم يكن قط كافرا يقتضي أنها بمعنى صار ، وأما في جهة المؤمنين بعد كفرهم فيترتب المعنى الآخر ويخرج عنه «شعيب» إلا أن يريدوا عودته إلى حال سكوته قبل أن يبعث ، وقوله (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) توقيف منه لهم على شنعة المعصية وطلب أن يقروا بألسنتهم بإكراه المؤمنين بالله على الإخراج ظلما وغشما.

والظاهر في قوله : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) أنه خبر منه أي لقد كنا نواقع عظيما ونفتري على الله الكذب في الرجوع إلى الكفر ، ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدعاء ، مثل قول الشاعر : بقيت وفري.

وكما تقول «افتريت على الله» إن كلمت فلانا ، و (افْتَرَيْنا) معناه شققنا بالقول واختلفنا. ومنه قول عائشة : من زعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ونجاة «شعيب» من ملتهم كانت منذ أول أمره ، ونجاة من آمن معه كانت بعد مواقعة الكفر ، وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا من الله في ذلك سابق وسوء وينفذ منه قضاء لا يرد.

قال القاضي أبو محمد : والمؤمنون هم المجوزون لذلك وشعيب قد عصمته النبوة ، وهذا أظهر ما يحتمل القول ، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات ، فلما قال لهم : إنا لا نعود في ملتكم ثم خشي أن يتعبد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط ، وقد علم امتناع ذلك فهو إحالة على مستحيل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة الذين من مذهبهم أن الكفر والإيمان ليسا


بمشيئة من الله تعالى فلا يترتب هذا التأويل إلا عندهم ، وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه ، وقيل : إن هذا الاستثناء إنما هو تستر وتأدّب.

قال القاضي أبو محمد : ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان في الكلام إن شاء الله قوى هذا التأويل ، وقوله : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) معناه : وسع علم ربنا كل شيء كما تقول : تصبب زيد عرقا أي تصبب عرق زيد ، و (وَسِعَ) بمعنى أحاط ، وقوله : (افْتَحْ) معناه أحكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير ، وقيل بلغة مراد ، وقال بعضهم : [الوافر]

ألا أبلغ بني عصم رسولا

فإني عن فتاحتكم غنيّ

وقال الحسن بن أبي الحسن : إن كل نبي أراد الله هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم ، وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك ، وقوله (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) استسلام لله وتمسك بلفظه وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

قوله عزوجل :

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣)

هذه المقالة قالها الملأ لتبّاعهم وسائر الناس الذي يقلدونهم ، و (الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت ب (الرَّجْفَةُ) وفرقة بالظلة ويحتمل أن الظلة و (الرَّجْفَةُ) كانتا في حين واحد ، وروي أن الله تعالى بعث (شُعَيْباً) إلى أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة ، وقيل هما طائفتان وقيل واحدة وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والوزن فدعاهم فكذبوه فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة ، فلما عتوا وطالت بهم المدة فتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه فلم ينفعهم ظل ولا ماء ، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها فتنادوا ، عليكم الظلة ، فلما اجتمعوا تحت الظلة وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم ، قال الطبري : فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء قال لما رآها : [البسيط]

يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا

عنكم سميرا وعمران بن شداد

إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت

تدعو بصوت على ضمّانة الواد

وإنه لن تروا فيها ضحاء غد

إلا الرقيم يمشّي بين انجاد


وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ذكر «شعيبا» قال : ذلك خطيب الأنبياء لقوله لقومه : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). [هود : ٨٨].

قال القاضي أبو محمد : يريد لحسن مراجعته وجميل تلطفه. وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال : أبو جاد وهو زوحطي وكلمن وصعفض وقرست أسماء ملوك مدين ، وكان الملك يوم الظلة كلمن ، فقالت أخته ترثيه : [مجزوء الرمل]

كلمن قد هد ركني

هلكه وسط المحلة

سيد القوم اتساه

حتف نار وسط ظله

جعلت نار عليهم

دارهم كالمضمحله

قال القاضي أبو محمد : وهذه حكاية مظنون بها والله علم ، وقد تقدم معنى (جاثِمِينَ).

وقوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) لفظ فيه للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم ، ونحو هذا قول الشاعر :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

و (يَغْنَوْا) معناه يقيموا ويسكنوا.

قال القاضي أبو محمد : وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرض ، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر : [الوافر]

وقد نغنى بها ونرى عصورا

بها يقتدننا الخرد الخذالا

ومنه قول الآخر : [الرمل]

ولقد يغنى بها جيرانك المس

تمسكو منكم بعهد ووصال

أنشده الطبري ، ومنه قول الآخر : [الطويل]

ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا

ومنه قول مهلهل: [الخفيف]

غنيت دارنا تهامة في الدهر

وفيها بنو معد حلّوا

ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء ، وأما قوله : كأن لم تغن بالأمس ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة ، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنة بهذا المعنى وأما قول الشاعر : [الطويل]

غنينا زمانا بالتصعلك والغنا

وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر

فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنة بمكان.


وقوله : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) إلى آخر الآية كلام يقتضي أن (شُعَيْباً) عليه‌السلام وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه حزنا وإشفاقا إذ كان أمله فيهم غير ذلك ، فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم والقسوة عليهم فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم الذي استوجبوا به أن لا يتأسف عليهم ، فذكر أنه بلغ الرسالة ونصح ، والمعنى فأعرضوا وكذبوا ، ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا وفكرت فيه (فَكَيْفَ آسى) على هؤلاء الكفرة ، ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل قليب بدر ، وقال مكي : وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها ، و (آسى) : أحزن ، وقرأ ابن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش : «إيسى» بكسر الهمزة وهي لغة كما يقال أخال وأيمن ، قال عبد الله ابن عمر لا أخاله ، وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر في كتاب الحج لا أيمن وجميع ذلك في البخاري ، وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث ، همزة التكلم ونون الجماعة وتاء المخاطبة ، ولا يجوز ذلك في ياء الغائب كذا قال سيبويه ، وأما قولهم من وجل ييجل فلعله من غير هذا الباب.

قوله عزوجل :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٩٦)

هذه الآية خبر من الله عزوجل أنه ما بعث نبيا في مدينة وهي «القرية» إلا أخذ أهلها المكذبين له (بِالْبَأْساءِ) وهي المصائب في الأموال والهموم وعوارض الزمن ، (وَالضَّرَّاءِ) وهي المصائب في البدن كالأمراض ونحوها ، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة ، وحكي عن السدي ما يقتضي أن اللفظتين تتداخل فتقال كل واحدة على المعنيين ، و (لَعَلَّهُمْ) ترج بحسب اعتقاد البشر وظنونهم ، (يَضَّرَّعُونَ) أي ينقادون إلى الإيمان ، وهكذا قولهم الحمى أضرعتني لك.

ثم قال تعالى أنه بعد إنفاذ الحكم في الأولين بدل للخلق مكان السيئة وهي «البأساء» و «الضراء» الحسنة وهي «السراء» والنعمة ، وهذا بحسب ما عند الناس ، وإلا فقد يجيء الأمر كما قال الشاعر : [البسيط]

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما يصح مع النظر إلى الدار الآخرة والجزاء فيها ، والنعمة المطلقة هي التي لا عقوبة فيها : والبلوى المطلقة هي التي لا ثواب عليها ، و (حَتَّى عَفَوْا) معناه : حتى كثروا يقال عفا النبات والريش «يعفو» إذا كثر نباته ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [الوافر]

ولكنها يعضّ السيف منها

بأسوق عافيات الشحم كوم


وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى» وعفا أيضا في اللغة بمعنى درس وبلى فقال بعض الناس هي من الألفاظ التي تستعمل للضدين ، وأما قول زهير :

على آثار من ذهب العفاء

فيحتمل ثلاثة معان الدعاء بالدرس ، والإخبار به ، والدعاء بالنمو والنبات ، كما يقال جادته الديم وسقته العهاد ولما بدل الله حالهم بالخير لطفا بهم فنموا رأى الخلق بعد ذلك للكفر الذي هم فيه أن إصابة (الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) إنما هي بالاتفاق ، وليست بقصد كما يخبر النبي ، واعتقدوا أن ما أصابهم من ذلك إنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم فجعلوه مثالا ، أي قد أصاب هذا آباءنا فلا ينبغي لنا أن ننكره ، فأخبر الله تعالى أنه أخذ هذه الطوائف التي هذا معتقدها ، وقوله (بَغْتَةً) أي فجأة وأخذة أسف وبطشا للشقاء السابق لهم في قديم علمه ، و (السَّرَّاءُ) السرور والحبرة ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) معناه وهم مكذبون بالعذاب لا يتحسسون لشيء منه ولا يستشعرونه باستذلال وغيره.

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الآية المعنى في هذه الآية أنهم لو كانوا ممن سبق في علم الله أن يكتسبوا الإيمان والطاعات ويتصفوا بالتقى لتبع ذلك من فضل الله ورحمته وإنعامه ما ذكر من بركات المطر والنبات ولكنهم لما كانوا ممن سبق كفرهم وتكذيبهم تبع ذلك أخذ الله لهم بسوء ما اجترموه ، وكل مقدور ، والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر ، وبسببه استندت الأفعال إليهم في قوله : (آمَنُوا وَاتَّقَوْا) وفي (كَذَّبُوا) وقرأ الستة من القراء السبعة «لفتحنا» بخفيف التاء وهي قراءة الناس ، وقرأ ابن عامر وحده وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن : «لفتّحنا» بتشديد التاء ، وفتح البركات إنزالها على الناس ومنه قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] ومنه قالت الصوفية: الفتوح والبركات النمو والزيادات ، ومن السماء لجهة المطر والريح والشمس ، ومن الأرض لجهة الإنبات والحفظ لما ينبت ، هذا هو الذي يدركه نظر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم ، وما في علم الله أكثر.

قوله عزوجل :

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠)

هذه الآية تتضمن وعيدا للكفار المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم الخالية قال : ومن يؤمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك ، وهذا استفهام على جهة التوقيف ، والبأس : العذاب ، و (بَياتاً) نصب على الظرف أي وقت مبيتهم بالليل ، ويحتمل أن يكون هذا في موضع الحال.


وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر (أَوَأَمِنَ) بسكون الواو وإظهار الهمزتين ، وقرأ ورش عن نافع «أوامن» بفتح الواو وإلقاء حركة الهمزة الثانية عليها ، وهذه القراءة في معنى الأولى ولكن سهلت ، وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي ، «أو أمن» بفتح الواو وإظهار الهمزتين ومعنى هذه القراءة : أنه دخل ألف الاستفهام على حرف العطف ، ومعنى القراءة الأولى : أنه عطف با والتي هي لأحد الشيئين ، المعنى : (أَفَأَمِنُوا) هذا أو هذا كما تقول : أجاء زيد أو عمرو وليست هذه أو التي هي للإضراب عن الأول كما تقول : أنا أقوم أو أجلس وأنت تقصد الإضراب عن القيام والإثبات للجلوس وتقريره ، وقولنا التي هي لأحد الشيئين يعم الإباحة والتخيير كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين أو قولك : جالس الحسن أو جالس ابن سيرين ، وقوله (يَلْعَبُونَ) يريد في غاية الغفلة والإعراض.

و (مَكْرَ اللهِ) هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول : ناقة الله وبيت الله ، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفار ، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة ، وهذا نص في قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) ، وهذا الموضع أيضا كان كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف ، وقيل عومل في مثل هذا وغيره اللفظ دون المعنى في مثل قوله (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] و «أن الله لا يمل حتى تملوا» وغير ذلك.

وقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) الآية ، هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف ، و «يهدي» معناه يبين والهدى الصباح وأنشدوا على ذلك :

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة

يسبحن في الآل غلفا أو يصلينا

ويحتمل أن يكون المبين الله تعالى ويحتمل أن يكون المبين قوله (أَنْ لَوْ نَشاءُ) أي علمهم بذلك وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد : و «يهدي» معناه يتبين ، وهذه أيضا آية وعيد ، أي ألم يظهر لوارث الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أن نصيبهم إصابة إهلاك بسبب معاصيهم كما فعل بمن تقدم وكنا نطبع : أي نختم ، ونختم عليها بالشقاوة ، وفي هذه العبارة ذكر القوم الذين قصد ذكرهم وتعديد النعمة عليهم فيما «ورثوا» والوعظ بحال من سلف من المهلكين ، ونطبع عطف على المعاصي إذ المراد به الاستقبال ، ويحتمل أن يكون ونطبع منقطعا إخبارا عن وقوع الطبع لا أنه متوعد به ويبقى التوعد بالإهلال الذي هو بعذاب كالصيحة والغرق ونحوه ، وقرأ أبو عمرو : (وَنَطْبَعُ عَلى) بإدغام العين في العين وإشمام الضم ، ذكره أبو حاتم.

وقوله عزوجل :

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢)

(تِلْكَ) ابتداء ، و (الْقُرى) قال قوم هو نعت والخبر (نَقُصُ) ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص.


قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن (الْقُرى) هي خبر الابتداء ، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها ، وهذا كما قيل في (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢] أنه ابتداء وخبر ، وكما قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أولئك الملأ» ، وكقول أبي الصلت تلك المكارم وهذا كثير ، وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة ، والمعنى : نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل ، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سببا لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر ، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر.

قال القاضي أبو محمد : أشار إلى هذا القول النقاش ، فكأن الضمير في قوله (كانُوا) يختص بالآخرين ، والضمير في قوله (كَذَّبُوا) يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما كذبوا في حال حياتهم ودعاء الرسول لهم ، قاله مجاهد وقرنه بقوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] وهذه أيضا صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر ، بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به ، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل ، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عزوجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق ، وهو قول أبي بن كعب.

وقوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) الآية ، أخبر تعالى أنه لم يجد لأكثرهم ثبوتا على العهد الذي أخذه على ذرية آدم وقت استخراجهم من ظهره ، قاله أبو العالية عن أبي بن كعب ، ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن أنهم لم يصرفوا عقولهم في الآيات المنصوبة ولا شكروا نعم الله ولا قادتهم معجزات الأنبياء ، لأن هذه الأمور عهد في رقاب العقلاء كالعهود ينبغي أن يوفى بها ، وأيضا فمن لدن آدم تقرر العهد الذي هو بمعنى الوصية وبه فسر الحسن هذه الآية فيجيء المعنى : وما وجدنا لأكثرهم التزام عهد وقبول وصاة ، ذكره المهدوي ، و (مِنْ) في هذه الآية زائدة ، إلا أنها تعطي استغراق جنس العهد ولا تجيء هذه إلا بعد النفي ، و (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة عند سيبويه ، واللام في قوله (لَفاسِقِينَ) للفرق بين (إِنْ) المخففة وغيرها ، و (إِنْ) عند الفراء هي بمعنى ما واللام بمعنى إلا والتقدير عنده وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين.

قوله عزوجل :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ


الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (١٠٨)

الضمير في قوله (مِنْ بَعْدِهِمْ) عائد على الأنبياء المتقدم ذكرهم وعلى أممهم ، و «الآيات» في هذه الآية عام في التسع وغيرها ، وقوله (فَظَلَمُوا بِها) المعنى فظلموا أنفسهم فيها وبسببها وظلموا أيضا مظهرها ، ومتبعي مظهرها وقيل لما نزلت ظلموا منزلة كفروا وجحدوا عديت بالباء كما قال : [الفرزدق]

قد قتل الله زيادا عني

فأنزل قتل منزلة صرف ، ثم حذر الله من عاقبة المفسدين الظالمين وجعلهم مثالا يتوعد به كفرة عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (فِرْعَوْنُ) اسم كل ملك لمصر في ذلك الزمان فخاطبه موسى بأعظم أسمائه وأحبها إليه إذ كان من الفراعنة كالنمارذة في يونان وقيصر في الروم وكسرى في فارس والنجاشي في الحبشة ، وروي أن موسى بن عمران بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، وروي أن اسم فرعون موسى عليه‌السلام الوليد بن مصعب ، وقيل هو فرعون يوسف وأنه عمر نيفا وأربعمائة سنة.

قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن يوسف المبعوث الذي أشار إليه موسى في قوله (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٣٤] هو غير يوسف الصديق فليس يحتاج إلى نظر ، ومن قال إنه يوسف الصديق فيعارضه ما يظهر من قصة يوسف ، وذلك أنه ملك مصر بعد عزيزها ، فكيف يستقيم أن يعيش عزيزها إلى مدة موسى ، فينفصل أن العزيز ليس بفرعون الملك إنما كان حاجبا له.

وقرأ نافع وحده (عَلى) بإضافة «على» إليه ، وقرأ الباقون «على» سكون الياء ، قال الفارسي : معنى هذه القراءة أن «على» وضعت موضع الباء ، كأنه قال حقيق بأن لا أقول على الله الحق كما وضعت الباء موضع «على» في قوله (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) [الأعراف : ٨٦] فيتوصل إلى المعنى بهذه ، وبهذه وكما تجيء «على» أيضا بمعنى عن ، ومنه قول الشاعر في صفة قوسه :

أرمي عليها وهي فرع أجمع

وهي ثلاث أذرع وإصبع

قال القاضي أبو محمد : و (حَقِيقٌ عَلى) هذا معناه جدير وخليق ، وقال الطبري : قال قوم : (حَقِيقٌ) معناه حريص فلذلك وصلت ب (عَلى) ، وفي هذا القول بعد ، وقال قوم : (حَقِيقٌ) صفة لرسول تم عندها الكلام ، وعلى خبر مقدم و (أَنْ لا أَقُولَ) ابتداء تقدم خبره ، وإعراب (أَنْ) على قراءة من سكن الياء خفض ، وعلى قراءة من فتحها مشددة رفع ، وقال الكسائي في قراءة عبد الله «حقيق بأن لا أقول» ، وقال أبو


عمرو في قراءة عبد الله : «حقيق أن أقول» وبه قرأ الأعمش ، وهذه المخاطبة إذا تأملت غاية في التلطف ونهاية في القول اللين الذي أمر عليه‌السلام به.

وقوله (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية ، البينة هنا إشارة إلى جميع آياته وهي على المعجزة هنا أدل ، وهذا من موسى عرض نبوته ومن فرعون استدعاء خرق العادة الدال على الصدق.

وظاهر الآية وغيرها أن موسى عليه‌السلام لم تنبن شريعته إلا على بني إسرائيل فقط ، ولم يدع فرعون وقومه إلا إلى إرسال بني إسرائيل ، وذكره لعله يخشى أو يزكى ويوحد كما يذكر كل كافر ، إذ كل نبي داع إلى التوحيد وإن لم يكن آخذا به ومقاتلا عليه ، وأما إن دعاه إلى أن يؤمن ويلتزم جميع الشرع فلم يرد هذا نصا ، والأمر محتمل ، وبالجملة فيظهر فرق ما بين بني إسرائيل وبين فرعون والقبط ، ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى أبدا ولا عارضهم وكان القبط مثل عبدة البقر وغيرهم وإنما احتاج إلى محاورة فرعون لتملكه على بني إسرائيل.

وقوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ) الآية ، روي أن موسى عليه‌السلام قلق به وبمحاورته فرعون فقال لأعوانه خذوه فألقى موسى العصا فصارت ثعبانا وهمت بفرعون فهرب منها ، وقال السدي : إنه أحدث وقال يا موسى كفه عني فكفه ، وقال نحوه سعيد بن جبير.

و «إذا» ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبرا عن جثة ، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان في كل موضع ، ويقال : إن الثعبان وضع أسفل لحييه في الأرض وأعلاها في شرفات القصر ، والثعبان الحية الذكر ، وهو أهول وأجرأ ، قاله الضحاك ، وقال قتادة صارت حية أشعر ذكرا ، وقال ابن عباس : غرزت ذنبها في الأرض ورفعت صدرها إلى فرعون ، وقوله (مُبِينٌ) معناه لا تخييل فيه بل هو بين أنه حقيقة ، وهو من أبان بمعنى بان أو من بان بمعنى سلب عن أجزائه ، وقوله (وَنَزَعَ يَدَهُ) ، معناه من جيبه أو كمه حسب الخلاف في ذلك ، وقوله (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) قال مجاهد كاللبن أو أشد بياضا ، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس تأتلق ، وكان موسى عليه‌السلام ذا دم أحمر إلى السواد ، ثم كان يرد يده فترجع إلى لون بدنه.

قال القاضي أبو محمد : وهاتان الآيتان عرضهما موسى عليه‌السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما ، وخرق العادة بهما وتحدى الناس إلى الدين بهما ، فإذا جعلنا التحدي الدعاء إلى الدين مطلقا فبهما تحدى ، وإذا جعلنا التحدي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأن المعارضة والعجز فيها وقعا.

قال القاضي أبو محمد : ويقال التحدي هو الدعاء إلى الإتيان بمثل المعجزة ، فهذا نحو ثالث وعليه يكون تحدي موسى بالآيتين جميعا لأن الظاهر من أمره أنه عرضهما للنظر معا وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلها ، وروي عن فرقد السبخي أن فم الحية كان ينفتح أربعين ذراعا.

قوله عزوجل :

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ


(١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦)

الساحر كان عندهم في ذلك الزمن أعلى المراتب وأعظم الرجال ، ولكن وصفهم موسى بذلك مع مدافعتهم له عن النبوة ذم عظيم وحط ، وذلك قصدوا إذ لم يمكنهم أكثر ، وقولهم (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) يعنون بأنه يحكم فيكم بنقل رعيتكم في بني إسرائيل فيفضي ذلك إلى خراب دياركم إذا ذهب الخدمة والعمرة ، وأيضا فلا محالة أنهم خافوا أن يقاتلهم وجالت ظنونهم كل مجال ، وقال النقاش : كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك ، وقوله (فَما ذا تَأْمُرُونَ) الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم إلى بعض ، وقيل هو من كلام فرعون لهم ، وروى كردم عن نافع «تأمرون» بكسر النون ، وكذلك في الشعراء و «في» استفهام و «ذا» بمعنى الذي فهما ابتداء وخبر ، وفي (تَأْمُرُونَ) ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به ويجوز أن تجعل (فَما ذا) بمنزلة اسم واحد في موضع نصب ب (تَأْمُرُونَ) ولا يضمر فيه على هذا ، قال الطبري : والسحر مأخوذ من سحر المطر الأرض إذا جادها حتى يقلب نباتها ويقلعه من أصوله فهو يسحرها سحرا والأرض مسحورة.

قال القاضي أبو محمد : وإنما سحر المطر الطين إذا أفسده حتى لا يمكن فيه عمل ، والسحر الآخذة التي تأخذ العين حتى ترى الأمر غير ما هو ، وربما سحر الذهن ، ومنه قول ذي الرمة : [الوافر]

وساحرة السراب من الموامي

يرقص في نواشزها الأروم

أراد أنه يخيل نفسه ماء للعيون.

ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة ، وقرأ ابن كثير «أرجئهو» بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء ، وقرأ أبو عمرو «أرجئه» بالهمز ، دون واو بعدها وقرأ نافع وحده في رواية قالون : «أرجه» بكسر الهاء ، ويحتمل أن يكون المعنى : أخره فسهل الهمزة ، ويحتمل من الرجا بمعنى أطعمه ورجه قاله المبرد ، وقرأ ورش عن نافع : «أرجهي» بياء بعد كسرة الهاء ، وقرأ ابن عامر : «أرجئه» بكسر الهاء وبهمزة قبلها ، قال الفارسي وهذا غلط وقرأ عاصم والكسائي «أرجه» بضم الهاء دون همز ، وروى أبان عن عاصم : «أرجه» بسكون الهاء وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها ، ومنه قول الشاعر : [منظور بن حبة الأسدي]

أنحى عليّ الدهر رجلا ويدا

يقسم لا أصلح إلا أفسدا

فيصلح اليوم ويفسد غدا.


وقال الآخر :

لما رأى أن لا دعة ولا شبع

مال إلى أرطاة حقق فاضطجع

وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافا ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن اغلبه بالحجة ، و (الْمَدائِنِ) جمع مدينة وزنها فعيلة من مدن أو مفعلة من دان يدين وعلى هذا يهمز مدائن أو لا يهمز ، و (حاشِرِينَ) معناه جامعين ، قال المفسرون : وهم الشرط ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «بكل ساحر» ، وقرأ حمزة والكسائي : «بكل سحار» على بناء المبالغة وكذلك في سورة يونس ، وأجمعوا على «سحار» في سورة الشعراء ، وقال قتادة : معنى الإرجاء الذي أشاروا إليه السجن والحبس.

وقوله تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ) الآية ، هنا محذوفات يقتضيها ظاهر الكلام وهي أنه بعث إلى السحرة وأمرهم بالمجيء ، وقال ابن عباس أنه بعث غلمانا فعلموا بالفرما وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية حفص «أن لنا لأجرا» على جهة الخبر ، وقرأوا في الشعراء (إِنَّ لَنا) ممدودة مفتوحة الألف غير عاصم فإنه لا يمدها ، قال أبو علي ويجوز أن تكون على جهة الاستفهام وحذف ألفها ، وقد قيل ذلك في قوله (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٢٢] ومنه قول الشاعر : [حضرمي بن عامر].

أفرح أن أرزأ الكرام

وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي الشعراء «آ إن» بألف الاستفهام قبل «إن» ، وقرأت فرقة «أئن» دون مد ، وقرأ أبو عمرو هنا وفي الشعراء «أئن» ، والأجر هنا الاجرة فاقترحوها إن غلبوا فأنعم فرعون لهم بها وزادهم المنزلة والجاه ، ومعناه المقربين مني ، وروي أن السحرة الذين جاءوا إلى فرعون كانوا خمسة عشر ألفا قاله ابن إسحاق ، وقال ابن جريج كانوا تسعمائة ، وذكر النقاش أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلا ، وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفا قال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين ألفا ، وقال السدي مائتي ألف ونيفا.

قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال ليس لها سند يوقف عنده ، وقال كعب الأحبار : اثني عشر ألفا ، وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل مع كل رجل حبل وعصا ، وقال أبو ثمامة : كانوا سبعة عشر ألفا.

وقوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) الآية ، (أَنْ) في قوله (إِمَّا أَنْ) في موضع نصب أي إما أن تفعل الإلقاء ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع أي إما هو الإلقاء ، وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا فعل المدل الواثق بنفسه ، والظاهر أن التقدم في التخيلات والمخارق والحج ، لأن بدليتهما تمضي بالنفس ، فليظهر الله أمر نبوة موسى قوى نفسه ويقينه ووثق بالحق فأعطاهم التقدم فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم.

وقوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) نص في أن لهم فعلا ما زائدا على ما يحدثونه من التزيق


والآثار في العصا وسائر الأجسام التي يصرفون فيها صناعتهم (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) بمعنى أرهبوهم أي فزعوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس ، ووصف الله سحرهم بالعظم ، ومعنى ذلك من كثرته ، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيرا موقرة بالحبال والعصي فلما ألقوها تحركت وملأت الوادي يركب بعضها بعضا ، فاستهول الناس ذلك واسترهبوهم ، قال الزجاج : قيل إنهم جعلوا فيها الزئبق فكانت لا تستقر.

قوله عزوجل :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٢٤)

(أَنْ) في موضع نصب ب (أَوْحَيْنا) أي بأن ألق ، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وروي أن موسى لما كان يوم الجمع خرج متكئا على عصاه ويده في يد أخيه وقد صف له السحرة في عدد عظيم حسبما ذكر ، فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه ، فألقى فإذا هي ثعبان مبين ، فعظم حتى كان كالجبل ، وقيل إنه طال حتى جاز النيل ، وقيل كان الجمع بالإسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة ، وقيل كان الجمع بمصر وإنه طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من الصواب مفرط الإغراق لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وروي أن السحرة لما ألقوا وألقى موسى عصاه جعلوا يرقون وجعلت حبالهم وعصيهم تعظم وجعلت عصى موسى تعظم حتى سدت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد ذلك عصا فعندها آمن السحرة ، وروي أن عصا موسى كانت عصا آدم عليها‌السلام وكانت من الجنة ، وقيل كانت من العين الذي في وسط ورق الريحان ، وقيل كانت غصنا من الخبيز أو قيل كانت لها شعبتان وقيل كانت عصا الأنبياء مختزنة عند شعيب فلما استرعى موسى قال له اذهب فخذ عصا فذهب إلى البيت فطارت هذه إلى يده فأمره شعيب بردها وأخذ غيرها ففعل فطارت هي إلى يده فأخبر بذلك شعيبا وتركها له ، وقال ابن عباس : إن ملكا من الملائكة دفع العصا إلى موسى في طريق مدين ، و (تَلْقَفُ) معناه تبتلع وتزدرد ، و (ما يَأْفِكُونَ) معناه : ما صوروا فيه إفكهم وكذبهم ، وقرأ جمهور الناس «تلقف» ، وقرأ عاصم في رواية حفص «تلقف» بسكون اللام وفتح القاف ، وقرأ ابن كثير في بعض ما روي عنه «هي تلقف» بتشديد التاء على إدغام التاء من تتلقف ، وهذه القراءة لا تترتب إلا في الوصول ، وأما في الابتداء في الفعل فلا يمكن ، وقرأ سعيد بن جبير «تلقم» بالميم أي تبتلع كاللقمة ، وروي أن الثعبان استوفى تلك الحبال والعصي أكلا وأعدمها الله عزوجل ، ومد موسى يده إلى فمه فعاد عصا كما كان ، فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجدا مؤمنين بالله ورسوله.


وقوله تعالى : (فَوَقَعَ الْحَقُ) الآية ، «وقع» معناه نزل ووجد ، و (الْحَقُ) يريد به سطوع البرهان وظهور الإعجاز واستمر التحدي إلى الدين على جميع العالم ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لفظ يعم سحر السحرة وسعي فرعون وشيعته.

والضمير في قوله (فَغُلِبُوا) عائد على «جميعهم» من سحرة وسعي فرعون وشيعته ، وفي قوله (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) إن قدرنا انقلاب الجمع قبل إيمان السحرة فهم في الضمير وإن قدرناه بعد إيمانهم فليسوا في الضمير ولا لحقهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم.

وقوله تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) الآيات ، لما رأى السحرة من عظيم القدرة وما تيقنوا به نبوة موسى آمنوا بقلوبهم وانضاف إلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفزع من قدرة الله تعالى فخروا سجدا لله تعالى متطارحين وآمنوا نطقا بألسنتهم ، وتبينهم الرب بذكر موسى وهارون زوال عن ربوبية فرعون وما كان يتوهم فيه الجهال من أنه رب الناس ، وهارون أخو موسى أسن منه بثلاث سنين ، وقول فرعون (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) دليل على وهن أمره لأنه إنما جعل ذنبهم مفارقة الإذن ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط ، وقرأ عاصم في رواية حفص عنه في كل القرآن «آمنتم» على الخبر ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «آمنتم» بهمزة ومدة على الاستفهام وكذلك في طه والشعراء ، وقرأ حمزة والكسائي في الثلاثة المواضيع «أآمنتم» بهمزتين الثانية ممدودة ، ورواها الأعمش عن أبي بكر عن عاصم ، وقرأ ابن كثير في رواية أبي الأخريط عنه «وآمنتم» وهي على ألف الاستفهام إلا أنه سهلها واوا فأجرى المنفصل مجرى المتصل في قولهم تودة في تؤدة ، وقرأ قنبل عن القواس «وآمنتم» وهي على القراءة بالهمزتين «ا آمنتم» إلا أنه سهل ألف الاستفهام واوا وترك ألف أفعلتم على ما هي عليه ، والضمير في (بِهِ) يحتلم أن يعود على اسم الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على موسى عليه‌السلام ، وعنفهم فرعون على الإيمان قبل إذنه ثم ألزمهم أن هذا كان على اتفاق منهم ، وروي في ذلك عن ابن عباس وابن مسعود : أن موسى اجتمع مع رئيس السحرة واسمه شمعون فقال له موسى : أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم ، فعلم بذلك فرعون ، فلذلك قال (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ)

ثم قال للسحرة (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) الآية ، فرجع فرعون في مقالته هذه إلى الخذلان والغشم وعادة ملوك السوء إذا غولبوا ، وقرأ حميد المكي وابن محصن ومجاهد «لأقطعن» بفتح الهمزة والطاء وإسكان القاف ، «ولأصلبن» بفتح الهمزة وإسكان الصاد وضم اللام ، وروي بكسرها ، و (مِنْ خِلافٍ) معناه يمنى ويسرى.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر من هذه الآيات أن فرعون توعد وليس في القرآن نص على أنه أنفذ ذلك وأوقعه ، ولكنه روي أنه صلب بعضهم وقطع ، قال ابن عباس : فرعون أول من صلب وقطع من خلاف ، وقال ابن عباس وغيره فيهم : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء ، وأما التوعد فلجميعهم.

قوله عزوجل :

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا


صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١٢٧)

هذا تسليم من مؤمني السحرة ، واتكال على الله ، وثقة بما عنده.

وقرأ جمهور الناس «تنقم» بكسر القاف ، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن أبي عبلة والحسن بن أبي الحسن «تنقم» بفتحها وهما لغتان ، قال أبو حاتم : الوجه في القراءة كسر القاف ، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات : ما نقموا من بني أمية ، بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا ذنبا وتؤاخذنا به؟ وقولهم (أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه ، وهي هنا مستعارة ، وقال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، وحكى النقاش عن مقاتل أنه قال : مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاما أو نحوه يريهم الآيات.

وقول ملأ فرعون (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ) مقالة تتضمن إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم أو تغيير ما بهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون ، ومعنى (أَتَذَرُ مُوسى) : أتترك ، وقرأ جمهور الناس «ويذرك» بفتح الراء ، ونصبه على معنيين : أحدهما أن يقدر «وأن يذرك» فهي واو الصرف فكأنهم قالوا أتذره ، وأن يذرك أي أتتركه وتركك ، والمعنى الآخر أن يعطف على قوله (لِيُفْسِدُوا) وقرأ نعيم بن ميسرة والحسن بخلاف عنه «ويذرك» بالرفع عطفا على قولهم (أَتَذَرُ) ، وقرأ الأشهب العقيلي «ويذرك» بإسكان الراء وهذا على التحقيق من يذرك ، وقرأ أنس بن مالك «وينذرك» بالنون ورفع الفعل على معنى توعد منهم أو على معنى إخبار أن الأمر يؤول إلى هذا ، وقرأ أبي بن كعب وعبد الله «في الأرض» وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك» ، قال أبو حاتم وقرأ الأعمش «وقد تركك وآلهتك» ، وقرأ السبعة وجمهور من العلماء «وآلهتك» على الجمع.

قال القاضي أبو محمد : وهذا على ما روي أن فرعون كان في زمنه للناس آلهة من بقر وأصنام وغير ذلك ، وكان فرعون قد شرع ذلك وجعل نفسه الإله الأعلى ، فقوله على هذا أنا ربكم الأعلى ، إنما هو بمناسبة بينه وبين سواه من المعبودات.

وقيل : إن فرعون كان يعبد حجرا كان يعلقه في صدره كياقوتة أو نحوها ، قال الحسن : كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها ، وقال سليمان التيمي : بلغني أنه كان يعبد البقر ، ذكره أبو حاتم وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس بن مالك وجماعة وغيرهم ، (وَآلِهَتَكَ) أي وعبادتك والتذلل لك ، وزعمت هذه الفرقة : أن فرعون لم يبح عبادة شيء سواه وأنه في قوله : الأعلى إنما أراد : الأعظم والأكبر دون مناسبة ، قال ابن عباس : كان فرعون يعبد ولا يعبد ، وقرأ ابن كثير «سنقتل» بالتخفيف و «يقتّلون» بالتشديد وخففهما جميعا نافع وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «يقتّلون» و «سنقتّل» بالتشديد على المبالغة ، والمعنى سنستمر على ما كنا عليه من تعذيبهم وقطعهم.

وقوله تعالى : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) يريد في المنزلة والتمكن من الدنيا ، و (قاهِرُونَ) يقتضي تحقير أمرهم أي هم أقل من أن يهتم بهم.


قوله عزوجل :

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٣٠)

لما قال فرعون سنقتل أبناءهم وتوعدهم قال موسى عليه‌السلام لبني إسرائيل يثبتهم ويعدهم عند الله (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) وظاهر هذا الكلام كله وعد بغيب فكأن قوته تقتضي أنه من عند الله وليس في اللفظ شيء من ذلك و (الْأَرْضَ) أرض الدنيا وهو الأظهر ، وقيل المراد هنا أرض الجنة ، وأما في الثانية فأرض الدنيا لا غير ، وقرأت فرقة «يورثها» بفتح الراء ، وقرأ السبعة «يورثها» ساكنة الواو خفيفة الراء مكسورة ، وروى حفص عن عاصم وهي قراءة الحسن «يورّثها» بتشديد الراء على المبالغة ، والصبر في هذه الآية يعم الانتظار الذي هو عبادة والصبر في المناجزات.

وقولهم : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) يعنون به الذبح الذي كان فالمدة التي كان فرعون يتخوف فيها أن يولد المولود الذي يخرب ملكه ، والذي من بعد مجيئه يعنون به وعيد فرعون وسائر ما كان خلال تلك المدة من الإخافة لهم ، وقال السدي وابن عباس رضي الله عنه : إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة حين اتبعهم فرعون واضطرهم إلى البحر فضاقت صدورهم ورأوا بحرا أمامهم وعدوا كثيفا وراءهم فقالوا هذه المقالة.

قال القاضي أبو محمد : وبالجملة هو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم وصبرهم على الدين واستعطاف موسى لهم بقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض يدل على أنه يستدعي نفوسا نافرة ، ويقوي هذا الظن في بني إسرائيل سلوكهم هذه السبيل في غير قصة ، وحكى النقاش أنهم قالوا ذلك بمصر حين كلفهم فرعون من العمل ما لا يطيقون ، وروي أنه كان يكلفهم عمل الطوب ويمنعهم التبن ليشق عليهم عمله ، وقوله تعالى : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) تنبيه وحض على الاستقامة ، وإن قدر هذا الوعد أنه من عند الله فيتخرج عليه قول الحسن بن أبي الحسن : (عَسى) من الله واجبة ، وقد استخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان ، وقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع.

وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) الآية خبر أنه أخذ آل فرعون في تلك المدة التي كان موسى يدعوهم فيها بالسنين وهو الجدوب والقحوط ، وهذه سيرة الله في الأمم ، وكذلك فعل بقريش والسنة في كلام العرب : القحط ومنه قول ليلى والناس مسنتون ، وسنة وعضة وما جرى مجراها من الأسماء المنقوصة تجمع بالواو والنون ليس على جهة جمع السلامة لكن على جهة العوض مما نقص ، وكذلك أرض توهموا فيها نقص هاء التأنيث لأنه كان حقها أن تكون أرضة ، وأما حرة وأحرون فلأن التضعيف أبدا


يعتل فتوهموه مثل النقص ، وكسر السين من سنون وسنين وزيادة الألف في أحرين دليل على أنه ليس بجمع سلامة.

وقوله تعالى : (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) روي أن النخلة كانت لا تحمل إلا ثمرة واحدة ، وقال نحوه رجاء بن حيوة ، وأراد الله عزوجل أن ينيبوا ويزدجروا عما هم عليه من الكفر ، إذ أحوال الشدة ترق القلوب وترغب فيما عند الله.

قوله عزوجل :

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (١٣٣)

كان القصد في إصابتهم بالقحط والنقص في الثمرات أن ينيبوا ويرجعوا فإذا بهم قد ضلوا وجعلوها تشاؤما بموسى فكانوا إذا اتفق لهم اتفاق حسن في غلات ونحوها قالوا هذا لنا وبسببنا وعلى الحقيقة لنا ، وإذا نالهم ضر قالوا هذا بسبب موسى وشؤمه ، قاله مجاهد وغيره ، وقرأ جمهور الناس بالياء وشد الطاء والياء الأخيرة «يطيّروا» ، وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف بالتاء وتخفيف الطاء «تطيروا» ، وقرأ مجاهد «تشاءموا بموسى» بالتاء من فوق وبلفظ الشؤم.

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ) معناه حظهم ونصيبهم ، قاله ابن عباس وهو مأخوذ من زجر الطير فسمي ما عند الله من القدر للإنسان طائرا لما كان الإنسان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر ، فهي لفظة مستعارة ، وقرأ جمهور الناس «طائرهم» ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «طيرهم». وقال (أَكْثَرَهُمْ) وجميعهم لا يعلم إما لأن القليل علم كالرجل المؤمن وآسية امرأة فرعون وإما أن يراد الجميع وتجوز في العبارة لأجل الإمكان ، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله (طائِرُهُمْ) لجميع العالم ويجيء تخصيص الأكثر على ظاهره ، ويحتمل أن يريد ولكن أكثرهم ليس قريبا أن يعلم لانغمارهم في الجهل ، وعلى هذا فيهم قليل معد لأن يعلم لو وفقه الله.

و (مَهْما) أصلها عند الخليل «ما ما» فبدلت الألف الأولى هاء ، وقال سيبويه : هي «مه ما» خلطتا وهي حرف واحد ، وقال غيره : معناه «مه وما» جزاء ذكره الزجّاج ، وهذه الآية تتضمن طغيانهم وعتوهم وقطعهم على أنفسهم بالكفر البحت.

وقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) الآية ، قال الأخفش (الطُّوفانَ) جمع طوفانة وهذه عقوبات وأنواع من العذاب بعثها الله عليهم ليزدجروا وينيبوا ، و (الطُّوفانَ) مصدر من قولك طاف يطوف فهو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له كثر في الماء والمطر الشديد ، ومنه قول الشاعر : [الرمل]


غير الجدة من عرفانه

خرق الريح وطوفان المطر

ومنه قول أبي النجم : [الرجز]

ومد طوفان فبث مددا

شهرا شآبيب وشهرا بردا

وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك : إن (الطُّوفانَ) في هذه الآية المطر الشديد أصابهم وتوالى عليهم حتى هدم بيوتهم وضيق عليهم ، وقيل طم فيض النيل عليهم وروي في كيفيته قصص كثير ، وقالت عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن (الطُّوفانَ) المراد في هذه الآية هو الموت ، وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه هو مصدر معمى عني به شيء أطافه الله بهم ، و (الْجَرادَ) معروف ، قال الأخفش هو جمع جرادة للمذكر والمؤنث فإن أردت الفصل قلت رأيت جرادة ذكرا ، وروي : أن الله عزوجل لما والى عليهم المطر غرقت أرضهم وامتنعوا الزراعة قالوا يا موسى ادع في كشف هذا عنا ونحن نؤمن ، فدعا فدفعه الله عنهم فأنبتت الأرض إنباتا حسنا فطغوا وقالوا ما نود أنا لم نمطر وما هذا الإحسان من الله إلينا ، فبعث الله حينئذ الجراد فأكل جميع ما أنبتت الأرض ، وروى ابن وهب عن مالك أنه روي أنه أكل أبوابهم وأكل الحديد والمسامير وضيق عليهم غاية التضييق وترك الله من نباتهم ما يقوم به الرمق فقالوا لموسى ادع في كشف الجراد ونحن نؤمن ، فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم ورأوا أن ما أقام رمقهم قد كفاهم ، فبعث الله عليهم القمل وهي الدبى صغار الجراد الذي يثب ولا يطير قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقيل هو الحمثان وهو صغار القردان وقيل هو البراغيث وقال ابن عباس (الْقُمَّلَ) السوس الذي يخرج من الحنطة ، وقيل (الْقُمَّلَ) الزرع إنه حيوان صغير جدا أسود وإنه بأرض مصر حتى الآن ، قال حبيب بن أبي ثابت : (الْقُمَّلَ) الجعلان ، وقرأ الحسن «القمل» بفتح القاف وسكون الميم فهي على هذا بينة القمل المعروف ، وروي أن موسى مشى بعصاه إلى كثيب أهيل فضربه فانتشر كله قملا في مصر ، ثم إنهم قالوا ادع في كشف هذا فدعا ورجعوا إلى طغيانهم وكفرهم ، وبعث الله عليهم الضفادع فكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم وإذا هم الرجل أن يتكلم وثب الضفدع في فمه ، قال ابن جبير : كان الرجل يجلس إلى دفنه في الضفادع ، وقال ابن عباس : كانت الضفادع برية فلما أرسلت على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف أنفسها في القدور وهي تغلي فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء.

فقالوا ادع في كشف هذا فدعا فكشف فرجعوا إلى كفرهم وعتوهم فبعث الله عليهم الدم فرجع ماؤهم الذي يستقونه ويحصل عندهم دما ، فروي أن الرجل منهم كان يستقي من البئر فإذا ارتفع إليه الدلو عاد دما ، وروي أنه كان يستقي القبطي والإسرائيلي بإناء واحد فإذا خرج الماء كان الذي يلي القبطي دما والذي يلي الإسرائيلي ماء إلى نحو هذا وشبهه من العذاب بالدم المنقلب عن الماء ، هذا قول جماعة المتأولين ، وقال زيد بن أسلم : إنما سلط الله عليهم الرعاف فهذا معنى قوله والدم.

وقوله تعالى : (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) التفصيل أصله في الأجرام إزالة الاتصال ، فهو تفريق شيئين ، فإذا استعمل في المعاني فيراد أنه فرق بينها وأزيل اشتراكها وإشكالها ، فيجيء من ذلك بيانها وقالت فرقة من المفسرين : (مُفَصَّلاتٍ) يراد به مفرقات بالزمن ، والمعنى أنه كان العذاب يرتفع ثم يبقون مدة شه،


وقيل ثمانية أيام ثم يرد الآخر ، فالمراد أن هذه الأنواع من العذاب لم تجىء جملة ولا متصلة ، ثم وصفهم الله عزوجل بالاستكبار عن الآيات والإيمان ، وأنهم كان لهم اجترام على الله تعالى وعلى عباده.

قوله عزوجل :

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٣٦)

(الرِّجْزُ) العذاب ، والظاهر من الآية أن المراد بالرجز هاهنا العذاب المتقدم الذكر من الطوفان والجراد وغيره ، وقال قوم من المفسرين : الإشارة هنا بالرجز إنما هي إلى طاعون أنزله فيهم مات منهم في ليلة واحدة سبعون ألف قبطي ، وروي في ذلك أن موسى عليه‌السلام أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا كبشا ويضمخوا أبوابهم بالدم ليكون ذلك فرقا بينهم وبين القبط في نزول العذاب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وهذه الأخبار وما شاكلها إنما تؤخذ من كتب بني إسرائيل فلذلك ضعفت ، وقولهم : (بِما عَهِدَ) يريدون بذمامك وماتتك إليه فهي تعم جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعة من موسى ونعمة من الله تبارك وتعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القسم على موسى ، ويحتمل أن يكون المعنى ادع لنا ربك ماتّا إليه بما عهد إليك ، ويحتمل إن كان شعر أن بين الله تعالى وبين موسى في أمرهم عهد ما أن تكون الإشارة إليه ، والأول أعم وألزم ، والآخر يحتاج إلى رواية ، وقولهم : (لَئِنْ كَشَفْتَ) أي بدعائك (لَنُؤْمِنَنَ) و (لَنُرْسِلَنَ) قسم وجوابه ، وهذا عهد من فرعون وملئه الذين إليهم الحل والعقد ، ولهم ضمير الجمع في قوله (لَنُؤْمِنَنَ) ، وألفاظ هذه الآية تعطي الفرق بين القبط وبين بني إسرائيل في رسالة موسى ، لأنه لو كان إيمانهم به على أحد إيمان بني إسرائيل لما أرسلوا بني إسرائيل ولا فارقوا دينهم ، بل كانوا يشاركون فيه بني إسرائيل ، وروي أنه لما انكشف العذاب قال فرعون لموسى اذهب ببني إسرائيل حيث شئت فخالفه بعض ملئه فرجع فنكث.

وأخبر الله عزوجل أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا عهدهم الذي أعطوه موسى. و (إِذا) هاهنا للمفاجأة ، و (إِلى) متعلقة ب (كَشَفْنا) و «الأجل» يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك والموت. وهذا اللازم من اللفظ كما تقول أخذت كذا إلى وقت وأنت لا تريد وقتا بعينه ، وقال يحيى بن سلام «الأجل» هنا الغرق.

قال القاضي أبو محمد : وإنما هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقا فاعتقد أن الإشارة هنا بالأجل إنما هي إلى الغرق ، وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم وهم ممن أخر وكشف عنهم العذاب إلى أجل بلغه ، ودخل في هذه الآية فأين الغرق من هؤلاء؟ وأين هو


ممن بقي بمصر ولم يغرق؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام فلما كشفنا عنهم الرجز المؤجل إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ، ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلا ، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعدا ما وقرأ أبو البرهسم وأبو حيوة : «ينكثون» بكسر الكاف ، والنكث نقض ما أبرم ، ويستعمل في الأجسام وفي المعاني ، وقرأ ابن محيصن ومجاهد وابن جبير «الرّجز» بضم الراء في جميع القرآن ، قال أبو حاتم : إلا أن ابن محيصن كسر حرفين «رجز الشيطان» «والرجز فاهجر».

قال القاضي أبو محمد : رآهما بمعنى آخر بمثابة الرجز والنتن الذي يجب التطهر منه. و (الْيَمِ) البحر ، ومنه قول ذي الرمة :

ذوية ودجا ليل كأنهما

يم تراطن في حافاته الروم

والباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ) باء التسبيب ، ووصف الكفار بالغفلة وهم قد كذبوا وردوا في صدر الآيات من حيث غفلوا عما تتضمنه الآيات من الهدى والنجاة فعن ذلك غفلوا.

قوله عزوجل :

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (١٣٨)

قوله : (الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) كناية عن بني إسرائيل لاستعباد فرعون لهم وغلبته عليهم ، وقوله : (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) قال الحسن وقتادة وغيرهما : يريد أرض الشام ، وقال أبو جعفر النحاس : وقيل يراد أرض مصر وهو قول الحسن في كتاب النقاش ، وقالت فرقة : يريد الأرض كلها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا يتجه إما على المجاز لأنه ملكهم بلادا كثيرة ، وإما على الحقيقة في أنه ملك ذريتهم وهو سليمان بن داود ولكن الذي يليق بمعنى الآية وروي فيها هو أنه ملك أبناء المستضعفين بأعيانهم مشارق الأرض ومغاربها لا سيما بوصفه الأرض بأنها التي بارك فيها ولا يتصف بهذه الصفة وينفرد بها أكثر من غيرها إلا أرض الشام لما بها من الماء والشجر والنعم والفوائد ، وحكى الطبري عن قائل لم يسمه وذكر الزهراوي أنه الفراء : أن (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) نصب على الظرف أي يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن قوله : (الَّتِي بارَكْنا فِيها) معمول ل (أَوْرَثْنَا) ، وضعفه الطبري ، وكذلك هو قول غير متجه ، و (الَّتِي) في موضع خفض نعت ل (الْأَرْضِ) ، ويجوز أن يكون في موضع نصب نعت لمشارق ومغارب ، وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) أي ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم والظهور عليه ، قاله مجاهد ، وقال المهدوي : وهي قوله (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٥] وقيل هي قوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ)


[الأعراف : ١٢٩] ، وروي عن أبي عمرو «كلمات» و (يَعْرِشُونَ) قال ابن عباس ومجاهد معناه يبنون وعرش البيت سقفه والعرش البناء والتنضيد ، وقال الحسن هي في الكروم وما أشبهها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء ، وقرأ الباقون : ابن عامر وعاصم فيما روي عنه والحسن وأبو رجاء ومجاهد بضمها ، وكذلك في سورة النحل وهما لغتان ، وقرأ ابن أبي عبلة «يعرّشون ويعكّفون» بضم الياء فيهما وفتحة العين مشددة الراء والكاف مكسورتين.

قال القاضي أبو محمد : ورأيت للحسن البصري أنه احتج بقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) إلى آخر الآية ، على أنه لا ينبغي أن يخرج على ملوك السوء وإنما ينبغي أن يصبر عليهم ، فإن الله تعالى يدمرهم ، ورأيت لغيره أنه قال : إذا قابل الناس البلاء بمثله وكلهم الله إليه ، وإذا قابلوه بالصبر وانتظار الفرج أتى الله بالفرج ، وروي هذا القول أيضا عن الحسن.

وقرأ جمهور الناس «وجاوزنا» وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «وجوزنا» ذكره أبو حاتم والمهدوي ، والمعنى قطعناه بهم وجزعناه وهذه الآية ابتداء خبر عنهم ، قال النقاش : جاوزوا البحر يوم عاشوراء ، وأعطي موسى التوراة يوم النحر القابل بين الأمرين أحد عشر شهرا ، وروي أن قطعهم كان من ضفة البحر إلى ضفة المناوحة الأولى وروي أنه قطع من الضفة إلى موضع آخر منها.

قال القاضي أبو محمد : فإما أن يكون ذلك بوحي من الله وأمر لينفذ أمره في فرعون وقومه وهذا هو الظاهر ، وإما بحسب اجتهاد موسى في التخلص بأن يكون بين وضعين أوعار وحايلات ، ووقع في كتاب النقاش أنه نيل مصر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ لا تساعده رواية ولا يحتمله لفظ إلا على تحامل ، وإنما هو بحر القلزم و «القوم» المشار إليهم في الآية العرب ، قيل هم الكنعانيون ، وقال قتادة وقال أبو عمران الجوني : هم قوم من لخم وجذام ، والقوم في كلام العرب الرجال خاصة ، ومنه قول زهير :

ولا أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

ومنه قوله عزوجل : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) .. (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) [الحجرات : ١١] وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يعكفون» بضم الكاف ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية عبد الوارث عنه «يعكفون» بكسرها وهما لغتان والعكوف : الملازمة بالشخص لأمر ما والإكباب عليه ، ومنه الاعتكاف في المساجد ومنه قول الراجز : [الرجز]

عكف النّبيط يلعبون الفنزجا

و «الأصنام» في هذه الآية قيل كانت بقرا على الحقيقة ، وقال ابن جريج : كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوه وذلك كان أول فتنة العجل.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر من مقالة بني إسرائيل لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أنهم استحسنوا ما رأوه من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به


إلى الله ، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى : اجعل لنا صنما نفرده بالعبادة ونكفر بربك ، فعرفهم موسى أن هذا جهل منهم إذ سألوا أمرا حراما فيه الإشراك في العبادة ومنه يتطرق إلى إفراد الأصنام بالعبادة والكفر بالله عزوجل ، وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي قصه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول أبي واقد الليثي له في غزوة حنين إذ مروا على دوح سدرة خضراء عظيمة : اجعل لنا يا رسول الله ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسلحتهم ولها يوم يجتمعون إليها فيه ، فأراد أبو واقد وغيره أن يشرع ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإسلام ، فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها ذريعة إلى عبادة تلك السرحة ، فأنكره وقال : «الله أكبر قلتم والله كما قالت بنو إسرائيل (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) لتتبعن سنن من قبلكم».

قال القاضي أبو محمد : ولم يقصد أبو واقد بمقالته فسادا ، وقال بعض الناس كان ذلك من بني إسرائيل كفرا ولفظة الإله تقتضي ذلك ، وهذا محتمل ، وما ذكرته أولا أصح عندي والله تعالى أعلم.

قوله عزوجل :

(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١)

أعلمهم موسى عن الله عزوجل بفساد حال أولئك القوم ليزول ما استحسنوه من حالهم فقال (إِنَّ هؤُلاءِ) إشارة إلى أولئك القوم (مُتَبَّرٌ) أي مهلك مدمر ردي العاقبة ، قاله السدي وابن زيد ، والتبار الهلاك وسوى العقبى وإناء متبر أي مكسور وكسارته تبر ومنه تبر الذهب لأنه كسارة ، وقوله : (ما هُمْ فِيهِ) لفظ يعم جميع حالهم (وَباطِلٌ) معناه فاسد ذاهب مضمحل.

وقوله تعالى : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ) الآية ، أمر الله موسى عليه‌السلام أن يوقفهم ويقررهم على هذه المقالة ، ويحتمل أن يكون القول من تلقائه عليه‌السلام ، (أَبْغِيكُمْ) معناه : أطلب لكم ، من بغيت الشيء إذا طلبته ، و (غَيْرَ) منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن ينتصب على الحال كأن تقدير الكلام : قال أبغيكم إلها غير الله فهي في مكان الصفة فلما قدمت نصبت على الحال ، و (الْعالَمِينَ) لفظ عام يراد به تخصيص عالم زمانهم ، لأن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منهم بإجماع ، ولقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] اللهم إلا أن يراد بالفضل كثرة الأنبياء منهم فإنهم فضلوا في ذلك على العالمين بالإطلاق.

ثم عدد عليهم في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها أن لا يكفروا به ولا يرغبوا عبادة غيره ، وقرأت فرقة «نجيناكم» ، وقرأ جمهور الناس : «أنجيناكم» وقد تقدم ، وروي عن ابن عباس «وإذ أنجاكم» أي أنجاكم الله وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، و (يَسُومُونَكُمْ) معناه يحملونكم ويكلفونكم ، تقول


سامه خطة خسف ، ونحو هذا ، ومساومة البيع ينظر إلى هذا وأن كل واحد من المتساومين يكلف صاحبه إرادته ، ثم فسر (سُوءَ الْعَذابِ) بقوله : (يُقَتِّلُونَ) و (يَسْتَحْيُونَ) ، و (بَلاءٌ) في هذا الموضع معناه اختبار وامتحان ، وقوله : (ذلِكُمْ) إشارة إلى سوء العذاب ، ويحتمل أن يشير به إلى التنجية فكأنه قال وفي تنجيتكم امتحان لكم واختبار هل يكون منكم وفاء بحسب النعمة.

قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أظهر ، وقالت فرقة : هذه الآية خاطب بها موسى من حضره من بني إسرائيل ، وقال الطبري : بل خوطب بهذه الآية من كان على عهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقريعا لهم بما فعل بأوائلهم وبما جازوا به.

قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر وأبين.

قوله عزوجل :

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي)

قرأ أبو عمرو وأبيّ بن كعب وأبو رجاء وأبو جعفر وشيبة «ووعدنا» وقد تقدم في البقرة ، وأخبر الله تعالى موسى عليه‌السلام أن يتهيأ لمناجاته (ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال ، فذكر أن «موسى» عليه‌السلام أعلم بني إسرائيل بمغيبه «ثلاثين ليلة» فلما زاده العشر في حال مغيبه دون أن تعلم بنو إسرائيل ذلك وجست نفوسهم للزيادة على ما أخبرهم به ، فقال لهم السامري : إن «موسى» قد هلك وليس براجع وأضلهم بالعجل فاتبعوه ، قاله كله ابن جريج ، وقيل : بل أخبرهم بمغيبه (أَرْبَعِينَ) وكذلك أعلمه الله تعالى وهو المراد بهذه الآية ، قاله الحسن ، وهو مثل قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] وأنهم عدوا الأيام والليالي فلما تم «أربعون» من الدهر قالوا قد أخلف «موسى» فضلوا ، قال مجاهد إن «الثلاثين» هي شهر ذي القعدة وإن «العشر» هي «عشر» ذي الحجة ، وقاله ابن عباس ومسروق.

وروي أن «الثلاثين» إنما وعد بأن يصومها ويتهيأ فيها للمناجاة ويستعد وأن مدة المناجاة هي «العشر» ، وقيل بل مدة المناجاة «الأربعون» ، وإقبال «موسى» على الأمر والتزامه يحسن لفظ المواعدة ، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة فذلك إخبار بجملة الأمر وهو في هذه الآية إخبار بتفصيله كيف وقع ، و (أَرْبَعِينَ) في هذه الآية وما بعدها في موضع الحال ، ويصح أن تكون (أَرْبَعِينَ) ظرفا من حيث هي عدد أزمنة ، وفي مصحف أبي بن كعب «وتممناها» بغير ألف وتشديد الميم ، وذكر الزجاج عن بعضهم قال : لما صام ثلاثين يوما أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خروب فقالت الملائكة : إنا كنا نستنشق من فيك رائحة


المسك فأفسدته بالسواك فزيدت عليه عشر ليال ، و (ثَلاثِينَ) نصب على تقدير أجلناه «ثلاثين» وليست منتصبة على الظرف لأن المواعدة لم تقع في «الثلاثين» ، ثم ردد الأمر بقوله (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قيل ليبين أن «العشر» لم تكن ساعات وبالجملة فتأكيد وإيضاح.

وقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ) ... الآية ، المعنى : وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها ، و (اخْلُفْنِي) معناه كن خليفتي وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته لا يقتضي أنه متماد بعد وفاة فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية في قولهم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استخلف عليا بقوله أنت مني كهارون من «موسى» وقال موسى (اخْلُفْنِي) فيترتب على هذا أن عليا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما ذكرناه يحل هذا القياس. وأمره في هذه الآية بالإصلاح ثم من الطرق الأخر في أن لا يتبع سبيل مفسد ، قال ابن جريج : كان من الإصلاح أن يزجر السامري ويغير عليه.

ثم أخبر الله تعالى عن «موسى» عليه‌السلام أنه لما جاء إلى الموضع الذي حد له وفي الوقت الذي عين له وكلمه ربه قال تمنيا منه أي (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وقرأ الجمهور : (أَرِنِي) بكسر الراء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير (أَرِنِي) بسكون الراء ، والمعنى في قوله (كَلَّمَهُ) أي خلق له إدراكا سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : أدنى الله تعالى «موسى» حتى سمع صريف الأقلام في اللوح ، وكلام الله عزوجل لا يشبه شيئا من الكلام الذي للمخلوقين ولا في جهة من الجهات وكما هو موجود لا كالموجودات ، ومعلوم لا كالمعلومات ، كذلك كلامه لا يشبه الكلام الذي فيه علامات الحدوث ، والواو عاطفة (كَلَّمَهُ) على (جاءَ) ، ويحتمل أن تكون واو الحال والأول أبين ، وقال وهب بن منبه كلم الله «موسى» في ألف مقام كان يرى نور على وجهه ثلاثة أيام إثر كل مقام ، وما قرب «موسى» النساء منذ «كلمه» الله تعالى ، وجواب (لَمَّا) في قوله (قالَ) ، والمعنى أنه لما «كلمه» وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوق إلى ذلك ، فسأل ربه أن يريه نفسه ، قاله السدي وأبو بكر الهذلي ، وقال الربيع : قربناه نجيا حتى سمع صريف الأقلام ، ورؤية الله عزوجل عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلا ، لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته ، قالوا لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود ، إلا أن الشريعة قررت رؤية الله تعالى في الآخرة نصا ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر من الشرع ، فموسى عليه‌السلام لم يسأل ربه محالا وإنما سأل جائزا.

وقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) الآية ليس بجواب من سأل محالا ، وقد قال تعالى لنوح (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] فلو سأل «موسى» محالا لكان في الكلام زجر ما وتبيين ، وقوله عزوجل : (لَنْ تَرانِي) نص من الله تعالى على منعه الرؤية في الدنيا ، و (لَنْ) تنفي الفعل المستقبل ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده لقضينا أنه لا يراه «موسى» أبدا ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر ان أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة ، فموسى عليه‌السلام أحرى برؤيته ، وقال مجاهد وغيره : إن الله عزوجل قال لموسى لن تراني ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي فستمكنك أنت رؤيتي.

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالا وقالت فرقة : إنما المعنى سأتبدى لك


على الجبل فإن استقر لعظمتي فسوف تراني ، وروي في كيفية وقوف «موسى» وانتظاره الرؤية قصص طويل اختصرته لبعده وكثرة مواضع الاعتراض فيه.

قوله عزوجل :

فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥)

قال المتأولون المتكلمون كالقاضي ابن الباقلاني وغيره : إن الله عزوجل خلق للجبل حياة وحسا وإدراكا يرى به ، ثم تجلى له أي ظهر وبدا سلطانه فاندك الجبل لشدة المطلع ، فلما رأى موسى ما بالجبل صعق ، وهذا المعنى هو المروي عن ابن عباس ، وأسند الطبري عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) قال : فوضع الإبهام قريبا من خنصره قال فساخ الجبل ، فقال حميد لثابت : تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقوله أنس ، وأكتمه أنا؟ وقالت فرقة : المعنى فلما تجلى الله للجبل بقدرته وسلطانه اندك الجبل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يتمسك به المعتزلة تمسكا شديدا لقولهم إن رؤية الله عزوجل غير جائزة ، وقائله من أهل السنة إنما يقوله مع اعتقاده جواز الرؤية ولكنه يقول إنه أليق بألفاظ الآية من أن تحمل الآية أن الجبل خلق له إدراك وحياة ، وقال الزّجاج : من قال إن التقدير فلما تجلى أمر ربه فقد أخطأ ولا يعرف أهل اللغة ذلك ، ورد أبو علي في الإغفال عليه ، والدك الانسحاق والتفتت ، وقرأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر «دكّا» ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عباس والربيع بن خثيم وغيرهم «دكاء» على وزن حمراء ، والدكاء الناقة التي لا سنام لها ، فالمعنى جعله أرضا دكاء تشبيها بالناقة ، فروي أنه ذهب الجبل بجملته ، وقيل ذهب أعلاه وبقي أكثره ، وروي أن الجبل تفتت وانسحق حتى صار غبارا تذروه الرياح ، وقال سفيان : روي أنه ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين ، قال ابن الكلبي فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة ، وروي أنه انكسر ست فرق فوقعت منه ثلاث بمكة ثبير وغار ثور وحراء ، وثلاث بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، قاله النقاش ، وقال أبو بكر الهذلي : ساخ في الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة ، و (صَعِقاً) معناه مغشيا عليه كحال من تصيبه الصعقة وهي الصيحة المفرطة ، قال الخليل : وهي الوقع الشديد من صوت الرعد قاله ابن زيد وجماعة من المفسرين ، وقال قتادة : كان موتا ، قال الزجّاج : وهو ضعيف ، ولفظة (أَفاقَ) تقتضي غير هذا ، وقوله (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك كذا فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (تُبْتُ إِلَيْكَ) معناه من أن أسألك الرؤية في الدنيا وأنت لا تبيحها.


قال القاضي أبو محمد : ويحتمل عندي أنه لفظ قاله عليه‌السلام لشدة هول ما اطلع ولم يعن به التوبة من شيء معين ولكنه لفظ يصلح لذلك المقام.

قال القاضي أبو محمد : والذي يتحرز منه أهل السنة أن تكون توبة من سؤال المحال كما زعمت المعتزلة ، وقرأ نافع (وَأَنَا) بإثبات الألف في الإدراج ، قال الزهراوي والأولى حذفها في الإدراج وإثباتها لغة شاذة خارجة عن القياس ، وقوله (أَوَّلُ) إما أن يريد من قومه بني إسرائيل ، وهو قول ابن عباس ومجاهد أو من أهل زمانه ان كان الكفر قد طبق الآفاق وإما أن يريد أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا ، قاله أبو العالية.

ثم ان الله تعالى قرر موسى على آلائه عنده على جهة الإخبار وقنعه بها وأمره بالشكر عليها وكأنه قال ولا تتعدها إلى غيرها ، و «اصطفى» أصله اصتفى وهو افتعل من صفا يصفو انقلبت التاء طاء لمكان الصاد ، ومعناه تخيرتك وخصصتك ، ولا تستعمل إلا في الخير والمنن ، لا يقال اصطفاه لشر ، وقوله (عَلَى النَّاسِ) عام والمراد الخصوص فيمن شارك موسى في الإرسال ، فإن الأنبياء كلهم المرسلين مشاركون له بما هم رسل ، والظاهر من الشريعة أن موسى مخصص بالكلام وإن كان قد روي في تكليم الله غيره أشياء بما يشاء من أعظمها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن آدم فقال هو نبي مكلّم.

قال القاضي أبو محمد : إلا أن ذلك قد تأول بأنه كان في الجنة فيتحفظ على هذا تخصيص موسى ، ويصح أن يكون قوله (عَلَى النَّاسِ) عموما مطلقا في مجموع الدرجتين الرسالة والكلام. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «برسالاتي» على الجمع إذ الذي أرسل به ضروب ، وقرأ ابن كثير ونافع «برسالتي» على الإفراد الذي يراد به الجمع وتحل الرسالة هاهنا محل المصدر الذي هو الإرسال ، وقرأ جمهور الناس و «بكلامي» ، وقرأ أبو رجاء «برسالتي وبكلمتي» ، وقرأ الأعمش «برسالاتي وبكلمي» ، وحكى عنه المهدوي «وتكليمي» على وزن تفعيلي ، وقوله (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) تأديب وتقنيع وحمل على جادة السلامة ومثال لكل أحد في حاله ، فإن جميع النعم من عنده بمقدار وكل الأمور بمرأى من الله ومسمع.

وقوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) الآية ، الضمير في (لَهُ) عائد على موسى عليه‌السلام ، والألف واللام في (الْأَلْواحِ) عوض من الضمير الذي يقدر وصله بين الألواح وموسى عليه‌السلام ، تقديره في ألواحه ، وهذا كقوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] مأواه وقيل : كانت الألواح اثنين ، وقيل سبعة ، وقال مجاهد وابن عباس : كانت الألواح من زمرد ، وقال ابن جبير من ياقوت أحمر ، وقال أبو العالية أيضا من برد ، وقال الحسن من خشب ، وقوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لفظه عموم والمراد به كل شيء ينفع في معنى الشرع ويحتاج إليه في المصلحة ، وقوله (لِكُلِّ شَيْءٍ) مثله ، قال ابن جبير : ما أمروا به ونهوا عنه ، وقاله مجاهد : وقال السدي : الحلال والحرام. وقوله (بِقُوَّةٍ) معناه بجد وصبر عليها واحتمال لمؤنها قاله ابن عباس والسدي ، وقال الربيع بن أنس (بِقُوَّةٍ) هنا بطاعة ، وقال ابن عباس أمر موسى أن يأخذه بأشد مما أمر به قومه ، و «خذ» أصله أؤخذ حذفت الهمزة التي هي فاء الفعل على غير قياس فاستغني عن الأول ، وقوله


(بِأَحْسَنِها) يحتمل معنيين أحدهما التفضيل كأنه قال : إذا اعترض فيها مباحان فيأخذون الأحسن منهما كالعفو والقصاص ، والصبر والانتصار.

قال القاضي أبو محمد : هذا على القول إن أفعل في التفضيل لا يقال إلا لما لهما اشتراك في المفضل فيه وأما على القول الآخر فقد يراد بالأحسن المأمور به بالإضافة للمنهي عنه لأنه أحسن منه ، وكذلك الناسخ بالإضافة إلى المنسوخ ونحو هذا ، وذهب إلى هذا المعنى الطبري.

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل أنه تدخل فيه الفرائض وهي لا تدخل في التأويل الأول ، وقد يمكن أن يتصور اشتراك في حسن من المأمور به والمنهي عنه ولو بحسب الملاذ وشهوات النفس الأمارة ، والمعنى الآخر الذي يحتمله قوله : (بِأَحْسَنِها) أن يريد بأحسن وصف الشريعة بجملتها ، فكأنه قال : قد جعلنا لكم شريعة هي أحسن كما تقول : الله أكبر دون مقايسة ثم قال : فمرهم يأخذوا بأحسنها الذي شرعناه لهم ، وفي هذا التأويل اعتراضات ، وقرأ جمهور الناس «سأوريكم» ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «سأوريكم» قال أبو الفتح ظاهر هذه القراءة مردود وهو أبو سعيد المأثور فصاحته فوجهها أن المراد أريكم ثم أشبعت ضمة الهمزة ومطلت حتى نشأت عنها واو ، ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه.

وقرأ قسامة بن زهير «سأورثكم» قاله أبو حاتم ، ونسبها المهدوي إلى ابن عباس ، وثبتت الواو في خط المصحف فلذلك أشكل هذا الاختلاف مع أنا لا نتأول إلا أنها مرويات فأما من قرأها «سأوريكم» فالمعنى عنده سأعرض عليكم وأجعلكم تخشون لتعتبروا حال دار الفاسقين ، والرؤية هنا رؤية العين إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين والوعيد للفاسقين ويدل على أنها رؤية العين تعدى فعلها وقد عدي بالهمزة إلى مفعولين ، ولو كان من رؤية القلب لتعدى بالهمزة إلى ثلاثة مفاعيل ، ولو قال قائل : المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدر أي مدمرة أو خربة مسعرة على قول من قال : هي جهنم ، قيل له : ولا يجوز حذف هذا المفعول والاقتصار دونه أنها داخلة على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله عزوجل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومقاتل وقتادة في كتاب النقاش (دارَ الْفاسِقِينَ) مصر والمراد آل فرعون ، وقال قتادة أيضا : «دار الفاسقين» الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : «دار الفاسقين» جهنم والمراد الكفرة بموسى عامة ، وقال النقاش عن الكلبي : (دارَ الْفاسِقِينَ) دور ثمود وعاد والأمم الخالية : أي سنقصها عليكم فترونها.

قوله عزوجل :

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ


أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤٧)

المعنى سأمنع وأصد ، وقال سفيان بن عيينة : الآيات هنا كل كتاب منزل.

قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن فهمها وتصديقها ، وقال ابن جريج : الآيات العلامات المنصوبة الدالة على الوحدانية.

قال القاضي أبو محمد : فالمعنى عن النظر فيها والتفكير والاستدلال بها ، واللفظ يعم الوجهين ، والمتكبرون بغير حق في الأرض هم الكفرة ، والمعنى في هذه الآية سأجعل الصرف عن الآيات عقوبة للمتكبرين على تكبرهم ، وقوله (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) حتم من الله عزوجل على الطائفة التي قدر ألا يؤمنوا ، وقراءة الجمهور : «يروا» بفتح الياء قرأها ابن كثير وعاصم ونافع وأبو جعفر وشيبة وشبل وابن وثاب وطلحة بن مصرف وسائر السبعة ، وقرأها مضمومة الياء مالك بن دينار ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «الرشد» ، وقرأ ابن عامر في بعض ما روي عنه وأبو البرهسم «الرّشد» بضم الراء والشين وقرأ حمزة والكسائي على أن «الرّشد» بضم الراء وسكون الشين و «الرّشد» بفتحهما بمعنى واحد ، وقال أبو عمرو بن العلاء : «الرّشد» بضم الراء : الصلاح في النظر و «الرّشد» بفتحهما الدين ، وأما قراءة ابن عامر بضمهما فأتبعت الضمة الضمة ، وقرأ ابن أبي عبلة «لا يتخذوها وتتخذوها» على تأنيث «السبيل» ، والسبيل تؤنث وتذكر ، وقوله (ذلِكَ) إشارة إلى الصرف أي صرفنا إياهم وعقوبتنا لهم هي بكفرهم وتكذيبهم وغفلتهم عن النظر في الآيات والوقوف عند الحجج ، ويحتمل أن يكون ذلك خبر ابتداء تقديره : الأمر ذلك ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل تقديره فعلنا ذلك.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) الآية ، هذه الآية مؤكدة للتي قبلها وسوقها في جملة المكذب به ، ولقاء الآخرة لفظ يتضمن تهديدا أي هنالك يفتضح لهم حالهم ، و (حَبِطَتْ) معناه سقطت وفسدت وأصل الحبط فيما تقدم صلاحه ولكنه قد يستعمل في الذي كان أول مرة فاسدا إذ مئال العاملين واحد ، وقوله (هَلْ يُجْزَوْنَ) استفهام بمعنى التقرير أي يستوجبون بسوء فعلهم إلا عقوبة ، وساغ أن يستعمل (حَبِطَتْ) هنا إذ كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية في طريق صلاح فكأن الحبط فيها إنما هو بحسب معتقداتهم وأما بحسب ما هي عليه في أنفسها ففاسدة منذ أول أمرها ، ومن هذه اللفظة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم أي فسادا لكثرة الأكل بعد الصلاح الذي كان أولا ، وقرأ ابن عباس وأبو السمال «حبطت» بفتح الباء.

قوله عزوجل :

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١٤٩)

(اتَّخَذَ) أصله ايتخذ وزنه افتعل من تخذ هذا قول أبي علي الفارسي ، والضمير في (بَعْدِهِ) عائد


على موسى أي بعد مضيه إلى المناجاة وأضاف الحليّ إلى بني إسرائيل وإن كان مستعارا من القبط إذ كانوا قد تملكوه إما بأن نفلوه كما روي وحكى يحيى بن سلام عن الحسن أنه قال : استعار بنو إسرائيل حلي القبط ليوم الزينة فلما أمر موسى أن يسري بهم ليلا تعذر عليهم رد العواري ، وأيضا فخشوا أن يفتضح سرهم ، ثم إن الله نفلهم إياه ، ويحتمل أن يضاف الحلي إلى بني إسرائيل من حيث تصرفت أيديهم فيه بعد غزو آل فرعون ، ويروى أن السامري واسمه موسى بن ظفر وينسب إلى قرية تسمى سامرة قال لهارون حين ذهب موسى إلى المناجاة : يا هارون إن بني إسرائيل قد بددوا الحلي الذي استعير من القبط وتصرفوا فيه وأنفقوا منه ، فلو جمعته حتى يرى موسى فيه رأيه ، قال : فجمعه هارون فلما اجتمع قال للسامري : أنت أولى الناس بأن يختزن عندك ، فأخذه السامري وكان صائغا فصاغ منه صورة عجل وهو ولد البقرة (جَسَداً) أي جثة وجمادا وقيل كان جسدا بلا رأس وهذا تعلق بأن الجسد في اللغة ما عدا الرأس وقيل إن الله جعل له لحما ودما.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآثار في أن موسى برده بالمبارد تكذب ذلك ، و «الخوار» صوت البقر ، ويروى أن هذا العجل إنما خار مرة واحدة ، وذلك بحيلة صناعية من السامري أو بسحر تركب له من قبضه القبضة من أثر الرسول ، أو بأن الله أخار العجل لفتن بني إسرائيل ، وقرأت فرقة له «جوار» بالجيم وهو الصياح قال أبو حاتم وشدة الصوت ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة «من حليهم» بضم الحاء وكسر اللام ، وهو جمع حلي على مثال ثدي ، وثديّ ، وأصله حلوي قلبت الواو ياء وأدغمت فجاء حلي فكسرت اللام لتناسب الياء ، وقرأ حمزة والكسائي «من حليهم» بكسر الحاء على ما قدمنا من التعليل ، قال أبو حاتم إلا أنهم كسروا الحاء اتباعا لكسرة اللام ، قال أبو علي وقوى التغيير الذي دخل على الجمع على هذا التغيير الأخير ، قال ومما يؤكد كسر الفاء في هذا النحو من الجمع قولهم قسيّ ، قال أبو حاتم وقرأ هكذا يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش وأصحاب عبد الله ، وقرأ يعقوب الحضرمي «من حليهم» بفتح الحاء وسكون اللام ، فإما أن يكون مفردا يراد به الجميع وإما أن يكون جمع حلية كتمرة وتمر ومعنى الحلي ما يتجمل به من حجارة وذهب وفضة ، ثم بين الله تعالى سوء فطرهم وقرر فساد اعتقادهم بقوله (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) الآية ، وذلك أن الصامت الجماد لا يتصف بالإلهية والذي لا يرشد إلى خير ولا يكشف غما كذلك ، والضمير في (اتَّخَذُوهُ) عائد على العجل ، وقوله (وَكانُوا) إخبار لنا عن جميع أحوالهم ماضيا وحالا ومستقبلا ، ويحتمل أن تكون الواو واو حال ، وقد مر في البقرة سبب اتخاذ العجل وبسط تلك الحال بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقرأ جمهور الناس بكسر القاف وضم السين «سقط في أيديهم» وقرأت فرقة «سقط» بفتح السين والقاف حكاه الزّجاج ، وقرأ ابن أبي عبلة «أسقط» وهي لغة حكاها الطبري بالهمزة المضمومة وسين ساكنة ، والعرب تقول لمن كان ساعيا لوجه أو طالبا غاية ما ، فعرضه ما غلبه وصده عن وجهته وأوقفه موقف العجز عن بغيته وتيقن أنه قد عجز : سقط في يد فلان ، وقال أبو عبيدة : يقال لمن قدم على أمر وعجز عنه سقط في يده.

قال القاضي أبو محمد : والندم عندي عرض يعرض صاحب هذه الحال وقد لا يعرضه فليس الندم


بأصل في هذا أما أن أكثر أصحاب هذه الحال يصحبهم الندم وكذلك صحب بني إسرائيل المذكورين في الآية والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له خارجها تأثير وقال الزجاج : المعنى أن الندم سقط في أيديهم ويحتمل أن الخسران والخيبة سقط في أيديهم.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا كله يلزم أن يكون «سقط» يتعدى فإن «سقط» يتضمن مفعولا وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال ذهب بزيد وفي هذا عندي نظر ، وأما قراءة من قرأ «سقط» على بناء الفعل للفاعل أو «أسقط» على التعدية بالهمزة فبين في الاستغناء عن التعدي ويحتمل أن يقال سقط في يديه على معنى التشبيه بالأسير الذي تكتف يداه فكأن صاحب هذه الحال يستأسر ويقع ظهور الغلبة عليه في يده ، أو كأن المراد سقط بالغلب والقهر في يده ، وحدثت عن أبي مروان بن سراج أنه كان يقول : قول العرب سقط في يديه مما أعياني معناه ، وقال الجرجاني : هذا مما دثر استعماله مثلما دثر استعمال قوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) [الكهف : ١١].

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام ضعف والسقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول سويد بن أبي كاهل : [الرمل]

كيف يرجون سقاطي بعد ما

لفع الرأس مشيب وصلع

وقول بني إسرائيل (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) إنما كان بعد رجوع موسى وتغييره عليهم ورؤيتهم أنهم قد خرجوا عن الدين ووقعوا في الكفر ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح ومجاهد وغيرهم «قالوا لئن لم يرحمنا ربنا» بالياء في يرحمنا وإسناد الفعل إلى الرب تعالى ، «ويغفر» بالياء ، وقرأ حمزة والكسائي والشعبي وابن وثاب والجحدري وطلحة بن مصرف والأعمش وأيوب «ترحمنا ربّنا» بالتاء في «ترحمنا» ونصب لفظة ربنا على جهة النداء «وتغفر» بالتاء ، من فوق ، وفي مصحف أبيّ «قالوا ربنا لئن لم ترحمنا وتغفر لنا لنكونن من الخاسرين».

قوله عزوجل :

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠)

يريد رجع من المناجاة ، ويروى : أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال : هذه أصوات قوم لاهين ، فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخله الغضب والأسف وألقى الألواح ، قاله ابن إسحاق ، وقال الطبري : أخبره الله تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ، و «الأسف» قد يكون بمعنى الغضب الشديد ، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن والمعنيان مترتبان هاهنا ، و «ما»


المتصلة ب «بئس» مصدرية ، هذا قول الكسائي ، وفيها اختلاف قد تقدم في البقرة ، أي بئس خلافتكم لي من بعدي ، ويقال : خلفه بخير أو بشر إذا فعله بمن ترك من بعده ، ويقال عجل فلان الأمر إذا سبق فيه ، فقوله : (أَعَجِلْتُمْ) معناه : أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدر به ، وقوله تعالى : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) الآية ، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : كان سبب إلقائه الألواح غضبه على قومه في عبادتهم العجل وغضبه على أخيه في إهمال أمرهم ، وقال قتادة إن صح عنه : بل كان ذلك لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرغب أن يكون ذلك لأمته فلما علم أنه لغيرها غضب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول رديء لا ينبغي أن يوصف موسى عليه‌السلام به والأول هو الصحيح ، وبالجملة فكان في خلق موسى عليه‌السلام ضيق وذلك مستقر في غير موضع ، وروي أنها كانت لوحان وجمع إذ التثنية جمع ، وروي أنها كانت وقر سبعين بعيرا يقرأ منها الجزء في سنة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف مفرط ، وقاله الربيع بن أنس ، وقال ابن عباس : إن موسى لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة ، وهو الذي أخذ بعد ذلك ، وقد تقدم القول من أي شيء كانت الألواح ، وأخذه برأس أخيه ولحيته من الخلق المذكور ، هذا ظاهر اللفظ ، وروي أن ذلك إنما كان ليساره فخشي هارون أن يتوهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والأول هو الصحيح لقوله (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه : ٩٤] وقوله : (يَا بْنَ أُمَ) استلطاف برحم الأم إذ هو ألصق القرابات ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «ابن أمّ» بفتح الميم ، فقال الكوفيون أصله ابن أماه فحذفت تخفيفا ، وقال سيبويه هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوها ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «ابن أمّ» بكسر الميم ، فكأن الأصل ابن أمي فحذفت الياء إما على حد حذفهم من : لا أبال ولا أدر تخفيفا ، وإما كأنهم جعلوا الأول والآخر اسما واحدا ثم أضافوا كقولك يا أحد عشر أقبلوا ، قاله سيبويه ، وهذا أقيس من الحذف تخفيفا ، ثم أضافوا إلى ياء المتكلم ، ثم حذفت الياء من أمي على لغة من يقول يا غلام فيحذفها من المنادى ، ولو لم يقدر جعل الأول والآخر اسما واحدا لما صح حذفها لأن الأم ليست بمناداة ، و (اسْتَضْعَفُونِي) : معناه اعتقدوا أني ضعيف ، وقوله : (كادُوا) معناه قاربوا ولم يفعلوا ، وقرأ جمهور الناس «فلا تشمت بي الأعداء» بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء ، وقرأ مجاهد فيما حكاه أبو حاتم «فلا تشمت بي» بفتح التاء من فوق والميم ورفع «الأعداء» أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي ، وقرأ حميد بن قيس «تشمت» بتاء مفتوحة وميم مكسورة ورفع «الأعداء» حكاها أبو حاتم ، وقرأ مجاهد أيضا فيما حكاه أبو الفتح «فلا تشمت بي الأعداء» بفتح التاء من فوق والميم ونصب الأعداء ، هذا على أن يعدى شمت يشمت ، وقد روي ذلك ، قال أبو الفتح : فلا تشمت بي أنت يا رب ، وجاز هذا كما قال تعالى: (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] ونحو ذلك ، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلا نصب به الأعداء كأنه قال : لا تشمت بي الأعداء كقراءة الجماعة.


قال القاضي أبو محمد : وفي كلام أبي الفتح هذا تكلف ، وحكى المهدوي عن ابن محيصن : «تشمت» بفتح التاء وكسر الميم ، «الأعداء» بالنصب ، والشماتة : فرحة العدو بمصاب عدوه ، وقوله : (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يريد عبدة العجل.

قوله عزوجل :

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٥٣)

استغفر موسى من فعله مع أخيه ومن عجلته في إلقاء الألواح واستغفر لأخيه من فعله في الصبر لبني إسرائيل ، ويمكن بأن الاستغفار كان لغير هذا مما لا نعلمه والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) الآية ، مخاطبة من الله لموسى عليه‌السلام لقوله : (سَيَنالُهُمْ) ووقع ذلك النيل في عهد موسى عليه‌السلام ، و «الغضب والذلة» هو أمرهم بقتل أنفسهم هذا هو الظاهر ، وقال بعض المفسرين : الذلة الجزية ، ووجه هذا القول أن الغضب والذلة بقيت في عقب هؤلاء المقصودين بها أولا وكأن المراد سينال أعقابهم ، وقال ابن جريج : الإشارة في قوله (الَّذِينَ) إلى من مات من عبدة العجل قبل التوبة بقتل النفس وإلى من فر فلم يكن حاضرا وقت القتل.

قال القاضي أبو محمد : والغضب على هذا والذلة هو عذاب الآخرة ، والغضب من الله عزوجل إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات ، وإن أخذ بمعنى العقوبة وإحلال النقمة فهو صفة فعل ، وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) المراد أولا أولئك الذين افتروا على الله في عبادة العجل وتكون قوة اللفظ تعم كل مفتر إلى يوم القيامة ، وقد قال سفيان بن عيينة وأبو قلابة وغيرهما : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل ، واستدلوا بالآية.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) الآية ، تضمنت هذه الآية الوعد بأن الله عزوجل يغفر للتائبين ، والإشارة إلى من تاب من بني إسرائيل ، وفي الآية ترتيب الإيمان بعد التوبة ، والمعنى في ذلك أنه أراد وآمنوا أن التوبة نافعة لهم منجية فتمسكوا بها فهذا إيمان خاص بعد الإيمان على الإطلاق ، ويحتمل أن يريد بقوله : (وَآمَنُوا) أي وعملوا عمل المؤمنين حتى وافوا على ذلك ، ويحتمل أن يريد التأكيد فذكر التوبة والإيمان إذ هما متلازمان ، إلا أن التوبة على هذا تكون من كفر ولا بد فيجيء «تابوا وآمنوا» بمعنى واحد ، وهذا لا يترتب في توبة المعاصي فإن الإيمان متقدم لتلك ولا بد وهو وتوبة الكفر متلازمان ، وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ) إيجاب ووعد مرج.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله : «تابوا وآمنوا» أن يكون لم تقصد رتبة الفعلين على عرف الواو في أنها لا توجب رتبة ويكون (وَآمَنُوا) بمعنى وهم مؤمنون قبل وبعد ، فكأنه قال ومن صفتهم أن آمنوا.


قوله عزوجل :

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥)

معنى هذه الآية أن موسى عليه‌السلام لما سكن غضبه أخذ الألواح التي كان ألقى ، وقد تقدم ما روي أنه رفع أكثرها أو ذهب في التكسر ، وقوله : (سَكَتَ) لفظة مستعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته ، قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي يومين ثم سكت ، وقال الزجاج وغيره : مصدر قولك سكت الغضب ، سكت ، ومصدر قولك سكت الرجل سكوت ، وهذا يقتضي أنه فعل على حدة وليس من سكوت الناس ، وقيل إن في المعنى قلبا ، والمراد ولما سكت موسى عن الغضب فهو من باب أدخلت فمي في الحجر وأدخلت القلنسوة في رأسي ، وفي هذا أيضا استعارة ، إذ الغضب ليس يتكلم فيوصف بالسكوت ، وقرأ معاوية بن قرة : «ولما سكن» ، وفي مصحف حفصة «ولما سكت» ، وفي مصحف ابن مسعود «ولما صبر عن موسى الغضب» ، قال النقاش : وفي مصحف أبيّ : «ولما اشتق عن موسى الغضب» ، وقوله : (وَفِي نُسْخَتِها) معناه وفيما ينسخ منها ويقرأ ، واللام في قوله (لِرَبِّهِمْ) يحتمل وجوها ، مذهب المبرد أنها تتعلق بمصدر كأنه قال الذين رهبتهم لربهم ، ويحتمل أنه لما تقدم المفعول ضعف الفعل فقوي على التعدي باللام ، ويحتمل أن يكون المعنى : هم لأجل طاعة ربهم وخوف ربهم يرهبون العقاب والوعيد ونحو هذا.

وقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) الآية ، معنى هذه الآية أن موسى عليه‌السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عزوجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم ، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع ، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله ، وقوله : (لِمِيقاتِنا) يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عزوجل وعدة في الوقت الموضع ، وتقدير الكلام : واختار موسى من قومه ، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب ، وهذا كثير في كلام العرب.

واختلف العلماء في سبب (الرَّجْفَةُ) التي حلت بهم ، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل ، وقيل : كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله ، قاله السدي ، وقيل : كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له : أرنا ربك فأخذتهم الرجفة ، وقيل كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطيه أحدا بعدنا ، فأخذتهم الرجفة ، وقيل : إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو


ميت ، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل : أين هارون؟ فقال : مات ، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته ، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم ، فلما وصلوا قال له موسى يا هارون أقتلت أم مت؟ فناداه من القبر بل مت فأخذت القوم الرجفة.

قال القاضي أبو محمد : وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه ، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه ، و (الرَّجْفَةُ) الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم ، فلما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أحق عليّ ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذلي ، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل ، ويحتمل قوله : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل أي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي ، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل ، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف ، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف ، وإذا قلنا إن سبب «الرجفة» كان عبادة العجل كان الضمير في قوله : (أَتُهْلِكُنا) له وللسبعين ، و (السُّفَهاءُ) إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل ، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون ، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله : (أَتُهْلِكُنا) يريد به نفسه وبني إسرائيل ، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، ويكون قوله : (السُّفَهاءُ) إشارة إلى السبعين ، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين ، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم ، وقالت فرقة : إن موسى عليه‌السلام لما أعلمه الله عزوجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) أي الأمور بيدك تفعل ما تريد ، وقيل : إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى : أي رب ومن أخاره؟ قال أنا ، قال موسى : فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم : أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة ، وفي هذه الآية رد على المعتزلة ، و (فَاغْفِرْ) معناه استر.

قوله عزوجل :

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

(اكْتُبْ) معناه أثبت واقض ، والكتب مستعمل في ما يخلد ، و (حَسَنَةً) لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها ، و (هُدْنا) بضم الهاء معناه تبنا ، وقرأ أبو وجزة «هدنا» بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك ، وهو


مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك ، وقوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) الآية ، قال الله عزوجل : إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته ، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) وقرأ الحسن وطاوس وعمرو بن فائد «من أساء» من الإساءة أي من عمل غير صالح ، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين : أحدهما إنفاذ الوعيد ، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله ، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القراءة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة ، وقال أبو عمرو الداني : لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس ، وعمرو بن فائد رجل سوء ، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر.

ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فقال بعض العلماء : هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله (كُلَّ شَيْءٍ) والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم ، وقال بعضهم : هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية ، وقالت فرقة : قوله : (وَرَحْمَتِي) يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة ، وقال نوف البكالي : إن إبليس لما سمع قول الله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) طمع في رحمة الله فلما سمع (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى ، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية ، وقال نحوه قتادة ، وقوله : (فَسَأَكْتُبُها) أي أقدرها وأقضيها ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه‌السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال نوف البكالي : فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ، وقوله : (يَتَّقُونَ) في هذه الآية قالت فرقة : معناه يتقون الشرك ، وقالت فرقة : يتقون المعاصي.

قال القاضي أبو محمد : ومن قال : الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، ومن قال المعاصي ولا بد خرج إلى قول المعتزلة ، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولا بد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى ، ومعنى : (يَتَّقُونَ) يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجابا ، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها ، وقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الظاهر من قوله (يُؤْتُونَ) أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفا لها وجعلها مثالا لجميع الطاعات ، وقال ابن عباس فيما روي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم.

قوله عزوجل :

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ


الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧)

هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في قوله (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما ، و (يَتَّبِعُونَ) معناه في شرعه ودينه ، و (الرَّسُولَ) و (النَّبِيَ) اسمان لمعنيين فإن الرسول ، أخص من النبي هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول ، و (النَّبِيَ) مأخوذ من النبأ ، وقيل لما كان طريقا إلى رحمة الله تعالى وسببا شبه بالنبيء الذي هو الطريق ، وأنشدوا :

لأصبح رتما دقاق الحصى

مكان النبيء من الكاثب

وأصله الهمز ولكنه خفف كذا قال سيبويه وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تنبروا اسمي ، وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن وإلا فمعنى النبوءة هو المتقدم وكذلك رد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على البراء بن عازب حين قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وبنبيك الذي أرسلت» ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه ، لأنه نبىء ثم أرسل ، وأيضا في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد ، و «الأمي» بضم الهمزة قيل نسب إلى أم القرى وهي مكة.

قال القاضي أبو محمد : واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة ، وقيل هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم ، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة ، وقالت فرقة هو منسوب إلى الأمة ، وهذا أيضا مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع ، وقرأ بعض القراء فيما ذكر أبو حاتم «الأمي» بفتح الهمزة وهو منسوب إلى الأم وهو القصد ، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم ، قال ابن جني : وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب.

والضمير في قوله : (يَجِدُونَهُ) لبني إسرائيل والهاء منه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد صفته ونعته.

وروي أن الله عزوجل قال لموسى قل لبني إسرائيل أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا وأجعل السكينة معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهر قلوبكم ، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا : إنما نريد أن نصلي في الكنائس وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت وأن لا نقرأ التوراة إلا نظرا ، فقيل لهم فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عن عبد الله بن عمر ، وفي البخاري أو غيره أن في التوراة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي


بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فنقيم به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا». وفي البخاري «فنفتح به عيونا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا». ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال «قلوبا غلفا وآذانا صموما» ، قال الطبري وهي لغة حميرية وقد رويت «غلوفيا وصموميا».

قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهما وعجمة.

وقوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتمل أن يجعله متعلقا ب (يَجِدُونَهُ) في موضع الحال على تجوز ، أي يجدونه في التوراة أمرا بشرط وجوده فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم ، والمعنى الثاني يقتضي ذلك فالمعنى الثاني على هذا ذم لهم ، ونحا إلى هذا أبو إسحاق الزجّاج ، وقال أبو علي الفارسي في الأغفال (يَأْمُرُهُمْ) عندي تفسير لما كتب من ذكره كما أن قوله تعالى (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] تفسير للمثل ، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في (يَجِدُونَهُ) لأن الضمير للذكر والاسم ، والذكر والاسم لا يأمران.

قال القاضي أبو محمد : وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب ما منع منه أبو علي ، وانظر ، و (بِالْمَعْرُوفِ) ما عرف الشرع ، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع ، فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت لأتمم محاسن الأخلاق» و (الْمُنْكَرِ) مقابله.

و (الطَّيِّباتِ) قال فيها بعض المفسرين إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها ، ومذهب مالك رحمه‌الله أنها المحللات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا ، وبحسب هذا يقول في (الْخَبائِثَ) إنها المحرمات وكذلك قال ابن عباس «الخبائث» هي لحم الخنزير والربا وغيره ، وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها ، ومذهب الشافعي رحمه‌الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلله الشرع ، ويرى «الخبائث» لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى ، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافا ليس هذا موضع تقصيه.

وقوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) الآية ، (يَضَعُ) كأن قياسه أن يكون «يضع» بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد ، قال أبو حاتم وأدغم أبو عمرو «ويضع عنهم» العين في العين وأشمها الرفع وأشبعها أبو جعفر وشيبة ونافع ، وطلحة ويذهب عنهم إصرهم ، و «الإصر» الثقل وبه فسر هنا قتادة وابن جبير ومجاهد ، و «الإصر» أيضا العهد وبه فسر ابن عباس والضحاك والحسن وغيرهم ، وقد جمعت هذه الآية المعنيين فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، وحكى أبو حاتم عن ابن جبير ، قال : «الإصر» شدة العبادة.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والناس «إصرهم» وقرأ ابن عامر وحده وأيوب


السختياني ويعلى بن حكيم وأبو سراج الهذلي وأبو جعفر «آصارهم» بالجمع لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة ، ومن وحد الإصر فإنما هو مفرد اسم جنس يراد به الجمع ، قال أبو حاتم : في كتاب بعض العلماء «أصرهم» واحد مفتوح الهمزة عن نافع وعيسى والزيات وذلك غلط ، وذكرها مكي عن أبي بكر عن عاصم وقال : هي لغة.

(وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) عبارة مستعارة أيضا لتلك الأثقال كقطع الجلد من أثر البول ، وأن لا دية ولا بد من قتل للقاتل ، وترك الأشغال يوم السبت ، فإنه روي أن موسى عليه‌السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه ، هذا قول جمهور المفسرين ، وهذا مثل قولك طوق فلان كذا إذا ألزمه ، ومنه قول الشاعر : [مجزوء الكامل]

اذهب بها اذهب بها

طوقتها طوق الحمامه

أي لزمك عارها ومن هذا المعنى قول الهذلي :

فليس كعهد الدار يا أم مالك

ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقابل

سوى الحق شيئا فاستراح العواذل

يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن زيد : إنما المراد هنا ب (الْأَغْلالَ) قول الله عزوجل في اليهود (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] فمن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها.

ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) وقرأ الجحدري وسليمان التيمي وقتادة وعيسى «عزروه» بالتخفيف ، وجمهور الناس على التشديد في الزاي ، ومعناه في القراءتين وقروه ، والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة ، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة ، و (النُّورَ) كناية عن جملة الشرع ، وقوله : (مَعَهُ) فيه حذف مضاف والتقدير مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا ، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء البصر بالنور ، و (الْمُفْلِحُونَ) معناه الفائزون ببغيتهم ، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته.

قوله عزوجل :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) هذا أمر من الله عزوجل لنبيه بإشهار الدعوة والحض على الدخول في الشرع ، وذلك أنه لما رجا


الأمة المتبعة للنبي الأمي التي كتب لهم رحمته عقب ذلك بدعاء الناس إلى الاتباع الذي معه تحصل تلك المنازل وهذه الآية خاصة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الرسل ، فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الناس كافة وإلى الجن ، قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث ، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم ، ثم إنه لما أعلن بالرسالة من عند الله أردف بصفة الله التي تقتضي الإذعان له وهي أنه ملك السموات والأرض بالخلق والإبداع والإحياء والإماتة لا إله إلا هو ولا معبود سواه.

وقوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الآية ، هو الحض على اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (الَّذِي يُؤْمِنُ) يريد الذي يصدق (بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) والكلمات هنا الآيات المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل ، وقرأ جمهور الناس «كلماته» بالجمع ، وقرأ عيسى بن عمر «كلمته» بالإفراد الذي يراد به الجمع ، وقرأ الأعمش «الذي يؤمن بالله وآياته» بدل «كلماته» ، وقال مجاهد والسدي : المراد ب «كلماته» أو «كلمته» عيسى بن مريم ، وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي على طمعكم وبحسب ما ترونه ، وقوله : (وَاتَّبِعُوهُ) لفظ عام يدخل تحته جميع إلزامات الشريعة جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته.

وقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) الآية ، (يَهْدُونَ) معناه يرشدون أنفسهم ، وهذا الكلام يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين المتقين من بني إسرائيل على عهد موسى وما والاه من الزمن ، فأخبر أنه كان في بني إسرائيل على عتوهم وخلافهم من اهتدى واتقى وعدل ، ويحتمل أن يريد الجماعة التي آمنت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم ، ويحتمل ما روي من أن بني إسرائيل لما تقطعوا مرت أمة منهم واعتزلت ودخلت تحت الأرض فمشت في سرب تحت الأرض سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين ، فهم هنالك خلف واد من شهد يقيمون الشرع ويهدون بالحق ، قاله السدي وابن جريج ، وروي بعضه عن ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث بعيد ، وقرأ بعض من الناس «وقطّعناهم» بشد الطاء ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «وقطعناهم» بتخفيف الطاء ، ورواها أبان عن عاصم ، ومعناه فرقناهم من القطع ، وقرأ جمهور الناس «عشرة» بسكون الشين ، وهي لغة الحجاز وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان بخلاف «عشرة» بفتح الشين ، وقرأت هذه الجماعة أيضا وطلحة بن مصرف وأبو حيوة «عشرة» بكسر الشين وهي لغة تميم ، وقال أبو حاتم والعجب أن تميما يخففون ما كان من هذا الوزن أي أهل الحجاز يشبعون وتناقضوا في هذا الحرف ، وقوله : (أَسْباطاً) بدل من (اثْنَتَيْ). والتمييز الذي بين العدد محذوف مقدر اثنتي عشرة فرقة أو قطعة أسباطا ، وإما أن يزول عن التمييز ويقدر وقطعناهم فرقا اثنتي عشرة ثم أبدل أسباطا ، والأول أحسن وأبين ، ولا يجوز أن يكون (أَسْباطاً) تمييزا لأن التمييز لا يكون إلا مفردا نكرة ، وأيضا فالسبط مذكر وهو قد عد مؤنثا على أن هذه العلة لو انفردت لمنعت إذ السبط بمعنى الأمة ، قال الطبري : وقال بعض الكوفيين لما كان السبط بمعنى الأمة غلب التأنيث وهو مثل قول الشاعر : [الطويل]

فإن كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر

قال القاضي أبو محمد : وأغفل هذا الكوفي جمع الأسباط ، وإن ما ذهب إليه إنما كان يجوز لو كان


الكلام اثنتي عشرة سبطا والسبط في ولد إسحاق كالقبيلة في ولد إسماعيل ، وقد قال الزجّاج وغيره : إن السبط من السبط وهو شجر.

قال القاضي أبو محمد : وإنما الأظهر فيه عبراني عرب.

قوله عزوجل :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١٦٠)

قد تقدم في سورة البقرة أمر الحجر والاستسقاء وأين كان وأمر التظليل وإنزال المن والسلوى ، وذكرنا ذلك بما يغني عن إعادته هاهنا.

و (فَانْبَجَسَتْ) معناه انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار ، وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) بتوحيد الضمير.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٣)

المعنى واذكر «إذ قيل لهم» ، والمراد من سلف من بني إسرائيل ، وذلك أنهم لما خرجوا من التيه قيل لهم (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) و «القرية» في كلام العرب المدينة مجتمع المنازل ، والإشارة هنا إلى بيت المقدس ، قاله الطبري. وقيل إلى أريحا ، و (حَيْثُ شِئْتُمْ) أي هي ونعمها لكم مباحة ، وقرأ السبعة والحسن وأبو رجاء ومجاهد وغيرهم «حطة» بالرفع ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «حطة» بالنصب ، الرفع على خبر ابتداء تقديره طلبنا حطة ، والنصب على المصدر أي حط ذنوبنا حطة ، وهذا على أن يكلفوا قول لفظة معناها حطة ، وقد قال قوم كلفوا قولا حسنا مضمنه الإيمان وشكر الله ليكون حطة لذنوبهم ، فالكلام على


هذا كقولك قل خيرا .. وتوفية هذا مذكور في سورة البقرة.

وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي «نغفر» بالنون «لكم خطيئاتكم» بالتاء مهموز على الجمع ، وقرأ أبو عمرو «نغفر» بالنون «لكم خطاياكم» نحو قضاياكم وهي قراءة الحسن والأعمش ، وقرأ نافع «تغفر» بتاء مضمومة «لكم خطيئاتكم» بالهمز وضم التاء على الجمع ، ورواها محبوب عن أبي عمرو ، وقرأ ابن عامر «تغفر» بتاء مضمومة «لكم خطيئتكم» واحدة مهموزة مرفوعة ، قال أبو حاتم : وقرأها الأعرج وفرقة «تغفر» بالتاء وفتحها على معنى أن الحطة تغفر إذ هي سبب الغفران ، و «بدل» معناه غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه ، وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر والإشارة بالقول إلى قول بني إسرائيل حبة في شعرة أو حنطة في شعيرة ، و «الرجز» الذي أرسل عليهم طاعون يقال مات منه في يوم سبعون ألفا ، وتقدم أيضا استيعاب تفسير هذه الآية.

وقوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية ، قال بعض المتأولين : إن اليهود المعارضين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا إن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبخة لهم ومقررة ما كان من فعل أهل هذه القرية ، فسؤالهم إنما كان على جهة التوبيخ ، و (الْقَرْيَةِ) هنا مدين قاله ابن عباس ، وقيل أيلة ، قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير وعكرمة والسدي والثوري ، وقال قتادة هي مقنا بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد هي مقناة ساحل مدين ، ويقال فيها مغنى بالغين مفتوحة ونون مشددة ، وقيل هي طبرية قاله الزهري ، و (حاضِرَةَ) يحتمل أن يريد معنى الحضور أي البحر فيها حاضر ، ويحتمل أن يريد معنى الحضارة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في مدن البحر ، و (إِذْ يَعْدُونَ) معناه يخالفون الشرع من عدا يعدو ، وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك «يعدّون» ، قال أبو الفتح أراد يعتدون فأسكن التاء ليدغمها في الدال ونقل فتحها إلى العين فصار «يعدّون» بفتح العين وشد الدال المضمومة ، والاعتداء منهم في السبت هو نفس العمل والاشتغال كان صيدا أو غيره إلا أنه كان في هذه النازلة بالصيد وكان الله عزوجل ابتلاهم في أمر الحوت بأن يغيب عنهم سائر الجمعة فإذا كان يوم السبت جاءهم في الماء شارعا أي مقبلا إليهم مصطفا كما تقول أشرعت الرماح إذا مدت مصطفة ، وهذا يمكن أن يقع من الحوت بإرسال من الله كإرسال السحاب أو بوحي وإلهام كالوحي إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقا من الساعة» ، ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعورا بالسلامة في ذلك اليوم على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة.

قال رواة هذا القصص : فيقرب الحوت ويكثر حتى يمكن أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته وقيل غابت كثرته ولم يبق منه إلا القليل الذي يتعب صيده ، قاله قتادة ففتنهم ذلك وأضر بهم فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفرا يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجرا فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطرق.

وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطا ويصنع فيه وهقة وألقاها في


ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد مضروب ، وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت وجاهرت بالنهي واعتزلت ، والعامل في قوله : (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) قوله : (لا تَأْتِيهِمْ) وهو ظرف مقدم ، وقرأ عمر بن عبد العزيز «حيتانهم يوم أسباتهم» ، وقرأ نافع وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر والناس «يسبتون» بكسر الباء ، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف «يسبتون» بضمها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعاصم بخلاف «يسبتون» من أسبت إذا دخل في السبت ، ومعنى قوله : (كَذلِكَ) الإشارة إلى أمر الحوت وفتنتهم به ، هذا على من وقف على (تَأْتِيهِمْ) ومن وقف على (كَذلِكَ) فالإشارة إلى كثرة الحيتان شرعا ، أي فما أتى منها فهو قليل ، و (نَبْلُوهُمْ) أي نمتحنهم لفسقهم وعصيانهم.

قال القاضي أبو محمد : وفي قصص هذه الآية رواية وتطويل اختصرته واقتصرت منه على ما لا تفهم ألفاظ الآية إلا به.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١٦٦)

قال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، فرقة عصت وصادت ، وفرقة نهت وجاهرت وتكلمت واعتزلت ، وفرقة اعتزلت ولم تعص ولم تنه ، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية وطغيان العاصية وعتوها قالت للناهية (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) يريدون العاصية (اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) على غلبة الظن وما عهد من فعل الله حينئذ بالأمم العاصية ، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ، ثم اختلف بعد هذا فقالت فرقة إن الطائفة التي لم تعص ولم تنه هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي ، قاله ابن عباس ، وقال أيضا : ما أدري ما فعل بهم ، وقالت فرقة بل نجت مع الناهية لأنها لم تعص ولا رضيت قاله عكرمة والحسن وغيرهما ، وقال ابن الكلبي فيما أسند عنه الطبري إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين ، فرقة عصت وجاهرت وفرقة نهت وغيرت واعتزلت ، وقالت للعاصية إن الله يهلكهم ويعذبهم ، فقالت أمة من العاصين للناهين على جهة الاستهزاء لم تعظون قوما قد علمتم أن الله مهلكهم أو معذبهم.

قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أصوب ، وتؤيده الضمائر في قوله : (إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ) فهذه المخاطبة تقتضي مخاطبا ومخاطبا ومكنيا عنه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «معذرة» بالرفع ، أي موعظتنا ، معذرة أي إقامة عذر ، وقرأ عاصم في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر


وطلحة بن مصرف «معذرة» بالنصب أي وعظنا معذرة ، قال أبو علي حجتها أن سيبويه قال : لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب.

قال القاضي أبو محمد : الرجل القائل في هذا المثال معتذر عن نفسه وليس كذلك الناهون من بني إسرائيل فتأمل ، ومعنى (مُهْلِكُهُمْ) في الدنيا (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) في الآخرة ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يقتضي الترجي المحض ، لأنه من قول آدميين.

والضمير في قوله : (نَسُوا) للمنهيين وهو ترك سمي نسيانا مبالغة إذ أقوى منازل الترك أن ينسى المتروك. و (ما) في قوله : (ما ذُكِّرُوا بِهِ) معنى الذي ، ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر ، و (السُّوءِ) لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا بحسب قصص الآية صيد الحوت ، و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم العاصون ، وقوله : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) معناه مؤلم موجع شديد ، وقرأ نافع وأهل المدينة أبو جعفر وشيبة وغيرهما «بيس» بكسر الباء وسكون الياء وكسر السين وتنوينها ، وهذا على أنه فعل سمي به كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنهاكم عن قيل وقال». وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بيس» كما تقول بيس الرجل وضعّفها أبو حاتم ، قال أبو عمرو : وروي عن الحسن «بئس» بهمزة بين الباء والسين ، وقرأ نافع فيما يروي عنه خارجة «بيس» بفتح الباء وسكون الياء وكسر السين منونة ، وروى مالك بن دينار عن نصر بن عاصم «بيس» بفتح الباء والياء منونة على مثل جمل وجيل ، وقرأ أبو عبد الرحمن المقري «بئس» بفتح الباء وهمزة مكسورة وسين منونة على وزن فعل ، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات : [المديد]

ليتني ألقى رقية في

خلوة من غير ما بئس

قال أبو عمرو الداني هي قراءة نصر بن عاصم وطلحة بن مصرف ، وروي عن نصر «بيس» بباء مكسورة من غيرهم ، قال الزهراوي وروي عن الأعمش «بئّس» الباء مفتوحة والهمزة مكسورة مشددة والسين مكسورة منونة ، وقرأ فرقة «بئس» كالتي قبل إلا فتح السين ، ذكرها أبو عمرو الداني عما حكى يعقوب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية أبي قرة عنه وعاصم في رواية حفص عنه «بئيس» بياء بعد الهمزة المكسورة والسين المنونة على وزن فعيل ، وهذا وصف بالمصدر كقولهم عذير الحي والنذير والنكير ، ونحو ذلك ، وهي قراءة الأعرج ومجاهد وأهل الحجاز وأبي عبد الرحمن ونصر بن عاصم والأعمش وهي التي رجح أبو حاتم ، ومنه قول ذي الأصبع العدواني : [مجزوء الكامل]

حنقا عليّ ولا أرى

لي منهما نشرا بئيسا

وقرى أهل مكة «بئيس» كالأول إلا كسر الباء على وزن فعيل قال أبو حاتم : هما لغتان ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه «بيئس» بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل ومعناه شديد ، ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي : [الرجز]

كلاهما كان رييسا بيئسا

يضرب في يوم الهياج القونسا


فهي صفة كضيغم وحيدر ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه «بيئس» كالتي قبل إلا كسر الهمزة على وزن فيعل ، وهذا شاذ لأنه لا يوجد فيعل في الصحيح وإنما يوجد في المعتل مثل سيد وميت ، وقال الزهراوي : روى نصر عن عاصم «بيس» على مثال ميت وهذا على أنه من البوس لا أصل له في الهمز ، قال أبو حاتم زعم عصمة أن الحسن والأعمش قرءا «بئيس» الباء مكسورة والهمزة ساكنة والياء مفتوحة على مثال خديم ، وضعفها أبو حاتم ، وقرأ ابن عامر من السبعة «بئس» بكسر الباء وسكون الهمزة وتنوين السين المكسورة وقرأت فرقة «بأس» بفتح الباء وسكون الألف ، وقرأ أبو رجاء «بائس» على وزن فاعل ، وقرأ فرقة «بيس» بفتح الباء والياء والسين على وزن فعل ، وقرأ مالك بن دينار «بأس» بفتح الباء والسين وسكون الهمزة على وزن فعل غير مصروف ، وقرأ فرقة «بأس» مصروفا ، وحكى أبو حاتم «بيس» قال أبو الفتح هي قراءة نصر بن عاصم ، وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة «بيس» بكسر الباء ويهمز همزا خفيفا.

قال القاضي أبو محمد : ولم يبين هل الهمزة مكسورة أو ساكنة ، وقوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي لأجل ذلك وعقوبة عليه ، و «العتو» الاستعصاء وقلة الطواعية ، وقوله : (قُلْنا لَهُمْ) يحتمل أن يكون قولا بلفظ من ملك أسمعهم ذلك فكان أذهب في الإغراب والهوان والإصغار ، ويحتمل أن يكون عبارة عن المقدرة المكونة لهم قردة ، و (خاسِئِينَ) مبعدين كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن صياد «اخسأ» ، وكما يقال للكلب اخسأ ، ف (خاسِئِينَ) خبر بعد خبر ، هذا اختيار أبي الفتح ، وضعف الصفة ، وكذلك هو ، لأن القصد ليس التشبيه بقردة مبعدات.

قال القاضي أبو محمد : ويجوز أن يكون (خاسِئِينَ) حالا من الضمير في (كُونُوا) ، والصفة أيضا متوجهة مع ضعفها ، وروي أن الشباب منهم مسخوا قردة والرجال الكبار مسخوا خنازير ، وروي أن مسخهم كان بعد المعصية في صيد الحوت بعامين وقال ابن الكلبي إن إهلاكهم كان في زمن داود ، وروي أن الناهين قسموا المدينة بينهم وبين العاصين بجدار ، فلما أصبحوا ليلة أهلك العاصون لم يفتح مدينة العاصين حتى ارتفع النهار فاستراب الناهون لذلك فطلع أحد الناس على السور فرآهم ممسوخين قردة تتوا؟ ب ، فصاح ، فدخلوا عليهم يعرف الرجل قرابته ويعرف القرد أيضا كذلك قرابته ، وينضمون إلى قرابتهم فيتحسرون ، قال الزجاج : وقال قوم : يجوز أن تكون هذه القردة من نسلهم.

قال القاضي أبو محمد : وتعلق هؤلاء بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أمة من الأمم فقدت وما أراها إلا الفأر إذا قرب لها لبن لم تشرب ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الضب ، وقصص هذا الأمر أكثر من هذا لكن اختصرته واقتصرت على عيونه.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ


دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٦٨)

بنية تأذن هي التي تقتضي التكسب من أذن أي علم ومكن وآذن أي أعلم مثل كرم وأكرم وتكرم إلا أن تعلم وما جرى مجرى هذا الفعل إذا كان مسندا إلى اسم الله عزوجل لم يلحقه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين ، فإنما يترتب بمعنى علم صفة لا بتكسب بل هي قائمة بالذات وإلى هذا المعنى ينحو الشاعر بقوله :

تعلم أبيت اللعن

لأنه لم يأمره بالتعلم الذي يقتضي جهالة وإنما أراد أن يوقفه على قوة علمه ، ومنه قول زهير :

تعلم إن شر الناس حي

ينادي في شعارهم يسار

فمعنى هذه الآية وإذ علم الله ليبعثن عليهم ، ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء ، كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم علم الله لأفعلن كذا ، نحا إليه أبو علي الفارسي ، وقال الطبري وغيره (تَأَذَّنَ) معناه أعلم وهو قلق من جهة التصريف إذ نسبة (تَأَذَّنَ) إلى الفاعل غير نسبة أعلم ، وتبين ذلك من التعدي وغيره ، وقال مجاهد : (تَأَذَّنَ) معناه قال ، وروي عنه أن معناه أمر ، وقالت فرقة : معنى (تَأَذَّنَ) تألى.

قال القاضي أبو محمد : وقادهم إلى هذا القول دخول اللام في الجواب ، وأما اللفظة فبعيدة عن هذا ، والضمير في (عَلَيْهِمْ) لمن بقي من بني إسرائيل لا للضمير في «لهم». وقوله : (مَنْ يَسُومُهُمْ) قال سعيد بن جبير هي إشارة إلى العذاب ، وقال ابن عباس هي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

قال القاضي أبو محمد : والصحيح أنها عامة في كل من حال اليهود معه هذه الحال ، و (يَسُومُهُمْ) معناه يكلفهم ويحملهم ، و (سُوءَ الْعَذابِ) الظاهر منه الجزية والإذلال ، وقد حتم الله عليهم هذا وحط ملكهم فليس في الأرض راية ليهودي ، وقال ابن المسيب فيستحب أن تتعب اليهود في الجزية ، ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت في صقعها فباعت اليهود المجاورة لهم الساكنة معهم وتملكوهم ، ثم حسن في آخر هذه الآية لتضمنها الإيقاع بهم والوعيد أن ينبه على سرعة عقاب الله ويخوف بذلك تخويفا عاما لجميع الناس ثم رجى ذلك لطفا منه تبارك وتعالى.

(وَقَطَّعْناهُمْ) معناه فرقناه في الأرض ، قال الطبري عن جماعة من المفسرين : ما في الأرض بقعة إلا وفيها معشر من اليهود ، والظاهر في المشار إليهم في هذه الآية أنهم الذين بعد سليمان وقت زوال ملكهم ، والظاهر أنه قبل مدة عيسى عليه‌السلام لأنه لم يكن فيهم صالح بعد كفرهم بعيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي التواريخ في هذا الفصل روايات مضطربة ، و (الصَّالِحُونَ) و (دُونَ ذلِكَ) ألفاظ محتملة أن يدعها صلاح الإيمان ف (دُونَ) بمعنى غير يراد بها الكفرة ، وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان ف (دُونَ ذلِكَ) يحتمل أن يكون في مؤمنين ، و (بَلَوْناهُمْ) معناه امتحناهم ، و (بِالْحَسَناتِ) الصحة والرخاء ونحو هذا مما هو بحسب رأي ابن آدم ونظره ، و (السَّيِّئاتِ) مقابلات هذه ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ) أي


بحسب رأيكم لو شاهدتم ذلك ، والمعنى لعلهم يرجعون إلى الطاعة ويتوبون من المعصية.

قوله عزوجل :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠)

(خَلْفٌ) معناه حدث خلفهم و (بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بإسكان اللام يستعمل في الأشهر في الذم ومنه قول لبيد : [الكامل]

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان : [الطويل]

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا

لأولنا في طاعة الله تابع

والخلف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح ، قال أبو عبيدة والزجاج : وقد يستعمل في الذم أيضا ومنه قول الشاعر :

الا ذلك الخلف الأعور

وقال مجاهد : المراد ب «الخلف» هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس (وَرِثُوا الْكِتابَ) وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري «ورّثوا الكتاب» بضم الواو وشد الراء ، وقوله : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة و «العرض» ما يعرض ويعن ولا يثبت ، و «الأدنى» إشارة إلى عيش الدنيا ، وقوله : (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ذم لهم باغترارهم وقولهم : (سَيُغْفَرُ) مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم.

وقوله تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ) الآية ، تشديد في لزوم قول الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل ، و (الْكِتابَ) يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى ، وقوله : (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم ، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك ، وقرأ جمهور الناس : «يقولوا» بياء من تحت وقرأ الجحدري : «تقولوا» بتاء من فوق وقوله : (وَدَرَسُوا) معطوف على قوله : (أَلَمْ يُؤْخَذْ) الآية بمعنى المضي ، يقدر : أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه


وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، «وادارسوا» ما فيه وقال الطبري وغيره ، قوله : (وَدَرَسُوا) معطوف على قوله : (وَرِثُوا الْكِتابَ).

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله : (وَدَرَسُوا) يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله : (أَلَمْ) ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وقرأ جمهور الناس : «أفلا تعقلون» بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة : «يعقلون» بالياء من أسفل.

وقوله : (وَالَّذِينَ) عطف على قوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأبو عمرو والناس : «يمسّكون» بفتح الميم وشد السين وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو العالية وعاصم وحده في رواية أبي بكر. «يمسكون» بسكون الميم وتخفيف السين ، وكلهم خفف (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] إلا أبا عمرو فإنه قرأ : «ولا تمسّكوا» بفتح الميم وشد السين ، وقرأ الأعمش «والذين استمسكوا» وفي حرف أبيّ «والذين مسكوا» يقال أمسك ومسك وهما لغتان بمعنى واحد ، قال كعب بن زهير : [البسيط]

فما تمسك بالعهد الذي زعمت

إلا كما تمسك الماء الغرابيل

أما أن شد السين يجري مع التعدي بالباء.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢)

(نَتَقْنَا) معناه اقتلعنا ورفعنا فكأن النتق اقتلاع الشيء ، تقول العرب : نتقت الزبدة من فم القربة ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

ونتقوا أحلامنا الأثاقلا

والناتق الرحم التي تقلع الولد من الرجل ، ومنه قول النابغة :

لم يحرموا حسن الغداء وأمهم

دحقت عليك بناتق مذكار

وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عليكم بتزويج الأبكار فإنهن أنتق أرحاما وأطيب أفواها» الحديث. وقد جاء في القرآن بدل هذه اللفظة في هذه القصة بعينها رفعنا لكن (نَتَقْنَا) ، و (فَوْقَهُمْ) أعطت الرفع بزيادة قرينة هي أن الجبل اقتلعته الملائكة وأمر الله إياه ، وروي أن موسى عليه‌السلام لما جاءهم بالتوراة فقال عن الله تعالى هذا كتاب الله أتقبلونه بما فيه؟ فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم ، قالوا : انشر علينا ما فيها فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة


قبلناها ، قال : اقبلوها بما فيها قالوا : لا ، فراجعهم موسى فراجعوا ثلاثا فأوحى الله عزوجل إلى الجبل فانقلع وارتفع فوق رؤوسهم ، فقال لهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا ترون ما يقول ربي؟ : لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل ، قال الحسن البصري : فلما رأوا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا أن يسقط عليه فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر يقولون هذه السجدة التي رفعت بها عنا العقوبة ، و «الظلة» ما أظل ومنه (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] ومنه (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) [الشعراء : ١٨٩] ومنه قول أسيد بن حضير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قرأت البارحة «فغشي الدار مثل الظلة فيها أمثال المصابيح» فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تلك السكينة تنزلت للقرآن فإن قيل فإذا كان الجبل ظلة فما معنى : كأنه؟ فالجواب أن البشر إنما اعتادوا هذه الأجرام الأرضية ظللا إذا كانت على عمد ، فلما كان الجبل على غير عمد قيل (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) أي كأنه على عمد ، (وَظَنُّوا) قال المفسرون : معناه أيقنوا.

قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر عندي كذلك بل هو موضع غلبة الظن مع بقاء الرجاء ، وكيف يوقنون بوقوعه وموسى عليه‌السلام يقول : إن الرمي به إنما هو بشرط أن لا يقبلوا التوراة والظن إنما يقع ويستعمل في اليقين متى كان ذلك المتيقن لم يخرج إلى الحواس ، وقد يبين هذا فيما سلف من هذا الكتب ثم قيل لهم في وقت ارتفاع الجبل : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) فأخذوها والتزموا جميع ما تضمنته من شدة ورخاء فما وفوا ، وقرأ جمهور الناس : (وَاذْكُرُوا) وقرأ الأعمش فيما حكى أبو الفتح عنه : «واذكروا ولعلكم» على ترجيهم وهذا تشدد في حفظها والتهمم بأمرها.

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) الآية ، التقدير واذكر إذ أخذ وقوله : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) قال النحاة : هو بدل اشتمال من قوله : (مِنْ بَنِي آدَمَ) ، وألفاظ هذه الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم من ظهورهم وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظة وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وغيرهما أن الله عزوجل لما خلق آدم وفي بعض الروايات لما أهبط آدم إلى الأرض في دهناء من أرض السند قاله ابن عباس ، وفي بعضها أن ذلك بنعمان وهي عرفة وما يليها قاله أيضا ابن عباس وغيره ، مسح على ظهره وفي بعض الروايات بيمينه وفي بعض الروايات ضرب منكبه فاستخرج منها أي من المسحة أو الضربة نسم بنيه ففي بعض الروايات كالذر وفي بعضها كالخردل وقال محمد بن كعب : إنها الأرواح جعلت لها مثالات ، وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية ، فشهد بعضهم على بعض ، قال أبيّ بن كعب وأشهد عليهم السماوات السبع فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عليه العهد في ذلك اليوم والمقام ، وقال السدي أعطى الكفار العهد يومئذ كارهين على وجه التقية.

قال القاضي أبو محمد : هذه نخيلة مجموع الروايات المطولة ، وكأن ألفاظ هذه الأحاديث لا تلتئم


مع ألفاظ الآية ، وقد أكثر الناس في روم الجمع بينهما فقال قوم : إن الآية مشيرة إلى هذا التناسل الذي في الدنيا ، و (أَخَذَ) بمعنى أوجد على المعهود وأن الإشهاد هو عند بلوغ المكلف وهو قد أعطي الفهم ونصبت له هذه الصنعة الدالة على الصانع ، ونحا إلى هذا المعنى الزجّاج ، وهو معنى تحتمله الألفاظ لكن يرد عليه تفسير عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما الآية بالحديث المذكور ، وروايتهما ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وطوّل الجرجاني في هذه المسألة ومدار كلامه على أن المسح وإخراج الذرية من أظهر آدم حسب الحديث ، وقيل في الآية أخذ من ظهورهم إذ الإخراج من ظهر آدم الذي هو الأصل إخراج من ظهور بنيه الذين هم الفرع إذ الفرع والأصل شيء واحد ، إلى كلام كثير لا يثبت للنقد ، وقال غيره : إن جميع ما في الحديث من مسح بيمينه وضرب منكبه ونحو هذا إنما هي عبارة عن إيجاد ذلك النسم منه ، و «اليمين» عبارة عن القدرة أو يكون الماسح ملكا بأمر الله عزوجل فتضمن الحديث صدر القصة وإيجاد النسم من آدم ، وهذه زيادة على ما في الآية ، ثم تضمنت الآية ما جرى بعد هذا من أخذ العهد ، والنسم حضور موجودون هي تحتمل معنيين أحدهما أن يكون أخذ عاملا في عهد أو ميثاق تقدره بعد قوله (ذُرِّيَّتَهُمْ) ويكون قوله (مِنْ ظُهُورِهِمْ) لبيان جنس النبوة إذ المراد من الجميع التناسل ويشركه في لفظة بني آدم بنوه لصلبه وبنوه بالحنان والشفقة ويكون قوله : من (ذُرِّيَّتَهُمْ) بدلا من (بَنِي آدَمَ) ، والمعنى الآخر أنه لما كانت كل نسمة هنالك لها نسبة إلى التي هي من ظهرها كأن تعيين تلك النسبة أخذ من الظهر إذ ستخرج منه فهي المستأنف فالمعنى وإذ عينوا بهذه النسبة وعرفوا بها فذلك أخذ ما و (أَخَذَ) على هذا عامل في (ذُرِّيَّتَهُمْ) وليس بمعنى مسح وأوجد بل قد تقدم إيجادهم كما تقدم الحديث المذكور ، فالحديث يزيد معنى على الآية وهو ذكر آدم وأول إيجاد النسم كيف كان.

وقال الطرطوشي إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وهو قد نسيه إلى غير هذا مما ليس بتفسير ولا من طريقه.

وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر : «ذرياتهم» جمع جمع وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي : «ذريتهم» والإفراد هنا جمع وقد تقدم القول على لفظ الذرية في سورة آل عمران.

وروي في قصص هذه الآية : أن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا بين تلك النسم أمثال السرج وأن آدم عليه‌السلام رأى داود فأعجبه فقال : من هذا؟ فقيل : نبي من ذريتك فقال : كم عمره؟ فقيل ستون سنة ، فقال زيدوه من عمري أربعين سنة فزيدت قال : وكان عمر آدم ألفا فلما أكمل تسعمائة وستين جاء ملك الموت فقال له آدم بقي لي أربعون سنة فرجع ملك الموت إلى ربه فأخبره فقال له قل له إنك أعطيتها لابنك داود فتوفي عليه‌السلام بعد أن خاصم في الأربعين ، قال الضحاك بن مزاحم : من مات صغيرا فهو على العهد الأول ومن بلغ فقد أخذه العهد الثاني يعني الذي في هذه الحياة المعقولة الآن ، وحكى الزجاج عن قوم أنهم قالوا إن هذه الآية عبارة عن أن كل نسمة إذا ولدت وبلغت فنظرها في الأدلة المنصوبة عهد عليها في أن تؤمن وتعرف الله ، وقد تقدم ذكر هذا القول وهو قول ضعيف منكب عن الأحاديث المأثورة مطرح لها.


وقوله : (شَهِدْنا) يحتمل أن يكون من قول بعض النسم لبعض أي شهدنا عليكم لئلا تقولوا يوم القيامة غفلنا عن معرفة الله والإيمان به فتكون مقالة من هؤلاء لهؤلاء ، ذكره الطبري ، وعلى هذا لا يحسن الوقف على قوله : (بَلى) ويحتمل أن يكون قوله (شَهِدْنا) من قول الملائكة فيحسن الوقف على قوله (بَلى) ، قال السدي : المعنى قال الله وملائكته شهدنا ، ورواه عبد الله بن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ السبعة غير أبي عمرو : «أن تقولوا» على مخاطبة حاضرين ، وقرأ أبو عمرو وحده ، «أن يقولوا» على الحكاية عن غائبين وهي قراءة ابن عباس وابن جبير وابن محيصن والقراءتان تتفسر بحسب المعنيين المذكورين ، و (أَنْ) في موضع نصب على تقدير مخافة أن.

قوله عزوجل :

(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥)

قال القاضي أبو محمد : المعنى في هذه الآيات أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان ، إحداهما كنا غافلين ، والأخرى كنا تباعا لأسلافنا فكيف نهلك ، والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا فوقعت شهادة بعضهم على بعض أو شهادة الملائكة عليهم لتنقطع لهم هذه الحجج ، والاختلاف في «يقولوا» أو «تقولوا» بحسب الأول.

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) تقديره وكما فعلنا هذه الأمور وأنفذنا هذه المقادير فكذلك نفصل الآيات ونبينها لمن عاصرك وبعثت إليه ، (لَعَلَّهُمْ) على ترجيهم وترجيكم وبحسب نظر البشر ، (يَرْجِعُونَ) إلى طاعة الله ويدخلون في توحيده وعبادته ، وقرأت فرقة «يفصل» بالياء.

وقوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) الآية ، (اتْلُ) معناه قص واسرد ، والضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على حاضري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار وغيرهم ، واختلف المتأولون في الذي أوتي الآيات ، فقال عبد الله بن مسعود وغيره : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه‌السلام إلى ملك مدين داعيا إلى الله تعالى وإلى الشريعة وعلمه من آيات الله ما يمكن أن يدعو به وإليه ، فلما وصل رشاه الملك وأعطاه على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ، ففعل وفتن الملك به الناس وأضلهم ، وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم ، وقيل بلعام بن عابر ، وقيل ابن آبر ، وقيل غير هذا مما ذكره تطويل ، وكان في جملة الجبارين الذين غزاهم موسى عليه‌السلام ، فلما قرب منهم موسى لجؤوا إلى بلعام وكان صالحا مستجاب الدعوة ، وقيل كان عنده علم من صحف إبراهيم ونحوها ، وقال مجاهد كان رشح للنبوءة وأعطيها فرشاه قومه على أن يسكت ففعل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود لا يصح عن مجاهد ، ومن أعطي النبوءة فقد أعطي العصمة


ولا بد ، ثبت هذا بالشرع ، وقد نص معنى ما قلته أبو المعالي في كتاب الشامل ، وقيل كان يعلم اسم الله الأعظم ، قاله ابن عباس أيضا ، وهذا الخلاف في المراد بقوله : (آياتِنا) ، فقال له قومه ادع الله تعالى على موسى وعسكره ، فقال لهم وكيف أدعوا على نبي مرسل ، فما زالوا به حتى فتنوه فخرج حتى أشرف على جبل يرى منه عسكر موسى ، وكان قد قال لقومه لا أفعل حتى أستأمر ربي ففعل فنهي عن ذلك ، فقال لهم قد نهيت ، فما زالوا به قال أستأمر ربي ثانية ففعل فسكت عنه فأخبرهم فقالوا له إن الله لم يدع نهيك إلا وقد أراد ذلك ، فخرج ، فلما أشرف على العسكر جعل يدعو على موسى فتحول لسانه بالدعاء لموسى والدعاء على قومه ، فقالوا له ما تقول؟ فقال إني لا أملك إلا هذا وعلم أنه قد أخطأ ، فروي أنه خرج لسانه على صدره ، فقال لقومه إني قد هلكت ولكن لم تبق لكم إلا الحيلة فأخرجوا النساء إلى عسكر موسى على جهة التجرد وغيره ومروهن ألا تمتنع امرأة من رجل فإنهم إذا زنوا هلكوا ، ففعلوا فخرج النساء فزنى بهن رجال بني إسرائيل ، وجاء فنحاص بن العيزار بن هارون ، فانتظم برمحه امرأة ورجلا من بني إسرائيل ، ورفعهما على أعلى الرمح فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا ، ثم ذكر المعتز عن أبيه أن موسى عليه‌السلام قتل بعد ذلك الرجل المنسلخ من آيات الله ، قال المهدوي : روي أنه دعا على موسى أن لا يدخل مدينة الجبارين فأجيب ، ودعا عليه موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينسى اسم الله الأعظم فأجيب قال الزجّاج : وقيل إن الإشارة إلى منافقي أهل الكتاب.

قال القاضي أبو محمد : وصواب هذا أن يقال إلى كفار أهل الكتاب لأنه لم يكن منهم منافق إنما كانوا مجاهرين ، وفي هذه القصة روايات كثيرة اختصرتها لتعذر صحتها واقتصرت منها على ما يخص ألفاظ الآية ، وقالت فرقة : المشار إليه في الآية رجل كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات فترك أن يدعو بها في مصالح العباد فدعا بواحدة أن ترجع امرأته أجمل النساء ، فكان ذلك ، فلما رأت نفسها كذلك أبغضته واحتقرته فدعا عليها ثانية فمسخت كلبة ، فشفع لها بنوها عنده فانصرفت إلى حالها فذهبت الدعوات ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي المشار إليه في الآية أمية بن أبي الصلت ، وكان قد أوتي علما ، وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء؟ فقيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء ، فارتد ورجع ، وقال : الآن حلت لي الخمر ، وكان قد حرمها على نفسه ، فمر حتى لحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات ، و (فَانْسَلَخَ) عبارة عن البراءة منها والانفصال والبعد كالسلخ من الثياب ، والجلد و (فَأَتْبَعَهُ) صيره تابعا كذا قال الطبري إما لضلالة رسمها له وإما لنفسه ، وقرأ الجمهور «فأتبعه» بقطع الألف وسكون التاء ، وهي راجحة لأنها تتضمن أنه لحقه وصار معه ، وكذلك (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) [الحجر : ١٨] و (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ) [يونس : ٩٠] وقرأ الحسن فيما روى عنه هارون «فاتّبعه» بصلة الألف وشد التاء وكذلك طلحة بن مصرف بخلاف ، وكذلك الخلاف عن الحسن على معنى لازمه «اتبعه» بالإغواء حتى أغواه ، و (مِنَ الْغاوِينَ) أي من الضالين.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ


عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠)

يقول الله عزوجل : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في : (بِها) عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له ، وقال ابن أبي نجيح (لَرَفَعْناهُ) معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير على هذا عائد على الآيات ، ثم ابتدأ وصف حاله ، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى (لَرَفَعْناهُ) أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه ، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) فالكلام متصل ، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ، فمن أوتي هذا ، و (أَخْلَدَ) معناه لازم وتقاعس وثبت ، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد ، ومنه قول زهير : [الكامل].

لمن الديار غشيتها بالفدفد

كالوحي في حجر المسيل المخلد

وقوله : (إِلَى الْأَرْضِ) يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ ، قاله السدي وغيره ، ويحتمل أن يريد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض ، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان ، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية ، وقوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) قال السدي وغيره : إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة ، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالا قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضا ضالا لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه وتركه دون حمل عليه ، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب ، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على «مثل» ، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب ، وهو في الفرس ضبح ، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال ، وذكر الطبري أن معنى (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس.

قال القاضي أبو محمد : وذلك داخل في جملة المشقة التي ذكرنا ، وقوله : (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ) أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك. فمثلهم كمثل الكلب ، وقوله : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك فيؤمنون.

وقوله : (ساءَ مَثَلاً) قال الزجاج : التقدير ساء مثلا مثل القوم ، لأن الذي بعد «بئس» و «نعم» إنما


يتفسر من نوعه ، كما تقول بئس رجلا زيد ، ولما انحذف مثل أقيم القوم مقامه ، والرفع في ذلك بالابتداء ، والخبر فيما تقدم ، وقرأ الجحدري «ساء مثل القوم ، ورفع مثل على هذه القراءة ب (ساءَ) ، ولا تجري (ساءَ) مجرى «بئس» إلا إذا كان ما بعدها منصوبا ، قال أبو عمرو الداني : قرأ الجحدري «مثل» بكسر الميم ورفع اللام ، وقرأ الأعمش «مثل» بفتح الميم والثاء ورفع اللام.

قال القاضي أبو محمد : وهذا خلاف ما ذكر أبو حاتم فإنه قال : قرأ الجحدري والأعمش «ساء مثل» بالرفع.

وختمت هذه الآيات التي تضمنت ضلال أقوام والقول فيه بأن ذلك كله من عند الله ، الهداية منه وبخلقه واختراعه وكذلك الإضلال ، وفي الآية تعجب من حال المذكورين ، ومن أضل فقد حتم عليه بالخسران ، والثواب والعقاب متعلق بكسب ابن آدم.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) خبر من الله تعالى أنه خلق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثيرا ، وفي ضمنه وعيد للكفار ، و «ذرأ» معناه خلق وأوجد مع بث ونشر ، وقالت فرقة اللام في قوله : (لِجَهَنَّمَ) هي لام العاقبة أي ليكون أمرهم ومئالهم لجهنم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ليس بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه ، وهذه اللام مثل التي في قول الشاعر :

يا أم فرو كفي اللوم واعترفي

فكل والدة للموت تلد

وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم جهنم ، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال أولاد الزنا مما ذرأ الله لجهنم ثم أسند فيه حديثا من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (كَثِيراً) وإن كان ليس بنص في أن الكفار أكثر من المؤمنين فهو ناظر إلى ذلك في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله لآدم أخرج بعث النار فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة».

قوله عزوجل :

(لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠)

وصفت هذه الصنيفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه ، والفقه الفهم ، وأعينهم لا تبصر ، وآذانهم لا تسمع ، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول : فلان أصم عن الخنا.

ومنه قول مسكين الدارمي : [الكامل أحذ مضمر]


أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتى يواري جارتي الستر

وأصم عمّا كان بينهما

عمدا وما بالسمع من وقر

ومنه قول الآخر : [الوافر]

وعوراء الكلام صممت عنها

ولو أني أشاء بها سميع

وبادرة وزعت النفس عنها

وقد بقيت من الغضب الضلوع

ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك : [مخلع البسيط]

وادخل إذا ما دخلت أعمى

واخرج إذا ما خرجت أخرس

فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم (لا يَفْقَهُونَ) و (لا يُبْصِرُونَ) و (لا يَسْمَعُونَ) وفسر مجاهد هذا بأن قال : لهم قلوب لا يفقهون بها شيئا من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق ، و (أُولئِكَ) إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس ، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب ، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع ، ثم حكم عليهم بأنهم (أَضَلُ) ، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك ، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقا في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا ، ثم بين بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الآيات ، السبب في هذه الآية على ما روي ، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمن ونحو هذا فقال : محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد آلهة كثيرة فنزلت هذه و (الْأَسْماءُ) هنا بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يمكن غيره ، و (الْحُسْنى) : مصدر وصف به ، ويجوز أن تقدر (الْحُسْنى) فعلى مؤنثه أحسن ، فأفرد وصف جميع ما لا يعقل كما قال (مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] وكما قال (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] وهذا كثير ، وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها ، والنص عليها ، وانضاف إلى ذلك أيضا أنها إنما تضمنت معاني حسانا شريفة.

واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحا خالصا ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك ، إلا أنه لم ير منصوصا هل يطلق ويسمى الله به؟ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاء والجمهور على المنع ، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضا ، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحا خالصا لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعا ، واختلف أيضا في الأفعال التي في القرآن مثل قوله: (اللهُ


يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥](وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ونحو ذلك هل يطلق منها اسم الفاعل؟ فقالت فرقة : لا يطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيدا بسببه فيقال : الله مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعا ، والقول الأول أقوى ولا ضرورة تدفع إلى القول الثاني لأن صيغة الفعل الواردة في كتاب الله تغني ، ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن ومنها ما ورد في الحديث وتواتر ، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، وقد ورد في الترمذي حديث عن أبي هريرة ونص فيه تسعة وتسعين اسما ، وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإنما المتواتر منه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» ، ومعنى أحصاها عدها وحفظها وتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والعبرة في معانيها ، وهذا حديث البخاري ، والمتحصل منه أن لله تعالى هذه الأسماء مباحا إطلاقها وورد في بعض دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا حنان يا منان» ولم يقع هذان الاسمان في تسمية الترمذي.

وقوله : (فَادْعُوهُ بِها) إباحة بإطلاقها ، وقوله تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ) قال ابن زيد : معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم ، فالآية على هذا منسوخة بالقتال ، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] وقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) [الحجر : ٣] ويقال ألحد ولحد بمعنى جار ومال وانحرف ، وألحد أشهر ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

ليس الإمام بالشحيح الملحد

قال أبو علي : ولا يكاد يسمع لأحد وفي القرآن (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) [الحج : ٢٥] ومنه لحد القبر المائل إلى أحد شقيه ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «يلحدون» بضم الياء وكسر الحاء ، وكذلك في النحل والسجدة ، وقرأ حمزة الأحرف الثلاثة «يلحدون» بفتح الياء والحاء ، وكذلك ابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش ، ومعنى الإلحاد في أسماء الله عزوجل أن يسموا اللات نظيرا إلى اسم الله تعالى قاله ابن عباس ، والعزى نظيرا إلى العزيز ، قاله مجاهد ، ويسمون الله ربا ويسمون أوثانهم أربابا ونحو هذا ، وقوله : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وعيد محض بعذاب الآخرة ، وذهب الكسائي إلى الفرق بين ألحد ولحد وزعم أن ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى ، قال الطبري : وكان الكسائي يقرأ جميع ما في القرآن بضم الياء وكسر الحاء إلا التي في النحل فإنه كان يقرؤها بفتح الياء والحاء ويزعم أنها بمعنى الركون وكذلك ذكر عنه أبو علي.

قوله عزوجل :

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى


أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥)

هذه آية تتضمن الخبر عن قوم مخالفين لمن تقدم ذكرهم في أنهم أهل إيمان واستقامة وهداية ، وظاهر لفظ هذه الآية يقتضي كل مؤمن كان من لدن آدم عليه‌السلام إلى قيام الساعة ، قال النحاس : فلا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق.

قال القاضي أبو محمد : سواء بعد صوته أو كان خاملا ، وروي عن كثير من المفسرين أنها في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي في ذلك حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : هذه الآية لكم ، وقد تقدم مثلها لقوم موسى.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الآية وعيد ، والإشارة إلى الكفار و (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) معناه سنسوقهم شيئا بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب ، وقوله : (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) معناه من حيث لا يعلمون أنه استدراج لهم ، وهذه عقوبة من الله على التكذيب بالآيات ، لما حتم عليهم بالعذاب أملى لهم ليزدادوا إثما وقرأ ابن وثاب والنخعي «سيستدرجهم» بالياء.

وقوله : (أُمْلِي) معناه أؤخر ملاءة من الدهر أي مدة وفيها ثلاث لغات فتح الميم وضمها وكسرها ، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر «أن كيدي» على معنى لأجل أن كيدي ، وقرأ جمهور الناس وسائر السبعة «إن كيدي» على القطع والاستئناف ، و (مَتِينٌ) معناه قوي ، قال الشاعر : [الطويل]

لإلّ علينا واجب لا نضيعه

متين قواه غير منتكث الحبل

وروى ابن إسحاق في هذا البيت أمين قواه ، وهو من المتن الذي يحمل عليه لقوته ، ومنه قول الشاعر وهو امرؤ القيس : [المتقارب]

لها متنتان حظاتا كما

أكبّ على ساعديه النمر

وهما جنبتا الظهر ، ومنه قول الآخر :

عدلي عدول اليأس وافتج يبتلى

أفانين من الهوب شد مماتن

ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

ويخدي على صم صلاب ملاطس

شديدات عقد لينات متان

ومنه الحديث في غزوة بني المصطلق فمتن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس أي سار بهم سيرا شديدا لينقطع الحديث بقول ابن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة.

وقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ) الآية ، تقرير يقارنه توبيخ للكفار ، والوقف على قوله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكروه فقال : (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ،


ويحتمل أن يكون المعنى أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة ، وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد ليلا على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش ، يا بني فلان ، يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله فقال بعض الكفار حين أصبحوا هذا مجنون بات يصوت حتى الصباح فنفى الله عزوجل ما قالوه من ذلك في هذا الموطن المذكور وفي غيره ، فإن الجنون بعض ما رموه به حتى أظهر الله نوره ، ثم أخبر أنه نذير أي محذر من العذاب ، ولفظ النذارة إذا جاء مطلقا فإنما هو في الشر ، وقد يستعمل في الخير مقيدا به ، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه.

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، هذا أيضا توبيخ للكفار وتقرير ، والنظر هنا بالقلب عبرة وفكرا ، و (مَلَكُوتِ) بناء عظمة ومبالغة ، وقوله : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) لفظ يعم جميع ما ينظر فيه ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع ومن نفس الإنس وحواسه ومواضع رزقه ، و «الشيء» واقع على الموجودات وقوله : (وَأَنْ عَسى) عطف على قوله : (فِي مَلَكُوتِ) و (أَنْ) الثانية في موضع رفع ب (عَسى) ، والمعنى توقيفهم على أن لم يقع لهم نظر في شيء من هذا ولا في أنه قربت آجالهم فماتوا ففات أوان الاستدراك ووجب عليهم المحذور ، ثم وقفهم بأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر : [الطويل]

وعن أي نفس بعد نفسي أقاتل

والضمير في قوله : (بَعْدَهُ) يراد به القرآن ، وقيل المراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقصته وأمره أجمع ، وقيل هو عائد على الأجل بعد الأجل إذ لا عمل بعد الموت.

قوله عزوجل :

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧)

هذا شرط وجواب مضمنه اليأس منهم والمقت لهم لأن المراد أن هذا قد نزل بهم وأنهم مثال لهذا ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو عبد الرحمن وقتادة «ونذرهم» بالنون ورفع الراء وكذلك عاصم في رواية أبي بكر ، وروى عنه حفص و «يذرهم» بالياء والرفع ، وقرأها أهل مكة وهذا على إضمار مبتدأ ونحن نذرهم أو على قطع الفعل واستئناف القول ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم ، وقرأها كذلك طلحة بن مصرف والأعمش «ويذرهم» بالياء وبالجزم عطفا


على موضع الفاء وما بعدها من قوله (فَلا هادِيَ لَهُ) لأنه موضع جزم ، ومثله قول أبي داود : [الوافر]

فأبلوني بليتكم لعلي

أصالحكم واستدرج بويا

ومنه قول الآخر : [الكامل]

أنّى سلكت فإنني لك كاشح

وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد

قال أبو علي ومثله في الحمل على الموضع قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠] لأنك لو لم تلحق الفاء لقلت أصدق ، وروى خارجة عن نافع «ونذرهم» بالنون والجزم. و «الطغيان» الإفراط في الشيء وكأنه مستعمل في غير الصلاح ، و «العمه» الحيرة.

وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) الآية ، قال قتادة بن دعامة المراد يسألونك كفار قريش ، وذلك أن قريشا قالت يا محمد إنّا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة ، قال ابن عباس : المراد بالآية اليهود ، وذلك أن جبل بن أبي قشير وسمويل بن زيد قالا له إن كنت نبيا فأخبرنا بوقت الساعة فإنّا نعرفها فإن صدقت آمنا بك ، والساعة القيامة موت كل شيء كان حينئذ حيا وبعث الجميع ، هو كله يقع عليه اسم الساعة واسم القيامة ، و (أَيَّانَ) معناه متى وهو سؤال عن زمان ولتضمنها الوقت بنيت ، وقرأ جمهور الناس «أيان» بفتح الهمزة ، وقرأ السلمي «إيان» بكسر الهمزة ، ويشبه أن يكون أصلها أي آن وهي مبنية على الفتح ، وقال الشاعر : [الرجز]

أيان يقضي حاجتي أيانا

أما ترى لفعلها إبانا

قال أبو الفتح وزن «أيان» بفتح الهمزة فعلان وبكسرها فعلان ، والنون فيهما زائدة ، و (مُرْساها) رفع بالابتداء والخبر ، (أَيَّانَ) ومذهب المبرد أن (مُرْساها) مرتفع بإضمار فعل ومعناه مثبتها ومنتهاها ، مأخوذة من أرسى يرسي ، ثم أمر الله عزوجل بالرد إليه والتسليم لعلمه ، و (يُجَلِّيها) معناه يظهرها والجلاء البينة الشهود وهو مراد زهير بقوله : [الوافر].

يمين أو نفار أو جلاء

وقوله : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال السدي ومعمر عن بعض أهل التأويل : معناه ثقل أن تعلم ويوقف على حقيقة وقتها ، قال الحسن بن أبي الحسن معناه ثقلت هيئتها والفزع منها على أهل السماوات والأرض ، كما تقول خيف العدو في بلد كذا وكذا ، وقال قتادة وابن جريج : معناه ثقلت على السماوات والأرض أنفسها لتفطر السماوات وتبدل الأرض ونسف الجبال ، ثم أخبر تعالى خبرا يدخل فيه الكل أنها لا تأتي إلا بغتة أي فجأة دون أن يتقدم منها علم بوقتها عند أحد من الناس ، و (بَغْتَةً) مصدر في موضع الحال.

وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) الآية ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : المعنى يسألونك عنها كأنك حفي أي متحف ومهتبل ، وهذا ينحو إلى ما قالت قريش إنّا قرابتك فأخبرنا ، وقال مجاهد أيضا والضحاك وابن زيد : معناه كأنك حفي في المسألة عنها والاشتغال بها حتى حصلت علمها ، وقرأ ابن عباس


فيما ذكر أبو حاتم «كأنك حفي بها» ، لأن حفي معناه مهتبل مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما يسأل عنه ، وقد يجيء (حَفِيٌ) وصفا للسؤال ومنه قول الشاعر : [الطويل]

فلمّا التقينا بين السيف بيننا

لسائلة عنا حفي سؤالها

ومن المعنى الأول الذي يجيء فيه (حَفِيٌ) وصفا للسائل قول الآخر : [الطويل]

سؤال حفي عن أخيه كأنه

بذكرته وسنان أو متواسن

ثم أمره ثانية بأن يسلم العلم تأكيدا للأمر وتهمما به إذ هو من الغيوب الخمسة التي في قوله عزوجل: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) [لقمان : ٣٤] ، وقيل العلم الأول علم قيامها والثاني علم كنهها وحالها ، وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) قال الطبري : معناه لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله بل يظن أكثرهم أنه مما يعلم البشر.

قوله عزوجل :

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩)

هذا أمر في أن يبالغ في الاستسلام ويتجرد من المشاركة في قدرة الله وغيبه وأن يصف نفسه لهؤلاء السائلين بصفة من كان بها فهو حري أن لا يعلم غيبا ولا يدعيه ، فأخبر أنه لا يملك من منافع نفسه ومضارها إلا ما سنى الله له وشاء ويسر ، وهذا الاستثناء منقطع ، وأخبر أنه لو كان يعلم الغيب لعمل بحسب ما يأتي ولاستعد لكل شيء استعداد من يعلم قدر ما يستعد له ، وهذا لفظ عام في كل شيء ، وقد خصص الناس هذا فقال ابن جريج ومجاهد : «لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح». وقالت فرقة : أوقات النصر لتوخيتها ، وحكى مكي عن ابن عباس أن معنى لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة.

قال القاضي أبو محمد : وألفاظ الآية تعم هذا وغيره ، وقوله : (وَما مَسَّنِيَ) يحتمل وجهين وبكليهما قيل ، أحدهما أن (ما) معطوفة على قوله : (لَاسْتَكْثَرْتُ) أي ولما مسني السوء ، والثاني أن يكون الكلام مقطوعا تم في قوله : (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) وابتدأ يخبر بنفي السوء عنه وهو الجنون الذي رموه به ، قال مؤرج السدوسي : (السُّوءُ) الجنون بلغة هذيل ، ثم أخبر بجملة ما هو عليه من النذارة والبشارة ، و (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يحتمل معنيين : أحدهما أن يريد أنه نذير وبشير لقوم يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه ، وهؤلاء الناس أجمع ، والثاني أن يخبر أنه نذير ويتم الكلام ، ثم يبتدىء يخبر أنه بشير للمؤمنين به ، ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه.


وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية ، قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة آدم عليه‌السلام ، بقوله : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حواء وقوله (مِنْها) يريد ما تقدم ذكره من أن آدم نام فاستخرجت قصرى أضلاعه وخلقت منها حواء ، وقوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي ليأنس ويطمئن ، وكان هذا كله في الجنة ، ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطها ، فقال : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي غشيها وهي كناية عن الجماع ، و «الحمل الخفيف» هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ، وقرأ جمهور الناس «حملا» بفتح الحاء ، وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير «حملا» بكسر الحاء ، وقوله : (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت به ، قال أيوب : سألت الحسن عن قوله : (فَمَرَّتْ بِهِ) فقال : لو كنت امرأ عربيا لعرفت ما هي إنما المعنى فاستمرت به.

قال القاضي أبو محمد : وقدره قوم على القلب كأن المراد فاستمر بها كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي ، وقرأ يحيى بن يعمر وابن عباس فيما ذكر النقاش «فمرت به» بتخفيف الراء ، ومعناه فشكت فيما أصابها هل هو حمل أو مرض ونحو هذا ، وقرأ ابن عباس «فاستمرت به» ، وقرأ ابن مسعود «فاستمرت بحملها» ، وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي «فمارت به» معناه أي جاءت به وذهبت وتصرفت ، كما تقول مارت الريح مورا ، و (أَثْقَلَتْ) دخلت في الثقل كما تقول : أصبح وأمسى أي صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن ، والضمير في (دَعَوَا) على آدم وحواء.

وروي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو ، وهذا يقوي قراءة من قرأ «فمرت به» بتخفيف الراء ، فجزعت لذلك فوجد إبليس إليها السبيل ، فقال لها ما يدريك ما في جوفك ولعله خنزير أو حية أو بهيمة في الجملة وما يدريك من أين يخرج أينشق له بطنك فتموتين أو على فمك أو أنفك؟ ولكن إن أطعتني وسميته عبد الحارث.

قال القاضي أبو محمد : والحارث اسم إبليس ، فسأخلصه لك وأجعله بشرا مثلك ، وإن أنت لم تفعلي قتلته لك ، قال فأخبرت حواء آدم فقال لها ذلك صاحبنا الذي أغوانا في الجنة ، لا نطيعه ، فلما ولدت سمياه عبد الله ، فمات الغلام ، ويروى أن الله سلط إبليس على قتله فحملت بآخر ففعل بها مثل ذلك فحملت بالثالث فلما ولدته أطاعا إبليس فسمياه عبد الحارث حرصا على حياته ، فهذا هو الشرك الذي جعلا لله أي في التسمية فقط.

و (صالِحاً) قال الحسن معناه غلاما ، قال ابن عباس : وهو الأظهر بشرا سويا سليما ، ونصبه على المفعول الثاني وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي أتيا صالحا ، وقال قوم إن المعنى في هذه الآية التبيين عن حال الكافرين فعدد النعم التي تعم الكافرين وغيرهم من الناس ، ثم قرر ذلك بفعل المشركين السيّء فقامت عليهم الحجة ووجب العقاب ، وذلك أنه قال مخاطبا لجميع الناس (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) يريد آدم وحواء أي واستمرت حالكم واحدا كذلك ، فهذه نعمة تخص كل أحد بجزء منها ، ثم جاء قوله : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) إلى آخر الآية وصفا لحال الناس واحدا واحدا أي هكذا يفعلون فإذا آتاهم الله الولد صالحا سليما كما أراده ، صرفاه عن الفطرة إلى الشرك ، فهذا فعل المشركين


الذي قامت الحجة فيه باقترانه مع النعمة العامة ، وقال الحسن بن أبي الحسن فيما حكى عنه الطبري : معنى هذه الآية : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) إشارة إلى الروح الذي ينفخ في كل أحد.

قال القاضي أبو محمد : أي خلقكم من جنس واحد وجعل الإناث منه ، ثم جاء قوله : (فَلَمَّا تَغَشَّاها) إلى آخر الآية وصفا لحال الناس واحدا واحدا على ما تقدم من الترتيب في القول الذي قبله.

قوله عزوجل :

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣)

يقال إن الآية المتقدمة هي في آدم وحواء وإن الضمير في قوله (آتاهُما) عائد عليهما ، قال إن الشرك الذي جعلاه هو في الطاعة ، أي أطاعا إبليس في التسمية بعبد الحارث كما كانا في غير ذلك مطيعين لله ، وأسند الطبري في ذلك حديثا من طريق سمرة بن جندب ، ويحتمل أن يكون الشرك في أن جعلا عبوديته بالاسم لغيره ، وقال الطبري والسدي في قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إنه كلام منفصل ليس من الأول ، وإن خبر آدم وحواء تم في قوله (فَلَمَّا آتاهُما) ، وإن هذا كلام يراد به مشركو العرب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم لا يساعده اللفظ ، ويتجه أن يقال تعالى الله عن ذلك اليسير المتوهم من الشرك في عبودية الاسم ، ويبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء عليهما‌السلام ، وجاء الضمير في (يُشْرِكُونَ) ضمير جمع لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث ، ومن قال إن الآية المتقدمة إنما الغرض منها تعديد النعمة في الأزواج وفي تسهيل النسل والولادة ثم ذكر سوء فعل المشركين بعقب ذلك ، قال في الآية الأخيرة إنها على ذلك الأسلوب وإن قوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) المراد بالضمير فيه المشركين ، والمعنى في هذه الآية فلما آتى الله هذين الانسانين صالحا أي سليما دهبا به إلى الكفر وجعلا لله فيه شركا وأخرجاه عن الفطرة ، ولفظة الشرك تقتضي نصيبين ، فالمعنى : وجعلا لله فيه ذا شرك لأن إبليس أو أصنام المشركين هي المجعولة ، والأصل أن الكل لله تعالى وبهذا حل الزجاج اعتراض من قال ينبغي أن يكون الكلام «جعلا لغيره شركا» وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «شركا» بكسر الشين وسكون الراء على المصدر ، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وعاصم وأبان بن تغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم «شركاء» على الجمع ، وهي بينة على هذا التأويل الأخير وقلقه على قول من يقول : إن الآية الأولى في آدم وحواء ، وفي مصحف أبيّ ابن كعب «فلما آتاهما صالحا أشركا فيه» ، وذكر الطبري في قصص حواء وآدم وإبليس في التسمية بعبد الحارث وفي صورة مخاطبتهم أشياء طويلة لا يقتضي الاختصار ذكرها.

وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وعاصم «عما يشركون أيشركون» بالياء من تحت فيهما ،


وقرأ أبو عبد الرحمن «عما تشركون» بالتاء من فوق «أتشركون ما لا يخلق» الآية ، وروى بعض من قال إن الآيات في آدم وحواء أن إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله فقال : إن شئت أن يعيش لك الولد فسمه عبد شمس ، فولد له ولد فسماه كذلك وإياه عنى بقوله (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) على هذا عائد على آدم وحواء والابن المسمى عبد شمس ، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه في مشركي الكفار الذين يشركون الأصنام في العبادة وإياها أراد بقوله (ما لا يَخْلُقُ) ، وعبر عنها بهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائها ، و (يُخْلَقُونَ) معناه ينحتون ويصنعون ، ويحتمل على قراءة «يشركون» بالياء من تحت أن يكون المعنى وهؤلاء المشركون يخلقون ، أي فكان قولهم أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلون إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئا.

قوله تعالى : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) الآية ، هذه تخرج على تأويل من قال إن المراد آدم وحواء والشمس على ما تقدم ، ولكن بقلق وتعسف من المتأول في المعنى ، وإنما تتسق هذه الآيات ويروق نظمها ويتناصر معناها على التأويل الآخر ، والمعنى ولا ينصرون أنفسهم من أمر الله وإرادته ، ومن لا يدفع عن نفسه فأحرى أن لا يدفع عن غيره.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) الآية ، من قال إن الآيات في آدم عليه‌السلام قال إن هذه مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته مستأنفة في أمر الكفار المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهم الهاء والميم من (تَدْعُوهُمْ) ، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه مخاطبة للمؤمنين والكفار على قراءة من قرأ «يشركون» بالياء من تحت ، وللكفار فقط على من قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيف ، أي إن هذه حال الأصنام معكم إن دعوتموهم لم يجيبوكم إذ ليس لهم حواس ولا إدراكات ، وقرأ نافع وحده «لا يتبعوكم» بسكون التاء وفتح الباء وقرأ الباقون «لا يتّبعوكم» بشد التاء المفتوحة وكسر الباء والمعنى واحد ، وفي قوله تعالى : (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ) عطف الاسم على الفعل ، إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر : [الطويل]

سواء عليك الفقر أم بت ليلة

بأهل القباب من نمير بت عامر

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦)

قرأ جمهور الناس «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» بتثقيل «إنّ» ورفع «عباد» وهي مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم عندهم أي إن هذه الأصنام مخلوقة محدثة ، إذ هي أجسام وأجرام


فهي متعبدة أي متملكة ، وقال مقاتل ، إن المراد بهذه الآية طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم الله أنهم عباد أمثالهم لا آلهة ، وقرأ سعيد بن جبير «إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم» بتخفيف النون من «إن» على أن تكون بمعنى ما وبنصب قوله «عبادا وأمثالكم» ، والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر ، بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل ، وسيبويه يرى أن «إن» إذا كانت بمعنى «ما» فإنها تضعف عن رتبة «ما» فيبقى الخبر مرفوعا وتكون هي داخلة على الابتداء والخبر لا ينصبه ، فكان الوجه عنده في هذه القراءة «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» وأبو العباس المبرد يجيز أن تعمل عمل «ما» في نصب الخبر ، وزعم الكسائي أن «إن» بمعنى «ما» لا تجيء إلا وبعدها إلا كقوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك : ٢] ثم بين تعالى الحجة بقوله (فَادْعُوهُمْ) أي فاختبروا فإن لم يستجيبوا فهم كما وصفنا ، وقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ) الآية ، الغرض من هذه الآية ، ألهم حواس الحي وأوصافه؟ فإذا قالوا لا ، حكموا بأنها جمادات فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة ، قال الزهراوي : المعنى أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم؟

قال القاضي أبو محمد : و «تتقون» بهذا التأويل قراءة سعيد بن جبير ، إذ تقتضي أن الأوثان ليست عبادا كالبشر ، وقوله في الآية (أَمْ) إضراب لكل واحدة عن الجملة المتقدمة لها ، وليست «أم» المعادلة للألف في قوله أعندك زيد أم عمرو؟ لأن المعادلة إنما هي في السؤال عن شيئين أحدهما حاصل ، فإذا وقع التقدير على شيئين كلاهما منفي ف «أم» إضراب عن الجملة الأولى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فرق معنوي ، وأما من جهة اللفظ والصناعة النحوية فهي هي ، وقرأ نافع والحسن والأعرج «يبطشون» بكسر الطاء وقرأ نافع أيضا وأبو جعفر وشيبة «يبطشون» بضمها ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعجزهم بقوله (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي استنجدوهم إلى إضراري وكيدي ولا تؤخروني ، المعنى فإن كانوا آلهة فسيظهر فعلهم ، وسماهم شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله ، وقرأ أبو عمرو ونافع «كيدوني» بإثبات الياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «كيدون» بحذف الياء في الوصل والوقف ، قال أبو علي : إذا أشبه الكلام المنفصل أو كان منفصلا أشبه القافية وهم يحذفون الياء في القافية كثيرا قد التزموا ذلك ، كما قال الأعشى : [المتقارب]

فهل يمنعني ارتيادي البلا

د من حذر الموت أن يأتين

وقد حذفوا الياء التي هي لام الأمر كما قال الأعشى : [الرمل]

يلمس الأحلاس في منزله

بيديه كاليهودي المصل

وقوله (فَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تؤخرون ، ومنه قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) الآية ، أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره وأراهم أن الله هو القادر على كل شيء لا تلك ، عقب ذلك بالإسناد إلى الله والتوكل عليه بأنه وليه وناصره ، وقرأ جمهور الناس والقراءة «إن


وليّي الله» بياء مكسورة مشددة وأخرى مفتوحة ، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «إن وليّ الله» بياء واحدة مشددة ورفع الله ، قال أبو علي لا تخلو هذه القراءة من أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة أو تحذف الياء التي هي لام الفعل وتدغم ياء فعيل في ياء الإضافة ، ولا يجوز أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة لأنه إذا فعل ذلك انفك الإدغام الأول ، فليس إلا أنه حذف لام الفعل وأدغم ياء فعيل في ياء الإضافة ، وقرأ ابن مسعود «الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين» ، وقرأ الجحدري فيما ذكر أبو عمرو الداني «أن ولي إله» على الإضافة وفسر ذلك بأن المراد جبريلصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر القراءة غير منسوبة أبو حاتم وضعفها وإن كانت ألفاظ هذه الآية تلائم هذا المعنى وتصلح له ، فإن ما قبلها وما بعدها يدافع ذلك.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠)

الضمير في قوله (مِنْ دُونِهِ) عائد على اسم الله تعالى وهذا الضمير مصرح بما ذكرناه من ضعف قراءة من قرأ «إن ولي الله» أنه جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه الآية أيضا بيان لحال تلك الأصنام وفسادها وعجزها عن نصرة أنفسها فضلا عن غيرها.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) الآية ، قالت فرقة : المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، والهاء والميم في قوله (تَدْعُوهُمْ) للكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة ولا حلوا منه بطائل ، قاله السدي ومجاهد ، وقال الطبري : المراد بالضمير المذكور الأصنام ، ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة وما فيها من تخييل النظر كما تقول دار فلان تنظر إلى دار فلان ، ومعنى الآية على هذا تبين جمودية الأصنام وصغر شأنها ، وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه ، ولا حجة لهم في الآية لأن النظر في الأصنام مجاز محض.

قال القاضي أبو محمد : وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنا من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستوليا على عقولها فأوعب القول في ذلك لطفا من الله تعالى بهم.

وقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) الآية ، وصية من الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق ، وقال الجمهور في قوله (خُذِ الْعَفْوَ) إن معناه اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفوا دون تكلف ، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج ، قاله عبد


الله بن الزبير في مصنف البخاري ، وقاله مجاهد وعروة ، ومنه قول حاتم الطائي : [الطويل]

خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هذه الآية ، في الأموال ، وقيل هي فرض الزكاة أمر بهاصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ ما سهل من أموال الناس ، وعفا أي فضل وزاد من قولهم عفا النبات والشعر أي كثر ، ثم نزلت الزكاة وحدودها فنسخت هذه الآية ، وذكر مكي عن مجاهد أن (خُذِ الْعَفْوَ) معناه خذ الزكاة المفروضة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا شاذ ، وقوله (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة ، ويروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل : ما هذا العرف الذي أمر به ، قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فرجع إلى ربه فسأله ثم جاءه فقال له : يا محمد هو أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك.

قال القاضي أبو محمد : فهذا نصب غايات والمراد فما دون هذا من فعل الخير. وقرأ عيسى الثقفي فيما ذكر أبو حاتم «بالعرف» بضم الراء والعرف والعرف بمعنى المعروف ، وقوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا ، هذا قول الجمهور من العلماء ، وقال ابن زيد في قوله (خُذِ الْعَفْوَ) ـ إلى ـ (الْجاهِلِينَ) إنما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك مداراة لكفار قريش ثم نسخ ذلك بآية السيف.

قال القاضي أبو محمد : وحديث الحر بن قيس حين أدخل عمه عيينة بن حصن على عمر دليل على أنها محكمة مستمرة ، لأن الحر احتج بها على عمر فقررها ووقف عندها.

وقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) وصية من الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعم أمته رجلا رجلا ، والنزغ حركة فيها فساد ، وقلّما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح ، لا ينزغ الشيطان في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك» ، وفي مصنف الترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إن للملك لمة وإن للشيطان لمة.

قال القاضي أبو محمد : وعن هاتين اللمتين هي الخواطر من الخير والشر ، فالأخذ بالواجب هذه الآية يصلح مع الاستعاذة ويصلح أيضا مع ما يقول فيه الكفار من الأقاويل فيغضبه الشيطان لذلك ، وعليم كذلك وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله : إن الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ


يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣)

(اتَّقَوْا) هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم ، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده ، وأيضا فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم‌السلام وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «طائف» ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «طيّف» ، وقرأ سعيد بن جبير «طيف» ، واللفظة إما من طاف يطوف وإما من طاف يطوف وإما من طاف يطيف بفتح الياء ، وهي ثابتة عن العرب ، وأنشد أبو عبيدة في ذلك :

أنى المّ بك الخيال يطيف

ومطافه لك ذكرة وشغوف

ف «طائف» اسم فاعل كقائل من قال يقول وكبائع من باع يبيع و «طيّف» اسم فاعل أيضا كميت من مات يموت أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين و «طيّف» يكون مخففا أيضا من طيف كميت من ميت ، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر ، وإلى هذا مال أبو علي الفارسي وجعل الطائف كالخاطر والطيف كالخطرة ، وقال الكسائي : الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان.

قال القاضي أبو محمد : وكيف هذا وقد قال الأعشى : [الطويل]

وتصبح عن غب السرى وكانّما

ألمّ بها من طائف الجن أولق

ومعنى الآية : إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي ، وقوله (تَذَكَّرُوا) إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل ، وإلى ما لله عزوجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها ، وقرأ ابن الزبير «من الشيطان تأملوا فإذا هم» ، وفي مصحف أبي بن كعب «إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا» ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الغضب جند من جند الجن ، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق؟ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض ، وقوله (مُبْصِرُونَ) من البصيرة أي فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه.

وقوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) الآية ، في هذه الضمائر احتمالات ، قال الزجاج : هذه الآية متصلة في المعنى بقوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) [الأعراف : ١٩٢].

قال القاضي أبو محمد : في هذا نظر ، وقال الجمهور : إن الآية مقدرة موضعها إلا أن الضمير في قوله (وَإِخْوانُهُمْ) عائد على الشياطين والضمير في قوله (يَمُدُّونَهُمْ) عائد على الكفار وهم المراد بالإخوان ، و (الشَّيْطانِ) في الآية قبل هذه للجنس فلذلك عاد عليهم هاهنا ضمير جميع فالتقدير على هذا التأويل وإخوان للشياطين يمدونهم الشياطين في الغي ، وقال قتادة إن الضميرين في الهاء والميم للكفار.

قال القاضي أبو محمد : فتجيء الآية على هذه معادلة للتي قبلها أي إن المتقين حالهم كذا وكذا وهؤلاء الكفار يمدهم إخوانهم من الشياطين ثم لا يقصرون ، وقوله (فِي الغَيِ) يحتمل أن يتعلق بقوله (يَمُدُّونَهُمْ) وعليه يترتب التأويل الذي ذكرنا أولا عن الجمهور ، ويحتمل أن يتعلق بالإخوان فعلى هذا


يحتمل أن يعود الضميران جميعا على الكفار كما ذكرناه عن قتادة ويحتمل أن يعودا جميعا على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغي بخلاف الأخوة في الله يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق في الغي بالإمداد لأن الإنس لا يغوون الشياطين ، والمراد بهذه الآية وصف حالة الكفار مع الشياطين كما وصف حالة المتقين معهم قبل ، وقرأ جميع السبعة غير نافع «يمدونهم» من مددت ، وقرأ نافع وحده «يمدونهم» بضم الياء من أمددت ، فقال أبو عبيدة وغيره : مد الشيء إذا كانت الزيادة من جنسه وأمده شيء آخر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير مطرد ، وقال الجمهور هما بمعنى واحد إلا أن المستعمل في المحبوب أمد فمنه قوله تعالى : (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) [المؤمنون : ٥٥] وقوله (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) [الطور : ٢٢] وقوله (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) [النمل : ٣٦] والمستعمل في المكروه مد فمنه قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) [البقرة : ١٥] ومد الشيطان للكفرة في الغي هو التزيين لهم والإغواء المتتابع : فمن قرأ في هذه الآية «يمدونهم» بضم الميم فهو على المنهاج المستعمل ، ومن قرأ «يمدونهم» فهو مقيد بقوله في الغي كما يجوز أن تقيد البشارة فتقول بشرته بشر ، وقرأ الجحدري «يمادّونهم» ، وقوله (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) عائد على الجمع أي هؤلاء لا يقصرون في الطاعة للشياطين والكفر بالله عزوجل ، وقرأ جمهور الناس «يقصرون» من أقصر ، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر «يقصرون» من قصر.

وقوله (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا ، فكان الكفار يقولون هلا اجتبيتها ، ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد وغيرهم : المراد بهذه اللفظة هلا اخترتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك. والمعنى إذ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تزعمه ، وقال ابن عباس أيضا والضحاك :

المراد هلا تلقيتها من الله وتخيرتها عليه ، إذ تزعم أنك نبي وأن منزلتك عنده منزلة الرسالة ، فأمره الله عزوجل أن يجيب بالتسليم لله تعالى وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء لا معقب لحكمه في ذلك فقال (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ثم أشار بقوله هذا إلى القرآن ، ثم وصفه بأنه (بَصائِرُ) أي علامات هدى وأنوار تضيء القلوب ، وقالت فرقة : المعنى هذا ذو بصائر ، ويصح الكلام دون أن يقدر حذف مضاف لأن المشار إليه بهذا إنما هو سور وآيات وحكم ، وجازت الإشارة إليه بهذا من حيث اسمه مذكر ، وجاز وصفه ب (بَصائِرُ) من حيث هو سور وآيات ، (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي لهؤلاء خاصة ، قال الطبري : وأما من لا يؤمن فهو عليه عمى عقوبة من الله تعالى.

قوله عزوجل :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ


رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

ذكر الطبري وغيره أن سبب هذه الآية هو أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم ويصيحون عند آيات الرحمة والعذاب ويقول أحدهم إذا أتاهم صليتم؟ وكم بقي؟ فيخبرونه ونحو هذا ، فنزلت الآية أمرا لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة ، وأما قول من قال إنها في الخطبة فضعيف ، لأن الآية مكية ، والخطبة لم تكن إلا بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، وكذلك ما ذكر الزهراوي أنها نزلت بسبب فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ ، فأما الاستماع والإنصات عن الكلام في الصلاة فإجماع ، وأما الإمساك والإنصات عن القراءة فقالت فرقة : يمسك المأموم عن القراءة جملة قرأ الإمام جهرا أو سرا ، وقالت فرقة : يقرأ المأموم إذا أسر الإمام ويمسك إذا جهر ، وقالت فرقة : يسمك المأموم في جهر الإمام عن قراءة السورة ويقرأ فاتحة الكتاب.

قال القاضي أبو محمد : ومع هذا القول أحاديث صحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذه الآية واجبة الحكم في الصلاة أن ينصت عن الحديث وما عدا القراءة واجبة الحكم أيضا في الخطبة من السنة ، لا من هذه الآية ، ويجب من الآية الإنصات إذا قرأ الخطيب القرآن أثناء الخطبة وحكم هذه الآية في غير الصلاة على الندب أعني في نفس الإنصات والاستماع إذا سمع الإنسان قراءة كتاب الله عزوجل ، وأما ما تتضمنه الألفاظ وتعطيه من توقير القرآن وتعظيمه فواجب في كل حالة ، والإنصات السكوت ، و (لَعَلَّكُمْ) على ترجي البشر.

قال القاضي أبو محمد : ولم نستوعب اختلاف العلماء في القراءة خلف الإمام ، إذ ألفاظ الآية لا تعرض لذلك ، لكن لما عن ذلك في ذكر السبب ذكرنا منه نبذة ، وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله عزوجل (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) قال الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول جمع فيه ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات ، قال الزجّاج : ويجوز أن يكون (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.

وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الآية ، مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعم جميع أمته وهو أمر من الله عزوجل بذكره وتسبيحه وتقديسه والثناء عليه بمحامده ، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان ، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ). فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ ، و (تَضَرُّعاً) معناه تذللا وخضوعا ، و (خِيفَةً) أصلها خوفة بدلت الواو ياء لأجل الكسرة التي تقدمتها ، وقوله (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) معناه دأبا وفي كل يوم وفي أطراف النهار ، وقالت فرقة هذه الآية كانت في صلاة المسلمين قبل فرض الصلوات الخمس ، وقال قتادة : «الغدو» صلاة الصبح و (الْآصالِ) صلاة العصر ، و (الْآصالِ) جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشيّ وقيل (الْآصالِ) جمع أصيل دون توسط كإيمان جمع يمين و «آصال» أيضا جمع أصاييل فهو جمع جمع الجمع ، وقرأ أبو مجلز


«والإيصال» مصدر كالإصباح والإمساء ، ومعناه إذا دخلت في الأصيل وفي الطبري قال أبو وائل لغلامه هل آصلنا بعد؟ (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) تنبيه ، ولما قال الله عزوجل (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) جعل بعد ذلك مثالا من اجتهاد الملائكة ليبعث على الجد في طاعة الله عزوجل ، وقوله (الَّذِينَ) يريد الملائكة ، وقوله (عِنْدَ) إنما يريد في المنزلة والتشريف والقرب في المكانة لا في المكان ، فهم بذلك عنده ، ثم وصف تعالى حالهم من تواضعهم وإدمانهم للعبادة والتسبيح والسجود ، وفي الحديث : أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد وهذا موضع سجدة ، قال النخعي في كتاب النقاش : إن شئت ركعت وإن شئت سجدت.


بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا

سورة الأنفال

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة الأنفال على بركة الله.

هي مدنية كلها كذا قال أكثر الناس ، وقال مقاتل هي مدنية غير آية واحدة وهي قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية : ٣٠] الآية كلها وهذه الآية نزلت في قصة وقعت بمكة ويمكن أن تنزل الآية في ذلك بالمدينة ، ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه.

قوله عزوجل :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

النفل والنفل والنافلة في كلام العرب الزيادة على الواجب ، وسميت الغنيمة نفلا لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عزوجل ، ومنه قول لبيد : [الرمل]

إنّ تقوى ربّنا خير نفل

أي خير غنيمة ، وقول عنترة :

إنّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا

ونعفّ عند مقاسم الأنفال

والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسئول ، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه ، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم «الأنفال» فهو من الضرب الأول ، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها ، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء «يسألونك الأنفال» ، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى «من» ، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب (الْأَنْفالِ) في هذه الآية ، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة ، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة أقامت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العريش


الذي صنع له وحمته وآنسته ، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا ، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا.

وقال ابن عباس في كتاب الطبري : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال : من قتل قتيلا أو أسر أسيرا فله كذا وله كذا ، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها ، وقالت نحن أولى بالمغنم ، وساءت أخلاقهم في ذلك ، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا ، فقسمه حينئذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السواء ، وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن «الأنفال» فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقسمه عليه‌السلام عن بواء.

قال القاضي أبو محمد : يريد عن سواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلاح ذات البين ، مما جرى أيضا يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص ، قال :

لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله : هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه ، فقال : ليس هذا لي ولا لك ، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت عليه سورة الأنفال ، فقال : اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فهو لك.

قال القاضي أبو محمد : وفي بعض طرق هذا الحديث ، قال سعد : فقلت لما قال لي ضعه في القبض إني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي ، قال : فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خلفي ، قال فقلت أخاف أن يكون نزل فيّ شيء ، فقال : إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وأسند الطبري أيضا عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان يسمى المرزبان ، فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به ، فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمنع شيئا يسأله ، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاه إياه.

قال القاضي أبو محمد : فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة ، لا سيما من أبلى ، فأنزل الله عزوجل الآية ، فرضي المسلمون وسلموا ، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليهم غنائمهم ، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد : كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب ، ثم نسخ بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنفال : ٤١] وقال ابن زيد : لم يقع في الآية نسخ ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس ، وحكم القسمة نازل خلال ذلك ، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول.


قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس أيضا (الْأَنْفالِ) في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه ، وهذا أيضا يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر. وقال علي بن صالح بن جني والحسن فيما حكى المهدوي : (الْأَنْفالِ) في الآية ما تجيء به السرايا خاصة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة ، بل يجيء خارجا عن يوم بدر ، وقال مجاهد : (الْأَنْفالِ) في الآية الخمس ، قال المهاجرون : لم يخرج منا هذا الخمس ، فقال الله تعالى هو لله وللرسول ، وهذا أيضا قول قليل التناسب مع الآية ، وقال ابن عباس وعطاء أيضا : (الْأَنْفالِ) في الآية ما شد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس والغائر والعبد الآبق هو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع فيه ما شاء ، وقال ابن عباس أيضا : (الْأَنْفالِ) في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله.

قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا ، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف ، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه ، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال : (الْأَنْفالِ) الأسارى.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم ، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئا من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب من الاختلاف ، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الجمهور : النفل باق إلى يوم القيامة ، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب ، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة : إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة ، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده ، وقالت فرقة : إنما ينفل الإمام قبل القتال ، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا ، وقال الشافعي وابن حنبل : لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس ، وقال إبراهيم النخعي : ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس ، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي : لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس : وقال ابن المسيب : إنما ينفل الإمام من خمس الخمس ، وقال مالك رحمه‌الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا ، ولا أحب لأحد أن يسفك دما على مثل هذا ، قال سحنون : فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة.

وقال مالك رحمه‌الله : لا يجوز أن يقول الإمام لسرية : ما أخذتم فلكم ثلثه ، قال سحنون : يريد ابتداء ، فإن نزل مضى ولهم أنصباؤهم في الباقي ، وقال سحنون : إذا قال الإمام لسرية : ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه ، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى ، ويستحب على مذهب مالك إن


نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف ، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا أو نحو هذا ، وقال بعضهم : النفل جائز من كل شيء ، وأما السلب فقال مالك رحمه‌الله : الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره ، وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر : السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر : قال الإمام أولم يقله ، وقال مالك : إذا قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه فذلك لازم ، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد ، وقال الشافعي وابن حنبل : تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة ، وقال إسحاق بن راهويه : إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل وإن كان كثيرا خمس ، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا ، فخمس ذلك ، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود ، وقال مكحول : السلب مغنم وفيه الخمس ، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد : يريد يخمس على القاتل وحده ، وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم : ويجزىء شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة ، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال الشافعي : لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلا مشيحا مبارزا ، وأما من قتل منهزما فلا ، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف : للقاتل السلب منهزما كان القتيل أو غير منهزم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلبه ، وقال ابن حنبل : لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط ، واختلفوا في السلب ، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافا أنه من السلب ، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه ، وقال أحمد بن حنبل في الفرس : ليس من السلب ، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دنانير أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافا أنه ليس من السلب ، واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار ، فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب ، وقالت : فرقة : ليس من السلب ، وهذا مروي عن سحنون رحمه‌الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب ، قال ابن حبيب في الواضحة : والسوارين من السلب ، ويرجح الشافعي هل هذه كلها من السلب أو لا؟

قال القاضي أبو محمد : وإذا قال الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه فقتل ذمي قتيلا فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ أهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب ، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلا فله سلبه.

قال القاضي أبو محمد : وأما الصفي فكان خالصا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله عزوجل :


(فَاتَّقُوا اللهَ) معناها في الكلام ، اجعل بينك وبين المحذور وقاية ، وقوله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح ، و (ذاتَ) في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته ، والذي يفهم من (بَيْنِكُمْ) هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه ، فحض الله عزوجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم ، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه ، وذلك في قوله : (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الأنفال : ٤٣] و (ذاتِ الشَّوْكَةِ) [الأنفال : ٧] فإنها هاهنا مؤنثة قولهم : الذئب مغبوط بذي بطنه ، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه ، وقد تقال الذات أيضا بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا ، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ، ومنه قول الشاعر : [البسيط].

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

ذات العشاء ولا تسري أفاعيها

وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال : (ذاتَ بَيْنِكُمْ) الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء.

قال القاضي أبو محمد : ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض ، وقال الزجاج البين هاهنا الوصل ، ومثله قوله عزوجل : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤].

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا كله نظر ، وقوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عند ما ينفذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغنائم ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلا فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم (وَأَطِيعُوا) هذا عند سيبويه ، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط.

قوله عزوجل :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

(إِنَّمَا) لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع ، ويصلح مع ذلك للحصر ، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب كقوله (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الأنبياء : ١٠٨ ، فصلت : ٦] وغير ذلك من الأمثلة ، وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت «إنما» للمبالغة والتأكيد فقط ، كقوله عليه‌السلام «إنما الربا في النسيئة» ، وكقوله «إنما الشجاع عنترة» ، وأما من قال «إنما» ، هي لبيان الموصوف فهي عبارة فاترة إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإخبار دون «إنما» ، وقوله هاهنا (إِنَّمَا


الْمُؤْمِنُونَ) ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط أي الكاملون ، (وَجِلَتْ) معناه فزعت ورقت وخافت وبهذه المعاني فسرت العلماء ، وقرأ ابن مسعود «فرقت» ، وقرأ أبي بن كعب «فزعت» ، يقال وجل يوجل ويأجل وييجل وهي شاذة وييجل بكسر الياء الأولى ووجه هذه أنهم لما أبدلوا الواو ياء لم يكن لذلك وجه قياس ، فكسروا الياء الأولى ليجيء بدل الواو ياء لعلة ، حكى هذه اللغات الأربع سيبويه رحمه‌الله ، و (تُلِيَتْ) معناه سردت وقرئت ، والآيات هنا القرآن المتلو ، وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج عن نفس التصديق ، منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكما من أحكام الله في القرآن فنزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعه فآمن به ، زاد إيمانا إلى سائر ما قد آمن به ، إذ لكل حكم تصديق خاص ، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة ، وتترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل ، ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص وتترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات.

وهؤلاء يقولون يزيد وينقص ، وقوله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز ، وينتظر بعد ما تكفل له به من نصر أو رزق أو غيره ، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل ، ثم أتبع ذلك وعدهم ووسمهم بإقامة الصلاة ومدحهم بها حضا على ذلك ، وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال جماعة من المفسرين : هي الزكاة.

قال القاضي أبو محمد : وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة وإلا فهو لفظ عام في الزكاة ونوافل الخير وصلاة المستحقين ، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل ، وقوله «أولئك هم المؤمنين حقا» يريد كل المؤمنين ، و (حَقًّا) مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه ، وهو المصدر غير المتنقل ، والعامل فيه أحق ذلك حقا. وقوله (دَرَجاتٌ) ظاهره ، وهو قول الجمهور ، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم ، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا ، وقوله (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يريد به مآكل الجنة ومشاربها ، و (كَرِيمٌ) صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم.

قوله عزوجل :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧)

اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله (كَما) حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله ، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان ، وأنا أبدأ بهما ، قال الفراء : التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك ، هذا نص قوله في هداية مكي


رحمه‌الله ، والعبارة بقوله : امض لأمرك ونفل من شئت غير محررة ، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال ، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم ، فكانت فيه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخرجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة ، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم هاهنا للخروج ، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيته ، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله ، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله (يُجادِلُونَكَ) كلاما مستأنفا يراد به الكفار ، أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها ، كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي ذكرت من أن (يُجادِلُونَكَ) في الكفار منصوص والقول الثاني قال مجاهد والكسائي وغيرهما : المعنى في هذه الآية كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم.

قال القاضي أبو محمد : والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك ، فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهية وكذلك وقع التشبيه في المعنى ، وقائل هذه المقالة يقول إن المجادلين هم المؤمنون ، وقائل المقالة الأولى يقول إن المجادلين هم المشركون ، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ وقال الأخفش : الكاف نعت ل (حَقًّا) [الأنفال : ٤] ، والتقدير هم المؤمنون حقا كما أخرجك.

قال القاضي أبو محمد : والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق وقيل الكاف في موضع رفع والتقدير : كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر.

قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر ، وقال أبو عبيدة : هو قسم أي لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك بتقدير والذي أخرجك ، فالكاف في معنى الواو و «ما» بمعنى الذي ، وقال الزجّاج : الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لك ثباتا كما أخرجك ربك ، وقيل : الكاف في موضع رفع والتقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حق كما أخرجك ، وقيل المعنى : وأصلحوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك ، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف ، وقيل التقدير : قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك ، وهذا نحو أول قول ذكرته ، وقال عكرمة : التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك أي الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيرا لكم ، وقوله : (مِنْ بَيْتِكَ) يريد من المدينة يثرب ، قاله جمهور المفسرين وقال ابن بكير : المعنى كما أخرجك من مكة وقت الهجرة ، وقرأ عبد الله بن مسعود : «في الحق بعد ما بين» بضم الباء من غير تاء ، والضمير في قوله (يُجادِلُونَكَ) ، قيل : هو للمؤمنين وقيل : للمشركين ، فمن قال للمؤمنين جعل (الْحَقِ) قتال مشركي قريش ، ومن قال للمشركين جعل (الْحَقِ) شريعة الإسلام ، وقوله (إِلَى الْمَوْتِ)


أي في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون ، وقوله (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله.

وقوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) الآية ، في هذه الآية قصص حسن أنا أختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن هشام ، واختصاره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه وقيل أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها ، قال لأصحابه إن عير قريش قد عنت لكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها ، قال فانبعث من معه من خف ، وثقل قوم وكرهوا الخروج وأسرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلوي على من تعذر ولا ينتظر من غاب ظهره ، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري ، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلقى حربا فلم يكثر استعدادهم ، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر ، فلما بلغه خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستنفر أهلها ، ففعل ضمضم ، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك ، فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خروجهم ، أوحى الله إليه وحيا غير متلو يعده إحدى الطائفتين ، فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بذلك ، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها ، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ طريق الساحل وأبعد وفات ولم يبق إلا لقاء أهل مكة ، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا عيرنا قد نجت فلننصرف ، فحرش أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة ، وقال بعض المؤمنين : نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له ، فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وهو بواد يسمى ذفران ، وقال أشيروا علي أيها الناس ، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو ، فأعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستشارة فقام عمر بمثل ذلك ، فأعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستشارة فتكلم المقداد الكندي فقال : لا نقول لك يا رسول الله اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول إنا معكما مقاتلون. والله لو أردت بنا برك الغماد.

قال القاضي أبو محمد : وهي مدينة الحبشة لقاتلنا معك من دونها ، فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلامه ودعا له بخير ، ثم قال أشيروا علي أيها الناس فكلمه سعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة.

قال القاضي أبو محمد : ويمكن أنهما جميعا تكلما في ذلك اليوم ، فقال يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجل ، فقال إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله ، فو الله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم ، فالتقوا وكانت وقعة بدر ، وقرأ مسلمة بن محارب «وإذ يعدكم» بجزم الدال ، قال أبو الفتح ذلك لتوالي الحركات ، وقرأ ابن محيصن «وإذ يعدكم الله احدى الطائفتين» بوصل الألف من (إِحْدَى) وصلة الهاء بالحاء ، و (الشَّوْكَةِ) عبارة عن السلاح والحدة ، ومنه قول الأعور : [الرجز]

إن العرفج قد أدبى

وقرأ أبو عمرو فيما حكى أبو حاتم (الشَّوْكَةِ تَكُونُ) بإدغام التاء في التاء ، ومعنى الآية وتودون العير


وتأبون قتال الكفار ، وقوله (وَيُرِيدُ اللهُ) الآية ، المعنى ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم «بكلمته» على الإفراد الذي يراد به الجمع ، والمعنى في قوله (بِكَلِماتِهِ) إما أن يريد بأوامره وأمره للملائكة والنصر لجميع ما يظهر الإسلام أن يكون ، وإما أن يريد بكلماته التي سبقت في الأزل والمعنى قريب ، و «الدابر» الذي يدبر القوم أي يأتي في آخرهم ، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم ، وهي عبارة في كل من أ؟ ى الهلاك عليه.

قوله عزوجل :

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠)

(لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي الكفر ، (وَلَوْ كَرِهَ) أي وكراهتهم واقعة فهي جملة في موضع الحال ، وقوله : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الآية ، (إِذْ) متعلقة بفعل ، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ) [الأنفال الآية : ٧] وقال الطبري : هي متعلقة ب (لِيُحِقَ) .. و (يُبْطِلَ).

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يعمل فيها (يَعِدُكُمُ) [الأنفال : ٧] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم ، و (تَسْتَغِيثُونَ) معناه تطلبون ، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم ، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى ، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال ، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك ، وقرأ جمهور الناس «أني» بفتح الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني» بكسر الألف أي قال إني ، و (مُمِدُّكُمْ) ، أي مكثركم ومقويكم من أمددت. وقرأ جمهور الناس «بألف» وقرأ عاصم الجحدري «بأألف» على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف ، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران ، وقرأ عاصم الجحدري أيضا «بآلاف» و (مُرْدِفِينَ) معناه متبعين ، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف (مُرْدِفِينَ) على هذا حال من الضمير في قوله (مُمِدُّكُمْ) ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم ببعض ، وهذه القراءة بفتح الدال وهي قراءة نافع وجماعة من أهل المدينة وغيرهم ، وقرأ سائر السبعة غير نافع «مردفين» بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضا ، وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك ، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء ، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين.

ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضا ، ومن قال «مردفين» بمعنى أن كل ملك أردف ملكا وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية ، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مردّفين» بفتح الراء وكسر الدال وشدها.


وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك ، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك ، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه ، وحكاه أبو حاتم قال : كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ، ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة ، وأنشد الطبري شاهدا على أن أردف بمعنى جاء تابعا قول الشاعر [خزيمة بن مالك] : [الوافر]

إذا الجوزاء أردفت الثّريّا

ظننت بآل فاطمة الظّنونا

والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر ، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيل : لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف ، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها ، وقال ابن عباس : كانا في خمسمائة خمسمائة ، وقال الزجّاج : قال بعضهم : إن الملائكة خمسة آلاف ، وقال بعضهم : تسعة آلاف ، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ) الآية ، الضمير في (جَعَلَهُ) عائد على الوعد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى ، وقال الزجّاج : الضمير عائد على المدد ، ويحتمل أن يعود على الإمداد ، وهذا يحسن مع قول من يقول إن الملائكة لم تقاتل وإنما أنست بحضورها مع المسلمين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي ضعيف ترده الأحاديث الواردة بقتال الملائكة وما رأى من ذلك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كابن مسعود وغيره ، ويحتمل أن يعود على الإرداف وهو قول الطبري ، وهذا أيضا يجري مجرى القول الذي قبله ويحتمل أن يعود على «الألف» وهذا أيضا كذلك ، لأن البشرى بالشيء إنما هي ما لم يقع بعد ، و «البشرى» مصدر من بشرت ، والطمأنينة السكون والاستقرار وقوله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) توقيف على أن الأمر كله لله وأن تكسب المرء لا يغني إذا لم يساعده القدر وإن كان مطلوبا بالجد كما ظاهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين درعين ، وهذه القصة كلها من قصة الكفار وغلبة المؤمنين لهم تليق بها من صفات الله عزوجل العزة والحكمة إذا تؤمل ذلك.

قوله عزوجل :

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢)

العامل في (إِذْ) هو العامل الذي عمل في قوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ) [الأنفال : ٧] بتقدير تكراره لأن


الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف ، وإنما القصد أن تعدد نعمة الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال : واذكروا إذ فعلنا كذا وقال الطبري : العامل في (إِذْ) قوله (وَلِتَطْمَئِنَ) [الأنفال : ١٠].

قال القاضي أبو محمد : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، ولو جعل العامل في (إِذْ) شيئا قريبا مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في (إِذْ حَكِيمٌ) [الأنفال : ١٠] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عزوجل ، وقرأ نافع «يغشيكم» بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح ، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي «يغشّيكم» بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم» بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة «النعاس» بالرفع ، وحجة من قرأ «يغشاكم» إجماعهم في آية أحد على (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٥٤] ، وحجة من قرأ «يغشيكم» أن يجيء الكلام متسقا مع (يُنَزِّلُ) ، ومعنى (يُغَشِّيكُمُ) يغطيكم به ويفرغه عليكم ، وهذه استعارة و (النُّعاسَ) أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماش ، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا نعس أحدكم في صلاته» الحديث ، وينص على ذلك قول الشاعر [ابن الرقاع] : [الكامل]

وسنان أقصده النعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم

وقوله (أَمَنَةً) مصدر من أمن الرجل يأمن أمنا وأمنة وأمانا ، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة ، وقرأ ابن محيصن «أمنة» بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله ، وهو في الصلاة من الشيطان.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده ، وقوله (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) تعديد أيضا لهذه النعمة في المطر ، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره ، وقاله الزجّاج : إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم ـ بإلقاء الشيطان إليهم ـ نزعم أنّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر.

وتدمثت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت قالوا : فهذا معنى قوله (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي من الجنابة ، (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر ، والرجز العذاب ، وقرأ أبو العالية «رجس» بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر ، وقرأ ابن محيصن «رجز» بضم الراء ، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهب» بجزم الباء ، (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم : رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أي في الرملة الدهسة التي كان المشي فيها صعبا.


قال القاضي أبو محمد : والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر ، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أول ماء ، فقال له حباب : أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟ الحديث المستوعب في السيرة.

قال القاضي أبو محمد : ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك ، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم ، وهذا قبل الترائي بالأعين ، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان وتدمت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء ، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم ، فسر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم ، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت ، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين.

قال القاضي أبو محمد : هذا أحد ما يحتمله قوله (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) والضمير في (بِهِ) على هذا الاحتمال عائد على الماء ، ويحتمل أن يعود الضمير في (بِهِ) على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب ، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول.

قال القاضي أبو محمد : ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط ، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ «وينزل عليكم من السماء ما» ساكنة الألف (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) قال : وهي بمعنى الذي.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وقرأ ابن المسيب «ليطهركم به» بسكون الطاء ، وقوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) الآية ، العامل في (إِذْ) العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ، ولو قدرناه قريبا لكان قوله (وَيُثَبِّتَ) على تأويل عود الضمير على الربط ، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل (وَيُثَبِّتَ) في (إِذْ) ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه «إني معكم» بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة ، وقرأ جمهور الناس «أني» بفتح الألف على أنها معمولة ل (يُوحِي) ، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول ، وقوله (فَثَبِّتُوا) يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي.

ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك ، ويحتمل أن يريد : فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب ، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين : لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن ، ويقول آخر : ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا. ويقول آخر : أقدم يا فلان ، ونحو هذا من الأقوال المثبتة.


قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أيضا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد.

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل يجيء قوله (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) مخاطبة للملائكة ، ثم يجيء قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حربا لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون (سَأُلْقِي) إلى آخر الآية خبرا يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعا لهم وحضا على نصرة الدين ، وقرأ الأعرج «الرعب» بضم العين والناس على تسكينها ، واختلف الناس في قوله (فَوْقَ الْأَعْناقِ) ، فقال الأخفش (فَوْقَ) زيادة ، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق وقال غيره بمعنى على ، وقال عكرمة مولى ابن عباس : هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق ، وقال المبرد : وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل أنبلها ، ويحتمل عندي أن يريد بقوله (فَوْقَ الْأَعْناقِ) وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ، ومثله قول الشاعر : [الوافر].

جعلت السيف بين الجيد منه

وبين أسيل خديه عذارا

فيجيء على هذا (فَوْقَ الْأَعْناقِ) متمكنا ، وقال ابن قتيبة (فَوْقَ) في هذه الآية بمعنى دون ، وهذا خطأ بين ، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى : (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] أي فما دونها.

قال القاضي أبو محمد : وليست (فَوْقَ) هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال (بَنانٍ) قالت فرقة : هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء ، فالمعنى على هذا واضربوا منهم في كل موضع ، وقالت فرقة : البنان الأصابع ، وهذا هو القول الصحيح ، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحا فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال.

قوله عزوجل :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)


ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦)

هذا الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمؤمنون داخلون فيه بالمعنى والضمير في (بِأَنَّهُمْ) عائد على الذين كفروا ، و (شَاقُّوا) معناه خالفوا ونابذوا وقطعوا ، وهو مأخوذ من الشق وهو القطع والفصل بين شيئين ، وهذه مفاعلة فكأن الله لما شرع شرعا وأمر بأوامر وكذبوا هم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق ، مأخوذ من هذا لأنه مع شقه الآخر تباعدا وانفصلا وعبر المفسرون عن قوله (شَاقُّوا) أي صاروا في شق غير شقه.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان معناه صحيحا فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه ، والمثال الأول إنما هو الشّق بفتح الشين ، وأجمعوا على الإظهار في (يُشاقِقِ) اتباعا لخط المصحف ، وقوله (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) جواب الشرط تضمن وعيدا وتهديدا ، وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) المخاطبة للكفار ، أي ذلكم الضرب والقتل وما أوقع الله بهم يوم بدر ، فكأنه قال الأمر ذلكم فذوقوه وكذا فسره سيبويه ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون (ذلِكُمْ) في موضع نصب كقوله زيدا فاضربه ، وقرأ جمهور الناس «وأن» بفتح الألف ، فإما على تقدير وحتم أن. فيقدر على ابتداء محذوف يكون «أن» خبره ، وإما على تقدير واعلموا أن ، فهي على هذا في موضع نصب ، وروى سليمان عن الحسن بن أبي الحسن و «إن» على القطع والاستئناف ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) الآية ، (زَحْفاً) يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص ، أي يزحف بعضهم إلى بعض ، وأصل الزحف الاندفاع على الألية ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويدا زاحفا ، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف ، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد نار الزحفتين ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر : [البسيط]

كأنهنّ بأيدي القوم في كبد

طير تكشف عن جون مزاحيف

ومنه قول الفرزدق : [البسيط]

على عمائمنا تلقى وأرجلنا

على مزاحيف تزجى مخها رير

ومنه قول الآخر [الأعشى] : [الطويل]

من الظعائن سيرهنّ تزحّف

ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي : [الوافر]

كان مزاحف الحيّات فيه

قبيل الصبح آثار السياط


وأمر الله عزوجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار ، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم ، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة ، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب الله عزوجل : وهذا قول جمهور الأمة ، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضا الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم ، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ، لأنها بشعة على الفار ذامة له ، وقرأ الجمهور «دبره» بضم الباء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبره» بسكون الباء ، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله (يَوْمَئِذٍ) فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه ، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف ، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال فيهم يوم حنين : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] ولم يقع على ذلك تعنيف.

قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب (يَوْمَئِذٍ) إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله (إِذا لَقِيتُمُ) وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة ، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفوا عن كبيرة ، و (مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ونصبه على الحال ، وكذلك نصب متحيز ، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم (مَنْ) ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي.

قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفا وتحيزا ، والفئة هاهنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب ، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة ، وأما على القول الآخر فتكون الفئة المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون.

قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مرارا ، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه : «أنا فئة المسلمين» حين قدموا عليه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اتقوا السبع الموبقات» وعدد فيها الفرار من الزحف ، و (باءَ) بمعنى نهض متحملا للثقل المذكور في الكلام غضبا كان أو نحوه ، والغضب من صفات الله عزوجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفة ذات ، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل ، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية ، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان.


قوله عزوجل :

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨)

هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليس هم مستبدين بالقتل ، لأن القتل بالإقدار عليه ، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء ، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده ، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم ، وسبب هذه الآية فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل ، فقال قتلت كذا وفعلت كذا فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية ، وقوله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) يراد به ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله يومئذ ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب ، فرمى بها في وجوه القوم وتلقاهم ثلاث مرات فانهزموا عند آخر رمية ، ويروى أنه قال يوم بدر : شاهت الوجوه ، وهذه الفعلة أيضا كانت يوم حنين بلا خلاف ، وروي أن التراب الذي رمى به لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء ، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث.

قال القاضي أبو محمد : فيحتمل قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ما قلناه في قوله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) وذلك منصوص في الطبري وغيره ، وهو خارج في كلام العرب على معنى وما رميت الرمي الكافي إذ رميت ، ونحوه قول العباس بن مرداس : [المتقارب]

فلم أعط شيئا ولم أمنع

أي لن أعط شيئا مرضيا ويحتمل أن يريد ، وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك ، ولكن الله رماه وهذا أيضا منصوص في المهدوي وغيره ، ويحتمل أن يريد وما أغنيت إذ رميت حصياتك ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك ، والعرب تقول في الدعاء : رمى الله لك ، أي أعانك وصنع لك.

وحكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقرأت فرقة «ولكنّ الله رمى» بتشديد النون ، وفرقة «ولكن الله» بتخفيفها ورفع الهاء من «الله» ، (وَلِيُبْلِيَ) أي ليصيبهم ببلاء حسن ، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة ، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلا ، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء ، وغيرهم ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لاستغاثتكم ، (عَلِيمٌ) بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو ، وحكى الطبري: أن المراد بقوله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) رمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحربة على أبي بن خلف يوم أحد.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر ، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد ، وحكي أيضا أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حصن خيبر فصار في الهويّ حتى أصاب ابن أبي الحقيق فقتله وهو على فراشه ، وهذا فاسد ، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير ، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا ، فهذان القولان ضعيفان لما


ذكرناه ، وقوله (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم ، وموضع (ذلِكُمْ) من الإعراب رفع ، قال سيبويه : التقدير الأمر ذلكم ، وقال بعض النحويين : يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلكم (وَأَنَ) معطوف على (ذلِكُمْ) ، ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مقدر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا ، وقرأت فرقة «وإن» بكسر الهمزة على القطع والاستئناف. و (مُوهِنُ) معناه مضعف مبطل ، يقال وهن الشيء مثل وعد يعد ، ويقال وهن مثل ولي يلي ، وقرىء (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ) [آل عمران : ١٤٦] بكسر الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «موهن كيد» من أوهن ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «موهن كيد» من وهن ، وقرأ حفص عن عاصم «موهن كيد» بكسر الدال والإضافة ، وذكر الزجّاج أن فيها أربعة أوجه فذكر هذه القراءات الثلاث ، وزاد «موهّن كيد» بتشديد الهاء والإضافة إلا أنه لم ينص أنها قراءة.

قوله عزوجل :

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٢١)

قال بعض المتأولين : هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين يوم بدر ، قال الله لهم : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم ، وقد حكم الله لكم ، (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم (وَإِنْ تَعُودُوا) لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم ، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته ، ثم أنسهم بقوله وإيجابه ، أنه مع المؤمنين ، وقال أكثر المتأولين : هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة ، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يدعو أبدا في محافل قريش ، ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأهلكه واجعله المغلوب ، يريد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإياهم ، وروي أن قريشا لما عزموا على الخروج إلى حماية العير تعلقوا بأستار الكعبة واستفتحوا ، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر : اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأظهر خير الدينين عندك ، اللهم أقطعنا للرحم فاحنه الغداة ، ونحو هذا فقال لهم الله : إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم أي كما ترونه عليكم لا لكم.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا توبيخ ، ثم قال لهم (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن كفركم وغيكم (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ثم أخبرهم أنهم إن عادوا للاستفتاح عاد بمثل الوقعة يوم بدر عليهم ، ثم أعلمهم أن فئتهم لا تغني شيئا وإن كانت كثيرة ، ثم أعلمهم أنه مع المؤمنين.

وقالت فرقة من المتأولين : قوله و (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) ، هي مخاطبة للمؤمنين ، وسائر الآية مخاطبة للمشركين ، كأنه قال وأنتم الكفار إن تنتهوا فهو خير لكم ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي


بكر وأبي عمرو وحمزة والكسائي «وإن الله» بكسر الهمزة على القطع ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص «وأن» بفتح الألف ، فإما أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محذوف ، وإما في موضع نصب بإضمار فعل وما ذكره الطبري من أن التقدير لكثرتها ولأن الله مع المؤمنين محتمل المعنى ، وفي قراءة ابن مسعود : «ولو كثرت والله مع المؤمنين». وهذا يقوي قراءة من كسر الألف ، من «إن» وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، الخطاب للمؤمنين المصدقين ، جدد عليهم الأمر بطاعة الله والرسول ونهوا عن التولي عنه ، وهذا قول الجمهور ، ويكون هذا متناصرا مع قول من يقول : إن الخطاب بقوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) هو للمؤمنين ، فيجيء الكلام من نمط واحد في معناه ، وأما على قول من يقول إن المخاطبة ب (إِنْ تَنْتَهُوا) هي للكفار فيرى أن هذه الآية إنما نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وكراهيتهم خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم ، وقالت فرقة : الخطاب بهذه الآية إنما هو للمنافقين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدا لأجل أن الله وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان ، والإيمان التصديق ، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء ، وقيل إن الخطاب لبني إسرائيل ، وهذا أجنبي من الآية ، و (تَوَلَّوْا) أصله تتولوا لأن تفعل دخلت عليه تاء المخاطب بالفعل المستقبل فحذفت الواحدة ، والمحذوفة هي تاء تفعل ، والباقية هي تاء العلامة ، لأن الحاجة إليها هنا أمس ليبقى الفعل مستقبلا ، وقوله (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) يريد دعاءه لكم بالقرآن والمواعظ والآيات ، وقوله (كَالَّذِينَ قالُوا) يريد الكفار ، فإما من قريش لقولهم (سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٨] وإما الكفار على الإطلاق الذين يقولون سمعنا القرآن وعلمنا أنه سحر أو شعر وأساطير بحسب اختلافهم ، ثم أخبر الله عنهم خبرا نفى به أنهم سمعوا أي فهموا ووعوا ، لأنه لا خلاف أنهم كانوا يسمعون التلاوة بآذانهم ولكن صدورهم مطبقة لم يشرحها الله عزوجل لتلقي معاني القرآن والإيمان به.

قوله عزوجل :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤)

المقصود بهذه الآية أن يبين أن هذه الصنيفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله عزوجل ، وأنها أخس المنازل لديه ، وعبر ب (الدَّوَابِ) ليتأكد ذمهم وليفضل عليهم الكلب العقور والخنزير ونحوهما من السبع ، والخمس الفواسق وغيرها ، و (الدَّوَابِ) كل ما دب فهو جميع الحيوان بجملته ، وقوله (الصُّمُّ الْبُكْمُ) عبارة عما في قلوبهم وقلة انشراح صدورهم وإدراك عقولهم ، فلذلك وصفهم بالصم والبكم وسلب العقل ، وروي أن هذه الآية نزلت في طائفة من بني عبد الدار وظاهرها العموم فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بهذه الأوصاف ، ثم أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من


قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم في قوله (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) والمراد لأسمعهم إسماع تفهيم وهدى ، ثم ابتدأ عزوجل الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) أي ولو أفهمهم (لَتَوَلَّوْا) بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : المعنيّ بهذه الآية المنافقون ، وضعفه الطبري وكذلك هو ضعيف.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية ، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، و (اسْتَجِيبُوا) بمعنى أجيبوا ، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام ، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر : [الطويل]

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) قال مجاهد والجمهور : المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل ، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام ، وقيل (لِما يُحْيِيكُمْ) معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحيي بالعزة والغلبة والظفر ، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت ، ويحيي أيضا كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، وقال النقاش : المراد إذا دعاكم للشهادة.

قال القاضي أبو محمد : فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) يحتمل وجوها ، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات ، ويلتئم مع هذا التأويل قوله (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر ، ومنها أن يقصد بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه.

قال القاضي أبو محمد : فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر ، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ، حكي هذا التأويل عن قتادة ، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم ، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم ، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس ، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوة على طاعة إلا بالله ، وقال المفسرون في ذلك أقوالا هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري ، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا ، وقرأ ابن أبي إسحاق «بين المرء» بكسر الميم ذكره أبو


حاتم ، قال أبو الفتح : وقرأ الحسن والزبيدي «بين المرّ» بفتح الميم وشد الراء المكسورة ، و (تُحْشَرُونَ) أي تبعثون يوم القيامة ، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته ، فلما جاءه قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما سمعت فيما يوحى إلي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) فقال أبيّ : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبدا إلا أجبتك ، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه ، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى ، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق.

قوله عزوجل :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦)

هذه الآية تحتمل تأويلات ، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط ، بل تصيب الكل من ظالم وبريء ، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه ، فإنه قال يوم الجمل وما علمت أنّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت ، وكذلك تأول الحسن البصري ، فإنه قال : هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير ، وكذلك تأول ابن عباس ، فإنه قال : أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بيانا شافيا.

قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله (لا تُصِيبَنَ) على هذا التأويل صفة ل (فِتْنَةً) ، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج : زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي ، قال ومثله قوله تعالى : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) [النمل : ١٨] فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن ، وقال قوم : هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون ، وقال المهدوي : وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن ، ودخلت النون مع لا حملا على دخولها مع اللام فقط.

قال القاضي أبو محمد : وهذا في القول تكره ، لأن جواب القسم إذا دخلته «لا» أو كان منفيا في الجملة لم تدخل النون ، وإذا كان موجبا دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد ، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) خطابا عاما لجميع المؤمنين مستقلا بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول.


والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك هاهنا يريدون لا تقم هاهنا فتقع مني رؤيتك ، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه ، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم ، نحا إليه ، الزجّاج ، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء ، ونهي الظلمة هاهنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط ، و (خَاصَّةً) نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة ، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في (تُصِيبَنَ) وهذا الفعل هو العامل ، ويحتمل أن تكون (خَاصَّةً) حالا من الضمير في (ظَلَمُوا) ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى ، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز «لتصيبن» باللام على جواب قسم ، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط ، قال أبو الفتح : يحتمل أن يراد بهذه القراءة «لا تصيبن» فحذف الألف من «لا» تخفيفا واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة ، «لا تصيبن» فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا تنطع في التحميل وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام ، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ «واتقوا فتنة أن تصيب» وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاما حسنا ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة.

وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله (لا تُصِيبَنَ) هي على معنى الدعاء ذكره الزهراوي وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) الآية ، هذه آية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين ، و (إِذْ) ظرف لمعمول (وَاذْكُرُوا) ، تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ، ولا يجوز أن تكون (إِذْ) ظرفا للذكر وإنما يعمل الذكر في (إِذْ) لو قدرناها مفعولة ، واختلف الناس في الحال المشار إليها بهذه الآية ، فقالت فرقة هي الأكثر : هي حال مكة في وقت بداءة الإسلام ، والناس الذين يخاف «تخطفهم» كفار مكة ، و «المأوى» على هذا التأويل المدينة والأنصار ، و «التأييد بالنصر» وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها ، و (الطَّيِّباتِ) الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به ، وقالت فرقة : الحال المشار إليها هي حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في غزوة بدر ، والناس الذين يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتخوف من بعضهم ، والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو ، و (الطَّيِّباتِ) الغنيمة.

قال القاضي أبو محمد : وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر ، وقال وهب بن منبه وقتادة : الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة ، فإنها كانت أعرى الناس أجساما وأجوعهم بطونا وأقلهم حالا ونعما ، والناس الذين يخاف «تخطفهم» على هذا التأويل فارس والروم ، و «المأوى» على هذا هو النبوءة والشريعة ، و «التأييد بالنصر» هو فتح البلاد وغلبة الملوك ، و (الطَّيِّباتِ) هي نعم المآكل والمشارب والملابس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ،


ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول ، وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب في هذه الآية في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإن تمثل أحد بهذه الآية لحالة العرب فتمثله صحيح ، وأما أن تكون حالة العرب هي سبب الآية فبعيد لما ذكرناه ، وقوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ترج بحسب البشر متعلق بقوله (وَاذْكُرُوا).

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠)

هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها ، قال الزهراوي : والمعنى لا تخونوا بغلول الغنائم ، وقال الزهراوي وعبد الله بن أبي قتادة : سبب نزولها أمر أبي حبابة ، وذلك أنه أشار لبني قريظة حين سفر إليهم إلى حلقه يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الذبح ، أي فلا تنزلوا ، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه ، الحديث المشهور ، وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئا حتى تيب عليه ، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله : سببها أن رجلا من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية ، فقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) معناه أظهروا الإيمان ، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقا أن لا يفعلوا فعل ذلك المنافق ، وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال : أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد : يشبه أن تمثل بالآية في قتل عثمان رحمه‌الله ، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات ، والخيانة التنقص للشيء باختفاء وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما ، مالا كان أو سرّا أو غير ذلك ، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر. وخيانة الرسول تنقص ما استحفظ ، وخيانات الأمانات هي تنقصها وإسقاطها ، والأمانة حال للإنسان يؤمن بها على ما استحفظ ، فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير ، وقيل المعنى وتخونوا ذوي أماناتكم ، وأظن الفارسي أبا علي حكاه ، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد ، وقوله (فِتْنَةٌ) يريد محنة واختبارا وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك ، وقوله (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدرا من مكاسب الدنيا.

وقوله تعالى : (وَتَخُونُوا) قال الطبري : يحتمل أن يكون داخلا في النهي كأنه قال : لا تخونوا الله


والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم ، قال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضا «وتخونوا أمانتكم» على إفراد الأمانة ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) الآية ، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له ، و (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) معناه فرقا بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم ، و «الفرقان» مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما ، ومنه قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان هاهنا بالنجاة ، وقال السدي ومجاهد معناه مخرجا ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه ، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار : [الخفيف]

بادر الأفق أن يغيب فلمّا

أظلم اللّيل لم يجد فرقانا

وقال الآخر : [الرجز]

ما لك من طول الأسى فرقان

بعد قطين رحلوا وبانوا

وقال الآخر : [الطويل]

وكيف أرجّي الخلد والموت طالبي

ومالي من كأس المنيّة فرقان

وقوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، يشبه أن يكون قوله (وَإِذْ) معطوفا على قوله (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال : ٢٦] ، وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام ، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب ، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية ، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله رسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم ، الحديث المشهور ، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية ، والمكر المخاتلة والتداهي ، تقول : فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلا وتسترا بما يريد ، ويقال أصل المكر الفتل ، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه ، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم : ممكورة ، فمكر قريش بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره ، وتدبير قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديما من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكرا وما استسروا به هو المكر ، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك ، قال : يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج ، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟ قال : ربي ، قال : إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هو يا عم يستوصي بي خيرا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى


اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره ، الحديث بطوله ، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة بسببه ، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب ، ففي القصة أن أبا جهل قال : الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلدا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد ، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها ، فيأخذون العقل ونستريح منه ، فقال النجدي : صدق الفتى ، هذا الرأي لا أرى غيره. فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ليلته ، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء ، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيثورون به ، فلما قام رأوا عليا فقالوا له أين صاحبك؟ قال : لا أدري. وفي السير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه ، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون ، قالوا محمدا ، قال إني رأيته الآن جائيا من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم ، فمد كل واحد يده إلى رأسه ، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجدوا عليا فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار ، ومعنى (لِيُثْبِتُوكَ) ليسجنوك فتثبت ، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير ، وقال ابن عباس ومجاهد : معناه ليوثقوك ، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك.

وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني «ليثّبتوك» وهذه أيضا تعدية بالتضعيف ، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «ليبيتوك» من البيات ، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة ، وقال أبو حاتم معنى (لِيُثْبِتُوكَ) أي بالجراحة ، كما يقال أثبتته الجراحة ، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحدا ، وقوله تعالى : (وَيَمْكُرُ اللهُ) معناه يفعل أفعالا منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع ، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله ، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عزوجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال ، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه ، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب ، وقوله (خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقدرهم وأعزهم جانبا.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما ، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها ، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح ، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو من واحد.

قوله عزوجل :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ


الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢)

الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على الكفار ، و «الآيات» هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله (تُتْلى) ، و (قَدْ سَمِعْنا) يريد وقد سمعنا هذا المتلو (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا) مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم ، أي قصصهم المكتوبة المسطورة ، و (أَساطِيرُ) جمع أسطورة ، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري ، لأنه كان يجيء أساطر دون ياء ، هذا هو قانون الباب ، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صياريف ، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث ، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة ، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل ، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار ، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت فيه آيات من كتاب الله ، وقتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صبرا بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل وكان أسره المقداد ، فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضرب عنقه قال المقداد : أسيري يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم ، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أغن المقداد من فضلك» ، فقال المقداد : هذا الذي أردت ، فضرب عنق النضر ، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل يوم بدر صبرا ثلاثة نفر ، المطعم بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط.

قال القاضي أبو محمد : وهذا وهم عظيم في خبر المطعم ، فقد كان مات قبل يوم بدر ، وفيه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كان المطعم حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له يعني أسرى بدر ، وقوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره ، وفيه نزلت هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم ، لأن النضر كان فيهم موسوما بالنبل والفهم مسكونا إلى قوله ، فكان إذا قال قولا قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبدا بعلمائهم وفقهائهم ، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد ، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الكرامة ، وعميت بصائرهم عن الهدى ، وصمموا على أن هذا ليس بحق ، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن ، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع ، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق ، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة ، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان.


قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل ، ويجوز في العربية رفع (الْحَقَ) على أنه خبر (هُوَ) والجملة خبر (كانَ) ، قال الزجّاج : ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقّ» على أن يكون خبر «كان» ويكون هو فصلا ، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بأن الذي بعده خبر ليس بصفة. و (فَأَمْطِرْ) إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة.

قال القاضي أبو محمد : ويعارض هذه قوله (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] لأنهم ظنوها سحابة رحمة ، وقولهم (مِنَ السَّماءِ) مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّه ويمنه.

قوله عزوجل :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٤)

قالت فرقة : نزلت هذه الآية كلها بمكة ، وقالت فرقة : نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى ، وقال ابن أبزى : نزل قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) بمكة إثر قولهم (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ونزل قوله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) عند خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة ، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، ونزل قوله (وَما لَهُمْ) إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.

قال القاضي أبو محمد : وأجمع المتأولون على أن معنى قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، أن الله عزوجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها ، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم ، بل كرامتك لديه أعظم ، قال : أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم» بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن ، واختلفوا في معنى قوله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله (مُعَذِّبَهُمْ) يعود على كفار مكة والضمير في قوله (وَهُمْ) عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون.

قال القاضي أبو محمد : ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال ابن عباس أيضا ما مقتضاه : أن يقال الضميران عائدان على الكفار ، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك ، ويقولون لبيك لا شريك لك ، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار ، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا ، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين ، كون


الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الناس والاستغفار ، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة ، وقال قتادة : الضمير للكفار ، وقوله (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، جملة في موضع الحال أن لو كانت ، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم ، واختاره الطبري ، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) وقال الزجّاج ما معناه ، إن الضمير في قوله (وَهُمْ) عائد على الكفار.

والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر ، فالمعنى : وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وحكاه الطبري عن ابن عباس.

وقال مجاهد في كتاب الزهراوي : المراد بقوله (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين ، فالمعنى : وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون ، فنسب الاستغفار إليهم ، إذ ذريتهم منهم ، وذكره مكي ولم ينسبه ، وفي الطبري عن فرقة أن معنى (يَسْتَغْفِرُونَ) يصلون ، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة ، وقوله عزوجل : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) توعد بعذاب الدنيا ، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن» في موضع نصب ، وقال الطبري : تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا ، والظاهر في قوله (وَما) أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال ، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة ، ويصح أن تكون (ما) نافية ويكون القول إخبارا ، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون ، وقوله (وَهُمْ يَصُدُّونَ) على التأويلين جملة في موضع الحال ، و (يَصُدُّونَ) في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم ، فهو متعدّ كما قال الشاعر : [الوافر]

صددت الكأس عنا أمّ عمرو

وقد تجيء صد عير متعدّ كما أنشد أبو علي : [البسيط]

صدت خليدة عنّا ما تكلّمنا

والضمير في قوله (أَوْلِياؤُهُ) عائد على الله عزوجل من قوله (يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) ، أو على المسجد الحرام ، كل ذلك جيد ، روي الأخير عن الحسن ، والضمير الآخر تابع للأول ، وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه ، وقوله (أَكْثَرَهُمْ) ونحن نجد كلهم بهذه الصفة ، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب ، ومنه حكى سيبويه من قولهم : قل من يقول ذلك ، وهم يريدون لا يقوله أحد.

وإما أن يقول : إنه أراد بقوله (أَكْثَرَهُمْ) أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوما قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله (أَكْثَرَهُمْ) وكذلك كانت حال مكة وأهلها ، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها ، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن : إن قوله (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) ، ناسخ لقوله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).


قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، لأنه خبر لا يدخله نسخ.

قوله عزوجل :

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٥)

قرأ الجمهور «وما كان صلاتهم» بالرفع «عند البيت إلا مكاء» بالنصب «وتصدية» كذلك ، وروي عن عاصم أنه قرأ : «صلاتهم» بالنصب «إلا مكاء وتصدية» بالرفع ، ورويت عن سليمان الأعمش بخلاف عنه فيما حكى أبو حاتم ، وذكر أبو علي عن الأعمش أنه قال في قراءة عاصم : أفإن لحن عاصم تلحن أنت؟ قال أبو الفتح : وقد روي الحرف كذلك عن أبان بن تغلب ، قال قوم : وهذه القراءة خطأ لأنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة ، قال أبو حاتم : فإن قيل إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس معرفا ومنكرا واحد في التعريف ، قيل إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، كما قال حسان : [الوافر].

كأنّ سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

ولا يقاس على ذلك ، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي : وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء ، وأخطأ في ذلك ، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث ، ومنه قوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧] وقوله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) [النمل : ٥١] و (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ٨٦ ـ ١٠٣ ، النمل : ١٤] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث ، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور ، فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم ، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر ، ومنه قول عنترة : [الكامل]

وخليل غانية تركت مجدلا

تمكو فريصته كشدق الأعلم

ومنه قول الشاعر :

فكأنما يمكو بأعصم عاقل

يصف رجلا فر به حيوان ومنه قول الطرماح : [الكامل]

فنحا لأولاها بطعنة محفظ

تمكو جوانبها من الإنهار

ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي : فالهمزة في (مُكاءً) منقلبة عن واو.

قال القاضي أبو محمد : ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده ، ووزنه فعّال بشد


العين كخطاف ، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه ، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «إلا مكا» بالقصر ، و «التصدية» عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق ، وقتادة بأنه الضجيج والصياح ، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع ، ومن قال التصفيق قال : إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن ، و «التصدية» يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت ، ومنه قول الطرماح يصف الأروية : [الطويل]

لها كلما ريعت صداة وركدة

بمصران أعلى ابني شمام البوائن

فيلتئم على هذا الاشتقاق قول من قال : هو التصفيق ، وقول من قال الضجيج ، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع ، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه ، ويمكن أن تكون «التصدية» من صد يصد استعمل الفعل مضعفا للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد ، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير ، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف ، وذلك نحو قوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) [يوسف : ٢٣] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلا وتكملة وغير ذلك ، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل ، مثل قول الشاعر : [الرجز]

بات ينزي دلوه تنزّيا

وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد ، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه ، فجاء «تصدية» ، فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع ، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج ، ويبدل أيضا على هذا أحد المثلين ، ومنه قوله تعالى : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) [الزخرف : ٥٧] بكسر الصاد ، ذكره النحاس ، وذهب أكثر المفسرين إلى أن «المكاء والتصدية» إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقطع عليه وعلى المؤمنين قراءتهم وصلاتهم ويخلط عليهم ، فكان المصلي إذا قام يقرأ من المؤمنين اكتنفه من الكفار عن يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته ، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول ، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية ، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل ، أي هذه عادتك وغايتك.

قال القاضي أبو محمد : والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع ، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء ، وبينهما أربعة أميال ، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم


وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة ، إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب ، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة ، وقوله (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك ، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.

قال القاضي أبو محمد : والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (٣٦)

قال بعض الرواة منهم ابن أبزى وابن جبير والسدي ومجاهد : سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان أنفق في غزوة أحد على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من الذهب أو نحو هذا ، وأن الآية نزلت في ذلك ، وقال ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ إنه لما قتل من قتل ببدر اجتمع أبناؤهم وقرابتهم وقالوا لمن خلص ماله في العير : إن محمدا قد نال منا ما ترون ، ولكن أعينونا بهذا المال الذي كان سبب الواقعة ، فلعلنا أن ننال منه ثأرا ، ففعلوا فنزلت الآية في ذلك.

قال القاضي أبو محمد : وعلى القولين فإنما أنفق المال في غزوة أحد ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية خبرا لفظه عام في الكفار ، والإشارة به إلى مخصوصين أنهم ينفقون أموالهم يقصدون بذلك الصد عن سبيل الله والدفع في صدر الإسلام ، ثم أخبر خبرا يخص المشار إليهم أنهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، إذ لا تتم لهم إرادة ويذهب المال باطلا ، والحسرة التلهف على الفائت ، ويحتمل أن تكون الحسرة في يوم القيامة ، والأول أظهر وإن كانت حسرة القيامة راتبة عليهم ، ثم أخبر أنهم يغلبون بعد ذلك ، بأن تكون الدائرة عليهم ، وهذا من إخبار القرآن بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون ، فكان كما أخبر ، قال ابن سلام : بين الله عزوجل أنهم يغلبون قبل أن يقاتلوا بسنة ، حكاه الزهراوي ، ثم أخبر تعالى عن الكافرين أنهم يجمعون إلى جهنم ، والحشر جمع الناس والبهائم إلى غير ذلك مما يجمع ويحضر ، ومنه قوله (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) [الأنعام : ١١١] ومنه في التفسير : أن السلوى طائر كانت الجنوب تحشره على بني إسرائيل ، والقوم الذين جلبهم أبو سفيان وأنفق المال عليهم هم الأحابيش من كنانة ، ولهم يقول كعب بن مالك : [الطويل]

وجئنا إلى موج من البحر وسطه

أحابيش منهم حاسر ومقنع

ثلاثة آلاف ونحن قصية

ثلاث مئين إن كثرن وأربع

وقال الضحاك وغيره : إن هذه الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر الذين كانوا يذبحون يوما عشرا ويوما تسعا من الإبل ، وحكى نحو هذا النقاش.


قوله عزوجل :

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠)

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «ليميز» بفتح الياء وكسر الميم ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة بن نصاح وشبل وأبي عبد الرحمن والحسن وعكرمة ومالك بن دينار ، تقول مزت الشيء ، والعرب تقول مزته فلم يتميز لي ، حكاه يعقوب وفي شاذ القراءة وانمازوا اليوم ، وأنشد أبو زيد : [البسيط]

لما ثنى الله عني شرّ عدوته

وانمزت لا منشئا ذعرا ولا وجلا

وهو مطاوع ماز ، وقرأ حمزة والكسائي «ليميّز» بضم الياء وفتح الميم وشد الياء ، وهي قراءة قتادة وطلحة بن مصرف والأعمش والحسن أيضا وعيسى البصري ، تقول ميزت أميز إذا فرقت بين شيئين فصاعدا ، وفي القرآن (تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) [الملك : ٨] فهو مطاوع ميز ومعناه تتفصل ، وقال ابن عباس رضي الله عنه والسدي ، المعنيّ ب (الْخَبِيثَ) الكفار وب (الطَّيِّبِ) المؤمنون.

قال القاضي أبو محمد : واللام على هذا التأويل من قوله (لِيَمِيزَ) متعلقة ب (يُحْشَرُونَ) [الأنفال : ٣٦] ، والمعنى أن الله يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين بأن يجمع الكافرين جميعا فيلقيهم في جهنم ، ثم أخبر عنهم أنهم هم الخاسرون أي الذين خابت سعايتهم وتبت أيديهم وصاروا إلى النار ، وقال ابن سلام والزجّاج : المعنيّ ب (الْخَبِيثَ) المال الذي أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله ، و (الطَّيِّبِ) هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله.

قال القاضي أبو محمد : واللام على هذا التأويل من قوله (لِيَمِيزَ) متعلقة ب (يُغْلَبُونَ) [الأنفال : ٣٦] ، والمعنى : الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها ، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب ، وقوله تعالى على هذا التأويل (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) إلى قوله (فِي جَهَنَّمَ) مترتب على ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن الله تعالى يخرج من الأموال ما كان صدقة أو قربة يوم القيامة ثم يأمر بسائر ذلك فيلقى في النار ، وحكى الزهراوي عن الحسن أن الكفار يعذبون بذلك المال ، فهي كقوله (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) [التوبة : ٣٥] وقاله الزجّاج : وعلى التأويلين فقوله (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) إنما هي عبارة عن جمع ذلك وضمه وتأليف أشتاته وتكاثفه بالاجتماع ، و (فَيَرْكُمَهُ) في كلام العرب يكثفه ، ومنه


سحاب مركوم وركام ، ومنه قول ذي الرمة : [البسيط]

زع بالزمام وجوز الليل مركوم

وقوله (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ) بمعنى يلقي ، قاله أبو علي ، (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) على هذا التأويل يراد المنافقون من الكفار ، ولفظة الخسارة تليق بهم من جهة المال وبغير ذلك من الجهات ، وقوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، أمر من الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى الذي تضمنه ألفاظ قوله (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) وسواء قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه العبارة أو غيرها ، ولو كان الكلام كما ذكر الكسائي أنه في مصحف ابن مسعود «قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لكم» لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها ، هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ ، وقوله (إِنْ يَنْتَهُوا) يريد به عن الكفر ولا بد ، والحامل على ذلك جواب الشرط ب (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) ، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر ، وقوله (إِنْ يَعُودُوا) يريد به إلى القتال لأن لفظة عاد يعود إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان الإنسان عليها ثم تنقّل عنها.

ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال ، ولا يصح أن يتأول (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه وإنما قلنا في عاد إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر بمنزلة صار ، وذلك كما تقول عاد زيد ملكا تريد صار ، ومنه قول أبي الصلت:

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شبيبا بماء فعادا بعد أبوالا

وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل ، لكنها مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونه ، فحكمها حكم صار ، وقوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) عبارة بجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله حين صد في وجه نبيه وبمن هلك في يوم بدر بسيف الإسلام والشرع ، والمعنى فقد رأيتم وسمعتم عن الأمم ما حل.

قال القاضي أبو محمد : والتخويف عليهم بقصة بدر أشد إذ هي القريبة منهم والمعاينة عندهم وعليها نص ابن إسحاق والسدي ، وقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية ، أمر من الله عزوجل فرض به على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار ، و «الفتنة» قال ابن عباس وغيره معناها الشرك ، وقال ابن إسحاق : معناها حتى لا يفتن أحد عن دينه كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم كبلال وغيره ، وهو مقتضى قول عروة بن الزبير في جوابه لعبد الملك بن مروان حين سأله عن خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة مهاجرا ، وقوله (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي لا يشرك معه صنم ولا وثن ولا يعبد غيره ، وقال قتادة حتى تستوسق كلمة الإخلاص لا إله إلا الله.

قال القاضي أبو محمد : وهذه المعاني تتلازم كلها ، وقال الحسن : حتى لا يكون بلاء ، وهذا يلزم عليه القتال في فتن المسلمين الفئة الباغية ، على سائر ما ذكرناه من الأقوال يكون المعتزل في فسحة ، وعلى هذا جاء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أما نحن فقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وأما أنت وأصحابك فتريدون أن نقاتل حتى تكون فتنة.


قال القاضي أبو محمد : فمذهب عمر أن «الفتنة» الشرك في هذه الآية وهو الظاهر ، وفسر هذه الآية قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» ، ومن قال المعنى حتى لا يكون شرك فالآية عنده يريد بها الخصوص فيمن لا يقبل منه جزية ، قال ابن سلام : وهي في مشركي العرب ، ثم قال الله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي عن الكفر فإن الله بصير بعملهم مجاز عليه ، عنده ثوابه وجميل المعاوضة عليه وقرأ يعقوب بن إسحاق وسلام بن سليمان «بما تعملون» بالتاء أي في قتالكم وجدكم وجلادكم عن دينه.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) الآية ، معادل لقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) ، والمعنى فإن انتهوا عن الكفر فالله مجازيهم أو مجازيكم على قراءة «تعملون» ، وإن تولوا ولم ينتهوا فاعلموا أن الله ينصركم عليهم ، وهذا وعد محض بالنصر والظفر ، أي فجدوا ، و «المولى» هاهنا الموالي والمعين ، والمولى في اللغة على معان هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها ، والمولى الذي هو السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين.

قوله عزوجل :

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١)

موضع «أن» الثانية رفع ، التقدير «فحكمه أن» ، فهي في موضع خبر الابتداء ، والغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي من ذلك قول الشاعر [امرؤ القيس] : [الوافر]

وقد طفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

وقال آخر : [البسيط]

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه

أنّى توجّه والمحروم محروم

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرهن : «له غنمه وعليه حرمه» وقوله : «الصيام في الشتاء هو الغنيمة الباردة» فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب غنيمة ، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا له ، والفيء مأخوذ من فاء إذا رجع وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرض وجزية الجماجم وخمس الغنيمة ونحو هذا.

قال القاضي أبو محمد : والزكوات أيضا مال على حدته ، أحكامه منفردة دون أحكام هذين ، قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب : الغنيمة ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ صلحا ، وهذا قريب مما بيناه ، وقال قتادة : الفيء والغنيمة شيء واحد فيهما الخمس ، وهذه الآية التي في الأنفال ناسخة لقوله في سورة الحشر و (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [الآية : ٧] وذلك أن تلك كانت الحكم أولا ، ثم أعطى الله أهلها الخمس فقط وجعل الأربعة الأخماس في المقاتلين.


قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف نص العلماء على ضعفه وأن لا وجه له من جهات ، منها أن هذه السورة نزلت قبل سورة الحشر هذه ببدر ، وتلك في بني النضير وقرى عرينة ، ولأن الآيتين متفقتان وحكم الخمس وحكم تلك الآية واحد لأنها نزلت في بني النضير حين جلوا وهربوا وأهل فدك حين دعوا إلى صلح ونال المسلمون ما لهم دون إيجاف ، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أن في الفيء الخمس ، وأنه كان في قرى عرينة زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن أربعة أخماسها كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة دون المسلمين يضعها حيث شاء.

وقال أبو عبيدة : هذه الآية ناسخة لقوله في أول السورة (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] ولم يخمس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنائم بدر فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذه الآية.

قال القاضي أبو محمد : ويظهر في قول علي بن أبي طالب في البخاري كانت لي شارق من نصيبي من المغنم ببدر وشارق أعطانيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخمس حينئذ أن غنيمة بدر خمست فإن كان ذلك فسد قول أبي عبيدة ، ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكره علي بن أبي طالب من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد ، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة السويق وغزوة ذي أمر وغزوة نجران ولم يحفظ فيها قتال ولكن يمكن أن غنمت غنائم والله أعلم.

وقوله في هذه الآية (مِنْ شَيْءٍ) ظاهره عام ومعناه الخصوص ، فأما الناض والمتاع والأطفال والنساء وما لا يؤكل لحمه من الحيوان ويصح تملكه فليس للإمام في جميع ذلك ما كثر منه وما قل كالخايط والمخيط إلا أن يأخذ الخمس ويقسم الباقي في أهل الجيش ، وأما الأرض فقال فيها مالك : يقسمها الإمام إن رأى ذلك صوابا كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر ، ولا يقسمها إن أداه اجتهاده إلى ذلك كما فعل عمر بأرض مصر سواد الكوفة.

قال القاضي أبو محمد : لأن فعل عمر ليس بمخالف لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ ليست النازلة واحدة بحسب قرائن الوقتين وحاجة الصحابة وقلتهم ، وهذا كله انعكس في زمان عمر ، وأما الرجال ومن شارف البلوغ من الصبيان فالإمام عند مالك وجمهور العلماء مخير فيهم على خمسة أوجه ، منها القتل وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية ، ومنها الفداء وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه رأي ولا مكيدة لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه ، ومنها المن وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين ونحو ذلك من القرائن ، ومنها الاسترقاق ، ومنها ضرب الجزية والترك في الذمة ، وأما الطعام والغنم ونحوهما مما يؤكل فهو مباح في بلد العدو يأكله الناس فما بقي كان في المغنم.

قال القاضي أبو محمد : وأما أربعة أخماس ما غنم فيقسمه الإمام على الجيش ، ولا يختص بهذه الآية ذكر القسمة فأنا أختصره هنا ، وأما الخمس فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك رحمه‌الله : الرأي فيه للإمام يلحقه ببيت الفيء ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه ، كما يعطي منه اليتامى والمساكين وغيرهم ، وإنما ذكر من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه ، قال الزجّاج محتجا لمالك :


قال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة : ٢١٥].

وللإمام بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك ، وقالت فرقة : كان الخميس يقسم على ستة أقسام ، قسم لله وهو مردود على فقراء المسلمين أو على بيت الله ، وقسم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقسم لقرابته ، وقسم لسائر من سمي ، حكى القول منذر بن سعيد ورد عليه ، قال أبو العالية الرياحي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقبض من خمس الغنيمة قبضة فيجعلها للكعبة فذلك لله ، ثم يقسم الباقي على خمسة ، قسم له وقسم لسائر من سمي ، وقال الحسن بن محمد وابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة والشافعي : قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده قد أعتقك الله وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر ، والدنيا كلها لله ، وقسم الله وقسم الرسول واحد ، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقسم الخمس على خمسة أقسام كما تقدم ، وقال ابن عباس أيضا فيما روى عنه الطبري ، الخمس مقسوم على أربعة أقسام ، وسهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقرابته وليس لله ولا للرسول شيء ، وقالت فرقة : قسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد موته مردود على أهل الخمس القرابة وغيرها ، وقالت فرقة : هو مردود على الجيش أصحاب الأربعة الأخماس ، وقال علي بن أبي طالب : يلي الإمام منهم سهم الله ورسوله ، وقالت فرقة : هو موقوف لشراء العدد وللكراء في سبيل الله ، وقال إبراهيم النخعي وهو الذي اختاره أبو بكر وعمر فيه ، وقال أصحاب الرأي : الخمس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مقسوم ثلاثة أقسام ، قسم لليتامى ، وقسم للمساكين وقسم لابن السبيل ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يورث ، فسقط سهمه وسهم ذوي القربى ، وحجتهم فيه منع أبي بكر وعمر وعثمان لذوي القربى.

قال القاضي أبو محمد : ولم يثبت المنع بل عورض بنو هاشم بأن قريشا قربى ، وقيل لم يكن في مدة أبي بكر مغنم ، وقال الشافعي : يعطى أهل الخمس منه ولا بد ويفضل الإمام أهل الحاجة ولكن لا يحرم صنفا منهم حرمانا تاما ، وقول مالك رحمه‌الله : إن للإمام أن يعطي الأحوج وإن حرم الغير.

قال القاضي أبو محمد : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخصوصا من الغنيمة بثلاثة أشياء كان له خمس الخمس ، وكان له سهم في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفيّ يأخذه قبل القسمة ، دابة أو سيف ، أو جارية ولا صفيّ لأحد بعده بإجماع إلا ما قال أبو ثور من أن الصفيّ باق للإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال ، وذوو القربى قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس : هم بنو هاشم فقط ، فقال مجاهد : كان آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس ، قال ابن عباس : ولكن أبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا قريش كلها قربى ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب فقط ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان بن عفان وجبير بن مطعم في وقت قسمة سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ما فارقونا في جاهلية ولا في الإسلام».

قال القاضي أبو محمد : كانوا مع بني هاشم في الشعب وقالت فرقة : قريش كلها قربى ، وروي عن


علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ، والمراد يتامى قريش ومساكينها ، وقالت فرقة : سهم القرابة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقوف على قرابته ، وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز إلى بني هاشم وبني المطلب فقط ، وقالت فرقة : هو لقرابة الإمام القائم بالأمر ، وقال قتادة : كان سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان حيا ، فلما توفي جعل لولي الأمر بعده ، وقاله الحسن بن أبي الحسن البصري ، وحكى الطبري أيضا عن الحسن أنه قال : اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال قوم : سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للخليفة ، وقال قوم : سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال قوم : سهم القرابة لقرابة الخليفة ، فاجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة ، فكان على ذلك مدة أبي بكر رضي الله عنه ، قال غير الحسن وعمر و (الْيَتامى) الذين فقدوا آباءهم من الصبيان ، واليتم في بني آدم من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات ، (وَالْمَساكِينِ) الذين لا شيء لهم وهو مأخوذ من السكون وقلة الحراك ، (وَابْنِ السَّبِيلِ) الرجل المجتاز الذي قد احتاج في سفر ، وسواء كان غنيّا في بلده أو فقيرا فإنه ابن السبيل يسمى بذلك إما لأن السبيل تبرزه فكأنها تلده ، وإما لملازمة السبيل كما قالوا ابن ماء وأخو سفر ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى» وقد تقدم هذا.

قال القاضي أبو محمد : وقد اقتضبت فقه هذه الآية حسب الاختصار والله المستعان.

قال القاضي أبو محمد : و (ما) في قوله (أَنَّما غَنِمْتُمْ) بمعنى الذي ، وفي قوله (غَنِمْتُمْ) ضمير يعود عليها ، وحكي عن الفراء أنه جوز أن تكون «ما» شرطية بتقدير أنه ما ، وحذف هذا الضمير لا يجوز عند سيبويه إلا في الشعر ، ومنه :

إن من يدخل الكنيسة يوما

وقرأ الجمهور «فأن لله» بفتح الهمزة ، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم وحسين عن أبي عمرو «فإن» بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن «خمسه» بسكون الميم ، وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) الآية ، قال الزجّاج عن فرقة : المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم ، «فإن» متعلقة بهذا الوعد ، وقال أيضا عن فرقة : إنها متعلقة بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ).

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن قوله (وَاعْلَمُوا) يتضمن بانقياد وتسليم لأمر الله في الغنائم فعلق «أن» بقوله (وَاعْلَمُوا) على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة ، وقوله (وَما أَنْزَلْنا) عطف على قوله (بِاللهِ) والمشار إليه ب (ما) هو النصر والظهور الذي أنزله الله يوم بدر على نبيه وأصحابه ، أي إن كنتم مؤمنين بالله وبهذه الآيات والعظائم الباهرة التي أنزلت يوم بدر ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن نزل يوم بدر أو في قصة يوم بدر على تكره في هذا التأويل الأخير.

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المعنى واعلموا أنما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا إن كنتم آمنتم ، أي فانقادوا لذلك وسلموا وهذا تأويل حسن في المعنى ،


ويعترض فيه الفصل بين الظرف وما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام ، و (يَوْمَ الْفُرْقانِ) معناه يوم الفرق بين الحق والباطل بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك ، و (الْفُرْقانِ) مصدر من فرق يفرق ، و (الْجَمْعانِ) يريد جمع المسلمين وجمع الكفار ، وهو يوم الوقعة التي قتل فيها صناديد قريش ببدر ، ولا خلاف في ذلك ، وعليه نص ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن بن علي وقتادة وغيرهم. وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول جمهور الناس.

وقال أبو صالح : لتسع عشرة ، وشك في ذلك عروة بن الزبير ، وقال لتسع عشرة أو لسبع عشرة ، والصحيح ما عليه الجمهور ، وقوله عزوجل : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، يعضد أن قوله (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) يراد به النصر والظفر ، أي الآيات والعظائم من غلبة القليل الكثير ، وذلك بقدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير.

قوله عزوجل :

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢)

العامل في (إِذْ) قوله (الْتَقَى) و (بِالْعُدْوَةِ) شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رحا البير لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادي أي منعته ، ومنه قول الشاعر :

عدتني عن زيارتك العوادي

وحالت دونها حرب زبون

ولأنها ما عدا الوادي أي جاوزه ، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة ، وهذه هي العدوة التي في الآية ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «بالعدوة» بضم العين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «بالعدوة» بكسر العين ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة وعمرو «بالعدوة» بفتح العين ، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر ، قال أبو الفتح : الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن رغوة ورغوة ورغوة ، وروى الكسائي : كلمته بحضرة فلان وحضرته إلى سائر نظائر ، ذكر أبو الفتح كثيرا منها ، وقوله (الدُّنْيا) و (الْقُصْوى) إنما بالإضافة إلى المدينة ، وفي حرف ابن مسعود «إذ أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى» ، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع ، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، حدثني أبي أنه رأى هذه المواضع على ما وصفت وقال ابن عباس : بدر بين مكة والمدينة ، و (الدُّنْيا) من الدنو ، و (الْقُصْوى) من القصو ، وهو البعد ، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ ، وقال الخليل في العين : شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى ، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا ، و (الرَّكْبُ) بإجماع من المفسرين غير أبي سفيان ، ولا يقال ركب إلا لركاب الإبل وهو من أسماء الجمع ، وقد يجمع راكب عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر ، ولا يقال ركب لما كثر جدا من الجموع.


وقال القتبي : الركب العشرة ونحوها ، وهذا غير جيد لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد قال «والثلاثة ركب» الحديث وقوله (أَسْفَلَ) في موضع خفض تقديره في مكان أسفل كذا قال سيبويه ، قال أبو حاتم : نصب «أسفل» على الظرف ويجوز «الركب أسفل» على معنى وموضع الركب أسفل أو الركب مستقرا أسفل.

قال القاضي أبو محمد : وكان الركب ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب قد نكب عن بدر حين نذر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي ، وقال مجاهد في كتاب الطبري : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجارا لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر من يسقي لهم كلهم ، فاقتتلوا فغلبهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسروهم.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تعقب ، وكان من هذه الفرق شعور يبين من الوقوف على القصة بكمالها ، وقوله (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) قال الطبري وغيره : لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم ، وقال المهدوي : المعنى أي لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نيل واضح ، وإيضاحه أن المقصد من الآية نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك ، فالمعنى إذ هيأ الله لكم هذه الجمال ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك ، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله دون تعب كثير : ولو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا ، ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عزوجل (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً) أي لينفذ ويظهر أمرا قد قدره في الأول (مَفْعُولاً) لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم ، وذلك كله معدوم عنده ، وقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) الآية ، قال الطبري : المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة ، (وَيَحْيى) أيضا ويعيش من عاش عن بيان منه أيضا وإعذار لا حجة لأحد عليه ، فالهلاك والحياة على هذا التأويل حقيقتان ، وقال ابن إسحاق وغيره : معنى (لِيَهْلِكَ) أي ليكفر ، (وَيَحْيى) أي ليؤمن ، فالحياة والهلاك على هذا مستعارتان ، والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر أيضا من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ الناس «ليهلك» بكسر اللام الثانية وقرأ الأعمش «ليهلك» بفتح اللام ، ورواها عصمة عن أبي بكر عن عاصم ، و «البينة» صفة أي عن قضية بينة ، واللام الأولى في قوله (لِيَهْلِكَ) رد على اللام في قوله (لِيَقْضِيَ).

وقرأ ابن كثير في رواية قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «من حيّ» بياء واحدة مشددة ، وقرأ نافع وابن كثير في رواية البزي وعاصم في رواية أبي بكر «من حيي» بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية ، قال من قرأ «حيّ» فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبها بالصحيح مثل عض وشم ونحوه ، ألا ترى أن حذف الياء من جوار في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذا قلت رأيت جواري لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح ، ومنه قوله (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ


التَّراقِيَ) [القيامة : ٢٦] ، وعلى نحو «حيّ» جاء قول الشاعر : [مجزوء الكامل]

عيّوا بأمرهم كما

عيّت ببيضتها الحمامه

ومنه قول لبيد : [الرمل]

سألتني جارتي عن أمتي

وإذا ما عيّ ذو اللب سأل

وقول المتلمس : [الطويل]

فهذا أوان العرض حيّ ذبابه

زنابيره والأزرق المتلمس

ويروى جن ذبابه ، قال أبو علي وغيره : هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز ، ألا ترى أن قوله تعالى : (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٣٣ ، القيامة : ٤٠] لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة ، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم ، ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول : [الكامل]

وكأنها بين النساء سبيكة

تمشي بسدة بيتها فتعي

قال أبو علي وأما قراءة من قرأ «حيي» ، فبين ولم يدغم ، فإن سيبويه قال : أخبرنا بهذه اللغة يونس ، قال وسمعنا بعض العرب يقول أحيياء قال أبو حاتم : القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام العرب ، والخط فيه ياء واحدة.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه اللفظة استوعب أبو علي القول فيما تصرف من «حيي» كالحي الذي هو مصدر منه وغيره.

قوله عزوجل :

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

المهدوي (إِذْ) نصب بتقدير واذكر.

قال القاضي أبو محمد : أو بدل من (إِذْ) المتقدمة وهو أحسن ، وتظاهرت الروايات أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأى فيها عدد الكفار قليلا فأخبر بذلك أصحابه فقويت نفوسهم وحرضوا على اللقاء ، فهذا معنى قوله (فِي مَنامِكَ) أي في نومك قاله مجاهد وغيره.

وروي عن الحسن أن معنى قوله (فِي مَنامِكَ) أي في عينك إذ هي موضع النوم ، وعلى هذا التأويل تكون الرواية في اليقظة.


قال القاضي أبو محمد : وهذا القول ضعيف ، وعليه فسر النقاش وذكره عن المازني ، والضمير على التأويلين من قوله (يُرِيكَهُمُ) عائد على الكفار من أهل مكة ، ومما يضعف ما روي عن الحسن أن معنى هذه الآية يتكرر في التي بعدها ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطب في الثانية أيضا ، وقد تظاهرت الرواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتبه وقال لأصحابه أبشروا فلقد نظرت إلى مصارع القوم ، ونحو هذا ، وقد كان علم أنهم ما بين التسعمائة إلى الألف ، فكيف يراهم ببصره بخلاف ما علم ، والظاهر أنه رآهم في نومه قليلا قدرهم وحالهم وبأسهم مهزومين مصروعين ، ويحتمل أنه رآهم قليلا عددهم ، فكان تأويل رؤياه انهزامهم ، فالقلة والكثرة على الظاهر مستعارة في غير العدد ، كما قالوا : المرء كثير بأخيه ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، والفشل الخور عن الأمر ، إما بعد التلبس وإما بعد العزم على التلبس و (لَتَنازَعْتُمْ) أي لتخالفتم و (فِي الْأَمْرِ) يريد في اللقاء والحرب و (سَلَّمَ) لفظ يعم كل متخوف اتصل بالأمر أو عرض في وجهه فسلم الله من ذلك كله ، وعبر بعض الناس أن قال «سلم لكم أمركم» ونحو هذا مما يندرج فيما ذكرناه ، وقوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بإيمانكم وكفركم مجاز بحسب ذلك ، وقرأ الجمهور من الناس «ولكنّ الله سلم» بشد النون ونصب المكتوبة وقرأت فرقة «ولكن الله» برفع المكتوبة ، وقوله (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ) الآية ، (وَإِذْ) عطف على الأولى ، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإجماع ، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا ووقعت العين على العين ، والمعنى أن الله تعالى لما أراد من إنفاذ قضائه في نصرة الإسلام وإظهاره قلل كل طائفة في عيون الأخرى ، فوقع الخلل في التخمين والحزر الذي يستعمله الناس في هذا التجسد كل طائفة على الأخرى وتتسبب أسباب الحرب ، وروي في هذا عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لقد قلت ذلك اليوم لرجل إلى جنبي أتظنهم سبعين؟ قال بل هم مائة ، قال فلما هزمناهم أسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال ألفا.

قال القاضي أبو محمد : ويرد على هذا المعنى في التقليل ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سأل عما ينحرون كل يوم ، فأخبر أنهم يوما عشرا ويوما تسعا ، قال هم ما بين التسعمائة إلى الألف ، فإما أن عبد الله ومن جرى مجراه لم يعلم بمقالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما أن نفرض التقليل الذي في الآية تقليل القدر والمهابة والمنزلة من النجدة ، وتقدم في مثل قوله (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ، والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو للقصة بأجمعها ، وذهب بعض الناس إلى أنهما لمعنيين من معاني القصة والعموم أولى ، وقوله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تنبيه على أن الحول بأجمعه لله وأن كل أمر فله وإليه ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش «ترجع» بفتح التاء وكسر الجيم ، قال أبو حاتم : وهي قراءة عامة الناس ، وقرأ الأعرج وابن كثير وأبو عمرو ونافع وغيرهم «ترجع» بضم التاء وفتح الجيم.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)


وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٤٧)

هذا أمر بما فيه داعية النصر وسبب العز ، وهي وصية من الله متوجهة بحسب التقييد التي في آية الضعف ، ويجري مع معنى الآية قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا».

قال القاضي أبو محمد : وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في ولاية الإمارة والقضاء لا يطلب ولا يتمنى ، فإن ابتلي صبر على إقامة الحق ، و «الفئة» الجماعة أصلها فئوة وهي من فأوت أي جمعت ، ثم أمر الله تعالى بإكثار ذكره هنالك إذ هو عصمة المستنجد ووزر المستعين ، قال قتادة : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف.

قال القاضي أبو محمد : وهذا ذكر خفي لأن رفع الأصوات في موطن القتال رديء مكروه إذا كان إلغاطا ، فأما إن كان من الجمع عند الحملة فحسن فاتّ في عضد العدو ، وقال قيس بن عباد : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث : عند قراءة القرآن وعند الجنازة والقتال ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطلبوا إجابة الدعاء عند القتال وإقامة الصلاة ونزول الغيث ، وقال ابن عباس يكره التلثم عند القتال.

قال القاضي أبو محمد : ولهذا والله أعلم يتسنن المرابطون بطرحه عند القتال على ضنانتهم به و (تُفْلِحُونَ) تنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم ، وهذا مثل قول لبيد : [الرجز]

أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض

ضعف وقد يخدع الأريب

وقوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية استمرار على الوصية لهم والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أمر بدر وتنازعهم ، و (فَتَفْشَلُوا) نصب بالفاء في جواب النهي ، قال أبو حاتم في كتاب عن إبراهيم «فتفشلوا» بكسر الشين وهذا غير معروف وقرأ جمهور الناس «وتذهب» بالتاء من فوق ونصب الباء ، وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم «وتذهب ريحكم» بالتاء وجزم الباء ، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهب» بالياء من تحت وبجزم يذهب ، وقرأ أبو حيوة «ويذهب» بالياء من تحت ونصب الباء ، ورواها أبان وعصمة عن عاصم ، والجمهور على أن الريح هنا مستعارة والمراد بها النصر والقوة كما تقول : الريح لفلان إذا كان غالبا في أمر ، ومن هذا المعنى قول الشاعر وهو عبيد بن الأبرص : [البسيط]

كما حميناك يوم العنف من شطب

والفضل للقوم من ريح ومن عدد

وقال مجاهد : «الريح» النصر والقوة ، وذهبت ريح أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نازعوه يوم أحد ، وقال زيد بن علي (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) معناه الرعب من قلوب عدوكم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن بشرط أن يعلم العدو بالتنازع ، وإذا لم يعلم فالذاهب قوة


المتنازعين فينهزمون ، وقال شاعر الأنصار : [البسيط]

قد عوّدتهم ظباهم أن تكون لهم

ريح القتال وأسلاب الذين لقوا

ومن استعارة الريح قول الآخر : [الوافر]

إذا هبت رياحك فاغتنمها

فإن لكل عاصفة سكون

وهذا كثير مستعمل ، وقال ابن زيد وغيره : الريح على بابها ، وروي أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار ، واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصبا». وقال الحكم (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) يعني الصبا إذ بها نصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما كان في غزوة الخندق خاصة ، وقوله (وَاصْبِرُوا) إلى آخر الآية ، تتميم في الوصية وعدة مؤنسة ، وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الآية ، آية تتضمن الطعن على المشار إليهم وهم كفار قريش ، وخرج ذلك على طريق النهي عن سلوك سبيلهم ، والإشارة هي إلى كفار قريش بإجماع ، و «البطر» الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها ، و «الرياء» المباهاة والتصنع بما يراه غيرك ، وهو فعال من راءى يرائي سهلت همزته ، وروي أن أبا سفيان لما أحس أنه قد تجاوز بعيره الخوف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه بعث إلى قريش فقال : «إن الله قد سلم عيركم التي خرجتم إلى نصرتها فارجعوا سالمين قد بلغتم مرادكم» ، فأتى رأي الجماعة على ذلك ، فقال أبو جهل : والله لا نفعل حتى نأتي بدرا ، وكانت بدر سوقا من أسواق العرب لها يوم موسم ، فننحر عليها الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بنا العرب ويهابنا الناس.

قال القاضي أبو محمد : فهذا معنى قوله تعالى : (وَرِئاءَ النَّاسِ) ، ولهذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذب رسولك ، اللهم فاحنها الغداة» ، وقال محمد بن كعب القرظي : خرجت قريش بالقيان والدفوف ، وقوله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، أي غيرهم. قال القاضي أبو محمد : لأنهم أحرى بذلك من أن يقتصر صدهم على أنفسهم ، وقوله (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) آية تتضمن الوعيد والتهديد لمن بقي من الكفار ونفوذ القدر فيمن مضى بالقتل.

قوله عزوجل :

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)

التقدير واذكروا إذ ، والضمير في (لَهُمُ) عائد على الكفار ، و (الشَّيْطانُ) إبليس نفسه ، وحكى


المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس.

قال القاضي أبو محمد : ويضعف هذا القول أن قوله (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) ليس مما يلقى بالوسوسة ، وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش ففي السير لابن هشام أنه جاءهم بمكة ، وفي غيرها أنه جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر ، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم ، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم ، فقال لهم «إني جار لكم» ولن تخافوا من قومي وهم لكم أعوان على مقصدكم ولن يغلبكم أحد ، فسروا عند ذلك ومضوا لطيتهم وقال لهم أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصرا.

فروي أنه لما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما رأى الملائكة نكص فقال له الحارث أتفر يا سراقة فلم يلو عليه ، ويروى أنه قال له ما تضمنت الآية.

وروي أن عمرو بن وهب أو الحارث بن هشام قال له أين يا سراقة؟ فلم يلو ومثل عدو الله فذهب ووقعت الهزيمة ، فتحدث أن سراقة فر بالناس ، فبلغ ذلك سراقة بن مالك ، فأتى مكة فقال لهم : والله ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم ولا رأيتكم ولا كنت معكم ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من بني مدلج ، فقال (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ) الآية ، و (الْيَوْمَ) ظرف ، والعامل فيه معنى نفي الغلبة ، ويحتمل أن يكون العامل متعلق (لَكُمُ) وممتنع أن يعمل (غالِبَ) لأنه كان يلزم أن يكون لا غالبا ، وقوله (إِنِّي جارٌ لَكُمْ) معناه فأنتم في ذمتي وحماي ، و (تَراءَتِ) تفاعلت من الرؤية أي رأى هؤلاء هؤلاء ، وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر «ترأت» مقصورة ، وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه أمال والراء مرققة ثم رجع عن ذلك ، وقوله (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) معناه رجع من حيث جاء ، وأصل النكوص في اللغة الرجوع القهقرى ، وقال زهير :

هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا

لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا

كذا أنشد الطبري ، وفي رواية الأصمعي إذا ما استلأموا وبذلك فسر الطبري هذه الآية ، وفي ذلك بعد ، وإنما رجوعه في هذه الآية مشبه بالنكوص الحقيقي ، وقال اللغويون : النكوص ، الإحجام عن الشيء ، يقال أراد أمرا ثم نكص عنه ، وقال تأبّط شرّا : [البسيط]

ليس النكوص على الأدبار مكرمة

إن المكارم إقدام على الأسل

قال القاضي أبو محمد : فليس هنا قهقرى بل هو فرار ، وقال مؤرج : نكص هي رجع بلغة سليم.

قال القاضي أبو محمد : وقوله (عَلى عَقِبَيْهِ) يبين أنه إنما أراد الانهزام والرجوع في ضد إقباله ، وقوله (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) هو خذلانه لهم وانفصاله عنهم ، وقوله (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يريد الملائكة وهو الخبيث إنما شرط أن لا غالب من الناس فلما رأى الملائكة وخرق العادة خاف وفرّ ، وفي الموطإ وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما ريء الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر منه في يوم عرفة ، لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر» ، قيل وما رأى يا رسول الله؟ قال : «رأى الملائكة يزعمها جبريل».


وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام ، وقوله (إِنِّي أَخافُ اللهَ) قيل إن هذه معذرة منه كاذبة ولم تلحقه قط مخافة ، قاله قتادة وابن الكلبي ، وقال الزجّاج وغيره : بل خاف مما رأى من الأمر وهوله وأنه يومه الذي أنظر إليه ، ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة ونزول الملائكة للحرب ، وحكى الطبري بسنده أنه لما انهزم المشركون يوم بدر حين رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبضة من التراب وجوه الكفار أقبل جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إبليس ، فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا ، فقال له الرجل أي سراقة تزعم أنك لنا جار؟ فقال (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) الآية ، ثم ذهب ، وقوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الآية ، العامل في (إِذْ زَيَّنَ) أو (نَكَصَ) لأن ذلك الموقف كان ظرفا لهذه الأمور كلها ، وقال المفسرون إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم وقلة عددهم ، قالوا مشيرين إلى المسلمين (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي اغتروا فأدخلوا نفوسهم فيما لا طاقة لهم به.

قال القاضي أبو محمد : والنفاق أخص من مرض القلب لأن مرض القلب مطلق على الكافر وعلى من اعترضته شبهة وعلى من بينهما ، وكني بالقلوب عن الاعتقادات إذ القلوب محلها ، وروي في نحو هذا التأويل عن الشعبي أن قوما ممن كان الإسلام داخل قلوبهم خرجوا مع المشركين إلى بدر ، منهم من أكره ومنهم من داجى وداهن ، فلما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلتهم ارتابوا واعتقدوا أنهم مغلوبون ، فقالوا (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) ، قال مجاهد : منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن أمية.

قال القاضي أبو محمد : ولم يذكر أحد ممن شهد بدرا بنفاق إلا ما ظهر بعد ذلك من معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف ، فإنه القائل يوم أحد (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] وقد يحتمل أن يكون منافقو المدينة لما وصلهم خروج قريش في قوة عظيمة قالوا عن المسلمين هذه المقالة ، فأخبر الله بها نبيه في هذه الآية ، ثم أخبر الله عزوجل بأن من توكل على الله واستند إليه ، فإن عزة الله تعالى وحكمته كفيلة بنصره وشد أعضاده ، وخرجت العبارة عن هذا المعنى بأوجز لفظ وأبلغه.

قوله عزوجل :

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ(٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢)

هذه الآية تتضمن التعجيب مما حل بالكفار يوم بدر ، قاله مجاهد وغيره ، وفي ذلك وعيد لمن بقي


منهم ، وحذف جواب ، (لَوْ) إبهام بليغ ، وقرأ جمهور السبعة والناس «يتوفى» بالياء فعل فيه علامة التذكير إلى مؤنث في اللفظ ، وساغ ذلك أن التأنيث غير حقيقي ، وارتفعت (الْمَلائِكَةُ) ب (يَتَوَفَّى) ، وقال بعض من قرأ هذه القراءة إن المعنى إذ يتوفى الله الذين كفروا و (الْمَلائِكَةُ) رفع بالابتداء ، و (يَضْرِبُونَ) خبره والجملة في موضع الحال.

قال القاضي أبو محمد : ويضعف هذا التأويل سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا ، وقرأ ابن عامر من السبعة والأعرج «تتوفى» بالتاء على الإسناد إلى لفظ «الملائكة» ، و (يَضْرِبُونَ) في موضع الحال ، وقوله (وَأَدْبارَهُمْ) قال جمهور المفسرين يريد أستاههم ، ولكن الله كريم كنى ، وقال ابن عباس أراد ظهورهم وما أدبر منهم ، ومعنى هذا أن الملائكة كانت تلحقهم في حال الإدبار فتضرب أدبارهم ، فأما في حال الإقبال فبين تمكن ضرب الوجوه ، وروى الحسن أن رجلا قال : يا رسول الله رأيت في ظهر أبي جهل مثل الشراك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك ضرب الملائكة» ، وعبر بجمع الملائكة ، وملك الموت واحد إذ له على ذلك أعوان من الملائكة ، وقوله (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) قيل كانوا يقولون للكفار حينئذ هذا اللفظ فحذف يقولون اختصار ، وقيل معناه وحالهم يوم القيامة أن يقال لهم هذا ، و (الْحَرِيقِ) فعيل من الحرق ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) يحتمل أن يكون من قول الملائكة في وقت توفيتهم لهم على الصورة المذكورة ، ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا تقريعا من الله عزوجل للكافرين حيهم وميتهم ، (وَأَنَ) يصح أن تكون في موضع رفع على تقدير والحكم أن ، ويصح أن تكون في موضع خفض عطفا على ما في قوله (بِما قَدَّمَتْ) ، وقال مكي والزهراوي : ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الباء تقديره «وبأن» ، فلما حذفت الباء حصلت في موضع نصب.

قال القاضي أبو محمد : وهذا غير متجه ولا بيّن إلا أن تنصب بإضمار فعل ، وقوله (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الآية ، الدأب : العادة في كلام العرب ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل

ويروى كدينك ، ومنه قول خراش بن زهير العامري :

فما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت

هوازن وارفضّت سليم وعامر

وهو مأخوذ من دأب على العمل إذا لزمه ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لصاحب الجمل الذي هش إليه وأقبل نحوه وقد ذل ودمعت عيناه : إنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه فكأن العادة دؤوب ما ، وقال جابر بن زيد وعامر الشعبي ومجاهد وعطاء : المعنى كسنن آل فرعون ، ويحتمل أن يراد كعادة آل فرعون وغيرهم ، فتكون عادة الأمم بجملتها لا على انفراد أمة ، إذ آل فرعون لم يكفروا وأهلكوا مرارا بل لكل أمة مرة واحدة ، ويحتمل أن يكون المراد كعادة الله فيهم ، فأضاف العادة إليهم إذ لهم نسبة إليها يضاف المصدر إلى الفاعل وإلى المفعول ، والكاف من قوله (كَدَأْبِ) يجوز أن يتعلق بقوله (وَذُوقُوا) وفيه بعد ، والكاف على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، ويجوز أن تتعلق بقوله (قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وموضعها أيضا على هذا نصب كما تقدم ، ويجوز أن يكون معنى الكلام الأمر مثل دأب آل فرعون فتكون الكاف في


موضع خبر الابتداء ، وقوله (فَأَخَذَهُمُ) معناه أهلكهم وأتى عليهم بقرينة قوله (بِذُنُوبِهِمْ) ثم ابتدأ الإخبار بقوة الله تعالى وشدة عقابه.

قوله عزوجل :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦)

(ذلِكَ) في موضع رفع على خبر الابتداء تقديره عند سيبويه الأمر ذلك ، ويحتمل أن يكون التقدير وجب ذلك ، والباء باء السبب ، وقوله (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً) جزم ب (لَمْ) وجزمه بحذف النون ، والأصل يكون فإذا دخلت لم جاء لم يكن ، ثم قالوا «لم يك مغيرا» كأنهم قصدوا التخفيف فتوهموا دخول «لم» على يكن فحذفت النون للجزم ، وحسن ذلك فيها لمشابهتها حروف اللين التي تحذف للجزم كما قالوا لم أبال ، ثم قالوا لم أبل فتوهموا دخول لم على أبال؟ ومعنى هذه الآية الإخبار بأن الله عزوجل إذا أنعم على قوم نعمة فإنه بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغيرها وتكديرها حتى يجيء ذلك منهم بأن يغيروا حالهم التي تراد وتحسن منهم ، فإذا فعلوا ذلك وتلبسوا بالتكسب للمعاصي أو الكفر الذي يوجب عقابهم غير الله نعمته عليهم بنقمته منهم ، ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا ما كان يجب أن يكونوا عليه ، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته.

وقوله (وَأَنَ) عطف على الأولى ، و (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي لكل وبكل ما يقع من الناس في تغيير ما بأنفسهم لا يخفى عليه من ذلك سر ولا جهر ، وقوله (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الآية ، الكاف من (كَدَأْبِ) في هذه الآية متعلقة بقوله (حَتَّى يُغَيِّرُوا) ، وهذا التكرير هو لمعنى ليس للأول ، إذ الأول دأب في أن هلكوا لما كفروا ، وهذا الثاني دأب في أن لم تغير نعمتهم حتى غيروا ما بأنفسهم ، وقد ذكرنا متعلقات الكاف في الآية الأولى ، والإشارة بقوله (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى قوم هود وصالح ونوح وشعيب وغيرهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) إلى (يَتَّقُونَ) المعنى المقصود تفضيل الدواب الذميمة كالخنزير والكلب العقور على الكافرين الذين حتم عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وهذا الذي يقتضيه اللفظ ، وأما الكافر الذي يؤمن فيما يستأنفه من عمره فليس بشر الدواب ، وقوله (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) يحتمل أن يريد أن الموصوف ب (شَرَّ الدَّوَابِ) هم الذين لا يؤمنون المعاهدون من الكفار فكانوا شر الدواب على هذا بثلاثة أوصاف : الكفر والموافاة عليه والمعاهدة مع النقض ، و (الَّذِينَ) على هذا بدل البعض من الكل ، ويحتمل أن يريد بقوله (الَّذِينَ عاهَدْتَ الَّذِينَ) الأولى ، فتكون بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، والمعنى على هذا الذين عاهدت فرقة أو طائفة منهم ، ثم ابتدأ يصف حال المعاهدين بقوله : (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) ،


والمعاهدة في هذه الآية المسالمة وترك الحرب ، وأجمع المتأولون أن الآية نزلت في بني قريظة ، وهي بعد تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة ، ومن قال إن المراد ب (الدَّوَابِ) الناس فقول لا يستوفي المذمة ، ولا مرية في أن الدواب تعم الناس وسائر الحيوان ، وفي تعميم اللفظة في هذه الآية استيفاء المذمة ، وقوله (فِي كُلِّ مَرَّةٍ) يقتضي أن الغدر قد كان وقع منهم وتكرر ذلك ، وحديث قريظة هو أنهم عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على ألا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوا من غيرهم ، فلما اجتمعت الأحزاب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة غلب على ظن بني قريظة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مغلوب ومستأصل ، وخدع حيي بن أخطب النضري كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة وعهدهم ، فغدروا ووالوا قريشا وأمدوهم بالسلاح والأدراع ، فلما انجلت تلك الحال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمره الله بالخروج إليهم وحربهم فاستنزلوا ، وضربت أعناقهم بحكم سعد بن معاذ ، واستيعاب القصة في سيرة ابن هشام ، وإنما اقتضبت منها ما يخص تفسير الآية.

قوله عزوجل :

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩)

دخلت النون مع «إما» تأكيدا ولتفرق بينها وبين إما التي هي حرف انفصال في قولك جاءني إما زيد وإما عمرو «وتثقفهم» معناه وتحصلهم في ثقافك أو تلقاهم بحال ضعف تقدر عليهم فيها وتغلبهم ، وهذا لازم من اللفظ لقوله (فِي الْحَرْبِ) ، وقيل ثقف أخذ بسرعة ومن ذلك قولهم : رجل ثقف لقف ، وقال بعض الناس معناه تصادفنهم إلى نحو هذا من الأقوال التي لا ترتبط في المعنى ، وذلك أن المصادف يغلب فيمكن التشريد به ، وقد لا يغلب ، والثقاف في اللغة ما تشد به القناة ونحوها ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

إن قناتي لنبع ما يؤيسها

عض الثقاف ولا دهن ولا نار

وقال آخر : [البسيط]

تدعو قعينا وقد عضّ الحديد بها

عض الثقاف على صم الأنابيب

وقوله (فَشَرِّدْ) معناه طرد وخوف وأبعده عن مثل فعلهم ، والشريد المبعد عن وطن أو نحوه ، والمعنى بفعل تفعله بهم من قتل أو نحوه يكون تخويفا لمن خلفهم أي لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به ، وسواء كان معاصرا لهم أم لا ، وما تقدم الشيء فهو بين يديه وما تأخر عنه فهو خلفه ، فمعنى الآية فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريدا لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم ، والضمير في (لَعَلَّهُمْ) عائد على الفرقة المشردة ، وقال ابن عباس : المعنى نكل بهم من خلفهم ، وقالت فرقة «شرد بهم» معناه سمع بهم ، حكاه الزهراوي عن أبي عبيدة ، والمعنى متقارب لأن


التسميع بهم في ضمن ما فسرناه أولا ، وفي مصحف عبد الله «فشرذ» بالذال منقوطة ، وهي قراءة الأعمش ولم يحفظ شرذ في لغة العرب ولا وجه لها إلا أن تكون الذال المنقوطة تبدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخراذيل ، وقرأ أبو حيوة وحكاها المهدوي عن الأعمش بخلاف عنه : «من خلفهم» بكسر الميم من قوله (مَنْ) وخفض الفاء من قوله (خَلْفَهُمْ) والترجي في قوله (لَعَلَّهُمْ) بحسب البشر ، و (يَذَّكَّرُونَ) معناه يتعظون.

وقوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَ) الآية قال أكثر المؤلفين في التفسير : إن هذه الآية هي من بني قريظة ، وحكاه الطبري عن مجاهد ، والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر ، وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته فترتب فيهم هذه الآية وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشتهرة ، فهذه الآية هي عندي فيمن يستقبل حاله من سائر الناس غير بني قريظة ، وخوف الخيانة بأن تبدو جنادع الشر من قبل المعاهدين وتتصل عنهم أقوال وتتحسس من تلقائهم مبادئ الغدر ، فتلك المبادئ معلومة والخيانة التي هي غايتهم مخوفة لا متيقنة ، وحينئذ ينبذ إليهم على سواء ، فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا ، وبنو قريظة نبذوا العهد مرتين ، وقال يحيى بن سلام : تخاف في هذه الآية بمعنى تعلم.

قال القاضي أبو محمد : وليس كذلك ، وقوله (خِيانَةً) يقتضي حصول عهد لأن من ليس بينك وبينه عهد فليست محاربته لك خيانة ، فأمر الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا ، وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم ، وهو النبذ ومفعول قوله (فَانْبِذْ) محذوف تقديره إليهم عهدهم.

قال القاضي أبو محمد : وتقتضي قوة هذا اللفظ الحض على حربهم ومناجزتهم إن لم يستقيموا ، وقوله (عَلى سَواءٍ) قيل معناه حتى يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم ، فتكونون فيه أي في استشعار الحرب سواء ، وقيل معنى قوله (عَلى سَواءٍ) أي على معدلة أي فذلك هو العدل والاستواء في الحق ، قال المهدوي : معناه جهرا لا سرا.

قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو الأول ، وقال الوليد بن مسلم : (عَلى سَواءٍ) معناه على مهل كما قال تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢].

قال القاضي أبو محمد : واللغة تأبى هذا القول ، وذكر الفراء أن المعنى انبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب ، بل افعل بهم مثلما فعلوا بك.

قال القاضي أبو محمد : يعني موازنة ومقايسة ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) يحتمل أن يكون طعنا على الخائنين من الذين عاهدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يريد فانبذ إليهم على سواء حتى تبعد عن الخيانة ، فإن الله لا يحب الخائنين فيكون النبذ على هذا التأويل لأجل أن الله لا يحب


الخائنين ، والسواء في كلام العرب قد يكون بمعنى العدل والمعدلة ، ومنه قوله تعالى : (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران : ٦٤] ومنه قول الراجز : [الرجز]

فاضرب وجوه الغدر الأعداء

حتى يجيبوك إلى السواء

وقد يكون بمعنى الوسط ، ومنه قوله تعالى : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] ومنه قول حسان بن ثابت : [الكامل]

يا ويح أنصار النبي ورهطه

بعد المغيّب في سواء الملحد

وقوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبكسر السين غير عاصم فإنه فتحها ، و (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعول أول ، و (سَبَقُوا) مفعول ثان ، والمعنى فأتوا بأنفسهم وأنجوها «إنهم لا يعجزون» بكسر ألف «إن» على القطع والابتداء ، و (يُعْجِزُونَ) معناه مفلتون ويعجزون طالبهم ، فهو معدى عجز بالهمزة تقول عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضا ، قال سويد : [الوافر]

وأعجزنا أبو ليلى طفيل

صحيح الجلد من أثر السلاح

وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كقريش في بدر وغيرهم ، فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون ، وقيل معناه لا يعجزون في الدنيا ، وقيل المراد في الآخرة ، قال أبو حاتم وقرأ مجاهد وابن كثير وشبل «ولا تحسبن» بكسر التاء ، وقرأ الأعرج وعاصم وخالد بن الياس «تحسبن» بفتح التاء من فوق وبفتح السين ، وقرأ الأعمش «ولا يحسب» بفتح السين والياء من تحت وحذف النون ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى «ولا يحسبنّ» بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة ، وقرأ حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة «ولا يحسبن» بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين ، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يكون التقدير ولا يحسبن أحد ، ويكون قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعولا أولا و (سَبَقُوا) مفعولا ثانيا ، وإما أن يكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) هم الفاعلون ، ويكون المفعول الأول مضمرا و (سَبَقُوا) مفعول ثان ، وتقدير هذا الوجه ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، وإما أن يكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو الفاعل وتضمر «أن» فيكون التقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، وتسد أن سبقوا مسد المفعولين ، قال الفارسي : ويكون هذا كما تأوله سيبويه في قوله عزوجل قال (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] التقدير أن أعبد.

قال القاضي أبو محمد : ونحوه قول الشاعر : [الطويل]

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

قال أبو علي : وقد حذفت «أن» وهي مع صلتها في موضع الفاعل ، وأنشد أحمد بن يحيى في ذلك : [الطويل]

وما راعنا إلا يسير بشرطة

وعهدي به قينا يفش بكير


وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «أنهم لا يعجزون» بفتح الألف من «أنهم» ، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون ، وقرأ الجمهور «يعجزون» بسكون العين ، وقرأ بعض الناس فيما ذكر أبو حاتم «يعجزون» بفتح العين وشد الجيم ، وقرأ ابن محيصن «يعجزون» بكسر النون ومنحاها يعجزوني بإلحاق الضمير ، قال الزجّاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على المعنى أنهم لا يعجزونني ، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين ، كما قال الشاعر : [الوافر]

تراه كالثغام يعل مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني

قال القاضي أبو محمد : البيت لعمرو بن معد يكرب وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة : [الكامل]

ولقد علمت ولا محالة أنّني

للحادثات فهل تريني أجزع

هذا يجوز على الاضطرار ، فقال قوم حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب ، وقال أبو العباس المبرد : أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية ، وهكذا كان يقول في بيت عمرو بن معديكرب ، وفي مصحف عبد الله «ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون» ، قال أبو عمرو الداني بالياء من تحت وبغير نون في يحسب.

قال القاضي أبو محمد : وذكرها الطبري بنون.

قوله عزوجل :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١)

المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين ، والضمير في قوله (لَهُمْ) عائد على الذين ينبذ إليهم العهد ، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة ، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس : «القوة» ذكور الخيل و «الرباط» إناثها ، وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة : القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي» ثلاثا ، وقال السدي : القوة السلاح ، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة ، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق فقال : هذا من القوة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، و (الْخَيْلِ) والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهية والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة ، وأمر المسلمون بإعداد ما


استطاعوا من ذلك ، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفا على نحو قوله (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] وعلى نحو قوله (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] وهذا كثير ، ونحوه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، هذا في البخاري وغيره ، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» ، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر ، ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحرب وأنكاه في العدو وأقربه تناولا للأرواح خصها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر والتنبيه عليها ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة ، صانعه والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به» وقال عمرو بن عنبسة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة» وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا». و (رِباطِ الْخَيْلِ) جمع ربط ككلب وكلاب ، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون الرباط مصدرا من ربط كصاح صياحا ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ، وإن جعلناه مصدرا من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضا. فإذا ربط كل واحد منهم فرسا لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط ، وذلك الذي حض في الآية عليه ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ارتبط فرسا في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها» ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «ومن ربط» بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكتب ، كذا نصه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر و (تُرْهِبُونَ) معناه تفزعون وتخوفون ، والرهبة الخوف ، قال طفيل الغنوي : [البسيط]

ويل أم حيّ دفعتم في نحورهم

بني كلاب غداة الرعب والرهب

ومنه راهب النصارى ، يقال رهب إذا خاف ، ف (تُرْهِبُونَ) معدى بالهمزة ، وقرأ الحسن ويعقوب «ترهّبون» بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف ، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء ، قال أبو حاتم : وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون» بالياء من تحت وخففها ، فهو على هذا المعدى بالتضعيف ، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله».

قال القاضي أبو محمد : ذكرها الطبري تفسيرا لا قراءة ، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة ، وقوله (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ذكر الصفتين وإن كانت متقاربة إذ هي متغايرة المنحى ، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدوا لله» بتنوين عدو وبلام في المكتوبة ، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد ، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) الآية ، قال مجاهد الإشارة بقوله (وَآخَرِينَ) إلى قريظة ، وقال السدي : إلى أهل فارس ، وقال ابن زيد : الإشارة إلى المنافقين ، وقالت فرقة : الإشارة إلى الجن ، وقالت فرقة : هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشرد بهم من خلفهم.


قال القاضي أبو محمد : وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ) فإذا حملنا قوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ) على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة وكان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله (آخَرِينَ) إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال : الإشارة إلى الجن ، وإذا جعلنا قوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ) محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال ، وكان العلم متعديا إلى مفعولين.

قال القاضي أبو محمد : هذا الوجه أشبه عندي ، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل دارا فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وفيه على احتماله نظر ، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبرز معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله ، ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام ، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جدا والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم ، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون ، ويحسن أن يقدر قوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ) بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم ، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة ، ويحسن أيضا أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقا إذا سمع الآية ، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه ، وقوله (مِنْ دُونِهِمْ) بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون» في كلام العرب و «من دون» يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول ، ومنه المثل :

وأمر دون عبيدة الوذم

تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها ، ولزوم هذا هو في الآخرة ، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة ، وقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) الآية ، الضمير في (جَنَحُوا) هو للذين نبذ إليهم على سواء ، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة :

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه

بذكراك والعيس المراسيل جنح

وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض ومنه قول النابغة : [الطويل].

جوانح قد أيقنّ أن قبيله

إذا ما التقى الجمعان أول غالب

أي موائل. وقال لبيد : [الوافر]

جنوح الهالكيّ على يديه

مكّبا يجتلي نقب النصال

وقرأ جمهور الناس «للسّلم» بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسّلم» بكسرها وشدها


وهما لغتان في المسالمة ، ويقال أيضا «السّلم» بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة ، وقرأ جمهور الناس «فاجنح» بفتح النون وهي لغة تميم ، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنح» وهي لغة قيس بضم النون ، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس ، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس ، وعاد الضمير في (لَها) مؤنثا إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة ، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس ، وقال أبو حاتم يذكر السلم ، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد : هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة.

قال القاضي أبو محمد : وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بها بأن يعنى بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضا إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقرا في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم ، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) [آل عمران : ١٣٩] الآية.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه ، لأن الآيتين مبينتان ، وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أمر في ضمنه وعد.

قوله عزوجل :

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤)

الضمير في قوله (وَإِنْ يُرِيدُوا) عائد على الكفار الذين قيل فيهم ، (وَإِنْ جَنَحُوا) [الأنفال : ٦١] وقوله (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) يريد بأن يظهروا له السلم ويبطنوا الغدر والخيانة ، أي فاجنح وما عليك من نياتهم الفاسدة ، (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي كافيك ومعطيك نصرة وإظهارا ، وهذا وعد محض ، و (أَيَّدَكَ) معناه قواك ، (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) يريد بالأنصار بقرينة قوله (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) الآية ، وهذه إشارة إلى العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في حروب بعاث فألف الله تعالى قلوبهم على الإسلام وردهم متحابين في الله ، وعددت هذه النعمة تأنيسا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي كما لطف بك ربك أولا فكذلك يفعل آخرا ، وقال ابن مسعود : نزلت هذه الآية في المتحابين في الله إذا تراءى المتحابان فتصافحا وتضاحكا تحاتت خطاياهما ، فقال له عبدة بن أبي لبابة إن هذا ليسير ، فقال له لا تقل ذلك فإن الله يقول (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني.

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله تمثل حسن بالآية لا أن الآية نزلت في ذلك بل تظاهرت أقوال المفسرين أنها في الأوس والخزرج كما ذكرنا ، ولو ذهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان من جميعهم من التحاب حتى تكون ألفة الأوس والخزرج جزءا من ذلك لساغ ذلك ،


وكل تألف في الله فتابع لذلك التألف الكائن في صدر الإسلام ، وقد روى سهل بن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «المؤمن مألفة لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».

قال القاضي أبو محمد : والتشابه هو سبب الألفة فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال النقاش : نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وحكي عن ابن عباس أنها نزلت في الأوس والخزرج خاصة ، قال ويقال إنها نزلت حين أسلم عمر وكمل المسلمون أربعين ، قاله ابن عمر وأنس ، فهي على هذا مكية ، و (حَسْبُكَ) في كلام العرب وشرعك بمعنى كافيك ويكفيك ، والمحسب الكافي ، وقالت فرقة : معنى هذه الآية يكفيك الله ويكفيك من اتبعك من المؤمنين ، ف (مَنِ) في هذا التأويل رفع عطفا على اسم الله عزوجل ، وقال عامر الشعبي وابن زيد : معنى الآية حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين ، ف (مَنِ) في هذا التأويل في موضع نصب عطفا على موضع الكاف ، لأن موضعها نصب على المعنى ليكفيك التي سدّت (حَسْبُكَ) مسدّها ، ويصح أن تكون (مَنِ) في موضع خفض بتقدير محذوف كأنه قال وحسب وهذا كقول الشاعر : [المتقارب]

أكلّ امرئ تحسبين امرأ

ونار توقّد بالليل نارا

التقدير وكل نار ، وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بابه ضرورة الشعر ، ويروى البيت ونارا ، ومن نحو هذا قول الشاعر : [الطويل]

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضحّاك سيف مهند

يروى «الضحاك» مرفوعا والضحاك منصوبا والضحاك مخفوضا فالرفع عطف على قوله سيف بنية التأخير كما قال الشاعر :

عليك ورحمة الله السلام

ويكون «الضحاك» على هذا محسبا للمخاطب ، والنصب عطفا على موضع الكاف من قوله «حسبك» والمهند على هذا محسب للمخاطب ، والضحاك على تقدير محذوف كأنه قال فحسبك الضحاك.

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)

قوله (حَرِّضِ) معناه حثهم وحضهم ، قال النقاش وقرئت «حرص» بالصاد غير منقوطة والمعنى متقارب والحارض الذي هو القريب من الهلاك لفظة مباينة لهذه ليست منها في شيء ، وقالت فرقة من


المفسرين : المعنى حرض على القتال حتى يبين لك فيمن تركه أنه حرض.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول غير ملتئم ولا لازم من اللفظ ، ونحا إليه الزجّاج ، و (الْقِتالِ) مفترض على المؤمنين بغير هذه الآية ، وإنما تضمنت هذه الآية أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بتحريضهم على أمر قد وجب عليهم من غير هذا الموضع ، وقوله (إِنْ يَكُنْ) إلى آخر الآية في لفظ خبر ضمنه وعد بشرط لأن قوله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) بمنزلة أن يقال إن يصبر منكم عشرون يغلبوا ، وفي ضمنه الأمر بالصبر وكسرت العين من «عشرون» لأن نسبة عشرين من عشرة نسبة اثنين من واحد فكما جاء أول اثنين مكسورا كسرت العين من عشرين ثم اطرد في جموع أجزاء العشرة ، فالمفتوح كأربعة وخمسة وسبعة فتح أول جمعه ، والمكسور كستة وتسعة كسر أول جمعه ، هذا قول سيبويه ، وذهب غيره إلى أن عشرين جمع عشر الإبل وهو وردها للتسع ، فلما كان في عشرة وعشرة عشر وعشر ويومان من الثالث جمع ذلك على عشرين ، كما قال امرؤ القيس :

ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال

لما كان في الثلاثين حول

وحول وبعض الثالث وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة بأن ثبوت الواحد للعشرة كان فرضا من الله عزوجل على المؤمنين ثم لما شق ذلك عليهم حط الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين.

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو النسخ لأنه رفع حكم مستقر بحكم آخر شرعي ، وفي ضمنه التخفيف ، إذ هذا من نسخ الأثقل بالأخف ، وذهب بعض الناس إلى أن ثبوت الواحد للعشرة إنما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ، ثم حط ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين ، وروي أيضا هذا عن ابن عباس ، قال كثير من المفسرين : وهذا تخفيف لا نسخ إذ لم يستقر لفرض العشرة حكم شرعي ، قال مكي : وإنما هو كتخفيف الفطر في السفر وهو لو صام لم يأثم وأجزأه.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، ولا يمتنع كون المنسوخ مباحا من أن يقال نسخ ، واعتبر ذلك في صدقة النجوي ، وهذه الآية التخفيف فيها نسخ للثبوت للعشرة ، وسواء كان الثبوت للعشرة فرضا أو ندبا هو حكم شرعي على كل حال ، وقد ذكر القاضي ابن الطيب أن الحكم إذا نسخ بعضه أو بعض أوصافه أو غير عدده فجائز أن يقال له نسخ لأنه حينئذ ليس بالأول وهو غيره ، وذكر في ذلك خلافا.

قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر في ذلك أن النسخ إنما يقال حينئذ على الحكم الأول مقيدا لا بإطلاق واعتبر ذلك في نسخ الصلاة إلى بيت المقدس ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «إن يكن منكم مائة» في الموضعين بياء على تذكير العلامة ، ورواها خارجة عن نافع.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب المعنى لأن الكائن في تلك المائة إنما هم رجال فذلك في الحمل على المعنى كقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] إذ أمثالها حسنات ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «إن تكن منكم مائة» في الموضعين على تأنيث العلامة.

قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب اللفظ والمقصد كأنه أراد إن تكن فرقة عددها مائة وقرأ أبو


عمرو بالياء في صدر الآية وبالتاء في آخرها ، ذهب في الأولى إلى مراعاة (يَغْلِبُوا) وفي الثانية إلى مراعاة (صابِرَةٌ) قال أبو حاتم : وقرأ «إن تكن» بالتاء من فوق منكم «عشرون صابرون» الأعرج وجعلها كلها على «ت».

قال القاضي أبو محمد : إلا قوله (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ) فإنه لا خلاف في الياء من تحت ، قوله (لا يَفْقَهُونَ) معناه لا يفهمون مراشدهم ولا مقصد قتالهم لا يريدون به إلا الغلبة الدنياوية ، فهم يخافون إذا صبر لهم ، ومن يقاتل ليغلب أو يستشهد فيصير إلى الجنة أثبت قدما لا محالة ، وروى المفضل عن عاصم «وعلم» بضم العين وكسر اللام على البناء للمفعول ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وابن عمرو والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق «ضعفا» بضم الضاد وسكون العين ، وقرأ عاصم وحمزة وشيبة وطلحة «ضعفا» بفتح الضاد وسكون العين ، وكذلك اختلافهم في سورة الروم ، وقرأ عيسى بن عمر «ضعفا» بضم الضاد والعين وذكره النقاش ، وهي مصادر بمعنى واحد ، قال أبو حاتم : من ضم الضاد جاز له ضم العين وهي لغة ، وحكى سيبويه الضّعف والضّعف لغتان بمنزلة الفقر والفقر ، حكى الزهراوي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : ضم الضاد لغة أهل الحجاز وفتحها لغة تميم ولا فرق بينهما في المعنى ، وقال الثعالبي في كتاب فقه اللغة له : الضّعف بفتح الضاد في العقل والرأي ، والضّعف بضمها في الجسم.

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ترده القراءة وذكره أبو غالب بن التياني غير منسوب ، وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع أيضا «ضعفاء» بالجمع كظريف وظرفاء ، وحكاها النقاش عن ابن عباس ، وقوله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر ، ويلحظ منه وعيد لمن لم يصبر بأنه يغلب.

قوله عزوجل :

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩)

هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله عزوجل لأصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان ، ولهم هو الإخبار ولذلك استمر الخطاب ب (تُرِيدُونَ) ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب ، وجاء ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية مشيرا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش ، وأنكره سعد بن معاذ ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شغله بغت الأمر وظهور النصر فترك النهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت هذه الآية ، ومر كثير من المفسرين على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأخذ الفدية ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جمع أسرى بدر استشار فيهم أصحابه ، فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله هم قرابتك ولعل الله أن يهديهم بعد إلى


الإسلام ففادهم واستبقهم ويتقوى المسلمون بأموالهم ، وقال عمر بن الخطاب لا يا رسول الله بل نضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة بل نجعلهم في واد كثير الحطب ثم نضرمه عليهم نارا ، وقد كان سعد بن معاذ قال وهو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العريش وقد رأى الأسر لقد كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول أبي بكر ومال إليه ، فنزلت هذه الآية مخبرة أن الأولى والأهيب على سائر الكفار كان قتل أسرى بدر ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية والمسلمون قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم نزل في الأسر (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤٧] وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تكلم أصحابه في الأسرى بما ذكر دخل ولم يجبهم ثم خرج ، فقال : إن الله تعالى يلين قلوب رجال ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦] ومثل عيسى قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة :١١٨] ومثلك يا عمر مثل نوح قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] ومثل موسى قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨] ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنتم اليوم فلا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق ، وفي هذا الحديث قال عمر : فهوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.

قال القاضي أبو محمد : وهذه حجة على ذكر الهوى في الصلاح ، وقرأت فرقة «ما كان للنبيّ» معرفا ، وقرأ جمهور الناس «لنبي» ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وحده «أن تكون» على التأنيث العلامة مراعاة للفظ الأسرى ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «أن يكون» بتذكير العلامة مراعاة لمعنى الأسرى ، وقرأ جمهور الناس والسبعة «أسرى» ، وقرأ بعض الناس «أسارى» ورواها المفضل عن عاصم ، وهي قراءة أبي جعفر ، والقياس والباب أن يجمع أسير على أسرى ، وكذلك كل فعيل بمعنى مفعول وشبه به فعيل وإن لم يكن بمعنى مفعول كمريض ومرضى ، إذا كانت أيضا أشياء سبيل الإنسان أن يجبر عليها وتأتيه غلبة ، فهو فيها بمنزلة المفعول ، وأما جمعه على أسارى فشبيه بكسالى في جمع كسلان وجمع أيضا كسلان على كسلى تشبيها بأسرى في جمع أسير ، قاله سيبويه : وهما شاذان ، وقال الزجّاج : أسارى جمع أسرى فهو جمع الجمع ، وقرأ جمهور الناس «يثخن» بسكون الثاء ، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب «يثخّن» بفتح الثاء وشد الخاء ، ومعناه في الوجهين يبالغ في القتل ، والإثخان إنما يكون في القتل والجارحة وما كان منها ، ثم أمر مخاطبة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) أي مالها الذي يعن ويعرض ، والمراد ما أخذ من الأسرى من الأموال ، (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي عمل الآخرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقرأ ابن جماز «الآخرة» بالخفض على تقدير المضاف ، وينظر ذلك لقول الشاعر : [المتقارب]

أكل امرئ تحسبين امرأ

ونار توقّد بالليل نارا

على تقدير وكل نار ، وذكر الطبري وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للناس : إن شئتم


أخذتم فداء الأسرى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم ، وإن شئتم قتلوا وسلمتم ، فقالوا نأخذ المال ويستشهد منا سبعون ، وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخيير الناس هكذا.

قال القاضي أبو محمد : وعلى الروايتين فالأمر في هذا التخيير من عند الله فإنه إعلام بغيب ، وإذا خيروا فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) والذي أقول في هذا إن العتب لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (ما كانَ لِنَبِيٍ) إلى قوله (عَظِيمٌ) إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبة في أخذ المال منهم وجميع العتب إذا نظر فإنما هو للناس ، وهناك كان عمر يقتل ويحض على القتل ولا يرى الاستبقاء ، وحينئذ قال سعد بن معاذ : الإثخان أحب إليّ من استبقاء الرجال ، وبذلك جعلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناجيين من عذاب أن لو نزل ، ومما يدل على حرص بعضهم على المال قول المقداد حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط : أسيري يا رسول الله ، وقول مصعب أين عمير للذي يأسر أخاه شد يدك عليه فإن له أما موسرة إلى غير ذلك من قصصهم ، فلما تحصل الأسرى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتل في النضر وعقبة والمنّ في أبي عزة وغيره ، وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله تعالى فاستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ ، فمر عمر رضي الله عنه على أول رأيه في القتل ، ورأى أبو بكر رضي الله عنه المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء ، ومال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رأي أبي بكر ، وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير ، فلم ينزل على شيء من هذا عتب ، وذكر المفسرون أن الآية نزلت بسبب هذه المشورة والآراء ، وذلك معترض بما ذكرته ، وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة ولا أقول ذلك ، لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل بدر وذلك في السرية التي قتل فيها عمرو بن الحضرمي وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال لأجل المال ، والذي منّ الله به فيها إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي قد تقدم تحليلها ، ووجه ما قال المفسرون أن الناس خيروا في أمرين ، أحدهما غير جيد على جهة الاختبار لهم ، فاختاروا المفضول فوقع العتب ، ولم يكن تخييرا في مستويين ، وهذا كما أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء بإناءين فاختار الفاضل ، و (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) صفتان من قبل الآية لأن بالعزة والحكمة يتم مراده على الكمال والتوفية ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عند ما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون ربطا.

قال القاضي أبو محمد : وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب ، وقد ذكره أيضا أبو الحسن الأخفش ، وقال : العرب لا تعرف هذا وكلاهما عندهم سواء ، وقوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الآية ، قالت فرقة : الكتاب السابق هو القرآن ، والمعنى لو لا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدقتم لمسكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة ، وقال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن أيضا وابن زيد : الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم أو تأخر ، وقال الحسن وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم : الكتاب هو ما كان الله قضاه في الأزل من إحلال الغنائم والفداء لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وكانت في سائر الأمم محرمة ، وقالت فرقة : الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معينا ، وقالت فرقة : الكتاب هو


أن الله عزوجل قضى أن لا يعاقب أحدا بذنب أتاه بجهالة ، وهذا قول ضعيف تعارضه مواضع من الشريعة ، وذكر الطبري عن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب أن الكتاب السابق هو أن لا يعذب أحدا بذنب إلا بعد النهي عنه ولم يكونوا نهوا بعد ، وقالت فرقة : الكتاب السابق هو ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر ، وذهب الطبري إلى دخول هذه المعاني كلها تحت اللفظ وأنه يعمها ، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى ، واللام في (لَمَسَّكُمْ) جواب (لَوْ لا) ، و (كِتابٌ) رفع بالابتداء والخبر محذوف ، وهكذا حال الاسم الذي بعد لو لا ، وتقديره عند سيبويه لو لا كتاب سابق من الله تدارككم ، وما من قوله (فِيما) يراد بها إما الأسرى وإما الفداء ، وهي موصولة ، وفي (أَخَذْتُمْ) ضمير عائد عليها ، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى العائد ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر بن الخطاب ، وفي حديث آخر وسعد بن معاذ ، وذلك أن رأيهما كان أن يقتل الأسرى ، وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) الآية ، نص على إباحة المال الذي أخذ من الأسرى وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليلها ، قوله (حَلالاً طَيِّباً) حال في قوله ، ويصح أن يكونا من الضمير الذي في (غَنِمْتُمْ) ويحتمل أن يكون (حَلالاً) مفعولا ب «كلوا» ، (وَاتَّقُوا اللهَ) معناه في التشرع حسب إرادة البشر وشهوته في نازلة ، أخرى ، وجاء قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) اعتراضا فصيحا في أثناء الكلام ، لأن قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هو متصل بالمعنى بقوله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً).

قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

روي أن الأسرى ببدر أعلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم لهم ميل إلى الإسلام وأنهم يؤملونه وأنهم إن فدوا ورجعوا إلى قومهم التزموا جلبهم إلى الإسلام وسعوا في ذلك ونحو هذا الغرض ، ففي ذلك نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس (الْأَسْرى) في هذه الآية عباس وأصحابه ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنا بما جئت به ونشهد إنك لرسول الله لننصحن لك على قومنا فنزلت هذه الآية ، وقرأ جمهور الناس : «من الأسرى» وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة «من الأسارى» وهي قراءة أبي جعفر وقتادة ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق ، واختلف عن الحسن بن أبي الحسن وعن الجحدري وقرأ ابن محيصن «من لسرى» بالإدغام ، ومعنى الكلام إن كان هذا عن جد منكم وعلم الله من نفوسكم الخير والإسلام سيجبر عليكم أفضل مما أعطيتم فدية وسيغفر لكم جميع ما اجترحتموه ، وقرأ الأعمش «يثيبكم خيرا» ، وقرأ جمهور الناس أخذ» بضم الهمزة وكسر الخاء ، وقرأ شيبة بن نصاح وأبو حيوة «أخذ» بفتحها ، وروي أن أسرى بدر افتدوا بأربعين أوقية أربعين أوقية إلا العباس فإنه افتدي بمائة أوقية.

قال القاضي أبو محمد : والأوقية أربعون درهما ، وقال قتادة فادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف ، وقال


عبيدة السلماني كان فداء أسرى بدر مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهما ، ومن الدنانير ستة دنانير ، وروي أن العباس بن عبد المطلب قال : فيّ وفي أصحابي نزلت هذه الآية ، وقال حين أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مال البحرين ما قدر أن يقل ، هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر الله لي وأسند الطبري أيضا إلى العباس أنه قال فيّ نزلت حين أعلمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى وقال ذلك فيء فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي ، وروي عن العباس أنه قال : ما أود أن هذه الآية لم تنزل ولي الدنيا بأجمعها ، وذلك أن الله قد آتاني مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر لي ، وقوله تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ) الآية ، قول أمر أن يقوله للأسرى ويورد معناه عليهم ، والمعنى إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرهم ذلك ولا يسكنوا إليه ، فإن الله بالمرصاد لهم الذي خانوه قبل بكفرهم وتركهم النظر في آياته وهو قد بينها لهم إدراكا يحصلونها به فصار كعهد متقرر ، فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم ، وقوله (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) صفتان مناسبتان ، أي عليم بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة حكيم فيما يجازيهم به.

قال القاضي أبو محمد : وأما تفسير هذه الآية بقصة عبد الله بن أبي سرح فينبغي أن يحرر ، فإن جلبت قصة عبد الله بن أبي سرح على أنها مثال كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك فحسن ، وإن جلبت على أن الآية نزلت في ذلك فخطأ ، لأن ابن أبي سرح إنما تبين أمره في يوم فتح مكة ، وهذه الآية نزلت عقيب بدر.

قوله عزوجل :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢)

مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا ، والكفار والمهاجرين بعد الحديبية ، وذكر نسب بعضهم من بعض ، فقدم أولا ذكر المهاجرين وهم أصل الإسلام ، وانظر تقديم عمر لهم في الاستشارة و «هاجر» معناه أهله وقرابته وهجروه ، (وَجاهَدُوا) معناه أجهدوا أنفسهم في حرب من أجهد نفسه في حربهم ، (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) هم الأنصار وآوى معناه هيأ مأوى وهو الملجأ والحرز ، فحكم الله على هاتين الطائفتين بأن (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، فقال كثير من المفسرين هذه الموالاة هي المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي ، وعليه فسر الطبري الآية ، وهذا الذي قالوا لازم من دلالة اللفظ ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وكثير منهم إن هذه الموالاة هي في الميراث ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانت بين الأنصار أخوة النسب وكانت أيضا بين


بعض المهاجرين فكان المهاجريّ إذا مات ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجريّ ورثه أخوه الأنصاري ، وإن كان له ولي مسلم لم يهاجر ، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه وبين قريبه المهاجري لا يرثه ، قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بعد ذلك لما لم تكن هجرة.

قال القاضي أبو محمد : فذهبت هذه الفرقة إلى أن هذا هو مقصد الآية ، ومن ذهب إلى أنها في التآزر والتعاون فإنما يحمل نفي الله تعالى ولايتهم عن المسلمين على أنها صفة الحال لا أن الله حكم بأن لا ولاية بين المهاجرين وبينهم جملة ، وذلك أن حالهم إذا كانوا متباعدي الأقطار تقتضي أن بعضهم إن حزبه حازب لا يجد الآخر ولا ينتفع به فعلى هذه الجهة نفي الولاية ، وعلى التأويلين ففي الآية حض للأعراب على الهجرة ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، ومن رأى الولاية في الموارثة فهو حكم من الله ينفي الولاية في الموارثة ، قالوا : ونسخ ذلك قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥] ، وقرأ جمهور السبعة والناس «ولايتهم» بفتح الواو والولاية أيضا بالفتح ، وقرأ الكسائي «ولايتهم» بفتح الواو والولاية بكسر الواو ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «ولايتهم» والولاية بكسر الواو وهي قراءة حمزة ، قال أبو علي والفتح أجود لأنها في الدين ، قال أبو الحسن الأخفش والكسر فيها لغة وليست بذلك ولحن الأصمعي والأعمش وأخطأ عليه لأنها إذا كانت لغة فلم يلحن.

قال القاضي أبو محمد : لا سيما ولا يظن به إلا أنه رواها ، قال أبو عبيدة : الولاية بالكسر هي من وليت الأمر إليه فهي في السلطان ، والولاية هي من المولى ، يقال مولى بين الولاية بفتح الواو ، وقوله (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) يعني إن استدعى هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا نصركم على قوم من الكفرة فواجب عليكم نصرهم إلا إن استنصروكم على قوم كفار قد عاهدتموهم أنتم وواثقتموهم على ترك الحرب فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك عذر ونقض للميثاق وترك لحفظ العهد والوفاء به ، والقراءة «فعليكم النصر» برفع الراء ، ويجوز «فعليكم النصر» على الإغراء ، ولا أحفظه قراءة ، وقرأ جمهور الناس «والله بما تعملون» على مخاطبة المؤمنين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج «بما يعملون» بالياء على ذكر الغائب.

قوله عزوجل :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة ، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس ، كما تقول لمن تريد أن يستطلع : عدوك مجتهد ، أي فاجتهد أنت ، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال : أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر ، وذلك في صدر الإسلام ،


وذلك أيضا مذكور مستوعب في تفسير قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ٩٧].

والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٧] إنما هي فيمن قتل مع الكفار ، وفيهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى نارهما الحديث على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصا يقول من غلب كنت معه ، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي ، والضمير في قوله (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) قيل هو عائد على الموارثة والتزامها.

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة ، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي ، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول ، ويظهر أيضا عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) [الأنفال : ٧٢] وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها ، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين ، ويجوز أن يعود الضمير مجملا على جميع ما ذكر ، والفتنة المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر ، و «الفساد الكبير» ظهور الشرك ، وقرأ جمهور الناس «كبير» بالباء المنقوطة واحدة ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي بالثاء منقوطة مثلثة وروى أبو حاتم المدني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ «وفساد عريض» ، وقرأت فرقة «والذين كفروا بعضهم أولى ببعض» ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) الآية ، آية تضمنت تخصيص المهاجرين والأنصار وتشريفهم بهذا الوصف العظيم ، و (حَقًّا) نصب على المصدر المؤكد لما قبله ، ووصف الرزق بالكريم معناه أنه لا يستحيل نجوا ، والمراد به طعام الجنة ، كما ذكر الطبري وغيره ولازم اللفظ نفي المذمات عنه ، وما ذكروه فهو في ضمن ذلك ، وقوله (مِنْ بَعْدُ) يريد به من بعد الحديبية وبيعة الرضوان ، وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك ، وكان يقال لها الهجرة الثانية ، لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين ، ثم كان فتح مكة وبه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا هجرة بعد الفتح ، وقال الطبري : المعنى من بعد ما بينت لكم حكم الولاية.

قال القاضي أبو محمد : فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بأنهم من الأولين في المؤازرة وسائر أحكام الإسلام ، وقوله تعالى : (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر ، وقوله (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) كذلك ، ونحوه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم» ، وقوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) إلى آخر السورة ، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري ، ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجرا معه ، وقالت فرقة منها مالك بن أنس رحمه‌الله : إن الآية ليست في المواريث ، وهذا فرار عن توريث الخال والعمة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة ، وقوله (فِي كِتابِ اللهِ) ، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله ، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ ، و (عَلِيمٌ) صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام ، كمل تفسير سورة الأنفال.



فهرس

الجزء الثاني

من المحرر الوجيز



فهرس المحتويات

تفسير سورة النساء

الآيتان : ٤١ ، ٤٢

٥٥

الآية : ١

٣

الآية : ٤٣

٥٦

الآيتان : ٢ ، ٣

٥

الآيات : ٤٤ ـ ٤٦

٦١

الآيات : ٣ ـ ٥

٨

الآيتان : ٤٧ ، ٤٨

٦٣

الآية : ٦

١٠

الآيات : ٤٩ ـ ٥٢

٦٥

الآيات : ٧ ـ ٩

١٢

الآيات : ٥٣ ـ ٥٥

٦٧

الآيتان : ١٠ ، ١١

١٤

الآيتان : ٥٦ ، ٥٧

٦٩

الآية : ١١

١٦

الآيتان : ٥٨ ، ٥٩

٦٩

الآيتان : ١١ ، ١٢

١٨

الآيتان : ٦٠ ، ٦١

٧١

الآيات : ١٢ ـ ١٤

٢٠

الآيات : ٦٢ ـ ٦٤

٧٣

الآيتان : ١٥ ، ١٦

٢١

الآيات : ٦٥ ـ ٦٨

٧٤

الآيتان : ١٧ ، ١٨

٢٣

الآيتان : ٦٩ ، ٧٠

٧٦

الآية : ١٩

٢٦

الآيات : ٧١ ـ ٧٣

٧٦

الآيتان : ٢٠ ، ٢١

٢٩

الآيتان : ٧٤ ، ٧٥

٧٨

الآيتان : ٢٢ ، ٢٣

٣٠

الآيتان : ٧٦ ، ٧٧

٧٩

الآية : ٢٣

٣٢

الآيتان : ٧٧ ، ٧٨

٨٠

الآية : ٢٤

٣٤

الآيات : ٧٩ ـ ٨١

٨١

الآية : ٢٥

٣٥

الآيتان : ٨٢ ، ٨٣

٨٣

الآية : ٢٥

٣٦

الآيات : ٨٤ ـ ٨٦

٨٦

الآيات : ٢٦ ـ ٢٨

٤٠

الآيتان : ٨٧ ، ٨٨

٨٧

الآيتان : ٢٩ ، ٣٠

٤١

الآيتان : ٨٩ ، ٩٠

٨٩

الآية : ٣١

٤٣

الآية : ٩١

٩١

الآية : ٣٢

٤٤

الآية : ٩٢

٩٢

الآيتان : ٣٣ ، ٣٤

٤٥

الآية : ٩٣

٩٤

الآيتان : ٣٥ ، ٣٦

٤٩

الآية : ٩٤

٩٦

الآيات : ٣٧ ـ ٣٩

٥١

الآيتان : ٩٥ ، ٩٦

٩٧

الآية : ٤٠

٥٣

الآيات : ٩٧ ـ ١٠٠

٩٩


الآيتان : ١٠١ ، ١٠٢

١٠٢

الآيتان : ٧ ، ٨

١٦٥

الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٤

١٠٧

الآيات : ٩ ـ ١١

١٦٦

الآيات : ١٠٥ ـ ١٠٧

١٠٨

الآية : ١٢

١٦٧

الآيات : ١٠٨ ـ ١١٠

١١٠

الآية : ١٣

١٦٩

الآيات : ١١١ ـ ١١٣

١١١

الآيتان : ١٤ ، ١٥

١٧٠

الآيات : ١١٤ ـ ١١٦

١١٢

الآيات : ١٥ ـ ١٧

١٧١

الآيتان : ١١٧ ، ١١٨

١١٣

الآيتان : ١٨ ، ١٩

١٧٢

الآيات : ١١٩ ـ ١٢٢

١١٤

الآيات : ٢٠ ـ ٢٢

١٧٣

الآيات : ١٢٣ ـ ١٢٥

١١٥

الآيات : ٢٣ ـ ٢٦

١٧٤

الآيتان : ١٢٦ ، ١٢٧

١١٧

الآيات : ٢٧ ـ ٢٩

١٧٨

الآيتان : ١٢٨ ، ١٢٩

١١٩

الآيتان : ٣٠ ، ٣١

١٧٩

الآيات : ١٣٠ ـ ١٣٣

١٢١

الآية : ٣٢

١٨١

الآيتان : ١٣٤ ، ١٣٥

١٢٢

الآيتان : ٣٣ ، ٣٤

١٨٣

الآيتان : ١٣٦ ، ١٣٧

١٢٤

الآيات : ٣٥ ـ ٣٧

١٨٦

الآيات : ١٣٨ ـ ١٤٠

١٢٥

الآية : ٣٨

١٨٧

الآيات : ١٤١ ـ ١٤٣

١٢٦

الآيات : ٣٩ ـ ٤١

١٨٩

الآيات : ١٤٤ ـ ١٤٧

١٢٧

الآيتان : ٤١ ، ٤٢

١٩٢

الآيات : ١٤٨ ـ ١٥١

١٢٩

الآيات : ٤٢ ـ ٤٤

١٩٤

الآيتان : ١٥٢ ، ١٥٣

١٣٠

الآية : ٤٥

١٩٦

الآيات : ١٥٤ ـ ١٥٦

١٣١

الآيات : ٤٦ ـ ٤٨

١٩٨

الآيات : ١٥٧ ـ ١٥٩

١٣٢

الآية : ٤٨

٢٠٠

الآيات : ١٦٠ ـ ١٦٢

١٣٥

الآيتان : ٤٩ ، ٥٠

٢٠١

الآيتان : ١٦٣ ، ١٦٤

١٣٦

الآيتان : ٥١ ، ٥٢

٢٠٣

الآيات : ١٦٥ ـ ١٦٩

١٣٧

الآيتان : ٥٣ ، ٥٤

٢٠٥

الآيتان : ١٧٠ ، ١٧١

١٣٨

الآيات : ٥٥ ـ ٥٧

٢٠٨

الآيتان : ١٧١ ، ١٧٢

١٣٩

الآيات : ٥٨ ـ ٦٠

٢٠٩

الآيات : ١٧٣ ـ ١٧٥

١٤٠

الآيات : ٦١ ـ ٦٤

٢١٣

الآية : ١٧٦

١٤١

الآيات : ٦٥ ـ ٦٨

٢١٦

تفسير سورة المائدة

الآيتان : ٦٩ ، ٧٠

٢١٩

الآيتان : ١ ، ٢

١٤٣

الآيتان : ٧١ ، ٧٢

٢٢٠

الآيتان : ٢ ، ٣

١٤٨

الآيات : ٧٣ ـ ٧٥

٢٢١

الآيتان : ٣ ، ٤

١٥٢

الآيات : ٧٦ ـ ٧٨

٢٢٢

الآيتان : ٤ ، ٥

١٥٧

الآيات : ٧٩ ـ ٨١

٢٢٤

الآية : ٦

١٦٠

الآيتان : ٨٢ ، ٨٣

٢٢٥


الآيات : ٨٤ ـ ٨٧

٢٢٧

الآيات : ٣٩ ـ ٤١

٢٩٠

الآيتان : ٨٨ ، ٨٩

٢٢٨

الآيات : ٤٢ ـ ٤٥

٢٩١

الآيات : ٩٠ ـ ٩٢

٢٣٢

الآيات : ٤٦ ـ ٤٩

٢٩٢

الآيتان : ٩٣ ، ٩٤

٢٣٤

الآيتان : ٥٠ ، ٥١

٢٩٣

الآية : ٩٥

٢٣٦

الآيتان : ٥٢ ، ٥٣

٢٩٤

الآيات : ٩٦ ـ ٩٨

٢٤١

الآيتان : ٥٤ ، ٥٥

٢٩٦

الآيات : ٩٩ ـ ١٠٢

٢٤٤

الآيات : ٥٦ ـ ٥٨

٢٩٨

الآيات : ١٠٣ ـ ١٠٥

٢٤٧

الآيتان : ٥٩ ، ٦٠

٢٩٩

الآيتان : ١٠٦ ، ١٠٧

٢٥٠

الآيتان : ٦١ ، ٦٢

٣٠٠

الآيتان : ١٠٨ ، ١٠٩

٢٥٦

الآيتان : ٦٣ ، ٦٤

٣٠١

الآية : ١١٠

٢٥٧

الآيات : ٦٥ ـ ٦٧

٣٠٢

الآيات : ١١١ ـ ١١٣

٢٥٩

الآيتان : ٦٨ ، ٦٩

٣٠٣

الآيتان : ١١٤ ، ١١٥

٢٦١

الآية : ٧٠

٣٠٥

الآيتان : ١١٦ ، ١١٧

٢٦٢

الآية : ٧١

٣٠٦

الآيات : ١١٨ ـ ١٢٠

٢٦٣

الآيتان : ٧٢ ، ٧٣

٣٠٨

تفسير سورة الأنعام

الآيتان : ٧٤ ، ٧٥

٣١٠

الآيتان : ١ ، ٢

٢٦٥

الآيتان : ٧٦ ، ٧٧

٣١٢

الآيات : ٣ ـ ٥

٢٦٧

الآيات : ٧٨ ـ ٨٠

٣١٤

الآية : ٦

٢٦٨

الآيات : ٨١ ـ ٨٣

٣١٥

الآيات : ٧ ـ ٩

٢٦٩

الآيات : ٨٤ ـ ٨٦

٣١٦

الآيتان : ١٠ ، ١١

٢٧٠

الآيات : ٨٧ ـ ٩٠

٣١٧

الآيتان : ١٢ ، ١٣

٢٧١

الآية : ٩١

٣٢٠

الآيات : ١٤ ـ ١٦

٢٧٣

الآية : ٩٢

٣٢١

الآيتان : ١٧ ، ١٨

٢٧٤

الآية : ٩٣

٣٢٢

الآية : ١٩

٢٧٥

الآية : ٩٤

٣٢٣

الآيتان : ٢٠ ، ٢١

٢٧٦

الآيتان : ٩٥ ، ٩٦

٣٢٥

الآيات : ٢٢ ـ ٢٤

٢٧٧

الآيتان : ٩٧ ، ٩٨

٣٢٦

الآية : ٢٥

٢٧٩

الآية : ٩٩

٣٢٧

الآيتان : ٢٦ ، ٢٧

٢٨٠

الآيات : ١٠٠ ـ ١٠٢

٣٢٨

الآيات : ٢٨ ـ ٣٠

٢٨٢

الآيات : ١٠٣ ـ ١٠٥

٣٣٠

الآية : ٣١

٢٨٣

الآيات : ١٠٦ ـ ١١٠

٣٣٢

الآيتان : ٣٢ ، ٣٣

٢٨٤

الآيتان : ١١١ ، ١١٢

٣٣٤

الآيتان : ٣٤ ، ٣٥

٢٨٧

الآيتان : ١١٣ ، ١١٤

٣٣٦

الآيات : ٣٦ – ٣٨

٢٨٨

الآيات : ١١٥ ـ ١١٧

٣٣٧


الآيتان : ١١٨ ، ١١٩

٣٣٨

الآيتان : ١٧ ، ١٨

٣٨٠

الآية : ١٢٠

٣٣٩

الآية : ١٩

٣٨٢

الآية : ١٢١

٣٤٠

الآيتان : ٢٠ ، ٢١

٣٨٤

الآيتان : ١٢٢ ، ١٢٣

٣٤٠

الآيتان : ٢٢ ، ٢٣

٣٨٥

الآيتان : ١٢٤ ، ١٢٥

٣٤٢

الآيات : ٢٤ ـ ٢٦

٣٨٧

الآيتان : ١٢٦ ، ١٢٧

٣٤٤

الآيتان : ٢٧ ، ٢٨

٣٩٠

الآيتان : ١٢٨ ، ١٢٩

٣٤٥

الآيتان : ٢٩ ، ٣٠

٣٩١

الآيات : ١٣٠ ـ ١٣٢

٣٤٦

الآيتان : ٣١ ، ٣٢

٣٩٢

الآيات : ١٣٣ ـ ١٣٥

٣٤٧

الآيات : ٣٣ ـ ٣٦

٣٩٤

الآية : ١٣٦

٣٤٨

الآية : ٣٧

٣٩٧

الآية : ١٣٧

٣٤٩

الآيتان : ٣٨ ، ٣٩

٣٩٨

الآية : ١٣٨

٣٥٠

الآيات : ٤٠ ـ ٤٢

٤٠٠

الآية : ١٣٩

٣٥١

الآية : ٤٣

٤٠١

الآيتان : ١٤٠ ، ١٤١

٣٥٢

الآيتان : ٤٤ ، ٤٥

٤٠٢

الآيتان : ١٤٢ ، ١٤٣

٣٥٤

الآيات : ٤٦ ـ ٤٨

٤٠٣

الآيتان : ١٤٤ ، ١٤٥

٣٥٥

الآيات : ٤٩ ـ ٥٢

٤٠٥

الآية : ١٤٦

٣٥٧

الآيتان : ٥٣ ، ٥٤

٤٠٧

الآيتان : ١٤٧ ، ١٤٨

٣٥٨

الآيتان : ٥٥ ، ٥٦

٤١٠

الآيتان : ١٤٩ ، ١٥٠

٣٦٠

الآيتان : ٥٧ ، ٥٨

٤١١

الآية : ١٥١

٣٦١

الآيات : ٥٩ ـ ٦٢

٤١٤

الآية : ١٥٢

٣٦٢

الآيتان : ٦٣ ، ٦٤

٤١٥

الآية : ١٥٣

٣٦٣

الآيات : ٦٥ ـ ٦٨

٤١٦

الآية : ١٥٤

٣٦٤

الآيتان : ٦٩ ، ٧٠

٤١٧

الآيات : ١٥٥ ـ ١٥٧

٣٦٥

الآيات : ٧١ ـ ٧٣

٤١٩

الآية : ١٥٨

٣٦٦

الآيات : ٧٤ ـ ٧٦

٤٢٢

الآيتان : ١٥٩ ، ١٦٠

٣٦٧

الآيات : ٧٧ ـ ٧٩

٤٢٣

الآيات : ١٦١ ـ ١٦٣

٣٦٨

الآيات : ٨٠ ـ ٨٤

٤٢٤

الآيتان : ١٦٤ ، ١٦٥

٣٧٠

الآيتان : ٨٥ ، ٨٦

٤٢٦

تفسير سورة الأعراف

الآيات : ٨٧ ـ ٨٩

٤٢٧

الآيات : ١ ـ ٣

٣٧٢

الآيات : ٩٠ ـ ٩٣

٤٢٩

الآيات : ٤ ـ ٧

٣٧٣

الآيات : ٩٤ ـ ٩٦

٤٣١

الآيتان : ٨ ، ٩

٣٧٥

الآيات : ٩٧ ـ ١٠٠

٤٣٢

الآيتان : ١٠ ، ١١

٣٧٧

الآيتان : ١٠١ ، ١٠٢

٤٣٣

الآيات : ١٢ ـ ١٦

٣٧٨

الآيات : ١٠٣ ـ ١٠٨

٤٣٥


الآيات : ١٠٩ ـ ١١٦

٤٣٦

الآيات : ٢٠٤ ـ ٢٠٦

٤٩٣

الآيات : ١١٧ ـ ١٢٤

٤٣٩

تفسير سورة الأنفال

الآيات : ١٢٥ ـ ١٢٧

٤٤٠

الآية : ١

٤٩٦

الآيات : ١٢٨ ـ ١٣٠

٤٤٢

الآيات : ٢ ـ ٤

٥٠٠

الآيات : ١٣١ ـ ١٣٣

٤٤٣

الآيات : ٥ ـ ٧

٥٠١

الآيات : ١٣٤ ـ ١٣٦

٤٤٥

الآيات : ٨ ـ ١٠

٥٠٤

الآيتان : ١٣٧ ، ١٣٨

٤٤٦

الآيتان : ١١ ، ١٢

٥٠٥

الآيات : ١٣٩ ـ ١٤١

٤٤٨

الآيات : ١٣ ـ ١٦

٥٠٨

الآيتان : ١٤٢ ، ١٤٣

٤٤٩

الآيتان : ١٧ ، ١٨

٥١١

الآيات : ١٤٣ ـ ١٤٥

٤٥١

الآيات : ١٩ ـ ٢١

٥١٢

الآيتان : ١٤٦ ، ١٤٧

٤٥٣

الآيات : ٢٢ ـ ٢٤

٥١٣

الآيتان : ١٤٨ ، ١٤٩

٤٥٤

الآيتان : ٢٥ ، ٢٦

٥١٥

الآية : ١٥٠

٤٥٦

الآيات : ٢٧ ـ ٣٠

٥١٧

الآيات : ١٥١ ـ ١٥٣

٤٥٨

الآيتان : ٣١ ، ٣٢

٥٢٠

الآيتان : ١٥٤ ، ١٥٥

٤٥٩

الآيتان : ٣٣ ، ٣٤

٥٢١

الآية : ١٥٦

٤٦٠

الآية : ٣٥

٥٢٣

الآية : ١٥٧

٤٦١

الآية : ٣٦

٥٢٥

الآيتان : ١٥٨ ، ١٥٩

٤٦٤

الآيات : ٣٧ ـ ٤٠

٥٢٦

الآيات : ١٦٠ ـ ١٦٣

٤٦٦

الآية : ٤١

٥٢٨

الآيات : ١٦٤ ـ ١٦٦

٤٦٨

الآية : ٤٢

٥٣٢

الآيتان : ١٦٧ ، ١٦٨

٤٧٠

الآيتان : ٤٣ ، ٤٤

٥٣٤

الآيتان : ١٦٩ ، ١٧٠

٤٧٢

الآيات : ٤٥ ـ ٤٧

٥٣٥

الآيتان : ١٧١ ، ١٧٢

٤٧٣

الآيتان : ٤٨ ، ٤٩

٥٣٧

الآيات : ١٧٣ ـ ١٧٥

٤٧٦

الآيات : ٥٠ ـ ٥٢

٥٣٩

الآيات : ١٧٦ ـ ١٧٩

٤٧٨

الآيات : ٥٣ ـ ٥٦

٥٤١

الآيتان : ١٧٩ ، ١٨٠

٤٧٩

الآيات : ٥٧ ـ ٥٩

٥٤٢

الآيات : ١٨١ ـ ١٨٥

٤٨١

الآيتان : ٦٠ ، ٦١

٥٤٥

الآيتان : ١٨٦ ، ١٨٧

٤٨٣

الآيات : ٦٢ ـ ٦٤

٥٤٨

الآيتان : ١٨٨ ، ١٨٩

٤٨٥

الآيتان : ٦٥ ، ٦٦

٥٤٩

الآيات : ١٩٠ ـ ١٩٣

٤٨٧

الآيات : ٦٧ ـ ٦٩

٥٥١

الآيات : ١٩٤ ـ ١٩٦

٤٨٨

الآيتان : ٧٠ ، ٧١

٥٥٤

الآيات : ١٩٧ ـ ٢٠٠

٤٩٠

الآية : ٧٢

٥٥٥

الآيات : ٢٠١ ـ ٢٠٣

٤٩١

الآيات : ٧٣ ـ ٧٥

٥٥٦

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - ٢

المؤلف:
الصفحات: 565